الكتاب: أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم المؤلف: محمد ناصر الدين الألباني (المتوفى: 1420هـ) الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض الطبعة: الأولى 1427 هـ - 2006 م عدد الأجزاء: 3 مجلدات في ترقيم مسلسل واحد   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بحواشي المؤلف] ---------- أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ناصر الدين الألباني الكتاب: أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم المؤلف: محمد ناصر الدين الألباني (المتوفى: 1420هـ) الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض الطبعة: الأولى 1427 هـ - 2006 م عدد الأجزاء: 3 مجلدات في ترقيم مسلسل واحد   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بحواشي المؤلف] أصلُ صِفَةِ صَلاةِ النبيّ صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم مِنَ التكبير إلى التسليم - كأنك تراها - " صَلُّوا كَمَا رَأيتمُوُني أُصَلِّي " رواه البخاري وهو الكتابُ المفرد (الأصل) كما وَصَفَهُ مُؤلفُهُ الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو الذي خَرَّجَ فيهِ أحاديثَهُ؛ مُسْتَقْصيًا ألفاظَها وطُرُقَها؛ وتَكَلَّم على أَسَانيدِهَا وشَوَاهِدِهَا؛ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ عُلُوم الحَدِيثِ الشَّرِيفِ وقَواعدِه تأليف فضيلة الإمام الشيخ المحدث الفقيه العلامة محمد ناصر الدين الألباني المتوفى سنة 1420 هـ رحمه الله تعالى المجلد الأول مكتبة المعارف للنشر والتوزيع لصاحبها سعد بن عبد الرحمن الراشد الرياض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الناشر : الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده. أما بعدُ: فنضع بين أيدي الإخوة القراء هذا الكتابَ المفرد الأصل، والمنهج الفصل، الذي يجعل المسلم على بيِّنة من أمره في ركن عظيم من أركان الإسلام، فيكون مطمئنَّ القلب واثقَ الإيمان بأنه امتثل أمرَه الشريفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلي ". فهذا كتاب " صفة صلاة النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التكبير إلى التسليم كأنك تراها "، لشيخنا المحدِّث الهُمَام، العلامةِ الإمام، ناصر السنة والإسلام، أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله وأَنزله أحسنَ المقام. وهو أصلُ الكتاب الذي طُبع - سابقاً - حاملاً الاسمَ نفسَه، والذي نال القَبول - بفضل الله تعالى -، وطُبع طبعاتٍ عديدةً عبر سنوات مديدة ... وهو الكتاب الذي يذكره شيخُنا في كثيرٍ من كتبه ومؤلفاته بأسماءٍ مختلفة، فهو: الكتابُ الأصلُ، وهو: شرحٌ وتخريجٌ وتعليق ... ؛ ففي فهرس مؤلفاته ومخطوطاته ذكره باسم " أصل صفة الصلاة "، وفي " الصفة " المطبوع، كثيراً ما يقول: " ... في " الأصل " "، وفي " صحيح أبي داود " قال: " أوردتها في كتابنا المفرد: " صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التكبير إلى التسليم كأنك تراها "، ونحن الآن في صدد طبع متنه، وسيصدر قريباً إن شاء الله تعالى، ونرجو أن نوفق لطبعه مع شرحه وتخريجه ". (3/313 ونحوه 357) . وقال في " الإرواء " (2/9) : " وقد أوردتها في كتابنا الكبير " تخريج صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". ونحوه في الصفحة (10 و 16 و 34 و 62 و 70) . وفي (ص 80) قال: " فراجع تعليقنا على " صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وسمعناه يذكره باسم: " صفة الصلاة الكبير ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 فمقصود الشيخ رحمه الله من هذا كلِّه هو كتابه هذا الذي بين يديك - أخي القارئ الكريم! - وقد أثبتنا اسمه كما سمَّاه (1) مؤلفه الشيخ رحمه الله تعالى. ومن متنه وتخريجاته المختصرة استخرج الشيخ كتابه المذكور " صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، ومن هذا الأخير استخلص رسالته الصغيرة النافعة " تلخيص صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وهذا الكتاب - رغم مرور سنوات طويلة على تأليفه، وقلة الإضافات الحديثة عليه - معدودٌ ضمن أهمّ مراجع الشيخ رحمه الله في كثير من تخريجاته؛ يلمس هذا كل من تتلمذ على كتبه، وعَرَفَ مولّفاته. ومع هذا؛ فإننا نعرف منه رحمه الله أنه لم يكن ينشط لطباعته ونشره؛ لحاجته إلى مراجعة مطوَّلة، ودراسة مستفيضة؛ بعد تلك السنوات الطويلة، وما طرأ فيها من أمور وأمور (2) . هذا وقد تجلت في هذا الكتابِ العُجابِ صنعةُ الشيخ الحديثية، وظهرت ملكته الفقهية، التي حَبَاه الله إياها منذ نعومة أظفاره، واصطفاه بها على جميع أقرانه ... ننظر في الكتاب فنرى هذا العَلَم الذي جعل قدوتَه سيدَ الأولين والآخرين، فانتصر لسنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشدَّ الانتصار، واستظل بأقوال سلفه الكرام الأطهار، الذين ساروا على سنة الحبيب المختار، فحقق المسائلَ، وأجاب السائلَ، وجعل المرء على بينة من دينه وصلاته؛ كيف لا وقد أعاد لحديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تركتكم على البيضاء؛ ليلها كنهارها ... " رونقه بعد أن كاد التعصب الأعمى يُكَدِّره؟! وحاشاه - ما دام الله يحفظه -.   (1) انظر مقدمة المؤلف (ص 19) . ثم رأينا إضافة كلمة (أصل) تمييزاً وتنبيهاً. (2) انظر مقدمة " صحيح الترغيب والترهيب " (ص 3 -9) ؛ ففيها ما يوضح عذر الشيخ مما ينطبق على هذا الكتاب أيضاً، ويغنى عن الذكر والإطالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 جاء شيخنا رحمه الله ليُظْهِرَ للجميع بالدليل العِلمي العملي أن الحق واحد في أقوال العلماء، وأنه يجب على المسلم أن يدور مع الدليل حيث دار - مع التزام التقدير والاحترام لجميع الأئمة الأخيار -، آتياً بمقدمة ماتعة، وطليعة رائعة، مستنيراً بأقوال الأئمة المتبوعين ذوي الألباب، في وجوب التزام هذا الطريق السديد، والسبيل الفريد، والمنهج الرشيد، لا كحال أولئك المتمذهبين الجامدين، المقدِّمين قولَ إمامهم على قول إمام الأئمة الربانيين، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} ! سار الشيخ رحمه الله على هذا المنهج العلمي المتين في جميع كتبه ومؤلفاته؛ وبخاصةٍ في هذا الكتاب، وهو يُعلِّمُ الناسَ كيفية صلاة نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما أكثرَ من يجهلها! - ويربطهم بشخصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهديهِ؛ فقد بيَّن لهم - بما صحَّ -، ما لا مجال فيه للجدال والنقاش، فانقطع العذر عن كل أحد في ترك سُنَّة أُثبتت في هذا الكتاب، وظهرتْ ظهورَ الشمس في رائعة النهار. ولقد كان من فضل الله تعالى أن وفَّقَ الشيخَ رحمه الله لإتمام هذا الكتاب النافع، حيث إنه من أوائل ما كتب، وقد انتهى من تأليفه سنة 1366 هـ - كما جاء في خاتمة الكتاب -، وله من العمر حينئذٍ ثلاث وثلاثون سنةً تقريباً. أي: منذ ما يزيدُ عن نصفِ قرنٍ من الزمان. وصفحات مخطوطة الكتاب جيدة بصورة عامة، إلا بعضَ المجموعات في أوَّلها - وهي من النوع الشفَّاف -؛ فهي تالفةُ الأطراف جدّاً، لا سيما المقدمة؛ لكنْ - بفضل الله تعالى -، وجدنا الشيخ رحمه الله قد بيَّضها بخطه الواضح الجميل، وزاد عليها، وهي نفسها التي جعلها مقدمة كتابه المعروف " صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (1) .   (1) وما قد يمر بالقارئ في هذه المقدمة من تحسينات أو إضافات تُشير إلى جِدّتِها؛ فهي مما أضافه الشيخ عليها عبر الطبعات المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أما بقية الأوراق التالفة أطرافُها؛ فقد عملنا على تَرْميمِها وإصلاحها، وبفضل الله تعالى كان أغلب التلف في الحواشي الخالية من الكتابة، وما ناله التلفُ - على قِلَّته - استطعنا تداركه بطرق مختلفة؛ فلم نخسر شيئاً مما كتبه الشيخ رحمه الله - ولله الحمد -. وأمّا الخط فهو مكتوب بالحبر السائل، دقيقٌ مقروءٌ بصفة عامة، إلا في بعض المواضع من الصفحات الشفافة المشار إليها آنفاً، فكان يُقرأ بشيء من الصعوبة. هذا، وقد وجدنا بعض الورقات المُبَيَّضة عن أصل الشيخ رحمه الله، مرقمةً زوجياً من (ص 12 - 16) بورق أَحْدَثَ من الورق الأصلي - وهي تقابل هنا (ص 58 - 77) -، وعليها بعض الملاحظات والتعديلات بخطِّ الشيخ رحمه الله، فيبدو أنه قد كلَّف أحدَهم بتبييضها من الأصل، فعدَّلنا الأصل بعد صَفِّه وفقاً لها، ويا للأسف! فيبدو أن ما قبلها مفقود، وما بعدها مفقود أيضاً، أو لم يتم. والله أعلم. وفد قمنا بدراسة المخطوطة دراسة دقيقة؛ فألحقنا الملاحق المضافة من الشيخ في مواضعها، وتأكدنا من تتابع الأبحاث في المتون والحواشي، وقد وجدنا ورقة ناقصة - وللأسف الشديد - هي (13) بترقيم الشيخ، ومادتها هي المشار إليها هنا (ص 108 و 110) . وأثناء صفِّ الكتاب راعيْنا اتباعَ أسلوبِ الشيخ في كتاباته المتأخرة، في الجوانب الفنية؛ التحسينية والتزيينية، التي تُبْرِز المقاصدَ العلميةَ والشرعيةَ؛ كتنسيق الفقرات ببدايات واضحة، والطباعة بالحرف الأسود في مواضعَ خاصَّةٍ، والتحلية بعلامات الترقيم ... ، وغيرها مما يلمسه القارئ. كما تجاوزنا عن الأخطاء من النوع الذي لا يسلم منه مؤلَّف، لا سيما في عمل قديم كهذا لم يهيئه مولِّفه للطباعة والنشر، فصححناها دون تكثيرِ سوادِ التنبيهِ عليها في الحواشي، وعدَّلنا ما وجدنا الشيخ متِّبعاً فيه لمذاهبَ قديمةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 في الإملاء على ما نعرفه منه اليوم. وكل زيادة بين معقوفتين [] في التخريج والتعليق؛ فهي مما استدركناه على الأصل، ونبهنا عليه؛ ما لم تكن هناك قرينة تدل على أنه استدراك من الشيخ رحمه الله على غيره أحياناً. أما ما قد يستدعيه الأمر من تعليق أو استدراك؛ فقد أثبتناه موثّقاً بعلامة (*) ؛ تمييزاً له عن تعليقات الشيخ الموثقة بالترقيم التسلسُلي (1) ، (2) ... واضعينَ نصْبَ أعيننا عدمَ الإكثار من التعليقات والمداخلات إلا ما اضْطُررنا إليه، مكتفين بالتذكير - هنا - أنه لم يكن من منهجنا في خدمة الكتاب وإعداده للطباعة تحقيقُه والتعليق عليه. إلا أننا اضْطُررْنا إلى شيء من ذلك حَسِبناه قَدْراً يسيراً؛ لكن الله تعالى قدَّر فيه أمراً دقيقاً ... فهذا الكتاب مثْلَما هو كتاب علمي حديثي، فهو - أيضاً - كتاب فقهي مختصٌّ بعبادةٍ عظيمةٍ؛ هي ركنٌ من أركان الإسلام، الصلاة، ممثلةً بصلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان لابد من معرفة آخر ما وصل إليه علمُ الشيخ رحمه الله في هذا المجال، مع الأخذ بعين الاعتبار تلك السنوات الطويلة التي مرَّت على تأليف الأصل، وبالمقابل معرفتنا بأن الشيخ رحمه الله كان يُنقِّح ويزيد دائماً في كتابه المطبوع " الصفة " طبعةً بعد طبعة، فلا بد إذاً من وجود فروقات مُهمَّة يجب استدراكُها في هذا (الأصل) ، مما جعل الأمر يتأكّد عندنا أنّّنا لسنا في صدد إخراج كتاب تراثي، وإنما مرادُنا الأوحد إخراج كتاب علمي فقهيٍّ، يستفيد منه القارئ والباحث - ويُفيد - وهو مطمئن أن هذا ما انتهى إليه علمُ الشيخ في كتابه هذا. وكان من فضل الله علينا أن يسَّر لنا اتباعَ أسلوبٍ دقيقٍ يحافظ على الأصل - كما هو - من جهة، ويكمله - علماً وفقهاً - من جهة أخرى ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ففد قمنا بمقابلة متن " الأصل " على متن " صفة الصلاة " طبعة مكتبتنا / مكتبة المعارف، لكونها آخرَ طبعة بإشراف الشيخ رحمه الله، وأثبتنا كلَّ الزيادات التي انفرد بها المطبوع بين العلامتين {} مع حواشيها إن وجدت، وتعديل العبارات التي عدَّلها الشيخ فيه خلال طبعاته المتتالية، ناظرين لهذا النوعِ من باب ما يعدِّله الكاتب - عادة - في أسلوبه لغايات مختلفة. فمن أمثلة النوع الأول: زيادةُ: " يقول: " لا تصل إلا إلى سُترة، ولا تَدَعْ أحداً يمر بين يديك، فإنْ أبى؛ فلتقاتله؛ فإنَّ معه القرينَ ". و". مع حاشيتها (ص 115/ح (1)) . ومن أمثلة النوع الثاني: قوله (ص 114) : " وكان يقف قريباً من السُّتْرة؛ فكان بينه وبين الجدار ثلاثةُ أذرع "؛ فقد كانت في الأصل: " وكان يقف قريباً من الجدار الذي بينه وبين القبلة، فيجعل بينه وبين الجدار قدر ثلاثة أذرع ". وكذلك قمنا بالنظر في التعليقات والتخريجات المختصرة في " الصفة "؛ للاطلاع على ما جدّ عند الشيخ من مصادرَ وفوائدَ. وكانت لنا هنا وقفات؛ فإنه لا يخفى على الباحثِ المُجِدِّ أن الشيخ رحمه الله قد أضاف على " الصفة " في طبعاته المختلفة مصادرَ جديدةً متعدّدة من مطبوعات أو مخطوطات متنوّعة، وكان تخريجه للأحاديث مختصراً مجملاً، بينما هو في الأصل موسَّع مفصَّل، فكان لا بدَّ من الرجوع إلى تلك المصادر، والنظر في الأسانيد والمتون؛ لإدراج المصادر في موضعها الصحيح. ولا نطيل الشرح هنا؛ فلقد كان الأمر دقيقاً جدّاً، كاد أن يخرج بنا عن حدود عملنا في الكتاب؛ فما استطعنا الوصولَ إليه بحثنا فيه ووضعناه في مكانه المناسب ضمن {} ، وما لم نستطعه اكتفينا بالإشارة إليه في الحاشية، وقد حرصنا على الاختصار والدقة في هذا؛ فمن وجد غير ذلك؛ فليعذرنا. وبالمناسبة نقول: إننا في كثير من الأحيان رصدنا أرقام المطبوعات الجديدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 التي عزا الشيخ فيها إلى مخطوطات، فألحقناها بها بين معقوفين؛ حفظاً للجهد، وتيسيراً على القارئ. وكذلك ألحقنا الفوائد الزائدة والمضافة في مواضعها حسبما وجدناه مناسباً، وكذلك الردود العلمية التي في مقدمة " الصفة " ألحقنا كلاً منها في موضعه المناسب. كما صححنا بعض أرقام العزو التي وجدناها خطأ، أو أرقامٍ لطبعات قديمة جعلناها تُطابق الطبعات الجديدة لكتب الشيخ غالباً - دون تتبع لها جميعاً -. هذا، وقد تيسر لنا الاطلاع على نسخة الشيخ الخاصة من " صفة الصلاة " طبعة المعارف، ووجدنا فيها بعض التصحيحات والإضافات، فألحقناها، ونبهنا على بعضها، وبقيتها جعلناها بين {} ؛ فكل ما بينهما مما ليس في " الصفة " المطبوعة، فهو من نسخة الشيخ الخاصة. وهناك ثلاثة مباحثَ لم يتناولها الشيخ رحمه الله في هذا الأصل، فأضفناها - بتمامها - من المطبوع، وأشرنا إلى ذلك تحت كل مبحث، وهي: مبحث (الصلاة على المنبر - ص 113) ، و (النية - ص 174) ، و (جواز الاقتصار على {الفَاتِحَة} - ص 411) . ومقابل هذا وجدنا مبحثاً زائداً في الأصل على " الصفة " المطبوع، وهو: مبحث (اللباس في الصلاة - ص 145) . فأحببنا الإشارة إلى ذلك هنا. وننبه هنا إلى أن الشيخ رحمه الله كثيراً ما يعزو في كتابه هذا إلى مواضعَ سبق أو يأتي ذكرُها؛ فإن بعض هذه الواضع ليس بالضرورة عناوينَ بارزةً؛ انظر مثلاً: (الرفع عند الركوعِ - ص 708) ، وغيرها، فليكن القارئ من هذا على ذكر حتى لا يتكلفَ عناءَ البحث؛ فإنه قد لا يجد عنواناً بتلك الصيغة؛ لكنه سيعرفه حتماً من العناوين الرئيسة. ولتيسير هذا الأمر على القارئ بَيَّنَّا له الصفحة بين []- حيثما وجدنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ضرورة لذلك - حتى يجد مقصوده بسرعة ودون عناء. وأخيراً؛ نذكر القارئ أننا وبسبب طبيعة هذا الكتاب وتقسيمه إلى متون - مختصرة - وحواشٍ - مبسوطة -؛ رأينا تجميع متنه في ملحق خاص وضعناه بُعيد خاتمة الكتاب؛ ليكون عوناً له على تصور صفة صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التكبير إلى التسليم -، وكان بودنا أن نضيف إلى كتابنا هذا؛ ما في رسالة الشيخ " تلخيص صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من فوائدَ زوائدَ، لا سيما ما صرح به من أحكام على كثير من أعيان مسائلها من ركن أو واجب أو سنة ... لولا أنَّ التنبُّه إلى هذا الأمر جاء في آخرِ مراحلِ عملنا؛ بحيث لم نستطع استدراكه في مواضعهِ. وحسبُنا - ها هُنا - التذكيرُ بالرجوع إليها؛ فإنها نافعة في بابها، متممة لهذا الأصل، وذاك الفرع. ثم إننا ختمنا عملنا في هذا الكتاب بصنع فهارسَ علميةٍ، على نحو ما كانت تُصنع في حياة الشيخ رحمه الله، وعلى عينه. هذا ما وفّقنا الله تعالى إليه - بفضله وكرمه -، ونسأله سبحانه أن يَجْزيَ خيراً كلَّ من شارك معنا في إخراج هذا الكتاب إعْداداً وصفاً وتصحيحاً وتَدْقيقاً ... ونسأله تعالى أن يتغمدَ شيخَنا المؤلفَ برحمته، ويُنعمَ عليه بغفرانه، وأن ينفع بكتابه هذا، ويجعلَه من الأعمال التي لا ينقطع أجرُها عنه بإذن الله؛ إنه ولي ذلك وهو المستعان، وهو ربنا وعليه التُّكْلان. 27 رمضان 1424 هـ 21 تشرين 2 2003م الناشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 صورة الصفحة الأولى من مخطوطة الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 صورة الصفحة الأخيرة من مخطوطة الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الكتاب إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنتُم مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكَمْ رَقِيبًا} [النساء: 11] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً} [الأحزاب: 70 - 71] . الحمد لله الذي فرض الصلاة على عباده، وأمرهم بإقامتها وحسن أدائها، وعلَّق النجاح والفلاح بالخشوع فيها، وجعلها فرقاناً بين الإيمان والكفر، وناهية عن الفحشاء والمنكر. والصلاة والسلام على نبينا محمد المخاطب بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الوظيفة حق القيام، وكانت الصلاة من أعظم ما بيَّنه للناس قولاً وفعلاً؛ حتى إنه صلى مرة على المنبر؛ يقوم عليه ويركع، ثم قال لهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 " إنما صنعتُ هذا؛ لتأتموا بي، ولِتَعلَّموا صلاتي " (1) . وأوجب علينا الاقتداء به فيها، فقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " (2) . وبَشَّرَ من صلاها كصلاته أن له عند الله عهداً أن يدخله الجنة، فقال: " خمس صلوات افترضهن الله عزَّ وجلَّ، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن؛ كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل؛ فليس له على الله عهدٌ، إن شاء؛ غفر له، وإن شاء؛ عذبه " (3) . وعلى آله وصحبه الأتقياء البررة، الذين نقلوا إلينا عبادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلاته وأقواله وأفعاله، وجعلوها - وحدها - لهم مذهباً وقدوة، وعلى من حذا حذوهم، وسلك سبيلهم إلى يوم الدين. وبعد؛ فإني لمَّا انتهيت من قراءة (كتاب الصلاة) من " الترغيب والترهيب " للحافظ المنذري رحمه الله وتدريسه على بعض إخواننا السلفيين - وذلك منذ أربع سنين -؛ تبين لنا جميعاً ما للصلاة من المنزلة والمكانة في الإسلام، وما لمن أقامها وأحسن أداءها من الأجر، والفضل، والإكرام، وأن ذلك يختلف - زيادة ونقصاً - بنسبة قربها أو بعدها من صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما أشار إلى ذلك بقوله:   (1) [رواه] البخاري، ومسلم. وسيأتي في (القيام) بتمامه. (2) [رواه] البخاري، وأحمد. وهو مخرج في " إرواء الغليل " تحت الحديث (213) . (3) قلت: وهو حديث صحيح، صححه غير واحد من الأئمة. وقد خرجته في " صحيح أبي داود " (452 و 1276) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 " إن العبدَ ليصلي الصلاةَ؛ ما يُكْتَبُ له منها إلا عُشْرُها، تُسْعُها، ثُمْنُها، سُبْعُها، سُدْسُها، خُمْسها، رُبْعُها، ثُلْثُها، نِصْفُها " (1) . ولذلك فإني نبهت الإخوان إلى أنه لا يمكننا أداؤها حق الأداء - أو قريباً منه - إلا إذا علمنا صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفصَّلَةً، وما فيها من واجبات، وآداب، وهيئات، وأدعية، وأذكار، ثم حرصنا على تطبيق ذلك عملياً؛ فحينئذٍ نرجو أن تكون صلاتنا تنهانا عن الفحشاء والمنكر، وأن يُكتب لنا ما ورد فيها من الثواب والأجر. ولما كان معرفة ذلك على التفصيل يتعذر على أكثر الناس - حتى على كثير من العلماء -؛ لتقيدهم بمذهب معين، وقد عَلِمَ كل مشتغل بخدمة السنة المطهرة - جمعاً وتفقهاً - أن في كل مذهب من المذاهب سُنَناً لا توجد في المذاهب الأخرى، وفيها جَميعِها ما لا يصح نسبته إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ من الأقوال والأفعال، وأكثر ما يوجد ذلك في كتب المتأخرين (2) ، وكثيراً ما نراهم يجزمون   (1) صحيح. رواه ابن المبارك في " الزهد " (10/21/1- 2) ، وأبو داود، والنسائي بسند جيد. وقد خرجته في " الصحيح " المذكور (761) . (2) قال أبو الحسنات اللكنوي في كتابه " النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير " - بعد أن ذكر مراتب كتب الفقه الحنفي، وما يُعتمد عليه منها، وما لا يُعتمد - قال (ص 122 - 123) : " كل ما ذكرنا من ترتيب المصنفات؛ إنما هو بحسب المسائل الفقهية، وأما بحسب ما فيها من الأحاديث النبوية؛ فلا، فكم من كتاب معتمد - اعتمد عليه أجلَّةُ الفقهاء - مملوء من الأحاديث الموضوعة! ولا سيما الفتاوى؛ فقد وضح لنا بتوسيع النظر أن أصحابها وإن كانوا من الكاملين؛ لكنهم في نقل الأخبار من المتساهلين ". قلت: ومن هذه الأحاديث الموضوعة؛ بل الباطلة - التي وردت في بعض كتب الأجِلَّة - حديث: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ..............................................................................   = " من قضى صلوات من الفرائض في آخر جمعة من رمضان؛ كان ذلك جابراً لكل صلاة فاتته في عمره إلى سبعين سنة ". قال اللكنوي رحمه الله في " الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " - بعد أن ساق الحديث - (ص 315) : " قال علي القاري في " موضوعاته الصغرى "، و " الكبرى ": باطل قطعاً؛ لأنه مناقض للإجماع، على أن شيئاً من العبادات لا يقوم مقام فائتة سنوات، ثم لا عبرة بنقل صاحب " النهاية "، ولا بقية شراح " الهداية "؛ لأنهم ليسوا من المحدثين، ولا أسندوا الحديث إلى أحد من المخرجين ". وذكره الشوكاني في " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " بنحو هذا اللفظ، وقال: " هذا موضوع بلا شك، ولم أجده في شيء من الكتب التي جمع مصنفوها فيها الأحاديث الموضوعة، ولكنه اشتهر عند جماعة من المتفقهة بمدينة (صنعاء) في عصرنا هذا، وصار كثير منهم يفعلون ذلك، ولا أدري من وضعه لهم! فقبح الله الكذابين ". انتهى. (الصفحة 54) . ثم قال اللكنوي: " وقد ألَّفتُ لإثبات وضع هذا الحديث - الذي يوجد في كتب الأوراد والوظائف بألفاظ مختلفة، مختصرة ومطولة بالدلائل العقلية والنقلية - رسالة مسماة: " ردع الإخوان عن محدثات آخر جمعة رمضان "، وأدرجتُ فيها فوائد تنشط بها الأذهان، وتصغي إليها الآذان. فلتطالع؛ فإنها نفيسة في بابها، رفيعة الشان ". قلت: وورود مثل هذا الحديث الباطل في كتب الفقه؛ مما يسقط الثقة بما فيها من الأحاديث التي لا يعزونها إلى كتاب معتبر من كتب الحديث، وفي كلام علي القاري إشارة إلى هذا المعنى؛ فالواجب على المسلم أن يأخذ الحديث عن أهله المختصين به، فقديماً قالوا: " أهل مكة أدرى بشعابها "، و " صاحب الدار أدرى بما فيها ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 بعزو ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ؛ ولذلك وضع علماء الحديث - جزاهم الله خيراً - على بعض ما اشتهر منها كتبَ التخريجات؛ التي تبين حال كل حديث - مما ورد فيها - من صحة، أو ضعف، أو وضع؛ ككتاب " العناية بمعرفة أحاديث الهداية "، و" الطرق والوسائل في تخريج أحاديث خلاصة الدلائل "؛ كلاهما للشيخ عبد القادر بن محمد القرشي الحنفي، و " نصب الراية لأحاديث الهداية " للحافظ الزيلعي، ومختصره " الدراية " للحافظ ابن حجر العسقلاني، و " التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير " له أيضاً، وغيرها؛ مما يطول الكلام بإيرادها. أقول: لما كان معرفة ذلك على التفصيل يتعذر على أكثر الناس؛ ألَّفْتُ لهم هذا الكتاب؛ ليتعلموا كيفية صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيهتدوا بهديه فيها، راجياً من المولى سبحانه وتعالى ما وَعَدَنا به على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ... " الحديث. رواه مسلم وغيره. وهو مخرج في " الأحاديث الصحيحة " (863) .   (1) قال الإمام النووي رحمه الله في " المجموع شرح المهذب " (1/60) ما مختصره: " قال العلماء المحققون - من أهل الحديث وغيرهم -: إذا كان الحديث ضعيفاً؛ لا يقال فيه: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو فعل، أو أمر، أو نهى، وغير ذلك من صيغ الجزم. وإنما يقال في هذا كله: رُوِيَ عنه، أو نُقلَ عنه، أو يُرْوَى، وما أشبه ذلك من صيغ التمريض. قالوا: فصيغ الجزم موضوعة للصحيح والحسن. وصيغ التمريض لما سواهما؛ وذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته عن المضاف إليه؛ فلا ينبغي أن يُطْلَق إلا فيما صح، وإلا؛ فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه، وهذا الأدب أخَلَّ به المصنف، وجماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، بل جماهير أصحاب العلوم مطلقاً، ما عدا حذَّاق المحدثين، وذلك تساهل قبيح؛ فإنهم يقولون كثيراً في الصحيح: روي عنه. وفي الضعيف: قال، وروى فلان. وهذا حَيْدٌ عن الصواب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 سَبَبُ تأليفِ الكتابِ ولما كنت لم أقف على كتاب جامع في هذا الموضوع؛ فقد رأيت من الواجب عليَّ أن أضع لإخواني المسلمين - ممن هَمُّهُم الاقتداء في عبادتهم بهدي نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتاباً مستوعباً - ما أمكن - لجميع ما يتعلق بصفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التكبير إلى التسليم؛ بحيث يُسَهِّل على من وقف عليه - من المحبين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبّاً صادقاً - القيام بتحقيق أمره في الحديث المتقدم: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". ولهذا فإني شَمَّرت عن ساعد الجدّ، وتتبعت الأحاديث المتعلقة بما إليه قصدت من مختلف كتب الحديث؛ فكان من ذلك هذا الكتاب الذي بين يديك، وقد اشترطت على نفسي أن لا أورد فيه من الأحاديث النبوية إلا ما ثبت سنده؛ حسبما تقتضيه قواعد الحديث الشريف وأصولُه، وضربت صفحاً عن كل ما تفرد به مجهول، أو ضعيف؛ سواء كان في الهيئات، أو الأذكار، أو الفضائل وغيرها؛ لأنني أعتقد أن فيما ثبت من الحديث (1) غُنيةً عن الضعيف منه؛ لأنه لا يفيد - بلا خلاف - إلا الظن؛ والظن المرجوح، وهو كما قال تعالى: {لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إياكم والظنَّ! فإن الظنَّ أكذبُ الحديث " (2) . فلم يتعبدْنا اللهُ تعالى بالعمل به، بل نهانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه؛ فقال:   (1) الحديث الثابت يشمل الصحيح والحسن عند المحدثين بقسميهما: الصحيح لذاته، والصحيح لغيره، والحسن لذاته، والحسن لغيره. (2) البخاري، ومسلم. وهو مخرج في كتابي " غاية المرام تخريج الحلال والحرام " (رقم 412) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 " اتقوا الحديث عني؛ إلا ما علمتم " (1) . فإذا نهى عن رواية الضعيف؛ فبالأحرى أن ينهى عن العمل به. هذا، وقد سميت الكتاب: " صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التكبير إلى التسليم كأنك تراها ". وقد جعلته على شطرين: أعلى، وأدنى: أما الأول: فهو كالمتن؛ أوردت فيه متون الأحاديث، أو الجمل اللازمة منها، ووضعتها في أماكنها اللائقة بها، مؤلِّفاً بين بعضها؛ بحيث يبدو الكتاب منسجماً من أوله إلى آخره، وحرصت على المحافظة على نص الحديث، ولفظه الذي ورد في كتب السنة، وقد يكون له ألفاظ؛ فأوثر منها لفظاً لفائدة التأليف، أو غيره، وقد أضم إليه غيره من الألفاظ؛ فأنبه على ذلك بقولي: (وفي لفظ: كذا وكذا) ، أو: (وفي رواية: كذا وكذا) . ولم أعزُها إلى رواتها من الصحابة إلا نادراً، ولا بينت من رواها من أئمة الحديث؛ تسهيلاً للمطالعة والمراجعة.   (1) صحيح. أخرجه الترمذي، وأحمد، وابن أبي شيبة. وعزاه الشيخ محمد سعيد الحلبي في " مسلسلاته " (1/2) للبخاري؛ فوهم. ثم تبين لي أن الحديث ضعيف، وكنت اتبعت المناوي في تصحيحه لإسناد ابن أبي شيبة فيه، ثم تيسر لي الوقوف عليه؛ فدا هو بَيِّن الضعف، وهو نفس إسناد الترمذي وغيره. راجع كتابي " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (1783) ، وقد يقوم مقامه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حدث عني بحديث يرى أنه كذب؛ فهو أحد الكاذبين ". رواه مسلم وغيره. راجع مقدمة كتابي " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (المجلد الأول) . بل يغني عنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وأما الشطر الآخر: فهو كالشرح لما قبله؛ خرّجت فيه الأحاديث الواردة في الشطر الأعلى، مستقصياً ألفاظه وطرقه، مع الكلام على أسانيدها وشواهدها، تعديلاً وتجريحاً، وتصحيحاً وتضعيفاً؛ حسبما تقتضيه علوم الحديث الشريف وقواعده، وكثيراً ما يوجد في بعض الطرق من الألفاظ والزيادات ما لا يوجد في الطرق الأخرى؛ فأضيفها إلى الحديث الوارد في القسم الأعلى إذا أمكن انسجامها مع أصله، وأشرت إلى ذلك بجعلها بين قوسين مستطيلين هكذا: [] ، دون أن أنصَّ على من تفرَّد بها من المخرجين لأصله، هذا إذا كان مصدر الحديث ومخرجه عن صحابي واحد، وإلا؛ جعلته نوعاً آخر مستقلاً بنفسه - كما تراه في أدعية الاستفتاح وغيره -، وهذا شيء عزيز نفيس؛ لا تكاد تجده هكذا في كتاب. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ثم أذكر فيه مذاهب العلماء حول الحديث الذي خرجناه، ودليل كل منهم مع مناقشتها، وبيان ما لها، وما عليها، ثم نستخلص من ذلك الحق الذي أوردناه في القسم الأعلى، وقد أُورِدُ فيه بعض المسائل التي ليس عليها نص في السنة؛ إنما هي من المجتهد فيها، ولا تدخل في موضوع كتابنا هذا. أسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به إخواني المؤمنين، إنه سميع مجيب.   = " إياكم وكثرة الحديث عني! من قال عليّ؛ فلا يقولن إلا حقّاً، أو صدقاً، فمن قال عليّ ما لم أقل؛ فليتبوأ مقعده من النار ". أخرجه ابن أبي شيبة (8/760) ، وأحمد وغيرهما. وهو مخرج في " الصحيحة " (1753) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 منهج الكتاب ولما كان موضوع الكتاب إنما هو بيان هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة؛ كان من البدهي أن لا أتقيد فيه بمذهب معين؛ للسبب الذي مرَّ ذكرُه، وإنما أُورد فيه ما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما هو مذهب المحدِّثين (1) قديماً وحديثاً (2) -، وقد أحسن من قال:   (1) قال أبو الحسنات اللكنوي في " إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام " (ص 156) ما نصه: " ومن نظر بنظر الإنصاف، وغاص في بحار الفقه والأصول متجنباً الاعتساف؛ يعلم علماً يقينياً أن أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف العلماء فيها؛ فمذهب المحدِّثين فيها أقوى من مذاهب غيرهم، وإني كلما أسير في شُعَب الاختلاف؛ أجد قول المحدِّثين فيه قريباً من الإنصاف، فلله دَرُّهم، وعليه شكرهم - كذا الأصل -، كيف لا؛ وهم ورثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقاً، ونواب شرعه صدقاً؟! حشرنا الله في زمرتهم، وأماتنا على حبهم وسيرتهم ". (2) قال السبكي في " الفتاوى " (1/148) : " وبعد؛ فإن أهم أمور المسلمين الصلاة، يجب على كل مسلم الاهتمام بها، والمحافظة على أدائها، وإقامة شعائرها، وفيها أمور مُجْمَعٌ عليها؛ لا مندوحة عن الإتيان بها، وأمور اختلف العلماء في وجوبها، وطريق الرشاد في ذلك أمران: إما أن يتحرى الخروج من الخلاف إن أمكن، وإما ينظر ما صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيتمسك به، فإذا فعل ذلك؛ كانت صلاته صواباً صالحة داخلة في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} . قلت: والوجه الثاني أولى؛ بل هو الواجب؛ لأن الوجه الأول - مع عدم إمكانه في كثير من المسائل - لا يتحقق به أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلوا كما رأيتموني أصلي "؛ لأنه في هذه الحالة ستكون صلاته - حتماً - على خلاف صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أهلُ الحديث هُمُ أهلُ النبيّ وإنْ ... لم يَصْحبوا نَفْسَهُ أنفاسَهُ صَحِبوا (1) ولذلك فإن الكتاب سيكون - إن شاء الله تعالى - جامعاً لشتات ما تفرق في بطون كتب الحديث والفقه - على اختلاف المذاهب مما له علاقة بموضوعه -، بينما لا يجمع ما فيه من الحق أيُّ كتاب أو مذهب، وسيكون العامل به - إن شاء الله - ممن قد هداه الله {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] . ثم إني حين وضعت هذا المنهج لنفسي - وهو التمسك بالسنة الصحيحة -، وجريت عليه في هذا الكتاب وغيره - مما سوف ينتشر بين الناس إن شاء الله تعالى -؛ كنت على علم أنه سوف لا يُرْضِي ذلك كلَّ الطوائف والمذاهب، بل سوف يوجه بعضهم - أو كثير منهم - ألسنة الطعن، وأقلام اللوم إليَّ، ولا بأس من ذلك عليَّ؛ فإني أعلم أيضاً أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، وأن: " من أرضى الناس بسخط الله؛ وكَلَه الله إلى الناس "؛ كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ولله دَرُّ من قال: ولست بناجٍ من مقالةِ طاعِنٍ ... ولو كنتُ في غارٍ على جبلٍ وعرِ ومن ذا الذي ينجو من الناسِ سالماً ... ولو غابَ عنهم بين خافِيَتَي نسرِ (3)   (1) من إنشاد الحسن بن محمد النَّسَوي؛ كما رواه الحافظ ضياء الدين المقدسي في جزء له في " فضل الحديث وأهله ". (2) [أخرجه] الترمذي، والقُضَاعي، وابن بِشْران وغيرهم. وقد تكلمت على الحديث وطرقه في تخريج أحاديث " شرح العقيدة الطحاوية "، ثم في " الصحيحة " (2311) ، وبينت أنه لا يضره وقف من أوقفه، وأنه صححه ابن حبان. (3) الخوافي: ريشات إذا ضم الطائر جناحيه؛ خفيت، وتكون وراء القوادم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فحسبي أنني معتقد إن ذلك هو الطريق الأقوم، الذي أمر الله تعالى به المؤمنين، وبيَّنه نبينا محمد سيد المرسلين، وهو الذي سلكه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وفيهم الأئمة الأربعة - الذين ينتمي اليوم إلى مذاهبهم جمهور المسلمين -، وكلهم متفق على وجوب التمسك بالسنة، والرجوع إليها، وترك كل قول يخالفها، مهما كان القائل عظيماً؛ فإن شأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم، وسبيله أقوم. ولذلك فإني اقتديت بهداهم، واقتفيت آثارهم، وتبعت أوامرهم بالتمسك بالحديث؛ وإن خالف أقوالهم، ولقد كان لهذه الأوامر أكبر الأثر في نهجي هذا النهج المستقيم، وإعراضي عن التقليد الأعمى. فجزاهم الله تعالى عني خيراً. أقوال الأئمة في اتِّباعِ السُّنَّةِ وتَركِ أقوالِهم المخالفَةِ لَها ومن المفيد أن نسوق هنا ما وقفنا عليه منها أو بعضها، لعلَّ فيها عظةً وذكرى لمن يقلدهم - بل يقلد من دونهم بدرجات - تقليداً أعمى (1) ، ويتمسك بمذاهبهم وأقوالهم؛ كما لو كانت نزلت من السماء، والله عزَّ وجلَّ يقول: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] . 1- أبو حَنِيفة رحمه الله: فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله، وقد روى عنه أصحابه أقوالاً شتى، وعبارات متنوعة؛ كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو: وجوب الأخذ بالحديث، وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة له:   (1) وهذا التقليد هو الذي عناه الإمام الطحاوي حين قال: " لا يقلد إلا عصبي أو غبي ". نقله ابن عابدين في " رسم المفتي " (ص 32 ج 1) من " مجموعة رسائله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 1- " إذا صح الحديث؛ فهو مذهبي " (1) . 2- " لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا؛ ما لم يعلم من أين أخذناه " (2) . وفي رواية: " حرام على مَن لم يعرف دليلي أن يُفتي بكلامي ".   (1) ابن عابدين في " الحاشية " (1/63) وفي رسالته " رسم المفتي " (1/4 من مجموعة رسائل ابن عابدين) ، والشيخ صالح الفُلاني في " إيقاظ الهمم " (ص 62) وغيرهم، ونقل ابن عابدين عن " شرح الهداية " لابن الشَّحْنَة الكبير- شيخ ابن الهُمَام - ما نصه: " إذا صح الحديث، وكان على خلاف المذهب؛ عُمِل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه، ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيّاً بالعمل به؛ فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال: إذا صح الحديث؛ فهو مذهبي. وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة، وغيره من الأئمة ". قلت: وهذا من كمال علمهم وتقواهم؛ حيث أشاروا بذلك إلى أنهم لم يحيطوا بالسنة كلها - وقد صرح بذلك الإمام الشافعي؛ كما يأتي -؛ فقد يقع منهم ما يخالف السنة التي لم تبلغهم؛ فأمرونا بالتمسك بها، وأن نجعلها من مذهبهم رحمهم الله تعالى أجمعين. (2) ابن عبد البر في " الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء " (ص 145) ، وابن القيم في " إعلام الموقعين " (2/309) ، وابن عابدين في " حاشيته " على " البحر الرائق " (6/293) وفي " رسم المفتي " (ص 29 و 32) ، والشعراني في " الميزان " (1/55) بالرواية الثانية، والرواية الثالثة رواها عباس الدوري في " التاريخ " لابن معين (6/77/1) بسند صحيح عن زُفَر، وورد نحوه عن أصحابه: زُفَر، وأبي يوسف، وعافية بن يزيد - كما في " الإيقاظ " (ص 52) -، وجزم ابن القيم (2/344) بصحته عن أبي يوسف، والزيادة في التعليق على " الإيقاظ " (ص 65) نقلاً عن ابن عبد البر، وابن القيم وغيرهما. قلت: فإذا كان هذا قولهم فيمن لم يَعلم دليلَهم؛ فليت شعري! ماذا يقولون فيمن علم أن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 زاد في رواية: " فإننا بَشَر؛ نقول القول اليوم، ونرجع عنه غداً ". وفي أخرى: " ويحك يا يعقوب! - وهو أبو يوسف - لا تكتب كل ما تسمع مني؛ فإني قد أرى الرأي اليوم، وأتركه غداً، وأرى الرأي غداً، وأتركه بعد غد " (1) .   = الدليل خلاف قولهم، ثم أفتى بخلاف الدليل؟! فتأمل في هذه الكلمة؛ فإنها وحدها كافية في تحطيم التقليد الأعمى؛ ولذلك أنكر بعض المقلدة من المشايخ نسبتها إلى أبي حنيفة؛ حين أنكرتُ عليه إفتاءه بقولٍ لأبي حنيفة لم يعرف دليله! (1) قلت: وذلك لأن الإمام كثيراً ما يبني قوله على القياس، فيبدو له قياس أقوى، أو يبلغه حديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيأخذ به، ويترك قوله السابق. قال الشعراني في " الميزان " (1/62) ما مختصره: " واعتقادنا واعتقاد كل منصف في الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه؛ أنه لو عاش حتى دُوِّنَت الشريعة، وبعد رحيل الحفاظ في جَمْعِها من البلاد والثغور، وظفر بها؛ لأخذ بها، وترك كل قياس كان قاسه، وكان القياس قلَّ في مذهبه، كما قل في مذهب غيره بالنسبة إليه، لكن لما كانت أدلة الشريعة مفرقة في عصره مع التابعين وتابعي التابعين في المدائن والقرى والثغور؛ كثر القياس في مذهبه بالنسبة إلى غيره من الأئمة ضرورةً؛ لعدم وجود النص في تلك المسائل التي قاس فيها؛ بخلاف غيره من الأئمة؛ فإن الحفاظ كانوا قد رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها في عصرهم من المدائن والقرى، ودوّنوها؛ فجاوبت أحاديث الشريعة بعضها بعضاً، فهذا كان سبب كثرة القياس في مذهبه، وقلته في مذاهب غيره ". ونقل القسم الأكبر منه أبو الحسنات في " النافع الكبير" (ص 135) ، وعلق عليه بما يؤيده ويوضحه. فليراجعه من شاء. قلت: فإذا كان هذا عذر أبي حنيفة فيما وقع منه من المخالفة للأحاديث الصحيحة دون قصد - وهو عذر مقبول قطعاً؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها -؛ فلا يجوز الطعن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 3- " إذا قلتُ قولاً يخالف كتاب الله تعالى، وخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فاتركوا قولي " (1) . 2- مالك بن أنس رحمه الله: وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله؛ فقال: 1- " إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب   = فيه - كما قد يفعل بعض الجهلة -، بل يجب التأدب معه؛ لأنه إمام من أئمة المسلمين الذين بهم حُفِظ هذا الدين، ووصل إلينا ما وصل من فروعه، وأنه مأجور على كل حال؛ أصاب أم أخطأ، كما أنه لا يجوز لمعظِّميه أن يظلوا متمسكين بأقواله المخالفة للأحاديث؛ لأنها ليست من مذهبه - كما رأيت نصوصه في ذلك -، فهؤلاء في واد، وأولئك في واد، والحق بين هؤلاء وهؤلاء، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . (1) الفلاني في " الإيقاظ " (ص 50) ، ونسبه للإمام محمد أيضاً، ثم قال: " هذا ونحوه ليس في حق المجتهد؛ لعدم احتياجه في ذلك إلى قولهم؛ بل هو في حق المقلد ". قلت: وبناءً على هذا قال الشعراني في " الميزان " (1/26) : " فإن قلت: فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي، ولم يأخذ بها؟ فالجواب: الذي ينبغي لك: أن تعمل بها؛ فإن إمامك لو ظفر بها، وصحت عنده؛ لربما كان أَمَرَك بها؛ فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة، ومن فعل ذلك؛ فقد حاز الخير بكلتا يديه، ومن قال: (لا أعمل بحديث إلا إن أخذ به إمامي) ؛ فاته خير كثير؛ كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب، وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم؛ تنفيذاً لوصية الأئمة؛ فان اعتقادنا فيهم أنهم لو عاشوا، وظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم؛ لأخذوا بها، وعملوا بما فيها، وتركوا كلَّ قياس كانوا قاسوه، وكلَّ قول كانوا قالوه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 والسنة؛ فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة؛ فاتركوه " (1) . 2- " ليس أحد - بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا ويؤخذ من قوله ويترك؛ إلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (2) . 3- قال ابن وهب: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: " ليس ذلك على الناس ". قال: فتركته حتى خفَّ الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: " وما هي؟ ". قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن المستورد بن شداد القرشي قال:   (1) ابن عبد البر في " الجامع " (2/32) ، وعنه ابن حزم في " أصول الأحكام " (6/149) ، وكذا الفلاني (ص 72) . (2) نسبةُ هذا إلى مالك هو المشهور عند المتأخرين، وصححه عنه ابن عبد الهادي في " إرشاد السالك " (227/1) ، وقد رواه ابن عبد البر في " الجامع " (2/91) ، وابن حزم في " أصول الأحكام " (6/145 و 179) من قول الحكم بن عُتَيبة ومجاهد، وأورده تقي الدين السبكي في " الفتاوى " (1/148) من قول ابن عباس - متعجباً من حسنه -، ثم قال: " وأخذ هذه الكلمة من ابن عباسٍ مجاهدٌ، وأخذها منهما مالك رضي الله عنه، واشتهرت عنه ". قلت: ثم أخذها عنهم الإمام أحمد؛ فقد قال أبو داود في " مسائل الإمام أحمد " (ص 276) : " سمعت أحمد يقول: ليس أحد إلا ويؤخذ من رأيه ويترك؛ ما خلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدلُك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال: " إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة ". ثم سمعته بعد ذلك يُسأل، فيأمر بتخليل الأصابع (1) . 3- الشافعي رحمه الله: وأما الإمام الشافعي رحمه الله؛ فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب (2) ، وأتباعه أكثر عملاً بها وأسعد؛ فمنها: 1- " ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعزُبُ عنه، فمهما قلتُ من قول، أو أصّلت من أصل، فيه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قولي " (3) . 2- " أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لم يَحِلَّ له أن يَدَعَهَا لقول أحد " (4) .   (1) مقدمة " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم (ص 31 - 32) ، ورواها تامة البيهقي في " السنن " (1/81) . (2) قال ابن حزم (6/118) : " إن الفقهاء الذين قُلِّدوا مبطلون للتقليد، وإنهم نهوا أصحابهم عن تقليدهم، وكان أشدهم في ذلك الشافعي؛ فإنه رحمه الله بلغ من التأكيد في اتباع صحاح الآثار، والأخذ بما أوجبته الحجة، حيث لم يبلغ غيره، وتبرَّأ من أن يُقَلَّدَ جملة، وأعلن بذلك، نفع الله به، وأعظم أجره؛ فلقد كان سبباً إلى خير كثير ". (3) رواه الحاكم بسنده المتصل إلى الشافعي؛ كما في " تاريخ دمشق " لابن عساكر (15/1/3) ، و " إعلام الموقعين " (2/363 و 364) ، و " الإيقاظ " (ص 100) . (4) ابن القيم (2/361) ، والفلاني (ص 68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 3- " إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقولوا بسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعُوا ما قلت ". وفي رواية: " فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد " (1) . 4- " إذا صح الحديث؛ فهو مذهبي " (2) .   (1) الهروي في " ذم الكلام " (3/47/1) ، والخطيب في " الاحتجاج بالشافعي " (8/2) ، وابن عساكر (15/9/1) ، والنووي في " المجموع " (1/63) ، وابن القيم (2/361) ، والفلاني (ص 100) . والرواية الأخرى لأبي نعيم في " الحلية " (9/107) ، وابن حبان في " صحيحه " (3/284 - الإحسان) بسنده الصحيح عنه نحوه. (2) النووي في المصدر السابق، والشعراني (1/57) ، وعزاه للحاكم، والبيهقي، والفلاني (ص 107) ، وقال الشعراني: " قال ابن حزم: أي: صح عنده، أو عند غيره من الأئمة ". قلت: وقوله الآتي عقب هذا صريح في هذا المعنى، قال النووي رحمه الله ما مختصره: " وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب، واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض وغيرهما مما هو معروف في كتب المذهب، وممن حُكي عنه أنه أفتى بالحديث من أصحابنا: أبو يعقوب البُويطي، وأبو القاسم الدَّارَكي، وممن استعمله من أصحابنا المحدثين: الإمام أبو بكر البيهقي وآخرون، وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث، ومذهب الشافعي خلافه؛ عملوا بالحديث، وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث. قال الشيخ أبو عمرو: فمن وجد من الشافعية حديثاً يخالف مذهبه؛ نظر: إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقاً - أو في ذلك الباب، أو المسألة -؛ كان له الاستقلال بالعمل به، وإن لم تكمل - وشَقَّ عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفه عنه جواباً شافياً -؛ فله العمل به، إن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 5- " أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث الصحيح؛ فَأَعْلِموني به - أي شيء يكون: كوفيّاً، أو بصرياً، أو شامياً -؛ حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً ".   = كان عَمِل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذراً له في ترك مذهب إمامه هنا. وهذا الذي قاله حسن متعين. والله أعلم ". قلت: هناك صورة أخرى لم يتعرض لذكرها ابن الصلاح، وهي فيما إذا لم يجد من عمل بالحديث؛ فماذا يصنع؟ أجاب عن هذا تقي الدين السبكي في رسالة " معنى قول الشافعي ... إذا صح الحديث ... " (ص 102 ج 3) ؛ فقال: " والأولى عندي اتباع الحديث، وليفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد سمع ذلك منه؛ أيسعه التأخر عن العمل به؟ لا والله! ... وكل واحد مكلف بحسب فهمه ". وتمام هذا البحث وتحقيقه تجده في " إعلام الموقعين " (2/302 و 370) ، وكتاب الفلاني المسمى " إيقاظ همم أولي الأبصار، للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار، وتحذيرهم عن الابتداع الشائع في القرى والأمصار، من تقليد المذاهب مع الحمية والعصبية بين فقهاء الأعصار "، وهو كتاب فَذّ في بابه، يجب على كل محبٍّ للحق أن يدرسه دراسة تفهم وتدبر. (1) الخطاب للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. رواه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي " (ص 94 - 95) ، وأبو نعيم في " الحلية " (9/106) ، والخطيب في " الاحتجاج بالشافعي " (8/1) ، وعنه ابن عساكر (15/9/1) ، وابن عبد البر في " الانتقاء " (ص 75) ، وابن الجوزي في " مناقب الإمام أحمد " (ص 499) ، والهروي (2/47/2) من ثلاثة طرق عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: أن الشافعي قال له: ... فهو صحيح عنه؛ ولذلك جزم بنسبته إليه ابن القيم في " الإعلام " (2/325) ، والفلاني في " الإيقاظ " (ص 152) ، ثم قال: " قال البيهقي: ولهذا كَثُر أخذه - يعني: الشافعي - بالحديث، وهو أنه جمع علم أهل الحجاز، والشام، واليمن، والعراق، وأخذ بجميع ما صح عنده من غير محاباة منه، ولا ميل إلى ما استحلاه من مذهب أهل بلده؛ مهما بان له الحق في غيره، وفيمن كان قبله من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 6- " كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند أهل النقل بخلاف ما قلت؛ فأنا راجع عنها في حياتي، وبعد موتي " (1) . 7- " إذا رأيتموني أقول قولاً، وقد صحَّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافُه؛ فاعلموا أن عقلي قد ذهب " (2) . 8- " كل ما قلت؛ فكان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلاف قولي مما يصح؛ فحديث النبي أولى، فلا تقلدوني " (3) . 9- " كل حديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني " (4) . 4- أحمد بن حنبل رحمه الله: وأما الإمام أحمد؛ فهو أكثر الأئمة جمعاً للسنة وتمسكاً بها، حتى " كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي " (5) ؛ ولذلك قال:   = اقتصر على ما عهده من مذهب أهل بلده، ولم يجتهد في معرفة صحة ما خالفه، والله يغفر لنا ولهم ". (1) أبو نعيم في " الحلية " (9/107) ، والهروي (1/47) ، وابن القيم في " إعلام الموقعين " (2/363) ، والفلاني (ص 104) . (2) رواه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي " (ص 93) ، وأبو القاسم السمرقندي في " الأمالي " - كما في " المنتقى منها " لأبي حفص المؤدب (1/234) -، وأبو نعيم في " الحلية " (9/106) ، وابن عساكر (15/10/1) بسند صحيح. (3) ابن أبي حاتم (ص 93) ، وأبو نعيم، وابن عساكر (15/9/2) بسند صحيح. (4) ابن أبي حاتم (ص 93 - 94) . (5) ابن الجوزي في " المناقب " (ص 192) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 1- " لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا " (1) . وفي رواية: " لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه؛ فَخُذ به، ثم التابعين بَعْدُ؛ الرجلُ فيه مخيَّر ". وقال مرة: " الاتِّباع: أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أصحابه، ثم هو من بعد التابعين مخيّر " (2) . 2- " رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة؛ كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار" (3) . 3- " من رد حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهو على شفا هَلَكة " (4) . تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث، والنهي عن تقليدهم دون بصيرة، وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلاً ولا تأويلاً. وعليه؛ فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة، ولو خالف بعض أقوال الأئمة؛ لا يكون مبايناً لمذهبهم، ولا خارجاً عن طريقتهم؛ بل هو متبع لهم جميعاً، ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالفتها لقولهم؛ بل هو بذلك عاصٍ لهم، ومخالف لأقوالهم المتقدمة، والله تعالى يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا   (1) الفلاني (113) ، وابن القيم في " الإعلام " (2/302) . (2) أبو داود في " مسائل الإمام أحمد " (ص 276 و 277) . (3) ابن عبد البر في " الجامع " (2/149) . (4) ابن الجوزي (ص 182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: " فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعرفه؛ أن يبينه للأمة، وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة؛ فإن أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحق أن يُعَظَّم ويُقتدى به من رأي أي مُعَظَّم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأً، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد (1) ، لا بغضاً له؛ بل هو محبوب عندهم مُعَظَّم في نفوسهم، لكن رسول الله أحب إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق، فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره؛ فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع   (1) قلت: حتى ولو على آبائهم وعلمائهم؛ كما روى الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1/372) ، وأبو يعلى في " مسنده " (3/1317 - مصورة الكتب) بإسناد جيد رجاله ثقات عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: " إني لجالس مع ابن عمر رضي الله عنه في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام، فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج؟ فقال ابن عمر: حسن جميل. فقال: فإن أباك كان ينهى عن ذلك؟ فقال: ويلك! فإن كان أبي قد نهى عن ذلك، وقد فعله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر به؛ فبقول أبي تأخذ، أم بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قال: بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: فقم عني ". وروى أحمد (رقم 5700) نحوه، والترمذي (2/82 - بشرح التحفة) وصححه. وروى ابن عساكر (7/51/1) عن ابن أبي ذئب قال: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 من ذلك تعظيم من خالف أمره، وإن كان مغفوراً له (1) ، بل ذلك المُخَالَف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره؛ إذا ظهر أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلافه " (2) . قلت: كيف يكرهون ذلك؛ وقد أمروا به أتباعهم - كما مر -، وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة؟! بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه، ولو لم يأخذ بها، أو أخذ بخلافها؛ ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث الصحيح فيها - انفراداً، واجتماعاً - في مجلد ضخم؛ قال في أوله: " إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام، وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها؛ لئلا يعزوها إليهم؛ فيكذبوا عليهم " (3) .   = قضى سعد بن إبراهيم (يعني: ابن عبد الرحمن بن عوف) على رجل برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فأخبرته عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف ما قضى به، فقال سعد لربيعة: هذا ابن أبي ذئب - وهو عندي ثقة - يحدث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف ما قضيت به. فقال له ربيعة: قد اجتهدت، ومضى حكمك. فقال سعد: واعجباً! أُنَفذّ قضاء سعد و [لا] أُنَفّذ قضاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! بل أرد قضاء سعد ابن أم سعد، وأنفذ قضاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فدعا سعد بكتاب القضية فشقه، وقضى للمقضي عليه. (1) قلت: بل هو مأجور؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا حكم الحاكم فاجتهد، فأصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، فأخطأ؛ فله أجر واحد ". رواه الشيخان وغيرهما. (2) نقله في التعليق على " إيقاظ الهمم " (ص 93) . (3) الفلاني (ص 99) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ترك الأَتْباع بعضَ أقوالِ أئمتِهِم اتباعاً لِلسُّنَّةِ ولذلك كله كان أتباع الأئمة {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13 - 14) لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها؛ بل قد تركوا كثيراً منها لمَّا ظهر لهم مخالفتها للسنة، حتى إن الإمامين: محمد بن الحسن، وأبا يوسف رحمهما الله قد خالفا شيخهما أبا حنيفة (في نحو ثلث المذهب) (1) ، وكتب الفروع كفيلة ببيان ذلك، ونحو هذا يقال في الإمام المُزَّني (2) ، وغيره من أتباع الشافعي وغيره، ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلة؛ لطال بنا الكلام، ولخرجنا به عما قصدنا إليه في هذا البحث من الإيجاز؛ فلنقتصر على مثالين اثنين: 1- قال الإمام محمد في " موطئه " (3) (ص 158) : " قال محمد: أما أبو حنيفة رحمه الله؛ فكان لا يرى في الاستسقاء   (1) ابن عابدين في " الحاشية " (1/62) ، وعزاه اللكنوي في " النافع الكبير" (ص 93) للغزالي. (2) وهو القائل في أول " مختصره في فقه الشافعي " المطبوع بهامش " الأم " للإمام ما نصه: " اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، ومن معنى قوله؛ لأُقربه على من أراده، مع إعلامِه نهيَه عن تقليدِه وتقليدِ غيرهِ؛ لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه ". (3) وقد صرح فيه بمخالفة إمامه في نحو عشرين مسألة، نشير إلى مواطنها منه: (42 و44 و103 و120 و158 و169 و172 و173 و228 و230 و240 و244 و274 و275 و284 و314 و331 و338 و355 و356) ؛ من " التعليق الممجد على موطأ محمد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 صلاة، وأما في قولنا؛ فان الإمام يصلي بالناس ركعتين، ثم يدعو، وُيحَوِّل رداءه ... " إلخ. 2- وهذا عصام بن يوسف البَلْخي - من أصحاب الإمام محمد (1) ، ومن الملازمين للإمام أبي يوسف (2) - " كان يفتي بخلاف قول الإمام أبي حنيفة كثيراً؛ لأنه لم يعلم الدليل، وكان يظهر له دليل غيره؛ فيفتي به " (3) ؛ ولذلك " كان يرفع يديه عند الركوع، والرفع منه " (4) ؛ كما هو في السنة المتواترة   (1) ذكره فيهم ابن عابدين في " الحاشية " (1/74) ، وفي " رسم المفتي " (1/17) ، وأورده القرشي في " الجواهر المضية في طبقات الحنفية " (ص 347) وقال: " كان صاحب حديث، ثبتاً، وكان هو وأخوه إبراهيم شيخي بَلْخ في زمانهما ". (2) " الفوائد البهية في تراجم الحنفية " (ص 116) . (3) " البحر الرائق " (6/93) ، و " رسم المفتي " (1/28) . (4) " الفوائد " (ص 116) ثم علق عليه بقوله - وقد أجاد -: " قلت: يُعلم منه بطلان رواية مكحول عن أبي حنيفة -: " أن من رفع يديه في الصلاة فسدت صلاته " -، التي اغترَّ بها أمير كاتب الإتقاني - كما مر في ترجمته -؛ فإن عصام بن يوسف كان من ملازمي أبي يوسف، وكان يرفع، فلو كان لتلك الرواية أصل؛ لعلم بها أبو يوسف وعصام ". قال: " ويُعلم أيضاً أن الحنفي لو ترك في مسألةٍ مذهبَ إمامهِ لقوة دليل خلافه؛ لا يخرج به عن ربقة التقليد، بل هو عين التقليد في صورة ترك التقليد، ألا ترى أن عصام بن يوسف ترك مذهب أبي حنيفة في عدم الرفع، ومع ذلك هو معدود في الحنفية؟! ". قال: " وإلى الله المشتكى من جهلة زماننا؛ حيث يطعنون على من ترك تقليد إمامه في مسألة واحدة؛ لقوة دليلها، ويخرجونه عن جماعة مقلديه!! ولا عجب منهم؛ فإنهم من العوام، إنما العجب ممن يتشبه بالعلماء، ويمشي مشيهم كالأنعام! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الثلاثة قالوا بخلافها، وذلك ما يجب أن يكون عليه كل مسلم - بشهادة الأئمة الأربعة وغيرهم؛ كما تقدم -. وخلاصة القول: إنني أرجو أن لا يبادر أحد من المقلدين إلى الطعن في مشرب هذا الكتاب، وترك الاستفادة مما فيه من السنن النبوية بدعوى مخالفتها للمذهب؛ بل أرجو أن يتذكر ما أسلفناه من أقوال الأئمة في وجوب العمل بالسنة، وترك أقوالهم المخالفة لها، وليعلم أن الطعن في هذا المشرب؛ إنما هو طعن في الإمام الذي يقلده أيّاً كان من الأئمة، فإنما أخذنا هذا المنهج منهم - كما سبق بيانه -، فمن أعرض عن الاهتداء بهم في هذا السبيل؛ فهو على خطر عظيم؛ لأنه يستلزم الإعراض عن السنة، وقد أُمرنا عند الاختلاف بالرجوع إليها، والاعتماد عليها؛ كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65) . أسال الله تعالى أن يجعلنا ممن قال فيهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ. وَمَن يُطَعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} (النور: 51 - 52) . دمشق /13 جمادى الآخرة سنة 1370 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 شبهات وجَوَابها ذلك ما كنت كتبته منذ عشر سنوات في مقدمة هذا الكتاب، وقد ظهر لنا في هذه البرهة (*) أنه كان لها تأثير طيب في صفوف الشباب المؤمن؛ لإرشادهم إلى وجوب العودة في دينهم وعبادتهم إلى المنبع الصافي من الإسلام: الكتاب والسنة؛ فقد ازداد فيهم - والحمد لله - العاملون بالسنة، والمتعبدون بها، حتى صاروا معروفين بذلك؛ غير أني لمست من بعضهم توقُّفاً عن الاندفاع إلى العمل بها، لا شكّاً في وجوب ذلك - بعد ما سقنا من الآيات والأخبار عن الأئمة في الأمر بالرجوع إليها -؛ ولكن لشبهات يسمعونها من بعض المشايخ المقلدين؛ لذا رأيت أن أتعرض لذكرها، والرد عليها، لعل ذلك البعض يندفع بعد ذلك إلى العمل بالسنة مع العاملين بها؛ فيكون من الفرقة الناجية بإذن الله تعالى. 1- قال بعضهم: " لا شك أن الرجوع إلى هدي نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شؤون ديننا أمر واجب، لا سيما فيما كان منها عبادة محضة، لا مجال للرأي والاجتهاد فيها؛ لأنها توقيفية؛ كالصلاة مثلاً، ولكننا لا نكاد نسمع أحداً من المشايخ المقلدين يأمر بذلك، بل نجدهم يُقرُّون الاختلاف، ويزعمون أنه توسعة على الأمة، ويحتجون على ذلك بحديث - طالما كرروه في مثل هذه المناسبة رادَّين به على أنصار السنة -: " اختلاف أمتي رحمة ". فيبدو لنا أن هذا الحديث يخالف المنهج الذي تدعو إليه، وأَلّفْتَ كتابك هذا وغيره عليه. فما قولك في هذا الحديث؟ ".   (*) أي بعد طباعة ونشر متن " صفة الصلاة " وتخريجه المختصر، ومنه أضفنا هذا الفصل المتمم للمقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 والجواب من وجهين: الأول: أن الحديث لا يصح؛ بل هو باطل لا أصل له؛ قال العلامة السبكي: " لم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع ". قلت: وإنما روي بلفظ: " ... اختلاف أصحابي لكم رحمة ". و: " أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم؛ اهتديتم ". وكلاهما لا يصح: الأول: واه جدّاً. والآخر: موضوع. وقد حققت القول في ذلك كله في " سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة " (رقم 58 و 59 و 61) . الثاني: أن الحديث - مع ضعفه - مخالف للقرآن الكريم؛ فإن الآيات الواردة فيه - في النهي عن الاختلاف في الدين، والأمر بالاتفاق فيه - أشهر من أن تذكر، ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) . وقال: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 31 - 32) . وقال: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118 - 119) . فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون، وإنما يختلف أهل الباطل؛ فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة؟! فثبت أن هذا الحديث لا يصح؛ لا سنداً ولا متناً (1) ، وحينئذٍ يتبين بوضوح أنه لا يجوز اتخاذه شبهة للتوقف عن العمل بالكتاب والسنة، الذي أمر به الأئمة.   (1) ومن شاء البسط في ذلك؛ فعليه بالمصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 2- وقال آخرون: " إذا كان الاختلاف في الدين منهيّاً عنه؛ فماذا تقولون في اختلاف الصحابة، والأئمة من بعدهم؟ وهل ثمة فرق بين اختلافهم، واختلاف غيرهم من المتأخرين؟ ". فالجواب: نعم؛ هناك فرق كبير بين الاختلافين، ويظهر ذلك في شيئين: الأول: سببه. والآخر: أثره. فأما اختلاف الصحابة؛ فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم؛ لا اختياراً منهم للخلاف، يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم، استلزمت اختلافهم، ثم زالت من بعدهم (1) ، ومثل هذا الاختلاف لا يمكن الخلاص منه كليّاً، ولا يلحق أهلَه الذمُّ الواردُ في الآيات السابقة، وما في معناها؛ لعدم تحقق شرط المؤاخذة، وهو القصد، أو الإصرار عليه. وأما الاختلاف القائم بين المقلدة؛ فلا عذر لهم فيه غالباً؛ فإن بعضهم قد تتبين له الحجة من الكتاب والسنة، وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة، فيدعها لا لشيء؛ إلا لأنها خلاف مذهبه، فكأن المذهب عنده هو الأصل، أو هو الدين الذي جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ! وآخرون منهم على النقيض من ذلك؛ فإنهم يرون هذه المذاهب - على ما بينها من اختلاف واسع - كشرائع متعددة؛ كما صرح بذلك بعض   (1) راجع " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم، و " حجة الله البالغة " للدهلوي، أو رسالته الخاصة بهذا البحث " عِقد الجِيد في أحكام الاجتهاد والتقليد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 متأخريهم (1) : " لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها ما شاء، ويدع ما شاء، إذ الكل شرع "! وقد يحتج هؤلاء، وهؤلاء على بقائهم في الاختلاف بذلك الحديث الباطل: " اختلافُ أمتي رحمة ". وكثيراً ما سمعناهم يستدلون به على ذلك! ويعلل بعضهم هذا الحديث، ويوجهونه بقولهم: " إن الاختلاف إنما كان رحمة؛ لأن فيه توسعة على الأمة "! ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة، وفحوى كلمات الأئمة السابقة؛ فقد جاء النص عن بعضهم برده، قال ابن القاسم: " سمعت مالكاً والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس كما قال ناس: " فيه توسعة "؛ ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب " (2) . وقال أشهب: " سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أتراه من ذلك في سعة؟ فقال: لا والله! حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً؟! ما الحق والصواب إلا واحد " (3) .   (1) انظر: " فيض القدير " للمناوي (1/209) ، أو " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (1/76 و 77) . (2) ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (2/81 و 82) . (3) المصدر السابق (2/82 و 88 و 89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وقال المُزني صاحب الإمام الشافعي: " وقد اختلف أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فخطَّأ بعضهم بعضاً، ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقَّبها، ولو كان قولهم كله صواباً عندهم؛ لما فعلوا ذلك، وغضب عمر بن الخطاب من اختلاف أُبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في الثوب الواحد؛ إذ قال أُبي: إن الصلاة في الثوب الواحد حسن جميل. وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك والثياب قليلة. فخرج عمر مغضباً، فقال: اختلف رجلان من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن ينظر إليه، ويؤخذ عنه! وقد صدق أُبَيّ، ولم يَأْلُ ابن مسْعود، ولكني لا أسمع أحداً يختلف فيه بعد مقامي هذا؛ إلا فعلت به كذا وكذا " (1) . وقال الإمام المُزَني أيضاً: " يقال لمن جوَّز الاختلاف، وزعم أن العالِمَيْن إذا اجتهدا في الحادثة؛ فقال أحدهما: حلال. والآخر: حرام. أن كل واحد منهما في اجتهاده مصيب الحق: أَبِأَصْلٍ قلتَ هذا، أم بقياس؟ فإن قال: بأصل. قيل له: كيف يكون أصلاً، والكتاب ينفي الاختلاف؟! وإن قلت: بقياس. قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟! هذا ما لا يجوّزه عاقل؛ فضلاً عن عالم " (2) . فإن قال قائل: يخالف ما ذكرتَه عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد   (1) المصدر السابق (2/83 - 84) . (2) المصدر نفسه (2/89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ما جاء في كتاب " المدخل الفقهي " للأستاذ الزرقا (1/89) : " ولقد هم أبو جعفر المنصور، ثم الرشيد من بعده أن يختارا مذهب الإمام مالك وكتابه " الموطأ " قانوناً قضائيّاً للدولة العباسية، فنهاهما مالك عن ذلك وقال: إن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب ". وأقول: إن هذه القصة معروفة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله، لكن قوله في آخرها: " وكل مصيب ". مما لا أعلم له أصلاً في شيء من الروايات، والمصادر التي وقفت عليها (1) ، اللهم! إلا رواية واحدة أخرجها أبو نُعيم في " الحلية " (6/332) بإسناد فيه المقدام بن داود، وهو: ممن أوردهم الذهبي في " الضعفاء "، ومع ذلك فإن لفظها: " وكلّ عند نفسه مصيب ". فقوله: " عند نفسه ". يدل على أن رواية " المدخل " مدخولة، وكيف لا تكون كذلك؛ وهي مخالفة لما رواه الثقات عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد؛ كما سبق بيانه؟! وعلى هذا كل الأئمة من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة المجتهدين وغيرهم. قال ابن عبد البر (2/88) : " ولو كان الصواب في وجهين متدافعين؛ ما خطَّأ السلف بعضهم بعضاً في اجتهادهم، وقضائهم، وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صواباً   (1) راجع " الانتقاء " لابن عبد البر (41) ، و " كشف المغطا في فضل الموطا " (ص 6 - 7) للحافظ ابن عساكر، و " تذكرة الحفاظ " للذهبي (1/195) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 كله، ولقد أحسن من قال: إثبات ضدين معاً في حال ... أقبح ما يأتي من المحال ". فإن قيل: إذا ثبت أن هذه الرواية باطلة عن الإمام؛ فلماذا أبى الإمام على المنصور أن يجمع الناس على كتابه " الموطأ "، ولم يُجِبهُ إلى ذلك؟ فأقول: أحسن ما وقفت عليه من الرواية ما ذكره الحافظ ابن كثير في " شرح اختصار علوم الحديث " (ص 31) ، وهو أن الإمام مالكاً قال: " إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها ". وذلك من تمام علمه وإنصافه؛ كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى. فثبت أن الخلاف شرٌّ كلُّه، وليس رحمة، ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان؛ كخلاف المتعصبة للمذاهب، ومنه ما لا يؤاخذ عليه؛ كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة؛ حشرنا الله في زمرتهم ووفقنا لاتباعهم. فظهر أن اختلاف الصحابة هو غير اختلاف المقلدة. وخلاصته: إن الصحابة اختلفوا اضطراراً، ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف، ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وأما المقلدة - فمع إمكانهم الخلاص منه، ولو في قسم كبير منه -؛ فلا يتفقون، ولا يسعون إليه؛ بل يقرونه، فشتان إذن بين الاختلافين. ذلك هو الفرق من جهة السبب. وأما الفرق من جهة الأثر؛ فهو أوضح؛ وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم - مع اختلافهم المعروف في الفروع - كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الوحدة، بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة، ويصدع الصفوف؛ فقد كان فيهم - مثلاً - من يرى مشروعية الجهر بالبسملة، ومن يرى عدم مشروعيته، وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين، ومن لا يراه، وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة، ومن لا يراه؛ ومع ذلك؛ فقد كانوا يصلون جميعاً وراء إمام واحد، ولا يستنكف أحد منهم عن الصلاة وراء الإمام لخلافٍ مذهبي. وأما المقلدون؛ فاختلافهم على النقيض من ذلك تماماً؛ فقد كان من آثاره أن تفرق المسلمون في أعظم ركن بعد الشهادتين؛ ألا وهو الصلاة، فهم يأبون أن يصلوا جميعاً وراء إمام واحد؛ بحجة أن صلاة الإمام باطلة، أو مكروهة على الأقل بالنسبة إلى المخالف له في مذهبه، وقد سمعنا ذلك، ورأيناه كما رآه غيرنا (1) ، كيف لا؛ وقد نصت كتب بعض المذاهب المشهورة اليوم على الكراهة، أو البطلان؟! وكان من نتيجة ذلك أن تجد أربعة محاريب في المسجد الجامع، يصلي فيها أئمةٌ أربعةٌ متعاقبين، وتجد أناساً ينتظرون إمامهم بينما الإمام الآخر قائم يصلي! بل لقد وصل الخلاف إلى ما هو أشد من ذلك عند بعض المقلدين؛ مثاله منع التزاوج بين الحنفي والشافعية، ثم صدرت فتوى من بعض المشهورين عند الحنفية - وهو الملقب بـ: (مفتي الثقلين) -؛ فأجاز تزوج الحنفي بالشافعية، وعلل ذلك بقوله: " تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب " (2) ! ومفهوم ذلك - ومفاهيم الكتب معتبرة عندهم - أنه لا يجوز العكس، وهو تزوج الشافعي بالحنفية؛ كما لا يجوز تزوج الكتابي بالمسلمة!!   (1) راجع (الفصل الثامن) من كتاب " ما لا يجوز فيه الخلاف " (ص 65 - 72) ؛ تجد أمثلة عديدة مما أشرنا إليه؛ وقعت بعضها من بعض علماء الأزهر! (2) " البحر الرائق ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 هذان مثالان من أمثلة كثيرة، توضح للعاقل الأثر السيِّئ الذي كان نتيجة اختلاف المتأخرين وإصرارهم عليه؛ بخلاف السلف، فلم يكن له أي أثر سيِّئ في الأمة؛ ولذلك فَهُمْ في منجاة من أن تشملهم آيات النهي عن التفرق في الدين؛ بخلاف المتأخرين. هدانا الله جميعاً إلى صراطه المستقيم. وليت أن اختلافهم المذكور انحصر ضرره فيما بينهم، ولم يتعده إلى غيرهم من أمة الدعوة، إذن؛ لهان الخطب بعض الشيء، ولكنه - ويا للأسف! - تجاوزهم إلى غيرهم من الكفار في كثير من البلاد والأقطار، فصدوهم بسبب اختلافهم عن الدخول في دين الله أفواجاً! جاء في كتاب " ظلام من الغرب " للأستاذ الفاضل محمد الغزالي (ص 200) ما نصه: " حدث في المؤتمر الذي عقد في جامعة " برينستون " بأمريكا أن أثار أحد المتحدثين سؤالاً - كثيراً ما يثار في أوساط المستشرقين، والمهتمين بالنواحي الإسلامية -؛ قال: بأي التعاليم يتقدم المسلمون إلى العالم؛ ليحددوا الإسلام الذي يدعون إليه؟ أبتعاليم الإسلام كما يفهمها السنيون؟ أم بالتعاليم التي يفهمها الشيعة من إمامية، أو زيدية؟ ثم إن كلاً من هؤلاء وأولئك مختلفون فيما بينهم. وقد يفكر فريق منهم في مسألة ما تفكيراً تقدمياً محدوداً، بينما يفكر آخرون تفكيراً قديماً متزمتاً. والخلاصة؛ أن الداعين إلى الإسلام يتركون المدعوين إليه في حيرة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 لأنهم هم أنفسهم في حيرة " (1) . وفي مقدمة رسالة " هدية السلطان إلى مسلمي بلاد جابان " للعلامة محمد سلطان المعصومي رحمه الله تعالى: " إنه كان ورد عليّ سؤال من مسلمي بلاد جابان - يعني: اليابان - من بلدة (طوكيو) و (أوصاكا) في الشرق الأقصى، حاصله:   (1) وأقول الآن: لقد كشفت كتابات الغزالي الكثيرة في أيامه الأخيرة - مثل كتابه الذي صدر أخيراً بعنوان: " السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث " - أنه هو نفسه من أولئك الدعاة الذين " هم أنفسهم في حيرة "! ولقد كنا نلمس منه قبل ذلك من بعض أحاديثه ومناقشاتنا له في بعض المسائل الفقهية ومن بعض كتاباته في بعض مؤلفاته ما ينم عن مثل هذه الحيرة، وعن انحرافه عن السنة، وتحكيمه لعقله في تصحيح الأحاديث وتضعيفها؛ فهو في ذلك لا يرجع إلى علم الحديث وقواعده، ولا إلى العارفين به، والمتخصصين فيه؛ بل ما أعجبه منه؛ صححه، ولو كان ضعيفاً! وما لم يعجبه منه؛ ضعفه، ولو كان صحيحاً متفقاً عليه! ... وقد قام كثير من أهل العلم والفضل جزاهم الله خيراً بالرد عليه، وفصلوا القول في حيرته وانحرافه. ومن أحسن ما وقفت عليه رد صاحبنا الدكتور ربيع بن هادي المدخلي في مجلة (المجاهد) الأفغانية (العدد 9 - 11) ، ورسالة الأخ الفاضل صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، المسمى: " المعيار لعلم الغزالي " (*) .   (*) انظر التعليق كاملاً في " صفة الصلاة " (طبعة المعارف /ص 66 - 68) ، وراجع إن شئت " السلسلة الصحيحة " (7/833) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ما حقيقة دين الإسلام؟ ثم ما معنى المذهب؟ وهل يلزم من تشرف بدين الإسلام أن يتمذهب على أحد المذاهب الأربعة؟ أي: أن يكون مالكيّاً، أو حنفيّاً، أو شافعيّاً، أو غيرها، أو لا يلزم؟ لأنه قد وقع هنا اختلاف عظيم، ونزاع وخيم؛ حينما أراد عدة أنفار من متنوري الأفكار من رجال (يابونيا) أن يدخلوا في دين الإسلام، ويتشرفوا بشرف الإيمان، فعرضوا ذلك على جمعية المسلمين الكائنة في (طوكيو) . فقال جمع من أهل الهند: ينبغي أن يختاروا مذهب الإمام أبي حنيفة؛ لأنه سراج الأمة. وقال جمع من أهل أندونيسيا (جاوا) : يلزم أن يكون شافعيّاً! فلما سمع الجابانيون كلامهم؛ تعجبوا جدّاً، وتحيروا فيما قصدوا، وصارت مسألة المذاهب سدّاً في سبيل إسلامهم! ". 3- ويزعم آخرون أن معنى هذا الذي تدعون إليه من الاتباع للسنة، وعدم الأخذ بأقوال الأئمة المخالفة لها؛ ترك الأخذ بأقوالهم مطلقاً، والاستفادة من اجتهاداتهم وآرائهم. فأقول: إن هذا الزعم أبعد ما يكون عن الصواب؛ بل هو باطل ظاهر البطلان، كما يبدو ذلك جليّاً من الكلمات السابقة؛ فإنها كلها تدل على خلافه، وأن كل الذي ندعو إليه إنما هو ترك اتخاذ المذاهب ديناً، ونصبها مكان الكتاب والسنة؛ بحيث يكون الرجوع إليها عند التنازع، أو عند إرادة استنباط أحكام جديدة لحوادث طارئة؛ كما يفعل متفقهة هذا الزمان، وعليه وضعوا الأحكام الجديدة للأحوال الشخصية، والنكاح والطلاق، وغيرها؛ دون أن يرجعوا فيها إلى الكتاب والسنة، ليعرفوا الصواب منها من الخطأ، والحق من الباطل، وإنما على طريقة: " اختلافهم رحمة "! وتتبع الرخص، والتيسير، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المصلحة - زعموا -، وما أحسن قول سليمان التيمي رحمه الله تعالى: " إن أخذتَ برخصة كل عالم؛ اجتمع فيك الشر كله ". رواه ابن عبد البر (2/91 - 92) ، وقال عقبه: " هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً ". فهذا الذي ننكره، وهو وفق الإجماع - كما ترى -. وأما الرجوع إلى أقوالهم، والاستفادة منها، والاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه، مما ليس عليه نص في الكتاب والسنة، أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح؛ فأمر لا ننكره، بل نأمر به، ونحض عليه؛ لأن الفائدة منه مرجوة لمن سلك سبيل الاهتداء بالكتاب والسنة. قال العلامة ابن عبد البر رحمه الله تعالى (2/172) : " فعليك يا أخي! بحفظ الأصول والعناية بها، واعلم أن من عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن، ونظر في أقاويل الفقهاء - فجعله عوناً له على اجتهاده، ومفتاحاً لطرائق النظر، وتفسيراً لجمل السنن المحتملة للمعاني -، ولم يقلد أحداً منهم تقليد السنن، التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر، ولم يُرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبُّرِها، واقتدى بهم في البحث والتفهم والنظر، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم، ولم يبرئهم من الزلل؛ كما لم يبرئوا أنفسهم منه؛ فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح، وهو المصيب لحظه، والمعاين لرشده، والمتبع لسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهدي صحابته رضي الله عنهم. ومن أعَفَّ نفسه من النظر، وأضرب عما ذكرنا، وعارض السنن برأيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ورام أن يردها إلى مبلغ نظره؛ فهو ضال مضل، ومن جهل ذلك كله أيضاً، وتقحم في الفتوى بلا علم؛ فهو أشد عمى، وأضل سبيلاً ". فهذا الحق ليس به خفاءُ ... فدعني عن بُنَيّات الطريقِ 4- ثم إن هناك وهماً شائعاً عند بعض المقلدين، يصدهم عن اتباع السنة، التي تبين لهم أن المذاهب على خلافها، وهر ظنهم أن اتباع السنة يستلزم تخطئة صاحب المذهب، والتخطئة معناها عندهم: الطعن في الإمام، ولما كان الطعن في فرد من أفراد المسلمين لا يجوز؛ فكيف في إمام من أئمتهم؟! والجواب: أن هذا المعنى باطل؛ وسببه الانصراف عن التفقه في السنة، وإلا؛ فكيف يقول ذلك المعنى مسلم عاقل؟! ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو القائل: " إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، فأخطأ؛ فله أجر واحد " (1) . فهذا الحديث يرد ذلك المعنى، ويبين بوضوح لا غموض فيه أن قول القائل: (أخطأ فلان) معناه في الشرع: (أثيب فلان أجراً واحداً) ، فإذا كان مأجوراً في رأي من خطأه؛ فكيف يتوهم من تخطئته إياه الطعن فيه؟! لا شك أن هذا التوهم أمر باطل، يجب على كل من قام به أن يرجع عنه، وإلا؛ فهو الذي يطعن في المسلمين، وليس في فرد عادي منهم، بل في كبار أئمتهم؛ من الصحابة، والتابعين، ومَن بعدهم مِن الأئمة المجتهدين وغيرهم، فإننا نعلم يقيناً أن هؤلاء الأجلَّة كان يخَطِّئ بعضهم بعضاً، ويرد بعضهم على بعض (2) ، أفيقول عاقل: إن بعضهم كان يطعن في بعض. بل لقد صح أن   (1) [رواه] البخاري، ومسلم. (2) انظر كلام الإمام المزني المتقدم آنفاً (ص 42) ، وكلام الحافظ ابن رجب المتقدم (ص 33 - 34) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطَّأ أبا بكر رضي الله عنه في تأويله لرؤيا كان رآها رجل، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له: " أصبت بعضاً، وأخطأت بعضاً " (1) . فهل طعن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أبي بكر بهذه الكلمة؟! ومن عجيب تأثير هذا الوهم على أصحابه؛ أنه يصدهم عن اتباع السنة المخالفة لمذهبهم؛ لأن اتباعهم إياها معناه عندهم: الطعن في الإمام، وأما اتباعهم إياه - ولو في خلاف السنة - فمعناه احترامه: وتعظيمه! ولذلك فهم يصرون على تقليده؛ فراراً من الطعن الموهوم. ولقد نسي هؤلاء - ولا أقول: تناسوا - أنهم بسبب هذا الوهم؛ وقعوا فيما هو شر مما منه فروا، فإنه لو قال لهم قائل: إذا كان الاتباع يدل على احترام المتبوع، ومخالفته تدل على الطعن فيه؛ فكيف أجزتم لأنفسكم مخالفة سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك اتباعها إلى اتباع إمام المذهب في خلاف السنة، وهو غير معصوم، والطعن فيه ليس كفراً؟! فلئن كان عندكم مخالفة الإمام تعتبر طعناً فيه؛ فمخالفته الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أظهر في كونها طعناً فيه؛ بل ذلك هو الكفر بعينه - والعياذ بالله منه -. لو قال لهم ذلك قائل؛ لم يستطيعوا عليه جواباً؛ اللهم! إلا كلمة واحدة - طالما سمعناها من بعضهم - وهي قولهم: إنما تركنا السنة؛ ثقةً منا بإمام المذهب، وأنه أعلم بالسنة منا. وجوابنا على هذه الكلمة من وجوه يطول الكلام عليها في هذه المقدمة؛ ولذلك فإني أقتصر على وجه واحد منها، وهو جواب فاصل بإذن الله، فأقول: ليس إمام مذهبكم فقط هو أعلم منكم بالسنة؛ بل هناك عشرات؛ بل مئات الأئمة هم أعلم أيضاً منكم بالسنة، فإذا جاءت السنة الصحيحة على   (1) [رواه] البخاري، ومسلم. وراجع سببه، وتخريجه في " الأحاديث الصحيحة " (121) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 خلاف مذهبكم - وكان قد أخذ بها أحد من أولئك الأئمة -؛ فالأخذ بها - والحالة هذه - حتم لازم عندكم؛ لأن كلمتكم المذكورة لا تَنْفُق هنا، فإن مخالفكم سيقول لكم معارضاً: إنما أخذنا بهذه السنة؛ ثقة منا بالإمام الذي أخذ بها؛ فاتباعه أولى من اتباع الإمام الذي خالفها. وهذا بيِّن لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى. ولذلك؛ فإني أستطيع أن أقول: إن كتابنا هذا لمَّا جمع السنن الثابتة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صفة صلاته؛ فلا عذر لأحد في ترك العمل بها؛ لأنه ليس فيه ما اتفق العلماء على تركه - حاشاهم من ذلك -؛ بل ما من مسألة وردت فيه؛ إلا وقد قال بها طائفة منهم، ومن لم يقل بها؛ فهو معذور، ومأجور أجراً واحداً؛ لأنه لم يرد إليه النص بها إطلاقاً، أو ورد لكن بطريق لا تقوم عنده به الحجة، أو لغير ذلك من الأعذار المعروفة لدى العلماء. وأما من ثبت النص عنده من بعده؛ فلا عذر له في تقليده؛ بل الواجب اتباع النص المعصوم، وذلك هو المقصود من هذه المقدمة، والله عزَّ وجلَّ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24) . والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وهو نعم المولى ونعم النصير. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. محمد ناصر الدين الألباني دمشق 5/20/1381 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التكبير إلى التسليم كأنك تراها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 استقبال الكعبة كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة؛ استقبل الكعبة في الفرض والنفل (1) ، وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك؛ فقال لـ (المسيء صلاته) : " إذا قمتَ إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر " (2) .   (1) هذا شيء مقطوع به؛ لتواتره عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه أحاديث كثيرة؛ منها حديث ابن عمر وغيره - كما يأتي قريباً -. (2) هذا قطعة من الحديث المشهور بـ: (حديث المسيء صلاته) ؛ وهو من حديث أبي هريرة - {وهو مخرج في " الإرواء " (289) } -: أن رجلاً دخل المسجد يصلي، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ناحية المسجد، فجاء فسلَّم عليه، فقال له: " [وعليك السلام] ، ارجع فصل؛ فإنك لم تصل ". فرجع فصلى، ثم سلم، فقال: " وعليك [السلام] ، ارجع فصل؛ فإنك لم تصل ". فقال في الثالثة: فعلمني؟ قال: " إذا قمت إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر، واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ". أخرجه البخاري (11/31 و 467) ، ومسلم (2/10 - 11) ، وابن ماجه (1/327) ، والبيهقي (2/15 و 372) من طريق عبد الله بن نمير وأبي أسامة حماد بن أسامة؛ كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد عنه. وأخرجه أبو داود (1/136) ، والنسائي (41) ، والترمذي (2/103) ، وأحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ..............................................................................   (2/437) من طريق يحيى بن سعيد القطان: ثنا عبيد الله بن عمر: أخبرني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة به. لكن ليس فيه ذكر استقبال القبلة، وزاد في السند - كما ترى -: (عن أبيه) . وكذلك أخرجه البخاري (2/191 و 219 و 222) ، ومسلم، والبيهقي (2/37 و 62 و372) في رواية لهم. وقال الترمذي: " إنها أصح من رواية ابن نمير ". ومال الحافظ في " الفتح " إلى صحة الروايتين، وهو الصواب إن شاء الله. وللحديث شاهد صحيح من رواية رفاعة بن رافع البدري: أخرجه البخاري في " جزء القراءة " (11 - 12) ، والنسائي (1/194) ، والحاكم (1/242) من طريق داود بن قيس، والبخاري، والنسائي (161 و 193) أيضاً، والشافعي في " الأم " (1/88) ، والبيهقي (2/372) ، وأحمد (4/340) عن محمد بن عجلان، وأبو داود (1/137) عن محمد بن عمرو؛ ثلاثتهم عن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع بن مالك الأنصاري قال: ثني أبي عن عم له بدريّ - وقال محمد بن عمرو: عن رِفاعة بن رافع - ... بهذه القصة. وهذا سند صحيح. رجاله رجال البخاري. وهذا في " السند " (4/340) من طريق محمد بن عمرو عن علي بن يحيى عن رفاعة. فأسقط من الإسناد: (عن أبيه) . وكذلك ذكره البيهقي. ثم رواه (2/374) من طريق أبي داود، وكذا رواه الطحاوي (1/232) عن شريك ابن أبي نَمِرٍ؛ دون ذكر الأب. ثم قال البيهقي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ..............................................................................   " والصحيح رواية داود بن قيس ومن وافقه ". قلت: وممن وافقه على إقامة إسناده - سوى من ذكرنا -: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: عند أبي داود، والبخاري، والنسائي (171) ، والدارمي (1/305) ، والحاكم (1/241) ، ومن طريقه البيهقي (2/102 و 345) ، وابن حزم في " المحلى " (3/256) . وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". قلت: علي بن يحيى بن خلاد وأبوه لم يخرج لهما مسلم شيئاً؛ فهو على شرط البخاري. وممن وافقه أيضاً: يحيى بن علي بن خلاد: أخرجه أبو داود، والترمذي (2/100 - 102) وحسنه، والنسائي (1/108) ، والطحاوي، والحاكم، والطيالسي (196) . ومحمد بن إسحاق: رواه أبو داود، وعنه البيهقي (2/133) ، والحاكم (1/243) ؛ كل هؤلاء رووه عن علي بن يحيى عن أبيه عن عمه رفاعة. ولكن ليس عند هؤلاء الثلاثة الآخرين ذكر استقبال القبلة أيضاً. وكذلك أخرجه الشافعي في " الأم " عن إبراهيم بن محمد عن علي به. ولا يضر ذلك في هذه الزيادة؛ لأنها زيادة من ثقات؛ فيجب قبولها، لا سيما وأن هذا الحديث قد اختلف فيه الرواة كثيراً في ألفاظه؛ فيزيد بعضهم على بعض، ويقصر بعضهم عن بعض؛ فيجب الأخذ بالزائد بشرطه المعلوم في مصطلح الحديث. وقد جمع الحافظ في " الفتح " جميع ألفاظ الحديث تقريباً. فليراجعه من شاء الاستقصاء. وسيأتي بعض ألفاظه في الأماكن المناسبة لها؛ كـ: (التكبير) في موضعين منه، و (الاستفتاح) ، و (القراءة بـ: {أم القرآن} ) ، وغيرها من المواضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر يصلي النوافل على راحلته، ويوتر عليها حيث توجهت به [شرقاً وغرباً] (*) "، وفي ذلك نزل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمُّ وَجْهُ اللَّهِِ} (البقرة: 115) . و" كان يركع ويسجد على راحلته إيماءً برأسه، ويجعل السجود أخفض من الركوع " (1) .   (*) زيادة من " صفة الصلاة " المطبوع. (1) قد جاء ذلك في عدة أحاديث: الأول: حديث عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! يُسَبِّحُ على الراحلة قِبَلَ أيِّ وجه توجه، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. أخرجه البخاري (2/460) ، ومسلم (2/150) ، وأبو داود (1/190 - 191) ، والنسائي (1/85 و 122) ، والطحاوي (1/249) ، والبيهقي (2/491) من طريق ابن شهاب عن سالم عنه. وفي لفظ: كان يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به. أخرجه البخاري (2/459) ، ومالك (1/165) ، والشافعي (1/84) عنه، ومسلم أيضاً، وكذا النسائي، والترمذي (2/183) ، والبيهقي، والطيالسي (256) ، وأحمد (2/7 و 38 و 44 و 46 و 56 و 66 و 72 و 75 و 81) من طرق عنه. وزاد البخاري في رواية (2/392) : يُوْمِئُ إيْمَاءً. وكذا في رواية لأحمد (3/73) ، وزاد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ..............................................................................   ويجعل السجود أخفض من الركوع. وفي لفظ: كان يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه. قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . أخرجه مسلم، والنسائي، والترمذي (2/159 - طبع بولاق) - وقال: " حسن صحيح " -، والبيهقي (2/4) ، وأحمد (2/20) عن عبد الملك بن أبي سليمان: ثنا سعيد بن جبير عنه. وفى رواية عن سعيد بن يسار عنه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على حمار وهو متوجّه إلى خيبر. أخرجه مسلم، ومالك (1/365) ، والشافعي، وأبو داود، والنسائي (1/121) - وله عنده شاهد من حديث أنس بسند حسن؛ وبذلك يَخْرُجُ الحديث عن كونه شاذاً؛ كما أعله النووي في " شرح مسلم "، وأشار إلى ذلك ابن القيم (1/187) ، ورددنا عليه مطولاً في " التعليقات " -، والبيهقي، والطيالسي (255) ، وأحمد (2/49 و 57 و 75 و 83) ، وزاد في رواية: قبل المشرق تطوعاً. وإسنادها صحيح. الثاني: حديث عامر بن ربيعة قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على الراحلة يُسَبِّحُ؛ يومئ برأسه قِبَلَ أيِّ وجه توجه. ولم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة. أخرجه البخاري (2/460) ، والدارمي (1/356) ، والبيهقي (2/7) ، وأحمد (3/446) . ورواه مسلم (2/150) بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ..............................................................................   رأى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به. وهو رواية لأحمد (3/344) . الثالث: عن أنس بن سيرين قال: استقبلنا أنساً حين قدم من الشام، فلقيناه بعَيْن التَّمْر، فرأيته يصلي على حمار، ووجهه من ذا الجانب - يعني: عن يسار القبلة -. فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة؟! فقال: لولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعله؛ لم أفعله. أخرجه الشيخان، والبيهقي (2/5) ، وأحمد (3/204) . وقد رواه مختصراً (3/126) بلفظ: كان يصلي على ناقته تطوعاً في السفر لغير القبلة. الرابع: عن عثمان بن عبد الله بن سُراقة عن جابر بن عبد الله قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة أنمار يصلي على راحلته متوجهاً قبل المشرق تطوعاً. أخرجه البخاري (7/346) ، والشافعي (1/84) ، والبيهقي (2/4) ، وأحمد (3/300) عن ابن أبي ذئب عنه. ورواه أبو داود (1/191) ، والترمذي (2/182) ، والبيهقي (2/5) ، وأحمد (3/332) عن سفيان الثوري. والبيهقي، وأحمد (3/296 و 380) عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابراً - وقال سفيان: عن أبي الزبير عن جابر - قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاجة. قال: فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، والسجود أخفض من الركوع. وقال الترمذي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ..............................................................................   " حسن صحيح ". وهو على شرط مسلم. قال الحافظ في " التلخيص " (3/211) : "ورواه ابن خزيمة، ولابن حبان نحوه ". اهـ. وفي رواية لأحمد (3/351) من طريق هشام عن أبي الزبير: ورأيته يركع ويسجد. وله لفظ آخر عند البخاري وغيره يأتي قريباً. قال الترمذي: " والعمل على هذا عند أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافاً؛ لا يرون بأساً أن يصلي الرجل على راحلته تطوعاً حيث ما كان وجهه؛ إلى القبلة وغيرها ". وقال الحافظ (2/460) : " وقد أخذ بمضمون هذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة، والحجة لذلك حديث الجارود ابن أبي سبرة عن أنس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أراد أن يتطوع في السفر؛ استقبل بناقته القبلة ... " الحديث. وهو مذكور في الأصل (*) . قال: " واختلفوا في الصلاة على الدواب في السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة؛ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك في كل سفر، غير مالك؛ فخصه بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة. قال الطبري: لا أعلم أحداً وافقه على ذلك. قلت: ولم يُتَّفق على ذلك عنه، وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينقل عنه أنه سافر سفراً قصيراً فصنع ذلك. وحجة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك. واحتج الطبري للجمهور من طريق النظر ". فانظر كلامه في " الفتح ".   (*) أي: المتن. انظر (ص 63) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ..............................................................................   قلت: وفي قول ابن عمر: وكان يوتر عليها. دليل على أنه يجوز الوتر أيضاً على الراحلة. وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور - كما في " شرح مسلم " للنووي -، وذهب أئمتنا الثلاثة إلى أنه لا يجوز ذلك. وأجاب الطحاوي (1/249) عن الأحاديث الواردة في الإيتار على الراحلة - وقد ساقها من طرف عن ابن عمر - بأنها منسوخة. قال: " وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله ". واحتج على ذلك بما رواه من طريق يزيد بن سنان قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا حنظلة بن أبي سفيان عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يصلي على راحلته، ويوتر بالأرض، ويزعم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك. وهذا سند صحيح. وهذا لا دليل فيه على النسخ مطلقاً؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما كان يوتر على الراحلة - أوتر أيضاً على الأرض. وهذا هو الأصل، والأول جاء للرخصة؛ فلا تعارض. وقد قال الحافظ في " الفتح " (2/458) : " قوله: (ويوتر عليها) : لا يعارض ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير: أن ابن عمر كان يصلي على الراحلة تطوعاً، فإذا أراد أن يوتر؛ نزل فأوتر على الأرض. لأنه محمول على أنه فعل كلا الأمرين، ويؤيد روايةَ الباب ما تقدم في (أبواب الوتر) أنه أنكر على سعيد بن يسار نزوله الأرض ليوتر؛ وإنما أنكر عليه - مع كونه كان يفعله -؛ لأنه أراد أن يبين له أن النزول ليس بحتم ". اهـ. قلت: وفي إنكاره ذلك أكبر دليل على أنه لا نسخ هنالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 و " كان - أحياناً - إذا أراد أن يتطوع على ناقته؛ استقبل بها القبلة، فكبر، ثم صلى حيث وجَّهَهُ رِكَابُهُ " (1) .   (1) أخرجه أبو داود (1/191) ، {وابن حبان في " الثقات " (4/14) } ، والدارقطني (152) ، والبيهقي (2/5) ، والطيالسي (282 - 283) ، وأحمد (3/203) ، والضياء في " المختارة " (2/72) من طريق رِبْعِىّ بن عبد الله بن الجارود: ثنا عمرو بن أبي الحجاج: ثنا الجارود بن أبي سَبْرَة: ثني أنس بن مالك: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سافر فأراد أن يتطوع؛ استقبل بناقته القبلة، فكبَّر، ثم صلى حيث وجهه ركابه. لفظ أبي داود. وقال أحمد وغيره: حيثما توجهت به. وهذا إسناد حسن - كما قال النووي في " المجموع " (3/234) ، والحافظ في " بلوغ المرام " (1/189) -، وصححه ابن السكن - كما في " التلخيص " (3/213) -، {وابن الملقن في " خلاصة البدر المنير " (22/1) ، ومن قبل عبد الحق الإشبيلي في " أحكامه " (رقم 1394 - بتحقيقي) وبه قال أحمد - فيما رواه ابن هانئ في " مسائله " (1/67) -} . وأعله ابن القيم في " الزاد " بقوله: " وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته أطلقوا أنه كان يصلي عليها قِبَل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها؛ كعامر بن ربيعة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا. والله أعلم ". قلت: وهذا غير قادح في الحديث بعد أن ثبت إسناده؛ لأنه يجوز أن يكون قد علم ما لم يعلمه غيره، ومن علم حجة على من لم يعلم. ويجوز أيضاً أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام كان أحياناً يستقبل بناقته القبلة عند التكبير؛ بياناً لما هو الأفضل - كما رواه أنس -، وأحياناً لا يستقبل، بل كيفما تيسر؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ..............................................................................   بياناً للجواز. وعليه تحمل الأحاديث الصحيحة التي أشار إليها ابن القيم، وبذلك يجمع بين الأحاديث، ولا يجوز ضرب بعضها ببعض. هذا ما ظهر لي. والله تعالى أعلم. وأما الشوكاني؛ فقال (2/144) : " والحديث يدل على جواز التنفل على الراحلة، وعلى أنه لا بد من الاستقبال حال تكبيرة الإحرام، ثم لا يضر الخروج بعد ذلك عن سَمْتِ القبلة ". اهـ. أقول: ولا دلالة في الحديث على أنه لا بد من الاستقبال في تلك الحال؛ لأنه فعلٌ، وغاية ما يدل عليه: أن ذلك يشرع ويستحب، لا سيما وأنه لم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل ذلك دائماً - كما سبق -؛ ولذلك قال الإمام أحمد - فيما رواه عنه أبو داود في " مسائله " (ص 76) : " إذا تطوع الرجل على راحلته؛ يعجبني أن يستقبل القبلة بالتكبير على حديث أنس " (1) . وذكر نحوه عبد الله بن أحمد في " مسائله " أيضاً عنه. وللشافعية في وجوب الاستقبال في هذه الحالة وجوه؛ أصحها - كما قال النووي في " المجموع " (3/234) ؛ -: إنه إن سهل عليه ذلك؛ وجب، وإلا؛ فلا. قال: " فالسهل أن تكون الدابة واقفة، وأمكن انحرافه عليها أو تحريفها، أو كانت سائرة وبيده زمامها؛ فهي سهلة، وغير السهلة أن تكون مُقَطَّرَةً أو صَعْبة ". هذا، وأما صلاة الفريضة على الراحلة؛ فقد سبق أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يفعله. وقد ورد خلافه في حديث يعلى بن مُرَّة قال:   (1) وفيه إشارة إلى أنه حديث ثابت عند أحمد؛ فهو يعضد ما ذهبنا إليه، ويَرُدُّ على ابن القيم اعلالَهُ إياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ..............................................................................   انتهينا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مضيق، السماء من فوقنا، والبِلَّةُ من أسفلنا، وحضرت الصلاة، فأمر المؤذن؛ [فأذن] وأقام - أو: أقام بغير أذان -، ثم تقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلَّى بنا على راحلته، وصلينا خلفه على رواحلنا، وجعل سجوده أخفض من ركوعه. ولكنه حديث ضعيف. أخرجه الترمذي (2/266 - 267) ، والدارقطني (146) ، والبيهقي (2/7) ، وأحمد (4/173 -174) من طريق عمرو بن عثمان بن يعلى بن مرة عن أبيه عن جده يعلى بن مرة. وعلته عمرو بن عثمان ووالده؛ فإنهما مجهولان؛ ولذلك قال الترمذي: " حديث غريب ". يعني: ضعيف. وقال البيهقي: " وفي إسناده ضعف، ولم يثبت من عدالة بعض رواته ما يوجب قبول خبره، ويحتمل أن يكون ذلك في شدة الخوف ". اهـ. قال الصنعاني (1/189) : " وثبت ذلك عن أنس من فعله ... وذهب البعض إلى أن الفريضة تصح على الراحلة؛ إذا كان مستقبل القبلة في هَوْدَجٍ، ولو كانت سائرة كالسفينة؛ فان الصلاة تصح فيها إجماعاً - قال الصنعاني: - قلت: وقد يفرق بأنه قد يتعذر في البحر وجدان الأرض؛ فَعُفِيَ عنه بخلاف راكب الهودج. وأما إذا كانت الراحلة واقفة؛ فعند الشافعي تصح الصلاة للفريضة، كما تصح عندهم في الأرجوحة المشدودة بالحبال، وعلى السرير المحمول على الرجال؛ إذا كانوا واقفين ". اهـ. قلت: فإذا تعذرت الصلاة على الأرض - كأن تكون موحلة؛ كما في حديث يعلى، أو كان راكباً في قطار، أو طائرة محلقة في السماء، ولا يمكنه النزول منهما، وخشي خروج الوقت -؛ فالقول بجواز الصلاة هو المعتمد؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 و " كان إذا أراد أن يصلي الفريضة؛ نزل، فاستقبل القبلة " (1) .   وُسْعَهَا} ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وما أمرتكم به؛ فأتوا منه ما استطعتم ". أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة. وقال أبو داود في " مسائله " (76) : " قلت لأحمد: الرجل يكون في السَّرِيَّةِ، ويكون الثلج كثيراً؛ لا يقدر يسجد عليه الرجل؟ قال: يصلي على دابته. قال: قلت: يكون مطرٌ فيخاف أن تبتل ثيابه؟ قال: يصلي على دابته ". وقال المروزي في " مسائله ": " قلت - يعني لأحمد -: إذا صلى في ماء وطين؛ كيف يسجد؟ قال: إذا كان لا يقدر على السجود ويفسد ثيابه؛ يومئ إيماءً - كما قال أنس -. قال إسحاق: كما قال. قال: ويجزيه المكتوبة في الحضر - كما قال أنس - ". (1) رواه جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة؛ نزل فاستقبل القبلة. أخرجه البخاري (1/400 و 2/460) ، والدارمي (1/356) ، والبيهقي (2/6) - وزاد: وصلى -، وأحمد (3/305 و 330 و 378) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عنه. وفي الباب عن ابن عمر وعامر بن ربيعة، وقد ذكرنا حديثَيْهِما قريباً. قال الحافظ في " الفتح ": " قال ابن بطال: أجمع العلماء على اشتراط النزول للفريضة، وأنه لا يجوز لأحد أن يصلي الفريضة على الدابة من غير عذر، حاشا ما ذكر في صلاة شدة الخوف ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وأما في صلاة الخوف الشديد؛ فقد سنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته أن يصلوا " رجالاً؛ قياماً على أقدامهم، أو ركباناً؛ مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها " (1) .   قلت: يعني حديث ابن عمر الآتي؛ وهو: (1) أخرجه مالك في " الموطأ " (1/193) ، ومن طريقه البخاري (8/161) ، ومحمد في " موطئه " (ص 155) ، والشافعي في " الأم " (1/83) ، وعنه البيهقي (2/8) عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف؛ قال: يتقدم الإمام وطائفة ... ثم قصَّ الحديث. وقال ابن عمر في الحديث: فإن كان خوفٌ أشد من ذلك؛ صلوا رجالاً؛ قياماً على أقدامهم، أو ركباناً؛ مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها. قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورواه ابن خزيمة من حديث مالك بلا شك. " تلخيص " (3/209) . {وهو مخرج في " الإرواء " (588) } . وأخرجه مسلم (2/212) عن سفيان الثوري عن موسى بن عقبة عن نافع به نحوه مرفوعاً، وفي آخره: وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك؛ فَصَلِّ راكباً أو قائماً؛ تُؤْمِئُ إيْمَاءً. فجعل قول ابن عمر هذا فقط موقوفاً. قال الحافظ (2/326) : " ورواه ابن المنذر من طريق داود بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة موقوفاً كله. لكن قال في آخره: وأخبرنا نافع: أن عبد الله بن عمر كان يخبر بهذا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فاقتضى ذلك رفعه كله ". وأخرجه البخاري (2/345) من طريق ابن جريج عن موسى به مرفوعاً؛ بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ..............................................................................   " وإن كانوا أكثر من ذلك؛ فليصلوا قياماً وركباناً ". وأخرجه الطبري بإسناد البخاري، ولفظه: عن ابن عمر قال: إذا اختلطوا - يعني: في القتال -؛ فإنما هو الذكر وإشارة الرأس. قال ابن عمر: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإن كانوا ... " إلخ. قلت: وكذا رواه البيهقي (3/255) . وأخرجه ابن ماجه (1/379) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الخوف: " أن يكون الإمام يصلي بطائفة ... " الحديث، وفيه: " ... فإن كان خوف أشد من ذلك؛ فرجالاً أو ركباناً ... ". وهذا شاهد قوي لرواية ابن المنذر المرفوعة كلها. قال الحافظ: " وإسناده جيد. والحاصل: أنه اختُلف في قوله: " فإن كان خوف أشد من ذلك ... "؛ هل هو مرفوع، أو موقوف على ابن عمر؟ والراجح رفعه. والله أعلم ". انتهى. ثم قال: " قوله: (وإن كانوا أكثر من ذلك) : أي: إن كان العدو. والمعنى: أن الخوف إذا اشتد، والعدو إذا كثر، فخيف من الانقسام لذلك؛ جازت الصلاة حينئذ بحسب الإمكان، وجاز ترك مراعاة ما لا يقدر عليه من الأركان؛ فينتقل عن القيام إلى الركوع، وعن الركوع والسجود إلى الإيماء، إلى غير ذلك، وبهذا قال الجمهور. ولكن قال المالكية: لا يصنعون ذلك حتى يخشى فوات الوقت ". اهـ. وبمثل ما ذكره عن الجمهور حكاه الطحاوي (1/190) عن الأئمة الثلاثة؛ قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا اختلطوا؛ فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس " (1) . وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما بين المشرق والمغرب قبلة " (2) .   " وكذلك لو أن رجلاً كان على الأرض، فخاف إن سجد أن يفترسه سَبُع، أو يضربه رجل بسيف؛ فله أن يصلي قاعداً، إن كان يخاف ذلك في القيام، ويومئ إيماء ". (1) هو قطعة من حديث ابن عمر الذي تقدم (ص 67) ، وقد أخرجه البيهقي (3/255 - 256) {بسند " الصحيحين "} ، وفيه عنده هذه القطعة. ورواه مسلم، قال: فقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك؛ فصلِّ راكباً أو قائماً؛ تومئ إيماءً. وهذا، وان كان ظاهره موقوفاً؛ فقد ذكرنا فيما تقدم ما يدل على أن الحديث كله مرفوع. فراجعه. (2) هذا حديث صحيح (1) . أخرجه الترمذي (2/171) ، وابن ماجه (317) من طريق أبي مَعْشَر نَجِيح عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً به. وأبو معشر: ضعيف؛ قال الترمذي: " وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه ". قلت: لكنه لم يتفرد به؛ فقد أخرجه الترمذي بسند آخر، فقال (173) : ثنا الحسن بن أبي بكر المروزي: ثنا المُعَلَّى بن منصور: ثنا عبد الله بن جعفر المُخَرِّمي عن عثمان بن محمد الأَخْنَسِي عن سعيد المَقْبُري عن أبي هريرة مرفوعاً به. وقال: " حديث حسن صحيح ". قال:   (1) {وقد خرجته في " إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل " (292) } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ..............................................................................   " قال محمد - يعني: البخاري -: هو أقوى من حديث أبي معشر وأصح ". قلت: ورجاله ثقات. غير شيخ الترمذي الحسن بن أبي بكر. كذا هو في " السنن "، حتى في النسخة التي صححها أحمد شاكر القاضي! وهو خطأ، والصواب: الحسن بن بكر؛ بحذف لفظة: (أبي) - كما في كتب الرجال: " التهذيب "، و " الخلاصة "، و " التقريب " -. وهو: الحسن بن بكر بن عبد الرحمن المروزي، أبو علي، نزيل مكة. وقال مسلم: " مجهول ". كما في " التهذيب ". وذكر فيه جمعاً من الثقات رووا عنه، وكأنه لذلك قال في " التقريب ": " صدوق ". والله أعلم. وللحديث شاهد من حديث ابن عمر. أخرجه الدارقطني (101) ، والحاكم (1/206) عن يزيد بن هارون: أخبرنا محمد ابن عبد الرحمن بن المُجَبِّر عن نافع عنه مرفوعاً به. وقال الحاكم: " صحيح. وابن مجبر: ثقة ". قلت: كلا؛ ليس بثقة؛ بل هو متفق على تضعيفه. وقد أورده الذهبي في " الميزان "، وكذا الحافظ في " اللسان "، فلم يذكرا توثيقه عن أحد؛ بل حَكَوا عبارات الأئمة في ضعفه. فقد تفرد الحاكم بتوثيقه؛ فلا يعتمد عليه. لكنه قد توبع؛ فأخرجه الدارقطني، وعنه الضياء في " المختارة "، والحاكم أيضاً (205) من طريق أبي يوسف يعقوب بن يوسف الواسطي: ثنا شعيب بن أيوب: ثنا عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع به. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين؛ فإن شعيب بن أيوب ثقة، وقد أسنده ". ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ..............................................................................   قلت: ولكن شعيباً لم يخرج له الشيخان؛ إنما أخرج له أبو داود فقط، فالحديث صحيح فقط؛ إن كان الراوي عنه يعقوب بن يوسف الواسطي ثقة؛ فقد تفرد به عنه، ولم أجد له ذكراً في شيء من كتب الرجال التي عندي. وقد أخرجه البيهقي (2/9) عن الحاكم من الطريقين، ثم قال: " تفرد بالأول ابن مُجَبِّر. وتفرد بالثاني يعقوب بن يوسف الخلال. والمشهور رواية الجماعة؛ حماد بن سلمة، وزائدة بن قدامة، ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر من قوله ". قال: " وروي عن أبي هريرة مرفوعاً. وروي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قِلابة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلاً ". قال: " والمراد به - والله أعلم - أهل المدينة، ومن كان قبلته على سمت أهل المدينة فيما بين المشرق والمغرب ". اهـ. وذلك ينطبق على من كان في الشمال أو الجنوب بالنسبة لمكة. وأما من كان في الشرق أو الغرب؛ فقبلته ما بين الشمال والجنوب. قال العلامة الصنعاني في " سبل السلام " (1/188) : " والحديث دليل على أن الواجب استقبال الجهة لا العين في حق من تعذرت عليه العين، وقد ذهب إليه جماعة من العلماء؛ لهذا الحديث ". قلت: وعليه الحنفية. قال: " ووجه الاستدلال به على ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلةً لغير المُعايِن، ومَن في حكمه؛ لأن المعايِن لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب، بل كل الجهات في حقه سواء متى قابل العين أو شطرها ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقال جابر رضي الله عنه: " كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسيرةٍ أو سريَّة، فأصابنا غيم، فتحرَّينا واختلفنا في القبلة؛ فصلى كلُّ رجل منا على حدة، فجعل أحدنا يخطُّ بين يديه؛ لنعلم أمكنتنا، فلما أصبحنا؛ نظرناه، فإذا نحن صلينا على غير القبلة، فذكرنا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [فلم يأمرنا بالإعادة] ، وقال: " قد أجزأت صلاتكم " (1) .   (1) هذا حديث حسن - أو صحيح -؛ جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً، {وهو مخرج في " الإرواء " (296) } . فأخرجه الدارقطني (101) ، والحاكم (1/206) ، والبيهقي (2/10) من طريق داود ابن عمرو الضَّبِّي: ثنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم عن عطاء عنه به. والسياق للبيهقي بدون الزيادة؛ فهي عند الأَوَّلَيْن. وقال الحاكم: " هذا حديث محتج برواته كلهم، غير محمد بن سالم؛ فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح ". قال الذهبي: " هو أبو سهل، واهٍ ". قلت: لكنه توبع؛ فرواه الدارقطني أيضاً، وكذا البيهقي (2/10) ، وابن مردويه في " تفسيره " من طريق أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري قال: وجدت في كتاب أبي: ثنا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء به نحوه. وعبد الملك هذا: ثقة؛ من رجال مسلم. لكن في الطريق إليه أحمد بن عبيد الله العنبري: وليس بالمشهور؛ قال الذهبي: " قال ابن القطان: مجهول ". قال الحافظ في " اللسان ": " وذكره ابن حبان في " الثقات " فقال: روى عن ابن عنبسة، وعنه ابن الباغندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ..............................................................................   لم تثبت عدالته. وابن القطان تبع ابن حزم في إطلاق التجهيل على من لا يَطَّلِعُون على حاله. وهذا الرجل بصري شهير، وهو ولد عبيد الله القاضي المشهور ". اهـ. وأعله البيهقي بما فيه من الوجادة. وهذه ليست بعلة قادحة؛ فقد أجاز الشافعي وغيره العمل بالوجادة - كما هو مذكور في مصطلح الحديث -، وذكرنا شيئاً منه في كتابنا " نقد التاج " رقم (84) ، ولذلك لما ذكر الحديث الحافظ في " الدراية " (68) ؛ ما أعله إلا بقوله: " وفيه جهالة ". يعني: جهالة أحمد بن عبيد الله المذكور، على أن الحافظ لم يرتضِ - كما يُستشمّ من كلامه السابق - إطلاق الجهالة عليه كما فعل ابن القطان وغيره. والله أعلم. وللحديث متابعة أخرى؛ فأخرجه البيهقي (2/10 - 11) عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي عن عطاء به نحوه. والعرزمي: ضعيف. وللحديث شواهد: منها: ما أخرجه الترمذي (2/176) ، وابن ماجه (1/319) والدارقطني، والطيالسي (156) ، وعنه البيهقي من طريقين عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه نحوه. ورجاله عند الطيالسي رجال مسلم، غير عاصم هذا؛ فهو ضعيف لسوء حفظه. فمثله لا بأس به في المتابعات. ومنها: ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " من حديث معاذ بن جبل بنحو حديث جابر. قال الهيثمي (2/15) : " وفيه أبو عبلة والد إبراهيم، ذكره ابن حبان في " الثقات "، واسمه: شمر بن يقظان ". ومنها: ما رواه ابن مردويه في " تفسيره " أيضاً من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بنحو حديث عامر بن ربيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي نحو بيت المقدس -[والكعبة بين يديه]- قبل أن تنزل هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} (البقرة: 144) . فلما نزلت؛ استقبلَ الكعبة. فبينما الناس بقُباء في صلاة الصبح؛ إذ جاءهم آتٍ، فقال: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِرَ أن يستقبل الكعبة؛ [ألا] فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا، [واستدار إمامهم حتى استقبل بهم القبلة] " (1) .   ذكره الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (1/159) ، ثم قال: " وهذه الأسانيد فيها ضعف. ولعله يشد بعضها بعضاً. وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه؛ ففيها قولان للعلماء، وهذه دلائل على عدم القضاء ". اهـ. قلت: وهو مذهب أحمد وغيره؛ فقد قال الترمذي - بعد أن ساق حديث عامر بن ربيعة -: " وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا. قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة، ثم استبان له بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة؛ فإن صلاته جائزة. وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ". وكلامهما في ذلك مذكور في " مسائل المروزي " عنهما، وفي " مسائل عبد الله " عن أبيه. قلت: وهو الصحيح من مذهب الحنفية - كما في " الهداية " -، خلافاً للشافعية؛ فإن الأصح عندهم - كما قال النووي (3/255) - أنه: " تجب الإعادة؛ إن تيقن الخطأ ". وعليه يدل كلام الشافعي في " الأم " (1/82) . والصواب: ما ذهب إليه الأولون للأحاديث التي ذكرنا، ولحديث صلاة أهل قباء نحو بيت المقدس، واستدارتهم إلى الكعبة - كما يأتي قريباً -. وإلى هذا ذهب الصنعاني (1/187) . (1) ورد ذلك كله في أحاديث صحيحة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ..............................................................................   الحديث الأول: عن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي نحو بيت المقدس، فنزلت: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِِ الحَرَامِ} . فمرّ رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر، وقد صلوا ركعة فنادى: ألا إن القبلة قد حُوِّلَتْ. فمالوا كما هم نحو القبلة. أخرجه مسلم (2/66) ، وأبو داود (1/164 - 165) ، وعنه البيهقي (2/11) ، {وابن سعد (1/242) } ، وأحمد (3/284) ، والحازمي في " الاعتبار " (43) عن حماد عن ثابت - زاد أبو داود: وحميد - عنه. الثاني: حديث ابن عمر قال: بينما الناس بقباء ... الحديث. وفي آخره: فاستداروا إلى الكعبة. أخرجه البخاري (1/402 و 8/141) ، ومسلم، ومالك (1/201) ، ومن طريقه محمد في " موطئه " (152) ، والشافعي في " الأم " (1/81 - 82) ، وعنه البيهقي (2/2) ، والنسائي أيضاً (1/85 و 122) ، والدارمي (1/281) ، والدارقطني (102) ، وأحمد (2/15 - 16 و 26 و 105 و 113) من طرق عن عبد الله بن دينار عنه. والسياق للبخاري. والزيادة الأولى هي عنده في رواية. وأما الرواية الأخرى؛ فهي في حديث آخر، وهو: الثالث: عن سهل بن سعد: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان يصلي قِبَل بيت المقدس، فلما حُوِّلَ؛ انطلق رجل إلى أهل قباء، فوجدهم يصلون صلاة الغداة، فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن يصلى إلى الكعبة. فاستدار إِمامُهم؛ حتى استقبل بهم القبلة. قال الهيثمي (2/14) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ..............................................................................   " رواه الطبراني في " الكبير " { (3/108/2) = [6/162/5860] } . ورجاله موثقون ". قلت: وأخرجه أيضاً الدارقطني (102) من طريق عبيد الله بن موسى: ثنا عبد السلام بن حفص عن أبي حازم عنه به. وهذا سند جيد؛ رجاله رجال الستة، غير عبد السلام هذا، وقد روى عنه جمع، ووثقه ابن معين. وقد جاء بيان كيفية التحول الوارد في هذا الحديث في حديث آخر بأوضح منه، وهو: الحديث الرابع: عن تُوَيلة - بالمثناة الفوقية مصغراً - بنت أسلم قالت: إنَّا لَبِمَقَامِنا نصلي في بني حارثة، فقال عباد بن قبطي: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استقبل البيتَ الحرامَ والكعبةَ. فتحول الرجالُ مكان النساءِ، والنساءُ مكان الرجالِ؛ فصلوا الركعتين الباقيتين نحو الكعبة. قال الهيثمي: " رواه الطبراني في " الكبير ". ورجاله موثقون ". قلت: وعزاه الحافظ في " الفتح " (1/399 و 402) لابن أبي حاتم، وسكت عليه (*) . فالعهدة عليهما؛ فإني رأيت الحافظ قد ذكره في " الإصابة " في ترجمة تويلة، فقال: " روى حديثها الطبراني من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري عن إبراهيم بن جعفر ابن محمود بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن جدته أم أبيه تُويَلة بنت أسلم - وهي من المبايعات - قالت: ... " فذكر الحديث. وهذا إسناد رجاله ثقات، غير إبراهيم بن جعفر هذا؛ فإني لم أجد من ذكره، وأظن أنه في كتاب " الثقات " لابن حبان؛ فإنه عمدة الهيثمي فيمن يوثقه في " المجمع " ممن لا ذكر لهم في الكتب المشهورة. والله أعلم.   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله تعالى في " الصفة " المطبوع (ص 77) للسراج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ..............................................................................   ثم قال الحافظ - بعد أن ساق القطعة الأخيرة من حديث تُويلة -: " قلت: وتصويره: أن الإمام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد. لأن من استقبل الكعبة؛ استدبر بيت المقدس. وهو لو دار كما هو في مكانه؛ لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف. ولَمَّا تحول الإمام؛ تحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحوّلت النساءُ حتى صِرْنَ خلف الرجالِ. وهذا يستدعي عملاً كثيراً في الصلاة؛ فيحتمل أن يكون ذلك وقعَ قبل تحريم العمل الكثير - كما كان قَبْلَ تحريم الكلام -. ويحتمل أن يكون اغْتُفِرَ العملُ المذكور؛ من أجل المصلحة المذكورة، أو لم تَتَوَالَ الخُطى عند التحول؛ بل وقعت مفرقة. والله أعلم ". ثم إن هذه القصة التي روتها تويلة هي غير قصة أهل قباء؛ بدليل أن هذه كانت في بني حارثة، وكانت الصلاة رباعية، وتلك كانت في بني عمرو بن عوف، وهم أهل قباء وكانت الصلاة ثنائية وهي صلاة الصبح - كما سبق -. ويشهد لما ذكرنا حديث البراء بن عازب، وهو: الحديث الخامس: قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [لما قدم المدينة] صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب أن يُوَجَّهَ إلى الكعبة؛ فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} ؛ فتوجه نحو الكعبة. وقال السفهاء من الناس (وهم اليهود) : {مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ} . فصلى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمرَّ على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه توجه نحو الكعبة. فَتَحَرَّفَ القوم حتى توجهوا نحو الكعبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ..............................................................................   أخرجه البخاري (1/79 - 81 و 399 - 400 و 8/138 - 139) ، - واللفظ له، إلا الرواية الثانية؛ فهي للترمذي -، ومسلم (2/55 و 66) ، والنسائي (1/85 و 121) ، والترمذي (2/169 - 170) - وقال: " حسن صحيح " -، وابن ماجه (317) ، والدارقطني (102) ، والبيهقي (2/2 - 3) ، والطيالسي (98) ، وأحمد (4/283 و 289 و 304) من طرق عن أبي إسحاق عنه؛ صرح في بعضها بسماعه منه. فهذا شاهد قوي لرواية تويلة: أن الصلاة كانت صلاة العصر. قال القاضي أبو بكر ابن العربي في " عارضة الأحوذي شرح الترمذي " (2/139) : " ووجه الجمع بين اختلاف الرواية في الصبح والعصر: أن الأمر بلغ إلى قوم في العصر، وبلغ إلى أهل قباء في الصبح ". وذكر مثله الحافظ ابن حجر في " الفتح ". واعلم أن في هذا الحديث فوائد كثيرة: منها: أن من كان في صلاة فعلم أنه قد اخطأ القبلة؛ فعليه أن يستدير فيها نحوها، ولو تكرر ذلك مراراً - كما قال به علماؤنا -، وقال الإمام محمد في " الموطأ " - بعد أن ساق الحديث -: " وبهذا نأخذ فيمن أخطأ القبلة حتى صلى ركعة أو ركعتين، ثم علم أنه يصلي إلى غير القبلة؛ فليحرف إلى القبلة، فيصلي ما بقي، ويعتد بما مضى. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ". وفيه: جواز تعليم من ليس في الصلاة مَنْ هو فيها. وأن استماع المصلي لكلام من ليس في الصلاة لا يفسد صلاته. وسيأتي في هذا مثال وأمثلة أخرى في مكان آخر من الكتاب. وفيه فوائد أخرى ذكرها في " فتح الباري ". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 القيام و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقف فيها قائماً، في الفرض والتطوع (1) ؛ ائتماراً بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) (البقرة: 238) .   (1) أما قيامه في الفرض؛ فقد سبق ذكر بعض الأحاديث الواردة في ذلك. وأما قيامه في التطوع؛ ففيه حديث حفصة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها قالت: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى سبحته قاعداً قط، حتى كان قبل وفاته بعام؛ فكان يصلي في سبحته قاعداً، ويقرأ بالسورة، فيرتلها؛ حتى تكون أطولَ مِن أطولَ منها. أخرجه مالك (1/157) عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن المطلب بن أبي وَداعَةَ السَّهْمِي عنها. ومن طريق مالك أخرجه مسلم (2/164) ، والنسائي (1/245) ، والترمذي في " السنن " (1/211 - 212) وفي " الشمائل " (2/99) ، وكذا الإمام محمد في " موطئه " (ص 112) ، والبيهقي (2/490) ، وأحمد (6/285) ؛ كلهم عنه به. ثم أخرجه مسلم، وأحمد من طريق معمر عن الزهري به. ومن اللطائف في هذا الإسناد: أن فيه ثلاثة من الصحابة على نسق واحد يروي بعضهم عن بعض: السائب، والمطلب، وحفصة. رضي الله عنهم أجمعين. (2) أي: خاشعين ذَلِيْلِيْنَ مُسْتَكِيْنِيْنَ بين يديه. وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة؛ لمنافاته إياها. ولهذا لما امتنع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه وهو في الصلاة؛ اعتذر إليه بذلك، وقال: " إن في الصلاة لشغلاً " (*) . كذا في " تفسير ابن كثير ".   (*) متفق عليه. وانظر تخريجه في " صحيح أبي داود " (856) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ..............................................................................   وفي الآية دليل على فرضية القيام في الصلاة على القادر عليه؛ كما يدل على ذلك الآية التي بعدها: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} . وقد نقل العلماء إجماع الأمة على هذا؛ سواء كان إماماً أو مأموماً. واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعداً خلف إمام مريض لا يستطيع القيام. قال القرطبي في تفسيره (3/218) : " فأجازت ذلك طائفة من أهل العلم، بل جمهورهم؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإمام: " إذا صلى جالساً؛ فصلوا جلوساً أجمعون ". وهذا هو الصحيح في المسألة ". وسيأتي بيان ذلك قريباً عند الكلام على الحديث الذي ذكره. وأما القيام في النافلة؛ فقد نقل النووي في " شرح مسلم " إجماع العلماء على جواز تركه مع القدرة عليه؛ مستدلاً بصلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً في صلاة الليل - كما يأتي -. ويدل لذلك أيضاً صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النافلة راكباً على الدابة دون الفريضة - كما ذكرنا بَعْدُ، وسبق تخريجه -. (فائدة) : قال أبو بكر الجصاص في " أحكام القرآن " عند هذه الآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} : " تضمن إيجاب القيام فيها. ولما كان القنوت اسماً يقع على الطاعة؛ اقتضى أن يكون جميع أفعال الصلاة طاعة، وألا يتخللها غيرها؛ لأن القنوت هو الدوام على الشيء، فأفاد ذلك النهي عن الكلام فيها، وعن المشي، وعن الاضطجاع، وعن الأكل والشرب، وكل فعل ليس بطاعة؛ لما تضمنه اللفظ من الأمر بالدوام على الطاعات التي هي من أفعال الصلاة، والنهي عن قطعها بالاشتغال بغيرها؛ لما فيه من ترك القنوت الذي هو الدوام عليها، واقتضى أيضاً الدوام على الخشوع والسكون؛ لأن اللفظ ينطوي عليه ويقتضيه، فانتظم هذا اللفظ - مع قلة حروفه - جميع أفعال الصلاة، وأذكارها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وأما في السفر؛ فكان يصلي على راحلته النافلة. وسَنَّ لأمته أن يصلوا في الخوف الشديد على أقدامهم، أو ركباناً - كما تقدم -، وذلك قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى (1) وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ. فَإِنْ   ومفروضها، ومسنونها، واقتضى النهي عن كل فعل ليس بطاعة فيها. والله الموفق والمعين ". (1) هي صلاة العصر على القول الصحيح عند جمهور العلماء؛ منهم: أبو حنيفة وصاحباه؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الأحزاب: " شغلونا عن الصلاة الوسطى؛ صلاة العصر، ملأ الله قبورهم (*) وبيوتهم ناراً ... " الحديث. رواه الشيخان وغيرهما عن شُتَير بن شَكَل عنه (**) . وله عنه طرق أخرى. ورواه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع آخر من الصحابة. وقد ساق أحاديثهم بطرقها الحافظ ابن كثير في " تفسيره ". فليراجعها من شاء. وأما قول الإمام محمد عبده في " تفسيره ": " ولولا أنهم اتفقوا على أنها إحدى الخمس؛ لكان يتبادر إلى فهمي من قوله: {وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى} : أن المراد بالصلاة الفعل، وبـ (الوسطى) : الفضلى؛ أي: حافظوا على أفضل أنواع الصلاة؛ وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب ... " إلخ. وقول السيد رشيد رضا (1/433) :   (*) في أصل الشيخ رحمه الله: " قلوبهم "؛ تبعاً لابن كثير في " تفسيره "، والصواب ما أثبتناه؛ كما في مسلم وغيره. (**) كذا الأصل، وطريق شتير هذه تفرد بها مسلم، ثم رواه هو والبخاري من طريق عَبِيدة السَّلمْاني عن علي به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (1) فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 238) .   " ليس عندنا نص صريح في الحديث المرفوع ينافي ما ذكره الأستاذ الإمام في الصلاة الوسطى؛ فقد قال بعض المحدثين: إن لفظ: " صلاة العصر " في حديث علي مدرج من تفسير الراوي ". قلت: فهذا منه مما لا يلتفت إليه بعد ثبوت الأحاديث الكثيرة في أنها صلاة العصر. (وإذا جاء نهر الله؛ بطل نهر معقل) . وأما ما أشار إليه السيد من إعلال الحديث بالإدراج؛ فليس بشيء؛ لأمور يطول الكلام بذكرها، ويكفي في بيان ذلك أن هذا الإدراج إنما قيل بخصوص طريق واحد من طرق حديث علي؛ وهو طريق شُتَيْرٍ هذا. وأما بقية طرقه عنه، والطرق الأخرى عن غيره من الصحابة؛ فليس فيها هذا الإدراج المزعوم، ومن طرقه في " المسند " (رقم 1313) من طريق عبيدة قال: كنا نرى أن صلاة الوسطى صلاة الصبح. قال: فحدثنا عليٌّ أنهم يوم الأحزاب اقتتلوا، وحبسونا عن صلاة العصر؛ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم! املأ قبورهم ناراً - أو: املأ بطونهم ناراً -؛ كما حبسونا عن صلاة الوسطى ". قال: فعرفنا يومئذٍ أن صلاة الوسطى صلاة العصر. فهذا نص في إبطال الإدراج المزعوم - كما لا يخفى -، ومن شاء الوقوف على طرق حديث علي الأخرى المصرحة برفع ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلينظر " المسند " رقم: (990 و994 و 1036 و 1132 و 1134 و 1150 و 1151 و 1287 و 13050 و 13070 و 13130 و13260) . (1) أي: فصلّوا رجالاً أو ركباناً. قال القرطبي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 و " صلّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضِ موته جالساً " (1) .   " والرِّجَالُ: جمع راجل أو رَجل؛ من قولهم: رَجَلَ الإنسان يَرْجَل رَجلاً؛ إذا عدم الركوب ومشى على قدميه؛ فهو رَجِل وراجل ورجُل ... ". ثم قال: " قال أبو حنيفة: إن القتال يفسد الصلاة. وحديث ابن عمر يرد عليه، وظاهر الآية أقوى دليل عليه ... قال الشافعي: لما رخص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الأركان؛ دلَّ ذلك على أن القتال في الصلاة لا يفسدها ". (1) أخرجه الترمذي (2/196) ، والطحاوي (1/236) ، وأحمد (6/159) من حديث شَبَابَة بن سَوَّار: نا شعبة عن نعيم ابن أبي هند عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة قالت: صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خلف أبي بكر قاعداً في مرضه الذي مات فيه. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح غريب ". قلت: وهو على شرط مسلم. وقد أخرجه النسائي (1/127) ، وأحمد أيضاً من حديث بكر بن عيسى - صاحب البصري - قال: سمعت شعبة به نحوه، وليس فيه: قاعداً. وله شاهد من حديث أنس: أخرجه الترمذي أيضاً (2/197 - 198) ، والطحاوي (1/236) ، وأحمد (3/243) من طرق عن حميد عن ثابت - قال: ثني ثابت البناني - عن أنس بن مالك قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ..............................................................................   صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه خلف أبي بكر قاعداً في ثوبٍ متوشحاً به. زاد الطحاوي: فكانت آخر صلاة صلاها. وقال الترمذي: " حسن صحيح ". قلت: وهو على شرط الشيخين. وقد أخرجه النسائي (1/127) ، وأحمد (13/159 و 233 و 243) من طرق عن أنس؛ فلم يذكر فيه ثابتاً. قال الترمذي: " والرواية الأولى أصح ". قلت: وحديث عائشة في البخاري (2/122 و 132 و 137 - 138) ، ومسلم (2/20 - 24) ، والنسائي (1/133 - 134) ، والدارمي (1/287) ، وابن ماجه (1/371 - 373) والدارقطني (152) ، والطحاوي أيضاً، والبيهقي (2/304) ، وأحمد (6/224 و 249 و251) من طرق عنها بلفظ: فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بالناس جالساً، وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر. ففي هذه الرواية أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إماماً بخلاف الأولى؛ ففيها أنه كان مقتدياً، وقد اختلف العلماء في التوفيق بين الروايات على وجوه ذكرها الحافظ في " الفتح "؛ أَوْلاها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى صلاتين في المسجد؛ كان في إحداهما مأموماً، وفي الأخرى إماماً. وإليه ذهب ابن حزم في " المحلى " (3/47) ، والبيهقي، وقبله ابن حبان، وقد ذكر الزيلعي في " نصب الراية " (2/44 - 48) أقوالهما في ذلك؛ فارجع إليه إن شئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وصلاها كذلكَ مرةً أخرى قبل هذه؛ حينَ " اشتكى، وصلّى الناسُ وراءَهُ قياماً؛ فأشارَ إليهم أنِ اجْلِسُوا؛ فجلسوا، فلما انصرفَ؛ قال: " إن كِدْتُم آنفاً لتفعلون فِعْلَ فارسَ والروم: يقومون على مُلوكهم وهم قُعود، فلا تفعلوا؛ إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤْتَمَّ به؛ فإذا ركع؛ فاركعوا، وإذا رفع؛ فارفعوا، وإذا صلى جالساً؛ فصلُّوا جلوساً [أجمعون] " " (1) .   (1) أخرجه البخاري (2/138 و 467) ، ومسلم (2/19) ، ومالك (1/155) ، وأبو داود (1/99) ، وابن ماجه (1/374) ، والطحاوي (1/235) ، والبيهقي (2/204 و261) ، وأحمد (6/51 و 57 و 68 و 148 و 194) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه، فصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً، فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم: أن اجلسوا ... إلخ الحديث. وقد جاءت هذه القصة من حديث أنس أيضاً. أخرجه الشيخان، ومالك، ومن طريقه محمد في " الموطأ " (113) ، وكذا الدارمي (1/286) ، وأحمد، والترمذي (2/194) ، والنسائي (1/128 و 164) ، وسائر الذين أخرجوا الحديث الأول؛ رووه من طرق عن الزهري قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سقط النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن فرس، فَجُحِش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعداً، فصلينا وراءه قعوداً، فلما قضى الصلاة؛ قال: " إنما جعل الإمام ليؤتم به ... " الحديث. وزاد في آخره: " أجمعون ". وله في " المسند " (3/200) طريق آخر، وكذا الطحاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ..............................................................................   ومن حديث جابر قال: اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيرَه، فالتفت إلينا؛ فرآنا قياماً، فأشار إلينا؛ فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلم؛ قال: " إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود! فلا تفعلوا؛ ائتموا بأئمتكم: إن صلى قائماً؛ فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً؛ فصلوا قعوداً ". أخرجه مسلم (2/19) ، والنسائي (1/178) ، وابن ماجه (1/375) ، والبيهقي (2/261) ، وأحمد (3/334) من طريق الليث بن سعد عن أبي الزبير عنه. وأخرجه مسلم، والنسائي (1/128) ، والطحاوي (1/234) من طريق عبد الرحمن ابن حميد الرؤاسي عن أبي الزبير نحوه. وفيه أن الصلاة صلاة الظهر. وله طريق ثان: أخرجه أبو داود (1/99) ، والدارقطني (162) ، وأحمد (3/300) عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: صُرِعَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فرس على جذع نخلة فانفكَّت قدمُه؛ فدخلنا عليه نعوده ... الحديث بنحوه. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وله طريق ثالث: أخرجه أحمد (3/395) عن سالم بن أبي الجعد عن جابر نحوه. وسنده صحيح على شرط مسلم. {والحديث مخرج في كتابي " إرواء الغليل " تحت الحديث (394) } . واعلم أَن في هذه الأحاديث دلالة على أن الإمام إذا صلى جالساً لمرض به؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ..............................................................................   صلى مَن وراءه جالسين؛ ولو كانوا قادرين على القيام، والدليل على ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل اتباع الإمام في الجلوس من طاعة الأئمة الواجبة بكتاب الله تعالى، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أطاعني؛ فقد أطاع الله، ومن عصاني؛ فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير؛ فقد أطاعني، ومن عصى الأمير؛ فقد عصاني، إنما الإمام جنة، فإن صلى قاعداً؛ فصلوا قعوداً، وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: اللهم ربنا! ولك الحمد. فإذا وافق قول أهل الأرض قولَ أهل السماء؛ غفر له ما مضى من ذنبه ". أخرجه الطيالسي (336) ، ومن طريقه الطحاوي (1/235) ، و {أبو عوانة [2/109] } ، وأحمد (2/386 - 387 و 416 و 467) - واللفظ له -، من طرق عن يعلى بن عطاء قال: سمعت أبا علقمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... به. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وأبو علقمة هذا - هو: المصري مولى بني هاشم -: لا يعرف إلا بكنيته (*) ، وهو ثقة - كما في " التقريب " -. وله شاهد من حديث ابن عمر: أخرجه الطحاوي، وأحمد (2/93) ، والطبراني في " الكبير "، وأبو يعلى، وعن الثلاثة المقدسي في " المختارة "، وأبو حاتم البستي عن أبي يعلى وحده من طرق عن عقبة ابن أبي الصهباء قال: سمعت سالماً يقول: ثني عبد الله بن عمر: أنه كان يوماً من الأيام عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو في نفر من أصحابه فقال لهم: " ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ ". فقالوا: بلى؛ نشهد أنك رسول الله. قال: " أفلستم تعلمون [أن] الله قد أنزل في كتابه أن من أطاعني؛ فقد أطاع الله؟ ".   (*) في الأصل: (باسمه) ، والصواب ما أثبتنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ..............................................................................   قالوا: بلى؛ نشهد أنه من أطاعك؛ فقد أطاع الله. قال: " فإن من طاعة الله أن تطيعوني، وإن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم، فان صلوا قعوداً؛ فصلوا قعوداً أجمعين ". وهذا إسناد صحيح أيضاً. قال الترمذي - بعد أن ساق حديث أنس المذكور آنفاً -: " وقد ذهب بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا الحديث؛ منهم: جابر بن عبد الله، وأُسَيد بن حُضير، وأبو هريرة، وغيرهم. وبهذا الحديث يقول أحمد وإسحاق ". قال الحافظ (2/140) : " وقد قال بقول أحمد جماعة من محدثي الشافعية؛ كابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان ". اهـ. وقد نقل الزيلعي في " نصب الراية " (2/49) كلام ابن حبان في ذلك، وهاك نصَّه: " قال في " صحيحه ": وفي هذا الخبر بيان واضح أن الإمام إذا صلى قاعداً؛ كان على المأمومين أن يصلوا قعوداً. وأفتى به من الصحابة: جابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس بن قَهْد (بفتح القاف وسكون الهاء) . ولم يُروَعن غيرهم من الصحابة خلاف هذا بإسناد متصل ولا منقطع؛ فكان إجماعاً، والإجماع عندنا إجماع الصحابة. وقد أفتى به من التابعين جابر بن زيد، ولم يُروَ عن غيرهِ من التابعين خلافه بإسناد صحيح ولا واهٍ؛ فكان إجماعاً من التابعين أيضاً. وأول من أبطل ذلك في الأمة المغيرة بن مِقْسَم، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان، ثم أخذه عن حماد أبو حنيفة، ثم عنه أصحابه. وأعلى حديث احتجوا به حديث رواه جابر الجعفي عن الشعبي: قال عليه الصلاة والسلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ..............................................................................   " لا يَؤُمَّنَّ أحد بعدي جالساً ". وهذا لو صح إسناده؛ لكان مرسلاً، والمرسل عندنا وما لم يُروَ سيان، لأنا لو قبلنا إرسال تابعي - وإن كان ثقة -؛ لَلَزِمَنَا قبول مثله عن أتباع التابعين، وإذا قبلنا؛ لَزِمَنَا قبوله من أتباع أتباع التابعين، ويؤدي ذلك إليه أن يقبل من كل أحد إذا قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وفي هذا نقض الشريعة، والعجب أن أبا حنيفة يجرح جابراً الجعفي ويكذبه، ثم لما اضطره الأمر؛ جعل يحتج بحديثه. وذلك كما أخبرنا به ". قلت: فساق إسناده إلى أبي يحيى الحماني: " سمعت أبا حنيفة يقول: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي؛ وما أتيته بشيء من رأي قط إلا جاءني فيه بحديث ". اهـ. ما في " نصب الراية " ببعض اختصار. وحديث جابر هذا أخرجه الإمام محمد في " الموطأ " (113) ، واحتج به على نسخ قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا صلى الإمام جالساً؛ فصلوا جلوساً أجمعين ". وقد علمت ما فيه. وقد احتجوا بحجة أخرى على النسخ؛ وهي ما تقدم من صلاته في مرض موته بالناس قاعداً وهم قائمون خلفه، ولم يأمرهم بالقعود. قال الحافظ: " وأنكر أحمد نسخ الأمر المذكور بذلك، وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين: إحداهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعداً لمرض يرجى برؤه؛ فحينئذٍ يصلون خلفه قعوداً. ثانيهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب قائماً؛ لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً، سواء طرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ..............................................................................   ما يقتضي صلاة إمامهم قاعداً أم لا؛ كما في الأحاديث التي في مرض موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فان تقريره لهم على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة؛ لأن أبا بكر ابتدأ بالصلاة بهم قائماً، فصلوا معه قياماً؛ بخلاف الحالة الأولى؛ فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتدأ الصلاة جالساً، فلما صلوا خلفه قياماً؛ أنكر عليهم. ويقوي هذا الجمعَ أن الأصل عدم النسخ؛ لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعداً، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعداً، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك يقتضي وقوع النسخ مرتين، وهو بعيد ". اهـ. وللمانعين لدعوى النسخ أجوبة كثيرة تراجع في المطولات، وقد لخصها المحقق السندي في " حاشيته على البخاري "، ثم قال: " ومما يدل على بقاء الحكم المذكور: أنه قد جعل قعود المقتدي عند قعود الإمام من جملة الاقتداء بالإمام، والإجماع على بقاء الاقتداء به؛ فالظاهر بقاء ما هو من جملة الاقتداء. وكذا يدل على بقاء الحكم: أنه قد عَلّلَ في بعض الروايات حكم القعود؛ بأن القيام عند قعود الإمام من أفعال أهل فارس بعظمائها - يعني: أنه يشبه تعظيم المخلوق فيما وُضعَ لتعظيم الخالق من الصلاة -، ولا يخفى بقاء هذه العلة، والأصل بقاء الحكم عند دوام العلة. وللطرفين ها هنا كلمات، وما ذكرنا فيه كفاية في بيان أن دعوى النسخ لا يخلو عن نظر ". اهـ. ويَرُدُّ هذه الدعوى أيضاً حديثا أبي هريرة وابن عمر المُصَدَّرُ بهما هذا البحث؛ فقد جعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة وراء الإمام الجالس جلوساً من طاعة الأئمة، التي هي من طاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغير معقول أن ينسخ شيء منها. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 صلاة المريض جالسا ً وقال عمرانُ بن حصين رضي الله عنه: " كانت بي بَوَاسير (1) ، فسألت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: " صلِّ قائماً، فإنْ لم تستطعْ؛ فقاعداً، فإن لم تستطعْ؛ فعلى جنبٍ " " (2) .   (1) جمع (باسور) ؛ يقال بالموحدة، وبالنون. والذي بالموحدة: ورم في باطن المقعدة. والذي بالنون: قرحة فاسدة، لا تقبل البُرْءَ ما دام فيها ذلك الفساد. " فتح ". (2) أخرجه البخاري (2/469) ، وأبو داود (1/150) ، والترمذي (2/208) ، وابن ماجه (1/369) ، والطحاوي في " المشكل " (2/281 - 282) ، والدارقطني (146) ، والحاكم (1/315) ، والبيهقي (2/304) ، وأحمد (2/426) عن إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عنه. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين. ولم يخرجاه بهذا اللفظ "! فوهم في استدراكه على البخاري. وعزاه الزيلعي (2/175) ، والحافظ في " التلخيص " (3/285) [للنسائي] (*) بزيادة: " فإن لم تستطع؛ فمستلقياً، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . ولم أجده في " سننه الصغرى "؛ فلعله في " الكبرى " له. قال الحافظ (2/470) : " استدل به من قال: لا ينتقل المريض إلى القعود؛ إلا بعد عدم القدرة على القيام. وقد حكاه عياض عن الشافعي، وعن مالك، وأحمد - قال ابنه عبد الله: سئل أبي عن   (*) ما بين المعقوفتين سقط من قلم الشيخ رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ..............................................................................   المريض متى يصلي قاعداً؟ قال: إذا كان قيامه يضعفه ويوهنه؛ أحب إلي أن يصلي قاعداً -، وإسحاق لا يشترط العدم؛ بل وجود المشقة. والمعروف عند الشافعية أن المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقة الشديدة بالقيام، أو خوف زيادة المرض أو الهلاك، ولا يكتفى بأدنى مشقة؛ ومن المشقة الشديدة دوران الرأس في حق راكب السفينة، وخوف الغرق لو صلى قائماًً فيها ". اهـ. قلت: وما ذكره عن الشافعية هو الأصح عند الحنفية - كما في " البحر الرائق " (2/121) وغيره من كتب المذهب -. وقد يستدل لذلك بما أخرجه الطبراني في " الأوسط " من حديث ابن عباس مرفوعاً: " يصلي المريض قائماً، فإن نالته مشقة؛ صلَّى جالساً، فإن نالته مشقة؛ صلَّى نائماً، يومئ برأسه، فإن نالته مشقة؛ سبح ". وقال الطبراني: " لم يروه عن ابن جريج إلا حلس بن محمد الضبعي ". قال الهيثمي (2/149) : " ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات ". وسكت عليه الحافظ في " الفتح "، وقال في " التلخيص " (3/294) : " في إسناده ضعف ". قال الترمذي: " واختلف أهل العلم في صلاة المريض إذا لم يستطع أن يصلي جالساً؛ فقال بعض أهل العلم: يصلي على جنبه الأيمن. وقال بعضهم: يصلي مستلقياً على قفاه ورجلاه إلى القبلة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ..............................................................................   قلت: وبه قال الحنفية، وبعض الشافعية - كما في " الفتحين ": " فتح الباري " و" فتح القدير " -. والقول الأول هو الصحيح عند الشافعية - كما في " المجموع " -، واحتجوا على ذلك بحديث علي رضي الله عنه مرفوعاً: " يصلي المريض قائماً إن استطاع، فإن لم يستطع؛ صلَّى قاعداً، فإن لم يستطع أن يسجد؛ أومأ، وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً؛ صلَّى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن؛ صلَّى مستلقياً، ورجلاه مما يلي القبلة ". أخرجه الدارقطني (179) ، وعنه البيهقي (2/307 - 308) من طريق حسن بن حسين العرني: ثنا حسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن حسين عن الحسين بن علي عن علي بن أبي طالب به. وهذا سند ضعيف - كما قال النووي (4/316) -؛ وعلته حسين بن زيد: قال في " التلخيص " (3/293) : " ضعفه ابن المديني. والحسن بن الحسين العرني؛ وهو متروك ". وقال في " الدراية " (127) : " وإسناده واهٍ جداً ". قلت: فلا يعتمد على هذا الحديث، ولا يحتج به؛ وإنما الحجة في حديث عمران؛ ففيه النص على أنه يصلي على جنبه إن لم يستطع الصلاة قاعداً؛ لا سيما على رواية النسائي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وقال أيضاً: " سألتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صلاةِ الرجل وهو قاعد؟ فقال: " مَن صلّى قائماً؛ فهو أفضلُ، ومن صلّى قاعداً؛ فله نصف أجر القائم (1) ،   " فان لم تستطع؛ فمستلقياً ". فجعلَ الاستلقاءَ بعدَ الصلاة على الجَنْبِ، وهذا خلاف مذهب الحنفية. ولذلك حاول ابن الهمام في " الفتح " (1/376) أن يجعله خاصاً بعمران بن حصين؛ فلا يكون خطاباً للأمة. وهذا كلام لا برهان عليه؛ فإن الأصل المتفق عليه بين العلماء أن كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمول على العموم، وإن كان المخاطَبُ به فرداً من الأمة؛ ما لم يَرِدْ دليل على التخصيص، ولا يوجد شيء من ذلك هنا؛ فالحق ما ذهب إليه الشافعية إن شاء الله تعالى. (1) قال الحافظ: " يستثنى من عمومه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن صلاته قاعداً لا ينقص أجرها عن صلاته قائماً؛ لحديث عبد الله بن عمرو قال: بلغني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَِ قال: " صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة ". فوجدته يصلي جالساً؛ فوضعت يدي على رأسي، فقال: " ما لك يا عبد الله؟! ". فأخبرته. فقال: " أجل؛ ولكني لست كأحد منكم ". أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي ". قلت: وكذلك أخرجه الدارمي (1/321) ، وأحمد (2/203) . ثم قال [الحافظُ] : " وهو ينبني على أن المتكلم داخلٌ في عموم خطابه، وهو الصحيح، وقد عد الشافعية في خصائصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه المسألة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ومن صلى نائماً (1) (وفي رواية: مضطجعاً) ، فله نصف أجر القاعد " (2) .   (1) قال البخاري: " ... نائماً عندي: مضطجعاً ها هنا ... ". قلت: وهو رواية للإمام أحمد. وفيه دلالة على جواز التنفل مضطجعاً. وقد نفاه الخطابي، وتبعه ابن بطال، وزاد: " لكن الخلاف ثابت؛ فقد نقله الترمذي بإسناده إلى الحسن البصري قال: إن شاء الرجل؛ صلى صلاة التطوع قائماً وجالساً ومضطجعاً. وقال به جماعة من أهل العلم. وهو أحد الوجهين للشافعية، وصححه المتأخرون. وحكاه عياض وجهاً عند المالكية أيضاً، وهو اختيار الأبهري منهم، واحتج بهذا الحديث ". (تنبيه) : سؤال عمران عن الرجل خرج مخرج الغالب؛ فلا مفهوم له؛ بل الرجل والمرأة في ذلك سواء. كذا في " الفتح " (2/248) . (2) أخرجه البخاري (2/467 و 469) ، وأبو داود (1/150) ، والنسائي (1/245) ، والترمذي (2/207) وصححه، وابن ماجه (1/370) ، وابن نصر (83) ، والدارقطني (162) ، والبيهقي (2/491) ، وأحمد (4/433 و 435 و 442) من طرق عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عنه. والحديث حمله جمهور العلماء على المتنفل، وحمله الخطابي على المفترض على التفصيل الآتي. والظاهر أن الحديث يشمل النوعين؛ فقال الخطابي: " المراد بحديث عمران: المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم؛ ترغيباً له في القيام، مع جواز قعوده ". انتهى. قال الحافظ (2/468) : " وهو حمل متجه ... ". قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ..............................................................................   " فمن صلى فرضاً قاعداً، وكان يشق عليه القيام؛ أجزأه، وكان هو ومن صلى قائماً سواء، فلو تحامل هذا المعذور وتكلَّف القيام، ولو شق عليه؛ كان أفضل لمزيد أجر تكلف القيام، فلا يمتنع أن يكون أجره على ذلك نظير أجره على أصل الصلاة؛ فيصح أن أجر القاعد على النصف من أجر القائم. ومن صلى النفل قاعداً مع القدرة على القيام؛ أجزأه، وكان أجره على النصف من أجر القائم بغير إشكال. وأما قول الباجي: إن الحديث في المفترض والمتنفل معاً. فإن أراد بالمفترض ما قررناه؛ فذاك، وإلا؛ فقد أبى ذلك أكثر العلماء ... ، وحملوا الحديث على المتنفل ". قال: " ولا يلزم من ذلك أن لا ترد الصورة التي ذكرها الخطابي، وقد ورد في الحديث ما يشهد لها؛ فعند أحمد من طريق ابن جريج عن ابن شهاب عن أنس قال: قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وهي مُحَمَّةٌ، فَحُمَّ الناس، فدخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد والناس يصلون من قعود، فقال: " صلاة القاعد نصف صلاة القائم ". رجاله ثقات، وعند النسائي متابع له من وجه آخر. وهو وارد في المعذور؛ فيحمل على من تكلف القيام مع مشقته عليه؛ كما بحثه الخطابي ". قلت: الحديث الذي عزاه لأحمد هو في " مسنده " (3/136) قال: ثنا محمد بن بكر قال: ثنا ابن جريج قال: قال ابن شهاب: أخبرني أنس به، وزاد في آخره: فتجشم الناس [الصلاة] قياماً. وهذا إسناد رجاله ثقات - كما قال الحافظ -، ورجاله رجال الستة، ولكن ابن جريج مدلس، وقد ذكره بصورة التعليق: (قال ابن شهاب) . وأما المتابع الآخر؛ فهو الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 والمراد به المريض؛ فقد قال أنس رضي الله عنه: " خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناس وهم يصلون قعوداً من مرض، فقال: " إن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " " (1) . و" عاد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مريضاً، فرآه يصلي على وسادة؛ فأخذها، فرمى بها، فأخذ عوداً (2) ؛ ليصلي عليه، فأخذه، فرمى به، وقال: " صلِّ على الأرض إن استطعت: -، وإلا؛ فَأَوْمِ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك " " (3) .   (1) [أخرجه] ابن ماجه (1/370) ، وأحمد (3/214 و 240) من طرق عن عبد الله ابن جعفر عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن أنس بن مالك به. وهذا سند صحيح. رجاله رجال مسلم. وله شاهد من حديث الزهري عن عبد الله بن عمرو به نحوه. وفيه أن صلاتهم كانت سبحة - أي: نافلةً -، لكنه منقطع؛ لأن الزهري لم يَلْقَ ابن عمرو. وأخرجه الإمام محمد (112) : أخبرنا مالك: ثنا الزهري به. وهو في " موطأ مالك " (1/156 - 157) . (2) {أي: خشبة؛ في " لسان العرب ": " (العود) : كل خشبة دَقَّت. وقيل: (العود) : خشبة كل شجرة - دَقَّ أو غَلُظَ - ". قلت: والحديث يؤيد القول الثاني؛ فإن تفسيره بالقول الأول بعيد} . (3) أخرجه البيهقي في " السنن " (2/306) وفي " المعرفة " - كما في " نصب الراية " (2/175) وغيره -، والبزار في " مسنده " من طريق أبي بكر الحنفي وعبد الوهاب بن عطاء قالا: ثنا سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ..............................................................................   وهذا سند على شرط مسلم. وقال الحافظ في " الدراية " (127) : " ورواته ثقات ". وقال في " بلوغ المرام " (1/284) : إنه " قوي ". قلت: لولا عنعنة أبي الزبير؛ فقد اشتهر بكونه مدلساً. لكن يقويه ما يأتي. وقد سئل أبو حاتم عن هذا الحديث من رواية أبي بكر الحنفي عن الثوري؟ فأجاب بقوله: " هذا خطأ؛ إنما هو عن جابر قوله؛ أنه دخل على مريض ... . فقيل له: فإن أبا أسامة قد روى عن الثوري هذا الحديث مرفوعاً؟! فقال: ليس بشيء؛ هو موقوف ". كذا في " العلل " لابن أبي حاتم (1/113) . وقد تعقبه الحافظ في " التلخيص " (3/294) بقوله: " قلت: فاجتمع ثلاثة: أبو أسامة، وأبو بكر الحنفي، وعبد الوهاب ". اهـ. فرواية هؤلاء الثلاثة للحديث مرفوعاً هو المعتمد، ورواية من رواه موقوفاً لا يعله؛ لا سيما وأن أبا حاتم لم يذكر من رواه موقوفاً، وإنما عِلّةُ الحديث ما أشرت إليه من التدليس. لكن أخرجه أبو يعلى في " مسنده " من طريق أخرى عن حفص بن أبي داود عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن جابر به. وحفص هذا هو ابن سليمان الغاضري القاري، وهو متروك الحديث. ومحمد بن عبد الرحمن هو ابن أبي ليلى، وهو ضعيف من قبل حفظه. وله شاهد من حديث ابن عمر. أخرجه الطبراني في " الكبير "؛ فقال: ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: ثني شَبَابٌ العُصْفُرِيُّ: ثنا سهل أبو عَتَّاب: نا حفص بن سليمان عن قيس بن مسلم - وهو: كوفي - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ..............................................................................   عن طارق بن شهاب عنه به. وهو ثاني حديث في (مسند ابن عمر) . وهذا سند صحيح؛ رجاله كلهم ثقات. وشَبَابٌ - بفتح المعجمة، وموحدتين؛ الأولى خفيفة -: لقبه، واسمه: خليفة بن خيَّاط، وهو صدوق من رجال البخاري. وسهل هو ابن حماد البصري، صدوق أيضاً من رجال مسلم. وحفص بن سليمان هو المِنْقَري البصري، ثقة اتفاقاً. وبقية الرجال ثقات مشهورون. وقد وهم الهيثمي حيث قال في " المجمع " (2/148) : " رواه الطبراني في " الكبير "، وفيه حفص بن سليمان المنقري، وهو متروك. واختلفت الرواية عن أحمد في توثيقه، والصحيح أنه ضعفه. والله أعلم ". فخلط الهيثمي بين حفص بن سليمان أبي داود الغاضري، وبين حفص بن سليمان المنقري؛ فالأول متروك - كما تقدم آنفاً -، وهو متفق على تضعيفه، وهو الذي اختلفت الرواية عن أحمد فيه. وأما المنقري؛ فهو متفق على توثيقه، ولم تختلف الرواية عن أحمد في توثيقه، وقد قال ابن حبان: " وليس هذا بحفص بن سليمان البزار أبي عمر القاري؛ ذاك ضعيف، وهذا ثبت ". وعلى هذا مشى العلماء في كتب الرجال، وقد قال الحافظ في " التقريب " في الأول: " متروك ". وفي الآخر: " ثقة ". ثم إن الحديث أورده الهيثمي عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ..............................................................................   " من استطاع منكم أن يسجد؛ فليسجد، ومن لم يستطع؛ فلا يرفع إلى جبهته شيئاً يسجد عليه؛ ولكن ركوعه وسجوده يُوْمئ إيماء ". وقال: " رواه الطبراني في " الأوسط "، ورجاله موثقون، ليس فيهم كلام يضر ". والله أعلم. قلت: وأورده في " نصب الراية " (2/176) ، لكن بلفظ: " وليكن ركوعه وسجوده يُوْمئ برأسه ". وساق إسناد الطبراني هكذا: ثنا عبد الله بن بكر السراج: ثنا سريج بن يونس: ثنا قُرّان بن تمام عن عبد الله بن عمر عن نافع عنه. قلت: وهذا سند ضعيف؛ عبد الله بن عمر هو العمري، وهو ضعيف؛ لسوء حفظه. وفي " التقريب ": " ضعيف عابد ". وعبد الله بن بكر السراج لم أجد من ذكره. وبقية الرجال ثقات. ويظهر من كلام البيهقي أنه قد روي مرفوعاً من طريق أخرى؛ فقال: وروى عبد الله ابن عامر الأسلمي عن نافع مرفوعاً. وليس بشيء. ثم رواه من طريق مالك عن نافع عنه موقوفاً بلفظ: " إذا لم يستطع المريض السجود؛ أومأ برأسه إيماء، ولم يرفع إلى جبهته شيئاً ". ثم رواه من طريق أخرى بسند صحيح عنه به نحوه، وزاد: " واجعل السجود أخفض من الركوع ". ثم أخرجه هو، والطبراني في " الكبير " عن ابن مسعود بنحوه. وسنده حسن. وانظر " صحيح أبي عوانة " (2/338) {و " الصحيحة " (323) } (*) .   (*) وعزاه الشيخ في " الصفة " المطبوع (ص 79) لـ " ابن السماك في " حديثه " (67/2) ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الصلاةُ في السَّفِينة وسُئل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة في السفينة ؟ فقال: " صَلِّ فيها قائماً؛ إلا أن تخاف الغرق " (1) .   (1) أخرجه الدارقطني (152) ، والحاكم (275) عن أبي نعيم الفضل بن دكين: ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عمر به (*) . وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ... ، وهو شاذ بمرة ". وكذا قال الذهبي. وهو كما قالا. وأخرجه الدارقطني، وكذا البزار (68) من طريق رجل من أهل الكوفة من ثقيف عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عمر عن جعفر: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يصلي في السفينة قائماً؛ إلا أن يخشى الغرق. وفيه الرجل الذي لم يسم، وبقية رجاله ثقات، وإسناده متصل - كما قال الهيثمي (2/163) -. قال الشوكاني (3/169) : " فيه أن الواجب على من يصلي في السفينة القيام، ولا يجوز القعود إلا عند خشية الغرق، ويؤيد ذلك الأحاديث المتقدمة الدالة على وجوب القيام في مطلق صلاة الفريضة؛ فلا يصار إلى جواز القعود في السفينة ولا غيرها إلا بدليل خاص، وقدَّمنا ما يدل على الترخيص في صلاة الفريضة على الراحلة عند العذرِ. والرُّخَصُ لا يقاس عليها، وليس راكب السفينة كراكب الدابة؛ لتمكنه من الاستقبال. ويقاس على مخافة الغرق المذكورة في الحديث ما ساواها من الأعذار ". اهـ. وقال أبو داود في " مسائله " (76) : " سمعت أحمد رحمه الله سئل عن رجل صلى في السفينة قاعداً؟ قال: إن كان   (*) وعزاه الشيخ في " الصفة " المطبوع (ص 79) لـ " عبد الغني المقدسي في " السنن " (82/2) ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 [ الاعتماد على عمود ونحوه في الصلاة ] ولمَّا أسنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكبر؛ اتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه (1) .   يقدر أن يصلي قائماً؛ فأحب إليَّ أن يعيد. قال أبو داود: سمعت أحمد سُئل عن الصلاة في السفينة؟ قال: قائماً إن استطاع ". ونحوه في " مسائل " ابنه عبد الله، لكنه لم يذكر الإعادة. والحديث قال البيهقي: " حديث حسن ". وأقره العراقي - كما في " فيض القدير " -. { (فائدة) : وحكم الصلاة في الطائرة كالصلاة في السفينة: أن يصلي قائماً إن استطاع، وإلا؛ صلى جالساً إيماءً بركوع وسجود} . (1) أخرجه أبو داود (1/150) ، والحاكم (1/264) ، وعنه البيهقي (2/288) من طريق شيبان بن عبد الرحمن عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال: قدمت الرقة، فقال لي بعض أصحابي: هل لك في رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قال: قلت: غَنِيمَةٌ. فدفعنا إلى وابصة. قلت لصاحبي: نبدأ فننظر إلى دَلِّهِ، فإذا عليه قلنسوة لاطئةٌ ذاتُ أذنين، وبرنسُ خزٍّ أغبرُ، وإذا هو معتمد على عصا في صلاته، فقلنا بعد أن سَلَّمنا؟ فقال: حدثتني أم قيس بنت محصن: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أسن وحمل اللحم؛ اتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. قلت: هلال بن يساف إنما أخرج له البخاري في " صحيحه " تعليقاً؛ فالحديث على شرط مسلم وحده. {وقد خرجته في " الصحيحة " (319) ، و " الإرواء " (383) } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ..............................................................................   = قال الشوكاني: (2/284) : " الحديث يدل على جواز الاعتماد في الصلاة على العمود والعصا ونحوهما، لكنْ مقيداً بالعذر المذكور؛ وهو الكبر وكثرة اللحم، ويلحق بهما الضعف، والمرض، ونحوهما، وقد ذكر جماعة من العلماء أن من احتاج في قيامه إلى أن يتكئ على عصا، أو عكاز، أو يسند إلى حائط، أو يميل على أحد جنبيه من الألم؛ جاز له ذلك. وجزم جماعة من أصحاب الشافعي باللزوم، وعدم جواز القعود مع إمكان القيام مع الاعتماد ". اهـ. وممن نص على جواز الاعتماد في الصلاة: الإمام مالك؛ فقال: " إن شاء؛ اعتمد، وإن شاء؛ لم يعتمد. وكان لا يكره الاعتماد، وقال: ذلك على قدر ما يرتفق به، فلينظر ما هو أرفق به؛ فليصنعه ". كذا في " المدونة " (1/74) . والظاهر أنه يريد بذلك النافلة، ولو بدون ضرورة. وقد قال القاضي عياض - كما في " المجموع " (3/264 - 265) -: " وأما الاتكاء على العصي؛ فجائز في النوافل باتفاقهم، إلا ما نقل عن ابن سيرين من كراهته، وأما في الفرائض؛ فمنعه مالك والجمهور وقالوا: من اعتمد على عصا أو حائط ونحوه بحيث يسقط لو زال؛ [لم تصح صلاته] (*) ... " إلخ. وقد روى البيهقي عن الحجاج عن عطاء قال: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكئون على العصي في الصلاة. والحجاج هذا - هو: ابن أرطاة -، وهو مدلس، وقد عنعنه.   (*) استدراك من " المجموع ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 القيام والقُعود في صلاة الليل و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ قائماً؛ ركع قائماً، وإذا قرأ قاعداً؛ ركع قاعداً " (1) . و" كان أحياناً يصلي جالساً، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية؛ قام فقرأها وهو قائم، ثم ركع وسجد، ثم يصنع في الركعة الثانية مثل ذلك " (2) .   (1) أخرجه مسلم (2/162 - 163) ، وأبو داود (1/151) ، والنسائي (1/244) ، والترمذي (2/203) ، وابن ماجه (1/370) ، وابن نصر في " قيام الليل " (81 و 84) ، والطحاوي (1/200) ، والبيهقي (2/486) ، وكذا الحاكم (1/286 و 315) ، وأحمد (6/98 و 100 و 112 و 113 و 166 و 204 و 227 و 236 و 241 و 262) من طرق عن عبد الله بن شقيق العُقيلي. قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل؟ فقالت: كان يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ قائماً؛ ركع قائماً، وإذا قرأ قاعداً؛ ركع قاعداً. وفي لفظ: صلى ... بدل: قرأ. وقد زعم الحاكم أنه أخرجه الشيخان! وهو وهم منه؛ فإنه ليس عند البخاري، وليس عبد الله بن شقيق من رجاله في " صحيحه ". ويأتي الكلام على الحديث، وأنه لا تعارض بينه وبين الحديث الذي بعده، بل كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل هذا تارة، وهذا تارة؛ كما ذهب إليه الحافظ ابن حجر؛ تبعاً لشيخه الحافظ العراقي، وقد ذكر كلامه في ذلك الشوكاني في " النيل " (3/70 - 71) . فراجعه إن شئت. (2) أخرجه مالك في " الموطأ " (1/157) عن عبد الله بن يزيد المدني وعن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ..............................................................................   أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي جالساً؛ فيقرأ وهو جالس. فإذا بقي ... الحديث. ومن طريقه أخرجه البخاري (2/471) ، ومسلم (2/163) ، وأبو داود (1/151) ، والنسائي (1/244) ، والترمذي (2/213) - وليس في سنده: (عبد الله بن يزيد المدني) -، والطحاوي (1/200) ، والبيهقي (2/490) ، وأحمد (6/178) ؛ كلهم عن مالك به. ثم أخرجه في " الموطأ " من طريق أخرى عن هشام بن عروة عن أبيه عنها أنها أخبرته: أنها لم تر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي صلاة الليل قاعداً قط حتى أسن؛ فكان يقرأ قاعداً ... الحديث بنحوه؛ دون قوله: وسجد ... إلخ. وقد أخرجه من طريق مالك من ذكرنا في الرواية الأولى عدا مسلماً وأبا داود والترمذي والنسائي؛ فقد أخرجوه - إلا الترمذي - من طرق أخرى عن هشام به. وكذلك أخرجه ابن ماجه (1/369) ، وأحمد (6/46 و 52 و 125 و 183 و 204 و231) ، وكذا الطحاوي، وابن نصر (81) . وله عند مسلم، وابن ماجه، والبيهقي، وأحمد (6/217) طريق ثالث عن عَمرة عنها. قال الحافظ في " الفتح " (3/26) : " فيه رد على من اشترط على من افتتح النافلة قاعداً أن يركع قاعداً، أو قائماً أن يركع قائماً، وهو محكي عن أشهب، وبعض الحنفية، والحجة فيه ما رواه مسلم وغيره من طريق عبد الله بن شقيق عن عائشة في سؤاله لها عن صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه: كان إذا قرأ قائماً؛ ركع قائماً، وإذا قرأ قاعداً؛ ركع قاعداً. وهذا صحيح، ولكن لا يلزم منه منع ما رواه عروة عنها، فيُجمع بينهما بأنه كان يفعل كلاً من ذلك بحسب نشاطه. والله أعلم ". اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 {وإنما " صلى السُّبحَة قاعداً في آخر حياته لما أسَنَّ؛ وذلك قبل وفاته بعام " (1) } . و" كان يجلس متربعاً " (2) .   وهذا هو الحق، وإليه ذهب أحمد وإسحاق؛ فقال الترمذي (2/212) - بعد أن ذكر الحديثين -: " قال أحمد وإسحاق: والعمل على كلا الحديثين. كأنَّهما رَأَيَا كلا الحديثين صحيحاً معمولاً بهما ". وما نقله الحافظ عن بعض الحنفية ذكر الطحاوي خلافه عن الأئمة الثلاثة وهو: أن الأولى الأخذ بحديثها الأول دون حديث ابن شقيق عنها. (1) {رواه مسلم، وأحمد، [وسبق تخريجه في (القيام) (ص 79) ] } . (2) أخرجه النسائي (1/245) ، ومن طريقه الدارقطني (152) ، والحاكم (1/275) ، والبيهقي (2/305) ، وابن حبان أيضاً من طريق أبي داود الحَفَري عن حفص بن غياث عن حميد عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي متربعاً (*) . وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي؛ فوهما، وإنما هو على شرط مسلم؛ فإن أبا داود الحفري - بفتح المهملة والفاء - لم يخرج له البخاري. والحديث أعله النسائي بقوله: " لا أعلم أحداً روى هذا الحديث غير أبي داود، وهو ثقة، ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ. والله تعالى أعلم ". قال الحافظ في " التلخيص " (3/287) : " وقد رواه ابن خزيمة { (1/107/2) = [2/89/978] } ، والبيهقي من طريق محمد ابن سعيد بن الأصبهاني بمتابعة أبي داود؛ فظهر أنه لا خطأ ".   (*) وعزاه الشيخ في " الصفة " المطبوع (ص 80) لـ " عبد الغني المقدسي في " السنن " (80/1) ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ..............................................................................   وروى البيهقي عن حميد قال: رأيت أنس بن مالك يصلي متربعاً على فراشه. وسنده صحيح على شرطهما. قال الحافظ: " وعلقه البخاري ". قال الشوكاني (3/71) : " والحديث يدل على أن المستحب لمن صلى قاعداً أن يتربع، وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو أحد القولين للشافعي، وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنه يجلس مفترشاً، كالجلوس بين السجدتين، وحكى صاحب " النهاية " عن بعض الحنفيين أنه يجلس متوركاً؛ قال: وهذا الخلاف إنما هو في الأفضل، وقد وقع الاتفاق على أنه يجوز له أن يقعد على أي صفة شاء من القعود ". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الصلاةُ في النِّعال والأمْرُ بها و" كان يقف حافياً أحياناً، ومنتعلاً أحياناً " (1) . وأباح ذلك لأمته؛ فقال: " إذا صلى أحدكم؛ فليلبس نعليه، أو ليخلعهما بين رجليه، ولا يُؤْذِي بهما غيره " (2) .   (1) {رواه أبو داود، وابن ماجه. وهو حديث متواتر - كما ذكر الطحاوي -} (*) . (2) أخرجه الحاكم (1/259) عن عبد الله بن وهب: أخبرني عياض بن عبد الله القرشي عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة. وقال: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وأخرجه أبو داود (1/106) ، والحاكم أيضاً (260) ، والبيهقي (2/432) من طريق الأوزاعي: ثنا محمد بن الوليد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة به بلفظ: " إذا صلى أحدكم فخلع نعليه؛ فلا يؤذ بهما أحداً؛ ليجعلهما بين رجليه، أو ليصل فيهما ". وهذا إسناد على شرط الشيخين، وقد زاد فيه: أبا سعيد المقبري. ولعله الأصح، ويحتمل أن يكون سعيد سمعه من أبيه، ثم رواه عن أبي هريرة مباشرة بدون واسطة أبيه، ومثل هذا كثيراً ما يقع في الروايات. والله أعلم. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً في حديث بلفظ: " فإذا جاء أحدكم المسجد؛ فليقلب نعليه فلينظر؛ فيهما خَبَثٌ؟ فإن وجد فيهما خبثاً؛ فليمسحهما بالأرض، ثم ليصل فيهما ".   (*) تخريج هذا الحديث واقعٌ في صفحة مفقودة من أصل الشيخ رحمه الله؛ لذا نقلنا تخريجه المختصر من " صفة الصلاة " المطبوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وأكد عليهم الصلاة فيهما أحياناً؛ فقال: " خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خِفافهم " (1) .   وهو حديث صحيح - كما سيأتي بيانه -؛ قال الشيخ أحمد الطحطاوي في " حاشيته على مراقي الفلاح " (1/93) : " فيه دليل على استحباب الصلاة في النعال الطاهرة، وهو منصوص عليه في المذهب ". اهـ. (1) أخرجه أبو داود (1/105) ، والحاكم (1/260) ، ومن طريقه البيهقي (2/432) عن قتيبة بن سعيد: ثنا مروان بن معاوية الفزاري عن هلال بن ميمون الرملي عن يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه مرفوعاً به. وقال الحاكم: " صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. ورجاله كلهم ثقات. وأخرجه ابن حبان أيضاً في " صحيحه "، {والطبراني (7/348/7164 و 7165) } . قال الشوكاني (2/109) : " ولا مطعن في إسناده ". وقال الزين العراقي في " شرح الترمذي ": " إسناده حسن " - كما في " فيض القدير" -. قلت: وله شاهد من حديث أنس مرفوعاً: " خالفوا اليهود، وصلوا في خفافكم ونعالكم؛ فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا نعالهم ". رواه البزار (1) ، وفيه عمر بن نبهان، وهو ضعيف - كما في " المجمع " (2/54) -. قلت: وهذا الحديث يفيد استحباب الصلاة في النعال؛ لأنه أمر بذلك، وعلَّله بمخالفة اليهود، وأقل ما يستفاد منه الاستحباب، وإن كان ظاهره الوجوب؛ فإنه غير مراد؛ بدليل قوله في الحديث الذي قبله:   (1) { (53 - زوائده) } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وكان ربما نزعهما من قدميه وهو في الصلاة، ثم استمر في صلاته؛ كما قال أبو سعيد الخدري: " صلى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، فلما كان في بعض صلاته؛ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى الناس ذلك؛ خلعوا نعالهم. فلما قضى صلاته؛ قال: " ما بالكم ألقيتم نعالكم؟ ". قالوا: رأيناك ألقيت نعليك؛ فألقينا نعالنا. فقال: " إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيها قذراً - أو قال: أذى - (وفي رواية: خبثاً) ؛ فألقيتهما، فإذا جاء أحدكم إلى المسجد؛ فلينظر في نعليه: فإن رأى فيهما قذراً - أو قال: أذى - (وفي الرواية الأخرى: خبثاً) ؛ فليمسحهما، ولْيصلِّ فيهما " (1) .   " إذا صلى أحدكم؛ فليلبس نعليه، أو ليخلعهما ". فهذا يفيد التخيير، ولكنه لا ينافي الاستحباب؛ كما في حديث: " بين كل أذانين صلاة لمن شاء ". قال الشوكاني: " وهذا أعدل المذاهب، وأقواها عندي ". وإليه ذهب الحافظ في " الفتح " (1/393) ؛ حيث قال - بعد أن ساق الحديث -: " فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة ". (1) { [أخرجه] أبو داود، وابن خزيمة، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي والنووي. وهو مخرج في " الإرواء " (284) ، [و " صحيح سنن أبي داود " (657) ] } (*) .   (*) تخريج هذا الحديث واقعٌ في صفحة مفقودة من أصل الشيخ رحمه الله؛ لذا نقلنا تخريجه المختصر من " صفة الصلاة " المطبوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 و " كان إذا نزعهما؛ وضعهما عن يساره " (1) . وكان يقول: " إذا صلى أحدكم؛ فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره؛ فتكونَ عن يمين غيره؛ إلا أن لا يكون عن يساره أحد، وليضعهما بين رجليه " (2) .   (1) أخرجه أبو داود (1/105) ، والنسائي (125 - 126) ، وابن ماجه (437) ، و {ابن خزيمة (1/110/2) = [2/106/1014 و 1015] } والحاكم (259) ، ومن طريقه البيهقي (2/432) ، وأحمد (3/410 - 411) عن ابن جريج: ثني محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن سفيان عن عبد الله بن السائب قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي يوم الفتح - زاد الحاكم: الصبح -، ووضع نعليه عن يساره. قال الحاكم: " أخرجته شاهداً ". قلت: وهو تساهل منه؛ فان مثل هذه العبارة إنما تقال في حديث معلول إسناده، وليس الأمر هنا كذلك؛ فإنه حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم. وقد أخرج بهذا الإسناد لعبد الله بن السائب حديثاً آخر في " صحيحه "، وسيأتي في (القراءة في الفجر) ، وقد وهم العراقي (1/170) ؛ فعزا الحديث إلى مسلم، وإنما الذي عنده ما أشرت إليه. (2) أخرجه {ابن خزيمة [2/106/1016] } ، وأبو داود - والسياق له - (105 - 106) ، والحاكم (259) ، ومن طريقهما البيهقي (2/432) عن عثمان بن عمر: ثنا صالح بن رستم أبو عامر عن عبد الرحمن بن قيس عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة به مرفوعاً. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. قلت: سقط من إسناد الحاكم عبد الرحمن بن قيس، وهو أبو صالح الحنفي، وهو ثقة من رجال مسلم وحده؛ فالحديث صحيح على شرطه فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ..............................................................................   وأخرجه ابن ماجه (437) من طريق آخر عن أبي هريرة، وفيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ضعيف. وله شاهد من حديث أبي بكرة بلفظ: " ولكن ليجعلهما بين ركبتيه ". أخرجه الطبراني في " الكبير "، وفيه زياد الجصاص؛ ضعفه ابن معين وغيره، وذكره ابن حبان في " الثقات " - كما في " المجمع " (2/55) -. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الصلاةُ على المنبر (*) و" صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرةً - على المنبر (وفي رواية: أنه ذو ثلاث درجات) (1) ، فـ[قام عليه، فكبر، وكبر الناس وراءه وهو على المنبر] ، [ثم ركع وهو عليه] ، ثم رفع، فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد، [فصنع فيها كما صنع في الركعة الأولى] ، حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس، فقال: " يا أيها الناس! إني صنعت هذا؛ لتأتموا بي، ولِتَعلَّموا صلاتي " (2) .   (*) هذا المبحث لم يتناوله الشيخ رحمه الله في هذا الأصل، وقد أضفناه بحواشيه من " صفة الصلاة " المطبوع. (1) هذا هو السنة في المنبر؛ أن يكون ذا ثلاث درجات، لا أكثر، والزيادة عليها بدعة أمَوِيَّة؛ كثيراً ما تعرِّض الصف للقطع، والفرارُ من ذلك بجعله في الزاوية الغربية من المسجد أو المحراب: بدعةٌ أخرى! وكذلك جعله مرتفعاً في الجدار الجنوبي كالشرفة، يصعد إليها بدرج لَصِيق الجدار! وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. راجع " الفتح " (2/331) . (2) رواه البخاري، ومسلم - والرواية الأخرى له -، وابن سعد (1/253) ، وهو مخرج في " الإرواء " (545) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 السُّتْرَةُ ووجُوبها و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقف قريباً من السترة؛ فكان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع (1) ، وبين موضع سجوده والجدار ممرُّ شاة " (2) .   (1) أخرجه النسائي (1/122) ، وأحمد (2/138 و 6/13) عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل الكعبة ... الحديث. وفيه: فسألت بلالاً حين خرج: ماذا صنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: جعل عموداً عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة، ثم صلى، وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع. والسياق لأحمد. وفي رواية له من طريق هشام بن سعد عن نافع مختصراً بلفظ: كان بينه وبن الجدار ثلاثة أذرع. ورواه البخاري (2/459) من طريق موسى بن عقبة عن نافع نحوه. (2) رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: كان بين مصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين الجدار ممر الشاة. أخرجه البخاري (2/455) ، ومسلم (2/59) ، والبيهقي (2/272) عن عبد العزيز ابن أبي حازم عن أبيه عنه. وأخرجه أبو داود (1/111) من هذا الوجه بلفظ: وكان بين مقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين القبلة ممر عنز. وبهذه الرواية فسر الحافظ في " الفتح " الرواية الأولى؛ فقال: " قوله: (مصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : مقامه في صلاته، وكذا هو في رواية أبي داود ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وكان {يقول: " لا تُصلِّ إلا إلى سترة، ولا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى؛ فلتقاتله؛ فإن معه القرين " (1) . و} يقول: " إذا صلى أحدكم إلى سترة؛ فَلْيَدْنُ منها؛ لا يقطع (2) الشيطان عليه صلاته " (3) .   قلت: وهذا مشكل؛ فإنه على هذا التفسير لا يبقى بينه وبين الجدار فسحة لسجوده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالصواب قول النووي في " شرح مسلم ": "يعني بالمصلى: موضع السجود ". وعلى هذا فرواية أبي داود مروية بالمعنى. قال البغوي: " استحب أهل العلم الدنو من السترة؛ بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفين، وقد ورد الأمر بالدنو منها ". ثم ذكر الحديث الآتي في الأصل. (1) {رواه ابن خزيمة في " صحيحه " (1/93/1) = [2/9 - 10/800] بسند جيد} . (2) أي: لا يُفَوِّت عليه حضورها بالوسوسة والتمكن منها. قال الشيخ علي القاري (1/491) : " واستفيد منه أن السترة تمنع استيلاء الشيطان على المصلي، وتَمَكُّنِهِ من قلبه بالوسوسة، إمَّا كُلاً أو بعضاً؛ بحسب صدق المصلي وإقباله في صلاته على الله تعالى، وأن عدمها يُمَكِّنُ الشيطانَ من إزلاله عما هو بصدده من الخشوع والخضوع وتدبره القراءة والذكر. قلت: فانظر إلى متابعة السنة وما يترتب عليها من الفوائد الجمة ". انتهى. (3) أخرجه أبو داود (1/111) ، والنسائي (1/122) ، والطحاوي (1/365) ، والحاكم (1/251) ، والبيهقي (2/272) من طريق سفيان بن عيينة عن صفوان بن سليم عن نافع بن جبير عن سهيل بن أبي حَثْمَة مرفوعاً به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 و " كان أحياناً يتحرى الصلاة عند الأُسْطُوَانَةِ التي في مسجده " (1) .   وهذا إسناد صحيح - كما قال النووي (3/245) -، وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. ورواه ابن حبان أيضاً في " صحيحه " - كما في " نصب الراية " (2/82) -، {والبزار (ص 54 - زوائده) } . قلت: وأعله أبو داود بما لا يقدح، وقد أجاب عن ذلك البيهقي. (1) أخرجه البخاري (2/457) ، ومسلم (2/59) ، والبيهقي (2/270) ، وأحمد (4/48) عن المكي بن إبراهيم قال: ثنا يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع، فيصلي عند الأسطوانة التي عند الصحن، فقلت: يا أبا مسلم! أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟! قال: فإني رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحرى الصلاة عندها. والسياق للبخاري، وترجم له: (باب الصلاة إلى الأسطوانة) . وهو من ثلاثيات البخاري، وكذا أحمد. قال الحافظ: " والأسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها متوسطة في الروضة المكرمة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين ". قال: " ثم وجدت ذلك في " تاريخ المدينة " لابن النجار ... ، وذكره قبله محمد بن الحسن في (أخبار المدينة) ". {قلت: والسترة لا بد منها للإمام والمنفرد؛ ولو في المسجد الكبير. قال ابن هانئ في " مسائله عن الإمام أحمد " (1/66) : " رآني أبو عبد الله (يعني: الإمام أحمد) يوماً وأنا أصلي، وليس بين يدي سترة - وكنت معه في المسجد الجامع -؛ فقال لي: استتر بشيء. فاستترت برجل ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 و " كان إذا صلى [في فضاء ليس فيه شيء يستتر به] ؛ غرز بين يديه حَرْبَةً، فصلى إليها والناس وراءه " (1) .   قلت: ففيه إشارة من الإمام إلى أنه لا فرق في اتخاذ السترة بين المسجد الصغير والكبير، وهو الحق. وهذا مما أخل به جماهير المصلين من أئمة المساجد وغيرهم في كل البلاد التي طفتها؛ ومنها السعودية التي أتيحت لي فرصة التطواف فيها لأول مرة في رجب هذه السنة (1410 هـ) . فعلى العلماء أن ينبهوا الناس إليها، ويحثُّوهم عليها، ويبيِّنوا لهم أحكامها، وأنها تشمل الحرمين الشريفين أيضاً} . (1) أخرجه البخاري (2/454) ، ومسلم (2/55) ، وأبو داود (1/109) ، والبيهقي (2/269) ، وأحمد (2/142) عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا خرج يوم العيد؛ أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه. وكان يفعل ذلك في السفر. فمن ثَمَّ اتخذها الأمراء. وروى ابن ماجه (1/301) منه نَصْبَهَا في السفر. ثم أخرجه (1/392) بتمامه، ورواه النسائي (1/232) ، وأحمد (2/145 و 151) بلفظ: كان يخرج معه يوم الفطر بعنَزة، فيركُزُها بين يديه، فيصلي إليها. وسنده صحيح على شرطهما. زاد ابن ماجه من طرق أخرى: وذلك أن المصلَّى كان فضاء، وليس فيه شيءٌ يستتر به. وسنده صحيح أيضاً على شرطهما. وكذلك أخرجه ابن خزيمة والإسماعيلي - كما في " الفتح " -. وفي الباب عن أنس: عند ابن ماجه بإسناد صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وأحياناً " كان يَعْرِضُ (1) راحلته، فيصلي إليها " (2) . {وهذا خلاف الصلاة في أعطان الإبل (3) ؛ فإنه " نهى عنها " (4) } .   وعن أبي جحيفة: في " الصحيحين "، ومضى، ويأتي في (اللباس في الصلاة) . (1) قوله: (يَعْرِضُ) ؛ هو بفتح الياء وكسر الراء، وروي بضم الياء وتشديد الراء، ومعناه: يجعلها معترضة بينه وبين القبلة. ففيه دليل على جواز الصلاة إلى الحيوان، وجواز الصلاة بقرب البعير، بخلاف الصلاة في أعطان الإبل، فإنها مكروهة؛ للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك. كذا في " شرح مسلم " للنووي. (2) أخرجه البخاري (459) ، والبيهقي (2/269) ، وأحمد (2/129) عن نافع عن ابن عمر أيضاً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يعرضُ راحلته فيصلي إليها. قلت: أَفَرَأَيْت إذا هَبَّت الركاب؟ قال: كان يأخذ هذا الرَّحْل فيعَدِّلُه، فيصلي إلى آخِرتِه - أو قال: مُؤَخَّرِهِ -. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعله. واللفظ للبخاري. ورواه مسلم (2/55) دون قوله: قلت ... إلخ. وهو رواية لأحمد (2/3 و 141) . ورواه أبو داود (1/110) ، والترمذي (2/183) ، والدارمي (1/328) بلفظ: كان يصلي إلى بعيره. وهو رواية لمسلم، وكذا أحمد (2/26) ، {وابن خزيمة (1/92/2) = [2/10/802] } . (3) {أي: مبَارِكها} . (4) {رواه البخاري، وأحمد} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وأحياناً " كان يأخذ الرَّحْلَ، فيعدله، فيصلي إلى آخرته " (*) ، وكان يقول: " إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مُؤْخِرَة (1) الرحل؛ فليصلِّ، ولا يبالي مَن مَرَّ وراء ذلك " (2) .   (*) سبق تخريجه قبل حديث. (1) " بضم الميم وكسر الخاء وهمزة ساكنة. ويقال: بفتح الخاء مع فتح الهمزة وتشديد الخاء، ومع إسكان الهمزة وتخفيف الخاء. ويقال: آخرة الرحل؛ بهمزة ممدودة وكسر الخاء. فهذه أربع لغات؛ وهي: العود الذي في آخر الرحل. وفي هذا الحديث الندب إلى السترة بين يدي المصلي، وبيان أن أقل السترة مؤخرة الرحل، وهي قدر عظم الذراع، وهو نحو ثلثي ذراع ... واستدل القاضي عياض رحمه الله تعالى بهذا الحديث على أن الخط بين يدي المصلي لا يكفي؛ قال: وإن كان قد جاء به حديث، وأخذ به أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى؛ فهو ضعيف ". ذكره النووي في " شرح مسلم ". ثم قال: " وحديث الخط رواه أبو داود، وفيه ضعف واضطراب ". قلت: وهو كما قال النووي رحمه الله، وقد بينا ضعفه مفصلاً فيما انتقدناه على كتاب " التاج " رقم (99) . فليراجع هناك. وذكرنا شيئاً من ذلك في " التعليقات الجياد " (1/83) . (2) أخرجه مسلم (2/54) ، وأبو داود (1/109) ، والترمذي (2/156 - 158) وصححه، وابن ماجه (1/301) ، والبيهقي (2/269) ، وأحمد (1/161 - 162) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه مرفوعاً به. وله شاهد من حديث عائشة: أن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي؟ فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 و " صلى - مرة - إلى شجرة " (1) . و" كان أحياناً يصلي إلى السرير، وعائشة رضي الله عنها مضطجعة عليه [تحت قطيفتها] (*) " (2) .   " كمؤخرة الرحل ". أخرجه مسلم أيضاً، وكذا البيهقي، والنسائي (1/122) . (1) أخرجه الإمام أحمد (1/138) قال: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت حارثة بن مُضرِّب يحدث عن علي رضي الله عنه قال: لقد رأيتُنا ليلة بدر وما منا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنه كان يصلي إلى شجرة، ويدعو حتى أصبح. وهذا إسناد صحيح. رجاله رجال الشيخين. إلا حارثة بن مضرِّب - بتشديد الراء المكسورة قبلها معجمة -، وهو ثقة - كما في " التقريب " -، وقال في " الفتح " (2/460) : " رواه النسائي بإسناد حسن ". قلت: ولعله في " الكبرى " للنسائي. ثم أخرجه أحمد (1/125) قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة به بلفظ: تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. ولا مخالفة بين الروايتين؛ فإن من صلى إلى شجرة؛ فقد صلى تحتها. (*) زيادة من " صفة الصلاة " المطبوع. (2) أخرجه البخاري (1/460 و 465 و 466 - 467) ، ومسلم (2/60) ، والطحاوي (1/267) ، {وأبو يعلى (3/1107 - مصورة المكتب الإسلامي) = [4/94/4474 - الكتب العلمية] } ، والبيهقي (2/276) ، وأحمد (6/42 و 230 و 266) من طريق الأسود ومسروق عن عائشة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ..............................................................................   ذُكِرَ عندها ما يقطع الصلاة: الكلب والحمار والمرأة، فقالت عائشة: قد شبهتمونا بالحمير والكلاب، والله! لقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذيَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَأَنْسَلُّ من عند رجليه. وفي رواية: فَأَنْسَلُّ من قبل رِجْلَيِ السرير حتى أَنْسَلَّ من لحافي. زاد أحمد والبيهقي: كراهية أن أستقبله بوجهي. وهي عند البخاري، دون قوله: بوجهي. وهو رواية لأحمد. وله عنده (6/200) طريق ثالث عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء عن عروة بن الزبير أخبره: أن عائشة أخبرته قالت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، وأنا معترضة على السرير بينه وبين القبلة. قلت: أبينهما جُدُرُ المسجدِ؟ قالت: لا؛ في البيت إلى جُدُرِه. وسنده صحيح على شرط الستة. قال النووي في " شرح مسلم ": " استدلت به عائشة رضي الله عنها والعلماء بعدها على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل، وفيه جواز صلاته إليها، وكره العلماء أو جماعة منهم الصلاة إليها لغير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لخوف الفتنة بها، وتذكّرها، واشتغال القلب بها بالنظر إليها. وأما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فمنزّه عن هذا كله في صلاته، مع أنه كان في الليل، والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح ". اهـ. قلت: وقضية المصابيح هي من حديث لعائشة. سيأتي في فصل خاص قبل (الركوع) . وأما الاستدلال بحديثها هذا على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل مطلقاً؛ ففيه نظر؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدعَ شيئاً يمر بينه وبين السترة؛ فقد " كان مرة يصلي؛ إذ جاءت شاة تسعى بين يديه، فَسَاعَاهَا (1) حتى ألزق بطنه بالحائط، [ومرت من ورائه] " (2) .   لأن الأحاديث الواردة بقطع الصلاة بالأشياء المذكورة في هذا الحديث إنما المراد مرورها أمام المصلي - كما يأتي قريباً -، وحديث عائشة ليس فيه أنها كانت تمر بين يديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يكون معارضاً لتلك الأحاديث؛ بل في رواية للنسائي - على ما في " الفتح " (1/467) - من طريق شعبة عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عنها في هذا الحديث: ... فأكره أن أقوم فأمر بين يديه؛ فأنسل انسلالاً. قال الحافظ: " فالظاهر أن عائشة إنما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات، لا المرور بخصوصه ". اهـ. فثبت أن لا تعارض بين حديث عائشة وبين الأحاديث المشار إليها. ويأتي تخريجها قريباً إن شاء الله تعالى. (1) أي: سابقها. وهي مفاعلة من السعي. (2) أخرجه الطبراني في " الكبير " {3/140/3} عن عمرو بن حَكَّام، والحاكم في " المستدرك " (1/254) عن موسى بن إسماعيل، وابن خزيمة (1/95/1) = [2/20/827] عن الهيثم بن جميل؛ ثلاثتهم عن جرير بن حازم عن يعلى بن حكيم والزبير بن الخِرِّيتِ عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي ... فذكره. واللفظ للطبراني. وقال الحاكم: " صحيح على شرط البخاري ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وله طريق أخرى؛ أخرجه البيهقي (2/268) عن يحيى بن أبي بكير: ثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن صهيب البصري عن ابن عباس به نحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 و " صلى صلاة مكتوبة، فضم يده، فلما صلى؛ قالوا: يا رسول الله! أَحَدَثَ في الصلاة شيء؟ قال: " لا؛ إلا أن الشيطان أراد أن يمر بين يدي، فَخَنَقْتُه، حتى وجدت بَرْدَ لسانه على يدي. وايم الله! لولا ما سبقني إليه أخي سليمان؛ لارْتُبِطَ إلى سارية من سواري المسجد، حتى يَطِيْفَ به وِلْدَانُ أهل المدينة (1) ، [فمن استطاع أن لا   وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وقد أخرجه أبو داود (1/113) ، وأحمد (1/113، 291) من طرق عن شعبة به، بدون ذكر صهيب البصري في إسناده. وله طريق ثالث؛ أخرجه ابن ماجه (1/304) ، وأحمد أيضاً (1/247) عن يحيى أبي المُعَلَّى العطار عن الحسن العُرَني قال: ذكر عند ابن عباس ما يقطع الصلاة؛ فذكروا الكلب، والحمار، والمرأة. فقال: ما تقولون في الجَدْيِ؟ إن رسول الله كان يصلي ... الحديث نحوه. ورجاله ثقات. إلا أنه منقطع بين الحسن بن عبد الله العُرَني وابن عباس - كما أفاده الإمام أحمد وغيره -. وأما الزيادة؛ فهي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وسنده حسن. وسيأتي لفظه وتخريجه في مكان آخر قبيل (الركوع) إن شاء الله تعالى. (1) قال النووي في " شرح مسلم ": " فيه دليل على أن الجن موجودون، وأنهم قد يراهم بعض الآدميين. وأما قول الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيْلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} ؛ فمحمول على الغالب، فلو كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 يحول بينه وبين القبلة أحد؛ فليفعل] " " (1) .   رؤيتهم محالاً؛ لما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال من رؤيته إياه، ومن أنه كان يربطه؛ لينظروا كلهم إليه، ويلعب به وِلْداَنُ أهل المدينة. قال القاضي: وقيل: إن رؤيتهم على خلقهم وصورهم الأصلية ممتنعة؛ لظاهر الآية، إلا للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن خُرِقَتْ له العادة، وإنما يراهم بنو آدم في صور غير صورهم؛ كما جاء في الآثار. قلت: هذه دعوى مجردة؛ فإن لم يصح لها مستند؛ فهي مردودة ". اهـ. كلام النووي. {وهو من الأحاديث الكثيرة التي يكفر بها طائفة القاديانية؛ فإنهم لا يؤمنون بعالم الجن المذكور في القرآن والسنة، وطريقتهم في رد النصوص معروفة، فإن كانت من القرآن؛ حرفوا معانيها؛ كقوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ} . قالوا: " أي: من الإنس "! فيجعلون لفظة: " الجن " مرادفة للفظة: " الإنس "؛ كـ " البشر "! فخرجوا بذلك عن اللغة والشرع، وإن كانت من السنة؛ فإن أمكنهم تحريفها بالتأويل الباطل؛ فعلوا، وإلا؛ فما أسهل حكمهم ببطلانها؛ ولو أجمع أئمة الحديث كلهم والأمة من ورائهم على صحتها؛ بل تواترها! هداهم الله} . (1) أخرجه الدارقطني (140) ، وأحمد (5/104 - 105) ، والطبراني في " الكبير" من طرق عن سِمَاك بن حرب سمع جابر بن سمرة يقول: صلينا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة مكتوبة ... الحديث. واللفظ للدارقطني. وإسناده صحيح على شرط مسلم. والزيادة المذكورة لأحمد بسند حسن عن أبي سعيد الخدري. وفي الباب عن جمع من الصحابة سيأتي الإشارة إلى أحاديثهم في المكان المزبور آنفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه؛ فليدفع في نحره، [وليدرأ ما استطاع] { (وفي رواية: فليمنعه، مرتين) } ، فإن أبى؛ فليقاتله (1) ؛ فإنما هو شيطان " (2) .   (1) قال السيوطي في " تنوير الحوالك ": " هو عندنا على حقيقته، وهو أمر ندب، وقال ابن العربي: المراد بالمقاتلة: المدافعة. وعند الإسماعيلي: " فإن أبى؛ فليجعل يده في صدره، وليدفعه ". (فإنما هو شيطان) ؛ أي: فعله فعل الشيطان، أو المراد شيطان من الإنس، وفي رواية الإسماعيلي: " فإن معه الشيطان " ". قلت: ويشهد لهذه الرواية رواية ابن عمر المذكورة آنفاً، وهي تؤيد قول من قال: المعنى: فإنما الحامل له على ذلك الشيطان. والله أعلم. (2) أخرجه البخاري (1/461 - 463 و 6/259) ، ومسلم (2/57 - 58) ، وأبو داود (1/111) ، والنسائي (1/123) ، والدارمي (1/328) عن مالك - وهو في " الموطأ " (1/170) -، والطحاوي (1/266) ، {وابن خزيمة (1/94/1) = [2/15 و 16/817 و 818] } ، والبيهقي (2/267) ، وأحمد (3/34 و 43 و 49 و 57 و 63 و 93) من طريق أبي صالح السمان وعبد الرحمن ابن أبي سعيد الخدري؛ كلاهما عن أبي سعيد مرفوعاً به. واللفظ لمسلم من رواية أبي صالح، والزيادة لابن أبي سعيد، {والرواية الأخرى لابن خزيمة} . وله طريق ثالثة عند أبي داود، وأحمد (3/82 - 83) عن أبي أحمد الزبيري: ثنا مَسَرَّة بن معبد: ثني أبو عبيد صاحب (*) سليمان قال:   (*) كذا الأصل؛ تبعاً لـ " المسند "، والصواب: (حاجب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ..............................................................................   رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائماً يصلي معتماً بعمامة سوداء، مُرْخٍ طرفها من خلف، مصفِّراً اللحية، فذهبت أمرُّ بين يديه، فردني. ثم قال: ثني أبو سعيد الخدري: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ، فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته؛ قال: " لو رأيتموني وإبليس، فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه؛ حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين - الإبهام والتي تليها -، ولولا دعوة أخي سليمان؛ لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد؛ فليفعل ". وهذا إسناد حسن. رجاله رجال مسلم، غير مَسرَّة بن معبد؛ قال في " التقريب ": " صدوق له أوهام ". والحديث أخرجه ابن ماجه (1/304) ، وكذا أبو داود، والبيهقي من طريق ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه مرفوعاً بلفظ: " إذا صلى أحدكم؛ فليصلِّ إلى سترة، وليدن منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن جاء أحد يمر؛ فليقاتله، فإنه شيطان ". وابن عجلان: فيه مقال. وله شاهد من حديث ابن عمر بلفظ: " إذا كان أحدكم يصلي؛ فلا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى؛ فليقاتله، فإن معه القرين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي (1) ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين (2)   أخرجه مسلم، وابن ماجه، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد (2/86) ، وعزاه المنذري (1/194) لابن ماجه بإسناد صحيح، وابن خزيمة في " صحيحه "؛ فقصَّر. (1) أي: أمامه بالقرب منه. واختلف في ضبط ذلك؛ فقيل: إذا مر بينه وبين مقدار سجوده. وقيل: بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع. وقيل: بينه وبينه قدر رمية بحجر. ووقع عند السراج من طريق الضحاك بن عثمان عن أبي النضر: " بين يدي المصلي والمصلى "؛ أي: السترة. كذا في " تنوير الحوالك "، و " الفتح " (2/463 و 465) . (2) هكذا الرواية بالإبهام. وقال الراوي أبو النضر: لا أدري قال: أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة. وهذا يدل على أن في أصل الحديث تعيين المعدود، ولكن الراوي هو الذي شك. ووقع في " مسند البزار " من طريق سفيان بن عيينة عن أبي النضر: " أربعين خريفاً ". قال المنذري - وتبعه الهيثمي (2/61) -: " ورجاله رجال " الصحيح " ". قلت: لكنه معلول. فقد أخرجه ابن ماجه، وكذا أحمد، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور وغيرهم من الحفاظ عن ابن عيينة عن أبي النضر على الشك أيضاً. وزاد فيه: أو ساعة. قال الحافظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 خيراً له من أن يمر بين يديه (1) " (2) .   " فيبعد أن يكون الجزم والشك وقعا معاً من راوٍ واحدٍ في حالة واحدة، إلا أن يقال: لعله تذكر في الحال؛ فجزم. وفيه ما فيه ". اهـ. وفي حديث أبي هريرة الآتي قريباً تعيين العدد بمئة عام. ولكنه ضعيف - كما علمت -. (1) قال النووي في " شرح مسلم ": " معناه: لو يعلم ما عليه من الإثم؛ لاختار الوقوف أربعين على ارتكاب ذلك الإثم. ومعنى الحديث: النهي الأكيد، والوعيد الشديد في ذلك ". وقال في " المجموع " (3/249) : " إذا صلى إلى سترة؛ حَرُمَ على غيره المرور بينه وبين السترة، ولا يحرم وراء السترة. وقال الغزالي: يكره، ولا يحرم. والصحيح؛ بل الصواب أنه حرام. وبه قطع البغوي والمحققون، واحتجوا بهذا الحديث ". وقال الحافظ - بعد أن ذكر كلامه في " مسلم " -: " ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر ". (2) أخرجه البخاري (2/463 - 464) ، ومسلم (2/58) ، ومالك (1/170) ، وعنه الإمام محمد (148) ، وكذا أبو داود (1/111) ، والنسائي (1/123) ، والترمذي (2/158) ، والدارمي (1/329) ، والطحاوي في " مشكل الآثار " (1/18) ، والبيهقي (2/268) ، وأحمد (4/169) ؛ كلهم عن مالك. وابن ماجه (1/302) ، ومسلم أيضاً، والطحاوي عن سفيان الثوري؛ كلاهما عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن بُسر بن سعيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ..............................................................................   أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جُهَيْم يسأله: ماذا سمع من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المار بين يدي المصلي؟ فقال أبو جُهيم: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فذكره. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح، وللعمل عليه عند أهل العلم؛ كرهوا المرور بين يدي المصلي، ولم يروا أن ذلك يقطع صلاة الرجل ". وللحديث شاهد من رواية أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدي أخيه معترضاً (زاد في رواية: وهو يناجي ربه) ؛ كان لأن يقوم مئة عام خير له من الخطوة التي خطاها ". أخرجه ابن ماجه، والطحاوي، وأحمد (2/371) من طريق عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب عن عمه عنه. وهذا إسناد ضعيف؛ عبيد الله هذا: مختلف فيه؛ فوثقه ابن معين في رواية، وضعفه في أخرى. وفي " التقريب ": " ليس بالقوي ". وعمه - اسمه: عبيد الله بن عبد الله بن موهب؛ فهو -: مجهول عند الشافعي، وأحمد وغيرهما. وفي " التقريب ": " مقبول ". وأما ابن حبان؛ فوثقه على قاعدته! وقد أخرج الحديث هو وشيخه ابن خزيمة في " صحيحيهما "؛ كما في " الترغيب " (1/194) ، وصَحَّحَ إسناد ابن ماجه. وقد علمت ما فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ما يَقْطَعُ الصَّلاةَ وكان يقول: " يقطع صلاةَ الرجل إذا لم يكن بين يديه كآخرة الرحل: المرأةُ [الحائض] (1) ، والحمار، والكلب الأسود ". قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله! ما بالُ الأسود من الأحمر؟ فقال: " الكلب الأسود شيطان " (2) .   (1) قال السندي رحمه الله تعالى: " يحتمل أن المراد: ما بلغت سن المحيض؛ أي: البالغة، وعلى هذا فالصغيرة لا تقطع. والله تعالى أعلم ". اهـ. (1) أخرجه مسلم (2/59) ، وأبو داود (1/112) ، والنسائي (1/122) ، والترمذي (2/161) ، والدارمي (1/329) ، وابن ماجه (1/303) ، والطحاوي (1/265) ، {وابن خزيمة (1/95/2) = [2/20 - 21/830] } ، والطبراني في " الصغير " (ص 38 و 103 و239) ، وأبو نعيم في " الحلية " (6/132) ، والطيالسي (ص 71) ، وأحمد (5/149 و151 و 155 و 160 و 161) ، والبيهقي أيضاً (2/274) من طرق عن حُميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فذكره. واللفظ لشعبة عن حميد، وزاد: قلت: ما بال الكلب الأسود؟ قال: ابنَ أخي! سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما سألتني؟ فقال: " الكلب الأسود شيطان " (*) .   (*) وانظر تحقيقاً حديثياً وفقهياً رائعاً ماتعاً حول هذا الحديث في " السلسلة الصحيحة " (3323) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ..............................................................................   وأما الزيادة؛ فهي عند أحمد (5/164) من طريق أخرى عن علي بن زيد بن جُدعان عن عبد الله بن الصامت بلفظ: أحسبه قال: " والمرأة الحائض ". وابن جدعان: فيه ضعف. لكن له شاهد من حديث ابن عباس مرفوعاً: " يقطع الصلاة الكلب الأسود، والمرأة الحائض ". أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد (1/347) من طريق شعبة: ثنا قتادة قال: سمعت جابر بن زيد يحدث عن ابن عباس ... رفعه. وهذا سند صحيح على شرط الشيخين، وصححه النووي (3/250) . وقد رواه غير شعبة عن قتادة موقوفاً على ابن عباس، ولا يضر ذلك؛ فإن شعبة ثقة ثبت حافظ. وله طريق آخر عند أبي داود، والطحاوي، والبيهقي من وجوه عن معاذ بن هشام: ثنا أبي عن يحيى عن عكرمة عن ابن عباس - قال: أحسبه أسند ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والمرأة الحائض، واليهودي، والنصراني، والمجوسي، والخنزير بحجر ". قال: " ويكفيك إذا كانوا منك على قدر رمية بحجر؛ لم يقطعوا صلاتك ". وإسناده صحيح على شرط البخاري. لكنه مشكوك في رفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ترى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ..............................................................................   ثم ظهر لي فيه علة؛ وهي عنعنة يحيى - وهو: ابن [أبي] كثير -؛ فإنه مدلس. وفي الباب أحاديث أخرى: فمنها: عن أبي هريرة مرفوعاً: " يقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب ". أخرجه مسلم، وابن ماجه، والبيهقي، وأحمد (2/299 و 425) من طريقين عنه. وزاد مسلم: " ويقي ذلك مثلُ مُؤْخِرَة الرحل ". ومنها: عن عبد الله بن مُغَفَّل مرفوعاً مثله دون الزيادة. رواه ابن ماجه، والطحاوي، وأحمد (5/57) من طرق عن سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة عن الحسن عنه. وهذا إسناد رجاله رجال الشيخين. وعن أنس مثله. أخرجه الخطيب في " تاريخه " (7/49) ، وكذا البزار. قال الهيثمي (2/60) : " ورجاله رجال " الصحيح " ". وعن الحكم بن عمرو الغفاري. رواه الطبراني في " الكبير ". ورجاله ثقات، غير عمر بن رُدَيح؛ ضعفه أبو حاتم، ووثقه ابن معين وابن حبان. قلت: فهو إسناد حسن. وعن عائشة بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ..............................................................................   " لا يقطع صلاةَ المسلم شيءٌ؛ إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة ". فقالت عائشة: يا رسول الله! لقد قُرِنَّا بدوابِّ سوء! أخرجه أحمد (6/84 - 85) : ثنا أبو المغيرة قال: ثنا صفوان قال: ثنا راشد بن سعد عنها به. وهذا رجاله رجال مسلم؛ غير راشد هذا، وهو ثقة كثير الإرسال - كما في " التقريب " -. فإن كان سمعه من عائشة؛ فالإسناد صحيح، وإلا؛ فمنقطع ضعيف. وفي هذه الأحاديث دلالة على أن الكلب، والمرأة، والحمار يقطع الصلاة. والمراد بالقطع: البطلان. قال الشوكاني (3/9) : " وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة؛ منهم: أبو هريرة، وأنس، وابن عباس في رواية عنه، وحكي أيضاً عن أبي ذر، وابن عمر. وجاء عن ابن عمر أنه قال به في الكلب. وقال به الحكم بن عمرو الغفاري في الحمار. وممن قال من التابعين بقطع الثلاثة المذكورة: الحسن البصري، وأبو الأحوص صاحب ابن مسعود. ومن الأئمة: أحمد بن حنبل - فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري في " المحلى " (4/11) -، وحكى الترمذي عنه أنه يخصص بالكلب الأسود، وُيتوقف في الحمار والمرأة ". قلت: في المسألة عن الإمام أحمد روايتان؛ اتفقتا كلتاهما على أن الكلب الأسود يقطع الصلاة، واختلفتا في المرأة والحمار؛ فجزم في رواية بعدم القطع بهما، وتردد في الأخرى. أما الأولى: فهي رواية ابنه عبد الله في " مسائله " قال: " سألت أبي: ما يقطع الصلاة؟ قال: الكلب الأسود. قال: أنس يروي أنه يقطع الصلاة الكلب، والمرأة، والحمار؟ قال: أما المرأة؛ فأذهب إلى حديث عائشة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ..............................................................................   كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، وأنا معترضة بين يديه. وإلى حديث ابن عباس: مررت بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا على أتان. فقلت لأبي: إذا مر الكلب الأسود بين يدي المصلي يقطعُ صلاته؟ قال: نعم. قلت له: يعيد؟ قال: نعم؛ إن كان أسود ". وأما الرواية الأخرى: فهي رواية إسحاق بن منصور المروزي في " مسائله " عن أحمد وإسحاق. قال: " قلت - يعني: لأحمد -: ما يقطع الصلاة؟ قال: ما يقطعها إلا الكلب الأسود الذي لا أشك فيه، وفي قلبي من (الحمار والمرأة) شيء. قال إسحاق: لا يقطع إلا الكلب الأسود. قال أحمد: ومن الناس من يقول: إن قول عائشة حيث قالت: كنت أنام بين يدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ليس بحجة على هذا الحديث - يعني: من قال: يقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب -؛ لأن النائم غير المارِّ. وقول ابن عباس في الحمار حيث مر بين يدي بعض الصف؛ ليس بحجة؛ لأن سترة الإمام سترةُ مَن خلفه ". اهـ. قلت: وحديث ابن عباس المشار إليه أخرجه الأئمة الستة وغيرهم عنه بلفظ: أقبلت راكباً على أتانٍ، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار (*) ، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر ذلك عليَّ أحد. والحديث - كما قال أحمد - لا حجة فيه؛ لأن الأتان لم تمرَّ بين يديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال ابن عبد البر - كما في " الفتح " (1/454) -:   (*) أعل الشيخ رحمه الله تعالى قوله: " إلى غير جدار " بالشذوذ في " الضعيفة " (5814) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ..............................................................................   " حديث ابن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد: " إذا كان أحدكم يصلي؛ فلا يدع أحداً يمر بين يديه ". فان ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد، وأما المأموم؛ فلا يضره من مر بين يديه؛ لحديث ابن عباس هذا ". قال: " وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء ". اهـ. وأما حديث الفضل بن عباس قال: زار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبَّاسَاً في بادية لنا، ولنا كُلَيْبَةٌ، وحمارة ترعى، فصلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العصر، وهما بين يديه؛ فلم يُزْجَرا ولم يُؤَخَّرا. فهو حديث ضعيف. رواه أبو داود (1/114) ، والنسائي (1/123) ، والطحاوي (1/266) ، والدارقطني (141) ، والبيهقي (2/278) ، وأحمد (1/211 - 212) من طريق محمد بن عمر بن علي عن عباس بن عبيد الله بن عباس عنه به. واللفظ للنسائي. وزاد أبو داود وأحمد في رواية: ليس بين يديه سترة. وعلة الحديث الانقطاع والجهالة؛ فقال ابن حزم في " المحلى " (4/13) : " وهذا باطل؛ لأن العباس بن عبيد الله لم يدرك عمه الفضل ". قال الحافظ في " التهذيب ": " وهو كما قال ابن حزم. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله. بئس العباس هذا ". وفي " التقريب ": " مقبول ". اهـ. ومما تقدم تعلم أن قول النووي (3/251) والحافظ أبي زرعة ابن الحافظ العراقي في " شرح التقريب " (2/389) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ..............................................................................   " إسناده حسن "؛ غير حسن. مع أنه ذكر كلام ابن حزم، ونقل عن الخطابي أنه قال: " في إسناده مقال ". ولم يتعقبهما بشيء. وقد قال السندي: " ولا دلالة في الحديث على المرور بين المصلي والسترة، ولا على أن الكلبة كانت سوداء، وكذا في دلالة الأحاديث اللاحقة على أن المرور لا يقطع بحثٌ؛ فهذه الأحاديث لا تعارض حديث القطع أصلاً ". قلت: وأول كلامه - بناءً على رواية النسائي - صحيح، وأما على زيادة أبي داود: ليس بين يديه سترة. فغير صحيح؛ فالجواب القاطع: إن الحديث ضعيف لا يحتج به. وكفى. وأشار بقوله: " الأحاديث اللاحقة ". إلى ما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس: أنه مر بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وغلام من بني هاشم على حمار بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي، فنزلوا ودخلوا معه، فصلوا، ولم ينصرف. وإسناده صحيح. ولكن لا دلالة فيه - كما قال السندي -؛ لأنه ليس فيه على أن المرور كان بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين السترة. وأما حديث عائشة الذي مرت الإشارة إليه في كلام أحمد؛ فقد أجاب هو نفسه عنه، وتقدم منا الجواب عنه مفصلاً عما قريب. ومن أراد زيادة تفصيل؛ فليراجع " فتح الباري " (1/467 - 468) ، و " شرح التقريب " (2/393 و 396) . ومما احتج به من قال: إن المرأة لا تقطع الصلاة؛ حديثُ أم سلمة قالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ..............................................................................   كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في حجرة أم سلمة؛ فمر بين يديه عبد الله - أو: عمرو بن أبي سلمة -، فقال بيده؛ فرجع، فمرت زينب بنت أم سلمة، فقال بيده هكذا؛ فمضت، فلما صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: " هن أغلب ". أخرجه ابن ماجه (1/302) ، وأحمد (6/294) ، وابن أبي شيبة أيضاً من طريق أسامة بن زيد عن محمد بن قيس عن أمه عنها. وقال ابن ماجه: (عن أبيه عنها) . قال في " الزوائد ": " في إسناده ضعف. ووقع في بعض النسخ: (عن أمه) .. بدل: (عن أبيه) ، وكلاهما لا يعرف ". اهـ. وقد ضَعَّفَ الحديثَ أيضاً ابنُ القطان، وقد ذكر كلامه الزيلعي (2/85) في " نصب الراية ". فليس الحديث بحجة، على أنه لو صح؛ لما دل على المطلوب.. لما عرفت من الجواب عن حديث ابن عباس الأخير. ولو سُلِّم أن المرور كان بينه وبين السترة؛ فالجواب كما قال السندي: " إن الذي يقطع الصلاة مرور البالغة؛ لأنها المتبادرة من اسم المرأة، ويدل عليه رواية: " المرأة الحائض ". - كما تقدم - ". اهـ. واحتجوا أيضاً بحديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: " لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم؛ فإنما هو شيطان ". أخرجه أبو داود (1/114) ، والدارقطني (141) ، والبيهقي (2/278) من طريق أبي أسامة: ثنا مجالد عن أبي الوَدَّاك عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ..............................................................................   وهذا سند ضعيف (1) ؛ فإن مجالداً هذا - هو: ابن سعيد -: ضعفه الجمهور، وقد اختلط أخيراً، وهذا من رواية أبي أسامة عنه، وهو ممن سمع منه بعد الاختلاط - كما قال أبو زرعة في " شرح التقريب " (2/389) -. وقال الحافظ في " التقريب ": " ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره ". وقال في شيخه أبي الوَدَّاك - واسمه: جبر ابن نوف -: " صدوق يهم ". قلت: وقد رواه عبد الواحد بن زياد عن مجالد به موقوفاً على أبي سعيد. ولعله الصواب. كذلك أخرجه أبو داود، والبيهقي أيضاً. والحديث ضعفه النووي في " شرح مسلم "، والحافظ في " الفتح " (1/466) ، وقال: " ويرد من حديث ابن عمر وأنس وأبي أمامة عند الدارقطني، ومن حديث جابر عند الطبراني في " الأوسط "، وفي إسناد كل منها ضعف ". قلت: وروي عن أبي هريرة أيضاً عند الدارقطني، وفيه إسماعيل بن عياش عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة. وإسماعيل ضعيف. وشيخه متروك - كما في " التقريب " -. وبالجملة؛ فالأحاديث المعارضة لأحاديث القطع بالأشياء الثلاثة بعضها صحيح؛ كحديث عائشة، وحديث ابن عباس في بعض ألفاظه، وهي عند التأمل فيها بإنصاف غير معارضة لتلك.   (1) {كما حققته في " تمام المنة " (ص 306) وغيره} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ..............................................................................   والبعض الآخر صحيح المعارضة، ولكنها غير صحيحة الإسناد؛ فحينئذٍ لا يجوز المعارضة بها. وقال ابن القيم في " الزاد " (1/111) : " ومعارض هذه الأحاديث قسمان: صحيح غير صريح، وصريح غير صحيح؛ فلا تُترك لمعارض هذا شأنه، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وعائشة رضي الله عنها نائمة في قِبلته، وكأن ذلك ليس كالمار؛ فإن الرجل مُحَرَّمٌ عليه المرور بين يدي المصلي، ولا يكره له أن يكون لابثاً بين يديه، وهكذا المرأة؛ يقطع مرورها الصلاة دون لُبْثِها. والله أعلم ". وأما دعوى بعضهم نسخ تلك الأحاديث؛ فشيء لا برهان عليه، وقد أنكرها كثير من العلماء، حتى من الذين لم يذهبوا إلى ظاهرها؛ كالنووي، وابن حجر وغيرهما. قال في " المجموع " (3/251) : " وأما ما يدعيه أصحابنا وغيرهم من النسخ؛ فليس بمقبول؛ إذ لا دليل عليه، ولا يلزم من كون حديث ابن عباس في حجة الوداع - وهي آخر الأمر - أن يكون ناسخاً؛ إذ يمكن كون أحاديث القطع بعده، وقد علم وتقرر في الأصول أن مثل هذا لا يكون ناسخاً، مع أنه لو احتمل النسخ؛ لكان الجمع بين الأحاديث مقدماً عليه، إذ ليس فيه رد شيء منها، وهذه أيضاً قاعدة معروفة ". قلت: والجمع فرع التعارض، وقد أثبتنا أنه لا تعارض؛ فيبقى العمل بالأحاديث على ظاهرها، على أن ما جمعوا به غير معقول؛ وذلك أنهم قالوا: إن المراد بالقطعِ القطعُ عن الخشوع والذكر؛ للشغل بها، والالتفات إليها، لا أنها تفسد الصلاة. قلت: إنه غير معقول؛ لأنه يؤدي إلى إبطال منطوق الحديث؛ لأنه حصر القطع بالثلاثة المذكورة فيه، وملاحظة المعنى الذي ذكروه يؤدي إلى أن الحصر غير مراد؛ وذلك لأنه لا فرق في الإشغال عن الخشوع بين الرجل المارِّ والمرأة، بل ما الفرق بين المرأة الحائض وغير الحائض على هذا الجمع؟ وكذا لا فرق بين مرور الحمار، والفرس، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الصلاةُ تجاه القبر وكان ينهى عن الصلاة تجاه القبر ؛ فيقول: " لا تجلسوا (1) .......................................   الجمل، ولا بين مرور الكلب الأسود، والكلب الأحمر أو غيره، وقد فَرَّقَ الشارع بينهما نصّاً؛ فكل جمعٍ يؤدي إلى إبطال وإلغاء ما قيده الشارع فهو غير مقبول، وهو على صاحبه مردود؛ فالحق ما ذهب إليه مَنْ ذكرنا في أول البحث من بطلان الصلاة بمرور المرأة الحائض، والحمار، والكلب الأسود. وأما الكافر، والمجوسي، والخنزير، واليهودي، والنصراني؛ فالقول بذلك متوقف على ثبوت ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد علمت - مما سبق - أن حديث الكافر منقطع، وحديث الخنزير وغيره مشكوك في رفعه؛ فلا حجة في ذلك حتى يتصل سنده، ويرفع يقيناً متنه. (1) فيه دلالة على تحريم القعود على القبور؛ لأنه الأصل في النهي، وهو مذهب الجمهور فيما حكاه الصنعاني في " سبل السلام " (2/157) ، والشوكاني في " النيل " (4/75) ، والصواب أن مذهبهم الكراهة - كما نقله النووي في " المجموع " (5/312) عنهم، وابن الجوزي فيما ذكره الحافظ في " الفتح " (3/174) -، والحق: إنه حرام؛ لما ذكرنا من أن أصل النهي التحريم، ولم يرد شيء يخرجه منه إلى الكراهة، بل جاء ما يؤكده؛ وهو: ما رواه أبو هريرة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده؛ خير له من أن يجلس على قبر ". أخرجه مسلم (3/62) ، وأبو داود (2/71) ، والنسائي (1/287) ، وابن ماجه (1/1/474) ، وأحمد (2/311 و 389 و 444) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 على القبور، ولا تُصَلُّوا إليها (1) " (2) .   وما رواه عقبة بن عامر مرفوعاً: " لأن أمشي على جمرة، أو سيف، أو أَخْصِفَ نعلي برِجْلي؛ أحب إليَّ من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أَوَسَطَ القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق! ". أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح. وقد أغرب بعض الأئمة؛ فَأَوَّلَ الجلوس على القبر بالجلوس لغائط أو بول! وهو تأويل ضعيف أو باطل - كما قال النووي -، وقد بين بطلان ذلك ابن حزم في " المحلى " (5/136) من وجوه؛ فراجعها فيه. وقال الشافعي في " الأم " (246) : " وأكرهُ وطْء القبر والجلوس والاتكاء عليه، إلا أن لا يجد الرجلُ السبيلَ إلى قبر ميِّتِه إلا بأن يطأه؛ فذلك ضرورة، فأرجو حينئذٍ أن يسعه إن شاء الله ". قلت: إن كان القصد من الوصول إلى قبر الميت لأجل الزيارة فقط؛ فليس ذلك بضرورة يُستحل بها ما تقدم من الوعيد الشديد؛ لأن الزيارة تتحقق من بعيد، وليس من شرطها الوصول إلى القبر نفسه؛ ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: " لا يوطأ القبر إلا لضرورة، ويزار من بعيد، ولا يَقْعُد، وإن فعل؛ يكره ". كذا في " رد المحتار " (1/846) نقلاً عن " خزانة الفتاوى ". وظاهر قوله: " يكره ": أنه كراهة تحريم؛ لأنها المراد عند الإطلاق، وهو الموافق لما سبق من الأحاديث. والله أعلم. وللبحث تتمة؛ يراجع في " التعليقات الجياد ". (1) أي: مستقبلين إليها. لما فيه من التعظيم البالغ؛ لأنه من مرتبة المعبود، فجمع بين النهي عن الاستخفاف بالتعظيم، والتعظيم البليغ. كذا في " الفيض " للمناوي. ثم قال في موضع آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ..............................................................................   " فإن ذلك مكروه. فإن قصد إنسان التبرك بالصلاة في تلك البقعة؛ فقد ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله، والمراد كراهة التنزيه ". قال النووي: " كذا قال أصحابنا. ولو قيل بتحريمه - لظاهره - لم يبعد، ويؤخذ من الحديث النهي عن الصلاة في المقبرة؛ فهي مكروهة كراهة تحريم ". اهـ. وفي " الأم " (1/246) : " وأكره أن يُبنى على القبر مسجد، وأن يُسَوَّى، أو يصلى عليه وهو غير مسوى، أو يصلى إليه ". قال: " وإن صلى إليه؛ أجزأه، وقد أساء، أخبرنا مالك: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قاتل الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ". قال: " وأكره هذا للسُّنة والآثار، وأنه كره - والله تعالى أعلم - أن يعظم أحد من المسلمين - يعني: يتخذ - قبره مسجداً، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعد ". انتهى. والحديث الذي ذكره عن مالك مُعضَلاً حديث صحيح جداً؛ جاء في " الصحيحين " وغيرهما عن جمع من الصحابة؛ منهم: عائشة، وابن عباس، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، وأبو عبيدة بن الجراح، وأسامة بن زيد. وفي الباب عن: عائشة أيضاً، وجندب بن عبد الله البجلي، وابن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وعطاء بن يسار مرسلاً. وقد خرجتُ أحاديثهم، وسقت ألفاظهم في " التعليقات الجياد "، وبينت فيه ما يستفاد منها من المسائل المهمة التي غفل عنها أكثر المسلمين؛ فوقعوا في الغلو في الأولياء والصالحين، وتعظيمهم تعظيماً خارجاً عن حدود الشرع والدين، وقد قال ابن حجر الهيتمي الفقيه في " الزواجر عن اقتراف الكبائر " (ص 121) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ..............................................................................   " قال بعض الحنابلة: قَصْدُ الرجل الصلاةَ عند القبر متبركاً بها عَيْنُ المحاداة لله ولرسوله، وإبداع دين لم يأذن به الله؛ للنهي عنها، ثم إجماعاً؛ فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، أو بناؤها عليها. والقول بالكراهة محمول على غير ذلك؛ إذ لا يُظَنُّ بالعلماء تجويزُ فعلٍ تواتر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعْنُ فاعِلِهِ، ويجب المبادرة لهدمها، وهدم القباب التي على القبور، إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أُسست على معصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه نهى عن ذلك، وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره ". انتهى ما في " الزواجر ". فأفاد كلام المناوي والحنبلي أن قصد الصلاة إلى القبر وعنده محرم، وأنه تشريع لم يأذن به الله، ومع ذلك ترى كثيراً من الناس - حتى بعض المشايخ - يقصدون مقامات الأولياء والصالحين للصلاة عندها، والتبرك بها، وإذا قيل لهم في ذلك؛ قالوا: إنما الأعمال بالنيات، ونياتنا طيبة، وعقائدنا سليمة! ولئن صدقوا في ذلك؛ فما هو بمنجيهم من المؤاخذة عند الشارع الحكيم؛ لأنه إنما بنى الأحكام على الظواهر، والله يتولى السرائر. ولقد أنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من خاطبه بقوله: ما شاء الله وشئت يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: " جعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده ". ولقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم أن ذلك الرجل ما قصد أن يجعله شريكاً مع الله، وهو - رضي الله عنه - ما آمن به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا فراراً من الشرك؛ فكيف يجعله شريكاً لله؟! كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم ذلك منه، وإنما أنكر عليه ما سمعه من لسانه حتى يُقَوِّمَهُ مرة؛ فلا يتكلم مرة أخرى بما يوهم الشرك والضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ..............................................................................   فمالِ لهؤلاء الناس يأتون أعمالاً منكرة، ظاهرها شرك وضلال، ثم يبررون ذلك بقصدهم الحسن في زعمهم؟! والله يعلم أن كثيراً من هؤلاء قد فسدت عقائدهم، وداخَلَها الشرك من حيث يشعرون أو لا يشعرون؛ ذلك جزاؤهم بما كسبوا، وجعلوا أحاديثه عليه الصلاة والسلام وراءهم ظهرياً. (2) هو حديث صحيح. أخرجه مسلم (3/62) ، وأبو داود (1/71) ، والنسائي (1/124) ، والترمذي (1/195 - طبع بولاق) ، {وابن خزيمة (1/95/2) = [2/8/794] } ، والطحاوي (1/296) ، والبيهقي (435) ، وأحمد (4/135) من حديث أبي مَرْثَد الغَنَوي مرفوعاً به. ولفظ النسائي، والطحاوي: " لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها ". وهو رواية لمسلم، وأحمد. وله شاهد من حديث ابن عباس: أخرجه المقدسي من طريق الطبراني بسنده عن عبد الله بن كيسان عن عكرمة عنه بلفظ: " لا تصلوا إلى قبر، ولا تصلوا على قبر ". قال المقدسي: " وعبد الله بن كيسان: قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف. وقال النسائي: ليس بالقوي. إلا أنَّا لما رأينا ابن خزيمة والبستي أخرجا له؛ أخرجناه ". {وانظر كتابى: " تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد "، و " أحكام الجنائز وبدعها "} . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 [اللباسُ في الصلاة] وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل في الصلاة بما تيسر عليه من الثياب، فلم يكن يتخذ لها ثوباً خاصاً؛ إلا صلاة الجمعة - كما سيأتي -؛ فكان تارة " يصلي في حُلّة حمراء " (1) (وهي (2) ثوبان: إزار، ورداء) ، وكان يأمر بهما؛ فيقول:   (1) كما قال أبو جحيفة: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلة حمراء مشمراً، فصلى إلى العنَزَةِ بالناس ركعتين، ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العَنَزةِ. أخرجه البخاري (1/386 و 10/210) ، ومسلم (2/56) ، وأبو داود (1/86) ، والنسائي (1/125) وترجم له: (الصلاة في الثياب الحُمْر) ، والترمذي (1/375) وصححه، وأحمد (4/308) عن عون بن أبي جُحيفة عن أبيه به. وفي الحديث دلالة على جواز لبس الثياب الحمراء، وهو مذهب الشافعية وغيرهم، وهو الصواب إن شاء الله تعالى، ولا يصح شيء من الأحاديث في النهي عن لباس الأحمر، وتأويل الحلة الحمراء بأنها ذات خطوط حمر - كما فعل ابن القيم في " الزاد " (1/48 و 172) وفي غيره - خلاف الظاهر - كما بينه الشوكاني -. على أنه قد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى على الحسن والحسين قميصين أحمرين؛ فلم ينكر ذلك، وليس هذا موضع تفصيل ذلك، وإنما أردنا الإشارة إليه، فمن شاء التوسع فيه؛ فليراجع " نيل الأوطار " (2/80 - 83) ، وكذا " التعليقات الجياد ". (2) تفسير (الحلة) بذلك هو الأشهر - كما قال الحافظ في " الفتح " (10/213) -. وقيل: هي: ثوبان؛ أحدهما فوق الآخر. والرداء: هو الثوب أو البُرْدُ الذي يضعه الإنسان على عاتقيه، وبين كتفيه فوق ثيابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 " إذا صلى أحدكم؛ فليأتزر وليرتَدِ " (1) . حتى " نهى أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء " (2) . وإنما أراد به القادر على الرداء (3) ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: " إذا صلى أحدكم؛ فليلبس ثوبيه؛ فإن الله أحق من يُزَّيَّنُ له، فإن لم يكن له ثوبان؛ فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال (4)   (1) أخرجه الطحاوي (1/221) ، والبيهقي (2/235) من طريق عبيد الله بن معاذ قال: ثنا أبي قال: ثنا شعبة عن توبة العنبري سمع نافعاً عن ابن عمر مرفوعاً به. وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. (2) أخرجه أبو داود (1/103) ، والطحاوي (1/224) ، والحاكم (1/250) ، وعنه البيهقي (2/236) عن أبي المُنيب عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: نهى أن يصلي في لحاف لا يتوشح به، ونهى أن يصلي الرجل ... إلخ. وهذا سند حسن. وأما قول الحاكم وكذا الذهبي: إنه " صحيح على شرط الشيخين "! فمن أوهامهما؛ فإن أبا المُنِيْب - واسمه: عبيد الله بن عبد الله العَتَكي - ليس من رجالهما، وهو صدوق يخطئ - كما في " التقريب " -. (3) قال الطحاوي: " وهذا عندنا على الوجود معه لغيره، فإن كان لا يجد غيره؛ فلا بأس بالصلاة فيه، كما لا بأس في الثوب الصغير؛ مُتّزراً به ". قلت: ويدل لذلك الأحاديث الآتية بعدُ. (4) قال الخطابي في " المعالم " (1/178) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 اليهود " (1) .   " اشتمال اليهود المنهي عنه هو: أن يجلل بدنه الثوب ويسبله؛ من غير أن يشيل طرفه ". (1) أخرجه البيهقي (2/235 - 236) عن أنس بن عياض عن موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله - ولا يرى نافع إلا أنه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ... فذكره. وهذا سند صحيح على شرط الستة؛ لولا التردد في رفعه. لكن أخرجه الطحاوي (221) من طريق حفص بن ميسرة عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... فذكره بدون تردد في رفعه. وهذا صحيح أيضاً على شرط الشيخين. وقد تابعه أيوب عن نافع به. أخرجه أبو داود (1/103) : ثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد عنه. وسنده صحيح أيضاً على شرطهما. وصححه النووي (3/173) . وأخرجه البيهقي (236) من طريق يوسف بن يعقوب القاضي: ثنا سليمان بن حرب به؛ إلا أنه تردد في رفعه. ثم أخرجه كذلك من طريق أبي الربيع: ثنا حماد بن زيد به؛ إلا أنه قال: وأكثر ظني أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال: " ورواه الليث بن سعد عن نافع؛ هكذا بالشك ". ثم أخرجه من طريق سعيد - وهو: ابن أبي عَرُوبة - عن أيوب به مرفوعاً بدون شك بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ..............................................................................   " إذا صلى أحدكم في ثوب؛ فليشدَّه على حَقْوِهِ، ولا تشتملوا اشتمال اليهود ". وسنده صحيح. وأخرجه الطحاوي - والسياق له -، وأحمد (2/148) عن ابن جريج: قال: أخبرني نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما كساه وهو غلام، فدخل المسجد، فوجده يصلي متوشحاً، فقال: أليس لك ثوبان؟ قال: بلى. قال: أرأيت لو استعنت بك وراء الدار؛ أكنت لابسهما؟ قال: نعم. قال: فالله أحق أن تَزَّيَّنَ له أم الناس؟ قال نافع: بل الله. فأخبره عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عن عمر رضي الله عنه - قال نافع: قد استيقنت أنه عن أحدهما، وما أُراه إلا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يشتمل أحدكم في الصلاة اشتمال اليهود - زاد أحمد: ليتوشح -، من كان له ثوبان؛ فليتّزر، وَلْيَرْتَدِ، ومن لم يكن له ثوبان؛ فليتزر، ثم ليصلِّ ". ثم أخرجه أحمد (1/16) عن ابن إسحاق: ثنا نافع به نحوه موقوفاً، وفيه قال نافع: ولو قلت لك: إنه أسند ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لرجوت أن لا أكون كذبت. وهذا سند جيد. وبالجملة؛ فالحديث صحيح مرفوعاً وموقوفاً، ولا منافاة بينهما. والتردد الذي وقع في بعض الروايات قد زال بقول بعضهم: " وأكثر ظني أنه رفعه ". وبجزم البعض الآخر برفعه - كما سبق -. وقد جزم برفعه عن نافع توبة العنبري - كما سبق قريباً -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وتارة " في جُبَّةٍ شاميةٍ ضيقةِ الكُمَّين " (1) ، حتى إنه " لما أراد الوضوء؛ ذهب يخرج يده من كُمِّها ليتوضأ؛ فضاقتْ عليه، فأخرج يده من أسفلها " (2) . وكان تحت الجبة قميص أو إزار.   (1) قال ابن القيم في " الزاد " (1/49) : " وأما هذه الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج؛ فلم يلبسها هو، ولا أحد من أصحابه ألبتة، وهي مخالفة لسنته، وفي جوازها نظر؛ فإنها من جنس الخُيَلاء ". قال الشوكاني (2/90) : " وقد صار أشهر الناس بمخالفة هذه السنة في زماننا هذا العلماء؛ فيُرى أحدهم وقد جعل لقميصه كمين، يَصْلُحُ كل واحد منهما أن يكون جبة أو قميصاً لصغير من أولاده أو يتيم، وليس في ذلك شيء من الفوائد الدنيوية إلا العبث، وتثقيل المؤنة على النفس، ومنع الانتفاع باليد في كثير من المنافع، وتعريضه لسرعة التمزق، وتشويه الهيئة، ولا الدينية إلا مخالفة السنة، والإسبال، والخيلاء ". اهـ. (2) أخرجه البخاري (1/377) ، ومسلم (1/158) ، ومالك (1/57) ، وأبو داود (1/24) ، والنسائي (1/31 و 5/26 و 32) ، والبيهقي (2/412) ، وأحمد (4/247 و250 و 251) من طرق عن المغيرة بن شعبة قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقضي حاجته، فلما رجع؛ تلقيته بالإداوة، فصببت عليه، فغسل يديه، ثم غسل وجهه، ثم ذهب ليغسل ذراعيه؛ فضاقت الجبة؛ فأخرجهما من تحت الجبة، فغسلهما، ومسح رأسه، ومسح على خفيه، ثم صلى بنا. واللفظ لمسلم. وفي رواية له: وعليه جبة شامية ضيقة الكمين. زاد في أخرى: من صوف. وهي عند أبي داود، وزاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ..............................................................................   من جِبَاب الروم. وزاد مسلم في رواية (1/159) : فأخرج يده من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه. قال الشيخ علي القاري في " المرقاة " (1/361) : " فيه دليل على أنه كان تحته إزار أو قميص، وإلا؛ لظهرت العورة ". قال البيهقي: " والجبة الشامية في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نسج المشركين، وقد توضأ وهي عليه، وصلى ". ثم روى عن الحسن قال: " لا بأس بالصلاة في رداء اليهود والنصارى ". وفي الحديث فوائد كثيرة ذكرها الحافظ في " الفتح " (1/246) منها: " جواز الانتفاع بثياب الكفار حتى يتحقق نجاستها؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبس الجبة الرومية، ولم يستفصل ". انتهى. فإن قيل: قد تقرر في الشرع النهي عن لبسة الكفار؛ كما قال عبد الله بن عمرو: رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: " إن هذه من ثياب الكفار؛ فلا تلبسها ". أخرجه مسلم (6/144) وغيره؛ فكيف لبس صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لباس الروم وهم من الكفار، وقد نهى عن لباسهم؟! والجواب: إن الألبسة نوعان: نوع منها مشترك بين جميع الأمم والأديان، ليس شعاراً لبعضهم دون بعض. فهذا مباح للمسلم لبسها مهما كان شكلها ومصدرها، لا ضير على المسلم في ذلك، وقد جاء في " الدر المختار ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ..............................................................................   " إن التشبه بأهل الكتاب لا يكره في كل شيء. وذكروا على ذلك عن هشام قال: رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفين بمسامير، فقلت: أترى بهذا بأساً؟ قال: لا. قلت: سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك؛ لأن فيه تشبهاً بالرهبان. فقال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبس النعال التي لها شعر، وإنها من لباس الرهبان ". اهـ. ومن هذا النوع كانت جبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرومية فيما يظهر لنا. وأما النوع الآخر؛ فهو ما كان شعاراً لبعض الأمم الكافرة؛ يتميزون به عن غيرهم من الأمم. فلا يجوز حينئذٍ لمسلم أن يقلدهم، وأن يتشبه بهم في ذلك؛ لما في ذلك من تضعيف شوكة المسلمين؛ بتقليل عددهم في الظاهر، وتقوية أعدائهم عليهم بذلك، وقد تقرر في علم النفس - كما كنت قرأت في بعض الكتب والمجلات العصرية -: أن للظاهر تأثيراً في الباطن. وذلك مشهود في بعض المظاهر، وقد أشار إلى ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله حينما كان يسوي الصفوف: " لا تختلفوا؛ فتختلفَ قلوبكم ". رواه أبو داود (1/107) ، والنسائي (1/130) ، وابن خزيمة في " صحيحه ". وسنده صحيح عن البراء به. وعن النعمان بن بشير مرفوعاً: " عباد الله! لَتُسَوُّنَّ صفوفكم؛ أو ليخالفن الله بين وجوهكم ". أخرجه الشيخان، وأصحاب " السنن " وغيرهم. فجعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختلاف الظواهر سبباً لاختلاف البواطن والقلوب، وعلى هذا النوع من اللباس يُنَزَّل حديث ابن عمرو المذكور سابقاً، ومثله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تشبه بقوم؛ فهو منهم ". أخرجه أبو داود (2/172 - 173) ، وأحمد (2/50) من طريق عبد الرحمن بن ثابت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وكان أحياناً " يصلي في بُرْدٍ له حضرميٍّ متَوَشِّحَه، ليس عليه غيره " (1) . و" في ثوب واحد؛ مخالفاً بين طرفيه، يجعلهما على منكبيه (2) " (3) .   ابن ثوبان: ثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجُرَشي عن ابن عمر مرفوعاً به. وهذا إسناد حسن - كما قال الحافظ في " الفتح " (10/222) -، وصححه شيخه العراقي في " تخريج الإحياء " (1/242) ، وسبقه إلى ذلك ابن حبان - كما في " بلوغ المرام " (4/239 - سبل السلام) -. قلت: وقد أخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " (1/88) من طريق الوليد بن مسلم: ثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية به. وهذا سند صحيح إذا كان الأوزاعي سمعه من حسان؛ فإن الوليد بن مسلم يدلس تدليس التسوية؛ لا سيما عن الأوزاعي. وفي الباب أحاديث أخرى كثيرة في النهي عن التشبه بالكفار، ليس هذا موضع روايتها؛ فليراجع لذلك كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه خير كتاب وقفنا عليه في هذا الموضوع. (1) أحمد (1/265) ، والطحاوي. (2) قال الباجي: " يريد أنه أخذ طرف ثوبه تحت يده اليمنى، ووضعه على كتفه اليسرى، وأخذ الطرف الآخر تحت يده اليسرى، فوضعه على كتفه اليمنى. وهذا نوع من الاشتمال يسمى: التوشيح. ويسمى: الاضطباع. وهو مباح في الصلاة وغيرها؛ لأنه يمكنه إخراج يده للسجود وغيره دون كشف عورته ". كذا في " تنوير الحوالك ". (3) قد جاء ذلك من طرق كثيرة عن جمع من الصحابة؛ حتى صار بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ..............................................................................   متواترا تواتراً معنوياً، وإليك بعضاً - أو كثيراً - من أحاديثهم: 1- عن عمر بن أبي سلمة قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في ثوب واحد، مشتملاً به في بيت أم سلمة، واضعاً طرفيه على عاتقيه. أخرجه البخاري (1/373) ، ومسلم (2/61 - 62) ، ومالك (1/158) ، وأبو داود (1/102) ، والنسائي (1/124) ، والترمذي (2/166) وصححه، وابن ماجه (1/324) ، والطحاوي (1/222) ، والبيهقي (2/237) ، وأحمد (4/26 و 27) ؛ كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه. إلا أبا داود، ورواية لمسلم، وللطحاوي، وأحمد؛ فعن أبي أمامة بن سهل؛ كلاهما عنه. واللفظ لعروة عند البخاري وغيره. وفي لفظ: متوشحاً.. بدل: مشتملاً. وقال أبو أمامة: ملتحفاً مخالفاً بين طرفيه. 2- عن أم هانئ: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في بيتها عام الفتح ثماني ركعات في ثوب قد خالف بين طرفيه. أخرجه مالك (1/166) ، وعنه البخاري (1/373 و 6/209 و 10/454) ، ومسلم (1/182 - 183 و 2/158) ، ومحمد في " موطئه " (116) ، والنسائي (1/46) ، والطحاوي (1/222) ، وأحمد (6/343) ؛ كلهم عن مالك عن أبي النضر مولى عمر ابن عبيد الله: أن أبا مرة مولى عقيل بن أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ به. واللفظ لمسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ..............................................................................   وأخرجه مسلم، والطحاوي، وأحمد (6/341 و 342) ، والطيالسي (225) من طرق أخرى عن أبي مرة به. 3- عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله يصلي في ثوب واحد متوشحاً به. أخرجه البخاري (1/372) ، ومسلم (1/62) ، والطحاوي (1/223) ، والبيهقي (2/237) ، والطيالسي (238) ، وأحمد (3/294 و 312 و 326 و 343 و 351 و 352 و356 و 357 و 386 و387 و 391) من طرق عنه به. واللفظ لمسلم. وقال الطيالسي، والبيهقي، وأحمد: مخالفاً بين طرفيه على عاتقه. وفي رواية للطحاوي (1/222) من طريق القعقاع بن حكيم قال: دخلنا على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب واحد، وقميصه ورداؤه في المشجب، فلما انصرف؛ قال: أما والله! ما صنعت هذا إلا من أجلكم، إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الصلاة في ثوب واحد؟ فقال: " نعم؛ ومتى يكون لأحدكم ثوبان؟! ". وسنده صحيح. 4- عن أبي سعيد الخدري مثله. أخرجه مسلم، وابن ماجه، والبيهقي، وأحمد (3/10 و 59) من طريق أبي سفيان عن جابر عنه. وله في " المسند " (3/379) طريق آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ..............................................................................   5- عن عبد الرحمن بن كيسان عن أبيه قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الظهر والعصر في ثوب واحد مُتَلَيِّبَاً به. أخرجه ابن ماجه، وأحمد (3/417) . وسنده محتمل للتحسين، وجزم بحسنه البوصيري في " الزوائد ". وفي الباب عن جمع غير هؤلاء من الصحابة، وقد أخرج أحاديثهم الهيثمي في " المجمع " (2/48 - 51) ، فمن شاء؛ فليراجعها هناك. وفي الباب عن أنس، ويأتي حديثه قريباً، وهو المذكور بعد هذا. واعلم أن الالتحاف والتوشح بمعنى واحد، وهو: المخالف بين طرفيه على عاتقيه. وهو الاشتمال على منكبيه - كما ذكره البخاري عن الزهري -. وذكر نحوه النووي في " شرح مسلم ". وأما المُتَلَبِّبُ بالثوب: فهو أن يجمعه عند صدره، يقال: (تَلَبّبَ بثوبه) : إذا جمعه عليه. قال النووي: " وفي هذه الأحاديث جواز الصلاة في الثوب الواحد، ولا خلاف في ذلك؛ إلا ما حكي عن ابن مسعود رضي الله عنه فيه. ولا أعلم صحته ". قلت: كأنه يشير إلى ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: لا تُصَلِّيَنَّ في ثوب واحد؛ وإن كان أوسع ما بين السماء والأرض. سكت عليه في " الفتح ". ولعل قول ابن مسعود هذا محمول على ما إذا كان عنده ثوب آخر؛ بدليل حديثه الآخر: وهو ما أخرجه عبد الله بن أحمد في " زوائده " (5/141) من طريقين عن أبي مسعود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ..............................................................................   الجريري عن أبي نضرة بن بقية قال: قال أُبي بن كعب: الصلاة في الثوب الواحد سنة؛ كنا نفعله مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يعاب علينا. فقال ابن مسعود: إنما كان ذاك؛ إذ كان في الثياب قلة، فأما إذ وسع الله؛ فالصلاة في الثوبين أزكى. ورجاله ثقات رجال مسلم؛ لكن قال في " مجمع الزوائد " (2/49) : " وأبو نضرة: لم يسمع من أُبيٍّ، ولا من ابن مسعود ". قلت: قد وصله البيهقي (2/238) من طريق يزيد بن هارون: أبنا داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: اختلف أبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في ثوب واحد ... الحديث بنحوه. وهذا سند صحيح. قال البيهقي: " وهذا يدل على أن الذي أمر به ابن مسعود في الصلاة في ثوبين استحباب لا إيجاب ". اهـ. ويدل لما قاله ابن مسعود رضي الله عنه - من أن الاقتصار على الثوب الواحد إنما كان وفي الثياب قلة - حديث جابر المتقدم عند الطحاوي، ومثله حديث أبي هريرة الآتي: "أَوَلكلكم ثوبان؟ ". وما سنذكره من قول عمر في ذلك. وكون الصلاة في الثوبين أزكى وأفضل - كما قال ابن مسعود -؛ مجمع عليه - كما حكاه النووي في " شرح مسلم " -، ويدل لذلك الأمر بالارتداء والاتزار - كما في الحديث السابق -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 و " آخر صلاة صلاها في ثوب قِطْرِيٍّ (1) متوشحاً به " (2) . وقال:   (1) هو ضرب من البرود؛ فيه حمرة، ولها أعلام فيها بعض الخشونة. وقيل: هي حُلل جِيَاد، وتحمل من قبل البحرين. وقال الأزهري: في أعراض البحرين قرية يقال لها: قَطَر، وأحسب الثياب القِطْرِيَّةَ نسبت إليها، فكسروا القاف للنسبة، وخففوا. كذا في " النهاية ". وقال العسقلاني: " ثياب من غلِيظ القطن ونحوه ". نقله القاري في " شرح الشمائل ". (2) هو من حديث أنس: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد بُرْدٍ مخالفاً بين طرفيه، فكانت آخر صلاة صلاها. أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عن حميد عن ثابت عنه. وأخرجه الترمذي وغيره. وقد تقدم في صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعداً [ص 83 - 84] . ورواه الترمذي في " الشمائل " (1/136 - 138) ، وأحمد (3/262) من طريقين عن حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد عن الحسن عن أنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج وهو متكئ على أسامة بن زيد، عليه ثوب قِطْري قد توشح به، فصلَّى بهم. وهذا إسناد على شرط مسلم. ثم أخرجه أحمد (3/257 و 281) قال: ثنا عفان: ثنا حماد بن سلمة قال: ثنا حميد عن الحسن وعن أنس - فيما يحسب حماد -: أن رسول الله خرج يتوكأ على أسامة بن زيد، وهو متوشح بثوب قطن قد خالف بين طرفيه، فصلى بالناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 " إذا صلى أحدُكم في ثوبٍ واحدٍ؛ فَلْيُخَالِفْ بين طَرفيه [على عاتِقَيْهِ] " (1) . وفي لفظ: " لا يصلِّي أحدُكم في الثوبِ الواحد ليس على عاتِقَيْه منه شيءٌ " (2) .   وهذا أيضاً صحيح على شرط مسلم. وقد عزاه في " المجمع " (2/49) للبزار وحده، وقال: " رجاله رجال " الصحيح " "! وهو ذهول منه عن كونه في " مسند أحمد ". وأخرجه الطيالسي (285) ، لكنه شك؛ هل هو عن أنس أو الحسن؟ (1) أخرجه البخاري (1/375) ، وأبو داود (1/102) ، والبيهقي (2/238) ، وأحمد (2/255 و 427) من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعاً به. واللفظ لأحمد، والزيادة عند الجميع ما عدا البخاري، وهي في " مستخرج " الإسماعيلي، وأبي نعيم - كما في " فتح الباري " -. وله طريق آخر: رواه الطحاوي (1/223) عن عبد الله بن عياش عن ابن هرمز عنه مرفوعاً. وأما اللفظ الآخر؛ فأخرجه البخاري (1/374 - 375) ، ومسلم (2/61) ، وأبو داود، والنسائي أيضاً (1/125) ، والدارمي (1/318) ، والطحاوي، والبيهقي من طريق أبي الزناد عن الأعرج عنه مرفوعاً به. ولفظ الدارمي والبيهقي: " لا يصلين "؛ بزيادة نون التأكيد. وكذلك أخرجه الشافعي في " الأم " (1/77) من طريق مالك عن أبي الزناد، ومن طريقه أيضاً الدارقطني في " غرائب مالك " عن عبد الوهاب بن عطاء عنه - كما في " الفتح " -. (2) قال الخطابي: " يريد أنه لا يتزر به في وسطه ويشد طرفيه على حَقويْه؛ ولكن يتزر به، ويرفع طرفيه؛ فيخالف بينهما، ويشده على عاتقه؛ فيكون بمنزلة الإزار والرداء ". قال الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ..............................................................................   علي القاري (1/479) : " والحكمة في ذلك أن لا يخلو العاتق من شيء؛ لأنه أقرب إلى الأدب، وأنسب إلى الحياء من الرب، وأكمل في أخذ الزينة عند المطلب. والله أعلم ". وظاهر النهي في هذه الرواية يفيد التحريم؛ كما أن ظاهر الرواية الأولى يفيد الوجوب. وقد ذهب إلى ذلك جماعة من السلف، ومنهم الإمام أحمد رضي الله عنه، والمشهور عنه: أنه لو صلى مكشوف العاتق مع القدرة على السترة؛ لم تصح صلاته. فجعله شرطاً. وهو مذهب ابن حزم في " المحلى " (4/70) . وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد: أنه تصح صلاته، ولكن يأثم بتركه. وذهب الجمهور - مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وغيرهم - إلى أن النهي للتنزيه، والأمر للاستحباب؛ فلو صلى في ثوب واحد ساتراً لعورته، ليس على عاتقه منه شيء؛ صحت صلاته مع الكراهة، سواء قدر على شيء يجعله على عاتقه أم لا. قال النووي في " شرح مسلم ": " وحجة الجمهور قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإن كان واسعاً؛ فالتحِفْ به، وإن كان ضيقاً؛ فاتَّزِرْ به " ". قلت: لست أدري ما وجه الاحتجاج بهذا الحديث على عدم الوجوب؛ بينما هو واضح الدلالة لمذهب أحمد وغيره، وهو التفريق بين الثوب الواسع - فيجب الالتحاف به -، وبين الضيِّق - فلا يجب -، فكما أنه أمر بالائتزار به إن كان ضيقاً - وذلك واجب -؛ فكذلك أمر بالالتحاف به إذا كان واسعاً؛ فهو واجب. فهذا المذهب - وهو وجوب المخالفة بين طرفي الثوب - هو الأقوى من حيث الدليل والبرهان، وإليه مال البخاري - كما يدل تصرفه في " صحيحه " -؛ كما قال الحافظ، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقيد ذلك بالثوب الواسع؛ فقال: " إذا صلَّيتَ وعليك ثوبٌ واحد، فإن كان واسعاً؛ فالتحف به، وإن كان ضيقاً؛ فاتزر به " (1) .   " وهو اختيار ابن المنذر وتقي الدين السبكي من الشافعية ". قلت: وإليه ذهب الشوكاني في " نيل الأوطار " (2/59 - 61) . وأما بطلان الصلاة بترك ذلك؛ فالحديث لا يدل إلا على بعض القواعد؛ وبها نظر. والله أعلم. واحتج الجمهور بحجة أخرى، وهي صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض ثوبه على زوجه، كما يأتي ذلك قريباً، وسنذكر هناك وجه الاستدلال بذلك، والجواب عنه إن شاء الله تعالى. (1) هو من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، وقد جاء عنه من طرق: الطريق الأول: عن فُلَيح بن سليمان عن سعيد بن الحارث قال: دخلنا على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب واحد ملتحفاً به، ورداؤه قريب، لو تناوله؛ بلغه، فلما سلّم؛ سألناه عن ذلك؟ فقال: إنما أفعل هذا ليراني الحمقى أمثالكم؛ فَيُفْشوا على جابر رخصةً رخصها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال جابر: خرجت مع رسول الله في بعض أسفاره، فجئته ليلة وهو يصلي في ثوب واحد، وعليَّ ثوب واحد، فاشتملت به، ثم قمت إلى جنبه. قال: " جابرُ! ما هذا الاشتمال؟ إذا صليت ... " فذكر الحديث. أخرجه البخاري (1/375 - 376) ، والبيهقي (2/238) ، وأحمد (3/328) والسياق له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ..............................................................................   وفي رواية الآخَرَين التصريح بأنه عليه الصلاة والسلام قال له ذلك بعد الانصراف من الصلاة. الطريق الثاني: عن حاتم بن إسماعيل عن يعقوب بن مجاهد أبي حَزْرَة عن عبادة ابن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: أتينا جابر بن عبد الله في مسجده وهو يصلي ... فذكره بنحوه. ولفظ المرفوع: " إذا كان واسعاً؛ فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقاً؛ فاشدده على حَقوك ". أخرجه مسلم في حديث جابر الطويل (8/231 - 234) ، وأبو داود (1/103) ، والبيهقي (2/239) ، وكذا الحاكم (1/254) وقال: " صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه ". ووافقه الذهبي! فوهم في الاستدراك على مسلم. الطريق الثالث: عن شُرحبيل بن سعد أنه دخل على جابر وهو يصلي ... الحديث نحوه. وشرحبيل: صدوق اختلط بآخره - كما في " التقريب " -، وبقية رجاله عند أحمد رجال الشيخين. وله: طريق رابع: بلفظ مختصر عن ابن جريج قال: قال أبو الزبير: قال جابر: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صلى في ثوب واحد؛ فلينعطف به ". ورجاله على شرط مسلم؛ لكن ابن جريج وشيخه أبو الزبير مدلسان، ولم يصرحا بالسماع. والحديث نص واضح في التفريق بين الثوب الواسع والضيق؛ فيجب الالتحاف بالأول - لظاهر الأمر -، دون الثاني؛ فيجوز الائتزار به بدون كراهة. وهو مذهب أحمد وغيره من السلف، وهو الحق إن شاء الله تعالى - كما سبق بيانه فيما تقدم قريباً -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 و " قال له رجل: أيصلي أحدنا في ثوب واحد؟ فقال: " أَوَ كلكم يجد ثوبين؟! " " (1) .   (1) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد جاء عنه من ثلاثة طرق: الطريق الأول: أخرجه مالك (1/128) ، وعنه محمد في " موطئه " (113) ، والبخاري (1/374) ، ومسلم (2/61) ، وأبو داود (1/102) ، والنسائي (1/124) ، والطحاوي (1/221) ، والبيهقي (2/237) ؛ كلهم عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد ابن المسيب عنه. ورواه ابن ماجه (1/334) ، وأحمد (2/278) من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري به. الطريق الثاني: أخرجه البخاري (1/378) ، ومسلم، والدارمي (1/318) ، والطحاوي، والدارقطني (105) ، والبيهقي (2/236) ، والطيالسي (326) ، وأحمد (2/230 و 495 و 498 و 499) ، والطبراني في " الصغير " (ص 28 و 231) من طرق كثيرة عن محمد بن سيرين عنه به. الطريق الثالث: أخرجه مسلم، والطحاوي، وأحمد (2/265 و 285 و 345) من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عنه به. وتابعه محمد بن عمرو عن أبي سلمة. أخرجه الطحاوي، وأحمد (2/501) . وله شاهد من حديث طلق بن علي قال: خرجنا إلى نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفداً حتى قدمنا عليه، فبايعناه، وصلينا معه. فجاء رجل، فقال: يا نبي الله! ما ترى في الصلاة في الثوب الواحد؟ فأطلق نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إزاره، وطارق به رداءه، واشتمل بهما، وقام يصلي بنا، فلما قضى الصلاة؛ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ..............................................................................   " أوكلكم يجد ثوبين؟! ". أخرجه أبو داود، والطحاوي (1/222) ، والبيهقي (2/240) ، وأحمد (4/22) من طريق ملازم بن عمرو الحنفي: ثنا عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه به. واللفظ للبيهقي. وهذا إسناد صحيح. وتابعه محمد بن جابر بن يسار بن طارق الحنفي عن عبد الله مختصراً. أخرجه أحمد (4/23) . ثم أخرجه هو، والطحاوي من طريق أخرى عن أبان بن يزيد قال: ثنا يحيى بن أبي كثير عن عيسى - وفي الطحاوي: عثمان! وهو تحريف - ابن خثيم عن قيس بن طلق: أن أباه شهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسأله رجل عن الصلاة في الثوب الواحد، فلم يقل له شيئاً، فلما أقيمت الصلاة؛ طارق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ثوبيه، فصلى فيهما. وإسناده حسن. رجاله كلهم ثقات مشهورون، غير عيسى بن خثيم - وهو: الحنفي اليمامي -: وثقه ابن حبان؛ وقد روى عنه جماعة غير يحيى بن أبي كثير. وقد تابعه أيوب بن عتبة عن قيس. أخرج الطيالسي ذلك، وزاد البخاري والدارقطني والبيهقي في حديث محمد بن سيرين: ثم قام رجل إلى عمر، فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد. وقال الدارقطني: " فلما كان عمرُ؛ قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال: إذا وسع الله عليكم؛ فأوسعوا. جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقَباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل - قال: وأحسبه قال: - في تُبّان وقباء، في تبّان وقميص، في تبّان ورداء ". اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ..............................................................................   قوله: (طارَقَ بينهما) ؛ أي: طابق بينهما، فجعلهما كأنهما ثوب واحد، فصلى بهما. يريد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين للسائل جواز الصلاة في الثوب الواحد مع وجود الآخر، فكيف إذا لم يوجد غيره؟! وقوله: (التبان) - بضم المثناة، وتشديد الموحدة -: وهو على هيئة السراويل؛ إلا أنه ليس له رجلان. قال ابن الملك: " تضمّن هذا الحديث فائدتين: إحداهما: ورود الفعل الماضي بمعنى الأمر؛ وهو قوله: " صلى ". والمعنى: لِيُصَلّ. ومثله قولهم: " اتقى اللهَ عبدٌ ". والمعنى: لِيَتَّقِ. ثانياً: حذف حرف العطف؛ فإن الأصل: صلى رجل في إزار ورداء، وإزار وقميص. ومثله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تصدق امرؤ من ديناره، من درهمه، من صاع بره " ". اهـ. " الفتح ". وقال النووي: " ومعنى الحديث: أن الثوبين لا يقدر عليهما كل واحد، فلو وجبا؛ لعجز من لا يقدر عليهما عن الصلاة، وفي ذلك حرج، وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وأما صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة رضي الله عنهم في ثوب واحد؛ ففي وقت كان لعدم ثوب آخر، وفي وقت - كان مع وجوده - لبيان الجواز؛ كما قال جابر: ليراني الجهال. وإلا؛ فالثوبان أفضل؛ لما سبق ". انتهى. وقال أبو زرعة في " طرح التثريب " (2/239) : " واستُدل به على أن الصلاة في ثوبين أفضل لمن قدر على ذلك؛ لأنه عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ..............................................................................   والسلام أشار إلى أن المعنى في ذلك ضِيْقُ الحال، وعجز بعض الناس عن ثوبين؛ فدلَّ على أن الأكمل ثوبان؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه: إذا وسع الله عليكم؛ فأوسعوا. ولا خلاف في ذلك - كما صرح به القاضي عياض وغيره - ". (فائدة) : قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على " الترمذي " (2/ 168 - 169) - بعد ذكر هذا الحديث، وحديث جابر المتقدم -: " وقد فرَّع الفقهاء هنا فروعاً كثيرة، وتجد العلماء ينكرون على من يصلي في بعض ثيابه ويدع بعضها، وخصوصاً من يصلي مكشوف الرأس؛ يزعمون الكراهة! ولا دليل لهم على هذا. ومن البديهي أن من يصلي في ثوب واحد - يشتمل به أو يتزر -؛ لا يكون على رأسه عمامة، ولم يرد أي حديث - فيما نعلم - يدل على كراهة الصلاة مكشوف الرأس ". قلت: ذكر الشعراني في " كشف الغمة " (1/70) : وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بستر الرأس في الصلاة بالعمامة أو القلنسوة، وينهى عن كشف الرأس في الصلاة، ويقول: " إذا أتيتم المساجد؛ فأتوها معصّبين ". والعصابة هي: العمامة ". اهـ. وهذه أخبار غريبة لم نجد لها أصلاً في شيء من الكتب التي عندنا! وكتاب الشعراني هذا مليء بمثل هذه الأخبار الغريبة، وبالأحاديث الضعيفة الواهية؛ فقد جمع فيه ما صح وما لم يصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأقوال والأفعال في سيرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! لكن ما ذهب إليه الشيخ أحمد شاكر من نفي كراهة كشف الرأس في الصلاة، واستدلاله بجواز الصلاة في الثوب الواحد؛ غير سديد؛ وذلك لأنا قد بَيَّنَّا - فيما سبق - أن الصلاة في الثوبين أفضل لمن وجد ذلك، فمن لم يفعل وصلى في ثوب واحد؛ فقد ارتكب الكراهة، فحديث أبي هريرة يفيد جوازاً مرجوحاً بالشرط المذكور، فكذلك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ..............................................................................   صلى مكشوف الرأس وعنده ما يستره؛ فهو مكروه، ومن لا؛ فلا. هذا يقال فيما إذا كانت الأخبار الواردة في الصلاة في الثوب الواحد تشمل حتى صلاة مكشوف الرأس كما يريد الشيخ المذكور أن يفهم ذلك منها. ونحن نخالفه في ذلك، ونزعم أن تلك الأحاديث لا تتعرض لكشف الرأس مطلقاً؛ بل لستر ما دونه من البدن؛ وذلك لأن المعهود من سيرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يتعمم، أو يَتَقَلْنَسُ، وكذلك كان أصحابه، فلو أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما صلى في الثوب الواحد صلى مكشوف الرأس؛ لذكر ذلك من روى صلاته تلك، لا سيما وهم جمع غفير - كما سبق -، فعدم روايتهم لذلك دليل على أنه صلى صلاته المعتادة؛ إلا فيما ذكروه من اقتصاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الثوب الواحد لبدنه. ومثل هذا الأمر لا يقال فيه: إن الأصل العدم، فمن ادعى الثبوت؛ فعليه الإثبات! لأننا بيَّنا أن المعتاد منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستر الرأس؛ فالأصل هنا ثابت، فمن ادعى خلافه؛ فعليه الدليل ولو كان نافياً، وليس مَن نفى لا يطالب بالدليل دائماً - كما هو مقرر في موضعه -، فثبت بذلك أن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاةُ مستورَ الرأس (*) . وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". فأقل ما يستفاد من مجموع الفعل والأمر الاستحباب، وعكسه الكراهة، ويؤيد ذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر بالصلاة في النعلين مخالفةً لليهود - كما سبق في محله -، فالقياس، وعموم النصوص الناهية عن التشبه بالكفار - لا سيما في عبادتهم -، كل ذلك يقتضي كراهة الصلاة حاسر الرأس؛ لأن ذلك من التشبّه بالنصارى حينما يقومون في عبادتهم حاسرين - كما هو مشهور عنهم -، فهل المخالفة في الأرجل أقوى، أم في الرؤوس؟! هذا ما ظهر لي في هذا المقام. والله تعالى هو الموفق.   (*) وانظر " تمام المنة " (ص 164) ؛ ففيه مزيد بيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقال له آخر (1) : " إني أصيد (2) ؛ أفأصلي في القميص الواحد؟ قال:   (1) هو سلمة بن الأكوع. أخرجه عنه أبو داود (1/102) ، والطحاوي (1/222) ، والحاكم (1/250) ، والبيهقي (2/240) من طريق عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدِيّ: ثنا موسى بن إبراهيم عنه. وقد تابعه عَطَّاف بن خالد المخزومي عن موسى. أخرجه النسائي (1/124) ، وأحمد (4/49) ، وصرح موسى بسماعه من سلمة في رواية عنده. وكذا أخرجه البخاري في " تاريخه "، وكذلك صرح في رواية الحاكم. وأخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في " صَحيحَيهِما " - كما في " الفتح " و " التهذيب " -. وأخرجه الشافعي في " الأم " (1/78) من الطريقين فقال: أخبرنا العطاف بن خالد وعبد العزيز بن محمد الدراوردي عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة به. وهذا سند حسن - كما قال في " المجموع " (3/4 و 110) -؛ موسى هذا: قال ابن المديني: " وسط ". وذكره ابن حبان في " الثقات ". وقال الحاكم: " صحيح ". ووافقه الذهبي. (2) إنما ذكر الصيد لأن الصائد يحتاج أن يكون خفيفاً؛ ليس عليه ما يشغله عن الإسراع في طلب الصيد. قاله ابن الأثير في شرحه لـ " المسند " [يعني: " مسند الشافعي "]- كما في " النيل " (2/61) -. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 " نعم، وزُرَّهُ (1) ولو بشوكة " ".   = ثم أخرجه البخاري عن إسماعيل بن أبي أُوَيْس عن أبيه عن موسى بن إبراهيم عن أبيه عن سلمة. زاد في الإسناد رجلاً. قال الحافظ: " فاحتمل أن يكون من المزيد في متصل الأسانيد، أو يكون التصريح في رواية عطاف وهماً؛ فهذا وجه النظر في إسناده - يعني الذي قاله البخاري في " صحيحه "؛ وقد ذكر الحديث معلقاً، وقال: في إسناده نظر. ثم قال: -، وأما من صححه؛ فاعتمد رواية الدراوردي، وجعل رواية عطاف شاهدة؛ لاتصالها ". اهـ. (1) بتقديم المعجمة على المهملة المشددة؛ من باب (نَصَرَ) والمراد: ربِّطْ جيبه؛ لئلا تظهر عورتك، ثم صلِّ فيه. " سِنْدِي ". قلت: وأما ما أخرجه الحاكم (1/250) ، وعنه البيهقي (2/240) من طريق الوليد ابن مسلم: ثنا زهير بن محمد التميمي: ثنا زيد بن أسلم قال: رأيت ابن عمر يصلي محلول إزارِه، فسألته عن ذلك؟ فقال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله. قال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا؛ لكن قال البيهقي: " تفرد به زهير بن محمد، وبلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: سألت محمداً - يعني: البخاري - عن حديث زهير هذا؟ فقال: أنا أتقي هذا الشيخ؛ كأن حديثه موضوع، وليس هذا عندي زهير بن محمد، وكان أحمد بن حنبل يضعف هذا الشيخ، ويقول: هذا شيخ ينبغي أن يكونوا قلبوا اسمه. وأشار البخاري إلى بعض هذا في " التاريخ "، وروى ذلك عن ابن عمر من أوجه دون السند ". اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ..............................................................................   والحديث رواه ابن خزيمة في " صحيحه " عن الوليد بن مسلم عن زيد. كذا ذكره في " الترغيب " (1/42) ، وأورده في " المجمع " (1/175) ، فقال: "رواه البزار، وأبو يعلى. وفي إسنادهما عمرو بن مالك، ذكره ابن حبان في " الثقات "؛ قال: يغرب ويخطئ ". اهـ. قلت: وهو الراسبي، وهو ضعيف - كما في " التقريب " -، وهو من شيوخ الترمذي؛ فهو متأخر الطبقة عن الوليد بن مسلم، وقد روى عنه؛ فلعل هذا الحديث من روايته عنه، فإن كان كذلك؛ فقد تابعه صفوان بن صالح في رواية الحاكم، وهو ثقة؛ كما في " التقريب "، قال: " وكان يدلس تدليس التسوية ". قلت: وقد صرح بسماعه من الوليد، وكذلك صرح سائر الرواة بسماع بعضهم من بعض - كما رأيت -؛ فلا علة للحديث؛ إلا إن صح ما قاله البخاري وأحمد في زهير بن محمد. والقصد: أن هذا الحديث محمول على أن القميص كان ضيق الجيب بحيث لا ترى منه العورة، أو أنه لم يكن وحده؛ بل كان تحته ثوب آخر. والله أعلم. واختلف العلماء في الذي يصلي في قميص واسع الجيب بحيث تُرى عورتُه منه؛ فذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الصلاة باطلة لا تجزئه، وهو نصه في " الأم " (1/78) . وعند أبي حنيفة ومالك: تصح صلاته؛ كما لو رآها غيره من أسفل ذيله - كما في " المجموع " للنووي (3/174 - 175) -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وكان يصلي في مِرْطٍ بعضُه على زوجه وهي حائض (1) . وكان يصلي في الثوب الذي يصيب فيه أهله إذا لم يَرَ فيه أذىً (2) . وكان يصلي المغرب في فَرُّوج من حرير - وهو القَباء -، فلما قضى صلاته؛ نزعه نزعاً شديداً كالكاره له، ثم ألقاه، ثم قال: " لا ينبغي هذا للمتقين " (3) . وقد " صلى في خَمِيْصَةٍ (4) لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف؛ قال: " اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جَهْمٍ، وائتوني بأنْبِجَانِيَّة (5) أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي (وفي رواية: فإني نظرتُ إلى عَلَمِها في الصلاة، فكاد يفتنني) " " (6) .   (1) [أخرجه] مسلم (2/61) ، وأبو داود (1/61) ، وابن ماجه (1/234) ، والدارمي (1/188) ، والبيهقي (2/239) . (2) [أخرجه] أبو داود (1/61) . (3) [أخرجه] البخاري (1/385 و 10/222) ، [ومسلم] ، والنسائي (1/125) ، وأحمد (4/143 و 149 و 150) . (4) {ثوب خزّ أو صوف معلّم} . (5) كساء غليظ لا عَلَم له. (6) { [أخرجه] البخاري، ومسلم، ومالك. وهو مخرج في " الإرواء " (376) } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 [ المرأة تصلي بخمار ] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمِار " (1) .   (1) أخرجه أبو داود (1/104) ، والترمذي (2/215) ، وابن ماجه (1/224) ، والحاكم (1/251) ، والبيهقي (2/233) ، وابن حزم في " المحلى " (3/219) ، وأحمد (6/150 و 218 و 259) ؛ كلهم عن حماد بن سلمة، إلا ابن حزم؛ فعن حماد بن زيد؛ كلاهما عن قتادة عن ابن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة مرفوعاً به. وقال الترمذي: " حديث حسن ". والحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. ورواه أيضاً ابن خزيمة، وابن حبان في " صحيحيهما "، وإسحاق بن راهويه؛ كما في " نصب الراية " (1/295) ، وعزاه الطيالسي أيضاً في " مسنده "؛ ولم أره فيه. والله أعلم. وأعل بعضهم الحديث بأنه روي من طرق عن ابن سيرين عن عائشة - كما رواه أحمد (6/96 و 238) ؛ فهو منقطع -، وعن الحسن: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ... فذكره. أخرجه الحاكم والبيهقي. فهو مرسل. وليس هذا بعلة قادحة؛ فإن من وصل ثقة، وقد جاء بزيادة؛ فوجب قبولها. وللحديث شاهد من حديث أبي قتادة بلفظ: " لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواريَ زينتها، ولا من جارية بلغت المحيض حتى تختمرَ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ..............................................................................   أخرجه الطبراني في " الصغير" (190) وفي " الأوسط " أيضاً. وفيه من لا يعرف. قوله: " حائض "؛ قال الترمذي: " يعني: المرأة البالغ، يعني: إذا حاضت "، قال: " والعمل عليه عند أهل العلم: أن المرأة إذا أدركت، فصلَّت وشيء من شعرها مكشوف؛ لا تجوز صلاتها. وهو قول الشافعي؛ قال: لا تجوز صلاة المرأة وشيء من جسدها مكشوف. قال الشافعي: وقد قيل: إن كان ظهر قدميها مكشوفاً؛ فصلاتها جائزة ". قلت: وقال في " الأم " (1/77) : " وكل المرأة عورة؛ إلا كفيها ووجهها ". اهـ. وقد يحتج لذلك بما روي عن أم سلمة: أنها سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتصلي المرأة في درع وخمار، وليس عليها إزار؟ قال: " إذا كان الدرع سابغاً؛ يغطي ظهور قدميها ". ولكنه حديث ضعيف مرفوعاً. أخرجه أبو داود (1/104) ، والحاكم (1/250) ، وعنه البيهقي (2/233) من طريق عثمان بن عمر: ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد بن قُنفُذ عن أمه عنها. وقال الحاكم: " صحيح على شرط البخاري ". ووافقه الذهبي. قال أبو داود: " روى هذا الحديث مالك بن أنس، وبكر بن مضر، وحفص بن غياث، وإسماعيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ..............................................................................   ابن جعفر، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة. لم يذكر أحد منهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قصروا به على أم سلمة رضي الله عنها ". قلت: فقد تفرد برفعه عبد الرحمن بن عبد الله هذا، وهو صدوق يخطئ - كما في " التقريب " -. وقال في " التلخيص " (4/89) : " وأعله عبد الحق بأن مالكاً وغيره رووه موقوفاً. وهو الصواب ". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 النِّيَّةُ (*) (1) وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " (2) .   (*) هذا المبحث ليس في أصل " الصفة "، وأضفناه بحاشيتيه من " صفة الصلاة " المطبوع، وانظر ما يتعلق ب النية أيضاً في الصفحة التالية والتي بعدها. (1) قال النووي في " روضة الطالبين " (1/224) : " والنية: هي القصد. فيُحضِر المصلي في ذهنه ذات الصلاة، وما يجب التعرض له من صفاتها؛ كالظُّهرية والفرضية وغيرها، ثم يقصد هذه العلوم قصداً مقارناً لأول التكبير ". (2) [رواه] البخاري، ومسلم وغيرهما. وهو مخرج في " الإرواء " (22) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 التكبير ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح (1) الصلاة بقوله: .....................   (1) فيه إشارة إلى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يتكلم بشيء قبل التكبير، مثل التلفظ بالنية، كقولهم: نويت أن أصليَ لله تعالى كذا ركعات مستقبل القبلة ... إلى آخر ما هو معروف بين أكثر الناس! وكل ذلك بدعة؛ لا أصل لها في السنة باتفاق العلماء (1) ، ولم يُنقل ذلك عن أحد من الصحابة، ولا استحسنه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة المجتهدون، وإنما عن بعض أصحاب الشافعي قوله في الحج: " ولا يلزمه إذا أحرم ونوى بقلبه أن يذكره بلسانه، وليس كالصلاة التي لا تصح إلا بالنطق ". قال الرافعي في " شرح الوجيز " (2/263) : " قال الجمهور - يعني: من الشافعية -: لم يُرِد الشافعي رضي الله عنه اعتبار التلفظ بالنية، وإنما المراد التكبير؛ فإن الصلاة به تنعقد، وفي الحج يصير محرماً من غير لفظ ". اهـ. ونحوه في " المجموع " (3/276 - 277) . وقد أشار إلى ذلك في " المهذب " بقوله: " ومن أصحابنا من قال: ينوي بالقلب، ويتلفظ باللسان. وليس بشيء؛ لأن النية هي القصد بالقلب ". اهـ. وقال العلامة الشيخ موفق الدين ابن قدامة المقدسي في كتابه " ذم الموسوسين " (ص 7) : " اعلم رحمك الله أن النية هي القصد والعزم على فعل الشيء، ومحلها القلب، لا   (1) {وإنما اختلفوا في أنها حسنة أو سيئة. ونحن نقول: إن كل بدعة في العبادة ضلالة؛ لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار "} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 " الله أكبر" (1) ، ...............................................................   تعلق لها باللسان، ولم يُنقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه في النية لفظ بحال، وهذه العبادات التي أُحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة ليست من العبادة أصلاً؛ فإنما النية قصد فعل الشيء. فكل عازم على شيء؛ فهو ناويه، وكل قاصد لشيء؛ فهو ناويه، لا يُتصور انفكاك ذلك عن النية؛ لأنه حقيقتها؛ فلا يتصور عدمها في حال وجودها، ومن قعد ليتوضأ؛ فقد نوى الوضوء، ومن قام ليصلي؛ فقد نوى الصلاة، ولا يكاد العاقل يفعل شيئاً من عباداته ولا غيرها بغير نية؛ فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة، ولا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل ". اهـ باختصار. فإذا علمت أن السلف الصالح لم يكن من هديه التلفظ بالنية؛ فيجب عليك أن تقتدي بهم؛ فهم القدوة: وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شرفي ابتداع من خلف ولا يُلتفت إلى استحسانات المتأخرين؛ فإن الاستحسان في العبادات تشريع في الدين لم يأذن به الله، وقد أشار إلى ذلك الشافعي رحمه الله بقوله المشهور: " من استحسن؛ فقد شَرَعَ ". وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد ". متفق عليه. والأحاديث في النهي عن الابتداع في الدين كثيرة لا يتسع المقام لإيرادها، وفيما ذكرنا كفاية لمن أراد الله له الهداية. (1) فيه أحاديث: الأول: حديث عائشة: وفيه طول؛ فنسوقه بتمامه؛ كي نحيل عليه حينما يقتضي الأمر ذلك. قالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ..............................................................................   كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . وكان إذا ركع؛ لم يُشْخِصْ رأسَه ولم يُصَوِّبه؛ ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع من الركوع؛ لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة؛ لم يسجد حتى يستوي جالساً، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عُقبة - وفي رواية: عقب - الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السَّبُعِ؛ وكان يختم الصلاة بالتسليم. أخرجه مسلم (2/54) ، و {أبو عوانة [2/94 و 96 و 164 و 189 و 222 - مفرقاً -] } ، وأبو داود (1/125) ، والبيهقي (2/113 و 172) ، والطيالسي (217) ، وأحمد (6/31 و194) من طريق بُدَيل بن ميسرة العُقَيلي عن أبي الجوزاء عنها. ورواه الدارمي (1/281) ، وابن ماجه (1/271) ، وأحمد في رواية (6/281) إلى قولها: بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . زاد الأول: ويختمها بالتسليم. والحديث مع كونه في " صحيح مسلم "؛ فقد أُعِلَّ بالانقطاع؛ قال في " التلخيص " (3/266) : " قال ابن عبد البر: هو مرسل؛ لم يسمع أبو الجوزاء منها ". اهـ. قلت: ونص كلام ابن عبد البر في رسالة " الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف " (ص 9) : " رجال إسناد هذا الحديث ثقات كلهم؛ إلا أنهم يقولون - يعني: علماء الحديث -: إن أبا الجوزاء لا يُعرف له سماع من عائشة، وحديثه عنها إرسال ". اهـ. وقد أشار إلى ذلك البخاري في ترجمة أبي الجوزاء؛ فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ..............................................................................   " في إسناده نظر ". قال الحافظ في " التهذيب ": " يريد أنه لم يسمع من مثل ابن مسعود وعائشة وغيرهما، لا أنه ضعيف عنده. وقال جعفر الفريابي في " كتاب الصلاة ": ثنا مزاحم بن سعيد: ثنا ابن المبارك: ثنا إبراهيم بن طهمان: ثنا بديل العقيلي عن أبي الجوزاء قال: أرسلت رسولاً إلى عائشة يسألها ... فذكر الحديث ". اهـ. قلت: فرجع الحديث إلى أنه عن مجهول، وهو الواسطة بين أبي الجوزاء - واسمه: أوس بن عبد الله - وعائشة. والظاهر أن مسلماً رحمه الله لم يقف على هذا الطريق المبين لعلة الحديث؛ فرواه من الطريق الأولى بناء على مذهبه في إمكان اللقاء. والله أعلم. ولموضع الشاهد من الحديث طريق آخر: أخرجه البيهقي (2/15) عن يوسف بن يعقوب: ثنا أبو الربيع: ثنا حماد: ثنا بديل عن عبد الله بن شقيق عن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . وأبو الربيع هذا: لم أعرف اسمه. ويوسف بن يعقوب - هو: القاضي؛ كما نسبه البيهقي في رواية أخرى (2/32) ، وهو -: صدوق - كما في " اللسان " -. الحديث الثاني: عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي يقول: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة؛ استقبل القبلة ورفع يديه، وقال: " الله أكبر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ..............................................................................   أخرجه ابن ماجه (1/268) : ثنا علي بن محمد الطَّنافِسي: ثنا أبو أسامة: ثني عبد الحميد بن جعفر: ثنا محمد بن عمرو بن عطاء به. وهذا إسناد صحيح متصل. وأخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في " صحيحيهما " - كما في " التلخيص "، و" الفتح " (2/266) -. الحديث الثالث: عن واسع بن حَبّان: أنه سأل عبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " الله أكبر " كلما وضع، " الله أكبر " كلما رفع ... الحديث. ويأتي بتمامه في (السلام) . أخرجه النسائي (1/194) ، وأحمد (2/152) ، والبيهقي (2/178) من طريق ابن جريج: أنبأنا عمرو بن يحيى عن محمد بن يحيى بن حبان عنه. وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. وسكت عليه الحافظ. الحديث الرابع: عن علي رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قام إلى الصلاة؛ قال: " الله أكبر، وجهت وجهي للذي فطر السماوات ... " إلخ. أخرجه البزار في " مسنده " قال: ثنا محمد بن عبد الملك القرشي: ثنا يوسف بن أبي سلمة الماجِشُون: ثنا أبي عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي به. وصحح البزار إسناده، وكذا ابن القطان؛ فقال: " وهذا - يعني: تعيين لفظ: (الله أكبر) - عزيز الوجود، غريب في الحديث لا يكاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ..............................................................................   يوجد، حتى لقد أنكره ابن حزم [في " المحلى " (3/234) ] وقال: ما عرف قط! وهو في " مسند البزار "، وإسناده من الصحة بمكان ". قال الحافظ: " قلت: هو على شرط مسلم ". قلت: وقد أخرجه هو في " صحيحه " (2/187) ، وأبو داود (1/91) ، والنسائي (1/142) ، والدارمي (1/382) ، والدارقطني (111) ، والبيهقي (2/32) عن الطيالسي (22) ، وأحمد (1/94 و 102) من طرق عن عبد العزيز بن أبي سلمة: ثني عمي الماجشون به بلفظ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة؛ كبَّر، ثم قال: " وجهت وجهي ... " إلخ. ويأتي قريباً بتمامه. ورواه البيهقي من طريق محمد بن أبي بكر: ثنا يوسف الماجشون: ثني أبي به، دون ذكر التكبير. وأخرجه أبو داود (1/119) ، والدارقطني (107) ، والبيهقي، والطحاوي (1/131 - 132) ، وابن ماجه (1/284) ، وأحمد (1/93) من طريق أخرى عن الأعرج بلفظ: كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة؛ كبّر، يرفع يديه حذو منكبيه ... الحديث. قال في " التلخيص " (3/371) : " وصححه أحمد فيما حكاه الخلال ". وله شاهد عن محمد بن المنكدر عن عبد الرحمن بن هُرْمُز عن محمد بن مسلمة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قام يصلي تطوعاً؛ قال: " الله أكبر، وجهت وجهي ... ". أخرجه النسائي (1/143) . وإسناده قوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وأمر بذلك (المسيء صلاته) (1) - كما تقدم -[ص 55] ، وقال له: " إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يقول: الله أكبر " (2) . وكان يقول:   وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الزيلعي (1/312 - 313) ، ويأتي بعضها في الكتاب. (1) وقد تقدم لفظه وتخريجه، وذكر طرقه في (استقبال الكعبة) [55 - 57] ، وهو من حديث أبي هريرة بلفظ: " إذا قمت إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبِّر ... " الحديث. (2) هو أيضاً من حديث (المسيء صلاته) ؛ من حديث رفاعة بن رافع. أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في " الكبير " قال: ثنا علي بن عبد العزيز: ثنا حجاج: ثنا حماد: ثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة: أن رجلاً دخل المسجد، فصلى، فَأَخَفَّ صلاتَه، ثم انصرف، فسلَّم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: " وعليك السلام، ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ ". حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق! ما أُحسِن غير هذا؛ فعلمني. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... فذكره. وهذا سند صحيح، ورجاله رجال " الصحيح " - كما قال الهيثمي (2/104) -؛ إلا شيخ الطبراني علي بن عبد العزيز، وهو البغوي، وهو ثقة؛ ولكنه عِيبَ عليه أخذُ الأجرة على التحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 " مِفتاح الصلاة الطُّهور (1) ، وتحريمها (2) التكبير، .........................   وقد أخرجه أصحاب " السنن " - كما تقدم في (الاستقبال) -، وهو عندهم من طريق همام عن إسحاق به بلفظ: " ثم يكبر الله ". ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل: ثنا حماد به. ويأتي لفظه قريباً. (1) بضم الطاء؛ على المختار: وهو التطهر. قال النووي في " المجموع ": " وإنما سَمّى الوضوء مفتاحاً؛ لأن الحدث مانع من الصلاة كالغلق على الباب، يمنع من دخوله إلا بمفتاح ". (2) أي: وتحريم ما حرَّم الله فيها من الأفعال. وكذا (تحليلها) ؛ أي: تحليل ما أحل خارجها من الأفعال، فالإضافة لأدنى ملابسة، وليست إضافة إلى القبول لفساد المعنى. والمراد بالتحريم والتحليل: المحرِّم والمحلِّل؛ على إطلاق المصدر بمعنى الفاعل مجازاً، ثم اعتبار التكبير والتحليل (*) محرِّماً ومحلِّلاً مجاز، وإلا؛ فالمحرِّم والمحلِّل هو الله تعالى. ويمكن أن يكون التحريم بمعنى الإحرام؛ أي: الدخول في حرمتها. ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: آلة الدخول في حرمتها التكبير. وكذا التحليل بمعنى الخروج عن حرمتها، والمعنى: أن آلة الخروج عن حرمتها التسليم. والحديث كما يدل على أن باب الصلاة مسدود ليس للعبد فتحه إلا بطهور، كذلك يدل على أن الدخول في حرمتها لا يكون إلا بالتكبير، والخروج لا يكون إلا بالتسليم. وهو مذهب الجمهور. كذا قال السندي رحمه الله. وقال الشوكاني (2/145) :   (*) كذا الأصل، والمراد: التسليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ..............................................................................   " فيه دليل على أن افتتاح الصلاة لا يكون إلا بالتكبير دون غيره من الأذكار، وإليه ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: تنعقد الصلاة بكل لفظ قُصد به التعظيم. والحديث يَرُدُّ عليه؛ لأن الإضافة في قوله: " تحريمها " تقتضي الحصر؛ فكأنه قال: جميع تحريمها التكبير. أي: انحصرت صحة تحريمها في التكبير؛ لا تحريم لها غيره. كقولهم: مالُ فلانٍ الإبلُ، وعِلْمُ فلانٍ النحوُ. وفي الباب أحاديث كثيرة تدل على تعيُّن لفظ التكبير من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله. وعلى هذا؛ فالحديث يدل على وجوب التكبير. وقد اختلف في حكمه؛ فقال الحافظ: إنه ركن عند الجمهور، وشرط عند الحنفية، ووجه عند الشافعية، وسنة عند الزهري. قال ابن المنذر: ولم يقل به أحد غيره ". قال الشوكاني: " ويدل على وجوبه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث (المسيء صلاته) : " فإذا قمت إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر ... ". " ويدل للشرطية الحديث الذي بعده: " لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه ... ثم يقول: الله أكبر " ". قال: " والاستدلال بهذا على الشرطية صحيح؛ إن كان نفي التمام يستلزم نفي الصحة، وهو الظاهر؛ لأنا متعبدون بصلاة لا نقصان فيها، فالناقصة غير صحيحة، ومن ادعى صحتها؛ فعليه البيان ". اهـ[بتصرف] . وللبحث تتمة، فراجعه عنده. وكما أفاد الحديث وجوب التكبير، فكذلك يفيد وجوب التسليم، وسيأتي الكلام على ذلك في محله إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وتحليلها التسليم " (1) .   (1) هذا الحديث جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً، وهذه بعضها: الطريق الأول: عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل عن محمد ابن الحنفية عن علي رضي الله عنه مرفوعاً به. وهذا سند حسن. أخرجه الشافعي في " الأم " (1/87) ، وأبو داود (1/10 و 101) ، والترمذي (1/8 - 9) ، والدارمي (1/175) ، وابن ماجه (1/118) ، والطحاوي (1/161) ، والدارقطني (138 و 145) ، والبيهقي (2/173 و 379) ، وأحمد (1/123 و129) ، والخطيب (10/197) من طرق عنه. ورواه ابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، والبزار في " مسانيدهم " - كما قال الزيلعي (1/307) -، وقال الترمذي: " هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وعبد الله بن محمد بن عَقِيل: هو صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. وسمعت محمد بن إسماعيل - يعني: البخاري - يقول: كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحُميدي يحتجون بحديث عبد الله بن محمد بن عقيل. قال محمد: وهو مقارب الحديث ". اهـ. والحديث؛ قال الحافظ في " التلخيص " (3/265) : " وصححه الحاكم، وابن السكن ". وقال في " الفتح " (1/257) : " أخرجه أصحاب " السنن " بسند صحيح ". كذا قال! وقال النووي في " الخلاصة ": " هو حديث حسن ". وقال في " المجموع " (3/289) : " رواه أبو داود، والترمذي وغيرهما بإسناد صحيح؛ إلا أن فيه عبد الله بن محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ..............................................................................   عقيل؛ قال الترمذي: ... ". فذكر كلامه المذكور آنفاً. ولم أجد الحديث في " المستدرك " إلا تعليقاً (1/132) ، ذكره بدون تصحيح عقب الحديث الآتي، وهو: الطريق الثاني: عن أبي سفيان طريف السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً به. أخرجه الترمذي (2/3) ، وابن ماجه، والدارقطني (140) ، والبيهقي (2/280) من طرق عنه. وهذا سند ضعيف؛ فإن أبا سفيان طريفاً السعدي؛ قال الحافظ في " التلخيص " (3/265) : " ضعيف ". وقال الترمذي: " حديث علي أجود إسناداً من هذا ". قلت: وقد رواه الحاكم (1/132) ، والبيهقي (2/379 - 380) من طريق أبي عمر الضرير: ثنا حسان بن إبراهيم عن سعيد بن مسروق الثوري عن أبي نضرة به. وهذا إسناد ظاهره الصحة؛ ولذا قال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. قال الحافظ: " وهو معلول. قال ابن حبان في (كتاب الصلاة) المفرد له: هذا الحديث تفرد به أبو سفيان عنه، ووهم حسان بن إبراهيم؛ فرواه عن سعيد بن مسروق عن أبي نضرة عن أبي سعيد، وذلك أنه توهم أن أبا سفيان هو والد سفيان الثوري، ولم يعلم أن أبا سفيان آخرُ هو طريف بن شهاب، وكان واهياً ". ثم قال الحاكم: " وأشهر إسناد فيه حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد ابن الحنفية عن علي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع صوته بالتكبير حتى يُسْمع مَنْ خلْفَه " (1) .   الطريق الثالث: عن الواقدي: ثنا يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد مرفوعاً به. أخرجه الدارقطني (138) . والواقدي: ضعيف. ومن طريقه أخرجه الطبراني في " الأوسط " - كما في " المجمع " (2/104) وغيره -. ورواه ابن حبان في " الضعفاء " من طريق أخرى عن عباد بن تميم. وفيه محمد بن موسى بن مسكين، وبه أعله ابن حبان؛ فقال: " يسرق، ويروي الموضوعات عن الأثبات ". الطريق الرابع: أخرجه الطبراني في " الكبير " قال: ثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي: نا سليمان بن عبد الرحمن: نا سعدان بن يحيى: نا نافع مولى يوسف السلمي عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً به. ونافع هذا - هو أبو هُرْمُز -: ضعيف، ذاهب الحديث؛ كما قال الهيثمي. وعزاه للطبراني في " الأوسط " أيضاً. وبالجملة؛ فالحديث صحيح ثابت بهذه الطرق، {وهو مخرج في " الإرواء " (301) } . (1) أخرجه الحاكم (1/223) ، والبيهقي (2/18) ، وأحمد (3/18) من طريق فُلَيح بن سليمان عن سعيد بن الحارث قال: اشتكى أبو هريرة - أو: غاب -، فصلى لنا أبو سعيد الخدري، فجهر بالتكبير حين افتتح الصلاة، وحين ركع، وحين قال: (سمع الله لمن حمده) ، وحين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع، وحين قام من الركعتين؛ حتى قضى صلاته على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ..............................................................................   ذلك. فقيل له: إن الناس قد اختلفوا في صلاتك؟! فخرج، فقام على المنبر، وقال: يا أيها الناس! إني والله! ما أبالي اختلفت صلاتكم أو لم تختلف، هكذا رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي. لفظ الحاكم، وقال: " صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا السياق ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وقد أخرجه البخاري (2/242) من هذا الوجه مختصراً، وأخرجه الإسماعيلي بتمامه - كما في " الفتح " -. وفي الحديث دليل على أنه يستحب للإمام أن يرفع صوته بالتكبير؛ ليَعلم المأمومون انتقاله، فإن كان ضعيف الصوت لمرض أو غيره؛ فالسنة أن يجهر المؤذن أو غيره من المأمومين جهراً يُسمع الناس؛ كما كان يفعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بحضرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما هو مذكور في الأصل -. وهذا مما لا خلاف فيه؛ كما قال النووي في " المجموع " (3/398) ، وفيه ما سيأتي. وأما التبليغ وراء الإمام لغير حاجة - كما اعتاده كثير من الناس في زماننا في شهر رمضان - حتى في المساجد الصغيرة؛ فهو غير مشروع باتفاق العلماء، كما حكاه أعلم الناس بأقوالهم، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " الفتاوى " (1/69 - 70 و107) ؛ وذلك لأن بلالاً رضي الله عنه لم يكن يبلغ خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو ولا غيره، ولم يكن يبلغ خلف الخلفاء الراشدين؛ ولهذا صرح كثير من العلماء أنه مكروه، ومنهم من قال: تبطل صلاة فاعله. وهذا موجود في مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما. فأما إن كان المبلغ لا يطمئن - كما يفعله الكثيرون منهم -؛ فصلاته باطلة عند جمهور العلماء؛ كما دلت عليه السنة - ويأتي بيان ذلك في محله -، وكذلك إن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ..............................................................................   يسبق الإمام؛ بطلت صلاته في ظاهر مذهب أحمد. قال شيخ الإسلام: " ولا ريب أن التبليغ لغير حاجة بدعة، ومن اعتقده قربة مطلقة؛ فلا ريب أنه إمام جاهل، وإما معاند، وإلا؛ فجميع العلماء من الطوائف قد ذكروا ذلك في كتبهم حتى في المختصرات؛ قالوا: ولا يجهر بشيء من التكبير إلا أن يكون إماماً. ومن أصر على اعتقاد كونه قربة؛ فإنه يعزر على ذلك؛ لمخالفته الإجماع. هذا أقل أحواله. والله أعلم ". وفي الحديث أيضاً مشروعية التكبير في كل خفض ورفع، وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، حتى نقل بعض العلماء الاتفاق على ذلك؛ لكن نُقِل غيرُه عن بعض السلف: أنه لا يشرع إلا تكبيرة الإحرام، وهم محجوجون بأحاديث كثيرة: منها: حديث أبي سعيد هذا. ومنها: حديث عمران بن حُصين قال: صلى مع علي رضي الله عنه بالبصرة، فقال: ذَكَّرَنا هذا الرجلُ صلاةً كنا نُصليها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر أنه كان يُكَبِّر كلما رفع، وكلما وضَعَ. أخرجه البخاري (2/214) وغيره. وفي الباب أحاديث أخرى لا أريد أن أطيل بإيرادها وتخريجها؛ طالما أن المسألة صارت كالمتفق عليها. ولكنهم اختلفوا في حكم هذه التكبيرات؛ عدا تكبيرة الإحرام. قال الحافظ (2/215) : " فالجمهور على ندبيتها، وعن أحمد وبعض أهل العلم بالظاهر: يجب كله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ..............................................................................   قلت: واحتجوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". واحتج الجمهور عليهم بحديث (المسيء صلاته) ؛ فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمره بتكبيرات الانتقالات، وأمره بتكبيرة الإحرام - كما قال النووي (3/397) -. وهذه حجة ضعيفة؛ وذلك لأن حديث (المسيء صلاته) لم يقتصر أحد من العلماء المشهورين على حصر الواجبات بما ورد فيه؛ بل كل منهم يزيد على ما جاء فيه بدليل ظهر له. خذ مثالاً على النووي؛ فإنه يقول بوجوب السلام في آخر الصلاة تبعاً لمذهبه، مع أنه لم يرد ذلك في شيء من طرق حديث (المسيء) ! ومثله: الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما صرح الحافظ ابن حجر -، فكيف يحتج على غيره في موضع بما هو حجة عليه في موضع آخر؟! وهذا كله بناء على ما أفاده النووي من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر (المسيء) بهذه التكبيرات. وليس كذلك؛ فقد جاء ذلك في بعض طرق الحديث بإسناد صحيح من حديث رفاعة بن رافع: أن رجلاً دخل المسجد ... فذكر الحديث، وفيه: فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر، ويحمد الله جل وعز، ويثني عليه، ويقرأ بما تيسر من القرآن، ثم يقول: (الله أكبر) ، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: (سمع الله لمن حمده) حتى يستوي قائماً، ثم يقول: (الله أكبر) ، ثم يسجد، حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: (الله أكبر) ، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً، ثم يقول: (الله أكبر) ، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيكبر، فإذا فعل ذلك؛ تمت صلاته ". أخرجه أبو داود (1/137) : ثنا موسى بن إسماعيل: ثنا حماد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن علي بن يحيى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 و " كان إذا مرض؛ رفع أبو بكر رضي الله عنه صوته؛ يُبَلِّغ الناس تكبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (1) . وكان يقول:   وهذا سند صحيح. وقد أخرجه غيره عن همام عن إسحاق - كما تقدم قريباً -. فقد ثبت التكبير في الحديث، وثبت بذلك وجوبه، فهو حجة للإمام أحمد رحمه الله، لا عليه، وهو الحق الذي يجب المصير إليه. (1) جاء فيه حديثان: الأول: حديث جابر: قال: اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلينا وراءه، وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره ... الحديث. أخرجه مسلم وغيره، وقد تقدم بتمامه في (قيامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . وفي لفظ للنسائي وغيره: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهر، وأبو بكر خلفه، فإذا كبَّر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كبَّر أبو بكر يُسْمِعُنا. وسنده صحيح. وأصله في " مسلم ". والآخر: حديث عائشة: قالت: لما مرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرضه الذي توفي فيه، فأُتي برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أُجلس إلى جنبه (قلت: يعني: أبا بكر رضي الله عنه) ، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بالناس، وأبو بكر يُسمعهم التكبير. أخرجه البخاري (2/162) ، ومسلم (2/23) . وأصله عند أصحاب " السنن " وغيرهم - كما سبق -. قال النووي في " شرح مسلم ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 " إذا قال الإمام: الله أكبر؛ فقولوا (1) : .....................................   " فيه جواز رفع الصوت بالتكبير؛ ليسمعه الناس ويتّبعوه، وأنه يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبِّر، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، ونقلوا فيه الإجماع، وما أُراه يصح الإجماع فيه؛ فقد نقل القاضي عياض عن مذهبهم: أن منهم من أبطل صلاة المقتدي ... ومنهم من أبطل صلاة المسمع ... ومنهم من شرط إذن الإمام، ومنهم من قال: إنْ تكلَّف صوتاً؛ بطلت صلاته وصلاة من ارتبط بصلاته. وكل هذا ضعيف. والصحيح جواز كل ذلك، وصحة صلاة المُسْمع والسامع، ولا يعتبر إذن الإمام. والله أعلم ". قلت: وقد نقلنا لك قريباً عن النووي أن المسألة لا خلاف فيها، وكلامه هنا مخالف لذلك! فالظاهر أنه لم يكن قد اطلع على ما ذكره عن القاضي عياض حينما كتب ذلك في " المجموع ". وقد حكى الخلاف في المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً، فالمسألة ليست متفقاً عليها؛ لكن السنة الثابتة كافية، فالاعتماد عليها مغنٍ عن [نقل] الاتفاق فيها. (1) ذهب بعضهم إلى أن الفاء للتعقيب، وقالوا: مقتضاه أن يقع التكبير بعد تكبير الإمام، ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة مرفوعاً: " إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر؛ فكبِّروا، ولا تكبِّروا حتى يكبر ... " الحديث. أخرجه أبو داود (1/99) ، وأحمد (2/341) من طريق وهيب: ثنا مصعب بن محمد عن أبي صالح السمان عنه. وهذا سند جيد. رجاله رجال الستة، غير مصعب بن محمد، وقد وثقه ابن معين وغيره، وفي " التقريب ": " لا بأس به ". وحسّن الحديث في " الفتح " (2/142) ؛ لكن قد نُوزعَ في كون هذه الفاء تدل على التعقيب؛ فقال الحافظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الله أكبر " (1) .   " جزم ابن بطال ومن تبعه حتى ابن دقيق العيد أن الفاء في قوله: " فكبروا " للتعقيب. ومقتضاه الأمرُ بأن أفعال المأموم تقع عقب فعل الإمام؛ لكن تُعُقِّبَ بأن الفاء التي للتعقيب هي العاطفة، وأما التي هنا: فهي للربط فقط؛ لأنها وقعت جواباً للشرط، فعلى هذا لا تقتضي تأخر أفعال المأموم عن الإمام إلا على القول بتقدم الشرط على الجزاء، وقد قال قوم: إن الجزاء يكون مع الشرط. فعلى هذا؛ لا تنتفي المقارنة، لكن رواية أبي داود هذه صريحة في انتفاء التقدم والمقارنة. والله أعلم ". (1) أخرجه البيهقي (2/16) عن أبي عاصم عن سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً به. وزاد: " وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربنا! ولك الحمد ". وهذا سند صحيح. رجاله رجال الستة، وأبو عاصم هذا هو: الضحاك بن مخلد. وله عن سعيد طريق أخرى: أخرجه البيهقي، وأحمد (3/3) عن زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل عن سعيد به مطولاً. وهذا إسناد حسن. ثم رأيت الحديث في " المستدرك " (1/215) من الوجه الأول، وقال: " صحيح على شرطهما ". ووافقه [الذهبي] . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 رَفْعُ اليدَيْنِ و" كان يرفع يديه تارةً مع التكبير (1) ، .....................................   (1) رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين يكبر حتى يجعلهما حذو منكبيه، وإذا كبَّر للركوع؛ فعل مثله، وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فعل مثله، وقال: ربنا! ولك الحمد، ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود. أخرجه البخاري في " صحيحه " (2/176) وفي " جزء رفع اليدين " (14) ، والنسائي (1/140) ، والبيهقي (2/26) من طريق شعيب بن أبي حمزة القرشي عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله عنه. وأخرجه الدارقطني (108) ، وأحمد (2/147) من طريق معمر عن الزهري به. ورواه الطحاوي (1/115 و 131) عن جابر الجعفي عن سالم به. وله طريق أخرى؛ فرواه أحمد (2/132) من طريق إسماعيل بن عياش عن صالح ابن كيسان عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة، وعن صالح بن كيسان عن نافع عن ابن عمر: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر ويفتتح الصلاة، وحين يركع، وحين يسجد. وأخرجه الدارقطني (111) بمعناه. وروى ابن ماجه (1/282) ، والبخاري في " رفع اليدين " (15) ، والطحاوي (1/132) ، والخطيب (7/394) طريق أبي هريرة فقط بلفظ أحمد. وفي سنده ضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ..............................................................................   وله شواهد: منها: حديث مالك بن الحويرث: أن رسول الله كان إذا صلى؛ رفع يديه حين يكبر حيال أذنيه، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. أخرجه النسائي (1/140) بإسناد صحيح؛ قال: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: ثنا خالد قال: ثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت نصر بن عاصم عنه. وهذا إسناد على شرط مسلم. لكن قد أخرجه في " صحيحه " (2/7) ، وأحمد أيضاً (5/53) من طريقين عن قتادة به بلفظ: كان إذا كبَّر؛ رفع يديه. ففيه أن التكبير قبل الرفع. ومثله رواية أحمد عن يحيى بن سعيد عن شعبة بلفظ: كان يرفع يديه؛ إذا دخل في الصلاة. ونحوه الدارمي (1/285) . وقال حفص بن عمرو عن شعبة: ... إذا كبَّر. [رواه] أبو داود (1/119) . وله عند مسلم طريق أخرى تأتي قريباً. ومنها: عن وائل بن حجر: أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يديه حين دخل في الصلاة كبَّر حيال أذنيه، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع؛ أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبَّر، فركع، فلما قال: (سمع الله لمن حمده) ؛ رفع يديه، فلما سجد؛ سجد بين كفيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ..............................................................................   رواه مسلم (2/13) ، والبيهقي (2/28، 71) ، وأحمد (4/317) عن هَمَّام: ثنا محمد بن جحادة: ثني عبد الجبار بن وائل عن علقمة بن وائل ومولى لهم: أنهما حدثاه عن أبيه وائل. وله طرق: [أما الأول] : فأخرجه الطحاوي (1/116 و 131) ، وأحمد (4/317 - 318) عن سفيان عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين كبَّر؛ رفع يديه حذاء أذنيه، ثم حين ركع، ثم حين قال: " سمع الله لمن حمده "؛ رفع يديه ... الحديث. وتابعه شعبة عن عاصم به. أخرجه أحمد (4/316) . وهذا سند صحيح على شرط مسلم. و [الطريق الثاني] : أخرجه الدارقطني بإسناد آخر على شرط مسلم، يأتي في (رفع اليدين عند السجود) . طريق ثالث: عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البَخْتَري عن عبد الرحمن بن اليحصبي عنه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه مع التكبير. أخرجه البيهقي (2/26) ، وأحمد (4/316) . وهذا سند حسن. وبه أخرجه الدارمي (1/285 - 286) ، والطيالسي (137) بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وتارةً قبله (1) ، ..............................................................   ... عند التكبير. وهو رواية لأحمد. طريق رابع: عن المسعودي عن عبد الجبار بن وائل: ثني أهل بيتي عن أبي مثله. أخرجه أحمد، والبيهقي، وأبو داود. ليس في إسناده: (ثني أهل بيتي) . فهو منقطع، أو مجهول. وفي هذه الأحاديث: أن السنة في رفع اليدين أن يكون مقارناً للتكبير. وهو قول في مذهب الحنفية؛ قال في " البحر الرائق " (1/322) : " وهو المروي عن أبي يوسف قولاً، والمحكي عن الطحاوي فعلاً، واختاره شيخ الإسلام وقاضيخان وغيرهم حتى قال البقّالي: هذا قول أصحابنا جميعاً ... ، وفسر قاضيخان المقارنة بأن تكون بداءته عند بداءته، وختمه عند ختمه ". قلت: وهو قول الشافعي، والمرجح عند أصحابه، وعند المالكية أيضاً - كما في " الفتح " -؛ قال الشافعي في " الأم " (1/90) - بعد أن ساق حديث ابن عمر المذكور في صدر هذا البحث -: " وبهذا نقول؛ فنأمر كل مصلٍّ - إماماً أو مأموماً أو منفرداً أو رجلاً أو امرأة - أن يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ويكون رفعه في كل واحدة من هذه الثلاث حذو منكبيه، ويثبت يديه مرفوعتين حتى يفرغَ من التكبير كله، ويكون مع افتتاح التكبير، وَرَدَّ يديه عن الرفع مع انقضائه ". اهـ. وقال البيهقي (2/27) : " ورواية من دلت روايته على الرفع مع التكبير أثبت وأكثر؛ فهي أولى بالاتباع ". (1) رواه عبد الله بن عمر أيضاً قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة؛ رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ..............................................................................   كبَّر ... الحديث. زاد في رواية: وهما كذلك. أخرجه مسلم (2/6 - 7) ، والبخاري في " رفع اليدين " (16) ، وأبو داود (1/114) ، والنسائي (1/140) ، والدارقطني (108) ، والبيهقي (2/26 و 69) من طرق عن الزهري عن سالم عنه. والزيادة تفرد بها أبو داود، ومعناها عند الدارقطني. وإسناده صحيح، أو حسن - كما قال النووي في " المجموع " (3/308) -. وله شواهد: منها: عن أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة؛ يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر ... الحديث. ويأتي بتمامه إن شاء الله تعالى في (رفع اليدين عند الركوع) . أخرجه أبو داود (1/116) ، والترمذي (2/105 - 106) ، والدارمي (1/313) ، وابن ماجه (1/213) ، والطحاوي (1/131) ، والبيهقي (2/24 و 72 و 127) عن عبد الحميد بن جعفر: ثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حُمَيد في عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به. وهو في " المسند " (5/424) ؛ لكن ليس فيه قوله: ثم يكبر. وهو كذلك في أكثر نسخ الترمذي، وفي نسخة مثل رواية الجمهور. وكذلك هو في نقل الزيلعي عن الترمذي (1/311) بلفظ: ثم قال: " الله أكبر ". وكون التكبير بعد الرفع: هو وجه في مذهب الشافعية، وقول عند الحنفية؛ قال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وتارةً بعده " (1) .   " البحر " (1/322) : " ونسبه في " المجمع " إلى أبي حنيفة ومحمد، وفي " غاية البيان " إلى عامة علمائنا، وفي " المبسوط " إلى أكثر مشايخنا ". وقال في " الهداية " (1/197 - من شرح ابن الهُمَام) : " الأصح أنه يرفع يديه أولاً، ثم يكبّر؛ لأن فعله نفي الكبرياء عن غير الله، والنفي مقدم على الإثبات ". (1) رواه مالك بن الحويرث رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا كبر؛ رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع؛ رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع، فقال: (سمع الله لمن حمده) ؛ فعل مثل ذلك. أخرجه مسلم (2/7) ، والبخاري في " رفع اليدين " (7 و 23) ، وأبو داود (1/119) ، والدارمي (1/285) ، وابن ماجه (1/282) ، والبيهقي (2/25) ، وأحمد (5/53) . ثم أخرجه البيهقي (2/27 و 71) ، ومسلم أيضاً من طريق أخرى عن أبي قلابة: أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى؛ كبَّر، ثم رفع يديه، وإذا أراد أن يركع؛ رفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع؛ رفع يديه، وحدث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل هكذا. والرفع بعد التكبير.. قال الحافظ: " لم أرَ من قال به ". قلت: هو قول في مذهب الحنفية. والحق: أن كلاً من هذه الصفات الثلاث سنة ثابتة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فعلى المسلم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 و " كان يرفعهما ممدودة الأصابع، [لا يفرج بينها، ولا يضمها] " (1) .   يأخذ بها في صلواته، فلا يدع واحدة منها للأخرى؛ بل يفعل هذه تارة، وهذه تارة، وتلك أخرى. ثم وجدت للحديث شاهداً من حديث أنس: عند الدارقطني (113) بإسناد فيه نظر؛ سيأتي الكلام عليه في (الاستفتاح) بـ: " سبحانك اللهم! ... ". (1) رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل في الصلاة؛ رفع يديه مداً. أخرجه أبو داود (1/120) ، والنسائي (1/141) ، والترمذي (2/6) ، والطحاوي (1/115) ، {وابن خزيمة (1/64/1) = [1/233 و 234/459 و 460] } ، والحاكم (1/215 و 234) ، والطيالسي (312) ، ومن طريقهما البيهقي (2/27) ، وأحمد (2/434 و500) من طرق عن ابن أبي ذئب: ثنا سعيد بن سمعان عنه به. وقال الحاكم: " صحيح ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وحسنه الترمذي - كما في بعض النسخ -؛ فقصر. ولفظ الحاكم، [وابن خزيمة في الرواية الأولى] : كان إذا قام إلى الصلاة؛ قال هكذا - وأشار أبو عامر بيده -، ولم يُفَرِّج بين أصابعه، ولم يضمها. ورواه الترمذي، {وابن خزيمة (1/62/2) = [1/233/458] } ، والحاكم (1/235) ، والبيهقي من طريق يحيى بن اليمان عن ابن أبي ذئب به بلفظ: كان إذا كبَّر للصلاة؛ نشر أصابعه نشراً. وضعفه الترمذي بقوله: " إن الرواية الأولى أصح من رواية يحيى هذه ". قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ..............................................................................   " وأخطأ يحيى بن اليمان في هذا الحديث ". قلت: ظاهر كلام ابن أبي حاتم في " العلل " (1/161 - 162) أن ابن اليمان لم يتفرد بهذا اللفظ؛ فقال: " سألت أبي عن حديث رواه شَبَابَةُ عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا افتتح الصلاة؛ نشر أصابعه نشراً؟ قال أبي: إنما روى على هذا اللفظ يحيى بن يمان؛ ووهم، وهذا باطل ". وقال في موضع آخر (1/98) : " إنما أراد: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة؛ رفع يديه مداً. كذا رواه الثقات من أصحاب ابن أبي ذئب ". اهـ. فإذا ثبت أن شبابة رواه مثل رواية ابن اليمان؛ فهو متابع قوي ليحيى؛ لأن شبابة ثقة حافظ من رجال الشيخين، وما روياه موافق في المعنى - بل ومفسر - لما رواه الثقات عن ابن أبي ذئب؛ لأن النشر ضِدُّ الطَيِّ، وهو بمعنى المد في هذا المقام، لا فرق بينهما - كما قال بعض المعاصرين من المحققين -؛ ولذلك جعل الحاكم هذه الرواية مفسرة للرواية الأولى. هذا، وفي لفظ لأحمد، والحاكم، وهو رواية النسائي: ثلاث كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعمل بهن قد تركهن الناس: كان يرفع يديه مداً إذا دخل في الصلاة، ويكبر كلما ركع ورفع، والسكوت قبل القراءة؛ يسأل الله من فضله. قال السندي: " والحديث يدل على أن الناس تركوا بعض السنن وقت الصحابة؛ فينبغي الاعتماد على الأحاديث. والله تعالى أعلم ". ولابن أبي ذئب فيه شيخ آخر باللفظ الأول؛ فقال الطيالسي (334) : ثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ..............................................................................   ومن طريقه أخرجه البيهقي. ورواه الدارمي (1/281) ، وأحمد (2/500) ، من طريقين {وتمام [2/64/1152] } عن ابن أبي ذئب به. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. (تنبيه) : قال في " الزاد " (1/71) : " وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه معها - يعني: تكبيرة الإحرام -، ممدودة الأصابع، مستقبلاً بها القبلة ". وقال في موضع آخر (1/92) : " وكان يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه؛ في ركوعه، وفي سجوده، وفي تشهده، ويستقبل أيضاً بأصابع رجليه القبلة في سجوده ". قلت: ما ذكره صحيح بالنسبة إلى السجود والتشهد - كما سيأتي بيان ذلك في محله -. وأما الاستقبال في الرفع؛ فلم أقف فيه على حديث؛ إلا في تكبيرة الافتتاح، وهو ضعيف. أخرجه الطبراني في " الأوسط " عن ابن عمر رفعه: " إذا استفتح أحدكم؛ فليرفع يديه، وليستقبل بباطنها القبلة؛ فإن الله أمامه ". قال الهيثمي (2/102) : " وفيه عمير بن عمران، وهو ضعيف ". وقد ذكره البيهقي (2/27) ؛ فقال: " وقد روي في حديثٍ ... " فذكره. ثم قال: " إلا أنه ضعيف؛ فضربت عليه ". فلعل ابن القيم قَوِيَ ذلك عنده بطريق القياس على الاستقبال في التشهد وغيره. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 و " كان يجعلهما حذو مَنْكِبَيْهِ (1) ، وربما رفعهما حتى يُحاذي بهما [فروع] أذنيه " (2) .   (1) هكذا قال عبد الله بن عمر - وتقدم حديثه قريباً (ص 193) -، وكذلك قال أبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تقدم في حديثهم (ص 197) - وفي الباب عن علي- وقد تقدم (ص 180) - برواية أهل " السنن " وغيرهم، إلا الترمذي. وقد أخرجه هو أيضاً (2/251 - 252 - طبع بولاق) ، وقال: " حسن صحيح ". وعن أبي هريرة بإسناد ضعيف - وقد مضى (ص 193) -؛ لكن رواه أبو داود بلفظ آخر بإسناد صحيح - كما سيأتي في (الرفع من الركوع) [ص 674]-. وفي هذه الأحاديث: أن الرفع يكون حذو المنكبين، والمراد أن تحاذي راحتاه منكبيه. وبه قال عمر بن الخطاب وابنه وأبو هريرة - كما ذكره البيهقي -، وهو قول الشافعي في " الأم " - وقد ذكرنا نص كلامه فيما سبق (ص 196) -، وإليه ذهب أصحابه، وهو مذهب مالك، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر - كما في " المجموع " (3/307) -. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يكون حذو أذنيه، ودليله ما سيأتي. وعن أحمد رواية: أنه يتخير بينهما، ولا فضيلة لأحدهما على الآخر. وحكاه ابن المنذر عن بعض أهل الحديث، واستحسنه. قلت: وهذا هو الحق؛ فالكل سنة، وإليه مال كثير من علمائنا المحققين؛ كعلي القاري، والسندي الحنفي، ويأتيك نص كلامه في ذلك قريباً. (2) قاله مالك بن الحويرث. أخرجه مسلم، وأصحاب " السنن " وغيرهم - وقد تقدم لفظه قريباً (ص 198) -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ..............................................................................   والزيادة هي رواية أبي داود، وهي رواية لمسلم، والبخاري في " رفع اليدين " (17) ، وأحمد في " المسند ". ولفظ ابن ماجه: قريباً من أذنيه. وهو رواية لأحمد أيضاً. وفي الباب عن وائل بن حُجْر بلفظ: حتى حاذتا أذنيه. رواه أبو داود، وغيره بسند صحيح، وسيأتي بتمامه في (وضع اليمنى على اليسرى) . ورواه مسلم من طريق أخرى عنه بلفظ: حيال أذنيه. وقد مر لفظه (ص 194) . وفي رواية لأبي داود (1/118) ، وأحمد (4/316) - واللفظ له - عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه حين افتتح الصلاة حتى حاذت إبهامه شحمة أذنه. وسنده ضعيف؛ لأن عبد الجبار لم يسمع من أبيه. وقيل: إنه ولد بعد وفاة أبيه - كما في " المجموع " (3/306) -، وضعفه الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " (1/137) . ثم رواه أبو داود (1/115) من طريق أخرى عن عبد الجبار: ثني أهل بيتي عن أبي بلفظ: رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه، ثم كبَّر. وهو ضعيف أيضاً؛ لجهالة أهل البيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ..............................................................................   وفي الباب عن البراء بن عازب بلفظ: قريباً من شحمتي أذنيه. أخرجه الطحاوي (1/115 - 116) ، وأبو داود (1/121) وغيرهما. وإسناده ضعيف. ولعله يأتي في (الرفع عند الركوع) . وعن أنس بسند ضعيف، وسيأتي في (الاستفتاح) بـ: " سبحانك ... ". وقد ذهب إلى العمل بهذه أبو حنيفة وأصحابه؛ فقالوا: " يرفع إلى شحمتي أذنيه ". وخصوا المرأة بالرفع إلى المنكبين، وهذا التخصيص لا دليل عليه إلا الرأي؛ ولذلك قال أبو حنيفة في رواية الحسن عنه: " إنها ترفع حذاء أذنيها ". وقد تكلفوا في الجمع بين هذه الأحاديث، وبين الأحاديث السابقة في الرفع إلى المنكبين، والأمر أيسر من ذلك؛ قال السندي رحمه الله: " لا تناقض بين الأفعال المختلفة؛ لجواز وقوع الكل في أوقات متعددة؛ فيكون الكل سنة، إلا إذا دلَّ الدليل على نسخ البعض؛ فلا منافاة ... ". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وَضْعُ اليمنى على اليُسرى، والأمرُ به و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده اليمنى على اليسرى " (*) . وكان يقول: " إنَّا - معشرَ الأنبياء - أُمِرْنا بتعجيل فطرنا، وتأخير سُحورنا، وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة " (1) .   (*) رمز له الشيخ رحمه الله في الأصل بـ: " حم (4/318) ، هق (28) ، ابن حبان (485) "، وفي " صفة الصلاة " خرجه بقوله: " مسلم، وأبو داود. وهو مخرج في " الإرواء " (352) "، وانظر تخريجه فيما يأتي من حديث وائل بن حجر (ص 209 - 210) . (1) هو حديث صحيح؛ له طرق: الأول: أخرجه الطبراني في " الكبير " [11485] وفي " الأوسط " (1/100/1) = [1884] قال: ثنا أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى: ثنا جدي حرملة بن يحيى: نا ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث قال: سمعت عطاء بن أبي رباح قال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... فذكره. وعن الطبراني أخرجه المقدسي في " المختارة " [11/208/200] به، وقال: " وأحمد بن طاهر بن حرملة: أخرجناه اعتبارا ". وذا إسناد رجاله كلهم رجال مسلم، غير شيخ الطبراني، وهو متهم بالكذب. لكن عزاه الحافظ في " التلخيص " (3/277) للطبراني في " الأوسط "، وابن حبان - يعني في " صحيحه "؛ كما صرح به ابن التركماني في " الجوهر النقي " - من حديث ابن وهب به. فالظاهر أنهما أخرجاه من طريق أخرى عن حرملة عنه؛ بدليل أن الحافظ لما ذكر قول الطبراني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ..............................................................................   " لم يروه عن عمرو بن الحارث إلا ابن وهب، تفرد به حرملة "؛ عقب عليه بقوله: " أخشى أن يكون الوهم فيه من حرملة ". اهـ. فلو كان الحديث عند " الأوسط "، وابن حبان من طريق حفيدِ حرملةَ (أحمدَ بن طاهر) ؛ لأعله الحافظ به (1) . وأما إعلاله بأنه يخشى أن يكون وهم فيه حرملة؛ فليس بشيء في رأيي؛ لأن حرملة صدوق - كما قال الحافظ نفسه في " التقريب " -، وقد كان أعلم الناس بابن وهب، وهو ثقة - كما قال العقيلي -، وقال ابن عدي: " وقد تبحَّرْتُ حديث حرملة، وفتشته الكثيرَ؛ فلم أجد فيه ما يجب أن يُضَعَّفَ من أجله، ورجل يكون حديث ابن وهب كلُّه عنده؛ فليس ببعيد أن يُغرِب على غيره كتباً ونُسَخاً ". اهـ. فالحديث عندي صحيح، وقد صححه السيوطي في " تنوير الحوالك " (1/174) . وقد أخرجه الطيالسي (346) ، وكذا الدارقطني - كما سبق؛ من طريقين - عن طلحة عن عطاء به. وقال ابن حبان بعد أن أخرج الطريق الأول: " سمعه ابن وهب من عمرو بن الحارث ومن طلحة بن عمرو جميعاً ". وله عند الطبراني في " الكبير" [ (10851) و " الأوسط " (4249) ]- {وعنه الضياء المقدسي في " المختارة " [11/56/47] } - طريق أخرى: فقال: ثنا العباس بن محمد المُجاشِعي الأصبهاني: نا محمد بن أبي يعقوب الكِرْماني: نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس مرفوعاً به. وهذا سند صحيح. رجاله رجال البخاري، غير العباس بن محمد المُجاشِعي، وهو   (1) ثم تأكد ما استنتجته لما رأيت الحديث قد أخرجه المقدسي [11/209/201] من طريق أبي حاتم محمد بن حبان بن أحمد البُستي (885 - موارد) : نا الحَسَن بن سفيان: نا حرملة به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 و " مر برجل وهو يصلي وقد وضع يده اليسرى على اليمنى؛ فانتزعها، ووضع اليمنى على اليسرى " (1) .   ثقة. قال أبو الشيخ ابن حَيَّان في كتاب " طبقات الأصبهانيين ": " عباس بن محمد بن مجاشع: يكنى أبا الفضل، يروي عن محمد بن أبي يعقوب الكرماني عامةَ المسند من أصل كتابه، شيخ ثقة ". اهـ. وفي " اللسان ": " روى عن محمد بن أبي يعقوب الكِرْماني، وعنه إبراهيم بن محمد القُومَسي. قال ابن القطان: لا يعرف، وحديثه في (الحج) من " سنن الدارقطني ". قلت: قد تبعه أحمد بن محمد الأزرق - كما رواه البيهقي من طريقه - ". اهـ. وقول ابن القطان: " لا يعرف "؛ هو على حسب اطلاعه، وإلا؛ فقد وثقه أبو الشيخ، وهو أعرف به؛ لأنه من أصل بلده، وصاحب الدار أدرى بما فيها. والحديث أخرجه المقدسي أيضاً من هذا الوجه. وله شواهد: فأخرجه الطبراني في " الصغير " (ص 55) وفي " الأوسط "، والبيهقي (2/29) من حديث ابن عمر. ورواه العقيلي وضعفه، والدارقطني، وابن عبد البر من حديث أبي هريرة. والطبراني في " الكبير " عن يعلى بن مرة، وعن أبي الدرداء. وفي كل منها ضعف؛ لكن بعضها يقوي بعضاً. (1) أخرجه الإمام أحمد (3/381) : ثنا محمد بن الحسن الواسطي - يعني: المُزَني -: ثنا أبو يوسف الحجاج - يعني: ابن أبي زينب الصيقل - عن أبي سفيان عن جابر قال: ... فذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ..............................................................................   وأخرجه الدارقطني (107) عن يحيى بن معين: ثنا محمد بن الحسن به. ورواه الطبراني في " الأوسط ". وهذا إسناد جيد، ورجاله رجال " الصحيح " - كما قال الهيثمي (2/104) -. وأخرجه أبو داود (1/120) ، وعنه البيهقي (2/28) ، والنسائي (1/141) ، ومن طريقه الدارقطني (107) ، وابن ماجه (1/271) ، وابن حزم في " المحلى " (4/112 و113) عن هشيم: أنبأنا الحجاج بن أبي زينب السلمي عن أبي عثمان النهدي عن عبد الله بن مسعود قال: رآني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد وضعت شمالي على يميني في الصلاة؛ فأخذ بيميني، فوضعها على شمالي. وهذا إسناد قال النووي في " المجموع " (3/312) : " صحيح على شرط مسلم ". وهو كما قال؛ إلا أن الحجاج هذا فيه مقال، وفي " التقريب ": " صدوق يخطئ ". ولذلك اقتصر الحافظ في " الفتح " (2/178) على تحسينه، وعزاه لابن السكن أيضاً في " صحيحه ". ثم ذكره الدارقطني من طريق محمد بن يزيد الواسطي عن الحجاج به. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وضعهُمَا على الصَّدْرِ و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد " (1) ،   (1) روى هذه الصفة وائل بن حُجر رضي الله عنه قال: قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يصلي؛ فنظرت إليه: فقام، فكبَّر، ورفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد، فلما أراد أن يركع؛ رفع يديه مثلها، - قال: - ووضع يديه على ركبتيه، ثم لما رفع رأسه؛ رفع يديه مثلها، ثم سجد، فجعل كفيه بحذاء أذنيه، ثم قعد، وافترش رجله اليسرى، ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حَدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض اثنتين من أصابعه وحلَّق حلْقة، ثم رفع أصبعه، فرأيته يحركها؛ يدعو بها. أخرجه أبو داود (1/115) ، والنسائي (1/141) ، والدارمي (1/314) ، {وابن خزيمة (1/54/2) = [1/243/480] } ، وابن حبان (485) ، {وابن الجارود في " المنتقى " (208) } ، والبيهقي (2/27 - 28 و 132) ، وأحمد (4/318) من طرق عن زائدة قال: ثنا عاصم بن كليب قال: ثني أبي: أن وائل بن حجر أخبره قال: ... فذكره. وهذا إسناد متصل صحيح على شرط مسلم. قال الحافظ في " الفتح " (2/178) : " وصححه ابن خزيمة وغيره "، وعزاه في " التلخيص " (3/280 - 281) لابن خزيمة وابن حبان. قلت: وصححه النووي في " المجموع "، وابن القيم (1/85) ، {وابن الملقن (28/2) } . وله شاهد صحيح من حديث سهل بن سعد، وهو الآتي بعده. والحديث رواه مسلم (2/13) ، وأبو داود أيضاً، والنسائي، والدارمي (1/283) ، وابن ماجه (1/270 - 271) ، والدارقطني (107) ، والبيهقي، والطيالسي (رقم 1020 و1024) ، وأحمد أيضاً (4/316 و 317 و 318 و 319) من طرق عن وائل به مجملاً؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 " وأمر بذلك أصحابه " (1) . و" كان - أحياناً - يقبض باليمنى على اليسرى " (2) .   بدون هذا التفصيل بلفظ: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، فأخذ شماله بيمينه. ولفظ مسلم: ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ... الحديث. (1) رواه مالك في " الموطأ " (1/174) ، ومن طريقه البخاري - والسياق له - (2/178) ، ومحمد في " موطئه " (156) ، {وأبو عوانة [2/97] } ، والبيهقي (2/28) ، وأحمد (5/336) عنه عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم: " لا أعلمه إلا يَنْمِي ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". قال النووي في " المجموع " (3/312) : " وهذه العبارة صريحة في الرفع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وبيَّن ذلك الحافظ في " الفتح ". وإذا ثبت أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمر بهذا الوضع؛ فهو يفيد وجوب ذلك، ولكننا لم نجد من ذهب إلى القول به من الأئمة المتقدمين، فإن قال به أحد منهم؛ وَجَبَ المَصيرُ إلى ذلك. والله أعلم. وقد مال الشوكاني في " نيل الأوطار " (2/157) إلى ذلك، وذكر ما يَرِدُ عليه، ثم أجاب عنه؛ فراجع كلامه في ذلك إذا شئت. (2) ورد نص ذلك في بعض روايات حديث وائل بلفظ: كان إذا قام في الصلاة؛ قبض على شماله بيمينه. أخرجه النسائي (1/141) ، وعنه الدارقطني (107) عن ابن المبارك، والبيهقي (2/28) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ..............................................................................   وكذا البخاري في " رفع اليدين " (6) عن أبي نعيم؛ كلاهما عن موسى بن عُمير العنبري - زاد النسائي: (وقيس بن سليم العنبري) -: ثنا علقمة بن وائل عن أبيه به. ورجاله عند النسائي رجال مسلم، لكن علقمة لم يسمع من أبيه؛ كما قال في " التقريب "، [وقد] اعتمد على قول ابن معين: " علقمة بن وائل عن أبيه: مرسل ". لكني وجدت تصريحه بسماعه من أبيه في " سنن النسائي " (1/161) بإسناد صحيح، وكذا البخاري في " رفع اليدين " (6 - 7) . ورواه أحمد (4/316) ، والدارقطني (107) عن وكيع: ثنا موسى بن عمير العنبري به بلفظ: واضعاً يمينه على شماله. وقد أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع بزيادة: تحت السرة. كما في " عمدة الرعاية " (1/135) . وهي زيادة شاذة عندي. ولا يخفى أن بين القبض والوضع فرقاً بيِّناً؛ فإن الأول أخص من الوضع؛ فكل قابض واضع، ولا عكس. ولكل من اللفظين طرق عن وائل، وذلك عندي من اختلاف الرواة، ولا بأس من أن نشير إلى شيء منها: فرواه عبد الجبار بن وائل عن علقمة بن وائل ومولى لهم: أنهما حدثاه عن أبيه وائل به بلفظ: وضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ..............................................................................   أخرجه مسلم (2/13) ، والبيهقي (2/28 و 71) ، وأحمد (4/317) عن هَمَّام: ثنا محمد بن جحادة عنه. ورواه عبد الوارث بن سعيد عن ابن جُحَادة بلفظ: أخذ. وهو بمعنى القبض. رواه أبو داود (1/115) . ورواه حجر أبو العنبس قال: سمعت علقمة بن وائل يحدث عن وائل - وقد سمعت من وائل - بلفظ همام. أخرجه الطيالسي (138) : ثنا شعبة قال: أخبرني سلمة بن كُهَيل عنه به. وكذلك أخرجه أحمد (4/316) ؛ إلا أنه قال: أو سمعه حُجْرٌ من وائلٍ. ثم أخرجه (4/318) عن زهير: ثنا أبو إسحاق عن عبد الجبار بن وائل عن وائل قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة قريباً من الرسغ ... الحديث. ثم رواه (4/316) عن المسعودي عن عبد الجبار: ثني أهل بيتي عن أبي بلفظ: يضع. ويشهد لهذه الرواية حديث زائدة عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بلفظ: وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد ... الحديث. وقد تقدم قريباً. وأخرجه أحمد (4/319) عن شعبة عن عاصم بلفظ: وضع يده اليمنى على اليسرى. تابعه الثوري عن عاصم: عند البيهقي (2/30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ..............................................................................   لكن رواه جمع عن عاصم بلفظ: أخذ شماله بيمينه. منهم: بِشْر بن المُفَضّل: عند أبي داود، والنسائي (1/186) ، وابن ماجه (1/270) . وعبد الواحد بن زياد: عند أحمد (4/316) ، والبيهقي (2/72) . وبشر بن معاذ: عند ابن ماجه. وسلام بن سُلَيم: عند الطيالسي (137) . وزهير بن معاوية: في " المسند " (4/318) . وخالد بن عبد الله: عند البيهقي (2/131) . رواه هؤلاء الستة عن عاصم بلفظ: أخذ. كما ذكرنا. ويشهد له حديث قَبِيْصَةَ بن هُلْب عن أبيه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّنا، فيأخذ شماله بيمينه. أخرجه الترمذي (2/32) ، وابن ماجه (1/270) ، وأحمد (5/226) من طريق أبي الأحوص عن سماك بن حرب عنه. وقال الترمذي: " حديث حسن ". قلت: ورجاله رجال مسلم، غير قَبِيصة هذا؛ فقال ابن المديني، والنسائي: " مجهول ". زاد الأول: " لم يرو عنه غير سماك ". وقال العجلي: " تابعي ثقة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ..............................................................................   وذكره ابن حبان في " الثقات " مع تصحيح حديثه - كما في " الميزان " للذهبي-. وفي " التقريب ": " مقبول ". اهـ. فمثله حسن الحديث في الشواهد. وقد رواه سفيان الثوري عن سماك بلفظ: واضعاً يمينه على شماله. أخرجه الدارقطني (107) ، والبيهقي (2/29) ، وهو رواية لأحمد. وكذلك رواه أيضاً عن شريك. وفي رواية له عن سفيان: على صدره فوق المِفْصَل. وسيأتي. ويشهد له أيضاً ما أخرجه الدارقطني (106) عن مندل عن ابن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأخذ شماله بيمينه في الصلاة. وهذا إسناد فيه ضعف وجهالة. وما أخرجه البزار، والطبراني في " الكبير " عن شَدّاد بن شُرَحْبيل قال: ما نسيت؛ فلم أنسَ أني رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائماً، يده اليمنى على يده اليسرى، قابضاً عليها - يعني: في الصلاة -. قال الهيثمي: " وفيه عباس بن يونس، ولم أجد من ترجمه ". وما أخرجه الدارقطني أيضاً، وغيره عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً: " إنَّا - معشرَ الأنبياء -أُمرنا ... " الحديث. وفيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 و " كان يضعهما على الصدر " (1) .   " وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في الصلاة. وطلحة: ضعيف، وهو ابن عمرو الحضرمي. ولكن تابعه عمرو بن الحارث في " صحيح ابن حبان " وغيره - كما يأتي -. وبالجملة؛ فكما صح الوضع؛ ثبت انقبض، فالمصلي بأيهما فعل؛ فقد أتى بالسنة، والأفضل أن يفعل هد اتارة، وهذا تارة. {وأما الجمع بين الوضع والقبض الذي استحسنه بعض المتأخرين من الحنفية؛ فبدعة. وصورته - كما ذكروا -: أن يضع يمينه على يساره، آخذاً رسغها بخنصره وإبهامه، ويبسط الأصابع الثلاث - كما في: " حاشية ابن عابدين على الدر " (1/454) -. فلا تغتر بقول بعض المتأخرين به} . (1) قوله: (على الصدر) هذا الذي ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يثبت غيره؛ وفيه أحاديث (1) : الأول: عن وائل بن حجر: أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع يمينه على شماله، ثم وضعهما على صدره. أخرجه {أبو الشيخ في " تاريخ أصبهان " (ص 125) } ، والبيهقي عن مُؤمَّل بن إسماعيل عن الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عنه. وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن مؤمل بن إسماعيل متكلم فيه؛ لسوء حفظه، وفي " التقريب ": " صدوق سيئ الحفظ ". ثم أخرجه البيهقي من طريق أخرى عن وائل.   (1) { [انظر] " أحكام الجنائز " (ص 118) } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ..............................................................................   وسنده ضعيف. {وانظر " إرواء الغليل " (353) } . والحديث أورده الحافظ الزيلعي في " نصب الراية " (1/314) ، وقال: " رواه ابن خزيمة في " صحيحه " ". اهـ. فالله أعلم؛ هل أخرجه من طريق آخر أم رواه من أحد الطريقين المذكورين (*) ؟ وأيما كان؛ فالحديث يتقوى بـ: الحديث الثاني: وهو ما أخرجه أحمد قال (5/226) : ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان: ثني سماك عن قَبِيصة بن هُلْب عن أبيه قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينصرف عن يمينه وعن يساره، ورأيته - قال - يضع هذه على صدره. وصف يحيى: اليمنى على اليسرى فوق المِفصل. وهذا إسناد حسنه الترمذي - كما تقدم -، ورجاله رجال مسلم، غير قَبِيصة هذا؛ فقال ابن المديني، والنسائي: " مجهول ". زاد الأول: " لم يرو عنه غير سماك ". وقال العجلي: " تابعي ثقة ". وذكره ابن حبان في " الثقات " مع تصحيح حديثه - كما قال الذهبي-، وفي " التقريب ": " مقبول ". اهـ. ويشهد له: الحديث الثالث: قال أبو داود (1/121) : ثنا أبو توبة: ثنا الهيثم - يعني: ابن حميد - عن ثور عن سليمان بن موسى عن طاوس قال:   (*) ثم رآه الشيخ رحمه الله فيه، وعزاه إليه (1/54/2) = [1/243/479] في " صفة الصلاة " المطبوع (ص 88 - المعارف) ، وهو من طريق مؤمل بن إسماعيل عن سفيان به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ..............................................................................   كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بينهما على صدره؛ وهو في الصلاة. وهذا إسناد مرسل جيد، رجاله كلهم موثقون، وينبغي أن يكون حجة عند الجميع؛ لأنه - وإن كان مرسلاً؛ فإنه - قد جاء موصولاً من أوجه أخرى - كما رأيت -. ويشهد له ما رواه حماد بن سلمة: ثنا عاصم الجحدري عن أبيه عن عُقْبة بن صُهْبان قال: إن علياً رضي الله عنه قال في هذه الآية: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، قال: وضع يده اليمنى على وسط يده اليسرى، ثم وضعهما على صدره. أخرجه البيهقي (2/30) . ورجاله موثقون؛ غير والد عاصم الجحدري - واسمه: العَجَّاج البصري -؛ فإني لم أجد من ذكره، وقد قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره ": " لا يصح عن علي ". ثم أخرج البيهقي نحوه عن ابن عباس. وسنده محتمل للتحسين. ويشهد لرواية علي: ما أخرجه أبو داود (1/120) من طريق أبي طالوت عبد السلام عن ابن جَرِير الضَّبيِّ عن أبيه قال: رأيت علياً رضي الله عنه يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة. وهذا إسناد قال البيهقي (2/30) : " حسن ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ..............................................................................   وهو كما قال - إن شاء الله تعالى (*) -؛ فإن رجاله كلهم ثقات؛ غير ابن جرير الضَّبِّي - واسمه: غزوان -، ووالده؛ وقد وثقهما ابن حبان، وروى عنهما غير واحد. وقد علق البخاري حديثه هذا مطولاً في " صحيحه " (3/55) بصيغة الجزم عن علي. ومما يصح أن يورد في هذا الباب حديث سهل بن سعد، وحديث وائل - المتقدِّمان -، ولفظه: وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد. ولفظ حديث سهل: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. فإن قلت: ليس في الحديثين بيان موضع الوضع! قلت: ذلك موجود في المعنى؛ فإنك إذا أخذت تُطَبِّق ما جاء فيهما من المعنى؛ فإنك ستجد نفسك مدفوعاً إلى أن تضعهما على صدرك، أو قريباً منه، وذلك ينشأ من وضع اليد اليمنى على الكف والرسغ والذراع اليسرى، فجرِّب ما قلتُه لك تجدْه صواباً. فثبت بهذه الأحاديث أن السنة وضع اليدين على الصدر، {وخلافه إما ضعيف، أو لا أصل له} (1) ..................................... [تتمة البحث (ص 222) ]   (*) انظر تضعيف الشيخ رحمه الله لهذا الأثر في " ضعيف سنن أبي داود " (رقم 130) . (1) {لم يَرُقْ هذا الكلام لأحد المنتحلين لمذهب الحنفية، والمتعصبين له ولو على خلاف السُّنة؛ فإنه نقل في تعليقه على " العواصم والقواصم " لابن الوزير اليماني الشطر الأول منه، ثم عقب عليه بقوله (3/8) : " فيه ما فيه (كذا) ، قال الإمام ابن القيم في " بدائع الفوائد " (3/91) : واختلف في موضع الوضع ... . ثم ذكر ابن القيم عن الإمام أحمد أنه يضع فوق السرة أو عليها أو تحتها، كل ذلك واسع عنده ". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ..............................................................................   ...........................................   = هذا ما شغب به ذلك المتعصب على السنة الصحيحة؛ فجعل تخيير الإمام أحمد رحمه الله في موضع الوضع دليلاً على أن وضعهما على الصدر لم يثبت في السنة!! ولو كان محباً للسنة غيوراً عليها - كما يغار على مذهبه أن ينسب إليه ما لم يصح -، ومنصفاً في تعقبه؛ لرد ما أنكره من قولي بنقده للأحاديث التي اعتمدت عليها في إثبات هذه السنة، وقد أشرت إلى مخرجيها هناك، ولكنه يعلم أنه لو فعل؛ لانفضح أمره، وانكشف تعصبه على السنة! كيف لا، وهو قد قوى أحدها؛ لكن في مكان بعيد عن المكان الأول الذي غمز فيه من ثبوتها كما سبق؛ تعمية وتضليلاً للقراء؟! فقد ذكر (3/10) - من رواية الترمذي، وأحمد - حديثَ قبيصة ابن هُلب عن أبيه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ شماله بيمينه. وقال عقبه: " وقال الترمذي: حديث حسن. وهو كما قال. وزاد أحمد في رواية: يضع هذه على صدره ". [وقد سبق هنا (ص 216) ] . وهناك أحاديث أخرى؛ منها حديثان ذكرهما هو: أحدهما: من مرسل طاوس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بهما على صدره وهو في الصلاة. وأعله بسليمان بن موسى الدمشقي؛ فقال (3/9) : " فيه لين، وخلط قبل موته بقليل، ثم هو مرسل ". وأقول: المرسل عند الحنفية حجة، وكذلك عند غيرهم إذا جاء موصولاً، أو من طرق أخرى، كما هو الشأن هنا. وقوله: " فيه لين ... " هو عبارة الحافظ في " التقريب "؛ لكنه حذف منها ما يدل على فضل سليمان هذا، وأنه خير مما ذكر! ونصها فيه: " صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل ". قلت: فمثله حسن الحديث في أسوأ الاحتمالات، وصحيح في الشواهد والمتابعات، وقد قال فيه ابن عدي - بعد أن ذكر أقوال الأئمة فيه، وساق له أحاديث من مفاريده -: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ..............................................................................   ...........................................   = " وهو فقيه راوٍ، حدّث عنه الثقات، وهو أحد علماء الشام، وقد روى أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره، وهو عندي ثبت صدوق ". والحديث الآخر: خرّجه المذكور (3/8) من رواية الطبري (30/325) ، والحاكم (2/537) ، والبيهقي (2/29 و 30 - 31) من طريق حماد بن سلمة عن عاصم الجَحْدَري عن عُقبة بن ظِبيان عن علي رضي الله عنه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . قال: هو وضع يمينك على شمالك في الصلاة. وقال عقبه: " وعاصم الجَحْدَري - هو ابن العَجَّاج أبو المُجَشِّر المقرئ - لم يوثقه غير ابن حبان، وكذا عقبة بن ظبيان. وقال ابن التركماني (2/30) : في سنده ومتنه اضطراب ". وأقول: هذا الحديث - وإن تكلم المومى إليه في إسناده، ويأتي بيان ما فيه؛ فإنه - يصلح شاهداً لأحاديث الصدر لو أن الرجل ساق الحديث بالرواية الأتم، ولا يبعد أن الحامل له على ذلك هو الانتصار لزعمه المتقدم: " فيه ما فيه "! ويظهر ذلك لكل قارئ إذا لاحظ معي ما يأتي من أمور: الأول: أن الرواية التي ساقها هي للحاكم، آثرها بالذكر لاختصارها، وأعرض عن لفظ رواية الطبري والبيهقي؛ لأنها أتم، وفيها الشاهد بلفظ: " على صدره "! أخرجاها من أربعة طرق عن حماد بن سلمة به. أحدها عند البخاري أيضاً في " التاريخ الكبير " (3/2/437) ؛ وهي: عن موسى بن إسماعيل عن حماد. ومن طريق موسى فقط أخرجه الحاكم دون الزيادة! فهي غريبة. فهل يجوز إيثارها بالذكر دون رواية الجماعة من جهة، وفيها زيادة على الرواية الغريبة من جهة أخرى لولا الهوى والعصبية المذهبية! الثاني: أنه زعم أن عاصماً الجحدري لم يوثقه غير ابن حبان! قلت: وهذا القول منه باطل، وما أظنه خفي عليه قول ابن أبي حاتم في ترجمة عاصم هذا (3/349) : = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ..............................................................................   ...........................................   = " روى عنه حماد بن سلمة، ويزيد بن زياد بن أبي الجعد. ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: عاصم الجحدري ثقة ". قلت: وقد روى عنه آخران؛ أحدهما ثقة؛ كما حققته في كتابي " تيسير انتفاع الخلان بـ (ثقات ابن حبان) ". يسر الله لي إتمامه. الثالث: أقر المشارُ إليه ابنَ التركماني على قوله: " في متنه اضطراب ". قلت: وهو مردود؛ لأن شرط الحديث المضطرب أن تكون وجوه الاضطراب فيه متساوية القوة بحيث لا يمكن ترجيح وجه منها على وجه، وليس الأمر كذلك هنا؛ لاتفاق الجماعة على رواية الزيادة - كما تقدم -؛ فرواية الحاكم التي ليس فيها الزيادة مرجوحة - كما هو ظاهر -. وأما الاضطراب في السند؛ فهو مُسَلَّم، فلا حاجة لإطالة الكلام ببيانه، ولكن ذلك مما لا يمنع من الاستشهاد به - كما فعلنا -؛ لأنه ليس شديد الضعف - كما هو ظاهر -. والله سبحانه وتعالى أعلم. وثمة حديث رابع: من حديث وائل بن حُجر، [وقد سبق (ص 210) ] . أعله المومى إليه بالشذوذ (3/7) ، ولكنه تعامى عن كونه بمعنى الحديث الذي قبله عن وائل أيضاً مرفوعاً بلفظ: ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد. [وقد سبق (ص 209) ] . وقد اعترف بصحة إسناده (3/7) ، فلو أنه حاول يوماً ما أن يحقق هذا النص الصحيح في نفسه عملياً - وذلك بوضع اليمنى على الكف اليسرى والرسغ والساعد، دون أي تكلف -؛ لوجد نفسه قد وضعهما على الصدر! ولعرف أنه يخالفه هو ومن على شاكلته من الحنفية حين يضعون أيديهم تحت السرة، وقريباً من العورة! [انظر (ص 218) ] . وبمعنى حديث وائل هذا حديثُ سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. رواه البخاري وغيره. [وقد سبق (ص 210) ] . ولكن الرجل المشار إليه لا يهمه التفقه في الحديث؛ لأنه يخشى منه على مذهبه؛ لذلك يراه الناسُ لا يهتم باتباع السنة في الصلاة، فضلاً عن غيرها، وإنما همُّه التخريج فقط. هدانا الله تعالى وإياه} . [انتهى من " صفة الصلاة " المطبوع (ص 12 - 17/ المعارف) بتصرف يسير] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ..............................................................................   = وأما وضعهما تحت السرة؛ فلم يرد فيه إلا حديث واحد مسنداً، تفرد بروايته رجل ضعيف اتفاقاً، واضطرب فيه؛ فجعله مرة من حديث علي، وأخرى من حديث أبي هريرة، وهو: عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي قال: ثني زياد بن زيد السُّوائي عن أبي جُحَيفة عن علي رضي الله عنه قال: إن من السنة في الصلاة وضعَ الكَفِّ على الكف تحت السُّرَّة. أخرجه أبو داود (1/120) ، والدارقطني (107) ، وعنه البيهقي (2/31) ، وأحمد (1/110) وفي " مسائل ابنه عبد الله " من طرق عنه. ثم أخرجه الدارقطني، وعنه البيهقي من طريق حفص بن غِيَاث عن عبد الرحمن ابن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي. ثم أخرجه أبو داود، والدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد عن عبد الرحمن بن إسحاق عن سَيَّار أبي الحكم عن أبي وائل قال: قال أبو هريرة: ... فذكره. وهذا اضطراب شديد؛ مرة يقول: ثني زياد بن زيد السُّوائي عن أبي جُحَيفة عن علي. ومرة: عن النعمان بن سعد عن علي. وأخرى: عن سَيَّار أبي الحكم عن أبي وائل عن أبي هريرة. وهذا اضطراب موهن للحديث؛ لو كان من اضطرب فيه ثقةً؛ فكيف به وهو ضعيف اتفاقاً! وهو عبد الرحمن بن إسحاق هذا؛ قال أبو داود: " سمعت أحمد بن حنبل يُضَعِّف عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي ". وقال البيهقي: " في إسناده ضعف ". ثم قال: " عبد الرحمن هذا: جرحه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ..............................................................................   وغيرهم ". ثم قال: " وهو متروك ". وكذا قال الحافظ في " التلخيص " (3/526) . وقال الذهبي: " ضعفوه ". وفي موضع آخر: " ضعيف ". وقال النووي في " المجموع " (3/313) ، وفي " شرح مسلم " وفي " الخلاصة ": " اتفقوا على تضعيف هذا الحديث؛ لأنه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، وهو ضعيف باتفاق أئمة الجرح والتعديل ". وقال الزيلعي (1/314) : " قال البيهقي في " المعرفة ": لا يثبت إسناده؛ تفرد به عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، وهو متروك ". وقال الحافظ في " الفتح " (2/178) : " هو حديث ضعيف ". وقد أعرض عنه؛ فلم يورده في كتابه " بلوغ المرام "، وإنما أورد في الباب حديث وائل في الوضع على الصدر. وأما مذاهب العلماء في محل الوضع؛ فذهبت الشافعية - قال النووي: " وبه قال الجمهور " - إلى أن الوضع يكون تحت صدره؛ فوق سرته. قال النووي: " واحتج أصحابنا بحديث وائل ". قال الشوكاني (2/158) : " والحديث لا يدل على ما ذهبوا إليه؛ لأنهم قالوا: إن الوضع يكون تحت الصدر. والحديث مصرِّح بأن الوضع على الصدر، وكذلك حديث طاوس المتقدم، ولا شيء في الباب أصح من حديث وائل المذكور، وهو المناسب لما أسلفنا من تفسير علي وابن عباس لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} بأن (النحر) : وضع اليمنى على الشمال في محل النحر والصدر ". اهـ. وذهب أبو حنيفة، وسفيان الثوري وغيرهما إلى أن الوضع تحت السرة، واحتجوا بحديث علي المتقدم، وقد علمتَ أنه حديث ضعيف اتفاقاً؛ فلا يجوز الاحتجاج به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ..............................................................................   لا سيما وقد ثبت عن راويه - أعني: علياً - من فعله خلافُه - كما سبق -؛ وهو الوضع فوق السرة لا تحتها! وقواعد الحنفية تقضي بترك الحديث الذي عمل راويه بخلافه - كما هو مقرر عندهم في أصول الفقه -؛ فينبغي عليهم أن يتركوا حديث علي - لا سيما وهو ضعيف -، وأن يأخذوا بفعله، وهو أصح من مَرْوِيِّهِ، ومؤيد بأحاديث أخرى في الباب - كما رأيت -. وقد أنصف المحقق السندي رحمه الله؛ حيث قال في " حاشية ابن ماجه " - بعد أن ساق بعض الأحاديث التي أسلفنا ومنها حديث طاوس المرسل -: " وهذا الحديث - وإن كان مرسلاً؛ لكن المرسل - حجة عند الكل. وبالجملة؛ فكما صح أن الوضع هو السنة دون الإرسال؛ ثبت أن محله الصدر؛ لا غير. وأما حديث: إن من السنة وضع الأكف على الأكف في الصلاة تحت السرة. فقد اتفقوا على ضعفه. كذا ذكره ابن الهمام نقلاً عن النووي، وسكت عليه ". اهـ. وأما ما جاء في كتاب " بدائع الفوائد " لابن القيم (3/91) : " قال - يعني: الإمام أحمد - في رواية المزني: ويكره أن يجعلهما على الصدر. وذلك لما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه: نهى عن التكفير. وهو وضع اليد على الصدر ". اهـ. فإنه استدلال عجيب! فإن الحديث - إن صح - ليس فيه النهي عن التكفير في الصلاة، وليس كل ما كان منهياً عنه خارج الصلاة يكون منهياً عنه فيها؛ بل قد يكون العكس؛ فقد أمرنا - مثلاً - بالقيام فيها لله تعالى، ونهينا عنه خارجها لغيره سبحانه وتعالى، فلا يبعد أن يكون الحديث كناية عن النهي عن الخضوع لغير الله تعالى، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ..............................................................................   يُخضَع له تعالى بوضع اليدين على الصدر في الصلاة، فيكون عليه الصلاة والسلام نهى عن هذا الوضع لغير الله تعالى؛ لما فيه من الخضوع وتعظيم غير الله تعالى. وبهذا يتحقق أن هذا الحديث لا تعلق له بالصلاة مطلقاً؛ على أن تفسير (التكفير) بما ذكره الإمام أحمد مما لم نجده فيما عندنا من كتب اللغة؛ بل قال الإمام ابن الأثير في " النهاية ": " التكفير: هو أن ينحنيَ الإنسان ويطأطئ رأسه قريباً من الركوع، كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه ". وفي القاموس: " التكفير: أن يخضع الإنسان لغيره - وقال قبل أسطر: - والكَفْرُ - بالفتح -: تعظيم الفارسيِّ مَلِكَه ". زاد الشارح: " وهو إيماء بالرأس من غير سجود ". وهذه النصوص من هؤلاء الأئمة تؤيد ما ذهبنا إليه من أن الحديث لا علاقة له بالصلاة، وأن المراد به النهي عن الخضوع لغير الله تعالى. هذا يقال فيما إن صح الحديث، وما أراه يصح؛ فإنا لم نجد له أصلاً في شيء من الكتب التي بين أيدينا. {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} . هذا، وإني أستغرب من ابن القيم كيف مرَّ على كلام الإمام أحمد بدون أن يعرج عليه بأدنى تعليق! وهو من هو في اطلاعه على علم اللغة، والشرع الشريف؛ لا سيما وأن كلام الإمام مخالف لما اعتمده ابن القيم نفسه في كتاب " الصلاة "؛ حيث ذكر في سياق صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يضع يديه على صدره! فالله تعالى أعلم بأسرار القلوب وخفاياها. ثم وجدت في " مسائل الإمام أحمد " (ص 62) رواية ابنه عبد الله عنه قال: " رأيت أبي إذا صلى؛ وضع يديه إحداهما على الأخرى فوق السرة ". {وقد عمل بهذه السنة الإمام إسحاقُ بن راهويه؛ فقال المروزي في " المسائل " (ص 222) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 [ النهي عن الاختصار ] و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن الاختصار في الصلاة " (1) ، {وهو الصَّلْبُ الذي كان ينهى عنه} .   " كان إسحاق يوتر بنا ... ويرفع يديه في القنوت، ويقنت قبل الركوع، ويضع يديه على ثَدْيَيْهِ أو تحت الثديين ". ومثله قول القاضي عياض المالكي في (مستحبات الصلاة) من كتابه " الإعلام " (ص 15 - الطبعة الثالثة / الرباط) : " ووضع اليمنى على ظاهر اليسرى عند النحر "} . (1) هو من حديث أبي هريرة - {وهو مخرج في " الإرواء " (374) } - قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الاختصار في الصلاة. أخرجه البخاري (3/68) ، ومسلم (2/72) ، وأبو داود (1/150) ، والنسائي (1/142) ، وعنه ابن حزم في " المحلى " (2/18) ، والترمذي (2/222) ، والدارمي (1/332) ، والطبراني في " الصغير " (173) ، والحاكم في " المستدرك " (1/264) ، والبيهقي (2/287) ، وأحمد (2/232 و 290 و 295 و 331 و 399) من طرق عن محمد ابن سيرين عنه به. واللفظ لأبي داود، والحاكم، وأحمد في رواية. ولفظ الآخرين إلا الطبراني: نهى أن يصلي الرجل مختصراً. وقال الطبراني: أحدنا.. بدل: الرجل. وهو رواية لأحمد أيضاً. وزاد أحمد، والبيهقي في رواية: قلنا لهشام: ما الاختصار؟ قال: يضع يده على خاصرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ..............................................................................   وبهذا فسره أبو داود في " سننه "، وكذا الترمذي. قال الحافظ: " وهو المشهور من تفسيره ". اهـ. ثم إن الحديث أخرجه البيهقي من طريق ابن خزيمة: أنبأ علي بن عبد الرحمن بن المغيرة المِصري: ثنا أبو صالح الحَرَّاني: ثنا عيسى بن يونس عن هشام عن ابن سيرين به مرفوعاً بلفظ: " الاختصار راحة أهل النار". وهذا إسناد ظاهره الصحة - كما قال الحافظ العراقي؛ فيما نقله الشوكاني (2/283) -. قلت: ورجاله كلهم ثقات رجال البخاري، غير علي بن عبد الرحمن - وهو: ابن محمد بن المغيرة؛ لقبه: عَلان. بالفتح ثم التشديد -، وهو ثقة - كما في " التقريب " -. وأبو صالح الحَرَّاني: اسمه عبد الغفار بن داود بن مِهْران؛ لكن قال الذهبي في " اختصار سنن البيهقي ": " قلت: هذا منكر؛ قد رواه جماعة حفاظ عن هشام - كما تقدم - ". يعني: بلفظ النهي دون هذه الزيادة. وعزاه بهذا اللفظ المنذري في " الترغيب " (1/193) لابن خزيمة، وابن حبان في " صحيحيهما ". وعزاه الهيثمي في " المجمع " (2/85) للطبراني في " الأوسط "، وقال: " وفيه عبد الله بن الأزور؛ ضعفه الأزدي، وذكر له هذا الحديث، وضعفه به ". قلت: رواه ابن الأزور عن هشام بن حسان به؛ كما في " الميزان "، وقال: إنه " خبر منكر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ..............................................................................   هذا، وللحديث شاهد من رواية ابن عمر. أخرجه أبو داود (1/143) ، والنسائي (1/141) ، والبيهقي (2/288) ، وأحمد (2/106) من طريق سعيد بن زياد عن زياد بن صُبيح الحنفي قال: صليت إلى جنب ابن عمر، فوضعت يديَّ على خاصرتي؛ فضرب يديَّ، فلما صلى؛ قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عنه. وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات. وصححه العراقي (1/139) ، وسكت عنه الحافظ، ثم قال: " وهو يؤيد المشهور من تفسير الاختصار ". وقد اختُلف في حكمة النهي عنه على أقوال كثيرة، ولو صحت الزيادة المتقدمة برواية البيهقي، والطبراني؛ لأغنت عن كل هذه الأقوال، ولكنها زيادة منكرة - كما سبق -. وقد أخرجها ابن أبي شيبة عن مجاهد من قوله. ولعله الصواب.. فوهم من رواه مرفوعاً. قال الحافظ: " وأعلى ماورد في ذلك قول عائشة: فيما أخرجه البخاري (3/387) عنها: كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله. ورواه أبو نعيم من طريق شيخ البخاري فيه بلفظ: إنها كرهت الاختصار في الصلاة، وقالت: إنما يفعل ذلك اليهود. قال الصنعاني في " السبل " (1/207) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ..............................................................................   " وقد نُهينا عن التشبه بهم في جميع أحوالهم؛ فهذا وجه حكمة النهي، لا ما قيل من أنه فعل الشيطان، أو أن إبليس أُهبط من الجنة كذلك، أو أنه فِعلُ المتكبرين؛ لأن هذه علل تخمينية، وما ورد منصوصاً - أي: عن الصحابي - هو العمدة؛ لأنه أعرف بسبب الحديث، ويحتمل أنه مرفوع، وما ورد في " الصحيح " مقدم على غيره؛ لورود هذه الأشياء أثراً ". اهـ. قال الشوكاني: " والحديث يدل على تحريم الاختصار. وقد ذهب إلى ذلك أهل الظاهر. وذهب الأوزاعي، والشافعي، وأهل الكوفة وآخرون إلى أنه مكروه. والظاهر ما قاله أهل الظاهر؛ لعدم قيام قرينة تصرف النهي عن التحريم، الذي هو معناه الحقيقي؛ كما هو الحق ". اهـ. وبالغ ابن حزم (4/18) كعادته في المنهيات؛ فقال: " من صلى متعمداً، واضعاً يده على خاصرته؛ فصلاته باطلة ". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 النَّظَرُ إلى مَوْضع السُّجُودِ، والخُشُوعُ و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى؛ طأطأ رأسه، ورمى ببصره نحو الأرض " (1) .   (1) أخرجه الحاكم (2/393) ، ومن طريقه البيهقي (2/283) ، والحازمي في " الاعتبار " (ص 60) من طريق أبي شعيب الحراني: ثني أبي: ثنا إسماعيل ابن عُلَيّة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى؛ رفع بصره إلى السماء، فنزلت: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ؛ فطأطأ رأسه. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين؛ لولا خلاف فيه على محمد، فقد قيل عنه مرسلاً ". قلت: هو على شرط مسلم فقط؛ فإن والد أبي شعيب - وهو: عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب - لم يخرج له سوى مسلم، وهو من شيوخه. وابنه عبد الله: ثقة، له ترجمة في " تاريخ بغداد " (9/435 - 437) ، وفي " لسان الميزان ". وأما المرسل الذي أشار إليه الحاكم؛ فأخرجه البيهقي من طريق سعيد بن منصور: ثنا إسماعيل بن إبراهيم - وهو: ابن عُلَيّة - عن أيوب عن محمد قال: ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى ... فذكره بنحوه؛ وزاد: فكان محمد بن سيرين يحب أن لا يجاوز بصره مصلاه. وقال: " هذا هو المحفوظ؛ مرسل ". ثم أخرجه من طريق يونس بن بكير، والحازمي من طريق أبي شهاب - وهو الأصغر، واسمه: عبد ربه بن نافع -؛ كلاهما عن عبد الله بن عون عن محمد قال: ... فذكره بنحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 و " لما دخل الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها " (1) .   وكذلك رواه أحمد في " الناسخ والمنسوخ " مرسلاً؛ كما في " المنتقى من أخبار المصطفى " (1/364) . قال: " ورواه سعيد بن منصور في " سننه " بنحوه؛ وزاد فيه: وكانوا يستحبون للرجل أن لا يجاوز بصره مصلاه ". ونحوه ابن أبي شيبة - كما في " الفتح " (2/185) -. قال الحافظ في " الفتح " (2/184) : " ورجاله ثقات ". {وانظر " الإرواء " (354) } . ثم أخرجه البيهقي موصولاً من طريق أبي علي حامد بن الرَّفَّاء الهروي: ثنا محمد ابن يونس: ثنا سعيد أبو زيد الأنصاري عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة موصولاً. ثم قال: " والصحيح هو المرسل ". فتعقبه ابن التركماني بقوله: " قلت: ابن أوس ثقة، وقد زاد الرفع، كيف وقد شهد له روايةُ ابن عُلَيّة لهذا الحديث موصولاً عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة؟! ". قلت: والاعتماد على هذه الرواية؛ فإن إسنادها صحيح - كما سبق -. وأما رواية ابن أوس؛ ففيها محمد بن يونس، وهو أبو العباس الكُدَيمي، وهو أحد المتروكين - كما قال الذهبي -، والراوي عنه أبو علي حامد بن الرَّفَّاء: وثقه الخطيب في " تاريخه " (8/172) . والظاهر أن ابن سيرين كان يرسل الحديث مرة، ويوصله أخرى. والعمدة على من وصله. والله أعلم. (1) أخرجه البيهقي (2/283) ، {وابن عساكر (7/302/2) = [28/294] } عن صَدَقة بن عبد الله عن سليمان بن داود الخولاني قال: سمعت أبا قِلابة الجَرْمي يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ..............................................................................   ثني عشرة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ في قيامه وركوعه وسجوده بنحو من صلاة أمير المؤمنين - يعني: عمر بن عبد العزيز -. قال سليمان: رمقت عمر في صلاته فكان بصره إلى موضع سجوده ... وذكر باقي الحديث. قال البيهقي: " وليس بالقوي ". قلت: وعلته صَدَقَةُ هذا، وهو أبو معاوية السمين؛ قال في " التقريب ": " ضعيف ". قلت: ويشهد للحديث ويقويه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها. أخرجه الحاكم (1/479) ، وعنه البيهقي (5/158) . ثم قال: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. ثم أخرجه البيهقي (2/284) من طريق الربيع بن بدر - عُليلة - عن عُنْطُوانة عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أنس! اجعل بصرك حيث تسجد ". قال البيهقي: " والربيع بن بدر: ضعيف ". ومن طريقه أخرجه العقيلي، وقال: " هو متروك. وعنطوانة: مجهول بالنقل، حديثه غير محفوظ ". لكن قال الشيخ علي القاري في " المرقاة " (2/37) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 {وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يَشغل المصلي " (1) } .   " قال ابن حجر - يعني: المكي الفقيه -: وله طرق تقتضي حسنه ". والله أعلم. وقد اختلف العلماء في الجهة التي ينبغي للمصلي أن يتوجه بنظره إليها؛ فذهب مالك إلى أن نظر المصلي يتجه إلى جهة القبلة. وترجم له البخاري في " صحيحه ": (باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة) (2/184) ، وساق فيه عدة أحاديث في أن الصحابة كانوا ينظرون إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم في الصلاة في أحوال مختلفة. وذهب الشافعي، والكوفيون - وهو الصحيح من مذهب الحنفية - إلى أنه يستحب للمصلي النظر إلى موضع سجوده؛ لأنه أقرب إلى الخشوع. وهو الصواب؛ لدلالة الأحاديث السابقة عليه. وفصَّل الحافظ ابن حجر؛ فقال: " ويمكن أن نفرق بين الإمام والمأموم؛ فيستحب للإمام النظر إلى موضع السجود وكذا للمأموم؛ إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه. وأما المنفرد؛ فحكمه حكم الإمام ". اهـ. وبهذا يُجمع بين الأحاديث التي ساقها البخاري وبين أحاديث النظر إلى موضع السجود، وهو جمع حسن. والله تعالى أعلم (1) . { (تنبيه) : في هذين الحديثين أن السنة: أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده من الأرض، فما يفعله بعض المصلين من تغميض العينين في الصلاة؛ فهو تورع بارد! وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} . (1) {رواه أبو داود وأحمد بسند صحيح. وهو مخرج في " صحيح أبي داود " (1771) . والمراد بـ " البيت " هنا الكعبة؛ كما يدل عليه سبب ورود الحديث} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 و " كان ينهى عن رفع البصر إلى السماء "، ويؤكد في النهي حتى قال: " لينتهِيَنَّ أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة؛ أو لا ترجع إليهم (وفي رواية: أو لتخطفن أبصارهم) " (1) .   (1) أخرجه مسلم (2/29) ، وأبو داود (1/144) ، وابن ماجه (1/333) ، والبيهقي (2/283) ، وأحمد (5/90 و 93 و 101 و 108) ، والطبراني في " الكبير " (*) من طرق عن الأعمش عن المسيب عن تميم بن طَرَفَةَ عن جابر بن سمرة مرفوعاً به. وفي رواية لأبي داود من طريق جرير عن الأعمش به بلفظ: دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد، فرأى فيه ناساً يصلون رافعي أبصارهم إلى السماء؛ فقال: ... فذكره. وهذا إسناد صحيح. وقد أخرجه الدارمي (1/298) عن علي بن مُسْهِر: أنا الأعمش به نحوه. وأما الرواية الأخرى؛ فهي من حديث أنس قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟! ". فاشتد قوله في ذلك حتى قال: " لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك، أو لتُخطفن أبصارهم ". أخرجه البخاري (2/180) ، وأبو داود، والنسائي أيضاً (1/177) ، وكذا ابن ماجه، والدارمي، والبيهقي، والطيالسي (270) ، وأحمد (3/109 و 112 و 115 و 116 و140 و 258) من حديث قتادة عنه. وفي الباب عن ابن عمر بلفظ: " لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء أن تُلْتَمَعَ ". يعني: في الصلاة.   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع للسراج أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وفي حديث آخر (*) :   أخرجه ابن ماجه، والطبراني في " الكبير "، وعنه المقدسي في " المختارة ". وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وقد صححه ابن حزم في " المحلى " (4/16) ، والبوصيري في " الزوائد "، وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " - كما في " الترغيب " (1/188) -. وعن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه النسائي، وأحمد (3/441) بنحو حديث ابن عمر. وإسناده صحيح أيضاً على شرطهما. وعن أبي هريرة: عند أحمد (2/333 و 367) . قال ابن بطال: " أجمعوا على كراهة رفع البصر في الصلاة، واختلفوا فيه خارج الصلاة في الدعاء، فكرهه شُريح وطائفة، وأجازه الأكثرون؛ لأن السماء قبلة الدعاء (*) ، كما أن الكعبة قبلة الصلاة. قال عِيَاض: رفع البصر إلى السماء في الصلاة فيه نوع إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة ". كذا في " الفتح ". وأما رفع اليدين في الدعاء نحو السماء؛ فمشروع، وفيه أحاديث كثيرة متواترة في " الصحيحين " وغيرهما، وقد ساق جملة منها النووي في " المجموع " (3/507 - 511) . من شاء؛ فليراجعها. وراجع أيضاً " رفع اليدين " للبخاري (22 - 23) . (*) من هنا إلى آخر هذا المبحث غير موجود في أصل الشيخ رحمه الله، واستدركناه بحواشيه من " صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " - المطبوعة -.   (*) هذا من الاعتقادات الفاسدة للأشاعرة وغيرهم. انظر الرد عليهم في " شرح العقيدة الطحاوية " (ص 265/ط 4 - المكتب الإسلامي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 " فإذا صليتم؛ فلا تلتفتوا؛ فإن الله يَنْصُبُ وجهه لوجه عبده في صلاته؛ ما لم يلتفت " (1) . وقال أيضاً عن التلفُّت: " اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد " (2) . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته؛ ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه؛ انصرف عنه " (3) . و" نهى عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب " (4) . وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " صل صلاة مُوَدِّعٍ كأنك تراه، فإن كنت لا تراه؛ فإنه يراك " (5) . ويقول: " ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها؛ إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب؛ ما لم يُؤْتِ كبيرةً، وذلك الدهرَ كلَّه " (6) .   (1) [أخرجه] الترمذي، والحاكم؛ وصححاه. " صحيح الترغيب " (552) . (2) [أخرجه] البخاري، وأبو داود. (3) رواه أبو داود وغيره، وصححه ابن خزيمة وابن حبان. " صحيح الترغيب " (554) . (4) [رواه] أحمد، وأبو يعلى. " صحيح الترغيب " (555) . (5) [رواه] المُخَلِّص في " أحاديث منتقاة "، والطبراني، والروياني، والضياء في " المختارة "، وابن ماجه، وأحمد، وابن عساكر، وصححه الهيتمي الفقيه في " أسنى المطالب ". (6) [رواه] مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وقد " صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خَمِيصة (1) لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف؛ قال: " اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأَنْبِجانِيَّة (2) أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي (وفي رواية: فإني نظرت إلى عَلَمِها في الصلاة، فكاد يفتِنُني) " (*) . وكان لعائشةَ ثوبٌ فيه تصاوير ممدود إلى سهوة (3) ، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إليه، فقال: " أخِّريه عني؛ [فإنه لا تزال تصاويره تعرِض لي في صلاتي] " (4) . وكان يقول: " لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان " (5) .   (1) ثوب خَزّ أو صوف مُعَلّم. (2) كساء غليظ لا عَلَمَ له. (*) متفق عليه. سبق تخريجه (ص 170) . (3) بيت صغير منحدر في الأرض قليلاً شبيه بالمخدع والخزانة. " نهاية ". (4) [أخرجه] البخاري، ومسلم، وأبو عوانة. وإنما لم يأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنزع التصاوير وهتكها، واكتفى بتنحيتها؛ لأنها - والله أعلم - لم تكن من ذوات الأرواح؛ بدليل هتكه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرها من التصاوير؛ كما هو في عدة روايات في " الصحيحين ". ومن شاء التوسع في هذا؛ فليراجع " فتح الباري " (10/321) ، و" غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام " (131 - 145) . (5) [أخرجه] البخاري، ومسلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أدعية الاستفتاح ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح القراءة بأدعية كثيرة متنوعة، {يحمد الله تعالى فيها، ويمجده ويثني عليه، وقد أمر بذلك (المسيء صلاته) ، فقال له: " لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يُكَبِّر، ويَحْمَد الله جل وعزّ، ويثني عليه، ويقرأ بما تيسر من القرآن ... " (1) } ، وكان يقرأ تارة بهذا، وتارة بهذا؛ فكان يقول: 1- " اللهم! .................................................................   (1) { [رواه] أبو داود، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي. [وسبق (ص 189) ] } . 1- رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كبَّر في الصلاة؛ سكتَ هُنَيَّة قبل أن يقرأ. فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي؛ أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة؛ ما تقول؟ قال: " أقول: ... " فذكره. أخرجه البخاري (2/182) ، ومسلم (2/98) ، ومن طريقه ابن حزم (4/96) ، وأبو داود (1/125) ، والنسائي (1/21، 142) ، وابن ماجه (1/269) ، {وابن أبي شيبة (12/110/2) = [6/27/29199] } ، وأحمد (2/231) عنه. وقوله: " سكت هنية "؛ بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء؛ أي: قليلاً من الزمان. وهو تصغير (هَنَة) . ويقال: (هُنَيهة) . قال السندي: " أراد بالسكوت: أن لا يقرأ القرآن جهراً، ولا يُسمع الناس، وإلا؛ فالسكوت الحقيقي ينافي القول؛ فلا يصح السؤال بقوله: ما تقول؟ أي: في سكوتك ". وقد ذهب إلى مشروعية الاستفتاح بهذا الدعاء ابن حزم في " المحلى "، والشافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ..............................................................................   وأصحابه، وقالوا: " إنه أفضل الأدعية بعد حديث علي الآتي بعده " - كما في " المجموع " (3/321) -. وذهب إليه جمع من علمائنا المحققين؛ قال أبو الحسنات اللكنوي في " إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام " (ص 171) : " صرح جمع من أصحابنا بعدم شرعية الأذكار الواردة في الركوع والسجود والقومة، غير التسبيح، والتحميد، والتسميع، وفي الجلسة بين السجدتين، وفيما بعد التكبير، غير الثناء والتوجيه، وحملوا الأحاديث الواردة فيها على النوافل، ولم يُجَوِّزوها في الفرائض. ومنهم من حملها على بعض الأحيان. وهما قولان من غير برهان! والذي يقتضيه النظر الخفي - وبه صرح جمع من محققي أصحابنا؛ منهم: ابن أمير حاج مؤلف " حَلبْةُ المُجَلِّي شرح منية المصلي " - استحباب أداء الأذكار الواردة في الأحاديث في مواضعها في النوافل والفرائض كلها ". اهـ. وفيه - وفي الأحاديث الآتية - دليل على استحباب الاستفتاح، وقد قال به جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. قال النووي: " ولا يُعرف من خالف فيه، إلا مالكاً رحمه الله؛ فقال: لا يأتي بدعاء الاستفتاح، ولا بشيء بين القراءة والتكبير أصلاً؛ بل يقول: الله أكبر، {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} إلى آخر {الفَاتِحَة} . ولا جواب له عن واحد من هذه الأحاديث الصحيحة ". اهـ. ملخصاً. وقول مالك هذا يلزم منه إبطال ثلاث سنن: الأولى: دعاء الاستفتاح. الثانية: الاستعاذة. الثالثة: البسملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 باعد بيني وبين خطاياي (1) ؛ كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم! نَقِّنِي (2) من خطاياي؛ كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدنسِ. اللهم! اغسلني من خطاياي بالماء والثَّلْج والبَرَدِ (3) "، وكان يقوله في الفرض. وهو أصح أدعية الاستفتاح سنداً (4) .   وهي سنن ثابتة متواترة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والظاهر أنها لم تبلغ الإمام مالكاً رحمه الله، أو بلغته؛ ولكن لم يأخذ بها لسبب عنده. وأما أنت أيها المالكي! فلا يمنعك التعصب لمذهبك من الأخذ بها؛ فإنه لا عذر لك في ذلك أبداً. (1) أي: بين أفعالٍ لو فعلتها تصير خطايا. فالمطلوب الحفظ، وتوفيق الترك. أو: بين ما فعلتها من الخطايا. والمطلوب المغفرة. وأمثال هذا السؤال منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من باب إظهار العبودية وتعظيم الربوبية، وإلا؛ فهو - مع عصمته - مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. (2) بالتشديد؛ أي: طهرني منها بأتم وجه وأوكده. (3) بفتح الراء: حَبُّ الغمام؛ أي: بأنواع المطهرات. والمراد مغفرة الذنوب، وسترها بأنواع الرحمة والألطاف. قيل: والخطايا لكونها مؤدية إلى نار جهنم نزلت منزلتها؛ فاستُعمل في محوها من المبردات ما يستعمل في إطفاء النار. ذكره السندي. (4) ذكر ذلك الحافظ في " الفتح " (2/183) ، وسبقه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة " تنوع العبادات " (85) ، وقال (87) : " ومع هذا؛ فعامة العلماء من الصحابة ومن بعدهم يستحبون الاستفتاح بغيره، كما يستحب جمهورهم الاستفتاح بقوله: " سبحانك اللهم! ... "، وسبب ذلك هو: أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ..............................................................................   فضل بعض الذكر على بعض هو لأجل ما اختُص به الفاضل، لا لأجل إسناده. والذكر ثلاثة أنواع؛ أفضله ما كان ثناء على الله، ثم ما كان إنشاءً من العبد، أو اعترافاً بما يجب لله عليه، ثم ما كان دعاءً من العبد. فالأول: مثل النصف الأول من " الفَاتِحَة "، ومثل: " سبحانك اللهم! ... "، ومثل التسبيح في الركوع والسجود. والثاني: مثل قوله: " وجّهت وجهي ... "، ومثل قوله في الركوع والسجود: " اللهم! لك ركعت، ولك سجدت ... ". والثالث: مثل قوله: " اللهم! باعد بيني وبين خطاياي ... "، ومثل دعائه في الركوع والسجود. ولهذا أوجب طائفة من أصحاب أحمد ما كان ثناءً، كما أوجبوا الاستفتاح. وحُكي في ذلك عن أحمد روايتان، واختار ابن بَطَّة وغيره وجوب ذلك. والمقصود: أن النوع المفضول - مثل استفتاح أبي هريرة، ومثل: " وَجَّهْتُ ... " أو: " سبحانك ... " عند من يفضل الآخر - فِعْلُهُ أحياناً أفضلُ من المداومة على نوع وهَجْرِ نوع؛ وذلك أن أفضل الهدى هدى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ثبت في " الصحيح " -. ولم يكن يداوم على استفتاح واحد قطعاً؛ فإن حديث أبي هريرة يدل على أنه كان يستفتح بهذا ". اهـ. قلت: ولعل مستند من قال بوجوب الثناء على الله تعالى - كالاستفتاح - ما في حديث (المسيء صلاته) من حديث رِفاعة بن رافع بلفظ: " لا تتم صلاةٌ لأحد من الناس حتى يتوضأ؛ فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر، ويحمد الله عز وجل، ويثني عليه، ويقرأ بما تيسر من القرآن ... " الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 2- " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً [مسلماً] ،   وهو صحيح - كما سبق -؛ فقد أمره بحمد الله، والثناء عليه بين التكبير وقراءة القرآن، وذلك هو دعاء الاستفتاح. والله أعلم. 2- رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا افتتح الصلاة؛ كبَّر، ثم قال: ... فذكره. وفيه: وإذا ركع؛ قال: " اللهم! لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعَصَبي ". وإذا رفع رأسه من الركوع؛ قال: " سمع الله لمن حمده، ربنا! ولك الحمد؛ ملء السماوات وملء الأَرَضين وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد ". فإذا سجد؛ قال: " اللهم! لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه، وصَوَّره؛ فأحسن صُوَرَه، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين ". وإذا سلم من الصلاة؛ قال: " اللهم! اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت ". أخرجه مسلم (2/185 - 186) ، {وأبو عوانة [2/101 و 168] } وأبو داود (1/121) ، والدارقطني (111) والسياق له، وكذا الترمذي (2/250 - 251) ، والبيهقي (2/32) ، والطيالسي (22) ، وأحمد (1/94 و 102) ، والخرائطي في " مكارم الأخلاق " (ص 6) من طريق الماجشون بن أبي سلمة عن عبد الرحمن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عنه. وقال الترمذي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ..............................................................................   " حسن صحيح ". وأخرجه النسائي (1/142 و 161 و 169) - مفرقاً بتمامه -؛ دون القول بعد السلام، ودون الذكر بعد الركوع. وروى الدارمي (1/282 و 301) منه دعاء الاستفتاح، والذكر بعد الركوع. وكذا الطحاوي (1/117 و 140) . وأخرجه {أبو عوانة [2/102 - 103] } ، والدارقطني (112) ، والبيهقي من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج: أخبرني موسى بن عُقبة عن عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن الأعرج به بلفظ: كان إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة؛ قال: ... فذكر الحديث بتمامه. وأخرجه الشافعي في " الأم " (1/91) قال: أخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد وغيرهما عن ابن جريج به، دون أذكار الركوع وما بعده. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وقال الشافعي في هذه الرواية: " وقال أكثرهم: " وأنا أول المسلمين ". قال ابن أبي رافع: وشككت أن يكون أحدهم قال: " وأنا من المسلمين " ". وأخرجه أبو داود، والترمذي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزِّنَاد عن موسى بن عقبة به بلفظ: كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة ... الحديث، وفيه: ويقول حين يفتتح الصلاة بعد التكبير: " وجهت وجهي ... " الحديث. وقال الترمذي: " حسن صحيح ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ..............................................................................   (تنبيه) : قال الشوكاني (2/161) : " وأما مسلم؛ فقيده بصلاة الليل، وزاد لفظ: من جوف الليل ". وكذلك قال الحافظ في " بلوغ المرام " (1/231) : " وفي رواية لمسلم: أن ذلك كان في صلاة الليل ". وفي " الفتح " (2/183) مثله. قلت: ولم أجد هذه الرواية في " صحيح مسلم "؛ بل ولا في شيء من طرق الحديث عند غيره! نعم؛ جاء تقييده بصلاة التطوع في رواية محمد بن مسلمة عند النسائي - كما سيأتي [في النوع الثالث]-. وأما لفظ: جوف الليل. الذي ذكره الشوكاني؛ فإنما هو في حديث آخر من حديث ابن عباس عند مسلم (2/184) ، وقد ذكره قبل هذا بحديث، فلعل هذا هو منشأ الوهم؛ حيث غَرَّ الشوكاني نظرُهُ؛ فظن أن هذه اللفظة من حديث علي. والله أعلم. وحديث ابن عباس هذا هو الدعاء الآتي رقم (9) . ثم إن الحديث أخرجه الشافعي من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة، ثم كبَّر؛ قال: ... فذكر التوجُّه فقط. وإسناده هكذا: أخبرنا إبراهيم بن محمد: ثني صفوان بن سُلَيم عن عطاء بن يسار عنه. ورجاله رجال الستة، غير إبراهيم هذا؛ فهو ضعيف. وله شاهد من حديث أبي رافع مولى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: دُفع إليَّ كتاب فيه استفتاح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان إذا كبر؛ قال: ... فذكره نحو حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ..............................................................................   أخرجه الطبراني في " الكبير " من طريق محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن شيبة بن نِصاح مولى أم سلمة عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه عنه. وهذا إسناد رجاله ثقات. إلا أن ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه. ومحمد بن سلمة هو: ابن عبد الله الباهلي، مولاهم. هذا، والزيادة الأولى: تفرد بروايتها من الطريق الأولى الإمام أحمد بسند صحيح، والدارقطني، والبيهقي من الطريق الأخرى، ورواها أيضاً ابن حبان - كما في " التلخيص " (3/302) -. والزيادة الثانية: هي عندهم أيضاً، وكذا {أبو عوانة} ، والشافعي، وهي في حديثه عن أبي هريرة، ورواهما النسائي من حديث محمد بن مسلمة - كما يأتي -، وروى الترمذي منها قوله: " سبحانك " فقط. والزيادة الثالثة: عند الأربعة المذكورين {وأبي عوانة} ، وهما في حديث أبي هريرة أيضاً. والزيادة الأخيرة: هي من حديثه أيضاً، ومن حديث علي: عند الشافعي، والترمذي، ومن حديث أبي رافع: عند الطبراني. قوله: " وجهت وجهي "؛ قال في " المجموع ": " معناه: أقبلت بوجهي. وقيل: قصدت بعبادتي، وتوحيدي إليه. ويجوز في: " وجهي ": إسكان الياء وفتحها، وأكثر القراء على الإسكان. وقوله: " فطر السماوات ": أي: ابتدأ خلقها على غير مثال سابق. وجمع السماوات دون الأرض - وإن كانت سبعاً كالسماوات -؛ لأنه أراد جنس الأرضين. وقوله: " حنيفاً ": قال الأزهري وآخرون: أي: مستقيماً. وقال الزَّجَّاج والأكثرون: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وما أنا من المشركين. إن صلاتي، ونُسُكي، ومحيايَ (1) ، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له؛ وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين (2) . اللهم! أنت   الحنيف: المائل. ومنه قيل: أحنف الرِّجْل. قالوا: والمراد هنا المائل إلى الحق. وقيل له ذلك؛ لكثرة مخالفيه. وقوله: " وما أنا من المشركين ": بيان للحنيف، وإيضاح لمعناه. والمشرك يطلق على كل كافر؛ من عابد وثن، أو صنم، ويهودي، ونصراني، ومجوسي، وزنديق. وقوله: " إن صلاتي ونسكي ": قال الأزهري: اسم جامع للتكبير، والقراءة، والركوع، والسجود، والدعاء، والتشهد وغيرها. قال: والنسك: العبادة. والناسك: الذي يُخلص عبادته لله تعالى. وقيل: النسك: ما أمر به الشرع ". اهـ. (1) أي: حياتي ومماتي. والجمهور على فتح الياء الآخرة في: " محياي " وقُرِئ بإسكانها. (2) هكذا قال مسلم في رواية، {وأبو عوانة} ، وأبو داود، والترمذي في نسخة، والدارمي، والدارقطني، والطيالسي، وعنه البيهقي، وأحمد في رواية. وهي رواية الشافعي - كما سبق -، وكذلك رواه من حديث أبي هريرة. وفي رواية لمسلم، {وأبي عوانة} ، والبيهقي، وأحمد، والترمذي في نسخة، وهي رواية النسائي: " وأنا من المسلمين ". وهي رواية الطبراني عن أبي رافع. قال السندي رحمه الله: " كأنه كان يقول أحياناً كذلك؛ لإرشاد الأمة إلى ذلك، ولاقتدائهم به فيه، وإلا؛ فاللائق به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وأنا أول المسلمين "؛ كما جاء في كثير من الروايات ". قلت: وأنا أرى أن أصل الحديث: " وأنا أول المسلمين ". ولكن بعض الرواة استشكل ذلك بالنسبة إلى غيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر بتغييرها بقوله: " وأنا من المسلمين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ..............................................................................   فروى أبو داود (1/122) وغيره - كما يأتي - عن شعيب بن أبي حمزة قال: قال لي ابن المنكدر وابن أبي فروة وغيرهما من فقهاء أهل المدينة: فإذا قلت أنت ذاك؛ فقل: " وأنا من المسلمين ". يعني: قوله: " وأنا أول المسلمين ". ويظهر أن بعض الرواة كان مقتنعاً بضرورة هذا التغيير؛ فكان يجعل: " وأنا من المسلمين " في صلب الحديث! وهو تساهل في الرواية غير مستحسن - كما لا يخفى -، وذلك - على ما ذهبنا إليه - قول عبيد الله بن أبي رافع المتقدم: وشككت أن يكون أحدهم قال: " وأنا من المسلمين ". وابن أبي رافع مدار الحديث عليه، وهو قد جزم بأن أصل الحديث: " وأنا أول المسلمين ". وشك في رواية: " وأنا من المسلمين ". فكل من رواه عنه بهذا اللفظ الأخير؛ فإنما هو واهم أو متأول - كما ذكرنا -؛ ولذلك قال الشافعي رحمه الله - بعد أن ساق الحديث -: " وبهذا كله أقول وآمر، وأحب أن يؤتى به كما يُروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لا يغادر منه شيئاً، ويجعل مكان: " أول المسلمين ": " وأنا من المسلمين ". قال الشوكاني (2/162) : " وهو وهم؛ منشؤه توهم أن معنى: " وأنا أول المسلمين ": أني أول شخص اتصف بذلك بعد أن كان الناس بمعزل عنه. وليس كذلك؛ بل معناه: بيان المسارعة في الامتثال لما أمر به، ونظيره: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَ?نِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ} . وقال موسى: {وَأَنَا أَوَّلُ المُؤِْمِنينَ} . وقال العلماء: ولا فرق بين الرجل والمرأة فيما ورد من الأذكار والأدعية؛ لحمله على التغليب، أو إرادة الأشخاص ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الملك لا إله إلا أنت، [سبحانك وبحمدك] ، أنت ربي، وأنا عبدك (1) ، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي؛ فاغفر لي ذنبي جميعاً؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت. واصرف عني سيئها؛ لا يصرف عني سيئها إلا أنت. لبيك (2) وسعديك (3) ، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك (4) ، [والمهدي من هديت] ، أنا بك وإليك، [لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك] ، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك ".   (1) قال الأزهري: أي: إني لا أعبد غيرك. والمختار أن معناه: أنا معترف بأنك مالكي، ومدبري، وحكمك نافذ فيَّ. كذا قال النووي. (2) أي: أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة، مِن (أَلَبَّ بالمقام) : أقام فيه، وهو مصدر مثنى من لبَّ أو ألبَّ بعد حذف الزوائد، مضاف إلى المخاطب، وحذف النون بالإضافة، وأريد بالتثنية التكرير من غير نهاية؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} ؛ أي: كَرَّةً بعد كَرَّة، ومرة بعد مرة. اهـ. من " المرقاة " (1/512) . (3) أي: مساعدة لأمرك بعد مساعدة، ومتابعة بعد متابعة لدينك الذي ارتضيته بعد متابعته. قاله الأزهري. (4) انظر " شرح مسلم "، و " القضاء والقدر " (269 - 271) (*) .   (*) هذه ملاحظة كتبها الشيخ رحمه الله لنفسه؛ للاطلاع والدراسة ونقل المادة المطلوبة. والذي في " صفة الصلاة " المطبوع: " أي: لا ينسب الشر إلى الله تعالى؛ لأنه ليس في فعله تعالى شر؛ بل أفعاله عز وجل كلها خير؛ لأنها دائرة بين العدل والفضل والحكمة، وهو كله خير لا شر فيه، والشر إنما صار شراً لانقطاع = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وكان يقول ذلك في الفرض والنفل (1) .   (1) خلافاً لمن قال: إنه وارد في صلاة الليل! كأبي داود الطيالسي في " مسنده " (23) . وقال ابن القيم في " الزاد " (1/72) : " والمحفوظ أن هذا الاستفتاح إنما كان يقوله في قيام الليل ". قلت: قد علمت مما سبق في تخريج الحديث أنه ورد بلفظين: الأول: " كان إذا قام إلى الصلاة ... ". مطلقاً غير مقيد. والآخر: " ... الصلاة المكتوبة ... ". فإما أن يقال: إن هذا مقيد للأول؛ لا سيما وأن المراد بالصلاة عند الإطلاق المفروضة؛ كما قال الصنعاني وغيره (1/278) . وإما أن يقال: إن اللفظ الأول أعم - كما قال النووي في " المجموع " (3/315) -؛ فيشمل بعمومه الفريضة والتطوع. فالقول بحَصْرِه بصلاة التطوع في الليل لا دليل عليه! كيف، وقد ذكرنا - فيما سبق -   = نسبته وإضافته إليه تعالى. قال ابن القيم رحمه الله: " هو سبحانه خالق الخير والشر، فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، ولهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير محله، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، وذلك خير كله، والشر وضع الشيء في غير محله، فإذا وضع في محله لم يكن شراً، فعلم أن الشر ليس إليه ... (قال:) فإن قلت: فلم خلقه وهو شر؟ قلت: خلقه له، وفعله خير لا شر، فإن الخلق والفعل قائم به سبحانه، والشر يستحيل قيامه واتصافه به، وما كان في المخلوق من شر فلعدم إضافته ونسبته إليه والفعل والخلق يضاف إليه فكان خيراً ". وتمام هذا البحث الخطير وتحقيقه في كتابه " شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل "؛ فراجعه (ص 178 - 206) ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 3- مثله دون قوله: " أنت ربي، وأنا عبدك ... " إلخ، ويزيد: " اللهم! أنت الملك، لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك ".   أنه لم يرد في طريق من طرق الحديث التصريح بأنه كان يقول ذلك في صلاة التطوع؛ اللهم! إلا في حديث محمد بن مسلمة الآتي بعد هذا. وقد ذهب إلى الاستفتاح بهذا النوع الشافعي وأصحابه، وذكروا أنه أفضل الأنواع عندهم، ويليه حديث أبي هريرة المذكور سابقاً. وذكروا أيضاً أنه يأتي بتمامه لا يغادر منه شيئاً. وقد ذكرنا نص الشافعي في ذلك. ومع هذا، فلا تكاد تجد أحداً من أتباعه يفعل ذلك؛ بل ولا يحفظه؛ بل ترى كثيراً منهم يتركون الاستفتاح مطلقاً! وهذا من تساهلهم بالسنن وإعراضهم عن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما علماؤنا؛ فمنهم من ذهب إلى مشروعية الاستفتاح بهذا النوع أحياناً - كما سبق -؛ خلافاً لما هو المشهور عنهم: أنه لا يوجه! كما في " شرح الوقاية ". وقد تعقبه أبو الحسنات بقوله: " وقد ثبت ذلك عن رسول الله في " صحيح البخاري "، و " سنن ابن ماجه " ... " إلخ. وقوله: " صحيح البخاري ".. سبق قلم منه، والصحيح أنه في " صحيح مسلم ". واختار بعض المتأخرين قراءة هذا الدعاء قبل التحريمة؛ ليكون أبلغ في إحضار القلب، وجمع العزيمة؛ كما ذكره في " النهاية "، و " البناية " وغيرهما. قال أبو الحسنات: " لكن هذا مما لا أصل له في السنة، وإنما الثابت في الأحاديث التوجُّه في الصلاة، لا قبلها " - كما ذكره علي القاري في " شرح الحصن الحصين " -. 3- أخرجه النسائي فقال (1/143) : أخبرنا يحيى بن عثمان الحِمْصي قال: ثنا ابن حِمْيَر قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر - وذكر آخر قبله - عن عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج عن محمد بن مسلمة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 4- مثله - أيضاً - إلى قوله: " وأنا أول المسلمين "، ويزيد: " اللهم! اهدني لأحسن الأخلاق وأحسن الأعمال؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأخلاق والأعمال؛ لا يقي سيئها إلا أنت ".   أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَِ كان إذا قام يصلي تطوعاً؛ قال: " الله أكبر، وجهت وجهي ... " إلخ. وهذا سند صحيح. رجاله رجال البخاري؛ غير يحيى بن عثمان الحمصي، وقد وثقه النسائي وغيره. وفي " التقريب ": " صدوق عابد ". والحديث رواه أيضاً أبو عوانة في " صحيحه " - كما في " شرح منية المصلي " (ص 303) للشيخ إبراهيم الحلبي -. 4- هو من حديث جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا استفتح الصلاة؛ كبَّر، ثم قال: " إن صلاتي ... " إلخ الحديث. أخرجه النسائي (1/141) ، والدارقطني (112) من طريق شُرَيح بن يزيد الحضرمي: أخبرني شعيب بن أبي حمزة قال: أخبرني محمد بن المنكدر عنه. وهذا سند صحيح. رجاله رجال الستة؛ غير شُرَيح هذا، وقد وثقه ابن حبان، وروى عنه جمع من الثقات، وزاد الدارقطني: " قال شعيب: قال لي محمد بن المنكدر وغيره من فقهاء أهل المدينة: إن قلت أنت هذا القول؛ فقل: وأنا من المسلمين ". وهذه الزيادة رواها أبو داود أيضاً - كما تقدم -، وإسناده إسناد النسائي. وتوبع شريح بن يزيد في هذا الحديث - كما سيأتي بعده بحديث -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 5- " سبحانك اللهم! ..........................................................   (تنبيه) : جريت في جعلي هذا النوع والذي قبله نوعين على " سُنن النسائي ". وحيث جعلتهما كذلك - وهو الظاهر - وإن كان يحتمل أن يقال: إن أصل الحديث واحد؛ وهو حديث علي، ولكن بعض الصحابة سمعوا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض ما رواه علي رضي الله عنه، وفاتَهم الآخر، إلا أن هذا الاحتمال خلاف المتبادر؛ فلا يدفع به هذا الظاهر. 5- رواه مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع من الصحابة؛ منهم: أبو سعيد الخُدْري، وعائشة أم المؤمنين، وأنس، وجابر: 1- أما حديث أبي سعيد: فأخرجه أبو داود (1/124) ، والنسائي (1/143) ، والترمذي (2/9 - 10) ، والدارمي (1/282) ، وابن ماجه (1/268) ، والطحاوي في " شرح المعاني " (1/116) ، والدارقطني (112) ، والبيهقي (2/34 - 35) ، وأحمد (3/50) من طرق عن جعفر بن سليمان الضُّبَعِىّ عن علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل؛ كبر، ثم يقول: " سبحانك ... " إلخ. ثم يقول: " لا إله إلا الله - ثلاثاً - ". ثم يقول: " الله أكبر كبيراً - ثلاثاً -، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ من همزه، ونفخه، ونفثه ". ثم يقرأ. واللفظ لأبي داود، والطحاوي. وإسناده حسن. رجاله رجال مسلم؛ غير علي بن علي الرفاعي، وهو كما قال في " التقريب ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ..............................................................................   " لا بأس به ". وقال الترمذي: " وقد تُكلِّمَ في إسناده؛ كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي الرفاعي ". وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث ". اهـ. قلت: ولعل الإمام أحمد يريد نَفْيَ الصحَةِ المُصْطَلَحِ عليها؛ وهي التي فوق الحسن؛ فلا ينافي حينئذٍ كون الحديث حسناً. والله أعلم. ونحن نرى أنه حديث صحيح لغيره؛ لما سيأتي من الطرق. وعليٌّ هذا؛ وإن تكلم فيه يحيى؛ فقد وثقه ابن معين، ووكيع، وأبو زُرعة، وقال شعبة: " اذهبوا بنا إلى سيدنا، وابن سيدنا؛ علي بن علي الرفاعي. وقال أحمد: " لم يكن به بأس؛ إلا أنه يرفع أحاديث ". قلت: وهذا لا يكفي في إهدار حديث الثقة، فغاية ذلك أنه أخطأ أحياناً، ومَنِ الذي لا يخطئ؟! ويحيى بن سعيد إنما تكلم فيه بقوله: " كان يرى القدر ". وهذا لا يضر في رواية الثقة - كما في المصطلح تقرر -. {وقال العُقيلي: " وقد روي من غير وجه بأسانيد جياد ". وهو مخرج في " الإرواء " (341) } . 2- وأما حديث عائشة: فأخرجه الترمذي (2/11) ، وابن ماجه، والطحاوي، والدارقطني، والحاكم أيضاً (1/235) ، والبيهقي من طريق حارثة بن أبي الرِّجَال عن عَمْرَةَ عنها قالت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا افتتح الصلاة؛ قال: ... فذكر دعاء الاستفتاح. وقال الحاكم: " صحيح، وفي حارثة لين ". ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: " حارثة بن أبي الرجال: ضعيف ". وأما قول الترمذي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ..............................................................................   " هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه ". فليس بصواب؛ لأنه قد جاء من غير هذا الوجه. أخرجه أبو داود، والحاكم أيضاً، والدارقطني، والبيهقي من طريق طَلْق بن غَنَّام: ثنا عبد السلام بن حرب المُلاَئي عن بُدَيل بن ميسرة عن أبي الجوزاء عنها به. وهذا سند رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين. إلا أن مسلماً لم يخرج لطلق بن غنام شيئاً. ومن هذا تعلم أن قول الحاكم: " صحيح على شرطهما ". وإن وافقه الذهبي؛ ليس كما قالا. ثم هو معلول؛ قال الحافظ في " التلخيص " (3/303) : " ورجال إسناده ثقات؛ لكن فيه انقطاع ". قلت: يعني: بين أبي الجوزاء وبينها. - وقد روى مسلم من هذا الوجه حديثاً ذكرناه فيما سبق، وتكلمنا على علته بتفصيل هناك، فراجعه في الاستفتاح رقم (2) (*) -. وقد أعله أبو داود بعلة أخرى غير قادحة، وقد أجاب عنها ابن التركماني في " الجوهر النقي ". ولولا ما في الإسناد من الانقطاع؛ لحكمنا له بالصحة، ولكنه على كل حال شاهد لا بأس به لحديث أبي سعيد. وله طريق ثالث: أخرجه الطبراني عن عطاء عنها نحوه - كما قال الحافظ -. وقد أخرجه الدارقطني أيضاً (113) من طريق سهل بن عامر أبي عامر البَجَلي: ثنا مالك بن مِغْوَل عنه به. ورجاله رجال الستة؛ غير سهل هذا، وهو ضعيف، وقال ابن عدي:   (*) كذا الأصل، وليس ثمة المقصود! وانظر مراد الشيخ رحمه الله (ص 176 - 178) . والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ..............................................................................   " أرجو أن لا يستحق الترك ". 3- وأما حديث أنس: فأخرجه الدارقطني أيضاً من طريق محمد بن الصلت: ثنا أبو خالد الأحمر عن حميد عن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا افتتح الصلاة؛ كبَّر، ثم رفع يديه حتى يحاذي إبهاميه أذنيه، ثم يقول: ... فذكره. وذكر الزيلعي (1/320) بعد أن عزاه للدارقطني؛ أنه قال: " إسناده كلهم ثقات ". وليست هذه الجملة في نسختنا المطبوعة. فالله أعلم. وعزاه في " المجمع " (2/107) للطبراني في " الأوسط ". قال: " ورجاله موثقون ". قلت: لكن قال ابن أبي حاتم في " العلل " (1/135) : " سمعت أبي، وذكر حديثاً رواه محمد بن الصلت عن أبي خالد الأحمر ... ". قلت: فذكره. ثم قال: " فقال - يعني: أباه -: هذا حديث كذب لا أصل له، ومحمد بن الصلت: لا بأس به، كتبت عنه ". لكنَّ له إسنادين؛ أحدهما خير من هذا. فرواه الطبراني في كتابه المفرد في " الدعاء " - وهو مجلد لطيف؛ كما قال الزيلعي - قال: ثنا محمود بن محمد الواسطي: ثنا زكريا بن يحيى زحمويه: ثنا الفضل بن موسى السِّيناني - وفي " نصب الراية ": الشيباني! وهو تصحيف - عن حُميد الطويل عن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا استفتح الصلاة؛ قال: ... فذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ..............................................................................   قلت: وهذا سند جيد إن شاء الله؛ فإن رجاله كلهم ثقات مشهورون، غير زكريا بن يحيى - وزحمويه: لقبه -، روى عنه جمع؛ ووثقه ابن حبان - كما في " تعجيل المنفعة " -؛ والراوي عنه محمود بن محمد الواسطي: ترجمه الخطيب في " تاريخه " (13/94 - 95) ، وسَمّى جمعاً رووا عنه، وذكر أنه مات سنة سبع وثلاث مئة، ولم يَحْكِ فيه جرحاً ولا تعديلاً. وقد قال الحافظ في " الدراية " (70) : " هذه متابعة جيدة لرواية أبي خالد ". 4- وأما حديث جابر: فأخرجه البيهقي (2/35) من طريق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: ثنا عبد السلام بن محمد الحِمْصي: ثنا بِشْرُ بن شُعيب بن أبي حمزة: أن أباه حدثه: أن محمد بن المنكدر أخبره: أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أخبره: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا استفتح الصلاة؛ قال: ... فذكره، وزاد: " وجهت وجهي ... " الحديث إلى قوله: " لا شريك له ". ثم رواه من طريق آخر عن الجُوزْجاني: ثنا أبو إسحاق به. فأفادتنا هذه الرواية فائدة عزيزة؛ وهي أن كنية عبد السلام بن محمد الحمصي: أبو إسحاق، ولم يذكر ذلك أحد ممن ترجمه. ثم قال البيهقي: " ورواه عبد الله بن عامر الأسلمي - وهو ضعيف - عن محمد بن المنكدر عن ابن عمر ". قلت: أخرجه الطبراني في " الكبير " من طريق المُعافى بن عِمْرَان عنه إلى قوله: " وأنا من المسلمين ". وفي " نصب الراية " (1/319) : " قال البيهقي في " المعرفة ": وقد رُوي الجمعُ بينهما عن محمد بن المنكدر مرة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ..............................................................................   ابن عمر ومرة عن جابر؛ وليس بالقوي ". انتهى. قلت: وإسناد حديث جابر حسن. رجاله كلهم رجال البخاري، غير عبد السلام بن محمد الحمصي؛ فقال أبو حاتم: " صدوق ". وذكره ابن حبان في " الثقات ". وقال الحافظ في " التلخيص " (3/305) : " سنده جيد. لكنه من رواية ابن المنكدر عنه، وقد اختُلف عليه فيه ". قلت: وقد رواه غير واحد عن شعيب بن أبي حمزة؛ فلم يذكر فيه مع التوجه: " سبحانك اللهم! ... " كما سبق. والله أعلم. وقد ثبت الاستفتاح بـ: " سبحانك اللهم! ... " فقط عن عمر رضي الله عنه؛ كما رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " (2/143/2) ، والطحاوي، والدارقطني، والبيهقي من طرق صحيحة عنه، وفي بعضها أنه: كان يجهر بها؛ ليتعلموها. وهو في " صحيح مسلم " (2/10) . وهذا دليل ظاهر على أن ذلك من سننه عليه الصلاة والسلام، وإلا؛ فغير معقول أن يُقْدِم عمر على الابتداع - مع كثرة أدعية الاستفتاح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لاسيما وهو يرفع صوته بذلك، ولا أحد من الصحابة ينكر ذلك عليه، وهذا بَيَّنٌ لا يخفى. والحمد لله. وقد ذهب إلى هذا الاستفتاح بدون: " وجهت وجهي ": أبو حنيفة وأصحابه، وقال الإمام محمد في " الآثار " - بعد أن ساق أثر عمر المذكور، ثم قال -: " وبهذا نأخذ في افتتاح الصلاة، ولكنَّا لا نرى أن يجهر بذلك الإمام، ولا من خلفه، وإنما جهر عمر رضي الله عنه؛ ليعلمهم ". اهـ. وبذلك قال الإمام أحمد - كما في " مسائل أبي داود " عنه (30) -، وإسحاق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وبحمدك (1) ، وتبارك (2) اسمك، وتعالى جَدُّك (3) ، ولا إله غيرك ". {وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد: (سبحانك اللهم! ... ) " (4) } .   وداود- كما في " المجموع " (3/321) -، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم من التابعين وغيرهم. وقال أبو يوسف: " يجمع بين هذا، وبين: " وجهت ... " على حديث ابن عمر ". ولو صح؛ لكان القول به متجهاً. والله أعلم. (1) أي: أُسَبِّحُكَ تسبيحاً؛ بمعنى: أنزهك تنزيهاً من كل النقائص. و (بحمدك) : أي: ونحن متلبسون بحمدك. (2) أي: كثرت بركة اسمك؛ إذ وجد كل خير من ذكر اسمك. وقيل: تعظم ذاتك. وهو على حقيقته؛ لأن التعظيم إذا ثبت لأسمائه تعالى؛ فأولى لذاته. ونظيره: قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} . كذا في " المرقاة " (1/515) . (3) أي: علا جلالك وعظمتك. قلت: وأما زيادة: (جَلَّ ثناؤك) ؛ فلم نجد لها أصلاً في شيء من طرق الحديث. وقد اشتهر أنها تقال في الاستفتاح في صلاة الجنازة، لكن الاستفتاح فيها لم يرد به نص مطلقاً. حتى قال النووي في " المجموع " (3/319) : " إن الأصح أنه لا يستحب في صلاة الجنازة؛ لأنها مبنية على الاختصار ". (4) {رواه ابن منده في " التوحيد " (123/2) بسند صحيح. ورواه النسائي في " اليوم والليلة " موقوفاً ومرفوعاً، كما في " جامع المسانيد " لابن كثير (ج 3/ قسم 2/ ورقة 235/2) . ثم رأيته في " النسائي " (رقم 849 و 850) ، فخرجته في " الصحيحة " (2939) } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 6- مثله، ويزيد في صلاة الليل: " لا إله إلا الله (ثلاثاً) ، الله أكبر كبيراً (ثلاثاً) ". 7- " الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة   6- ثبت ذلك في حديث أبي سعيد المذكور سابقاً في رواية أبي داود، والطحاوي وغيرهما. وإسناده حسن - كما بينا (ص 252) -. 7- هو من حديث ابن عمر قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذ قال رجل من القوم: ... فذكره. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عجبت لها! فتحت لها أبواب السماء ". قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ذلك. أخرجه مسلم (2/99) ، والنسائي (1/141) ، والترمذي (2/279 - طبع بولاق) - وصححه - عن إسماعيل ابن عُلَيَّةَ عن حجاج بن أبي عثمان عن أبي الزبير عن عون ابن عبد الله بن عتبة عنه. [وأخرجه {أبو عوانة} (2/100) عن يزيد بن زريع ثنا الحجاج به] . ثم أخرجه النسائي، {وأبو عوانة [2/100] } عن عمرو بن مرة عن عون به نحوه. وإسناده صحيح. فهذه متابعة قوية لأبي الزبير. {ورواه أبو نعيم في " أخبار أصبهان " (1/210) عن جُبير بن مُطْعِم: أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ذلك في التطوع} . وله شاهد من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وأصيلا " (1) ؛ استفتح به رجل من الصحابة، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عجبت لها! فتحت لها أبواب السماء ".   جاء رجل ونحن في الصف خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل في الصف، فقال: الله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. قال: فرفع المسلمون رؤوسهم، واستنكروا الرجل، وقالوا: من الذي يرفع صوته فوق صوت رسول الله؟! فلما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: " من هذا العالي الصوت؟ ". فقيل: هو ذا يا رسول الله! فقال: " والله! لقد رأيت كلامك يصعد في السماء حتى فُتح باب؛ فدخل فيه ". أخرجه الإمام أحمد في " المسند " (4/355 و 356) ، وابنه عبد الله في " زوائده " من طريق عُبيد الله بن إياد بن لَقِيط: ثنا إياد عن عبد الله بن سعيد عنه به. وهذا إسناد رجاله رجال مسلم؛ غير عبد الله بن سعيد؛ ذكره ابن حبان في " الثقات "، وذكره البخاري، وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحاً - كما في " التعجيل " -، ولم يذكر في الرواة عنه غير إياد هذا؛ فهو مجهول. وقال في " مجمع الزوائد " (2/106) : " رواه أحمد، والطبراني في " الكبير ". ورجاله ثقات ". كذا قال! وقد جاء الحديث من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن في سنده جهالة، وسيأتي في (الاستعاذة) . (1) أي: في أول النهار وآخره. وخص هذين الوقتين لاجتماع ملائكة الليل والنهار فيهما. كذا ذكره الأبهري، وصاحب " المفاتيح ". وقال الطّيبي: " الأظهر أن يراد بهما الدوام؛ كما في قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ". كذا في " المرقاة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 8- " الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه "؛ استفتح به رجل آخر، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   8- رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً جاء، فدخل الصف وقد حَفَزَهُ النَّفَسُ فقال: [الله أكبر] ، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاته؛ قال: " أيكم المتكلم بالكلمات؟ ". فأرَمَّ القوم. فقال: " أيكم المتكلم بها؟ فإنه لم يقل بأساً ". فقال رجل: جئت وقد حَفَزَنِي النفس؛ فقلتها. فقال: " لقد رأيت ... " الحديث. أخرجه مسلم (2/99) ، {وأبو عوانة [2/99] } - إلا الزيادة؛ فهي في رواية أبي داود (1/122) ، والنسائي (1/143) - من طريق حماد بن سلمة عن قتادة وثابت وحميد عنه. وروى الطيالسي (268) عن هَمَّام عن قتادة عن أنس نحوه. وفيه زيادة. قوله: (حَفَزَه النفس) : بفتح الحاء المهملة والفاء والزاي المعجمة. و: (النَّفَس) : بفتحتين؛ أي: جَهَدَهُ من شدة السعي إلى الصلاة. وأصل (الحفز: الدفع العنيف. وفي " النهاية ": " الحفز: الحث والإعجال ". وقوله: (فَأرَمَّ) بفتح راء مهملة، وتشديد ميم؛ أي: سكتوا. والحديث أخرجه أحمد أيضاً (3/106 و 252) وزاد، وكذا أبو داود في رواية لهما، {وأبو عوانة} : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 " لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها (1) ؛ أيهم يرفعها ". 9- " اللهم لك الحمد؛ أنت نور السماوات والأرض ومن   " وإذا جاء أحدكم؛ فليمش نحو ما كان يمشي؛ فليصل ما أدركه، وليقض ما سبقه ". وإسنادها صحيح على شرط مسلم. وهو من حديث حميد. (1) أي: ثواب هذه الكلمات. قال ابن المَلَك: يعني: يسبق بعضهم بعضاً في كَتْبِ هذه الكلمات، ورَفْعِها إلى حضرة الله؛ لعظمها، وعظم قدرها. وتخصيص المقدار يُؤْمَنُ به، ويُفَوَّضُ إلى علمه تعالى. اهـ. من " المرقاة ". قال النووي: " وفيه دليل على أن بعض الطاعات قد يكتبها غيرُ الحَفَظَةِ أيضاً ". 9- رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل يتهجد؛ قال: ... فذكره. أخرجه البخاري (2/3 و 4 و 11/99 و 13/366 - 367 و 399) وفي " أفعال العباد " (96) ، ومسلم (2/184) ، والنسائي (1/240) ، والدارمي (1/348) ، وابن ماجه (1/408 - 409) ، وأحمد (1/358) ، والطبراني في " الكبير "؛ كلهم من طريق سليمان ابن أبي مسلم عن طاوس عنه. ورواه مالك (1/17) ، ومن طريقه مسلم، وأبو داود (1/123) ، والترمذي (2/249 - طبع بولاق) - وقال: " حسن صحيح " -، وأحمد (1/298 و 308) - كلهم عن مالك - عن أبي الزبير عن طاوس به. ورواه الطبراني من طريق جُنادة بن سَلْم عن عبيد الله بن عمر عن أبي الزبير به بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ..............................................................................   كان يقول بعد التكبير، وبعد أن يقول: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض؛ حنيفاً مسلماً ... ": " اللهم! لك الحمد ... " الحديث. وجُنادة هذا: قال في " التقريب ": " صدوق له أغلاطه ". وبقية رجال الإسناد رجال مسلم؛ غير شيخ الطبراني عبد الرحمن بن سلم الرازي؛ لم أجد من ترجمه (*) . وذِكْرُ: " وجهت وجهي ... " في هذا الحديث: غريب، ولعله من أغلاط جنادة. وأما قوله: (بعد التكبير) ؛ فقد توبع عليه. أخرجه أبو عوانة (2/301) ، وأبو داود، وابن نصر في " قيام الليل " (44) ، والطبراني في " الكبير " من طريق عِمران القصير: أن قيس بن سعد حدثه قال: ثنا طاوس به بلفظ: كان في التهجد يقول - بعدما يقول: " الله أكبر " -: ... ثم ذكر معناه. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وقد رواه في " صحيحه " من هذا الطريق، لكنه لم يسق لفظه؛ بل أحال على الذي قبله. وابن نصر رواه عن شيخ مسلم، وساق لفظه. هذا، وسياق الحديث للبخاري في رواية.   (*) ثم صحح له الشيخ رحمه الله إسناداً في " الطبراني "، انظره (ص 487) ، وانظر " الصحيحة " (7/453) وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فيهن (1) . ولك الحمد؛ أنت قَيِّمُ (2) السماوات والأرض ومن فيهن. 1 [ولك الحمد؛ أنت ملِك (3) السماوات والأرض ومن فيهن] . ولك الحمد؛ أنت الحق (4) ، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق (5) ، والجنة حق، والنار   والزيادة الأولى: هي له في رواية، ولغيره. والزيادة الثانية: هي في حديث قيس بن سعد: عند ابن نصر. والزيادة الثالثة: هي عند البخاري في رواية. وكذا الرابعة، وهي في حديث مالك، ورواها ابن نصر بلفظ: " أنت الله ". والزيادة الأخيرة: للدارمي، وابن ماجه، والطبراني. (1) أي: مُنَوِّرُهما، وبك يهتدي من فيهما. (2) {أي: حافظهما وراعيهما} . وفي رواية أبي الزبير، وقيس بن سعد: " قَيَّام "؛ كـ: علاَّم؛ أي: القائم بتدبيرِه وأمرِه السماواتُ وغيرُهَا. (3) وفي روايتها أيضاً: " ربُّ ". (4) قال العلماء: (الحق) في أسمائه تعالى معناه: المتحقق وُجُودُه، وكل شيء صَحَّ وجوده وتحقق؛ فهو حق، ومنه {الحَاقَّةُ} ؛ أي: الكائنة حقاً بغير شك، ومثله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: " ووعدك حق، وقولك حق ... " إلخ. أي: كله متحقق لا شك فيه. ذكره النووي. (5) فيه الإقرار بالبعث بعد الموت، وهو عبارة عن مآل الخلق في الدار الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 حق، والساعة حق (1) ، والنبيون حق، ومحمد حق (2) . اللهم! لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت (3) ، وبك خاصمت (4) ، وإليك حاكمت؛ 2 [أنت ربنا، وإليك المصير؛ فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت] ، 3 [وما أنت أعلم به مني] ؛ أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، 4 [أنت إلهي] ، لا إله إلا أنت، 5 [ولا حول ولا قوة إلا بك] ". وكان يقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الليل؛ كالأنواع الآتية (5) :   (1) أي: يوم القيامة. وأصل الساعة: القطعة من الزمان. (2) خَصَّه بالذكر تعظيماً له، وعَطَفَه على النبيين إيذاناً بالتغاير؛ بأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة، وجَرَّدَه عن ذاته، كأنه غيره، ووَجَّبَ عليه الإيمان به وتصديقه؛ مبالغة في إثبات نبوته؛ كما في التشهد. قاله الحافظ. (3) أي: أطعت ورجعت إلى عبادتك؛ أي: أقبلت عليها. (4) أي: بما أعطيتني من البرهان، وبما لَقَّنْتَنِي من الحُجَّة. (5) {ولا ينفي ذلك مشروعيتها في الفرائض أيضاً كما لا يخفى؛ إلا الإمام؛ كي لا يطيل على المؤتمين} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 10- " اللهم! رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل! فاطر (1) السماوات والأرض! عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني (2) لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم "   10- هو من حديث عائشة رضي الله عنها. رواه عنها أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سالت عائشة أم المؤمنين: بأي شيء كان نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل؛ افتتح صلاته فقال: ... فذكره. أخرجه مسلم (2/185) ، وأبو داود (1/122، 123) ، والنسائي (1/241 - 242) ، والترمذي (2/250 - طبع بولاق) وحسَّنه، وابن ماجه (1/410) من طرق عن عمر بن يونس {وأبو عوانة [ (2/305) عن عاصم بن علي؛ كلاهما قالا] } : ثنا عِكرمة بن عمار: ثنا يحيى بن أبي كثير: ثني أبو سلمة به. زاد ابن ماجه: قال عبد الرحمن بن عمر - قلت: وهو شيخ ابن ماجه فيه؛ راويه عن عمر -: احفظوه: جبرائيل؛ مهموزة. فإنه كذا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخرجه الإمام أحمد (6/156) فقال: ثنا قُرَاد أبو نوح: نا عكرمة بن عمار به بلفظ: كان إذا قام؛ كبَّر، ويقول: ... فذكره. وقُراد: بضم القاف وتخفيف الراء؛ لقبه، واسمه: عبد الرحمن بن غزوان، وهو ثقة من رجال البخاري. وتابعه النضر بن محمد. رواه {أبو عوانة [2/304 - 305] } ، وابن نصر (44) مثل رواية عمر. (1) أي: مبتدعهما ومخترعهما. و (الغيب) : ما غاب عن الناس. و (الشهادة) خلافه. (2) أي: زدني هدى، أو: ثبِّتني؛ فليس المطلوب تحصيل الحاصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 11- " كان يُكَبِّرُ (عَشْراً) (1) ، ويَحْمَدُ (عَشْراً) ، ويُسَبِّحُ (عَشْراً) ، ويُهَلِّل (عَشْراً) ، ويستغفر (عَشْراً) ، ويقول: " اللهم! اغفر لي، واهدني، وارزقني، [وعافني] " (عَشْراً) . ويقول: " اللهم! إني أعوذ بك من الضيق يوم الحساب " (عَشْراً) ".   11- هو من حديث عائشة أيضاً. رواه الإمام أحمد (6/143) ، {والطبراني في " الأوسط " (62/2) } من طريق يزيد قال: نا الأصبغ عن ثور بن يزيد عن خالد بن مَعْدَان قال: ثني ربيع الجُرَشي قال: سألت عائشة فقلت: ما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إذا قام من الليل، وبم كان يستفتح؟ قالت: ... فذكرته. وأخرجه ابن نصر أيضاً (44) قال: ثنا محمد بن يحيى: ثنا يزيد بن هارون به. والسياق له. وهذا إسناد صحيح. وله طريق آخر: رواه أبو داود (1/122) ، والنسائي (1/240) ، وابن ماجه (1/409) ، {وابن أبي شيبة (12/119/2) = [6/43/29327] } من طريق أزهر بن سعيد الحَرَازي عن عاصم بن حُميد قال: سألت عائشة: ... فذكره بنحوه بزيادة: " وعافني ". وسنده حسن. ولا منافاة بين هذا الحديث وحديثها السابق؛ لوقوع كل منهما أحياناً. كما قال السندي، قال: " وللجمع بين الكل ". قلت: وهذا بعيد. (1) مع تكبيرة التحريم أو بعده. قاله السندي. قال: " وأما أنه كان يقوله قبل الشروع في الصلاة؛ فبعيد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 12- " الله أكبر [ثلاثاً] ، ذو الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة ".   12- هو من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أنه صلى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أبو داود: صلاة الليل -، فلما كبَّر؛ قال: " الله أكبر، ذو الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة ". قال: ثم قرأ {البَقَرَة} . قال: ثم ركع؛ فكان ركوعه مثل قيامه، فجعل يقول في ركوعه: " سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم ". ثم رفع رأسه من الركوع، فقام مثل ركوعه فقال: " إن لربيَ الحمدَ ". ثم سجد، وكان في سجوده مثل قيامه، وكان يقول في سجوده: " سبحان ربي الأعلى". ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقول بين السجدتين: " رب! اغفر لي، [رب! اغفر لي] (*) ". وجلس بقدر سجوده. قال حذيفة: فصلى أربع ركعات يقرأ فيهن: {البَقَرَة} ، و {آلِ عِمْرَان} ، و {النِّسَاء} ، و {المَائِدَة} أو {الأَنْعَام} . شك شعبة. أخرجه الطيالسي (ص 56) : قال: ثنا شعبة قال: أخبرني عمرو بن مُرَّة: سمع أبا حمزة يحدث عن رجل من عَبْس - شعبة يرى أنه صِلَةُ بن زُفَر - عنه. ومن طريقه رواه البيهقي (2/121 - 122) . وكذا أخرجه أبو داود (1/139 - 140) ، والنسائي (1/172) ، والطحاوي في " المشكل " (1/308) ، وأحمد (5/398) من طرق عن شعبة به. وروى ابن نصر (45) الافتتاح فقط. والزيادة لأبي داود. وما رآه شعبة من أن الرجل المبهم هو صِلَةُ بنُ زُفَر يقويه أن الحديث رواه   (*) ما بين المعقوفتين سقط من قلم الشيخ رحمه الله، واستدركناها من " الطيالسي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ..............................................................................   سعد بن عُبيدة عن المستورد بن الأحنف عن صلة بن زفر عن حذيفة بنحوه، مع زيادة ونقص. أخرجه مسلم (2/186) وغيره - كما سيأتي في (القراءة في صلاة الليل) -. وصلة بن زفر: عَبْسِيٌّ، وهو ثقة جليل من رجال الشيخين - كما في " التقريب " -. وعلى ذلك؛ فإسناد الحديث صحيح على شرط البخاري، رجاله رجال الشيخين؛ غير أبي حمزة - واسمه: طلحة بن يزيد -؛ وهو ثقة من رجال البخاري وحده. ثم الحديث رواه العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن طلحة بن يزيد الأنصاري عن حذيفة قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة من رمضان، فقام يصلي، فلما كبَّر؛ قال: " الله أكبر، ذو الملكوت ... " الحديث. أخرجه الإمام أحمد (5/400) قال: ثنا خلف بن الوليد: ثنا يحيى بن زكريا: ثنا العلاء بن المُسَيّب به. فأسقط من الإسناد الرجل العبسي. وكذلك أخرجه الدارمي (1/347) ، وابن ماجه (1/290) ، والحاكم (1/271) من طرق عن العلاء به؛ مقتصرين على القول بين السجدتين. وقال الحاكم: " صحيح على شرطهما "! ووافقه الذهبي! فوهما؛ لما علمتَ من أن طلحة هذا ليس من رجال مسلم، ثم هو لم يسمعه من حذيفة، وقد أخرجه النسائي (1/246) بأتم منه، ثم قال: " هذا الحديث عندي مرسل، وطلحة بن يزيد لا أعلمه سمع من حذيفة شيئاً، وغيرُ العلاء بن المسيب قال في هذا الحديث: عن طلحة عن رجل عن حذيفة ". يشير بذلك إلى رواية شعبة عن عمرو بن مرة عنه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 القراءة ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعيذ بالله تعالى؛ فيقول: " أعوذ بالله من الشيطان (1) الرجيم؛ من هَمْزِه، ونَفْخِه، ونَفْثِه ".   (1) (الشيطان) : اسم لكل متمرد عاتٍ: سُمّي شيطاناً لِشُطونِه عن الخير؛ أي: تباعده. وقيل: لشيطه؛ أي: هلاكه واحتراقه. فعلى الأول النون أصلية، وعلى الثاني زائدة. و (الرجيم) : المطرود والمبعد. وقيل: المرجوم بالشهب. كذا في " المجموع " (3/323) . وأما قوله: (همزه) : ففسره بعض الرواة - كما سبق - بالمُوْتَةِ؛ وهو - بالضم، وفتح التاء -: نوع من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا فاق؛ عاد إليه كمالُ عقله؛ كالنائم والسكران. قاله الطيبي. وقال أبو عبيدة: " الجنون سماه همزاً؛ لأنه يحصل من الهمز والنخس، وكل شيء دفعته فقد همزته ". وقوله: (ونفخه) : فسره الراوي بالكبر. قال الطيبي: " النفخ: كناية عن الكبر؛ كأن الشيطان ينفخ فيه بالوسوسة فيعظمه في عينه، ويحقر الناس عنده ". وقوله: (ونفثه) : فسره الراوي بالشِّعر، والمراد: الشِّعر المذموم قطعاً، وإلا؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: " إن من الشعر حكمة ". أخرجه البخاري (10/242) وغيره عن أبي بن كعب. وقال الطيبي: " إن كان هذا التفسير من متن الحديث؛ فلا معدل عنه، وإن كان من بعض الرواة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ..............................................................................   فالأنسب أن يراد بالنفث: السحر؛ لقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} ، وأن يراد بالهمز: الوسوسة؛ لقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِيْنِ} ؛ وهي: خطراته؛ فإنهم يُغرون الناس على المعاصي، كما تهمز الركضة والدواب بالمهماز ". اهـ. من " المرقاة ". وأقول: إن هذا التفسير ليس من متن هذا الحديث؛ بل من تفسير بعض الرواة - كما ذكرنا -، ولكن جاء في حديث آخر مرفوعاً؛ وهو ما أخرجه أحمد في " المسند " (6/156) من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل؛ يقول: " اللهم! إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم؛ من همزه، ونفثه، ونفخه ". قال: وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم؛ من همزه، ونفخه، ونفثه ". قالوا: يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وما همزه، ونفخه، ونفثه؟ قال: " أما همزه: فهذه الموتة التي تأخذ بني آدم. وأما نفخه: فالكبر. وأما نفثه: فالشِّعر". ورجال إسناده ثقات رجال " الصحيح "؛ لكنه مرسل. وفيه رد على من أنكر ورود هذا التفسير مرفوعاً من المعاصرين، وظاهره يفيد وجوب التعوذ قبل القراءة في الصلاة، ويؤيده عموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} . وقد ذهب إلى ذلك ابن حزم في " المحلى " (3/247) . قال النووي (3/326) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وكان - أحياناً - يزيد فيه فيقول: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان ... " (1) .   " ونقل العبدري عن عطاء والثوري أنهما أوجباه. قال: وعن داود روايتان. وذهب الجمهور إلى الاستحباب، واستدلوا بحديث المسيء صلاته. والله أعلم ". وتمامه فيما يأتي في (الركعة الثانية) . (1) جاء ذلك من حديث أبي سعيد الخدري، وجبير بن مُطْعِم، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن الخطاب، وأبي أمامة. {وهو مخرج في " إرواء الغليل " (342) } . 1- أما حديث أبي سعيد: فأخرجه أبو داود، والترمذي، والدارمي، والدارقطني، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد بلفظ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل؛ كبَّر، ثم يقول: " سبحانك اللهم! ... " الحديث. وفيه: ثم يقول: " الله أكبر كبيراً - ثلاثاً -، أعوذ بالله السميع ... " الحديث. وقد سبق ذكره في (الاستفتاح) في النوع الخامس، وإسناده حسن - كما بينا هناك -؛ فراجعه. وبعضهم يقدم لفظة: " نفثه " على: " نفخه ". وهي رواية الدارمي، والدارقطني، والبيهقي. ويؤيد رواية الأكثرين: 2- حديث جبير بن مطعم: قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل في الصلاة قال: " الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، الحمد لله كثيراً، الحمد لله كثيراً، سبحان الله بكرة وأصيلاً - ثلاث مرات -، إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم؛ من همزه، ونفخه، ونفثه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ..............................................................................   أخرجه أبو داود (1/122) ، وابن ماجه (1/269) ، والحاكم (1/235) ، والبيهقي (2/35) ، والطيالسي (128) ، وأحمد (4/85) ، والطبراني في " الكبير "، وابن حزم في " المحلى " (3/248) من طرق عن شعبة عن عمرو بن مُرَّة عن عاصم العَنَزي عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه به. واللفظ لابن ماجه والحاكم وأحمد وابن حزم. وقال أبو داود والطيالسي والبيهقي: " بالله " ... بدل: " بك ". وأخَّروا لفظة: " همزه "؛ فجعلوها بعد: " ونفثه ". وزادوا كلهم - غير الحاكم والطيالسي وابن حزم -: قال عمرو: " همزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر ". ثم أخرجه أبو داود، وكذا الطبراني، {وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " (1/210) } من طريق مِسْعَر عن عمرو بن مرة عن رجل من عَنَزَةَ عن نافع بن جُبير به بلفظ: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في التطوع: ... فذكره نحوه. ثم قال الحاكم: " صحيح ". ووافقه الذهبي. وكذا صححه ابن حبان؛ فأخرجه في " صحيحه ". قلت: ورجاله رجال الشيخين؛ غير عاصم العَنَزي هذا، ولم يوثقه غير ابن حبان، ولم يَرْوِ عنه إلا اثنان؛ أحدهما: عمرو هذا، والآخر: محمد بن أبي إسماعيل. وقد قال البخاري: " لا يصح ". قلت: فمثله في الشواهد لا بأس به إن شاء الله تعالى. 3- وأما حديث عبد الله بن مسعود: فأخرجه ابن ماجه (1/270) ، والحاكم (1/207) ، والبيهقي (2/36) ، وأحمد (1/404) ، وابنه عبد الله عن محمد بن فُضَيل - شيخ أحمد فيه - عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ..............................................................................   كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل في الصلاة؛ يقول: " اللهم! إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه، ونفخه، ونفثه ". وأَخَّر أحمد: " ونفخه " عن: " نفثه ". ثم أخرجه أحمد (1/403) ، والبيهقي من طريقين آخرين عن عمار بن رُزَيْق وعن ورقاء؛ كلاهما عن عطاء به نحوه. ولفظ الأخير منهما: كان يعلّمنا أن نقول: ... فذكره. وقال الحاكم: " صحيح. وقد استشهد البخاري بعطاء بن السائب ". ووافقه الذهبي! كذا قالا! وفي " الزوائد ": " وفي إسناده مقال؛ فإن عطاء بن السائب اختلط آخر عمره، وسمع منه محمد بن فُضَيل بعد الاختلاط، وفي سماع أبي عبد الرحمن السلمي من ابن مسعود كلام؛ قال شعبة: لم يسمع. وقال أحمد: أرى قول شعبة وهماً ". اهـ. قلت: وأثبت سماعَه منه البخاري في " تاريخه الكبير "، والمُثْبِتُ مقدَّمٌ على النافي. والله أعلم. وقد رواه ابن خزيمة أيضاً - كما في " التلخيص " -. 4- وأما حديث عمر: فأخرجه الدارقطني (112) مرفوعاً. وفي سنده من لم أعرفه بشيء. وقال الحافظ في " التلخيص " (3/304 - 305) - بعد أن ساق حديث ابن مسعود -: " وعن أنس نحوه. رواه الدارقطني، وفيه الحسين بن علي بن الأسود: فيه مقال. وله طريق أخرى ذكرها ابن أبي حاتم في " العلل " عن أبيه، وضعفها ". اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ..............................................................................   قلت: وهذا وهم، أو سبق قلم منه رحمه الله؛ فإن حديث أنس الذي رواه الدارقطني إنما هو في الاستفتاح بـ: " سبحانك ... "؛ ليس فيه الاستعاذة مطلقاً، رواه من طريق الحسين هذا؛ قال: ثنا محمد بن الصلت ... بإسناده عن أنس، وقد ذكره في الاستفتاح. وذكرنا هناك تضعيف أبي حاتم له. لكن ليس من طريق أخرى؛ كما قال الحافظ. والمعصوم من عصمه الله. 5- وأما حديث أبي أمامة: فأخرجه الإمام أحمد (5/253) من طريق حماد بن سلمة وشريك عن يعلى بن عطاء: أنه سمع شيخاً من أهل دمشق: أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل في الصلاة من الليل؛ كبَّر ثلاثاً، وسبح ثلاثاً، وهلل ثلاثاً، ثم يقول: " اللهم! إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم؛ من همزه ونفخه وشِرْكه ". وقال شريك: " ونفثه ".. بدل: " وشركه ". وهذا إسناد صحيح. لولا الشيخ الدمشقي؛ فإنه مجهول لم يُسَمَّ. وبالجملة؛ فالاستعاذة من هذه الأشياء الثلاثة الشيطانية صحيح ثابت بمجموع هذه الطرق، وزيادة: " السميع العليم " ثابتة أيضاً في حديث أبي سعيد بإسناد حسن - كما سبق -؛ فينبغي أن يؤتى بها أحياناً. {وبه قال أحمد في " مسائل ابن هانئ " (1/51) } . وأما الاقتصار على (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ؛ فلم نجد في ذلك حديثاً. اللهم! إلا ما في " مراسيل أبي داود " عن الحسن: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتعوذ: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ..............................................................................   ذكره في " التلخيص " (3/306) . وهذا مع كونه ليس فيه التصريح بأنه كان في الصلاة؛ فهو مرسل، ولا يحتج به عند جمهور المحدثين؛ لا سيما إذا كان من مراسيل الحسن البصري. ومع هذا كله؛ فقد ذهب الشافعية - إلا القليل منهم - إلى أن الأفضل الاقتصار على هذا القدر من الاستعاذة! واحتجوا بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . ولا يخفى أن الآية مجملة؛ ليس فيها بيان صفة الاستعاذة؛ فوجب الرجوع في ذلك إلى السنة. وقد علمت ما ثبت فيها من الزيادة؛ فالأخذ بها أولى؛ لا سيما وأن فيها زيادة معنى. وقد ذهب إلى شيء من هذا بعض الشافعية؛ فقال الرافعي في " شرح الوجيز " (3/305) : " وحكى القاضي الروياني عن بعض أصحابنا: إن الأحسن أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ". اهـ. وأحسن من هذا أن يضاف إليه: " من همزه، ونفخه، ونفثه ". ومما ذكرنا تَعْلَمُ أن قول ابن القيم في " زاد المعاد " (1/73) : " وكان يقول بعد ذلك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ثم يقرأ {الفَاتِحَة} . فيه قصور؛ لأن كتابه ليس كتاب تأييد لمذهب معين؛ بل هو بيان لهديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عباداته وغيرها. واختلف العلماء في حكم الاستعاذة، ويأتي بعض الكلام في ذلك قريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ثم يقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولا يجهر بها (1) .   (1) رواه أنس بن مالك. وقد جاء عنه من طرق بألفاظ مختلفة، ولكن الذي يتحصل منها هو إسراره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها، وها نحن نسوقها؛ لتتبين منها ذلك: الطريق الأول: عن شعبة عن قتادة عن أنس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون الصلاة بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . أخرجه البخاري (2/180) من " صحيحه " وفي " جزء القراءة " (12) ، ومسلم (2/12) ، {وأبو عوانة [2/122] } ، والطحاوي (1/119) ، والدارقطني (119) ، والبيهقي (2/51) ، والطيالسي (266) ، وأحمد (3/179 و 273 و 275) من طرق عنه به، واللفظ للبخاري، وزاد في رواية: " وعثمان ". وزاد الطيالسي - وعنه مسلم -: " قال - يعني: شعبة -: قلت له: أنت سمعته منه؟ قال: نعم؛ نحن سألناه عن ذلك ". وهو رواية لأحمد بلفظ: سألت أنس بن مالك: بأي شيء كان يستفتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القراءة؟ قال: إنك لتسألني عن شيء ما سألني عنه أحد. وسنده صحيح على شرط الستة. ولفظ مسلم، {وأبي عوانة} ، والدارقطني، والبيهقي، وأحمد في رواية: صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وكذلك لفظ الطحاوي، إلا أنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ..............................................................................   يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وهو رواية للدارقطني له. وفي لفظ لأحمد: فكانوا لا يجهرون بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وكذلك رواه ابن حبان في " صحيحه "، وزاد: ويجهرون بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} - كما في " نصب الراية " (1/327) -. ولشعبة فيه إسناد آخر يأتي. وأخرجه البخاري في " جزء القراءة "، ومسلم، وأبو داود (1/125) ، والشافعي في " الأم " (1/93) ، والنسائي (1/143) ، والترمذي (2/15) وصححه، والدارمي (1/283) ، وابن ماجه (1/271) ، {وأبو عوانة [2/122] } ، والطحاوي، والدارقطني، والبيهقي، وأحمد (3/223 و 273) من طرق أخرى عن قتادة بنحو اللفظ الأول. وزاد مسلم، {وأبو عوانة} ، وأحمد في آخره: لا يذكرون: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول القراءة، ولا في آخرها. ورواه النسائي (1/144) من طريق عُقبة بن خالد قال: ثنا شعبة وابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس به، بلفظ: فلم أسمع أحداً منهم يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . الطريق الثاني: عن الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عنه مثل الأول. أخرجه مسلم، والبخاري في " الجزء " المذكور، والطحاوي، والدارقطني (120) ، والسراج، وأبو عوانة في " صحيحه " - كما في " الفتح " (2/181) -، ورواه الطبراني في " الأوسط " - باللفظ الثاني للجهر - من طريقين عنه. الطريق الثالث: عن منصور بن زاذان عنه قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلم يُسمعنا قراءة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وصلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ..............................................................................   بنا أبو بكر، وعمر؛ فلم نسمعها منهما. أخرجه النسائي (1/144) بإسناد صحيح. الرابع: أخرجه أحمد (3/264) : ثنا الأحوص بن جوّاب: ثنا عمار بن رُزيق عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عنه قال: صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع أبي بكر، ومع عمر؛ فلم يجهروا بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وأخرجه الطحاوي (1/119) بهذا الإسناد. وهو صحيح على شرط مسلم. الخامس: عن سُويد بن عبد العزيز عن عِمران القصير عن الحسن عنه، بلفظ: كانوا يُسِرُّون ... . أخرجه الطحاوي. وسويد: ليِّن الحديث - كما في " التقريب " -. وبهذا اللفظ أخرجه الطبراني، وأبو نعيم في " الحلية "، وابن خزيمة في " مختصر المختصر " - كما في " نصب الراية " -، وقال: " ورجاله ثقات ". فلعله من غير طريق سويد هذا. ثم تحقق ما ظننته - كما سيأتي -. السادس: عن أبي نَعَامَةَ الحنفي - قيس بن عَبَايَةَ - عنه، بلفظ: لا يجهرون. أخرجه الطبراني - كما في " الفتح " (2/181) -. قلت: والبيهقي في " السنن " (2/52) . وسنده جيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ..............................................................................   السابع: عن حميد عنه باللفظ الأول. أخرجه البخاري في " الجزء "، والطحاوي، والبيهقي من طرق عنه. الثامن: عن أبي إسحاق بن حسين عن مالك بن دينار عنه مثله. أخرجه البخاري. وأبو إسحاق هذا: ضعيف، واسمه: خازم؛ بالزاي. التاسع: عن سليمان بن عبيد الله الرَّقِّي قال: ثنا مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين والحسن عن أنس مثله. أخرجه الطحاوي. وسنده قابل للتحسين. العاشر: عن ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن محمد بن نوح - أخا بني سعد ابن بكر - حدثه عن أنس مثله. أخرجه الطحاوي أيضاً. وابن نوح هذا: لم أجد من ذكره؟ . الحادي عشر: عن ثابت البُناني عنه مثله. رواه السَّرَّاج، ورواه ابن خزيمة باللفظ الثاني للجهر. وللحديث شاهد من حديث ابن عبد الله بن مُغَفَّل - يزيد بن عبد الله - قال: سمعني أبي وأنا أقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فقال: أي بني! إياك. قال - ولم أرَ أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أبغض إليه حدثاً في الإسلام منه -: فإني قد صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع أبي بكر، ومع عمر، ومع عثمان؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ..............................................................................   فلم أسمع أحداً منهم يقولها؛ فلا تقلها. إذا أنت قرأت؛ فقل: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . أخرجه هكذا الإمام أحمد، قال (4/85) : ثنا إسماعيل قال: ثنا سعيد بن إياس الجُرَيْري عن قيس بن عَبَاية عن ابن عبد الله بن مغفل - يزيد بن عبد الله - قال: ... فذكره. وأخرجه الترمذي (2/12 - 13) ، وابن ماجه (1/271) ، والطحاوي (1/119) ؛ كلهم عن إسماعيل - وهو: ابن إبراهيم؛ المعروف بـ: ابن عُلَيّة - بدون تسمية ابن عبد الله. وكذلك أخرجه النسائي (1/144) ، والبيهقي (2/52) من طريق عثمان بن غِيَاث قال: أخبرني أبو نعامة الحنفي به. وأبو نعامة هو: قيس بن عباية. ومن هذا الوجه أخرجه أحمد (5/54) - مختصراً - بلفظ: كان أبونا إذا سمع أحداً منا يقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ يقول: إِهِي إِهِي! صليت خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وعمر؛ فلم أسمع أحداً منهم يقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . ثم أخرجه (5/55) عن وهيب عن سعيد بن إياس به بلفظ: فكانوا لا يستفتحون القراءة بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . ورواه البخاري في " جزء القراءة " (12) عن يزيد بن هارون عن الجريري مختصراً بلفظ: وكانوا يقرؤون: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . ثم قال الترمذي: " حديث حسن ". وقال المعلق عليه: " إسناد أحمد صحيح؛ فيه التصريح باسم يزيد بن عبد الله ". قلت: فماذا كان؟! أيكفي ذلك في تعديله، وهو لم يوثقه أحد؟! نعم؛ قد روى عنه هذا الحديث اثنان غير أبي نعامة؛ وهما: عبد الله بن يزيد - ولم يسمه -، وأبو سفيان طَرِيف بن شهاب - وسماه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ..............................................................................   أخرجه عنهما الطبراني في " معجمه " - كما في " نصب الراية " (1/232) -. قلت: ورواه عن أبي سفيان أبو حنيفة - كما في " الآثار " لمحمد وأبي يوسف -؛ فارتفعت عنه بروايتهم الجهالة العينية. وأما حاله؛ فلا يزال مجهولاً، وإن كان الزيلعي حاول بذلك تقوية الحديث، ولكنه - على كل حال - شاهد لا بأس به لحديث أنس، وهو - أعني: حديث أنس - وإن كانت ألفاظه مختلفة - كما سبق - لكنها ليست متعارضة؛ بل يمكن التوفيق بينها بمثل ما قال الحافظ في " الفتح " (2/181) : " فطريق الجمع بين هذه الألفاظ حملُ نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع على نفي الجهر، وتؤيده رواية منصور بن زاذان: فلم يسمعنا قراءة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس: كانوا يسرُّون بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب - كابن عبد البر -؛ لأن الجمع إذا أمكن؛ تعين المصير إليه ". وبذلك يتبين أن حديث أنس حجة في كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسر بالبسملة، وكذلك أصحابه الثلاثة، ومثله حديث عبد الله بن مغفل. وقد قال الترمذي: " والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ منهم: أبو بكر وعمر وعثمان، وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق؛ لا يرون أن يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ قالوا: ويقولها في نفسه ". قلت: وهو مذهب أبي حنيفة، وصاحبيه - كما حكاه الطحاوي وغيره -، ونص عليه الإمام محمد في " الآثار " (15 - 16) ، وبه قال أكثر أصحاب الحديث - كما قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ..............................................................................   الحازمي (56) -، وخالفهم الإمام الشافعي، وأصحابه، وبعض من سبقه من الصحابة، والتابعين؛ فقالوا بالجهر بها، وأنه السنة. وقد أطال النووي رحمه الله في " المجموع " (3/334 - 356) في الاستدلال لذلك بأحاديث كثيرة ساقها! والناظر فيها بإنصاف؛ لا يخرج منها بحديث واحد صحيح صريح يدل على ما ذهبوا إليه. ولذلك سأسوق في هذا التعليق منها ما يرد في الجهر بها صريحاً؛ مما قد صححه بعضهم، وأدع الكلام على سائرها المطولات كـ " نصب الراية "، و " نيل الأوطار "، أو غيرهما. الحديث الأول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وله عنه طرق: الأولى: ما أخرجه الشافعي في " الأم " (1/93) ، ومن طريقه الدارقطني (117) ، والحاكم (1/233) ، والبيهقي (2/49) ؛ ثلاثتهم عن الشافعي قال: أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جُرَيج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيم: أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره: أن أنس بن مالك أخبره قال: صلى معاوية بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة؛ فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لِ {أم القرآن} ، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها، حتى قضى تلك القراءة، ولم يكبر حين يهوي، حتى قضى تلك الصلاة، فلما سلَّم؛ ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كل مكان: يا معاوية! أسرقت الصلاة أم نسيت؟! فلما صلَّى بعد ذلك؛ قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} للسورة التي بعد {أم القرآن} ، وكبَّر حين يهوي ساجداً. قال الدارقطني: " رجاله كلهم ثقات ". وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم " - ووافقه الذهبي -، ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ..............................................................................   " وقد احتج مسلم بعبد المجيد بن عبد العزيز، وسائر الرواة متفقٌ على عدالتهم، وهو علة لحديث شعبة عن قتادة؛ فإن قتادة - على علو قدره - يدلس، ويأخذ من كل أحد ". كذا قال! وهو يشير بذلك إلى حديث أنس السابق في إسراره بالبسملة. وهذه العلة ليست بشيء؛ لأن قتادة صرح بسماعه من أنس، فبطل ما أعله الحاكم به. ثم إن في كلامه مؤاخذاتٍ أخرى: الأولى: أن مسلماً لم يحتج بعبد المجيد هذا؛ وإنما روى له مقروناً بغيره - كما في " التهذيب " -. وقال الحافظ في " التقريب ": " صدوق يخطئ ". إلا أنه قد تابعه عبد الرزاق عند الدارقطني، والبيهقي. الثانية: أن عبد الله بن عثمان هذا؛ ليس متفقاً على الاحتجاج به - كما يفيده كلام الحاكم -، والبخاري إنما أخرج له تعليقاً، ثم هو مختلف فيه - وإن كان مسلم قد احتج به -؛ فوثقه ابن معين، وغيره، والنسائي في رواية، وقال في أخرى: " ليس بالقوي ". ورُوي نحوُه عن ابن معين. وقال ابن عدي: " أحاديثه حسان ". قلت: والحق أنه ثقة حجة، وحديثه أقل أحواله أنه حسن يحتج به؛ إلا إذا خالف من هو أقوى منه في الحديث، والواقع هنا كذلك؛ فقد سبق بيان أن الحديث رواه جمعٌ عن جمعٍ عن أنس: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُسِرُّ بالبسملة. فكيف يروي أنس مثل حديث معاوية هذا محتجاً به، وهو مخالف لما رواه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن الخلفاء الراشدين؟! ولم يُعرف عن أحد من أصحاب أنس المعروفين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ..............................................................................   بصحبته أنه نقل عنه مثل ذلك. وهذا أحد الوجوه التي ضعف المحققون حديث ابن خثيم هذا عن أنس. والوجه الثاني: أنه اضطرب في روايته إسناداً ومتناً: أما الأول: فتارة يرويه عن أبي بكر بن حفص عن أنس - كما سبق -. وتارة يرويه عن إسماعيل بن عُبيد بن رِفاعة عن أبيه عن معاوية. أخرجه الشافعي (1/93 - 94) ، ومن طريقه البيهقي (2/49 - 50) عن إبراهيم بن محمد الأسلمي ويحيى بن سُليم؛ كلاهما عن ابن خثيم عن إسماعيل به. وتارة يقول: عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده عن معاوية. أخرجه الدارقطني (117) عن إسماعيل بن عياش عن ابن خثيم بهذا. فاختلفوا في الترجيح، فرجح الأولى البيهقي في " المعرفة "؛ لجلالة راويها - وهو ابن جريج -، وقال في " السنن ": " يحتمل أن يكون ابن خثيم سمعه منهما. والله أعلم ". ومال الشافعي إلى ترجيح الرواية الثانية؛ لاتفاق اثنين عليها. ولكنهما متكلم فيهما. فأما الأسلمي؛ فمكشوف الحال، وأما يحيى بن سليم؛ فقال البيهقي: " كثير الوهم، سيئ الحفظ ". قال ابن التركماني: " فظهر بهذا أن حديث ابن جريج إسناده أحفظ؛ لأنه أَجلُّ منهما، وأحفظ بلا شك ". قلت: وأما الرواية الثالثة؛ فتفرد بها ابن عياش، وهو ضعيف في الحجازيين، وهذه منها. وأما الاضطراب في المتن: فتارة يقول: صلى، فبدأ بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ..............................................................................   الرَّحِيمِ} لِ {أم القرآن} ، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها - كما في رواية ابن جريج عند الشافعي -. وتارة يقول: فلم يقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حين افتتح القرآن - كما في رواية ابن عياش -. وتارة يقول: فلم يقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لِ {أم القرآن} ، ولم يقرأها للسورة التي بعدها - كما في رواية الدارقطني عن ابن جريج -. قال الزيلعي (1/354) : " ومثل هذا الاضطراب في السند والمتن، مما يوجب ضعف الحديث؛ لأنه مشعر بعدم ضبطه ". والوجه الثالث: أن معاوية لما قدم المدينة؛ كان أنس مقيماً بالبصرة، ولم يذكر أحد علمناه أنه كان مع معاوية حينئذٍ؛ بل الظاهر أنه لم يكن معه. والوجه الرابع: أن مذهب أهل المدينة - قديماً وحديثاً - ترك الجهر بها، ومنهم من لا يرى قراءتها أصلاً؛ قال عروة بن الزبير - أحد الفقهاء السبعة -: أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلا بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . وقال عبد الرحمن الأعرج: أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلا بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . ولا يُحفظ عن أحد من أهل المدينة بإسناد صحيح أنه كان يجهر بها، إلا شيء يسير، وله محمل. وهذا عملهم يتوارثه آخرهم عن أولهم، فكيف ينكرون على معاوية ما هو شبههم؟! هذا باطل. والوجه الخامس: أن معاوية لو رجع إلى الجهر بالبسملة - كما نقلوه -؛ لكان هذا أيضاً معروفاً من أَمْره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم يُنقل هذا أحد عن معاوية؛ بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ..............................................................................   الشاميون - كلهم: خلفاؤهم، وعلماؤهم - كان مذهبهم ترك الجهر بها. وما روي عن عمر ابن عبد العزيز من الجهر بها باطل؛ لا أصل له. والأوزاعي - إمام الشام - مذهبه في ذلك مذهب مالك: لا يقرؤها سراً، ولا جهراً. قال شيخ الإسلام في " الفتاوى " (1/85) : " فهذه الوجوه وأمثالها إذا تدبرها العالم؛ قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له، وإما مُغَيَّرٌ عن وجهه ". اهـ. فإذا كان هذا حالَ هذا الحديث - وهو أجود ما يعتمد عليه في هذه المسألة، كما قال الخطيب البغدادي فيما نقله عنه نصر المقدسي -؛ علمت حال الأحاديث الأخرى، وسيأتي الكلام عليها مفصلاً. الطريق الثانية: عن محمد بن المتوكل بن أبي السَّرِيِّ قال: صليت خلف المعتمر بن سليمان من الصلوات ما لا أحصيها؛ الصبح والمغرب، فكان يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قبل {فاتحة الكتاب} وبعدها، وسمعت المعتمر يقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي. وقال أبي: ما آلو أن اقتدي بصلاة أنس بن مالك. وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه الدارقطني (116) ، والحاكم (1/233 - 234) ، وقال: " رواته عن آخرهم ثقات ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا، لكن لا يلزم منه أنه صحيح ثابت؛ لأن الصحة لا تثبت حتى ينتفي الشذوذ والعلة، ويثبت حفظ الراوي وضبطه، وكل هذا غير متحقق هنا؛ فإن ابن أبي السَّرِيِّ هذا متكلَّم فيه من جهة حفظه، وفي " التقريب ": " صدوق، له أوهام كثيرة ". اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ..............................................................................   وهذا الحديث من أوهامه؛ بدليل ما رواه ابن خزيمة في " مختصره "، والطبراني في " معجمه " عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن عن أنس. أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصلاة، وأبو بكر، وعمر. وكذلك رواه الثقات الأثبات عن أنس - كما سبق -، فمخالف حديثهم مخطئ - ولا شك -. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه سقط من الحديث: " لا ". فإن صح ذلك؛ فهو حينئذٍ موافق لرواية الثقات. وللحديث طرق أخرى عن أنس ضعيفة، لم يصححها أحد، فلا نطيل بذكرها؛ اللهم! إلا ما رواه الحاكم (1/233) من طريق أَصْبَغ بن الفرج: ثنا حاتم بن إسماعيل عن شَرِيك بن عبد الله بن أبي نَمِر عن أنس قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وقال: " رواته عن آخرهم ثقات ". ووافقه الذهبي. قلت: ولكن هذا ليس فيه قوله: " في الصلاة ". فلا حجة فيه؛ على أن بعض الرواة قد أعله: فأخرجه الدارقطني (116) من طريق عمر بن محمد بن علي بن الحسين عن حاتم ابن إسماعيل عن شريك بن عبد الله عن إسماعيل المكي عن قتادة عن أنس به. وإسماعيل هذا: ضعيف. والله أعلم. وبهذا اللفظ أخرجه الدارقطني من طريق إبراهيم بن محمد القاضي التيمي: ثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بالقراءة بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ..............................................................................   وهذا سند صحيح على شرطهما. فلعل هذا هو أصل حديث ابن أبي السري عن المعتمر؛ فوهم فيه ابن أبي السري، وزاد فيه ما زاد. والله أعلم. الحديث الثاني: عن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . أخرجه الحاكم (1/208) من طريق عبد الله بن عمرو بن حسان: ثنا شريك عن سالم عن سعيد بن جبير عنه. وقال: " صحيح، وليس له علة ". قال الذهبي: " كذا قال المصنف! وابن حسان: كذبه غير واحد، ومثل هذا لا يخفى على المصنف ". وقال الحافظ في " التلخيص " (3/323) : " وصححه الحاكم! وأخطأ في ذلك؛ فإن عبد الله نسبه ابن المديني إلى وضع الحديث، وقد سرقه أبو الصلت الهروي - وهو متروك -؛ فرواه عن عباد بن العوام عن شريك ". أخرجه الدارقطني (114) . وقال في " الدراية " (73) : " وأصله مرسل بإسناد رجاله ثقات. أخرجه إسحاق عن يحيى بن آدم عن شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ يمد بها صوته، وكان المشركون يهزؤون منه؛ فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} . وقد أخرجه الدارقطني، والطبراني في " الأوسط " من طريق يحيى بن طلحة اليربوعي عن عباد بن العوام عن شريك موصولاً بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ..............................................................................   كان إذا قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ هَزَأَ منه المشركون، ويقولون: محمد يذكر إله اليمامة. فهذا هو أصل الحديث، وتبين أنه إنما وقع فيه اختصار. وقد أخرجه البخاري من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختفٍ بمكة، كان إذا صلى بأصحابه؛ رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون؛ سبّوا القرآن ... الحديث. فهذا أصل الحديث ". اهـ. وله طرق أخرى، ذكرها الزيلعي (1/345 - 347) ، وضعفها، وبين عللها. ومما يدل على ضعف الحديث عن ابن عباس؛ أنه ثبت عنه أنه قال: الجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فعل الأعراب. أخرجه الطحاوي (1/120) عن عاصم وعبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عنه. وأخرجه أحمد - كما في " نصب الراية " (1/347) - عن سفيان عن عبد الملك وحده. وهذا إسناد صحيح. قال: " ويقوي هذه الرواية: ما رواه الأثرم بإسناد ثابت عن عكرمة - تلميذ ابن عباس - أنه قال: أنا أعرابي إنْ جهرت بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وكأنه أخذه عن شيخه ابن عباس ". الحديث الثالث: عن علي وعمار: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجهر في المكتوبات بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ... الحديث. أخرجه الحاكم (1/299) من طريق سعيد بن عثمان الخَرَّاز: ثنا عبد الرحمن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ..............................................................................   سعيد المؤذن: ثنا فِطْر بن خليفة عن أبي الطُّفَيل عنهما. وقال: " صحيح الإسناد، ولا أعلم في رواته منسوباً إلى الجرح ". وتعقبه الذهبي؛ فقال: " قلت: بل خبر واهٍ، كأنه موضوع؛ لأن عبد الرحمن صاحب مناكير، وسعيد: إن كان الكُرَيزي؛ فهو ضعيف، وإلا؛ فهو مجهول ". اهـ. ولذلك قال الحافظ في " الدراية " (71) : " وإسناده ضعيف ". وعن الحاكم رواه البيهقي في " المعرفة " - بسنده ومتنه - وقال: " إسناده ضعيف ". قلت: فهذه الأحاديث الثلاثة؛ هي أصح ما ورد في الجهر بالبسملة وأصرحها، وقد ظهر لك أنها ضعيفة كلها، إلا حديث أنس في بعض طرقه، لكن ليس فيه أنه كان يجهر بها في الصلاة؛ ولذلك قال ابن القيم في " الزاد " (1/73) : " وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تارة، ويخفيها أكثر مما يجهر بها، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم وليلة؛ خمس مرات أبداً، حضراً وسفراً، ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين، وعلى جمهور أصحابه، وأهل بلده في الأعصار الفاضلة؛ هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبُّث فيه بألفاظ مجملة، وأحاديث واهية؛ فصحيح تلك الأحاديث غير صريح، وصريحها غير صحيح ". قلت: وآخر كلامه يناقض أوله؛ لأنه إذا كان يرى - وهو الحق - أنه لا يصح حديث صريح في الجهر بها؛ فكيف يجزم بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجهر بها تارة؟! وقد كان شيخه ابن تيمية أدق منه في التعبير في هذا الموضع؛ حيث قال في " الفتاوى " (1/79) في صدد هذا البحث: " ولكن يمكن أنه كان يجهر بها أحياناً، أو أنه كان يجهر بها قديماً ثم ترك ذلك؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ..............................................................................   - قال -: فهذا محتمل ". فلم يجزم بذلك؛ بل ذكره احتمالاً، وهو أمر واسع، فالحق ما ذهب إليه الجمهور من أن السنة الإسرار بها. ومع هذا؛ فالصواب أن ما لا يجهر به، قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة؛ فيشرع للإمام أحياناً لمثل تعليم المأمومين، ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحياناً؛ كما في حديث ابن عمرو، وأنس بن مالك المتقدمين في (الاستفتاح) رقم (7 و 8) ؛ فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينكر على الرجلين جهرهما بما استفتحا به. وكذلك جهر به عمر؛ تعليماً للناس - كما مضى هناك -. قال شيخ الإسلام (1/87) : " ويسوغ أيضاً أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب، واجتماع الكلمة؛ خوفاً من التنفير عما يصلح، كما ترك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناء البيت على قواعد إبراهيم؛ لكون قومه كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وخشي تنفيرهم بذلك، ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم، وقال ابن مسعود - لما أكمل الصلاة خلف عثمان، وأنكر عليه التربيع، فقيل له في ذلك؟ فقال -: الخلاف شر. ولهذا نَصَّ الأئمةُ؛ كأحمد وغيره في البسملة، وفي وصل الوتر، وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول؛ مراعاة ائتلافِ المأمومين، أو لتعريفهم السنة، وأمثال ذلك. والله أعلم ". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 القراءةُ آيةً آيةً ثم يقرأ {الفَاتِحَة} ، ويُقطعها آية آية (1) : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، [ثم يقف، ثم يقول:] {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، [ثم يقف، ثم يقول:] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، [ثم يقف، ثم يقول:] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وهكذا   (1) روى ذلك أم سلمة رضي الله عنها (1) : أنها سئلت عن قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ. الرَّحَمْنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ... ". أخرجه الإمام أحمد؛ فقال (6/302) : ثنا يحيى بن سعيد الأموي قال: ثنا ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عنها. وكذلك أخرجه أبو داود (2/169) - وعنه البيهقي (2/44) -، والترمذي (2/152 - طبع بولاق) وفي " الشمائل " (2/139) ، والدارقطني (118) ، والحاكم (2/231 و 232) ، {وأبو عمرو الداني في " المكتفى " (5/2) = [ص 116] } من طرق عن يحيى به. {والسهمي (64 - 65) } [من طريق عمر بن هارون عن ابن جريج به] . وقال الدارقطني: " إسناده صحيح، وكلهم ثقات ". وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وكذا صححه ابن خزيمة؛ فأخرجه في " صحيحه " - كما في " تفسير ابن كثير " (1/17) -، وصححه النووي في " المجموع " (3/333) ، وهو كما قالوا؛ لولا عنعنة ابن جريج، لكنه قد توبع كما يأتي. {وقال أبو عمرو الداني:   (1) {وهو مخرج في " الإرواء " (343) } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ..............................................................................   " ولهذا الحديث طرق كثيرة، وهو أصل في هذا الباب ". ثم قال: " وكان جماعة من الأئمة السالفين والقراء الماضين يستحبون القطع على الآيات، وإن تعلق بعضهن ببعض ". قلت: وهذه سنة أعرض عنها جمهور القراء في هذه الأزمان؛ فضلاً عن غيرهم} . وأخرجه الطحاوي (1/117) ، والحاكم أيضاً (1/232) من طريق حفص بن غِيَاث قال: ثنا ابن جريج به بلفظ: كان يصلي في بيتها فيقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . واللفظ للطحاوي. وسنده صحيح. وفي رواية الترمذي بلفظ: وكان يقرؤها: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . وأعله بالانقطاع فقال: " هذا حديث غريب، وبه يقول أبو عُبيِد، ويختاره. هكذا روى يحيى بن سعيد الأموي وغيره عن ابن جريج عن ابن أبي مُلَيكة عن أم سلمة. وليس إسناده بمتصل؛ لأن الليث بن سعد روى هذا الحديث عن ابن أبي مُلَيكة عن يعلى بن مَمْلَك عن أم سلمة؛ أنها وصفت قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفسرة حرفاً حرفاً. وحديث الليث أصح ". كذا قال! وحديث الليث أخرجه {ابن المبارك في " الزهد " [38/116] (162/1) من " الكواكب " (575) } ، والبخاري في " أفعال العباد " (75) ، وأبو داود (1/231) ، والنسائي (1/158 و 242) ، والطحاوي (1/118) ، وابن نصر (52) ، والحاكم (1/310) ، وأحمد (6/294) من طرق عنه به. وقال الحاكم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ..............................................................................   " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وكذلك أخرجه الترمذي (2/152) ، وقال: " حسن صحيح ". كذا قال! ونحن نرى أنه غير صحيح؛ لأن يعلى بن مملك - على وزن جعفر - مجهول. قال الذهبي: " ما روى عنه سوى ابن أبي مليكة ". وفي " التقريب ": " مقبول ". ونخالفه أيضاً في قوله: إن حديث الليث هذا أصح من حديث ابن جريج. ونرى أن حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عنها - بدون ذكر: يعلى - أصح؛ لأنه قد رواه كذلك عن ابن أبي مليكة نافع بن عمر الجُمَحي، وهو ثقة ثبت - كما قال الإمام أحمد -. أخرجه في " المسند " (6/288) ؛ قال: ثنا وكيع عن نافع بن عمر، وأبو عامر: ثنا نافع عن ابن أبي مليكة عن بعض أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أبو عامر: قال نافع: أراها حفصة -: أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقالت: إنكم لا تستطيعونها. قال: فقيل لها: أخبرينا بها، قال: فقرأت قراءة تَرسَّلَتْ فيها. قال أبو عامر: قال نافع: فحكى لنا ابن أبي مليكة: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، ثم قطع، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم قطع، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . وهذا سند صحيح. وهو متابع قوي لرواية ابن جريج، ولا يضر أنه لم يسمع زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وظنه أنها حفصة - كما لا يخفى -. (تنبيه) : قال الحافظ في " التلخيص " (3/316) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 إلى آخر السورة. وكذلك كانت قراءته كلها (1) ؛ يقف على رؤوس الآي، ولا يَصِلُها بما بعدها.   " وأعل الطحاوي الخبر بالانقطاع؛ فقال: لم يسمعه ابن أبي مليكة من أم سلمة، واستدل على ذلك برواية الليث المذكورة. قال: " وهذا الذي أعله به ليس بعلة؛ فقد رواه الترمذي من طريق ابن أبي مليكة عن أم سلمة بلا واسطة، وصححه، ورجحه على الإسناد الذي فيه يعلى بن مملك ". قلت: وأخطأ الحافظ رحمه الله في موضعين: الأول: قوله: " وصححه ". وإنما صحح حديث الليث؛ الذي فيه يعلى هذا. والآخر: قوله: " ورجحه ... " إلخ. وإنما رجح الترمذي حديث الليث هذا على حديث ابن جريج - كما سبق نص كلامه في ذلك -؛ فتنبه. ثم إن لابن جريج في هذا الحديث لفظاً آخر عند الإمام أحمد (6/323) ؛ قال: ثنا عفان: قال: ثنا همام: ثنا ابن جريج به: أن قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت، فوصفت: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ حرفاً حرفاً، قراءة بطيئة. قطع عفان قراءته. وأخرجه البيهقي (2/53) من هذا الوجه، وزاد: ومد بكل حرف صوته. ورواه (2/44) من طريق أخرى عن همام نحوه. (1) بدليل قول راوية الحديث: كان يقطع قراءته آية آية. وهذا مطلق غير مقيد بـ: {الفَاتِحَة} ، وإنما تلتها على سبيل المثال؛ لا على طريق التحديد. قال في " الزاد " (1/125) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وكان تارة يقرؤها: {مَلِكِ (1) يَوْمِ الدِّينِ} .   " وهذا هو الأفضل: الوقوف على رؤوس الآيات؛ وإن تعلقت بما بعدها. وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض، والمقاصد، والوقوف عند انتهائها. واتباع هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته أولى؛ وممن ذكر ذلك البيهقي في " شعب الإيمان " وغيره، ورجح الوقوف على رؤوس الآي؛ وإن تعلقت بما بعدها ". وقال الشيخ علي القاري: " أجمع القراء على أن الوقف على الفواصل وقف حسن؛ ولو تعلقت بما بعدها ". (1) بالقصر، وهي قراءة بعض القراء، وقرأ آخرون: {مَالِكِ} . قال الحافظ ابن كثير (1/24) : " وكلاهما صحيح متواتر في السبع، ويقال: {مَلِْكِ} بكسر اللام وبإسكانها. ويقال: {مليك} أيضاً. وأشبع نافع كسرة الكاف؛ فقرأ: {مَلِكِي يَوْمِ الدِّينِ} ، وقد رجح كلاً من القراءتين مرجحون من حيث المعنى - وكلاهما صحيحة حسنة -، ورجح الزمخشري: {مَلِكِ} ؛ لأنها قراءة أهل الحرمين، ولقوله: {لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ} . قال: " وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئاً غريباً؛ حيث قال: ثنا أبو عبد الرحمن الأزدي: ثنا عبد الوهاب عن عدي بن الفضل عن أبي المُطَرِّف عن ابن شهاب أنه بلغه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وابنه يزيد كانوا يقرؤون: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . قال ابن شهاب: وأول من أحدث: {مَلِكِ} مروان. قلت: مروان عنده علم بصحة ما قرؤوه؛ لم يطلع عليه ابن شهاب. والله أعلم. وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن مردويه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرؤها: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . اهـ. قلت: وحديث الزهري هذا، رواه أبو داود أيضاً - كما سيأتي - بإسناد أصح من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وتارة (*) : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1)   إسناد ابنه. قلت: ومن تلك الطرق: ما أخرجه الطبراني في " الكبير " من طريق عبد الصمد بن عبد العزيز المقري. قال: قرأت القرآن على طلحة بن سليمان - أخي إسحاق بن سليمان - فقال لي طلحة: قرأت على الفَيّاض بن غزوان. وقال الفَيّاض: قرأت على طلحة بن مُصَرِّف اليامي. وقال طلحة: قرأت على يحيى بنَ وثَّاب، وقرأ يحيى بن وثاب على علقمة بن قيس، وقرأ علقمة بن قيس على عبد الله بن مسعود، وقرأ عبد الله بن مسعود على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ؛ بالألف. {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} خفض. قال الطبراني: ثنا علي بن سعيد الرازي: نا محمد بن نباتة الرازي: ثنا عبد الصمد به. وهذا سند ضعيف؛ فإن محمد بن نباتة، وعبد الصمد، وطلحة بن سليمان لم أجد من ترجمهم، وبقيهَ رجاله ثقات معروفون. وقد روى {تمام الرازي في " الفوائد "، وابن أبي داود في " المصاحف " (7/2) ، وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " (1/104) ، و} الحاكم (2/231) قراءة: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بإسناد صحيح. ووافقه الذهبي. {وهذه القراءة متواترة؛ كالأولى: {مَالِكِ} } . (*) هذا المتن بحاشيته من زوائد " الأصل " على مطبوع " الصفة ". (1) أخرجه أبو داود (2/169) قال: ثنا أحمد بن حنبل: ثنا عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري - قال معمر: وربما ذكر ابن المسيب - قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمر، وعثمان يقرؤون: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . وأول من قرأها: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} : مروان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ..............................................................................   وهذا سند صحيح؛ لكنه مرسل. ثم قال أبو داود: " هذا أصح من حديث الزهري عن أنس، والزهري عن سالم عن أبيه به ". قلت: أخرجه من الوجه الأول الترمذي (2/153 - طبع بولاق) من طريق أيوب بن سُوَيد الرملي عن يونس بن يزيد عن الزهري عن أنس به. قال الترمذي: " هذا حديث غريب؛ لا نعرفه من حديث الزهري عن أنس، إلا من حديث أيوب هذا، وقد روى بعض أصحاب الزهري هذا الحديث: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبا بكر، وعمر كانوا يقرؤون: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبا بكر، وعمر كانوا يقرؤون: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . اهـ. وبالجملة؛ فالصواب أن الحديث مرسل، وأيوب بن سويد هذا - الذي رواه موصولاً -: ضعيف الحفظ. ولكن الحديث يتقوى بالطرق التي أشار إليها الحافظ ابن كثير - فيما مضى قريباً -، وبكونه أخذ به القراء السبع. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 رُكنيةُ {الفَاتِحَة} وفضائلُها وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَظّم من شأن هذه السورة؛ فكان يقول: " لا صلاة لمن لم يقرأ [فيها] بـ: {فاتحة الكتاب} [فصاعداً] " (1) . وفي لفظ: " لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بـ: {فاتحة الكتاب} (2) . وتارة يقول:   (1 و 2) أخرجه البخاري في " صحيحه " (2/190) وفي " جزء القراءة " (2 - 3 و 9 و25) وفي " أفعال العباد " (92) ، ومسلم (2/8 - 9) ، {وأبو عوانة [2/124 و 125] } ، والشافعي (1/93) ، وأبو داود (1/130 - 131) ، والنسائي (1/145) ، والترمذي (2/25) ، والدارمي (2/183) ، وابن ماجه (1/276) ، والدارقطني (122) ، والطبراني في " الصغير " (42) ، وكذا البيهقي (2/38 و 164 و 374 - 375) ، وأحمد (5/314 و321 - 322) من طرق عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً به. {وهو مخرج في " الإرواء " (302) } . والزيادة الأولى: هي رواية للبيهقي، وكذا رواه الإسماعيلي، وأبو نعيم في " المستخرج " - كما في " الفتح " (2/191) -. والزيادة الثانية: هي عند مسلم، {وأبي عوانة (2/124) } ، والنسائي، وأحمد من طريق معمر عن الزهري. وكذلك رواه ابن حبان، وقال: " تفرد بها معمر " - كما في " التلخيص " (3/309) -. قلت: وسبقه إلى ذلك البخاري في " الجزء " المذكور؛ فقال: " وعامة الثقات لم يتابع معمراً في قوله: " فصاعداً " ". ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ..............................................................................   " ويقال: إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمراً، وعبد الله ربما روى عن الزهري، ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره، ولا نعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا ". قلت: وقد وقعت هذه الزيادة عند أبي داود أيضاً؛ في حديث سفيان عن الزهري. أخرجه من طريق قتيبة بن سعيد وابن السَّرْح قالا: ثنا سفيان به. وما أدري أهي محفوظة أم لا؟! وأيما كان؛ فهي زيادة صحيحة؛ لمجيئها من طرق: فمنها: عن أبي سعيد الخدري قال: أمرنا نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نقرأ بـ: {فاتحة الكتاب} ، وما تيسر. أخرجه البخاري في " جزئه " (3) ، وأبو داود (1/130) ، والبيهقي (2/60) ، وأحمد (3/3 و 45 و 97) من طريق قتادة عن أبي نضرة عنه. وهذا إسناد صحيح؛ كما قال الحافظ في " التلخيص " (3/314) ، وقال في " الفتح " (2/193) : " سنده قوي ". وقال النووي في " المجموع " (3/329) : " صحيح على شرط البخاري ومسلم ". قلت: بل على شرط مسلم وحده؛ فإن أبا نضرة - واسمه: المنذر بن مالك - إنما أخرج له البخاري تعليقاً. ورواه أبو حنيفة في " المسند " (13) ، وعنه أبو يوسف في " الآثار " رقم (6) من طريق آخر عن أبي نضرة، وكذا ابن ماجه (277) . ومنها: عن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنادي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ..............................................................................   لا صلاة إلا بقراءة {فاتحة الكتاب} ؛ فما زاد. أخرجه أبو داود أيضاً، وكذا البخاري [في " جزئه "] (3 و 9 و 10 - 11 و 26) ، والحاكم (1/239) ، والدارقطني (121 و 122) ، وأحمد (2/428) ، والبيهقي (2/37 و59) من طرق عن جعفر بن ميمون: ثنا أبو عثمان النَّهْدي عنه به. وقال الحاكم: " صحيح لا غبار عليه؛ فإن جعفر بن ميمون العبدي من ثقات البصريين، ويحيى ابن سعيد لا يحدث إلا عن الثقات ". ووافقه الذهبي. قلت: جعفر هذا: تكلم فيه البخاري، وأحمد، وغيرهما، وفي " التقريب ": " صدوق يخطئ ". لكن حديثه هذا يقوى بمتابعة غيره له؛ فقد أخرجه الطبراني في " الأوسط " - كما في " نصب الراية " (1/367) - من طريق الحجاج بن أرطاة عن عبد الكريم عن أبي عثمان به؛ دون قوله: فما زاد. والحجاج: مدلس، وقد عنعنه، وهو في " مسند أبي حنيفة " (13) عن عطاء بن أبي رباح عنه به. هذا، وأما اللفظ الآخر المذكور في الأصل؛ فهو رواية للدارقطني من طريق زياد بن أيوب - أحد الأثبات - عن سفيان. وقال: " إسناد صحيح ". وتابعه على ذلك العباس بن الوليد النَّرْسِي؛ أحد شيوخ البخاري. أخرجه الإسماعيلي - كما في " الفتح " (2/192) -، وصححه ابن القطان - كما في " التلخيص " (3/309) -. وله شاهد من حديث أبي هريرة، ويأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى [ص 310] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بـ: {فاتحة الكتاب} ؛ فهي خِداج، هي خِداج، هي خِداج (1) ؛ ................................................   (1) أي: ناقصة، وقد أكد ذلك بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " غير تمام ". قال ابن عبد البر: " والخداج: النقصان والفساد. من ذلك قولهم: أخدجت الناقة وخدجت: إذا ولدت قبل تمام وقتها، وقبل تمام الخلق، وذلك نتاج فاسد ". فالحديث دليل على فساد صلاة من لم يقرأ {الفَاتِحَة} ؛ وإنْ قرأ فيها بغيرها من القرآن. ويدل على ذلك أيضاً الحديث الذي قبله؛ فإنه نفى الصلاة بترك {الفَاتِحَة} ، والظاهر أن المراد: نفي كلها لا كمالها؛ لما سيأتي. ثم قال ابن عبد البر: " وقد زعم من لم يوجب - أي: يفرض - قراءة {فاتحة الكتاب} في الصلاة أن قوله: " خداج ". يدل على جواز الصلاة؛ لأنه النقصان، والصلاة الناقصة جائزة. وهذا تحكم فاسد، والنظر يوجب أن لا تجوز الصلاة؛ لأنها صلاة لم تتم، ومن خرج من صلاته قبل أن يتمها؛ فعليه إعادتها ". اهـ من " الاستذكار "؛ نقلاً من " التعليق الممجد " (93) . وقد ذهب إلى فرضية {الفَاتِحَة} ، وأنه لا يجزئ غيرها: مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء؛ من الصحابة والتابعين ومن بعدهم - كما في " المجموع " (3/327) -، واحتجوا بهذا الحديث، وبالحديث الذي قبله، وقالوا: إن المراد به: نفي ذات الصلاة أو صحتها، لا: كمالها، وأيدوا ذلك باللفظ الآخر: " لا تجزئ ". فنفى إجزاءها؛ وهو المراد. وخالف في ذلك أبو حنيفة، ومحمد فقالا بوجوب قراءة {الفَاتِحَة} ؛ لا فرضيتها - بناءً على اصطلاحهم في التفريق بين الواجب والفرض -، وقالوا بصحة الصلاة بتركها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ..............................................................................   وأجابوا عن الحديث بأن المراد به: نفي الكمال؛ أي: لا صلاة كاملة. وأجاب الجمهور بأنه خلاف الحقيقة، وخلاف الظاهر والسابق إلى الفهم، وأجابوا أيضاً عن الحديث الثاني بما ذكرناه عن ابن عبد البر - وسمعت الجواب عنه -، وقالوا: إن فرض القراءة التي لا تصح الصلاة إلا بها: ثلاث آيات قصيرات. وفي رواية عن أبي حنيفة: آية واحدة؛ ولو نحو قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} . واحتجوا على ذلك بقوله: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} . وفي هذا الاستدلال نظر من وجوه: الأول: أن الآية وردت في قيام الليل؛ لا في تقدير القراءة - كما هو المتبادر من سياق الآية -؛ قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ ... } الآية. ويدل لذلك أيضاً سبب نزولها؛ وهو ما أخرجه مسلم (2/ 168 - 169) ، وابن نصر (2 - 3) وغيرهما في حديث عن سعد بن هشام بن عامر - عن عائشة - قال: قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقالت: ألست تقرأ: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ} ؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة؛ فقام نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف؛ فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة ... الحديث. فعلى هذا؛ فمعنى الآية: فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل؛ عبر عن الصلاة بالقراءة، كما عبر عنها بسائر أركانها. قاله الآلوسي الحنفي في " روح المعاني ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ..............................................................................   فالآية من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهذا منه كثير في نصوص الشرع؛ كقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفَجْرِ} أي: صلاة الفجر. ثم قال الآلوسي: " وقيل: الكلام على حقيقته؛ مِنْ طلب قراءة القرآن بعينها. وفيه بُعْدٌ عن مقتضى السياق ". اهـ. وقال ابن نصر رحمه الله (6) : " وقد احتج بعض أصحاب الرأي في إيجاب القراءة في الصلوات المكتوبات (بهذه الآية) ؛ فأسقطوا فرض قراءة {الفَاتِحَة} متأولين لهذه الآية، فقالوا: إنما عليه أن يقرأ مما تيسر من القرآن، ولا عليه أن لا يقرأ بـ: {فاتحة الكتاب} . ثم ناقضوا؛ فقالوا: لا بد أن يقرأ بثلاث آيات فصاعداً، أو بآية طويلة نحو: آية الدين، أو آية الكرسي، فإن قرأ بآية قصيرة نحو: {مُدْهَامَّتَانِ} ، و {لَمْ يَلِدْ} ؛ لم يجز، وليست هذه الآية من القراءة في الصلوات المكتوبات في شيء؛ إنما أنزلت الآية - على ما أعلمتك - بقيام الليل، وإنما أخذت القراءة في الصلوات المكتوبات عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما أخذ عدد الركوع، والسجود، وسائر ما في الصلاة عن النبي عليه السلام، ويقال لهم: خبرونا عمن لم يتيسر عليه قراءة شيء من القرآن في الصلاة، ولم يخف؛ هل توجبون عليه أن يتكلف مقدار ما حددتم؛ من قراءة ثلاث آيات، أو آية طويلة؛ وإن ثقل ذلك عليه، ولم يتيسر؟! فإن قالوا: نعم. قيل: من أين أوجبتم عليه قراءة ما لم يتيسر عليه، وإنما أمره الله بقراءة ما تيسر في زعمكم؟! ويلزمكم أن تجيزوا للمصلي إذا افتتح الصلاة أن يقول: (ألف) ويركع، ويقول: لم يتيسر علي أكثر من ذلك. فإذا أجازوا ذلك؛ خالفوا السنة، وخرجوا من قول أهل العلم ". اهـ[بتصرف] . قلت: وهذا الإلزام الأخير لهم أن يجيبوا عنه بقولهم: إن قول المصلي: (ألف) . ليس بقراءة عرفاً؛ فلا تشمله الآية، فلا يلزمنا ما ذكرتَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ..............................................................................   وأما الإلزام الذي قبله؛ فهو إلزام قوي، لا جواب لهم عليه. الوجه الثاني: سلمنا - جدلاً - أن الآية واردة في تقدير القراءة - كما زعموا -؛ فمن أين لهم تقدير ذلك بآية، أو ثلاث آيات؟ فلو عارضهم معارض، فقدرها بآيتين، أو بأربع، أو بست؛ فبماذا يجيبونه؟ وما الفرق بينه وبينهم؟! والنظر الصحيح يقتضي - بناء على هذا التسليم - أن المفروض ما تيسر من القراءة؛ بدون تحديد، وذلك يختلف باختلاف المصلين، فمن كان ميسوراً عليه أن يقرأ بسورة {البَقَرَة} - مثلاً -؛ فيفترض عليه أن يقرأ بها. وهذا مما لا يقولون به. الوجه الثالث: أن يقال: هَبُوا أن ما فهمتموه من الآية صحيح؛ فغاية ما تفيد فرضيةَ القراءة، لا ركنيتها؛ فمن أين لكم القول بركنيتها، المستلزم لبطلان الصلاة بتركها؟! فإن قالوا: هو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا صلاة إلا بقراءة ". - أخرجه مسلم (2/10) وغيره من حديث أبي هريرة -. قلنا: هذا مطلق، قيده أبو هريرة في أحاديثه الأخرى - وقد مضت -؛ فلا حجة لكم فيه. ولعله من أجل هذا ذهب بعض علمائنا الحنفية إلى أنها ليست بركن؛ ومنهم الغزنوي صاحب " الحاوي القدسي " - كما في " البحر الرائق " (1/308، 309) - ثم نقول - وهو -: الوجه الرابع: قد تبين مما سلف أنهم قيدوا الآية بآرائهم، ولم يدعوها مطلقة، وإلا؛ لزمهم ما ذكرنا. فحينئذٍ يقال: إذا كان ولا بد من تقييدها؛ فتقييدها بالنص الصحيح الثابت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير من تقييدها بالرأي المحض. وقولهم: إن ذلك لا يجوز؛ لأنه خبر آحادي، ولا يجوز الزيادة به على القرآن. لا يفيدهم شيئاً؛ لأننا نقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ..............................................................................   إن هذا الخبر ليس شيئاً زائداً على القرآن؛ بل هو بيان له، وقد قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهُمْ} . ثم إن سلمنا أنه زيادة على القرآن؛ فما الدليل على أنه لا يجوز الزيادة عليه بالخبر الصحيح؟! وأعتقد أن الحنفية هم أول من خالف هذه القاعدة التي قرروها بأنفسهم؛ فكم من أحكام زادت على القرآن، اعتماداً على الحديث الصحيح؛ بل وعلى الرأي المحض في كثير من المواقف؛ ولا يتسع المقام لضرب الأمثلة على ذلك! (*) ثم إنما ينفعهم قولهم ذلك لو أنهم لم يزيدوا على الآية بآرائهم، أما وقد فعلوا؛ فما أوردوه علينا وارد عليهم من باب أولى - كما لا يخفى -؛ على أنا نقول - وهو -: الوجه الخامس: إننا لا نُسَلِّم أن الحديث آحادي؛ فقد ذكرنا له طرقاً كثيرة عن جمع من الصحابة يخرج بها قطعاً من كونه خبراً آحادياً؛ وإنما قال ذلك الفقهاء، وإنما يؤخذ بقولهم فيما هو اختصاصهم من الفقه، وأما أقوالهم في الحديث؛ فليست بحجة، لاسيما إذا كانوا من الفقهاء الجامدين على الفقه الذين يحتجون بأحاديث ضعيفة؛ بل موضوعة - كأغلب فقهاء الحنفية -، ولا سيما إذا كان قولهم مخالفاً لقول بعض أئمة الحديث، وعلى الأخص إذا كان هذا أمير المؤمنين في الحديث - وهو الإمام البخاري -؛ فقد نص على أن هذا الحديث متواتر؛ فقال في " جزء القراءة " (4) : " وتواتر الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا صلاة إلا بقراءة {أم القرآن} " ". وحينئذٍ يجوز الزيادة بهذا الخبر على القرآن؛ على قواعد الحنفية أنفسهم. وقد ذكَّرتني بعض هذه القواعد إيراداً آخر يرِد عليهم، وهو:   (*) كتب الشيخ رحمه الله بخطه هنا: " يراجع " إعلام الموقعين " ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ..............................................................................   الوجه السادس: جاء في أصول الحنفية أن الفرض: ما ثبت بدليل قطعي الثبوت، قطعي الدلالة. فإذا لم يوجد أحد الشرطين؛ لم يثبت الفرض، بل يثبت به الواجب عندهم. والذي يهمنا في هذا المقام انتفاء الشرط الثاني. ومن الأمثلة على ذلك: قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . فقد أمر تعالى بالنحر، فهو بظاهره يفيد فرضية النحر، ولكنَّ العلماء المفسرين اختلفوا في هذا النحر؛ فذهب بعضهم إلى أنه نحر مطلق؛ شكراً لله على ما أعطاه من الخير الكثير، وذهب آخرون إلى أنه النحر في عيد الأضحى؛ بدليل قوله تعالى: {فَصَلِّ} ؛ أي: صلاة العيد. وبهذا قال الحنفية؛ فأوجبوا النحر في عيد الأضحى، ولم يقولوا بفرضيته؛ لهذا الاختلاف الذي جعل مفهوم الآية ظني الدلالة، لا قطعيَّها. وبناء عليه نقول: إن قوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} . هو ظني الدلالة؛ لما سبق - مع أن الصحيح خلاف ما فهم الحنفية -، فلا يستقيم حينئذٍ الاحتجاج بها على فرضية القراءة؛ بل تدل على وجوبها، فقد سلمت الآية من التعارض مع الحديث، ووجب الأخذ به على ظاهره، وهم لم يأخذوا به؛ خشية التعارض، وهو الذي دفعهم إلى تأويله بأن المراد به: نفي الكمال - كما سبق -. وقد قال أبو الحسن السندي الحنفي في " حاشيته على ابن ماجه ": " وأما الكمال؛ فقد حقّق الكمالُ (*) ضعفَه؛ لأنه مخالف، لا يصار إليه إلا بدليل، والوجود في كلام الشارع يحمل على الوجود الشرعي؛ دون الحسي. فمؤدى الحديث نفي الوجود الشرعي للصلاة، التي لم يقرأ فيها بـ: {فاتحة الكتاب} ؛ فتعين نفي الصحة. وما قاله أصحابنا أنه من حديث الآحاد - وهو ظني، لا يفيد العلم؛ وإنما يوجب الفعل -؛ فلا يلزم منه الافتراض.   (*) هو الكمال ابن الهُمام، فتنبّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ..............................................................................   ففيه: أنه يكفي في المطلوب أنه يوجب العمل بمدلوله، لا بشيء آخر، ومدلوله عدم صحة صلاة لم يقرأ فيها بـ: {فاتحة الكتاب} ، فوجوب العمل به؛ يوجب القول بفساد تلك الصلاة، وهو المطلوب. فالحق أن الحديث يفيد بطلان الصلاة إذا لم يقرأ فيها بـ: {فاتحة الكتاب} . نعم؛ يمكن أن يقال: قراءة الإمام قراءة المقتدي؛ إذا ترك {الفَاتِحَة} ، وقرأها الإمام " انتهى. وهذا تحقيق بديع من السندي رحمه الله (1) . هذا، وقد ألزم الحنفية مخالفيهم من الجمهور القولَ بفرضية زيادة شيء من القرآن على {الفَاتِحَة} ؛ بدليل الزيادة المتقدمة: " فصاعداً ". فقالوا: إذا كان الحديث أفاد ركنية {الفَاتِحَة} ؛ فكذلك هذه الزيادة وما في معناها تفيد ركنية الزيادة عليها. وأُجِيبَ بأن هذه الزيادة وردت لدفع توهم قَصْر الحكم على {الفَاتِحَة} . قال البخاري في " جزء القراءة " (2) :   (1) والعجب من علمائنا الحنفية ما استجازوا تقييد إطلاق الآية الكريمة بقوله عليه الصلاة والسلام: " لا صلاة إلا بـ: {فاتحة الكتاب} ". مع أنه متفق على صحته، بينما خصصوا عمومها بقوله عليه الصلاة والسلام: " من كان له إمام؛ فقراءة الإمام له قراءة ". مع كونه حديثاً مختلفا في صحته - كما سيأتي -. فإن قيل: إنما استجازوا هذا؛ لأن عمومها ظني؛ بسبب أنه خُصَّ منه البعض، وهو: (المدرك في الركوع) إجماعاً. فالجواب: أن هذا الإجماع غير صحيح؛ فقد خالف فيه جمع من الشافعية- كما هو مذكور في المطولات -. ثم على التسليم به؛ فالإطلاق المفهوم من الآية هو ظني أيضاً؛ غير متفق عليه - كما سبق -؛ فيجوز حينئذٍ تقييده بالظني من السنة؛ فتأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 غير تمام " (1)   " هو نظير قوله: " تقطع اليد في ربع دينار؛ فصاعداً ". وادعى ابن حبان، والقرطبي، وغيرهما الإجماع على عدم وجوب قدر زائد عليها. قال الحافظ (2/193) : " وفيه نظر؛ لثبوته عن بعض الصحابة، ومن بعدهم فيما رواه ابن المنذر وغيره، ولعلهم أرادوا أن الأمر استقر على ذلك، وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: وإن لم تزد على {أم القرآن} ؛ أجزأت، وإن زدت؛ فهو خير ". أخرجه الشيخان وغيرهما. وهذا موقوف؛ لكن قال الحافظ (2/200) : " وله حكم الرفع ". قلت: وقد روي مرفوعاً - كما سبق -، ويؤيد ذلك أن أبا هريرة ممن روى هذه الزيادة - كما سبق -؛ فهو أدرى بمرويه من غيره. وتأيد ذلك بحديث ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ركعتين، لم يقرأ فيهما إلا بـ: {فاتحة الكتاب} . أخرجه البيهقي (2/61) ، وأحمد (1/282) ، وكذا ابن خزيمة، وأبو يعلى، والطبراني في " الكبير " من طريق حنظلة السدوسي عنه. وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين. (1) هو من حديث أبي هريرة، وقد ورد عنه من طرق: الأول: عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب: أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زُهرة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... به. أخرجه مالك (1/106) عنه، ومن طريقه أخرجه مسلم (2/9 - 10) ، وأبو عَوَانة (2/126) ، والبخاري في " جزء القراءة " (8) وفي " أفعال العباد " (74) ، وأبو داود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ..............................................................................   (1/130) ، والنسائي (1/144) ، وابن ماجه (2/416) ، والطحاوي (1/127) ، وكذا محمد في " موطئه " (93) ، والبيهقي (2/39) ، وأحمد (2/460) ؛ كلهم عن مالك به. ثم أخرجه البخاري في " جزئه " (8 و 9) ، والترمذي (2/157 - طبع بولاق) ، وابن ماجه (1/276) ، والطيالسي (334) ، وأحمد (2/250 و 285 و 487) من طرق أخرى عن العلاء به. وللعلاء شيخ آخر فيه، وهو: الطريق الثاني: أخرجه مسلم، والبخاري (3 و 8 و 9 و 22) ، والشافعي (93) ، والطحاوي، {وأبو عوانة [2/127] } ، والبيهقي، وأحمد (2/457 و 478) من طرق عنه عن أبيه عن أبي هريرة به. هذا، وأخرجه ابن خزيمة في " صحيحه "، وعنه ابن حبان في " صحيحه " عن وهب ابن جرير: ثنا شعبة عن العلاء به بلفظ: " لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بـ: {فاتحة الكتاب} ". وإسناده صحيح - كما قال النووي (3/329) -؛ لكن قال ابن حبان: " لم يقل في خبر العلاء هذا: " لا يجزئ ". إلا شعبة، ولا عنه إلا وهب بن جرير ". قلت: هو عند البخاري، والطحاوي، وأحمد من طرق عن شعبة بلفظ الجماعة؛ بل رواه الطحاوي عن وهب وسعيد بن عامر قالا: ثنا شعبة به مثله. اهـ. فلم يسق لفظه، وإنما أحال على حديث مالك. فهذا اللفظ شاذ. ثم أخرجه مسلم، {وأبو عوانة [2/127] } ، والترمذي، والبيهقي من طريق أبي أُويس: أخبرني العلاء قال: سمعت من أبي، ومن أبي السائب - وكانا جليسَيْ أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ..............................................................................   هريرة - قالا: قال أبو هريرة: ... به. الطريق الثالث: أخرجه البخاري (9) ، وأحمد (2/290) عن محمد بن عمرو عن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل عنه. وهذا إسناد جيد. الطريق الرابع: بلفظ غريب عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عُمَير عن عطاء عنه مرفوعاً: " من صلى صلاة مكتوبة وراء الإمام؛ فليقرأ بـ: {فاتحة الكتاب} في سكتاته، ومن انتهى إلى {أم القرآن} ؛ فقد أجزأه ". أخرجه الحاكم (1/238) ، والدارقطني (120) ، وضعفه بقوله: " محمد بن عبد الله بن عبيد: ضعيف ". ثم إن للحديث شواهد من حديث عبد الله بن عمرو، وعائشة، وجابر. 1- أما حديث ابن عمرو: فأخرجه البخاري (3) ، وابن ماجه (1/278) ، وأحمد (2/204 و 215) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وسنده حسن. وأخرجه الدارقطني (121) من طريق محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عمرو بن شعيب به بلفظ: " من صلى صلاة مكتوبة أو تطوعاً؛ فليقرأ فيها بـ: {أم الكتاب} ، وسورة معها، فإن انتهى إلى {أم الكتاب} ؛ فقد أُجزئ، ومن صلى صلاة مع إمام يجهر؛ فليقرأ بِ: {فاتحة الكتاب} في بعض سكتاته؛ فإن لم يفعل؛ فصلاته خداج؛ غير تمام ". قال الدارقطني أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ..............................................................................   " محمد هذا: ضعيف ". 2- وأما حديث عائشة: فأخرجه البخاري (3 و 7) ، وابن ماجه (1/277) ، والطحاوي (1/127) ، وأحمد (6/275) عن محمد بن إسحاق قال: ثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عنها. وإسناده حسن أيضاً. ورواه الطبراني في " الصغير " (ص 51) من طريق أخرى عنها. وفيه ابن لهيعة. 3- وأما حديث جابر: فأخرجه الدارقطني (124) عن يحيى بن سلام: ثنا مالك ابن أنس: ثنا وَهْب بن كيسان عنه بلفظ: " كل صلاة لا يقرأ فيها بـ: {أم الكتاب} ؛ فهي خداج، إلا أن يكون وراء إمام ". وقال: " يحيى بن سلام: ضعيف. والصواب: موقوف ". قلت: كذلك رواه في " الموطأ " (1/105) موقوفاً، ومن طريقه رواه البيهقي (1/160) ، ثم قال: " هذا هو الصحيح عن جابر من قوله؛ غير مرفوع، وقد رفعه يحيى بن سلام وغيره من الضعفاء عن مالك، وذاك مما لا يحل روايته على طريق الاحتجاج به ". وتعقبه ابن التركماني بقوله: " قلت: ذكر البيهقي في " الخلافيات ": أنه رُوي عن إسماعيل بن موسى السُّدِّي أيضاً عن مالك مرفوعاً. وإسماعيل: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: احتمله الناس ورووا عنه، وإنما أنكروا عليه الغلو والتشيع ". اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ويقول: " قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة (1) بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل ". وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقرؤوا: يقول العبد: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ؛ يقول الله تعالى: حمدني عبدي. ويقول العبد: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ يقول الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي. ويقول العبد: {مَالِكِ يَوْمِ الدَّينِ} ؛ يقول الله تعالى:   (1) أي: {الفَاتِحَة} ، وهو من إطلاق الكل، وإرادة الجزء؛ {تعظيماً} ، قال في " شرح مسلم ": " قال العلماء: المراد بالصلاة هنا: {الفَاتِحَة} ، سميت بذلك لأنها لا تصح إلا بها - كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الحج عرفة " -؛ ففيه دليل على وجوبها بعينها في الصلاة؛ قال العلماء: والمراد قسمتها من جهة المعنى؛ لأن نصفها الأول: تحميد لله تعالى، وتمجيد، وثناء عليه وتفويض إليه، والنصف الثاني: سؤال، وتضرع، وافتقار. واحتج القائلون بأن البسملة ليست من {الفَاتِحَة} بهذا الحديث، وهو من أوضح ما احتجوا به؛ قالوا: لأنها سبع آيات بالإجماع: فثلاثٌ - في أولها -: ثناء؛ أولها: {الحَمْدُ لِلَّهِ} ، وثلاثٌ: دعاءٌ؛ أولها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} ، والسابعة: متوسطة؛ وهي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . قالوا: ولأنه سبحانه وتعالى قال: " قسمت الصلاة بيني، وبين عبدي نصفين: فهذا قال العبد: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ... ". فلم يذكر البسملة، ولو كانت منها؛ لذكرها ". اهـ. ثم ذكر النووي جواب الشافعية عن الحديث بما لا يُقْنع، وقد ذكرها الشوكاني (2/174) ، ثم قال: " ولا يخفى أن هذه الأجوبة؛ منها ما هو غير نافع، ومنها ما هو ضعيف ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ..............................................................................   وقد ذكر الزيلعي في " نصب الراية " أقوال العلماء في البسملة؛ فقال (1/327) : " والمذاهب في كونها من القرآن ثلاثة: طرفان، ووسط: فالطرف الأول: قول من يقول: إنها ليست من القرآن إلا في سورة {النَّمْلِ} ؛ كما قال مالك، وطائفة من الحنفية، وقاله بعض أصحاب أحمد؛ مدعياً أنه مذهبه، ناقلاً لذلك عنه. والطرف الثاني: قول من يقول: إنها آية من كل سورة، أو بعض آية؛ كما هو المشهور عن الشافعي، ومن وافقه. والقول الوسط؛ أنها من القرآن حيث كتبت، وأنها مع ذلك ليست من السور؛ بل كتبت آية في كل سورة، وكذلك تتلى آية مفردة في أول كل سورة؛ كما تلاها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أنزلت عليه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ} . رواه مسلم من حديث المختار بن فُلفُل عن أنس: أنه عليه الصلاة والسلام أغفا إغفاءة، ثم استيقظ، فقال: " نزلت عليَّ سورة آنفاً ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ ... } إلى آخرها. وهذا قول ابن المبارك، وداود، وأتباعه، وهو المنصوص عن أحمد بن حنبل، وبه قال جماعة من الحنفية، وذكر أبو بكر الرازي أنه مقتضى مذهب أبي حنيفة. وهذا قول المحققين من أهل العلم؛ فإن في هذا القول الجمعَ بين الأدلة، وكتابتها سطراً مفصولاً عن السورة يؤيد ذلك، وعن ابن عباس: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وفي رواية: لا يعرف انقضاء السورة. رواه أبو داود والحاكم، وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ..............................................................................   " صحيح على شرط الشيخين " " اهـ. مختصراً. وحديث ابن عباس هذا في " السنن " (1/126) ، و " المستدرك " (1/231) من طريق سفيان عن عمرو عن سعيد بن جبير عنه باللفظ الأول؛ إلا أن الحاكم قال: ختم.. بدل: فصل. وهذا سند صحيح على شرطه؛ كما قال الحاكم. وأقره الذهبي. ثم أخرجه الحاكم، ومن طريقه البيهقي (2/43) عن الوليد بن مسلم: ثنا ابن جريج: ثنا عمرو به بلفظ: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . فإذا نزلت {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ علموا أن السورة انقضت. ولم يذكر في روايته سعيد بن جبير في الإسناد، ثم قال: " صحيح على شرطهما ". وهو كما قال. ثم رواه بلفظ ثالث؛ لكن فيه ضعف. وهذا القول - وهو كونها من القرآن آية مستقلة، وليست من {الفَاتِحَة} (*) - هو الذي ينبغي أن يأخذ به المسلم؛ لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على إثباتها في المصاحف جميعاً في أوائل السور - سوى {بَرَآءَةٌ} - بخط المصحف؛ بخلاف الأعشار، وتراجم السور؛ فإن العادة كتابتها بحمرةٍ، ونحوها. قال النووي (3/336) : " فلو لم تكن قرآناً؛ لما استجازوا إثباتها بخط المصحف من غير تمييز؛ لأن ذلك يحمل على اعتقاد أنها قرآن؛ فيكونون مُغَرِّرين بالمسلمين، حاملين لهم على اعتقاد ما   (*) ثم صرح الشيخ رحمه الله بكونها من {الفَاتِحَة} لكن لا يجهر بها في الصلاة، في " تلخيص صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (ص 15/ ط 1 - المعارف) . وانظر " الصحيحة " (1183) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 مَجَّدَني (1) عبدي. يقول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ؛ [قال] : فهذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. يقول العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ [قال] : فهؤلاء (2) لعبدي، ولعبدي ما سأل " (3) .   ليس بقرآن قرآناً؛ فهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة رضي الله عنهم. قال أصحابنا: هذا أقوى أدلتنا في إثباتها ". قلت: وهو كما قالوا، ولكنه لا يدل على ما ذهبوا إليه من كونها آية من {الفَاتِحَة} - كما لا يخفى -، وقد بسط القول في هذا الموضوع العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على " الترمذي " بتحقيق وإنصاف. فراجعه (2/19 - 25) ؛ فإنه مهم. (1) أي: عظمني. (2) فيه دليل على أن: {اهْدِنَا} ، وما بعده، إلى آخر السورة: ثلاث آيات، لا آيتان. وفي المسألة خلاف مبني على أن البسملة من {الفَاتِحَة} أم لا؛ فمذهب الشافعية وغيرهم أنها آية من {الفَاتِحَة} - كما سبق -، و: {اهْدِنَا} ، وما بعده: آيتان. ومذهب مالك وغيره - ممن يقول أنها ليست من {الفَاتِحَة} - يقول: {اهْدِنَا} وما بعده: ثلاث آيات؛ بدليل هذه الرواية. واحتج الأولون برواية مسلم: " هذا لعبدي ". وقد عرفت الحق في ذلك مما ذكرنا قريباً. (3) هو من تمام حديث أبي هريرة الذي قبله (1) [ص 310] ، وقد تقدم تخريجه، وبيان طرقه، وهذه التتمة إنما جاعت من الطريقين الأولين عند الشيخين وغيرهما، والسياق للإمام مالك، والزيادتان من مسلم وغيره.   (1) {وله شاهد من حديث جابر: عند السهمي في " تاريخ جرجان " (144) } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما أنزل الله عز وجل في التوراة، ولا في الإنجيل مثل {أم القرآن} ؛ وهي السبع المثاني [والقرآن العظيم الذي أوتيته] (1) " (2) .   (1) قال الباجي: " يريد قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ المَثَانِي وَالقُرْآنَ العَظِيمَ} . وسميت السبع؛ لأنها سبع آيات. والمثاني؛ لأنها تثنى في كل ركعة {أي: تعاد} . وإنما قيل لها: (القرآن العظيم) على معنى التخصيص لها بهذا الاسم، وإن كان كل شيء من القرآن قرآناً عظيماً؛ كما يقال في الكعبة: (بيت الله) ، وإن كانت البيوت كلها لله، ولكن على سبيل التخصيص والتعظيم له ". اهـ. والحديث نص صريح في بيان المراد من الآية، وهو {الفَاتِحَة} ؛ فلا يلتفت بعد ذلك إلى ما يخالفه من الأقوال مهما كان شأن قائله. (2) أخرجه النسائي (1/146) ، والترمذي (2/191 - طبع بولاق) ، وأحمد (5/114) من طريق عبد الحميد بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب به مرفوعاً. ثم أخرجه أحمد، وكذا الحاكم (1/557 و 2/257 - 258 و 354) بهذا الإسناد مطولاً بلفظ: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا أعلمك سورة ما أنزل الله في التوراة، ولا في الزبور، ولا في الإنجيل، ولا في القرآن مثلها؟ ". قلت: بلى. قال: " فإني أرجو أن لا أخرج من ذلك الباب حتى تعلمها ". ثم قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقمت معه، فأخذ بيدي، فجعل يحدثني حتى بلغ قرب الباب، قال: فذكَّرته؛ فقلت: يا رسول الله! السورة التي قلت لي؟ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ..............................................................................   " فكيف تقرأ إذا قمت تصلي؟ " فقرأتُ بـ: {فاتحة الكتاب} . قال: " هي هي، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم؛ الذي أوتيت بعد ". وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. لكن اختلف فيه على العلاء بن عبد الرحمن؛ فرواه عنه عبد الحميد بن جعفر هكذا. ورواه عبد العزيز بن محمد: عند الترمذي. ومحمد بن جعفر بن أبي كثير المدني: عند البيهقي (2/375 - 376) . وعبد الرحمن بن إبراهيم: عند أحمد (2/412 - 413) . والنسائي من طريق روح بن القاسم. وابن خزيمة من طريق حفص بن ميسرة - على ما في " الفتح " (8/128) -؛ رووه خمستهم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على أبي بن كعب ... فذكره نحوه. وكذا رواه إسماعيل بن جعفر: عند أحمد (2/357) ، والطحاوي في " المشكل " (2/78) . وكذا جهضم بن عبد الله: عنده. ورجح الترمذي هذه الرواية؛ فقال: " وهذا أصح من حديث عبد الحميد بن جعفر، هكذا روى غير واحد عن العلاء بن عبد الرحمن ". ورواه شعبة عن العلاء عن أبيه عن أبي بن كعب به مختصراً. أخرجه الحاكم (1/558) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ..............................................................................   وخالف مالك؛ فرواه عن العلاء: أن أبا سعيد مولى عامر بن كُريز أخبره: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نادى أبي بن كعب ... الحديث. ومن طريقه أخرجه الحاكم (1/557 و 2/558) . وقال البيهقي (2/376) : " مرسل ". يعني: منقطع بين أبي سعيد وأُبي. وزعم السيوطي في " تنوير الحوالك " أنه موصول؛ فقد ذكر أن أبا سعيد سمعه من أبي بن كعب؛ قال: " وصله من طريقه عنه الحاكم ". قلت: ولم أجده عند الحاكم موصولاً، وإنما رواه في موضعين من طريق مالك مرسلاً - كما تراه -. والله أعلم. وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة. فأخرجه الحاكم (1/558) من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَِ نادى أبي بن كعب ... الحديث. وإسناده حسن، لولا عنعنة ابن إسحاق. قال الحافظ: " وهو مما يقوي ما رجحه الترمذي ". قلت: والغريب أن الحاكم ساقه شاهداً في سماع أبي هريرة هذا الحديث من أبي ابن كعب! وإنما هو شاهد في سماعه إياه منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأخرجه البخاري (8/307) وفي " جزء القراءة " (14) ، وأبو داود (1/230) ، والترمذي أيضاً، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد (2/448) عن ابن أبي ذئب: ثنا سعيد المقبري عن أبي هريرة مختصراً مرفوعاً بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (المسيء صلاته) أن يقرأ بها في صلاته، وقال لمن لم يستطع حفظها: " قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله ". وقال لـ (المسيء صلاته) : " فإن كان معك قرآن؛ فاقرأ به، وإلا؛ فاحمد الله، وكبِّره، وهلله " (1) .   " {أم القرآن} هي السبع المثاني، والقرآن العظيم ". وله شاهد من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم أجبه. فقلت: يا رسول الله! إني كنت أصلي. فقال: " ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ؟ ". ثم قال لي: " لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ". ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج؛ قلت له: ألم تقل: " لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن "؟ قال: " {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته ". أخرجه البخاري (8/127 - 129 و 247 و 307 و 9/44) ، وأبو داود، والنسائي (1/145) ، والدارمي (1/350) ، وابن ماجه (2/217) ، والطحاوي في " المشكل " (2/77) ، والبيهقي (2/368 - 369) ، والطيالسي (178) ، وأحمد (3/450 و4/211) من طرق عن شعبة قال: ثني خُبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عنه. (1) جاء ذلك في بعض طرق حديث رفاعة بن رافع - وقد سبق تخريجه في أول الكتاب [ص 56]-؛ فروى أبو داود (1/137) ، وعنه البيهقي (2/374) ، وأحمد (4/340) من طريق محمد بن عمرو عن علي بن يحيى بن خَلاد الزُّرَقي عن رِفَاعة قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ..............................................................................   جاء رجل، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس في المسجد ... الحديث. وفيه قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا استقبلت القبلة؛ فكبر، ثم اقرأ بـ: {أم القرآن} ، ثم اقرأ بما شئت ... " الحديث. وكذا رواه ابن حبان - كما في " الفتح " (2/221) -. لكن بهذا الإسناد منقطع - كما أشرنا إليه فيما سبق -، ومحمد بن عمرو: في حفظه ضعف. إلا أني وجدت له شاهداً قوياً في " جزء القراءة " للبخاري؛ قال (11) : ثنا يحيى ابن بُكَير قال: ثنا عبد الله بن سُوَيد عن عيّاش عن بُكَير - وفي الأصل: بكر، وهو تحريف - ابن عبد الله عن علي بن يحيى عن أبي السائب [عن] رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [قال] : صلى رجل والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إليه، فلما قضى صلاته؛ قال: " ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصل ". (ثلاثاً) . فقام الرجل، فلما قضى صلاته؛ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارجع فصل ". (ثلاثاً) . قال: فحلف له: كيف؟! اجتهدتُ! - كذا -. فقال له: " ابدأ؛ فكبِّر، وتحمد الله، وتقرأ بـ: {أم القرآن} ، ثم تركع ... " الحديث. وإسناده صحيح. رجاله رجال " الصحيح "؛ غير عبد الله بن سويد، وهو ثقة. وجاء تعيين {الفَاتِحَة} في رواية أبي هريرة أيضاً في حديث (المسيء صلاته) عند البيهقي (2/373) ، لكن في سنده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف من جهة حفظه، وغيره لا يذكر ذلك، وقد مضى لفظه في الموضع المشار إليه سابقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ..............................................................................   هذا، وفي رواية لأبي داود (1) ، والترمذي، والبيهقي (2/380) من طريق إسماعيل ابن جعفر: أخبرني يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الزُّرَقي عن أبيه عن جده عن رفاعة به بلفظ: " إذا قمت إلى الصلاة؛ فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد، وأقم، فإن كان معك قرآن؛ فاقرأ، وإلا؛ فاحمد الله، وكبره، وهلله، ثم اركع ... " الحديث. وكذلك أخرجه الطحاوي (1/137) ، والطيالسي (196) . وقال الترمذي: " حديث حسن ". قلت: ورجاله رجال البخاري؛ غير يحيى بن علي هذا، وقد ذكره ابن حبان في " الثقات "؛ إلا أن ابن القطان قال: " لا يعرف إلا بهذا الخبر، وما علمت فيه ضعفاً ". قال الذهبي: " قلت: لكن فيه جهالة ". قلت: وأشار إلى ذلك الحافظ في " التقريب " بقوله: " مقبول ". قلت: لكنه قد توبع على رواية هذا الحديث في الجملة - كما بينا فيما سبق -، وتابعه على هذه اللفظة شريك بن أبي نمر عن علي بن يحيى عن عمه رفاعة بن رافع. أخرجه الطحاوي هكذا منقطعاً؛ لم يذكر في إسناده يحيى بن خلاد، والوهم من شريك هذا؛ فإنه - وإن كان من رجال الشيخين؛ فإنه - كان يخطئ، وبقية رجال الإسناد ثقات رجال البخاري.   (1) {" صحيح أبي داود " (807) } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ..............................................................................   وبالجملة؛ فهذه متابعة قوية في متن الحديث. وله شاهد من حديث إبراهيم السكسكي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزئني منه. قال: " قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله ". قال: يا رسول الله! هذا لله عز وجل، فما لي؟ قال: " قل: اللهم! ارحمني، وارزقني، وعافني، واهدني. (زاد في رواية: (واغفر لي)) ". فلما قام؛ قال هكذا بيده (وفي لفظ: فعدَّهن الرجل في يده عشراً) ؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما هذا؛ فقد ملأ يديه من الخير ". أخرجه أبو داود (1/133) ، والنسائي (1/146) ، والحاكم (1/241) ، والدارقطني (118) ، والبيهقي (2/381) ، والطيالسي (109) ، وأحمد (4/353 و 356 و 382) ، وابن حبان، {وابن خزيمة (1/80/2) ، والطبراني} من طرق عنه. وقال الحاكم: " صحيح على شرط البخاري ". ووافقه الذهبي. قلت: السكسكي هذا من رجال البخاري، لكنه ضعيف من جهة حفظه عند الجمهور، حتى اعتُرض على البخاري من أجله. قال الحاكم: " قلت للدارقطني: لِمَ ترك مسلم حديث السكسكي؟ فقال: تكلم فيه يحيى بن سعيد. قلت: بحجة؟ قال: هو ضعيف ". وكذا قال أحمد: " ضعيف ". وضعفه أيضاً النسائي، والعِقيلي، وقال ابن عدي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ..............................................................................   " لم أجد له حديثاً منكر المتن، وهو إلى الصدق أقرب منه إلى غيره، ويكتب حديثه - كما قال النسائي - ". وفي " التقريب ": " صدوق، ضعيف الحفظ ". وفي " التلخيص " (3/341) : " وهو من رجال البخاري، لكن عِيْبَ عليه إخراج حديثه، وذكره النووي في " الخلاصة " في فصل (الضعيف) ، وقال في " شرح المهذب ": رواه أبو داود، والنسائي بإسناد ضعيف ". ثم قال الحافظ: " ولم ينفرد به؛ بل رواه الطبراني، وابن حبان في " صحيحه " أيضاً من طريق طلحة ابن مُصَرِّف عن ابن أبي أوفى، ولكن في إسناده الفضل بن موفق؛ ضعفه أبو حاتم ". اهـ. ونص كلام أبي حاتم: " كان شيخاً صالحاً، ضعيف الحديث ". وفي " التقريب ": " فيه ضعف ". قلت: ولعل الحديث بهذين الإسنادين يصير حسناً. والله أعلم، {وهو في " الإرواء " (303) ، و " صحيح أبي داود " (785) } . قال السندي رحمه الله: " قوله: (يجزئني) : من الإجزاء؛ أي: يكفيني منه أيُّ قراءة مقام القرآن ما دام ما أحفظه. وإلا؛ فالسعي في حفظه لازم. وهذا يدل على أن العاجز عن القرآن يأتي بالتسبيحات، ولا يقرأ ترجمة القرآن - بعبارة أخرى: غير نظم القرآن - ". وقال الخطابي في " المعالم " (1/207) : " الأصل أن الصلاة لا تجزئ إلا بقراءة {فاتحة الكتاب} ؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا صلاة إلا بـ: {فاتحة الكتاب} . ومعقول أن وجوب قراءتها إنما هو على من أحسنها، دون من لا يحسنها؛ فإذا كان المصلي لا يحسنها، وكان يحسن شيئاً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ..............................................................................   القرآن غيرها؛ كان عليه أن يقرأ منه قدر سبع آيات؛ لأن أولى الذكر بعد {فاتحة الكتاب} ما كان مِثلاً لها من القرآن، فإن كان رجل ليس في وسعه أن يتعلم شيئاً من القرآن؛ لعجز في طبعه، أو سوء حفظه، أو عجمة لسان، أو آفة تعرض له؛ كان أولى الذكر بعد القرآن ما علمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير ". اهـ. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 نَسْخُ القراءة ِوراءَ الإمام في الجهرية وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أجاز للمؤتمين أن يقرؤوا بها وراء الإمام في الصلاة الجهرية؛ حيث كان في صلاة الفجر، فقرأ، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ؛ قال: " لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ ". قلنا: نعم؛ هذّاً (1) يا رسول الله! قال: " لا تفعلوا؛ إلا [أن يقرأ أحدكم] بـ: {فاتحة الكتاب} ؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " (2) .   (1) بتشديد الذّال وتنوينها. قال الخطابي (1/205) : " والهذّ: سرد القراءة، ومداركتها في سرعة واستعجال ". (2) هذا حديث صحيح. أخرجه البخاري في " جزء القراءة " (7 و 22) ، وأبو داود (1/131) ، والترمذي (2/116 - 117) ، والطحاوي (1/127) ، والدارقطني (120) ، والحاكم (1/238) ، والطبراني في " الصغير " (134) ، والبيهقي (2/164) ، وأحمد (5/313 و 316 و 322) ، وابن حزم في " المحلى " (3/236) من طرق عن محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: كنا خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الفجر؛ فقرأ ... الحديث. وهذا إسناد جيد لا مطعن فيه - كما قال الخطابي في " المعالم " (1/205) -؛ فقد صرح ابن إسحاق بالتحديث في رواية لأحمد، والدارقطني وقال: " هذا إسناد حسن ". وأعله البيهقي. وقال الترمذي: " حديث حسن ". والحاكم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ..............................................................................   " إسناده مستقيم " (1) . وقال الحافظ في " نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار " - بعد أن ساقه بإسناده المتصل إلى أحمد، والبخاري عن ابن إسحاق به -: " هذا حديث حسن ". وكذا قال النووي في " المجموع " (3/363) ، وقال في " تهذيب الأسماء " (2/180) : " حديث صحيح ". كما في " إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام " (189) . قال: " وأخرجه ابن خزيمة في " صحيحه "، ولم يتفرد به محمد بن إسحاق، بل تابعه عليه زيد بن واقد؛ أحد الثقات من أهل الشام ". قلت: لكن خالفه في الإسناد؛ فقال: عن مكحول عن نافع بن محمود بن الربيع: أنه سمع عبادة بن الصامت. ولم يقل: عن محمود بن الربيع - كما في رواية ابن إسحاق -. قال البيهقي: " فكأنه سمعه منهما جميعاً ". أخرجه الدارقطني (121) ، وعنه البيهقي (2/165) من طريق محمد بن المبارك الصوري: ثنا صدقة بن خالد: ثنا زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول عن نافع ابن محمود بن الربيع - كذا قال -: أنه سمع عبادة بن الصامت به نحوه. وكذا رواه البخاري في " جزئه " (7) وفي " أفعال العباد " (92) ، والبيهقي من طريق هشام بن عمار: نا صدقة بن خالد به.   (1) قال الحافظ في " التلخيص " (3/311) : " رواه أحمد، والبخاري في " جزء القراءة " - وصححه أبو داود -، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان ... " إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ..............................................................................   ووقع في النسخة المطبوعة من " جزء البخاري " سقط وتحريف؛ كما يتبين من مقابلته بما نقله الحافظ في " النتائج " عن البخاري. وكذلك رواه النسائي (1/146) عن هشام، لكن ليس فيه ذكر مكحول. وعَكَسَ أبو داود، فرواه من طريق الهيثم بن حميد: أخبرني زيد بن واقد عن مكحول عن نافع ابن محمود به. فلم يذكر فيه حرام بن حكيم. وكذلك رواه الدارقطني، والبيهقي من طريق أبي داود. وفيه اختلاف آخر على مكحول، ذكره الدارقطني، والبيهقي. ثم قال الدارقطني: " هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم ". وقال البيهقي: " والحديث صحيح عن عبادة بن الصامت، وله شواهد ". وتعقبهما ابن التركماني بقوله: " قلت: نافع بن محمود لم يذكره البخاري في " تاريخه "، ولا ابن أبي حاتم، ولا أخرج له الشيخان. وقال أبو عمر: مجهول. وقال الطحاوي: لا يعرف. فكيف يصح أن يكون سنده حسناً ورجاله ثقاتاً؟! ". قلت: ومن شواهده التي تقويه، وتأخذ بعضده: ما أخرجه البخاري (7) ، والبيهقي (2/166) ، وأحمد (4/236 و 5/60 و 81 و 410) من طريقين عن خالد الحَذَّاء عن أبي قِلابة عن محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لعلكم تقرؤون، والإمام يقرأ؟ ". قالوا: إنا لنفعل. قال: " فلا تفعلوا؛ إلا أن يقرأ أحدكم بـ: {فاتحة الكتاب} ". وهذا إسناد صحيح عندي؛ فإن رجاله كلهم ثقات رجال مسلم. وقال البيهقي: " إسناد جيد ". والحافظ (3/312) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ..............................................................................   " إسناده حسن ". ورواه ابن حبان من طريق أيوب عن أبي قِلابة عن أنس. وزعم أن الطريقين محفوظان. وخالفه البيهقي؛ فقال: " إن طريق أبي قلابة عن أنس ليست بمحفوظة ". اهـ. زاد في " النتائج ": " وهكذا قال غيره ". وقد أخرجه من هذه الطريق: البخاري (22) ، والطحاوي (1/128) ، والدارقطني (129) ، وأبو يعلى في " مسنده "، ومن طريقه رواه ابن حبان في " صحيحه "، والطبراني في " الأوسط "، والبيهقي؛ كلهم عن عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي عن أيوب به. وقال البيهقي: " تفرد بروايته عن أنس عبيدُ الله بنُ عمرو، وهو ثقة؛ إلا أن هذا إنما يعرف عن أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة ". ومن الشواهد: ما أخرجه أحمد (5/308) : ثنا يزيد بن هارون: أنا سليمان - يعني: التيمي - قال: حُدِّثْتُ عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تقرؤون خلفي؟ ". قالوا: نعم. قال: " فلا تفعلوا؛ إلا بـ: {أم الكتاب} ". ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي أيضاً (2/166) . ورجاله رجال الستة، غير الذي حدث التيمي؛ فهو مجهول؛ ولذا قال البيهقي: " وهو مرسل ". وعن عبد الله بن عمر نحوه. أخرجه البزار، والطبراني في " الكبير ". قال الهيثمي (2/110) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ..............................................................................   " وفيه مَسْلَمَة بن علي، وهو ضعيف ". وبالجملة؛ فالحديث صحيح بمجموع هذه الطرق، حسن من طريق ابن إسحاق. واضطراب من تابعه فيه لا يضر في روايته - كما لا يخفى -. فالحديث حجة في القراءة خلف الإمام في الجهرية، ولكنه لا يدل على الوجوب؛ بل على الإباحة - كما يأتي بيانه قريباً -. قال الخطابي في " المعالم " (1/205) : " هذا الحديث نص بأن قراءة {فاتحة الكتاب} واجبة على من صلى خلف الإمام، سواء جهر الإمام بالقراءة، أو خافت بها ". ثم قال (206) : " وقد اختلف العلماء في هذه المسألة؛ فروي عن جماعة من الصحابة أنهم أوجبوا القراءة خلف الإمام. وروي عن آخرين أنهم كانوا لا يقرؤون. وافترق الفقهاء فيها على ثلاثة أقاويل: فكان مكحول والأوزاعي والشافعي وأبو ثور يقولون: لا بد من أن يقرأ خلف الإمام فيما يجهر به، وفيما لا يجهر. وقال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق: يقرأ فيما أسر الإمام فيه، ولا يقرأ فيما جهر به (1) . وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا يقرأ أحد خلف الإمام؛ جَهَرَ الإمام أو أَسَرَّ. واحتجوا بحديث رواه عبد الله بن شداد مرسلاً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان له إمام؛ فقراءة الإمام له قراءة " ". انتهى.   (1) { (فائدة) : وقد ذهب إلى مشروعية القراءة خلف الإمام في السرية دون الجهرية الإمامُ الشافعي في القديم، ومحمدٌ تلميذ أبي حنيفة في رواية عنه اختارها الشيخ علي القاري وبعض مشايخ المذهب، وهو قول الإمام الزهري، ومالك، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وجماعة من المحدثين وغيرهم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ..............................................................................   قلت: وهذا الحديث المرسل صحيح - كما سيأتي -؛ ولكنه لا يدل على المنع من القراءة كما صنع علماؤنا! وإنما يدل على أن قراءة الإمام تغني عن قراءة المؤتم، بحيث إنه لو لم يقرأ؛ جازت صلاته. وأما حكم قراءته هو؛ فإنما يؤخذ من أحاديث أخرى. وأعدل هذه المذاهب الثلاثة، وأقربها إلى الصواب: أوسطها، وهو قول الإمام الشافعي رحمه الله في القديم - كما في " المهذب " و " شرحه " (3/313 - 314) وغيرهما -. وليس مع القائلين بالوجوب دليل؛ إلا هذا الحديث، وإلا حديث عبادة بن الصامت: " لا صلاة لمن لم يقرأ بـ: {فاتحة الكتاب} ". وقد مضى. وفي الاستدلال على ذلك بهذا الحديث الذي نحن بصدده نظر بيِّن؛ وذلك لأنه قد تقرر في كتب الأصول: أن الاستثناء من حكم يدل على نقيضه فحسب، ولا دلالة له على زيادة حكم. فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تفعلوا "؛ نهي عن القراءة خلف الإمام في الجهرية، واستثناؤه قراءة {الفَاتِحَة} يدل على عدم النهي عن قراءة {الفَاتِحَة} ، يعني: عدم كراهتها وحرمتِها. ولا دلالة فيه بوجه من الوجوه على ركنية {الفَاتِحَة} أو وجوبها، فإن ثبت بدليل آخر؛ فذاك، وإلا؛ فلا دلالة فيه على ما راموا منه من إثبات الوجوب أو الركنية. قال بعض المتأخرين من المحققين الحنفيين: " ونظيره: قوله تعالى: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا} ؛ فنهى الله عز وجل عن تصريح المواعدة في العِدَّة، واستثنى منه التعريض والكناية. فالتعريض والكناية بالاستثناء لم يبق حراماً؛ لا أنه صار فرضاً أو واجباً، ولا يبعد أن يكون قريباً من الكراهة. قال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} ؛ فهل هذا الإغماض والمسامحة واجب عند أحد؟! إنما هو إغضاء على القذى وسحب الذيل على الأذى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ..............................................................................   فثبت من هذا الاستثناء: أن الاستثناء بعد النهي لا يفيد الوجوب والركنية، وإنما يفيد الإباحة؛ لا سيما إذا وردت هذه الإباحة على سببٍ حادثٍ؛ لا ابتداءً؛ فلا يبقى ريبة في أنها إباحة مرجوحة غير مستحسنة ولا مرضية، ويدل على ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة مرسلاً: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه: " هل تقرؤون خلف إمامكم؟ ". قال بعض: نعم. وقال بعض: لا. فقال: " إن كنتم لا بدَّ فاعلين؛ فليقرأ أحدكم بـ: {فاتحة الكتاب} في نفسه ". فمن قال: لا؛ لم يأمره بالإعادة. ثم قال: " إن كنتم فاعلين " - ووزانه وزان قول الله عز وجل: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} -، ثم قال: " فليقرأ أحدكم "؛ فلفظُ: " أحدكم "، لغير الاستغراق. وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن "؛ فهو بيان وصف في {الفَاتِحَة} ، وأنها من وصفها كذا، لا حكم به الآن ها هنا، والوصف لا يستلزم الحكم ما لم يحكم، ولم يحكم إلا بالإباحة. نعم؛ يكون حكماً سابقاً، وهو إذن لغير المقتدي، ثم سبق هنا ثانياً لغير المقتدي على أنه بيان وصف في {الفَاتِحَة} ، فجعلوه حكماً الآن، وليس كما ينبغي! وهو كقولنا لابن سَبْعٍ: صلِّ؛ فإنه لا دين لمن لا صلاة له. فالصلاة ليست بواجبة على ابن سبع بالإجماع؛ ولكن علله بقوله: فإنه لا دين لمن لا صلاة له. يعني: لما كان شأن الصلاة هكذا - بأنه لا دين لمن لا صلاة له -؛ صح أن يقال لابن سبع: صل. من غير وجوب ولا افتراض. فكذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تفعلوا إلا بـ: {أم القرآن} ؛ حكم بالإباحة، ثم علل لاستثناء {الفَاتِحَة} بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ..............................................................................   " فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها "، يعني: لما كان شأن {الفَاتِحَة} هكذا - وهو أنه لا صلاة إلا بها -؛ صح استثناؤها من النهي، ولعل ضمير الشأن في قوله: " فإنه لا صلاة ... ". إلخ. أليق بهذا " اهـ. كلام هذا المحقق. وهو غاية في التحقيق، لا يدع مجالاً لأحد بعد هذا البيان أن يحتج به على الوجوب. ولذلك؛ فقد تنبه لهذا المعنى الصحيح المحقِّقُ السندي، فقال: " ظاهر هذه الرواية إباحة القراءة بـ: {الفَاتِحَة} ، ولو جهر الإمام. فلعل من يمنع عنها يقول: إن النهي مقدم على الإباحة عند التعارض. ولا يخفى أن المعارضة حال السر مفقودة؛ فالمنع حينئذٍ غير ظاهر؛ ولهذا مال محمد وبعض المشايخ وغيرهم إلى قراءة {الفَاتِحَة} حال السر، ورجحه علي القاري في " شرح موطأ محمد "، ورأى أنه الأحوط ". اهـ. وإذ ثبت أن الحديث لا يدل على الوجوب - بل على الإباحة؛ بل الإباحة المرجوحة -؛ دل هو بعد ذلك على أن حديث عبادة - وهو حجتهم الثانية والأخيرة على الوجوب - لا يشمل المقتدي؛ بل هو خاص بغيره - الإمام والمنفرد -؛ لأنه قد استثنى المؤتم من إيجاب {الفَاتِحَة} عليه؛ مع الرخصة له بقراءتها، وإنما يبقى النظر في هذه الرخصة؛ هل ظلت باقية أم ارتفعت؟ والظاهر لنا أنها ارتفعت؛ بدليل الحديث الذي بعد هذا في الكتاب، ونحن وإن كنا نعترف أنه لا نص لدينا يدل على أنه متأخر الورود عن هذا الحديث الذي نحن بصدد التعليق عليه؛ فإن النظر الصحيح، والرأي الرجيح يقتضي ذلك؛ لأنه ليس من المعقول أن يكون عليه الصلاة والسلام نهى الصحابة عن القراءة وراءه في ابتداء الأمر، ثم يخالفونه؛ فيقرؤون وراءه {الفَاتِحَة} وغيرها! هذا بعيد جداً أن يصدر من الصحابة، وهم يتلون قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 ..............................................................................   فثبت بذلك أن النهي كان بعد الرخصة، ولعل هذا هو وجه قول علمائنا بنسخ هذا الحديث - وإن كنت لم أقف على شيء من كلامهم في توجيه نسخه -، ويكون عليه الصلاة والسلام قد تدرج في النهي، ولم يفاجئهم بذلك؛ فنهاهم أولاً عن القراءة وراءه إلا بـ: {الفَاتِحَة} ، ثم نهاهم عن القراءة كلها، وذلك بمقتضى قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . قال الشافعي في القديم: " فهذا عندنا على القراءة التي تسمع خاصة ". ويؤيد ذلك سبب نزول الآية؛ كما قال مجاهد: كان رسول الله يقرأ في الصلاة، فسمع قراءة فتى من الأنصار؛ فنزلت: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} . أخرجه البيهقي (2/155) وغيره. وقد قيل في سبب نزولها غير ذلك من الأقوال، ولكن ما ذكرنا أرجحُها؛ كما بينه أبو الحسنات اللكنوي في " إمام الكلام " (ص 77 - 101) . وقد بسط القول في هذا الكتاب على هذا الحديث تخريجاً، وتحقيقاً لفقهه، مع إنصاف؛ بما لا تجده في كتاب. فراجعه (187 - 211) . وقد استفدنا منه بعض ما ذكرنا في هذا البحث. ومثله في التحقيق من الناحية الفقهية العلامة الشيخ محمد أنور الكشميري في كتابه " فيض الباري على صحيح البخاري " (2/271 - 280) ، ولولا أن يطول البحث؛ لنقلت كلامه؛ فإنه غاية في التحقيق، وفيه شيء جديد لا تراه في الكتب المعروفة، لكن فيما ذكرناه عن ذلك المحقق كفاية، وكلامه كان خلاصة كلام الكشميري هذا، وأظنه هو الكشميري نفسه، لكني وجدت كلامه معلقاً عندي في بعض التعليقات منسوباً إليه غير مسمى، ولا أذكر الآن مصدره، وغالب ظني أنه في كتابه هذا المذكور. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 ثم نهاهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن القراءة كلها في الجهرية، وذلك حينما " انصرف من صلاةٍ جهرَ فيها بالقراءة (وفي رواية: أنها صلاة الصبح) ، فقال: " هل قرأ معي منكم أحد آنفاً؟! ". فقال رجل: نعم؛ أنا يا رسول الله! فقال: " إني أقول: ما لي أُنازَع (1) ؟! ". [قال أبو هريرة:] فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جهر فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [وقرؤوا في أنفسهم سرّاً فيما لا يجهر فيه الإمام] (*) " (2) .   وأما المذاهب الأخرى؛ فيأتي قريباً ذكر أدلتها. (1) قال الخطابي: " معناه: أُدَاخَلُ في القراءة وأُغَالَبُ عليها. وقد تكون المنازعة بمعنى المشاركة والمناوبة؛ ومنه منازعة الناس في النِّدام ". قلت: والأنسب في هذا المقام: المعنى الآخر، وهو المشاركة؛ بدليل انتهائهم عن القراءة. ولو كانوا فهموا أنه المعنى الأول؛ لانتهوا عن المداخلة فقط. (*) الزيادتان من " صفة الصلاة " المطبوع (ص 99) . (2) هو من حديث ابن شهاب الزهري عن ابن أُكيْمة عن أبي هريرة رضي الله عنه. أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف ... الحديث. أخرجه عنه مالك (1/108) ، ومن طريقه محمد في " موطئه " (90 - 91) ، والبخاري في " جزئه " (22) ، وأبو داود (1/131) ، والنسائي (1/146) ، والترمذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ..............................................................................   (2/118) ، والطحاوي (1/127) ، والبيهقي (2/157) ؛ كلهم عن مالك به. وكذا هو في " المسند " (2/301) . ثم أخرجه هو (2/284) ، وأبو داود، وابن ماجه (1/279) ، والبيهقي من طريق معمر عن الزهري قال: سمعت ابن أكيمة به. وفي رواية لأبي داود: قال معمر عن الزهري: قال أبو هريرة: فانتهى الناس ... إلخ. ثم أخرجه {الحميدي [رقم 953] } ، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، وأحمد (2/240) من طريق سفيان بن عيينة: ثنا الزهري - حفظته من فِيْهِ - قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيدَ بن المسيب قال: سمعت أبا هريرة به دون قوله: فانتهى الناس. قال سفيان: وتكلم الزهري بكلمة لم أسمعها. فقال معمر: إنه قال: فانتهى الناس. ثم أخرجه أحمد (2/285) عن ابن جريج، و (2/487) عن عبد الرحمن بن إسحاق؛ كلاهما عن الزهري به دون هذه الكلمة. ثم أخرجه الطحاوي، والبيهقي، من طريق الأوزاعي: ثني الزهري عن سعيد بن المسيب: أنه سمع أبا هريرة يقول: ... فذكره بلفظ: قال الزهري: فاتعظ المسلمون بذلك؛ فلم يكونوا يقرؤون. هكذا قال الأوزاعي: عن سعيد. قال البيهقي: " حفظ الأوزاعي كون هذا الكلام من قول الزهري؛ فَفَصَلَهُ عن الحديث، إلا أنه لم يحفظ إسناده. والصواب ما رواه ابن عيينة عن الزهري قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب. وكذلك قاله يونُس بن يزيدَ الأَيْلي ". اهـ. وروي على وجه آخر عند أحمد (5/345) ، والمحاملي في " الأمالي " (6/139/1) ، والبيهقي من طريق يعقوب - هو: ابن إبراهيم الزهري -: ثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: أخبرني عبد الرحمن بن هرمز عن عبد الله ابن بُحَينة - وكان من أصحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ..............................................................................   رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " هل قرأ أحد منكم معي آنفاً؟ ". قالوا: نعم. قال: " إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟! ". فانتهى الناس عن القراءة معه حين قال ذلك. وهذا إسناد رجاله رجال الستة، لكن ابن أخي ابن شهاب - واسمه: محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري -: متكلم فيه؛ لضعف في حفظه. وفي " التقريب ": " صدوق له أوهام ". ولذلك قال يعقوب بن سفيان: " هذا خطأ لا شك فيه ولا ارتياب. ورواه مالك، ومعمر، وابن عيينة، والليث بن سعد، ويونس بن يزيد، والزبيدي؛ كلهم عن الزهري عن ابن أكيمة عن أبي هريرة ". وكذا قال البزار - بعد أن رواه من هذا الوجه -: " إنه أخطأ فيه ابن أخي ابن شهاب ". ثم أشار إلى أن الصواب رواية الجماعة عن الزهري عن ابن أبي أُكَيْمة - كما في " المجمع " (2/110) -. واعلم أنه قد اختُلف في الحديث في أمرين: الأول: قوله: فانتهى الناس ... إلخ. هل هو من قول أبي هريرة؛ كما هو ظاهرُ رواية مالك ومعمر، ونص هذا في رواية؛ أنه قول أبي هريرة قبله؛ فهو متصل، أم من قول الزهري؛ كما في رواية غير معمر، وصرح بذلك الأوزاعي؛ فهو حينئذٍ مرسل. أم من قول معمر؛ كما في رواية لأبي داود؟ ثم قال أبو داود: " سمعت محمد بن يحيى بن فارس قال: قوله: (فانتهى الناس ... ) من كلام الزهري ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ..............................................................................   وكذلك قال البخاري، ويعقوب بن سفيان، والذُّهلي، والخطابي، وغيرهم - كما في " التلخيص " (3/310) -. وقد أجاب عن ذلك أبو الحسنات (120) بقوله: " إن هذا لا يقدح؛ لأن هذا الكلام - سواء كان من كلام أبي هريرة، أو من كلام الزهري، أو غيرهما - يدل قطعاً على أن الصحابة تركوا القراءة خلف رسول الله فيما يجهر فيه، وهذا كاف للاستشهاد به ". قلت: وهذا الجواب لا يكفي؛ لأننا إذا سلمنا أن هذا الكلام من قول الزهري؛ فهو حينئذٍ يكون مرسلاً منقطعاً؛ فلا يجوز أن يحتج به عند جمهور المحدثين؛ خلافاً لمذهب الحنفية وغيرهم. وأحسن من ذلك قول الكشميري في " الفيض " (2/274) : " لو سلمنا ما قالوا؛ فالزهري تابعي، ولا يذكر إلا من حال الصحابة، ثم إنَّ مَن جعله من قول الزهري؛ غرضه أن الزهري قاله نقلاً عن أبي هريرة، وأخفى به صوته، فثبّتهم معمر فيه؛ فكان إسناد القول إلى معمر أو الزهري لهذا، فزعموا أنه من تلقاء أنفسهم. وهذا هو الحق: أن هذا الكلام من كلام أبي هريرة؛ كما هو من كلام الزهري ومعمر، فكل من نسبه إلى أحد منهم؛ فهو صادق غير واهم. بذلك يصلح الحديث حجة في الانتهاء من القراءة وراء الإمام في الجهرية. والله أعلم ". ويبقى النظر في الأمر الثاني؛ وهو: أنهم اختلفوا في صحة الحديث؛ فقال الترمذي - بعد أن ساقه -: " هذا حديث حسن. وابن أكيمة اسمه: عمارة. ويقال: عمرو ". وصححه أبو حاتم الرازي - كما قال ابن كثير (2/280) -، وابن حبان، حيث أخرجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ..............................................................................   في " صحيحه " (1) - كما قال ابن التركماني؛ رداً على قول البيهقي: " في صحة هذا الحديث نظر؛ وذلك لأن راويه ابن أكيمة الليثي، وهو: رجل مجهول لم يحدث عنه غير الزهري. قال الحميدي: هذا حديث [رواه رجل] (*) مجهول " -. قال ابن التركماني: " أخرج حديثه ابن حبان في " صحيحه "، وحسنه الترمذي، وأخرجه أيضاً أبو داود، ولم يتعرض له بشيء، وذلك دليل على حسنه عنده - كما عُرف -. وفي " الكمال ": روى عن ابن أكيمة مالك، ومحمد بن عمرو. وقال ابن سعد: توفي سنة إحدى ومئة، وهو ابن تسع وسبعين. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فقال: صحيح الحديث مقبول. وقال ابن حبان: اسمه: عمرو، هو وأخوه عمر: ثقتان. وقال ابن معين: روى عنه محمد بن عمرو وغيره، وحسبك برواية ابن شهاب عنه. وفي " التمهيد ": كان يحدث في مجلس سعيد بن المسيب، وهو يصغي إلى حديثه وتحديثه، وذلك دليل على جلالته عندهم وثقته. انتهى كلامه. وهذا كله ينفي عنه الجهالة ". انتهى كلام ابن التركماني. وممن وثقه أيضاً يحيى بن سعيد - كما في " التهذيب " -. وقال ابن عبد البر في (باب من لم تشتهر عنه الرواية، واحتملت روايته لرواية الثقات عنه) : " ولم يُغْمَز ابن أكيمة الليثي ". ولذلك قال الحافظ في " التقريب ": " ثقة ". فتبين بهذا أن الحديث صحيح الإسناد، وأن قول من قال في راويه: (مجهول) ؛ مردود   (1) (126/454 - الموارد) . (*) ما بين المعقوفتين استدركناه من " سنن البيهقي "، وقد ساق الشيخ رحمه الله قول البيهقي باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ..............................................................................   بتوثيق من وثقه من العلماء الثقات النقاد، وبتصحيح من صححه منهم. وقد وجدت له شاهداً مرسلاً بمعناه. أخرجه الحازمي في " الاعتبار " (73) من طريق أبي العالية قال: كان نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ؛ قرأ أصحابه أجمعون خلفه، حتى أنزلت: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ؛ فسكت القوم، وقرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكذا أخرجه عبد بن حميد، وأبو الشيخ، والبيهقي في " القراءة " - كما في " إمام الكلام " (78) -. وله شاهد مرسل آخر مضى قريباً. ثم رواه الحازمي موصولاً من حديث ابن عباس. وفيه ابن لهيعة. إذا علمت ذلك؛ فقد احتج بالحديث من ذهب إلى منع القراءة وراء الإمام في الجهرية، وهم جمهور العلماء؛ كالأئمة الثلاثة، وغيرهم - كما سبق -، وهو اختيار أكثر أصحاب الحديث؛ كما قال الترمذي، لكن ذكر هو والبيهقي وغيرهما أن الحديث لا يدل على ذلك؛ لأن أبا هريرة الذي روى هذا الحديث قد صح عنه أنه سئل في قراءة {الفَاتِحَة} وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك. أخرجه مسلم (2/9 - 10) ، وغيره. فلو كان الحديث ثابتاً، أو كان دالاً على المنع؛ لما أفتى بخلاف ذلك. قلت: لو كانت هذه الحجة صحيحة؛ للزم منها رد كثير من السنن الصحيحة، ولكان أول من يخالفها هم الذين أوردوها في هذا المكان، كما لا يخفى على البصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ..............................................................................   بطرق الاستدلال عند العلماء على اختلافهم. وإليك مثالاً على ذلك: فقد صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم؛ فليُرِقْه، ثم ليغسله سبع مرات ". أخرجه مسلم، والنسائي، وغيرهما. وممن روى هذا الحديث أبو هريرة، ثم ثبت عنه أنه كان يفتي بالغسل من ولوغه ثلاثاً، فلم يأخذ به الجمهور؛ لأنه مخالف لقواعدهم، ولذلك تعقب ابن التركماني البيهقي هنا بقوله: " مذهب الشافعي والمحدثين: أن الراوي إذا روى حديثاً ثم خالف؛ كان العبرة لما روى، لا لما رأى، ولا يكون رأيه جرحاً في الحديث؛ فكيف تكون فتوى أبي هريرة دليلاً على ضعف حديثه المرفوع؟! ". انتهى. وهذا اعتراض قوي لا جواب لهم عليه، كما أنه اعتراض قوي على الحنفية الذين خالفوا الجمهور في هذه القاعدة؛ فقالوا: " العبرة برأي الراوي لا بمرويه ". فيلزم على ذلك أن يَدَعوا الاحتجاج بالحديث؛ لإفتاء أبي هريرة بخلافه - كما ذكرنا -، ويأخذوا به. وأما الجواب عن ذلك - كما صنع أبو الحسنات (125) - بأن يحمل قول أبي هريرة: اقرأ بها في نفسك. على السرية، فحينئذٍ لا تعارض بين رأيه ومرويه، ولا إلزام به: فليس بشيء؛ لأنه ثبت في " جزء البخاري " (8) ، و " سنن البيهقي " (2/166) أن السائل سأله عن الصلاة الجهرية بلفظ: قال عبد الرحمن أبو العلاء: قلت: يا أبا هريرة! كيف أصنع إذا كنت مع الإمام، وقد جهر بالقراءة؟ فأجابه بما تقدم. وأما حمله على سكتات الإمام؛ فشيء لا يخطر على بال أبي هريرة، إذ ليس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ..............................................................................   السنة سكتات تتسع لقراءة {الفَاتِحَة} . ويأتي بيان ذلك قريباً إن شاء الله. وبالجملة؛ فإن هذا الحديث قد أظهر اضطراب العلماء أحياناً في قواعدهم وفي فروعهم؛ تأييداً لمذاهبهم؛ فالحنفية أخذوا بالحديث، وليس على قواعدهم؛ فكان عليهم إما: أن يردوه - كما ردوا حديث الولوغ وغيره -، أو: أن يُعَدِّلوا هذه القاعدة لما هو الحق. وقد أشار إلى ذلك أبو الحسنات - وهي من حسناته -. والشافعية عكسوا ذلك؛ فلم يأخذوا به، وأجابوا عنه بما هو مخالف لقاعدتهم، فكان عليهم إما: أن يَدَعوها ليصحَّ جوابهم، أو: يظلوا متمسكين بها، ويأخذوا بالحديث، وهو الصواب. و: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} . هذا، وأيد الجمهور مذهبهم هذا بالآية السابقة الذكر، وسبب نزولها - وقد ذكرناه آنفاً -، وقال ابن تيمية في " الفتاوى " (2/142 - 143) : " إنه استفاض عن السلف أنها نزلت في القراءة في الصلاة، وذكر الإمام أحمد الإجماع على أنها نزلت في ذلك، وذكر الإجماع على أنه لا تجب القراءة على المأموم حال الجهر. ثم نقول: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . لفظ عام، فإما أن يختص في القراءة في الصلاة، أو في القراءة في غير الصلاة، أو يعمهما. والثاني باطل قطعاً؛ لأنه لم يقل أحد من المسلمين، أنه يجبُ الاستماع خارج الصلاة، ولا يجب في الصلاة. ولأن استماع المستمع إلى قراءة الإمام الذي يأتم به، ويجب عليه متابعته؛ أولى من استماعه إلى قراءة من يقرأ خارج الصلاة، [وذلك] داخل في الآية: إِما على سبيل الخصوص، وإما على سبيل العموم. وعلى التقديرين؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ..............................................................................   فالآية دالة على أمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام، والمنازع يسلم بذلك إلا في {الفَاتِحَة} ، والآية أمرت بالإنصات إذا قرئ القرآن، و {الفَاتِحَة} : أم القرآن، وهي التي لا بد من قراءتها في كل صلاة، وهي أفضل سور القرآن، وهي التي لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها؛ فيمتنع أن يكون المراد بالآية الاستماع إلى غيرها دونها، مع إطلاق لفظ الآية وعمومها، مع أن قراءتها أكثر وأشهر. والعادل عن استماعها إلى قراءتها، إنما يعدل لكون قراءتها أفضل من الاستماع، وهذا غلط مخالف للنص والإجماع؛ فإن الكتاب والسنة أمرت المؤتم بالاستماع دون القراءة، والأمة متفقة على أن استماعه لما زاد على {الفَاتِحَة} أفضل من قراءة ما زاد عليها. فلو كانت القراءة لما يقرؤه الإمام أفضل من الاستماع لقراءته؛ لكان قراءة المأموم أفضل من قراءته لما زاد على {الفَاتِحَة} . وهذا لم يقله أحد، وإنما نازع من نازع في {الفَاتِحَة} ؛ لظنه أنها واجبة على المأموم، أو مستحبة. وجوابه؛ أن المصلحة الحاصلة له بالقراءة يحصل بالاستماع ما هو أفضل منها؛ بدليل استماعه لما زاد على {الفَاتِحَة} ، فلولا أنه يحصل له بالاستماع ما هو أفضل من القراءة؛ لكان الأولى أن يفعل أفضل الأمرين وهو: القراءة. فلما دلَّ الكتاب والسنة، والإجماع على أن الاستماع أفضل من القراءة؛ [دل] على أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ، وهذا المعنى موجود في {الفَاتِحَة} وغيرها، وحينئذٍ فلا يجوز أن يؤمر بالأدنى، ويُنهى عن الأعلى، وثبت أنه في هذه الحال قراءة الإمام له قراءة؛ كما قال ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وفي ذلك الحديث المعروف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من كان له إمام؛ فقراءة الإمام له قراءة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ..............................................................................   وهذا الحديث روي مرسلاً ومسنداً، ولكن أكثر الأئمة الثقات رووه مرسلاً عن عبد الله بن شداد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسنده بعضهم، ورواه ابن ماجه مسنداً، وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة، وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومرسِله من أكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم. وقد نص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل. فتبين أن الاستماع إلى قراءة الإمام أمر دل عليه القرآن دلالة قاطعة، ولأن هذا من الأمور الظاهرة التي تحتاج إليها الأمة؛ فكان بيانها في القرآن بما يحصل به المقصود، وجاءت السنة بموافقة القرآن ". ثم ذكر هذا الحديث الذي نتكلم عليه، وقواه، ورد على البيهقي تضعيفه إياه بنحو ما ذكرنا آنفاً، ثم ساق أيضاً الحديث الآتي بعده - وسنعلق كلامه عليه هناك (*) -، ثم قال: " وأيضاً: فلو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم؛ للزم أحد أمرين: إما أن يقرأ مع الإمام، وإما أن يجب على الإمام أن يسكت له حتى يقرأ. ولم نعلم نزاعاً بين العلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت ليقرأ المأموم {الفَاتِحَة} ولا غيرها، وقراءته معه منهي عنها بالكتاب والسنة، فثبت أنه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر؛ بل نقول: لو كان قراءة المأموم في حال الجهر مستحبة؛ لاستحب للإمام أن يسكت ليقرأ المأموم، ولا يستحب للإمام السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العلماء، وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم، وحجتهم في ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون، ولا نقل أحد هذا عنه؛ بل ثبت عنه في " الصحيح " سكوته بعد تكبيرة الافتتاح.   (*) (ص 354) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ..............................................................................   وفي " السنن ": أنه كانت له سكتتان: سكتة في أول القراءة، وسكتة بعد القراءة، وهي لطيفة للفصل؛ لا تتسع لقراءة {الفَاتِحَة} ، وقد روي أن هذه السكتة كانت بعد {الفَاتِحَة} ، ولم يقل أحد منهم أنه كان له ثلاث سكتات، ولا أربع سكتات، فمن نقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث سكتات، أو أربعاً؛ فقد قال قولاً لم ينقله عنه أحد من المسلمين، والسكتة التي عقب قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} . من جنس السكتات التي عند رؤوس الآي، ومثل هذا لا يسمى سكوتاً، ولم يقل أحد من العلماء أنه يقرأ في مثل هذا. وكان بعض من أدركنا من أصحابنا يقرأ عقب السكوت عند رؤوس الآي، فإذا قال الإمام: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . قال: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وهذا لم يقله أحد من العلماء ". قلت: وَيَرِدُ على هذا ما سبق؛ وهو: أنه لا يجب الوقوف على رؤوس الآي، وإن كان مستحباً؛ لما سبق، ولكن قد لا يفعل الإمام ذلك؛ إما ترخصاً في بعض الأحيان، وإما جهلاً بسنة خير الأنام - كما هو الغالب في أئمة هذا الزمان -، حتى ولو سكت؛ لا تتسع هذه السكتة لقراءة الآية فيها بتمامها، فلا بد أن يقع بعضها والإمام يقرأ؛ فلا مناص من الوقوع في مخالفة النص القرآني. وحديث السكتتين هو من رواية الحسن البصري عن سمرة. وفي سماع الحسن منه خلاف؛ قال ابن القيم في " الزاد " (1/74) : " ومن يحتج بالحسن عن سمرة؛ يحتج بهذا ". والراجح أنه سمع منه بعض الأحاديث. وقد قال الدارقطني - بعد أن ساق هذا الحديث (128) -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ..............................................................................   " الحسن مختلف في سماعه من سمرة، وقد سمع منه حديثاً واحداً، وهو حديث العقيقة ". قلت: والحسن - على جلالته ومنزلته في العلم -: مشهور بالتدليس والإرسال؛ ولذلك فالقواعد الحديثية تقتضي أن لا يحتج بشيء من حديثه عن سمرة وغيره، إلا بما صرح فيه بالتحديث، وقد تأملت جميع طرق هذا الحديث - فيما لدي من كتب السنة المطهرة -؛ فلم أجده إلا معنعناً؛ غير مصرح بسماعه له من سمرة، وقد جهدت أن أجد له شاهداً - ولو بإسناد فيه ضعف -؛ فلم أجد. ولذلك فهو غير حجة عندي، وإن حسنه - الترمذي وغيره! ولذلك جرَّدت الكتاب منه، على أن الحديث قد اضطرب فيه في محل السكتة الثانية - كما أشار شيخ الإسلام إلى ذلك -، وإليك توضيح ذلك باختصار: اعلم أن الحديث رواه عن الحسن أربعة من الثقات؛ وهم: يونُس بن عُبيد، وقتادة، وأشعث الحُمْراني، وحُميد الطويل، وقد اتفقوا جميعاً على أن محلها بعد القراءة؛ قبل الركوع، إلا أن يونس وقتادة اختلف عليهما في ذلك؛ فقيل عنهما: إنها قبل الركوع. وقيل: إنها بعد {الفَاتِحَة} ؛ قبل السورة. ولا شك أن رواية أشعث وحميد التي لم يختلف عليهما فيها أصح وأولى؛ لا سيما وقد وافقهما الآخران في رواية على ذلك. ومن شاء التفصيل؛ فعليه مراجعة رسالة " الصلاة " لابن القيم، و " تعليقاتنا الجياد " على كتابه " زاد المعاد ". ثم قال شيخ الإسلام: " ومعلوم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان يسكت سكتةً تتسع لقراءة {الفَاتِحَة} ؛ لكان هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقل هذا أحد؛ عُلم أنه لم يكن، وأيضاً فلو كان الصحابة كلهم يقرؤون {الفَاتِحَة} خلفه؛ إما في السكتة الأولى، وإما في الثانية؛ لكان هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله؛ فكيف ولم ينقل أحد عن أحد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ..............................................................................   الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية يقرؤون {الفَاتِحَة} ؟! مع أن ذلك لو كان مشروعاً؛ لكان الصحابة أحق الناس بعلمه وعمله؛ فعُلم أنه بدعة. وأيضاً؛ فالمقصود بالجهر: استماع المأمومين؛ ولهذا يؤمِّنون على قراءة الإمام في الجهر دون السر، فإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة، فقد أُمِرَ أن يقرأ على قوم لا يستمعون لقراءته، وهو بمنزلة من يحدث من لا يستمع لحديثه، ويخطُب من لا يستمع لخطبته! وهذا سَفَهٌ تتنزه عنه الشريعة؛ ولهذا رُوي في الحديث: " مثل الذي يتكلم، والإمام يخطب؛ كمثل الحمار يحمل أسفاراً " (*) . فهكذا إذا كان يقرأ والإمام يقرأ عليه ". اهـ كلام شيخ الإسلام باختصار. وهو مما يدل على علو كعبه في علم المنقول والمعقول رحمه الله. واعلم أنه قد اشتهر بين علمائنا الاحتجاج بالآية السابقة الذكر على النهي عن ترك القراءة وراء الإمام حتى في السرية؛ قال ابن الهُمَام في " الفتح " (1/241) : " وحصل الاستدلال بالآية أن المطلوب أمران: الاستماع، والسكوت. فيعمل بكل منهما، والأول: يخص الجهرية، والثاني: لا؛ فيجري على إطلاقه، فيجب السكوت عند القراءة مطلقاً ". وقد تعقبه أبو الحسنات اللكنوي بقوله (104) : " وفيه نظر؛ وهو أن الأمر باستماع القرآن والسكوت ليس أمراً تعبدياً غير معلل - كما هو ظاهر -، بل هو حكم معلل بإجماع القائسين والمعللين؛ كوجوب السكوت عند الخطبة، والقراءة خارج الصلاة، ونحو ذلك، ولا تظهر له علة - ولو بعد التأمل -؛ إلا كون القرآن منزلاً للتدبر والتأمل، وهو لا يحصل بدون الاستماع والإنصات. ومن المعلوم   (*) هو ضعيف كما في " السلسلة الضعيفة " (1760) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وجعل الإنصات لقراءة الإمام من تمام الائتمام به؛ فقال: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر؛ فكبروا، وإذا قرأ؛ فأنصتوا " (1) . كما جعل الاستماع له مُغْنِيَاً عن القراءة وراءه؛ فقال:   أن هذا خاص بالجهرية؛ التي يقرأ فيها الإمام جهراً، فيلزم على المقتدين التدبر؛ فيجب عليهم الإنصات. وأما في السرية؛ فالإمام لا يقرأ إلا سراً، بحيث لا يقرع صِماخ المقتدين؛ فلا يمكن أن يحصل التدبر لهم فيها - وإن كانوا منصتين -؛ فلا يظهر لوجوب السكوت عليهم فيها وجه معتد به. والقول بأن وجوب السكوت أمر تعبدي غير معقول: مطالب بالدليل المعقول، على أن كثيراً من أصحابنا وغيرهم أخذوا بعموم الآية المذكورة، وعدم اختصاصها بالموارد المأثورة؛ حتى فَرَّعوا عليه كون سماع القرآن مطلقاً - ولو خارج الصلاة - فرض عين أو كفاية، فلو كان المأمور فيها أمرين - الاستماع، والسكوت؛ الأول في الجهر، والثاني في السر -؛ لزم أن يقال بوجوب سكوت من يقرأ القرآن عنده خارج الصلاة سراً؛ كفاية أو عيناً، وهو خلاف الإجماع بلا نزاع ". اهـ. وإنما أمر تعالى بالاستماع بعد الأمر بالإنصات؛ لأنه قد يقول قائل: أقرأ وأسمع. كما يفعله بعض المتزهدين في خطبة الجمعة؛ فإنك تراهم يذكرون الله بالسبحة، ولو سألتهم؛ لقالوا: نحن نسمع ونقرأ! و: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . فكان من الحكمة أن يُتْبعَ الأمرَ بالاستماعِ الأمرَ بالإنصات. هذا ما ظهر لي. والله أعلم. (1) أخرجه {ابن أبي شيبة (1/97/1) = [1/331/3799] } ، وأبو داود (1/99) ، والنسائي (1/146) ، وابن ماجه (1/279) ، والطحاوي (1/128) ، والدارقطني (124) ، وأحمد (2/420) من طريق أبي خالد سليمان بن حَيَّان عن محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ..............................................................................   ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً به. وهذا سند حسن. وقد أُعِلَّ بعلتين: الأولى: تفرد أبي خالد عن محمد بن عجلان. والأخرى: تفرد ابن عجلان عن أبي صالح. أما الأولى: فقال أبو داود: " قوله: " فأنصتوا ": ليست بمحفوظة؛ الوهم من أبي خالد ". قلت: أبو خالد: ثقة، أخرج له الجماعة؛ فنسبة الوهم إليه دون ابن عجلان تدل على أن ابن عجلان أحسن حالاً عنده من أبي خالد! وهذا أعجب؛ فإن ابن عجلان فيه كلام. وأبو خالد ثقة بلا شك - كما قال ابن التركماني وغيره -. ثم إنه لم يتفرد به؛ بل تابعه عليه جمع: منهم: محمد بن سعد الأنصاري: عند النسائي، ومن طريقه الدارقطني (125) ، وهو ثقة - كما ذكر النسائي -. ومنهم: أبو سعد الصاغاني محمد بن مُيسَّر - بتحتانية ومهملة؛ وزن محمد -. أخرجه الدارقطني، وأحمد (2/376) ؛ وقال الأول: " ضعيف ". وإسماعيل بن أَبَان الغَنَوي: عنده، وعند البيهقي (2/156) ، وضعفه الدارقطني أيضاً. قلت: ومتابعة هذين - على ضعفهما - يعطي الحديث قوة - كما لا يخفى -؛ ولا سيما وقد تابعا ثقتين: سليمانَ بنَ حيان، ومحمدَ بنَ سعد. فانتفت العلة الأولى. وأما العلة الأخرى: فالحق يقال؛ إنها أقوى من الأولى. فروى البيهقي (2/157) عن ابن أبي حاتم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ..............................................................................   " سمعت أبي - وذكر هذا الحديث، فقال أبي -: ليست هذه الكلمة محفوظة؛ هي من تخاليط ابن عجلان. قال: وقد رواه خارجة بن مصعب أيضاً - يعني: عن زيد بن أسلم -. وخارجة أيضاً: ليس بالقوي ". قال البيهقي: " وقد رواه يحيى بن العلاء الرازي - كما روياه -؛ ويحيى بن العلاء: متروك ". اهـ. وفي " التقريب ": " رمي بالوضع ". وعن خارجة: " متروك، وكان يدلس عن الكذابين ". فمتابعة هذين لا تعطي الحديث قوة؛ فيبقى متفرداً به ابنُ عجلان، وهو وإن كان ثقة؛ ففيه كلام من جهة حفظه - كما أشار أبو حاتم إلى ذلك -، وفي " التقريب ": " صدوق. اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة ". اهـ. وهو حسن الحديث ما لم يخالف، وقد خولف هنا؛ فقد رواه الأعمش عن أبي صالح به؛ بدون قوله: " وإذا قرأ؛ فأنصتوا ". أخرجه ابن ماجه (1/305) ، وأحمد (2/440) . وسنده صحيح على شرطهما. وكذلك رواه مصعب بن محمد عن أبي صالح بدون هذه الزيادة، وقد مضى لفظه في (التكبير) . وكذلك رُوي الحديث من طرق عن أبي هريرة: عند البخاري (2/166 - 172) ، ومسلم (2/19 - 20) ، وابن ماجه أيضاً (1/374) ، والدارمي (1/300) ، وأحمد (2/230 و 214 و 411 و 438) بدونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ..............................................................................   فهذا مما يجعل النفس لا تطمئن لتفرد ابن عجلان بها. ومع ذلك؛ فقد صححها الإمام مسلم - كما سيأتي -، وابن حزم في " المحلى " (3/240) ، والإمام أحمد، وابن خزيمة - كما في " إمام الكلام " (113) -، وغيرهم من الأئمة. فراجع (التعليق) على " نصب الراية " (2/15) . ونحن نقطع بأنه صحيح لغيره؛ فإن له شاهداً من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً بلفظ: " إذا قمتم إلى الصلاة؛ فليؤمكم أحدكم، وإذا قرأ الإمام؛ فأنصتوا ". أخرجه أحمد (4/415) والسياق له، ومسلم (2/15) ، {وأبو عوانة [2/133] } ، وابن ماجه (1/279) ، والدارقطني (125) ، والبيهقي (2/155) من طريق جَرير عن سليمان التيمي عن قتادة عن أبي غَلاب عن حِِطَّان بن عبد الله الرَّقَاشي عنه. وهذا سند صحيح. {وهو مخرج في " الإرواء " (332 و 394) } . وقد أخرجه {أبو عوانة [2/133] } ، وأبو داود (1/154) من طريق المعتمر بن سليمان قال: سمعت أبي: ثنا قتادة به. ثم أعله بقوله: " وقوله: " فأنصتوا " ليس بمحفوظ؛ لم يجئ به إلا سليمان التيمي في هذا الحديث ". كذا قال! وليس بصواب؛ فقد تابعه عليه سفيان الثوري (*) ، فقد قال الدارقطني - بعد أن ساق الحديث -: " وكذلك رواه سفيان الثوري عن سليمان التيمي، ورواه هشام الدستوائي وسعيد وشعبة وهمام وأبو عوانة وأبان وعدي بن أبي عمارة؛ كلهم عن قتادة، فلم يقل أحد منهم: " وإذا قرأ؛ فأنصتوا ". وهم أصحاب قتادة الحفاظ عنه ". قلت: وقد أخرجه مسلم وغيره عن بعض هؤلاء عن قتادة به مطولاً - كما سيأتي   (*) كذا الأصل، وفي العبارة نظر، كأنه انتقال بصر. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ..............................................................................   في (التأمين) -، ولم يذكر أحد منهم هذه الزيادة. لكن لا يخفى أنها زيادة من ثقتين حجتين؛ فيجب الأخذ بها، لا سيما وأنها لا تخالف المزيد، بل توافق معناه؛ فإن الإنصات إلى قراءة القارئ من تمام الائتمام به، فإن من قرأ على قوم لا يستمعون لقراءته؛ لم يكونوا مؤتمين به - كما قال شيخ الإسلام (2/144) -. على أنه لم ينفردا بها، بل تابعهما جمع آخر؛ منهم: عمر بن عامر، وسعيد بن أبي عَرُوبة. أخرجه الدارقطني، وعنه البيهقي (2/156) من طريق سالم بن نوح عنهما. ثم قال: " سالم بن نوح: ليس بالقوي ". قلت: وهو من رجال مسلم، وفي " التقريب ": " صدوق له أوهام ". وكذا قال في شيخه عمر بن عامر، وهو من رجال مسلم أيضاً. وأما سعيد بن أبي عروبة: فمن رجال الشيخين، وهو من أثبت الناس في قتادة. وبالجملة: فهذه الزيادة صحيحة من حديث أبي موسى، وقد صححها مسلم؛ ففي " صحيحه " بعد أن ساق الحديث: " قال أبو إسحاق - يعني: صاحب مسلم وراوي كتابه -: قال أبو بكر ابن أخت أبي النضر في هذا الحديث - أي: طَعَنَ فيه -. فقال مسلم: تريد أحفظ من سليمان؟! فقال له أبو بكر: فحديث أبي هريرة؟ فقال: هو صحيح - يعني: " وإذا قرأ؛ فأنصتوا " -. فقال: هو عندي صحيح. فقال: لم تضعه ها هنا - يعني: في كتابه -؟ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا، إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه ". قال أبو الحسنات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ..............................................................................   " وبالجملة: فالحكم بصحة هذا الحديث هو الأرجح بالنظر الدقيق؛ فيكفي للاستدلال به، ومن حكم بضعفها؛ ليس له دليل معتد به يقبله أرباب التحقيق ". وهذا الحديث كالآية المذكورة سابقاً في الدلالة على وجوب الاستماع لقراءة القرآن من الإمام، ولكنه أعم منها - كما لا يخفى -، وهو - كهي - يشمل بعمومه {الفَاتِحَة} وغيرها، وقد خصه الشافعية وغيرهم ممن سبق ذكرهم بما عدا {الفَاتِحَة} . وقالوا بوجوب قراءتها، وقد ذكرنا فيما سبق أن الحديث الذي احتجوا به على الوجوب لا يدل على ذلك؛ بل على الإباحةِ، والإباحةِ المرجوحة - كما سلف بيانه عن الكشميري -. وحينئذٍ فإذا كان لا بد من المصير إلى التخصيص؛ فإنما يخصص بجواز قراءة {الفَاتِحَة} جوازاً مرجوحاً؛ لا بوجوبها، وحينئذٍ فالتباين بين هذا الجواز وبين النهي المستفاد من الآية والحديث يسيرٌ؛ لأن النتيجة ترك القراءة والاستماع للإمام، وهذا هو المطلوب. هذا يقال؛ إن أردنا أن نذهب مذهب الجمع، ولكننا قد بينا أن حديث الجواز منسوخ بحديث أبي هريرة وبسبب نزول الآية، وبين أيضاً شيخ الإسلام أن الاعتبار يدل على بقاء الآية على عمومها؛ فيقال عن الحديث - الذي نحن في صدد الكلام عنه - ما قيل فيها. وإليك الآن بقية كلام شيخ الإسلام المتعلق بالحديث؛ قال: " وهذا يبين حكمة سقوط القراءة عن المأموم، وأن متابعته لإمامه مقدمة على غيرها حتى في الأفعال، فإذا أدركه ساجداً؛ سجد معه، وإذا أدركه في وتر من صلاته؛ تشهد عقب الوتر، وهذا لو فعله منفرداً؛ لم يجز، وإنما فعله لأجل الائتمام؛ فدل على أن الائتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد، [ويسقط به ما يجب على المنفرد] ". وقال في موضع آخر (2/412) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 " من كان له إمام؛ فقراءة الإمام له قراءة " (1) ، هذا في الجهرية.   " فكيف لا يستمع لقراءته، مع أنه بالاستماع يحصل له مصلحة القراءة؟! فإن المستمع له مثل أجر القارئ. ومما يبين هذا اتفاقُهُم كلهم على أنه لا يقرأ معه فيما زاد على {الفَاتِحَة} ؛ إذا جهر، فلولا أنه يحصل له أجر القراءة بإنصاته له؛ لكانت قراءته لنفسه أفضل من استماعه للإمام، وإذا كان يحصل له بالإنصات أجر القارئ؛ لم يَحْتَجْ إلى قراءته، فلا يكون فيها منفعة، بل فيها مضرة شغلته عن الاستماع المأمور به. وقد تنازعوا إذا لم يسمع الإمام؛ لكون الصلاة صلاة مخافتة، أو لبعد المأموم، أو لطرشه، أو نحو ذلك؛ هل الأولى له أن يقرأ، أو يسكت؟ والصحيح: أن الأولى أن يقرأ في نفسه، وأنه أنفع؛ لأنه لا يستمع قراءة يحصل له بها مقصود القراءة. فإذا قرأ لنفسه؛ حصل له أجر القراءة، وإلا؛ بقي ساكتاً، لا قارئاً ولا مستمعاً، ومن سكت غير مستمع ولا قارئ في الصلاة؛ لم يكن مأجوراً بذلك ولا محموداً؛ بل جميع أفعال الصلاة لا بد فيها من ذكر الله تعالى؛ كالقراءة والتسبيح والدعاء أو الاستماع للذكر، وإذا قيل بأن الإمام يحمل عنه فرض القراءة؛ فقراءته لنفسه أكمل له، وأنفع له، وأصلح لقلبه، وأرفع له عند ربه. والإنصات لا يؤمر به إلا حال الجهر، فأما حال المخافتة؛ فليس فيه صوت مسموع حتى ينصت له ". اهـ. (1) هو من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. رواه أبو حنيفة الإمام قال: ثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عنه مرفوعاً به. أخرجه الإمام محمد في " الموطأ " (94 - 96) وفي " الآثار " (16) ، والطحاوي (1/128) ، والدارقطني (122 و 123) ، والبيهقي (2/159) ؛ كلهم عن أبي حنيفة به. ورواه عبد الله بن المبارك عنه، وعن غيره مرسلاً؛ بدون ذكر: جابر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ..............................................................................   أخرجه البيهقي (2/160) عنه: أنبا سفيان وشعبة وأبو حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... فذكره. وكذا رواه الطحاوي من طريق سفيان وحده. وكذلك رواه منصور بن المعتمر، وابن عيينة، وإسرائيل بن يونس، وأبو عوانة، وأبو الأحوص، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم من الثقات الأثبات عن موسى عن ابن شداد مرسلاً. قال الدارقطني والبيهقي: " وهو الصواب ". قلت: وتعقبهما ابن الهمام في " الفتح " (1/239) بقوله: " قال أحمد بن منيع في " مسنده ": أخبرنا إسحاق الأزرق: ثنا سفيان وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً به ". ثم قال: " وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، فقد وصله سفيان وشريك؛ فبطل عدهم فيمن رواه مرسلاً ". قلت: فإذا صح وثبت هذا الإسناد في " مسند أحمد بن منيع " - فإنه مفقود اليوم (*) ، حتى إنها لم تكن عند الحافظ ابن حجر كما ذكر الكشميري في " الفيض " (2/277) -. أقول: إذا ثبت ذلك؛ فالحديث صحيح موصولاً، ويكون أبو حنيفة لم ينفرد به، وإلا؛ فهو مرسل صحيح الإسناد. ثم إن مرسله عبد الله بن شداد من كبار التابعين الثقات، ولد على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان معدوداً في الفقهاء - كما في " التقريب " -، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما سبق: " ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد نص الشافعي على   (*) هو أحد كتب " المطالب العالية " الذي ألّفه ابن حجر. وقد أورده بهذا الإسناد نفسه الإمامُ البوصيري في " إتحاف الخيرة المهرة " (1567) و (1832) وصحح إسناده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ..............................................................................   جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل ". قلت: ولا سيما وأن له طرقاً أخرى يشد بعضها بعضاً - كما قال الزيلعي في " نصب الراية " (2/7) -: الطريق الأولى: عن جابر الجعفي عن أبي الزبير عن جابر. أخرجه ابن ماجه (1/280) ، والطحاوي، والدارقطني (126) من طريقين عن الحسن بن صالح عن جابر الجعفي به. وجابر: ضعيف. وقد تابعه ليث بن أبي سليم، وهو خير منه؛ فإنه ضعيف لسوء حفظه. أخرجه الطحاوي، والدارقطني، والبيهقي (2/160) من طريق يحيى بن أبي بُكَير وإسحاق بن منصور السَّلُولي قالا: ثنا الحسن بن صالح بن حَيّ عن جابر وليث بن أبي سُلَيم عن أبي الزبير به. قال الدارقطني: " جابر وليث: ضعيفان ". قلت: وقد ورد بإسقاطهما من بين الحسن بن صالح وأبي الزبير؛ قال ابن التركماني: " قلت: في " مصنف ابن أبي شيبة ": ثنا مالك بن إسماعيل عن حسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر به مرفوعاً. وهذا سند صحيح. وكذا رواه أبو نعيم عن الحسن بن صالح عن أبي الزبير، ولم يذكر الجعفي. كذا في " أطراف المزي ". وتوفي أبو الزبير سنة ثمان وعشرين ومئة. ذكره الترمذي وعمرو بن علي. والحسن ابن صالح ولد سنة مئة، وتوفي سنة سبع وستين ومئة، وسماعه من أبي الزبير ممكن. ومذهب الجمهور: إن أمكن لقاؤه لشخص، وروى عنه؛ فروايته محمولة على الاتصال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ..............................................................................   فيُحمل على أن الحسن سمعه من أبي الزبير مرة بلا واسطة، ومرة أخرى بواسطة الجعفي وليث ". اهـ. وما ذكره عن أبي نعيم لعله رواية عنه، وإلا؛ فقد رواه الدارقطني من طريقه عن الحسن عن جابر به. وقد رواه أحمد في " المسند " (3/339) - مثلَ ابن أبي شيبة { (1/97/1) } -؛ فقال: ثنا أسود بن عامر: أنا حسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر به مرفوعاً. ونقل المعلق على " نصب الراية " عن " الشرح الكبير للمقنع " (2/11) أنه قال: " وهذا إسناد صحيح متصل، رجاله كلهم ثقات؛ الأسود بن عامر روى له البخاري. والحسن بن صالح أدرك أبا الزبير؛ ولد قبل وفاته بنيف وعشرين سنة ". اهـ. قلت: وفي قوله أنه " متصل " نظر؛ فإن أبا الزبير مشهور بالتدليس، وقد عنعن، ولم يصرح بالسماع؛ فهو محمول على الانقطاع. ثم وجدت للحديث طريقاً أخرى عن أبي الزبير. أخرجه الإمام محمد في " الموطأ " (96) ، والدارقطني (154) ، والطبراني في " الأوسط " عن سهل بن العباس الترمذي: ثنا إسماعيل ابن عُلَيّة عن أيوب عن أبي الزبير به. وقال الدارقطني: " هذا حديث منكر، وسهل بن العباس: متروك ". وتراجع طرق هذا الحديث في كتاب " إمام الكلام " (ص 133 - 138) . ثم قال في نهاية ذلك: " والحاصل: أن طرق الحديث بعضها صحيحة أو حسنة، وبعضها ضعيفة ينجبر ضعفها بغيرها من الطرق الكثيرة، فالقول بأنه حديث غير ثابت، أو غير محتج به، ونحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ..............................................................................   ذلك؛ غير معتدٍّ به ". وللحديث شواهد كثيرة عن ابن عمر، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس. خرجها الزيلعي في " نصب الراية " (2/10 - 12) ، و [الحافظ ابن حجر في] " الدراية " (93) . {وقواه شيخ الإسلام ابن تيمية - كما في " الفروع " لابن عبد الهادي (ق 48/2) (1) ، وصحح بعض طرقه البوصيري، وقد تكلمت عليه بتفصيل، وتتبعت طرقه في " إرواء الغليل " (500) } . [فائدة] : والذي يتبادر من الحديث أن معناه: إن قراءة الإمام تكفيه، وتنوب عن قراءته؛ أي: المؤتم؛ فلا تجب عليه. وشرحه الشيخ علي القاري في " شرح مسند أبي حنيفة " (ص 150) بقوله: " أي: فلا يجب على المأموم قراءة، ولا يجوز له أن يقرأ وراءه، وظاهره الإطلاق، يعني: سواء كان في الصلاة السرية أو الجهرية ". اهـ. وفي دلالة الحديث على أنه لا يجوز القراءة وراءه بُعْدٌ ظاهر، وقد وجهه الشيخ ابن الهُمَام بقوله (239) : " إن القراءة ثابتة من المقتدي شرعاً؛ فإن قراءة الإمام قراءة له، فلو قرأ؛ لكان له قراءتان في صلاة واحدة، وهو غير مشروع ". وقد رد عليه أبو الحسنات بقوله (148) : " إن قراءة الإمام ليست بقراءة المأموم حقيقة؛ لا عرفاً ولا شرعاً، وإنما هي قراءة له حكماً، فلو قرأ المؤتم؛ لا يلزم إلا أن تكون له قراءتان: إحداهما حقيقية، وثانيهما   (1) ثم رأيته في " الفتاوى " (23/271 - 272) . كذا في نسخة الشيخ الخاصة من " الصفة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ..............................................................................   حكمية. ولا عائبة في اجتماعهما، ولا دليل يدل على قبح اجتماعهما ". وقد أوضح ذلك في حاشيته المسماة: " غيث الغمام "، فراجعه؛ فإنه - كما قال: - من النفائس. واعلم أن علماءنا قد اختلفوا في القراءة خلف الإمام على أقوال: الأول: أنهم اختاروا ترك القراءة، لا أنهم لم يجيزوه؛ بأن كرهوه أو حرموه. الثاني: أنها مكروهة كراهة تحريم. وهو الذي اختاره ابن الهمام، وتبعه كثيرٌ ممن بعده، وبه صرح جمعٌ ممن قبله. الثالث: أن قراءة الفَاتِحَة مستحبة في السرية، ومكروهة في الجهرية في رواية عن محمد - كما ذكره صاحب " الهداية " و " الذخيرة " وغيرهما -، وهو رواية عن أبي حنيفة - كما ذكره الزاهدي في " المجتبى " -، وهو الذي اختاره أبو حفص الكبير - من كبار تلامذة الإمام محمد -، وغيره من الحنفية. والرابع: أن الإنصات واجب؛ كما ذكره الكيداني. وذكر في بحث المحرمات: أن ترك كل واجب في الصلاة حرام. فيعلم منه أنه قائل بحرمة القراءة خلف الإمام. والخامس: أن الصلاة تفسد بالقراءة خلف الإمام، ويكون فاسقاً - كما نقله في " الدر " (1/508 - بحاشية ابن عابدين) -. وقد ذكر هذه الأقوال أبو الحسنات اللكنوي في " الإمام " (ص 21 - 29) معزوة إلى مصادرها المشهورة من كتب الحنفية، ثم قال: " فهذه خمسة أقوال لأصحابنا، أضعفها وأوهنها؛ بل أوهن جميع الأقوال الواقعة في هذه المسألة: القول الخامس. وهو نظير رواية مكحول الدمشقي الشاذة المروية عن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ..............................................................................   حنيفة: أن رفع اليدين عند الركوع وغيره مفسد للصلاة! وبناءُ بعض مشايخنا عليها عَدَمَ جواز الاقتداء بالشافعية! وكلاهما من الأقوال المردودة التي لا يحل ذكرها إلا للقدح فيها؛ وإن ذُكرا في كثير من الكتب الفقهية لأصحابنا الحنفية! وقد أوضحت ذلك في رسالتي " الفوائد البهية في تراجم الحنفية "؛ فلتطالع، وليت شعري! هل يقول عاقل بفساد الصلاة بما ثبت فعله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجماعة من أكابر أصحابه؟! ولو فرضنا أنه لم يثبت؛ لا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من أصحابه، أو ثبت وصار منسوخاً؛ فغايته أن يكون خلاف السنة، أو مكروهاً تنزيهاً، أو تحريماً، وهو لا يستلزم فساد الصلاة به، بل لو فرضنا أنه حرام حرمة قطعية؛ لا يلزم منه فساد الصلاة أيضاً؛ فليس ارتكاب كل حرام في الصلاة مفسداً لها، ما لم يكن منافياً للصلاة، ومن المعلوم أن قراءة القرآن في نفسها ليست بمنافية للصلاة؛ بل الصلاة ليست إلا الذكر والتسبيح والقراءة ". قال: " فكيف يصح الحكم بفساد الصلاة بها، وكون ذلك مكروهاً أو حراماً بما لاح من الدلائل لا يستلزم ذلك؟! وإني - والله! - لفي تعجب شديد من صنيع الذين نقلوا هذا القول في كتبهم ساكتين عليه، ولم يحكموا بكونه غلطاً مردوداً، وغاية ما قالوا: إن عدم الفساد أصح. ولم يحكموا بكونه صحيحاً، وكون ما يخالفه غلطاً صريحاً، وغاية ما استدل أصحاب هذا القول الواهي بعض آثار الصحابة؛ كأثر: " من قرأ خلف الإمام؛ فلا صلاة له " (1) .   (1) أخرجه ابن حبان في " الضعفاء "، وابن الجوزي من طريقه، واتهم فيه أحمد بن علي بن سليمان. كذا في " الدراية " (95) ، وقال البخاري (6) : " لا يصح ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ..............................................................................   وستعرف أنه مما لاُ يحتج به، ولا يستقيم الاستدلال به. وما ذكره السَّرَخْسِي ومن تبعه: أن فساد الصلاة مذهبُ عدة من الصحابة (1) . يقال له: أي صحابي قال بهذا؟!   (1) ومثل هذه المبالغة قول صاحب " الهداية ": " ولا يقرأ المؤتم خلف الإمام، وعليه إجماع الصحابة ". وإن العاقل المنصف ليعجب كل العجب من مثل هذَه العبارات والمبالغات! فإنها تدل على أحد شيئين: الأول: التعصب الذي يعمي ويصم. والثاني: الجهل بكتب الحديث، وعدم الاشتغال بمطالعتها، حتى ولو كانت من كتب الحديث المذهبية؛ ككتاب " شرح معاني الآثار " للطحاوي؛ فإنه قد ذكر فيه الخلاف بين الصحابة في هذه المسألة! ولعل ذلك هو منشأ قول بعض مشايخنا: علم الحديث صنعة المفاليس! وأي الأمرين كان؛ فهو عظيم بالنسبة لهؤلاء الأئمة الذين هم القدوة لمن بعدهم. ومثل ذلك في الغرابة قول صاحب " العناية شرح الهداية ": " وقوله: " وعليه إجماع الصحابة ". قيل: فيه نظر؛ لأن منهم من يقول بوجوب قراءة {الفَاتِحَة} . وأُجِيبَ بأن المراد به إجماع أكثر الصحابة؛ فإنه روي عن ثمانين نفراً من كبار الصحابة منع المقتدي عن القراءة خلف الإمام ". ثم قال: " وليس بشيء؛ لأن هذا المقدار ليس أكثر الصحابة. وموضع الغرابة تعيين هذا العدد بما ليس له مستند؛ فأين النص بذلك؟! ومن الذي اتصل بهذا العدد من الصحابة فأخبروه عن رأيهم في ذلك؟! ". وقد نقل هذا القول أيضاً العيني وغيره. قال أبو الحسنات (160) : " وهذا وأمثاله، وإن ذكره كبار الفقهاء؛ لكن أكثرهم ليسوا بمحدثين، ولم يسندوها بأسانيد معتبرة في الدين، ولا عَزَوْها إلى المخرجين المعتبرين؛ فكيف يطمئن به في إثبات أمر من أمور الدين؟! ". اهـ. وفي أمثال هؤلاء الفقهاء قال الشيخ علي القاري في " موضوعاته " (ص 85) : " حديث: " من قضى صلاة من الفرائض في آخر جمعة من شهر رمضان؛ كان ذلك جابراً لكل صلاة فاتته في عمره إلى سبعين سنة ". باطل قاطعاً؛ لأنه مناقض للإجماع، على أن شيئاً من العبادات لا يقوم مقام فائتة سنوات. ثم لا عبرة بنقل " النهاية "، ولا بقية شراح " الهداية ". فإنهم ليسوا من المحدثين، ولا أسندوا الحديث إلى أحد من المخرِّجين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ..............................................................................   وأي مخرِّج خرَّج هذا؟! وأي راو ٍروى هذا؟! ومجرد نسبته إليهم - حاشاهم عنه - من دون سند مسلسل محتج برواته مما لا يعتد به! وقريب من هذا القول: قول الحرمة، ووجوب ترك القراءة؛ فإنه مجرد دعوى لا بد من دليل وتعليل، ولا يختاره - بل ولا يذكره - إلا مثل الكيداني الذي عد الإشارة في التشهد من المحرمات! وقد رد عليه علي القاري المكي في رسالته: " تزيين العبارة بتحسين الإشارة " ورسالة: " التزيين بالتدهين " رداً بليغاً، وحقق ثبوت الإشارة - بل سنيتها - بالدلائل الواضحات. وأما القول بالكراهة التحريمية؛ فهو الذي ذهبت إليه جماعة غفيرة من الحنفية، واستدلوا عليها بدلائل سيأتي ذكرها، مع ما لها وما عليها؛ بحيث يتنبّه الجاهل، وَيَنْشَطُ الفاضل الكامل. وأحسن هذه الأقوال: هو القول الثالث، وهو - وإن كان ضعيفاً رواية؛ لكنه - قوي دراية - كما ستقف عليه - ". ثم ذكر أدلتهم في ذلك (ص 74 - 159) ، وناقشها، وبين ما لها وما عليها، وأقواها سنداً - بعد الآية الكريمة: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} حديثُ أبي هريرة في المنازعة، ثم حديثه: " وإذا قرأ؛ فأنصتوا "، ثم هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه - وقد بينا ونقلنا عنه أيضاً أن كل ذلك لا يدل على المنع من القراءة في السرية؛ إلا إن كان فيها تخليط وتشويش -، ثم بقية الأحاديث - وأكثرها ضعيفة الأسانيد؛ مع أنها كلَّها لا تدل على الحرام -. ثم قال: " فظهر أن قول أصحابنا بكفاية قراءة الإمام، وعدم افتراض القراءة للمأموم في غاية القوة، وكذا قولهم بكراهة القراءة مع قراءة الإمام في الجهر؛ بحيث يخل بالاستماع، أو بالحرمة، ووجوب السكوت عند ذلك، في نهاية الوثاقة ". قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ..............................................................................   " فإذن؛ ظهر حقَّ الظهور أن أقوى المسالك اتي سلك عليها أصحابنا هو مسلك استحسان القراءة في السرية، كما هو رواية عن محمد بن الحسن، واختارها جمع من فقهاء الزمن ". قال: " وهذا هو مذهب جماعة من المحدثين - جزاهم الله يوم الدين -، ومن نظر بنظر الإنصاف، وغاص في بحار الفقه والأصول، متجنباً الاعتساف؛ يُسلِّم تسليماً يقينياً أن أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف العلماء فيها، فمذهب المحدثين فيها أقوى من مذاهب غيرهم. وإني كلما أسير في شعب الاختلاف؛ أجد قول المحدثين فيه قريباً من الإنصاف، فلله درهم! وعليه شكرهم! كيف لا، وهم ورثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقاً، ونُوَّابُ شرعه صدقاً، حشرنا الله في زمرتهم، وأماتنا على حبهم وسيرتهم ". اهـ. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وُجُوبُ القراءةِ في السِّرِّيَّةِ وأما في السرية؛ فقد أقرهم على القراءة فيها، فقال جابر: " كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين الأوليين بـ: {فاتحة الكتاب} وسورة، وفي الأخريين بـ: {فاتحة الكتاب} " (*) . وإنما أنكر التشويش عليه بها، وذلك حين " صلى الظهر بأصحابه؛ فقال: " أيُّكم قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ؟ ". فقال رجل: أنا، [ولم أُرِدْ بها إلا الخير] . فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قد عرفت أن رجلاً خَالَجَنِيْها " (1) .   (*) انظر تخريجه (ص 369) . (1) هو من حديث عمران بن حُصين. أخرجه مسلم (2/11 - 12) ، وأبو عوانة، والبخاري في " جزئه " (9 و 10 و 11 و 22) ، وأبو داود (1/132) ، والنسائي (1/146) ، والدارقطني (155) ، والبيهقي (2/162) ، والطيالسي (114) ، وأحمد (4/226 و 431 و 441) (*) من طرق عن قتادة عن زُرارة بن أوفى عنه. وصرح قتادة بسماعه من زُرارة في رواية لمسلم وغيره، والزيادة له وللنسائي. وتابعه خالد الحَذَّاء عن زُرارة: عند الإمام أحمد (4/433) . وزاد البخاري، وأبو داود، والدارقطني، وغيرهم: قال شعبة: فقلت لقتادة: كأنه كرهه؟ فقال: لو كرهه؛ لنهى عنه. وهذه الزيادة الصحيحة تدل على بطلان ما زاده الحجاج بن أرطاة عن قتادة في آخر الحديث بلفظ:   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع للسراج أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وفي حديث آخر: " كانوا يقرؤون خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [فيجهرون به] ، فقال: " خلطتم عليَّ القرآن " ".   فنهاهم عن القراءة خلف الإمام. أخرجه الدارقطني (124 و 155) ، وكذا البيهقي، وحكما بأنها وهم من الحجاج؛ قال الدارقطني: " وحجاج: لا يحتج به ". وللحديث شواهد: منها: عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوم كانوا يقرؤون القرآن، فيجهرون به: " خَلَطْتُم عليَّ القرآن ". أخرجه البخاري في " جزئه " من طريق النضر قال: أنبأنا يونُس عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عنه. وأخرجه أحمد (1/451) من طريق أبي أحمد الزبيري - وكذا الطحاوي (1/128) -: ثنا يونس بن أبي إسحاق به بلفظ: كانوا يقرؤون خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال: " خَلَطْتُم عليَّ القرآن ". وذكره بهذا اللفظ الهيثمي في " المجمع " (2/110) ، ثم قال: " رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجال أحمد رجال " الصحيح ". يعني: " صحيح مسلم "؛ فقد احتج بهم جميعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 ..............................................................................   وإسناده عندي حسن؛ إن كان يونس سمعه من أبيه قبل أن يختلط. وابنه يونس: صدوق يهم قليلاً - كما في " التقريب " -. وقد علقه البخاري في " أفعال العباد " (94) مجزوماً به. ومنها: عن أبي هريرة أن عبد الله بن حُذافة صلى، فجهر بالقراءة؛ فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا ابن حذافة! لا تُسْمِعني، وأسمع اللهَ عز وجل ". أخرجه البيهقي (2/162) ، وأحمد (2/326) ، وابن نصر (53) عن النعمان بن راشد عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عنه. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات رجال مسلم، غير أن النعمان بن راشد فيه ضعف؛ كما قال النسائي، وفي " التقريب ": " صدوق سيئ الحفظ ". فهو إسناد حسن. وأما قول العراقي - فيما نقله الشوكاني (3/50) -: " صحيح ". فغير صحيح. وفي " المجمع ": " وعن جَهْرٍ قال: قرأت خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انصرفت؛ قال: " جهرُ! أَسْمعْ ربك، ولا تُسْمِعني ". رواه الطبراني في " الكبير "، وفيه عبد الله بن جهر: لم أجد من ذكره ". ثم ذكره في موضع آخر (2/265) مثل الرواية الأولى، ثم قال: " رواه أحمد، والبزار، والطبراني في " الكبير "؛ إلا أنه قال: عن أبي سلمة: أن عبد الله بن حذافة. ورجال أحمد رجال " الصحيح " ". قوله - في حديث عمران -: " خالجنيها "؛ أي: نازَعَنِيها. وأصل (الخَلْج) : الجذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ..............................................................................   والنزع - كما في " النهاية " -. وقال الخطابي: " وإنما أنكر عليه محاذاته في قراءة السورة، حتى تداخلت القراءتان وتجاذَبَتا ". وقال النووي في " شرح مسلم ": " ومعنى هذا الكلام: الإنكار عليه في جهره، أو رفع صوته، بحيث أسمع غيره، لا عن أصل القراءة؛ بل فيه أنهم كانوا يقرؤون بالسورة في الصلاة السرية، وفيه إثبات قراءة السورة في الظهر للإمام والمأموم. وهكذا الحكم عندنا، ولنا وجه شاذ ضعيف: أنه لا يقرأ المأموم السورة في السرية، كما لا يقرؤها في الجهرية! وهذا غلط؛ لأنه في الجهرية يؤمر بالإنصات، وهنا لا يسمع؛ فلا معنى لسكوته من غير استماع، ولو كان في الجهرية بعيداً عن الإمام لا يسمع قراءته؛ فالأصح أنه يقرأ السورة؛ لما ذكرناه ". اهـ. فثبت من ذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرهم على القراءة في هذه الصلاة، وهي سرية؛ فدلَّ على استحباب القراءة في السرية وراء الإمام. وفيها من الفضل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قرأ حرفاً من كتاب الله؛ فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {الم} حرف، ولكن (ألف) حرف، و (لام) حرف، و (ميم) حرف ". أخرجه الترمذي (2/149 - 150) من طريق أيوب بن موسى قال: سمعت محمد بن كعب القُرَظي قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ... فذكره مرفوعاً. وقال: " حسن صحيح ". قلت: وهو على شرط مسلم. ثم قال: " ويروى من غير هذا الوجه عن ابن مسعود. ورواه أبو الأحوص عن ابن مسعود؛ رفعه بعضهم، ووقفه بعضهم ". قلت: رواه من هذا الوجه الدارمي (2/429) من طريق سفيان عن عطاء بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ..............................................................................   السائب عن أبي الأحوص به موقوفاً. وإسناده صحيح أيضاً، ولا يضر كونه موقوفاً؛ لأنه من طريق غير الطريق الأول، بل هو قوة له - كما لا يخفى -. {وهو مخرج في " الصحيحة " (660) } (*) . وهو نص عام يشمل القراءة في الصلاة وخارجها، وشموله لها من باب أولى. فليس من المعقول إذن أن تتسنى للمصلي فرصة ينال فيها هذا الفضل العظيم، ثم يضيعها، ويشغل باله بالتفكير بأمور لا تليق بالصلاة وجلالها. {وأما حديث: " من قرأ خلف الإمام؛ مُلئَ فوه ناراً ". فموضوع، وبيانه في " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (569) } . ومما يدل على استحباب القراءة في السرية للمقتدي: قول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين الأوليين بـ: {فاتحة الكتاب} وسورة، وفي الأخريين بـ: {فاتحة الكتاب} . أخرجه ابن ماجه (1/278) . قال السندي: " في " الزوائد ": قال المزي: موقوف. ثم قال: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. وقد يقال: الموقوف في هذا الباب حكمه الرفع، إلا أن يقال: يمكن أنهم أخذوا ذلك من العمومات الواردة في الباب؛ فلا تدل قراءتهم على الرفع ". اهـ.   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع إلى {الحاكم بسند صحيح، ورواه الآجري في " آداب حملة القرآن "} ، وفي إدراجهما أعلاه تفصيل لا مجال له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وقال: " إن المصلِّي يناجي ربه؛ فلينظر بما يناجيه به. ولا يجهرْ بعضكم على بعض بالقرآن (1) " (2)   (1) قال الباجي: " لأن في ذلك أذى ومنعاً من الإقبال على الصلاة، وتفريغ السرِّ لها، وتَأَمُّلَ ما يناجي به ربه من القرآن ". قال: " وإذا كان رفع الصوت بقراءة القرآن ممنوعاً حينئذٍ لأذى المصلين؛ فبغيره من الحديث وغيره أولى. قال ابن عبد البر: وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر، وتلاوة القرآن؛ فأذاه في غير ذلك أشد تحريماً ". (2) هو من حديث البَيَاضي - واسمه: فروة بن عمرو -. أخرجه مالك (1/101 - 102) ، ومن طريقه البخاري في " أفعال العباد " (93) - وله فيه متابع عن محمد -، وأحمد (4/344) عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي حازم التَّمَّار عنه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة؛ فقال: ... فذكره. وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين إلى البياضي. وله شاهد: رواه عبد الرزاق: ثنا مَعْمَر عن إسماعيل بن أمية عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال: اعتكف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قُبّةٍ له؛ فكشف الستور، وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ..............................................................................   " ألا إن كلكم مناج ربه؛ فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفعن بعضكم على بعض بالقراءة ". أو قال: " في الصلاة ". أخرجه أحمد (3/94) ، وأبو داود (1/209) . وهذا أيضاً صحيح على شرط الشيخين. وقد صحح الحديثين ابنُ عبد البر. وصحح حديثَ أبي سعيد النووي أيضاً في " المجموع " (3/292) ، والحاكم (1/311) على شرطهما، ووافقه الذهبي. وأخرجه أحمد (2/67 و 129) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل يدعى: (صدوع) - وفي نسخة: (صدقة) - عن ابن عمر به نحوه. وذكره في " المجمع " (2/265) ؛ فقال: " رواه أحمد، والبزار، والطبراني في " الكبير "، وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام ". قلت: ولم يتفرد به؛ قال أحمد (2/36) : ثنا إبراهيم بن خالد: ثنا رَبَاح عن مَعْمَر. عن صَدَقَة المكي به. وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن علة الحديث صدقة هذا؛ فلم أعرفه (*) ، إلا أن يكون صدقة بن عمرو المكي؛ قال في " الميزان ": " روى عن عطاء، ولم يحدث عنه سوى الوليد بن مسلم ". وأورده في " التقريب " تمييزاً، وقال:   (*) هو: صدقة بن يسار الجزري؛ كما في " تهذيب الكمال " (13/155) ، وهو ثقة من رجال مسلم. انظر " المشكاة " (1/271) ، و " صحيح أبي داود " (1/359) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وكان يقول: " من قرأ حرفاً من كتاب الله؛ فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {الم} حرف؛ ولكن: (أَلِف) حرف، و (لام) حرف، و (ميم) حرف " (*) .   " مجهول من السادسة ". لكن قد روى عنه معمر وابن أبي ليلى أيضاً، وهذا يدل أنه غيره؛ إذا صح كلام الذهبي فيه. والله أعلم. وروى أحمد أيضاً (1/87 - 88 و 96 - 97 و 104) ، وكذا أبو يعلى من طريق الحارث عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يرفع الرجل صوته بالقراءة قبل العشاء وبعدها؛ يغلّط أصحابه وهم يصلون. وإسناده ضعيف - كما قال ابن عبد البر -؛ علته من الحارث هذا - وهو: الأعور -؛ ضعيف - كما في " المجمع " -. (*) انظر تخريجه (ص 368) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 التَّأمِينُ، وجَهْرُ الإمامِ به ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انتهى من قراءة {فاتحة الكتاب} ؛ قال: " آمين ". يجهر، ويمد بها صوته " (1)   (1) جاء في ذلك أحاديث: الأول: عن وائل بن حُجُر، وله طرق: 1- عن سفيان الثوري عن سَلَمة بن كُهَيل عن حُجر بن عَنْبَس عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ: {وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ قال: " آمين ". ورفع بها صوته. أخرجه البخاري في " القراءة " (20) ، وأبو داود (1/148) ، والترمذي (2/27) ، والدارمي (1/284) ، والدارقطني (127) ، والبيهقي (2/57) ، وأحمد (4/316) من طرق عن سفيان به. وقال الترمذي وأحمد: و (مدّ) .. بدل: (ورفع) . وهي رواية للبخاري، والدارقطني، والبيهقي. وقال الترمذي: " حديث حسن " - وكذا قال الحافظ في " تخريج أحاديث الكشاف " (3) -، والدارقطني: " صحيح ". وهو كما قال؛ فرجاله ثقات رجال الشيخين، غير حُجر بن العَنْبَس، وهو ثقة مشهور - كما قال ابن معين -. وقال الحافظ في " التلخيص " (3/348) : " رواه الترمذي، وأبو داود، والدارقطني، وابن حبان من طريق الثوري به ". قال: " وسنده صحيح، وصححه الدارقطني، وأعله ابن القطان بحجر بن عنبس، وأنه لا يُعرف. وأخطأ في ذلك؛ بل هو ثقة معروف - قيل: له صحبة، - ووثقه يحيى بن معين وغيره ". اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ..............................................................................   وتابعه العلاء بن صالح الأسدي عن سلمة. أخرجه الترمذي (2/29) . وعلي بن صالح: عند أبي داود، ولفظه: فجهر بآمين. وسنده صحيح. وخالفهم شعبة عن سلمة؛ فقال: خفض بها صوته. أخرجه الطيالسي (138) ، وأحمد (316) . قال الدارقطني: " كذا قال شعبة. ويقال: إنه وهم فيه؛ لأن سفيان الثوري، ومحمد بن سلمة بن كُهيل - وغيرهما - رَوَوْه عن سلمة؛ فقالوا: ورفع صوته بآمين ". وهو الصواب. وكذا قال البخاري، والترمذي، والبيهقي وغيرهم؛ أن الصواب: لفظ سفيان وغيره، وأن شعبة أخطأ فيه؛ على أن أبا الوليد الطيالسي رواه عن شعبة بنحو رواية الثوري. أخرجه البيهقي (2/581) بلفظ: قال: " آمين ".- رافعاً بها صوته -. فرجع حديثه إلى حديث الثوري، وهو الأصح - كما قال الحافظ؛ وسبقه إلى ذلك ابن القيم في " إعلام الموقعين " ( [2/396] ) -. 2- عن أبي إسحاق عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه به بلفظ الأول. أخرجه النسائي (1/140 و147) ، وابن ماجه (1/281) ، والدارقطني، والبيهقي، وأحمد (4/318) ، وقال: يجهر. ثم قال الدارقطني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 ..............................................................................   " هذا إسناد صحيح ". قلت: كذا قال! وهو منقطع؛ فإن عبد الجبار لم يسمع من أبيه - كما سبق ذكره -. 3- قال أحمد (4/318) : ثنا أسود بن عامر: ثنا شَرِيك عن أبي إسحاق عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بآمين. وأخرجه البيهقي. وإسناده حسن. الحديث الثاني: عن أبي هريرة، وله عنه طريقان: 1- عن بشر بن رافع عن أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة عن أبي هريرة قال: ترك الناس التأمين، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قال: {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ قال: " آمين ". حتى يسمعها أهل الصف الأول؛ فيرتج بها المسجد. أخرجه أبو داود، وابن ماجه واللفظ له. قال الحافظ أبو زرعة (2/268) : " وإسناده جيد ". وفيه نظر. قال الحافظ (3/350) : " وبشر بن رافع: ضعيف. وابن عم أبي هريرة: قيل: لا يعرف. وقد وثقه ابن حبان ". 2- عن إسحاق بن إبراهيم الزُّبيَدي: أخبرني عمرو بن الحارث: ثنا عبد الله بن سالم عن الزُّبيدي قال: ثني الزُّهْري عن أبي سَلَمة وسعيد: أن أبا هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من قراءة {أم القرآن} ؛ رفع صوته فقال: " آمين ". أخرجه الدارقطني، والحاكم (1/223) ، والبيهقي. وقال الدارقطني: " هذا إسناد حسن ". وأما الحاكم؛ فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ..............................................................................   " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. فوهما؛ لأن إسحاق بن إبراهيم هذا لم يخرج له في " الصحيحين "، وإنما روى له البخاري في " الأدب المفرد " خارج " الصحيح "، ثم هو مختلف فيه، وفي " التقريب ": " صدوق يهم كثيراً ". فحديثه حسن - كما قال الدارقطني - بالطريق الذي قبله. ويشهد له ويقويه: الطريق الثالث في: الحديث الثالث: عن بحر السقاء عن الزهري عن سالم عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ قال: " آمين ". ورفع بها صوته. وعن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه. أخرجه الدارقطني، وقال: " بحر السقاء: ضعيف ". الحديث الرابع: عن إسماعيل بن مسلم عن أبي إسحاق عن ابن أم الحُصَين عن أمه: أنها صلّت خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قال: {وَلَا الضَّالِّيِنَ} ؛ قال: " آمين ". فسمعته وهي في صف النساء. رواه إسحاق بن راهويه في " مسنده " - كما في " نصب الراية " (1/371) -، والطبراني في " الكبير " - كما في " المجمع " (2/114) -، وقال: " وإسماعيل بن مسلم المكي: ضعيف ". وبالجملة؛ فهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً، ولو لم يكن في الباب إلا حديث وائل؛ لكفى. وفيه مسائل: الأولى : أنه يشرع التأمين للإمام. وهو مذهب الجمهور من العلماء، وخالف في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 .............................................................................   ذلك أبو حنيفة في رواية؛ فقال: " يُؤَمّن مَن خلف الإمام، ولا يؤمن الإمام ". ذكره تلميذه محمد في " الموطأ " (103) ، ثم خالفه؛ فقال: " ينبغي إذا فرغ الإمام من {أم الكتاب} أن يُؤَمّن الإمام، ويؤمن من خلفه، ويجهرون بذلك ". اهـ. وقد روي عن مالك مثلُ ما ذكرنا عن أبي حنيفة، وفي رواية عن مالك: " لا يُؤَمِّن في الجهرية فقط ". وأحاديث الباب تَرُدُّ عليهما - كما قال الشوكاني (2/186) -، فلا جرم أن أطبقت كتب المتون على مخالفة هذه الرواية عن أبي حنيفة؛ ففيها: " ويُؤَمِّن الإمام والمأموم ". المسألة الثانية : أن الحديث دليل على أن السنة في حق الإمام أن يرفع صوته بالتأمين. قال الترمذي: " وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتابعين، ومن بعدهم؛ يرون أن الرجل يرفع صوته بالتأمين، ولا يخفيها، وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق " (1) . اهـ.   (1) قال عبد الله بن أحمد في " مسائله ": " سألت أبي عن الجهر بآمين؟ فقال: يُسمع من خلفه ". وقال إسحاق بن منصور المروزي في " مسائله ": " قال إسحاق بن راهويه: وأما الجهر بآمين؛ فإنه سنة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه من بعده؛ وذلك ليوافق تأمينه تأمين الملائكة، وهو على الإمام ألزم، وعليه أن يجهر جهراً يُسمع من يليه فقط، وإن زاد على ذلك حتى يُسمع آخر الصفوف؛ فَحَسنٌ أيضاً، لما ذكر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " آمين ". حتى أَسمعَ صف النساء، وهو خلف الرجال. فلا بد من ذلك أَمَّ أو مأموم (*) ، وإياك أن ترائي الناس، أو تدعه استحياء، أو خوفاً من أن تُنسب إلى مكروه؛ فإن الله لا يستحيي من الحق ". [التعليق] (*) قال مُعِد الكتاب للشاملة: العبارة [فلا بد من ذلك أَمَّ أو مأموم] ، فيها نقص وغير مفهومة ورجعت لكتاب صفة الصلاة المطبوع فلم أجدها ووجدت في كتاب [مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية - برواية إسحاق بن منصور المروزي: ص 547 - 550] 211- قال إسحاق: وأما الجهر بآمين فإنه سنة من (النبي صلى الله عليه وسلم) وأصحابه (رضي الله عنهم) من بعده وذلك ليوافق تأمينهم تأمين الملائكة، وهو على الإمام ألزم، وعليه أن يجهر جهراً حتى يسمع من يليه (فقط) ، وإن زاد على ذلك حتى يسمع آخر الصفوف فحسن أيضاً؛ لما ذكر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: آمين حتى أسمع صف النساء وهن خلف الرجال فلا يدعن ذلك إمام ولا مأموم لحال ترك الناس، أو يدعه استحياء، أو خوفاً من أن ينسب إلى مكروه، فإن الله (عز وجل) لا يستحي من الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ..............................................................................   وخالف في ذلك علماؤنا؛ فقالوا: " إنه يسر بالتأمين الإمامُ وغيره ". والحق أنه ليس لهم حجة في ذلك؛ إلا حديث شعبة: وخفض بها صوته. وقد علمت أنه خطأ، مخالف لمن هو أحفظ منه وأكثر عدداً، ومعارض لجميع الأحاديث التي ذكرناها؛ ولذلك لم يَسع ابنَ الهمام إلا أن قال (307) : " ولو كان إليَّ في هذا شيء؛ لوفَّقْتُ بأن رواية الخفض يراد بها: عدم القرع العنيف، ورواية الجهر: بمعنى قولها في زير الصوت وذيله ". ثم استدل على ذلك بحديث أبي هريرة: فيرتج بها المسجد. قال: " وارتجاجه: إذا قيل في اليم؛ فإنه الذي يحصل عنه دوي - كما يشاهد في المساجد -؛ بخلاف ما إذا كان يقرع، وعلى هذا فينبغي أن يقال على هذا الوجه: لا يقرع - كما يفعله بعضهم - ". اهـ. وتأمل ما تحت قوله: " ولو كان إليَّ في هذا شي ". من الاحتياط في عدم التصريح بمخالفة المذهب؛ مما لا نرضاه له ولأمثاله من محققي العلماء، وقد جهر بالحق من علمائنا أبو الحسنات اللكنوي؛ حيث قال: " والإنصاف أن الجهر قوي من حيث الدليل، وقد أشار إليه ابن أمير حاج في " الحَلْبة "؛ حيث قال: ... " فذكر كلامه. وفيه: " ورجح مشايخنا ما للمذهب بما لا يعرى عن شيء لمتأمله ". انتهى. المسألة الثالثة : هل يجهر المؤتمون بها؟ فيه خلاف؛ فذهب إسحاق - كما سبق - إلى أنهم يجهرون بها، وهو مذهب الشافعي القديم؛ كما في " الفتح " (2/212) وغيره قال: " وعليه الفتوى. وقال الرافعي: قال الأكثر: في المسألة قولان؛ أصحهما أنه يجهر ". قلت: وقال النووي في " صحيح مسلم ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 ..............................................................................   " وهو الصحيح من مذهبنا ". وإليه ذهب ابن القيم في " إعلام الموقعين " (3/7) ، وقال: " قال الربيع: سئل الشافعي عن الإمام: هل يرفع صوته بآمين؟ قال: نعم، يرفع بها من خلفه أصواتهم. فقلت: وما الحجة؟ فقال: أنبأنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عطاء: كنت أسمع الأئمةَ: ابنَ الزبيرِ ومَنْ بعده يقولون: آمين. ومن خلفهم: آمين. حتى إن للمسجد لَلجُّة ". قلت: هذا الأثر أخرجه البيهقي (2/59) من طريق الربيع. ثم أخرج هو وابن حبان في كتاب " الثقات " - على ما في " التعليق المغني " - من طريق مطرف عن خالد بن أبي نَوْف (*) - وفي البيهقي: أيوب. وهو تحريف - عن عطاء قال: أدركت مئتين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا المسجد؛ إذا قال الإمام: {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ سمعت لهم رجة بـ (آمين) . ولكن في ثبوت هذين الأثرين نظر: أما الأول: ففيه علتان: الأولى: عنعنة ابن جريج، وهو مدلس. والثانية: ضعف مسلم بن خالد - وهو: الزنجي المكي الفقيه -؛ وقد ساق له الذهبي في " الميزان "، والحافظ في " التهذيب " أحاديثَ مناكيرَ، ثم قال الذهبي: " فهذه الأحاديث وأمثالها تُرَدُّ بها قوة الرجل، ويضعف ". وقال الحافظ في " التقريب ": " صدوق كثير الأوهام ".   (*) في أصل الشيخ رحمه الله هنا وفي الصفحة الآتية: " أنوف ". والصواب ما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ..............................................................................   وأما الأثر الثاني: فعلته جهالة خالد بن أبي نوف؛ فإنه لم يرو عنه إلا اثنان: أحدهما: مطرف هذا - وهو: ابن طريف -، والآخر: يونس بن أبي إسحاق. فهو في عداد مجهولي العدالة، وتوثيق ابن حبان له لا يفيد؛ لما علم من تساهله في التوثيق. فظهر من هذا البيان أنهما أثران لا يصلح الاحتجاج بهما، ولعله من أجل ذلك رجع الشافعي عن قوله القديم؛ فقال في الجديد: إن المؤتم لا يجهر بآمين. ونصه في " الأم " (1/65) : " فإذا فرغ الإمام من قراءة {أم القرآن} ؛ قال: آمين. ورفع بها صوته؛ ليقتديَ بها من خلفه. فإذا قالها؛ قالوها، وأسمعوا أنفسهم، ولا أحب أن يجهروا بها، فإن فعلوا؛ فلا شيء عليهم ". اهـ. وبهذا نأخذ إن شاء الله تعالى؛ لما سبق، وأيضاً لم يذكر أحد ممن روى جهره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتأمين أن الصحابة كانوا يجهرون بها وراءه، فلو كانوا يفعلون ذلك؛ لنقلوه إلينا، لا سيما وأن الجهر بها خلاف الأصل. قال تعالى (7/55) : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} ؛ فلا يجوز الخروج عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح. وقد خرَجنا عنه فيما يتعلق بجهر الإمام؛ لثبوت ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيبقى ما عداه على الأصل. وبالله التوفيق. ثم إني بعد كتابة ما تقدم رأيت ابن حزم قد أخرج الأثر في " المحلى " (3/364) إلى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أكان ابن الزبير يؤمّن على أثر {أم القرآن} ؟ قال: نعم، ويؤمّن من وراءه حتى إن للمسجد للجة. قال عطاء: وكان أبو هريرة يدخل المسجد وقد قام الإمام قبله، فيقول ويناديه: لا تسبقني بـ (آمين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ..............................................................................   قال عطاء: ولقد كنت أسمع الأئمة يقولون هم أنفسهم على أَثَر {أم القرآن} : (آمين) ، هم ومن وراءهم؛ حتى إن للمسجد للجة. فهذا الإسناد صحيح، ولكن لا حجة فيه؛ لأنه ليس مرفوعاً إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعلقه البخاري في " صحيحه "، ووصله الشافعي (1/65) (*) . المسألة الرابعة : قال الحافظ أبو زرعة في " شرح التقريب " (2/269) :   (*) (تنبيه) : قال الشيخ رحمه الله تعالى في " الضعيفة " (2/369) : " وهو في " مصنف عبد الرزاق " برقم (2640/ج 2) ، ومن طريقه ابن حزم في " المحلى " (3/364) . فقد صرح ابن جريج في هذه الرواية أنه تلقى ذلك عن عطاء مباشرة؛ فأمِنَّا بذلك تدليسه، وثبت بذلك هذا الأثر عن ابن الزبير. وقد صح نحوه عن أبي هريرة؛ فقال أبو رافع: إن أبا هريرة كان يؤذن لمروان بن الحكم، فأشترط أن لا يسبقه بـ: {الضَّالِّينَ} حتى يعلم أنه قد دخل الصف. فكان إذا قال مروان: {وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ قال أبو هريرة: {آمين} يَمُدُّ بها صوته، وقال: إذا وافق تأمينُ أهل الأرض تأمين أهل السماء؛ غفر لهم. أخرجه البيهقي (2/59) . وإسناده صحيح. فإذا لم يثبت عن غير أبي هريرة وابن الزبير من الصحابة خلاف الجهر الذي صح عنهما؛ فالقلب يطمئن للأخذ بذلك أيضاً، ولا أعلم الآن أثراً يخالف ذلك. والله أعلم ". وقال رحمه الله تعالى في " تمام المنة " (ص 178) : " فملت ثمة إلى اتباعهما في ذلك، ثم رأيت الإمام أحمد قال به - فيما رواه ابنه عبد الله عنه في " مسائله " (72/259) - ". وقال رحمه الله في مطبوع " صفة الصلاة " (ص 102) : " (فائدة) : تأمين المقتدين وراء الإمام يكون جهراً ومقروناً مع تأمين الإمام؛ لا يسبقونه به - كما يفعل جماهير المصلين -، ولا يتأخرون عنه. هذا هو الذي ترجح عندي أخيراً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وكان يأمر المقتدين بالتأمين بُعَيْدَ تأمين الإمام؛ فيقول: " إذا قال الإمام: {غَيْرِ المُغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ فقولوا (1) : آمين؛ [فإن الملائكة تقول: آمين. وإن الإمام يقول: آمين] ، (وفي لفظ: إذا أمَّن الإمام؛ فأمِّنوا) ؛ فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة، (وفي لفظ آخر: إذا   " المستحب الاقتصار على التأمين عقب {الفَاتِحَة} من غير زيادة عليه؛ اتباعاً للحديث، وأما ما رواه البيهقي من حديث وائل بن حُجْر: أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: {غَيْرِ المُغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: " رب اغفر لي، آمين ". فإن في إسناده أبا بكر النهشلي، وهو ضعيف ". قلت: هو في " سنن البيهقي " (2/58) من طريق أحمد بن عبد الجبار العُطارِدي: ثنا أبي عن أبي بكر النهشلي عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله اليَحْصَبي عن وائل به. ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني أيضاً - كما في " المجمع " -، وأعله بأحمد بن عبد الجبار هذا؛ فقال: " وثقه الدارقطني، وأثنى عليه أبو كُريب، وضعفه جماعة، وقال ابن عدي: لم أَرَ له حديثاً منكراً ". وفي " التقريب ": هو " ضعيف ". وقال في ترجمة أبي بكر النهشلي: " صدوق، رمي بالإرجاء ". قلت: فإعلاله بالعُطارِدي - كما صنع الهيثمي - أولى من إعلاله بالنهشلي. (1) حمل الجمهور هذا الأمر على الندب، ومنهم ابن حزم في " المحلى " (3/262) . قال الحافظ (2/210) : " وحكى ابنُ بَزِيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم؛ عملاً بظاهر الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 قال أحدكم (1) في الصلاة: آمين. والملائكةُ في السماء: آمين. فوافق أحدهما الآخر) ؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه (2) " (3) . وفي حديث آخر:   قال: وأوجبه الظاهرية على كل مصل ". قال الشوكاني (2/187) : " والظاهر من الحديث الوجوب على المأموم فقط، لكن لا مطلقاً؛ بل مقيداً بأن يُؤَمِّن الإمام. وأما الإمام والمنفرد؛ فمندوب فقط ". اهـ. قال الحافظ أبو زرعة [العراقي] (2/266) : " في الحديث رد على الإمامية؛ في دعواهم أن التأمين في الصلاة مبطل لها، وهم في ذلك خارقون لإجماع السلف والخلف، ولا حجة لهم في ذلك؛ لا صحيحة ولا سقيمة ". اهـ. وقال الخطابي (1/224) : " معنى الحديث: قولوا مع الإمام؛ حتى يقع تأمينكم وتأمينه معاً. فأما قوله: " إذا أمن الإمام؛ فأمنوا "؛ فإنه لا يخالفه، ولا يدل على أنهم يؤخرونه عن وقت تأمينه، وإنما هو كقول القائل: إذا رحل الأمير؛ فارحلوا. يريد: إذا أخذ الأمير في الرحيل، فتهيأوا للارتحال؛ ليكون رحيلكم مع رحيله، وبيان هذا في الحديث الآخر: " إن الإمام يقول: آمين؛ والملائكة تقول: آمين. فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه ". فأحب أن يجتمع التأمينان في وقت واحد؛ رجاءَ المغفرة ". اهـ. (1) فيه استحباب التأمين للمنفرد والمأموم أيضاً؛ لعموم قوله: " أحدكم ". قال صاحب " المفهم ": " وقد اتفقوا على أن الفذَّ يُؤَمِّن مطلقاً، والإمام والمأموم فيما يُسِرّان فيه يُؤَمِّنان ". كذا في " طرح التثريب " (2/267) . (2) وأما زيادة: " وما تأخر ". فشاذة ضعيفة في هذا الحديث - كما بينه الحافظ في " الفتح " (2/211) -، ومثلها: " غفر لمن في المسجد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ..............................................................................   (3) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وله ألفاظ، وقد ذكر منها ما يناسب المقام، وله طرق: الأول: عن سُمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عنه. أخرجه مالك (1/111) ، ومن طريقه البخاري (2/212 و 8/130) وفي " جزئه " (20) ، وأبو داود (1/148) ، والنسائي (1/147) ، والبيهقي (2/55) ، وأحمد (2/459) - كلهم عن مالك - عنه به. وأخرجه مسلم (2/18) عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه به. ثم أخرجه هو (2/20) ، وأحمد (2/440) عن الأعمش عن أبي صالح نحوه. بلفظ: " غفر لمن في المسجد ". وليس هذا عند مسلم. الثاني: عن مَعْمَر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به. وفيه الزيادة. أخرجه النسائي، والدارمي (1/284) ، وعبد الرزاق في " مصنفه " - كما في " نصب الراية " (1/368) -، ومن طريقه رواه ابن حبان في " صحيحه "، وكذا أحمد في " مسنده " (2/270) . وإسناده صحيح على شرط الشيخين. {وعزا الزيادة الحافظ في " الفتح " لأبي داود أيضاً! وهو وهم} ورواه البخاري (11/167) ، والنسائي، والبيهقي، وأحمد (2/238) ، وكذا ابن ماجه عن ابن عيينة عن الزهري باللفظ الأول. وللزهري فيه شيخ آخر بلفظ آخر، وهو اللفظ الثاني في الكتاب، وهو الطريق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ..............................................................................   الثالث: عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن: أنهما أخبراه عن أبي هريرة به. أخرجه مالك أيضاً (1/108) ، وعنه البخاري (2/209) ، ومسلم (2/17) ، ومحمد في " موطئه " (103) ، وأبو داود، والنسائي، وكذا الترمذي (2/30) ، والبيهقي (2/55 و 57) ، وأحمد (2/459) - كلهم عن مالك - به. ورواه مسلم، وابن ماجه (1/280) من طريق يونس عن الزهري به. ثم أخرجه ابن ماجه، وأحمد (2/233) من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن الزهري به باللفظ الأول. وفيه الزيادة. وأخرجه النسائي، والدارمي، والبيهقي، وأحمد (2/449) عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة وحده به. بدون الزيادة. الرابع: عن ابن وهب: أخبرني عمرو: أن أبا يونُس حدثه عن أبي هريرة باللفظ الثالث. تفرد به مسلم. الخامس: عن أبي الزناد عن الأعرج عنه بهذا اللفظ. دون قوله: " في الصلاة ". أخرجه مالك (1/111) ، وعنه الشيخان، والنسائي، والبيهقي، وأحمد (2/459) . السادس: عن عبد الرزاق عن معمر عن هَمّام بن مُنَبّه عنه به. أخرجه مسلم، وأحمد (2/312) . السابع: عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبي علقمة عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ..............................................................................   وسنده صحيح؛ كما سبق في (القيام) في أثناء حديث (*) . واعلم أن البخاري ترجم لهذا الحديث بـ: (باب جهر الإمام بالتأمين) . وكذلك ترجم له ابن ماجه، والنسائي. قال السندي: " أخذ منه المصنف الجهر بآمين، إذ لو أسر الإمام بآمين؛ لَمَا عَلِمَ القومُ بتأمين الإمام، فلا يحسن الأمر إياهم بالتأمين عند تأمينه. وهذا استنباط دقيق يرجحه ما سبق من التصريح بالجهر، وهذا هو الظاهر المتبادر (1) . نعم؛ قد يقال: يكفي في الأمر معرفتهم لتأمين الإمام بالسكوت عن القراءة. لكن تلك معرفة ضعيفة؛ بل كثيراً ما يسكت الإمام عن القراءة، ثم يقول: آمين؛ بل الفصل بين القراءة والتأمين هو اللائق؛ فيتقدم تأمين المقتدي على تأمين الإمام إذا اعتمد على هذه الأمارة، ولكن رواية: " إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} ... " ربما يرجح هذا التأويل، فليتأمل. والأقرب أن أحد اللفظين من تصرفات الرواة. وحينئذٍ فرواية: " إذا أمَّن " أشهر وأصح؛ فهي أشبه أن تكون الأصل. والله أعلم ". اهـ.   (*) انظر (ص 87) . (1) {والزيادة تبطل الاحتجاج بالحديث على أن الإمام لا يؤمن، كما يروى عن مالك، ولذلك قال الحافظ: " وهو صريح في كون الإمام يؤمن ". قلت: ويشهد له اللفظ الثاني. قال ابن عبد البر في " التمهيد " (7/13) : " وهو قول جمهور المسلمين، ومنهم مالك في رواية المدنيين عنه؛ لصحته عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث أبي هريرة (يعني: هذا) ووائل بن حُجْر ". يعني الذي قبله} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 " فقولوا: آمين؛ يُجِبْكُم (1) الله " (2) . وكان يقول:   (1) هو بالجيم؛ أي: يستجيب دعاءكم. وهذا حث عظيم على التأمين؛ فيتأكد الاهتمام به. قاله النووي. (2) هو من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبنا؛ فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: " إذا صليتم؛ فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبَّر؛ فكبِّروا، وإذا قال: {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ فقولوا: آمين؛ يُجِبْكُم الله، فإذا كبَّر وَركَعَ؛ فكبِّروا، واركعوا؛ فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم ". فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فتلك بتلك، وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: اللهم! ربنا لك الحمد؛ يسمع الله لكم؛ فإن الله تبارك وتعالى قال على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمع الله لمن حمده، وإذا كبَّر وسجد؛ فكبِّروا واسجدوا، فإن الإمام يسجد قبلكم، ويرفع قبلكم ". فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فتلك بتلك، وإذا كان عند القَعْدة؛ فليكن من أول قول أحدكم: التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ". أخرجه مسلم (2/14 - 15) ، وأبو عوانة (2/128) ، وأبو داود (1/153 - 154) ، والنسائي (1/162 و 175 و 188) ، والدارمي (1/315) ، والبيهقي (2/140 - 141) ، {والروياني في " مسنده " (24/119/1) } ، وأحمد (4/409) من طرق عن قتادة عن يونس بن جُبير عن حِطّان بن عبد الله الرَّقَاشي عنه. وروى منه ابن ماجه (1/292) ، والطحاوي (1/156) ، والدارقطني (134) قضية التشهد فقط، وهو رواية للنسائي (1/132) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 " ما حَسَدَتْكُم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين (1) [خلف الإمام] " (2) .   وفي رواية للدارمي (1/300 - 301) ، والبيهقي (2/96) ، وأحمد (4/401، 405) إلى قوله: " تلك بتلك ". وزاد أبو داود وغيره: " وإذا قرأ؛ فأنصتوا ". وهذه زيادة صحيحة. وقد سبق الكلام عليها في موضعه (1) . (1) لما علموا من فضلهما وبركتهما. أي: فاللائق بكم الإكثار منهما. قاله السندي. (2) صح هذا عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم (*) ؛ وهم: عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، ومعاذ بن جبل: أما حديث عائشة: فأخرجه ابن ماجه (1/281) : ثنا إسحاق بن منصور: أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث: ثنا حماد بن سلمة: ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنها به. قال في " الزوائد ": " هذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات. احتج مسلم بجميع رواته ". وهو كما قال. وقد صححه ابن خزيمة - كما في " الفتح " (11/167) -، وصححه أيضاً المنذري في " الترغيب " (1/178) ، وعزاه لابن خزيمة في " صحيحه ". وبهذا الإسناد أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (144) . وله طريق أخرى: أخرجه أحمد (6/134 - 135) ، والبيهقي (2/56) عن علي ابن عاصم وسُليمان بن كثير عن حُصَين بن عبد الرحمن عن عمر بن قيس عن محمد   (1) ص (349 - 354) . (*) عزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع للسّراج أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 ..............................................................................   ابن الأشعث قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فحدثتني؛ قالت: بينما أنا قاعدة عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء ثلاثة نفر من اليهود، فاستأذن أحدهم ... وذكر الحديث، وفيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تدرين علامَ حسدونا؟ ". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " فإنهم حسدونا على القبلة التي هُدينا إليها، وضلوا عنها، وعلى الجمعة التي هُدينا لها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين ". وهذا إسناد صحيح. رجاله عند البيهقي رجال مسلم؛ غير عمر بن قيس، وهو ثقة، وكذلك رجال أحمد؛ غير علي بن عاصم، فهو سيئ الحفظ، ولا يضر ذلك هنا؛ فروايته متابعة. وقد نقل المناوي عن الحافظ العراقي أنه قال: " حديث صحيح ". ووقع في رواية البيهقي: (عمرو) ؛ بزيادة: الواو. وقد قال البخاري: " لا يصح ". يعني: أن الصواب: عمر؛ بحذف الواو - كما في رواية أحمد -. ثم أخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن ميسرة: ثنا إبراهيم بن أبي حَرَّة عن مجاهد عن محمد بن الأشعث به نحوه باللفظ الأول، وزاد: " واللهم! ربنا لك الحمد ". وعبد الله بن ميسرة: ضعيف - كما في " التقريب " وغيره -. وأما حديث ابن عباس: فأخرجه ابن ماجه عن طلحة بن عمرو عن عطاء عنه مرفوعاً. قال في " الزوائد ": " إسناده ضعيف؛ لاتفاقهم على طلحة بن عمرو ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ..............................................................................   وأما حديث أنس: فأخرجه الضياء المقدسي في " المختارة " من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عنه رفعه: " إن اليهود يحسدونكم على السلام، والتأمين ". وسنده صحيح إن شاء الله. وأما حديث معاذ: فأخرجه الطبراني في " الأوسط " مطولاً بنحو حديث محمد بن الأشعث عن عائشة؛ إلا أنه ذكر: (رد السلام، وإقامة الصفوف) .. بدل: (القبلة، والجمعة) . قال المنذري، وتبعه الهيثمي (2/113) : " وإسناده حسن ". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 قراءتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ {الفَاتِحَة} ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بعد {الفَاتِحَة} سورة غيرها. وكان يطيلها أحياناً، ويقصرها أحياناً لعارض سفر، أو سعال، أو مرض، أو بكاء صبي تصلي أمُّه معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " جوَّز صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ذات يوم في الفجر (وفي حديث آخر: صلى الصبح، فقرأ بأقصر سورتين في القرآن) ، فقيل: يا رسول الله! لم جوَّزت؟ قال: " سمعت بكاء صبي (2) ، فظننت أن أمه معنا تصلي؛ فأردت أن أفرغ له أمه " " (3) .   (1) {أي: خفف} . (2) {وفي هذا الحديث وأمثاله: جوازُ إدخال الصبيان المساجد، وأما الحديث المتداول على الألسنة: " جنبوا مساجدَكم صبيانكم ... " الحديث. فضعيف، لا يحتج به اتفاقاً. وممن ضعفه ابن الجوزي، والمنذري، والهيثمي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والبوصيري، وقال عبد الحق الإشبيلي: " لا أصل له "} . (3) أخرجه الإمام أحمد (3/257) قال: ثنا عفان: ثنا حماد بن زيد قال: أنا علي ابن زيد وحميد عنه. قال عفان: فوجدته عندي في غير موضع عن علي بن زيد وحميد وثابت عن أنس بن مالك. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، إلا علي بن زيد، وروايته متابعة. ورواه الطبراني في " الأوسط " بنحوه، وفيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ..............................................................................   أنه صلى الفجر بأقصر سورتين من القرآن. قال الهيثمي (4/74) : " وفيه أبو الربيع السمان، وهو ضعيف ". {و [أخرجه] ابن أبي داود في " المصاحف " (4/14/2 = [1/505/507) عن البراء ابن عازب به] ) . وأخرجه من حديثِ ثابتٍ مسلمٌ (2/44) ، والدارقطني (196) ، والبيهقي (2/393) ، وأحمد أيضاً (3/153، 156) من طريق جعفر بن سليمان عنه بلفظ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة؛ فيقرأ بالسورة الخفيفة، أو بالسورة القصيرة. وأخرجه من حديث حميد الترمذي (2/214) عن مروان بن معاوية الفَزَاري عنه مرفوعاً بلفظ: " والله! إني لأسمع بكاء الصبي وأنا في الصلاة؛ فأُخَفّف مخافة أن تفتن أمه ". وقال: " حسن صحيح ". قلت: مروان بن معاوية: ثقة، لكنه مدلس، وقد عنعنه، وقد خولف في لفظه؛ فأخرجه أحمد (3/182 و 188 و 205) من طرق عن حميد بلفظ: بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إذ سمع بكاء صبي؛ فتجوز في صلاته، فظننا أنه إنما خفف من أجل الصبي؛ أن أمه كانت في الصلاة. وإسناده صحيح على شرطهما. وهو ثلاثي. وله في البخاري (2/160) ، و " المسند " (3/233 و 240) طريق رابع: عن سليمان ابن بلال عن شريك: أنه سمع أنس بن مالك يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وكان يقول: " إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوّز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وَجْدِ أمه من بكائه " (1) .   ما صليت خلف إمام أخفَّ صلاةً من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أتم، وإن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليسمع بكاء الصبي؛ فيخفف مخافة أن تفتتن أمه. وإسناده على شرطهما أيضاً. وله شاهد من حديث أبي هريرة. أخرجه أحمد (2/432) عن ابن عجلان قال: سمعت أبي عن أبي هريرة: سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوت صبي في الصلاة؛ فخفف الصلاة. وسنده حسن. (1) هو من حديث أنس أيضاً. أخرجه البخاري (2/161) ، ومسلم (2/44) ، وابن ماجه (1/312) ، والبيهقي (2/393) ، وأحمد (3/109) من طرق عن سعيد بن أبي عَروبة قال: ثنا قتادة: أن أنس بن مالك حدثه به. وله شواهد: منها: عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه مرفوعاً مثله، إلا أنه قال: " كراهية أن أشق على أمه ". أخرجه البخاري (2/160) ، وأبو داود (1/126) ، والنسائي (1/132) ، وابن ماجه أيضاً، وأحمد (5/305) من طرق عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 ..............................................................................   ومنها: عن أبي هريرة مختصراً بلفظ: " مخافة أن تفتن أمه ". رواه البزار. ورجاله ثقات - كما في " المجمع " (2/74) -. قال النووي في " شرح مسلم ": " (الوجد) يطلق على الحزن، وعلى الحب أيضاً، وكلاهما سائغ هنا، والحزن أظهر؛ أي: من حزنها واشتغال قلبها به، وفيه دليل على الرفق بالمأمومين وسائر الأتباع، ومراعاة مصلحتهم، وأن لا يدخل عليهم ما يشق عليهم؛ وإن كان يسيراً من غير ضرورة، وفيه جواز صلاة النساء مع الرجال في المسجد، وأن الصبي يجوز إدخاله المسجد، وإن كان الأولى تنزيه المسجد عمن لا يُؤْمَنُ منه حدث ". اهـ. وقال الخطابي (1/201) : " فيه دليل على أن الإمام - وهو راكع - إذا أحس برجل يريد الصلاة معه؛ كان له أن ينتظره راكعاً؛ ليدرك فضيلة الركعة مع الجماعة؛ لأنه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة الإنسان في بعض أمور الدنيا؛ كان له أن يزيد فيها لعبادة الله، بل هو أحق بذلك وأولى، وقد كرهه بعض العلماء، وشدد فيه بعضهم، وقال: أخاف أن يكون شركاً. وهو قول محمد بن الحسن ". اهـ. قلت: هذا القول ذكره علماؤنا من قول أبي حنيفة، وأَوَّلوه بأنه أراد الشرك في العمل؛ لأن أول الركوع كان لله تعالى، وآخرَه للجائي. قالوا: ولا يكفر؛ لأنه ما أراد التذلل والعبادة له، وقالوا بكراهة إطالة الركوع لإدراك الجائي؛ إن عرفه، وإلا؛ فلا بأس به؛ أي: إن تركه أفضل. لكن قال ابن عابدين في " حاشيته " (1/462) : " أقول: قصد الإعانة على إدراك الركعة مطلوب؛ فقد شرعت إطالة الركعة الأولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وكان يبتدئ من أول السورة، ويكملها في أغلب أحواله (1) . ويقول:   في الفجر اتفاقاً، وكذا في غيره على الخلاف؛ إعانةً للناس على إدراكها؛ لأنه وقت نوم وغفلة - كما فهم الصحابة ذلك من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ونقل في " الحلبة " عن عبد الله بن المبارك، وإسحاق، وإبراهيم، والثوري: أنه يستحب للإمام أن يسبح خمس تسبيحات؛ ليدرك من خلفه الثلاث ". اهـ. فعلى هذا: إذا قصد إعانة الجائي؛ فهو أفضل، بعد أن لا يخطر بباله التودد إليه، ولا الحياء منه ونحوه. ولهذا نقل في " المعراج " عن " الجامع ": " لا ضير أنه مأجور؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} ". ثم قال ابن عابدين: " قال الطحاوي: ويظهر أن من التقرب إطالة الإمام الركوع؛ لإدراك مكبر لو رفع الإمام رأسه قبل إدراكه، يظن أنه أدرك الركعة - كما يقع لكثير من العوام -، فيسلم مع الإمام بناءً على ظنه، ولا يتمكن الإمام من أمره بالإعادة أو الإتمام ". (1) {يدل لذلك أحاديث كثيرة ستأتي فيما بعد} . قال الزين بن المُنَيِّر: " ذهب مالك إلى أن يقرأ المصلي في كل ركعة بسورة؛ كما قال ابن عمر: لكل سورة حظها من الركوع والسجود. قال: ولا تقسم السورة في ركعتين، ولا يقتصر على بعضها، ويترك الباقي. قال: فإن فعل ذلك؛ لم تفسد صلاته، بل هو خلاف الأولى ". ذكره في " الفتح " (2/204) ، وقال: " وهو مذهب الشافعي. ثم قال ابن المُنَيِّر: والذي يظهر أن التكرير أخف من قَسْمِ السورة في ركعتين. اهـ. وسبب الكراهة فيما يظهر أن السورة مرتبط بعضها ببعض؛ فأي موضع قطع فيه، لم يكن كانتهائه إلى آخر السورة، فإنه إن قطع في وقف غير تام؛ كانت الكراهة ظاهرة، وإن قطع في وقف تام؛ فلا يخفى أنه خلاف الأولى. وقد تقدم في (الطهارة) قصة الأنصاري الذي رماه العدو بسهم، فلم يقطع صلاته، وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 " أعطوا كل سورة حَظَّها من الركوع والسجود (وفي لفظ: لكل سورة ركعة) " (1) .   كنت في سورة، فكرهت أن أقطعها. وأقره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك ". قلت: هو حديث طويل أخرجه أبو داود (1/30 - 31) وغيره بإسناد حسن. (1) أخرجه الطحاوي (1/204) من طريق سفيان عن عاصم عن أبي العالية قال: أخبرني من سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... فذكره. ثم أخرجه من طريق زهير بن معاوية قال: أنا عاصم الأحول عن أبي العالية قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... فذكره. قال: فذكرت ذلك لابن سيرين؛ فقال: أسَمَّى لك من حَدَّثه؟ قلت: لا. قال: أفلا تسأله؟ فسألته: فقلت: من حدثك؟ فقال: إني لأعلم من حدثني، وفي أي مكان حدثني، وقد كنت أصلي بين عشرين حتى بلغني هذا الحديث. وأخرجه الإمام أحمد (5/65) عن يحيى بن سعيد الأموي، وابن نصر في " قيام الليل " (61) عن عبد الواحد بن زياد؛ كلاهما عن عاصم به بلفظ: " لكل سورة حظها ... " إلخ. وزاد أحمد: قال: ثم لقيته بعد، فقلت له: إن ابن عمر كان يقرأ في الركعة بالسور، فَتَعْرِفُ مَنْ حدَّثك هذا الحديث؟ قال: إني لأعرفه، وأعرف منذ كم حدثنيه؛ حدثني منذ خمسين سنة. ثم أخرجه أحمد (5/59) : ثنا أبو معاوية وعبدة قالا: ثنا عاصم به بلفظ: " أعطوا كل سورة ... ". والباقي مثله (*) .   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لِ " عبد الغني المقدسي في " السنن " (9/2) بسند صحيح ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ..............................................................................   وهذا حديث صحيح. رجاله كلهم ثقات رجال الستة، وطرقه كلها إلى عاصم صحيحة، ولا يقدح جهالة الصحابي؛ لأن الصحابة كلهم عدول - كما ذكرنا ذلك مراراً -. وقد رواه ابن أبي شيبة { (1/100/1) = [1/324/3710] } باللفظ الثالث، وسكت عليه عبد الحق مصححاً له. قال ابن القطان: " وهو كما ذكره، وزَعْمُ ضعفه باطل ". هذا، ولم أجد من شرح الحديث وأبان عن المراد منه؛ إلا المناوي في " فيض القدير "، ولم يصب حيث قال: " أي: فلا يكره قراءة القرآن في الركوع والسجود ". وقال في مكان آخر: " ويحتمل أن المراد: إذا قرأتم سورة؛ فصلوا عقبها صلاة قبل الشروع في الأخرى. ويحتمل أن المراد: أوفوا القراءة حقها من الخشوع والخضوع اللذين هما بمنزلة الركوع والسجود في الصلاة، وإذا مررتم بآية سجدة؛ فاسجدوا ". اهـ. وهذان الاحتمالان بعيدان جداً عن لفظ الحديث؛ لا سيما اللفظ الثاني، والمعنى الثاني لم يذهب إلى العمل به أحد من العلماء فيما علمت. والمعنى الأول هو أقرب ما يكون إلى ظاهر الحديث؛ لكن الرواة لم يفهموا منه ذلك - كما سبق في تخريجه -؛ فإن أبا العالية - أحد رواته - كان يجمع بين عشرين سورة في ركعة قبل أن يبلغه الحديث، فلما بلغه؛ ترك ذلك. وكذلك لما بَلَّغه ابن سيرين؛ استغرب ذلك، وعارضه بأن ابن عمر كان يجمع بين السور؛ فأراد أن يتحقق من الحديث. فقد اتفق أبو العالية وابن سيرين [على] أن معنى الحديث: أنه ينبغي الاقتصار على سورة في كل ركعة. وأقرب الألفاظ دلالة لهذا المعنى هو اللفظ الثاني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ..............................................................................   " لكل سورة ركعة ". ولذلك أورده الطحاوي في (باب جمع السور في ركعة) ، ثم قال: " وقد ذهب إلى هذا قوم، فقالوا: لا ينبغي للرجل أن يزيد في كل ركعة من صلاته على سورة مع {فاتحة الكتاب} . واحتجوا في ذلك بهذا الحديث ". اهـ. ويحتمل أن معنى الحديث: لكل سورة ركعة؛ أي: سورة كاملة في كل ركعة؛ أي: فلا يقتصر على بعضها؛ بل عليه أن يُتِمَّها؛ ليكون حظ الركعة بها كاملاً. وقد أشار إلى هذا المعنى وإلى الذي قبله ابنُ نصر؛ حيث بوب للحديث بقوله: (باب كراهة تقطيع السور، والجمع بين السور في ركعة) ، ثم ساق هذا الحديث بألفاظه الثلاثة. وبالجملة؛ فالحديث لا يحتمل إلا هذين المعنيين. وأنا إلى المعنى الثاني (*) أَمْيَلُ منه إلى الأول، وإن ذهب إليه من علمت؛ لأن أقواله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً، إلا ضمن أقواله الأخرى وأفعاله، وقد ذكرنا في الأصل أن الغالب من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إتمام السورة؛ دون الاقتصار على بعضها إلا نادراً. وعليه؛ فالحديث يدل على الكمال من القراءة، وهي السورة الكاملة. واقتصاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بعضها نادراً؛ إنما هو للدلالة على جواز ذلك مع الكراهة التنزيهية؛ لأنها خلاف الأفضل؛ ولكنه لا ينفي الزيادة على السورة، وأنها أكمل وأفضل. كيف ذلك؛ وقد صح عنه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ السورتين فأكثر في ركعة واحدة، وأنه كان يقول: " أفضل الصلاة طول القيام "! فهذا نص صريح في أن الصلاة كلما كان قيامها أطول - وإنما يكون ذلك بطول   (*) وبهذا جزم الشيخ رحمه الله - أخيراً - كما في " الصفة " المطبوعة؛ فقال: " ومعنى الحديث عندي: اجعلوا لكل ركعة سورة كاملة؛ حتى يكون حظ الركعة بها كاملاً! والأمر للندب؛ بدليل ما يأتي عقبه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وكان تارة يقسمها في ركعتين (*) . وتارة يعيدها كلها في الركعة الثانية (1) . وكان أحياناً يجمع في الركعة الواحدة بين السورتين أو أكثر (2) .   القراءة، وبضم السورة إلى الأخرى -؛ كانت أفضل عند الله تعالى. فإن لم نذهب إلى هذا المعنى الذي اخترناه، وذهبنا إلى المعنى الأول؛ تعارض قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا مع الحديث الذي نتكلم عليه، وقد تقرر في الأصول أنه: يجب الجمع بين الحديثين الصحيحين ما أمكن ذلك. وهذا لا يمكن إلا بهذا الوجه. والله تعالى أعلم. (*) كتب الشيخ رحمه الله هنا ملاحظة لنفسه: " انظر " المجمع " (2/274) ". وخرَّجه في " صفة الصلاة " المطبوع؛ فقال: " [رواه] أحمد، وأبو يعلى من طريقين. وانظر: (القراءة في صلاة الفجر) [ص 430] ". (1) {كما فعل في صلاة الفجر، ويأتي قريباً [ص 435] } . (2) سيأتي توضيح ذلك وتخريجه قريباً. قال أبو عبيد: " والذي عليه أمر الناس: أن الجمع بين السور في الركعة حسن غير مكروه، وهذا الذي فعله عثمان بن عفان، وتميم الداري، وغيرهما؛ هو من وراء كل جمع. إلا أن الذي أختار من ذلك: أن لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث؛ للأحاديث التي رويت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من الكراهة لذلك ". ذكره ابن نصر في " قيام الليل " (62) . قال الحافظ (2/204) : " وقد نقل البيهقي في " مناقب الشافعي " عنه أن الجمع بين السور مستحب ". وروى أحمد (2/13 و 5/66) ، والبيهقي (2/60) ، والطحاوي (1/205) عن نافع قال: ربما أَمَّنَا ابن عمر بالسورتين والثلاث في الفريضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وقد " كان رجل من الأنصار (*) يؤمهم في مسجد قُباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به (1) ؛ افتتح بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها؛ وكان يصنع ذلك في كل ركعة. فكلمه أصحابه؛ فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى؛ فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها، وتقرأ بأخرى. فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك؛ فعلت، وإن كرهتم؛ تركتكم. وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره. فلما أتاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أخبروه الخبر؛ فقال: " يا فلان! ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ ".   على شرطهما. (*) كتب الشيخ رحمه الله هنا - ملاحظة لنفسه -: " يراجع اسمه ". وللفائدة نقول: هو كُلْثوم بن الهِدْم. أو كلثوم بن زهدم. أو كُرز بن زهدم؛ على خلاف تراه في " الفتح " (2/334) . (1) أي: من السورة بعد {الفَاتِحَة} . (2) قال الحافظ (2/205) : " تمسك به من قال: لا يشترط قراءة {الفَاتِحَة} . وأجيب بأن الراوي لم يذكر {الفَاتِحَة} ؛ اغتناء بالعلم؛ لأنه لا بد منها، فيكون معناه: افتتح بسورة بعد {الفَاتِحَة} . أو كان ذلك قبل ورود الدليل الدال على اشتراط {الفَاتِحَة} ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فقال: إني أحبها. فقال: " حُبُّكَ إيَّاها أدخلك الجنة " " (1) .   (1) ذكره البخاري في " صحيحه " (2/204 - 205) تعليقاً مجزوماً به: وقال عبيد الله عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به. وقد وصله الترمذي (2/148 - طبع بولاق) ، والبيهقي (2/60 - 61) من طريق عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي عن عبيد الله بن عمر به. وقال الترمذي: " حسن صحيح غريب ". قلت: وهو على شرط مسلم. وأخرجه البزار، والطبراني أيضاً - كما في " الفتح " -. ثم أخرجه الترمذي، وكذا الدارمي (2/460 - 461) ، وابن نصر (65) عن مبارك ابن فَضَالة: ثنا ثابت عن أنس: أن رجلاً قال: والله إني لأحب هذه السورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حبك إياها أدخلك الجنة ". وسنده حسن. قال ناصر الدين بن المُنَيِّر: " في هذا الحديث أن المقاصد تغير أحكام الفعل؛ لأن الرجل لو قال: إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها؛ لأمكن أن يأمره بحفظ غيرها. لكنه اعتل بحبه؛ فظهرت صحة قصده؛ فَصَوَّبَه ". قال: " وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه، والاستكثار منه، ولا يعد ذلك هجراناً لغيره ". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 جَمْعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ النظائر (1) وغيرها في الركعة و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرُِن بين النَّظَائر من المُفَصَّلِ (2) ؛ فكان يقرأ سورة:   (1) أي: السور المتماثلة في المعاني؛ كالموعظة، أو الحِكَم، أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي؛ لما سيظهر عند تعيينها. قال المحب الطبري: " كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العَدِّ، حتى اعتبرتها؛ فلم أجد فيها شيئاً متساوياً ". ذكره في " الفتح ". (2) اختلف في المراد بالمفصل مع الاتفاق على أن منتهاه آخر القرآن. وقد ذكر الحافظ (2/198) الأقوال في ذلك، فبلغت العشرة؛ منها: أنه يبتدئ من {الحُجُرَات} . ثم قال: " وهو الراجح. ذكره النووي ". وقال الحافظ في مكان آخر (2/206) : " تقدم أنه من {ق} إلى آخر القرآن على الصحيح ". كذا قال، وهذا القول إنما ذكره هناك في جملة الأقوال التي قيلت، ولم يصححه، ولا رجحه؛ وإنما رجح كونه من {الحُجُرَات} كما ذكره عن النووي (1) . والله أعلم. وإنما سمي مفصلاً؛ لكثرة الفصل بين سُوَرِه بالبسملة؛ على الصحيح؛ كما قال الحافظ. ثم قال (2/207) : " ولا يخالف هذا ما سيأتي في (التهجد) أنه جمع بين {البَقَرَة} وغيرها من الطوال؛ لأنه يحمل على النادر ". قال:   (1) ثم رأيته يقول (2/156) : " وفي المراد بالمفصل أقوال ستأتي في (فضائل القرآن) ؛ أصحها: أنه من أول {ق} إلى آخر القرآن ". فهذا كلامه المتقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 {الرَّحْمَن} (55: 78) (1) و {النَّجْم} (53: 62) في ركعة. و {اقْتَرَبَتِ} (54: 55) و {الحَاقَّة} (69: 52) في ركعة. و {الطُّور} (52: 49) و {الذَّارِيَات} (51: 60) في ركعة. و {إِذَا وَقَعَتِ} (56: 96) و {ن} (68: 52) في ركعة. و {سَأَلَ سَائِلٌ} (70: 44) و {النَّازِعَات} (79: 46) في ركعة. و {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (83: 36) و {عَبَسَ} (80: 42) في ركعة. و {المُدَّثِّر} (74: 56) و {المُزَّمِّل} (73: 20) في ركعة. و {هَلْ أَتَى} (76: 31) و {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ} (75: 40) في ركعة. و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (78: 40) و {المُرْسَلَات} (77: 50) في ركعة. و {الدُّخَان} (44: 59) و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (81: 29) في ركعة (2) .   " وفي الحديث من الفوائد: جواز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها، وفيه ما يقوي قول القاضي أبي بكر - المتقدم -: إن تأليف السور كان عن اجتهاد من الصحابة؛ لأن تأليف عبد الله المذكور مغاير لتأليف مصحف عثمان ". (1) الرقم الأول للسور، والرقم الثاني لعدد آياتها. {وقد كشف لنا الترقيم الأول أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُراعِ في الجمع بين كثير من هذه النظائر ترتيب المصحف، فدل على جواز ذلك، ومثله ما سيأتي في (القراءة في صلاة الليل) ، وإن كان الأفضل مراعاة الترتيب} . (2) هو من حديث ابن مسعود. أخرجه البخاري (2/205 - 206) ، ومسلم (2/205) ، والنسائي (1/156) ، والطحاوي (1/204) ، والبيهقي (2/60) ، والطيالسي (35) ، وأحمد (1/436) من طريق شعبة عن عمرو بن مُرّة؛ أنه سمع أبا وائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ..............................................................................   أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود، فقال: إني قرأت المفصل الليلة كله في ركعة. فقال عبد الله: هَذَّاً كَهَذِّ الشعر؟! لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرن بينهن. قال: فذكر عشرين سورة من المفصل؛ سورتين سورتين في كل ركعة. ورواه شعبة أيضاً عن الأعمش قال: سمعت أبا وائل به نحوه. أخرجه الطيالسي (34 و 36) ، ومن طريقه الترمذي (20/498) ، وقال: " حسن صحيح ". وهو عند البخاري (9/33 - 34) ، ومسلم، والنسائي، وأحمد (1/455) من طرق عن الأعمش. ورواه البخاري (9/72 - 73) ، ومسلم، والطحاوي، وأحمد (1/427) من طرق أخرى عن أبي وائل. والنسائي، والطحاوي، وأحمد (1/417) من طريقين آخرين عن ابن مسعود. وأخرجه أبو داود (1/221) عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن علقمة والأسود قالا: أتى ابنَ مسعود رجلٌ فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة. فقال: أَهَذّاً كَهَذِّ الشعر، ونثراً كنثر الدَّقَلِ؟! لكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ النظائر؛ السورتين في ركعة: {الرَّحْمَن} و {النَّجْم} في ركعة، و {اقْتَرَبَتِ} و {الحَاقَّة} في ركعة ... إلخ. وأخرجه الطحاوي، وأحمد (1/418) عن طريق زهير عن أبي إسحاق به. ولكنه لم يسرد السور. وكذلك سردها أبو خالد الأحمر عن الأعمش: عند ابن خزيمة (1/269/538) . وكذلك سردها محمد بن سلمة بن كُهَيل عن أبيه عن أبي وائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وكان أحياناً يجمع بين السور من السبع الطوال؛ كـ {البَقَرَة} و {النِّسَاء} و {آلِ عِمْرَان} في ركعة واحدة من صلاة الليل - كما سيأتي - (1) . وكان يقول: " أفضل الصلاة طول القيام " (2) .   أخرجه الطبراني في " الكبير " من وجهين عنه (10/41) . وسنده جيد. وللحديث شاهد من حديث عائشة؛ قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرن بين السورتين من المفصل. أخرجه أبو داود (1/203) ، والبيهقي (2/60) ، وأحمد (6/218) عن الجُرَيْري عن عبد الله بن شَقِيق عنها. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وصححه ابن خزيمة - كما في " الفتح " (2/207) -. وأخرجه الطيالسي (ص 218) عن الصَّلْت بن دينار، والطحاوي، وأحمد (6/171 و204) ، والحاكم (1/265) عن كَهْمَس بن الحسن؛ كلاهما عن عبد الله بن شقيق به. وسند أحمد صحيح على شرط مسلم أيضاً. وقول الحاكم: " على شرطهما ". من أوهامه أو تساهله؛ فإن عبد الله بن شقيق إنما أخرج له البخاري في " صحيحه " تعليقاً. (1) في (قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الليل) - إن شاء الله تعالى -. (2) هو من حديث جابر. أخرجه مسلم (2/175) من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عنه به بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 ..............................................................................   " القنوت ". وهو بمعنى القيام. وقد أخرجه الطحاوي (1/176) من هذا الوجه بلفظ الكتاب تماماً. وأخرجه ابن ماجه (1/434) من هذا الوجه بلفظ: سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الصلاة أفضل؟ قال: " طول القنوت ". وكذا أخرجه الترمذي (2/329) ، وأحمد (3/391) من طرق عن أبي الزبير به. وأبو الزبير: مدلس، وقد عنعنه. لكن له متابعاً: أخرجه مسلم، والطحاوي، والطيالسي (276) ، وأحمد (3/302 و 314) من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر به. وله شواهد: منها: حديث عبد الله بن حُبْشِيّ الخثعمي. أخرجه النسائي (1/349) ، والدارمي (1/331) ، والطحاوي، وأحمد (3/411 - 412) ، ومن طريقه أبو داود (1/228 - 229) ، وابن نصر (51) ؛ كلهم عن ابن جريج: ثني عثمان بن أبي سليمان عن علي الأزدي عن عبيد بن عمير عنه به. وقال الدارمي: " القيام ". وكذا ابن نصر. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. ومنها: عن عمرو بن عَبَسَةَ: عند أحمد (4/385) . قال السندي رحمه الله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 و " كان إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المَوْتَى} ؛ قال: " سبحانك! فَبَلى " (1) . وإذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ؛ قال:   " ولا ينافيه حديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد "؛ لجواز أن تكون تلك الأقربية في حال السجود بملاحظة استجابة الدعاء؛ كما يقتضيه: " فأكثروا الدعاء "، وهو لا ينافي أفضلية القيام. والله أعلم ". وقد اختلف العلماء في القيام والسجود: أيهما أفضل؟ فذهب أبو حنيفة وصاحباه - كما في " الطحاوي " (1/176 و 275 - 276) -، والشافعية وغيرهم إلى أن القيام أفضل؛ لهذا الحديث، وأدلة أخرى ذكروها. وخالفهم آخرون؛ فقالوا: السجود أفضل؛ للحديث الذي أورده السندي، ويأتي في (السجود) . وتوسط قوم؛ فقالوا بالأول ليلاً، وبالثاني نهاراً. قال السندي في " حاشيته على النسائي ": " وهو الأوفق بفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". اهـ. قال ابن القيم في " الزاد " (1/84) - بعد أن ساق الأقوال الثلاثة وأدلتها -: " وقال شيخنا: الصواب أنهما سواء، والقيام أفضل بذكره - وهو القراءة -، والسجود أفضل بهيئته؛ فهيئة السجود أفضل من هيئة القيام، وذِكْرُ القيام أفضل من ذِكْرِ السجود، وهكذا كان هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنه كان إذا أطال القيام؛ أطال الركوع والسجود. وكان إذا خفف القيام؛ خفف الركوع والسجود ". (1) أخرجه أبو داود (1/141) ، ومن طريقه البيهقي (2/310) عن شعبة عن موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته، وكان إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المَوْتَى} ؛ قال: سبحانك! فبلى. فسألوه عن ذلك؟ فقال: سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأخرجه ابن أبي حاتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 " سبحان ربي الأعلى" (1) " (2) .   وهذا إسناد صحيح. رجاله رجال الشيخين. وكون الصحابي لم يُسَمَّ لا يضر - كما قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (4/452) ، وكما هو مقرر في محله -. وله شاهد من حديث أبي هريرة بلفظ: " ومن قرأ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ} فانتهى إلى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المَوْتَى} ؛ فليقل: بلى ". ويأتي بعد هذا. وشاهد آخر مرسل عن قتادة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قرأها؛ قال: " سبحانك! فبلى ". أخرجه ابن جرير. ورجاله رجال الشيخين. ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً؛ أنه كان يقول ذلك. وسنده صحيح على شرطهما. (1) قلت: الظاهر استحباب ذلك لكل مصلٍّ إلا للمؤتم، فإنه إذا قال: (سبحان ربي الأعلى) ؛ انشغل بذلك عن الإنصات المأمور به في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . والله أعلم. (2) هو من حديث ابن عباس. أخرجه أبو داود (1/141) ، ومن طريقه البيهقي، وأحمد (1/232) ، وعنه الطبراني في " الكبير " من طريق وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البَطِيْن عن سعيد بن جبير عنه به. ومن هذا الوجه أخرجه الحاكم (1/263) ، وقال: " صحيح على شرطهما ". [ووافقه الذهبي] . وهو كما قالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 ..............................................................................   لكن أعله أبو داود بقوله: " خولف وكيع في هذا الحديث؛ رواه أبو وكيع وشعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن عبيد عن ابن عباس موقوفاً ". قلت: وكيع بن الجراح: ثقة حافظ - كما في " التقريب " للحافظ -، وقد رفعه، وهي زيادة يجب قبولها. ويشهد له حديث إسماعيل ابن علية: سمعت أعرابياً يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قرأ منكم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِِ} فانتهى إلى آخرها: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ} ؛ فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ} فانتهى إلى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المَوْتَى} ؛ فليقل: بلى. ومن قرأ {وَالمُرْسَلَاتِ} فبلغ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ؛ فليقل: آمنا بالله ". قال إسماعيل: ذهبت أعيد على الرجل الأعرابي وأنظر لعله؟! فقال: يا ابن أخي! أتظن أني لم أحفظه؟! لقد حججت ستين حجة، ما منها حجة إلا وأنا أعرف البعير الذي حججت عليه. أخرجه أبو داود (1/141 - 142) ، وعنه البيهقي (2/310 - 311) ، وأحمد (2/249) ؛ كلاهما عن سفيان بن عيينة عنه به. وروى الترمذي (2/238) بعضه، وقال: " هذا حديث إنما يروى بهذا الإسناد عن هذا الأعرابي عن أبي هريرة، ولا يسمى ". قال الحافظ ابن كثير (4/452) : " وقد رواه شعبة عن إسماعيل بن أمية قال: قلت: من حدثك؟ قال: رجل صدق عن أبي هريرة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ..............................................................................   ثم ذكر ابن كثير (4/500) له شاهداً مرسلاً عن قتادة: أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قرأها؛ قال: " سبحان ربي الأعلى ". وروى البيهقي بإسنادين عن علي وأبي موسى: أنهما كانا يقولان ذلك. وإسناده إلى علي حسن. وإلى أبي موسى صحيح. ورواه الحاكم (2/521) عن ابن عمر، وقال: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. ثم رأيت الحاكم قد أخرج حديث أبي هريرة (2/510) من طريق يزيد بن عياض عن إسماعيل بن أمية عن أبي الْيَسَع عن أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المَوْتَى} ؛ قال: " بلى ". وإذا قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ} ؛ قال: " بلى ". وقال الحاكم: " صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي. قلت: وأبو اليَسَعِ هذا لم أجد من ذكره. والظاهر أنه الأعرابي الذي في الطريق الأول. والله أعلم. {وهو -[يعني: الحديث]- مطلق، فيشمل القراءة في الصلاة وخارجها، والنافلة والفريضة. وقد روى ابن أبي شيبة (2/132/2) عن أبي موسى الأشعري والمغيرة: أنهما كانا يقولان ذلك في الفريضة. ورواه عن عمر وعلي إطلاقاً} . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 جَوَازُ الاقتِصَارِ على {الفَاتِحَة} (*) و" كان معاذ يصلي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء [الآخرة] ، ثم يرجع فيصلي بأصحابه، فرجع ذات ليلة فصلى بهم، وصلى فتى من قومه [من بني سلمة يقال له: سليم] ، فلما طال على الفتى؛ [انصرف فـ] صلى [في ناحية المسجد] ، وخرج، وأخذ بخِطام بعيره، وانطلق، فلما صلى معاذ؛ ذكر ذلك له، فقال: إن هذا به لنفاق! لأخبرن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي صنع. وقال الفتى: وأنا لأخبرن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي صنع. فغدوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره معاذ بالذي صنع الفتى، فقال الفتى: يا رسول الله! يطيل المكث عندك، ثم يرجع فيطيل علينا! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أفتان أنت يا معاذ؟! ". وقال للفتى (1) : " كيف تصنع أنت يا ابن أخي! إذا صليت؟ ". قال: أقرأ بـ: {فاتحة الكتاب} ، وأسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، وإني لا أدري ما دندنتك (2) ودندنة معاذ! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني ومعاذ حول هاتين، أو نحو ذا ". قال: فقال الفتى: ولكن سيعلم معاذ إذا قَدِم القوم وقد خُبِّروا أن العدو قد أتوا. قال: فقدموا، فاستشهد الفتى، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك لمعاذ:   (*) هذا المبحث غير موجود في أصل " الصفة "، وأضفناه بحواشيه من " صفة الصلاة " المطبوع. وانظر تخريج الحديث والتعليق عليه - موسعاً - فيما يأتي (ص 495 - 499) . (1) الأصل: " الفتى ". (2) (الدندنة) : أن يتكلم الرجل بالكلام تسمع نغمته ولا يفهم، وهو أرفع من الهينمة قليلاً. " نهاية ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 " ما فعل خَصْمِي وخَصْمُك؟ ". قال: يا رسول الله! صدق الله وكذبتُ؛ استُشهد " (1) .   (1) [أخرجه] ابن خزيمة في " صحيحه " (1634) ، والبيهقي بسند جيد. وموضع الشاهد منه عند أبي داود (758 - صحيح أبي داود) ، وأصل القصة في " الصحيحين ". والزيادة الأولى لمسلم في رواية، والثانية لأحمد (5/74) ، والثالثة والرابعة للبخاري. وفي الباب عن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ركعتين لم يقرأ فيهما إلا بـ: {فاتحة الكتاب} . أخرجه أحمد (1/282) ، والحارث بن أبي أسامة في " مسنده " (ص 38 من زوائده) ، والبيهقي (2/62) بسند ضعيف. وكنت حسنته في الطبعات السابقة، ثم تبين لي أني كنت واهماً؛ لأن مداره على حنظلة السدوسي، وهو ضعيف. ولا أدرى كيف خفي علي هذا؟! ولعلي ظننته غيره، وعلى كل حال؛ فالحمد لله الذي هداني لمعرفة خطئي. ولذلك؛ بادرت إلى الضرب عليه في الكتاب، ثم عوَّضني الله خيراً منه حديثَ معاذٍ؛ فإنه يدل على ما دلَّ عليه حديث ابن عباس، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 الجهرُ والإسرارُ في الصَّلوَاتِ الخَمْسِ وغَيْرِها وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بالقراءة في صلاة الصبح، وفي الركعتين الأُوليَين من المغرب والعشاء، ويسر بها في الظهر والعصر، والثالثة من المغرب، والأُخْرَيَيْنِ من العشاء (1) . وكانوا يعرفون قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يُسِرُّ به - باضطراب لحيته (2) ،   (1) وقد ذكر النووي في " المجموع " (3/389) إجماع المسلمين على ذلك كله بنقل الخلف عن السلف، مع الأحاديث الصحيحة المتظاهرة على ذلك. قلت: وسيأتي بعضها في (ما كان يقرؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات) ، وممن نقل الاتفاق على ذلك: ابن حزم في " مراتب الإجماع " (33) ، وأقره شيخ الإسلام ابن تيمية. {وانظر " الإرواء " (345) } . (2) ذكر ذلك جمع من الصحابة؛ منهم: خَبّاب بن الأَرَتّ. كما قال أبو معمر عبد الله بن سَخْبَرة قال: ساءلنا خبّاباً: أكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم. قال: قلنا: بأي شيء كنتم تعرفون؟ قال: باضطراب لحيته. أخرجه البخاري في " صحيحه " (2/184 و 195) وفي " جزئه " (25) ، وأبو داود (1/128) ، وابن ماجه (1/274) ، والطحاوي (1/123) ، والبيهقي (2/37 و 54 و193) ، وأحمد (5/109 و 112 و 6/395) ، والطبراني في " الكبير " من طرق عن الأعمش: ثني عمارة عنه. ومنهم: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال الإمام أحمد (5/371) : ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن (وفي الأصل: ابن. وهو تحريف) أبي الزَّعراء عن أبي الأحوص عن بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 ..............................................................................   كانت تعرف قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهر بتحريك لحيته. قال الهيثمي (2/115) : " رواه أحمد، ورجاله ثقات ". وأقول: إسناده صحيح. رجاله رجال مسلم، غير أبي الزَّعراء هذا - واسمه: عمرو ابن عمرو الجُشمي -، وهو: ثقة - كما في " التقريب " -. وقد أخرجه الطبراني في " الكبير " في (مسند عبد الله بن مسعود) من طريق زيد بن الحريش: نا عبد الرحمن بن مهدي: نا سفيان عن أبي الزعراء عن أبي الأحوص عن عبد الله به وزاد: والعصر. وزيد بن الحَريْش: في " اللسان ": " قال ابن حبان في " الثقات ": ربما أخطأ. وقال ابن القطان: مجهول الحال. وذكر ابن أبي حاتم في الرواة عنه إبراهيم بن يوسف الهِسِنْجَاني ". قلت: وممن روى عنه عبدان بن أحمد الأهوازي - وهو راوي هذا الحديث عنه -، وابنه أحمد بن زيد، وجعفر بن معدان الأهوازي - وهما من شيوخ الطبراني في " معجمه الصغير " (ص 13 و67) -. ومنهم: زيد بن ثابت. فيما أخرجه البخاري في " جزئه " (25) ، وأحمد (5/182 و186) ، والطبراني في " الكبير " من طريق كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله قال: تمارَوْا في القراءة في الظهر والعصر، فأرسلوا إلى خارجة بن زيد فقال: قال أبي: قام - أو كان - رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطيل القيام، ويحرك شفتيه، فقد أعلم أن ذلك لم يكن إلا لقراءة؛ فأنا أفعل ذلك. وهذا إسناد حسن بما قبله. وكثير بن زيد فيه كلام كثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 وبإسماعه إياهم الآية أحياناً (1) . وكان يجهر بها أيضاً في صلاة الجمعة، والعيدين (2) ، ......................   قال الحافظ: " فيه الحكم بالدليل؛ لأنهم حكموا باضطراب لحيته على قراءته، لكن لا بد من قرينة تُعَيِّن القراءة، دون الذكر والدعاء مثلاً؛ لأن اضطراب اللحية يحصل بكل منهما، وكأنهم نظروه بالصلاة الجهرية؛ لأن ذلك المحل منها هو محل القراءة لا الذكر والدعاء، وإذا انضم إلى ذلك قول أبي قتادة: كان يُسمِعنا الآية أحياناً. قوي الاستدلال. والله أعلم ". (1) هو من حديث أبي قتادة الآتي في (قراءة الظهر) [ص 457] . (2) سيأتي ذكر الأحاديث الواردة في ذلك في (قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجمعة) ، و (في العيدين) . وقد نَقَلَ إجماعَ الأمة على الجهر في الجمعة ابن حزم في " مراتب الإجماع " (ص 33) ، وفي العيدين النووي في " المجموع " (5/18) . وقد أخرج الدارقطني (189) من طريق عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بالقراءة في العيدين وفي الاستسقاء. وعبد الله بن نافع: ضعيف. وعن الحارث عن علي قال: الجهر في صلاة العيدين من السنة. قال الهيثمي (2/204) : " رواه الطبراني في " الأوسط ". والحارث: ضعيف ". قلت: ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " - كما في " نصب الراية " (2/219) - قال: أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بمعناه. وفيه ضعف وانقطاع - كما في " المحلى " (6/83) -، لكن يقوي الحديثين الإجماعُ المذكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 والاستسقاء (1) ، .............................................................   (1) فيه حديث عبد الله بن زيد قال: خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستسقي، فتوجَّه إلى القبلة يدعو، وحوّل رداءه، ثم صلى ركعتين؛ جهر فيهما بالقراءة. أخرجه البخاري (2/412) ، وأبو داود (1/181) ، والنسائي (1/226) ، والترمذي (2/442) - وقال: " حسن صحيح " -، والدارقطني (189) ، والطحاوي (1/192) ، والطيالسي (148) ، وأحمد (4/39 و 41) . وله شاهد من حديث ابن عباس. رواه الطحاوي وغيره. وسنده جيد. وقد قال النووي في " شرح مسلم ": " إنهم أجمعوا على استحباب الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء ". قال الحافظ: " ونقل ابن بطال أيضاً الإجماع عليه ". واعلم أن ابن القيم ذكر في " الزاد " (1/179) أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قرأ في الركعة الأولى من الاستسقاء بعد {الفَاتِحَة} : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} . وهو حديث ضعيف؛ في إسناده محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري، وهو: متروك، وقال النووي (5/73) : " حديث ضعيف ". وكذلك ضعفه الذهبي في " التلخيص ". ولعل ابن القيم اغتر بتصحيح الحاكم له؛ فقد أخرجه في " المستدرك " (1/326) - وكذا الدارقطني (189) - من هذا الطريق، ثم قال: " صحيح الإسناد ". فتعقبه الذهبي بضعف عبد العزيز [والد محمد] هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 والكسوف (1) .   (1) رواه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهر في صلاة الكسوف بقراءته. الحديث أخرجه البخاري (2/439 - 440) ، ومسلم (3/29) ، والنسائي (1/222) عن عبد الرحمن بن نَمِر: أنه سمع ابن شهاب يخبر عن عروة عنها به. وأخرجه أبو داود (1/186) ، والدارقطني (188) ، والحاكم (1/334) عن الأوزاعي. والترمذي (2/452) ، والطحاوي (1/197) عن سفيان بن حسين. والطحاوي، وأحمد (6/65) عن عقيل. والطيالسي (206) ، وأحمد (6/76) عن سليمان بن كثير؛ أربعتهم عن ابن شهاب به بلفظ: الكسوف. والمراد به: كسوف الشمس - قطعاً -؛ بدليل رواية سليمان بن كثير عند أحمد بلفظ: خسفت الشمس على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصلى؛ فكبَّر، وكبَّر الناس، ثم قرأ، فجهر بالقراءة ... الحديث. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". والحاكم: " صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. قال الحافظ بعد أن ذكر هذه الطرق: " وهذه طرق يَعْضُدُ بعضها بعضاً، يفيد مجموعها الجزم بذلك؛ فلا معنى لتعليل من أعله بتضعيف سفيان بن حسين وغيره، فلو لم يرد في ذلك إلا رواية الأوزاعي؛ لكانت كافية، وقد ورد الجهر فيها عن علي مرفوعاً وموقوفاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 ..............................................................................   أخرجه ابن خزيمة وغيره، وقال به صاحبا أبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وابن خزيمة، وابن المنذر، وغيرهما من محدثي الشافعية، وابن العربي من المالكية. وقال الأئمة الثلاثة: يسر في الشمس، ويجهر في القمر. واحتج الشافعي بقول ابن عباس: قرأ نحواً من سورة {البَقَرَة} . لأنه لو جهر؛ لم يحتج إلى تقدير. وتُعُقِّبَ باحتمال أنَ يكون بعيداً منه، لكن ذكر الشافعي عن ابن عباس: أنه صلى بجنب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكسوف، فلم يسمع منه حرفاً. ووصله البيهقي من ثلاثة طرق أسانيدها واهية، وعلى تقدير صحتها؛ فَمُثبِتُ الجهر معه قَدْرٌ زائد؛ فالأخذ به أولى، وإن ثبت التعدد؛ فيكون فعل ذاك لبيان الجواز. وهكذا الجواب عن حديث سَمُرة عند ابن خزيمة والترمذي: لم يسمع له صوتاً. وإن ثبت؛ لا يدل على نفي الجهر. قال ابن العربي: " الجهر عندي أولى؛ لأنها صلاة جامعة ينادى لها ويخطب، فأشبهت العيد والاستسقاء ". اهـ. قلت: وبهذا المعنى رَجَّحَ الجهرَ الطحاويُّ أيضاً. وحديث سَمُرة أشار الحافظ إلى أنه لا يثبت، وهو كذلك؛ فإن في إسناده ثعلبة بن عِبَاد البصري: مجهول - كما بينته في " التعليقات الجياد "، وفي " نقد التاج " رقم (240) -. وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً مرفوعاً من طرق كلها ضعيفة عن عكرمة عنه. وقد تكلمنا عليها هناك. وحديث علي الذي أشار إليه الحافظ قد أخرجه الطحاوي أيضاً موقوفاً عليه بإسناد صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 الجَهْرُ والإسْرارُ في القراءةِ في صلاةِ الليل (1) وأما في صلاة الليل؛ فكان تارة يُسِرُّ، وتارة يَجْهَر (2) .   (1) {قال عبد الحق في " التهجد " (90/1) : " وأما النوافل في النهار؛ فلم يصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها إسرار ولا إجهار، والأظهر أنه كان يُسر فيها، وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه مر بعبد الله بن حُذافة وهو يصلي بالنهار ويجهر فقال له: " يا عبد الله! سمِّع الله ولا تُسْمِعنا ". وهذا الحديث ليس بالقوي "} . (2) فيه أحاديث: الأول: عن عائشة رضي الله عنها، وله عنها طرق: 1- عن معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة: كيف كان قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل؟ أكان يسر بالقراءة أم يجهر؟ فقالت: كلَّ ذلك قد كان يفعل؛ ربما أسر بالقراءة، وربما جهر. فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة. أخرجه مسلم (1/171) - ولم يسق لفظه -، والبخاري في " أفعال العباد " (84) - مختصراً دون قول ابن أبي قيس -، والنسائي (1/245) ، والترمذي (2/311) - وقال: " حسن صحيح ". والسياق له -، والحاكم (1/310) ، وأحمد (6/73 و 149) من طرق عنه. وقد صححه العراقي في " تخريج الإحياء " (1/315) . وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. 2- عن بُرْد بن سِنان عن عُبادة بن نُسَيّ عن غُضَيف بن الحارث قال: قلت لعائشة ... فذكره بنحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 ..............................................................................   أخرجه أبو داود (1/35) ، وابن ماجه (1/408) ، وأحمد أيضاً (6/47) من طرق عنه. وهذا إسناد حسن أو صحيح. 3- عن مَعْمَر عن عطاء الخراساني عن يحيى بن يَعْمَر - عن عائشة - قال: سألها رجل: ... فذكر نحوه. أخرجه أحمد (16/53 و 167) . ورجاله ثقات رجال مسلم، إلا أنه منقطع؛ يحيى ابن يَعْمَر لم يسمع من عائشة - كما قال أبو داود -. لكن في الرواية الأولى لأحمد: قال: قلت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع صوته بالقراءة؟ قالت: ... الحديث. ففيه التصريح بسماعه منها، والسند إلى الخراساني صحيح، لكنه منقطع أيضاً؛ فعطاء هذا مع كونه من رجال مسلم؛ فقد قال في " التقريب ": " صدوق يهم كثيراً، ويرسل ويدلس ". فلعل ذلك من أوهامه أو تدليساته. الحديث الثاني: عن أبي هريرة قال: كانت قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل يرفع طوراً، ويخفض طوراً. أخرجه أبو داود (1/208) ، والطحاوي (1/203) من طريق ابن المبارك عن عِمْرَان ابن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالِبي عنه. وهذا إسناد ضعيف؛ زائدة - وهو: ابن نَشِيط - وشيخه أبو خالد فيهما جهالة، وفي " التقريب " أنهما مقبولان. ثم رأيته في " المستدرك " (1/310) من هذا الوجه، وصححه هو والذهبي. والحديث يدل على أن المصلي في الليل مخير بين الإسرار بالقراءة، والجهر بها، وبه يقول أبو حنيفة وصاحباه - كما في " شرح المعاني " -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 و " كان إذا قرأ وهو في البيت؛ يسمع قراءته من في الحُجْرة " (1) ، وهذا كناية عن التوسط بين الجهر والإسرار. {و " كان ربما رفع صوته أكثر من ذلك حتى يسمعه من كان على عريشه " (*) . (أي: خارج الحجرة) } .   (1) هو من حديث ابن عباس قال: كانت قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قدر ما يسمعه من في الحجرة، وهو في البيت. أخرجه أبو داود (1/208) ، وعنه البيهقي (3/10 - 11) ، والترمذي في " الشمائل " (2/143) ، والطحاوي (1/203) ، وأحمد (1/271) ، والطبراني في " الكبير " (11/218) عن سعيد بن منصور - وهو مكي -، ومن طريقهما الضياء المقدسي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عنه. وهذا إسناد حسن. رجاله رجال الشيخين؛ غير عبد الرحمن بن أبي الزناد، وقد تكلموا فيه من جهة حفظه، وفي " التقريب ": " صدوق، تغير حفظه ". ثم وجدت له طريقاً أخرى؛ أخرجه البخاري في " خلق أفعال العباد " (84) ، والبيهقي. وسنده صحيح على شرطهما - وينبغي أن يوضع لفظه في المتن (**) -. وكذا الضياء المقدسي.   (*) انظر تخريجه فيما يأتي (ص 422) . (**) ولفظه: وكان يقرأ في بعض حُجرِه؛ فيسمع قراءته من كان خارجاً. ثم رأينا الشيخ رحمه الله قد رفع حديث أم هانئ الآتي إلى المتن في " صفة الصلاة "، وهو بين حاصرتين أعلاه، فلعله بذلك حصل مقصود الشيخ رحمه الله. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 ..............................................................................   قلت: ويشهد له ويقويه حديث أم هانئ قالت: كنت أسمع قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل، وأنا على عريشي. أخرجه النسائي (1/157) ، والترمذي في " الشمائل " (2/141) ، وابن ماجه (1/407) ، {البيهقي في " الدلائل " [6/257] } ، والطحاوي، وأحمد (6/341 - 342 و343) من طرق عن أبي العلاء العبدي هلال بن خَبّاب عن يحيى بن جعدة عنها. وهذا إسناد حسن أيضاً. وفي " الزوائد ": " إسناده صحيح. ورجاله ثقات. ورواه الترمذي في " الشمائل "، والنسائي في " الكبرى ". اهـ. قلت: هلال هذا - وإن كان ثقة -؛ فقد كان تغير بأخرة؛ فحديثه لا يحتمل التصحيح، وغايته أن يكون حسناً، وقد قواه الحافظ (9/74) ، ويأتي بزيادة في آخر (القراءة) [ص 568] . قلت: ثم وجدت له شاهداً من حديث ابن مسعود. أخرجه الطبراني في " الكبير " (9/9396) ، وسنده هكذا: ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي: نا جعفر بن محمد بن الحسن: نا حميد بن حماد بن خُوَار عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: أخبرنا متى كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوتر؟ قال: إذا بقي من الليل نحو ما مضى منه إلى صلاة المغرب. فسألوه عن قراءته فقال: كان يُسْمعُ أهل الدار. ومحمد بن عبد الله الحضرمي هذا - كنيته: أبو جعفر - يروي عنه الطبراني كثيراً في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 ..............................................................................   " معجمه " هذا، وروى له حديثاً واحداً في " معجمه الصغير " (ص 169) ، ولم أجد له ترجمة (*) . وكذا شيخه جعفر بن محمد بن الحسن لم أجد من ذكره، وقد روى له في " الصغير " حديثاً واحداً (ص 65) ، ونسبه إلى (الأسدي) . وحميد بن حَماد بن خُوار - بضم المعجمة وتخفيف الواو، وهو -: لين الحديث - كما في " التقريب " -. وبقية رجال الإسناد رجال الستة. وفي " المجمع " (2/245) : " رواه الطبراني في " الكبير "، وفيه جعفر بن محمد بن الحسن، ولم أعرفه ". والحديث يعني أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قرأ في بيته؛ يسمع قراءته من في البيت من أهله، ولا يخفى ذلك عليهم، ولا يتجاوز صوته إلى ما وراء الحجرات؛ لكونها قراءة متوسطة بين الجهر والإسرار، فلا هي في غاية الجهر، ولا في غاية الخفاء. والحجرة - على ما جزم في " المصباح " -: البيت. وفي " الكشاف ": المرفق من الأرض المحجورة. أي: الممنوعة بحائط يحوطها عليها. وقال القسطلاني: المراد بالبيت: الدار، وبحجرتها: المحجر حولها بحجر، ويمنع من الدخول فيه، والاطلاع عليه. اهـ. من شرح " الشمائل " للمناوي. قلت: وقال شيخ الإسلام في " الرد على الأخنائي " (ص 193) بعد أن ذكر الآثار الواردة في بيوت أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحجرات التي ضُمت إلى المسجد النبوي قال: " ولفظ الحجرة في هذه الآثار لا يراد به جملة البيت - كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} -؛ بل يراد ما يتخذ حجرة للبيت عندك؛ مثل الحريم للبيت، وكانت هذه من جريد النخل، بخلاف الحُجَر التي هي   (*) هو الحافظ الكبير الملقب بـ (مطيَّن) . انظر " الصحيحة " (1/669 و 6/121 و 142) . وشيخه جعفر بن محمد هو الإمام أبو بكر الفريابي، ثقة حافظ مأمون. انظر " الصحيحة " (7/1666) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وبذلك أمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؛ وذلك حينما " خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه يصلي يخفض من صوته، ومَرَّ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يصلي رافعاً صوته، فلما اجتمعا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: " يا أبا بكر! مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك؟ ". قال: قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول الله! وقال لعمر: " مررت بك وأنت تصلي رافعاً صوتك؟ ". فقال: يا رسول الله! أُوْقِظُ الوَسْنَانَ، وأَطْرُدُ الشيطان. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر! ارفع من صوتك شيئاً ". وقال لعمر: " اخفض من صوتك شيئاً " (1) .   المساكن؛ فإنها كانت من اللَّبِن ". قال: " ومما يوضح مسمى الحجرة التي قدام البيت ما في " سنن أبي داود " وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ". فَبَيَّنَ أنه كلما كان المكان أستر لها؛ فصلاتها فيه أفضل، فالمخدع أستر من البيت الذي تقعد فيه، والبيت أستر من الحجرة التي هي أقرب إلى الباب والطريق ". فالظاهر من الحجرة في حديث ابن عباس هذا: هذه الحجرة التي عند الباب، لا البيت؛ لأنه خلاف الحجرة بنص هذا الحديث. (1) أخرجه أبو داود (1/208) ، والترمذي (2/309 - 310) ، والحاكم (1/310) من طريق يحيى بن إسحاق: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت البُنَاني عن عبد الله بن رَبَاح عن أبي قتادة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 ..............................................................................   أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج ليلة ... الحديث. وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وأما الترمذي؛ فأعله بقوله: " هذا حديث غريب. وإنما أسنده يحيى بن إسحاق عن حماد بن سلمة. وأكثر الناس إنما رووه عن ثابت عن عبد الله بن رباح مرسلاً ". قال المعلق عليه الشيخ أحمد محمد شاكر: " هذا التعليل لا يؤثر في صحة الحديث؛ فإن يحيى بن إسحاق ثقة صدوق- كما قال أحمد -. وقال ابن سعد: كان ثقة حافظاً لحديثه. ووَصْلُ الحديث زيادة يجب قبولها ". اهـ. وقد روى الحديث أبو داود عن موسى بن إسماعيل: ثنا حماد عن ثابت البُنَاني عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلاً، دون قوله: " يا أبا بكر! ارفع من صوتك ... " إلخ. وكذلك أخرجه أيضاً الإمام أحمد (1/109) من حديث علي رضي الله عنه بنحوه. قال الهيثمي (2/366) : " ورجاله ثقات ". قلت: وفيهم هانئ بن هانئ؛ لم يرو عنه إلا أبو إسحاق السَّبِيعي. وفي " التقريب ": " مستور ". ورواه الطبراني في " الكبير " من حديث عمار بن ياسر نحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 ..............................................................................   وفيه أيوب بن جابر، وهو ضعيف. وابن نصر (53) عن زيد بن يُثَيْعٍ قال: كان أبو بكر إذا قرأ؛ خافَتَ ... الحديث نحوه. ورجاله ثقات. لكن ظاهره الإرسال؛ فإن زيداً هذا لم يذكر من حدثه به من الصحابة، ولعله سمعه من أبي بكر؛ فإن له رواية عنه. وأبو داود من حديث أبي هريرة. وإسناده حسن. وقال العراقي (1/158) : " صحيح ". وليس بصحيح؛ لأنه من رواية محمد بن عمرو، وفيه كلام من جهة حفظه؛ فهو حسن الحديث. قال ابن العربي في " عارضة الأحوذي ": " اختلف الناس في أي المقامين أفضل: هل التناجي سراً مع المولى، أم الجهر؛ لما في ذلك من تضاعف الأجر في تذكرة الغافل، وطرد العدو؟ وما حكم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه أعدل شاهد؛ فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُزِلْ أبا بكر عن صفته، ولا عمر، وقال لهذا: " ارفع من صوتك قليلاً "؛ حتى يقتدي بك من يسمعك. وقال لعمر: " اخفض من صوتك "؛ لئلا يتأذى بك من يحتاج إلى النوم. وهذا إنما كان في حق أبي بكر للقطع في خُلُوصِ نيته، وسلامته عن الرياء، وتصديقه له في قوله: أسمعتُ من ناجيتُ. وأما غيره؛ فالسر له أفضل؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأسلم من الآفات. وقد ثبت عن عائشة في " الصحيح ": الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 وكان يقول: " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسِرُّ بالقرآن كالمُسِرِّ بالصدقة (1) " (2) .   أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما أسر في قراءته، وربما جهر. فقال الراوي له عن عائشة: الحمد لله الذي جعل في الأمر سَعَةً. فيقرأ كل أحد بما قدر عليه من نشاطه وكسله، وبما سلم من إخلاصه، أو خوفه الرياءَ والتصنعَ على نفسه ". (1) وقد قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} . قال الترمذي: " ومعنى هذا الحديث: إن الذي يُسِرُّ بقراءة القرآن أفضل من الذي يجهر بها؛ لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية. وإنما معنى هذا عند أهل العلم: لكي يأمن الرجلُ من العُجب؛ لأن الذي يُسِرّ العمل لا يخاف عليه العُجب ما يُخاف عليه من علانيته ". قال السندي: " لكن الذي يقتضيه أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: " ارفع من صوتك ": أن الاعتدال في القراءة أفضل؛ فإما أن يحمل الجهر في الحديث على المبالغة، والسر على الاعتدال. أو على أن هذا الحديث محمول على ما إذا كان الحال يقتضي السر، وإلا؛ فالاعتدال في ذاته أفضل ". قلت: والاحتمال الثاني أظهر. والله أعلم. (2) أخرجه البخاري في " أفعال العباد " (94) ، وأبو داود (1/209) ، والنسائي (1/357) ، والترمذي (2/151 - طبع بولاق) ، وابن نصر (53) ، والحاكم (1/554 - 555) ، وأحمد (4/151 و 158) عن بَحِير بن سعد عن خالد بن مَعْدَان عن كثير بن مُرّة الحضرمي عن عقبة بن عامر مرفوعاً به. وقال الترمذي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 ..............................................................................   " حسن غريب ". والحاكم: " صحيح على شرط البخاري ". ووافقه الذهبي. وإنما هو صحيح فقط؛ لأن بَحِير بن سعد لم يرو له البخاري في " صحيحه "؛ بل في " الأدب المفرد ". ثم أخرجه النسائي (1/245) من طريق محمد بن سُمَيع قال: ثنا زيد - يعني: ابن واقد - عن كثير بن مرة به نحوه. وهو في " المسند " (4/201) من طريق الهيثم بن حميد عن زيد بن واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مرة به. فقد أدخل بينهما سليمان بن موسى، وهو ثقة. وهي متابعة قوية لخالد بن معدان. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 ما كانَ يقرؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات وأما ما كان يقرؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات من السور والآيات؛ فإن ذلك يختلف باختلاف الصلوات الخمس وغيرها، وهاك تفصيل ذلك - مبتدئين بالصلاة الأولى من الخمس -: 1- صلاةُ الفجر كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فيها بطوال المفصل (1) ؛ فـ " كان - أحياناً - يقرأ:   (1) وهي السُّبُعُ الأخير من القرآن؛ أوَّله سورة {ق} ، هذا هو الأرجح - كما سبق عن الحافظ وغيره -. وهو من حديث أبي هريرة، رواه عنه سليمان بن يسار؛ أنه قال: ما رأيت رجلاً أشبه صلاة من فلان - لإمام كان بالمدينة -، قال سليمان بن يَسَار: فصليت خلفه؛ فكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل. قال الضحاك: وحدثني من سمع أنس بن مالك يقول: ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا الفتى - يعني: عمر بن عبد العزيز -. قال الضحاك: فصليت خلف عمر بن عبد العزيز؛ وكان يصنع مثل ما قال سليمان ابن يسار. أخرجه النسائي (1/154) ، والبيهقي (2/388) ، وأحمد (2/300 و 329 - 330) من طرق عن الضحاك بن عثمان عن بُكَير بن عبد الله عن سليمان به. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وقد صححه ابن خزيمة وغيره - كما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 {الوَاقِعَة} (56: 96) (1) ونحوها من السور في الركعتين " (2) .   " الفتح " -. (2/197) وقال في " بلوغ المرام " (1/247 - 248) : " إسناده صحيح ". وكذا قال النووي (3/383) . ورواه ابن حبان في " صحيحه " - كما في " نصب الراية " (2/5) -. وليس عند النسائي: قال الضحاك ... إلخ. وهو رواية لأحمد. وفي لفظ للنسائي: ويقرأ في العشاء بـ: {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وأشباهها، ويقرأ في الصبح بسورتين طويلتين. قال الشوكاني (2/197) : " والحديث استُدل به على مشروعية ما تضمنه من القراءة في الصلوات؛ لما عرفت من إشعار لفظ: (كان) بالمداومة. قيل: في الاستدلال به على ذلك نظر؛ لأن قوله: (أشبه صلاة) يحتمل أن يكون في معظم الصلاة، لا في جميع أجزائها. وقد تقدم نظير هذا. ويمكن أن يقال في جوابه: إن الخبر ظاهر في المشابهة في جميع الأجزاء؛ فيحمل على عمومه حتى يثبت ما يخصصه ". اهـ. (1) الرقم الأول يشير إلى رقم السورة المتسلسل، والآخر إلى عدد آياتها. (2) هو من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الصلوات؛ كنحوٍ من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف؛ كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر: {الوَاقِعَة} ونحوها من السور. أخرجه الحاكم (1/240) ، وأحمد (5/104) ، {وابن خزيمة (1/69/1) = [1/265/531] } ، والطبراني في " الكبير " من طريق إسرائيل عن سِمَاك بن حرب: أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وقرأ من سورة {الطُّور} (52: 49) ؛ وذلك في حجة الوداع (1) .   سمع جابر بن سمرة يقول: ... فذكره. وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وأخرجه ابن حبان أيضاً في " صحيحه " - كما في " نصب الراية " (2/4) -. وقد تابعه الثوري عن سِمَاك - كما ذكره البيهقي (2/389) -. وقد أخرجه مسلم وغيره من طريق أخرى عن سماك بلفظ: {ق. وَالقُرْآنِ} ونحوها. ويأتي بعد هذا. (1) هو من حديث أم سلمة رضي الله عنها. رواه البخاري (2/201) معلقاً؛ فقال: " (باب الجهر بقراءة صلاة الفجر) . وقالت أم سلمة: طفت وراء الناس، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، ويقرأ: {الطُّور} ". وقد وصله هو (3/377 - 378 و 385) ، ومسلم (4/68) ، وأبو داود (1/295) ، والنسائي (2/37) ، وابن ماجه (2/225) ، وأحمد (6/290 و 319) ؛ كلهم من طريق مالك (2/336) عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها قالت: شكوت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني أشتكي. فقال: " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ". قالت: فطفت راكبةً بعيري، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينئذٍ يصلي إلى جانب البيت، وهو يقرأ بـ: {الطُّورِ. وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} . وليس في هذه الرواية كون ذلك في صلاة الفجر، وإنما ورد ذلك في رواية أخرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 و " كان - أحياناً - يقرأ: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} (50: 45) ونحوها في [الركعة الأولى] " (1) .   عند البخاري (381 - 382) من طريق هشام عن عروة عن أم سلمة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال - وهو بمكة، وأراد الخروج، ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت، وأرادت الخروج؛ فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أقيمت صلاة الصبح؛ فطوفي على بعيرك والناس يصلون ". ففعلت ذلك؛ فلم تُصَلِّ حتى خرجت. وأما ما في رواية ابن خزيمة عن مالك في هذا الحديث بلفظ: وهو يقرأ في العشاء الآخرة. فشاذ. مع أنه تفرد به ابن لهيعة، وهو لا يحتج به إذا انفرد؛ فكيف إذا خالف؟! وقد بين ذلك الحافظ في " الفتح " (2/201) ؛ فليراجعه من شاء. (1) هو من حديث جابر بن سمرة أيضاً. أخرجه مسلم (2/40) ، والبيهقي (2/389) ، وأحمد (5/91 و 102 و 103 و105) ، والطبراني في " الكبير " من طريق زائدة وزهير - والسياق له - عن سماك قال: سألت جابر بن سمرة عن صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: كان يُخفف الصلاة، ولا يصلي صلاة هؤلاء. قال: وأنبأني أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في الفجر بـ: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} ونحوها. {وهو مخرج مع الذي بعده في " الإرواء " (345) } . وللحديث شواهد: منها: عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما أخذت {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} إلا من وراء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كان يصلي بها في الصبح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 ..............................................................................   أخرجه النسائي (1/151) ، وأحمد (6/463) من طريق عبد الرحمن بن أبي الرِّجال عن يحيى بن سعيد عن عَمْرَة عنها. وهذا إسناد حسن. رجاله رجال الشيخين؛ غير ابن أبي الرجال، وهو صدوق ربما أخطأ - كما في " التقريب " -. ومنها: عن قطبة بن مالك: أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الفجر: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} . أخرجه مسلم (2/39 - 40) ، والبخاري في " أفعال العباد " (81) ، والترمذي (2/108 - 109) ، وابن ماجه (1/272) ، والدارمي (1/297) ، والبيهقي (2/388) ، والطيالسي (177) ، وأحمد (4/322) من طرق عن زياد بن عِلاقة عنه. وكذلك أخرجه النسائي (1/151) ، وأبو حنيفة في " مسنده " (ص 14) ، ومن طريقه الخطيب في " تاريخه " (2/89) ، والطبراني في " الصغير " (143) . والزيادة هي من حديثه عند الترمذي، ورواية لمسلم، والدارمي. وفي لفظ لمسلم: فقرأ: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} ، حتى قرأ: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} . قال: فجعلت أرددها، ولا أدري ما قال! وفي رواية للطيالسي: قلت في نفسي: ما بُسوقُها؟ وكذلك أخرجه الحاكم (2/464) ، وزاد بلفظ: فجعلت أقول له: ما بُسوقُها؟ فقال: طولها. وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 و " كان - أحياناً - يقرأ بقصار المفصل كـ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (81: 29) " (1) .   " صحيح على شرط مسلم ". قلت: هو من رواية المسعودي عن زياد. والمسعودي: كان قد اختلط. (1) رواه عمرو بن حريث رضي الله عنه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الفجر: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} . أخرجه مسلم (2/39) ، والنسائي (1/151) ، والدارمي (1/297) ، والبيهقي (2/388) ، والطيالسي (142 و 168) ، وأحمد (4/306 - 307) من طريق مِسْعر والمسعودي عن الوليد بن سَرِيعٍ عنه. زاد المسعودي: فلما انتهى إلى هذه الآية: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} ؛ جعلت أقول في نفسي: ما الليل إذا عسعس؟ وله طريقان آخران: الأول منهما: عن إسماعيل بن أبي خالد عن أَصْبغَ مولى عمرو بن حريث عنه بلفظ: كأني أسمع صوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في صلاة الغداة: {فَلَا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ. الجَوَارِ الكُنَّسِ} . أخرجه أبو داود (1/130) ، وابن ماجه (1/272) . وإسناده حسن. الثاني: عن الحَجّاج المُحارِبي عن أبي الأسود عنه به نحوه. أخرجه أحمد (4/307) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 و " قرأ مرةً: {إِذَا زُلْزِلَتْ} (99: 8) في الركعتين كلتيهما؛ حتى قال الراوي: فلا أدري؛ أنَسِيَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم قرأ ذلك عمداً؟! (1) " (2) .   وأبو الأسود: لم يوثقه غير ابن حبان. وفي " التقريب ": " مقبول ". (1) تَرَدَّدَ الصحابي في أن إعادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للسورة؛ هل كان نسياناً؛ لكون المعتاد من قراءته أن يقرأ في الركعة الثانية غير ما قرأ به في الأولى؛ فلا يكون مشروعاً لأمته. أو فَعَلَه عمداً لبيان الجواز؛ فتكون الإعادة مترددة بين المشروعية وعدمها؟ وإذا دار الأمر بين أن يكون مشروعاً أو غير مشروع؛ فَحَمْلُ فِعلِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المشروعية أولى؛ لأن الأصل في أفعاله التشريع، والنسيان على خلاف الأصل. كذا في " نيل الأوطار ". {والظاهر أنه عليه السلام فعل ذلك عمداً للتشريع} . (2) أخرجه أبو داود (1/130) : ثنا أحمد بن صالح: ثنا ابن وهب: أخبرني عمرو عن ابن أبي هلال عن معاذ بن عبد الله الجُهَني: أن رجلاً من جُهينة أخبره: أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} ... الحديث. وأخرجه البيهقي (2/390) من طريقه. قال النووي في " المجموع " (3/384) : " إسناده صحيح ". وهو كما قال؛ فإن رجاله كلَّهم ثقات رجال الشيخين؛ غير معاذ بن عبد الله الجُهَني، وهو ثقة - كما قال ابن معين، وأبو داود وغيرهما -، وفي " التقريب ": " صدوق ربما وهم ". وأما قول الشوكاني (2/193) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 و " قرأ مرة في السفر المعوذتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} (113: 5) ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (114: 6) ". وقال لعقبة بن عامر رضي الله عنه: " اقرأ في صلاتك المعوذتين؛ [فما تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بمثلهما] " (1) .   " الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وقد قدمنا أن جماعة من أئمة الحديث صرحوا بصلاحية ما سكت عنه أبو داود للاحتجاج، وليس في إسناده مطعن؛ بل رجاله رجال " الصحيح "، وجهالة الصحابي لا تضر عند الجمهور، وهو الحق ". ففيه مسامحة؛ لأن معاذاً هذا لم يخرج له في " الصحيحين " أو أحدهما؛ وإنما أخرج له البخاري في " الأدب المفرد ". ثم ما ذكره من صلاحية الاحتجاج بما سكت عنه أبو داود ليس بمُطَّرد؛ بل فيه ما لا يجوز الاحتجاج به، وقد مَرَّ معنا أمثلة كثيرة على ذلك. فتنبه! (1) هو من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. وله عنه طرق: الأول: عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن القاسم مولى معاوية عنه قال: كنت أقود برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقته في السفر، فقال لي: " يا عقبة! ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟ ". فعلَّمَني: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . قال: فلم يرني سُررت بهما جداً. فلما نزل لصلاة الصبح؛ صلى بهما صلاة الصبح للناس، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصلاة؛ التفت إليَّ فقال: " يا عقبة! كيف رأيت؟ ". أخرجه أبو داود (1/230) ، والنسائي (2/313) ، {وابن خزيمة (1/69/2) = [1/268/535] } ، والحاكم (1/240) ، والبيهقي (2/394) ، وأحمد (4/149 - 150 و153) من طرق عن معاوية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 ..............................................................................   وهذا إسناد حسن. ثم أخرجه النسائي، {وابن خزيمة (1/69/2) = [1/266 - 267/534] } ، والطحاوي في " مشكل الآثار " (1/35) ، وأحمد (4/144) عن الوليد بن مسلم قال: ثني ابن جابر عن القاسم به نحوه، وزاد: " اقرأ بهما كلما نمت، وكلما قمت ". وقد تابعه بشر بن بكر عن ابن جابر. أخرجه الطحاوي. الثاني: عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عقبة به نحوه، وزاد: " تَعَوَّذْ بهما؛ فما تعوذَ مًتَعَوِّذٌ بمثلهما ". أخرجه أبو داود، وعنه البيهقي، والطحاوي (1/36) عن محمد بن إسحاق عن سعيد. وقد تابعه محمد بن عجلان عن سعيد. أخرجه النسائي بلفظ: " ما سأل سائلٌ بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذٌ بمثلهما ". ولكن ليس فيه أنه أَمَّهم بهما في الصلاة. والإسناد حسن، أو صحيح لغيره. الثالث: عن أبي أسامة عن سفيان عن معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جُبَير ابن نُفيَر عن أبيه عن عقبة: أنه سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المعوذتين؟ قال عقبة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 ..............................................................................   فأمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهما في صلاة الغداة. أخرجه النسائي (1/151 و 2/312 - 313) ، {وابن خزيمة (1/69/2) = [1/268/536] } ، والحاكم (1/240 و 567) ، وعنه البيهقي. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي! وإنما هو على شرط مسلم فقط. وقد أخرجه ابن حبان في " صحيحه " - (2/4) من " نصب الراية " -، وابن أبي شيبة في " مصنفه " { (12/176/1) } ، والطبراني في " معجمه " (*) . وقد تابعه خالد بن مَعْدان عن جُبير بن نُفير مطولاً بنحو حديث معاوية بن صالح؛ ولكنه لم يذكر الصلاة، ولا {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، وزاد فيه: " لعلك تهاونت بها؛ فما قمت تصلي بشيء مثلها ". وإسناده صحيح أيضاً. الرابع: قال أحمد (4/24 و 79) : ثنا إسماعيل: أنا الجُرَيري عن أبي العلاء قال: قال رجل: كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر ... الحديث بنحو الأول؛ لكن لم يذكر الصلاة، وزاد: " إذا صليت؛ فاقرأ بهما ". وهذا إسناد صحيح على شرطهما، وأبو العلاء هو: يزيد بن عبد الله بن الشّخِّير. وقد رواه شعبة عن الجريري به مختصراً: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر به فقال: " اقرأ في صلاتك بالمعوذتين ".   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع (ص 110) لابن بشران في " الأمالي ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 وكان أحياناً يقرأ بأكثر من ذلك، فـ " كان يقرأ ستين آية فأكثر " (1) ؛ قال بعض رواته: " لا أدري في إحدى الركعتين أو في كلتيهما! ". و" كان يقرأ بسورة {الرُّوم} (30: 60) " (2) .   أخرجه الطحاوي (1/36) ، وأحمد (4/78) . وهو صحيح أيضاً. ومن الواضح البين أن الحديث واحد، والقصة واحدة، ولكن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر، أو ذكر ما لم يذكره الآخر، والأخذ بالزائد واجب. (1) هو من حديث أبي برزة الأسلمي. أخرجه البخاري (2/17 و 21 - 22 و 200) ، ومسلم (2/40) ، وأبو داود (1/66) ، والنسائي (1/151) ، والدارمي (1/298) ، وابن ماجه (1/272) ، والبيهقي (2/389) ، والطيالسي (124) ، وأحمد (4/419 و 420 و 423 و 425) من طرق عن سَيَّار أبي المِنهال عنه به. زاد البخاري وأحمد في رواية: قال سَيَّار: لا أدري في إحدى الركعتين، أو في كلتيهما! (2) فيه حديثان: أحدهما: عن الأغر المزني: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في صلاة الصبح بسورة {الرُّوم} . رواه البزار. قال الهيثمي (2/119) : " وفيه مؤمل بن إسماعيل: وهو ثقة. وقيل فيه: إنه كثير الخطأ ". قلت: وفي " التقريب ": " صدوق سيئ الحفظ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 و " أحياناً بسورة {يس} (36: 83) " (1) .   قلت: فحديثه حسن بشاهده، وهو: الحديث الثاني: عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه صلى صلاة الصبح فقرأ {الرُّوم} ، فالتبس عليه، فلما صلى؛ قال: " ما بال أقوام يصلون معنا لا يحسنون الطهور؟! فإنما يلبس علينا القرآن أولئك ". أخرجه النسائي (1/151) ، وعبد الرزاق (2/116) ، وأحمد (5/363 و 368) عن عبد الملك بن عُمَير عن شَبِيب أبي روح عنه (1) . وشَبِيب هذا - هو ابن نُعيم، ويقال: ابن أبي روح، وكنيته أبو روح الحِمصي -: ذكره ابن حبان في " الثقات "، وقد روى عنه جمعٌ؛ منهم حَرِيز بن عثمان، وقد قال أبو داود: " شيوخ حريز كلهم ثقات ". وفي " التقريب ": " ثقة، أخطأ مَنْ عَدَّه في الصحابة ". وعبد الملك بن عُمير: ثقة تغير حفظه، وربما دلس، وقد أخرج له الشيخان. ثم تبين من إسناد البزار (1/234/477 - " كشف الأستار ") أنه من طريق عبد الملك أيضاً. (1) هو من حديث جابر بن سَمُرة: أن النيي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في الصبح بـ: {يس} . رواه الطبراني في " الأوسط "، ورجاله رجال " الصحيح ". كذا " المجمع " (2/119) .   (1) {وسنده جيد. هذا هو الذي استقر عليه الرأي أخيراً؛ خلافاً لما كنت ذكرته في " تمام المنة " (ص 180) وغيره؛ فليُعلم} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 ..............................................................................   وفي اقتصاره في عزوه على " الأوسط " قصور! فقد أخرجه أيضاً في " المعجم الكبير " من طريق يحيى الحِمَّاني عن يزيد بن عطاء عن سِمَاك بن حرب عنه بلفظ: وكان يقرأ في صلاة الفجر بـ: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} ، و {حم} ، و {يس} ، ونحو ذلك. وإن كان هو في " الأوسط " من هذا الوجه؛ فقوله: " رجاله رجال " الصحيح " "؛ غير صحيح؛ لأن يزيد بن عطاء هذا - وهو اليَشْكُري - ليس من رجال " الصحيح "، وإنما روى له البخاري في " خلق أفعال العباد "، ثم إنه متكلَّم فيه لسوء حفظه؛ ولذلك قال الحافظ في " التقريب ": " لين الحديث ". وقد روى الحديثَ مسلمٌ وغيره بغير هذا اللفظ، فتفردُ يزيدَ هذا به مما يشعر أنه أخطأ فيه. ثم وجدت له متابعاً قوياً؛ قال الإمام أحمد (4/34) : ثنا يونس: ثنا أبو عَوَانة عن سِمَاك بن حرب عن رجل من أهل المدينة: أنه صلى خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فسمعته يقرأ في صلاة الفجر: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} ، و: {يس. وَالقُرْآنِ الحَكِيمِ} . وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وأبو عوانة اسمه: وضَّاح بن عبد الله اليَشْكُري، وهو ثقة ثبت - كما في " التقريب " -. و (الرجل من أهل المدينة) لعله: جابر بن سمرة؛ بدليل الروايات الأخرى عن سماك - كما تقدم -. ثم إن ظاهر الحديث أنه سمعه يقرأ مرة بهذه ومرة بهذه، لا أنه جمعهما في صلاة واحدة أو ركعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 ومرة " صلى الصبح بمكة؛ فاستفتح سورة {المُؤْمِنِين} (23: 118) ، حتى جاء ذكر موسى وهارون - أو: ذكر عيسى (1) . شك بعض الرواة -؛ أخذته سَعْلَة (2) ؛ فركع " (3) .   (1) أما ذكر موسى؛ فهو في قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . وأما عيسى؛ ففي الآية التي بعد هذه بأربع آيات، وهي: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} . (2) بفتح أوله من السعال، ويجوز الضم، واستُدِل به على أن السعال لا يبطل الصلاة. قال الحافظ (2/203) : " وهو واضح فيما إذا غلبه ". قال: " ويؤخذ منه أن قطع القراءة لعارض السعال ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال والتنحنح، ولو استلزمَ تخفيفَ القراءة فيما استُحِب فيه تطويلُها ". وقال النووي في " شرح مسلم ": " وفي الحديث جواز قطع القراءة، والقراءة ببعض السورة، وهذا جائز بلا خلاف، ولا كراهة فيه؛ إن كان القطع لعذر، وإن لم يكن له عذر؛ فلا كراهة فيه أيضاً، ولكنه خلاف الأولى. هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وبه قال مالك في رواية عنه، والمشهور عنه كراهته ". قلت: والحديث لا يرِد عليه؛ لأنه كان لضرورة، وإنما يرِد عليه ما سيأتي في (سنة الصبح) و (صلاة المغرب) من اقتصاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بعض السورة. (3) هو من حديث عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: صلى لنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصبح بمكة، فاستفتح سورة {المُؤْمِنِين} حتى جاء ذكر موسى وهارون - أو: ذكر عيسى. شك بعض الرواة - أخذَتِ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سعلة؛ فركع. أخرجه مسلم (2/29) ، والنسائي (1/156) ، وابن ماجه (1/273) ، والطحاوي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 و " كان أحياناً يؤمهم فيها بـ: {الصَّافَّات} (37: 182) " (1) .   (1/205) ، والبيهقي (2/60 و 389) ، وأحمد (3/411) من طرق عنه يرويها رجل واحد: وهو محمد بن عباد بن جعفر، وهو الذي شك، ولم يشك في بعض الروايات عنه. وقد أخرجه البخاري تعليقاً فقال (2/203) : ويُذكر عن عبد الله بن السائب. وقد وقع اختلاف في إسناده كما ذكره الحافظ، ثم قال: " وكان البخاري علقه بصيغة: (ويذكر) لهذا الاختلاف، مع أن إسناده مما تقوم به الحجة ". {وهو مخرج في " الإرواء " (397) } . (1) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: إن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليأمرنا بالتخفيف، وإن كان لَيَؤُمُّنا بـ: {الصَّافَّات} في الصبح. أخرجه أحمد (2/40) ، {وأبو يعلى [5/42/5422] } من طريق يزيد بن هارون قال: أنبأنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله عن أبيه به. وهذا إسناد حسن. رجاله رجال الشيخين؛ غير الحارث بن عبد الرحمن - وهو القرشي العامري -؛ وهو ثقة؛ مع أنه لم يرو عنه غير ابن أبي ذئب - كما قال الحاكم أبو أحمد وغيره -. قال أحمد: " لا أرى به بأساً ". وقال النسائي: " ليس به بأس ". وقال ابن معين: " وهو مشهور". وذكره ابن حبان في " الثقات " وقال: " غزا مع جماعة من الصحابة ". ولذلك قال الذهبي في " الميزان "، والحافظ في " التقريب ": " صدوق ". وقد تابعه عن ابن أبي ذئب: الطيالسي (250) . لكنه شك في شيخ ابن أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 و " كان يصليها يوم الجمعة بـ: {الم. تَنْزِيلُ} : {السَّجْدَة} (32: 30) [في الركعة الأولى، وفي الثانية] بـ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} (76: 31) " (1) .   ذئب؛ فقال: عن الزهري أو غيره. وإنما هو الحارث هذا. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان في " صحيحه " - كما في " نصب الراية " (2/4) -، والضياء المقدسي في " المختارة ". وهو في " سنن النسائي " (1/132) ؛ لكن ليس فيه: في الصبح. وهو رواية لأحمد (2/26 و 40 و 157) ، وكذا المقدسي. وهي زيادة ثابتة. (1) فيه أحاديث كثيرة: الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ وله عنه طرق: 1- عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن الأعرج عنه قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر: {الم. تَنْزِيلُ} : {السَّجْدَة} ، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} . أخرجه البخاري (2/302) ، ومسلم (3/16) ، والدارمي (1/362) ، وكذا النسائي (1/151) ، وابن ماجه (1/273) ، والبيهقي (3/201) ، والطيالسي (ص 313) ، وأحمد (2/430، 472) عنه، والزيادة لمسلم وحده. 2- عن شعبة عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة قال: ... فذكره. أخرجه أحمد (2/430) . وسنده صحيح على شرط الستة، ولم يخرجوه. الحديث الثاني: عن ابن عباس مثله. أخرجه مسلم، وأبو داود (1/169) ، والنسائي (1/152 و 209 - 210) ، والترمذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 ..............................................................................   (2/398) - وقال: " حسن صحيح " -، وابن ماجه، والطحاوي (1/241) ، والبيهقي، والطيالسي (343) ، وأحمد (1/328 و 340 و 354) من طريق مُخَوَّل بن راشد عن مسلم البَطِين عن سعيد بن جُبير عنه به. وقد تابعه أبو إسحاق عن مسلم البطِين. أخرجه أحمد (1/354) . وعزرة عن سعيد بن جُبير. أخرجه الطحاوي (1/241) ، وأحمد (1/334) . ورواه شريك عن أبي إسحاق عن سعيد؛ فأسقط من بينهما مسلماً البطين. أخرجه الطحاوي، والطيالسي، وأحمد (1/272 و 307 و 316) . ثم رواه أحمد (1/272) عن شريك عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فذكره مرسلاً. وهذا من تخاليط شريك؛ فإنه كان سيئ الحفظ. وقد رواه الترمذي وغيره عنه عن مُخَوَّل بن راشد به. وزاد فيه بعضهم، وستأتي في (صلاة الجمعة) [ص 546] . الحديث الثالث: عن ابن مسعود. أخرجه ابن ماجه، والطبراني في " الكبير " وفي " الصغير " (ص 184 و 206) من طريقين عن أبي الأحوص عنه مثله. وإسناده صحيح - كما في " الزوائد " -، وزاد في " الصغير ": ... يديم ذلك. قال الحافظ (2/302) : " ورجاله ثقات؛ لكن صوب أبو حاتم إرساله ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 ..............................................................................   الحديث الرابع: عن سعد بن أبي وقاص مثله. أخرجه ابن ماجه عن الحارث بن نبهان: ثنا عاصم بن بهدلة عن مصعب بن سعد عن أبيه به. والحارث: ضعيف. الخامس: عن علي رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد في صلاة الصبح بـ {تَنْزِيلُ ... } : {السَّجْدَة} . قال الهيثمي (2/169) : " رواه الطبراني في " الأوسط " و " الصغير "، وفيه الحارث: وهو ضعيف "، وقال الحافظ في " الفتح ": " في إسناده ضعف ". قلت: هو في " الصغير " (ص 95) من طريق ليث بن أبي سُلَيم عن عمرو بن مرة عن الحارث عنه. وليث والحارث: ضعيفان. (فائدة) : قال الحافظ: " لم أرفي شيء من الطرق التصريح بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد لما قرأ سورة {تَنْزِيلُ ... } : {السَّجْدَة} في هذا المحل؛ إلا في كتاب " الشريعة " لابن أبي داود من طريق أخرى عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: غدوتُ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة في صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة؛ فسجد ... الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 و " كان يُطَوّل في الركعة الأولى، ويُقَصِّر في الثانية " (*) .   وفي إسناده من ينظر في حاله ". ثم ساق حديث علي هذا، ثم قال: " لكن في إسناده ضعف ". (فائد ة أخرى) : قال في " الزاد " (1/74 و 142) : " وإنما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ هاتين السورتين؛ لما اشتملتا عليه من ذكر المبتدأ والمعاد، وخلق آدم، ودخول الجنة والنار؛ وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة، فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم؛ تذكيراً للأمة بحوادث هذا اليوم ". وقال: " وكان يقرؤهما كاملتين، ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه، وقراءةِ {السَّجْدَة} وحدها في الركعتين؛ وهي خلاف السنة! وأما ما يظنه كثير من الجهال: أن صبح يوم الجمعة فُضِّلت بسجدة؛ فجهل عظيم! ولهذا كره بعض الأئمة قراءة سورة {السَّجْدَة} لأجل هذا الظن! ". ومن هؤلاء الأئمة الذين كرهوا ذلك مالكٌ؛ خلافاً للشافعي وأحمد وأصحاب الحديث؛ فإنهم استحبوا قراءتها، وقد نص صاحب " المحيط " من علمائنا على ذلك؛ قال: " بشرط أن يقرأ غير ذلك أحياناً؛ لئلا يظن الجهال أنه لا يجزئ غيره ". قلت: وهذا معقول؛ فقد كنت صيف سنة (1369) في المصيف المشهور (مَضَايا) ، وحضرت لصلاة الصبح، فصليت بهم إماماً، فقرأت في الأولى من سورة {يُوسُف} ، ثم كبرت للركوع، وإذا بمن خلفي يهوون أكثرهم إلى السجود؛ لغفلتهم عمَّا يُقرأ عليهم وكأنهم أعاجم، ولغلبة العادة عليهم!! (*) انظر تخريجه فيما يأتي من حديث أبي قتادة (ص 457) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 القراءةُ في سُنَّةِ الفَجْرِ وأما قراءته في ركعتي سنة الفجر؛ فكانت خفيفة جدّاً (1) ؛ حتى إن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: هل قرأ فيها بـ: {أم الكتاب} ؟! (2) (3) .   (1) هو من حديث حفصة بنت عمر رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ركعتي الفجر قبل الصبح في بيتي؛ يخففهما جداً. أخرجه هكذا الإمام أحمد (6/285) من طريق ابن إسحاق قال: ثني نافع عن ابن عمر عنها. وهذا إسناد جيد. وهو في البخاري (3/39) ، ومسلم (2/159) ، والنسائي (1/67 و 253 - 254) ، والدارمي (1/336) ، وابن ماجه (1/350) ، والطحاوي (1/175) والبيهقي (2/481) ، وأحمد أيضاً (6/283 - 284) من طرق عن نافع به؛ دون قوله: جداً. وكذلك أخرجه البخاري (2/86 - 87 و 3/35) ، ومسلم، وأبو داود (1/198) ، والنسائي، وأحمد (6/34 و 74 و 83 و 85 و 103 و117 و 132 و 143 و167 و 178 و 215 و230) من طرق عن عروة عن عائشة مثله. وله طريق أخرى يأتي بعد قريباً. (2) أخرجه البخاري (3/35 و 36) ، ومسلم (2/159 - 160) ، وأبو داود (1/197) ، والنسائي (1/121) ، والطحاوي (1/175) ، وأحمد (6/164 و 235) من طريق يحيى بن سعيد عن محمد بن عبد الرحمن، عن عمرة عن عائشة قالت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني لأقول: ... فذكرته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 ..............................................................................   وقد تابعه شعبة عن محمد بن عبد الرحمن؛ لكن بلفظ: كان إذا طلع الفجر؛ صلى ركعتين خفيفتين. أقول: يقرأ فيهما بـ: {فاتحة الكتاب} ؟ أخرجه الطحاوي، وأحمد (6/49 و 100 و 172) ، وكذا الطيالسي (221) عن شعبة به. ولعل أداة الاستفهام مقدرة في هذه الرواية؛ حتى تتفق مع رواية يحيى بن سعيد. ويقوي ذلك أن مسلماً رواه أيضاً من طريق شعبة بلفظ: هل يقرأ فيهما بـ: {فاتحة الكتاب} ؟ وكذلك أخرجه البخاري؛ لكنه لم يسق لفظه. وكأنه أحاله على الذي قبله. وللحديث طريق ثانٍ: أخرجه الطيالسي (217) عن يزيد بن إبراهيم، وأحمد (6/217) عن خالد الحذاء؛ كلاهما عن محمد بن سيرين قال: قالت عائشة: كان قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركعتين قبل صلاة الفجر قدر ما يقرأ {فاتحة الكتاب} . ورواه أحمد وغيره بلفظ آخر - كما يأتي -، وقد صححه ابن عبد البر - كما في " الفتح " -؛ لكن ذكر الطحاوي أنه منقطع؛ وذلك أن عائشة لم يسمع ابن سيرين منها - كما قال أبو حاتم -. (3) قال القرطبي: " ليس معنى هذا أنها شكت في قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الفَاتِحَة} ، وإنما معناه: أنه كان يطيل في النوافل، فلما خفف في قراءة ركعتي الفجر؛ صار كأنه لم يقرأ بالنسبة إلى غيرها من الصلوات ". كذا في " الفتح ". وقال نحوه النووي في " شرح مسلم ". ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وكان - أحياناً - يقرأ بعد {الفَاتِحَة} في الأولى منهما آية: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (2: 136) . وفي الأخرى منهما: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (3: 64) . وربما قرأ بَدَلَها: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (3: 52) (1) .   " فيه استحباب تخفيف سنة الصبح، وهو مذهب مالك والشافعي والجمهور. وقال بعض السلف: لا بأس بإطالتها، ولعله أراد أنها ليست محرمة، ولم يخالف في استحباب التخفيف. وقد بالغ قوم؛ فقالوا: لا قراءة فيهما أصلاً! وهو غلط بيّن؛ فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ فيهما بعد {الفَاتِحَة} بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وفي رواية: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} و: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ} . وثبت في الأحاديث الصحيحة: " لا صلاة إلا بقراءة " و " لا صلاة إلا بـ: {أم القرآن} ". و" لا تجزئ صلاة لا يُقرأ فيها بـ: {أم القرآن} " ". (1) هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 ..............................................................................   أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما ... الحديث. أخرجه مسلم (2/161) ، {وابن خزيمة [2/163/460] } من طريق أبي خالد الأحمر عن عثمان بن حكيم عن سعيد بن يَسَار عنه به. وكذلك أخرجه الحاكم (1/307) ، وقال: " صحيح على شرط مسلم "! فوهم في الاستدراك. وقد وجدت له طريقاً أخرى: أخرجه أحمد (1/265) من طريق ابن إسحاق قال: ثني العباس بن عبد الله بن مَعْبَد بن عباس عن بعض أهله عن ابن عباس أنه كان يقول: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في ركعتيه قبل الفجر بـ: {فاتحة الكتاب} والآيتين من خاتمة {البَقَرَة} في الركعة الأولى، وفي الركعة الآخرة بـ: {فاتحة الكتاب} وبالآية من {ألِ عِمْرَان} : {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ... } حتى يختم الآية. وهذا إسناد جيد؛ لولا جهالة الراوي عن ابن عباس. ثم أخرج الحديث مسلم، والنسائي (1/151) ، والطحاوي (1/176) عن مروان بن معاوية الفزاري. ومسلم أيضاً عن عيسى بن يونس. وأبو داود (1/198) عن زهير؛ ثلاثتهم عن عثمان بن حكيم به - مثل رواية أبي خالد عنه -؛ إلا أنهم قالوا: وفي الآخرة منهما: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . وله شاهد من حديث أبي هريرة، وهو: ما أخرجه أبو داود (1/198) ، والطحاوي (1/106) ، والبيهقي (3/43) عن عبد العزيز بن محمد قال: ثنا عثمان بن عمر بن موسى قال: سمعت أبا الغيث يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في السجدتين قبل الفجر؛ في السجدة الأولى: {قُولُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 وأحياناً يقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} (109: 6) في الأولى، و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (112: 4) في الأخرى (1) .   آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ... } الآية. وفي السجدة الثانية: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . زاد أبو داود: أو: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجَحِيمِ} . شك الدَّرَاوَرْدي. وإسناده محتمل للتحسين؛ فإن رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير عثمان هذا؛ وقد روى عنه جمع من الثقات، وقد ذكره ابن حبان فيهم. وأما ابن معين؛ فقال: " لا أعرفه ". قال ابن عدي: " هو كما قال ". قال الحافظ في " التهذيب ": " وهذا عجيب منهما؛ فقد عرفه غيرهما حق المعرفة كما ترى ". وفي " التقريب ": " مقبول ". (1) فيه أحاديث كثيرة: الأول: عن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . أخرجه مسلم (2/160 - 161) ، وأبو داود (1/197) ، والنسائي (1/151) ، وابن ماجه (1/351) عن مروان بن معاوية عن يزيدَ بن كيسان عن أبي حازم عنه. الثاني: عن ابن عمر قال: رَمَقْتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً، فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 ..............................................................................   أخرجه الترمذي (2/276) ، وابن ماجه (1/351) من طريق أبي أحمد الزُّبَيري: ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن مجاهد عنه. وهذا إسناد رجاله رجال الشيخين. وقال الترمذي: " حديث حسن، ولا نعرفه من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلا من حديث أبي أحمد، والمعروف عند الناس حديث إسرائيل عن أبي إسحاق. وقد رُوي عن أبي أحمد عن إسرائيل هذا الحديث أيضاً، وأبو أحمد الزبيري: ثقة حافظ ". قال المعلق الفاضل: " كأن الترمذي يشير إلى تعليل إسناد الحديث بأن الرواة رووه عن إسرائيل عن أبي إسحاق، وأنه لم يروه عن الثوري إلا أبو أحمد! وليست هذه علة؛ إذا كان الراوي ثقة، فلا بأس أن يكون الحديث عن الثوري وإسرائيل معاً عن أبي إسحاق ما رواه الثقات، وأبو أحمد: ثقة؛ فروايته عن الثوري تقوي رواية غيره عن إسرائيل. ثم هو قد رواه عن إسرائيل أيضاً كغيره، فقد حفظ ما حفظ غيره، وزاد عليهم ما لم يعرفوه، أولم يُرْوَ لنا عنهم ". اهـ. وهذا هو التحقيق. ومع ذلك؛ فقد وجدت لإسرائيل متابعاً: أخرجه المقدسي في " المختارة " من طريق الطبراني عن الدَّبَري عن عبد الرزاق: أنا الثوري به. وله عنده طريق أخرى. وقال: " وحديث ابن عمر صحيح ليس له علة. وحديث إسرائيل فيه زيادة ". وسيأتي في (سنة المغرب) . الثالث: عن ابن مسعود قال: ما أُحصي ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل صلاة الفجر بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 ..............................................................................   أخرجه الترمذي (2/296 - 297) ، وابن نصر (31) ، والطحاوي (1/175 - 176) ، والطبراني في " الكبير "؛ أربعتهم عن عبد الملك بن الوليد بن مَعْدَان عن عاصم عن أبي وائل عنه. وقال الترمذي: " حديث غريب ". يعني: ضعيف؛ وعلته عبد الملك هذا؛ فإنه ضعيف - كما في " التقريب " -. ورواه ابن ماجه (1/355) مقتصراً على ركعتي المغرب. الرابع: عن أنس: أخرجه الطحاوي (1/176) قال: ثنا ابن أبي داود قال: ثنا عثمان بن موسى بن خَلَف العَمِّي قال: ثنا أخي خلفُ بن موسى عن أبيه عن قتادة عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في ركعتي الفجر بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . ورجاله كلهم ثقات، غير عثمان هذا؛ فإني لم أجد من ترجمه. والحديث عزاه الحافظ في " الفتح " للبزار وحده، وكذا شيخه الهيثمي في " المجمع " (2/218) ، وقال: " ورجاله ثقات ". والله أعلم. الخامس: عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسِرُّ القراءة فيهما. وذكرت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . أخرجه الدارمي (1/336) ، والطحاوي (1/175) ، وأحمد (6/225 و 238) من طريق هشام عن محمد: أن عائشة سئلت عن القراءة في الركعتين قبل صلاة الفجر؟ فقالت: ... فذكرته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 ..............................................................................   وعزاه الحافظ لابن أبي شيبة، ثم قال: " وقد صححه ابن عبد البر ". قلت: وهو معلول بالانقطاع - كما سبق -، وبالاضطراب في متنه؛ فقد رواه هشام عن محمد هكذا. وتابعه خالد الحذاء: عند أحمد (6/184) ، لكن رواه عنه علي بن عاصم، وهو ضعيف؛ لسوء حفظه. وخالفهما أيوب عن محمد؛ فرواه بلفظ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخففهما. قالت: فأظنه كان يقرأ بنحو من: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . أخرجه أحمد أيضاً (6/183) : ثنا عبد الوهاب الثَّقَفي عن أيوب به. والمخالفة من وجهين: الأولى: أنها لم تعين السورتين، وإنما ذَكَرَتْهُما تقديراً؛ لأن القراءة كانت سرية. والأخرى: أنها لم تقطع بذلك؛ بل روته ظناً. والله أعلم. وفي الأحاديث المتقدمة غُنْيَةٌ عنه. وفيها استحباب القراءة بهاتين السورتين فيهما. وقد روى ابن نصر (31 و 34) عن عبد الرحمن بن يزيد: كانوا يستحبون أن يقرؤوا في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل الفجر بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وعبد الرحمن هذا هو النَّخَعي الكوفي، وهو ثقة تابعي. قال النووي (3/385) : " ونص الشافعي في " البويطي " على استحباب القراءة بهما فيهما ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 {وكان يقول: " نِعْمَ السُّورتانِ هما " (1) } . و" سمع رجلاً يقرأ السورة الأولى في الركعة الأولى؛ فقال: " هذا عبد آمن بربه ". ثم قرأ السورة الثانية في الركعة الأخرى؛ فقال: " هذا عبد عرف ربه " " (2) .   وإلى هذا ذهب علماؤنا - كما في " الفتح " (1/228) -. (1) { [أخرجه] ابن ماجه، وابن خزيمة} . (2) أخرجه الطحاوي (1/176) (*) قال: ثنا محمد بن إبراهيم بن يحيى بن جُنَاد البغدادي قال: ثنا يحيى بن معين قال: ثنا عبد الله بن يزيدَ بن عبد الله بن أُنيَس الأنصاري قال: سمعت طلحة بن خِرَاش يحدث عن جابر: أن رجلاً قام، فركع ركعتي الفجر: فقرأ في الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} حتى انقضت السورة؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هذا عبد آمن بربه ". ثم قام، فقرأ في الآخرة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى انقضت السورة؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هذا عبد عرف ربه ". قال طلحة: فأنا أَسْتَحِبُّ أن أقرأ هاتين السورتين في هاتين الركعتين. وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم معروفون: أما محمد بن إبراهيم - وكنيته أبو بكر -: فقد ترجمه الخطيب (1/397) ، وروى بإسناده عن عبد الرحمن بن يوسف بن خِرَاش أنه قال: " هو عدل، ثقة مأمون ".   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في مطبوع " الصفة " لابن بشران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 2- صلاة الظهر و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعتين الأوليين بـ: {فاتحة الكتاب} وسورتين، ويُطَوِّلُ في الأولى ما لا يُطَوِّل في الثانية " (1) .   وبقية الرواة ثقات من رجال " التهذيب "، غير عبد الله بن يزيد هذا؛ فلم أجد من ذكره، ويغلب على الظن أنه وقع فيه تحريف، وأنه هو: يحيى بن عبد الله بن يزيد بن أُنيس الأنصاري؛ فإنه يروي عن طلحة بن خراش، وعنه ابن معين، وهو ثقة. والله أعلم. وقد قال الحافظ: " ولابن حبان عن جابر ما يدل على الترغيب في قراءتهما فيها ". والظاهر أنه يريد هذا. ثم رأيته في " الموارد " (611) كما ظننت؛ فالحمد لله، {وحسنه الحافظ في " الأحاديث العاليات " (رقم 16) } . (1) هو من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في الظهر في الأوليين بـ: {أم الكتاب} وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بـ: {أم الكتاب} ، ويُسْمِعُنا الآية [أحياناً] ، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح. أخرجه البخاري في " صحيحه " (2/193 - 194 و 207) وفي " جزئه " (24) ، ومسلم (2/37) ، وأبو داود (1/127 - 128) ، والنسائي (1/153) ، والدارمي (1/296) ، وابن ماجه (1/274 - 275) ، والطحاوي (1/131) مختصراً، والبيهقي (2/59 و 63 و65 - 66 و 193 و 347 - 348) ، وأحمد (5/295 و 297 و 300 و 301 و 305 و 307 و311 و 4/383) من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه به. قال الحافظ (2/194) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 ..............................................................................   " وروى عبد الرزاق عن مَعْمَر عن يحيى في آخر هذا الحديث: فَظَنَنَّا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة. ولأبي داود وابن خزيمة نحوه من رواية أبي خالد عن سفيان عن معمر ". قلت: وأبو داود لم يروه من هذه الطريق؛ إنما رواه من طريق عبد الرزاق به. وهكذا رواه البيهقي عن أبي داود. ولهذه الزيادة شاهد من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم. أخرجه أبو داود، والبيهقى، وأحمد (4/356) من طريق محمد بن جُحَادة عن رجل عن عبد الله بن أبي أوفى. وسنده ضعيف؛ للرجل الذي لم يُسمَّ؛ قال البيهقي: " يقال: إنه طَرَفَةُ الحضرمي ". ثم ساقه من طريق أخرى عن محمد بن جُحادة عن طَرَفَةَ الحضرمي عن عبد الله بن أبي أوفى به مطولاً. وطَرَفَة هذا: مجهول. وفي " التقريب ": " مقبول ". ثم وجدت له شاهداً آخر من حديث شهر بن حَوْشَب عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يُسَوِّي بين الأربع ركعات في القراءة والقيام، ويجعل الركعة الأولى هي أطولهن؛ لكي يُثَوِّبَ الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وكان - أحياناً - يطيلها، حتى إنه " كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، [ثم يأتي منزله] ، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركعة الأولى؛ مما يُطَوِّلُها " (1) .   أخرجه أحمد (5/344) . قال في " شرح مسلم ": " هذا مما اختلف العلماء في العمل بظاهره، وهما وجهان لأصحابنا: أشهرهما عندهم: لا يطول. والحديث مُتأَوَّلٌ على أنه طَوَّلَ بدعاء الافتتاح والتعوُّذ، لا في القراءة. والثاني: أنه يُستحب تطويل القراءة في الأولى قصداً. وهذا هو الصحيح المختار الموافق لظاهر السنة ". قلت: لكن يَخْدجُ على هذا ما يأتي عن أبي سعيد الخدري: أن قَدْرَ قراءته فيهما ثلاثون آية. فلم يفرق بينهما. فالظاهر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أحياناً يسوي بينهما، وأحياناً يجعل الأولى أطول من الثانية. والله أعلم. (1) هو من حديث أبي سعيد الخُدْري قال: ... فذكره. أخرجه مسلم (2/38) ، والنسائي (1/153) ، والبيهقي (2/66) عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس عن قَزَعَةَ عنه. ثم أخرجه مسلم، والبخاري في " جزئه " (21) ، وابن ماجه (1/273) ، والبيهقي (2/390) ، وأحمد (3/35) عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد قال: ثني قَزَعَةُ قال: أتيت أبا سعيد الخدري وهو مَكْثُورٌ عليه، فلما تفرق الناس عنه؛ قلت: إني لا أسألك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 و " كانوا يظنون أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى " (1) . و" كان يقرأ في كل من الركعتين قدر ثلاثين آية؛ قدر قراءة {الم. تَنْزِيلُ} : {السَّجْدَة} (22: 30) وفيها {الفَاتِحَة} " (2) .   عما يسألك هؤلاء عنه. قلت: أسألك عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: ما لك في ذاك من خير! فأعادها عليه؛ فقال: ... فذكره نحوه؛ وفيه الزيادة. واللفظ للبخاري. (1) هو من حديث أبي قتادة. أخرجه أبو داود وغيره (1) - كما سبق قريباً -. وسنده صحيح. واستدل به بعض الشافعية على جواز تطويل الإمام في الركوع لأجل الداخل؛ قال القرطبي: " ولا حجة فيه؛ لأن الحكمة لا يعلل بها؛ لخفائها، أو لعدم انضباطها ". كذا في " الفتح ". وقد سبق الكلام على هذه المسألة - ودليل جوازها - عقب (التأمين) ؛ فراجعه. (2) هو من حديث أبي سعيد أيضاً قال: كنا نَحْزِرُ قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهر والعصر، قال: فَحَزَرْنَا قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهر الركعتين الأوليين قدر قراءة ثلاثين آية؛ قدر قراءة سورة: {تَنْزِيلُ ... } : {السَّجْدَة} . قال: وحزرنا قيامه في الأُخريين على النصف من ذلك. قال:   (1) {وابن خزيمة (1/165/1) = [3/36/1580] } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 ..............................................................................   وحزرنا قيامه في العصر في الركعتين الأُوليين على النصف من ذلك. قال: وحزرنا قيامه في الأخريين على النصف من الأُولَيين. أخرجه أحمد (3/2) واللفظ له، ومسلم (2/37) ، والبخاري في " جزئه " (25) ، وأبو داود (1/128) ، والطحاوي (1/122) ، والدارمي (1/295) ، والنسائي (1/83) ، والدارقطني (128 - 129) ، والبيهقي (2/64 و 66 و 390) من طرق عن هُشَيم: ثنا منصور - يعني: ابن زاذان - عن الوليد بن مسلم عن أبي المُتَوكل - أو عن أبي الصِّدِّيق - عنه. كذا قال أحمد؛ على الشك. وقال الآخرون: عن أبي الصِّدِّيق؛ بدون شك. ثم أخرجه مسلم، والطحاوي، والدارمي، وأحمد (3/85) ، والبيهقي عن أبي عوانة عن منصور عن الوليد عن أبي الصِّدِّيق الناجي بلفظ: كان يقرأ في صلاة الظهر ... الحديث بنحوه؛ ليس فيه الحَزْر. ثم قال الدارقطني: " هذا ثابت صحيح ". وأخرج بعضه النسائي (1/83) من هذا الوجه؛ لكنه قال: عن أبي المتوكل. قلت: وله طريق أخرى: أخرجها ابن ماجه (1/274) عن المسعودي: ثنا زيد العَمِّي عن أبي نَضْرة عن أبي سعيد الخدري قال: اجتمع ثلاثون بدرياً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: تعالوا حتى نقيس قراءةَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما لم يجهر فيه من الصلاة؛ فما اختلف منهم رجلان، فقاسوا قراءته في الركعة الأولى من الظهر بقدر ثلاثين آية ... الحديث بنحوه. وقد أخرجه أحمد (5/365) عن المسعودي وسفيان؛ كلاهما عن زيد العَمِّي عن أبي العالية قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 و " كانوا يسمعون منه النَّغْمَةَ بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ، و: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} (88: 26) " (1) .   اجتمع ثلاثون من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: ... فذكره بنحوه. وزيدٌ العَمِّي هذا: ضعيف. (1) هو من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه الضياء المقدسي في " الأحاديث المختارة " من طريق ابن خزيمة {في " صحيحه " (1/67/2) = [1/257/512] } ، وابن حبان عن محمد بن مَعْمَر بن رِبْعِيٍّ القيسي: ثنا رَوْح بن عُبادة: ثنا حماد بن سلمة عن قتادة وثابت وحُميد عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنهم كانوا يسمعون منه ... الحديث. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وقد عزاه الحافظ في " الفتح " (2/194) لابن خزيمة. أي: في " صحيحه ". وقد أخرجه النسائي (1/153) ، وكذا المقدسي من طريق أخرى عن أبي بكر بن النضر قال: كنا بالطَّفِّ (*) عند أنس، فصلى بهم الظهر، فلما فرغ؛ قال: إني صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الظهر؛ فقرأ لنا بهاتين السورتين ... فذكرهما. وأبو بكر هذا: مجهول؛ لم يوثقه أحد، وقد تفرد عنه عبد الله بن عُبَيد المؤذن؛ كما في " الميزان "، وفي " التقريب ": " مستور ". والحديث أورده في " المجمع " (2/116) بلفظ: وعن أنس:   (*) هو ساحل البحر، وجانب البَرّ. " نهاية ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 ..............................................................................   أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في الظهر والعصر بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، و: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} . وقال: " رواه البزار، ورجاله رجال " الصحِيح " ". وقد أخرجه البخاري في " جزئه " (24) عن سعيد بن جبير قال: ثني أبو عَوَانة (*) عن أنس ... دون ذكر: العصر والسورة الثانية. وأبو عوانة هذا: لا أعرفه. ثم أخرجه عن سعيد عن أبي عبيد عنه. وأبو عبيد هذا: إما أن يكون: (أبو عبيد المذحجي) ، وهو ثقة من رجال مسلم، وإما أن يكون: (أبو عبيد مولى ابن أزهر) - واسمه: سعد بن عبيد -، وهو ثقة من رجال الشيخين، والأقرب الأول؛ فإن له رواية عن أنس، وأياً كان؛ فالحديث صحيح. وله شاهد من حديث جابر بن سمرة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الظهر بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ونحوها، وفي الصبح بأطول من ذلك. أخرجه أحمد (5/106 و 108) قال: ثنا سليمان بن داود: ثنا شعبة عن سِمَاك سمع جابراً به. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. ثم وجدته قد أخرجه في " صحيحه " (2/40) بهذا الإسناد. وسليمان هذا هو: أبو داود الطيالسي صاحب " المسند "، وقد أخرجه فيه؛ إلا أنه قال: بـ: {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} . وهو رواية لمسلم وغيره. ويأتي قريباً.   (*) هو حميد الطويل؛ كما في " الطحاوي " (1/208) ، وهو الآتي ذكره مُحَرَّفاً (أبو عبيد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 وكان أحياناً يقرأ بـ: {السَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ} (85: 22) ، وبـ: {السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} (86: 17) ونحوهما من السور " (1) . وأحياناً " يقرأ بـ: {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (92: 21) ونحوها " (2) .   (1) رواه جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه بلفظ: كان يقرأ في الظهر والعصر ... الحديث. أخرجه البخاري في " جزئه " (21) ، وأبو داود (1/128) ، والنسائي (1/153) ، والترمذي (2/110 - 111) ، والدارمي (1/295) ، والطحاوي (1/122) ، والبيهقي (2/391) ، والطيالسي (105) ، وأحمد (5/103 و 106 و 108) ، والطبراني في " الكبير " من طرق عن حماد بن سلمة عن سِمَاك بن حرب عنه. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". قلت: وهو على شرط مسلم. ثم أخرجه الطبراني من طريق شَرِيك عن سِمَاك به؛ إلا أنه قال: صلاة الفجر. وقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} .. بدل: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ} . وشريك: سيئ الحفظ. (2) هو من حديث جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الظهر والعصر بـ: {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ونحوها، ويقرأ في الصبح بأطول من ذلك. أخرجه الطيالسي (104) : ثنا شعبة عن سِمَاك بن حرب قال: سمعت جابراً به. ومن طريقه أخرجه {ابن خزيمة (1/67/2) = [1/257/510] } ، والبيهقي (2/391) ، والطبراني في " الكبير ". وأخرجه أحمد (5/108) قال: ثنا عبد الرحمن: ثنا شعبة به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 {وربما " قرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} ، ونحوها " (1) } . و" كانوا يعرفون قراءته في الظهر والعصر باضطراب لحيته " (*) . و" كان يسمعهم الآية أحياناً " (2) .   وأخرجه مسلم (2/40) عن عبد الرحمن بن مهدي به. (1) { [رواه] ابن خزيمة في " صحيحه " (1/67/2) = [1/257/511] } . (*) {سبق تخريجه (ص 413 -414) } . (2) هو من حديث أبي قتادة، وقد مضى [ص 457] . وله شواهد من حديث البراء بن عازب، وأنس بن مالك، ويأتيان (1) . قال الحافظ (2/194) : " واستُدل به على جواز الجهر في السرية، وأنه لا سجود سهو على من فعل ذلك؛ خلافاً لمن قال ذلك من الحنفية وغيرهم، سواء قلنا: كان يفعل ذلك عمداً؛ لبيان الجواز، أو بغير قصد؛ للاستغراق في التدبر. وفيه حجة على من زعم أن الإسرار شرط لصحة الصلاة السرية. وقوله: (أحياناً) : يدل على تَكرر ذلك منه ".   (1) كنت أود أن أورد حديث البراء في الأصل، ثم ظهر لي أنه معلول؛ فجرّدته منه. وقد أخرجه النسائي (1/153) ، وابن ماجه (1/275) من طريق سَلْمِ بن قُتيبة قال: ثنا هاشم ابن البرِيد عن أبي إسحاق عن البراء قال: كنا نصلي خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهر، فنسمع منه الآية بعدَ الآيات من سورة {لُقْمَان} و {الذَّارِيَات} . وهو إسناد رجاله ثقات، وعلته: أن أبا إسحاق - وهو: عمرو بن عبد الله الهَمْداني السَّبِيعي - كان اختلط بأخرةٍ، ولا ندري أسمع هاشم منه في الاختلاط أم قبله؟! وقد أورد الحديثَ [الحافظ] في " الفتح " (2/194) ، وسكت عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 ..............................................................................   قلت: والظاهر من الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يفعل ذلك عمداً، ومما يؤيد ذلك أنه ثبت مثله عن بعض الصحابة - والظاهر أنهم لا يفعلون ذلك إلا بتوقيف -؛ فأخرج الطحاوي (1/123) عن جميل بن مُرَّة وحكيم: أنهم دخلوا على مُوَرِّقٍ العِجْلي، فصلى بهم الظهر، فقرأ بـ: {ق} ، و {الذَّارِيَات} ؛ أسمعهم بعض قراءته، فلما انصرف؛ قال: صليت خلف ابن عمر؛ فقرأ بـ: {ق} ، و {الذَّارِيَات} ، وأسمعَنا نحو ما أسمعناكم. ثم روى هو، والطبراني في " الكبير " عن أبي مريم الأَسْدِيّ قال: سمعت ابن مسعود يقرأ في الظهر ... ورواه البيهقي (2/348) بزيادة: والعصر. وأشار إلى الأول. وإسناد كل منهما صحيح. ثم قال: " ويذكر عن قتادة: أن أنس بن مالك جهر في الظهر والعصر، فلم يسجد ". قلت: وقد رواه الطبراني في " الكبير " عن حُميد وعثمان البَتِّي قالا: صلينا خلف أنس بن مالك الظهر والعصر، فسمعناه يقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} . قال الهيثمي (2/117) : " ورجاله موثقون. ورُوي أيضاً عن علقمة قال: صليت إلى جنب عبد الله، فما علمته قرأ شيئاً، حتى سمعته يقول: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . فعلمت أنه في {طه} . ورجاله أيضاً موثقون ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آياتٍ بعدَ {الفَاتِحَة} في الأخِيرَتَيْنِ و" كان يجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأُولَيين قدر النصف؛ قدر خمس عشرة آية " (1) .   قلت: ورواه الإمام محمد في " الآثار " (15) بنحوه، ولم يُسَمِّ علقمة. (1) هو من حديث سعد بن أبي وقاص. رواه عنه جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه، وله عنه طريقان: الأول: عن عبد الملك بن عُمير سمعه من جابر بن سَمُرة: شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر؛ فقالوا: إنه لا يُحسن يصلي! قال: الأعاريب؟! والله! ما آلو بهم عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهر والعصر، أَرْكُدُ في الأُولَيين وأَحْذِفُ في الأُخريين. فسمعت عمر رضي الله عنه يقول: كذلك الظن بك يا أبا إسحاق! أخرجه أحمد (1/179) : ثنا سفيان عن عبد الملك به. وقد أخرجه البخاري (2/187) ، ومسلم (2/38) ، والنسائي (1/156) ، والبيهقي (2/60) ، والطيالسي (30) ، وأحمد (1/176 و 180) من طرق عن ابن عُمير. الطريق الثاني: عن شعبة عن محمد بن عبيد الله أبي عَوْن عن جابر به نحوه. أخرجه البخاري (2/199 - 200) ، ومسلم، وأبو داود (1/128) ، والنسائي (1/155) ، والبيهقي، والطيالسي، وأحمد (1/175) من طرق عنه. وقد ذهب إلى هذا الحديث من قال بقراءة السورة في الأخريين - وسيأتي ذكرهم -؛ فاتفقوا على أنها أخفّ منها في الأُولَيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 ..............................................................................   وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - وقد سبق لفظه بتمامه [ص 460 - 461]-: أنهم قدروا قيامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأُخْرَيَيْنِ على النصف من قيامه في الأُوليَيْنِ، وهو قدر ثلاثين آية. فقيامه في هاتين الركعتين يكون قدر خمسَ عشْرَةَ آية. وقد اختلف العلماء في استحباب قراءة السورة في الأُخريين من الرباعية والثالثة من المغرب؛ فقيل بالاستحباب، وبعدمه. وهما قولان للشافعي رحمه الله. كذا في " شرح مسلم ". قلت: والصحابة أيضاً اختلفوا في ذلك: فبعضهم كان لا يقرأ - وقد ساق أخبارهم الطحاوي (1/123 - 124) ، والبيهقي (2/65) -. وبعضهم كان يقرأ - ومن هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه -؛ ففي " الموطأ " (1/100) ، ومن طريقه البيهقي (2/64 و 391) : أن أبا بكر رضي الله عنه قرأ في الركعة الثالثة من المغرب بـ: {أم القرآن} وهذه الآية: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ... } الآية. وسنده صحيح - كما قال النووي (3/383) -. وزاد البيهقي في رواية: وقال سفيان بن عُيينة: لما سمع عمر بن عبد العزيز بهذا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ قال: إن كنتُ لَعَلَى غير هذا حتى سمعتُ بهذا؛ فأخذتُ به. وقد أخذ به من علمائنا المتأخرين أبو الحسنات اللكنوي في " التعليق الممجد " (ص 102) ، وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 و " ربما اقتصر فيهما على {الفَاتِحَة} " (1) .   " وأغرب بعض أصحابنا؛ حيث حكموا على وجوب سجود السهو بقراءة سورة في الأخريين! وقد رده شراح " المنية ": إبراهيم الحلبي، وابن أمير حاج الحلبي، وغيرهما بأحسن رد، ولا أشك في أن من قال بذلك؛ لم يبلغه الحديث، ولو بلغه؛ لم يتفوه به ". اهـ. قال النووي: " واختلف أصحابنا في تطويل الثالثة على الرابعة؛ إذا قلنا بتطويل الأولى على الثانية ". قلت: وقد روى البيهقي حديثاً في تطويل الثالثة على الرابعة عن عبد الله بن أبي أوفى؛ لكن في سنده طَرَفَةُ الحضرمي، وهو مجهول - كما سبق قريباً -. ومن طريقه رواه البزار، والطبراني في " الكبير " - كما في " المجمع " (2/133) -. (1) هو من حديث أبي قتادة رضي الله عنه. وقد سبق تخريجه قريباً [ص 457] . وفيه أن السنة قراءة {الفَاتِحَة} في الأُخريين من الرباعية. وإليه ذهب جماهير أهل العلم من الصحابة فمن بعدَهم، وهو مذهب علمائنا أيضاً؛ لكنهم قالوا بالتخيير بين القراءة، أو السكوت، أو التسبيح. قال الإمام محمد في " الموطأ " (101) : " السنة أن تقرأ في الفريضة في الركعتين الأُوليين بـ: {فاتحة الكتاب} ؛ وسورة، وفي الأخريين بـ: {فاتحة الكتاب} ، وإن لم تقرأ فيهما؛ أجزأك، وإن سبحت فيهما؛ أجزأك، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ". وقد أشار إلى الرد عليهما إسحاق بن راهويه رحمه الله فيما روى عنه إسحاق بن منصور المروزي في " مسائله " قال: " قال إسحاق: والقراءة في الركعتين الأخيرتين بـ: {فاتحة الكتاب} سنة، وعلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وقد أمر (المسيء صلاته) بقراءة {الفَاتِحَة} في كل ركعة، حيث قال له بعد أن أمره بقراءتها في الركعة الأولى: " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها (وفي رواية: كل ركعة) " (1) .   ذلك عشرة من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعده، وما قال هؤلاء في التسبيح في الأُخريين خطأ ". قلت: وإذا ضممتَ إلى فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك أمرَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِ (المسيء صلاته) بأن يقرأ في كل ركعة - كما يأتي بيانه -؛ ثبت بذلك وجوب {الفَاتِحَة} في كل ركعة، وهو مذهب الجمهور - كما قال النووي وغيره -، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة: أن القراءة في الأُخريين واجبة، حتى لو تركها ساهياً؛ لزمه سجود السهو. وإليه مال الكمال ابن الهُمَام في " الفتح " (1/322 - 323) ، وهو الحق إن شاء الله تعالى؛ فإنهم لا جواب لهم عن حديث (المسيء صلاته) ، ولا دليل لهم على ذلك إلا بعض الآثار عن الصحابة؛ ولا يجوز أن يحتج بها في معارضة ما ثبت في السنة. (1) تقدم تخريجه في أول الكتاب [ص 55] . وفي لفظ عند أحمد (4/340) من حديث رِفاعةَ: " ثم اصنع ذلك في كل ركعة ". فمن كان يذهب إلى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أَمَرَهُ بمطلق القراءة - كالحنفية -؛ فعليهم أن يوجبوا ذلك في كل ركعة، ومن ذهب إلى أنه أمره بـ: {الفَاتِحَة} ؛ فعليه أن يقول بوجوبها في كل ركعة، وهو الحق إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 3- صلاة العصر (*) و" كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الأُوليين بـ: {فاتحة الكتاب} ، وسورتين؛ وُيطَوِّلُ في الأولى ما لا يُطَوِّلُ في الثانية " (1) ، و " كانوا يظنون أنه يريد بذلك أن يدركَ الناسُ الركعةَ " (2) . و" كان يقرأ في كل منهما قدر خمس عشرة آية؛ قدر نصف ما يقرأ في كل ركعة من الركعتين الأُولَيين في الظهر ". و" كان يجعل الركعتين الأَخيرتين أقصر من الأُولَيين؛ قدر نصفهما " (3) . و" كان يقرأ فيهما بـ: {فاتحة الكتاب} (4) . و" كان يُسمعهم الآية أحياناً " (5) . ويقرأ بالسور التي ذكرنا في (صلاة الظهر) .   (*) لم نجد في أصل الشيخ رحمه الله تخريج أحاديث هذه الفقرة، ولعله أراد فقط العزو لما سبق تخريجه في (صلاة الظهر) ، كما يُشعر بذلك قوله في نهاية الفقرة، وللتيسير على القارئ وضعنا الدلالات الآتية: (1 و 2 و 4 و 5) سبق تخريجه (ص 457 - 458) . (3) سبق تخريجه (ص 460 - 461) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 4- صلاة المغرب و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فيها أحياناً بقصارِ المُفَصّل " (1) . حتى إنهم " كانوا إذا صلَّوا معه، وسلَّم بهم؛ انصرف أحدهم وإنه ليُبْصِرُ مَواقعَ نَبْلِه " (2) .   (1) فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق تخريجه في (القراءة في الفجر) . وقد روى هذا القدرَ منه الطحاويُّ (1/126) من الطريق السابق، وقد صححه ابن عبد البر أيضاً - كما في " زاد المعاد " (1/75) -. (2) فيه عدة أحاديث: الأول: عن رافع بن خَدِيج قال: كنا نصلي المغرب مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله. أخرجه البخاري (2/33) ، ومسلم (2/115) ، وابن ماجه (1/233) ، وأحمد (4/141 - 142) ؛ كلهم عن الأوزاعي قال: ثنا أبو النَّجَاشي صُهيب مولى رافع بن خَدِيج قال: سمعت رافعاً به. الثاني: عن أنس، وله عنه طريقان: 1- عن حماد قال: أنا ثابت عنه بمعناه. أخرجه أبو داود (1/68) ، والطحاوي (1/125) . وإسناده صحيح على شرط مسلم. 2- عن حميد عن أنس، أخرجه أحمد (3/114 و 189 و 199 و 205) من طرق عنه. وإسناده صحيح أيضاً على شرط الشيخين، وهو ثلاثي. الثالث: عن رجل من أسلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه. أخرجه النسائي (1/90) ، وأحمد (5/371) من طريق شعبة: ثنا أبو بِشْر قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 ..............................................................................   سمعت حَسّان بن بلال يحدث عنه. وهذا سند صحيح؛ رجاله رجال الشيخين؛ عدا حسَّان بن بلال، وقد وثقه ابن المديني، وكفى به؛ كما قال الحافظ؛ رداً على ابن حزم في قوله: " إنه مجهول ". وقد أخرجه أحمد (4/36) عن هُشيم وأبي عَوَانة عن أبي بِشْر عن علي بن بلال الليثي عن ناس من الأنصار قالوا: كنا نصلي المغرب، ثم ننصرف ... الحديث. وكذلك أخرجه الطحاوي عن أبي عَوَانة وهُشيم معاً به. وقال الحافظ في " الفتح ": " إسناده حسن ". قلت: علي بن بلال هذا أورده في " التعجيل "، وقال: " روى عنه أبو بشر جعفر بن أبي وحشيّة، ليس بمشهور، وقال ابن حبان في (ثقات التابعين) : علي بن بلال يروي المراسيل والمقاطيع، روى عنه أبو بشر، فكأنه هذا ". اهـ. قلت: الذي يظهر لي أن علي بن بلال هذا: هو حسان بن بلال في الرواية الأولى، لكن اختلف شعبة مع هشيم وأبي عوانة في اسمه، وما اتفقا عليه أولى بالاعتماد مما تفرد به شعبة. والله أعلم. الحديث الرابع: عن جابر، وله أربعة طرق: 1- عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عن القعقاع بن حكيم عنه. أخرجه الطحاوي، والطيالسي (243) ، وأحمد (3/382) عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 ..............................................................................   وهذا سند صحيح على شرط مسلم. 2- عن حماد عن أبي الزبير عنه. أخرجه الطحاوي. وهو على شرط مسلم أيضاً. 3- عن عبد الحميد بن يزيد الأنصاري قال: ثني عُقبة بن عبد الرحمن بن جابر عنه. أخرجه أحمد (3/331) . وعقبة هذا: مجهول. 4- عن سفيان عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل عن جابر. أخرجه أحمد (3/303) . وهذا سند حسن. الحديث الخامس: عن زيد بن خالد. أخرجه الطيالسي (ص 128 و 190) ، وأحمد (4/114 و 115 و 117) عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عنه. وهذا سند حسن. السادس: عن الزهري عن بعض بني سلمة: أنهم كانوا يصلون مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... الحديث. أخرجه الطحاوي. وإسناده صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 و " قرأ في سفر بـ: {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (95: 8) في الركعة الثانية " (1) .   (1) أخرجه الطيالسي (99) قال: ثنا شعبة عن عدي بن ثابت سمع البراء قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر، فقرأ في المغرب في الركعة الثانية بـ: {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} . وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. وقد تابعه يحيى بن سعيد عن عدي؛ رواه عنه أبو خالد الأحمر مختصراً: صليت خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المغرب بـ: {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} . أخرجه أحمد (4/286) . وإسناده صحيح على شرطهما أيضاً. لكنهما أخرجاه من هذين الطريقين عن عدي بلفظ: العشاء.. بدل: المغرب - كما يأتي -. وما وجدت أحداً تعرض لذكره بلفظ: المغرب. وتخطئة ثقتين؛ مثل: شعبة ويحيى بن سعيد، أو من روى عنهما صعب؛ طالما أنه يمكن الجمع بأن يقال: قرأ بذلك في المغرب وفي العشاء؛ فكان يحدث عدي بن ثابت مرة بهذا، ومرة بهذا. وقد صحح الرواية الأولى ابنُ عبد البر - كما ذكره في " الزاد " (1/75) -. وقد وجدت له شاهداً من حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في المغرب بـ: {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} . أخرجه الطحاوي (1/126) عن إسرائيل عن جابر عن عامر عنه. وجابر هذا هو: الجُعْفي، وهو ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 ..............................................................................   ومن طريقه رواه الطبراني في " الكبير "؛ لكن سمّى الصحابي: عبد الله بن يزيد - على ما في " المجمع " -. ولم يستحضر الحافظ هذين الحديثين حينما قال في " الفتح " (2/197) : " ولم أر حديثاً مرفوعاً فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار المفصل، إلا حديثاً في ابن ماجه عن ابن عمر؛ نص فيه على {الكَافِرُونَ} ، و {الإِخْلاصِ} ، ومثله لابن حبان عن جابر بن سَمُرَة. فأما حديث ابن عمر: فظاهر إسناده الصحة؛ إلا أنه معلول؛ قال الدارقطني: " أخطأ فيه بعض رواته ". وأما حديث جابر بن سَمُرة: ففيه سعيد بن سِمَاك؛ وهو متروك. قلت: ومن طريقه أخرجه البيهقي أيضاً (2/391) . وأما حديث ابن ماجه: فقال (1/275) : ثنا أحمد بن بُدَيل: ثنا حفص بن غياث: ثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في المغرب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وهكذا أخرجه الطبراني في " الكبير ": ثنا محمد بن فضا (*) - كذا - الجوهري: ثنا أحمد بن بُدَيل اليامي به. قلت: يُتَعَجَّبُ من قول الحافظ: إن " ظاهر إسناده الصحة "؛ فإنه هو القائل في ترجمة أحمد بن بُدَيل هذا من " التقريب ": " صدوق له أوهام ". فمن كان كذلك؛ كيف يصح إسناده؟! وفي " التهذيب ":   (*) هو (قضاء) ؛ كما في " الإكمال " لابن ماكولا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 وكان أحياناً يقرأ بطوال المفصل وأوساطه؛ فـ " كان تارة يقرأ بـ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (47: 38) (1) . وتارة بـ: {الطُّور} (52: 49) (2) .   " قال ابن عدي: حدث عن حفص بن غياث وغيره أحاديثَ أُنكرت عليه، وهو ممن يكتب حديثه على ضعفه. وقال النضر قاضي همدان: ثنا أحمد بن بديل عن حفص بهذا الحديث. قال: فذكرته لأبي زُرعة؛ فقال: من حدثك؟ قلت: ابن بُدَيل. قال: شر له. قال الدارقطني: تفرد به أحمد عن حفص ". (1) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنه. أخرجه الطبراني في " الصغير " (ص 23) وفي " الكبير " أيضاً، والمقدسي في " المختارة " من طريق الحسين بن حُرَيث المَرْوَزي: ثنا أبو مُعاوية محمد بن خازِم: ثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ بهم في المغرب بـ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} . وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. وأورده في " المجمع " (2/118) بلفظ: كان يقرأ بهم ... إلخ. وقال: " رواه الطبراني في " الثلاثة "، ورجاله رجال " الصحيح " ". قلت: وعزاه الحافظ المقدسي، وكذا ابن حجر في " الفتح " (2/197) لابن حبان من هذا الوجه. (2) هو من حديث جُبير بن مُطعِم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ بـ: {الطُّور} في المغرب. أخرجه مالك (1/99) ، ومن طريقه البخاري (2/197) ، ومسلم (2/41) ، ومحمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 ..............................................................................   في " موطئه " (142) ، وأبو داود (1/129) ، والنسائي (1/154) ، والطحاوي (1/124) ، والبيهقي (2/392) ، والطيالسي (127) ، وأحمد (4/85) ، والطبراني في " الكبير " - كلهم عن مالك - عن ابن شهاب عن محمد بن جُبير بن مُطْعِم عن أبيه به. وأخرجه البخاري أيضاً (6/126 و 7/258 و 8/489) ، ومسلم، والدارمي (1/296) ، وابن ماجه (1/275) ، {وابن خزيمة (1/166/2) = [3/41/1589] } ، والطحاوي، وأحمد (4/80 و 83 - 84) ، والطبراني، والبخاري في " أفعال العباد " (84) من طرق عن الزهري به. وزاد البخاري وأحمد: وكان جاء في أَسارى بدر. وقال أحمد: في فداء أهل بدر. وأخرجه الطبراني في " الكبير " من طريق هُشيم: نا سفيان بن حسين عن الزهري - قال هشيم: ولا أظن إلا قد سمعته من الزهري - عن محمد بن جُبير به بلفظ: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأكلِّمه في أسارى بدر؛ فوافقتُه وهو يصلي بأصحابه المغرب أو العشاء ... الحديث بنحو الرواية الآتية. وأخرجه الطحاوي، والطيالسي (127) ، وأحمد (4/83 و 85) ، والخطيب في " تاريخه " (3/53) من طرق عن شعبة عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت بعض إخوتي عن أبي عن جُبير بن مُطعِم: أنه أتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فداء بدر (وفي رواية: في فداء المشركين) وما أسلم يومئذٍ، فدخلتُ المسجَدَ ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي المغرب فقرأ بـ: {الطُّور} ؛ فكأنما صُدعَ قلبي حين سمعت القرآن. وله طريق ثالث في " المعجم الصغير " (ص 235) وكذا " الكبير " للطبراني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 ..............................................................................   وفيه إبراهيم بن محمد بن جُبَير بن مُطْعِم، وهو مجهول الحال - كما في " اللسان " -. ورابع: عن عثمان بن أبي سُلَيمان عن نافع بن جُبَير عن جُبَير به مطولاً. أخرجه في " الكبير " بإسناد صحيح. هذا، وفي رواية أخرى للبخاري: فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ. أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُصَيْطِرُونَ} ؛ كاد قلبي أن يطير. قال الحافظ: " ويُستفاد منها أنه استفتح من أول السورة، وظاهر السياق أنه قرأ إلى آخرها. وفي رواية أخرى عنده: وذلك أول ما وَقَرَ الإيمان في قلبي ". قال الحافظ: " واستُدل به على صحة أداء ما تحمَّله الراوي في حال الكفر، وكذا الفسق؛ إذا أداه في حال العدالة ". اهـ. والحديث دليلٌ على أن المغرب لا يختص بقصار المفصل - كما هو المشهور -؛ بل يستحب القراءة فيه أحياناً بطوال المفصل، وبأطول من ذلك - كما يأتي في الكتاب -، وقد ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي وغيره، وخالف فيه مالك، وأكثر علمائنا. قال الترمذي (2/113) : " وقال الشافعي: وذكر عن مالك أنه كره أن يُقرأ في صلاة المغرب بالسور الطوال نحو: {الطُّور} و {المُرْسَلَات} . قال الشافعي: لا أكره ذلك، بل أستحب أن يُقرأ بهذه السور في صلاة المغرب ". قال الحافظ: " وكذا نقله البغوي في " شرح السنة " عن الشافعي. والمعروف عند الشافعية: أنه لا كراهية في ذلك، ولا استحباب ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 ..............................................................................   قلت: وهذا غير معقول، فإن القراءة عبادة؛ فإما أن تكون مستحبة؛ إذا وافقت السنة. وإما أن تكون مكروهة؛ إذا خالفتها. وأما أن تكون غير مستحبة وغير مكروهة: فهذا غير معقول في شيء من العبادات مطلقاً؛ فتأمل. وقال الإمام محمد - بعد أن ساق الحديث -: " العامة على أن القراءة تُخَفَّف في صلاة المغرب؛ يُقرأ فيها بقصار المفصل، ونرى أن هذا كان شيئاً فتُرك! ولعله كان يقرأ بعض السورة ثم يركع ". ثم قال: " وبهذا نأخذ، وهو قول أبي حنيفة ". وذكر المعلق عليه عن العلماء جواباً ثالثاً؛ وهو أن هذا بحسب اختلاف الأحوال؛ قرأ بالطِّوال لتعليم الجواز، والتنبيه على أن وقت المغرب ممتدٌ، وعلى أن قراءة القصار فيه ليس بأمر حتمي. ثم قال المعلق أبو الحسنات: " وأقول: الجوابان الأولان مخدوشان: أما الأول: فلأن مبناه على احتمال النسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولأن كونه متروكاً إنما يثبت لو ثبت تأخر قراءة القصار على قراءة الطوال من حيث التاريخ، وهو ليس بثابت، ولأن حديث أم الفضل - الآتي - صريح في أنها آخر ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سورة {المُرْسَلَات} في المغرب؛ فدلَّ ذلك على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ بـ: {المُرْسَلَات} في المغرب في يوم قبل يومه الذي توفي فيه، ولم يصل المغرب بعده، وقد ورد التصريح بذلك في " سنن النسائي "؛ فحينئذٍ إنَّ سَلْكَ مسلكِ النسخ يُثْبِتُ نسخَ قراءة القصار، لا العكس. وأما الثاني: فلأن إثبات التفريق في جميع ما ورد في قراءة الطوال مشكل، ولأنه قد ورد صريحاً في رواية البخاري وغيره ما يدل على أن جُبَير بن مُطْعِم سمع {الطُّور} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 وتارة بـ: {المُرْسَلَات} (77: 50) ؛ قرأ بها في آخر صلاة صلاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .   بتمامه؛ قرأه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المغرب؛ فلا يفيد حينئذٍ ليت ولعل، ولأنه قد ورد في حديث عائشة في " سنن النسائي ": أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ سورة {الأَعْرَافِ} في المغرب؛ فَرَّقَها في ركعتين. ومن المعلوم أن نصف {الأَعْرَافِ} لا يبلغ مبلغ القصار؛ فلا يفيد التفريق لإثبات القصار. وإن الجواب الصواب هو الثالث ". اهـ كلامه. (1) هو من حديث أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها، وله عنها طريقان: الأول: عن ابنها عبد الله بن عباس رضي الله عنه: أنها سمعته وهو يقرأ: {وَالمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} ؛ فقالت له: يا بني! لقد ذكَّرتني بقراءتك هذه السورةَ؛ إنها لآخِرُ ما سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمََ يقرأ بها في المغرب. أخرجه مالك (1/99 - 100) ، وعنه البخاري (2/195) ، ومسلم (2/40 - 41) ، ومحمد (142) ، وأبو داود (1/129) ، والطحاوي (1/124) ، والبيهقي (2/392) ، وأحمد (6/340) - كلهم عن مالك - عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة ابن مسعود عنه. ثم أخرجه البخاري (8/105) ، ومسلم، والنسائي (1/154) ، والدارمي (1/296) ، وابن ماجه (1/275) ، والطحاوي، وأحمد (6/338 و 340) من طرق عن الزهري به نحوه. وأخرجه الترمذي (2/112) من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري به بلفظ: خرج إلينا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو عاصِبٌ رأسَهُ في مرضه، فصلى المغرب فقرأ بـ: {المُرْسَلَاتِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 ..............................................................................   قالت: فما صلاها بعد حتى لقي الله. وقال: " حديث حسن صحيح ". الطريق الثاني: عن أنس عنها قالت: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته - متوشحاً في ثوبٍ - المغرب فقرأ: {المُرْسَلَات} . ما صلى صلاةً بعدها حتى قُبض صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه النسائي، والطحاوي (1/125) ، وأحمد (6/338) عن موسى بن داود: ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن حُميد عنه. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وقد جاء في " البخاري " (2/137) وغيره من حديث عائشة أن الصلاة التي صلاها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه في مرض موته كانت الظهرَ. وقد [جمع] الحافظ بين هذا، وبين حديث أم الفضل هذا بأن الصلاة التي حَكَتْها عائشةُ كانت في المسجد، والتي حَكَتْها أُمُّ الفضل كانت في بيته - كما في الطريق الثاني -. ثم أَوَّلَ حديث ابن إسحاق - المذكور آنفاً - بأن معناه: خرج إلينا من مكانه الذي كان راقداً فيه إلى من في البيت، فصلى بهم. قلت: وهذا جمعٌ حسنٌ؛ لكن ابن إسحاق يخطئ أحياناً، وقد تفرد بذكر الخروج فيه دون جميع الثقات الذين رووه عن الزهري؛ فلا يقوى حينئذٍ لمعارضة رواية أنس الصحيحة، وبالتالي لا حاجة إلى الجمع بينهما كما لا يخفى -. والحديث دليل - كغيره - على استحباب قراءة طِوَالِ المفصل أحياناً في المغرب - كما سبق في الذي قبله -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 و " كان أحياناً يقرأ بطُولَى الطُّولَيَيْن (1) : [ {الأَعْرَاف} (7: 206) ] (2) [في   وقد أجاب عنه الحنفية بأنه محمول على أنه قرأ بعض هذه السورة لا كلها، أو أنه منسوخ - كما سبق عن الإمام محمد -: والأول خلاف الظاهر - ولا يُخرج عنه إلا بدليل -، وغاية ما تمسك به علماؤنا في ذلك حديث أبي هريرة المتقدم في أول الفصل؛ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل، فعارض به الطحاوي وغيره هذه الأحاديثَ القاضية باستحباب قراءة طواله، وأولوها بما تقدم، ولا مبرر لذلك؛ فالجمع ممكن بما هو أقرب إلى الالتئام من هذا التأويل، وهو حمل هذه الأحاديث على اختلاف الأحوال - كما سبق -، لا سيما وأن في بعض هذه الأحاديث ما لا يقبل هذا التأويل مطلقاً - كما مضى عن اللكنوي - (*) . وإما دعوى النسخ؛ فباطلة بشهادة هذا الحديث الصحيح؛ فإنه صريح في أنه قرأ بذلك في آخر صلاة صلاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو كان هناك مُبَرِّرٌ للمصير إلى النسخ؛ لكان ادعاء العكس أقربَ إلى الصواب، وأحقَّ بالقبول عند ذوي الألباب، ولكن لا مسوِّغ لذلك طالما أن الجمع ممكن بما سبق. والله الموفق. (1) أي: بأطول السورتين الطويلتين. و " طولى " تأنيث " أطول "، و " الطوليين ": تثنية " طولى "، وهما: {الأَعْرَاف} اتفاقاً، و {الأَنْعَام} على الأرجح. كما في " فتح الباري ". (2) هو من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. رواه عنه مروان بن الحكم ثم عروة بن الزبير. أما الأول: فأخرجه البخاري (2/196) ، وأبو داود (1/129) ، والنسائي (1/154) ، و {ابن خزيمة (1/68/2) = [1/259/516] } ، والبيهقي (2/392) ، وأحمد (5/188 و 189) من طرق عن ابن جُريج قال: سمعت عبد الله بن أبي مُليكة يحدث   (*) انظر ما تقدم (ص 480) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 ..............................................................................   يقول: أخبرني عروة بن الزبير: أن مروان أخبره قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل؟! لقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في صلاة المغرب طولى الطوليين. قال: قلت لعروة: ما طولى الطوليين؟ قال: {الأَعْرَاف} . والسياق لأحمد. وزاد أبو داود قال: وسألت أنا ابن أبي مُلَيكة؟ فقال لي من قِبَلِ نفسه: {المَائِدَة} و {الأَعْرَاف} . وهي عند [ابن خزيمة] ، والبيهقي أيضاً؛ إلا أنه قال: {الأَنْعَام} .. مكان: {المَائِدَة} . وكذلك رواه الجوزقي من الطريق التي أخرِجها أبو داود، كما ذكره الحافظ، وذكر بعض الروايات شاهدةً لذلك، ثم قال: " فحصل الاتفاق على تفسير الطولى بـ: {الأَعْرَاف} ، وفي تفسير الأخرى ثلاثة أقوال؛ المحفوظ منها: {الأَنْعَام} . اهـ. وقد تابعه هشام بن عروة عن عروة: أخرجه أحمد (5/187) : ثنا سليمان بن داود: أنا عبد الرحمن بن أبي الزِّنَاد عن هشام بن عروة عن أبيه عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ألم أرك الليلة خفَّفت القراءة في سجدتي المغرب؟! والذي نفسي بيده! إن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيقرأُ فيهما بطولى الطوليين. وهذا إسناد جيد. وأما رواية عروة بن الزبير عنه؛ فأخرجها النسائي، والطحاوي (1/124) من طريق أبي الأسود: أنه سمع عروة بن الزبير يقول: أخبرني زيد بن ثابت؛ أنه قال لمروان بن الحكم: يا أبا عبد الملك! ما يحملك على أن تقرأ في صلاة المغرب بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 الركعتين] (1) ". وسورة أخرى صغيرة - وقال النسائي: و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ} -؟! قال زيد: فوالله! لقد سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في صلاة المغرب بأطول الطِّوال؛ وهي {المص} . والسياق للطحاوي. وهذا سند صحيح على شرطهما - كما قال النووي (3/383) ، وابن القيم (1/75) -. ثم أخرجه الطحاوي عن حماد عن هشام عن أبيه به نحوه؛ لكنه قال: زيد بن ثابت أو: أبو زيد الأنصاري - شك هشام -. وكذلك أخرجه أحمد (5/185) من طريق يحيى بن سعيد عن هشام به نحوه، لكنه قال: أو أبي أيوب. والظاهر أن عروة سمعه أولاً من مروان عن زيد ثم لقي زيداً، فأخبره - كما في " الفتح " -. قال السندي: " وفي الحديث أنه ينبغي للإمام أن يقرأ ما قرأه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحياناً؛ تبركاً بقراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإحياءً لسنته وآثاره الجميلة ". اهـ. قال ابن القيم: " فالمحافظة فيها على الآية القصيرة، والسورة من قصار المفصل؛ خلاف السنة، وهو فعل مروان بن الحكم؛ ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت ". (1) هو رواية عن زيد بن ثابت في حديثه المتقدم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنه؛ أنه قال لمروان: إنك تُخِفُّ القراءةَ في الركعتين من المغرب. فوالله! لقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فيهما بسورة {الأَعْرَافِ} في الركعتين جميعاً. أخرجه ابن خزيمة { (1/68/1) = [1/260/518] } (*) .   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع (ص 116) للسرّاج، والمخلّص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 ..............................................................................   وقد أخرجه {ابن خزيمة [1/260/517] } ، والحاكم (1/237) من طريق مُحاضِر ابن المُوَرِّع: ثنا هشام بن عروة به نحوه. وقال: " صحيح على شرط الشيخين؛ إن لم يكن فيه إرسال ". وقال الذهبي: " فيه انقطاع ". كذا قال! ويعني: بين عروة وزيد، وليس كذلك؛ فقد سبق تصريحه بسماعه منه في رواية الطحاوي؛ فالحديث موصول صحيح، وهو على شرط مسلم فقط؛ فإن محاضر بن المورِّع إنما روى له البخاري تعليقاً. وقد ذكره البيهقي (2/392) من طريقه، ثم قال: " والصحيح هي الرواية الأولى ". يعني: رواية ابن جريج السابقة، التي ليس فيها تفريقها في الركعتين. قلت: لكنه لم يتفرد به محاضر؛ فقد قال أحمد (5/418) : ثنا وكيع: ثنا هشام ابن عروة عن أبيه عن أبي أيوب - أو عن زيد بن ثابت -: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في المغرب بـ {الأَعْرَاف} في الركعتين. وهذا إسناد صحيح على شرطهما، والشك في الصحابي لا يضر. ورواه شعيب بن أبي حمزة قال: ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... به؛ إلا أنه قال: فَرَّقَها في ركعتين. أخرجه النسائي (1/154) ، والبيهقي من طريق أبي حَيْوَةَ وبقيّة بن الوليد قالا: ثنا شعيب به. وهذا سند صحيح. وقول النووي (3/383) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وتارة: بـ: {الأَنْفَال} (8: 75) في الركعتين (1) .   " حسن ". قصور؛ فإن بقية إنما يُخشى من تدليسه، وهو قد صرح بالتحديث. وتابعه أبو حَيْوَةَ، واسمه شريح بن يزيد، وهو ثقة - كما قال الشوكاني (2/196) -. ثم إن الظاهر أن الحديث واحد، اختلف الرواة فيه عن هشام في صحابيه. والمحفوظ عن عروة: أنه زيد بن ثابت - كما قال الحافظ -؛ فحمل رواية هشام المختلفة على الرواية المحفوظة أولى. والله أعلم. (1) هو من حديث أبي أيوب رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في المغرب سورة {الأَنْفَال} . رواه الطبراني في " الكبير " {بسندٍ صحيح} ، ورجاله رجال " الصحيح ". وعن زيد بن ثابت: كان يقرأ في الركعتين من المغرب بـ: سورة {الأَنْفَال} . أخرجه أيضاً في " الكبير "، ورجاله رجال " الصحيح ". كذا في " المجمع " (2/118) . قلت: وإسناد الأول هكذا في " الكبير ": ثنا عبد الرحمن بن سَلْم الرازي: نا سهل ابن عثمان: نا عُقبة بن خالد عن هشام بن عروة عن أبيه عنه بزيادة: في الركعتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 القراءة في سُنَّة المغرب وإما سُنَّةُ المغرب البَعْدِيِّة؛ فـ " كان يقرأ فيها: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} (109: 6) و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (112: 4) (1) .   (1) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: رَمَقْتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعاً وعشرين مرة، أو خمساً وعشرين مرة يقرأ في الركعتين قبل الفجر وبعد المغرب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . أخرجه أحمد (2/58 و 95) ، والمقدسي في " المختارة "، والطبراني في " الكبير " من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن مجاهد عنه. وقد تابعه سفيان الثوري عن أبي إسحاق، لكنه لم يذكر القراءة في ركعتي المغرب. أخرجه الترمذي، وابن ماجه - كما سبق في (سنة الفجر) -. وعمار بن رُزَيق عن أبي إسحاق عن إبراهيم بن مُهاجِر عن مجاهد به - كاملاً -. فأدخل بين أبي إسحاقَ ومجاهدٍ إبراهيمَ بن مهاجر. أخرجه النسائي (1/154) ، والطبراني في " الكبير ". وإبراهيم هذا: صدوق لين الحفظ - كما في " التقريب " - وإليه أشار النووي حينما قال (3/385) : " رواه النسائي بإسناد جيد، إلا أن فيه رجلاً اختلفوا في توثيقه وجرحه، وقد روى له مسلم ". قلت: وقد وجدت له متابعاً عن نافع: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 ..............................................................................   أخرجه ابن نصر (31) من طريق أسباط عن ليث عن نافع به. وليث: ضعيف، ولكنه في الشواهد لا بأس به. وله طريق أخرى؛ أخرجها الطبراني في " الكبير" عن إسماعيل بن عَمْرو البَجَلي: نا إسرائيل عن ثُوَير بن أبي فَاخِتَة عن ابن عمر رضي الله عنه به. وإسماعيل البَجَلي: ضعيف. وبالجملة؛ فالحديث قويٌّ بهذه المتابعة والطريق. وأعله ابن نصر بقوله: " وهذا غير محفوظ عندي؛ لأن المعروف عن ابن عمر أنه روى عن حفصة رضي الله عنها: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي الركعتين قبل الفجر، وقال: تلك ساعة لم أكن أدخل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها ". قلت: وهذا من قبيل معارضة الخاص بالعام، وليس بجيد؛ فإنه يجوز أن يكون ذلك في ظرف خاص؛ كسفر أو غيره، استطاع فيه أن يراقبه هذه المراقبة الدقيقة. والله أعلم. وقد سبق (ص 455) أن السلف كانوا يستحبون قراءة هاتين السورتين في ركعتي المغرب وركعتي الفجر. ثم الحديث رواه الطيالسي (257) - وعنه المقدسي في " المختارة " - وعن غيره عن أبي الأحوص سلام بن سُليم عن أبي إسحاق به مثلَ روايةِ إسرائيل. وله شاهد من حديث ابن مسعود: عند ابن ماجه (1166) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 5- صلاة العشاء كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعتين الأوليين من وسط المُفَصَّل (1) ؛ فـ " كان تارةً يقرأ بـ: {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (91: 15) ، وأشباهها من السور " (2) .   (1) هو قطعة من حديث أبي هريرة المتقدم في (صلاة الفجر) . قال السيوطي في " الإتقان " (1/63) : " (المُفَصَّل) : طوال، وأوساط، وقصار. قال ابن مَعْن: فطواله إلى {عَمَّ} ، وأوساطه منها إلى {الضُّحَى} ، ومنها إلى آخر القرآن قصاره. هذا أقرب ما قيل فيه ". (2) هو من حديث بُريدة بن الحُصَيب. أخرجه أحمد (5/354) : ثنا زيد بن حُبَاب: ثني حسين بن واقد: ثني عبد الله بن بُريدة عن أبيه به. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وقد أخرجه الترمذي (2/114) : ثنا عبدة بن عبد الله الخُزَاعي: ثنا زيد بن الحُبَاب به. وقال: " حديث حسن ". وأخرجه النسائي (1/154) ، والطحاوي (1/126) من طريق علي بن الحسن بن شَقِيق: ثنا الحسين بن واقد به. وهذا صحيح أيضاً كالأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 و " تارة بـ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (84: 25) ، وكان يسجد بها " (1) .   (1) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. رواه عنه أبو رافع قال: صليت مع أبي هريرة العَتَمة، فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} ، فسجد. فقلت: ما هذه؟! قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه. أخرجه البخاري (2/199 و 448) ، ومسلم (2/89) ، وأبو داود (1/222) ، والنسائي (1/152) ، والطحاوي (1/210) ، والبيهقي (2/322) ، والطيالسي (321) ، وأحمد (2/229 و 456 و 459 و 466) من طرق عنه. وهذا لفظ سُليمان التَّيْمي عنه. وظاهره أنه سجد بها في الصلاة. ويؤيد ذلك رواية ابن خزيمة من طريق أبي الأشعث عن مُعتمِر عن أبيه بلفظ: صليت خلف أبي القاسم؛ فسجد بها. ومثله رواية يزيد بن هارون عن سليمان بلفظ: صليت مع أبي القاسم؛ فسجد فيها. كما في " الفتح ". ولذلك ترجم له البخاري بـ: (باب القراءة في العشاء بالسجدة) . وأخرجه البخاري (2/445) ، ومسلم، والنسائي، والدارمي (1/343) ، والطحاوي، والبيهقي (2/315) ، والطيالسي (307) ، وأحمد (2/413 و 434 و 449 و454 و 466 و487 و 529) ، وكذا مالك (1/209 - 210) ، وعنه محمد (146 و 148) من طرق عن أبي سلمة1. ومسلم، وأبو داود، والترمذي (2/462 - 463) ، وابن ماجه (1/327) ، والطحاوي، وأحمد (2/249 و 461) عن عطاء بن مِيناء2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 ..............................................................................   ومسلم، والطحاوي، عن عبد الرحمن بن سعد الأعرج3. والنسائي، والطحاوي، وكذا أحمد (2/281) عن ابن سيرين4. والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد (2/247) عن أبي بكر بن عبد الرحمن5. والطحاوي، وأحمد (2/451) عن نعيم المُجْمِر6. رواه ستتُهم عن أبي هريرة نحوه. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم؛ يرون السجود في: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} ". قلت: وهو قول أئمتنا الثلاثة - كما في " شرح الطحاوي " وغيره -. وقال الإمام محمد في " الموطأ ": " وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة ". قال أبو الحسنات: " وبه أخذ الخلفاء الأربعة والأئمة الثلاثة وجماعة، ورواه ابن وهب عن مالك، وروى ابن القاسم والجمهور عنه أنه لا سجود؛ لأن أبا سلمة قال لأبي هريرة لما سجد: لقد سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها. فدلَّ هذا على أن الناس تركوه، وجرى العمل بتركه. وردَّه ابن عبد البر بما حاصلُه: أيَّ عمل يَدعي مع مخالفة المصطفى والخلفاء بعده؟! ". (تنبيه) : روى الإمام أحمد (2/326 - 327) من طريق رزيق - يعني: ابن أبي سلمى -: ثنا أبو المُهَزِّمِ عن أبي هريرة: أن رسول الله كان يقرأ في العشاء الآخرة بـ: {السَّمَاءِ} - يعني: {ذَاتِ البُرُوجِ} - و: {السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 و " قرأ مرة في سَفَرٍ بـ: {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (95: 8) (1) [في الركعة   ثم رواه (2/327 و 531) من طريق حماد بن عَبّاد السَّدُوسي قال: سمعت أبا المُهَزِّم به بلفظ: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن يقرأ بـ (السماوات) في العشاء. ولكنَّ أبا المهزم هذا متروك - كما في " التقريب " -. (1) هو من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في سفر، فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بـ: {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} . أخرجه البخاري (2/199 و 8/579) ، ومسلم (2/41) ، وأبو داود (1/190) ، والنسائي (1/155) ، والبيهقي (2/393) ، وأحمد (4/284 و 302) من طرق عن شعبة عن عدي بن ثابت عنه به. إلا أن النسائي قال: في الركعة الأولى. وأوردها الحافظ ساكتاً عليها. وإسنادها صحيح. وأخرجه مسلم، ومالك (1/101) ، وعنه النسائي، والترمذي (2/115) ، وابن ماجه (1/276) ، والبيهقي، وأحمد (4/286 و 303) من طريق يحيى بن سعيد عن عدي به مختصراً؛ دون ذكر السفر والركعة. وكذلك رواه مِسْعَرٌ عن عدي، وزاد: فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه. أخرجه البخاري (2/199 و 13/445) وفي " أفعال العباد " (ص 80) ، ومسلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 الأولى] " (1) .   وابن ماجه، وأحمد (4/291 و 298 و 302 و 304) من طرق عنه. وقد أخرجه الطيالسي عن شعبة بلفظ: المغرب في الركعة الثانية. وكذلك هو عند أحمد في رواية عن يحيى بن سعيد، لكنه لم يذكر الركعة - كما سبق في (صلاة المغرب) ، ورجَّحنا - هناك - أنهما روايتان لا تعارض بينهما. فراجعه. قال الحافظ: " وإنما قرأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العشاء بقصار المُفَصّل؛ لكونه كان مسافراً، والسفر يُطْلَب فيه التخفيف. وحديث أبي هريرة محمول على الحضر؛ فلذلك قرأ فيها بأوساط المفصل ". (1) ذكر هذه الزيادة الحافظ - كما سبق -، ثم ذهل عن ذلك؛ فقال في (التفسير) (8/580) : " وقد كثر سؤال بعض الناس: هل قرأ بها في الركعة الأولى، أو الثانية، أو قرأ بها فيهما معاً، أو قرأ فيها غيرها؛ فهل عُرِف؟ وما كنت أستحضر لذلك جواباً؛ إلى أن رأيت في " كتاب الصحابة " لأبي علي بن السَّكَن في ترجمة زُرعة بن خليفة - رجلٍ من أهل اليمامة -؛ أنه قال: سمعنا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتيناه، فعرض علينا الإسلام؛ فأسلمنا، وأسهم لنا، وقرأ في الصلاة بـ: {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} و: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} . فيمكن إن كانت هي الصلاةَ التي عيَّن البراءُ بن عازب أنها العشاء؛ أن يقال: قرأ في الأولى بـ: {التِّين} ، وفي الثانية بـ: {القَدْر} ، ويحصل بذلك جواب السؤال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 و {نهى عن إطالة القراءة فيها، وذلك حين} " صلى معاذ بن جبل لأصحابه العشاء فطوّل عليهم؛ فانصرف رجل من الأنصار فصلى، فأُخبر معاذ عنه، فقال: إنه منافق. ولما بلغ ذلك الرجلَ؛ دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره ما قال معاذ؛ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتريد أن تكون فتاناً يا معاذ؟! إذا أممتَ الناس؛ فاقرأ بـ: {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (91: 15) ، و: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (77: 19) ، و: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، (96: 19) و: {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (92: 21) ؛ [فإنه يصلي وراءك الكبير، والضعيف، وذو الحاجة] " (1) .   ويقوي ذلك أنَّا لا نعرف في خبر من الأخبار أنه قرأ بـ: {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ، إلا في حديث البراء، ثم حديث زرعة هذا ". (1) ورد ذلك عن جمع من الصحابة (1) ؛ منهم: جابر بن عبد الله الأنصاري، وله عنه طرق: الأولى: عن الليث عن أبي الزبير عنه؛ أنه قال: صلى معاذ بن جبل الأنصاري لأصحابه العشاء ... الحديث. أخرجه مسلم (2/42) ، والنسائي (1/155) ، وابن ماجه (1/276 و 311) ، والبيهقي (2/392 - 393) . الثانية: عن عمرو بن دينار: ثنا جابر به نحوه، وفيه: أنه قرأ بهم {البَقَرَة} ، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أمره] بسورتين من أوسط المفصل. قال عمرو: ولا أحفظهما. أخرجه البخاري (2/155 - 156 و 10/424) ، ومسلم (2/41 - 42) ، والنسائي (1/134) ، والدارمي (1/297) ، وأحمد (3/308 و 369) - ومن طريقه أبو داود   (1) {وهو مخرج في " الإرواء " (295) } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 ..............................................................................   (1/126 - 127) -، وسنده عنده ثلاثي. وزاد هو ومسلم: قال سفيان: فقلت لعمرو: إن أبا الزبير حدثنا عن جابر؛ أنه قال: اقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَالضُّحَى} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ؟ فقال عمرو: نحو هذا. الثالثة: عن مُحارِب بن دِثَارٍ قال: سمعت جابراً به نحوه مختصراً، وفيه: " فلو صليت بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} ، و: {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، و: {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؛ فإنه يصلي وراءك الكبير، والضعيف، وذو الحاجة - أحسب هذا في الحديث -. أخرجه البخاري (2/159 - 160) ، وكذا النسائي (1/155) ؛ لكن ليس عنده: " فإنه يصلي ... إلخ. وقد قال الحافظ: " إن في ثبوت هذه الزيادة نظراً؛ لقوله بعدها: أحسب هذا في الحديث. يعني: هذه الجملة ... وقائل ذلك هو شعبةُ الراوي عن محارب. وقد رواه غير شعبة من أصحاب محارب عنه بدونها، وكذا أصحاب جابر ". ورواه النسائي (1/133) عن محارب - أيضاً - مقروناً بأبي صالح عن جابر نحوه؛ لكن ليس فيه قوله: " فلو صليت ... " إلخ. الرابعة: عن محمد بن عجلان عن عبيد الله بن مِقْسَم عنه. أخرجه البخاري (2/160) تعليقاً عن عبيد الله، ووصله أبو داود (1/127) ، وابن خزيمة - كما في " الفتح " (2/153 و 160) -، ولم يسق البخاري - وكذا أبو داود - لفظه. ومنهم: أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 ..............................................................................   أخرجه أحمد (3/124) : ثنا إسماعيل بن إبراهيم: ثنا عبد العزيز بن صهيب، وقال مرة: أخبرنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس نحو؛ وفيه: " لا تُطَوِّل بهم؛ اقرأ بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و: {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوهما ". وهذا إسناد صحيح على شرط الستة. وهو من ثلاثيات " المسند ". وإسماعيل هذا ة هو المعروف بابن عُلَيّة. والحديث؛ قال في " الفتح " (2/154) : " رواه أحمد، والنسائي، وأبو يعلى، وابن السَّكَن بإسناد صحيح ". ومنهم: بُريدة بن الحَصِيب. أخرجه أحمد (5/355) بإسناده الصحيح على شرط مسلم - المتقدم قبيل هذا الحديث -. وقال الحافظ: " إسناده قوي ". واعلم أن في الحديث دلالةً على أنه لا يجوز للإمام أن يطيل القراءة بأكثر مما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطيلها، أو بأكثر من التي حدَّدها؛ وذلك خشية أن يفتنهم عن دينهم، ويُنَفّرهم عن صلاة الجماعة. وقد جاء في الأمر بالتخفيف أحاديث كثيرة في " الصحيحين " وغيرهما، وفيها تعليل ذلك بأن في الجماعة السقيمَ، والضعيف، والكبير، وذا الحاجة. والذي يهمُّنا في هذا الصدد، وينبغي أن نشرح القول فيه هو النظر فيما لو كان بعض هؤلاء المذكورين هَوَاهُم القراءة بأقصر سورة في أطول صلاة - كالصبح مثلاً، وما قاربها -؛ فهل على الإمام الاقتداءُ بهم أو بأضعفهم - كما جاء في بعض الأحاديث -، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 ..............................................................................   ولو كان في ذلك مخالفةٌ لعادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إطالة القراءة فيها؟ فالذي يظهر: أنه ليس له ذلك، وأن الأحاديث المشار إليها لا تشمل هذا التخفيف؛ لأنه يؤدي إلى تعطيل السنن النبوية، إذ التخفيف من الأمور الإضافية؛ فقد يكون الشيء خفيفاً بالنسبة إلى عادة قوم، طويلاً بالنسبة لعادة آخرين - كما قال ابن دقيق العيد -. ويختلف ذلك - أيضاً - بالنسبة لنشاط بعضهم في التمسك بالسنة ومتابعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وضعف هِمَم الآخرين في ذلك، وقوة بعضهم على القيام، وضعف بعضهم عنه، إلى غير ذلك من الفوارق؛ ولذلك كان لا بد من وضع حَدٍّ للتخفيف المأمور به؛ وهو ما قد أشرت إليه في صدد هذا الكلام: من الاقتصار على هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القراءة، فمن فعل ذلك؛ فقد خفف، ومن زاد على ذلك؛ فقد أطال، وخالف أمرَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولذلك لما شكا ذلك الرجل معاذاً إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أمره أن يقرأ بمثل ما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ، فلم يأمره بأقل من ذلك. وقد استفدنا هذا البحث من كلام ابن القيم رحمه الله، وجزاه عن السنة خير الجزاء؛ حيث قال في صدد الرَّدِّ على النَّقَّارِيْن للصلاة؛ المخففين لها تخفيفاً مخالفاً لسنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1/76) : " وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيكم أمَّ؛ فليخفف " (أخرجه الستة) ، وقول أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخف الناس صلاة في تمام (أخرجاه) . فالتخفيف أمر نسبي يرجع إلى ما فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وواظب عليه، لا إلى شهوة المأموين؛ فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يأمرهم بأمر ثم يخالفه، وقد عَلِمَ أن من ورائه الكبيرَ، والضعيفَ، وذا الحاجة؛ فالذي فعله هو التخفيف الذي أَمَر به؛ فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 6- صلاة الليل وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ربما جهر بالقراءة فيها، وربما أسرَّ (*) } ؛ يقصر القراءة فيها تارة، ويطيلها أحياناً، ويبالغ في إطالتها أحياناً أخرى، حتى قال ابن مسعود: " صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة، فلم يزل قائماً حتى هَمَمْتُ بأمر سوء! قيل: وما هَمَمْتَ؟! قال: هَمَمْتُ أن أقعد وأَذَرَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (2) .   مضاعفة؛ فهي خفيفة بالنسبة إلى أطولَ منها، وهديه الذي كان واظب عليه هو الحاكمُ على كل ما تنازع فيه المتنازعون. ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرنا بالتخفيف، وَيؤُمُّنَا بـ: {الصَّافَّاتِ} . فالقراءة بـ: {الصَّافَّاتِ} من التخفيف الذي كان يأمر به ". قلت: وحديث ابن عمر هذا إسناده حسن، وقد سبق الكلام عليه في (القراءة في الفجر) . وفي الحديث فوائد أخرى ذكرها النووي في " شرح مسلم "، والحافظ في " الفتح ". فليراجعها من شاء. (*) انظر تخريجه فيما سبق (ص 419) ، وكذلك يُستدل له بحديث حذيفة الآتي. (2) أخرجه البخاري (3/14 - 15) ، ومسلم (2/186) ، وأحمد (1/385) من طرق عن الأعمش عن أبي وائل عنه. ورواه البيهقي (3/8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 وقال حُذيفة بن اليمان: " صلّيت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة، فافتتح {البَقَرَة} . فقلت: يركع عند المئة. ثم مضى. فقلت: يصلي بها في ركعة (1) . فمضى. فقلت: يركع بها. ثم افتتح {النِّسَاء} ، فقرأها، ثم افتتح {آلِ عِمْرَان} (2) ، فقرأها. يقرأ مترسلاً: إذا مَرَّ بآية فيها تسبيح؛ سبح، وإذا مَرَّ بسؤال؛ سأل، وإذا مَرَّ   (1) أي: في ركعتين. أفاده النووي؛ فيعاد النظر في ألفاظ الحديث! ثم راجعت ابن نصر؛ فإذا فيه: ركعتين. (2) هكذا الرواية؛ تقديم: {النِّسَاء} على: {آلِ عِمْرَان} ؛ خلافاً للترتيب العثماني عند جميع من أخرج الحديث، إلا رواية لأحمد؛ فذكر: {آلِ عِمْرَان} ، ثم: {النِّسَاء} . وهي من رواية أبي معاوية عن الأعمش، والرواية الأولى من رواية عبد الله ابن نُمَير وجرير؛ كلاهما عن الأعمش. على أن مسلماً قرن بهما رواية أبي معاوية - وكذا البيهقي -، ولم يذكر خلافاً بينه وبينهما في هذه الكلمة. والله أعلم. وأيما كان؛ فالرواية الأولى أصح؛ لاتفاق ثقتين عليها عن الأعمش، ولمجيئها كذلك من وجه آخر عند أحمد - كما سبق -. وقد وهم الحافظ في " الفتح " (3/15) ، وتبعه الشيخ القاري وغيره في " شرح الشمائل " (2/95) ؛ حيث عزَوا الحديث باللفظ الثاني إلى " صحيح مسلم "! وليس هو فيه؛ بل ولا عند أحد من مخرجيه، حاشا أحمد في رواية - كما ذكرنا -. وقد رجح هذه الرواية الشيخ القاري؛ فقال: " إنها الصواب؛ على ما هو المعروف المستقر من أحواله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما استقر عند الصحابة من الإجماع على ترتيب السور، على خلاف في أنه توقيفي، بخلاف ترتيب الآي؛ فإنه قطعي ". اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 ..............................................................................   قلت: ولا يخفى على العاقل اللبيب أن ما ذكره لا تنهض حجته على ترجيح هذه الرواية؛ لأنه جائز أن يخالف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المعهود من ترتيبه لسبب ما - كبيان الجواز مثلاً -، فإذا كان هذا جائزاً؛ فلا بد حينئذٍ من المصير في ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى إلى ما تقتضيه قواعد علم الحديث. وقد ذكرنا أنها الرواية الأولى؛ فعليها العمدة، دون الأخرى. ولذا قال القاضي عِيَاضٌ: " فيه دليل لمن يقول: إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف، وإنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل وَكَلَه إلى أمته بعده ". قال: " وهذا قول مالك، وجمهور العلماء، واختاره القاضي أبو بكر الباقِلاني. قال ابن الباقِلاني: هو أصح القولين مع احتمالهما ". قال: " والذي نقوله: إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة، ولا في الصلاة، ولا في الدرس، ولا في التلقين والتعليم، وإنه لم يكن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك نص ولا حَدٌّ تحرم مخالفته؛ ولذلك اختلف ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان ". قال: " واستجاز النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأمة بعده في جميع الأعصار - ترك ترتيب السور في الصلاة، والدرس، والتلقين ". قال: " وأما على قول من يقول من أهل العلم: إن ذلك بتوقيف من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حدده لهم كما استقر في مصحف عثمان، وإنما اختلف المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف والعرض الأخير. فيتأول قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {النِّسَاء} أولاً، ثم: {آلِ عِمْرَان} هنا على أنه كان قبل التوقيف والترتيب، وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أُبَيٍّ ". قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 بِِتَعَوُّذٍ؛ تَعَوَّذَ (1) ، ...........................................................   " ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى، وإنما يكره ذلك في ركعة، ولمن يتلو في غير صلاة ". قال: " وقد أباحه بعضهم، وتأول نهي السلف عن قراءة القرآن منكوساً على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها ". اهـ. كلام القاضي عياض. ذكره في " شرح مسلم ". وما ذكره من إباحة بعضهم قراءة [السور] على خلاف الترتيب العثماني في ركعة واحدة هو الظاهر من بعض الأحاديث؛ كحديث ابن مسعود المتقدم [ص 402 - 403] : أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرن بين النظائر من المفصل. وفيه: أنه كان يقرأ: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} و {عَبَسَ} في ركعة، و {المُدَّثِّر} و {المُزَّمِّل} في ركعة ... إلخ. والظاهر أنه قرأ كلاً من: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} و {المُدَّثِّر} أولاً، ثم: {عَبَسَ} و {المُزَّمِّل} . (1) قال في " شرح مسلم ": " فيه استحباب هذه الأمور لكل قارئ؛ في الصلاة وغيرها. ومذهبنا استحبابه للإمام والمأموم والمنفرد ". زاد في " المجموع " (4/66) : " لأنه دعاء؛ فاستووا فيه؛ كالتأمين. قال: وسواء صلاة الفرض والنفل. قال: وقال أبو حنيفة رحمه الله: يكره السؤال عند آية الرحمة، والاستعاذة في الصلاة. وقال بمذهبنا جمهور العلماء من السلف فمن بعدهم ". اهـ. وأقول: أذكر أن الإمام محمداً رحمه الله قد صرح بجواز ذلك واستحبابه في كتابه " الآثار "، ولكنه خصه بالتطوع دون الفرض، والدليل يساعده، وقد أردت أن أنقل نص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 ثم ركع ... " (1) .............................................................   كلامه في ذلك، ولكني افتقدت الكتاب؛ فلم أعثر عليه الآن (*) . وقال أبو الحسنات في " عمدة الرعاية " (1/142) - بعد أن ساق الحديث -: " حمله أصحابنا على التطوع، وجوزوه للمنفرد، وللإمام في التطوع؛ إن أمن ثقل ذلك على المقتدين؛ كما في " العناية " و " البناية " و " فتح القدير " وغيرها ". (1) أخرجه مسلم (2/186) ، والنسائي (1/169 - 170 و 245 - 246) ، والترمذي في " الشمائل " (2/96 - 97) ، وابن نصر في " قيام الليل " (51) ، والبيهقي (2/85 و309) ، وأحمد (5/384 و 397) من طريق الأعمش عن سعد بن عَبِيْدَة عن المستورد ابن الأحنف عن صِلَةَ بن زُفَر عنه. وأخرج بعضه أبو داود (1/139) ، والترمذي (2/48 - 49) - وقال: " حسن صحيح " -، والدارمي (1/299) ، وابن ماجه (1/407) ، والطحاوي (1/204) ، وأحمد أيضاً (5/382 و 389 و 394) من هذا الوجه. ثم أخرجه أحمد من وجه آخر بزيادة فيه؛ فقال (5/400) : ثنا خلف بن الوليد: ثنا يحيى بن زكريا: ثنا العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن طلحة بن يزيد الأنصاري عن حذيفة قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة من رمضان، فقام يصلي، فلما كبَّر؛ قال: " الله أكبر، ذو الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة ". ثم قرأ: {البَقَرَة} ، ثم {النِّسَاء} ، ثم {آلِ عِمْرَان} ، لا يمر بآية تخويف إلا وقف عندها، ثم ركع يقول:   (*) ونصه في (1/141) - منه -: " وهذا في صلاة النهار؛ فلا نرى بأساً أن يقف الرجل على شيء من القرآن مثلَ هذا؛ يدعو لنفسه في التطوع، فأما في المكتوبة: فلا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 ..............................................................................   " سبحان ربي العظيم ". مثل ما كان قائماً، ثم رفع رأسه، فقال: " سمع الله لمن حمده، ربنا! لك الحمد ". مثل ما كان قائماً، ثم سجد يقول: " سبحان ربي الأعلى ". مثل ما كان قائماً، ثم رفع رأسه فقال: " رب اغفر لي ". مثل ما كان قائماً، ثم سجد يقول: " سبحان ربي الأعلى " مثل ما كان قائماً، ثم رفع رأسه، فما صلى إلا ركعتين، حتى جاء بلال، فآذنه بالصلاة. ورجاله رجال البخاري، عدا خلف بن الوليد، وقد وثقه ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم - كما في " التعجيل " -. وقد أخرجه النسائي (1/246) ، والحاكم (1/321) من طريقين عن العلاء بن المسيب به نحوه. إلا أنهما قالا - واللفظ للحاكم -: فما صلى إلا أربع ركعات من صلاة العَتَمة من أول الليل إلى آخره، حتى جاء بلال، فآذنه بصلاة الغداة. وروى بعضه البيهقي (2/95 - 96 و 109) ، وكذا الحاكم وغيره - كما سبق في (الاستفتاح) قبيل (القراءة) [ص 269]-. ثم قال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وليس كما قالا. وقد أعله النسائي بالانقطاع - كما ذكرناه هناك -. لكن رواه شعبة عن عمرو بن مرة سمع أبا حمزة - وهو: طلحة بن يزيد - يحدث عن رجل من عبس عن حذيفة به نحوه بلفظ: فصلى أربع ركعات، يقرأ فيهن: {البَقَرَة} ، و {آلِ عِمْرَان} ، و {النِّسَاء} ، و {المَائِدَة} - أو: {الأَنْعَام} . شَكَّ شعبة -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 ..............................................................................   أخرجه أبو داود وغيره. وقد رجحنا هناك أن الرجل العبسي هذا هو: صِلَة بن زُفَر - في إسناد مسلم -، وبذلك يكون إسنادُ شعبة صحيحاً أيضاً، وتؤيد روايته رواية النسائي والحاكم: أن الصلاة كانت أربع ركعات، ولكنها تخالف بظاهرها رواية مسلم الصريحة في أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ السور الثلاثة في ركعة واحدة. بينما رواية شعبة تقول: إنه قرأ بهن مع {المَائِدَة} أو {الأَنْعَام} في الأربع ركعات. إلا أن يكون المعنى: يقرأ فيهن. أي: في كل واحدة منهن. وفيه بُعد، ولعله يستساغ في سبيل الجمع بين الروايتين، وإلا؛ فرواية مسلم أرجح وأقوى. ويقوي روايةَ الحاكم روايةُ الطبراني في " الأوسط " عن حذيفة بلفظ: قال: أتيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي، فصليت بصلاته من ورائه وهو لا يعلم، فاستفتح {البَقَرَة} ، حتى ظننت أنه سيركع، ثم مضى - قال سنان: لا أعلمه إلا قال: - صلى أربع ركعاتٍ؛ كان ركوعه مثل قيامه. قال: فذكرت ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: " ألا أعلمتني؟! ". قال حذيفة: والذي بعثك بالحق نبياً! إني لأجده في ظهري حتى الساعة. قال: " لو أعلم أنك ورائي؛ لخففت ". قال الهيثمي (2/275) : " وفيه سِنَان بن هارون البُرْجُمي، قال ابن معين: سنان بن هارون أخو سيف، وسنان أحسنهما حالاً. وقال مرة: سنان أوثق من سيف. وضعفه غير ابن معين ". اهـ. وفي " التقريب ": " صدوق، فيه لِينٌ ". ويأتي الحديث بلفظ آخر قريباً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 الحديث (1) .   وله شاهد من حديث عائشة، رواه عنها مسلم بن مِخْرَاقٍ قال: ذُكر لها أن ناساً يقرؤون القرآن في الليلة مرة أو مرتين. فقالت: أولئك قرؤوا، ولم يقرؤوا؛ كنت أقوم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة التمام، فكان يقرأ سورة {البَقَرَة} ، و {آلِ عِمْرَان} ، و {النِّسَاء} ؛ فلا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله عز وجل واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل وَرغِبَ إليه. أخرجه أحمد (6/92 و 119) من طريق ابن لَهِيعة عن الحارث بن يزيد عن زياد بن نُعيم عنه. وهذا إسناد جيد؛ فإن ابن لَهيعة إنما يخشى من سوء حفظه، وإنما حدث من حفظه بعد احتراق كتبه - كما قال الحاكم وغيره -. وقد قال عبد الغني بن سعيد الأزدي والساجي وغيرهما: " إذا روى العبادلة عن ابن لَهيعة؛ فهو صحيح: ابن المبارك، وابن وهب، والمقرئ. وقال نعيم بن حماد: سمعت ابن مهدي يقول: لا أعتدُّ بشيء من حديث ابن لهيعة إلا سماع ابن المبارك ونحوه ". قلت: وابن المبارك ممن روى هذا الحديث عند أحمد؛ فهو صحيح الإسناد. وقد أخرجه أبو يعلى أيضاً - كما في " المجمع " (2/272) -. ثم رأيته في سنن البيهقي (2/310) من طريق يحيى بن أيوب عن الحارث بن يزيد به. وهذه متابعة قوية. (1) وتمامه: فجعل يقول: " سبحان ربي العظيم ". فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 ..............................................................................   " سمع الله لمن حمده - زاد جرير: ربنا! لك الحمد - "، ثم قام قياماً طويلاً؛ قريباً مما ركع، ثم سجد، فقال: " سبحان ربي الأعلى ". فكان سجوده قريباً من قيامه. قال الحافظ (3/15) : " وهذا إنما يتأتى في نحو من ساعتين؛ فلعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحيا تلك الليلة كلها. وأما ما يقتضيه حاله في غير هذه الليلة؛ فإن في أخبار عائشة أنه كان يقوم قدر ثلث الليل ". قلت: قد صح عنها أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قام ليلة حتى الصباح. وهو محمول على الغالب من أحواله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سيأتي -. ثم إن تقدير الحافظ ذلك بـ: (نحو ساعتين) بعيد عن التجربة؛ وذلك أننا صلينا منذ بضعة أيام صلاة الخسوف - الذي وقع ليلة الاثنين (16/1/66 هـ) -، فقرأنا في الركعة الأولى بـ: سورة {إِبْرَاهِيم} ، وفي الثانية بنحوها من سورة {الإِسْرَاء} ، وأطلنا الركوعين في كل من الركعتين، وكذا السجدتين وما بين ذلك - حسب السنة - بعضَ الإطالة، بحيث لا يصح أن يقال: إن كلاً من ذلك كان نحو القيام أو قريباً منه، ومع هذا؛ فقد أخذت هذه الصلاة ساعة كاملة من الزمن. فأين ذلك من صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع ركعات - على الراجح من الروايات -؟! يقرأ في الأولى بثلاث سور من الطوال؛ يترسل، ويتمهل في قراءته، ويقف يسأل الله، ويستعيذ به، ثم يجعل ركوعه وسجوده وما بين ذلك قريباً من قيامه؛ فلا شك أن ذلك لا يتأتى إلا في ثلاث ساعات. فإذا أضيف إلى ذلك ثلاث ركعات أخرى؛ فيكون صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أحيا الليل كله. وقد يتبادر إلى الذهن أنه - على ما ذكرنا - لا يتسع الليل لمثل هذه الصلاة؛ لأنها تحتاج إلى اثنتي عشرة ساعة! فالجواب: إنه يمكن أن تكون الركعات الثلاث أقصر من الأولى؛ لأن المعهود عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الغالب من هديه إطالة الركعة الأولى أكثر من الثانية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 و " قرأ ليلة - وهو وَجعٌ - السبع الطوال " (1) .   - كما سبق -. والله أعلم. (1) هو من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: وَجِدَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة شيئاً، فلما أصبح؛ قيل: يا رسول الله، إن أثر الوجع عليك لبيّن. قال: " إني إنما على ما ترون بحمد الله؛ قد قرأت السبع الطوال " (1) . أخرجه الحاكم (1/308) عن مُؤَمّل بن إسماعيل: ثنا سليمان بن المغيرة: ثنا ثابت عنه. وقال: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وليس بصواب؛ فإن مؤملاً هذا ليس من رجال مسلم، وهو صدوق سيئ الحفظ. وذكره في " المجمع " بلفظ: " قرأت البارحة ... ". والباقي مثله. ثم قال: " رواه أبو يعلى. ورجاله ثقات " (*) . قلت: والظاهر أن ذلك كان في صلاة الليل، ويحتمل أنه خارج الصلاة. ويؤيد الأولَ ما أخرجه أحمد رحمه الله (5/388 و 396 - 397) من طريق حماد عن عبد الملك بن عُمير: ثني ابن عمٍّ لحذيفة عن حذيفة قال:   (1) {وفي رواية: "الطُّوَل "؛ قال ابن الأثير: " بالضم: جمع (الطولى) ؛ مثل الكبرى والكبر. والسبع الطوال هي: {البَقَرَة} ، و {آلِ عِمْرَان} ، و {النِّسَاء} ، و {المَائِدَة} ، و {الأَنْعَام} ، و {الأَعْرَاف} ، و {التَّوْبَة} "} . (*) وهو فيه برقم (3431) من طريق مؤمل بن إسماعيل به، وبه أعلّ الشيخُ رحمه الله الحديثَ في " الضعيفة " (3995) وقال: ".. فمن كان عنده نسخة من " صفة الصلاة " فيها هذا الحديث؛ فليضرب عليه، وجزاه الله خيراً ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 و " كان أحياناً يقرأ في كل ركعة بسورة منها " (1) .   قمت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة، فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات. وكان إذا رفع رأسه من الركوع؛ قال: " سمع الله لمن حمده "، ثم قال: " الحمد لله، ذي الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة ". وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه. فانصرف، وقد كادت تنكسر رجلاي. ورجاله رجال مسلم، غير ابن عم حذيفة الذي لم يسم؛ فلم أعرفه. والظاهر أيضاً أن هذه قصة أخرى جرت لحذيفة، غير التي سبق ذكرها عنه قريباً. ويحتمل أن تكون هي نفسها، لكن بعض الرواة أخطأ في روايتها. والله أعلم. (1) فيه حديثان: الأول: عن عوف بن مالك الأشجعي. قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة، فبدأ فاستاك، ثم توضأ، ثم قام يصلي، فقمت معه، فاستفتح من {البَقَرَة} ؛ لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع، فمكث راكعاً بقدر قيامه، ويقول في ركوعه: " سبحان ذي الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة ". ثم سجد بقدر ركوعه، ثم قام فقرأ: {آلِ عِمْرَان} ، ثم سورة {النِّسَاء} ، ثم سورة سورة؛ يفعل مثل ذلك. أخرجه أبو داود (1/139) ، وعنه البيهقي (2/310) ، والنسائي (1/169) ، وابن نصر (51) واللفظ له، وأحمد (6/24) من طريق معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس: أنه سمع عاصم بن حُميد يقول: سمعت عوف بن مالك به. وهذا سند صحيح - كما قال النووي في " الأذكار "، وفي " المجموع " (4/67) -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 ..............................................................................   ثم وجدت له طريقاً أخرى ذكرته في (تسبيح الركوع) ؛ فينقل إلى هنا (*) . الحديث الثاني: عن ابن عباس. قال: بِتُّ عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعَاً، فاستقى ماء، فتوضأ ثم قرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى آخر السورة. ثم افتتح {البَقَرَة} ، فقرأها حرفاً حرفاً حتى ختمها، ثم ركع ... الحديث. وفيه: ثم قام، فقرأ في الركعة الثانية: {آلِ عِمْرَان} ... الحديث. وفيه: ثم اضطجع، ثم قام فزعاً، فعل مثل ما فعل في الأوليين، فقرأ حرفاً حرفاً حتى صلى ثمان ركعات، فيضطجع بين كل ركعتين ... الحديث.   (*) قال الشيخ رحمه الله هناك (ص 665) : " ... وقد وجدت للحديث طريقاً أخرى عند ابن نصر (76) ، رواه من طريق ابن جُرَيج: أخبرني الوليد بن عبد الله بن أبي مُغِيث: أنه سمع أبا عبد الله ابن نُحَيلة - رجلاً كان مع الوليد بن عبد الملك مَرْضِيًّا - يقول: صلى رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه - يعني: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقرأ بـ: سورة {البَقَرَة} ... الحديث بنحوه، وفيه: فقال له الرجل حين أصبح: يا نبي الله! أردت أن أصلي بصلاتك فلم أستطع! قال: " إنكم لا تستطيعون، إني أخشاكم لله ". ورجاله ثقات؛ غير أبي عبد الله هذا؛ فلم أجد من ذكره. ثم روى ابن نصر من طريق خُصَيف عن أبي عبيدة: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في ركوعه وسجوده: " سبحان ذي الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة ". وهذا مرسل ضعيف ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 و " ما عُلِمَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ القرآن كله في ليلة [قط] " (1) ؛ بل إنه لم يَرْضَ ذلك لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حين قال له:   رواه الطبراني في " الكبير ". وفيه عُبيد بن إسحاق العَطَّار: قال الهيثمي (2/275) : " ضعفه ابن معين وغيره. وأما أبو حاتم؛ فَرَضِيهَ ". (1) هو من حديث عائشة رضي الله عنها. قالت: لا أعلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى الصباح. أخرجه مسلم (2/169 - 170) ، وأبو داود (1/210 - 211) ، والنسائي (1/237 و243) ، وابن نصر (48 - 49) ، والدارمي (1/344 - 346) ، وأحمد (6/53 - 54) من طريق سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة عن زُرارة عن سعد بن هشام عنها. وهو قطعة من حديثها الطويل في وتره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفيه: أن سعد بن هشام قال: فانطلقت إلى ابن عباس، فحدّثتُه بحديثها. فقال: صدقَتْ. والزيادة لأبي داود. وأخرج أبو عُبيد، و {ابن سعد 1/376) ، وأبو الشيخ في " أخلاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (281) } من طريق الطَّيِّبِ بنِ سليمان عن عمرة عنها: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يختم القرآن في أَقل من ثلاث. ذكره الحافظ في " الفتح " (9/79) ، وسكت عليه. وقال الحافظ ابن كثير في " فضائل القرآن " (ص 172) : " هذا حديث غريب جداً، وفيه ضعف؛ فإن الطيب بن سليمان هذا بصريٌّ ضعّفه الدارقطني، وليس هو بذاك المشهور ". ثم قال الحافظ ابن حجر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 " اقرأ القرآن في كل شهر ". قال: قلت: إني أجد قوة. قال: " فاقرأه في عشرين ليلة ". قال: قلت: إني أجد قوة. قال: " فاقرأه في سَبْعٍ، ولا تزد على ذلك " (1) .   " وهذا اختيار أحمد، وأبي عُبيد، وإسحاق بن راهويه وغيرهم ". قلت: وهو الحق إن شاء الله تعالى. وسيأتي لذلك زيادة إيضاح واستدلال. (1) هو من حديث عبد الله هذا. وله عنه طرق: الأول: عن أبي سلمة عنه قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقرأ القرآن في كل شهر " ... الحديث. أخرجه البخاري (9/79 - 80) ، ومسلم (3/163 - 164) واللفظ له، وأبو داود (1/219 - 220) ، وأحمد (2/200 و 200 - 201) من طرق عنه. وزاد مسلم (3/162 - 163) في رواية عن عِكرمة بن عَمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سَلَمة: " فإن لزوجك عليك حقاً، ولِزَوْرِكَ عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً ". قال: فشددت؛ فشدد عليَّ. قال: وقال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنك لا تدري؛ لعلك يطول بك عُمُر ". قال: فصرت إلى الذي قال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما كبرت؛ وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثاني: عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه مرفوعاً: " يا عبد الله بن عمرو! في كم تقرأ القرآن؟ ". قال: قلت: في يومي وليلتي. قال: فقال لي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 ..............................................................................   " ارقد، وصلِّ، وارقد، واقرأه في كل شهر ". قال: فما زلت أناقصه ويناقصني؛ إلى أن قال: " اقرأه في كل سبع ". أخرجه أحمد (2/162 و 216) واللفظ له، والطيالسي (300) من طرق عن عطاء. ورجاله ثقات. وأخرجه أبو داود (1/220) من طريق حماد عن عطاء به، لكن قال: قال عطاء: واختلفنا عن أَبِي؛ فقال بعضنا: سبعة أيام. وقال بعضنا: خمساً. الثالث: عن ابن جُريج: سمعت ابن أبي مُلَيكة يحدث عن يحيى بن حكيم بن صفوان عنه قال: جمعت القرآن، فقرأته في ليلة. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني أخشى أن يطول عليك الزمان، وأن تَمَلَّ. اقرأ به في كل شهر ". قلت: أي رسولَ الله! دعني أستمتع من قوتي، ومن شبابي. قال: " اقرأ به في عشرين ". قلت: أي رسول الله! دعني أستمتع من قوتي، ومن شبابي. قال: " اقرأ به في عشر ". قلت: يا رسول الله! دعني أستمتع من قوتي، ومن شبابي. قال: " اقرأ به في كل سبع ". قلت: يا رسول الله! دعني أستمتع من قوتي، ومن شبابي. فأبى. أخرجه ابن ماجه (1/406) ، وأحمد (2/113 و 119) . ورجاله ثقات، رجال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 ثم " رَخَّصَ له أن يقرأه في خمس " (1)   الشيخين، إلا يحيى بن حكيم بن صفوان؛ فلم يوثقه أحد غير ابن حبان، وقد تفرد عنه ابن أبي مُلَيكة - كما في " الميزان " -. وفي " التقريب ": " مقبول ". الرابع: عن مَعْمَر عن سِماك بن الفضل عن وهب بن مُنَبِّه عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يقرأه في أربعين، ثم في شهر، ثم في عشرين، ثم في خمس عشرة، ثم في عشر، ثم في سبع. قال: انتهى إلى سبع. أخرجه هكذا ابن نصر (62) ، ورواه أبو داود (1/221) من طريق عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر به، لكنه جعله عن وهب بن مُنَبِّه عن عبد الله بن عمرو؛ فأسقط من الإسناد: (عن عمرو بن شعيب عن أبيه) . وقال: لم ينزل من سبع. ولوهب رواية عن ابن عمرو؛ فلعله سمعه أولاً بواسطة عمرو بن شعيب عن أبيه عنه، ثم سمعه عنه مباشرة. ورجاله ثقات. وقد ورد الحديث بزيادة في متنه؛ وهو الآتي: (1) هو من حديث ابن عمرو أيضاً. وله طريقان: الأول: عن شعبة عن عمرو بن دينار عن أبي العباس عنه قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقرأ القرآن في شهر ". قلت: إنما أُطيق أكثر من ذلك. فلم أزل أطلب إليه، حتى قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 ..............................................................................   " في خمسة أيام ... " الحديث. أخرجه النسائي (1/326) ، وأحمد (2/195) . وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه الطيالسي (298) مختصراً بلفظ: أمره أن يقرأ القرآن في خمس. الثاني: عن مُطَرّف عن أبي إسحاق عن أبي بُردة عن عبد الله بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله! في كم أقرأ القرآن؟ قال: " اختمه في شهر ". قلت: إني أُطيق أفضل من ذلك. قال: " اختمه في عشرين ". قلت: إني أُطيق أفضل من ذلك. قال: " اختمه في خمس عشرة ". فقلت: إني أُطيق أفضل من ذلك. قال: " اختمه في عشر ". قلت: إني أُطيق أفضل من ذلك. قال: " اختمه في خمس ". قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: فما رَخَّصَ لي. أخرجه الترمذي (2/155 - 156 - طبع بولاق) ، والدارمي (2/471) . وقال الترمذي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 ..............................................................................   " حديث حسن صحيح. يستغرب من حديث أبي بردة عن عبد الله بن عمرو ". قلت: وهو على شرط الشيخين. (تنبيه) : عزا الحافظ (9/79) هذا الحديث للدارمي فقط، وقد تحرف عليه كنية أبي بردة؛ فقال: " إن الدارمي رواه من طريق أبي فروة عن عبد الله بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله! ... " فذكره. ثم قال: " وأبو فروة هذا: الجهني، واسمه: عروة بن الحارث، وهو كوفي ثقة ". قلت: والظاهر أنه وقع له كذلك في نسخته من " الدارمي "، وهو تحريف - كما ذكرنا -. والصواب: أبو بردة - كما في نسختنا من " الدارمي "، وكذلك هو في " الترمذي " -. ويؤيد ذلك أن أبا بردة هو الذي يروي عن ابن عمرو، ويروي عنه أبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشيباني، والأول هو المراد هنا. وأما أبو فروة؛ فلم يذكر أحدٌ في الرواة عنه السبيعيَّ أو الشيبانيَّ، ولا ذكروا في شيوخه ابن عمرو، بل ولا أحداً من الصحابة؛ ولذلك قال الحافظ في " تهذيب التهذيب ": " لم يذكر له المؤلف شيخاً من الصحابة، وقد ذكره ابن حبان في (ثقات التابعين) ، وحديثه عن عبد الله بن عمرو بن العاص في " مسند الدارمي ". والله أعلم ". قلت: وهذا بناءً على التحريف الذي وقع له في نسخته من " الدارمي "، ولا أدري كيف فات هذا على الحافظ! والله تعالى هو الحافظ. وقد جاء الحديث بزيادة أخرى، وهو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 ثم " رَخصَ له أن يقرأه في ثلاث " (1) .   (1) هو من حديث ابن عمرو أيضاً. وله طرق: الأول: عن شعبة عن مغيرة: سمعت مجاهداً يحدث عنه مرفوعاً: " صُمْ من الشهر ثلاثة أيام ". قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: فما زال؛ حتى قال: " صم يوماً، وأفطر يوماً ". فقال له: " اقرأ القرآن في كل شهر ". قال: إني أطيق أكثر من ذلك. فما زال حتى قال: " اقرأ القرآن في كل ثلاث ". أخرجه البخاري (4/181 - 182) ، وأحمد (2/198) . ثم أخرجه أحمد (2/188) ، وكذا ابن حبان (1/146) من طريق شعبة أيضاً عن حُصَين عن مجاهد به، وزاد: وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن لكل عمل شِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت شرته إلى سنتي؛ فقد أفلح، ومن كانت فترته إلى غير ذلك؛ فقد هلك ". وسنده صحيح على شرط الشيخين. ثم أخرجه أحمد (2/158) عن المغيرة والحُصين - معاً - فقال: ثنا هُشيم عن حُصين بن عبد الرحمن ومغيرة الضَّبِّي عن مجاهد به، إلا أنه قال: قال أحدهما - إما حُصين، وإما مغيرة قال -: " فاقرأه في كل ثلاث ". وفيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 ..............................................................................   قال حُصين في حديثه: ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة؛ فإما إلى سنة، وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنة؛ فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك؛ فقد هلك ". قال مجاهد: فكان عبد الله بن عمرو - حيث ضعُف وكبِر - يصوم الأيام كذلك يصل بعضها إلى بعض؛ ليتقوى بذلك، ثم يفطر بِعَدِّ تلك الأيام. قال: وكان يقرأ في كل حزبه كذلك، يزيد أحياناً، وينقص أحياناً، غير أنه يُوَفِّي العدد؛ إما في سبع، وإما في ثلاث. قال: ثم كان يقول بعد ذلك: لأَنْ أكون قبلت رخصة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أحب إلي مما عُدِلَ به - أو عَدَل -، لكني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره. قلت: وسنده صحيح أيضاً على شرطهما. وعزاه الحافظ (9/77) للنسائي أيضاً. ودَلَّت رواية شعبة عن مغيرة وعن حُصين على أن كلاً منهما قال: " فاقرأه في كل ثلاث ". الطريق الثاني: عن الحَرِيش بن سُلَيم عن طلحة بن مُصَرِّف عن خَيْثمة عنه مرفوعاً مختصراً: " اقرأ القرآن في شهر ". قال: إن بي قوة. قال: " اقرأه في ثلاث ". أخرجه أبو داود (1/220) . وسنده حسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 ..............................................................................   الثالث: عن هَمَّام: أخبرنا قتادة عن يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّيْر عنه؛ أنه قال: قلت: يا رسول الله! في كم أقرأ القرآن؟ قال: " اقرأه في كل شهر ". قال: إني أقوى على أكثر من ذلك. قال: " اقرأه في خمس وعشرين ". قلت: إني أقوى على أكثر من ذلك. قال: " اقرأه في عشرين ". قال: قلت: إني أقوى على أكثر من ذلك. قال: " اقرأه في خمس عشرة ". قال: قلت: إني أقوى على أكثر من ذلك. قال: " اقرأه في سبع ". قال: قلت: إني أقوى على أكثر من ذلك. قال: " لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث ". أخرجه أحمد (2/165 و 189) ، وأبو داود أيضاً (1/220) . وقد روى الجملة الأخيرة أحمد أيضاً (2/164 و 193) عن وكيع عن هَمَّام به بلفظ: " من قرأ القرآن في أقل من ثلاث؛ لم يفقهه ". ثم أخرجه (2/195) من طريق شعبة عن قتادة به. ومن هذا الوجه أخرجه الترمذي (2/156) ، والدارمي (1/350) ، وابن ماجه (1/406) ، لكن بلفظ: " لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث ". وقال الدارمي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 ..............................................................................   " لا يفقه ". وهكذا رواه الطيالسي (300) عن هَمَّام، وأبو داود (1/221) عن سعيد - وهو: ابن أبي عروبة -؛ كلاهما عن قتادة به. ثم قال الترمذي: " حسن صحيح ". قلت: ورجاله رجال الشيخين. قال الحافظ (9/78) : " وشاهده عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح من وجه آخر عن ابن مسعود: " اقرؤوا القرآن في سبع، ولا تقرؤوه في أقل من ثلاث ". واعلم أن الظاهر من اختلاف روايات هذا الحديث أن القصة تكررت بينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين ابن عمرو، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يتنزَّل معه إلى الثلاث في مجلس واحد؛ بل في مجالس. وإلى ذلك جنح الحافظ في " الفتح ". ويحتمل أن القصة واحدة، وأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر، ولكن يمنع القولَ بهذا ما ثبت في رواية: أنه منعه من القراءة في أقل من خمس، وفي أخرى في أقل من سبع؛ فلا مناص من القول بتعددها، وإلا؛ لزم ردُّ بعض الروايات الصحيحة، أو ضرب بعضها ببعض! وهذا لا يجوز ما أمكن الجمع بينها. قال الحافظ: " فلا مانع أن يتعدد قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن عمرو ذلك؛ تأكيداً، ويؤيده الاختلاف الواقع في السياق، وكأن النهي عن الزيادة ليس على التحريم، كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب، وعُرف ذلك من قرائن الحال التي أرشد إليها السياق؛ وهو النظر إلى عَجْزِه عن سوى ذلك في الحال أو في المآل، وأغرب بعض الظاهرية فقال: يحرم أن يقرأ القرآن في أَقل من ثلاث. وقال النووي: أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة؛ فعلى هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 ..............................................................................   قلت: وهذا مخالف لصريح قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قرأ القرآن في أقل من ثلاث؛ لم يفقهه ". وهذا نص عام شامل لجميع الأشخاص، وفيه التقدير بثلاث ليال؛ فكيف يقال: إنه لا تقدير في ذلك؟! فقد ذكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن كل من يقرأ القرآن في أقل من ثلاث لا يفقهه، ولا يفهمه الفهم المقصود من تلاوة القرآن. كما قد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} . وقال ابن مسعود: من قرأ القرآن في أقل من ثلاث؛ فهو راجز. هَذٌّ كهَذِّ الشعر، ونثر كنثر الدِّقَل. وكان معاذ بن جبل لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. ذكرهما ابن نصر (63) . وقد نسب - عليه الصلاة والسلام - كل من خالف ذلك إلى عدم الفقه - كما هو ظاهر معنى الحديث المذكور باللفظ الثاني -. فالحق أنه لا يجوز قراءة القرآن في أقل من ذلك. وهو اختيار الإمام أحمد وغيره من الأئمة - كما سلف -. وقال الحافظ ابن كثير في " فضائل القرآن " (ص 172) : " وقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث، كما هو مذهب أبي عُبيد وإسحاق بن راهويه، وغيرهما من الخلف أيضاً، وثبت عن كثير من السلف أنهم قرؤوا القرآن في أقل من ذلك، وهو محمول على أنه ما بلغهم في ذلك حديث مما تقدم، أو أنهم كانوا يفهمون ويتفكرون فيما يقرؤونه مع هذه السرعة ". قلت: والجواب الصحيح هو الأول، وأما هذا؛ فمخالف لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قرأ القرآن في أقل من ثلاث؛ لم يفقهه " - كما بينا -. ولم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 ونهاه أن يقرأه في أقل من ذلك (1) . وعَلَّلَ ذلك في قوله له: " من قرأ القرآن في أقل من ثلاث؛ لم يفقَهْهُ ". وفي لفظ: " لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث " (*) . ثم في قوله له: " فإن لكل عابد شِرَّةً (2) ، ولكل شِرَّةٍ فترة؛ فإما إلى سنة، وإما إلى بدعة. فمن كانت فترته إلى سنة؛ فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير   - كما سبق [ص 511]- يقرؤه في أقل من ذلك، ولنا به أسوة حسنة. (1) هذا مفهوم من سباق القصة وسياقها، ومع ذلك؛ فقد رواه الدارمي (2/471) بلفظ: أمرني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا أقرأ القرآن في أقل من ثلاث. أخرجه من طريق عبد الرحمن بن زياد: ثني عبد الرحمن بن رافع عن ابن عمرو. وهذا سند ضعيف، لكن المعنى صحيح؛ لما ذكرنا. وله شاهد من حديث ابن مسعود. وقد ذكرناه قريباً [ص 520] . (*) انظر تخريجه (ص 519 - 520) . (2) بكسر الشين المعجمة، وتشديد الراء، وبعدها تاء تأنيث؛ هي: النشاط والهمة. وشِرَّةُ الشباب: أوّله وحِدّته. كذا في " الترغيب ". وقال الطحاوي: " هي: الحِدَّة في الأمور التي يريدها المسلمون من أنفسهم في أعمالهم التي يتقربون بها إلى ربهم عز وجل، وإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحبَّ منهم فيها ما دون الحِدّة التي لا بد لهم من القصر عنها، والخروج منها إلى غيرها، وأمرهم بالتمسك من الأعمال الصالحة بما قد يجوز دوامهم عليه، ولزومهم إياه؛ حتى يَلْقَوا ربهم عز وجل، وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كشف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 ذلك؛ فقد هلك " (1) .   ذلك المعنى أنه قال: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ". اهـ. وهذا الحديث متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها. وهذه حجة أخرى في كراهة قراءة القرآن في أقل من ثلاث؛ لما يخشى من فتور الهمة، وعدم استطاعة المداومة عليها إلا بمشقة؛ كما وقع لعبد الله بن عمرو، حتى كان يقول لما كبر: وددت أني كنت قبلت رخصة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فاقبلوا أيها المسلمون! رخصة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي هي من الله تعالى؛ فـ: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه ". كما ثبت في الحديث الصحيح. وصدق الله العظيم إذ وصف رسوله الكريم بأنه {بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} . (1) هذا قطعة من حديث ابن عمرو: عند أحمد وغيره - كما سبق تخريجه -. وقد ذكر هذه القطعةَ المنذري في " الترغيب " (1/46) من حديث عبد الله بن عُمر - كذا بضم العين بدون واو بعد الراء، ولعلها سقطت من الناسخ أو الطابع! -. ثم قال: " رواه ابن أبي عاصم، وابن حبان في " صحيحه " ". قلت: وكذلك أخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " (2/88) ، وكذا أحمد (2/210) عن شعبة: أخبرني حُصَين: سمعت مجاهداً يحدث عن عبد الله بن عمرو به. ثم أخرجه الطحاوي من طريق هُشَيم: ثنا حصين به. وكذلك رواه أحمد - كما سبق في أثناء الحديث -، واللفظ له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 ..............................................................................   ثم أخرجه هو (5/409) ، والطحاوي من طريق منصور عن مجاهد قال: دخلت أنا ويحيى بن جَعْدَة على رجل من الأنصار من أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ذكروا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مولاة لبني عبد المطلب؛ فقال: إنها تقوم الليل وتصوم النهار. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لكني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، فمن اقتدى بي؛ فهو مني، ومن رغب عن سنتي؛ فليس مني، إن لكل عمل شِرَّة ثم فترة، فمن كانت فترته إلى بدعة؛ فقد ضَلَّ، ومن كانت فترته إلى سنة؛ فقد اهتدى ". وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وهو حديث آخر عن مجاهد عن الأنصاري، وقد رواه مسلم بن كيسان الأعور عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً نحو حديث الكتاب. أخرجه الطحاوي (2/89) . والأعور هذا: ضعيف - كما في " التقريب " -. وللحديث شاهد من رواية أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " إن لكل شيء - وفي لفظ: عمل - شرة، ولكل شِرَّة فترة، فإن كان صاحبها سَدَّدَ وقَارَب؛ فارجوه، وإن أُشير إليه بالأصابع؛ فلا تَعُدُّوه ". أخرجه الترمذي (2/74 - طبع بولاق) ، والطحاوي عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عنه. وهذا سند حسن. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وعزاه المنذري لابن حبان فقط في " صحيحه "! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 ..................................... (*) وكان يقول: " من صلى في ليلة بمئتي آية؛ فإنه يكتب من القانتين المخلصين " (1) .   (*) هنا في " صفة الصلاة " المطبوع (ص 120) قوله: (ولذلك " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقرأ القرآن في أقلَّ من ثلاث ") . وقد وجدنا الشيخ رحمه الله في نسخته الخاصة قد أحاطه بقلمه مشيراً إلى حذفه؛ مما يشعر بعدوله عن تصحيح الحديث. وعند البحث في تخريجات الشيخ الأخيرة وجدناه قد أخرجه في " الضعيفة " (6954) وقال: " ضعيف جداً ". (1) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: " من صلى في ليلة بمئة آية؛ لم يكتب من الغافلين، ومن صلى بمئتي آية ... " إلخ. أخرجه الحاكم (1/308 - 309) عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد عن موسى بن عُقبة عن عبيد الله بن سلمان عن أبيه أبي عبد الله سلمان الأغر عنه. وهذا سند حسن. وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وليس كذلك؛ فإن ابن أبي الزناد إنما أخرج له مسلم في (المقدمة) ، وعبيد الله بن سلمان لم يخرج له مطلقاً. ورواه ابن خزيمة في " صحيحه " - كما في " الترغيب " (1/222) -. وله شاهد من حديث أبي الدرداء مرفوعاً. أخرجه الدارمي (2/464 - 465) ، والطبراني في " الكبير ". وفيه موسى بن عبيدة الرَّبَذي: قال الهيثمي (2/268) : " والغالب عليه الضعف ". ومن حديث أبي أمامة مرفوعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 و " كان يقرأ [في] كل ليلة بـ: {بني إسرائيل} (17: 111) ، و {الزُّمَر} (39: 75) " (1) .   رواه الطبراني في " الكبير ". وفيه يحيى بن عقبة بن أبي الْعَيْزار، وهو ضعيف. قلت: وقد أخرجه الدارمي عن حَبيب بن عُبيد قال: سمعت أبا أُمامة يقول: ... فذكره موقوفاً عليه. وله حكم المرفوع، وسنده صحيح على شرط مسلم. ثم رواه الدارمي موقوفاً أيضاً على ابن عمر - ورجاله رجال مسلم - بلفظ: " الفائزين ". (1) هو من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصوم؛ حتى نقول: ما يريد أن يفطر. ويفطر؛ حتى نقول: ما يريد أن يصوم. وكان يقرأ ... إلخ. أخرجه أحمد (6/122) ، وابن نصر (69) - والزيادة له - عن حماد بن زيد قال: ثنا مروان أبو لُبابة من بني عَقِيل عنها. وهذا سند صحيح. ورجاله ثقات - كما قال الهيثمي (2/272) -. ورواه ابن السني (218) دون ذكر الصوم. ورواه المقدسي في " المختارة " من طريق أحمد. ثم الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ ذلك في الصلاة؛ ولذلك أورده في " المجمع " في: (باب صلاة سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . ويحتمل كون ذلك خارجَها. ويرجح الأولَ اقترانُ ذلك بالصوم؛ فذلك يشعر بأنها أرادت الصلاة. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 وكان يقول: " من صلى في ليلة بمئة آية؛ لم يُكتب من الغافلين " (1) .   (1) هو من حديث أبي هريرة، وقد سبق قريباً، وذكرنا له - ثَمَّ - شواهد مرفوعة وموقوفة. وقد [ورد] عن أبي هريرة بإسناد آخر صحيح. قال ابن نصر (66) : ثنا أحمد بن سعيد الدَّارِمي: ثنا علي بن الحسن: ثنا أبو حمزة السُّكَّري عن الأعمش عن أبي صالح عنه مرفوعاً بلفظ: " من قرأ في ليلة مئة آية؛ لم يكتب من الغافلين - أو: كتب من القانتين - ". وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. وهكذا رواه ابن خزيمة في " صحيحه " - كما في " الترغيب " (1/222) -. ورواه الحاكم (1/308) من طريق عبدان: أبنا أبو حمزة، بلفظ: " كتب من القانتين ". بدون شك. وقال: " صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. وللحديث شواهد: منها: عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: " من قام بعشر آيات؛ لم يكتب من الغافلين. ومن قام بمئة آية؛ كتب من القانتين. ومن قام بألف آية؛ كتب من المقنطرين ". أخرجه أبو داود (5/221) ، وابن السني في " اليوم والليلة " من طريق عمرو: أن أبا سَوِيَّة حدثه: أنه سمع ابن حُجَيْرَة يخبر عنه به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 ..............................................................................   وهذا إسناد حسن. أبو سَوِيَّة - بفتح المهملة، وكسر الواو، اسمه: عُبَيد بن سَوِيَّة -: وثقه ابن حبان، وقد روى عنه جمع من الثقات؛ ولذلك قال في " التقريب ": " صدوق ". وبقية رجال الإسناد رجال مسلم. والحديث رواه ابن خزيمة في " صحيحه " بهذا اللفظ، ورواه ابن حبان في " صحيحه " من هذه الطريق بلفظ: " ومن قام بمئتي آية؛ كتب من المقنطرين ". ومنها: عن تميم الداري مرفوعاً: " من قرأ بمئة آية في ليلة؛ كتب له قنوت ليلة ". أخرجه الدارمي (2/464) : ثنا يحيى بن حسان - وفي الأصل: بِسْطَام. وهو تحريف -: ثنا يحيى بن حمزة: ثني زيد بن واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مُرَّة عنه. وهذا إسناد جيد. رجاله رجال " الصحيح "؛ غير سليمان بن موسى، وهو صدوق، في حديثه بعض لين. وكذلك رواه أحمد (4/103) ، وابن السني (140 و 217) من طريق الهيثم بن حُميد عن زيد بن واقد به. وكذا رواه الطبراني في " الكبير "؛ كما في " المجمع " (2/267) ، وقال: " وفيه سليمان بن موسى الشامي: وثقه ابن معين، وأبو حاتم. وقال البخاري: عنده مناكير. وهذا لا يقدح ". وله شواهد موقوفة عن كعب، وتميم الداري، وفضالة بن عبيد، وابن مسعود؛ أخرجها الدارمي وغيره بأسانيد صحيحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 و " كان أحياناً يقرأ في كل ركعة قدر خمسين آية أو أكثر " (1) .   وعن ابن عمر موقوفاً بإسنادٍ واهٍ في " المستدرك " (1/555 - 556) . (1) أخرجه الطبراني في " الكبير " في حديث لابن عباس طويل في صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليل، وفيه: فصلى أربع ركعات، فقرأ في كل ركعة مقدار خمسين آية؛ يطيل فيها الركوع والسجود ... الحديث. وفيه عطاء بن مُسلم الخفّاف: قال الهيثمي (2/276) : " وثقه ابن حبان. وقال غيره: ضعيف. وهو رجل صالح، ولكنه دفن كتبه؛ فلا يثبت حديثه ". اهـ. وفي " التقريب ": " صدوق يخطئ كثيراً ". قلت: وهذا القدر من حديثه هذا صحيح ثابت؛ فإنَّ له شاهداً من حديث عائشة. أخرجه البخاري (3/6) ، وأبو داود (1/209 - 210) ، والنسائي (1/252) ، والدارمي (1/344) ، وابن ماجه (1/410) ، وأحمد (6/215 و 248) من طريق الزُّهْري قال: أخبرني عُروة عنها؛ أخبرته: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته؛ يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ... الحديث. فإذا كانت سجدته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قدر خمسين آية؛ فقيامه يكون قدر ذلك أو أكثر؛ لأن سجوده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكون أطول من القيام كما عرفت بالاستقراء من صنيعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما في " الفتح " (3/14) قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وتارة " يقرأ قَدْرَ {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ} (73: 20) " (1) . و" ما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الليل كلَّه " (2) إلا نادراً؛ فقد " راقب عبدُ الله بنُ خبّاب بن الأرَتِّ - وكان قد شهد بدراً مع رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الليلة كلها (وفي لفظ: في ليلة صلاها كلها) حتى كان مع الفجر، فلما سلَّم من صلاته؛ قال له خباب بن الأَرَتِّ: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي؛   " ففي حديث الكسوف: فركع نحواً من قيامه، وفي حديث حذيفة الذي مضى نحوُهُ ". قال: " ومن المعلوم في غير رواية عائشة هذه أنه كان يقرأ بما يزيد على ذلك ". قلت: وروى أبو داود (1/212 و 213) بإسنادين صحيحين عنها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي العشاء، ثم يأوي إلى فراشه، فينام، ثم يقوم إلى مصلاه، فيصلي ثماني ركعات؛ يُسَوِّي بينهن في القراءة والركوع والسجود ... الحديث. (1) رواه ابن عباس قال: كنت في بيت ميمونة، فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي من الليل، فقمت معه على يساره؛ فأخذ بيدي فجعلني عن يمينه، ثم صلى ثلاث عشرة ركعة، حَزَرْتُ قدر قيامه في كل ركعة قدر {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ} . أخرجه أحمد (1/365 - 366) : ثنا عبد الرزاق: ثنا مَعْمَر عن ابن طاوس عن عِكرمة بن خالد عنه. وهكذا أخرجه أبو داود (1/215) ، والطبراني في " الكبير " عن عبد الرزاق. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. (2) هو من حديث عائشة رضي الله عنها: لا أعلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى الصباح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها؟ فقال: " أجل؛ إنها صلاةُ رَغَبٍ ورَهَب، [وإني] سألت ربي عز وجل ثلاث خصال؛ فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلكنا بما   وقد مضى في هذا الفصل (1) . وهذا ليس على عمومه؛ بدليل الحديث الآتي بعده. وبحديث حذيفة المتقدم أيضاً؛ فهو بظاهره يدل على أنه قام الليل كله. ويشهد له حديث عائشة نفسها قالت: كنت أقوم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة التمام ... الحديث. وهو جيد - كما بينا هناك -. ويشهد له حديثها الآخر؛ فانظر " رياض الصالحين " (ص 436) .   (1) {قلت: ولهذا الحديث وغيرِهِ يُكره إحياءُ الليل كله دائماً أو غالباً؛ لأنه خلاف سنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو كان إحياء الليل أفضل؛ لما فاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولا تغتر بما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه مكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء؛ فإنه مما لا أصل [له] عنه؛ بل قال العلامة الفيروزأبادي في " الرد على المعترض " (44/1) : " هذا من جملة الأكاذيب الواضحة التي لا يليق نسبتها إلى الإمام، فما في هذا فضيلة تُذكر، وكان الأولى بمثل هذا الإمام أن يأتي بالأفضل، ولا شك أن تجديد الطهارة لكل صلاة أفضل وأتم وأكمل. هذا إن صح أنه سهر طوال الليل أربعين سنة متوالية! وهذا أمر بالمحال أشبه، وهو من خرافات بعض المتعصبين الجهال، قالوه في أبي حنيفة وغيره، وكل ذلك مكذوب "} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 أهلك به الأمم قبلنا (وفي لفظ: أن لا يهلك أمتي بسَنَةٍ (1)) ؛ فأعطانيها. وسألت ربي عز وجل أن لا يُظْهِرَ علينا عدواً من غيرنا؛ فأعطانيها. وسألت ربي أن لايُلْبِسَنا شِيَعاً؛ فَمَنَعَنِيْهَا " " (2) .   (1) أي: عامة؛ كما في حديث ثوبان. قال النووي: " أي: لا يهلكهم بقحط يعمهم، بل إن وقع قحط؛ فيكون في ناحية يسيرة بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام. فلله الحمد والشكر على جميع نعمه. قوله: " أن لا يُظهر علينا "؛ أي: على أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " من غيرنا "؛ أي: من فرق الكفر. والمراد: أن لا يُسلَّط عليهم بحيث يستأصلهم؛ كما في رواية ثوبان: " وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم؛ فيستبيح بيضتهم "؛ أي: جماعتهم وأصلهم. قوله: " يُلبِسنا ": بكسر الباء؛ أي: لا يخلطنا في معارك الحرب. " شيعاً ": فرقاً مختلفين يقتل بعضهم بعضاً ". " فمنعنيها ": قال السندي: " وفيه أن الاستجابة بإعطاء عين المدعو ليست كلية؛ بل قد تتخلَّف مع تحقق شرائط الدعاء ". (2) هو من حديث خباب بن الأرت. أخرجه النسائي (1/243) ، والترمذي (2/26 - طبع بولاق) ، وأحمد (5/108 و109) ، {وابن حبان (7192 - الإحسان) ، والطبراني (1/187/2) = [4/57 و 58 و59] } من طرق عن الزهري قال: أخبرني عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن خَبَّاب بن الأَرَتّ عن أبيه - وكان قد شهد بدراً مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 ..............................................................................   أنه راقب رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الليلة كلها، حتى كان ... إلخ. وقال الترمذي: " حسن صحيح ". قلت: ورجاله رجال الشيخين؛ غير عبد الله بن خَبَّاب، وهو ثقة، وترجم له النسائي بـ: (باب إحياء الليل) . وله شاهد من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: صلّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً، فأطال فيها، فلما انصرف؛ قلنا - أو: قالوا -: يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! أطلت اليوم الصلاة. قال: " إني صليت صلاة رغبة ورهبة ... " الحديث نحوه. أخرجه ابن ماجه (2/464) ، وأحمد (5/240) من طريق الأعمش عن رجاء الأنصاري عن عبد الله بن شَدّاد بن الْهَادِ عنه. وهذا إسناد صحيح. رجاله ثقات؛ على ما في " الزوائد "، وفيه نظر؛ فإن رجاءً هذا ما روى عنه سوى الأعمش - كما قال الذهبي -. وفي " التقريب ": " مقبول ". ثم أخرجه أحمد (5/248) عن إسماعيل - وهو: ابن عُلَية - عن أيوب عن أبي قِلابة قال: أُنْبِئْتُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينما هو ذات ليلة يصلي ... الحديث نحوه. وهذا سند رجاله رجال الستة، ولكنه مرسل. وقد وصله مسلم (8/171) ، وأبو داود (2/202) ، والترمذي (2/27) ، وأحمد (5/278 و 284) ؛ كلهم عن حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قِلابة عن أبي أسماء عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 و " قام ليلة. بآية يرددها حتى أصبح وهي: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (5: 118) ؛ [بها يركع، وبها يسجد، وبها يدعو] ، [فلما أصبح؛ قال له أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما زلتَ تقرأ هذه الآية حتى أصبحت؛ تركع بها، وتسجد بها] ، [وتدعو بها] ، [وقد علَّمَك الله القرآن كله] ، [لو فعل هذا بعضُنا؛ لَوَجَدْنَا عليه؟] . [قال: " إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي؛ فأعطانيها، وهي نَائِلَةٌ إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً "] " (1) .   ثوبان مرفوعاً: " سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ... " الحديث بنحوه. وليس فيه ذكرٌ للصلاة. ثم أخرجه أحمد من طريق أخرى عن معاذ، وفيه ذكر الصلاة (5/243 و 248) . وسنده صحيح. وكذلك أخرجه مسلم، وأحمد (1/175 و 181) من حديث سعد بن أبي وقاص. وأحمد (5/445) من حديث جابر بن عَتِيك. وفيه جهالة. ورواه أيضاً (6/396) ، وليس فيه الصلاة. وفيه رجل لم يسم. (1) هو من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآية حتى أصبح؛ يرددها. والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ ... } الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 ..............................................................................   أخرجه النسائي (1/156 - 157) ، وابن ماجه (1/407) ، والطحاوي (1/205) ، والحاكم (1/241) ، وأحمد (5/156 و 177) من طرق عن قُدامة بن عبد الله العامري عن جَسْرَةَ بنت دِجاجةَ عنه. وقال الحاكم: " صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي. وكذا صححه الحافظ العراقي (1/252) وغيره. وفي " الزوائد ": " إسناده صحيح، ورجاله ثقات ". ثم قال: " رواه النسائي في " الكبرى "، وابن خزيمة في " صحيحه " { (1/70/1) = [1/271] } ". قلت: وقدامة هذا: وثقه ابن حبان. وحده، لكن قد روى عنه جمع من الأئمة الثقات؛ كالثوري، وابن المبارك، ويحيى بن سعيد وغيرهم. وجسرة؛ فقد وثقها مع ابن حبان العجليُّ، وروى عنها جمع أيضاً؛ فالحديث أقل أحواله أنه حسن. وهو صحيح قطعاً بشاهده الآتي بعد. وفي رواية لأحمد (5/149) : صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة، فقرأ بآية حتى أصبح؛ يركع بها، ويسجد بها: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ... } الآية. فلما أصبح؛ قلت: يا رسول الله! ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت؛ تركع بها، وتسجد بها؟! قال: " إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي؛ فأعطانيها، وهي نائلةٌ - إن شاء الله - لمن لا يشرك بالله شيئاً ". أخرجه عن محمد بن فضيل: ثني فُلَيْتٌ العامري عن جَسرة العامرية به. وفي الأصل: (ميسرة) .. وهو تحريف. وفُلَيت - بالتصغير - هو: قدامة بن عبد الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 ..............................................................................   ومحمد بن فُضيل: ثقة من رجال الشيخين. فالحديث بهذه الزيادة حسن أو صحيح. ثم أخرجه أحمد (5/170) بزيادات أخرى قال: ثنا يحيى: ثنا قُدامة بن عبد الله به بلفظ: قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة من الليالي في صلاة العشاء، فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحابٌ له يصلون، فلما رأى قيامهم وتخلُّفَهم؛ انصرف إلى رَحْلِه، فلما رأى القوم قد أخلَوا المكان؛ رجع إلى مكانه، فصلى، فجئت فقمت خلفه، فأومأ إليَّ بيمينه؛ فقمت عن يمينه، ثم جاء ابن مسعود، فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله؛ فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل رجل منا لنفسه، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلو، فقام بآية من القرآن؛ يرددها حتى صلى الغداة، فبعد أن أصبحنا؛ أَوْمَأْتُ إلى عبد الله بن مسعود أن: سَلْهُ ما أراد إلى ما صنع البارحة؟ فقال ابن مسعود بيده؛ لا أسأله عن شيء حتى يحدث إلي. فقلت: بأبي أنت وأمي! قُمْتَ بآية من القرآن، ومعك القرآن، لو فعل هذا بعضنا؛ وجدنا عليه؟ قال: " دعوت لأمتي ". قال: فماذا أُجبت؟ أو: ماذا رُدَّ عليك؟ قال: " أُجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة؛ تركوا الصلاة ". قال: أفلا أبشر الناس؟ قال: " بلى ". فانطلقت مُعْنِقاً قريباً من قذفة بحجر. فقال عمر: يا رسول الله! إنك إن تبعث إلى الناس بهذا؛ نَكَلوا عن العبادة. فنادى؛ أنِ ارجع. فرجع. وتلك الآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 ..............................................................................   وإسناده قوي كالذي قبله. ثم رواه عن مروان: ثنا قدامة به نحوه. ورواه ابن نصر (59) [عن عبد الواحد بن زياد: ثنا قدامة به نحوه] (*) . وأما شاهده؛ فأخرجه الترمذي في " سننه " (2/310 - 311) ، وفي " الشمائل " (2/95 - 96) قال: ثنا أبو بكر محمد بن نافع البصري: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث عن إسماعيل بن مسلم العَبْدي عن أبي المُتَوكِّل النّاجي عن عائشة قالت: قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآية من القرآن ليلة ... . وقال: " حديث حسن غريب من هذا الوجه ". قلت: ورجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، حاشا أبا بكر محمد بن نافع البصري؛ قال الشيخ علي القاري: " قيل: هذا مجهول؛ لأنه لم يوجد في كتب الرجال. فلعله محمد بن واسع البصري ". قلت: لقد أبعد النُّجْعة؛ فابن واسع هذا من صغار التابعين؛ يروي عن أنس بن مالك وسالم بن عبد الله وغيره من كبار التابعين؛ فأين هو من شيوخ الترمذي؟! والصواب أنه محمد بن أحمد بن نافع أبو بكر البصري، نَسَبَه الترمذي إلى جده، وهو مشهور بكنيته، روى عنه مسلم، والنسائي وغيرهما؛ فالإسناد صحيح. وقد، أخرجه أحمد (3/62) هكذا: ثنا زيد بن الحُبَاب: أخبرني إسماعيل بن مسلم الناجي عن أبي نَضْرَة عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّدَ آية حتى أصبح.   (*) ما بين المعقوفتين استدراك من " ابن نصر "، تتمة لمراد الشيخ رحمه الله. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 و " قال له رجل: يا رسول الله! إن لي جاراً يقوم الليل، ولا يقرأ إلا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (112: 4) ؛ [يرددها] [لا يزيد عليها]- كأنه يُقَلِّلُها -؟! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن " (1) .   ورجاله ثقات رجال مسلم؛ غير إسماعيل بن مُسلِم النّاجي؛ قال الهيثمي (2/273) : " ولم أجد من ترجمه ". قلت: ولم يورده الحافظ في " التعجيل "، ويحتمل أن يكون هو إسماعيل بن مسلم العبدي الذي في إسناد الترمذي؛ يرويه عن الناجي - وهو: أبو المتوكل - عن أبي نضرة عن أبي سعيد. وعليه فيكون سقط من الإسناد حرف (عن) بين إسماعيل بن مسلم وبين الناجي، ويؤيد ذلك أنهم ذكروا في الرواة عن الناجي هذا - وهو: علي بن داود، أبو المتوكل - إسماعيلَ بن مسلم العبدي هذا، وهو من طبقة شيوخ زيد بن الحباب. وفي " المسند " (3/48) حديث من طريق إسماعيل بن مسلم: ثنا أبو المتوكل عن أبي سعيد. لكن المعروف أن أبا المتوكل يروي عن أبي سعيد مباشرة - كما في هذا السند -، ولم يذكر أحد - فيما علمت - أنه يروي عنه بواسطة أبي نضرة، وهما في طبقة واحدة، وإن كان جائزاً أن يروي مثله عن مثله. فإذا ثبت ذلك؛ فالحديث صحيح على شرط مسلم. والله أعلم. (1) هو من حديث أبي سعيد الخدري: أن رجلاً قال: ... فذكره. أخرجه أحمد (3/43) : ثنا إسحاق - هو: ابن عيسى -: ثنا مالك عن عبد الرحمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 7- صلاةُ الوَِتْرِ " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعة الأولى -: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ، وفي الثانية -: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} (109: 6) ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (112: 4) " (1) .   ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري عن أبيه عنه. وهذا سند صحيح، وقد أخرجه الدارقطني - كما في " الفتح " (9/49) -. وقد أخرجه مالك (1/211) ، ومن طريقه البخاري (9/48 - 49 و 13/303) ، وأبو داود (1/230) ، والنسائي (1/155) ، والطحاوي في " المشكل " (2/81 و 82) ، وأحمد أيضاً (3/35) ؛ كلهم عنه به نحوه، وفيه الزيادة الأولى. وأما الزيادة الأخرى؛ فهي في روايةٍ للبخاري والطحاوي. وروى أحمد (3/15) من طريق أخرى عن ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: بات قتادةُ بن النعمان يقرأ الليل كله ... الحديث بنحوه. وهذا سند ضعيف. (1) فيه أحاديث كثيرة: الأول: عن ابن عباس رضي الله عنه. أخرجه النسائي (1/249) ، والترمذي (2/325 - 326) ، والدارمي (1/372 - 373) ، وابن ماجه (1/357) ، وابن نصر (121) ، والطحاوي (1/170) ، وأحمد (1/299 - 300 و 316 و 372) ، والطبراني في " الصغير " (ص 163) وفي " الكبير " أيضاً من طرق عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عنه به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 ..............................................................................   وهذا سند صحيح - كما قال الحافظ العراقي (1/175) -. ورواه الطحاوي، وأحمد (1/305) من طريق شَرِيك عن مُخَوَّل عن مُسلم البَطِين عن سعيد به. وشريك: سيئ الحفظ، وقد رواه عن أبي إسحاق أيضاً كالجمهور. رواه الترمذي وغيره. الثاني: عن أُبيّ بن كعب. أخرجه أبو داود (1/224 - 225) ، والنسائي (1/248 و 251) ، وابن نصر (126) ، والدارقطني (175) ، والحاكم (2/257) ، وأحمد (5/123) من طرق عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزَى عن أبيه عنه. وهذا سند صحيح - كما قال الحاكم، وكذا قال العراقي أيضاً (1/311) -، وفي سنده اختلاف ذكره النسائي، وهو لا يضر في صحته؛ فإنه دائر بين أن يكون من حديث عبد الرحمن بن أبزى - كما أخرجه أحمد (3/406 و 407) وغيره -، وبين أن يكون من روايته عن أُبيٍّ - كما في هذه الرواية -، وهي زيادة من ثقة؛ يجب قبولها. الثالث: عن عِمران بن حُصَين. أخرجه النسائي (1/252) من طريق شَبَابَةَ عن شعبة عن قتادة عن زُرارة بن أوفى عنه. وسنده صحيح، رجاله رجال الشيخين، وقد أعله النسائي بقوله: " لا أعلم أحداً تابع شبابة على هذا الحديث. خالفه يحيى بن سعيد ". ثم ساقه من طريق يحيى عن شعبة عن قتادة بهذا السند بحديث: " قد علمت أن بعضكم خَالَجَنِيْها ". وقد تقدم في (القراءة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 وكان يضيف إليها أحياناً: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} (113: 5) ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (114: 6) (1) .   قلت: وهذا ليس بعلة قادحة عندي؛ لأنه ما المانع أن يروي شعبة بإسناده هذا حديثين: روى أحدَهما يحيى، والآخرَ شَبَابَةُ، وهو ثقة حافظ - كما في " التقريب " -! فتفرده لا يضر، لا سيما وقد جاء الحديث من طريق أخرى عن قتادة. أخرجه الطحاوي (1/171) من طريق الحِمَّاني قال: ثنا عباد بن العوام عن الحجاج عن قتادة به. والحجاج: ثقة، لكنه مدلس. ومن طريقه رواه الطبراني أيضاً في " الكبير " - كما في " المجمع " (2/243) -. وفي الباب عن جمع غير هؤلاء من الصحابة. خرَّج أحاديثَهم الهيثمي (2/243 - 244) ، ثم الشوكاني (3/29 - 30) ، وأسانيدها لا تخلو من مقال، وفيما ذكرنا كفاية. وفي الباب أيضاً من حديث عائشة بإسناد صحيح، وهو الآتي بعد هذا. وقد اختار القراءة بهذه السور الثلاث في الوتر الإمام أحمد - كما رواه أبو داود عنه في " مسائله " -، وحكاه الترمذي (2/326) عن أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، واستحب بعضهم قراءة المعوذتين بعد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ؛ لما في حديث عائشة، وهو ما: (1) أخرجه أبو داود (1/225) ، والترمذي (2/326) ، وابن ماجه (1/357) ، والحاكم (2/520 - 521) ، وأحمد (6/227) (*) من طريق محمد بن سَلَمَةَ الحَرَّاني عن   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لأبي العباس الأصم في " حديثه " (ج 2/ رقم 117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 ..............................................................................   خُصيف عن عبد العزيز بن جُريج قال: سألنا عائشة: بأي شيء كان يوتر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: كان يقرأ في الأولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وفي الثانية بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} ، وفي الثالثة بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين. وقال الترمذي: " حديث حسن غريب ". وقال الحاكم: " إسناد صحيح ". قلت: وليس كما قالا؛ فإن خُصَيفاً هذا صدوق سيئ الحفظ، اختلط بأخرة. ولذلك قال في " التلخيص " (4/253) : " وفيه لين ". وشيخه عبد العزيز بن جُريج: ليِّن - كما في " التقريب " -. لكن قد جاء بإسناد آخر يقويه، وهو ما أخرجه الطحاوي (1/168) ، والدارقطني (176) ، والحاكم (1/305 و 2/520) ، وابن حبان أيضاً في " صحيحه " - (رقم 675 - الموارد) - وغيره من طريق يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عَمْرَةَ عنها به. وقال الحاكم: " صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. لكن قال في " التلخيص ": " وتفرد به يحيى بن أيوب، وفيه مقال، ولكنه صدوق. وقال العقيلي: إسناده صالح، ولكن حديث ابن عباس وأبي بن كعب - بإسقاط: المعوذتين - أصح. وقال ابن الجوزي: أنكر أحمد ويحيى بن معين زيادة: المعوذتين. وروى ابن السكَن في " صحيحه " له شاهداً من حديث عبد الله بن سَرْجِس بإسناد غريب ". اهـ. قلت: وهذا يدفع القول بنكارة زيادة: المعوذتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 ومرة: " قرأ في ركعة الوتر بمئة آية من {النِّسَاء} (4: 176) " (1) .   وقد ذهب إلى مشروعية القراءة بهما الشافعية؛ كما في " المجموع " (4/23) ، قال: " وحكاه القاضي عَيِاضٌ عن جمهور العلماء، وبه قال مالك وداود ". قلت: واختاره ابن نصر (119) . ثم قال ابن نصر (127) : " وسئل مالك عن القراءة في الوتر؟ فقال: ما زال الناس يقرؤون بالمعوذات في الوتر، وأنا أقرأ بها في الوتر. وعن سفيان: كانوا يستحبون أن يقرأ في الركعة الأولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} ، ثم يقرأ في الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وإن قرأت غير هذه السور؛ أجزأك. وقال أحمد رحمه الله: نختار أن يقرأ في الوتر بـ: {سَبِّحِ} ، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وسئل: يقرأ المعوذتين في الوتر؟ فقال: ولمَ لا يقرأ؟! ". اهـ. وقول أحمد هذا رواه أبو داود في " مسائله " (64) ، ولكن وقع فيه: (ولمَ يقرأ؟!) . وذكر المصحح الأستاذ الشيخ بهجت البيطار حفظه الله تعالى أن في النسخة الظاهرية: (ولمَ لا يقرأ؟!) . قلت: ومطابقة هذه النسخة لما ذكره ابن نصر عنه يدل على صحتها، دون النسخة الأخرى. (1) هو من حديث أبي موسى. رواه عنه أبو مِجْلَز: أن أبا موسى كان بين مكة والمدينة، فصلى العشاء ركعتين، ثم قام فصلى ركعة أوتر بها، فقرأ فيها بمئة آية من النساء، ثم قال: ما ألَوْتُ أن أضع قدميَّ حيث وضع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدميه، وأن أقرأ بما قرأ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 القراءة في الركعتين بعد الوتر وأما الركعتان بعد الوتر؛ فكان يقرأ فيهما: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} (99: 8) ، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} (109: 6) (1) .   أخرجه النسائي (1/251) من طريق حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عنه. وإسناده صحيح. ورواه أحمد (4/419) من طريق ثابت: ثنا عاصم به نحوه. وسنده صحيح أيضاً على شرط الشيخين. (1) هو من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوتر بتسع، حتى إذا بَدُنَ وكَثُرَ لحمه؛ أوتر بسبع، وصلى ركعتين وهو جالس، فقرأ بـ: {إِذَا زُلْزِلَتِ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} . أخرجه أحمد (5/269) ، وابن نصر (82 و 130) ، والطحاوي (1/171) من طريق عِمارةَ بن زَاذَانَ: ثني أبو غالب عنه. ثم أخرجه أحمد (5/260) عن عبد العزيز بن صُهَيب، والطحاوي (1/202) عن عبد الوارث - وهو: ابن سعيد -؛ كلاهما عن أبي غالب به بلفظ: كان يُصَلِّيهما بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما ... الحديث. وهو حسن. وله شاهد من حديث أنس. أخرجه ابن نصر (82) ، والدارقطني (178 - 179) من طريق بقية عن عُتبة بن أبي حكيم عن قتادة عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 8- صلاة الجمعة " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ أحياناً في الركعة الأولى بسورة {الجُمُعَة} (62: 11) ، وفي الأخرى: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} (63: 11) " (1) ، و " تارة يقرأ - بدلها -:   وهذا سند ضعيف. (فائدة) : اعلم أنه قد ثبتت هاتان الركعتان من حديث عائشة أيضاً في " صحيح مسلم " (2/169) ، {وابن خزيمة، وابن حبان بسند حسن صحيح} ، وغيرهم {من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} ، وهما تنافيان قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ". رواه الستة إلا ابن ماجه. فالظاهر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك أحياناً؛ بياناً للجواز، وأن الأمر هذا ليس للوجوب. والله أعلم. ويراجع " المجموع " (4/16) . {ثم وقفت على حديث صحيح يأمر بالركعتين بعد الوتر؛ فالتقى الأمر بالفعل، وثبت مشروعية الركعتين للناس جميعاً. والأمر الأول يحمل على الاستحباب؛ فلا منافاة. وقد خرجته في " الصحيحة " (1993) . والحمد لله على توفيقه} . (1) جاء في ذلك حديثان: الأول: عن أبي هريرة. رواه عنه عبيد الله بن أبي رافع قال: استَخلف مروان أبا هريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبو هريرة الجمعة، فقرأ بعد سورة {الجُمُعَة} في الركعة الآخرة: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} . قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلت له: إنك قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما بالكوفة. فقال أبو هريرة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 ..............................................................................   إني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بهما في الجمعة. أخرجه مسلم (3/15) واللفظ له، وأبو داود (1/175 - 176) ، والترمذي (2/396 - 397) - وقال: " حسن صحيح " -، وابن ماجه (1/345) ؛ كلهم عن جعفر بن محمد عن أبيه عنه. وقال ابن ماجه: فقرأ بسورة {الجُمُعَة} في السجدة الأولى، وفي الآخرة: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} . وهو رواية لمسلم. وروى المرفوع منه فقط الطحاوي (1/240) . ورواه الطبراني في " الأوسط " بلفظ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يقرأ في صلاة الجمعة بـ: {الجُمُعَة} ؛ فيحرّض به المؤمنين، وفي الثانية بسورة {المُنَافِقِين} ؛ فيقرّع به المنافقين. قال الهيثمي (2/191) : " وإسناده حسن. ومحمد بن عَمّار هو: الوازِعي، وهو وشيخه عبد الصمد من أهل الرأي، وثقهما ابن حبان ". اهـ. {وهو مخرج في " الإرواء " (345) } . الحديث الثاني: عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم. تَنْزِيلُ} : {السَّجْدَة} و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} .وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في صلاة الجمعة: سورة {الجُمُعَة} و {المُنَافِقُون} . أخرجه مسلم (3/16) ، وأبو داود (1/169) ، والنسائي (1/209 - 210) ، والطحاوي (1/240) ، والطيالسي (343) ، وأحمد (1/340 و 354) من طرق عن مُخَوِّل ابن راشد عن مسلم البِطَين عن سعيد بن جُبير عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} (88: 26) " (1) .   ورواه أحمد (1/361) عن قتادة عن عَزْرَةَ عن سعيد بن جبير به مختصراً على القدر المذكور في الباب. وسنده صحيح على شرط مسلم. وقد اختار الشافعي القراءة بهاتين السورتين في الجمعة، وعليه أكثر الفقهاء - كما في " البداية " (1/128) -. (1) هو من حديث النعمان بن بشير. رواه عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود: أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: ماذا كان يقرأ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة على إثر سورة {الجُمُعَة} ؟ قال: كان يقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} . أخرجه مالك (1/133 - 134) . ومن طريقه محمد (135) ، وأبو داود (1/175) ، والنسائي (1/210) ، والدارمي (1/367) ، والطحاوي (1/240) ، وأحمد (4/270 و 277) ؛ كلهم عن مالك عن ضَمْرَةَ ابن سعيد المازني عن عبيد الله به. وقد تابعه سفيان بن عيينة عن ضمرة. أخرجه مسلم (3/16) ، وابن ماجه (1/345) ، والطحاوي. وتابعه أبو أُويس أيضاً عند الدارمي. قال ابن رشد (1/128) : " واستحب مالك العمل على هذا الحديث ". قال: " وأما أبو حنيفة؛ فلم يَقْفُ فيها شيئاً ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 وأحياناً " يقرأ في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ} (88: 26) " (2)   (1) قال السندي: " هذا الاختلاف محمول على جواز الكل واسْتِنَانِه، وأنه فعل تارة هذا وتارة ذاك؛ فلا تعارض في أحاديث الباب ". وقال ابن القيم (1/144) : " وثبت عنه ذلك كله، ولا يستحب أن يقرأ من كل سورة بعضها، أو يقرأ إحداهما في الركعتين؛ فإنه خلاف السنة، وجهال الأئمة يداومون على ذلك ". (2) أخرجه مسلم (3/15 - 16) ، وأبو داود (1/175) ، والنسائي (1/210 و232) ، والترمذي (2/413) ، والدارمي (1/368 و 376 - 377) ، والطحاوي (1/240) ، والطيالسي (107) ، وأحمد (4/273 و 276 و 277) من طرق عن إبراهيم بن محمد بن المُنْتَشِر عن أبيه عن حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} . قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضاً في الصلاتين. واللفظ لمسلم. وقد رواه أحمد (4/271) من طريق شيخه سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد به. إلا أنه زاد في " السند "؛ فقال: عن حبيب بن سالم عن أبيه عن النعمان بن بشير. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: " حبيب بن سالم سمعه من النعمان، وكان كاتبه. وسفيان يخطئ فيه؛ يقول: حبيب بن سالم عن أبيه. وهو سمعه من النعمان ". وقال الترمذي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 ..............................................................................   " ولا تعرف لحبيب بن سالم رواية عن أبيه، وحبيب بن سالم هو: مولى النعمان بن بشير، وروى عن النعمان بن بشير أحاديث. وقد روى عن ابن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر نحو رواية هؤلاء ". يعني: على الصواب. قلت: أخرجه كذلك ابن ماجه (1/388) . وليس فيه ذكر الجمعة. وللحديث شواهد: منها: عن سمرة بن جندب: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في الجمعة بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} . أخرجه أبو داود (1/176) ، والنسائي (1/210) ، والطيالسي (121) ، وأحمد (5/13) من طرق عن شعبة: ثنا مَعْبَد بن خالد عن زيد بن عُقبة عنه. وقد تابعه مِسْعَرٌ عن معبد. أخرجه أحمد (5/14) . وهذا سند صحيح - كما قال العراقي فيما نقله الشوكاني (3/234) -، ورجاله رجال الشيخين؛ غير زيد بن عُقبة، وهو ثقة - كما في " التقريب " -. وقد عزاه في " التلخيص " (4/622) لابن حبان أيضاً. وقد خالفهما المسعودي؛ فرواه عن معبد بلفظ: العيدين.. بدل: الجمعة. أخرجه أحمد (5/14) ، والطحاوي (1/240) . والمسعودي: ضعيف؛ لاختلاطه. لكن تابعه شعبة؛ فرواه بهذا اللفظ في رواية لأحمد (5/7) ، وكذا الطحاوي. وكذلك رواه أحمد أيضاً (5/19) عن مسعر عن سفيان ومَعْبَد بن خالد عن زيد بن عُقبة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به هكذا مرسلاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 9- صلاة العيدين " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ أحياناً في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ، وفي الأخرى: {هَلْ أَتَاكَ} (88: 26) " (1) .   ولعل أصل الحديث: كان يقرأ في الجمعة والعيدين. فاقتصر بعضهم على ذكر الجمعة، وبعضهم على العيدين. والله أعلم. ومنها: عن أبي عِنَبَة الخولاني مثل حديث سَمُرَة الأول. أخرجه ابن ماجه (1/345) ، والبزار، والطبراني في " الكبير " عن سعيد بن سنان عن أبي الزَّاهِرَّية عنه. وسعيد هذا هو: أبو مهدي، وهو متروك - كما في " التقريب " -. (1) هو من حديث النعمان بن بشير. رواه مسلم وغيره. وقد سبق تخريجه قريباً، وذكرت له هناك شاهداً من حديث سَمُرَةَ. وله شواهد أخرى: منها: عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في العيدين بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} . أخرجه ابن ماجه (1/388) ، والطحاوي (1/240) من طريق موسى بن عُبَيدة عن محمد بن عمرو بن عطاء عنه. وموسى هذا: ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 وأحياناً " يقرأ فيهما بـ: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} (50: 45) ، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (54: 55) " (1) .   ومنها: عن أنس بن مالك. أخرجه الطيالسي (272) قال: ثنا عِمَارةُ بن زاذان قال: كنا عند ثابت، وعنده شيخ، فذكرنا ما يقرأ في العيدين؛ فقال الشيخ: صحبت أنس بن مالك إلى الزاوية يوم عيد، وإذا مولى لهم يصلي بهم، فقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و: {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} . فقال أنس: لقد قرأ بالسورتين اللتين قرأ بهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العيد. وهذا سند ضعيف؛ لجهالة الشيخ الذي لم يُسَمَّ. وعمارة بن زاذان: صدوق كثير الخطأ - كما في " التقريب " -. والحديث عزاه الشوكاني (3/251) لابن أبي شيبة في " المصنف " نحوه، إلا أنه قال: و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} .. بدل: و {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} . (1) هو من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه. رواه عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود: أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ بـ: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} و: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} . أخرجه مالك (1/191) . وعنه مسلم (3/21) ، ومحمد (137) ، وأبو داود (1/179 - 180) ، والترمذي (2/415) ، والطحاوي (1/240) ، والدارقطني (180) ، وأحمد (5/217 - 218) - كلهم عن مالك - عن ضمرة بن سعيد المازني عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 ..............................................................................   وأخرجه النسائي (1/232) ، والترمذي، وابن ماجه (1/388) عن طريق سفيان ابن عيينة: ثني ضمرة بن سعيد به نحوه. ثم أخرجه مسلم، والطحاوي، وأحمد (5/219) من طريق فُلَيح بن سليمان عن ضمرة عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة عن أبي واقد الليثي قال: سألني عمر ... الحديث. وقال الترمذي: " حسن صحيح ". قلت: هو من الطريق الأول منقطع؛ لأن عُبيد الله لم يدرك عمر؛ كما قال النووي في " شرح مسلم ". قال: " ولكن الحديث صحيح بلا شك، متصل من الرواية الثانية؛ فإنه أدرك أبا واقد بلا شك، وسمعه بلا خلاف ". قلت: وله شاهد من حديث عائشة. أخرجه الدارقطني، والحاكم (1/298) ، والطبراني في " الكبير " من طريق ابن لَهِيعة: ثنا خالد بن يزيد عن الزُّهْري عن عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر في العيدين أثنتي عشرة تكبيرة سوى تكبيرة الافتتاح، يقرأ بـ: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} و: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} . قال في " شرح مسلم ": " وفي الحديث دليل للشافعي وموافقيه أنه تُسنُّ القراءة بهما في العيدين. قال العلماء: والحكمة في قراءتهما لما اشتملتا عليه من الإخبار بالبعث، والإخبار عن القرون الماضية، وإهلاك المكذبين، وتشبيه بروز الناس للعيد ببروزهم للبعث، وخروجهم من الأجداث كأنهم جراد منتشر ". اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 10- صلاة الجنازة " السنة أن يقرأ فيها بـ: {فاتحة الكتاب} [وسورة] (1) " (2) ، ............   وذهب أكثر العلماء إلى استحباب قراءة: {سَبِّحِ} و {الغَاشِيَةِ} على حديث النعمان وغيره؛ كما في " البداية " (1/170) لابن رشد. قال: " تواتر ذلك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وقال النووي في " المجموع " (4/17 - 18) - بعد أن ذكر الحديثين -: " إن كليهما سنة ". وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى؛ فيأتي تارة، بهذا، وتارة بهذا. (1) قال الشوكاني (4/53) : " فيه مشروعية قراءة سورة مع {الفَاتِحَة} في صلاة الجنازة، ولا محيص عن المصير إلى ذلك؛ لأنها زيادة خارجة من مخرج صحيح، ويؤيد وجوبَ قراءة السورة في صلاة الجنازة الأحاديثُ المتقدمة في (باب وجوب قراءة {الفَاتِحَة} ) من كتاب الصلاة؛ فإنها ظاهرة في كل صلاة ". اهـ. واستحباب قراءة سورة قصيرة هو وجه للشافعية؛ كما في " المجموع " - {وهو الوجه الحق} -، واستدل له بهذا الحديث. وصححه - كما سيأتي -. (2) هو من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه. رواه عنه طلحة بن عبد الله ابن عوف قال: صليت خلف ابن عباس رضي الله عنه على جنازة، فقرأ بـ: {فاتحة الكتاب} . قال: لتعلموا أنها سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 ..............................................................................   أخرجه البخاري (3/158) ، وأبو داود (2/68) ، والنسائي (1/281) ، والترمذي (1/191 - طبع بولاق) ، والدارقطني (191) ، والحاكم (1/358 و 386) ، وابن خزيمة في " صحيحه " من طريق شعبة وسفيان الثوري عن سعد بن إبراهيم عن طلحة بن عبد الله به. وقال الحاكم: " صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. وقد وهما من وجهين: الأول: استدراكهما على البخاري. وهو في " صحيحه "! والآخر: أنه ليس على شرط مسلم؛ فإنه لم يخرج لطلحة هذا. ثم أخرجه النسائي من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه به بلفظ: فقرأ بـ: {فاتحة الكتاب} وسورة، وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ؛ أخذت بيده، فسألته؟ فقال: سنة وحق. وإسناده صحيح. رجاله كلهم رجال البخاري، عدا الهيثم بن أيوب راويه عن إبراهيم، وهو شيخ النسائي، وقد وثقه هو وابن حبان. وفي " التقريب ": " ثقة ". وقد تابعه {على هذه الزيادة أربعة من الثقات الأثبات؛ فإليك أسماءهم مع التخريج باختصار: الأول: سليمان بن داود الهاشمي. أخرجه ابن الجارود في " المنتقى " (رقم 537) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 ..............................................................................   الثاني: إبراهيم بن زياد الخياط البغدادي. أخرجه ابن الجارود أيضاً (537) . الثالث: مُحْرِز بن عون الهلالي. أخرجه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " (ق 141/2) . الرابع: إبراهيم بن حمزة الزُّبَيري. أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (4/38) . وكل هذه المتابعات صحيحة الأسانيد، فاتفاق هؤلاء الثقات الأربعة - وخامسهم الهيثم بن أيوب - على إثبات زيادة السورة في الحديث} (*) يدل على صحتها، ويدفع قول البيهقي: " وذكر السورة فيه غير محفوظ ". ولذلك رده عليه ابن التركماني في " الجوهر النقي " بمتابعة الراوي عند النسائي، وقد أورده النووي في " المجموع " (5/234) بنحو رواية النسائي هذه، ثم قال: " رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده "، وإسناده صحيح ". وأقره الحافظ في " التلخيص " (5/165) . {وليس هذا فقط؛ فقد جاءت الزيادة من طريق أخرى عن ابن عباس ... من طريق زيد بن طلحة التيمي قال: سمعت ابن عباس ... فذكر الحديث مع الزيادة.   (*) بدل ما بين الحاصرتين {} في الأصل: " إبراهيم بن حمزة المدني - كما ذكره البيهقي (4/38) -، وهو ثقة أيضاً، وروى له البخاري. وله متابعون آخرون ذكر أسماءهم المعلق على " نصب الراية ". فاتفاق هؤلاء على هذه الزيادة ... " والإضافة من مقدمة " صفة الصلاة " المطبوع (ص 31) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 ..............................................................................   أخرجه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم في " ما أسند سفيان بن سعيد الثوري " (1/40/2) ، وابن الجارود في " المنتقى " (536) . وإسنادُهُ صحيحٌ أيضاً. ويشهد للزيادة -، ويزيدها قوةً على قوة - قولُه عليه الصلاة والسلام: " لا صلاة إلا بقراءة {فاتحة الكتاب} فما زاد ". والصلاة على الجنازة صلاة قطعاً؛ فهي تدخل في عموم هذا الحديث. وبه استدل الحنابلة وغيرهم على وجوب قراءة {الفَاتِحَة} في صلاة الجنازة، فهو بقوله: " فما زاد " يدل أيضاً على مشروعية قراءة السورة بعد {الفَاتِحَة} في الجنازة، وهذا مما ذكره الشوكاني في " نيل الأوطار " (4/53) } (*) . وللحديث طريقان عند الحاكم (1/358 و 359) : الأول: عن ابن عجلان: أنه سمع سعيد بن أبي سعيد يقول: صلى ابن عباس على جنازة، فجهر بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ} ، ثم قال: إنما جهرت؛ لتعلموا أنها سنة. وقال: " صحيح على شرط مسلم " (**)   (*) ما بين الحاصرتين {} من مقدمة " الصفة " المطبوع (ص 31 - 32) . (**) الطريق الثاني: عن موسى بن يعقوب الزَّمْعي قال: حدثني شُرَحبيل بن سعد قال: حضرت عبد الله بن عباس، فصلى بنا على جنازة بالأبواء، وكبَّر، ثم قرأ بـ: {أم القرآن} رافعاً صوته بها، ثم صلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ثم انصرف، فقال: أيها الناس! إني لم أقرأ عَلَناً إلا لتعلموا أنها السنة. قال الحاكم: " لم يحتج الشيخان بشرحبيل بن سعد، وهو من تابعي أهل المدينة، وإنما أخرجت هذا الحديث شاهداً للأحاديث التي قدمنا؛ فإنها مختصرة مجملة، وهذا حديث مفسر ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 ..............................................................................   وقد أجمعوا على أن قول الصحابي: (سنة) : حديثٌ مُسْنَدٌ. وفيه أمران: الأول: أنه ليس على شرط مسلم؛ لأن ابن عجلان ما أخرج له مسلم؛ إلا في الشواهد - كما قال الحاكم نفسه -. والآخر: أن الإجماع الذي حكاه ليس بصحيح؛ لأن الخلاف عند أهل الحديث وعند الأصوليين شهير - كما قال الحافظ (3/159) -، وإن كان الأصح أنه مسند مرفوع؛ لأن الظاهر أنه لا يريد به إلا سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما يجب اتباعه - كما في " مقدمة ابن الصلاح " (53) -. وقال الشافعي في " الأم " (1/240) : " وأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقولون: (السنة) إلا لسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن شاء الله تعالى ". وعلى هذا جرينا في كتابنا هذا. وقال النووي في " المجموع " (5/232) : " إنه المذهب الصحيح الذي قاله جمهور العلماء من أصحابنا في الأصول، وغيرهم من الأصوليين والمحدثين ". هذا، وفي القراءة على الجنائز بـ: {فاتحة الكتاب} أحاديث كثيرة سوى هذا الحديث، وقد ساقها في (التعليق) على " نصب الراية " (2/270) ، وهي عن سبعة من الصحابة رضي الله عنهم، وذكر بعضها الشوكاني في " النيل " (4/52) ، وأسانيدها لا تخلو من ضعف، لكن بعضها يقوي بعضاً. ومنه نعلم أن قول ابن الهمام (1/459) : " ولم تثبت القراءة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". ليس بصواب. ويأتي ما يخالفه من بعض علمائنا، وهي تدل على أن السنة قراءة {الفَاتِحَة} في الجنازة. قال الترمذي: " والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم؛ يختارون أن يقرأ بـ: {فاتحة الكتاب} بعد التكبيرة الأولى، وهو قول الشافعي، وأحمد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 ..............................................................................   وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: لا يقرأ في الصلاة على الجنازة؛ إنما هو الثناء على الله، والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والدعاء للميت، وهو قول الثوري وغيره من أهل الكوفة ". قلت: وهو مذهب علمائنا، قال الإمام محمد في " الموطأ " (165) : " لا قراءة على الجنازة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ". قال أبو الحسنات: " يحتمل أن يكون نفياً للمشروعية المطلقة؛ فيكون إشارة إلى الكراهة. وبه صرح كثير من أصحابنا المتأخرين؛ حيث قالوا: يكره قراءة {الفَاتِحَة} في صلاة الجنازة. وقالوا: لو قرأ بنية الدعاء؛ لا بأس به. ويحتمل أن يكون نفياً للزومه، فلا يكون فيه نفي الجواز ". وإليه مال حسن الشُّرُنْبُلالي من متأخري أصحابنا؛ حيث صنف رسالة سمّاها: " النظم المستطاب لحكم القراءة في صلاة الجنازة بـ: {أم الكتاب} ". ردَّ فيها على من ذكر الكراهة بدلائل شافية. وهذا هو الأولى؛ لثبوت ذلك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. ثم ذكر بعض الأحاديث التي أشرنا إليها آنفاً، ومنها حديث ابن عباس هذا. ثم ذكر بعض الآثار عن الصحابة في القراءة وعدمها، ثم قال: " وبالجملة؛ الأمر بين الصحابة مختلف، ونفس القراءة ثابت؛ فلا سبيل إلى الحكم بالكراهة، بل غاية الأمر أن لا يكون لازماً ". اهـ. وقال أبو الحسن السندي: " ينبغي أن تكون {الفَاتِحَة} أَوْلَى وأحسن من غيرها من الأدعية. ولا وجه للمنع منها. وعلى هذا كثيرٌ من محققي علمائنا، إلا أنهم قالوا: يقرأ بنية الدعاء والثناء؛ لا بنية القراءة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 و " يخافت فيها مُخَافَتَةً (1) ...................................................   قلت: وهذا القيد مما لا دليل لهم عليه؛ اللهم! إلا أن يكون محاولة منهم للتوفيق بين قول أئمتهم: لا قراءة على الجنازة. وبين ثبوتها فيها عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والأخذ بالسنة - بدون أي قيد خارجي عنها - أولى، وبالاتباع أحرى. ومن غرائب علمائنا أنهم أثبتوا قراءة دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة؛ قياساً على الصلوات المعهودة، مع أنه لم يأت أي حديث في قراءته! ونَفَوا قراءة {الفَاتِحَة} والسورة، ولم يقيسوا ذلك على قراءتها في الصلوات المعروفة، مع ثبوت ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فتأمل منصفاً! ومما يدفع ذلك القيدَ ثبوتُ قراءة السورة بعد {الفَاتِحَة} ، ولا يعقل تقييدها بمثل ما قيدوا به {الفَاتِحَة} ؛ لأن أكثر السور لا دعاء فيها؛ كسورة {الإِخْلاص} مثلاً. (1) هو من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: السنة في الصلاة على الجنازة: أن يقرأ في التكبيرة الأولى بـ: {أم القرآن} مُخَافَتَةً، ثم يكبر ثلاثاً، والتسليم عند الآخرة. أخرجه النسائي (1/281) ، ومن طريقه ابن حزم في " المحلى " (5/129) من طريق الليث عن ابن شهاب عنه. وهذا سند صحيح على شرط الشيخين؛ كما قال النووي في " المجموع " (5/233) ، وقال: " أبو أمامة هذا صحابي ". وقال الحافظ في " الفتح " (3/158) : " إسناده صحيح ". وأخرجه الطحاوي (1/288) من طريق شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو أمامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 بعد التكبيرة الأولى " (1) .   ابن سهل بن حنيف - وكان من كبراء الأنصار، وعلمائهم، وأبناء الذين شهدوا بدراً مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن رجلاً من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبره: أن السنة في الصلاة على الجنازة: أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بـ: {فاتحة الكتاب} سراً في نفسه، ثم يختم الصلاة في التكبيرات الثلاث. قال الزهري: فذكرت الذين أخبرني أبو أُمامة من ذلك لمحمد بن سُوَيد الفِهْري فقال: وأنا سمعت الضحاك بن قيس محدث عن حبيب بن مسلمة في الصلاة على الجنازة مثل الذي حدثك أبو أمامة. وهذا صحيح أيضاً. وأخرجه الشافعي في " الأم " (1/239 - 240) من طريق مَعْمَر عن الزهري مثله، دون قول الزهري: فذكرت ... إلخ. وورد الحديث بألفاظ ومعان أخرى عند الحاكم (1/360) ، وله طريق أخرى عند الدارقطني (191) - كما بينت ذلك في " التعليقات الجياد " -. (1) قد ذهب إلى العمل به الشافعية؛ فاتفقوا على أن القراءة بعد التكبيرة الأولى. وهو قول أحمد؛ قال أبو داود في " مسائله " (153) : " سألت أحمد عن الدعاء على الميت: قلت: في الأولى بـ: {فاتحة الكتاب} ؟ قال: نعم. قلت: في الثانية ماذا؟ قال: يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قلت: في الثالثة الدعاء للميت؟ قال: نعم. قلت: في الرابعة أسلّم؟ أو: أدعو ثم أسلّم؟ قال: تدعو ثم تسلِّم ". اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 ..............................................................................   وكذلك اتفقوا على أن السنة فيها الإسرار في النهار، واختلفوا فيما إذا كانت بالليل؛ فقيل بالإسرار أيضاً، وقيل: يستحب الجهر. قال النووي (5/234) : " والمذهبُ: الأولُ. ولا يغتر بكثرة القائلين بالجهر؛ فهم قليلون جداً بالنسبة إلى الآخرين، وظاهر نص الشافعي في " المختصر ": الإسرار؛ لأنه قال: ويخفي القراءة. ولم يفرق بين الليل والنهار، ولو كانا يفترقان؛ لذكره. ويحتج له بحديث أبي أمامة الذي ذكرناه " [ا. هـ مختصراً] . * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 تَرْتيلُ القراءةِ وتحسينُ الصوت بها وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما أمره الله تعالى - يرتل القرآن ترتيلاً؛ لا هَذّاً، ولا عَجَلَةً؛ بل قراءة " مفسرة؛ حرفاً حرفاً (1) " (2) ، حتى " كان يرتل السورة؛ حتى تكون أطولَ مِنْ أطولَ منها (3) " (4) .   (1) أي: كلمة كلمة. يعني: مرتلة محققة مبينة. كما في " شرح الشمائل ". (2) هو من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وقد سبق تخريجه، وذكرنا ألفاظه، والاختلاف الواقع في سنده ولفظه في (القراءة آيةً آيةً) [ص 293 - 297] . (3) أي: حتى تصير السورة القصيرة كـ: {الأَنْفَال} مثلاً - لاشتمالها على الترتيل - أطول من طويلة خلت عنه كـ: {الأَعْرَاف} . وفيه ندب ترتيل القراءة في الصلاة، وهو إجماع. كذا في " شرح الشمائل " للمناوي. وقد اختلف العلماء في أيهما الأفضل: الترتيل وقلة القراءة، أو: السرعة مع كثرة القراءة؟ على قولين؛ فذهب إلى الأول: ابن مسعود، وابن عباس، واختاره ابن سيرين. وذهب إلى الآخر: الشافعية، واحتجوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قرأ حرفاً من كتاب الله؛ فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها ... ". الحديث. وقد مضى في (القراءة) من التعليق [ص 368] . وجمع بين القولين ابن القيم في " الزاد " (1/125) ، وتبعه الحافظ في " الفتح " (9/73) ؛ فقالا - واللفظ للحافظ -: " والتحقيق: أن لكل من الإسراع والترتيل جهةَ فَضْلٍ؛ بشرط أن يكون المسرع لا يخلُّ بشيء من الحروف والحركات والسكون الواجبات؛ فلا يمتنع أن يفضُل أحدهما الآخر، وأن يستويا؛ فإن من رَتّلَ وتأمل؛ كمن تصدق بجوهرة واحدة مُثَمَّنَةٍ، ومن أسرع؛ كمن تصدق بعدة جواهر، لكن قيمتها قيمة الواحدة، وقد تكون قيمة الواحدة أكثرَ من قيمة الأُخريات، وقد يكون بالعكس ". اهـ. (4) هو من حديث حفصة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أنها قالت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 وكان يقول: " يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارْتَقِ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها (1) " (2) .   ما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في سُبْحَتِه قاعداً قط، حتى كان قبل وفاته بعام؛ فكان يصلي في سبحته قاعداً، ويقرأ بالسورة؛ فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. أخرجه مالك (1/157) عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن المُطَّلِب بن أبي وَدَاعة السَّهْمي عنها. ومن طريقه أخرجه مسلم (2/164) ، والنسائي (1/245) ، والترمذي في " السنن " (2/211 - 212) وفي " الشمائل " (2/99) ، والبيهقي (2/490) ، وأحمد (6/285) ، وكذا الإمام محمد (112) ؛ كلهم عن مالك به. ثم أخرجه مسلم، وأحمد من طريق مَعْمَر عن الزهري به. تقدم في (القيام) . (لطيفة) : في هذا الإسناد ثلاثة صحابة في نسق واحد؛ يروي بعضهم عن بعض: السائب، والمطلب، وحفصة. (1) قلت: جاء في الأثر: إن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة، يقال للقارئ: ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي الكتاب. فمن استوفى قراءة جميع القرآن؛ استولى على أقصى درج الجنة (*) ، ومن قرأ جزءاً منها؛ كان رقيُّهُ في الدرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة. كذا في " المعالم " (1/289 - 290) للإمام الخطابي. (2) هو من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. أخرجه أبو داود (1/231) ، والترمذي (2/150 - طبع بولاق) ، وابن نصر (70) ، والحاكم (1/552 - 553) ، والبيهقي (2/53) ، وأحمد (2/192) ، والمقدسي في   (*) وهو (منكر) مخرّج في " الضعيفة " (3858) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 ..............................................................................   " المختارة " عن عاصم بن أبي النَّجُود عن زِرِّ بن حُبَيْشٍ عنه. وهذا سند حسن. وقال الترمذي: " حسن صحيح ". والحاكم: " صحيح ". ووافقه الذهبي. ورواه أيضاً ابن حبان في " صحيحه "؛ كما في " الترغيب " (2/208) ، وعزاه لابن ماجه أيضاً، ولم أجده عنده، ولم ينسبه إليه صاحب " الذخائر "؛ وإنما هو عنده من حديث أبي سعيد الخدري (2/415 - 416) من طريق عطية عنه. وعطية: صدوق يخطئ كثيراً - كما في " التقريب " -؛ فهو في الشواهد لا بأس به. ومن شواهده: ما أخرجه أحمد (2/471) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد - شك الأعمش - قال: يقال: ... فذكره بنحوه. هكذا هو في " المسند " موقوف، وله حكم المرفوع، وسنده صحيح على شرط الشيخين. والشك الواقع فيه لا يضره؛ لأنه متردد بين صحابيين. وليس فيه ذكر الترتيل كحديث أبي سعيد. ومنها: عن بُرَيْدة بن الحُصَيْب. أخرجه أحمد أيضاً (5/348) من طريق بَشِير بن المهاجر: ثني عبد الله بن بُريدة عن أبيه بُريدة أثناء حديثٍ بلفظ: " واصعد في درج الجنة وغرفها. فهو في صعود ما دام يقرأ؛ هَذّاً كان أو ترتيلاً ". قال الهيثمي (7/159) : " ورجاله رجال " الصحيح " ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 و " كان يمد قراءته (1) (عند حروف المد) ؛ فيمد {بِسْمِ اللَّهِ} ، ويمد {الرَّحْمَنِ} (2) ، ويمد {الرَّحِيمِ} ، و {نَضِيدٌ} (50: 45) وأمثالها " (3) .   قلت: وهو كما قال. لكن بشيراً هذا: [صدوق] لين الحديث - كما قال في " التقريب " -. (1) قال السندي: " أي: يطيل الحروف الصالحة للإطالة؛ يستعين بها على التدبر، والتفكر، وتذكير من يتذكر ". (2) أي: يمد الألف بعد الميم، والياء بعد الحاء. ولا يخفى أن المد في كل من الاسمين الشريفين - وَصْلاً - لا يُزَادُ على قدر (ألف) ، وهو المسمى بـ: المد الأصلي والذاتي والطبيعي، ووقفاً متوسطاً أيضاً، فيمد قدر ألِفَين، أو يطول قدر ثلاث لا غير، وهو المسمى بـ: المد العارض، وعلى هذا القياسُ. وتفصيلُ أنواع المد محله كتب القراءة. وأما ما ابتدعه قراء زماننا - حتى أئمة صلاتنا - أنهم يزيدون على المد الطبيعي إلى أن يصل قدر أَلِفَيْنِ وأكثر ربما يقصرون المد الواجب! فلا مد الله في عمرهم، ولا أمد في أمرهم. كذا في " شرح الشمائل " للشيخ علي القاري. (3) هو من حديث أنس رضي الله عنه. قال قتادة: سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: كان يمد مداً. أخرجه البخاري في " صحيحه " (9/74) وفي " أفعال العباد " (81) ، وأبو داود (1/231) ، والنسائي (1/157) ، والترمذي في " الشمائل " (2/137 - 138) ، والبيهقي (2/52) ، وأحمد (3/119 و 127 و 198) عن جرير بن حازم الأزدي عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 وكان يقف على رؤوس الآي - كما سبق بيانه - (1) .   وفي لفظ لأحمد (3/131 و 192 و 289) : كان يمد صوته مداً. وكذا أخرجه الإسماعيلي، وأبو نُعيم، وابن أبي داود، وفي رواية له: كان يمد قراءته. وأفاد أنه لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا جرير بن حازم وهَمَّام بن يحيى - كما في " الفتح " -. وزاد البخاري في روايته: ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ يمدُّ بـ: {بِسْمِ اللَّهِ} ، ويمد: {الرَّحْمَنِ} ، ويمد: {الرَّحِيمِ} . ثم قال الحافظ: " وأخرج ابن أبي داود من طريق قطبة بن مالك: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في الفجر: {ق} ، فمر بهذا الحرف: {لَهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} فمدَّ: {نَضِيدٌ} . وهو شاهد جيد لحديث أنس. وأصله عند مسلم، والترمذي، والنسائي من حديث قطبة نفسه ". قلت: وقد مضى في القراءة في الفجر بدون قوله: فمدَّ: {نَضِيدٌ} . وقد أخرجه البخاري في " أفعال العباد " (81) بلفظ: يمد بها صوته. وسنده صحيح على شرطهما. (1) في (القراءة آية آية) (ص 293 - 297) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 و " كان أحياناً يُرَجِّعُ (1) صوته؛ كما فعل يوم الفتح وهو على ناقته، يقرأ سورة {الفَتْحِ} (48: 49) [قراءة لينة] " (2) . وقد حكى عبد الله بن مغفل ترجيعه هكذا: (آآ آ) .   (1) مِن: التَّرْجِيْع. قال الحافظ: " هو تقارب ضروب الحركات في القراءة، وأصله: الترديد. وترجيع الصوت: ترديده في الحلق ". اهـ. وقال المناوي: " وذلك ينشأ غالباً عن أَرْيحِيَّةٍ وانبساط، والمصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصل له من ذلك حظ وافر يوم الفتح ". (2) هو من حديث عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه. رواه عنه معاوية بن قُرَّة قال: سمعت عبد الله بن مغفل قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة {الفَتْحِ} ؛ يُرَجِّعُ. وقال (معاوية) : لولا أن يجتمع الناس حولي؛ لرَجَّعْتُ كما رَجَّعَ. أخرجه البخاري (8/11 و 474 و 9/75 و 130 و 441) وفي " خلق أفعال العباد " (ص 81) ، ومسلم (2/193) ، وأبو داود (1/231) ، والترمذي في " الشمائل " (2/141 - 142) ، والبيهقي (2/53) ، وأحمد (4/85 - 86 و 5/54 و 55 و 56) من طريق شعبة عنه. واللفظ للبخاري. وفي رواية له - وهي رواية البيهقي -: وهو يقرأ سورة {الفَتحِ} قراءة لينة. وزاد في رواية أخرى، وكذا أحمد: فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟ قال: آآ آ. ثلاث مرات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 ..............................................................................   وقد تابعه سعيد عن معاوية. أخرجه ابن نصر (54) بدون الزيادة. قال الحافظ: " وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع؛ فأخرج الترمذي في " الشمائل "، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي داود - واللفظ له - من حديث أم هانئ: كنت أسمع صوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ، وأنا نائمة على فراشي؛ يُرَجِّعُ القرآن ". قلت: وهكذا أخرجه الطحاوي (1/203) من طريق قيس بن الربيع عن هلال بن خَبَّاب عن يحيى بن جعدة عنها. وسنده حسن. وهو عند الثلاثة الأولين من طرق عن هلال به؛ دون قوله: يرجِّع القرآن. وقد مضى في (التعليق) قبيل (صلاة الفجر) [ص 422] . ورواه ابن نصر (54) ، وفيه الزيادة، ولكن مختصِره المقريزي لم يسق إسناده. قال الحافظ في شرح قوله: (آآ آ) : " بهمزة مفتوحة، بعدها ألف ساكنة، ثم همزة أخرى ". ثم ذكر (13/442) نحوه عن القرطبي. ونقل القاري مثله عينه ميرك شاه، ثم قال: " والأظهر أنها ثلاث ألفات ممدودات ". ثم قال الحافظ: " ثم قالوا: يحتمل أمرين؛ أحدهما: أن ذلك حدث من هَزِّ الناقة. والآخر: أنه أشبع المد في موضعه؛ فحدث ذلك. وهذا الثاني أشبه بالسياق؛ فإنَّ في بعض طرقه: لولا أن يجتمع الناس؛ لقرأت لكم بذلك اللحن. أي: النغم ". قال القرطبي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 ..............................................................................   " وقوله هذا يشير إلى أن القراءة بالترجيع تجمع نفوس الناس إلى الإصغاء، وتستميلها بذلك، حتى لا تكاد تصبر عن استماع الترجيع المَشُوْبِ بلذة الحكمة المهُِيمة ". ثم قال الحافظ: " والذي يظهر أن في الترجيع قدراً زائداً على الترتيل؛ فعند ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن علقمة قال: بتُّ مع عبد الله بن مسعود في داره، فنام، ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حَيِّه؛ لا يرفع صوته، ويُسْمعُ من حوله، ويرتل ولا يرجِّع. وقال الشيخ أبو محمد ابن أبي جمرة: معنى الترجيع: تحسين التلاوة.. لا ترجيع الغناء؛ لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة ". قال الشيخ القاري (2/142 - 143) : " ومن تأمل أحوال السلف؛ علم أنهم بريئون من التصنع في القراءة بالألحان المخترعة، دون التطريب، والتحسين الطبيعي؛ فالحق أن ما كان منه طبيعة وسجيَّة؛ كان محموداً - وإنْ أعانته طبيعته على زيادة تحسين وتزيين -؛ لِتأثُّرِ التالي والسامع به. وأما ما فيه تكلف وتصنع بتعلم أصوات الغناء وألحان مخصوصة؛ فهذه هي التي كرهها السلف والأتقياء من الخلف ". (تنبيه) : وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي في " الشمائل " (2/143) عن حُسام ابن مِصَكٍّ عن قتادة قال: ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم حسن الوجه حسن الصوت، وكان لا يرجع. فهو مع انقطاعه؛ فإن حساماً هذا: ضعيف يكاد أن يترك - كما في " التقريب " -. قال في " الميزان ": " ومن مناكيره هذا الخبر ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وكان يأمر بتحسين الصوت بالقرآن؛ فيقول: " زينوا القرآن بأصواتكم؛ [فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً] " (1) .   (1) هو من حديث البراء. أخرجه البخاري في " أفعال العباد " (79 - 80) ، وأبو داود (1/231) ، والنسائي (1/157) ، والدارمي (2/474) ، وابن ماجه (1/404) ، وابن نصر (54) ، {وتمام الرازي [1/130/300] } ، والحاكم (1/571 - 575) ، والبيهقي (2/53) ، والطيالسي (100) ، وأحمد (283 و 285 و 304) من طرق عن طلحة بن مُصَرِّف قال: سمعت عبد الرحمن ابن عوسجة قال: سمعت البراء بن عازب به. وهذا سند صحيح. وقد علقه البخاري في " صحيحه " (13/444) مجزوماً به، وذكر الحافظ أن ابن خزيمة وابن حبان أخرجاه أيضاً في " صحيحيهما " من هذا الوجه. وذكر الحافظ العراقي (1/251) أن الحاكم صححه. وليس في نسختنا من " المستدرك " تصريحه بالتصحيح، وإنما أكثر في سَرْدِ طرقه عن طلحة وغيره. وقد أخرجه هو (1/575) (*) ، والخطيب في " تاريخه " (4/261) من طريق محمد ابن بكار: ثنا قيس بن الربيع عن زُبَيد بن الحارث عن عبد الرحمن بن عوسجة به. وهذا سند جيد. وله طرق أخرى؛ فأخرجه الحاكم من طريق إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج عن البراء به. وهذا سند صحيح. ثم أخرجه من طريق أبي مريم عبد الغفار بن القاسم عن عدي بن ثابت عنه.   (*) وليس هو كذلك في " إتحاف المهرة " لابن حجر في نقله عن " المستدرك "؛ فانظر (2/474 - 478) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 ..............................................................................   وأبو مريم: متروك. وله طريق رابع: أخرجه الدارمي، ومن طريقه الحاكم عن زاذان أبي عمر عنه به. بلفظ: " حسنوا ... ". والباقي مثله؛ وفيه الزيادة. وسنده صحيح. رجاله كلهم ثقات رجال مسلم. وللحديث شواهد: منها: عن أبي هريرة. علقه البخاري في " أفعال العباد " (80) : عن سهيل عن أبيه عنه. وقد أخرجه ابن حبان في " صحيحه ". ومنها: عن ابن عباس. رواه الطبراني بإسنادين. وفي أحدهما عبد الله بن خِرَاش: وثقه ابن حبان، وقال: " ربما أخطأ ". ووثقه البخاري وغيره. وبقية رجاله رجال " الصحيح " -. كذا في " المجمع " (7/170) -. وفي " التقريب " أن ابن خِرَاش: " ضعيف ". وقال في " الفتح ": " أخرجه الدارقطني في " الأفراد " بسند حسن ". ومنها: عن عبد الرحمن بن عوف. أخرجه البزار بسند ضعيف. ومنها: عن ابن مسعود. أخرجه ابن نصر، وأبو نعيم في " الحلية " (4/236) ، والطبراني من طريق سعيد بن زَرْبِيّ: ثنا خالد عن إبراهيم عن علقمة قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 ..............................................................................   كنت رجلاً قد أعطاني الله حُسن الصوت بالقرآن، فكان عبد الله يستقرئني، ويقول لي: فداك أبي وأمي! فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن حسن الصوت تزيينٌ للقرآن ". وروى البزار المرفوع منه. وسعيد بن زَرْبِيّ: ضعيف - كما قال الهيثمي -. ومنها: عن ابن عباس أيضاً بلفظ: " لكل شيء حلية، وحلية القرآن حسن الصوت ". أخرجه الطبراني في " الأوسط ". وفيه إسماعيل بن عمرو البَجَلي، وهو ضعيف. ومنها: عن أنس ... مثله. أخرجه البزار. وفيه عبد الله بن مُحَرَّر، وهو متروك - كما في " المجمع "، و " التقريب " -. (تنبيه) : اعلم أن لفظ حديث ابن عباس الأول: " زينوا أصواتكم بالقرآن ". على القلب (1) . وهو رواية الحاكم في حديث البراء من طريق معمر عن الأعمش عن طلحة، ومن طريق سفيان عن منصور عن طلحة. ورواه غيرهما عن الأعمش ومنصور بلفظ الكتاب. وهو الصواب؛ كما في رواية   (1) {وهو خطأ بَيِّنٌ رواية ودراية. ومن صححه؛ فهو أغرق في الخطأ؛ لمخالفته للروايات الصحيحة المفسرة في الباب؛ بل هو مثال صالح للحديث المقلوب. وبيان هذا الإجمال في " الأحاديث الضعيفة " (5326) [و " صحيح الترغيب والترهيب " (2/176 - 177) ] } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 ..............................................................................   جميع من رواه عن طلحة، وكذلك هو في الطرق الأخرى والشواهد. قوله: " زينوا القرآن بأصواتكم "؛ أي: قراءته بأصواتكم؛ أي: بتحسين أصواتكم عند القراءة؛ فإن الكلام الحسن يَزيد حُسناً وزينةً بالصوتِ الحسن، وهذا مشاهد. كما قال السندي. وأما حمل الحديث على القلب؛ أي: زينوا أصواتكم بالقرآن. فمما لا ضرورة لهذا التأويل؛ إذ إنه خلاف الأصل، والرواية التي وردت على القلب شاذة؛ مخالفة لجميع روايات الثقات - كما سبق -. وهي أيضاً تنافي الزيادة المذكورة: " فإن الصوت الحسن يزيدُ القرآنَ حسناً ". فإنها تعلل الأمر بتحسين الصوت عند قراءة القرآن، وهو أنه يزيد القرآن حسناً؛ فالزينة للقرآن لا للصوت، خلافاً لما قاله المناوي. ويشهد لذلك أيضاً حديث أنس، وابن عباس - وأحدهما يقوي الآخر -: " لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن " (*) . قال الشيخ علي القاري: " يعني: كما أن الحُلَلَ والحُلِيَّ يزيد الحسناء حسناً، وهو أمر مشاهد؛ فدلَّ على أن رواية العكس - ويعني: " زينوا أصواتكم بالقرآن " - محمولة على القلب، لا العكس. فتدبر. ولا منع من الجمع ". اهـ. قال في " فيض القدير ": " وفي أدائه بحسن الصوت وجودة الأداء بَعْثٌ للقلوب على استماعه وتدبره والإصغاء إليه. قال التُّورْبِشْتي: هذا إذا لم يخرجه التغني عن التجويد، ولم يصرفه عن مراعاة النظم في الكلمات والحروف، فإن انتهى إلى ذلك؛ عاد الاستحبابُ كراهةً.   (*) جزم الشيخ في " الضعيفة " (4322) بأنه ضعيف. وانظر هنا (ص 572) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 وكان يقول: " لله أشد أَذَنَاً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن؛ [يجهر به] من صاحب القينة " (1)   وأما ما أحدثه المتكلفون بمعرفة الأوزان والموسيقى؛ فيأخذون في كلام الله مأخذهم في التشبيب والغزل؛ فإنه من أسوأ البدع، فيجب على السامع النكير، وعلى التالي التعزير. وأخذ جمع من الصوفية منه ندب السماع من حَسَن الصوت، وتُعقب بأنه قياس فاسد، وتشبيه للشيء بما ليس مثله، وكيف يشبه ما أمر الله به بما نهى عنه؟! ". انتهى. (1) هو من حديث فضالة بن عبيد (*) . أخرجه الحاكم (1/571) ، وأحمد (6/19) من طريق الوليد بن مسلم: ثني أبو عَمْرو الأوزاعي: ثني إسماعيل بن عُبيد الله بن أبي المهاجر عنه به. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". وتعقبه الذهبي بقوله: " بل هو منقطع ". قلت: لكن وصله ابن ماجه (1/403) ، وابن نصر (54) ، وأحمد أيضاً (6/20) من طرق عن الوليد: ثنا الأوزاعي: ثنا إسماعيل بن عبيد الله عن مَيْسَرة مولى فضالة عن فضالة به. والزيادة لابن ماجه. وهكذا علقه البخاري في " أفعال العباد " (79) مجزوماً؛ فقال: " وقال ميسرة مولى فَضَالة عن فَضَالة به ". ولكن ميسرة هذا ما روى عنه سوى إسماعيل هذا - كما في " الميزان " -، ولم يوثقه   (*) هذا الحديث ضرب عليه الشيخ رحمه الله في الأصل، وأبقى تخريجه مشيراً في نهايته إلى ضعفه، وقد رأينا إثباته مع تخريجه بهذه الصورة، ودون حذف المتن؛ مكتفين بجعله دون تسويد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 ويقول: " إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن: الذي إذا سمعتموه يقرأ؛ حسبتموه يخشى الله " (1)   غير ابن حبان؛ فهو في عداد المجهولين. ولذلك قال في " التقريب ": " مقبول ". يعني: إذا توبع في روايته. ولَمَّا لم نجد له متابعاً، ولا لحديثه شاهداً؛ ضربنا عليه، وحكمنا بضعفه - وإن حسنه صاحب " الزوائد " -. والله أعلم. (1) هو حديث صحيح. جاء من وجوه مختلفة؛ مرسلاً وموصولاً. أما المرسل؛ [فأخرجه {ابن المبارك في " الزهد " (1/162) " الكواكب " (575) } قال: ثنا يونس بن يزيد عن الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ... فذكره نحوه] . وأخرجه الدارمي (2/471) عن مِسْعَر عن عبد الكريم عن طاوس قال: سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُّ الناس أحسن صوتاً بالقرآن، وأحسن قراءة؟ قال: " من إذا سمعته يقرأ؛ أُرِيْتَ أنه يخشى الله ". قال طاوس: وكان طَلْقٌ كذلك. وعبد الكريم هذا هو: ابن أبي المخارق، أبو أُمية المُعَلّم؛ ضعيف - كما في " التقريب " -. وبقية رجاله رجال " الصحيحين ". وقد وصله أبو نعيم في " حلية الأولياء " (4/19) من طريق إسماعيل بن عمرو: ثنا مِسْعَر بن كِدَام عن عبد الكريم المعلم عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه به. وقال: " غريب من حديث مِسْعَر؛ لم يروه عنه مرفوعاً موصولاً إلا إسماعيل ". قلت: وهو البَجَلي، وهو ضعيف. وله طريق أخرى عن طاوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 ..............................................................................   أخرجه الطبراني، ومن طريقه أبو نعيم (4/19) عن ابن لَهِيعة عن عمرو بن دينار عن طاوس به بلفظ: " إن أحسن الناس قراءة من إذا قرأ القرآن؛ يَتَحَزَّن ". قال في " المجمع " (7/170) : "وابن لَهيعة: حسن الحديث، وفيه ضعف ". وله عن ابن عباس طريق ثان. قال أبو نعيم (3/317) : ثنا محمد بن أحمد بن الحسن: ثنا عباس بن أحمد بن الحسن الوَشَّاء: ثنا أحمد بن عمر الوكيعي: ثنا قَبِيصة: ثنا سفيان عن ابن جُرَيج عن عطاء عن ابن عباس به نحو حديث مِسْعَر المرسل. وقال: " هذا حديث غريب من حديث الثوري عن ابن جريج عن عطاء، انفرد به أحمد عن قَبيصة ". قلت: أحمد هذا: ثقة من شيوخ مسلم، ومن فوقه متفق عليهم. وقد أخرجه المقدسي في " المختارة " عن أبي نُعَيم. وللحديث شواهد: منها: عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجَمِّع عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً بلفظ الكتاب. وفي " الزوائد ": " إسناده ضعيف؛ لضعف إبراهيم بن إسماعيل هذا ". اهـ. وقال الحافظ العراقي (1/257) : " سنده ضعيف ". ومنها: عن ابن عمر، وله منه طريقان: الأول: قال ابن نصر (55) : ثنا محمد بن يحيى: ثنا عمر بن عمر: أخبرنا مرزوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 وكان يأمر بالتغني بالقرآن؛ فيقول: " تعلَّموا كتاب الله، وتعاهدوه، واقتنوه، وتغنَّوا به؛ فوالذي نفسي بيده! لهو أشد تفلتاً من المخاض في العقل (1) " (2) . ويقول:   أبو بكر عن الأحول عن طاوس عن ابن عمر به. وهذا سند حسن. رجاله ثقات معروفون؛ غير عمر بن عمر؛ فلم أجد من ذكره، ويغلب على الظن أنه عثمان بن عمر (*) ؛ فتحرف على الناسخ أو الطابع، وذلك لأن عثمان هذا هو الذي يروي عن مرزوق، وعنه محمد بن يحيى هذا؛ وهو الذُّهْلي الحافظ. والطريق الآخر: أخرجه الخطيب (3/208) عن حُميد بن حَمّاد بن خُوَار: ثنا مِسْعَر بن كِدَام عن عبد الله بن دينار عنه. وحُميد هذا: لين الحديث - كما في " التقريب " -، ومن طريقه رواه الطبراني في " الأوسط "، والبزار. قال في " المجمع " (7/170) : " وبقية رجال البزار رجال الصحيح ". [ومنها: عن عائشة مرفوعاً نحوه: عند {أبي نعيم في " أخبار أصبهان "} (1/58) ] . فهذه شواهد وطرق يقوي بعضها بعضاً؛ فهو صحيح أو حسن لغيره، ولعله لذلك جزم البخاري به؛ - فعلقه في " أفعال العباد " (81) مجزوماً به. (1) {المخاض: هي الإبل، والعُقُل: جمع عقال: وهو الحبل الذي يعقل به البعير} . (2) ثبت ذلك في حديث عقبة بن عامر الجُهَني مرفوعاً. أخرجه الدارمي (2/439) ، وابن نصر (55 - 56) ، وأحمد (4/147 و 150 و 153) من طرق عن موسى بن عُلَي بن رباح قال:   (*) وهو الصواب، فهو في " مسند عبد بن حميد " (802) على الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 ..............................................................................   سمعت أبي يقول: سمعت عقبة بن عامر يقول: ... مرفوعاً به. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة - كما في " الزاد " (1/193) -، وأبو عُبَيد، والنسائي في (كتاب فضائل القرآن) - كما قال ابن كثير (118) -. وفي رواية له - أعني: النسائي، وكذا أحمد - من طريق قَبَاثِ بن رَزِين قال: سمعت عُلَيّ بن رَبَاح به بلفظ: كنا جلوساً في المسجد نقرأ القرآن، فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلّم علينا، فرددنا عليه السلام، ثم قال: ... الحديث. وهذا سند صحيح أيضاً. قال ابن كثير: " ففيه دلالة على السلام على القارئ ". قلت: وهذه فائدة عزيزة؛ قلما توجد في حديث. وفيه رد على من منع السلام على القارئ من علمائنا (*) . وفيه أيضاً استحباب رد القارئ السلام على من سَلَّم عليه. وقد استظهر النووي في " التبيان " (ص 24) وجوب ذلك؛ قياساً على وجوب الرد في حال الخطبة على الأرجح عند الشافعية. قلت: والأَوْلى الاحتجاجُ على ذلك بعموم الأدلة القاضية بوجوب رد السلام؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: " حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام ... " الحديث. متفق عليه.   (*) وانظر لمزيد فائدة تخريج هذا الحديث والكلام عليه في " السلسلة الصحيحة " (3285) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 ..............................................................................   فهو عام يشمل كل سلام، إلا ما استثناه الدليل؛ كالسلام على المصلي، فإنه - وإن كان يُشرع السلام عليه؛ فإنه - لا يجوز رده إلا بالإشارة - كما سيأتي في الكتاب -. فالاحتجاج بهذا أولى من الاحتجاج بالقياس؛ لأن المقيس عليه - وهو الردُّ حالَ الخطبة - مختلَفٌ فيه بين العلماء، حتى عند الشافعية - كما يشير إليه كلام النووي نفسه -. وأما الاحتجاج بالعموم؛ فهو حجة عند جميع العلماء؛ إذا لم يعارضه نص خاص - كما في هذا المقام -؛ فكان الاحتجاج به أولى. والله أعلم. ثم أفاد النووي جواز عَوْدِ القارئ بعد رد السلام إِلى القراءة بدون تجديد الاستعاذة؛ " ولو أعاد التعوذ؛ كان حسناً ". (تنبيه) : قد رأيت ابن كثير عزا الحديث للنسائي في (كتاب الفضائل) ، وكذلك صنع الشيخ النابلسي في " الذخائر "، ولا يوجد في " سنن النسائي الصغرى " - المعروف بـ: " المجتبى " - كتاب بهذا الاسم؛ فالظاهر أنه في " سننه الكبرى "، لكن النابلسي قد ذكر في مقدمة كتابه أنه إنما يُعزى إِلى " الصغرى " للنسائي دون " الكبرى " لقلة وجودها؛ فيوهم صنيعه أن هذا الحديث في " الصغرى " له. وليس كذلك. وكيف أورد الحديث الهيثمي في " المجمع " (7/169) منسوباً لأحمد، والطبراني، ولو كان في " السنن الصغرى "؛ لما أورده في " المجمع " - كما هو شأنه في كتابه هذا -؟! وليس هو بأول إِيهام من نوعه يقع من النابلسي، بل قد تكرر ذلك منه؛ كما هو معلق عندي على حاشية الكتاب في مواضع شتى، وفيه خطيآت أخرى؛ كان من الواجب قبل طبعه أن ينبه عليها! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 " ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن " (1) .   (1) هو من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. أخرجه أبو داود (1/231) ، وعنه البيهقي (54) ، والدارمي (2/471) ، وابن نصر (55) ، والطحاوي في " المشكل " (2/127 - 128) ، والحاكم (1/569) ، والطيالسي (ص 28) ، وأحمد (1/172 و 175 و 179) من طرق عن عبد الله بن أبي مُلَيكة عن عبيد الله بن أبي نَهِيك عنه به. وقال الحاكم: " صحيح ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وصححه أيضاً أبو عوانة - كما في " الفتح " (9/57) -. وأخرجه الحاكم (1/570) من طريق عمرو بن الحارث عن ابن أبي مُلَيكة: أنه حدثه عن ناس دخلوا على سعد بن أبي وقاص، فسألوه عن القرآن؟ فقال سعد: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... فذكره. قال الحاكم: " فهذه الرواية تدل على أن ابن أبي مُليكة لم يسمعه من راوٍ واحد؛ إنما سمعه من رواة لسعد ". قلت: وممن سمعه من سعد ورواه عنه ابنُ أبي مليكة: عُبيد الله بن أبي يزيد؛ قال: مَرَّ بنا أبو لُبابة، فاتبعناه حتى دخل بيته، فدخلنا عليه، فإذا رجل رثُّ البيت، رث الهيئة، فسمعته يقول: ... به. أخرجه أبو داود، وكذا الطحاوي (2/129) من طريق عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مُليكة يقول: قال عبيد الله بن أبي يزيد ... . وفيه زيادة: قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 ..............................................................................   فقلت: لابن أبي مُليكة: يا أبا محمد! أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يُحَسِّنُه ما استطاع. وإسناده حسن. وقال الحافظ (9/60) : " صحيح ". كذا قال. وعبد الجبار بن الْوَرْدِ - قد قال هو نفسه في " التقريب " -: " صدوق يهم ". فمثله لا يجوز أن يصحح حديثه؛ غايته أن يكون حسن الحديث. ومنهم: عبد الرحمن بن الثائب قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص، وقد كف بصره، فسلمت عليه، فقال: من أنت؟ فأخبرته. فقال: مرحباً يا ابن أخي! بَلَغَني أنك حسن الصوت بالقرآن، سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن هذا القرآن نزل بِحَزَن، فإذا قرأتموه؛ فابكوا، فإن لم تبكوا؛ فتباكوا، وتغنَّوا به؛ فمن لم يتغن به؛ فليس منا ". أخرجه ابن ماجه (1/402) من طريق أبي رافع عن ابن أبي مليكة عنه. وأبو رفع - اسمه: إسماعيل بن رافع -: ضعيف متروك - كما في " الزوائد ". وفي " التقريب ": " ضعيف الحفظ ". وقد أشار المنذري في " الترغيب " (2/215) إلى ضعف الحديث. وعليه؛ فقول الحافظ العراقي (1/249) : " إسناده جيد ". غير جيد. وعبد الرحمن بن الثائب: لم أعرفه. وأخشى أن يكون وقع في اسم أبيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 ..............................................................................   تصحيف (*) ، ولعله: ابن سابط؛ فإنهم ذكروه فيمن يروي عن سعد؛ لكن قال ابن معين: " لم يسمع منه ". وفي هذه الرواية أنه سمع منه. لكن الإسناد إليه لا يصح. والله أعلم. وللحديث شواهد: منها: عن ابن عباس. أخرجه الحاكم من طريق عُبيد الله بن الأخنس عن ابن أبي مُلَيكة عنه به. وقال: " إسناد شاذ ". ورواه أيضاً البزار، والطبراني؛ كما في " المجمع " (7/170) ، وقال: " ورجال البزار رجال " الصحيح " ". قلت: وكذلك رجاله عند الحاكم، إلا العباس بن محمد الدُّوري، وهو ثقة حافظ، وإنما حكم الحاكم بشذوذه؛ لأن كل من رواه من الثقات عن ابن أبي مُلَيكة جعله من (مسند سعد بن أبي وقاص) ، فخالفهم عبيد الله بن الأخنس؛ فجعله من (مسند ابن عباس) . وعبيد الله هذا، وإن كان من رجال الشيخين؛ ففي حفظه ضعف. وفي " التقريب ": " صدوق. قال ابن حبان: يخطئ ". وقد تابعه عِسْلُ بن سفيان عند الحاكم، وقال: " ليس بمستبعد من عِسْل بن سُفيان الوهمُ، والحديث راجع إلى حديث سعد بن أبي وقاص ".   (*) هو (السائب) كما في " تحفة الأشراف " (3/302/3900) ، و " سنن ابن ماجه " (1354) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 ويقول: " ما أذن الله لشيء ما أَذِنَ (1) (وفي لفظ: كأَذَنِه) لنبي [حسن الصوت،   (وفي لفظ: حسن الترنم) (2) ] يتغنى بالقرآن؛ [يجهر به] " (3) .   ومنها: عن عائشة، وعن ابن الزبير. رواهما البزار بإسنادين ضعيفين. ومنها: عن أبي هريرة. أخرجه البخاري (13/429 - 430) ، والطحاوي (2/129) ، والخطيب في " تاريخه " (1/395) . " ولكن أخطأ بعض الرواة في لفظه، وإنما رواه أبو هريرة باللفظ المذكور بعد هذا - كما يأتي بيانه -. (1) قال الحافظ المنذري: " أذِن - بكسر الذال -؛ أي: ما استمع لشيء من كلام الناس كما استمع الله إلى من تغنى بالقرآن؛ أي: يُحسِّن به صوته. وذهب سفيان بن عيينة وغيره إلى أنه من الاستغناء، وهو مردود ". (2) انظر " الضعيفة " (6640) [و " ضعيف الترغيب والترهيب " (1/438) ] . (3) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. رواه عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، ورواه عنه خمسة من الثقات: الزهري، ويحيى بن أبي كثير، ومحمد بن عمرو، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وعمرو بن دينار. أما حديث الزهري: فأخرجه البخاري في " صحيحه " (9/56 و 57 و 13/392) وفي " أفعال العباد " (79) ، ومسلم (2/192) ، والنسائي (1/157) ، والدارمي (2/472) ، وابن نصر (55) ، والطحاوي في " المشكل " (2/127) ، {وابن منده في " التوحيد " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 ..............................................................................   (81/1) = [173/407] } ، والبيهقي (2/54) ، وأحمد (2/271 و 285) من طرق عنه. ومن هذا الوجه أخرجه ابن جرير الطبري، وفيه الزيادة الأولى باللفظين - كما في " الفتح " (9/58) -. وإسناده صحيح - كما قال المنذري في " الترغيب " (2/415) -، وزاد البخاري في رواية، والدارمي، وأحمد في آخر الحديث: وقال صاحبٌ له: يريد: " يجهر به ". قال الحافظ: " الضمير في (له) لأبي سلمة، والصاحب المذكور هو: عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب؛ بَيَّنَهُ الزُّبيَدي عن ابن شهاب في هذا الحديث. أخرجه ابن أبي يحيى الذُّهْلي في " الزُّهْريات " من طريقه بلفظ: " ما أذن الله بشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن ". قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الحميد بن عبد الرحمن عن أبي سلمة: " يتغنى بالقرآن ": " يجهر به ". فكأن هذا التفسير لم يسمعه ابن شهاب من أبي سلمة، وسمعه من عبد الحميد عنه ". قلت: وهي زيادة ثابتة في غير رواية الزهري عن أبي سلمة - كما يأتي -. وأما حديث يحيى بن أبي كثير: فأخرجه مسلم بلفظ: " كأذنه " (*) .. بدل: " ما أذن ". وفيه الزيادة الثانية باللفظ الأول. وأما حديث محمد بن عمرو: فأخرجه مسلم، والدارمي (1/349) ، و {ابن   (*) {وابن منده في " التوحيد " [من طريقه بلفظ: " إِذْنَه "] } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 ..............................................................................   منده} ، وأحمد (2/450) بلفظ يحيى تماماً. وأما حديث محمد بن إبراهيم التيمي: فأخرجه البخاري (13/444 - 445) وفي " أفعال العباد " أيضاً، ومسلم، وأبو داود (1/231 - 232) ، والنسائي، و {ابن منده} ، والبيهقي، وفيه الزيادة الأولى باللفظ الأول. وفيه أيضاً الزيادة الأخيرة. وأما حديث عمرو بن دينار: فرواه ابن أبي داود، والطحاوي - كما في " الفتح " (9/58) -، وفيه الزيادة الأولى. (فائدة) : وأما الحديث الذي رواه الطبراني في " الأوسط " عن جابر مرفوعاً بلفظ: " إن الله لم يأذن لمترنم بالقرآن ". ففي إسناده سليمان بن داود الشَّاذَكُوني، وهو كذاب - كما قال الهيثمي في " المجمع " (7/170) -. (تنبيه) : قد أخرج البخاري الحديث (13/429 - 430) ، والطحاوي (2/129) ، وكذا الخطيب في " تاريخه " (1/394 - 395) من طريق أبي عاصم: أخبرنا ابن جُرَيج: أخبرنا ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن ". وزاد غيره: " يجهر به ". وهو في " المسند " (2/285) من طريق عبد الرزاق ومحمد بن بكر قالا: أنا ابن جُريج به بلفظ: " لم يأذن الله لشيء ... " الحديث. وكذلك رواه غير من ذكرنا عن ابن جُريج. قال الحافظ (13/429) : " والحديث واحد، إلا أن بعضهم رواه بلفظ: " ما أذن الله ". وبعضهم رواه بلفظ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 ..............................................................................   " ليس منا ". قلت: والصواب: الأول. قال الخطيب - بعد أن ساق الحديث -: " قال أبو بكر النيسابوري: وقول أبي عاصم فيه: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " وهم من أبي عاصم؛ لكثرة من رواه عنه هكذا ". يعني: باللفظ الأول. قال الخطيب: " روى هذا الحديث عبد الرزاق بن همام وحجاج بن محمد عن ابن جريج عن ابن شهاب عن أبي سلمة. وكذلك رواه الأوزاعي، وعمرو بن الحارث، ومحمد بن الوليد الزُّبيَدي، وشعيب بن أبي حمزة، ومَعْمَر بن راشد، ومعاوية بن يحيى الصَّدَفي، والوليد بن محمد المُوَقِّري عن الزهري، واتفقوا كلهم - وابن جريج منهم - على أن لفظه: " ما أذن الله ... " إلخ. وأما المتن الذي ذكره أبو عاصم؛ فإنما يُروى عن ابن أبي مليكة عن ابن نَهِيك عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". قلت: وهو الحديث الذي قبل هذا (1) . [انظر (ص 580) ، وتتمة البحث تأتي (ص 588) ] .   (1) { (تنبيه) : عزا حديث أبي داود هذا ابنُ الأثير في " جامع الأصول " للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فعلق عليه الأستاذ الأخ عبد القادر الأرناؤوط ومن يعاونه؛ فقالوا (2/457) : " وقد أبعد الألباني (!) النُّجْعَة في كتابه " صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (ص 106) ؛ فعزاه إلى أبي داود ". يشيران بذلك إلى أنه ليس من صنيع أهل العلم أن يُعزى الحديث إلى غير " الصحيحين " وقد أخرجه أحدهما. وجواباً عليه أقول: إن ما أشارا إليه حق وصواب - بغض النظر عن قصدهما بما قالاه -، ولكن ينبغي أن يعلما أنه = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 ..............................................................................   .........................................   = ما كان علي خافياً منذ ألفت هذا الكتاب المبارك - إن شاء الله تعالى - أن البخاري أخرجه من حديث أبي هريرة، ولكني تركت عزوه إليه عمداً؛ لا جهلاً، أو على الأقل سهواً؛ كما قد يذهبان إليه، ولو كان الأمر كما قد يظن ظان؛ لكان في هذه المدة التي مضت على طبعات الكتاب ما يكفي ليتنبه فيها الساهي! أو يتعلم الجاهل! ولكن لم يكن شيء من ذلك والحمد لله؛ فإني كنت على علم أن أحد رواته - وهو أبو عاصم الضَّحَّاك بن مَخْلَد النبيل، وهو ثقة - أخطأ في روايته الحديث عن أبي هريرة؛ فإنه رواه عن ابن جُريج عن ابن شهاب عن أبي سلمة عنه مرفوعاً به. وبيان ذلك: أن جماعة من الثقات قد رووه عن ابن جريج أيضاً بالسند المذكور عن أبي هريرة مرفوعاً، لكن بلفظ: " ما أذن الله لشيء ... " الحديث. وتابع ابنَ جريج على هذا اللفظ جمعٌ أكثرُ من الثقات؛ كلهم رووه مثله عن الزهري به. وتابع الزهريَّ عليه يحيى بن أبي كثير، ومحمد بن عمرو، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وعمرو ابن دينار - وكلهم ثقات أيضاً -؛ قالوا جميعاً: عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. فاتفاق هؤلاء الثقات الأثبات بهذا الإسناد الواحد عن أبي هريرة على رواية الحديث عنه باللفظ الثاني؛ أكبر دليل على أن تفرد أبي عاصم بروايته باللفظ الأول إنما هو خطأ بَيَّن منه، وهذا هو (الحديث الشاذ) المعروف وصفُه عند العلماء؛ ولذلك جزم الحافظ أبو بكر النيسابوري على أن أبا عاصم قد وهم في هذا اللفظ؛ قال: " لكثرة من رواه عن ابن جريج باللفظ الثاني ". قلت: ولكثرة من رواه عن الزهري به، وكثرة من تابعه عليه عن أبي سلمة كما ذكرت؛ ولذلك تابع الخطيب البغدادي أبا بكر النيسابوري على ما نقلته عنه، وأشار ابن الأثير في " جامعه "، ثم الحافظ ابن حجر في " الفتح " (13/429) إلى توهيم هذا اللفظ أيضاً إشارةً لطيفة قد لا يتنبه لها البعض، ولو تنبه؛ فلربما لم يكن عنده من الجرأة العلمية ما يُشَجِّعه على أن يخطِّئ راوياً من رواة " الصحيح ". هذا خلاصة التحقيق الذي كنت كتبته في " الأصل " مند نحو عشرين سنة؛ رأيت أنه لا بد من ذكرها؛ ليعلم كل منصف إن كنت أنا الذي (قد أبعدت النُّجعة) ؛ أم أن غيري هو الذي لم يحسن النُّجعة حينما رد عليّ بما هو خطأ عند أهل العلم بالحديث، فأراد مني أن أشاركه في خطئه، وأن أقره ... والله المستعان. = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 ..............................................................................   وقوله: " يتغنى بالقرآن "؛ اختُلف في المراد من (التغني) على خمسة أقوال؛ ذكرها في " الفتح "، والصحيح - كما قال النووي في " شرح مسلم " - أنه: تحسين الصوت، قال: " وهو قول أكثر العلماء من الطوائف وأصحاب الفنون ". ويؤيده قوله: " يجهر به ". وكذا قوله: " حسن الترنم ". فإن الترنم - كما قال الطبري - لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القارئ، وطرَّب به. ولذلك قال الحافظ: " وظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ". قال: " ولا شك أن النفوس تميل إِلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم؛ لأن للتطريب تأثيراً في رقة القلب، وإجراء الدمع ". اهـ. وقال ابن القيم (1/193) : " وذلك عَوْنٌ على المقصود، وهو بمنزلة الحلاوة التي تُجعل في الدواء؛ لتُنفِذه إلى موضع الداء، وبمنزلة الأفاويه والطِّيب الذي يُجعل في الطعام؛ لتكون الطبيعة أدعى له قَبُولاً، وبمنزلة الطِّيب والتحلِّي وتجمُّل المرأة لبعلها؛ ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح ". قال السيد رشيد رضا رحمه الله: " كثيراً ما رأينا بعض أدباء النصارى يرغبون في سماع القرآن من القراء المجودين، ويعترفون بقوة تأثيره في القلوب. وفي " الصحيح " أن المشركين كانوا يؤذون أبا بكر رضي الله عنه، ويمنعونه من الصلاة في المسجد الحرام، ثم حاولوا منعه من رفع صوته بالقرآن في بيته؛ لما رأوا من إقبال   = ثم رأيت الشيخ شعيباً الأرناؤوط - المتعاون مع الأخ عبد القادر على الانتقاد المردود عليه بما تقدم من التحقيق الذي قد لا يوجد في غير هذا المكان - قد تجاهله ولم يستفد منه شيئاً في تعليقه على كتاب " شرح السنة " (4/485) للبغوي؛ حيث أقره على تصحيحه لحديث أبي هريرة المعلول بشهادة من تقدم من الحفاظ! [من " الصفة " المطبوع (ص 125 - 127) بتصرف يسير] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 ..............................................................................   الناس - ولا سيما النساء، والأولاد المُدْرِكين - عليه، وتأثير قراءته في نفوسهم. وقد أدرك بعض علماء الإفرنج ما كان لتلاوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقرآن من التأثير العظيم في جذب العرب إلى الإسلام، واعترف بأنه كان أشد تأثيراً من جميع معجزات الأنبياء في هداية الناس ". اهـ. ثم قال الحافظ: " وكان بين السلف اختلاف في جواز القراءة بالألحان. أما تحسين الصوت وتقديم حَسَنِ الصوت على غيره؛ فلا نزاع في ذلك ". ثم ذكر أقوال العلماء في القراءة بالألحان، وحكى جوازه عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهو المنصوص للشافعي، ونقله الطحاوي عن الحنفية. ثم قال: " ومحل هذا الاختلاف إذا لم يختل شيء من الحروف عن مخرجه، فلو تغير - قال النووي في " التبيان ": - أجمعوا على تحريمه ". اهـ. وقد ذكر ابن القيم في " الزاد " أقوال الفريقين المبيحين للقراءة بالألحان والمانعين (1/191 - 195) ، ثم قال: " وفصل النزاع أن يقال: التطريب والتغنِّي على وجهين: أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلُّف، ولا تمرين وتعليم؛ بل إذا خُلِّيَ وطَبْعَه، واسترسلت طبيعته؛ جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، وإن أعان طبيعتَه فضلُ تزيين وتحسين؛ كما قال أبو موسى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو علمتُ أنك تسمع؛ لحبّرتُه لك تحبيراً. والحزين، ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله، وتستحليه؛ لموافقته الطبع، وعدم التكلف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 ..............................................................................   والتصنع؛ فهو مطبوع لا متطبع، وكَلِف لا متكلِّف. فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه؛ وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به السامع والتالي، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها. الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن؛ كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف؛ فهذه هي التي كرهها السلف، وعابوها، وذموها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها. وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه. وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعاً أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة؛ التي هي إيقاع، وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويُسَوِّغوها، ويعلم قطعاً أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويَحَسِّنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجى تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر [مركوز] في الطباع تقاضيه، ولم يَنْهَ عنه الشارع، مع شدة تقاضي الطباع له؛ بل أرشد إليه، وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به ". وقال: " قالوا: ولا بدَّ للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء؛ فعُوِّضَت عن طرب الغناء بطرب القرآن، كما عُوِّضت عن كل محرم ومكروه بما هو خير لها منه؛ كما عُوِّضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة؛ التي هي محض التوحيد والتوكل، وعن السِّفاح بالنكاح، وعن القمار بالمراهنة بالنِّصَال وسباق الخيل، وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني، ونظائره كثيرة جداً ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 و " قال لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: " لو رأيتَني وأنا أستمع لقراءتك البارحة! لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير (1) آل داود ". [فقال أبو موسى: لو علمتُ مكانك؛ لحبّرت (2) لك تحبيراً] " (3) .   (1) قال العلماء: المراد بالمزمار هنا: الصوت الحسن. وأصل الزمر: الغناء. وآل داود: هو داود نفسه. وآل فلان: قد يطلق على نفسه، وكان داود صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسن الصوت جداً. ذكره النووي في " شرح مسلم ". (2) يريد: تحسين الصوت وتحزينه. يقال: حبَّرت الشيء تحبيراً؛ إذا حسنته - كما في " النهاية " -. قال الحافظ ابن كثير: " دل هذا على جواز تعاطي ذلك وتكلفه، وقد كان أبو موسى - كما قال عليه الصلاة والسلام - قد أُعطي صوتاً حسناً، مع خشية تامة، ورقة أهل اليمن؛ فدل على أن هذا من الأمور الشرعية ". (3) وهو من حديثه. أخرجه البخاري (9/76) وفي " أفعال العباد " (79) ، ومسلم (2/193) ، والترمذي (2/318 - طبع بولاق) - وقال: " حسن صحيح ". كما في نسخة - هو، والبخاري عن بُريد بن عبد الله بن أبي بُردة، ومسلم عن طلحة - وهو: ابن يحيى -، واللفظ له؛ كلاهما عن أبي بُردة عن أبي موسى [دون الزيادة] . وأخرجه الحاكم (3/466) من طريق خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بُردة عن أبي بُردة بن أبي موسى قال: مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي موسى ذات ليلة ومعه عائشة، وأبو موسى يقرأ، فقاما؛ فاستمعا لقراءته، ثم مضيا، فلما أصبح أبو موسى، وأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مررت بك يا أبا موسى! البارحة وأنت تقرأ؛ فاستمعنا لقراءتك ". فقال أبو موسى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 ..............................................................................   يا نبي الله! لو علمت بمكانك؛ لحبّرت لك تحبيراً. وقال الحاكم: " صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي. قلت: خالد هذا أورده الذهبي نفسه في " الميزان "، وقال: " ضعفه أبو زُرْعة والنسائي، وهو من أولاد أبي موسى رضي الله عنه. وقال أبو حاتم: ليس بقوي، يكتب حديثه. وقال أبو داود: متروك الحديث. وهذا تجاوز في الحد؛ فإن الرجل قد حَدَّثَ عنه أحمد بن حنبل ومسدد؛ فلا يستحق الترك ". اهـ. فالرجل ضعيف؛ ليس بالقوي، ولا بالمتروك؛ فمثله لا يصح حديثه. ومن طريقه رواه الطبراني؛ كما في " المجمع " (9/360) ، وقال: " وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله على شرط " الصحيح " ". قلت: لكنه يتقوى بحديث بريدة الآتي. وعزاه الحافظ في " الفتح " (9/76) لأبي يعلى من طريق سعيد بن أبي بردة به. وسكت عليه. وللحديث شواهد: 1- عن بُرَيْدة بن الحُصيب. أخرجه مسلم (2/192 - 193) ، والدارمي (2/473) ، {وعبد الرزاق في " الأمالي " (2/44/1) = [69/89] } ، والطحاوي (2/59) ، وأحمد (5/349) ، وأبو نعيم في " الحلية " (1/258) عن مالك بن مِغْوَل عن ابن بُريدة عنه بلفظ: " لقد أوتي أبو موسى ... " الحديث مثله. ورواه الرَّويَاني من هذا الطريق نحو سياق سعيد بن أبي بُردة، وقال فيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 ..............................................................................   لو علمت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمع قراءتي؛ لحبرتها تحبيراً. 2- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول لأبي موسى - وكان حسن الصوت بالقرآن -: " لقد أوتي هذا ... " الحديث. وهذا مرسل. أخرجه الدارمي (2/472) عن يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة به. وقد صح موصولاً؛ فأخرجه البخاري في " أفعال العباد " (79) عن إسحاق بن راشد، والنسائي (1/157) ، والطحاوي في " المشكل " (2/58) عن عمرو بن الحارث، وأحمد (2/369) عن محمد بن أبي حفصة؛ ثلاثتهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع قراءة أبي موسى؛ فقال: ... فذكره. وهذا سند صحيح على شرطهما. وقد تابعه محمد بن عمرو عن أبي سلمة به. أخرجه الدارمي (2/473) ، وأحمد (2/354 و 450) ، وكذا ابن ماجه (1/403) . وإسناده حسن. وللزهري فيه إسناد آخر؛ وهو: 3- أخرجه النسائي، والدارمي (1/349) ، وابن نصر (54) ، وكذا الطحاوي، وأحمد (6/37) عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة به. وقد تابعه معمر عن الزهري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 ..............................................................................   أخرجه النسائي، والطحاوي، وأحمد (6/167) . وهذا صحيح أيضاً كالأول. 4- عن البراء بن عازب. أخرجه البخاري في " أفعال العباد " (79) ، والطحاوي عن قَنَان بن عبد الله النَّهْمي عن عبد الرحمن بن عوسجة عنه به. وهذا سند حسن. رجاله ثقات؛ غير قَنَان هذا - وهو بنون خفيفة -؛ قال ابن معين: " ثقة ". وذكره ابن حبان في " الثقات ". وقال النسائي: " ليس بالقوي ". وعزاه الحافظ لأبي يعلى، وسكت عليه، وكذا عزاه شيخه الهيثمي (9/ 360) لأبي يعلى، وقال: "ورجاله وُثِّقوا، وفيهم خلاف ". وفي الباب عن سلمة بن قيس. رواه الطبراني، والطحاوي (59) عن شَرِيك بن عبد الله النخَعي عن مالك بن مِغْوَل عن أبي إسحاق عنه بإسناد جيد. وعن أنس. رواه أبو يعلى. وإسناده حسن. ورواه ابن سعد - كما في " الفتح " - بلفظ: أن أبا موسى قام ليلة يصلي، فسمع أزواجُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته، وكان حلو الصوت؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 ..............................................................................   فقمن يستمعن. فلما أصبح؛ قيل له. فقال: لو علمت؛ لحبرته لهن تحبيراً. وإسناده على شرط مسلم. قلت: وهو في " مختصر قيام الليل " (55) بلفظ: لحبرت لكن تحبيراً، ولشوَّقْتُكن تشويقاً. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 الفَتْحُ على الإمام وسَنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفتح على الإمام إذا لُبِسَتْ عليه القراءةُ؛ فقد " صلى صلاة، فقرأ فيها، فلُبس عليه، فلما انصرف؛ قال لأُبَيٍّ: " أصليتَ معنا؟ ". قال: نعم. قال: " فما منعك [أن تفتح علي] ؟! " " (1) .   (1) هذا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه أبو داود (1/144) ، {وابن عساكر (2/296/2) } ، والطبراني في " الكبير "، وعنه الضياء المقدسي في " المختارة " من طريق محمد بن شعيب: أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر عن سالم بن عبد الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى صلاة ... الحديث. وهذا سند صحيح. رجاله كلهم ثقات. وقال النووي (4/241) : " صحيح كامل الصحة، وهو حديث صحيح ". اهـ. وقال الخطابي في " المعالم " (1/216) : " إسناده جيد ". وأخرجه ابن حبان أيضاً - كما في " التلخيص " (4/118) -. وله شاهد من حديث المُسَوَّر بن يزيد المالكي قال: شهدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الصلاة، فترك شيئاً لم يقرأ، فقال له رجل: يا رسول الله! تركت آية كذا وكذا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هلا ذكَّرْتَنيها ". أخرجه أبو داود، وكذا البخاري في " جزء القراءة " (17) . قال النووي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 ..............................................................................   " رواه أبو داود بإسناد جيد، ولم يضعفه، ومذهبه: أن ما لم يضعفه؛ فهو حسن عنده ". قلت: ليست هذه القاعدة المشتهرة عن أبي داود بِمُطَّرِدة عند المحققين من العلماء؛ فكم من حديث سكت عليه أبو داود هو ضعيف عندهم، حتى إن النووي نفسه ليقول في حديث نقله في " المجموع " عن " السنن ": " وإنما سكت أبو داود عليه؛ لظهور ضعفه "! وهذا الحديث ظاهر الضعف؛ لأنه من طريق مروان بن معاوية عن يحيى الكَاهِلي عن المُسَوّر. ويحيى هذا هو: ابن كَثِير الكاهلي؛ لم يرو عنه غير مروان هذا؛ كما في " الميزان "، وقال: " وُثِّق ". وفيه إشارة إلى ضعف هذا التوثيق؛ وذلك لأنه من توثيق ابن حبان، وهو مشهور عند العلماء بتساهله في ذلك؛ فهو كثيراً ما يوثق المجهول عند غيره من المحدثين، ولا مجال الآن لتفصيل القول في ذلك. ثم قال الذهبي: " قال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائي: ضعيف ". وقال الحافظ في " التقريب ": " لين الحديث ". وقال في ترجمة المُسَوَّر هذا من " التهذيب ": " وقال الأمير ابن ماكولا: هو بضم الميم، وفتح السين، وتشديد الواو. ثم حكى عن البخاري أنه قال: له حديث واحد في الصلاة. لا يعرف ". اهـ. ويعني حديثه هذا. وأما ما أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "، وأبو داود في " سننه " من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي مرفوعاً: " يا علي! لا تفتح على الإمام في الصلاة ". فهو ضعيف. وقال النووي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 ..............................................................................   " هو ضعيف جداً، لا يجوز الاحتجاج به؛ لأن الحارث الأعور ضعيف باتفاق المحدثين، معروف بالكذب. ولأن أبا داود قال في هذا الحديث: لم يسمع أبو إسحاق من الحارث إلا أربعة أحاديث؛ ليس هذا منها ". قال الحافظ: " وقد صح عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال: قال علي: إذا استطعمك الإمام؛ فأطعمه ". قال الخطابي: " يريد: إذا تعايا في القراءة؛ فَلَقِّنوه ". ثم إن لحديث ابن عمر شاهداً آخر. رواه الدارقطني (153) ، والطبراني في " الأوسط " - كما في " المجمع " (2/69) -. وإسناده ضعيف. وأخرج الدارقطني (153) ، والحاكم (1/276) من طريق يحيى بن غَيْلان: أنا عبد الله بن بَزِيع: ثنا حُميد عن أنس قال: كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الحاكم: " صحيح. وعبد الله بن بَزِيع: ثقة ". ووافقه الذهبي. قلت: كلا؛ فعبد الله بن بَزِيع هذا: قال الدارقطني: " لين ". وقال الساجي، وابن عدي: " ليس بحجة ". وقال البيهقي في " السنن " (6/108) : " هو ضعيف ". وقد أورده الذهبي في " الميزان "، وذكر فيه كلام الدارقطني، وابن عدي، ولم يزد على ذلك، ثم ساق له حديثاً منكراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 ..............................................................................   ثم أخرجه الحاكم، والدارقطني (154) من طريق جاريةَ بن هَرِم عن حميد به بلفظ: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلقن بعضهم بعضاً في الصلاة. ذكره الحاكم شاهداً، وهو ضعيف أيضاً. جارية بن هرم هذا: قال الذهبي: " هالك ". * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 الاستعاذةُ والتَّفْلُ في الصلاة لِدفع الوسوسة وقال له عثمان بن أبي العاص (1) رضي الله عنه: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال (2) بيني وبين صلاتي وقراءتي؛ يَلبِسُها (3) عليَّ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذاك شيطان يقال له: خِنْزَبٌ (4) ، فإذا أحسسته؛ فتعوذ بالله منه، واتفُل (5) على يسارك ثلاثاً ". قال: ففعلت ذلك؛ فأذهبه الله عني.   (1) هو من حديثه. أخرجه مسلم (7/21) ، والطحاوي في " مشكل الآثار " (1/160) ، والحاكم (4/219) وصححه، والطبراني في " الكبير "، وأحمد (4/216) من طرق عن سعيد الجُريري عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير عنه. قال النووي في " شرح مسلم ": " وفي هذا الحديث استحباب التعوذ من الشيطان عند وسوسته، مع تفل عن اليسار ثلاثاً ". (2) أي: نكَّدني فيها، ومنعني لذتها، والفراغ للخشوع فيها. (3) بفتح أوله، وكسر ثالثه؛ أي: يخلطها ويشككني فيها. (4) بخاء معجمة مكسورة، ثم نون ساكنة، ثم زاي مكسورة ومفتوحة. (5) من (التَّفْل) . قال في " النهاية ": " هو نفخ معه أدنى بزاق، وهو أكثر من النفث ". * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 الركوع ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من القراءة؛ سكت سكتةً (1) ، ثم رفع يديه (2) ؛ على الوجوه المتقدمة في (تكبيرة الافتتاح) وكَبَّر، وركع.   (1) يدل على ذلك ما سبق من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قراءة القرآن، وأنه كان يقف عند كل آية. {وهذه السكتة قدرها ابن القيم وغيره بقدر ما يتراد إليه نَفَسُهُ} . وقد جاء في ذلك حديث صريح من رواية سَمُرة بن جُنْدُب: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان له سكتتان: سكتة حين يكبر، وسكتة حين يفرغ من القراءة عند الركوع. ولكنه ليس على شرطنا - كما سبق بيانه في (القراءة) -، فتركناه، واستغنينا عنه بما ذكرنا من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القراءة. وقد أتفق الشافعية على استحباب هذه السكتة - كما في " المجموع " (3/395) -، واحتجوا على ذلك بحديث سَمُرة هذا. قال الترمذي (2/31) : " وبه يقول أحمد، وإسحاق، وأصحابنا. قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن السكتتين ... " إلخ. ثم قال النووي: " قال الشيخ أبو محمد في " التبصرة ": رُوي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الوصال في الصلاة. وفسَّروه على وجهين: أحدهما: وصل القراءة بتكبيرة الركوع، يكره ذلك، بل يفصل بينهما. والثاني: ترك الطمأنينة في الركوع والاعتدال، والسجود والاعتدال؛ فيحرم أن يصل الانتقال بالانتقال، بل يسكن للطمأنينة " انتهى. والحديث المذكور غريب، أورده الغزالي في " الإحياء " وقال مخرجه العراقي (1/139) : " عزاه رَزِين إلى الترمذي، ولم أجده عنده ". (2) اعلم أنه قد تواتر هذا الرفع عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذا الرفع عند الاعتدال من الركوع؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 ..............................................................................   رواه جمع من الصحابة، فنسوق أحاديث من صحت الأسانيد إليهم، ثم نذكر مذاهب العلماء في ذلك: أولاً: عبد الله بن عمر رضي الله عنه. وله عنه طرق: الأول: عن الزهري عن سالم بن عبد الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبَّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع؛ رفعهما كذلك ... الحديث. وقد مضى بنحوه في (الرفع عند تكبيرة الإحرام) [ص 193] . أخرجه البخاري (2/174 و 175 و 176) من " صحيحه " وفي " جزء رفع اليدين " (ص 5 و 7 و 16 و 20) ، ومسلم (2/6 - 7) ، وأبو داود (1/114 - 115) ، والنسائي (1/140 و 158 و 161 و 162 و 165) ، والترمذي (2/35) - وقال: " حسن صحيح " -، والدارمي (2/285) ، وابن ماجه (1/281) ، ومالك (1/97) ، وعنه محمد (87) ، والدارقطني (107 - 108) ، والطحاوي (1/131) ، والبيهقي (2/23 و 26 و 69 و 83) ، وأحمد (2/8 و 18 و 47 و 62 و 147) ، والطبراني في " الصغير " (ص 240) من طرق عنه. وقد تابعه جابر الجُعْفي: عند الطحاوي، وأحمد (2/45) قال: سمعت سالم بن عبد الله به مختصراً. وزاد أحمد (2/133 - 134) ، وأبو داود، والدارقطني في رواية عن الزهري: ويرفعهما في كل ركعةٍ وتكبيرةٍ كبَّرها قبل الركوع، حتى تنقضي صلاته. وإسنادها صحيح على شرط الشيخين. الطريق الثاني: عن عبيد الله عن نافع: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 ..............................................................................   أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة؛ كبر، ورفع يديه، وإذا ركع؛ رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ رفع يديه، وإذا قام من الركعتين؛ رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر إلى نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرجه البخاري في " صحيحه " (2/176) وفي " رفع اليدين " (16) ، وأبو داود (1/118) ، والبيهقي (2/136) . وقد تابعه عبد الله - وهو المُكَبَّر - العمري عن نافع. أخرجه البخاري (20) . وتابعه أيوب عن أبي تَمِيمةَ. أخرجه البخاري (17) ، والبيهقي (2/24 و 70) ، وأحمد (2/100) من طريق حماد بن سلمة عنه به. وعلقه في " الصحيح "، دون قوله: وإذا قام من الركعتين. وكذلك رواه موسى بن عُقبة: عند البيهقي (2/70 - 71) ، وعلقه البخاري. وصالح بن كيسان: عند أحمد (2/132) ، وقد مضى لفظه [ص 193] . الطريق الثالث: عن محمد بن جعفر: ثنا شعبة عن الحكم قال: رأيت طاوساً حين يفتتح الصلاة يرفع يديه، وحين يركع، وحين يرفع رأسه من الركوع. فحدثني رجل من أصحابه؛ أنه يحدثه عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرجه أحمد (2/44) . ورجاله رجال الشيخين؛ غير شيخ الحكم؛ فلم يسم. ورواه البيهقي (2/74) من طريق آدم بن أبي إياس: ثنا شعبة به. لكنه قال: عن ابن عمر عن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 ..............................................................................   ثم قال البخاري في " جزئه ": " وزاد وكيع عن العُمَري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يرفع يديه إذا ركع، وإذا سجد ". قال البخاري: " والمحفوظ ما روى عبيد الله، وأيوب، ومالك، وابن جريج، وعِدَّة من أهل الحجاز وأهل العراق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه في رفع الأيدي عند الركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع. ولو صح حديث العُمَري عن نافع عن ابن عمر؛ لم يكن مخالفاً للأول، فلو ثبت؛ لاستعملنا كليهما، وليس هذا من الخلاف الذي يخالف بعضهم بعضاً؛ لأن هذه زيادة في الفعل، والزيادة مقبولة؛ إذا ثَبَتَ ". قلت: وهذه الزيادة صحيحة ثابتة من غير طريق العمري هذا، وهو ضعيف؛ لسوء حفظه. وسيأتي ذكر طرقها في موضعها إن شاء الله تعالى. ثانياً: عن مالك بن الحُوَيرث. وله عنه طريقان: الأول: عن أبي قِلابة عنه. بنحو حديث ابن عمر في رواية حماد. أخرجه البخاري (2/175) ، ومسلم، وغيرهما. وقد مضى لفظه في (رفع اليدين عند الإحرام) . الطريق الثاني: عن نَصْر بن عاصم عنه. أخرجه مسلم وغيره، ومضى أيضاً. وقد أخرجه الطيالسي أيضاً (176) . ثالثاً: عن وائل بن حُجْر. أخرجه مسلم وغيره، وقد مر لفظه هناك، وذكرنا له طرقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 ..............................................................................   وقد أخرجه البخاري في " جزئه " (6 و 9 و 10 و 11 و 19) . رابعاً: عن أبي حُميد الساعدي. في عشرة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم أبو قتادة، قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: فلم؟ فوالله! ما كنت بأكثرنا له تبعاً، ولا أقدمنا له صحبة! قال: بلى. قالوا: فاعرض. قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة؛ يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يقرّ كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ، ثم يكبر، فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع، ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل؛ فلا يَصُبُّ رأسه ولا يُقْنع، ثم يرفع رأسه، فيقول: " سمع الله لمن حمده ". ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما مِنْكَبَيْهِ معتدلاً، ثم يقول: " الله أكبر ". ثم يهوي إلى الأرض؛ فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه، ويثني رجله اليسرى، فيقعد عليها، ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ويسجد، ثم يقول: " الله أكبر ". ويرفع، ويثني رجله اليسرى، فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك. ثم إذا قام من الركعتين؛ كبر، ورفع يديه حتى يحاذي بهما مِنْكَبَيْه؛ كما كبر عند افتتاح الصلاة. ثم يصنع ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم؛ أَخَّرَ رجله اليسرى، وقعد متوركاً على شقه الأيسر. قالوا: صدقت؛ هكذا كان يصلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه البخاري في " جزئه " (5) ، وأبو داود واللفظ له، وغيرهما - كما سبق قبيل (وضع اليمنى على اليسرى) -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 ..............................................................................   وسنده صحيح على شرط مسلم - كما قال النووي (3/407 و 443) -. وضعفه الطحاوي (1/134) بأمرين: الأول: ضعف عبد الحميد هذا (*) . والثاني: أن محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمعه من أبي حميد؛ بينهما رجل مجهول. وهدا ليس بشيء: أما أولاً؛ فإن عبد الحميد هذا قد وثقه جمهور الأئمة؛ كأحمد، وابن معين وغيرهما، ومن ضعفه - كيحيى بن سعيد -؛ لم يأتِ بحجة، بل ظاهر ما نقل عنه من التضعيف أنه لكونه كان يرى القدر. وهذا ليس بعلة قادحة - كما لا يخفى -. ومثله قول ابن حبان: " ربما أخطأ ". فمن ذا الذي لا يخطئ ولو قليلاً؟! ولذا أخرج له مسلم، وكفى به توثيقاً. وأما ثانياً؛ فإن محمد بن عمرو قد صرح بسماعه من أبي حميد - كما سبق -؛ فلا يُلتفت بعد ذلك إلى القول بأنه لم يسمعه منه، واحتجاج الطحاوي بما أخرجه (1/153) من طريق عَطَّاف بن خالد قال: ثني محمد بن عمرو بن عطاء قال: ثني رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوساً ... فذكر نحو حديث أبي عاصم سواء. لا يفيده شيئاً؛ لأن عَطَّاف بن خالد فيه كلام، ولم يحتج به أحد " الصحيحين ". وقد قال ابن حبان: " يروي عن الثقات ما لا يشبه حديثهم. لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما يوافق فيه الثقات ". وفي " التقريب ": " صدوق يخطئ ".   (*) يعني: الراوي عن محمد بن عمرو بن عطاء. انظر (ص 830) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 ..............................................................................   وقد خالفه من هو أوثق منه؛ منهم: عبد الحميد هذا، ومنهم: محمد بن عمرو بن حَلْحَلة عند البخاري (2/243) وغيره. وسيأتي لفظه إن شاء الله تعالى. نعم؛ أخرجه أبو داود (1/117) ، وكذا الطحاوي (1/153 و 2/405) من طريق الحسن بن الحُرِّ: ثني عيسى بن عبد الله بن مالك عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عباس - أو: عياش - بن سهل الساعدي: أنه كان في مجلس فيه أبوه - وكان من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي المجلس أبو هريرة، وأبو حُميد الساعدي، وأبو أُسَيد ... بهذا الخبر، يزيد وينقص. فقد تابع عَطَّافاً عيسى بنُ عبد الله هذا، وزاد عليه أن سَمَّى الرجل المبهم، ولكن عيسى بن عبد الله: قال ابن المديني: " مجهول ". ولذا قال في " التقريب ": " مقبول ". فثبت بذلك أنه لم تصح الرواية عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عباس ابن سهل؛ وعليه فلا يصح أن تكون رواية عيسى عن محمد هذا من (المزيد في متصل الأسانيد) - كما ذهب إليه الحافظ (2/244) -؛ لعدم ثبوت عدالة عيسى هذا. نعم؛ لرواية عباس بن سهل أصل، لكن من غير طريق محمد المذكور. فقد أخرجه البخاري في " جزئه " (5 - 6) ، وأبو داود، وابن ماجه (283) ، والطحاوي من طريق فُلَيح بن سليمان: ثني عباس بن سهل قال: اجتمع أبو حميد، وأبو أُسَيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو حميد: ... الحديث بنحوه. وقد أخرج الترمذي (2/45 - 46) قطعة منه - كما يأتي في (صفة الركوع) -، وصححه. وهذا سند صحيح على شرطهما. وفُليح إنما يُخشى من سوء حفظه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 ..............................................................................   وقد تابعه محمد بن إسحاق: عند البخاري، وابن خزيمة، وصرح هذا بسماع ابن إسحاق من عباس - كما في " الفتح " -. خامساً: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنحو حديث ابن عمر من الطريق الثاني. أخرجه البخاري (3 و 6) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزِّنَاد عن موسى بن عُقبة عن عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج عن عُبيد الله بن أبي رافع عنه. وهذا سند حسن. وقد أخرجه أبو داود وغيره، وسبق تخريجه في (الرفع) ، وصححه أحمد - كما تقدم هناك -. سادساً: عن أنس بن مالك: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا ركع. أخرجه ابن ماجه (1/284) ، والبخاري (6) ، والدارقطني (108) ، والمقدسي في " الأحاديث المختارة " من طريق عبد الوهاب الثَّقَفي: ثنا حُميد عنه. زاد الدارقطني والمقدسي: - وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد. قال في " الزوائد ": " إسناده صحيح. رجاله رجال " الصحيحين ". إلا أن الدارقطني أعلّه بالوقف، وقال: لم يروه عن حميد مرفوعاً غير عبد الوهاب، والصواب من فعل أنس. وقد رواه ابن خزيمة، وابن حبان في " صحيحيهما " ". قلت: وكذلك صَوَّبَ الطحاوي (1/134) أنه موقوف. سابعاً: عن جابر مثله. دون قوله: وإذا سجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 ..............................................................................   أخرجه ابن ماجه (1/284) من طريق إبراهيم بن طَهْمان عن أبي الزُّبير عنه. قال في " الزوائد ": " رجاله ثقات ". وكذا قال الحافظ في " الدراية " (86) . قلت: وهم من رجال " الصحيح " قال في " نصب الراية " (1/414 - 415) : " وأخرجه البيهقي في " الخلافيات " عن سفيان الثوري عن أبي الزُّبير به. ثم أخرجه عن إبراهيم بن طَهْمان به. قال: هكذا رواه ابن طَهْمان، وتابعه زياد بن سُوْقَة. وهو حديث صحيح، رواته عن آخرهم ثقات ". اهـ. قلت: لكن أبا الزُّبير مدلس، وقد عنعن، ولعله لذلك اقتصر الحافظ على قوله: " ورجاله ثقات " - كما سبق - ولم يصححه؛ إلا أن يكون صرح بالتحديث في بعض الطرق عند البيهقي. والله أعلم. ثامناً: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: هل أُريكم صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فكبر، ورفع يديه، ثم كبر، ورفع يديه للركوع، ثم قال: " سمع الله لمن حمده ". ثم رفع يديه. ثم قال: هكذا فاصنعوا، ولا يرفع بين السجدتين. أخرجه الدارقطني (109) من طريق النَّضْر بن شُمَيل، وزيد بن الحُبَاب عن حماد ابن سَلَمة عن الأزرق بن قيس عن حِطَّان بن عبد الله عنه. قلت: وهذا سند صحيح. وهكذا رواه النَّضْر وزيد عن حماد مرفوعاً. وخالفهما ابن المبارك؛ فرواه عن حماد به موقوفاً على أبي موسى. أخرجه البيهقي - كما في " نصب الراية " (1/415) -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 ..............................................................................   تاسعاً: عن أبي هريرة. وقد تقدم في (تكبيرة الإحرام) [ص 193] . وسنده ضعيف، لكن له طرق تقويه، وقد ذكرتها في (الرفع عند الهوي إلى السجود) . فراجعها. عاشراً: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: صليت خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. أخرجه البيهقي (2/73) ، وقال: " رواته ثقات ". وأقره ابن التركماني في " المنتقى ". فهؤلاء عشرة من الصحابة. يُضاف عليهم عشرة - أو تسعة - آخرون؛ وهم الذين جاء ذكرهم في حديث أبي حميد الرابع، وقد وافقهم جمع آخر من الصحابة، أعرضنا عن تخريج أحاديثهم؛ لأنها لا تخلو من مقال. ولم يصح ما يخالف هذه الأحاديث، إلا ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ألا أصلي لكم صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال علقمة: فصلى؛ فلم يرفع يديه إلا أول مرة. أخرجه أحمد (1/388) ، وكذا أبو داود (1/120) ، والترمذي (2/40) ، والنسائي (1/158) ، والطحاوي (1/132) ، والبيهقي (2/78) ، وابن حزم في " المحلى " (4/87) من طرق عن وكيع: ثنا سفيان عن عاصم بن كُلَيب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 ..............................................................................   وهذا سند صحيح. رجاله رجال مسلم. وقد حسنه الترمذي، وصححه ابن حزم، وخالفهم آخرون فضعفوه؛ كابن المبارك، والدارقطني، وابن حبان وغيرهم. والحق أنه صحيح ثابت، لا مطعن في إسناده، وإن كان يستغرب من ابن مسعود رضي الله عنه أن تخفى عليه هذه السنة مع قِدَمِ صحبته للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ومع ذلك؛ فليست هي أول سنة عملية خفيت عليه، بل لها أمثلة أخرى: منها: سنة الأخذ بالركب في الركوع؛ فكان رضي الله عنه ينكرها، ويذهب إلى التطبيق، مع ثبوت أنه منسوخ - كما يأتي بيانه قريباً -؛ ولذلك أجمع العلماء على رد ما رواه من التطبيق. واختلفوا في العمل بحديثه هذا؛ فذهب جمهور علماء الإسلام؛ فقهاؤهم ومحدثوهم في سائر الأقطار والأمصار إلى ترك العمل به، والأخذ بالأحاديث المذكورة المُثْبِتَةِ للرفع في هذين الموضعين عند الركوع والرفع منه، وهو مذهب مالك في آخر قوله، {وهو الذي مات عليه رحمه الله - كما رواه ابن عساكر (15/78/2) -} ، والشافعي، وأحمد وغيرهم. وخالفهم أكثر علماء الكوفة، ومنهم الإمام أبو حنيفة وأصحابه؛ فأعرضوا عن هذه الأحاديث، وأخذوا بحديث ابن مسعود هذا. وجرى بسبب هذا الخلافِ بين الفريقين نزاعٌ طويل بين أتباعهم ومقلديهم؛ كل ينتصر لإمامه، وما ذهب إليه. والأمر عندي أهون من ذلك؛ فقد ثبت الرفع عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتواتر - كما رأيت -، حتى قال ابن القيم في رسالة " الصلاة " (209) : " إنه صح ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما صح التكبير للركوع، بل الذين رووا عنه رفع اليدين هنا أكثر من الذين رووا عنه التكبير ". اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 ..............................................................................   فثبوت ذلك لا ينكره إِلا جاهل. وقد اعترف بذلك علماؤنا، لكنهم ذهبوا إلى أنها منسوخة، واحتجوا على ذلك بحديث ابن مسعود. ولا يخفى أن القواعد الأصولية المتفق عليها بين الحنفية ومخالفيهم تأبى القول بالنسخ؛ لأنهم قالوا: إنه لا يجوز القول بالنسخ ما أمكن الجمع بين المتعارضين. وهو ممكن هنا من وجهين: الأول: أن يقال: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع أحياناً، أو في غالب الأوقات، ويدع أحياناً. الثاني: أن يقال: المثبِتُ مقدم على النافي. وهي قاعدة أصولية أيضاً. وقال البخاري في " جزئه " (7) : " فإذا روى رجلان عن محدث، قال أحدهما: رأيته يفعل. وقال الآخر: لم أره. فالذي قال: رأيته فعل. فهو شاهد. والذي قال: لم يفعل. فليس هو بشاهد؛ لأنه لم يحفظ الفعل. وهكذا قال عبد الله بن الزبير لشاهدين شهدا أن لفلان على فلان ألف درهم بإقراره. وشهدا أنه لم يقر بشيء: يعمل بقول الشاهدين، ويسقط ما سواه. وكذلك قال بلال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في الكعبة. وقال الفضل بن العباس: لم يصل. وأخذ الناس بقول بلال؛ لأنه شاهد، ولم يلتفتوا إلى قول من قال: لم يصل. حين لم يحفظ ". اهـ. فهكذا قول من قال من الصحابة: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يديه. مقدم على قول من قال: لم يرفع. لأنه لم يحفظ ما حفظوه، لا سيما وهم جمع، وذاك فرد؛ وهو ابن مسعود. واستبعاد علمائنا رحمهم الله أن يخفى عليه ذلك لا يُجديهم نفعاً؛ لأن للمعارض أن يعكس ذلك؛ فيقول: وأبعد من ذلك أن يكون ابن مسعود علم النسخ الذي تدّعونه، ويخفى ذلك على جمهور الصحابة، وفيهم بعض الخلفاء الراشدين، فكانوا يعملون بالمنسوخ في زعمكم، ويروونه للأمة لتعمل به؛ لا سيما ابن عمر رضي الله عنه الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 ..............................................................................   كان إِذا رأى رجلاً لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع؛ رماه بالحصى. كما رواه البخاري (8) بسند صحيح (1) . فلو كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ترك ذلك؛ لما فعلوا ذلك. على أن ما استبعده علماؤنا، وفروا منه قد وقعوا فيه؛ فإنهم رووا التطبيق عن ابن مسعود، ثم تركوه إلى الأخذ بالأخذ بالركب؛ لأحاديث وردت في ذلك. والغريب أن هذه الأحاديث - التي ردوا بها تطبيق ابن مسعود - لا تبلغ قوتها قوة أحاديث الرفع - المعارضة لحديث ابن مسعود الفرد في ترك الرفع -. أفلا قالوا: إنه يستبعد أن يخفى على ابن مسعود الأخذ بالركب. فتركوا ذلك؛ لتركه له، وأخذوا بما رواه من التطبيق؟! كلا؛ لم يفعلوا ذلك، وأخذوا بالأحاديث الأخرى المعارضة لحديث ابن مسعود؛ فأصابوا، فكان عليهم أن يأخذوا أيضاً بأحاديث الرفع، ويتركوا حديث ابن مسعود في تركه. وهذا إلزام قوي لا مناص لهم من الأخذ به؛ لولا غَلَبة التقليد على أكثر الناس!   (1) ورواه عبد الله بن أحمد في " مسائل أبيه " (ص 70) ، والدارقطني (108) ، وزاد الأول: وأمره أن يرفع يديه. وقال: " سمعت أبي يقول: يروى عن عقبة بن عامر أنه قال في رفع اليدين في الصلاة: له بكل إشارة عشر حسنات ". قلت: رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (17/297/819) بلفظ: إنه يكتب في كل إشارة يشيرها الرجل بيده في الصلاة، لكل إصبع حسنة أو درجة. وإسناده حسن. وكذا قال الهيثمي (2/103) . ثم خرجته في " الصحيحة " (3286) . {قلت: ويشهد له الحديث القدسي: " ... من هَمَّ بحسنة، فعملها؛ كتبت له عشر حسنات؛ إلى سبع مئة ". رواه الشيخان. انظر " صحيح الترغيب " (18) } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 ..............................................................................   وقد احتج بعض علمائنا بحجة أخرى على النسخ؛ وهو حديث جابر بن سمرة مرفوعاً: " ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْسٍ؟! اسكنوا في الصلاة ". أخرجه مسلم وغيره - كما سيأتي في آخر الكتاب [ص 1033 - 1034]-. والاحتجاج به من أعجب الأشياء - كما قال النووي (3/403) -؛ لأن الحديث لم يرد في الرفع عند الركوع والرفع منه؛ بل ورد في رفع الأيدي حالة السلام من الصلاة؛ فإنهم كانوا يشيرون بها إلى الجانبين، فنهاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك - كما سيأتي منصوصاً عليه في الحديث نفسه -. وهذا لا خلاف فيه بين أهل الحديث، ومن له أدنى اختلاط بأهل الحديث - كما قال النووي أيضاً -. وقال البخاري في " جزئه " (13) : " فأما احتجاج من لا يعلم بهذا الحديث؛ فإنما كان هذا في التشهد لا في القيام ". قال: " ولا يحتج بهذا من له حَظٌّ من العلم. هذا معروف مشهور؛ لا اختلاف فيه، ولو كان كما ذَهَبَ إليه؛ لكان رفع الأيدي في تكبيرة الافتتاح، وأيضاً تكبيرات صلاة العيد منهياً عنها؛ لأنه لم يستثن رفعاً دون رفع ". قال: " فليحذر امرؤ أن يتقول على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يقل. قال الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ". اهـ. فقد تبين أن لا دليل لعلمائنا فيما ذهبوا إليه من النسخ. ومن اللطائف أن بعض المتأخرين المنصفين منهم قد عكس ذلك عليهم؛ ألا وهو أبو الحسن السندي الحنفي رحمه الله؛ حيث قال في " حاشيته على ابن ماجه ": الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 ..............................................................................   " قول من قال بالنسخ قول بلا دليل؛ بل لو فرض في الباب نسخ؛ لكان الأمر بعكس ما قالوا، فإن مالك بن الحويرث ووائل بن حُجْر - من رواة الرفع - ممن صلى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخر عمره؛ فروايتهما الرفعَ عند الركوع والرفع منه دليلٌ على تأخرِ الرفع، وبطلان دعوى النسخ، فإن كان هناك نسخ؛ فينبغي أن يكون المنسوخ ترك الرفع، كيف وقد روى مالك هذا جلسة الاستراحة، فحملوها على أنها كانت في آخر عمره في سن الكبر، فهي ليس مما فعلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصداً؛ فلا تكون سنة! وهذا يقتضي أن لا يكون الرفع الذي رواه ثابتاً لا منسوخاً؛ لكونه آخر عُمُرِه عندهم، فالقول بأنه منسوخ قريب من التناقض. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمالك وأصحابه: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". وبالجملة؛ فالأقربُ القول باستنان الأمرين، والرفع أقوى وأكثر ". اهـ. قلت: ولحديث ابن مسعود هذا ذهب ابن حزم إلى سُنِّيَّةِ هذا الرفع المختلف فيه، قال (4/88) : " ولولاه؛ لكان فرضاً على كل مُصَلٍّ أن يصلي كما كان - عليه الصلاة والسلام - يصلي، وكان - عليه الصلاة والسلام - يصلي رافعاً يديه عند كل خفض ورفع، ولكن لما صح خبر ابن مسعود؛ علمنا أن رفع اليدين فيما عدا تكبيرة الإحرام سنة وندب فقط ". اهـ. فجعلَ حديث ابن مسعود صارفاً للأمر في حديث مالك: " صلوا ... ". من الوجوب إلى السنية والاستحباب. هذا، والذي أعتقده أن أئمتنا الأولين - أبا حنيفة وغيره - لم تبلغهم تلك الأحاديث المتواترة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رفع اليدين في الموضعين المذكورين، ولو بلغتهم؛ لأخذوا بها، وتركوا حديث ابن مسعود؛ كما تركوا حديث التطبيق للأحاديث المعارضة لذلك. ويؤيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 ..............................................................................   ذلك أن أبا حنيفة رحمه الله لما سأله بعض المحدثين عن سبب تركه رفع اليدين؟ قال: " لأنه لم يصح فيه حديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". في حكاية ذكرها علماؤنا في كتبهم! فهل يعقل أن يقول عالم مثل أبي حنيفة هذا الجواب في حديث متواتر رواه عشرون من الصحابة، وعملوا به؟! كلا، ثم كلا. ولكن عذره في ذلك أنها لم تبلغه، ولم يكن عنده علم بها؛ فجاز له أن يقول: لم يصح فيه شيء. وبالتالي جاز له ترك العمل بها. لكن إذا جاز ذلك لأبي حنيفة وأمثاله. المتقدمين؛ فلن يجوز ذلك مطلقاً للمتأخرين من أتباعه الذين أطلعوا على هذه الأحاديث الكثيرة، وعلموا صحتها، وأنه لا ينهض شيء من الأخبار لمعارضتها، فهم إذا تركوها تعصباً لأبي حنيفة، وتقليداً له؛ فهم مع مخالفتهم للسنة الثابتة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مخالفون أيضاً لإمامهم؛ فإنه رضي الله عنه لأمثال هؤلاء وَجَّه تلك الأقوال المأثورة عنه رضي الله عنه؛ كقوله: " إذا صح الحديث؛ فهو مذهبي ". وقوله: " لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا ". فإذا كان رضي الله عنه لا يُحِل لأحد أن يفتي بقوله في مسألة إلا إذا علم دليله فيها؛ فكيف يجيز لأحد من أتباعه أن يفتي بقوله فيها وقد علم ضعف ما استند إليه بالنسبة للأدلة الصحيحة الأخرى - كما في مسألتنا هذه، وغيرها من المسائل الماضية والآتية -؟! فنحن نحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقنا لاتباع سنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونرجو منه تعالى أن يجزي خير الجزاء الإمام أبا حنيفة وغيره من الأئمة الذين وجهونا هذا الاتجاه الحسن نحو السنة؛ بأمثال هذه الأقوال الجوهرية الثمينة. فثبت بما ذكرنا أن من ترك السنة الثابتة لقول إمام؛ فهو مخالف له، وهو غير راضٍ عنه. ولذلك خالفه في هذه المسألة غير ما واحد من أتباعه المتقدمين والمتأخرين. وأقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 ..............................................................................   من وقفنا عليه منهم هو عصام بن يوسف: أبو عِصْمة البَلْخي، تلميذ أبي يوسف رحمه الله، المتوفى سنة (215) ؛ فقد أوردوه في تراجم الحنفية، وذكروا أنه كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه. وعلّق على ذلك العلامة أبو الحَسَنات اللَّكْنوي في كتابه " الفوائد البهية ": " يُعلم منه بطلان رواية مكحول عن أبي حنيفة: " أن من رفع يديه في الصلاة؛ فسدت صلاته " - التي اغتر أمير كاتب الإتقاني بها -؛ فإن عصام بن يوسف كان من ملازمي أبي يوسف، وكان يرفع، فلو كان لتلك الرواية أصل؛ لعلم بها أبو يوسف وعصام ". ثم قال: " ويُعلم أيضاً أن الحنفيَّ لو تَرَكَ في مسألةٍ مذهبَ إمامه لقوة دليل خلافه؛ لا يخرج به عن رِبْقَةِ التقليد، بل هو عين التقليد في صورة ترك التقليد ... " إلخ كلامه. وقد ذكرناه بتمامه في (المقدمة) (*) فراجعه. وأما المتأخرون؛ فهم كثيرون والحمد لله، لا سيما حنفية الهند؛ فإنهم - بارك الله فيهم - أكثر المسلمين اليوم علماً وعملاً بالسنة، وأقلهم تعصباً للمذهب، إلا ما وافق الحق منه. فمنهم: أبو الحسن السندي - وقد مضى كلامه في ذلك قريباً -. ومنهم: ولي الله الدهلوي في " حجة الله البالغة " (2 - 10) ، وأبو الحسنات اللكنوي في " التعليق المُمَجَّد على موطأ محمد " (89 - 91) ، والشيخ محمد أنور الكشميري في كتابه " فيض الباري " (2/257) . ولولا خشية الإطالة؛ لنقلت كلماتهم في ذلك، فاكتفينا بالإشارة إليها، وإلى مواضعها من كتبهم. فليراجعها من شاء. وأقول أيضاً: إنه لم يَخْلُ قرن فيما مضى إلا ووجد فيه كثير من الحنفية يعملون   (*) صفحة (36) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 ..............................................................................   بالسنة وإن خالفت المذهب، ولكن موانع - يعلمها أهل العلم - منعت من وصول أخبارهم إلينا، أو تظاهرهم بها أمام أتباعهم المتعصبين. وقد كان الشيخ صالح الحِمْصي رحمه الله - وهو من علماء الحنفية - يرى سنية الرفع هذا، ولكنه كان لا يفعل ذلك خوفاً من قيام المتعصبين عليه، كما صارحني بذلك رحمه الله. ومما يؤيد هذا الرأي أنه وُجد في القرن الثامن من الهجرة بعض الأئمة الحنفية كان يرفع يديه في كل تكبيرة وهو إمام، فجاء في فتوى شيخ الإسلام ما ملخصه (2/375 - 380) : مسألة في رجل حنفي؛ صلى في جماعة، ورفع يديه في كل تكبيرة، فأنكر عليه فقيه الجماعة، وقال له: هذا لا يجوز في مذهبك، وأنت مبتدع فيه، وأنت مذبذب؛ لا بإمامك اقتديت، ولا بمذهبك اهتديت. فهل ما فعله نقصٌ في صلاته، ومخالفةٌ للسنة ولإمامه، أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى بعد أن أثبت سنية الرفع عند الركوع والرفع منه، ونفى سنية الرفع مع كل تكبيرة - وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم، ويأتي بيان خطئهما في ذلك في محله إن شاء الله تعالى -، قال شيخ الإسلام: " وإذا كان الرجل متبعاً لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى، فاتبعه؛ كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه ولا عدالته بلا نزاع؛ بل هذا أولى بالحق وأحب إلى الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن يتعصب لواحد معين غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويرى أن قوله هو الصواب الذي ينبغي اتباعه دون قول الإمام الذي خالفه، فمن فعل هذا؛ كان جاهلاً ضالاً، بل قد يكون كافراً؛ فإنه متى اعتقد أنه يجب على العامة تقليد فلان وفلان؛ فهذا لا يقوله مسلم. ومن كان موالياً للأئمة، محباً لهم، يقلد كل واحد منهم فيما يظهر أنه موافق للسنة؛ فهو محسن في ذلك، بل هو أحسن حالاً من غيره، ولا يقال لمثل هذا: مذبذب؛ على وجه الذم، وإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 ..............................................................................   المذبذب المذموم الذي لا يكون مع المؤمنين ولا مع الكفار؛ بل يأتي المؤمنين بوجه، ويأتي الكفار بوجه؛ كما قال تعالى في حق المنافقين: {إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً. مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ ... } الآية ". قال: " ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين؛ فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين؛ كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما. فهذه طرق أهل البدع والأهواء، فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه؛ ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم. ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين؛ فيكون ظالماً جاهلاً، والله يأمر بالعدل والعلم، وينهى عن الجهل والظلم. وهذا أبو يوسف ومحمد أتبع الناس لأبي حنيفة، وأعلمهم بقوله، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى؛ لَمَّا تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما مع ذلك معظِّمان لإمامهما، لا يقال فيهما: مذبذبان! بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول، ثم تتبين له الحجة في خلافه؛ فيقول بها، ولا يقال له: مذبذب. - فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان -؛ بل هذا مهتدٍ زاده الله هدى، وقد قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق، ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب؛ فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ؛ فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له. وعلى المؤمنين أن يتبعوا إمامهم إذا فعل ما يسوغ، وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعاراً يوجب اتباعه، وينهى عن غيره مما جاءت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 ..............................................................................   به السنة ". قال: " وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب والسنة إلا ما شاء الله؛ بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة، أو آراء فاسدة، أو حكايات عن بعض العلماء والشيوخ، قد تكون صدقاً، وقد تكون كذباً، وإن كانت صدقاً؛ فليس صاحبها معصوماً. يتمسكون بنقلٍ غيرِ مصدَّق عن قائل غير معصوم، ويَدَعون النقل المصدق عن القائل المعصوم، وهو ما نقله الثقات من أهل العلم، ودونوه في الكتب الصحاح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن الناقلين لذلك مصدَّقون باتفاق أئمة الدين، والمنقول عنه معصوم، لا ينطق عن الهوى؛ {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، قد أوجب الله تعالى على جميع الخلق طاعته واتباعه؛ قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ". اهـ. وقد تعمدت ذكر من ذهب من الحنفية إلى مشروعية الرفع، تنبيهاً للمتعصبين من مشايخنا وأتباعهم، وليعلموا أن هناك من علمائنا من يقول بذلك؛ فإن هؤلاء وأمثالهم في كل عصر كثر، لحصرهم العلم والفقه في كتب معلومة، حتى قال لي بعضهم: إن علمنا - معشرَ الحنفية - محصور في كتابين فقط لا غير: " حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح " و " حاشية ابن عابدين على الدر ... "! ولقلة اطلاعهم على غيرها لا تكاد تجد فيهم من يعرف غير ما فيها؛ كيف لا، وكثيرون منهم يعدون قراءة كتب الحديث ومطالعتها تضييعاً للوقت! بل صارحني بعض المشايخ بقوله: (علم الحديث صنعة المفاليس) ! فلا حول ولا قوة إلا بالله. وقد بلغ ببعضهم التعصب في المسألة إلى أن افترى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكذب! فذكر أنه قال عليه الصلاة والسلام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 ..............................................................................   " من رفع يديه في الركوع؛ فلا صلاة له "! قال الشيخ علي القاري في " موضوعاته " (81 و 129) : " موضوع. وضعه محمد بن عُكَّاشة الكِرْماني قبّحه الله ". اهـ. قلت: وفي مقابل هذا حديث: " إن لكل شيء زينة، وزينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة ... " الحديث. أخرجه الحاكم (2/538) ، ومن طريقه البيهقي (2/74) ، وغيرهما، عن إسرائيل ابن حاتم عن مُقاتِل بن حَيّان عن الأصبغ بن نَبَاتة عن علي رضي الله عنه مرفوعاً به. سكت الحاكم عليه! وضعفه البيهقي. وقال الذهبي: " إسرائيل: صاحب عجائب لا يعتمد عليه. وأصبغ: شيعي متروك عند النسائي ". قلت: وكذا أورده ابن الجوزي في " الموضوعات "، وقال: إنه " موضوع "؛ كما في " اللآلي " (2/11) للسيوطي، وقال: " وقال الحافظ ابن حجر في تخريجه: إسناده ضعيف جداً ". قلت: ولم يقف الأمر عند هذا الحَدّ بل تجاوزه إلى تحريف معاني القرآن الكريم! فاسمع ما أورده أبو الحسنات اللكنوي في " التعليق المُمَجَّد " قال (92) : " قال صاحب " الكنز المدفون والفلك المشحون ": وقفت على كتاب لبعض مشايخ الحنفية، ذكر فيها مسائل خلاف، ومن عجائب ما فيه: الاستدلال على ترك رفع اليدين في الانتقالات بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ! وما زلت أحكي ذلك لأصحابنا على سبيل التعجب، إلى أن ظفرت في " تفسير الثعلبي " بما يَهُون عنده هذا العظيم؛ وذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 ..............................................................................   أنه حكى في سورة {الأَعْرَاف} عن التنوخي القاضي أنه قال في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : إن المراد بالزينة رفع اليدينَ في الصلاة! فهذا في هذا الطرف، وذاك في الطرف الآخر ". اهـ. ولقد كانت هذه المسألة وأمثالها مَثَار فتن عظيمة بين الحنفية والشافعية، حتى لقد دفعَتْهم إلى وضع القاعدة المشهورة عند الفريقين: (وتكره الصلاة وراء المخالف في المذهب) ! وهي كراهة تحريم عند علمائنا، ولا تزال آثار هذه القاعدة بادية في مساجدنا! ففيها المحاريب الأربعة، وترى فيها ناساً يصلون مع الإمام، وآخرين ينتظرون إمام مذهبهم! حتى لقد قلت مرة لبعض هؤلاء: حي على الصلاة؛ فإنها أقيمت. فكان جوابه أن قال: " إنها لم تُقَمْ لنا؛ إنها للشافعية "! وهم بذلك مخالفون لصريح قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا أقيمت الصلاة؛ فلا صلاة إلا المكتوبة ". رواه مسلم وغيره. وفي لفظ لأحمد: " إلا التي أقيمت ". وليس يضيق على المتعصب أن يحرف معنى الحديث - كما حرف الآية السابقة الذكر -؛ فيقول: إن معنى الحديث: " إذا أقيمت الصلاة ": أي: الصلاة الكاملة. ولما كانت صلاة الشافعية ناقصة الأجر؛ لم يشملنا الحديث، وسلمنا من مخالفته. هكذا يقول بعضهم! وهم مدفوعون بالقاعدة المشار إليها آنفاً؛ ظناً منهم أنها قاعدة متفق عليها بين الحنفية؛ لأنه قلما يرى - أو إن شئت قلت: لا يرى - خلافاً فيها. ولذلك أحببت أن أذكر بعض النقول عن بعض أئمتنا مما يخالف هذه القاعدة المزعومة؛ فقد جاء في مجلة " نور الإسلام " المجلد السادس من السنة الأولى (ج 6 ص 388) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 ..............................................................................   " وذهب أبو بكر الرازي من الحنفية إلى جواز الاقتداء بالمخالف في الفروع بإطلاق. فقال: يجوز للحنفي الاقتداء بمن خالف مذهبنا من المجتهدين وتقليدهم، وإن رأى ما يبطل الصلاة على رأيه ومذهبه. ونقل ابن الهُمام عن شيخه سِراج الدين الشهير بـ: (قارئ " الهداية ") : أنه كان يعتقد قول الرازي حتى أنكر مرة أن يكون فساد الصلاة بذلك مروياً عن المتقدمين. وللشيخ محمد عبد العظيم بن فَرُّوخ رسالة اعتمد فيها قول الرازي، وبنى رسالته عليه؛ حيث قال: هذا (يعني: قول الرازي) هو المنصور درايةً، وإن اعتمدوا خلافه روايةً، وهو الذي أميل إليه. وعليه يتمشى ما ذهبنا إليه في هذه الوُرَيقات ". ثم قال مُحَرِّر هذا البحث، وهو الأستاذ الفاضل محمد الخضر حسين: " وذهب أبو بكر محمد بن علي القَفَّال - من أكابر علماء الشافعية - إلى أن العبرة باعتقاد الإمام؛ فيصح اقتداء الشافعي بالحنفي أو المالكي، إذا أتى بالصلاة على الوجه الصحيح في مذهبه، وإن لم تكن صحيحة على مذهب المأموم، وتحقق المأموم ذلك ". قال الأستاذ الفاضل: " ووجه هذا المذهب: أن الأصل صحة اقتداء المسلمين بعضهم ببعض. ومن ذهب إلى عدم الصحة؛ فعليه إقامة الدليل. ولم نر للقائلين بعدم الصحة إلا دليلاً؛ هو اعتقاد المأموم أن إمامه على خطأ؛ وهذا غير كافٍ في الاستدلال؛ لأن المأموم يعتقد مع ذلك أن عمل الإمام صحيح عند الله؛ إذ كل مجتهد مطالب بأن يعمل على مقتضى اجتهاده، ومن قلده إنما يعمل على مقتضى هذا الاجتهاد، وإذا كان عمل المجتهد أو من يقلده صحيحاً عند الله تعالى؛ فما المانع من الاقتداء به؟! ثم إن السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين كانوا يختلفون في الفروع، ولم يُنقَل عن أحد منهم أنه تحرَّج من الاقتداء بمن يخالفه في اجتهاده ". اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 ..............................................................................   قلت: بل جاء عن أبي يوسف رحمه الله أنه صلى خلف هارون الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ؛ فصلى خلفه أبو يوسف، ولم يُعِدْ. وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرُّعاف. فقيل له: " فإن كان الإمام قد خرج منه الدم، ولم يتوضأ؛ فصلى خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك؟! ". وبالجملة؛ فهذا المذهب الذي ذهب إليه أبو بكر الرازي الحنفي، وأبو بكر القفال - خلافاً للمشهور من مذهبهما - هو الصواب، وهو مذهب مالك وأحمد؛ وذلك لأمرين: الأول: أن القول بخلافه بدعة في الدين؛ لم يقل به أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم - كما سبق -. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: " اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفيتم، عليكم بالأمر العتيق ". فالأمر العتيق هو هذا. الثاني: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يصلون بكم، فإن أصابوا؛ فلكم ولهم، وإن أخطؤوا؛ فلكم وعليهم ". أخرجه البخاري (2/149) ، وأحمد (2/355) واللفظ له. قال ابن المنذر: " هذا الحديث يرد على من زعم أن صلاة الإمام إذا فسدت؛ فسدت صلاة من خلفه ". كذا في " الفتح " (2/149) . وقال شيخ الإسلام في " الفتاوى " (2/381) : " فقد بين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن خطأ الإمام لا يتعدى إلى المأموم، ولأن المأموم يعتقد أن ما فعله الإمام سائغ له، وأن لا إثم عليه فيما فعل؛ فإنه مجتهد، أو مقلد مجتهد، وهو يعلم أن هذا قد غفر الله له خطأه؛ فهو يعتقد صحة صلاته، وأنه لا يأثم إذا لم يُعِدْها، بل لو حكم بمثل هذا؛ لم يجُزْ له نقض حكمه؛ بل كان ينفذه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 وأمر بهما (المسيء صلاته) فقال له: " إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء، كما أمره الله ... ثم يكبر الله، ويحمده، ويمجده، ويقرأ ما تيسر من القرآن مما علمه الله وأذن له فيه، ثم يكبر، ويركع، [ويضع يديه على ركبتيه] ، حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ... " الحديث (1) .   وإذا كان الإمام قد فعل باجتهاده - و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} -، والمأموم قد فعل ما وجب عليه؛ كانت صلاة كل منهما صحيحة، وكان كل منهما قد أدى ما يجب عليه، وقد حصلت موافقة الإمام في الأفعال الظاهرة. وقول القائل: إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام. خطأ منه؛ فإن المأموم يعتقد أن الإمام فعل ما وجب عليه، وأن الله قد غفر له ما أخطأ فيه، وأنه لا تبطل صلاته لأجل ذلك، ولو أخطأ الإمام والمأموم فسلم الإمام خطأً، واعتقد المأموم جواز متابعته، فسلَّم - كما سلَم المسلمون خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سلم من اثنتين سهواً، مع علمهم بأنه إنما صلى ركعتين، وكما لو صلى خمساً سهواً؛ فصلوا خلفه خمساً؛ كما صلى الصحابة خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صلى بهم خمساً؛ فتابعوه، مع علمهم بأنه صلى خمساً؛ لاعتقادهم جواز ذلك -؛ فإنه تصح صلاة المأموم في هذه الحال، فكيف إذا كان المخطئ هو الإمام وحده؟! وقد اتفقوا كلهم على أن الإمام لو سلم خطأً؛ لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه، ولو صلى خمساً، لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه؛ فدلَّ ذلك على أن ما فعله الإمام خطأً لا يلزم فيه بطلان صلاة المأموم. والله أعلم ". (1) ثبت ذلك في بعض طرق الحديث من رواية رِفاعة بن رافع. وقد مضى في (التكبير) [ص 181] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 صفة الركوع وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الأمر يُطَبِّقُ بين كفيه، ثم يجعلهما بين ركبتيه، [ويخالف بين أصابعه] (1) .   (1) هو من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. رواه عنه علقمة والأسود: أنهما دخلا عليه فقال: أصلى من خلفكم؟ قالا: نعم. فقام بينهما، وجعل أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله. ثم ركعنا، فوضعنا أيدينا على ركبنا؛ فضرب أيدينا، ثم طَبَّقَ بين يديه، ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى؛ قال: هكذا فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه مسلم (2/68 - 69) ، والطحاوي (1/134) من طريق منصور عن إبراهيم عنهما. ورواه أحمد (1/413 - 414) من طريق أخرى عنهما. وقد تابعه سليمان الأعمش عن إبراهيم، دون قوله: هكذا فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزاد: وإذا ركع أحدكم؛ فليفرش ذراعيه على فخذيه، ولْيجْنَأ، ولْيُطَبِّق بين كفيّه، فلكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه مسلم أيضاً، وكذا الطحاوي، والبيهقي (2/83) ، وأحمد (1/378 و 426 و447) ، والحازمي في " الاعتبار " (ص 60 - 61) . وروى أبو داود (1/139) منه الزيادة فقط. ورواه النسائي (1/158) بدونها، إلا قليلاً منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 ثم ترك ذلك، ونهى عنه. و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع كفيه على ركبتيه " (1) . و " كان يأمرهم بذلك " (2) . وأمر به أيضاً (المسيء صلاته) - كما مر آنفاً -.   وقد رواه عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه وحده مختصراً. أخرجه أحمد (1/426) ، ورواه أيضاً عن علقمة، ويأتي بعد هذا. قال الحازمي: " وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب؛ فذهب نفر إلى العمل بهذا الحديث؛ منهم: عبد الله بن مسعود، والأسود بن يزيد، وأبو عُبيدة بن عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن الأسود. وخالفهم في ذلك كافة أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ورأوا أن هذا الحديث كان محكماً في ابتداء الإسلام، ثم نُسخ، ولم يبلغ ابنَ مسعود نسخُه، وعرف ذلك أهل المدينة؛ فرووه، وعملوا به. وقال بعض أهل العلم: في ذلك دلالة على أن أهل المدينة أعلم بالناسخ والمنسوخ ممن فارقها، وسكن غيرها من البلاد ". اهـ. قلت: وكما خفي على ابن مسعود رضي الله عنه سنية وضع اليدين على الركبتين، خفيت عليه أيضاً سنية رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام - كما سبق بيانه -. أما كيف يخفى عليه ذلك، وهو من قدماء الصحابة الملازمين للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سفراً وحضراً؟! فمن عجائب الأمور التي لا نجد لها تعليلاً إلا مجرد كونه بشراً يسهو وينسى. والله تعالى أعلم بوقائع الأمور. (1 و 2) هو من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. ورد عنه من طرق: الأول: عن عبد الله بن إدريس عن عاصم بن كُلَيب عن عبد الرحمن بن الأسود: ثنا علقمة عن عبد الله قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 ..............................................................................   علمنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة؛ فكبر، ورفع يديه، ثم ركع، وطبّق بين يديه، وجعلهما بين ركبتيه. فبلغ سعداً، فقال: صدق أخي؛ قد كنا نفعل ذلك، ثم أمرنا بهذا. وأخذ بركبتيه. أخرجه البخاري في " رفع اليدين " (12) ، وأبو داود (رقم 732) ، والنسائي (1/159) ، والدارقطني (129) ، والبيهقي (2/78 - 79) ، وأحمد (1/418 - 419) ، والحازمي (ص 61 - 62) . وقال الدارقطني: " إسناد ثابت صحيح ". قلت: وهو على شرط مسلم. ثم رأيته قد أخرجه الحاكم (1/224) ، وقال: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. ولفظ الحديث لأحمد. وقال البخاري: كنا نفعل ذلك في الإسلام. الثاني: عن مصعب بن سعد قال: صليت إلى جنب أبي، فطبّقت بين كفي، ثم وضعتهما بين فخذي؛ فنهاني أبي، وقال: كنا نفعله، فنهينا عنه، وأُمِِرْنا أن نضع أيدينا على الركب. أخرجه البخاري (2/217 - 218) ، ومسلم (2/69) ، وأبو داود (1/138) ، والنسائي (1/159) ، والترمذي (2/44) ، والدارمي (1/298) ، وابن ماجه (1/285) ، والطحاوي (1/133) ، والبيهقي (2/83 - 84) ، والطيالسي (28) ، وأحمد (1/181 و182) ، والحازمي (61) من طريق أبي يعفور عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 ..............................................................................   وزاد الدارمي من طريق إسرائيل عنه: كان بنو عبد الله بن مسعود إذا ركعوا؛ جعلوا أيديهم بين أفخاذهم، فصليت ... الحديث. قال الحافظ: " فأفادت هذه الزيادة مستند مصعب في فعل ذلك، وأولاد ابن مسعود أخذوه من أبيهم ". وللحديث شواهد: منها: عن إسرائيل عن أبي حُصَين عن أبي عبد الرحمن السَّلَمي قال: كنا إذا ركعنا؛ جعلنا أيدينا بين أفخاذنا. فقال عمر رضي الله عنه: إن من السنة الأخذ بالركب. وسنده صحيح. وقد أخرجه الترمذي (2/43) ، والنسائي (1/159) ، والطحاوي (1/135) والبيهقي أيضاً، والطيالسي (ص 12) من طرق عن أبي حُصَين به؛ دون قول أبي عبد الرحمن في التطبيق. وقال الترمذي: " حسن صحيح ". وقد تابعه إبراهيم عن أبي عبد الرحمن به. أخرجه النسائي. وسنده صحيح على شرط مسلم. قال الحافظ: " وهذا حكمه حكم الرفع؛ لأن الصحابي إذا قال: السنة كذا. أو: سَنَّ كذا. كان الظاهر انصراف ذلك إلى سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سيما إذا قاله مثل عمر ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 ..............................................................................   ومنها: عن عمرو بن مُرَّة عن خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سَبْرة الجُعْفي قال: قدمت المدينة، فجعلت أُطَبّق كما يُطبِّق أصحاب عبد الله وأركع. قال: فقال رجل: يا عبد الله! ما يحملك على هذا؟ قلت: كان عبد الله يفعله، وذكر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعله. قال: صدق عبد الله. ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما صنع الأمر، ثم أحدث الله له الأمر الآخر، فانظر ما اجتمع عليه المسلمون؛ فاصنعه. قال: فلما قَدِمَ؛ كان لا يُطَبِّق. أخرجه البيهقي (2/84) . وسنده صحيح. ورواه الحازمي (62) من طريق أخرى عن خَيْثَمة به. وفيه أن الرجلَ الذي لم يُسَمَّ مِنَ المهاجرين. قال الترمذي - بعد أن ساق حديث عمر رضي الله عنه -: " والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتابعين ومن بعدهم، لا اختلاف بينهم في ذلك، إلا ما روي عن ابن مسعود وبعض أصحابه أنهم كانوا يطبقون ". اهـ. وقد جاءت أحاديث كثيرة من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوضع على الركبتين: 1- منها: حديث أبي حُمَيد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ: ثم يركع، ويضع راحتيه على ركبتيه. وهو حديث صحيح، وقد سبق بتمامه قريباً (ص 605) . ورواه البخاري (2/245) بلفظ: وإذا ركع؛ أمكن يديه من ركبتيه. وسيأتي. 2- ومنها: عن وائل بن حُجْر بلفظ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 و " كان يُمكّن يديه من ركبتيه [كأنه قابضٌ عليهما] " (1)   ووضع يديه على ركبتيه. رواه مسلم وغيره. وقد تقدم بتمامه في (وضع اليمنى على اليسرى) [ص 209] . وله طريق أخرى عند الطحاوي (1/135) بسند حسن. 3- ومنها: عن عبد الله بن القاسم قال: جَلَسْنا إلى عبد الرحمن بن أبزى، فقال: ألا أريكم صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قلنا: بلى. قال: فقام فكبر، ثم قرأ، ثم ركع؛ فوضع يديه على ركبتيه؛ حتى أخذ كل عضو مأخذه، ثم رفع؛ حتى أخذ كل عضو مأخذه، ثم سجد؛ حتى أخذ كل عضو مأخذه، ثم رفع؛ حتى أخذ كل عضو مأخذه، ثم سجد؛ حتى أخذ كل عظم مأخذه، ثم رفع؛ فصنع في الركعة الثانية كما صنع في الركعة الأولى. ثم قال: هكذا صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه أحمد (3/407) من طريق ضَمْرَةَ عن ابن شوذب عنه. وهذا إسناد حسن. ورجاله ثقات - كما في " المجمع " (2/130) -. 4- وفي الباب عن أبي مسعود البَدْري. ويأتي. (1) هو من حديث أبي حُميد الساعدي: عند البخاري وغيره. وقد تقدم قريباً. والزيادة عند أبي داود في رواية له من طريق فُلَيح بن سليمان: ثني عباس بن سهل عن أبي حُميد به. وسنده صحيح - كما تقدم قريباً -. وقد أخرج هذه الزيادة الترمذي (2/45/46) - وقال: " حسن صحيح " -، وابن خزيمة في " صحيحه " (1/298/589) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 و " كان يُفرِّج بين أصابعه " (1) . وأمر به (المسيء صلاته) ؛ فقال:   ويشهد لها قول عمر المتقدم (629) : إن من السنة الأخذ بالركب. وكذا حديث سعد المتقدم هناك. وصححه ابن خزيمة أيضاً (1/301/595) ، وابن الجارود (196) . (1) هو من حديث أبي مسعود البدري في رواية عنه - كما سبق -. وجاءت هذه الزيادة في رواية لأبي داود (1/116) ، وعنه البيهقي (2/84) من حديث أبي حميد الساعدي. لكن في طريقها عبد الله بن لَهِيعة، وهو: ضعيف؛ لسوء حفظه. إلا أنه يقويه ما قبله، ويعضده حديث وائل بن حُجْر: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا ركع؛ فرَّج بين أصابعه. أخرجه الحاكم (1/224) من طريق عمرو بن عون: ثنا هُشَيم عن عاصم بنَ كُلَيب عن علقمةَ بن وائل عن أبيه. وقال: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. ورواه الطبراني في " الكبير " بزيادة: وإذا سجد؛ ضَمَّ أصابعه. قال الهيثمي (2/135) : " وإسناده حسن ". قلت: وأخرجه البيهقي (2/112) عن الحارث بن عبد الله بن إسماعيل بن عُقْبَةَ الخازن: ثنا هشيم به بتمامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 " إذا ركعت؛ فضع راحتيك على ركبتيك، ثم فرِّج بين أصابعك، ثم امْكُث حتى يأخذ كل عضو مأخذه " (1) .   وسنده حسن - كما قال البيهقي -. وستأتي الزيادة في موضعها برواية الحاكم وغيره. {والحديث مخرج في " صحيح أبي داود " (809) } . (1) هو قطعة من حديث (المسيء صلاته) من رواية رفاعة بن رافع. أخرجه أبو داود (1/137) ، وكذا أحمد (4/340) من طريق محمد بن عمرو، {وابن خزيمة} (*) عن علي بن يحيى بن خَلاَّد الزُّرَقي عن رِفاعة. وهذا سند حسن. لكن فيه خلاف ذكرناه في أول الكتاب [ص 56 - 57] . وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للأعرابي: " إذا ركعت؛ فضع راحتيك على ركبتيك، ثم فَرِّجْ بين أصابعك، ثم امكث حتى يأخذ كل عضو مأخذه ". أخرجه ابن حبان في " صحيحه " من طريق طلحة بن مُصَرِّف عنه - كما في " التلخيص " (3/367) ، و " نصب الراية " (1/373) -. وله شاهد أيضاً عن أنس مرفوعاً بلفظ: "يا بني! إذا ركعت؛ فضع كفيك على ركبتيك، وافرج بين أصابعك، وارفع يديك عن جنبيك ... " الحديث.   (*) (597) ، وكذا أبو داود، والبيهقي (2/133 - 134) من طريق مؤمل بن هشام اليشكري: نا إسماعيل ابن علية عن محمد بن إسحاق: حدثني علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الأنصاري عن أبيه عن عمه رفاعة به. وانظر " صحيح أبي داود " (805 و 806) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 وكان يجعل أصابعه أسفل من ذلك؛ [على ساقيه] (1) .   وهو قطعة من حديث طويل أخرجه الطبراني في " معجمه الصغير " (ص 177) ، وكذا أبو يعلى الموصلي - كما في " اللآلي المصنوعة " (2/203) ، و " نصب الراية " (1/372 - 373) - من طريق علي بن زيد بن جُدْعان عن سعيد بن المسيب عنه. وهذا سند حسن. لا بأس به في المتابعات. وقد روى الترمذي قطعاً منه (2/113 و 117 - طبع بولاق) من هذا الوجه. وقال: " وفي الحديث قصة طويلة. وهو حديث حسن غريب من هذا الوجه. وعلي بن زيد: صدوق، إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره ". وله شاهد آخر من حديث ابن عباس مرفوعاً: " إذا ركعت؛ فضع كفيك على ركبتيك حتى تطمئن، وإذا سجدت؛ فأمكن جبهتك من الأرض حتى تجد حجم الأرض ". رواه أحمد (1/287) عن صالح مولى التوأمة عنه. وهو ضعيف. (1) هو من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري. رواه عطاء بن السائب عن سالم البراد قال: أتينا عُقبة بن عمرو الأنصاري أبا مسعود، فقلنا له: حَدِّثْنا عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقام بين أيدينا في المسجد فكبر، فلما ركع؛ وضع يديه على ركبتيه، وجعل أصابعه أسفل من ذلك، وجافى بين مِرْفَقَيْهِ، حتى استقر كل شيء منه، ثم قال: سمع الله لمن حمده. فقام، حتى استقر كل شيء منه، ثم كبر، وسجد، ووضع كفيه على الأرض، ثم جافى بين مِرفقيه، حتى استقر كل شيء منه، ثم رفع رأسه؛ فجلس، حتى استقر كل شيء منه. ففعل مثل ذلك أيضاً. ثم صلى أربع ركعات مثل هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 و " كان يجافي، ويُنَحِّي مرفقيه عن جنبيه " (1) .   الركعة؛ فصلى صلاته. ثم قال: هكذا رأينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي. أخرجه أبو داود (1/138) واللفظ له، ومن طريقه البيهقي (2/127) ، والنسائي (1/159) ، والحاكم (1/222) من طريق جرير، إلا النسائي؛ فعن أبي الأحوص؛ كلاهما عن عطاء به. وأخرجه الطيالسي (86) من طريق هَمَّام عنه بلفظ: وفرج بين أصابعه. وكذلك أخرجه الدارمي (1/299) . ورواه الطحاوي (1/135) ، وأحمد (4/119) بلفظ: وفَضَلَتْ أصابِعُهُ على ساقيه. ثم أخرجه أحمد (4/120) ، وكذا النسائي، والبيهقي (2/121) من طريق زائدة ابن قُدامة عنه بلفظ: وفرج بين أصابعه من وراء ركبتيه. ثم قال الحاكم: " صحيح ". ووافقه الذهبي. (1) ثبت ذلك عن جمع من الصحابة: منهم: أبو حميد في جمع منهم بلفظ: فوضع يديه على ركبتيه؛ كأنه قابض عليهما، ووَتَّرَ يديه؛ فنحاهما عن جنبيه. لفظ الترمذي. وقال أبو داود: فتجافى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 ..............................................................................   وسنده صحيح - كما سبق -. ورواه ابن خزيمة بلفظ: ونحى يديه عن جنبيه. كما في " التلخيص " (3/381) . ومنهم: أبو مسعود البدري. وسبق حديثه قريباً. ومنهم: وائل بن حجر قال: صليت خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكبر حين دخل، ورفع يديه، وحين أراد أن يركع؛ رفع يديه، وحين رفع رأسه من الركوع؛ رفع يديه، ووضع كفيه، وجافى، وفرش فخذه اليسرى من اليمنى، وأشار بإصبعه السبابة. وفي رواية: وجافى في الركوع. وفي أخرى: وخَوَّى (*) في ركوعه، وخَوَّى في سجوده. أخرجه كله أحمد (4/316 و 319) من طريق شعبة عن عاصم بن كُلَيب قال: سمعت أبي يحدث عنه. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. قال الترمذي: " وهو الذي اختاره أهل العلم؛ أن يُجافيَ الرجل يديه عن جنبيه في الركوع والسجود ". قلت: وذكر الطحاوي (1/135) إجماع المسلمين. وقال النووي (3/410) : " ولا أعلم في استحبابها خلافاً لأحد من العلماء، والحكمة فيها أنها أكمل في هيئة الصلاة وصورتها ". اهـ.   (*) خوَّى: باعد مرفقيه عن جنبيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 و " كان إذا ركع؛ بسَط ظهرَهُ وسوَّاه " (1) ؛ " حتى لو صُبَّ عليه الماء؛ لاستقر " (2) .   وتخصيص الترمذي ذلك بالرجل يُشعر أن المرأة لا تجافي؛ بل تضم بعضها إلى بعض. وهو مذهب الحنفية والشافعية وغيرهم؛ خلافاً لابن حزم؛ فإنه صرح في " المحلى " (4/122 - 124) بأن الرجل والمرأة في ذلك سواء. قال: " ولو كان لها حكم بخلاف ذلك؛ لما أغفل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيان ذلك. والذي يبدو منها في هذا العمل هو بعينه الذي يبدو منها في خلافه ولا فرق. وبالله تعالى نعتصم ". اهـ. وما ورد في ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يصح منه شيء؛ ففي " التلخيص " (3/381) : " روى أبو داود في " المراسيل " عن يزيدَ بن أبي حبيب: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر على امرأتين تصليان، فقال: " إذا سجدتما؛ فضُمَّا بعض اللحم إلى الأرض؛ فإن المرأة في ذلك ليست كالرجل ". ورواه البيهقي من طريقين موصولين، لكن في كل منهما متروك ". (1 و 2) جاء ذلك عن جمع من الصحابة. وهم: علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وأبو بَرْزَةَ الأسلمي. 1- أما حديث علي: فأخرجه عبد الله بن أحمد في " مسند أبيه " (1/123) قال: وجدت في كتاب أبي قال: أُخبرت عن سِنان بن هارون: ثنا بَيَان عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ركع؛ لو وضع قدح من ماء على ظهره؛ لم يهراق. وهذا سند ضعيف؛ لجهالة شيخ أحمد فيه، وضعف سِنان بن هارون. وفي " التقريب ": الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 ..............................................................................   " صدوق، فيه لين ". 2- وأما حديث أنس: فأخرجه الطبراني في " الصغير " (ص 9) من طريق محمد ابن ثابت البُناني عن أبيه عنه به نحوه. ومحمد بن ثابت هذا: ضعيف - كما في " المجمع " (2/123) ، و " التقريب " -، وقال في " التلخيص " (3/377) : " إسناده ضعيف ". 3- وأما حديث عبد الله بن عباس: فرواه الطبراني في " الكبير " بلفظ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ركع؛ استوى، فلو صُبَّ على ظهره الماء؛ لاستقر. وكذا رواه أبو يعلى. قال في " المجمع ": " ورجاله موثقون ". وقال الحافظ: " إسناده ضعيف ". 4- وأما حديث أبي بَرْزَةَ: فأخرجه الطبراني في " الكبير " و " الأوسط ". ورجاله ثقات - كما في " المجمع " -. وقال الحافظ: " ورواه الطبراني في " الكبير " من حديث أبي مسعود عُقْبة بن عمرو، ومن حديث أبي برزة الأسلمي، وإسناد كل منهما حسن ". قلت: وفي الباب أيضاً عن وابِصةَ بن معبد. أخرجه ابن ماجه (1/285) . وفيه ضعيف جداً، وهو طلحة بن زيد؛ نسبه أحمد وعلي بن المديني إلى الوضع. وبالجملة؛ فالحديث بمجموع هذه الطرق صحيح ثابت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 {وقال للمسيء صلاته: " فإذا ركعتَ؛ فاجعلْ راحتَيْكَ على رُكْبتيك، وامْدُدْ ظهرك، ومكِّن لركوعك " (1) } . و" كان لا يَصُبُّ رأسَه، ولا يُقْنعُ (2) ؛ ولكن بين ذلك " (3) .   (1) { [رواه] أحمد، وأبو داود بسندٍ صحيح. [وانظر تخريجه (ص 55) ] } . (2 و 3) هو من حديث أبي حميد الماضي: ثم يعتدل؛ فلا يصب رأسه ولا يقنع. {ومعنى (لا يقنع) أي: لا يرفع رأسه حتى يكون أعلى من ظهره. " نهاية "} . ورواه النسائي (1/159) بلفظ: كان إذا ركع؛ اعتدل. والبخاري: ثم هَصَر ظهره. بالهاء والصاد المهملة المفتوحين؛ أي: ثَنَاه في استواء من غير تقويس. ذكره الخطابي - كما في " الفتح " (2/245) -. ولمسلم وغيره عن عائشة: وكان إذا ركع؛ لم يُشْخِصْ رأسه، ولم يُصَوِّبه؛ ولكن بين ذلك. وفيه علة تقدم بيانها [ص 177 - 178] . قال في " نصب الراية " (1/374) : " وروى أبو العباس محمد بن إسحاق السراج في " مسنده ": ثنا الحسين بن علي بن يزيد: ثني أبي عن زكريا بن أبي زائدةَ عن أبي إسحاق عن البراء قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ركع؛ بسط ظهره، وإذا سجد؛ وجّه أصابعَه قِبَلَ القبلة ". انتهى. قلت: ومن طريق أبي العباس هذا أخرجه البيهقي (2/113) بزيادة: فتفاجَّ. وسنده صحيح - كما في " الدراية " (79) -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 وجوبُ الطُّمأنينة في الركوع و" كان يطمئن في ركوعه ". وأمر به (المسيء صلاته) ؛ فقال: " إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ ... " الحديث. وفيه: " ثم يكبر ... ثم يقول: الله أكبر. ثم يركع حتى تطمئن مفاصله " (1) .   (1) هو من حديث رِفاعة بن رافع. وقد مضى. قال الحافظ في " الفتح " (2/222) : " واستُدِلَّ بهذا الحديث على وجوب الطمأنينة في أركان الصلاة. وبه قال الجمهور ". واشتهر عن الحنفية أن الطمأنينة سنة، وصرح بذلك كثير من مصنفيهم، لكن كلام الطحاوي كالصريح في الوجوب عندهم؛ فإنه ترجم في " شرح المعاني " (1/136 - 137) : (مقدار الركوع والسجود) ، ثم ذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره في قوله: " ... سبحان ربي العظيم - ثلاثاً في الركوع -، وذلك أدناه ". قال: " فذهب قوم إلى أن هذا مقدار الركوع والسجود، ولا يُجزئ أدنى منه ". قال: " وخالفهم آخرون؛ فقالوا: إذا استوى راكعاً، واطمأن ساجداً؛ أجزأ ". ثم قال: " وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد ". اهـ. وقال السندي: " نَصَّ الطحاويُّ في " آثاره " أن مذهب أبي حنيفة وصاحبيه افتراض الطمأنينة في الركوع والسجود. وهو أقرب؛ للأحاديث ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 وكان يقول: " أتمُّوا (1) الركوعَ والسجود؛ فوالذي (2) نفسي بيده! إني لأراكم من بعد ظهري (3) إذا ما ركعتم، وإذا ما سجدتم " (4) .   (1) أي: ائتوا بهما تامَّيْن كاملين؛ بشرائطهما، وسننهما، وآدابهما، وأوفوا الطمأنينة فيهما حقها، فتجب الطمأنينة فيهما في الفرض، وكذا في النفل عند الشافعية؛ وذلك بأن تستقر أعضاؤه في محلها. قال الحراني: الإتمام: التوفية لما له صورة تلتئم من أجزاء وآحاد. كذا في " فيض القدير " للمناوي. (2) فيه جواز الحلف بالله تعالى من غير ضرورة، ولكن المستحب تركه إلا لحاجة؛ كتأكيد أمر، وتفخيمه، والمبالغة في تحقيقه وتمكينه من النفوس، وعلى هذا يُحمل ما جاء في الأحاديث من الحلف. (3) أي: من ورائي. قال العلماء: معناه: أن الله تعالى خلق له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إدراكاً في قفاه يبصر به من ورائه. وقد انخرقت العادة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأكثر من هذا، وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع؛ بل ورد الشرع بظاهره؛ فوجب القول به. قال القاضي: قال أحمد بن حنبل وجمهور العلماء: هذه الرؤية رؤية بالعين حقيقة. كذا في " شرح مسلم ". قال ابن حجر: " وظاهر الحديث أن ذلك خاص بحالة الصلاة، ويحتمل العموم ". انتهى. وكلام جمعٍ متقدمين مصرِّحٌ بالعموم. كذا في " الفيض ". قلت: والظاهر ما قاله ابن حجر، {وهي من معجزاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} ، والعموم لا دليل عليه من السنة. والله أعلم. (4) هو من حديث أنس رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 و " رأى رجلاً لا يُتِمُّ ركوعه، وينقر في سجوده وهو يصلي؛ فقال: " لو مات هذا على حاله هذه؛ مات على غير ملة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ [ينقر صلاته كما ينقر الغرابُ الدمَ] ، مَثَلُ الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده؛ مثل الجائع الذي يأكل التمرة والتمرتين، لا يُغنِيان عنه شيئاً " " (1) .   أخرجه البخاري (2/179 و 11/448) ، ومسلم (2/28) ، والنسائي (1/161 و168) ، والبيهقي (2/117) ، والطيالسي (267) ، وأحمد (3/115 و 170 و 231 و 274 و279) من طرق عن قتادة عنه. وقد صرح قتادة بالتحديث في رواية البخاري، وهي رواية للنسائي. (1) هو من حديث أمراء الأجناد: عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وشرحبيل ابن حسنة؛ سمعوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه الطبراني في " الكبير " { (1/192/1) } ، وأبو يعلى {في " مسنده " (340 و349/1) } من طريق أبي صالح عن أبي عبد الله الأشعري: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ... الحديث. قال أبو صالح: " قلت لأبي عبد الله: من حَدَّث بهذا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: أمراء الأجناد ... ". فذكرهم. قال المنذري في " الترغيب " (1/182) ، وتبعه الهيثمي (2/121) : " وإسناده حسن ". وهو كما قالا. فقد أخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " { (1/82/1) ، والآجري في " الأربعين " [رقم 20] } ، والبيهقي أيضاً (2/89) من طريق الوليد بن مسلم: ثنا شيبة بن الأحنف الأوزاعي: ثنا أبو سلام الأسود: ثنا أبو صالح الأشعري عن أبي عبد الله الأشعري به نحوه. وزاد في (أمراء الأجناد) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 ..............................................................................   ويزيد بن أبي سفيان (*) . وهذا سند رجاله كلهم موثقون. وأعله ابن التركماني بقوله: " ذكر صاحب " الكمال ": أن دُحَيماً قال: لم يسمع الوليد بن مسلم من حديث شيبة بن الأحنف شيئاً ". قلت: وهذه علة لا تساوي شيئاً؛ فإن الوليد قد صرح بسماعه لهذا الحديث من شيبة، وهو ثقة؛ فلا يجوز تكذيبه إلا ببرهان. على أن كلام دُحيم هذا قد ذكره الحافظ في " تهذيب التهذيب "، وليس فيه ما نقله ابن التركماني، ونصه: " وقال عثمان الدارمي عن دحيم: كان الوليد يروي عنه. ما سمعت أحداً يعرفه ". فليس فيه نفي سماع الوليد منه؛ بل نفى هو عن نفسه أن يكون سمع أحداً يعرفه. وقد روى عنه غيرُ الوليد بن مسلم: محمد بن شُعيب بن شابور، وهشام أبو عبد الله صاحب الصدقة. وقد ذكره أبو زُرعة الدمشقي في ذكر نفر ذوي إسناد وعلم. وذكره ابن حبان في " الثقات ". فمثله لا يقل درجة حديثه عن الحسن؛ لا سيما وأنه لم يرو شيئاً منكراً. والله أعلم. وله في " المسند " (4/138) شاهد من حديث عثمان بن حُنَيف بإسناد ضعيف بنحوه؛ دون قوله: " مثل الذي ... " إلخ.   (*) وعزاه الشيخ في " الصفة " المطبوع لِ " الضياء " في " المنتقى من الأحاديث الصحاح والحسان " (276/1) ، وابن عساكر (2/226/2 و 1/414 و 8/14/1 و 76/2) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 {وقال أبو هريرة رضي الله عنه: " نهاني خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنقر في صلاتي نقر الدّيك، وأن ألتفت التفات الثعلب، وأن أُقعي كإقعاء القرد " (1) } . وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته ". قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟ قال: " لا يتم ركوعها وسجودها " (2) .   {ولطرفه الأول - دون الزيادة - شاهد مرسل: عند ابن بطة في " الإبانة " (5/43/1) } . وفي البخاري (2/218 و 235) ، والبيهقي (2/118) ، وأحمد (5/384 و 396) عن حذيفة موقوفاً نحوه. (1) {أخرجه الطيالسي، وأحمد، وابن أبي شيبة. وهو حديث حسن؛ كما بينته في تعليقي على " الأحكام " للحافظ عبد الحق الإشبيلي (1348) . [وانظر " صحيح الترغيب والترهيب " (555) } . (2) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه الحاكم (1/121) ، ومن طريقه البيهقي (2/386) عن عبد الحميد بن أبي العِشْرين عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: ثني أبو سَلَمة عنه مرفوعاً به. وقال الحاكم: " صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي. قلت: عبد الحميد هذا - وهو: ابن حبيب بن أبي العِشرين -: مُختَلَفٌ فيه. وفي " التقريب ": " صدوق ربما أخطأ ". قلت: فهو حسن الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 ..............................................................................   ومن طريقه رواه الطبراني في " الكبير " و " الأوسط " - كما في " المجمع " (2/120) -، وابن حبان أيضاً في " صحيحه " - كما في " الترغيب " (1/183) -. وليحيى فيه إسناد آخر. أخرجه الحاكم أيضاً، وعنه البيهقي، والدارمي (1/304) ، وأحمد (5/310) من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عنه عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه مرفوعاً به. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا؛ إن سلم من تدليس الوليد بن مسلم؛ فقد رواه معنعناً - كما ترى -. ورواه الطبراني أيضاً في " الكبير " و " الأوسط "؛ كما في " المجمع "، وقال: " ورجاله رجال " الصحيح " ". وابن خُزيمة في " صحيحه " - كما في " الترغيب " (1/181) -. وللحديث شواهد: منها: عن عبد الله بن مُغَفَّلَ. أخرجه الطبراني في " الصغير " (ص 67) قال: ثنا جعفر بن مَعْدَان الأهوازي: ثنا زيد بن الحَرِيش: ثنا عثمان بن الهيثم: ثنا عوف عن الحسن عنه. وقال: " تفرد به زيد بن الحَرِيش ". قلت: قال ابن حبان في ترجمته في " الثقات ": " ربما أخطأ ". وقال ابن القطان: " مجهول الحال ". اهـ. وبقية رجال الإسناد ثقات رجال البخاري. وقاله المنذري (1/181) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 ..............................................................................   " رواه الطبراني في " معاجمه الثلاثة " بإسناد جيد ". وكذا قال الهيثمي؛ إلا أنه قال: " رواه الطبراني في " الثلاثة "، ورجاله ثقات ". ومنها: عن أبي سعيد الخُدْري. أخرجه {ابن أبي شيبة (1/89/2) = [1/257/2960] } ، والطيالسي (294) ، وأحمد (3/56) من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عنه مرفوعاً نحوه. وقال السيوطي في " تنوير الحوالك ": " إسناده صحيح ". كذا قال! وعلي بن زيد - وهو: ابن جُدْعان -: مختلف فيه. وفي " التقريب ": " ضعيف ". فلا يصح حديثه. نعم؛ حديثه حسن لا بأس به في الشواهد - كما هنا -. ومنها: عن النعمان بن مُرّة. أخرجه مالك في " الموطأ " (1/181) عن يحيى بن سعيد عنه. وهذا مرسل صحيح الإسناد. ولفظ حديث النعمان بن مُرَّة: " ما ترون في الشارب والسارق والزاني؟ "، وذلك قبل أن تنزل فيهم الحدود. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " هن فواحش، وفيهن عقوبة. وأسوأ السرقة الذي يسرق من صلاته ". قال الباجي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 و " كان يصلي، فلمح (1) بمؤخَّر عينه إلى رجل لا يقيم (2) صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف؛ قال: " يا معشر المسلمين! إنه لا صلاة لمن لا يقيم (2) صلبه في الركوع والسجود " " (3) .   " قصد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُعَلِّمهم أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة، وأنه أسوأ مما تقرر عندهم أنه فاحشة. وإنما خص الركوع والسجود؛ لأن الإخلال في الغالب إنما يقع بهما، وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما اؤتمن على أدائه ". كذا في " التنوير ". (1) أي: نظر ولاحظ. قال السندي: " وهذا إما مبنيٌّ على زعمه، وإلا؛ فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرى من خلفه أحياناً، وأحياناً يلمح ". (2) أي: لا يعدل ولا يسوي. والمقصود الطمأنينة في الركوع والسجود. (3) هو من حديث علي بن شيبان رضي الله عنه: أنه خرج وافداً إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فصلينا خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلمح ... الحديث. أخرجه {ابن أبي شيبة (1/89/1) = [1/256/2957] } ، وأحمد (4/23) ، وابن ماجه (1/284 - 285) من طريق مُلازم بن عمرو: ثنا عبد الله بن بدر: أن عبد الرحمن ابن علي حدثه: أن أباه علي بن شيبان حدثه به. وهذا إسناد صحيح. ورجاله ثقات؛ كما في " الزوائد " قال: " ورواه ابن خزيمة، وابن حبان في " صحيحيهما ". وكذا قال في " الترغيب " (1/182) . {وانظر " الصحيحة " (2536) } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 وقال في حديث آخر: " لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود " (1) .   (1) هو من رواية عقبة بن عمرو أبي مسعود البدري رضي الله عنه. أخرجه أبو داود (1/136) ، والنسائي (1/167) ، والترمذي (2/51) ، {وأبو عوانة [2/104] } ، والدارمي (1/304) ، وابن ماجه (1/284) ، والطحاوي في " مشكل الآثار" (1/79) ، والدارقطني (133) ، {والسهمي (61) } ، والبيهقي (2/88 و 117) ، والطيالسي (85) ، وأحمد (4/119 و 122) من طرق عن الأعمش عن عُمَارة بن عمير عن أبي معمر عنه. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". والدارقطني: " إسناده ثابت صحيح ". والبيهقي: " صحيح ". قلت: وهو على شرط الشيخين. ورواه ابن خزيمة، وابن حبان في " صحيحيهما "، والطبراني، وقال: " إسناده صحيح " - كما في " الترغيب " (1/181) -. ثم أخرجه {أبو عوانة [2/105] } ، والبيهقي من طريق يحيى بن أبي بُكَير: ثنا إسرائيل عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر به مرفوعاً. وقال: " تفرد به يحيى بن أبي بكير ". قلت: وهو ثقة من رجال الشيخين. فالظاهر أن للأعمش في هذا الحديث إسنادين؛ أحدهما: عن أبي سفيان عن جابر. والآخر: عن عمارة بن عُمَير عن أبي مَعْمَر عن أبي مسعود. والله أعلم. وفي رواية للطحاوي من طريق الفِرْيابي عن سفيان عن الأعمش عن عِمارة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 أذكار الركوع وكان يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارةً بهذا، وتارةً بهذا (1) :   " ... لا يقيم الرجل فيها صلبه إذا رفع رأسه من الركوع والسجود ". وهي شاذة، ولكن سيأتي ما يقويها. قال الترمذي: " والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن بعدهم؛ يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود. وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق: من لم يُقِم صلبه في الركوع والسجود؛ فصلاته فاسدة؛ لهذا الحديث ". انتهى. وقول أحمد وإسحاق بذلك: رواه المروزي في " مسائله عنهما ". (1) ويحتمل أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجمع بينها، أو بين بعضها، أو يقتصر على نوع واحد منها، كل ذلك جائز محتمل، ولم نقف على نص يرجح بعض هذه الاحتمالات؛ ولذلك قال ابن القيم في " الزاد " (1/37) : " وكان يقول: (سبحان ربي العظيم) . وتارة يقول مع ذلك، أو مقتصراً عليه: (سبحانك اللهم ربنا! وبحمدك، اللهم! اغفر لي) ". وقال النووي في " الأذكار ": " والأفضل أن يجمع بين هذه الأذكار كلها؛ إن تمكن، وكذا ينبغي أن يفعل في أذكار جميع الأبواب ". وتعقبه العلامة صديق حسن خان في " نزل الأبرار" (84) ؛ فقال: " يأتي مرة بهذه، وبتلك أخرى. ولا أرى دليلاً على الجمع. وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجمعها في ركن واحد؛ بل يقول هذا مرة، وهذا مرة، والاتباع خير من الابتداع ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 1- " سبحان ربي العظيم (ثلاث مرات) ".   قلت: وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى، لكن قد ثبت في السنة إطالة هذا الركن وغيره - كما سيأتي بيانه -؛ لا سيما في صلاة الليل وغيرها - حتى يكون قريباً من قيامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أراد المسلم الاقتداء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه السنة؛ {فلا يمكنه ذلك إلا على طريقة الجمع الذي ذهب إليه النووي} ، فأرى أنه لا مانع من الجمع بينها في هذه الحال. أما إن اقتصر على نوع واحد من هذه الأنواع المذكورة؛ فلا يمكنه ذلك {إلا على طريقة التكرار المنصوص عليه في بعض هذه الأذكار؛ وهذا أقرب إلى السنة} . والله أعلم. ثم بعد كتابة ما تقدم رأيت في " قيام الليل " (76) عن عطاء ما يؤيد ذلك: قال ابن جريج: قلت لعطاء: كيف تقول في الركوع؟ قال: إذا لم أعجل، ولم يكن معي من يعجلني؛ فإني أقول: (سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً) . ثلاث مرات، و: (سبحان الله العظيم) . ثلاث مرات، ثم أقول: (سبحان الله وبحمده) . ثلاث مرات، و: (سبحان الملك القدوس) . ثلاث مرار، (سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، تسبق رحمة ربي غضبه) مراراً. ثم قال: وأقول في السجود مثلما أقول في الركوع سواء. وقد كنت أسمع ابن الزبير يقول كثيراً في سجوده - وأخبرنا أيضاً عنه - (سبوح ... ) إلخ. 1- فيه أحاديث كثيرة يدل مجموعها على ثبوت تَقْييده بثلاث. خلافاً لابن القيم في كتاب " الصلاة " (191) ، وتبعه أبو الطيب في " الروضة الندية " (1/106) ؛ فقال: " وأما التقييد بعدد مخصوص؛ فلم يرد ما يدل عليه، إنما كان الصحابة يقدرون لبثه في ركوعه وسجوده تقادير مختلفة ". اهـ. وإليك ما وقفنا عليه من الأحاديث المقيدة بذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 ..............................................................................   الأول: عن حذيفة بن اليمان. وله عنه طريقان: الأول: عن ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن أبي الأزهر عنه: أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إذا ركع: " سبحان ربي العظيم ". ثلاث مرات. وإذا سجد: " سبحان ربي الأعلى ". ثلاث مرات. أخرجه ابن ماجه (1/288 - 289) . وابن لهيعة: ضعيف. وأبو الأزهر: مجهول العدالة؛ لم يوثقه أحد. الثاني: عن محمد بن أبي ليلى عن الشعبي عن صلة عنه بلفظ: كان يقول في ركوعه: " سبحان ربي العظيم وبحمده ". ثلاثاً. وفي سجوده: " سبحان ربي الأعلى وبحمده ". ثلاثاً. رواه الدارقطني (130) ، و {ابن خزيمة (604) [دون التحميد والشطر الأخير] } . ورجاله كلهم ثقات، إلا أن ابن أبي ليلى فيه ضعف؛ لسوء حفظه. لكن تابعه مجالد بن سعيد، وهو مثله في الضعف. أخرجه الطحاوي (1/138) ؛ وليس فيه: " وبحمده ". وأصله في " صحيح مسلم "، وقد مضى [ص 503] ، ويأتي. الحديث الثاني: عن جُبَير بن مُطْعِم بلفظ حذيفة الأول بدون زيادة: " وبحمده ". أخرجه الدارقطني (130) ، والطبراني في " الكبير " عن إسماعيل بن عياش عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 ..............................................................................   عبد العزيز بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن نافع بن جُبَير عن أبيه عن جده. وكذا أخرجه البزار. وهذا سند ضعيف؛ قال البزار: " لا يُروى عن جبير إلا بهذا الإسناد. وعبد العزيز بن عبيد الله: صالح، ليس بالقوي ". كما في " المجمع " (2/128) . وليس فيه عند الدارقطني ذكر السجود. الثالث: عن أبي بكرة مثله. أخرجه البزار، والطبراني في " الكبير ". وقال البزار: " لا نعلمه يروى عن أبي بكرة إلا بهذا الإسناد، وعبد الرحمن بن أبي بكرة: صالح الحديث ". كذا في " المجمع ". قلت: وعبد الرحمن هذا: ثقة - كما في " التقريب " -، احتج به الشيخان وغيرهما. فإذا كان من دونه مَنْ الرواة ثقاتٍ؛ فالحديث صحيح، وسكوت الهيثمي عنهم قد يدل على ذلك. الرابع: عن ابن مسعود قال: من السنة أن يقول الرجل في ركوعه: (سبحان ربي العظيم وبحمده) ثلاثاً، وفي سجوده: (سبحان ربي الأعلى وبحمده) . أخرجه الدارقطني من طريق السَّرِيِّ بن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عنه. ورواه البزار دون قوله: " وبحمده ". وفيه: " ثلاثاً " في الموضعين. والسَّرِيُّ بن إسماعيل: ضعيف - كما قال الهيثمي، والحافظ في " التلخيص " (3/391) -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 ..............................................................................   الخامس: عن أبي مالك الأشعري: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى، فلما ركع؛ قال: " سبحان الله وبحمده " ثلاث مرات، ثم رفع رأسه. قال الهيثمي: " رواه الطبراني في " الكبير ". وفيه شهر بن حوشب، وفيه بعض كلام، وقد وثقه غير واحد ". قلت: ومن هذا الوجه أخرجه أحمد أيضاً (5/343) في أثناء حديث. وشهر: حسن الحديث في المتابعات. السادس: عن عبد الله بن أقرم قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في ركوعه: " سبحان ربي العظيم " ثلاثاً. أخرجه الدارقطني من طريق عبد الله بن شَبِيب: ثنا محمد بن مسلمة بن محمد ابن هشام المخزومي: ثنا إبراهيم بن سلمان عن عبيد الله بن عبد الله بن أقرم عن أبيه. وعبد الله بن شبيب: ضعيف. وفيه أيضاً من لم أعرفهم. السابع: عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} ؛ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجعلوها في ركوعكم ". فلما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ؛ قال: " اجعلوها في سجودكم ". أخرجه أبو داود (1/139) ، وابن ماجه (1/289) ، والطحاوي (1/138) ، والحاكم (1/225 و 2/477) ، والبيهقي (2/86) ، والطيالسي (135) ، وأحمد (4/155) من طرق عن موسى بن أيوب الغافقي قال: سمعت عمي إياس بن عامر يقول: سمعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 ..............................................................................   عقبة بن عامر الجهني يقول: ... فذكره. ثم رواه أبو داود، وعنه البيهقي من طريق الليث بن سعد عن أيوب بن موسى - أو موسى بن أيوب - عن رجل من قومه عن عقبة بمعناه. زاد: قال: فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ركع؛ قال: " سبحان ربي العظيم وبحمده " ثلاثاً. وإذا سجد؛ قال: " سبحان ربي الأعلى وبحمده " ثلاثاً. قال أبو داود: " وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون محفوظة ". قلت: وبدونها أخرجه ابن حبان (505) أيضاً. وقال الحاكم: " صحيح. وقد اتفقا على الاحتجاج برواته؛ غير إياس بن عامر، وهو مستقيم الإسناد ". وتعقبه الذهبي؛ فقال: " قلت: إياس: ليس بالمعروف ". قلت: وهذا الذي تقتضيه قواعد مصطلح الحديث؛ لأنه لم يرو عنه غير ابن أخيه موسى بن أيوب. ومع ذلك فلم يورده الذهبي نفسه في " الميزان ". وقال العجلي: " لا بأس به ". وذكره ابن حبان في " الثقات "، وصحح له ابن خزيمة - كما في " التهذيب " -. وقال في " التقريب ": " صدوق ". ثم قال في الأصل: " ومن خط الذهبي في " تلخيص المستدرك ": ليس بالقوي ". قلت: ومما يستدرك على الحاكم: أن موسى بن أيوب لم يخرج له الشيخان، وهو في نفسه ثقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 ..............................................................................   الثامن: عن رجل من الصحابة لم يسم قال: صليت خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فسألناه عن قدر ركوعه وسجوده؟ فقال: قدر ما يقول الرجل: (سبحان الله وبحمده) ثلاثاً. أخرجه الإمام أحمد (5/6) : ثنا عفان: ثنا محمد بن عبد الرحمن الطُّفاوي: ثنا سعيد الجريري عن رجل من بني تميم - وأحسن الثناء عليه - عن أبيه أو عمه قال: ... فذكره. وكذا رواه البيهقي (2/111) عن على بن المديني: ثنا محمد بن عبد الرحمن الطُّفاوي به، دون قوله: (أو عمه) . وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات رجال البخاري؛ غير التميمي الذي لم يسم؛ فقال ابن القيم في رسالة " الصلاة ": " مجهول لا تعرف عينه ولا حاله ". قلت: وقد أخرجه أبو داود (1/141) ، وعنه البيهقي عن خالد بن عبد الله: ثنا سعيد الجُرَيري عن السَّعدي عن أبيه أو عمه قال: رمقت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاته، فكان يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يقول: (سبحان الله وبحمده) ثلاثاً. وهكذا بهذا اللفظ أخرجه أحمد (5/271) ؛ إلا أنه قال: (عن أبيه عن عمه) . قال الحافظ في " التلخيص " (3/394) : " وإسناده حسن. وليس فيه: وبحمده ". كذا قال. وأنت ترى أن هذه الزيادة واردة فيه، وأن في سنده السعدي، وقد قال في " التقريب ": " لا يعرف، ولم يسم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 ..............................................................................   التاسع: عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلاً مرفوعاً: " سبحوا ثلاث تسبيحات ركوعاً، وثلاث تسبيحات سجوداً ". أخرجه البيهقي (2/86) ، وقال: " وهذا مرسل ". هذا، وقد جاءت أحاديث قولية مؤيدة لهذه الأحاديث الفعلية: منها: عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: " إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات؛ فقد تم ركوعه، وذلك أدناه. وإذا سجد، فقال في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) ثلاث مرات؛ فقد تم سجوده، وذلك أدناه ". أخرجه أبو داود (1/141) ، والترمذي (2/46 - 47) ، وابن ماجه (1/289) ، والشافعي في " الأم " (1/96) ، والطحاوي (1/136) ، والدارقطني (131) ، والبيهقي (2/86 و 110) عن ابن أبي ذئب عن إسحاق بن يزيد الهُذَلي عن عون بن عبد الله بن عُتبة عنه. وأعله أبو داود، والترمذي، والبيهقي بالانقطاع بين عون بن عبد الله وابن مسعود؛ فإنه لم يسمع منه. قلت: وفيه علة أخرى وهي: جهالة إسحاق بن يزيد الهُذَلي. قال في " النيل " (2/208) : " قال ابن سيد الناس: لا نعلمه وُثِّق، ولا عرف إلا برواية ابن أبي ذئب عنه خاصة؛ فلم ترتفع عنه الجهالة العينية، ولا الحالية ". اهـ. وقال الحافظ في " التقريب ": " مجهول ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 ..............................................................................   وقد أشار إلى ضعفه الشافعي؛ حيث قال: " إن كان ثابتاً ". ومنها: عن بريدة مرفوعاً: " يا بريدة! إذا كان حين تفتح الصلاة؛ فقل: ... الحديث. وفيه: " وتركع؛ فتقول: سبحان ربي العظيم (ثلاث مرات) ". وفيه: " فإذا سجدت؛ فقل: سبحان ربي الأعلى (ثلاثاً) ... " الحديث. قال الهيثمي (2/132) : " رواه البزار، وفيه عباد بن أحمد العَرْزَمي: ضعفه الدارقطني. وفيه جابر الجُعْفي، وهو ضعيف ". وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعاً: " إذا ركع أحدكم، فسبح ثلاث مرات؛ فإنه يسبح لله من جسده ثلاثة وثلاثون وثلاث مئة عظم، وثلاثة وثلاثون وثلاث مئة عرق ". أخرجه الدارقطني (130 - 131) ، وفيه إبراهيم بن الفضل: ضعفه ابن معين وغيره. قال الترمذي - بعد أن ساق حديثَ ابنِ مسعودٍ القوليَّ -: " والعمل على هذا عند أهل العلم؛ يستحبون أن لا ينقص الرجل في الركوع والسجود من ثلاث تسبيحات. ورُوي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: أستحب للإمام أن يسبح خمس تسبيحاتٍ؛ لكي يدرك من خلفه ثلاث تسبيحات. وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 {وكان أحياناً يكررها أكثر من ذلك (1) } . وبالغ مرةً في تكرارها في صلاة الليل؛ حتى كان ركوعه قريباً من قيامه، وكان يقرأ فيه ثلاث سور من الطِّوال: {البَقَرَة} ، و {النِّسَاء} ، و {آلِ عِمْرَان} ، يتخللها دعاء واستغفار - كما سبق في (صلاة الليل) - (2) . 2- " سبحان ربي العظيم وبحمده (ثلاثاً) ".   قال الشوكاني (2/208) : " وبه قال الثوري. ولا دليل على تقييد الكمال بعدد معلوم، بل ينبغي الاستكثار من التسبيح على مقدار تطويل الصلاة من غير تقييد عدد. وأما إيجاب سجود السهو فيما زاد على التسع، واستحباب أن يكون عدد التسبيح وتراً لا شفعاً فيما زاد على الثلاث؛ فمما لا دليل عليه ". (1) {يستفاد هذا من الأحاديث المصرحة بأنه عليه السلام كان يُسَوِّي بين قيامه وركوعه وسجوده - كما يأتي عقب هذا الفصل -} . (2) هو من حديث حذيفة، ولفظه: ثم ركع؛ فجعل يقول: " سبحان ربي العظيم ". فكان ركوعه نحواً من قيامه. وفي رواية لأحمد وغيره: مثلما كان قائماً. [وقد مضى (ص 500 - 508) ] . 2- قد جاءت هذه الزيادة عن جمع من الصحابة بأسانيد مختلفة يشد بعضها بعضاً - وقد مرّ قريباً تخريج أحاديثهم -. وفي الباب أيضاً عن أبي جُحيفة. رواه الحاكم في " تاريخ نيسابور ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 3- " سُبّوح، قُدُّوس (1) ، رب الملائكة والروح (2) ".   وإسناده ضعيف. قال الحافظ: " وفي هذا جميعه رد لإنكار ابن الصلاح وغيره هذه الزيادة ". ويقوي أصلَ هذه الزيادة ثبوتُها في النوع الرابع - كما يأتي -. 3- هو من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في ركوعه وسجوده: ... فذكره. أخرجه مسلم (2/51) ، وأبو عوانة (2/167) ، وأبو داود (1/139) ، والنسائي (1/160) ، وابن نصر (75) ، والدارقطني (131 و 138) ، والبيهقي (2/87) ، وأحمد (6/94 و 115 و 148 و 149 و 176 و 193 و 200 و 244 و 266) من طرق عن قتادة عن مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير عنها. وقد صرح قتادة بسماعه من مُطَرِّف في رواية لأحمد. وهي صحيحة على شرطهما. (1) في " النهاية ": " يُرويان بالضم والفتح، وهو أقيس، والضم أكثر استعمالاً، وهما من أبنية المبالغة، والمراد بهما التنزيه ". وقال القرطبي: " هما مرفوعان على أنهما خبرُ محذوفٍ؛ أي: هو، أو: أنت. وقيل بالنصب؛ على إضمار فعل؛ أي: أعظم، أو: أذكر، أو: أعبد ". {قال أبو إسحاق: (السُّبُّوح) : الذي ينزه عن كل سوء. و (القُدُّوس) : المبارك. وقيل: الطاهر. وقال ابن سِيدَه: " سبوح قدوس " من صفة الله عز وجل؛ لأنه يسبَّح ويقدَّس. " لسان العرب "} . (2) قيل: المراد به جبريل. وقيل: هو صنف من الملائكة. وقيل: مَلَكٌ أعظمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 4- " سبحانك اللهم ربنا! وبحمدك، اللهم! اغفر لي ". وكان يكثر   خِلْقَةً. ذكره السندي. 4- هو من حديث عائشة قالت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكثِر أن يقول في ركوعه وسجوده: ... فذكرته. أخرجه البخاري (2/238 و 8/15 - 16 و 596) ، ومسلم (2/50) ، وأبو داود (1/140) ، والنسائي (1/160 و 168) ، وابن ماجه (1/289) ، وابن نصر (75) ، والطحاوي (1/137) ، والبيهقي (2/86) ، وأحمد (6/43 و 49 و 100 و 190) عن منصور عن أبي الضُّحى عن مسروق عنها. وفي لفظ للطحاوي: " سبحانك اللهم! وبحمدك، أستغفرك، وأتوب إليك، فاغفر لي؛ إنك أنت التواب ". ولكن فيه مُؤَمَّل بن إسماعيل. وفي رواية لمسلم من طريق الأعمش عن مسلم - وهو: أبو الضحى - عن مسروق بلفظ: كان يُكثِر أن يقول قبل أن يموت: " سبحانك، وبحمدك، أستغفرك، وأتوب إليك ". قالت: قلت: يا رسول الله! ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟ قال: " جُعلت لي علامةً في أمتي إذا رأيتها؛ قلتها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ ... } " إلى آخر السورة. وخالفهما حماد - وهو: ابن أبي سليمان -؛ فرواه عن أبي الضُّحى عن مسروق عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 ..............................................................................   عبد الله بن مسعود بلفظ: كان نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان راكعاً أو ساجداً؛ قال: " سبحانك، وبحمدك، أستغفرك، وأتوب إليك ". أخرجه الطبراني في " الكبير ": ثنا أحمد بن خليد الحلبي: نا عبد الله بن جعفر الرَّقِّي: ثنا عبيد الله بن عمر عن زيد بن أبي أُنيَسة عن حماد به. وأحمد بن خُلَيد هو: أحمد بن خُلَيد بن يزيد بن عبد الله الكِنْدي - كما جاء منسوباً في حديث رواه الخطيب البغدادي (8/99) -، وقد سمع منه الطبراني سنة (278) - كما ذكر في " معجمه الصغير " (6) -، ولم أجد من ترجمه (*) ، وبقية رجاله ثقات رجال الستة؛ غير حماد، وهو من رجال مسلم، وفي " التقريب ": " ثقة صدوق، له أوهام ". قلت: والظاهر أنه وهم في هذا الحديث؛ حيث جعله من (مسند ابن مسعود) ، وإنما هو من حديث عائشة - كما رواه الثقتان عن أبي الضحى، وتوبع على ذلك أبو الضحى -. ورواه البخاري (8/596) بلفظ: " ما صلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ} إلا يقول فيها: " سبحانك ربنا! وبحمدك، اللهم! اغفر لي ". ونحوه لمسلم في رواية. وفي أخرى له، وكذا أحمد (6/35) من طريق داود عن عامر عن مسروق به بلفظ:   (*) له ترجمة في " السير " (13/489) ، وقال: " ما علمت به بأساً ". انظر " الصحيحة " (7/340 و 853) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 ..............................................................................   كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر من قول: " سبحان الله وبحمده، أستغفر الله، وأتوب إليه ". قالت: فقلت: يا رسول الله! أراك تكثر من قول: (سبحان الله وبحمده، أستغفر الله، وأتوب إليه) ؟ فقال: " خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها؛ أكثرت من قول: (سبحان الله وبحمده، أستغفر الله، وأتوب إليه) . فقد رأيتها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ} - فتح مكة - {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . ولفظ أحمد: " علامة في أمتي، وأمرني إذا رأيتها ... ". وقد أبعد الحافظ؛ حيث عزا هذه الرواية لابن مردويه وحده! وقد وجدت للحديث شاهداً من حديث ابن مسعود قال: لما نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ} كان يكثر إذا قرأها ثم ركع؛ أن يقول: " سبحانك اللهم ربنا! وبحمدك، اللهم! اغفر لي؛ إنك أنت التواب الرحيم " ثلاثاً. أخرجه ابن نصر (75 - 76) عن إسرائيل عن أبي عبيدة عنه. ورجاله رجال الشيخين، لكنه منقطع. وفي " المجمع " (2/127) : " رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني في " الأوسط "، وفي إسناد الثلاثة أبو عُبيدة عن أبيه؛ ولم يسمع منه، ورجال الطبراني رجال " الصحيح "؛ خلا حماد بن أبي سليمان، وهو ثقة، ولكنه اختلط ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 منه في ركوعه وسجوده؛ يتأول القرآن (1) ".   (1) أي: يفعل ما أُمر به فيه؛ أي: في قول الله عز وجل: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . وفي الحديث دلالة على جواز الدعاء في الركوع، ولا يعارضه الحديث الآتي: " فأما الركوع؛ فعظموا فيه الرب، وأما السجود؛ فاجتهدوا في الدعاء، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم ". فإنه بمفهومه يدل على اختصاص الركوع بالتعظيم، والمفهوم إذا عارضه منطوق - كهذا الحديث -؛ لا يعمل به - كما تقرر في الأصول -؛ ولذلك قال الحافظ في " الفتح " (2/224) : " لكنه لا مفهوم له؛ فلا يمتنع الدعاء في الركوع، كما لا يمتنع التعظيم في السجود ". ثم قال (2/238) : " قال ابن دقيق العيد: يؤخذ من هذا الحديث إباحة الدعاء في الركوع، وإباحة التسبيح في السجود، ولا يعارضه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما الركوع؛ فعظموا فيه الرب ... " الحديث. قال: ويمكن أن يُحْمَلَ حديث الباب على الجواز، وذلك على الأولوية، ويحتمل أن يكون أمر في السجود بتكثير الدعاء؛ لإشارة قوله: " فاجتهدوا ". والذي وقع في الركوع من قوله: " اللهم! اغفر لي ". ليس كثيراً؛ فلا يعارض ما أمر به في السجود ". انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 5- " اللهم! لك ركعت (1) ، وبك آمنت، ولك أسلمت، [أنت ربي] ، خشع لك سمعي وبصري، ومُخِّي (2) وعظمي (وفي رواية: وعظامي)   5- هو قطعة من حديث علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا افتتح الصلاة؛ كبر، ثم قال: " وجهت وجهي ... " إلى آخره، وفيه: وإذا ركع؛ قال: ... فذكره. وقد مضى بتمامه في (الاستفتاح) دون الزيادتين، وهما عند الطحاوي (1/137) ، والدارقطني (130) ، والبيهقي (2/32 - 33) ، وأحمد (1/119) من طريق ابن جُريج: أخبرني موسى بن عُقبة عن عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عنه. وهو إسناد صحيح على شرط مسلم - كما سبق -. وهو عند الترمذي (2/251 - 252 - طبع بولاق) من طريق ابن أبي الزِّنَاد عن موسى به؛ دون قوله: " وما استقلَّت به قدمي ". وصححه. وهكذا رواه النسائي (1/161) من حديث جابر بن عبد الله ومحمد بن مسلمة. وإسناد كل منهما صحيح - كما سبق هناك -. وأما لفظ: " وعظامي ". بالجمع؛ فهو رواية أبي داود، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي، والطيالسي، {وأبي عوانة} ، وابن نصر أيضاً (76) ، ورواية للترمذي، وأحمد. وُيرَجِّحُ الأولَ أنه ورد كذلك في حديث جابر. والله أعلم. (1) أي: لا لغيرك خضعت. وإسناد " خشع " - أي: تواضع، وخضع - إلى السمع وغيره مما ليس من شأنه الإدراك والتأثر؛ كناية عن كمال الخشوع والخضوع؛ أي: قد بلغ غايته؛ حتى كأنه ظهر أثره في هذه الأعضاء، وصارت خاشعة لربها. سندي. (2) بالضم والتشديد: الدماغ. والعَصَب؛ بفتحتين: أطناب المفاصل. كما في " القاموس ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 وعصبي، [وما استقلَّت به قدمي (1) ؛ لله رب العالمين] ". 6- " اللهم! لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي، خشع سمعي وبصري، ودمي ولحمي، وعظمي وعصبي؛ لله ربِّ العالمين ". 7- " سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة ". وهذا قاله   (1) {أي: ما حَمَلَتْهُ؛ من الاستقلال؛ بمعنى: الارتفاع؛ فهو تعميم بعد تخصيص} . 6- هو من حديث جابر المشار إليه آنفاً، ولفظه: كان إذا ركع؛ قال: " اللهم! لك ركعت، وبك أمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت ... ". وكذلك رواه محمد بن مسلمة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إلا أنه قال: كان إذا قام يصلي تطوعاً؛ يقول إذا ركع: ... فذكره. بتقديم: " لحمي " على: " دمي ". 7- هو من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه. ومضى لفظه في (القراءة في صلاة الليل) [ص 509] . وقد وجدت للحديث طريقاً أخرى عند ابن نصر (76) ؛ رواه من طريق ابن جُرَيج: أخبرني الوليد بن عبد الله بن أبي مُغِيث: أنه سمع أبا عبد الله ابن نُحَيلة (*) - رجلاً كان مع الوليد بن عبد الملك مَرْضِيّاً - يقول: صلى رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه - يعني: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقرأ بسورة {البَقَرَة} ... الحديث بنحوه، وفيه:   (*) وفي " مصنف عبد الرزاق " (2897) : (بُجَيْلة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 في صلاة الليل.   فقال له الرجل حين أصبح: يا نبي الله! أردت أن أصلي بصلاتك فلم أستطع. قال: " إنكم لا تستطيعون، إني أخشاكم لله ". ورجاله ثقات؛ غير أبي عبد الله هذا؛ فلم أجد من ذكره. ثم روى ابن نصر من طريق خُصَيف عن أبي عُبيدة: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في ركوعه وسجوده: " سبحان ذي الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة ". وهذا مرسل ضعيف. " الجبروت والملكوت ": هما مبالغة من (الجبر) : وهو القهر. و (الملك) : وهو التصرف؛ أي: صاحب القهر والتصرف البالغُ كلٌّ منهما غايتَه. و" الكبرياء "؛ قيل: هي العظمة والملك. وقيل: هي عبارة عن كمال الذات، وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلا الله تعالى. سندي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 إطالة الركوع و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل ركوعه، وقيامه بعد الركوع، وسجوده، وجلسته بين السجدتين قريباً من السواء " (1) .   (1) هو من حديث البراء بن عازب قال: كان ركوع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا رفع رأسه من الركوع، وسجوده، وما بين السجدتين قريباً من السواء. أخرجه البخاري (2/219 و 229) ، ومسلم (2/45) ، وأبو داود (1/136) ، والنسائي (1/162 و 172) ، والترمذي (2/69) وصححه، والدارمي (1/306) ، والبيهقي (2/122) ، والطيالسي (100) ، وأحمد (4/285) عن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه. وزاد البخاري في رواية: ما خلا القيام والقعود. وقد تابعه مِسْعَر عن الحكم بلفظ: كان ركوع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيامه بعد الركوع، وجلوسه بين السجدتين لا ندري أَيُّهُ أفضل. أخرجه أحمد (4/298) . وتابعه هلال بن أبي حُمَيد عن ابن أبي ليلى، وزاد فيه أشياء، ولفظه: رمقت الصلاة مع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريباً من السواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 ..............................................................................   أخرجه مسلم (2/44 - 45) ، وأبو داود، والدارمي، وأحمد (4/294) ؛ كلهم عن أبي عوانة عن هلال به. فذِكْرُ القيام في هذه الرواية شاذ؛ معارض لزيادة البخاري: ما خلا القيام والقعود. وقد قال الحافظ (2/229) : " وحكى ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه نسب هذه الرواية - يعني: رواية مسلم عن هلال - إلى الوهم. ثم استبعده؛ لأن توهيم الراوي الثقة على خلاف الأصل. ثم قال في آخر كلامه: " فلينظر ذلك من الروايات، ويحقق الاتحاد أو الاختلاف من مخارج الحديث ". اهـ. وقد جمعت طرقه؛ فوجدت مداره على ابن أبي ليلى عن البراء، لكن الرواية التي فيها زيادة ذكر القيام: من طريق هلال بن أبي حميد عنه، ولم يذكره الحكم عنه، وليس بينهما اختلاف في سوى ذلك؛ إلا ما زاده بعض الرواة عن شعبة عن الحكم من قوله: ما خلا القيام والقعود. وإذا جُمع بين الروايتين؛ ظهر من الأخذ بالزيادة فيهما أن المراد بالقيام المستثنى: القيام للقراءة. وكذا القعود، والمراد به: القعود للتشهد. قال الترمذي: " والعمل عليه عند أهل العلم ". قال الحافظ: " واستُدِل بظاهره على أن الاعتدال ركن طويل، ولا سيما قوله في حديث أنس - يعني: الآتي قريباً -: (حتى يقول القائل: قد نسي) . وفي الجواب عنه تعسف ". وسيأتي الكلام على هذا بتوسع في محله. {وهو مخرج في " إرواء الغليل " (331) } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 النهي عن قراءةِ القرآنِ في الركوع و" كان ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود (1) " (2) . وكان يقول:   (1) قال الترمذي: " وهو قول أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتابعين، ومن بعدهم؛ كرهوا القراءة في الركوع والسجود ". قلت: وممن صرح بكراهة ذلك الإمام محمد؛ قال: " وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. اهـ. الظاهر أنه لا فرق عندهم بين الفريضة والتطوع؛ لعموم الحديث، وخالف في ذلك عطاء؛ فقال: لا أكره أن تقرأ راكعاً أو ساجداً في التطوع. وقال ابن جُريج: أخبرني عطاء: أنه سمع عُبيد بن عُمير يقرأ وهو راكع في التطوع وساجداً ". اهـ. من " قيام الليل " (77) . ولعل مستنده في ذلك ما تقدم في (القراءة في صلاة الليل) [ص 534] ؛ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ليلة بآية؛ يرددها حتى الصباح، بها يركع، وبها يسجد. وذكرنا وجه الجمع بينه وبين هذا الحديث هناك. فراجعه. هذا، وقال الخطابي في " المعالم " (1/214) : " قلت: نَهْيُهُ عن القراءة راكعاً أو ساجداً يشد قول إسحاق ومذهبه في إيجاب الذكر في الركوع والسجود، وذلك أنه إنما أُخليَ موضعُهُما من القراءة؛ ليكون محلاً للذكر والدعاء ". (2) هو من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد. أخرجه مسلم (2/48 - 49) ، {وأبو عوانة [2/171 و 172 و 175] } ، وأبو داود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 ..............................................................................   (2/174) ، والنسائي (1/160 و 168) ، والبيهقي (2/87) ، وأحمد (1/114 و 123) من طرق عن إبراهيم بن عبد الله بن حُنَين عن أبيه: أنه سمع علي بن أبي طالب يقول: ... به. وقال بعض الرواة: عن أبيه عن ابن عباس عنه. فزاد في الإسناد: ابن عباس. وهي رواية النسائي، ومسلم، {وأبي عوانة [2/171 و 172] } ، وأحمد في رواية. وقد رواه مالك (1/101) ، ومن طريقه محمد (154) ، والترمذي (2/51 - 52) ، {وأبو عوانة [2/175] } ، وأحمد أيضاً (1/126) عن نافع عن إبراهيم به من الوجه الأول؛ بدون ذكر السجود. وكذا هو في رواية لمسلم، {وأبي عوانة [2/168 و 172 - 175] } من طرق عن إبراهيم. وكذلك رواه النسائي من وجه آخر عن أشعث عن محمد بن عُبيدة (*) عن علي. ومحمد بن عُبيدة هذا: لم أعرفه. وله طرق أخرى: منها: عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن عبد الكريم عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن ابن عباس عن علي به تاماً. أخرجه عبد الله بن أحمد في " مسند أبيه " (1/105 و 116) . وابن أبي ليلى هذا: سيئ الحفظ. وعبد الكريم هذا هو: ابن أبي المخارق؛ ثقة من رجال مسلم. وكذا من فوقه (**) .   (*) كذا الأصل؛ والصواب: محمد عن عُبيدة كما في " السنن الصغرى " و " الكبرى " من النسائي. (**) كذا الأصل؛ والصواب: " ابن أبي المخارق: ضعيف "، ولعله ذهب وهل الشيخ إلى عبد الكريم الجزري الثقة. انظر (ص 575) ، و " الضعيفة " (5/218 - 219 و 6/81) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 " ألا وإني نُهِيْتُ (1) أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع؛   ومنها: عن عطاء بن السائب عن موسى بن سالم أبي جَهْضَم: أن أبا جعفر حدثه عن أبيه: أن علياً حدثهم ... به، دون ذكر السجود. أخرجه عبد الله أيضاً (1/80) . ورجاله ثقات، لكنه منقطع. ومنها: عن حَجَّاج عن أبي إسحاق عن الحارث عنه به. أخرجه أحمد (1/82) . ثم أخرجه هو (1/146) ، والطيالسي (25) عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عنه بلفظ: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا علي! إني أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي؛ لا تقرأ وأنت راكع، ولا وأنت ساجد، ولا تصل وأنت عاقص شعرك؛ فإنه كِفْلُ الشيطان، ولا تُقْعِ بين السجدتين، ولا تعبث بالحصى، ولا تفترش ذراعيك، ولا تفتح على الإمام، ولا تَخَتَّمْ بالذهب، ولا تلبس الْقَسِيّ، ولا تركب المياثر ". والحارث: هو الأعور، ضعيف. (1) النهي له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهي لأمته؛ كما يُشعِر بذلك قوله في الحديث: " أما الركوع ... " إلخ. ويُشعِر به أيضاً قول علي السابق: نهاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً. ويدل عليه أيضاً أدلة التأسي العامة. وفيه خلاف في الأصول. كذا في " النيل " للشوكاني (2/209) ، قال: " وهذا النهي يدل على تحريم قراءة القرآن في الركوع والسجود. وفي بطلان الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 فعظِّموا (1) فيه الرب عز وجل، وأما السجود؛ فاجتهدوا في الدعاء؛ فقَمِنٌ (2) أن يستجاب لكم " (3) .   بالقراءة حال الركوع والسجود خلاف ". {والنهي مطلق، يشمل المكتوبة والنافلة. وأما زيادة ابن عساكر (17/299/1) : " فأما صلاة التطوع؛ فلا جناح ". فهي شاذة أو منكرة. وقد أعلها ابن عساكر؛ فلا يجوز العمل بها} . (1) أي: سبِّحوه ونَزِّهُوه ومَجِّدوه. وقد بَيَّن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللفظ الذي يقع به هذا التعظيم بالأحاديث المتقدمة في هذا الفصل. واعلم أن التسبيح في الركوع والسجود سنة غير واجب؛ هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي رحمهم الله، والجمهور. وأوجبه أحمد رحمه الله، وطائفة من أئمة الحديث؛ لظاهر الحديث في الأمر به، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". وهو في " صحيح البخاري ". وأجاب الجمهور بأنه محمول على الاستحباب، واحتجوا بحديث (المسيء صلاته) ؛ فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمره به، ولو وجب؛ لأمره به. كذا في " شرح مسلم " للنووي. واعلم أن مفهوم الحديث يدل على أن الركوع مختص بالتعظيم والتسبيح، وأن السجود على خلاف ذلك، لكن قد سبق أن بينا أن هذا المفهوم غير مراد؛ لثبوت خلافه عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدعاء في الركوع - كما مضى -، والتسبيح في السجود - كما يأتي -. (2) بكسر الميم وفتحها؛ أي: جدير وخليق. قيل: بفتح الميم مصدر، وبكسرها صفة. (3) هو قطعة من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 ..............................................................................   كشف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الستارة، والناس صفوف خلف أبي بكر؛ فقال: " أيها الناس! إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة؛ يراها المسلم أو تُرى له، ألا وإني ... " إلخ. أخرجه مسلم (2/48) ، {وأبو عوانة [2/170] } ، وأبو داود (1/140) ، والنسائي (1/160 و 168) ، والدارمي (1/304) ، والطحاوي (1/137) ، والبيهقي (2/87 - 88 و110) ، وأحمد (1/219) عن سليمان بن سُحَيم عن إبراهيم بن عبد الله بن مَعْبَد عن أبيه عنه. وروى منه ابن ماجه الجملة الأولى. وللحديث شاهد من حديث علي رضي الله عنه. رواه عنه النعمان بن سعد قال: سأله رجل: آقرأ في الركوع والسجود؟ فقال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني نُهِيْتُ أن أقرأ في الركوع والسجود، فإذا ركعتم؛ فعظموا الله، وإذا سجدتم؛ فاجتهدوا في المسألة، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم ". أخرجه الطحاوي، وعبد الله في " مسند أبيه " (1/155) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عنه. وعبد الرحمن هذا: ضعيف عند الجميع - كما قال الهيثمي (2/127) -. وفي الباب عن أبي هريرة في (الدعاء في السجود) ، وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 الاعتدال من الركوع، وما يقولُ فيه ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع صُلبه من الركوع قائلاً: " سمع الله لمن حمده " " (1) . {وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال:   (1) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة؛ يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: " سمع الله لمن حمده ". حين يرفع صُلْبَه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: " ربنا! لك الحمد ". ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس. أخرجه البخاري (2/216 - 217) واللفظ له، ومسلم (2/8) ، والنسائي (1/172) ، والبيهقي (2/67 و 93 و 98 و 118 و 127 و 134) ، وأحمد (2/254) ؛ كلهم من طريق الليث عن عُقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: أنه سمع أبا هريرة يقول: ... فذكره. والزيادة عند أبي داود والبيهقي. وهي عند البخاري معلقة عن عبد الله بن صالح عن الليث، وموصولة عنده (2/230) ، وكذا عند أبي داود (133) من طريق شعيب عن الزهري به نحوه. وكذلك أخرجه مسلم (2/7 و 8) ، والنسائي (1/158) ، وأحمد (2/270) من طرق أخرى عن ابن شهاب. وزاد شعيبٌ في الإسناد أبا سلمة بن عبد الرحمن؛ قرنه مع أبي بكر بن عبد الرحمن. وقد جاءت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث كثيرة في الجمع بين التسميع والتحميد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 ..............................................................................   منها: عن ابن عمر رضي الله عنه في " الصحيحين " وغيرهما. وقد مضى في (افتتاح الصلاة) . ومنها: عن ابن عباس، وعن أبي سعيد الخدري. وسيذكران قريباً إن شاء الله تعالى. وعن حذيفة. وقد مضى في (القراءة في صلاة الليل) . وفي هذه الأحاديث دلالة على أن السنة للإمام أن يجمع بن التسميع والتحميد؛ فيقول الأولَ حالَ ارتفاعه، والآخر إذا استوى قائماً. وهو مذهب جمهور العلماء، وبه قال عطاء، وأبو بردة، ومحمد بن سيرين، وإسحاق، وداود - كما في " المجموع " (3/419) -، وأحمد أيضاً - كما في " الترمذي "، ورواه عنه أبو داود في " مسائله " (33) ، ولعلنا نذكر نصه قريباً (*) -، وهو قول الإمام أبي يوسف، ومحمد - كما ذكر الطحاوي (1/140 - 142) -، واختاره (1) ؛ خلافاً لأبي حنيفة -، ومالك وغيرهما: أن الإمام يقتصر على التسميع فقط. واحتجوا بحديث أبي هريرة الآتي، ولا حجة فيه - كما سنبينه إن شاء الله تعالى -. ومن الحجة للأولَين الحديث المذكوُر بعد هذا؛ وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". فهو نص عام، يشمل كل مُصَلٍّ؛ أن يقول ويصلي كما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، ولا يجوز رد حديث - لا سيما إذا - بلغ مبلغ التواتر، أو كاد؛ كحديث أبي هريرة هذا الذي نحن في صدد الكلام عليه.. لا يجوز رده لحديث آخر؛ طالما يمكن الجمع بينهما - كما في   (*) سيأتي (ص 691) . (1) وكذا اختاره الفضلي، والشُّرُنْبُلالي، وصاحب " المنية "، وعامة المتأخرين من أصحابنا، وهو الأصح؛ الموافق لما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كذا في " عمدة الرعاية " (137) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 " لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يكبر ... ثم يركع ... ثم يقول: سمع الله لمن حمده. حتى يستوي قائماً " (1) . وكان إذا رفع رأسه استوى؛ حتى يعود كل فَقارٍ مكانه (2) } . ثم " كان يقول وهو قائم: " ربنا [و] لك الحمد " " (3) . وأمر بذلك كلَّ مُصَلٍّ؛ مُؤتماً أو غيره؛ فقال: " صلوا كما رأيتموني أُصلي " (4) . وكان يقول: " إنما جُعل الإمام ليؤتم به ... وإذا قال: (سمع الله لمن حمده) ؛ فقولوا: ( [اللهم] ربنا ولك الحمد) " (5) - زاد في حديث آخر: - .................   الأصول قد تقرر -. (1) { [أخرجه] أبو داود، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. [وانظر (ص 189 - 190) ] } . (2) { [أخرجه] البخاري، وأبو داود. " صحيح أبي داود " (172) . و (الفَقَار) - بالفتح -: ما انتَضَد مِنْ عِظام الصُّلب مِنْ لَدُنِ الكاهِل إلى العَجْبِ - كما في " القاموس " -. وانظر " فتح الباري " (2/308) } . (3) انظر الحاشية رقم (1) (ص 683) . (4) مضى هذا الحديث في عدة مواضع؛ منها (ص 14) . (5) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد مضى في أوائل الكتاب في (الصلاة قاعداً) [ص 87] ، وقد أخرجه مسلم (2/19 - 20) من طرق عنه. ومن حديث أنس أيضاً، وعائشة: عند الشيخين. وقد سبق تخريجهما هناك. وفي الباب عن أبي موسى الأشعري، وقد مضى في (التأمين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 ..............................................................................   وعن أبي سعيد. وتقدم في الأوائل. وكلها أحاديث صحيحة، وقد احتج بها من خَصَّ المؤتم بالتحميد دون الإمام، وهم من ذكرنا آنفاً. كما أنهم احتجوا بها على أنه ليس للمؤتم أن يقول: (سمع الله لمن حمده) . قال الحافظ في " الفتح " (2/143) : " وليس في السياق ما يقتضي المنع من ذلك؛ لأن السكوت عن الشيء لا يقتضي ترك فعله. نعم؛ مقتضاه أن المأموم يقول: (ربنا! لك الحمد) عقب قول الإمام: (سمع الله لمن حمده) . فأما منع الإمام من قول: (ربنا! ولك الحمد) ؛ فليس بشيء؛ لأنه ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجمع بينهما ". اهـ. قلت: وكذلك مَنْعُ المأموم من قول التسميع ليس بشيء أيضاً، ولعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". وللحديث الذي بعده: " إنما جعل الإمام ليؤتم به ". فإن من الائتمام به أن يقول بقوله، إلا ما استثناه الدليل؛ كالقراءة وراء الإمام في الجهرية - على ما سبق بيانه في محله -. ولذلك قال الخطابي في " المعالم " (1/210) : " قلت: وهذه الزيادة - يعني: التسميع - وإن لم تكن مذكورة في الحديث نصاً؛ فإنها مأمور بها الإمامُ. وقد جاء: " إنما جعل الإمام ليؤتم به ". فكان هذا في جميع أقواله وأفعاله، والإمام يجمع بينهما، وكذلك المأموم، وإنما كان القصد بما جاء في هذا الحديث مداركةَ الدعاء والمقارنة بين القولين؛ ليستوجب بها دعاء الإمام، وهو قوله: " سمع الله لمن حمده " ليس بيان كيفية الدعاء، والأمر باستيفاء جميع ما يقال في ذلك المقام؛ إذ قد وقعت الغُنْيَةُ بالبيان المتقدم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 ..............................................................................   ونحوه - وأوضح منه - قول النووي في " المجموع " (3/420) : " إن معنى الحديث: (قولوا: " ربنا! لك الحمد " مع ما قد علمتموه من قول: " سمع الله لمن حمده ") . وإنما خص هذا بالذكر؛ لأنهم كانوا يسمعون جهر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ: " سمع الله لمن حمده ". فإن السنة فيه الجهر، ولا يسمعون قوله: " ربنا! لك الحمد "؛ لأنه يأتي به سراً - كما سبق بيانه -. وكانوا يعلمون قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". مع قاعدة التأسي به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطلقاً، وكانوا يوافقون في: " سمع الله لمن حمده "؛ فلم يحتج إلى الأمر به، ولا يعرفون: " ربنا! لك الحمد "؛ فأمروا به ". قال الحافظ (2/225) : " وهذا الموضع يقرب من مسألة التأمين - كما تقدم -؛ من أنه لا يلزم من قوله: " إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ فقولوا: آمين ". أن الإمام لا يُؤَمّن بعد قوله: {وَلَا الضَّالّيِنَ} . وليس فيه أن الإمام يؤمن، كما أنه ليس في هذا أنه يقول: " ربنا! لك الحمد ". لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة؛ كما تقدم في (التأمين) ، وكما مضى في هذا الباب؛ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجمع بين التسميع والتحميد. وأما ما احتجوا به - من حيث المعنى - من أن معنى: " سمع الله لمن حمده ": طلب التحميد؛ فيناسب حالَ الإمام، وأما المأموم؛ فتناسبه الإجابة بقوله: " ربنا! لك الحمد ". ويقويه حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم وغيره؛ ففيه: " وإذا قال: (سمع الله لمن حمده) ؛ فقولوا: (ربنا! ولك الحمد) . يسمع الله لكم ". فجوابه أن يقال: لا يدل ما ذكرتم على أن الإمام لا يقول: (ربنا! لك الحمد) . إذ لا يمتنع أن يكون طالباً ومجيباً. وهو نظير ما تقدم في مسألة التأمين؛ من أنه لا يلزم من كون الإمام داعياً والمأموم مُؤَمِّناً أن لا يكون الإمام مُؤَمِّناً ". قال: " وقضية ذلك أن الإمام يجمعهما، وهو قول الشافعي، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد، والجمهور، والأحاديث الصحيحة تشهد له ". ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 ..............................................................................   " وأما المنفرد؛ فحكى الطحاوي، وابن عبد البر الإجماع على أنه يجمع بينهما، وجعله الطحاوي حجة؛ لكون الإمام يجمع بينهما؛ للاتفاق على اتحاد حكم الإمام والمنفرد ". لكن أشار صاحب " الهداية " إلى خلاف عندهم في المنفرد. قلت: ولكنه اختار له الجمع بينهما، وهو الصحيح؛ لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلوا كما رأيتموني أصلي " (*) . وزيادة (اللهم) وردت عند أبي داود (1/99) في رواية له من حديث مصعب بن محمد عن أبي صالح عن أبي هريرة - وقد مضى الشطر الأول من الحديث في (التكبير) [ص 191] ، وذكرنا هناك أن سنده جيد -، وكذلك وردت عند ابن ماجه (1/279) من طريق ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح به. ولها طريق أخرى عند الدارقطني (129) عن يزيد بن محمد بن عبد الصمد: ثنا يحيى بن عمرو بن عمارة: سمعت ابن ثابت بن ثوبان يقول: ثني عبد الله بن الفَضْل عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " إذا قال الإمام: (سمع الله لمن حمده) . فليقل من وراءه: (اللهم ربنا! ولك الحمد) ". ويحيى بن عمرو هذا لم أجد من ذكره (**) ، وبقية رجاله موثقون.   (*) وقال شيخنا رحمه الله في حاشيته على " صفة الصلاة " المطبوع - بعد أن ذكر كلاماً هو تلخيص لما تقدم في هذه المسألة -: " (تنبيه) : ... وليتأمل هذا بعض الأفاضل الذين راجعونا في هذه المسألة، فلعل فيما ذكرنا ما يقنع. ومن شاء زيادة الاطلاع؛ فليراجع رسالة الحافظ السُّيُوطي في هذه المسألة " دفع التشنيع في حكم التسميع " ضمن كتابه " الحاوي للفتاوي " (1/529) ". (**) مترجم في " الجرح والتعديل " (9/177) دون جرح أو تعديل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 " يسمع اللهُ لكم (1) ؛ فإن الله تبارك وتعالى قال على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمع الله لمنَ حمده " (2) .   وله شاهد من حديث سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري. أخرجه ابن ماجه (1/286) . وسنده حسن. وهو عند البيهقي، وأحمد بلفظ: " اللهم ربنا! لك الحمد ". بدون الواو. وقد مر في (التكبير) . وأخرجه الحاكم، والبيهقي من طريق أخرى عن سعيد بلفظ: " ربنا! ولك الحمد ". وسنده صحيح - كما مضى هناك -. وثبتت الزيادة أيضاً في رواية من حديث أبي موسى الأشعري - كما يأتي بعد هذا -. (1) أي: يستجبْ دعاءكم. (2) هو من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بلفظ: " وإذا قال: (سمع الله لمن حمده) . فقولوا: (اللهم ربنا! لك الحمد) . يسمع الله لكم ... " الحديث. وقد مضى بتمامه وتخريجه في (التأمين) [ص 387] . وفي رواية للنسائي (1/162) ، والطحاوي (1/140) بلفظ: " اللهم ربنا! ولك الحمد ". بزيادة الواو. وهو رواية في حديث أبي هريرة الآتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 وعَلَّلَ الأمرَ بذلك في حديث آخر بقوله: " فإنه من وافق قوله قول الملائكة (1) ؛ غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه " (2) .   (1) قال الحافظ ابن حجر: فيه إشعار بأن الملائكة تقول ما يقول المأموم. وقال ابن عبد البر: الوجه عندي في هذا - والله أعلم - تعظيم فضل الذكر، وأنه يحط الأوزار، ويغفر الذنوب، وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم يستغفرون للذين آمنوا، فمن كان منه من القول مثل هذا بإخلاص، واجتهاد، ونية صادقة، وتوبة صحيحة؛ غفرت ذنوبه إن شاء الله تعالى. قال: ومثل هذه الأحاديث المشكلةِ المعاني البعيدةِ التأويلِ عن مخارج لفظها واجبٌ رَدُّها إلى الأصول المجتمع عليها. كذا في " التنوير ". (2) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا قال الإمام: (سمع الله لمن حمده) . فقولوا: (اللهم ربنا! لك الحمد) . فإنه ... " الحديث. أخرجه مالك (1/111) ، ومن طريقه البخاري (2/225 - 226) ، ومسلم (2/17) ، و {أبو عوانة [2/179] } ، وأبو داود (1/135) ، والنسائي (1/162) ، والترمذي (2/55) ، والطحاوي (1/140) ، والبيهقي (2/96) - كلهم عن مالك - عن سُمَيٍّ مولى أبي بكر عن أبي صالح السَّمَّان عنه. وأخرجه أحمد (2/417) من طريق سُهيل عن أبيه به نحوه، وفيه: " اللهم ربنا! ولك الحمد ". بزيادة الواو. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وله عند مسلم (2/20) ، و {أبي عوانة [2/109] } طريق أخرى روياه عن شعبة عن يعلى بن عطاء: سمعتُ أبا علقمة: سمعت أبا هريرة به نحو حديث مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 وكان يرفع (1) يديه عند هذا الاعتدال على الوجوه المتقدمة في تكبيرة الإحرام، ويقول وهو قائم - كما مر آنفاً -: 1- " ربنا! ولك الحمد ". وتارةً يقول: 2- " ربنا! لك الحمد ". بدون الواو.   وكذلك أخرجه الطحاوي (1/140) ، والطيالسي، وأحمد. وفي رواية له (2/467) مثل رواية سهيل المذكورة. وقد تقدم لفظه بتمامه في (القيام) [ص 87] . وسنده سند مسلم. (1) وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك عن جمع من الصحابة - وقد بلغوا العشرين - في (الرفع عند الركوع) ، وذكرنا أقوال العلماء في هذه المسألة، وأسماء من ذهب إلى مشروعية ذلك من الحنفية، فراجعه إن شئت [ص 601 - 622] . 1- هو رواية في حديث أبي هريرة المذكور فيما سبق. ويشهد له أحاديث: منها: عن ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما. وقد مضى في (رفع اليدين) . ومنها: عن عائشة: عند البخاري (2/427) ، ومسلم (3/28) ، والطحاوي (1/141) وغيرهم في حديث صلاة الكسوف. ومنها: عن أبي سعيد الخدري في رواية عنه - كما يأتي -. 2- هو رواية من حديث أبي هريرة المار سابقاً. وله شواهد: منها: عن حذيفة. وقد ذُكر لفظه بتمامه في (القراءة في صلاة الليل) . ومنها: عن أبي سعيد: عند مسلم وغيره - كما يأتي -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 وأحياناً يقول: 3- " اللهم ربنا! ولك الحمد ". تارة بالواو.   3- إن إنكار ابن القيم في " الزاد " (1/78) لصحة هذه الرواية الجامعة بين: (اللهم!) و: (الواو) ؛ ذهولٌ منه لا يجوز أن يُغتر به؛ لثبوتها في " البخاري " وغيره؛ ولذلك تعجب منه الزرقاني في " شرح المواهب " (7/318) ، ورد عليه الحافظ في " الفتح " (2/225) . وقد أخرجها البخاري (2/224) ، وأحمد أيضاً (2/452) من طرق عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قال: " سمع الله لمن حمده "؛ قال: " اللهم ربنا! ولك الحمد ". وقد وجدت له طريقاً أخرى أخرجها النسائي (1/162) ، وأحمد (2/270) عن عبد الرزاق قال: ثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع رأسه من الركوع؛ قال: " اللهم ربنا! ولك الحمد ". وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. وله شواهد: منها: عن ابن عمر في رواية عنه من حديثه المتقدم في (رفع اليدين) . أخرجها الدارمي (1/300) . ومنها: عن أبي سعيد الخدري: عند البيهقي (2/94) . ويأتي قريباً إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 ..............................................................................   وقد ثبتت هذه الرواية من حديث أبي هريرة أيضاً من طرق عنه أمْراً بها، وكذا من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي موسى الأشعري. وقد سبق تخريجها قريباً. وروى البيهقي (2/96) القول بها عن علي بن أبي طالب من طريق أبي إسحاق عن الحارث عنه. وبالجملة؛ فمجيء هذه الرواية من هذه الطرق المختلفة عن هؤلاء الصحابة مما يبعد القول بعدم صحتها - كما فعل ابن القيم - كلَّ البعد. وأما قول الشوكاني - بعد أن حكى كلام ابن القيم (2/210) -: " وأقول: قد ثبت الجمع بينهما في " صحيح البخاري " في (باب صلاة القاعد) من حديث أنس بلفظ: " وإذا قال: (سمع الله لمن حمده) . فقولوا: (اللهم ربنا! ولك الحمد) ". وقد تطابقت على هذا اللفظ النسخ الصحيحة من " صحيح البخاري ". كذا قال! ولم أجده بهذا اللفظ في شيء من النسخ المطبوعة، وإنما هو في الباب المذكور (2/467) بلفظ: " ربنا! ولك الحمد ".. بدون: " اللهم! ". وكذلك ورد في (باب إنما جعل الإمام ليؤتم به) من " صحيحه " (2/143) ، وعليه مشى الحافظ في " شرحه "، ولم يُشِرْ أدنى إشارة إلى هذه الزيادة من حديث أنس. وكذلك ورد الحديث بدون الزيادة في " صحيح مسلم " (2/18) ، و " سنن أبي داود " (1/98) ، والنسائي (1/162) ، والترمذي (2/194) ، والدارمي (1/387) ، وابن ماجه (1/374) ، ومالك (1/155) وغيرهم. وقد مضى الحديث في (الصلاة قاعداً) - فلعل النُّسخَ التي أشار إليها الشوكاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 وتارة بدونها: 4- " اللهم ربنا! لك الحمد ".   نُسِخَت عن نسخة شاذة غير صحيحة. والله أعلم. ثم قال الحافظ في شرح حديث أبي هريرة: " قوله: (اللهم ربنا!) : ثبت في أكثر الطرق هكذا، وفي بعضها بحذف: " اللهم! "، وثبوتها أرجح، وكلاهما جائز، وفي ثبوتها تكرير النداء؛ كأنه قال: يا الله! يا ربنا! قوله: (ولك الحمد) : كذا ثبت زيادة الواو في طرق كثيرة، وفي بعضها - كما في الباب الذي يليه - بحذفها. قال النووي: المختار لا ترجيح لأحدهما على الآخر. وقال ابن دقيق العيد: كأن إثبات الواو دال على معنى زائد؛ لأنه يكون التقدير مثلاً: (ربنا! استجب ولك الحمد) ؛ فيشتمل على معنى الدعاء، ومعنى الخبر ". 4- هو رواية من حديث أبي هريرة المتقدم آنفاً من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عنه. أخرجه بهذا اللفظ الطيالسي (305) ، والطحاوي (1/141) ، والبيهقي (2/95) . وله شواهد: منها: عن علي بن أبي طالب في حديثه الطويل في أذكار الصلاة. وقد مضى في (الاستفتاح) . أخرجه بهذا اللفظ مسلم، والترمذي، والطحاوي (1/140) ، والدارقطني (130) ، والبيهقي، والطيالسي. ورواه أبو داود، والترمذي (2/53) ، وأحمد، وكذا مسلم في رواية، وابن نصر (76) ، والدارقطني أيضاً في رواية بلفظ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 ..............................................................................   " ربنا! ولك الحمد ". وكذلك رواه الدارمي (1/301) ؛ إلا أنه لم يذكر فيه (الواو) . ومنها: عن عبد الله بن أبي أوفى. أخرجه مسلم (2/46 - 47) ، وأبو داود (1/135) ، وابن ماجه (1/286) ، وأحمد (4/353 و 354 و 381) ، والطحاوي (1/140 - 141) ، والبيهقي (2/94) . وفي الباب عن ابن عباس، وأبي سعيد - كما يأتي قريباً إن شاء الله تعالى -. قال النووي في " المجموع " (3/418) - بعد أن ذكره بهذا اللفظ والألفاظ الثلاثة التي قبله -: " وكله في " الصحيح ". قال الشافعي والأصحاب: كله جائز ". ثم قال: " قال صاحب " الحاوي " وغيره: يستحب للإمام أن يجهر بقوله: (سمع الله لمن حمده) ؛ ليسمعَ المأمومون، ويعلموا انتقاله، كما يجهر بالتكبير، ويسر بقوله: (ربنا! لك الحمد) ؛ لأنه يفعله في الاعتدال، فأسر به؛ كالتسبيح في الركوع والسجود. وأما المأموم؛ فيُسِرُّ بهما، كما يُسِرُّ بالتكبير، فإن أراد تبليغَ غيره انتقالَ الإمامِ - كما يبلغ التكبيرَ -؛ جهر بقوله: (سمع الله لمن حمده) ؛ لأنه المشروع في حال الارتفاع، ولا يجهر بقوله: (ربنا! لك الحمد) ؛ لأنه إنما يشرع في حال الاعتدال ". قلت: وفي جهر الإمام بالتسميع حديث أبي سعيد الخدري: أنه جهر بالتكبير حين افتتح الصلاة ... الحديث. وفيه: وحين قال: " سمع الله لمن حمده " ... الحديث. وفيه: هكذا رأيت رسول الله يصلي. وقد مضى في (التكبير) . ولكنه ليس صريحاً في ذلك؛ لاحتمال أن يكون المراد: وجهر بالتكبير حين قال: " سمع الله لمن حمده ". ويعني به: التكبير للهُويّ إلى السجود، ويحتمل أن المراد: وجهر حين قال: " سمع الله لمن حمده ". أي: به. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 {وكان يأمر بذلك، فيقول: " إذا قال الإمام: (سمع الله لمن حمده) . فقولوا: (اللهم رَبَّنا! لك الحمد) ؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه " (*) } . وكان تارةً يزيد على ذلك إما: 5- " ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد ". وإما:   (*) سبق تخريجه (ص 681) ، وتقدم في (القيام) (ص 87) . 5- هو من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذا رفع ظهره من الركوع؛ قال: " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا! لك الحمد، ملء السماوات ... ". إلخ دون الزيادة (*) . أخرجه مسلم (2/46 - 47) ، وأبو عوانة (2/177) ، وأبو داود، وابن ماجه، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد - كما سبق قريباً -؛ رووه كلهم - حاشا الطحاوي - عن الأعمش عن عبيد بن الحسن عنه. وقد تابعه قيس بن الربيع: عند الطيالسي - كما يأتي -. وكذلك تابعه مِسْعَر: عند أحمد (4/355 و 356) ، لكن لم يقل: إذا رفع ظهره من الركوع.   (*) يعني: قوله: " اللهم! طهرني بالثلج والبرد، والماء البارد. اللهم! طهرني من الذنوب والخطايا؛ كما ينقى الثوبُ الأبيض من الوسخ (وفي لفظ: الدرن. وفي آخر: الدَّنَس) ". وهذه زيادة كان الشيخ قد أثبتها في المتن، ثم ضرب عليها، وقال: " ضربنا عليه؛ لأنه ليس في شيء من طرقه أنه كان يقوله بعد الركوع، وإنما هو مطلق ". وقد أثبتناه؛ لما له من تعلق بالتخريج كما سيمر معك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 ..............................................................................   وكذلك أخرجه الطحاوي عن شعبة: أخبرني عبيد بن حسن به. وكذلك أخرجه مسلم، وأحمد في رواية. وأخرجه الطيالسي (110) قال: ثنا شعبة وقيس عن عُبيد بن الحسن به. قال أبو داود: " قال قيس في حديثه: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول هذا إذا رفع رأسه من الركوع ". ثم قال أبو داود: " قال شعبة: وسمعت مَجْزأة بن زاهر يقول: سمعت ابن أبي أوفى يذكر هذا الدعاء وزاد فيه: " اللهم! طهرني ... " إلخ. وكذلك أخرجه مسلم، والبخاري في " الأدب المفرد " (99) . وتابعه عنده (98) إسرائيل عن مَجْزَأَة، وأحمد (4/354) عن شعبة به مرفوعاً مصرحاً به. لكنه مطلق أيضاً؛ ليس فيه تقييده بما بعد الركوع. وروى النسائي (1/70) منه هذه الزيادة. وتابعه عنده رقبة عن مجزأة، والترمذي (2/271 - طبع بولاق) من طريق أخرى. وله كذلك طريق أخرى أخرجه الإمام أحمد (4/381) عن ليث عن مُدْرِك عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو؛ فيقول: " اللهم! طهرني بالثلج ... " إلخ. وزاد: " وباعد بيني وبين ذنوبي؛ كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم! إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وعلم لا ينفع، اللهم! إني أعوذ بك من هؤلاء الأربع، اللهم! إني أسألك عيشة نقية، وميتة سوية، ومردّاً غيرَ مُخزٍ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 ..............................................................................   وليث هو: ابن أبي سليم، وفيه كلام. ومدرك هو: ابن عمارة بن عُقبة، روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في " الثقات "، وهو من رجال " التعجيل ". فقد ظهر بهذه الطرق أن قوله: " اللهم! طهرني ... ". لم يأت ولو في طريق واحد أنه كان يقوله بعد الركوع. فعليه: فإيراده فيما يقال بعد الركوع - كما فعل ابن القيم في " زاد المعاد "، وغيره في غيره - ليس بجيد. فتنبه. وللحديث شاهد من حديث ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قال: " سمع الله لمن حمده ". قال: " اللهم ربنا! لك الحمد ملء السماوات ... " إلخ. أخرجه مسلم (2/48) ، و {أبو عوانة [2/176] } ، والنسائي (1/162) ، والطحاوي (1/140) ، والبيهقي (2/94) ، وأحمد (1/370) من طرق عن هشام بن حسان: ثنا قيس بن سعد عن عطاء عنه. وأخرجه أحمد (1/270) من طريق حماد - يعني: ابن سلمة - عن قيس بن سعد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وكذلك أخرجه أيضاً (1/275 و 333) من طرق أخرى عن سعيد بن جبير به. ثم أخرجه مسلم، {وأبو عوانة [2/177] } ، والبيهقي من طريق هُشيم بن بَشِير عن هشام بن حسان به بزيادة: " أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 6- " مِلْءَ (1) السماوات، و [مِلْءَ] الأرض، و [مِلْءَ] ما بينهما، ومِلْءَ ما شئت من شيء بعد " (2) .   وله شاهد من حديث ابن مسعود. أخرجه الطبراني في " الكبير " من طرق في بعضها: أشعث بن سَوَّار، وفي الأخرى: محمد بن أبي ليلى، وفي كل منهما ضعف. (1) بكسر الميم، وبنصب الهمزة بعد اللام ورفعها. واختلف في الراجح منهما، والأشهر النصب. كما قال النووي. قال العلماء: معناه: حمداً لو كان أجساماً؛ لملأ السماوات والأرض. وقال السندي: " تمثيل وتقريب. والمراد تكثير العدد، أو تعظيم القدر. " وملء ما شئت من شيء بعد ": كالعرض والكرسي ونحوهما مما في مقدور الله تعالى ". (2) روى ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديثه الطويل المتقدم [ص 242] ، والزيادتان عند مسلم، والترمذي، وابن نصر، والبيهقي في رواية، والطيالسي. والأولى فقط عند أبي داود، والدارقطني. والثانية عند الدارمي. قال الترمذي - بعد أن ساق الحديث -: " والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول الشافعي؛ قال: يقول هذا في المكتوبة والتطوع. وقال بعض أهل الكوفة: يقول هذا في صلاة التطوع، ولا يقولها في صلاة المكتوبة ". قلت: والصواب ما قاله الشافعي؛ لثبوت ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قول الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه؛ فقد قال إسحاق بن منصور المروزي في " مسائله ": " قلت - يعني لأحمد -: إذا رفع رأسه من الركوع يزيدُ على " ربنا! ولك الحمد "؟ قال: إذا كان وحده؛ يقول: " ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 ..............................................................................   بعد ". وإذا كان خلف الإمام فقال الإمام: " سمع الله لمن حمده ". وقال من خلفه: " ربنا! ولك الحمد ". وإن شاء قال: " اللهم ربنا! ولك الحمد ". قال إسحاق - يعني: ابن راهويه -: كما قال - يعني: أحمد -، ولكن من خلفه يقولون مثل ما قال الإمام: " ربنا! ولك الحمد " إلى قوله: " ما شئت من شيء بعد ". وإن مدَّ إلى: " منك الجد " إذا كان إماماً؛ أحب إلي في المكتوبة والتطوع ". اهـ. والظاهر أنه سقط من جواب الإمام أحمد شيء من الكلام، ولعل ما في " مسائل أبي داود " عنه يتمه ويوضحه. قال أبو داود (33 - 34) : " سمعت أحمد سئل: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع مع الإمام؟ قال: إذا قال الإمام: " سمع الله لمن حمده، ربنا! ولك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد ". يقول من خلفه: " ربنا! لك الحمد ". وإن شاؤوا: " اللهم ربنا! لك الحمد ". لا يزيدون على ذلك ". قال أبو داود: " وسمعته سئل عن إمام رفع رأسه فأطال القيام؟ قال: لا يقول من خلفه إلا: " ربنا! ولك الحمد ". ثم قال أبو داود: " قلت لأحمد مرة أخرى: أدعو بدعاء ابن أبي أوفى إذا رفعت رأسي من الركوع؟ قال: إذا كنت تصلي وحدك؛ تقوله، أو يكون الإمام يقوله. قلت: في الفريضة؟ قال: نعم ". اهـ. فكلام أحمد متفق مع كلام إسحاق والشافعي في استحباب ذلك في المكتوبة، لكن أحمد كان يمنع المؤتم من ذلك، ولعله خشية أن تفوتَه متابعة الإمام بسبب ذلك، ولكنه رجع أخيراً إلى استحباب ذلك؛ إذا كان الإمام يطيل القيام، ويقول ذلك، وهذا هو الحق؛ لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 وتارة يضيف إلى ذلك قوله: 7- " أهل (1) الثناء والمجد، لا مانع لما (2) أعطيت، ولا معطي لما (2) منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ (3) منك الجَدُّ ".   " صلوا كما رأيتموني أصلي ". وقوله: " إنما جعل الإمام ليؤتم به ". ثم ما تقدم في رواية المروزي: " وإن شاء قال: " اللهم ربنا! ولك الحمد " ". كذا في النسخة الظاهرية، وأخشى أن تكون الواو زائدة؛ فقد قال أبو داود في " مسائله " (34) : " قلت لأحمد: إذا قال: " اللهم! " لا يقول - يعني: الواو في: " ربنا! ولك الحمد " -؟ قال: نعم ". فهذا نص صريح منه في أنه لا يرى الجمع بين: " اللهم! " و: (الواو) ، ولعل ذلك مستند ابن القيم في إنكار ذلك، وقد سبق الرد عليه، وبيان الروايات الواردة في الجمع بينهما. 7- هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه في رواية لمسلم، {وأبي عوانة} ، والبيهقي. وقد سبق قريباً. (1) بالنصب على الاختصاص والمدح، أو بتقدير: يا أهلَ الثناء! أو بالرفع بتقدير: أنت أهلُ الثناء. و (المجد) : العظمة، ونهاية الشرف. (2) (ما) هنا: يعم العقلاء وغيرهم. كما قال السندي. (3) بالفتح على الصحيح المشهور - كما قال النووي -. وهو الحظ والغنى، والعظمة والسلطان؛ أي: لا ينفع ذا الحظ في الدنيا بالمال والولد، والعظمة والسلطان منك حظُّه؛ أي: لا ينجيه حظُّه منك، وإنما ينفعه وينجيه العمل الصالح؛ كقوله تعالى: {المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 وتارة تكون بإضافة: 8- " ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد،   8- هو من حديث أبي سعيد الخدري قال: كإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع رأسه من الركوع؛ قال: " ربنا! لك الحمد ملء السماوات ... " إلخ. أخرجه الدارمي (1/301) ، وعنه مسلم (2/47) ، {وأبو عوانة [2/176] } ، والبيهقي (2/94) ، وأبو داود (1/135) ، والنسائي (1/163) ، والطحاوي (1/141) ، وابن نصر (77) ، والبيهقي أيضاً، وأحمد (3/87) ؛ كلهم - إلا ابن نصر - عن سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس عن قَزَعَةَ عنه. وأما ابن نصر؛ فقال: عن سُويد بن عبد العزيز: ثني بُريد ابن أبي مريم عن قَزَعَةَ به. والزيادتان عند الدارمي، ومسلم، وابن نصر. والأخرى منهما عند أبي داود، {وأبي عوانة} . وللحديث شاهد من حديث شَرِيك عن أبي عمر - وهو المَنْبِهي - قال: سمعت أبا جُحَيفة يقول: ذكرت الجدود عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في الصلاة؛ فقال رجل: جد فلان في الخيل. وقال آخر: جد فلان في الإبل. وقال آخر: جد فلان في الغنم. وقال آخر: جد فلان في الرقيق. فلما قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاته، ورفع رأسه من آخر الركعة؛ قال: " اللهم ربنا! لك الحمد ... " إلخ. دون قوله: " أهل الثناء " إلى قوله: " وكلنا لك عبد ". وزاد: وطوَّل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته بالجد؛ ليعلموا أنه ليس كما يقولون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 أهل الثناء والمجد، أحق (1) ما قال العبد - وكلنا لك عبد -[اللهم!] لا مانع لما أعطيت، [ولا معطي لما منعت] ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ ". وتارة يقول في صلاة الليل: 9- " لربي الحمد، لربي الحمد ". يكرر ذلك؛ حتى كان قيامه نحواً من ركوعه الذي كان قريباً من قيامه الأول، وكان قرأ فيه سورة {البَقَرَة} .   أخرجه ابن ماجه (1/286 - 287) ، والطحاوي (1/141) بنحوه. وأبو عمر هذا: مجهول - كما في " التقريب " وغيره -؛ تفرد عنه شريك هذا - وهو: ابن عبد الله -؛ كما في " الميزان " وغيره. (1) مبتدأ خبره: " اللهم! لا مانع ... " إلخ. واعترض بينهما: " وكلنا لك عبد ". قال النووي: " وإنما يعترض ما يعترض من هذا الباب؛ للاهتمام به، وارتباطه بالكلام السابق، وتقديره هنا: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت ... ، وكلنا لك عبد. فينبغي لنا أن نقوله. وفي هذا الكلام دليل ظاهر على فضيلة هذا اللفظ؛ فقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي لا ينطق عن الهوى - أن هذا أحق ما قاله العبد، فينبغي أن نحافظ عليه؛ لأن كلنا عبد، ولا نهمله، وإنما كان أحق ما قاله العبد؛ لما فيه من التفويض إلى الله تعالى، والإذعان له، والاعتراف بوحدانيته، والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا به، والحث على الزهادة في الدنيا، والإقبال على الأعمال الصالحة ". 9- هو من حديث حذيفة رضي الله عنه: عند أصحاب " السنن " وغيرهم. وقد مضى لفظه بتمامه في آخر نوع من (أدعية الاستفتاح) ، {وهو مخرج في " الإرواء " (335) } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 10- " ربنا! ولك الحمد؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، [مباركاً   10- هو من حديث رِفاعة بن رافع قال: كنا يوماً نصلي وراء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... الحديث. أخرجه مالك (1/214) ، وعنه البخاري (2/227 - 228) ، وأبو داود (1/123) ، والنسائي (1/162) ، والبيهقي (2/95) ، وأحمد (4/340) - كلهم عن مالك - عن نُعَيم بن عبد الله المُجْمِر عن علي بن يحيى الزُّرَقي عن أبيه عنه. وكذلك أخرجه الحاكم (1/225) عن مالك، وقال: " صحيح. ولم يخرجاه ". ووافقه الذهبي. وقد وهما في الاستدراك على البخاري. وله طريق أخرى - وفيها الزيادة - عند أبي داود، والنسائي (1/147) ، والترمذي (2/254 - 255) ، والبيهقي عن رِفاعة بن يحيى بن عبد الله بن رِفاعة بن رافع الزُّرَقي عن عم أبيه مُعاذ بن رفاعة عن أبيه بلفظ: صليت خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعطست؛ فقلت: الحمد لله؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، مباركاً عليه؛ كما يحب ربنا ويرضى. فلما صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ انصرف فقال: " من المتكلم في الصلاة؟ ". فلم يتكلم أحد. ثم قالها الثانية: " من المتكلم في الصلاة؟ ". فلم يتكلم أحد. ثم قالها الثالثة: " من المتكلم في الصلاة؟ ". فقال رفاعة بن رافعِ ابن عفراء: أنا يا رسول الله! ... الحديث. والباقي نحوه. وقال الترمذي: " حديث حسن ". وهو كما قال. وفيه زيادات ليست في الأول، كما أن في هذا أن ذلك كان بعد العطاس، وفي ذاك أنه كان بعد الركوع، وقد جمع الحافظ بينهما بأن العطاس كان وقع بعد الرفع من الركوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 عليه (1) ؛ كما يحب ربنا ويرضى] ". قاله رجل كان يصلي وراءه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدما رفع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من الركعة وقال: " سمع الله لمن حمده "، فلما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: " من المتكلم آنفاً؟ ". فقال الرجل: أنا يا رسول الله! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   وللحديث شواهد: منها: عن عامر بن ربيعة: عند أبي داود بنحو حديث رِفاعة بن يحيى. وسنده ضعيف. وأما العراقي؛ فقال في " تخريج الإحياء " (2/183) : " وإسناده جيد "! ومنها: عن ابن عمرو: عند البزار. وعن ابن عمر: عند الطبراني في " الكبير " بنحو حديث مالك. وإسناد كل منهما ضعيف. وعن وائل بن حُجْر، وليس فيه ذكر الركوع ولا العطاس. رواه النسائي، وأحمد (4/317) . ورجاله ثقات رجال مسلم، لكنه منقطع. (1) قال الحافظ: " يحتمل أن يكون تأكيداً - يعني: لقوله: مباركاً فيه. قال: -، وهو الظاهر. وقيل: الأول: بمعنى الزيادة. والثاني: بمعنى البقاء. قال: وأما قوله: (كما يحب ربنا ويرضى) ؛ ففيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد ". اهـ. وفي الحديث هذا الذكر في هذا الموضع، ويستحب أن يضم إليه ما سبق من الأنواع مما كان يقوله عليه الصلاة والسلام على اختلاف الأحوال؛ إذا كان يريد إطالة هذا القيام؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 " لقد رأيت بضعة (1) وثلاثين ملكاً يَبْتَدِرُوْنَها (2) ؛ أيهم يكتبها أولاً (3) ".   اتباعاً للسنة - كما ذكرنا فيما تقدم، ويأتي قريباً -. وقد قال النووي في " الأذكار ": " يستحب أن يجمع بين هذه الأذكار كلها، فإن اقتصر؛ فعلى: " سمع الله لمن حمده، ربنا! لك الحمد ". فلا أقل من ذلك ". قلت: وهو بهذا الكلام يخالف لما هو الأصح من مذهب الشافعية؛ وهو أن الصلاة تبطل بإطالة هذا الاعتدال؛ لأنه ركن قصير عندهم. ولكن النووي رحمه الله ليس بالإمَّعة، بل شأنه شأن المحققين المنصفين من العلماء؛ يدورون مع الحق حيث دار؛ غير متحيزين لفئة، ولا متعصبين لمذهب؛ بل يتبعون ما صح عندهم من السنة المحمدية. وقد ذكر في " المجموع " (4/126 - 127) الخلاف في هذه المسألة، ثم عقب ذلك بذكر حديث حذيفة في صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليل، وفيه: أنه قرأ في ركعة بـ: {البَقَرَة} و {النِّسَاء} و {آلِ عِمْرَان} ، ثم ركع نحواً من قيامه. ثم قال: " سمع الله لمن حمده، ربنا! لك الحمد ". ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع. ثم قال النووي: " وفيه التصريح بجواز إطالة الاعتدال بالذكر، والجواب عنه صعب على من منع الإطالة؛ فالأقوى جوازها بالذكر ". اهـ. وإلى هذا ذهب المحقق ابن دقيق العيد - كما سيأتي كلامه في ذلك قريباً -. (1) فيه رد على من زعم - كالجوهري - أن البضع يختص بما دون العشرين. كذا في " الفتح ". (2) أي: يَسْتَبِقُون في كتابتها؛ يريد كل منهم أن يسبق صاحبه في ذلك، قاصدين (أيهم يكتبها أولاً) ؛ أي: سابقاً، وقبل الآخرين. وضمير التأنيث لهذه الكلمات. (3) روي بالنصب على الحال، وروي بالضم على البناء؛ لقطعه عن الإضافة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 إطالةُ هذا القيام، ووجوبُ الاطمئنان فيه وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل قيامه هذا قريباً من ركوعه - كما تقدم - (1) ؛ بل " كان   (1) هو من حديث البراء بن عازب. وقد سبق أواخر (الركوع) تخريجه [ص 667] . قال في " الفتح ": " قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يدل على أن الاعتدال ركن طويل، وحديث أنس - يعني: الآتي بعده - أصرح في الدلالة على ذلك، بل هو نص فيه؛ فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف؛ وهو قولهم: لم يُسن فيه تكرير التسبيحات كالركوع و السجود . ووجهُ ضعفهِ أنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسد. وأيضاً؛ فالذكر المشروع في الاعتدال أطول من الذكر المشروع في الركوع؛ فتكرير " سبحان ربي العظيم " ثلاثاً يجيء قدر قوله: " اللهم ربنا! ولك الحمد؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ". وقد شُرع في الاعتدال ذكر أطول - ثم ذكر ما تقدم من حديث أبي سعيد الخدري وغيره -. وقد تقدم في الحديث الذي قبله ترك إنكار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من زاد في الاعتدال ذكراً غير مأثور. ومن ثَمَّ اختار النووي جواز تطويل الركن القصير بالذكر؛ خلافاً للمرجح في المذهب ". كما سبق قريباً. قال الحافظ: " وقد أشار الشافعي في " الأم " (1/98) إِلى عدم البطلان؛ فقال في ترجمة (كيف القيام من الركوع) : ولو أطال القيام بذكر الله، أو يدعو ساهياً، وهو لا ينوي به القنوت؛ كرهتُ له ذلك، ولا إعادة ... إلى آخر كلامه. فالعجب ممن يصحح - مع هذا - بطلان الصلاة بتطويل الاعتدال! وتوجيههم ذلك أنه (إذا أطيل؛ انتفت الموالاة) معترض بأن معنى الموالاة: أن لا يتخلل فصل طويل بين الأركان بما ليس منها، وما ورد به الشرع لا يصح نفي كونه منها ". انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 يقوم أحياناً حتى يقول القائل: قد نسي (1) ؛ [من طول ما يقوم] " (2) .   وقولهم: لم يسن فيه تكرار التسبيحات ... إلخ. مخالف لما سبق أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكرر فيه قوله: " لربي الحمد، لربي الحمد ". فسقط اعتبار هذا القول والقياس عليه من أصله؛ فلا يلتفت إليه. (1) أي: نسي وجوب الهوي إلى السجود. ويحتمل أن يكون المراد: أنه نسي أنه في صلاة، أو ظن أنه وقت القنوت. من " الفتح ". (2) هو من حديث أنس بن مالك. رواه ثابت عنه قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بنا. فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع؛ انتصب قائماً، حتى يقول القائل: قد نسي. وإذا رفع رأسه من السجدة؛ مكث، حتى يقول القائل: قد نسي. أخرجه البخاري (2/239) ، ومسلم (2/45) ، والبيهقي (2/98 و 121) من طريق حماد بن زيد عنه. وقد تابعه حماد بن سلمة عنه. أخرجه مسلم، وأبو داود (1/136) ، وأحمد (3/247) من طرق عنه به، وزاد أبو داود في السند حميداً. قرنه مع ثابت. وسليمان - وهو: ابن المغيرة - عنه نحوه. أخرجه أحمد (3/223) . ومعمر عنده أيضاً (3/162) . ورواه شعبة عنه مختصراً قال: كان أنس يَنْعَتُ لنا صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكان يصلي، وإذا رفع رأسه من الركوع؛ قام حتى نقول: قد نسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 وكان يأمر بالاطمئنان فيه؛ فقال (للمسيء صلاته) : " ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً؛ [فيأخذ كل عظم مَأْخَذَه] "، (وفي رواية: " وإذا رفعت؛ فأقم صلبك، وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها ") وذكر له: " أنه لا تتم صلاة لأحد من الناس إذا لم يفعل ذلك " (1) . وكان يقول:   أخرجه البخاري (2/228 - 229) ، والبيهقي (2/97) ، والطيالسي (272) ، وأحمد (3/172) ، والزيادة عندهما، وهي عند الإسماعيلي أيضاً في " مستخرجه على البخاري ". {وهو مخرج في " الإرواء " (307) } . (1) هو من حديث أبي هريرة، والزيادة وما بعدها من حديث رِفاعة بن رافع. وقد سبقا. {والمراد بـ (العظام) هنا: عظام سلسلة الظهر وفقراته - كما تقدم قريباً في (الاعتدال من الركوع ... ) -. و (المفاصل) جمع (مَفصِل) : ملتقى كل عظمين في الجسد. انظر " المعجم الوسيط ". (تنبيه) : إن المراد من هذا الحديث بيِّن واضح، وهو الاطمئنان في هذا القيام. وأما استدلال بعض إخواننا من أهل الحجاز وغيرها بهذا الحديث على مشروعية وضع اليمنى على اليسرى في هذا القيام؛ فبعيدٌ جدّاً عن مجموع روايات الحديث - وهو المعروف عند الفقهاء بـ: (حديث المسيء صلاته) -؛ بل هو استدلال باطل؛ لأن الوضع المذكور لم يرد له ذكر في القيام الأول في شيء من طرق الحديث وألفاظه؛ فكيف يسوغ تفسير الأخذ المذكور فيه بأخذ اليسرى باليمنى بعد الركوع؟ هذا لو ساعد على ذلك مجموع ألفاظ الحديث في هذا الموطن؛ فكيف وهي تدل دلالة ظاهرة على خلاف ذلك؟! ثم إن الوضع المذكور غير متبادر من الحديث ألبتة؛ لأن المقصود بـ (العظام) فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 ..............................................................................   عظام الظهر - كما تقدم -. ويؤيد ما سبق من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... استوى حتى يعود كل فقار مكانه. فتأمل منصفاً. ولست أشك في أن وضع اليدين على الصدر في هذا القيام بدعة ضلالة؛ لأنه لم يرد مطلقاً في شيء من أحاديث الصلاة - وما أكثرها! -، ولو كان له أصل؛ لنقل إلينا ولو عن طريق واحد، ويؤيده أن أحداً من السلف لم يفعله، ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما أعلم. ولا يخالف هذا ما نقله الشيخ التويجري في " رسالته " (ص 18 - 19) عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: " إن شاء؛ أرسل يديه بعد الرفع من الركوع، وإن شاء؛ وضعهما " (هذا معنى ما ذكره صالح ابن الإمام أحمد في " مسائله " (ص 90) عن أبيه) ؛ لأنه لم يرفع ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما قاله باجتهاده ورأيه، والرأي قد يخطئ، فإذا قام الدليل الصحيح على بدعية أمر ما - كهذا الذي نحن في صدده -؛ فقول إمام به لا ينافي بدعيته - كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه -؛ بل إنني لأجد في كلمة الإمام أحمد هذه ما يدل على أن الوضع المذكور لم يثبت في السنة عنده؛ فإنه خيَّر في فعله وتركه! فهل يظن الشيخ الفاضل أن الإمام يُخَيِّر أيضاً كذلك في الوضع قبل الركوع؟! فثبت أن الوضع المذكور ليس من السنة، وهو المراد. هذه كلمة مختصرة حول هذه المسألة، وهي تتحمل البسط والتفصيل، ولا مجال لذلك هنا، ومحله الرد الذي أشرت إليه في مقدمة الطبعة الخامسة (ص 30) من هذه الطبعة الجديدة} (*) .   (*) " صفة الصلاة " المطبوع (ص 138 - 139) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 " لا ينظر الله عز وجل إلى صلاةِ عبدٍ لا يقيمُ صُلْبَه بين ركوعها وسجودها " (1) .   (1) هو من حديث طَلْق بن علي رضي الله عنه، قال المنذري في " الترغيب " (1/182) : " رواه الطبراني في " الكبير "، ورجاله ثقات ". وقال الهيثمي (2/120) : " رواه أحمد، والطبراني في " الكبير "، ورجاله ثقات ". قلت: وهو في " مسند أحمد " (4/22) هكذا: ثنا وكيع قال: ثنا عِكرمة بن عَمّار عن عبد الله بن زيد أو بدر - أنا أشك - عن طلق بن علي مرفوعاً به. وهذا سند صحيح. رجاله كلهم ثقات، إذا كان عبد الله هذا هو: ابن بدر؛ فإنه ثقة - كما في " التقريب " -. والظاهر أنه هو؛ فإن له في " المسند " غير ما حديث من روايته عن طلق، وهو الذي استصوبه الحافظ ابن حجر؛ فقد قال في " التعجيل " - عقب قول الأصل -: " عبد الله بن زيد أو: بدر - هكذا بالشك - عن طلق بن علي، وعنه عكرمة بن عمار ". قال الحافظ: " الذي رأيته في أصل " المسند ": ثنا وكيع ... " فساقه بإسناده المذكور، لكن قال: " عن عبد الله بن بدر عن طلق به ". لم يذكر فيه الشك. ثم قال: " وليس في (مسند طلق بن علي) من " مسند أحمد " لعكرمة بن عمار ذكر، إلا في هذا الحديث، ولم أر فيه: أو: ابن زيد.. بالشك، وعبد الله بن بدر هو الصواب ". اهـ. قلت: وهذا اختلاف منشؤه من اختلاف النسخ، وأنا أرجح أن النسخة الصحيحة هي التي نقلنا عنها، واعتمد عليها صاحب الأصل المشار إليه؛ وهو: أبو عبد الله محمد ابن علي بن حمزة الحسيني. وذلك لأني رأيت الحديث في " المختارة " للضياء المقدسي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 ..............................................................................   رواه من طريق أحمد بإسناده هذا على الشك. ثم إن الظاهر أن الشك من الإمام أحمد، ولعل الطبراني رواه بدون شك عن عبد الله ابن بدر؛ حتى جاز للمنذري ثم الهيثمي بأن يجزما بأن رجاله كلَّهم ثقات. فلو أن الرواية عند الطبراني على الشك أيضاً - كرواية أحمد -؛ لَمَا جاز لهما الجزم بذلك - كما لا يخفى -، إلا أن تكون نسختهما من " المسند " مثل نسخة الحافظ ابن حجر؛ فهذا محتمل. والله أعلم. ومما يرجح ما استظهرناه واستصوبه الحافظ - أن عبد الله هذا هو ابن بدر -؛ أن الإمام أحمد أخرج الحديث (2/525) من طريق عمر بن يِسَاف: ثنا يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن بدر الحنفي عن أبي هريرة مرفوعاً به. فالحديث إذن حديث ابن بدر الحنفي، لكن اختلف عليه في اسم الصحابي؛ فعكرمة سماه: طَلْق بن علي، ويحيى أسماه: أبا هريرة. إلا أنه قد وقع في اسم والد عبد الله الحنفي خلاف أيضاً في نسخ " المسند "؛ فقد قال الهيثمي - بعد ذكر الحديث عن أبي هريرة -: " رواه أحمد من رواية عبد الله بن زيد الحنفي عن أبي هريرة، ولم أجد من ترجمه ". اهـ. وبناء على نسخة الهيثمي هذه؛ فقد استدرك هو على أبي عبد الله الحسيني هذا الاسم، فقال الحافظ في " التعجيل " أيضاً: " هكذا استدركه شيخنا الهيثمي، والذي في الأصل من (مسند أبي هريرة) حديث من طريق عامر بن يِسَاف ". قلت: فساقه كما هو في نسختنا من " المسند ". ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 ..............................................................................   " وعبد الله بن بدر من رجال " التهذيب "، لكنه لا يروي عن أبي هريرة إلا بواسطة؛ فلعل شيخه سقط من النسخة ". اهـ. ومن كلام الحافظ الأخير نعلم أن قول الحافظ المنذري (1/183) : " إسناده جيد ". وقول العراقي في " تخريج الإحياء " (1/132) : " إسناده صحيح ". غير صحيح؛ لما فيه من الانقطاع، وأيضاً فإن فيه عامر بن يِسَاف، وهو متكلم فيه؛ قال ابن عدي: " هو منكر الحديث، ومع ضعفه؛ يكتب حديثه ". وله ترجمة في " الميزان "، و" اللسان "، وفي " التعجيل ". هذا، وما ذكرناه من الترجيح في اسم عبد الله بن بدر هو الذي استطعنا الوصول إليه من التحقيق. ولعل الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد محمد شاكر يزيد ذلك توضيحاً وتحقيقاً في تعليقه على " المسند " الذي هو في صدد إتمام طبعه. وقد وصلنا منذ أيام الجزء الأول منه؛ فرأيناه غاية في التحقيق، وضبط الألفاظ والروايات، وفي جودة الطبع، وأناقته كسائر تأليفاته ومطبوعاته، فنسأله تعالى أن يزيده توفيقاً في خدمة سنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجزاه الله عن الإسلام خيراً. وهذا الحديث يدل على بطلان الصلاة بترك الاطمئنان في هذا الاعتدال، وهو أمر زائد على ما أفاده حديث (المسيء صلاته) من وجوب الاطمئنان. قال ابن حزم (3/266) : " من لم ينظر الله تعالى إليه في عملٍ ما؛ فذلك العمل بلا شك غير مرضيٍّ، وإذ هو غير مرضي؛ فهو يقيناً غير مقبول ". اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 ..............................................................................   وإلى هذا ذهب الشافعية، وأحمد، وداود، وأكثر العلماء؛ أن الاعتدال ركن لا تصح الصلاة إلا به؛ كما في " المجموع " (3/419) ، قال: " وقال أبو حنيفة: لا يجب، بل لو انحط من الركوع إلى السجود؛ أجزأه. وعن مالك روايتان كالمذهبين، واحتج لهم بقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ، واحتج أصحابنا بحديث (المسيء صلاته) ، والآية الكريمة لا تعارضه، وبقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلوا كما رأيتموني أصلي " ". * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 السجود التكبير ورفع اليدين عند الهوي إلى السجود (*) ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر، ويهوي ساجداً " (1) ، {وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له: " لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يقول: (سمع الله لمن حمده) . حتى يستوي قائماً؛ ثم يقول: الله أكبر. ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله " (2) و" كان إذا أراد أن يسجد؛ كبَّر، [ويجافي يديه عن جنبيه] ، ثم يسجد " (3) } . و" كان أحياناً يرفع يديه إذا سجد " (4) .   (*) هذا العنوان زيادة على الأصل، وجدنا الشيخ رحمه الله يعزو إليه - كموضوع - في مواضع من كتابه هذا؛ فجعلناه عنواناً. انظر (ص 610 و 799) وغيرها. (1) سبق هذا في حديث أبي هريرة المذكور في (قيامه من الركوع) [ص 674] . (2) { [رواه] أبو داود، والحاكم وصححه. ووافقه الذهبي، [وسبق تخريجه (ص 189) ] } . (3) {رواه أبو يعلى في " مسنده " (ق 284/2) بسندٍ جيد، وابن خزيمة (1/79/2) بسندٍ آخر صحيح} . (4) روى هذا الرفع عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، وقد سقت أحاديثهم وتكلمت عليها، وخرجتها في " التعليقات الجياد على زاد المعاد " حديثاً حديثاً، وبينت ما يصح إسناده منها، وما لا يصح، ولكنه يقوى في الشواهد؛ بحيث إن الواقف على هذه الأحاديث كلها يجزم جزماً قاطعاً بثبوته عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل وبتواتره عنه. وها نحن نسوق منها في هذا التعليق ما صح سنده ولا مطعن فيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 ..............................................................................   1- حديث مالك بن الحويرث: أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يديه في صلاته إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من السجود؛ حتى يحاذي بهما فروع أذنيه. أخرجه النسائي (1/165) ، وأبو عوانة (2/94) ، وعنه ابن حزم في " المحلى " (4/92) ، وأحمد في " المسند " (3/436 و 437 و 5/53) عن قتادة عن نصر بن عاصم عنه. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. قال الحافظ في " الفتح " (2/177) : " وهو أصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود ". قلت: وقد ترجم له النسائي ببابين؛ أحدهما: (باب رفع اليدين للسجود) . والآخر: (باب رفع اليدين عند الرفع من السجدة الأولى) . 2- عن وائل بن حجر. قال حصين بن عبد الرحمن: دخلنا على إبراهيم، فحدثه عَمْرو بن مُرَّة قال: صلينا في مسجد الحضرمييِّن، فحدثني علقمةُ بن وائل عن أبيه: أنه رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه حين يفتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا سجد. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. أخرجه الدارقطني (109) . وله طريق ثانٍ: قال شعبة: أخبرني عمرو بن مُرّة قال: سمعت أبا البَخْتَري يحدث عن عبد الرحمن اليَحْصَبي عن وائل الحضرمي: أنه صلى مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكان يكبّر إذا خفض، وإذا رفع، ويرفع يديه عند التكبير. وهذا سند حسن. رجاله رجال الستة؛ غير عبد الرحمن بن اليَحْصَبي، وقد روى عنه ثقتان، ووثقه ابن حبان. أخرجه الدارمي (1/285) ، والطيالسي (137) ، وأحمد (4/316) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 ..............................................................................   وهو يفيد الرفع مع كل تكبيرة. وقد صرح بذلك في رواية لأحمد (4/317) من طريق ثالث عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه. ورجاله موثقون. لكنه منقطع. وقد وصله أبو داود بسند صحيح، لكن ليس فيه التصريح بالرفع عند السجود؛ بل فيه التصريح بالرفع عند الرفع منه. وسيأتي هناك إن شاء الله تعالى. 3- حديث أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد. أخرجه الدارقطني، وابن حزم (4/92) ، والضياء المقدسي في " الأحاديث المختارة " من طريق عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثَّقَفي عن حميد عنه. قال القاضي أحمد محمد شاكر في " تعليقه ": " هذا إسناد صحيح جداً ". وهو كما قال؛ لولا أن الدارقطني، وكذا الطحاوي أعلاه بأنه موقوف على أنس - كما سبق في (الرفع عند الركوع) [ص 608]-. ولعل الجواب عن ذلك ما تقرر في المصطلح: أن زيادة الثقة مقبولة. وهو هنا عبد الوهاب الثقفي، وهو ثقة إمام، احتج به الشيخان وغيرهما، وقد رفع الحديث؛ فهي زيادة منه يجب قَبولها. وقال الهيثمي في " المجمع " (2/102) - بعد أن ساق الحديث -: " رواه أبو يعلى. ورجاله رجال " الصحيح " ". وقال الحافظ في " الدراية " (81) : " ورجاله ثقات ". قلت: وفي لفظ عند المقدسي في " المختارة " من طريق أبي بكر بن أبي شيبة: ثنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 ..............................................................................   عبد الوهاب به: كان يرفع يديه في الركوع والسجود. وهذا أعم من الأول؛ لتناوله الرفع عند السجود، وعند الرفع منه. 4- حديث عبد الله بن عمر: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه عند التكبير للركوع، وعند التكبير حين يهوي ساجداً. قال الهيثمي: " رواه الطبراني في " الأوسط ". وإسناده صحيح ". قلت: ورواه ابن حزم (4/93) من طريق عبد الوهاب الثقفي عن عُبيد الله عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا ركع، وإذا قال: (سمع الله لمن حمده) ، وإذا سجد، وبين الركعتين؛ يرفعهما إلى ثدييه. وهذا سند صحيح، لا داخلة فيه - كما قال ابن حزم -، وهو موقوف؛ ولكنه في حكم المرفوع؛ لأن ابن عمر قد روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان لا يرفع في السجود - كما سبق في (التكبير) -؛ فلولا أنه ثبت عند ابن عمر من طريق غيره من الصحابة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يرفع يديه في هذه المواطن؛ لما رجع إليه ابن عمر وعمل به، وهذا واضح لا يخفى. والحمد لله. ويؤيد ذلك أن عبد الله العمري رواه عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: إذا ركع، وإذا سجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 ..............................................................................   والعمري - وإن كان ضعيف الحفظ؛ فمتابعةُ غيره له تقويه. وقد سبقت روايته في (الرفع عند الركوع) [ص 604] . هذا، وقد عمل بهذه الأحاديث السلف الصالح رضي الله عنهم؛ خلافاً لما يظنه كثير من الناس، بل جزم بنفي ذلك بعض المتأخرين؛ وهو: الشيخ أنور الكشميري في كتابه " فيض الباري " (2/254) ، وسبقه إلى شيء من ذلك أبو جعفر الطحاوي؛ حيث ادعى الإجماع على أن لا يرفع بين السجدتين، ورد عليه الحافظ - كما رد ذلك غيرُه أيضاً؛ على ما سيأتي هناك -. وإليك النصوصَ الواردة عن السلف في ذلك: 1- قال أبو سلمة الأعرج: أدركت الناس كلهم يرفع يديه عند كل خفض ورفع. رواه ابن عساكر كما في " التلخيص " (3/272) ، وسكت عليه. 2- قال البخاري في " رفع اليدين " (24) : ثنا الهُذيل بن سليمان أبو عيسى قال: سألت الأوزاعي قلت: أبا عمرو! ما تقول في رفع الأيدي مع كل تكبيرة وهو قائم في الصلاة؟ قال: ذلك الأمر الأول. ثم ذكر (ص 18) عن عكرمة بن عمار قال: رأيت القاسم، وطاوساً، ومكحولاً، وعبد الله بن دينار، وسالماً يرفعون أيديهم إذا استقبل أحدهم الصلاة، وعند الركوع، وعند السجود. قال: وقال وكيع عن الربيع: قال: رأيت الحسن، ومُجاهداً، وعطاء، وطاوساً، وقيس بن سعد، والحسن بن مُسلِم يرفعون أيديهم إذا ركعوا، وإذا سجدوا. وقال عبد الرحمن بن مهدي: هذا من السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 ..............................................................................   وقد صرح الحافظ في " الفتح " (2/177) بصحة ذلك - يعني: الرفع في غير المواطن الثلاثة؛ الافتتاح، والركوع، والرفع منه - عن ابن عمر، وابن عباس، وطاوس، ونافع، وعطاء - كما أخرجه عبد الرزاق وغيره عنهم بأسانيدَ قوية -. اهـ. وقد ذهب إلى ذلك غير واحد من أئمة الفقه والحديث؛ ومنهم: إمام السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه في رواية عنه؛ ففي " بدائع الفوائد " لابن القيم (3/89) : " ونقل عنه الأثرم (الأصل: ابن الأثرم) ، وقد سئل عن رفع اليدين؟ فقال: في كل خفض ورفع. قال الأثرم: رأيت أبا عبد الله يرفع يديه في الصلاة في كل خفض ورفع ". وقال الحافظ أبو زُرعة [ابن العِراقيّ] في " طرح التثريب في شرح التقريب " (2/262) - بعد أن ذكر الأحاديث المتقدمة وغيرها -: " وصحح ابن حزم وابن القطان حديث الرفع في كل خفض ورفع، وأعله الجمهور ... فتمسك الأئمة الأربعة بالروايات التي فيها نفي الرفع في السجود؛ لكونها أصح، وضعفوا ما عارضها - كما تقدم -، وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف. وأخذ آخرون بالأحاديث التي فيها الرفع في كل خفض ورفع، وصححوها، وقالوا: هي مثبِتة؛ فهي مقدمة على النفي. وبه قال ابن حزم الظاهري، وقال: إن أحاديث رفع اليدين في كل خفض ورفع متواترة؛ توجب يقين العلم. ونقل هذا المذهب عن ابن عمر، وابن عباس، والحسن البصري، وطاوس، وابنه عبد الله، ونافع مولى ابن عباس - كذا، والصواب: نافع مولى ابن عمر؛ كما في " المحلى " -، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 ..............................................................................   وأيوب السَّخْتِياني، وعطاء بن أبي رباح. وقال به ابن المنذر، وأبو علي الطبري من أصحابنا، وهو قول عن مالك، والشافعي. فحكى ابن خُوَيْز مَنْدَاد عن مالك رواية؛ أنه يرفع في كل خفض ورفع. وفي أواخر " البُوَيطي ": يرفع يديه في كل خفض ورفع. وروى ابن أبي شيبة الرفع بين السجدتين عن أنس، والحسن، وابن سيرين ". واعلم أن قوله عن الجمهور: " وضعفوا ما عارضها كما تقدم ": إنما يريد به غير الأحاديث التي سردناها سابقاً؛ لأنه لم يتكلم عليها بشيء في المكان الذي أشار إليه، اللهم! إلا رواية من حديث ابن عمر رواها الطحاوي، وقال: " إنها شاذة. وصححها ابن القطان ". وأما رواية الطبراني التي اعتمدنا عليها؛ فلم يضعفها، بل صححها تلميذ أبيه الحافظ الهيثمي - كما سبق -. وإذ قد صحت الأحاديث بالرفع في كل خفض ورفع؛ فوجب الأخذ بها، ولا يجوز ردها ومعارضتها بالروايات التي فيها نفي الرفع؛ هذا لما تقرر في الأصول: أن المثبت مقدم على النافي. وعلى هذا الأصل أخذ جماهير العلماء بالأحاديث المثبتة للرفع عند الركوع، والرفع منه - كما سبق بيانه هناك -، فمن قدم منهم النفي ههنا؛ فهو واقع فيما أنكره على غيره من الحنفية الذين نفوا الرفع هناك -، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . وما أحسن كلام ابن حزم رحمه الله في الجمع بين الأحاديث المختلفة الواردة في هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 ..............................................................................   الباب! قال رحمه الله (4/93) : " فكان ما رواه الزهري عن سالم عن ابن عمر زائداً على ما رواه علقمة عن ابن مسعود ". يعني: نفيه للرفع إلا في الإحرام. قال: " ووجب أخذ الزيادة؛ لأن ابن عمر حكى أنه رأى ما لم يره ابن مسعود من رفع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه عند الركوع والرفع منه. وكلاهما ثقة، وكلاهما حكى ما شاهد. وكان ما رواه نافع ومُحارِب بن دِثَارٍ؛ كلاهما عن ابن عمر. وما رواه أبو حُميد وأبو قتادة وثمانية من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رفع اليدين عند القيام إلى (*) الركعتين زيادة على ما رواه الزُّهْري عن سالم عن ابن عمر، وكلٌّ ثقة، وكل مصدَّق فيما ذكر أنه سمعه ورآه، وأخذُ الزيادةِ واجبٌ. وكان ما رواه أنس من رفع اليدين عند السجود زيادة على ما رواه ابن عمر، والكل ثقة فيما روى وما شاهد. وكان ما رواه مالك بن الحُويرث من رفع اليدين في كل ركوع، ورفع من ركوع، وكل سجود، ورفع من سجود؛ زائداً على كل ذلك، والكل ثقات فيما رَوَوْهُ وما سمعوه، وأخذ الزيادات فرض لا يجوز تركه؛ لأن الزيادة حكم قائم بنفسه، رواه من علمه، ولا يضره سكوت من لم يروه عن روايته؛ كسائر الأحكام كلها، ولا فرق ". وقد ذكرنا فيما سبق [ص 604] كلام البخاري في نحو ما قاله ابن حزم، وسيأتي له كلام أوسع من ذلك في (الرفع إذا قام من الركعتين) إن شاء الله تعالى. وإنما قلت: أحياناً؛ لأنه - والله أعلم - لو كان يرفع دائماً؛ لرواه الذين رووا الرفع عند الركوع، وعند الرفع منه. وقد ذكرنا أسماءهم هناك.   (*) كذا في الأصل؛ تبعاً لابن حزم، ولعل الأصوب: (منْ) ؛ لتدخل صلاة المغرب فيها، وكذلك هي نص رواية أبي حميد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 الخرور إلى السجود على اليدين و" كان يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه " (1) .   (1) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنه. أخرجه {ابن خزيمة (1/76/1) = [1/318/627] } ، والدارقطني (131) ، والطحاوي في " شرح المعاني " (1/149) ، والحاكم (1/226) ، وعنه البيهقي (2/100) ، والحازمي في " الاعتبار " (54) من طرق عن عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي عن عُبيد الله بن عمر عن نافع عنه به. وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وصححه أيضاً ابن خزيمة - كما في " بلوغ المرام " (1/263) -. وقد أعله البيهقي بعلة غير قادحة؛ فقال: " كذا قال عبد العزيز، ولا أراه إلا وهماً ". يعني: رفعه. قال: " والمحفوظ ما اخترنا ". ثم أخرج من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: إذا سجد أحدكم؛ فليضع يديه، وإذا رفع؛ فليرفعهما. قال الحافظ: " ولقائل أن يقول: هذا الموقوف غير المرفوع؛ فإن الأول في تقديم وضع اليدين على الركبتين، والثاني: في إثبات وضع اليدين في الجملة ". وقال الشوكاني (2/214) : " ولا ضير في تفرد الدراوردي؛ فإنه قد أخرج له مسلم في " صحيحه "، واحتج به، وأخرج له البخاري مقروناً بعبد العزيز بن أبي حازم ". ويشهد له الحديث الآتي بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 ..............................................................................   وقد عارضهما أحاديث لا يصح شيء منها، ونحن نسوقها للتنبيه عليها، ولئلا يغتر بها من لا علم له: الأول: عن وائل بن حُجر قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد؛ وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض؛ رفع يديه قبل ركبتيه. أخرجه أبو داود (1/134) ، والنسائي (1/165) ، والترمذي (2/56) وحسنه، والدارمي (1/303) ، والطحاوي (1/150) ، وابن حبان في " صحيحه " (487 - موارد) ، والحاكم (1/226) ، وعنه البيهقي (2/98) ، والدارقطني أيضاً (131 - 132) ؛ كلهم من طريق يزيد بن هارون: أخبرنا شَرِيك عن عاصم بن كلَيب عن أبيه عنه. وهذا سند ضعيف، وقد اختلفوا فيه؛ فقد حسنه الترمذي، وقال الحاكم: " احتج مسلم بشريك ". ووافقه الذهبي. وليس كما قالا؛ فإن شريكاً لم يحتج به مسلم، وإنما روى له في المتابعات؛ كما صرح به غير واحد من المحققين، ومنهم الذهبي نفسه في " الميزان "، وكثيراً ما يقع الحاكم - ويتبعه الذهبي في " تلخيصه " - في هذا الوهم؛ فيصححان كل حديث يرويه شريك على شرط مسلم - وهذا من الأوهام التي سأجمعها في كتاب خاص إذا يسر الله ذلك إن شاء الله تعالى -. وأما الدارقطني؛ فقال: " تفرد به يزيد عن شَرِيك، ولم يحدث به عن عاصم بن كُلَيب غير شريك، وشريك: ليس بالقوي فيما يتفرد به ". وهذا هو الحق؛ فقد اتفقوا كلهم على أن الحديث مما تفرد به شريك دون أصحاب عاصم، وممن صرح بذلك غير الدارقطني: الترمذي، والبيهقي، بل قال يزيد بن هارون: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 ..............................................................................   " إن شريكاً لم يرو عن عاصم غير هذا الحديث ". وشريك سيئ الحفظ عند جمهور علماء الحديث، وبعضهم صرح بأنه كان قد اختلط؛ فلذلك لا يحتج به إذا تفرد، ولا سيما إذا خالف غيره من الثقات الحفاظ؛ فقد روى جمع منهم عن عاصم بإسناده هذا عن وائل صفة صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس فيها ما ذكره شريك. وقد تقدمت الروايات عن عاصم في ذلك في (وضع اليمنى على اليسرى) ؛ على أنه قد رواه غيره عن عاصم عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلاً؛ لم يذكر وائلاً. أخرجه أبو داود، والطحاوي، والبيهقي عن شَقيق أبي ليث قال: ثني عاصم به. لكن شقيق: مجهول لا يعرف - كما قال الذهبي وغيره -. وله طريق أخرى معلولة عند أبي داود (1/118 و 134) ، والبيهقي أيضاً عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه مرفوعاً بمعناه - وسيأتي لفظه في (القيام إلى الركعة الثانية) [ص 819]-. وهذا منقطع بين عبد الجبار وأبيه، فإنه لم يسمع منه - كما سبق -. الحديث الثاني: عن أنس قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انحطَّ بالتكبير؛ فسبقت ركبتاه يديه. أخرجه الدارقطني (132) ، والحاكم (1/226) ، وعنه البيهقي (2/99) ، والحازمي (55) ، وابن حزم (4/129) ، والضياء المقدسي في " المختارة "؛ كلهم من طريق العلاء بن إسماعيل العَطّار: ثنا حَفْص بن غِيَاث عن عاصم الأحول عنه. قال الدارقطني والبيهقي: " تفرد به العلاء بن إسماعيل ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 ..............................................................................   قلت: وهو مجهول؛ كما قال ابن القيم (1/81) ، وكذلك قال البيهقي - على ما في " التلخيص " (3/472) -، وقال أبو حاتم - كما قال ابنه في " العلل " (1/188) -: " هذا حديث منكر ". وأما قول الحاكم والذهبي: إنه " حديث صحيح على شرط الشيخين "؛ فمنكر من القول، لم يسبقهما، ولم يتابعهما عليه أحد. وقال الحافظ في ترجمة العلاء هذا من " اللسان ": " وقد خالفه عمر بن حفص بن غياث، وهو من أثبت الناس في أبيه؛ فرواه عن أبيه عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة وغيره عن عمر موقوفاً عليه. وهذا هو المحفوظ ". قلت: أخرجه الطحاوي (1/151) بهذا الإسناد عن إبراهيم عن أصحاب عبد الله علقمة والأسود فقالا: حفظنا عن عمر في صلاته أنه خرَّ بعد ركوعه على ركبتيه؛ كما يخر البعير، ووضع ركبتيه قبل يديه. وهذا إسناد صحيح. على أن حديث أنس لو صح؛ ليس فيه التصريح أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يضع ركبتيه قبل يديه، وإنما فيه سَبْقُ الركبتين اليدين فقط، وقد يمكن أن يكون هذا السبق في حركتهما لا في وضعهما - كما قال ابن حزم رحمه الله -. الحديث الثالث: عن أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سجد؛ بدأ بركبتيه قبل يديه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 ..............................................................................   أخرجه الطحاوي (1/150) : ثنا ابن أبي داود قال: ثنا يوسف بن عدي قال: ثنا ابن فُضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عنه. وهذا سند ضعيف جداً. قال الحازمي (54) : " وعبد الله بن سعيد المَقْبُري: ضعيف الحديث عند أئمة النقل ". وفي " التقريب ": " متروك ". ومِنْ ضَعْفه أنه اضطرب في روايته لهذا الحديث؛ فرواه مرة هكذا من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومرة من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمراً بذلك - كما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا -. الحديث الرابع: عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين؛ فأُمرنا بالركبتين قبل اليدين. أخرجه الحازمي من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سَلَمة بن كُهَيل: ثنا أبي عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد عنه. وكذلك رواه ابن خزيمة في " صحيحه " - كما في " الزاد " (1/80) -. وهذا سند ضعيف جداً؛ مسلسل بالضعفاء. فأعله ابن القيم بيحيى بن سلمة، وقال: " وليس ممن يحتج به ". ثم ذكر أقوال الأئمة فيه. وفي " التقريب ": " متروك ". وأعله في " الفتح " (2/231) بإبراهيم، وأبيه إسماعيل؛ قال: " وهما ضعيفان ". وقال الحازمي: " في إسناده مقال. ولو كان محفوظاً؛ لدل على النسخ، غير أن المحفوظ عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 ..............................................................................   مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق ". وقد ذكر نحو هذا ابن القيم والحافظ ابن حجر. فهذا كل ما وقفت عليه من الأحاديث المعارضة للسنة الصحيحة، وقد رأيت أن بعضها أشد ضعفاً من بعض. وقد تعَسَّفَ ابن القيم رحمه الله في هذا الوضع كثيراً؛ فحاول ترجيح هذه الأحاديث على حديث ابن عمر، وأطال في ذلك جداً؛ قدر ثلاث صفحات من كتابه " الزاد "، وقد رددت عليه في " التعليقات الجياد " رداً مسهباً، ونقضت الوجوه التي تمسك بها في ذلك وجهاً وجهاً، وإيراد ذلك يطول؛ فعليك بالكتاب المذكور؛ فإن فيه تحقيقات قلما تراها في كتاب. والله المستعان. قال الحازمي: " وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب؛ فذهب بعضهم إلى أن وضع اليدين قبل الركبتين أولى. وبه قال مالك (1) والأوزاعي، وقال: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم (2) . وخالفهم في ذلك آخرون، ورأوا وضع الركبتين قبل اليدين أولى. ومنهم: عمر بن الخطاب، وبه قال سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة وأصحابه ". قلت: وحجة هؤلاء ما سلف من الأحاديث، ولو صحت؛ لقلنا بجواز الأمرين؛ كما هو رواية عن مالك وأحمد - كما في " الفتح " -. وإذ لم تصح؛ فالعمدة على ما ذهب إليه الأولون، وهو قول أصحاب الحديث - كما قال ابن أبي داود، ونقله في " الزاد " (1/82) -، وحجتهم في ذلك هذا الحديث.   (1) {وعن أحمد نحوه - كما في " التحقيق " لابن الجوزي (208/2) -} . (2) {رواه المروزي في " مسائله " (1/147/1) بسندٍ صحيح عن الإمام الأوزاعي} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 وكان يأمر بذلك؛ فيقول: " إذا سجد أحدكم؛ فلا يَبْرُكْ كما يَبْرُكُ البعيرُ، ولْيضَعْ يديه قبل ركبتيه " (1) .   (1) هو من حديث أبي هريرة. أخرجه أبو داود (1/134) ، وعنه ابن حزم (4/128 - 129) ، والنسائي (1/165) {وفي " الكبرى " (47/1 - مصورة جامعة الملك عبد العزيز في مكة) } ، والدارمي (1/303) ، {وتمام في " الفوائد " (ق 108/1) = [1/289/720] } ، والطحاوي في " مشكل الآثار " (1/65 - 66) وفي " شرح الآثار " (1/149) ، والدارقطني (131) ، والبيهقي (2/99 - 100) ، وأحمد (2/381) ؛ كلهم من طريق عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي قال: ثنا محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزِّنَاد عن الأعرج عنه بهذا اللفظ، إلا النسائي والدارقطني؛ فقالا: " فلْيضع يديه قبل ركبتيه، ولا يبرك بروك البعير ". وهذا سند صحيح. رجاله كلهم ثقات رجال مسلم؛ غير محمد بن عبد الله بن الحسن، وهو المعروف بالنفس الزكية العَلَوي، وهو ثقة - كما قال النسائي وغيره، وتبعهم الحافظ في " التقريب " -. ولذلك قال النووي في " المجموع " (3/421) ، والزُّرْقاني في " شرح المواهب " (7/320) : " إسناده جيد ". ونقل ذلك المُناوي عن بعضهم، وصححه السيوطي في " الجامع الصغير ". {وصححه عبد الحق في " الأحكام الكبرى " (54/1) . وقال في " كتاب التهجد " (56/1) : " إنه أحسن إسناداً من الذي قبله ". يعني: حديث وائل المعارض له. بل هذا - مع مخالفته لهذا الحديث الصحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 ..............................................................................   والذي قبله - لا يصح من قبل إسناده، وكذلك ما في معناه - كما بينته في " الضعيفة " (929) ، و " الإرواء " (357) . [وانظر أيضاً " صحيح سنن أبي داود " (789) ، و " تمام المنة " (ص 193 - 196) } . وقد أعله بعضهم بثلاث علل: الأولى: تفرد الدراوردي به عن محمد بن عبد الله. والثانية: تفرد محمد هذا عن أبي الزناد. والثالثة: قول البخاري: " لا أدري أسمع محمد بن عبد الله بن حسن من أبي الزناد أم لا ". وهذه العلل ليست بشيء: أما الأولى والثانية؛ فلأن الدراوردي وشيخه محمداً هذا ثقتان - كما تقدم -؛ فلا يضر تفردهما بهذا الحديث، وليس من شرط الحديث الصحيح أن لا ينفرد بعض رواته به، وإلا؛ لما سلم لنا كثير من الأحاديث الصحيحة، حتى التي في " صحيح البخاري " نفسه؛ كحديث: " إنما الأعمال بالنيات " - وهو أول حديثٍ فيه -؛ فإنه تفرد به يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر رضي الله عنه. وأما الثالثة؛ فهي علة عند البخاري على أصله؛ وهو اشتراط معرفة اللقاء. ولكن الجمهور من أئمة الحديث لا يشترطون ذلك، بل يكتفون بمجرد إمكان اللقاء؛ بأن يكونا في زمن واحد مع أمن التدليس. وهذا كله متحقق هنا؛ فإن محمد بن عبد الله هذا لم يعرف بتدليس، وهو مدني مات سنة (145) ، وله من العمر (53) سنة. وشيخه: أبو الزناد مات سنة (130) بالمدينة. وعليه فقد أدركه زمناً طويلاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 ..............................................................................   فالحديث صحيح. على أن الدراوردي لم يتفرد به، بل توبع عليه في الجملة. فقد أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي أيضاً (2/57 - 58) من طريق عبد الله ابن نافع عن محمد بن عبد الله بن حسن به مختصراً بلفظ: " يعمد أحدكم؛ فيبرك في صلاته برك الجمل؟! ". فهذه متابعة قوية؛ عبد الله بن نافع ثقة أيضاً من رجال مسلم - كالدراوردي -. وأما ما أخرجه الطحاوي (1/150) ، والبيهقي (2/100) ، وأبو بكر بن أبي شيبة في " المصنف " (1/102/2) ، وعنه الأثرم في " سننه " - كما في " الزاد " (1/80) -؛ كلهم من طريق ابن فُضَيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " إذا سجد أحدكم؛ فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك بروك الفحل ". فقال الحافظ (2/231) - تبعاً للبيهقي -: " إسناده ضعيف ". وأقول: بل هو ضعيف جداً، وعلته عبد الله بن سعيد هذا، وهو المقبري، وهو متروك - كما سبق في الحديث الذي قبل هذا -، وقد اتهمه بعضهم بالكذب. ولعله تعمد، فقلب هذا الحديث؛ فغير بذلك المعنى. وليس العجب من هذا المتهم، وإنما العجب أن يعتمد على حديثه هذا ابن القيم في " الزاد "؛ فيزعم أن حديث أبي هريرة الأول الصحيح مما انقلب على بعض الرواة متنه، وأن أصله: (وليضع ركبتيه قبل يديه) . - كما رواه المقبري هذا -! وهو إنما ذهب ذلك المذهب؛ لأن الحديث غير معقول عنده؛ لأن أوله يخالف آخره - كما زعم -، إلا على قول من يقول: إن ركبتي البعير في يديه. ولكنه ينكر ذلك؛ فيقول: " إنه كلام لا يعقل، ولا يعرفه أهل اللغة، وإنما الركبة في الرجلين ". كذا قال! وهو مما يتعجب منه أيضاً؛ كيف خفي عليه ذلك، مع أن نصوص العلماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 ..............................................................................   كثيرة في إثبات ما نفاه؟! على أنه قد سُبِق إلى ذلك؛ فقد عقد الطحاوي رحمه الله في " المشكل " باباً خاصاً من أجل ذلك، ساق فيه هذا الحديث، ثم قال: " فقال قائل: هذا كلام مستحيل؛ لأنه نهاه إذا سجد أن يبرك كما يبرك البعير والبعير إنما ينزل يديه. ثم أتبع ذلك بأن قال: ولكن ليضع يديه قبل ركبتيه. فكان ما في هذا الحديث مما نهاه عنه في أوله قد أمره به في آخره. فتأملنا ما قال؛ فوجدناه مُحالاً، ووجدنا الحديث. مستقيماً لا إحالة فيه؛ وذلك أن البعير ركبتاه في يديه، وكذلك كل ذي أربع من الحيوان، وبنو آدم بخلاف ذلك؛ لأن ركبتهم في أرجلهم لا في أيديهم، فنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث [المصلي] أن يخر على ركبتيه اللتين في يديه، ولكن يخر [لسجوده] على خلاف ذلك؛ فيخر على يديه اللتين ليس فيهما ركبتاه، بخلاف ما يخر البعير على يديه اللتين فيهما ركبتاه. فبان بحمد الله ونعمته أن ما في هذا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلام صحيح لا تضاد فيه ولا استحالة ". اهـ. وقد ذكر نحوه في " شرح المعاني " (1) . وقال ابن حزم (4/130) : " وركبتا البعير هي في ذراعيه ". وفي " لسان العرب " (1/417) ما نصه: " وركبة البعير في يده ". ثم قال:   (1) {وكذا الإمام القاسم السرقسطي رحمه الله؛ فإنه روى في " غريب الحديث " (2/70/1 - 2) بسند صحيح عن أبي هريرة أنه قال: " لا يبركن أحد بروك البعير الشارد ". قال الإمام: " هذا في السجود؛ يقول: لا يرم بنفسه معاً - كما يفعل البعير الشارد غير المطمئن المواتر -؛ ولكن ينحط مطمئناً، يضع يديه، ثم ركبتيه، وقد روي في هذا حديث مرفوع مفسر ". ثم ذكر الحديث الوارد أعلاه ... وقد بسطت القول في ذلك في رسالة الرد على الشيخ التويجري؛ فعسى أن تنشر} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 ..............................................................................   " وركبتا يدي البعير المَفْصِلان اللذان يَلِيَان البطن إذا برك، وأما المَفْصِلان النَّاتِئان من خلف؛ فهما العُرْقُوبان، وكل ذي أربع ركبتاه في يديه، وعُرْقُوْبَاهُ في رجليه ". ومثله تماماً في " تاج العروس " (1/278) . ويشهد لذلك من كلامهم المعهود في استعمالهم قول علقمة والأسود عن عمر رضي الله عنه: أنه خر بعد ركوعه على ركبتيه؛ كما يخر البعير - وقد تقدم في الحديث الذي قبل هذا -. فقد وصفا خروره رضي الله عنه على ركبتيه بخرور الجمل. وهذا وصف خاطئ بزعم ابن القيم؛ لأن الجمل لا يخر على ركبتيه عنده! ثم إن الواقع أن البعير إذا برك؛ فإنما يبرك بقوة حتى إن للأرض منه لرجةً، وكذلك المصلي إذا سجد على ركبتيه؛ كان لسجوده دويٌّ، لا سيما إذا كان يصلي في مسجد قد بسطت عليه (الدفوف) الخشبية، وكان المصلون جمعاً كثيراً؛ فهناك تسمع لهم لَجَّةً شديدة، مما يتنافى مع هيئة الصلاة وخشوعها؛ فنهى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، وأمر بأن يقدم يديه أولاً؛ ليلقى بهما الأرض؛ فيتفادى بذلك الاصطدام بها بركبتيه، كما يفعل الجمل، فهذا وجه المشابهة بين بروك الجمل وبروك المصلي على ركبتيه. وقد أشار إلى هذا المعنى - والله أعلم - الإمام مالك حين قال - كما في " الفتح " -: " هذه الصفة أحسن في خشوع الصلاة. ونص المناسبة التي أبداها ابن المنير لتقديم اليدين وهي: أن يلقى الأرض عن جبهته، ويعتصم بتقديمها عن إيلام ركبتيه إذا جثا عليهما. والله أعلم ". (فائدة) : ظاهر الأمر في الحديث يفيد الوجوب، ولم أر من صرح بذلك غير ابن حزم؛ فصرح في " المحلى " بفرضية ذلك، وأنه لا يحل تركه. وفي ذلك دليل على خطأ الاتفاق الذي نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوى " (1/88) على جواز كلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 [ صفة السجود ] وكان يقول: " إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه؛ فليضع يديه (1) ، وإذا رفع؛ فليرفعهما " (2) .   الأمرين من السجود على الركب، أو على اليدين، ولعله لم يستحضر هذا النص حين كتابته الفتوى. والله أعلم. (1) على الأرض في سجوده، وأراد باليدين بطون الراحتين والأصابع. وفيه دليل على وجوب وضع الجبهة واليدين في السجود؛ للأمر بهما، كما يجب السجود على الأنف، والركبتين، والقدمين - كما يأتي -، وهو مذهب أكثر العلماء. (2) هو من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه؛ رفعه (*) . أخرجه أبو داود (1/142) عن أحمد، وهو في " المسند " (2/6) ، والنسائي (1/165) ، {وابن خزيمة (1/79/2) = [1/320/630] ، والسراج} ، والحاكم (1/226) ، وعنه البيهقي (2/101) ، والمقدسي في " المختارة "؛ كلهم عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عنه رفعه. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". وهو كما قال. وأقره الذهبي. ثم أخرجه البيهقي (2/102) ، {والسراج} ، والمقدسي من طريق وُهَيب: ثنا أيوب به، لكنه قال: عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ... فذكره. وإسناده صحيح أيضاً. وقال البيهقي: " كذا قال، وروى إسماعيل ابن عُلَيَّة - هو: ابن إبراهيم - عن أيوب فقال: ... رفعه. ورواه حماد بن زيد عن أيوب موقوفاً على ابن عمر، ورواه ابن أبي ليلى عن نافع مرفوعاً ".   (*) {وهو مخرج في " الإرواء " (313) } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 و " كان يعتمد على كفيه [ويبسطهما] " (1) . ويضم أصابعهما (2) ، ويوجهها   (1) هو من حديث البراء بن عازب قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد على أَلْيَتَيْ الكف. أخرجه الحاكم (1/227) ، وعنه البيهقي (2/107) ، وأحمد (4/295) عن الحسين بن واقد: ثني أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبِيعي قال: سمعت البراء يقول: ... فذكره. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وليس كما قالا، وإنما هو على شرط مسلم فقط؛ فإن الحسين هذا إنما روى له البخاري تعليقاً. وقد أخرجه أبو داود (1/143) ، والنسائي (1/166) ، والبيهقي (2/115) ، وأحمد (4/303) من طريق شَرِيك عن أبي إسحاق عنه؛ أنه وصف السجود قال: فبسط كفيه، ورفع عَجِيزته، وخَوَّى، وقال: هكذا سجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. زاد أبو داود والبيهقي عنه: واعتمد على ركبتيه. وإسناده حسن؛ كما قال النووي (3/435 - 436) قال: " ورواه أبو حاتم ". (2) هو من حديث وائل بن حُجْر: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سجد؛ ضم أصابعه. أخرجه {ابن خزيمة [1/324/642] } ، والحاكم (1/227) ، والبيهقي (2/112) من طريق الحارث بن عبد الله بن إسماعيل بن عُقبة الخازن: ثنا هُشيم عن عاصم بن كُليب عن علقمة بن وائل بن حُجر عن أبيه. وقال الحاكم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 قِبَل القبلة (1) .   " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. فوهما! وإنما هو إسناد حسن؛ فإن الحارث هذا ليس من رجال مسلم، بل ليس له ذكر في شيء من سائر الكتب الستة! وقد ترجمه في " الميزان " فقال: " صدوق. إلا أن ابن عدي قال في ترجمة شَرِيك: روى حديثاً. فقال: لعل البلاء من الخازن هذا ". قال الحافظ في " اللسان ": " وقد اعتمد ابن حبان في " صحيحه " على الحارث هذا، وذكره في " الثقات "، وقال: مستقيم الحديث ". اهـ. ولعل ابن حبان من طريقه أخرج الحديث في " صحيحه "؛ فقد قال الحافظ في " التلخيص " (3/475) : " رواه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم ". (1) هو من حديث البراء قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ركع؛ بسط ظهره، وإذا سجد؛ وَجَّه أصابعه قِبَل القبلة؛ فتفاجَّ. أخرجه البيهقي من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عنه. وسنده صحيح - كما مضى في (الركوع) [ص 639]-. ثم أخرجه البيهقي من طريق مَخْلَد بن مالك بن جابر: ثنا محمد بن سلمة عن الفَزَارِي عن أبي إسحاق به بلفظ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد فوضع يديه بالأرض؛ استقبل بكفيه وأصابعه القبلة. وهذا سند رجاله رجال الستة؛ غير محمد بن سلمة هذا، ولعله الذي في " الميزان "، وفي " لسانه ": " محمد بن سلمة الشامي عن أبي إسحاق السبيعي وغيره: تركه ابن حبان، وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 ..............................................................................   لا تحل الرواية عنه. ويقال له: النَّباتي ". بتقديم النون على الموحدة كما في " اللسان "، وبتقديم بالعكس في " الميزان ". لكن هذا الحديث رواه عن أبي إسحاق بواسطة الفزاري هذا، وكنيته: أبو إسحاق أيضاً، واسمه: إبراهيم بن محمد الكوفي الشامي المِصَّيصي. وقد عزاه إلى البيهقيِّ النوويُّ (3/431) ، وكذا الحافظ في " التلخيص " (3/475) ، وسكتا عليه، ثم قال الحافظ: " وفي حديث أبي حُميد عند البخاري: فإذا سجد؛ وضع يديه - غير مفترش، ولا قابضَهما - إلى القبلة ". قلت: الحديث في البخاري (2/245) - كما قال -، لكن ليس فيه موضع الشاهد منه وهو قوله: (إلى القبلة) . وهو - أعني: الحافظ نفسه - لم يتعرض لها بذكر في شرحه " فتح الباري " على عادته في جمع ألفاظ الحديث! نعم؛ أخرج الحديث أبو داود (1/117) بلفظ: ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابعه القبلة. فهذا بظاهره يدل أنه استقبل القبلة بأطراف أصابع يديه. لكن الحديث في البخاري، والبيهقي بلفظ: واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة. فلعل لفظة: (الرجلين) سقطت من نسختنا من " السنن ". والله أعلم. {وعند ابن أبي شيبة (1/82/2) والسراج توجيهُ الأصابع؛ من طريق آخر} . ثم أخرج البيهقي فقال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: ثنا عبد الباقي بن قانع الحافظ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 و " كان يجعلهما حذو منكبيه " (1) . وأحياناً " حذو أذنيه " (2) .   ثنا: الحسين بن أحمد بن منصور - سَجّادة - ثنا أبو مَعْمَر: ثنا أبو أُسامة عن مِسْعر (*) عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: يُكره أن لا يميل بكفيه إلى القبلة إذا سجد. وهذا إسناد حسن. أبو عبد الله الحافظ هو: الإمام الحاكم صاحب " المستدرك ". وعبد الباقي بن قانع: ثقة، وتكلم فيه بعضهم، وله ترجمة في " تاريخ بغداد " [11/88 - 89] ، و " اللسان " وغيرهما. والحسين بن أحمد بن منصور ترجمه الخطيب أيضاً (8/3 - 4) ، ثم قال: " وكان لا بأس به ". وهو من شيوخ الطبراني، وقد روى له حديثاً في " المعجم الصغير " (ص 78) . وبقية الرجال ثقات معروفون من رجال البخاري. (1) هو من حديث أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه. وقد مضى قريباً. (2) هو من حديث وائل بن حُجر رضي الله عنه من طريق زائدة قال: ثنا عاصم ابن كُليب قال: ثني أبي عنه. وقد مضى بتمامه في (وضع اليُمنى على اليسرى) [ص 209] . وكذلك رواه سفيان الثوري عن عاصم. أخرجه البيهقي (2/112) ، والطحاوي (1/151) ، وأحمد (4/317 و 318) من طرق عنه. وقال وكيع عنه: سجد ويداه قريبتان من أذنيه.   (*) ورواه ابن أبي شيبة (1/237) : ثنا يزيد بن هارون: أنا مِسْعَر به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 ..............................................................................   أخرجه البيهقي، وأحمد (4/316) . والصواب عندي رواية الجماعة عنه؛ لموافقتها لرواية كل من رواه عن عاصم: ومنهم: بِشْر بن المُفَضَّل: عند أبي داود، والنسائي (1/186) . ومنهم: ابن إدريس: عند النسائي (1/166) . وخالد بن عبد الله: عند البيهقي (2/131) . ومنهم: زهير بن معاوية: عند أحمد (4/318) . وأما رواية عبد الواحد بن زياد عن عاصم به بلفظ: حذو منكبيه - أخرجها البيهقي (2/72 و 111) -؛ فهي رواية شاذة؛ كرواية وكيع عن سفيان. ويؤيد روايةَ الجماعة: روايةُ عبد الجبار بن وائل عن علقمة بن وائل ومولى لهم: أنهما حدثاه عن أبيه وائل: أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يديه حين دخل في الصلاة حيال أذنيه ... الحديث. وفي آخره: فلما سجد؛ سجد بين كفيه. أخرجه مسلم (2/13) ، وأحمد (4/317 - 318) ، والبيهقي (2/71) . ويؤيد ذلك أن له شواهد من حديث البراء بن عازب، وأبي مسعود الأنصاري: أما الأول: فأخرجه الترمذي (2/60) ، والطحاوي عن حفص بن غِيَاث عن الحجّاج عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء بن عازب: أين كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع وجهه إذا سجد؟ فقال: بين كفيه. وقال الترمذي: " حديث حسن ". وزاد في بعض النسخ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 و " كان يمكّن أنفه وجبهته من الأرض " (1) .   " صحيح ". قال القاضي أحمد محمد شاكر: " وهي زيادة جيدة؛ لأن الحديث صحيحٌ إسنادُه، ولا أعرف له علة "! قلت: علته واضحة ظاهرة؛ فإن الحجاج هذا هو: ابن أرطاة، وقد كان مدلساً، وقد عنعن الحديث، وفي حفظه ضعف، وفي " التقريب ": " صدوق كثير الخطأ والتدليس ". وأما حديث أبي مسعود البدري: فقال ابن أبي شيبة في " المصنف " - كما في " الجوهر النقي " -: ثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن سالم البَرَّاد قال: أتينا أبا مسعود الأنصاري في بيته فقلنا: عَلِّمْنا صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فصلى، فلما سجد؛ وضع كفيه قريباً من رأسه. قلت: وهو في " المسند " (4/274) من طريق أبي عَوَانة عن عطاء به دون قوله: قريباً من رأسه. وكذلك أخرجه أبو داود عن جرير عنه. وقد مضى لفظه بتمامه في (الركوع) [ص 634 - 635] . (1) هو من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه. أخرجه الترمذي (2/59) - وصححه {هو وابن الملقن (27/2) } -، وأبو داود (1/117) ، والطحاوي (1/151) ، من طريق فُليَح بن سليمان: ثني عباس بن سهل عن أبي حميد به، وزاد: ونحّى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 وقال (للمسيء صلاته) : " إذا سجدت؛ فَمَكِّن لسجودك " (1) .   وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في " صحيحه " - كما في " التلخيص " (3/473 و 475) -. ورواه البيهقي (2/102) من طريق الليث بن سعد وابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حَبيب عن محمد بن عمرو بن حَلْحَلة عن محمد بن عمرو بن عطاء عنه بلفظ: فإذا سجد؛ أمكن الأرض بكفَّيه، وركبتيه، وصدور قدميه، ثم اطمأن ساجداً. وهذا سند صحيح. {وهو مخرج في " الإرواء " (309) } . وله شواهد: منها: عن وائل بن حُجر قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد على الأرض؛ واضعاً جبهته وأنفه في سجوده. أخرجه أحمد (4/315 و 317) . ورجاله ثقات؛ لكنه منقطع. ومنها: عن أبي جُحَيفة. انظر " المجمع " (1/126) . (1) هو من حديث ابن عباس، وهو في حديث رفاعة. رواه أبو داود وأحمد بسندٍ صحيح؛ وقد تقدم في (الركوع) [ص 633] . وله شاهد من حديث ابن عمر. رواه " ابن حبان من حديث طلحة بن مُصَرِّف عن مجاهد عنه في حديث طويل. ورواه الطبراني من طريق ابن مجاهد عن أبيه به نحوه ". كذا في " التلخيص " (3/451) . وقد ذكرناه هناك. والحديث فيه أنه لا يكفي في وضع الجبهة الإمساس؛ بل يجب أن يتحامل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 {وفي رواية: " إذا أنت سجدت؛ فأمكنت وجهك ويديك؛ حتى يطمئن كل عظم منك إلى موضعه " (1) } . وكان يقول: " لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين " (2) .   موضع سجوده بثقل رأسه وعنقه حتى تستقر جبهته، بحيث إنه لو سجد على قطن أو حشيش أو شيء محشو بهما؛ وجب أن يتحامل حتى ينكبس ويظهر أثره على يدٍ لو فُرضت تحت ذلك المحشو. فإن لم يفعل؛ لم يجزئه - على الصحيح عند الشافعية -. وقال إمام الحرمين: " عندي أنه يكفي إرخاء رأسه، ولا حاجة إلى التحامل كيفما فُرض محلُّ السجود ". قال النووي (3/423) : " والمذهب: الأولُ. وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني، وصاحب " التتمة " و " التهذيب ". قلت: وهذا هو الحق؛ فإن الذهاب إلى قول الإمام المذكور فيه إلغاء للتمكين المنصوص عليه في الحديث، وذا لا يجوز - كما هو ظاهر -. (1) { [أخرجه] ابن خزيمة (1/80/1) = [1/322/638] بسندٍ حسن. [وعنده: " فأثبتْ ".. بدل: " فأمكنْتَ "] } . (2) هو من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. أخرجه الدارقطني (133) ، وعنه البيهقي (2/104) ، والحاكم (1/270) من طريق الجَرّاح بن مَخْلَد: ثنا أبو قُتيبة: ثنا سفيان الثوري: ثنا عاصم الأحول عن عكرمة عنه. ثم أخرجه الدارقطني من طريق الجراح هذا: ثنا أبو قُتيبة: ثنا شُعبة عن عاصم به. وأخرجه البيهقي من طريق سُليمان بن عبد الله الغَيْلاني: ثنا أبو قُتيبة مُسِلم بن قُتيبة: ثنا شعبة والثوري عن عاصم الأحول به. واللفظ له. وقال الحاكم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 ..............................................................................   " صحيح على شرط البخاري ". وأقره الذهبي. وهو كما قالا؛ لكن أعله الدارقطني، والبيهقي، والترمذي بأنه مرسل. كذلك رواه سفيان الثوري قال: ثني عاصم الأحول عن عكرمة مرسلاً به. إلا أنه قد جاء عن عكرمة من طرق أخرى موصولاً؛ فيتقوى بها: فأخرجه الطبراني في " الكبير " { (3/140/1) } قال: ثنا الحسن بن علي المَعْمَري: نا ابن عثمان بن كثير بن دينار الحِمصي - أظنه: يحيى -: نا محمد بن حِمْيَر عن الضحاك بن حُمْرة عن منصور عن عاصم البَجَلي عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: " من لم يُلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد؛ لم تجز صلاته ". وهذا سند حسن لا بأس به في المتابعات، ورجاله صدوقون؛ غير الضحاك بن حُمْرة؛ فمختلف فيه، فضعّفه بعضهم، ووثقه آخرون. وفي " التقريب ": " ضعيف ". وقال شيخه الهيثمي في " المجمع " (2/126) - بعد أن ساق الحديث -: " رواه الطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، ورجاله موثقون - وإن كان في بعضهم اختلاف من أجل التشيع - ". اهـ. ورواه حرب بن ميمون عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ضع أنفك؛ ليسجد معك ". ذكره البيهقي. قلت: وهذا سند صحيح؛ إن كان مَن دون حرب بن ميمون ثقاتٍ (*) .   (*) ثم وقف الشيخ رحمه الله على إسناده كاملاً عند أبي نعيم في " أخبار أصبهان " (1/192 - 193) ، فعزا إليه في " الصفة " المطبوع، وخرجه في " الصحيحة " كما سيأتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 و " كان يمكّن أيضاً ركبتيه، وأطراف قدميه، 1 [ويستقبل 2 [بصدور قدميه و] بأطراف أصابعهما القبلة] " (1) ، و " ينصب رجليه " (2) ، .................   ثم إن للحديث شواهدَ من حديث عائشة: عند الدارقطني، ومن حديث أم عطية: عند الطبراني؛ فمجموع هذه مما يقوي الحديث، ويوجب العمل به. وهو نص على بطلان الصلاة بترك وضع الأنف ومسه بالأرض. وقد سبق ذكر من ذهب إليه من الأئمة. ثم تبين أن (حرب بن ميمون) هو الأصغر، وهو ضعيف؛ كما بينه الخطيب البغدادي في " الموضح " (1/98 - 99) ، وروى له هذا الحديث. وهو مخرج في " الصحيحة " (1644) . (1) هو من حديث أبي حميد - وقد سبق قريباً -، والزيادة 1 هي في رواية عنه. أخرجها البخاري (2/245) ، وأبو داود (1/117) ، والبيهقي (2/116) . وفي الباب عن عائشة. ويأتي حديثها قريباً [ص 736] . {وروى ابن سعد (4/157) عن ابن عمر: أنه كان يحب أن يستقبل كل شيء منه القبلة إذا صلى؛ حتى كان يستقبل بإبهامه القبلة} . (2) أورد البيهقي (2/116) في هذا الباب حديث أبي حميد الذي قبل هذا، وليس فيه التصريح بالنصب، ولكنه مفهوم من معنى ثني الأصابع، واستقبال القبلة بأطرافها؛ فإن هذا لا يمكن في وضع السجود إلا والقدمان منصوبتان، وقد جاء حديث صحيح صريح في ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فقدتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة من الفراش، فالتمسته؛ فوقعت يدي على بطن قدميه - وهو في المسجد - وهما منصوبَتان ... الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 و " أمر به " (1) ، {وكان يفتخ أصابعهما (2) } ، و " يرص عقبيه " (3) .   أخرجه مسلم وغيره. {والزيادة 2 عند النسائي من طريق ابن راهويه في " مسنده " (4/129/2) ، وهو مخرج في " صحيح أبي داود " (823) } . وقد ترجم له النسائي ببابين: الأول: (باب نصب القدمين في السجود) ، والآخر: (باب الدعاء في السجود) . وسنذكر الحديث وتخريجه هناك [ص 769] . (1) هو من حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بوضع اليدين، ونصب القدمين. أخرجه الترمذي (2/67) ، والحاكم (1/271) ، والبيهقي (2/107) من طريق وُهَيب عن محمد بن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه به. وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وليس كما قالا، وإنما هو حسن فقط. وأعله الترمذي بأن يحيى بن سعيد القطان وغير واحد من الثقات رووه عن محمد ابن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد به. ولم يذكروا فيه: عن أبيه. وقال: " وهذا أصح من حديث وهيب ". قلت: وهذه ليست بعلة قادحة؛ لأن وُهَيباً هذا - وهو ابن خالد الباهِلي - ثقة ثبت - كما قال العجلي -، واحتج به الشيخان، وقد وصل الحديث بذكر سعد فيه، وهي زيادة من ثقة؛ فيجب قَبولها. كما تقرر. [وأخرجه {السراج} أيضاً] . (2) { [أخرجه] أبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه. [و (يفتخ) - بالخاء المعجمة -؛ أي: يُليّنها حتى تنثني فيوجهها نحو القبلة. " المعالم " (1/169) ] } . (3) هو من حديث عائشة أيضاً قالت: فقدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان معي على فراشي -؛ فوجدته ساجداً، راصّاً عقبيه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 ..............................................................................   مستقبلاً بأطراف أصابعه القبلة، فسمعته يقول: " أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، أثني عليك، لا أبلغ كل ما فيك ". فلما انصرف؛ قال: " يا عائشة! أخذك شيطانك؟ ". فقلت: أما لك شيطان؟ فقال: " ما من آدمي إلا له شيطان ". فقلت: وإياك يا رسول الله؟! قال: " وإياي، لكني أعانني الله عليه؛ فأسلم ". أخرجه الطحاوي في " المشكل " (1/30) ، {وابن خزيمة (رقم 654) } ، والحاكم (1/228) ، وعنه البيهقي (2/116) عن سعيد ابن أبي مريم: أنبأ يحيى بن أيوب: ثني عُمارة بن غَزيَّة قال: سمعت أبا النضر يقول: سمعت عُروة بن الزبير يقول: قالت عائشة: ... . وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. {وانظر " صحيح الموارد " (406) } . وأقول: إنما هو صحيح على شرط مسلم فقط؛ فإن البخاري لم يحتج بعُمارة هذا، وإنما استشهد به - كما ذكر ذلك الذهبي نفسه في " الميزان " -. والحديث رواه أيضاً ابن حبان؛ كما في " التلخيص " (3/475) ، ثم قال الحافظ - بعد أن عزاه إليه وحده -: " إنها رواية صحيحة ". قلت: وأخرجه أحمد (6/115) من طريق أبي قُسَيط (*) عن عروة به - مختصراً -؛   (*) كذا في أصل الشيخ رحمه الله؛ تبعاً لنسخته من " المسند "، والصواب: " ابن قسيط "؛ كما في " التهذيب " و " التقريب ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 وكان يرفع عجيزته (1) . (مُؤخَّره) . فهذه سبعة أعضاء كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد عليها: الكفان، والركبتان، والقدمان، والجبهة والأنف. {وقد جعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضوين الأخيرين كعضو واحد في السجود} ؛ حيث قال: " أُمرت (2) أن أسجد (وفي رواية: أُمرنا أن نسجد) على سبعةِ أَعْظُمٍ: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه (3) -، واليدين (وفي لفظ: الكفَّين) ،   ليس فيه ذكر الصلاة مطلقاً. (1) هو من حديث البراء. وقد تقدم قريباً (ص 726) . في " النهاية ": " (العجيزة) : العَجُز. وهي للمرأة خاصة فاستعارها للرجل. و (العجز) : مؤخر الشيء ". (2) قال الحافظ: " هو بضم الهمزة في جميع الروايات بالبناء لما لم يسمَّ فاعله، والمراد به الله جل جلاله ". ولما كانت الرواية الأولى تحتمل الخصوصية؛ عقبناها بهذه الرواية - تبعاً للبخاري -؛ فإنها تدل على أن الأمر لعموم الأمة - كما قال الحافظ -، ويشهد لذلك الحديث الذي بعد هذا؛ فإنه مطلق يشمل كل عبد. (3) قال الحافظ: " كأنه ضَمَّنَ (أشارَ) معنى (أَمَرَّ) - بتشديد الراء -؛ فلذلك عداه بـ (على) ؛ دون (إلى) . وعند النسائي وغيره - كما تقدم -: قال ابن طاوس: ووضع يده على جبهته، وأَمَرَّها على أنفه. وقال: هذا واحد. فهذه رواية مفسرة. قال ابن دقيق العيد: قيل: معناه أنهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 ..............................................................................   جُعلا كعضو واحد، وإلا؛ لكانت الأعضاء ثمانية. قال: وفيه نظر؛ لأنه يلزم منه أن يُكتفى بالسجود على الأنف، كما يكتفى بالسجود على بعض الجبهة. وقد احتج بهذا لأبي حنيفة في الاكتفاء بالسجود على الأنف قال: والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة، وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد؛ فذاك في التسمية والعبارة، لا في الحكم الذي دل عليه الأمر. وأيضاً فإن الإشارة قد لا تعيق المشار إليه؛ فإنها إنما تتعلق بالجبهة لأجل العبادة، فإذا تقارب ما في الجبهة؛ أمكن أن لا يعين المشار إليه يقيناً. وأما العبارة؛ فإنها معينة لما وضعت له؛ فتقديمه أولى. انتهى. وما ذكره من جواز الاقتصار على بعض الجبهة؛ قال به كثير من الشافعية، وقد ألزمهم بعض الحنفية بما تقدم. ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الأنف وحده. وذهب الجمهور إلى أنه يجزئ على الجبهة وحدها. وعن الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وابن حبيب من المالكية وغيرهم: يجب أن يجمعهما. وهو قول للشافعي أيضاً ". قلت: وهذا هو الصواب - إن شاء الله تعالى -؛ للأمر بالسجود عليها، ومن ادعى أن الأمر بخصوص الأنف للاستحباب لا للوجوب؛ فهو مخالف لظاهر الحديث، ومطالب بالدليل، وأنى له ذلك؟! لكن كون ذلك قولاً للشافعي مما استغربه النووي في " المجموع " (3/424) قال: " وإن كان قوياً في الدليل. ثم قال ابن دقيق العيد: واحتج بعض الشافعية على أن الواجب الجبهة دون غيرها بحديث (المسيء صلاته) ؛ حيث قال فيه: ويمكن جبهته. قال: وهذا غايته أنه مفهوم لَقَب، والمنطوق مقدم عليه، وليس هو من باب تخصيص العموم. قال: وأضعف من هذا استدلالهم بحديث: " سجد وجهي ". فإنه (لا) يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه، وأضعف منه قولهم: إن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة؛ لأن هذا الحديث يدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفِت (1) الثياب والشعر " (2) . وكان يقول:   على إثبات زيادة على المسمى، وأضعف منه المعارضة بقياس شبهي؛ كأن يقال: أعضاء لا يجب كشفها؛ فلا يجب وضعها. قال: وظاهر الحديث أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء؛ لأن مسمى السجود يحصل بوضعها دون كشفها ". (1) بكسر الفاء من (الكفت) ، وهو الضم (1) ، والمراد أنه لا يجمع ثيابه، ولا شعره. وظاهره يقتضي أن النهي عنه في حال الصلاة، وإليه جنح الداودي، وترجم له البخاري (2/238) (باب لا يكف ثوبه في الصلاة) . {قلت: وليس هذا النهي خاصاً بحال الصلاة؛ بل لو كف شعره وثوبه قبل الصلاة، ثم دخل فيها كذلك؛ شمله النهي عند جمهور العلماء، ويؤيده نهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصلي الرجل وهو عاقص شعره - كما يأتي -} . قال الحافظ: " وهي تؤيد ذلك، ورده عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور؛ فإنهم كرهوا ذلك للمصلي، سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخل فيها، واتفقوا على أنه لا يفسد الصلاة، لكن حكى ابن المنذر عن الحسن وجوب الإعادة. قيل: والحكمة في ذلك أنه إذا رفع ثوبه وشعره عن مباشرة الأرض، أشبه المتكبر ". (2) هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه. أخرجه البخاري (2/237) ، ومسلم (2/52 - 53) ، {وأبو عوانة [2/183] } ، والنسائي (1/166) ، والدارمي (1/302) ، والبيهقي (2/103) ، وأحمد (1/292 و305) ، والطبراني في " الكبير " [10920] ؛ كلهم من طريق وُهَيب بن خالد عن عبد الله ابن طاوس عن أبيه عنه.   (1) {إي: نضمها ونحميها من الانتشار؛ يريد: جمع الثوب والشعر باليدين عند الركوع والسجود. " نهاية "} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 " إذا سجد العبد؛ سجد معه سبعة آراب (1) : وجهه، وكفّاه، وركبتاه، وقدماه " (2) .   وأخرجه ابن ماجه (1/288) ، وكذا مسلم، والنسائي أيضاً، والبيهقي من طريق ابن عيينة عن ابن طاوس به نحوه. وزادوا - إلا مسلماً -: قال سفيان: قال لنا ابن طاوس - ووضع يده على جبهته، وأَمَرّها على أنفه؛ قال -: هذا واحد. لفظ النسائي. وقال الآخران: قال: وكان أبي يعدّ هذا واحداً. ورواه ابن جريج عن ابن طاوس به؛ دون قول ابن طاوس هذا بلفظ: الجبهة والأنف. أخرجه مسلم، و {أبو عوانة [2/73 و 182] } والبيهقي، والنسائي (1/665) . ورواه عمرو بن دينار عن طاوس. وأخرجه الطبراني في " الكبير " [10861] من طريق الحمادين عنه. وأخرجه البخاري (2/235 - 236) ، ومسلم أيضاً، واللفظ الآخر له؛ بدون ذكر الأنف. ورواه أبو داود (1/142) ، والترمذي (2/62) وصححه، وكذا النسائي (1/167) ، والدارمي، وابن ما جه، والطحاوي (1/150) ، والطيالسي (340) ، وأحمد (1/221 و270 و 279 و 286 و 324) ، والطبراني [10862] ؛ مختصراً - دون تسمية الأعضاء -. وهو رواية للبخاري، ومسلم، {وأبي عوانة (2/182) } ، والرواية الأخرى للبخاري وكذا الطبراني [10857] ، وله عنده [11180] طريق أخرى عن ليث (*) عن أبي الزبير عن عُبَيد بن عُمَيرعنه. {وهو مخرج في " الإرواء " (310) } . (1) أي أعضاء: جمع (إرْب) - بكسر الهمزة، وسكون الراء -. (2) هو من حديث العباس بن عبد المطلب.   (*) كذا الأصل، والصواب: (حفص بن غياث) . والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 ..............................................................................   أخرجه مسلم (4/207 - بشرح النووي) ، وأبو داود (1/142) ، والنسائي (1/165) ، والترمذي (2/61) ، {وابن حبان [5/248/1921]- مؤسسة} ، والبيهقي (2/101) ، وأحمد (1/208) ؛ كلهم عن قتيبة بن سعيد: ثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن محمد ابن إبراهيم عن عامر بن سعد عنه. وتابعه الليث بن سعد: عند النسائي (1/166) ، والطحاوي (1/150) ، وعبد العزيز ابن محمد الدَّرَاورْدي - عنده -، وعبد العزيز بن أبي حازم: عند ابن ماجه (1/288) ، وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن لهيعة: عند أحمد (1/206) ؛ كلهم عن ابن الهاد به. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وقال ابن أبي حاتم في " العلل " (1/75) : " سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقال: هو صحيح ". (تنبيه) : إنما عزوت الحديث إلى " صحيح مسلم " بـ " شرح النووي "؛ لأنه ليس في النسخة التي ننقل منها عادة، والظاهر أنها النسخة التي كان ينقل منها الزيلعي في " نصب الراية "؛ فإنه لما ذكر الحديث (1/383) ؛ لم يعزه لمسلم، بل قال: " رواه أصحاب " السنن الأربعة "، وابن حبان في " صحيحه "، والحاكم في " المستدرك "، والبزار في " مسنده " ". وقد عزاه غير ما واحد لمسلم؛ منهم: البيهقي في " سننه "، والمَجْد ابن تيمية في " المنتقى "، والنابلسي في " الذخائر "، وغيرهم. وأما الحاكم؛ فإنه لم يروه بإسناده - كما هي عادته -؛ بل قال - بعد أن ساق الحديث المتقدم عن ابن عمر: إن اليدين تسجدان ... الحديث. -: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، إنما اتفقا على حديث محمد بن إبراهيم التيمي عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 وقال في رجل صلى ورأسه معقوص من ورائه: " إنما مَثَلُ هذا مَثَلُ الذي يصلي وهو مكتوفٌ (1) " (2) . وقال أيضاً: " ذلك كِفْلُ الشيطان ". يعني: مقعد الشيطان. يعني: مغرز ضفره.   أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا سجد العبد ... " الحديث ". وقد وهم الحاكم في قوله أنه متفق عليه. وإنما هو من أفراد مسلم. (1) {أي: مضفور ومفتول. قال ابن الأثير: " ومعنى الحديث: أنه إذا كان شعره منشوراً؛ سقط على الأرض عند السجود، فيُعطى صاحبُه ثوابَ السجود به. وإذا كان معقوصاً؛ صار في معنى ما لم يسجد. وشبهه بالمكتوف: وهو المشدود باليدين؛ لأنهما لا يقعان على الأرض في السجود ". قلت: ويبدو أن الحكم خاص بالرجال دون النساء؛ كما نقله الشوكاني عن ابن العراقي} . (2) هو من حديث عبد الله بن عباس: أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه؛ فقام فجعل يَحُلُّه، فلما انصرف؛ أقبل إلى ابن عباس، فقال: ما لك ورأسي؟! فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... فذكره. رواه مسلم (2/53) ، {وأبو عوانة [2/74] } ، وأبو داود (1/105) ، والنسائي (1/167) ، والدارمي (1/320) ، والبيهقي (2/108 - 109) ؛ كلهم عن ابن وهب، إلا الدارمي؛ فعن بكر بن مضر؛ كلاهما عن عمرو بن الحارث: أن بُكيراً حدثه: أن كُريباً مولى ابن عباس حدثه عنه. وتابعهما ليث بن سعد، وزاد في السند: شعبة مولى ابن عباس؛ قرنه مع كُريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 ..............................................................................   أخرجه أحمد (1/316) ، وتابعه عنه ابن لهيعة عن بكير عن كريب وحده، مقتصراً على المرفوع منه. وفي الباب عن أبي رافع مولى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه مر بالحسن بن علي، وهو يصلي وقد عقص ضَفْرَته في قفاه؛ فَحَلّها، فالتفت إليه الحسن مغضباً؛ فقال: أَقبِلْ على صلاتك، ولا تغضب؛ فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ذلك كِفْلُ الشيطان ". أخرجه أبو داود، والترمذي (2/223) ، {وابن خزيمة في " صحيحه " [2/158]- وعنه ابن حبان في " صحيحه " [رقم 2276 - الحِسَان]-} ، والحاكم (1/262) ، والبيهقي من طريق ابن جريج: ثني عمران بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عن أبيه عنه. وقال الترمذي: " حديث حسن ". وقال المعلق عليه: " وإسناده صحيح ". كذا قالا، وكذا قال الحاكم. ووافقه الذهبي. وعمران بن موسى هذا: لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير ابن جريج، لكن أفاد الحاكم: أن إسماعيل ابن عُلَيّة روى عنه أيضاً. وفي " التقريب ": " مقبول ". وقال في " الفتح " (2/238) : " إسناده جيد ". وليس بجيد؛ فإن المقبول عنده - كما قال في مقدمة " التقريب " -: " من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وإليه الإشارة بلفظ: مقبول حيث يتابع، وإلا؛ فلين الحديث ". فبما أن عمران هذا قد تفرد بهذا الحديث بهذا اللفظ؛ فهو لين الحديث، ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 ..............................................................................   نعم؛ رواه شعبة: أخبرني مُخَوَّل قال: سمعت أبا سعد - رجلاً من أهل المدينة - يقول: رأيت أبا رافع ... الحديث نحوه. بلفظ: وقال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصلي الرجل وهو عاقص شعره. أخرجه ابن ماجه (1/323) ، والدارمي (1/320) . وتابعه سفيان الثوري عن مُخَوَّل؛ لكنه لم يُكْنِ الرجلَ. أخرجه أحمد (6/8 و 391) . وسنده ضعيف؛ لجهالة الرجل الذي لم يسمَّ، وفي " الميزان ": " لا يعرف ". ثم استدركت؛ فقلت: أبو سعد المدني هو: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، نبه على ذلك ابن أبي حاتم؛ فقد قال في " العلل " (1/107) : " سألت أبي عن حديث (1) رواه المؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن مُخَوَّل عن سعيد المَقْبُري عن أم سلمة قالت: نهانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصلي الرجل ورأسه معقوص؟ قال أبي: إنما روي عن مُخَوّل عن أبي سعد (الأصل: أبي سعيد) عن أبي رافع. وكنية سعيد المقبري: أبو سعد، وأخطأ مؤمل؛ إنما الحديث عن أبي رافع ". وعليه؛ فعلته الانقطاع بين أبي رافع وأبي سعد - فقد قالوا بأنه لم يسمع من عائشة، وهي ماتت بعد أبي رافع بِزَمَانٍ -، ولعل بينهما أباه - أبا سعيد -؛ كما في رواية عمران بن موسى المتقدمة. والله أعلم.   (1) رواه الطبرإني في " الكبير " عن أم سلمة؛ كما في " المجمع " (2/86) وقال: " ورجاله رجال " الصحيح " ". فهل هو من طريق أخرى؟ لأن المؤمل ليس من رجال " الصحيح ". [نعم؛ هو كذلك؛ فقد تابع مؤملاً - عنده - أبو حذيفة عن سفيان به. " الطبراني الكبير " (23/252/ رقم 512) ] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 و " كان لا يفترش ذراعيه " (1) ؛ بل كان ينهى عنه (2) ، و " كان يرفعهما   {وانظر " صحيح أبي داود " (653) } . قال الترمذي: " والعمل على هذا عند أهل العلم؛ كرهوا أن يصلي الرجل وهو معقوص شعره ". قال البيهقي: " وروينا كراهية ذلك عن عمر، وعلي، وحذيفة، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم ". (1) هو من حديث أبي حُمَيْد رضي الله عنه بلفظ: فإذا سجد؛ وضع يديه، غير مفترش، ولا قابضَهما. أخرجه البخاري وغيره. (2) فيه أحاديث: منها: عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: وكان ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع ... الحديث. وقد تقدم بتمامه في (التكبير) . وقد رواه مسلم وغيره. وهو مع ذلك معلل - كما سبق بيانه هناك [ص 177]-. ومنها: عن عبد الرحمن بن شِبْل قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نقرة الغراب، وافتراش السبُع، وأن يوطّن الرجل المكان في المسجد، كما يوطّن البعير. أخرجه أبو داود (1/138) ، والنسائي (1/167) ، والدارمي (1/303) ، وابن ماجه (1/437) ، والحاكم (1/229) ، والبيهقي (2/118) ، وأحمد (3/428 و 444) ؛ كلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 ويباعدهما عن جنبيه حتى يبدو بياض إبطيه من ورائه (1) "، ................   من طريق جعفر بن عبد الله بن الحكم عن تميم بن محمود عنه. وقال الحاكم: " صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في " صحيحيهما " - كما في " الترغيب " (1/181) -. وفي صحة هذا الإسناد نظر؛ فإن تميم بن محمود هذا: قال البخاري: " فيه نظر ". وذكره العقيلي، والدولابي، وابن الجارود في (الضعفاء) . ووثقه ابن حبان فقط، وهو من تساهله المعروف. وفي " التقريب ": " فيه لين ". لكن الحديث له شاهد يقويه؛ وهو ما أخرجه أحمد (5/446 - 447) قال: ثنا إسماعيل: أنا عثمان البَتِّي عن عبد الحميد بن سَلَمة عن أبيه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن نقرة الغراب ... الحديث بتمامه. وهذا مرسل. وعبد الحميد: مجهول - كما قال الدارقطني، وتبعه الحافظ في " التقريب " -. (1) هذه الصفة مما تواتر نقلها عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رواها جمع من الصحابة رضي الله عنهم: 1- عبد الله بن مالك ابن بُحَينة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى؛ فرَّج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه. أخرجه البخاري (2/234) ، ومسلم (2/53) ، والنسائي (1/166) ، والطحاوي (1/136) ، والبيهقي (2/114) ، وأحمد (5/345) . وفي رواية له، وكذا مسلم بلفظ: كان إذا سجد؛ يُجَنِّح في سجوده. ولفظ الطحاوي: فرج بين ذراعيه وبين جنبيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 ..............................................................................   2- ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد؛ خَوَّى بيديه - يعني: جنّح -، حتى يُرى وضحُ إبطيه مِن ورائه. أخرجه مسلم (2/54) ، والنسائي (1/172) ، والدارمي (1/306) ، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد (6/332 و 333 و 335) . زادوا - إلا الطحاوي وأحمد -: وإذا قعد؛ اطمأن على فخذه اليسرى. ولها حديث آخر؛ وهو الذي بعده [ص 752] . 3- عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خلفه؛ فرأيت بياض إبطيه وهو مُجَخٍّ قد فرَّج بين يديه. أخرجه أبو داود (1/143) ، والحاكم (1/228) ، وعنه البيهقي (2/115) ، وأحمد (1/292 و 302 و 305 و 316 و317 و 339 و 354 و 362 و 365) ، والطيالسي أيضاً (ص 358) ؛ كلهم عن أبي إسحاق عن التميمي الذي يحدث بالتفسير عنه. وهذا إسناد حسن. والتميمي اسمه: أَرْبِدة؛ بسكون الراء بعدها موحدة مكسورة، وهو صدوق - كما في " التقريب " -. وله طريق أخرى أخرجها الطيالسي (356) ، وأحمد (1/320 و333 و 352) عن ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس قال: رأى ابن عباس رجلاً ساجداً قد ابتسط ذراعيه؛ فقال ابن عباس: هكذا يربض الكلب! رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد؛ رأيت بياض إبطيه. وهذا سند حسن أيضاً بما قبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 ..............................................................................   4- البراء بن عازب قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى؛ جخَّ. أخرجه النسائي، والحاكم (1/228) - وعنه البيهقي - من طريق النَّضْر بن شُمَيل: ثنا يونُس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عنه. وقال الحاكم: " صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. وصححه أيضاً النووي (3/439) ، وأخرجه ابن خزيمة - كما في " التلخيص " (3/474) -. وتابعه أيوب بن جابر: عند الطيالسي (98) . وشَرِيك: عند الطحاوي (1/136) ، وأحمد. وقد مضى لفظه قريباً [ص 726] . 5- عبد الله بن أقرم قال: صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكنت أرى عفرة إبطيه إذا سجد. أخرجه النسائي، والترمذي (2/62 - 63) ، وابن ماجه (1/287) ، والحاكم (1/227) ، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد (4/35) عن داود بن قيس قال: ثني عُبيد الله بن عبد الله بن أقرم الخُزاعي قال: ثني أبي به. وقال الحاكم: " صحيح ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا؛ فإن رجاله كلهم ثقات. وأما الترمذي؛ فقال: " حديث حسن "! فقصَّر. 6- أبو هريرة رضي الله عنه، وله عنه طرق: الأول: عن أبي مِجْلَز عن بَشِير بن نُهَيك عن أبي هريرة قال: لو كنت بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأبصرت إبطيه. قال أبو مِجْلَز: كأنه قال ذلك لأنه في صلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 ..............................................................................   أخرجه النسائي. وسنده صحيح على شرط مسلم. الثاني: عن خالد بن يزيد عن عُبيدالله بن المغيرة عن أبي الهيثم عنه أنه قال: كأني أنظر إلى بياض كَشْحَي رسول الله وهو ساجد. أخرجه الطحاوي. وسنده صحيح أيضاً، وقال الهيثمي (2/125) : " رواه الطبراني في " الأوسط "، ورجاله ثقات ". الثالث: عن عبد الواحد بن زياد: ثنا عبيد الله بن عبد الله بن الأصمّ عن عمه يزيد ابن الأصمّ عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد؛ رؤي وضح إبطيه. أخرجه الحاكم (1/228) ، وقال: " صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. قلت: لكن أخرجه مسلم وغيره من طرق عن عبيد الله بن عبد الله عن عمه عن ميمونة - كما تقدم -؛ فلعل يزيد بن الأصم رواه عنها وعن أبي هريرة معاً، والا؛ فرواية الأكثرين أصح. 7- عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد؛ جافى حتى يُرى بياض إبطيه. أخرجه الطحاوي، والبيهقي، وأحمد (3/294 - 295) ، والطبراني في " الصغير " (54) وفي " الكبير " و " الأوسط " أيضاً - كما في " المجمع " (2/125) - من طريق مَعْمَر عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 ..............................................................................   منصورعن سالم بن أبي الجعد عنه. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. 8- عن أبي سعيد الخُدْري بلفظ حديث أبي هريرة الثاني. أخرجه الطحاوي، وأحمد (3/15) من طريق ابن لَهيعة عن عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم عنه. وابن لهيعة: سيِّئ الحفظ، وقد خالفه من هو أوثق منه، وهو خالد بن يزيد؛ فجعله من (مسند أبي هريرة) - كما مر آنفاً -. 9- عَدي بن عميرة قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد؛ يُرى بياض إبطه. أخرجه أحمد (4/193) عن معتمر بن سليمان قال: قرأت على الفُضَيل بن ميسرة قال: ثني أبو حَرِيز: أن قيس بن أبي حازم حدثه عنه. وهذا إسناد رجاله موثقون؛ لكن قال ابن المديني: " سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت للفضيل بن ميسرة: أحاديث أبي حَريز؟ قال: سمعتها، فذهب كتابي، فأخذته بعد ذلك من إنسان ". وقال الهيثمي: " رواه الطبراني في " الأوسط "، ورجاله ثقات، وفي " الكبير " ". اهـ. فذهل عن كونه في " المسند "! 10- أبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه أصحاب السنن وغيرهم - وقد مضى بتمامه في (الركوع) -، ورواه البخاري بلفظ: فإذا سجد؛ وضع يديه؛ غير مفترش، ولا قابضهما. 11- إبراهيم النَّخَعي مرسلاً؛ قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 و " حتى لو أن بَهمة (1) أرادت أن تمر تحت يديه؛ مرَّت " (2) .   بلغني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سجد؛ يُرى بياض إبطيه. أخرجه أحمد (1/364) . وسنده صحيح. رجاله رجال الستة. وفي الباب عن أحمر. [وسيأتي ص 753] . (فائدة) : ليس فيه - كما قيل - دلالة على أنه لم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابساً قميصاً؛ لأنه وإن كان لابساً له؛ فإنه قد يبدو منه أطراف إبطيه، لأنها كانت أكمام قمصان ذلك العصر غير طويلة، فيمكن أن يُرى الإبط من كمها، ولا دلالة فيه على أنه لم يكن على إبطيه شعر - كما قيل -؛ لأنه يمكن أن المراد: يرى أطراف إبطيه لا باطنهما حيث الشعر؛ فإنه لا يُرى إلا بتكلف. وإن صح ما قيل أن من خواصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ليس على إبطه شعر؛ فلا إشكال. كذا في " سبل السلام " (1/257) . (1) كذا هو عند الجميع بفتح الباء؛ قال أهل اللغة: (البَهْمة) : واحدة البهم، وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث، وجمع البهم: بهام - بكسر الباء -. وفي رواية الحاكم والبيهقي، وكذا الطبراني في " معجمه " - كما في " نصب الراية " (1/387) -: بُهيمة. بالضم - مصغراً -؛ قال الزيلعي: " وهو الصواب، وفتح الباء فيه خطأ ". (2) هو من حديث ميمونة بنت الحارث - زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سجد؛ جافى بين يديه حتى ... الحديث. أخرجه مسلم (2/53 - 54) ، وأبو داود (1/143) ، والنسائي (1/166 - 167) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 وكان يبالغ في ذلك حتى قال بعض أصحابه (1) :   والدارمي (1/306) ، وابن ماجه (1/287) ، والحاكم (1/228) ، والبيهقي (2/114) ، وأحمد (6/331) ؛ كلهم من طريق سفيان بن عُيينة عن عُبيد الله بن عبد الله عن عمه يزيد بن الأصم عنها به. وقد رواه غير سفيان عن عبيد الله بلفظ آخر، وقد ذكر في الحديث الذي قبله. (1) هو أحمر بن جَزْء - بفتح الجيم، بعدها زاي ساكنة، ثم همز -. أخرجه أبو داود (1/143) ، وابن ماجه (1/288) ، والطحاوي (1/136) ، والبيهقي (2/115) ، وأحمد (4/342 و 5/30) ، والطبراني في " الكبير "، والضياء المقدسي في " المختارة "؛ كلهم عن عَبّاد بن راشد: ثنا الحسن: ثنا أحمر بن جَزْء به. وهذا إسناد حسن. وقال النووي (3/430) : " إسناده صحيح ". وكذا قال في " الخلاصة " - كما في " الزيلعي " (1/387) -. وصححه ابن دقيق العيد على شرط البخاري - كما في " التلخيص " (3/475) -. كذا قالوا! وعباد بن راشد: مختلف فيه؛ قال أحمد: " شيخ ثقة صدوق صالح ". وقال أبو حاتم: " صالح الحديث "، وأنكر على البخاري ذكره في " الضعفاء " وقال: "يُحَوَّل ". وقال أبو داود: " ضعيف ". والنسائي وابن البَرْقي: " ليس بالقوي ". وقال ابن حبان: " لا يحتج به ". ورد ذلك المقدسي بقوله: " وقد روى له البخاري في " صحيحه "، وهو أعلم ممن تكلم فيه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 " إن كنا لنأوي (1) لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مما يُجافي بيديه عن جنبيه إذا سجد ". وكان يأمر بذلك؛ فيقول: " إذا سجدت؛ فضع كفيك، وارفع مرفقيك " (2) . ويقول:   قلت: وهذا الجواب ليس بشيء؛ لأمرين: الأول: أن البخاري لم يحتج به؛ بل روى له مقروناً بغيره. الثاني: أن البخاري نفسه ممن تكلم فيه؛ حتى أنكر ذلك عليه أبو حاتم - كما مر آنفاً -. وفي " التقريب ": " صدوق له أوهام ". فغاية حديثه أن يكون حسناً. نعم؛ تابعه عَبّاد بن ميسرة: أخرجه الطحاوي. وابن ميسرة هذا: حاله قريب من حال ابن راشد؛ وقد قال أحمد: " عباد بن راشد أثبت حديثاً من عباد بن ميسرة ". وقال ابن معين: " عباد بن ميسرة، وعباد بن راشد، وعباد بن كثير، وعباد بن منصور؛ كلهم حديثهم ليس بالقوي، ولكنه يكتب ". وفي " التقريب ": " لين الحديث ". اهـ. ولعله بهذه المتابعة يصير الحديث صحيحاً. والله أعلم. (1) {أي: نَرْثي ونرِقّ} . (2) هو من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. أخرجه مسلم (2/53) ، {وأبو عوانة [2/183] } ، والبيهقي (2/113) ، والطيالسي (101) ، وأحمد (4/283 و 294) من طريق عُبيد الله بن إياد بن لَقِيط قال: ثني أبي عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 " اعتدلوا في السجود (1) ، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط (وفي لفظ: كما يبسط) الكلب " (2) . وفي لفظ آخر وحديث آخر:   (1) قال القاضي أبو بكر بن العربي في " عارضة الأحوذي " (2/75 - 76) : " أراد به كون السجود عدلاً باستواء الاعتماد على الرجلين، والركبتين، واليدين، والوجه، ولا يأخذ عضو من الاعتدال أكثر من الآخر. وبهذا يكون ممتثلاً لقوله: " أمرت بالسجود على سبعة أعظم ". وإذا فرش ذراعيه فَرْشَ الكلب؛ كان الاعتماد عليهما دون الوجه؛ فيسقط فرض الوجه ". انتهى. قلت: وهذا المعنى قد جاء منصوصاً عليه في حديث ابن عمر الآتي في الأصل: " فإنك إذا فعلت ذلك؛ سجد كل عضو منك معك ". وقد ذكر نحوه ابن دقيق العيد فقال: " لعل المراد بالاعتدال هنا: وضع هيئة السجود على وفق الأمر؛ لأن الاعتدال الحسي المطلوب في الركوع لا يتأتى هنا؛ فإنه هناك استواء الظهر، والعنق، والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي. قال: وقد ذكر الحكم هنا مقروناً بعلته؛ فإن التشبه بالأشياء الخسيسة يناسب تركه في الصلاة ". انتهى. والهيئة المنهي عنها أيضاً مشعرة بالتهاون وقلة الاعتناء بالصلاة. اهـ. من " فتح الباري " (2/240) . وقد قال الترمذي - بعد أن ساق الحديث -: " والعمل عليه عند أهل العلم؛ يختارون الاعتدال في السجود، ويكرهون الافتراش كافتراش السبُع ". (2) هو من حديث أنس رضي الله عنه. أخرجه البخاري (2/240) ، ومسلم (2/53) ، وأبو داود (1/143) ، والنسائي (1/167) ، والدارمي (1/303) ، والطيالسي (266) ، وعنه الترمذي (2/66) وصححه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 " ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب ".   وكذا البيهقي (2/113) ، وأحمد (3/115 و 177 و 179 و 202 و 274 و 291) من طرق عن شعبة قال: سمعت قتادة عنه. وقد صرح قتادة بسماعه من أنس: عند الدارمي، والترمذي، وأحمد في رواية. واللفظ الأول هو رواية لأحمد من طريق بهز عن شعبة. واللفظ الآخر هو لأبي داود من طريق مسلم بن إبراهيم عن شعبة. وكذلك رواه عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " (3/279) عن شَرِيك عنه، وأحمد عن يزيد - هو: ابن هارون - عنه. وقد تابعه عن قتادةَ سعيدُ بنُ أبي عروبة. أخرجه ابن ماجه (1/289) ، والنسائي أيضاً. وهَمّام، ويزيد بن إبراهيم، وهشام: عند أحمد (3/191 و 214) . وحُميد، وأيوب أبو العلاء القَصّاب - ولفظهما نحو لفظ مسلم بن إبراهيم - عن شعبة. أخرجه أحمد أيضاً (3/109 و 231) ، والنسائي (1/166) عن أيوب. وله شاهد من حديث جابر مرفوعاً بلفظ: " إذا سجد أحدكم؛ فليعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب ". أخرجه الترمذي وصححه، وابن ماجه، وأحمد (3/305 و 315 و 389) من طريق الأعمش عن أبي سفيان عنه. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وله في " المسند " (3/336) طريق آخر من رواية ابن لهيعة: ثنا أبو الزبير قال: سألت جابراً رضي الله عنه عن السجود؟ قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 ..............................................................................   سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر أن يُعتَدل في السجود، ولا يسجد الرجل وهو باسط ذراعيه. وهذا إسناد حسن في المتابعات والشواهد. وله شاهد آخر، وفيه زيادة غريبة. أخرجه أبو داود، والبيهقي (2/115) من طريق الليث عن دراج عن ابن حُجَيرة عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " إذا سجد أحدكم؛ فلا يفترش يديه افتراش الكلب، وليضم فخذيه ". وعزاه الحافظ (2/234) لابن خزيمة، وسكت عليه. وما أرى إسناده يصح؛ فإن دراجاً هذا - وهو: أبو السمح المصري -: متكلم فيه، وقد ساق له ابن عدي أحاديث، وقال: " عامتها لا يتابع عليها ". وقد أورده الذهبي في " الميزان "، وحكى تضعيفه عن الأكثرين. والحاكم يصحح له كثيراً في " مستدركه "، والذهبي يوافقه في بعض ذلك، وأحياناً يتعقبه بقوله: " دراج: كثير المناكير ". ومن مناكيره عندي هذه الزيادة: " وليضم فخذيه ". فقد ثبت من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافه (*) - كما يأتي قريباً -. هذا، وفي الباب عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً - كما يأتي أيضاً -.   (*) قال العظيم أبادي شارحاً قوله: " وليضم فخذيه ": " فيه أن المصلي يضم فخذيه في السجود. لكنه معارض بحديث أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إذا سجد فرَّج بين فخذيه ... وقوله: " فرَّج بين فخذيه ": فرق بينهما. قال الشوكاني: ... ولا خلاف في ذلك. (تنبيه) : حسن الشيخ رحمه الله - أخيراً - حديث (دراج) ؛ إلا ما كان من روايته عن أبي الهيثم. انظر " الصحيحة " (3350) ، وحسن حديثه هذا في " صحيح أبي داود " (837) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 وكان يقول: " لا تبسط ذراعيك [بسط السبُع] ، وادّعم على راحتيك (1) ، وتجاف (2) عن ضَبْعيك (3) ؛ فإنك إذا فعلت ذلك؛ سجد كل عضو منك معك " (4) .   (1) أي: استند عليهما. (2) هو من (الجفاء) : البعد عن الشيء. يقال: جفاه؛ إذا بعد عنه، وأجفاه؛ إذا أبعده. " نهاية ". (3) تثنية ضبْع - بسكون الباء - وهو وسط العضُد. وقيل: هو ما تحت الإبط. ويقال للإبط: الضبع؛ للمجاورة. " نهاية ". (4) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنه. أخرجه الحاكم (1/227) ، والضياء المقدسي في " المختارة " من طريق محمد بن إسحاق قال: ثني مِسْعَر بن كِدَام عن آدم بن علي البكري عنه. وقال: " صحيح ". ووافقه الذهبي. ورواه الطبراني في " الكبير " - كما في " المجمع " (2/126) ، وقال: " ورجاله ثقات " -، ومن طريقه الضياء المقدسي. وقال الحافظ في " الفتح " (2/234) : " إسناده صحيح ". قال الزيلعي (1/386) : " هو في " مصنف عبد الرزاق " من كلام ابن عمر. قال: أخبرنا سفيان الثوري عن آدم بن علي البكري قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي لا أتجافى عن الأرض بذراعي؛ فقال: أيا ابن أخي! لا تبسط بسط السبُع، وادَّعم ... إلخ. ورفعه ابن حبان في " صحيحه " في (النوع الثامن والسبعين من القسم الأول) بلفظ: " وجاف عن ضبعيك ". ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 ..............................................................................   والزيادة عنده، وكذا الطبراني، ورواه ابن خزيمة في " صحيحه " { [1/80/2) = [1/325/645) } ، وعنه المقدسي. وهذا الحديث، وحديث البراء الماضي يدلان على وجوب التفريج المذكور، لكن حديث أبي هريرة المذكور بعده، يدل على الاستحباب. كذا أطلق الحافظ في " الفتح " (2/234) ، وأرى أن الصواب أن يقال: يجب التفريج؛ إلا إذا وجد مشقة منه؛ فيرخص حينئذٍ تركه، ويدل على هذا القيد عبارة ابن عجلان الآتية. فتأمل. (تنبيه) : كان في المتن بعد قوله: " سجد كل عضو منك معك ": " ورخص في ترك التفريج: التجافي؛ إذا كان يشق على الساجد، وذلك حينما شكا أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه مشقة السجود - عليهم - إذا تفرجوا. فقال: " استعينوا بالركب ". [قال ابن عجلان - أحد رواته -: وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا أطال السجود وأعيا] ". وعلق الشيخ رحمه الله عليه بقوله: " هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه أبو داود (1/143) ، وعنه البيهقي (2/116 - 117) ، والترمذي عن قُتيبة (2/77) ، والحاكم (1/229) ، وعنه البيهقي أيضاً عن شعيب بن الليث بن سعد، وأحمد (2/339 - 340) عن يونُس؛ ثلاثتهم عن الليث عن ابن عجلان عن سُمَي عن أبي صالح عنه به. والزيادة لشعيب ويونس. وقد عزاها الحافظ في " الفتح " لأبي داود، وهو وهم! وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "! ووافقه الذهبي! وهو وهم أيضاً؛ وإنما هو حديث حسن فقط، ليس صحيحاً، ولا على شرط مسلم - كما بيناه مراراً -. وأما الترمذي؛ فأعلَّه بأن رواه سفيان بن عيينة وغيرُ واحد عن سُمي عن النعمان ابن أبي عَيّاش عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو هذا. ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 وجوبُ الطُّمأنينة في السُّجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بإتمام الركوع والسجود، ويضرب لمن لا يفعل ذلك مَثَلَ الجائع؛ يأكل التمرة والتمرتين لا تغنيان عنه شيئاً. وكان يقول فيه: " إنه من أسوأ الناس سرقةً ". وكان يحكم ببطلان صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود - كما سبق تفصيله في (الركوع) -، {وأمر (المسيء صلاته) بالاطمئنان في السجود - كما تقدم في أول الباب} -.   " وكأن هؤلاء أصح من رواية الليث ". وعلق عليه القاضي أحمد شاكر بقوله: " لماذا؟! هؤلاء رَوَوُا الحديث عن سُمي عن النعمان مرسلاً، والليث بن سعد رواه عن سُمي عن أبي صالح عن أبي هريرة موصولاً؛ فهما طريقان مختلفان يؤيد أحدهما الآخر ويعضُده. والليث بن سعد: ثقة حافظ حجة، لا نتردد في قبول زيادته وما انفرد به؛ فالحديث صحيح ". انتهى. وأقول: هذا كلام صحيح متين؛ لو أن الاختلاف في وصله وإرساله كان بين الليث وبين سفيان وغيره - كما هو ظاهر كلام الترمذي، وعليه مشى القاضي المذكور -، ولكن الواقع أن الاختلاف هو بين محمد بن عجلان وبين سفيان؛ فإن الليث إنما رواه عن سُمي بواسطة ابن عجلان - كما رأيت -، وإذ الأمر كذلك؛ فمحمد بن عجلان ليس بالقوي إذا خولف؛ فالصواب في الحديث أنه مرسل؛ كما رواه سفيان بن عيينة. وقد أخرجه البيهقي (2/117) ، ثم قال: " وكذلك رواه سفيان الثوري عن سُمَي عن النعمان ". ثم قال: " قال البخاري: وهذا أصح بإرساله ". فالحديث - إذن - معلول، فيُحذف من الكتاب، ويُذكر في التعليق على سبيل التنبيه ". قلت: فلذا؛ أثبتناه كما أراد الشيخ رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 أذكارُ السُّجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارةً هذا، وتارةً هذا: 1- " سبحان ربي الأعلى (ثلاث مرات) ". و" كان - أحياناً - يكررها أكثر من ذلك ". وبالغ في تكرارها مرة في صلاة الليل حتى كان سجوده قريباً من قيامه، وكان قرأ فيه ثلاث سور من الطوال: {البَقَرَة} و {النِّسَاء} و {آلِ عِمْرَان} ، يتخللها دعاءٌ واستغفارٌ - كما سبق في (صلاة الليل) -. 2- " سبحان ربي الأعلى وبحمده (ثلاثاً) ". 3- " سُبُّوح، قُدُّوس (1) ، رب الملائكة والروح ". 4- " سبحانك اللهم ربنا! وبحمدك، اللهم! اغفر لي ". وكان يكثر منه في ركوعه وسجوده؛ يتأول القرآن. 5- " اللهم! لك سجدت؛ وبك آمنت، ولك أسلمت، [وأنت ربي] ، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، [فأحسن صُوَرَه] ، وشق سمعه وبصره،   1-4- سبق تخريج هذه الأحاديث في (الركوع) : [1 و 2- (ص 651 - 658) . 3- (ص 659) . 4- (ص 660 - 662) ] . (1) {تقدم أن (السّبّوح) : الذي ينزه عن كل سوء. و (القدوس) : المبارك} . 5- هو من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد مضى بطوله في (الاستفتاح) [ص 242] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 [فـ] تبارك الله أحسن الخالقين (1) ".   والزيادة الأولى: هي عند الطحاوي (1/137) ، والترمذي عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، والدارقطني (30) عن ابن جريج؛ كلاهما عن موسى بن عُقبة بإسناده المتقدم هناك عن علي. وهو سند صحيح. وقد جاءت هذه الزيادة: من حديث جابر ومحمد بن مسلمة بإسنادين صحيحين عند النسائي (1/169) ، ومن حديث أبي هريرة في " مسند الشافعي " (14) . والزيادة الثانية: هي عند مسلم في رواية {وأبي عوانة} ، والدارقطني، والبيهقي، وهي رواية أبي داود، والطيالسي، وأحمد، وابن نصر (76) . والزيادة الثالثة: عند الترمذي في رواية، والبيهقي (2/109) ، وأحمد. (تنبيه) : زاد البيهقي في هذه الرواية بعد قوله: " ولك أسلمت ": " وعليك توكلت ". وهي زيادة شاذة، لم أجدها في شيء من الأصول. (1) أي: أتقن الصانعين، يقال لمن صنع شيئاً: خلقه، ومنه قول الشاعر: ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ضُ القوم يخلق ثم لا يفري قال القرطبي في " تفسيره " (12/110) : " وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس، وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى. وقال ابن جريج: إنما قال: {أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} ؛ لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه الصلاة والسلام أن يخلق. واضطرب بعضهم في ذلك. ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 6- " اللهم! اغفر لي ذنبي كله، دِقّه وجِلَّه (1) ، وأوله وآخره، وعلانيته وسره (2) ". 7- " سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، أبوء بنعمتك عليَّ، هذه يداي وما جَنَيْتُ على نفسي " (*) .   6- هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في سجوده: ... فذكره. أخرجه مسلم (2/50) ، {وأبو عوانة [2/185 - 186] } ، وأبو داود (1/140) ، والطحاوي (1/138) ، والحاكم (1/263) . (1) هو بكسر أولهما. أي: قليله وكثيره. وفيه توكيد الدعاء، وتكثير ألفاظه؛ وإن أغنى بعضها عن بعض. كذا في " شرح مسلم ". قلت: ومثله ما سيأتي في (الدعاء قبل السلام) إن شاء الله تعالى. (2) أي: عند غيره تعالى، وإلا؛ فهما سواء عنده تعالى، يعلم السر وأخفى - كذا في " المرقاة " -. وهو بمعنى قوله الآتي: " رب! اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت ". 7- هو من حديث عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في سجوده: ... فذكره. أورده في " المجمع " (2/128) ، وقال: " رواه البزار، ورجاله ثقات ". قلت: وقد أخرجه ابن نصر (76) ، والحاكم (1/534 - 535) من طريق حُميد   (*) أشار الشيخ رحمه الله إلى حذفه في نسخته الخاصة من " صفة الصلاة " (ص 146) ؛ معلقاً عليه بما تراه في نهاية التخريج هنا (ص 765) . فأثبتناه دون تسويد كما ترى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 ..............................................................................   الأعرج عن عبد الله بن الحارث عنه. وقال الحاكم: " صحيح الإسناد؛ إلا أن الشيخين لم يخرجا عن حُميد الأعرج الكوفي، إنما اتفقا على إخراج حديث حُميد بن قيس الأعرج المكي ". وتعقبه الذهبي بقوله: " قلت: حميد: متروك ". وفي " التقريب ": " يقال: هو ابن عطاء - أو: ابن علي، أو غير ذلك -: ضعيف ". قلت: وهو متفق على تضعيفه؛ لم نر أحداً وثقه، فالظاهر أن البزار رواه من غير طريقه، وإلا؛ فكيف يقول الهيثمي: " ورجاله ثقات " (*) ؟! على أنه قد ساق له شاهداً من حديث عائشة قالت: كانت ليلتي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانْسَلَّ، فظننت أنه انْسَلَّ إلى بعض نسائه؛ فخرجت غَيْرَى، فإذا أنا به ساجداً كالثوب الطريح، فسمعته يقول: " سجد لك سوادي، وخيالي، وآمن بك فؤادي، رب! هذه يدي، وما جنيت على نفسي يا عظيم! تُرجى لكل عظيم؛ فاغفر الذنب العظيم ". قالت: فرفع رأسه فقال: " ما أخرجك؟ ". قالت: ظنّاً ظننته. قال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ؛ فاستغفري الله. إن جبريل أتاني، فأمرني أن أقول هذه الكلمات التي سمعت، فقوليها في سجودك؛ فإنه من قالها؛ لم يرفع رأسه حتى يُغفر - أظنه قال: - له ". رواه أبو يعلى.   (*) بل هو بنفس الإسناد! انظر " الضعيفة " (2145) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 8- " سبحان ذي الجبروتِ، والملكوتِ، والكبرياءِ، والعظمة ". وهذا - وما بعده - كان يقوله في صلاة الليل. 9- " سبحانك [اللهم!] وبحمدك، لا إله إلا أنت ".   وفيه عثمان بن عطاء الخراساني، وثقّه دُحيم، وضعفه البخاري، ومسلم، وابن معين وغيرهم. قلت: وفي " التقريب ": " ضعيف ". وأورده في " التلخيص " (3/470 - 471) بنحوه إلى قوله: كالثوب الساقط على وجه الأرض ساجداً ... الحديث. اهـ. فالظاهر أنه هو هذا. وقال: " رواه ابن الجوزي من حديث عائشة. وفي إسناده سليمان ابن أبي كَريمة: ضعفه ابن عدي؛ فقال: عامة أحاديثه مناكير. وأخرجه الطبرانى في كتاب " الدعاء " له في (باب القول في السجود) ". اهـ. {ثم تبين أن الشواهد المشار إليها لا تصلح، وذلك بعد الوقوف على أسانيدها مباشرة، فانظر " الضعيفة " (2145 و 6579) } . 8- هو من حديث عوف بن مالك الأشجعي. وقد مضى بتمامه في (القراءة في صلاة الليل) ، وذكرت له شاهداً في (الركوع) . 9- هو من حديث عائشة أيضاً قالت: افتقدت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة، فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسّست، ثم رجعت؛ فإذا هو راكع - أو ساجد - يقول: ... فذكره. أخرجه مسلم (2/51) ، {وأبو عوا نة [2/169] } ، والنسائي (1/169) ، وأحمد (6/151) من طريق ابن جُريج عن عطاء قال: أخبرني ابن أبي مُليكة عنها. وصرح ابن جريج بسماعه من عطاء عند مسلم وأحمد، [وبسماعه من ابن أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 10- " اللهم! اغفر لي ما أسررتُ، وما أعلنتُ ".   مليكة عند أبي عوانة] ، والزيادة للنسائي. وله طريق آخر: رواه ابن نصر (75) : ثنا إسحاق: أخبرنا المخزومي: ثنا وهيب عن خالد الحذاء عن محمد بن عباد عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في صلاة الليل في سجوده: " سبحانك لا إله إلا أنت ". وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. والمخزومي اسمه: المغيرة بن سلمة أبو هاشم البصري. وهذه الرواية تعين المراد في الرواية الأولى؛ وهو: السجود. 10- هو من حديث عائشة أيضاً قالت: فقدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مضجعه، فجعلت ألتمسه، وظننت أنه أتى بعض جواريه، فوقعت يدي عليه وهو ساجد، وهو يقول: ... فذكره. أخرجه النسائي (1/169) ، وابن نصر (75) عن جَرير عن منصور عن هلال بن يِسَاف عنها. ثم أخرجه النسائي - وكذا الحاكم (1/221) - من طريق شعبة عن منصور به؛ إلا أنه قال: " رب! ".. بدل: " اللهم! ". وليست هي في " المستدرك ". ثم قال: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وليس كما قالا، وإنما هو على شرط مسلم وحده؛ فإن هلال بن يِسَاف لم يرو له البخاري إلا تعليقاً (*) .   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في مطبوع " الصفة " لابن أبي شيبة (12/112/1) ، وهو فيه من طريق أخرى؛ فقال: حدثنا عُبيدة بن حُميد عن منصور عن إبراهيم عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 11- " اللهم! اجعل في قلبي نوراً، [وفي لساني نوراً] ، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من تحتي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل خلفي نوراً، [واجعل في نفسي نوراً] ، وأعظم لي نوراً ".   11- هو من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بِتُّ عند خالتي ميمونة بنت الحارث، وبات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندها، فرأيته قام لحاجته، فأتى القِربة فحل شِناقَها، ثم توضأ وضوءاً هو الوضوء، ثم قام يصلي، وكان يقول في سجوده: ... فذكره، ثم نام حتى نفخ، فأتاه بلال فأيقظه للصلاة. أخرجه النسائي (1/168) عن شيخه هنّاد بن السَّرِيّ، ومسلم (2/181) عنه، وعن أبي بكر بن أبي شيبة - { [وهذا] في " المصنف " (12/112/1) } - معاً؛ قالا: ثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن سلمة بن كُهيل عن أبي رِشْدين - وهو كُريب - عنه به. وقد تابعه شعبة عن سلمة، لكنه شك؛ فقال: فجعل يقول في صلاته - أو في سجوده - ... أخرجه مسلم (2/180 - 181) ، و {أبو عوانة [2/312] } ، والطيالسي (353) ، وأحمد (1/284) . وتابعه أيضاً سفيان الثوري بلفظ: وكان يقول في دعائه. فأطلق ولم يقيد. أخرجه البخاري في " صحيحه " (11/97 و 99) ، وفي " الأدب المفرد " (100) ، ومسلم (2/178) ، وأحمد (1/343) (*) وزاد في آخره: قال كُريب: وسبع في التابوت. قال: فلقيت رجلاً من ولد العباس، فحدثني بهن فذكر:   (*) [و {أبو عوانة} (2/311) من الطريق نفسها؛ وفيه: قال كريب: " ست ".. بدل: " سبع "] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 ..............................................................................   " عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري ". وذكر خصلتين. وتابعه عُقيل بن خالد أيضاً بلفظ: ودعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلتئذٍ تسع عشرة كلمة. قال سلمة: حدثنيها كُريب - فحفظت منها ثنتي عشرة، ونسيت ما بقي -: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... فذكره، وفيه الزيادتان. أخرجه مسلم (2/181 - 182) ، و {أبو عوانة [2/314] } . ثم أخرجه [هو و {أبو عوانة} (2/320) ] من طريق أخرى عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس: أنه رقد عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستيقظ ... الحديث، وفيه: فأذن المؤذن، فخرج إلى الصلاة، وهو يقول: ... فذكره نحوه. وأخرجه أبو داود (1/213) ، وأحمد (1/373) . وله طريق أخرى عند البخاري في " الأدب " (100 - 101) من طريق يحيى بن عَبَّاد أبي هُبيرة عن سعيد بن جُبيرعنه بلفظ: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل، فصلى، فقضى صلاته؛ يُثني على الله بما هو أهله، ثم يكون في آخر كلامه: " اللهم! اجعل لي نوراً في قلبي ... " الحديث بنحوه. وسنده صحيح. فقد اتفقت هاتان الروايتان على أن موضع هذا الدعاء بعد انقضاء الصلاة، وفي الرواية الأولى أنه في السجود؛ فالظاهر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل تارة هكذا، وتارة هكذا. والمراد بـ (النور) : إما الهداية والتوفيق للخير، وهذا يشمل الأعضاء كلها؛ لظهور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 12- " [اللهم!] [إني] أعوذ برضاك من سخطك، و [أعوذ] بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت   آثاره في الكل، أو المراد: ظاهر النور. والمقصود أن يجعل الله تعالى له في كل عضو من أعضائه نوراً يوم القيامة، يستضيء به في تلك الظلم ومن تبعه. والله أعلم. سندي. 12- هو من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة من الفراش، فالتمسته؛ فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: ... فذكره. أخرجه مسلم (2/51) ، و {أبو عوانة [2/169 - 170 و 188] ، وأبو داود (1/140) (1) ، {وابن أبي شيبة في " المصنف " (12/106/2) = [6/19/29131] } ، وابن نصر (75) من طريق عُبَيد الله بن عمر عن محمد بن يحيى بن حَبَّان عن الأعرج عن أبي هريرة عنها. والزيادات لابن نصر، ولمسلم الأولى، وأبي داود {وأبي عوانة (169) } الأخيرة. وله طريق آخر أخرجه النسائي (1/169) ، والطحاوي (1/138) من طريق يحيى ابن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: أن عائشة قالت: فقدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة؛ فوجدته وهو ساجد، وصدور قدميه نحو القبلة، فسمعته يقول: ... فذكره. دون الزيادتين الأُولَيين. وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. ثم أخرجه الطحاوي من طريق الفَرَج بن فَضَالة عن يحيى بن سعيد عن عَمْرَةَ عن عائشة به، وفيه الزيادات.   (1) {انظر " صحيح أبي داود " (823) } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 على نفسك (1) ".   ثم أخرجه من طريق يحيى بن أيوب قال: ثني عُمارة بن غَزِيَّة قال: سمعت أبا النضر يقول: سمعت عروة يقول: قالت عائشة: ... فذكر مثله؛ إلا أنه لم يذكر قوله: " لا أحصي ثناء عليك "، وزاد: " أثني عليك، لا أبلغ كما فيك ". وهي رواية لابن نصر. وهذا إسناد على شرط مسلم؛ لكن يحيى بن أيوب في حفظه شيء. وفي " التقريب ": " صدوق ربما أخطأ ". فيخشى أن تكون هذه الزيادة من أوهامه. (1) فيه الاعتراف بالعجز عن القيام بواجب الشكر، والثناء، وأنه لا يقدر عليه، وإن بلغ فيه كل مبلغ؛ بل هو سبحانه وتعالى كما أثنى على نفسه، فكأنه قال: هذا أمر لا تقوم به القوى البشرية، ولكن أنت القادرعلى الثناء على نفسك بما يليق بها، فأنت كما أثنيت على نفسك. كذا في " تحفة الذاكرين " (106) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 النهيُ عن قراءة القرآن في السُّجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، ويأمر بالاجتهاد والإكثار من الدعاء في هذا الركن - كما مضى في (الركوع) - وكان يقول: " أقرب (1) ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء [فيه] " (2) .   (1) قال ابن الملك في " المبارق " (2/79) : " أقرب: مبتدأ خبره محذوف وجوباً؛ لسد الحال مسده، فهو مثل قولهم: أخطب ما يكون الأمير قائماً؛ إلا أن الحال - ثمة - مفرد، وههنا جملة مقرونة بالواو. وإنما كان العبد أقرب إلى رحمة الله تعالى حالة السجود؛ لأنها غاية التذلل، والاعتراف بعبوديته، وكانت مظنة الإجابة؛ ولذا أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: " فأكثروا الدعاء فيه " ". اهـ. وقد استدل بالحديث من ذهب إلى أن السجود أفضل من القيام، وقد سبق ذكرهم هناك، وذكرنا كلام السندي في الجمع بين الأدلة. فراجعه [ص 406 - 407] . (2) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه مسلم (2/49 - 50) ، {وأبو عوانة [2/180] } ، وأبو داود (1/140) ، والنسائي (1/170 - 171) ، والطحاوي (1/138) ، والبيهقي (2/110) ، وأحمد (2/421) ؛ كلهم من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن عُمارة بن غَزِيّة عن سُمَيّ مولى أبي بكر: أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عنه به، والزيادة للبيهقي. وعزاه الحاكم (1/263) للشيخين معاً؛ فوهم، وإنما هو من أفراد مسلم. ثم أخرجه الطحاوي من طريق أبي صالح: ثني يحيى بن أيوب به نحوه. {وهو مخرج في " الإرواء " (456) } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 إطالةُ السُّجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل سجوده قريباً من الركوع في الطُّول، وربما بالغ في الإطالة لأمر عارض؛ كما قال بعض الصحابة (1) : " خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى صلاتي العشي -[الظهر والعصر]- وهو حامل حسناً أو حسيناً، فتقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوضعه [عند قدمه اليمنى] ، ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهرانَيْ (2) صلاته سجدة أطالها، قال: فرفعت رأسي [من بين الناس] ؛ فإذا الصبي على ظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة؛ قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهرانَيْ صلاتك [هذه] سجدة (3) أطلتها؛ حتى ظَنَنّا أنه قد حدث أمر (4) ، أو أنه يوحى إليك! قال: " كل ذلك لم يكن؛ ولكن ابني ارتحلني (5) ، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته " (6) .   (1) هو شَدّاد بن الهَاد رضي الله عنه. (2) أي: في أثناء صلاته. (3) ولفظ الحاكم: سجدة ما كنت تسجدها؛ أشيء أمرت به، أو كان يوحى إليك؟ (4) كناية عن الموت، أو المرض. (5) أي: اتخذني راحلة بالركوب على ظهري. " فكرهت أن أعجله ": من التعجيل، أو الإعجال. (6) أخرجه النسائي (1/171 - 172) ، وأحمد (3/493 و 6/467) ، والحاكم (3/164) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 {وفي حديثٍ آخر: " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي؛ فإذا سجد؛ وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا منعوهما؛ أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة؛ وضعهما في حِجْرِه، وقال: " من أحبني؛ فَلْيُحِِبَّ هذين " " (1) } .   وعنه البيهقي (2/263) ، {وابن عساكر (4/257/1 - 2) = [14/160] } عن جرير بن حازم: ثنا محمد بن عبد الله بن [أبي] يعقوب عن عبد الله بن شداد بن الهاد عنه. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين - كما قال الحاكم، ووافقه الذهبي -. والزيادة الأولى عند أحمد والحاكم، والأخريات عند الحاكم والبيهقي {وابن عساكر} . وله شاهد مختصر من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد، فيجيء الحسن أو الحسين، فيركب ظهره؛ فيطيل السجود، فيقال: يا نبي الله! أطلت السجود؟ فيقول: " ارتحلني ابني؛ فكرهت أن أعجله ". قال الهيثمي (9/181) : " رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن ذكوان: وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال " الصحيح " ". (1) { [أخرجه] ابن خزيمة في " صحيحه " (887) بإسناد حسن عن ابن مسعود، والبيهقي مرسلاً (2/263) ، وترجم له ابن خزيمة بقوله: " باب ذكر الدليل على أن الإشارة في الصلاة - بما يفهم عن المشير - لا تقطع الصلاة، ولا تفسدها ". قلت: وهذا من الفقه الذي حُرِمَهُ أهلُ الرأي! وفي الباب أحاديث أخرى في " الصحيحين " وغيرهما} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 فضل السجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة ". قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله! في كثرة الخلائق؟ قال: " أرأيت لو دخلت صِيَرة (*) فيها خيل دُهم بُهم (1) ، وفيها فرسٌ أغرُّ مُحَجَّلٌّ (2) ؛ أما كنت تعرفه منها؟ ". قال: بلى. قال:   (*) في الأصل: (صبرة) - كما كان سابقاً في " صفة الصلاة "، تبعاً لـ " المسند " -، وقد نقلنا تصحيحها ومعناها من " صفة الصلاة " - المطبوعة - (ص 149) : { (الصِّيَرة) : حظيرة تتخذ للدواب من الحجارة، وأغصان الشجر، وجمعها (صِيَر) - كما في " النهاية " -} . والمعنى: مجتمع فيها خيل. (1) " دُهم ": جمع أدهم، وهو: الأسود. " بُهم ": جمع بهيم، وهو في الأصل: الذي لا يخالط لونَه لونٌ سواه. - كما في " النهاية " -. وفي " القاموس ": " والبهيم: الأسود، وما لا شية فيه من الخيل - للذكر والأنثى -، والنعجة السوداء، والخالص الذي لم يَشُبْهُ غيره ". (2) " أغرّ " من الغرة، وهو: البياض الذي يكون في وجه الفرس. " مُحَجّل " وهو: من الخيل الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد، ويجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين؛ لأنهما مواضع الأحجال وهي: الخلاخيل والقيود، ولا يكون التحجيل باليد واليدين، ما لم يكن معها رِجل أو رِجلان. " نهاية ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 " فإن أمتي يومئذٍ غُرٌّ (1) من السجود، محجَّلون من الوُضوء (2) " (3) .   (1) بضم المعجمة وشد الراء: جمع أغر؛ أي: ذو غرة. " من السجود "؛ أي: من أثر السجود في الصلاة. قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . (2) أي: من أثر وضوئهم في الدنيا. والمراد أنهم بِيْضُ مواضعِ السجود من الجبهة والأنف، وبِيْضُ مواضعِ الوضوء من الأيدي والأقدام.. استعار أثر الوضوء والسجود في الوجه، واليدين، والرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس، ويديه، ورجليه. اهـ. من " النهاية ". بقليل من التصرف. قال المناوي: " ولا تدافع بين هذا الحديث، وبين خبر الشيخين: " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرّاً محجلين من آثار الوضوء ". وما ذاك إلا لأن المؤمن يُكسى في القيامة نوراً من أثر السجود، ونوراً من أثر الوضوء، نور على نور، فمن كان أكثر سجوداً أو أكثر وضوءاً في الدنيا؛ كان وجهه أعظم ضياء وأشد إشراقاً من غيره، فيكونون فيه على مراتب من عِظَمِ النور، والأنوار لا تتزاحم؛ ألا ترى أنه لو أدخل سراج في بيت؛ ملأه نوراً، فإذا أدخل فيه آخر ثم آخر؛ امتلأ بالنور من غير أن يزاحم الثاني الأول، ولا الثالثُ الثاني.. وهكذا. والوُضوء هنا بالضم، وجوّز ابن دقيق العيد الفتح على أنه الماء. (3) هو من حديث عبد الله بن بسر. أخرجه بتمامه الإمام أحمد (4/189) قال: ثنا أبو المغيرة قال: ثنا صفوان قال: ثني يزيد بن خُميرالرَّحْبي عنه. وهذا سند صحيح. وقد أخرج الترمذي منه الشطر الأخير بلفظ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 ويقول: " إذا أراد الله رحمةَ من أراد من أهل النار؛ أمر الله الملائكة أن يُخْرِجوا من كان يعبد الله؛ فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحَرّمَ الله على النار أن تأكل أثر السجود (1) ، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله   " أمتي يوم القيامة ... " والباقي مثله. أخرجه (2/505 - 506) من طريق الوليد بن مسلم قال: قال صفوان بن عمرو: ... به. وقال: " حديث حسن صحيح ". وهو كما قال. لكن ليس ذلك بالنظر إلى إسناده - فإن الوليد بن مسلم: مدلس، ولم يصرح بسماعه كما ترى -؛ وإنما هو صحيح بالنظر إلى إسناد أحمد؛ فإنه رواه عن أبي المغيرة: ثنا صفوان. وأبو المغيرة هذا - اسمه: عبد القُدُّوس بن الحجّاج -: ثقة محتج به في " الصحيحين ". {وهو مخرج في " الصحيحة " (2836) } . (1) قال النووي: " ظاهر هذا أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة التي يسجد الإنسان عليها. وهكذا قاله بعض العلماء، وأنكره القاضي عياض رحمه الله وقال: والمراد بأثر السجود: الجبهة خاصة. والمختار: الأول. فإن قيل: قد ذكر مسلم بعد هذا مرفوعاً: " إن قوماً يخرجون من النار يحترقون فيها، إلا دارات الوجوه ". فالجواب أن هؤلاء القوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار بأنه لا يسلم منهم من النار إلا دارات الوجوه، وأما غيرهم؛ فيسلم جميع أعضاء السجود منهم؛ عملاً بعموم هذا الحديث، فهذا الحديث عام، وذلك خاص، فيعمل بالعام إلا ما خص. والله أعلم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 النار؛ إلا أثر السجود " (1) .   {وفيه: أن عصاة المصلين لا يخلدون في النار، وكذلك لو كان الموحِّد تاركاً للصلاة كسلاً؛ فإنه لا يخلد؛ صح ذلك، فانظر " الصحيحة " (3054) } . (1) هو قطعة من حديث طويل في البعث والشفاعة، يرويه أبو هريرة رضي الله عنه - لا بأس من أن نسوقه بطوله - قال: إن الناس قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: " هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ ". قالوا: لا يا رسول الله! قال: " فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ ". قالوا: لا. قال: " فإنكم ترونه كذلك؛ يحشر الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً؛ فليَتْبَع، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها. فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم. فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا؛ عرفناه، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا، فيدعوهم، فيُضرب الصراطُ بين ظهرانَيْ جهنم، فأكون أولَ من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذٍ أحد إلا الرسل. وكلام الرسل يومئذٍ: اللهم! سلّم سلّم. وفي جهنم كلاليب؛ مثل شوك السعدان؛ هل رأيتم شوك السعدان؟ ". قالوا: نعم. قال: " فإنها مثل شوك السعدان؛ غير أنه لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم؛ فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل ثم ينجو، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار ... " الحديث، وتمامه: " فيُخرجون من النار قد امتُحِشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون؛ كما ينبت الحبة في حَميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة، مقبل بوجهه قِبَلَ النار، فيقول: يا رب! اصرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 ..............................................................................   وجهي عن النار، قد قشبني ريحها، وأحَرقني ذكاؤها. فيقول: هل عسيت إن فُعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول: لا وعزتك! فيعطي الله ما يشاء من عهد وميثاق، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل به على الجنة؛ رأى بهجتها، سكت ما شاء أن يسكت، ثم قال: يا رب! قَدِّمني عند باب الجنة. فيقول الله له: أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سَألت؟ فيقول: يا رب! لا أكون أشقى خلقك. فيقول: فما عسيت إن أعطيت ذلك أن لا تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك! لا أسأل غير ذلك، فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق؛ فيقدمه إلى باب الجنة فإذا بلغ بابها، فرأى زهرتها، وما فيها من النضرة والسرور؛ فيسكت ما شاء الله أن يسكت، فيقول: يا رب! أدخلني الجنة. فيقول الله: ويحك يا ابن آدم! ما أغدرك؟! أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك. فيضحك الله عز وجل منه، ثم يأذن له في دخول الجنة، فيقول: تمنّ. فيتمنى حتى إذا انقطع أمنيته؛ قال الله عز وجل: زد من كذا وكذا. أقبل يذكّره ربه حتى إذا انتهت به الأماني؛ قال الله تعالى: لك ذلك، ومثله معه ". قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة رضي الله عنهما: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قال الله: لك ذلك، وعشرة أمثاله ". قال أبو هريرة: لم أحفظ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قوله: " لك ذلك، ومثله معه ". قال أبو سعيد: إني سمعته يقول: " ذلك لك، وعشرة أمثاله ". أخرجه البخاري (2/233 - 234) والسياق له، ومسلم (1/112 - 114) ، وابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 ..............................................................................   خزيمة في كتاب " التوحيد " (ص 210) من طريق شُعيب عن الزُّهْري قال: أخبرني سعيد بن المسيّب وعطاء بن يزيد الليثي: أن أبا هريرة أخبرهما: إن الناس ... به. وأخرجه البخاري أيضاً (11/376 - 390) ، ومسلم، وأحمد (2/275 و 293 و 533 - 534) من طرق عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد وحده بنحوه. وروى منه النسائي (1/171) ، وابن ماجه (2/588) القدر المذكور في الأصل - مختصراً -. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 السُّجودُ على الأرضِ والحَصِير وكان يسجد على الأرض كثيراً (1) .   (1) استخرجنا ذلك مما اشتهر واستفاض: أن مسجده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن مفروشاً بالبسط، أو الحصر؛ كما يدل عليه أحاديث كثيرة جداً: الأول: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كانت الكلاب تبول، وتقبل، وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك. أخرجه البخاري (1/223) ، وأبو داود (1/63) ، والبيهقي (2/429) من طريق يونس عن ابن شهاب قال: ثني حمزة بن عبد الله عن أبيه. وخالفه صالح بن أبي الأخضر؛ فقال: عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه. أخرجه أحمد (2/70 - 71) . وصالح: ضعيف. الثاني: عن أبي هريرة: أن أعرابياً دخل المسجد، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس، فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم! ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد تحجرت واسعاً ". ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد؛ فأسرع الناس إليه؛ فنهاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: " إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلاً من ماء - أو قال: ذنوباً من ماء - ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 ..............................................................................   أخرجه أبو داود (1/62 - 63) ، والترمذي (1/275 - 276) ، والبيهقي (2/428) ، وأحمد (2/239) عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عنه. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وله طريق أخرى: أخرجه ابن ماجه (1/189) ، وأحمد (2/503) عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه به نحوه. وهذا إسناد جيد. وصححه ابن حبان - كما في " الفتح " (10/360) -، وزاد أحمد قال: يقول الأعرابي بعد أن فقه: فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليَّ - بأبي هو وأمي -؛ فلم يسب، ولم يؤنب، ولم يضرب. وقد روى منه البخاري (10/360) ، وكذا أحمد (2/283) قصة دعاء الأعرابي من طريق الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن. ثم أخرج قصة بوله في المسجدِ البخاريُّ (1/258 و 10/432) ، والنسائي (1/20 و63) ، والبيهقي أيضاً، وأحمد (2/282) من طريق الزهري أيضاً: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة. وقد جاءت هذه القصة من حديث أنس أيضاً، وله عنه ثلاثة طرق: 1- عن حماد بن زيد عن ثابت عنه بلفظ: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دعوه، ولا تُزرموه ". قال: فلما فرغ؛ دعا بدلو من ماء، فصبه عليه. أخرجه مسلم (1/163) ، والنسائي (1/20 و 63) ، والبيهقي (2/428) ، وأحمد (3/226) من طرق عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 ..............................................................................   2- عن يحيى بن سعيد: سمعت أنساً به نحوه. أخرجه البخاري (1/258 - 259) ، ومسلم، والنسائي (20) ، والترمذي (2/276) ، والدارمي (2/189) ، والبيهقي، وأحمد (3/110 و 114 و 167) من طرق عنه. وإسناده عند أحمد والدارمي ثلاثي. 3- عن إسحاق بن أبي طلحة: ثني أنس بن مالك به نحوه أتم منه. أخرجه مسلم، وأحمد (3/191) من طريق عكرمة بن عمارعنه. وأخرجه البخاري (1/257) - مختصراً - من طريق همام عنه. الحديث الثالث: عن عمر بن سليم قال: قال أبو الوليد: سألت ابن عمر عما كان بدء هذه الحصباء التي في المسجد؟ قال: نعم؛ مطرنا من الليل، فخرجنا لصلاة الغداة، فجعل الرجل يمر على البطحاء، فيجعل في ثوبه من الحصباء، فيصلي عليه. قال: فلما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاك؛ قال: " ما أحسن هذا البساط! ". فكان ذلك أول بدئه. أخرجه أبو داود (75) عن سهل بن تمَّام بن بَزِيع، والبيهقي (2/440) عن عبد الوارث، والسياق له؛ كلاهما عن عُمر بن سُلَيم. وقال البيهقي: " وإسناده لا بأس به ". وتعقبه ابن التركماني بأن أبا الوليد هذا مجهول - كذا قال ابن القطان والذهبي -. قلت: وكذا قال الحافظ في " التقريب "؛ لكن أخرجه الضياء المقدسي في " المختارة " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 {و " كان أصحابه يصلون معه في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدهم أن يمكن جبهته من الأرض؛ بسط ثوبه، فسجد عليه " (1) } . وكان يقول:   من طريق محمد بن إسحاق بن خُزيمة: ثنا محمد بن بَشّار - بُندار - قال: ثني عبد الصمد: ثنا عمر بن سُلَيم - كان ينزل في بني قُشَير - قال: ثني ثور قال: قلت لابن عمر: ... الحديث. ثم قال المقدسي: " كذا رواه ابن خزيمة في " صحيحه " ". قلت: وثور هذا لم أعرفه، ولعله: ثور بن عُفَير السَّدُوسي؛ الراوي عن أبي هريرة، وهو مجهول؛ لم يرو عنه غير ابن شقيق - كما في " الميزان " -. الحديث الرابع: عن معيقيب قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المسح في المسجد؟ - يعني: الحصى - فقال: " إن كنت لا بد فاعلاً؛ فواحدة ". أخرجه مسلم (2/74 - 75) ، والدارمي (2/322) ، وأحمد (3/426 و 5/425) وهو في البخاري (3/61) ، وأبي داود (1/150) ، والنسائي (1/177) ، والترمذي (2/220) وصححه، وابن ماجه (1/320) بنحوه، وكذا البيهقي (2/284 - 285) . قال الحافظ في " الفتح ": " (تنبيه) : التقييد بالحصى وبالتراب خرج للغالب؛ لكونه كان الموجود في فرش المساجد إذ ذاك. فلا يدل تعليق الحكم به على نفيه على غيره مما يصلى عليه من الرمل، والقذى، وغير ذلك ". وفي الباب أحاديث أخرى، وفيما ذكرنا كفاية. (1) { [أخرجه] مسلم، وأبو عوانة} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 " ... وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجداً وطَهوراً (1) ، فأينما أدركَتْ رجلاً من أمتي الصلاةُ؛ فعنده مسجده، وعنده طهوره، [وكان مَنْ   (1) " مسجداً ": أي: موضع سجود؛ لا يختص السجود منها بموضع دون غيره. " وطَهوراً ": بفتح الطاء، قال الحافظ: " استدل به على أن الطَّهور هو المطهر لغيره؛ لأن الطهور لو كان المراد به الطاهر؛ لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها، وقد روى ابن المنذر، وابن الجارود بإسناد صحيح عن أنس مرفوعاً: " جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً ". ومعنى " طيبة ": طاهرة. فلو كان معنى (طهوراً) : طاهراً؛ للزم تحصيل الحاصل. واستدل به على أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، وقد أكد ذلك بقوله: " كلها " ". وقال السندي: " والمراد أن الأرض ما دامت على حالها الأصلية؛ فهي كذلك، وإلا؛ فقد تخرج بالنجاسة عن ذلك. والحديث لا ينفي ذلك. والحديث يؤيد القول بأن التيمم يجوز على وجه الأرض كلها، ولا يختص بالتراب. ويؤيد أن هذا العموم غير مخصوص قولُه: " فأينما أدرك الرجلَ " بالنصب " الصلاةُ " بالرفع، وهذا ظاهر؛ سيما في بلاد الحجاز؛ فإن غالبها الجبال والحجارة، فكيف يصح أو يناسب هذا العموم إذا قلنا: إن بلاد الحجاز لا يجوز التيمم منها إلا في مواضع مخصوصة؟! فليتأمل ". ويؤيد أن الحديث على عمومه تيممُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحائط، وهو في " الصحيحين ". ولذلك قال ابن دقيق العيد: " ومن خص التيمم بالتراب؛ يحتاج إلى أن يقيم دليلاً يخص به هذا العموم، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 قبلي يعظمون ذلك؛ إنما كانوا يصلون في كنائسهم وَبِيَعِهم] " (1) .   يقول: دل الحديث على أنه يصلي، وأنا أقول بذلك، فيصلي على الحالة، وَيَرِدُ عليه حديث الباب، فإنه بلفظ: " فعنده مسجده، وعنده طهوره ". وقد ذهب إلى تخصيص التيمم بالتراب: العترةُ، والشافعي، وأحمد، وداود. وذهب مالك، وأبو حنيفة، وعطاء، والأوزاعي، والثوري إلى أنه يجزئ بالأرض وما عليها ". قلت: وهو مذهب ابن حزم في " المحلى " (2/158 - 161) . (1) هو قطعة من حديث أبي أمامة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " فضَّلني ربي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - أو قال: على الأمم - بأربع - قال -: أرسلت إلى الناس كافة. وجعلت الأرض ... " الحديث، وتتمته: " ... ونصرت بالرعب مسيرة شهر؛ يقذفه في قلوب أعدائي، وأحل لنا الغنائم ". أخرجه أحمد (5/248) ، والبيهقي (2/433 - 434) عن سليمان التيمي عن سَيّار عنه. وهذا إسناد جيد. رجاله رجال الستة؛ غير سَيَّار هذا - وهو الشامي مولى معاوية -؛ فمن رجال الترمذي وحده، وصحح له، ووثقه ابن حبان، وقال في " التقريب ": " صدوق ". ولهم شيخ آخر يقال له: سَيّار؛ ولكنه بصري، من كبارأتباع التابعين. أخرج له الستة، وإنما ذكرته؛ لأنه روى معنى هذا الحديث عن جابر، ولم يُنسَب في الرواية، كما لم ينسب سَيّار في هذا الحديث، فربما ظنهما بعضُ من لا تمييز له واحداً؛ فيظن أن في الإسناد اختلافاً، وليس كذلك. أفاده الحافظ في " الفتح " (1/346) ، ثم ذكر أن إسناد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 ..............................................................................   هذا الحديث حسن. قلت: وقد رواه الترمذي (1/293 - طبع بولاق) - مختصراً - من هذا الوجه، وقال: " حسن صحيح ". قلت: وله شواهد عن جمع من الصحابة: منهم: جابر بن عبد الله مرفوعاً بلفظ: " أعطيت خمساً؛ لم يعطهن أحد قبلي ... " الحديث بنحوه. وذكر في الخامسة: " وأعطيت الشفاعة ". أخرجه البخاري (1/346 و 423) ، ومسلم (2/63) ، والنسائي (1/73) ، والدارمي (1/322) ، والبيهقي (2/433) ، وأحمد (3/304) . ومنها: عن أبي ذر نحو حديث جابر. أخرجه الدارمي (2/224) ، وأحمد (5/145 و 148) من طريق الأعمش عن مجاهد عن عُبيد بن عُمير الليثي عنه. وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الستة. وروى أبو داود (1/79) منه قوله: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ". وخالفه واصل الأحدب؛ فقال: سمعت مجاهداً عن أبي ذر به. فأسقط من الإسناد: (عبيد بن عمير) . أخرجه الطيالسي (64) ، وأحمد (5/161) . ولأبي ذر حديث آخر، وفيه قوله: " وأينما أدركتك الصلاة؛ فصل؛ فهو مسجد ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 ..............................................................................   أخرجه البخاري (6/315 و 359) ، ومسلم (2/63) ، والنسائي (1/112) ، وابن ماجه (1/254) ، والبيهقي (2/433) ، والطيالسي (62) ، وأحمد (5/150 و 156 و157 و 160 و 166 - 167) . ومنها: عن ابن عباس نحوه أيضاً. أخرجه أحمد (1/250 و 301) من طريق يزيد بن أبي زياد عن مِقْسَم عنه. وله طريق أخرى: أخرجها البيهقي (2/433) عن السُّدِّي عن عكرمة عنه. وهو بمجموع الطريقين قوي، وقد حسنه الحافظ من الطريق الأولى. ومنها: عن أبي موسى نحوه. أخرجه أحمد (4/416) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عنه. وهذا سند صحيح على شرط الشيخين، وحسنه الحافظ. وقال الشوكاني (1/227) : " رواه أحمد، والطبراني بإسناد جيد ". ومنها: عن عبد الله بن عمرو بن العاص. أخرجه أحمد (2/222) من طريق ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً؛ وفيه: " وكان من قبلي يعظمون ذلك: ... ". وهذا سند حسن - كما ذكر الحافظ أيضاً -. ويؤيده حديث ابن عباس عند البيهقي بلفظ: " ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 ..............................................................................   وعزاه الحافظ (1/347) للبزار. وهذا يَرُدُّ قول من فسر الحديث: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ": وجعلت لغيري مسجداً، ولم تجعل طهوراً. قال: " لأن عيسى كان يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة "! ولذلك قال الحافظ: " والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله، إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة؛ كالبيع، والصوامع ". ثم أيد ذلك بهذين الحديثين. ومنها: عن أبي سعيد نحوه. أخرجه الطبراني في " الأوسط ". قال الهيثمي (8/269) : " وإسناده حسن ". ومنها: عن أنس. رواه الخطابي في " المعالم " (1/147) قال: حدثونا به عن علي بن عبد العزيز عن حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن ثابت عنه. وهذا سند صحيح. ورواه السراج في " مسنده " - بإسنادٍ؛ قال العراقي: " صحيح " - كما في " النيل " -، وابن المنذر، وابن الجارود - بإسناد صحيح؛ كما في " الفتح " (1/347) -. وفي الباب عن أبي هريرة أيضاً بلفظ: " فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب ... " الحديث نحوه. وقال في السادسة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 وكان ربما سجد في طين وماء، وقد وقع له ذلك في صبح ليلة إحدى وعشرين من رمضان؛ حين أمطرت السماء، وسال سقف المسجد - وكان من جريد النخل -، فسجد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الماء والطين. قال أبو سعيد الخدري: " فأبصرت عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين " (1) .   " وخُتم بي النبيون ". أخرجه مسلم (2/64) ، والترمذي (1/293) وصححه، والبيهقي (2/433) ، وأحمد (2/412) . وله في " المسند " (2/501) طريق أخرى - مختصراً - بسند حسن. (1) هو من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف العشر الوسط من رمضان، فاعتكف عاماً، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين. وهي الليلة التي يخرج فيها من صبحها من اعتكافه؛ قال: " من اعتكف معي؛ فليعتكف العشر الأواخر، وقد رأيت هذه الليلة، ثم أنسيتها، وقد رأيتُني أسجد من صبحها في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر ". قال أبو سعيد: فأمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوَكَف المسجد. قال أبو سعيد: فابصرت عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف، وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين، من صبح ليلة إحدى وعشرين. أخرجه مالك (1/296 - 298) ، وعنه البخاري (4/219) ، وأبو داود (1/218 - 219) ، والبيهقي (2/103) عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 و " كان يصلي على الخُمْرة (1) " (2) أحياناً، ................................   وقد أخرجه مسلم (2/171 - 172) ، والنسائي (1/198) من طرق عن محمد بن إبراهيم به نحوه. ثم أخرجه البخاري (2/237 و 4/207 و 226 و 228) ، ومسلم أيضاً (172) ، وأبو داود (1/142 - 143) ، والطيالسي (291) ، وأحمد (3/7 و 24 و 60 و 74) من طرق عن أبي سلمة به أتم منه. وللحديث شاهد من حديث عبد الله بن أُنَيس - مختصراً - نحوه. أخرجه مسلم (3/173) ، وأحمد (3/495) . (1) بضم الخاء المعجمة، وسكون الميم. قال ابن الأثير في " النهاية ": " هي مقدارما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده؛ من حصير، أو نسيجة خوص، ونحوه من النبات، ولا تكون خُمرة إلا في هذا المقدار، وسميت خُمرة؛ لأن خيوطها مستورة بسعفها ". اهـ. وفي " الفتح " (1/342) : " وقال الخطابي: هي السجادة يسجد عليها المصلي. ثم ذكر حديث ابن عباس في الفأرة التي جرت الفتيلة حتى ألقتها على الخُمْرة التي كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعداً عليها. ففي هذا تصريح باطلاق الخمرة على ما زاد على قدر الوجه ". قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (ص 178) ، وأبو داود (2/349) من طريق عمرو بن طلحة قال: ثنا أسباط عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس به؛ وله تتمة: فاحترقت منها مثل موضع درهم؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا نمتم؛ فأطفئوا سُرُجَكم؛ فإن الشيطان يدل مثل هذه على مثل هذا، فتحرقكم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 ..............................................................................   وهذا سند جيد. ثم رأيت الحاكم قد أخرجه في " المستدرك " (4/284 - 285) من هذا الوجه، وقال: " صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي. (2) ثبت هذا عن جمع من الصحابة: 1- ميمونة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على الخمرة. أخرجه البخاري (1/341 و 390) ، ومسلم (2/128) ، وأبو داود (1/106) ، والنسائي (1/120) ، والدارمي (1/319) ، وابن ماجه (1/320) ، والطيالسي (226) ، وأحمد (6/330 و 331 و 335 و 336) من طريق سليمان الشيباني عن عبد الله بن شداد عنها. وكذا رواه البيهقي (2/421) . وله في " المسند " (6/331 و 334) طريق أخرى. ورواه النسائي (1/68) بنحوه. 2- عن ابن عباس. أخرجه الترمذي (2/151) ، والبيهقي، والطيالسي (348) ، وأحمد (1/269 و309 و 320 و 358) من طرق عن سِمَاك عن عكرمة عنه به. وقال الترمذي: " حسن صحيح ". وأخرجه الحاكم (1/259) ، وعنه البيهقي (2/437) ، وأحمد (1/273) من طريق زَمْعَةَ بن صالح عن سلمة بن وَهْرام عن عكرمة بلفظ: بساط. وقد رواه زمعة أيضاً عن عمرو بن دينار عن ابن عباس به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 ..............................................................................   أخرجه ابن ماجه (1/321) ، والبيهقي (2/437) ، وأحمد أيضاً (1/232) . وزمعة: ضعيف. وقول الحاكم: " احتج به مسلم "؛ وهم؛ وإنما روى له مقروناً - كما قال الذهبي، والحافظ -. 3- عائشة. أخرجه الطيالسي (217) ، وأحمد (6/149 و 179 و 209) من طريق حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن ذكوان عنها به. وهذا سند صحيح. رجاله رجال " الصحيح ". وله في " المسند " (6/248) طريق أخرى عن عروة عنها. وهو صحيح أيضاً على شرط الستة. 4- أنس بن مالك. أخرجه الطبراني في " الصغير " (121) من طريق قتادة عنه به. وأخرجه البيهقي من طريق أخرى عن أنس بن سيرين عنه. 5- عن أم سليم. أخرجه أحمد (6/376 - 377) ، والبيهقي عن عَفَّان قال: ثنا وهيب قال: ثنا أيوب عن أبي قِلابة عن أنس بن مالك عنها. وهذا سند صحيح على شرط الستة. 6- عن أم سلمة. عند أحمد (6/302) : ثنا عفان: ثنا وُهَيب قال: ثنا خالد عن أبي قِلابة عن بعض ولد أم سلمة عنها به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 و " على الحصير " (1) أحياناً.   وإسناده كالذي قبله؛ لولا هذا البعض الذي لم يسمَّ، لكن أورده الهيثمي في " المجمع " (2/57) ، فقال: " رواه أبو يعلى، والطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، ورجال الأول رجال " الصحيح " ". فلعله جاء مسمى عنده (*) . والله أعلم. 7- عن ابن عمر. أخرجه أحمد (2/92 و 98) عن شَرِيك عن أبي إسحاق عن البَهيّ عنه به. ثم أخرجه (6/111) من طريق أخرى عن شَرِيك به؛ إلا أنه قال: عن عائشة. أو: عن ابن عمر. شك شريك. اهـ. وشريك: سيئ الحفظ. 8- أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه الطبراني في " الكبير "، وأبو يعلى. ورجاله رجال " الصحيح ". 9- جابر بن عبد الله. رواه البزار. وفيه الحجاج بن أرطاة، وفيه اختلاف - كما في " المجمع " -. (1) صح فيه أحاديث: الأول: عن أنس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على حصير.   (*) نعم؛ وهو في " مسند أبي يعلى " (6884) ، و " المعجم الكبير " للطبراني (23/ رقم 821) عن خالد عن أبي قلابة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 ..............................................................................   أخرجه هكذا - مختصراً - الدارمي (1/319) ، وأحمد (3/179) من طريق إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة عنه. وهو في " الصحيحين "، وغيرهما - مطولاً. ويأتي فيما بعد. الثاني: عنه أيضاً. قال: قال رجل من الأنصار: إني لا أستطيع الصلاة معك - وكان رجلاً ضخماً -، فصنع للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاماً، فدعاه إلى منزله، فبسط له حصيراً، ونضح طرف الحصير، فصلى عليه ركعتين، فقال رجل من آل الجارود لأنس: أكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الضحى؟ قال: ما رأيته صلاها إلا يومئذٍ. أخرجه البخاري (2/125 - 126 و 3/44 - 45) ، وأبو داود (1/106) ، وأحمد (3/130 - 131 و 184 و 291) عن شعبة عن أنس بن سيرين قال: سمعت أنس بن مالك به. ومن هذا الوجه أخرجه الطيالسي (281) - مختصراً - بلفظ: صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين على حصير. وله طريق أخرى عند الطبراني في " الصغير " (ص 148) عن ثابت عنه. دون قوله: ركعتين. الثالث: عنه أيضاً، ويأتي بعده. الرابع: عن أبي سعيد الخدري: أنه دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوجده يصلي على حصير يسجد عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 ..............................................................................   أخرجه مسلم (2/62 و 128) ، {وأبو عوانة [2/72] } ، والترمذي (2/153) ، وابن ماجه (1/321) ، والبيهقي (2/421) ، وأحمد (3/52 و 59) من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عنه. وقوله: يسجد عليه. تفرد به مسلم، وأحمد في رواية له. الخامس: عن المغيرة بن شعبة بلفظ: " كان يصلي على الحصير ... " الحديث. - ويأتي قريباً -. وفي هذه الأحاديث دلالة على جواز الصلاة على الحصير، وعليه أكثر أهل العلم - كما قال الترمذي -. وأما ما رواه أبو يعلى عن شُريح: أنه سأل عائشة: أكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على الحصير؛ فإني سمعت في كتاب الله: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} ؟ قالت: لم يكن يصلي عليه. ففى ثبوته عندي نظر، وإن قال الهيثمي (2/57) : " رجاله موثقون ". ونحوه قول العراقي: " رجاله ثقات ". فإن هذا لا يفيد صحة الإسناد - كما لا يخفى على النقاد -. وقد قال الشوكاني (2/107) : " وكيفية الجمع بين حديثها هذا، وسائر الأحاديث؛ أنها إنما نفت عِلْمَها، ومن علم صلاته على الحصير مقدم على النافي. وأيضاً: فإن حديثها، وإن كان رجاله ثقاتٍ؛ فإن فيه شذوذاً - كما قال العراقي - ". ويؤكد شذوذه؛ بل ضعفه: أنه صح عن عائشة نفسها خلافه؛ فقد روى عروة عنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 و " صلى عليه - مرةً -، وقد اسود من طول ما لُبِس (1) " (2) .   أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي على خمرة، فقال: " يا عائشة! ارفعي عنا حصيرك هذا؛ فقد خشيت أن يكون يفتن الناس ". أخرجه أحمد. وسنده صحيح على شرط الستة - كما سبق قريباً -، وقد ذكر الحافظ في " الفتح " (1/390) أن البخاري روى من طريق أبي سلمة عن عائشة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان له حصير يبسطه، ويصلي عليه. قلت: وهو في " البخاري " (2/170) عن المقبري عن أبي سلمة به، لكن ليس فيه التصريح بأنه كان يصلي عليه، ولفظه: كان له حصير يبسطه بالنهار، ويحتجره بالليل، فثاب إليه ناس، فصلوا وراءه. (1) فيه أن الافتراش يسمى لبساً، وقد استدل به على منع افتراش الحرير؛ لعموم النهي عن لبس الحرير (1) . ولا يرد على ذلك أن من حلف لا يلبس حريراً؛ فإنه لا يحنث بالافتراش؛ لأن الأيمان مبناها على العرف. كذا في " الفتح ". (2) هو من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن جدته مُلَيكة دعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطعام، فأكل منه، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قوموا؛ فَلأُصلي لكم ". قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسْوَدَّ من طول ما لُبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول   (1) {بل ورد فيهما [أي: في " الصحيحين "] النهي الصريح عن الجلوس عليه؛ فلا تغتر بمن أباحه من الكبار!} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 ..............................................................................   الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين، ثم انصرف. أخرجه مالك (1/ 168 - 169) ، وعنه البخاري (1/389 و 2/275) ، ومسلم (2/127) ، وأحمد (3/149 و 164) - كلهم عن مالك - عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عنه. واللفظ من البخاري. ورواه النسائي (1/120) ، وأحمد أيضاً (3/145 و 226) من طرق أخرى عن إسحاق به نحوه. وفيه: فسجد عليه. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 الرَّفعُ مِنَ السُّجود ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع رأسه من السجود مكبراً " (1) . وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال: " لا يتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يسجد، حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: (الله أكبر) . ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً " (2) . و" كان يرفع يديه مع هذا التكبير " (3) أحياناً.   (1) فيه أحاديث كثيرة، وقد سبقت. (2) { [أخرجه] أبو داود، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي} (*) . (3) قد جاء في هذا الرفع عدة أحاديث صحيحة: منها: عن وائل بن حُجْر قال: صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان إذا كبّر؛ رفع يديه، ثم التحف، ثم أخذ شماله بيمينه، وأدخل يديه في ثوبه، فإذا أراد أن يركع؛ أخرج يديه، ثم رفعهما، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع؛ رفع يديه، ثم سجد، ووضع وجهه بين كفيه، وإذا رفع رأسه من السجود أيضاً؛ رفع يديه، حتى فرغ من صلاته. قال محمد - وهو: ابن جُحادة، كما يأتي -: فذكرت ذلك للحسن بن أبي الحسن، فقال: هي صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعله من فعله، وتركه من تركه. أخرجه أبو داود (1/115) ، وعنه ابن حزم (4/91) من طريق محمد بن جُحادة:   (*) وسبق تخريجه هنا (ص 189 - 190) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 ..............................................................................   ثني عبد الجبار بن وائل بن حُجْر قال: كنت غلاماً لا أعقل صلاة؛ قال: فحدثني علقمة بن وائل - كذا في رواية ابن حزم، وهو الصواب -. وفي " السنن ": وائل بن علقمة، وهو سهو من بعض الرواة - عن أبي وائل بن حجر. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وقد أخرجه أحمد من طريق أشعث بن سَوَّار عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه نحوه بلفظ: وكان يرفع يديه؛ كلما كبر، ورفع، ووضع بين السجدتين. وسنده حسن؛ لولا أنه منقطع - كما سبق في (التكبير عند الهوي إلى السجود) [ص 708]-. وقد ذكرت له هناك طريقاً آخر، مع بقية الأحاديث الواردة في هذا الباب. وفيه: عن ابن عباس. أخرجه أبو داود (1/118) ، والنسائي (1/172) والسياق له، وعنه الدولابي في " الكنى " (1/198) ، وابن حزم (4/94) من طريق النَّضْر بن كثير أبي سهل قال: صلى إِلى جنبي عبد الله بن طاوس بمنى في مسجد الخَيْف، فكان إذا سجد السجدة الأولى فرفع رأسه منها؛ رفع يديه تلقاء وجهه، فأنكرت أنا ذلك؛ فقلت لِوُهَيب بن خالد: إن هذا يصنع شيئاً لم أر أحداً يصنعه. فقال له وُهيب: تصنع شيئاً لم نر أحداً يصنعه؟ فقال عبد الله بن طاوس: رأيت أبي يصنعه، وقال: إني رأيت ابن عباس يصنعه، وقال عبد الله بن عباس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 ..............................................................................   رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنعه. ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ غير النضر هذا؛ فهو ضعيف - كما في " التقريب " -. وقد تابعه عمر بن رِيَاح: عند ابن ماجه (1/284) - مختصراً -. وهو أضعف منه. لكن له شواهد تقويه، وقد ذكرتها في " التعليقات الجياد " (*) .   (*) وقد سبق بتوسع بحثُ ما جاء في (رفع اليدين عند كل خفض ورفع) ، ومن قال به من السلف؛ فا نظره (ص 706 - 713) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 الافتراش أو الإقْعَاءُ بن السَّجْدتين ثم " يفرش رجله اليسرى، فيقعد عليها [مطمئناً (1) ] " (2) ، {وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له: " إذا سجدت؛ فمكِّن لسجودك، فإذا رفعت؛ فاقعد على فَخِذك اليسرى " (3) } ، و " كان ينصب رجله اليمنى " (4) ، و " يستقبل بأصابعها القبلة " (5) .   (1) هذه اللفظة جاءت في حديث ميمونة بنت الحارث: وإذا قعد؛ اطمأن على فخذه اليسرى. وقد مرَّ في (التجافي) [ص 748] . (2) هو من حديث أبي حُميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه البيهقي (2/118) وغيره. وقد مضى تخريجه في (الركوع) [ص 605] . وفي الباب عن عائشة بلفظ: وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى. وقد سبق بتمامه في (التكبير) [ص 176 - 177] ، {وهو مخرج في " الإرواء " (316) } . (3) { [رواه] أحمد، وأبو داود. بسندٍ جيد. [وسبق تخريجه (ص 56 - 57) ] } . (4 و 5) هو من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى. أخرجه النسائي (1/173) من طريق عمرو بن الحارث عن يحيى: أن القاسم حدثه عن عبد الله - وهو: عبد الله بن عبد الله بن عمر - عن أبيه به. وهذا سند صحيح. وقد رواه البخاري وغيره؛ دون ذكر الاستقبال - كما سيأتي في (التشهد الأخير) [ص 984 - 985]-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 و " كان أحياناً يُقعي؛ [ينتصب على عقبيه، وصدور قدميه] " (1) .   (1) هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه. رواه ابن جُريج: أخبرني أبو الزبير: أنه سمع طاوساً يقول: قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين؟ فقال: هي السنة. ففلنا: إنا لنراه جفاء بالرَّجُل. فقال ابن عباس: بل هي سنة نبيك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه مسلم (2/70) ، {وأبو عوانة [2/189] } ، وأبو داود (1/134) ، والترمذي (2/73) ، والحاكم (1/272) ، والبيهقي (2/119) من طرق عنه (*) . وصححه الترمذي، وكذا الحاكم على شرط مسلم. وقد وهم في استدراكه عليه، {وانظر " الصحيحة " (383) } . وقد جاء بيان صفة هذا الإقعاء في رواية للبيهقي من طريق ابن إسحاق قال: ثني - عن انتصاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عقبيه، وصدور قدميه بين السجدتين؛ إذا صلى - عبد الله بن أبي نجيح المكي عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج قال: سمعت عبد الله بن عباس: ... يذكره. قال: فقلت له: يا أبا العباس! والله! إن كنا لنعد هذا جفاء ممن صنعه. قال: فقال: إنها سنة. وهذا إسناد جيد.   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لأبي الشيخ في " ما رواه أبو الزبير عن غير جابر " (رقم 104 - 106) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 ..............................................................................   وله عنده شاهد من حديث ابن عمر. أخرجه من طريق محمد بن عجلان: أن أبا الزبير أخبره: أنه رأى عبد الله بن عمر إذا سجد حين يرفع رأسه من السجدة الأولى؛ يقعد على أطراف أصابعه، ويقول: إنه من السنة. وهذا سند حسن، وصححه الحافظ في " التلخيص " (3/482) . ثم أخرج البيهقي من طريق أبي زهير مُعاوية بن حُدَيج قال: رأيت طاوساً يُقعي؛ فقلت: رأيتك تقعي. فقال: ما رأيتني أقعي، ولكنها الصلاة، رأيت العبادلة الثلاثة يفعلون ذلك: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير. قال أبو زهير: وقد رأيته يقعي. وإسناده صحيح - كما قال الحافظ -. ثم روى من طريق خلاد بن يحيى بن صفوان الكوفي: ثنا إبراهيم بن طَهْمان عن الحسن بن مسلم عن طاوس قال: رأيت ابن عمر وابن عباس، وهما يُقعيان بين السجدتين على أطراف أصابعهما. قال إبراهيم: فسألت عطاء عن ذلك؟ فقال: أَنّى ذلك فعلت؛ أجزأك؛ إن شئت على أطراف أصابعك، وإن شئت على عَجُزك (1) .   (1) {وروى أبو إسحاق الحربي في " غريب الحديث " (ج 5/12/1) عن طاوس أنه رأى ابن عمر وابن عباس يقعيان. وسنده صحيح. [وهو من طريق أخرى عنه] } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 ..............................................................................   وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري. وقَدْ سَها ابنُ القيم رحمه الله تعالى في " الزاد " (1/85) ؛ فقد قال - بعد أن ذكر افتراشه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين السجدتين -: " لم يُحفظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الموضع جلسة غير هذه "! ولعله لم يستحضر حديث ابن عباس هذا حين كتابته ذلك، وإلا؛ فهو حديث صحيح حجة لا مطعن فيه، وقد عمل به غير ما واحد من السلف الصالح رضي الله عنهم، وقال الترمذي: " وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لا يرون بالإقعاء بأساً، وهو قول بعض أهل مكة من أهل الفقه والعلم ". قال: " وأكثر أهل العلم يكرهون الإقعاء بين السجدتين ". قلت: وحجة هؤلاء أحاديث وردت في النهي عن الإقعاء. أخرج أكثرها البيهقي (2/120) ، - وكلها ضعيفة؛ كما قال النووي في " شرح مسلم " -، وبين عللها الشوكاني في " نيل الأوطار " (2/232) ؛ حاشا حديثين منها؛ فإنه لم يتعرض لهما بقدح، بل ذكر عن: أحدهما: أنه حسن، وهو حديث أبي هريرة قال: نهاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب. والآخر: حديث سَمُرة بن جُنْدُب قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإقعاء في الصلاة. فوجب تحقيق القول فيهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 ..............................................................................   أما الأول: فقال في " المجمع " (2/79 - 80) : " رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني في " الأوسط " وإسناد أحمد حسن ". كذا قال! وهو في " المسند " (2/265) من طريق محمد بن فُضَيل: ثنا يزيد بن أبي زياد: ثني من سمع أبا هريرة يقول: ... به. ثم أخرجه (2/311) من طريق شَرِيك عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي هريرة. وهذا سند ضعيف، لا يحسُن تحسينه؛ فإن مداره على يزيد بن أبي زياد، وهو: مشهور بسوء الحفظ. وفي " التقريب ": " ضعيف. كبر؛ فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً ". وقد اختلف عليه محمد بن فُضَيل وشريك؛ فلم يسم الأول شيخه. وسماه الآخر: مجاهداً. وشريك: سيئ الحفظ أيضاً. وقد تابعه عن مجاهد ليث بن أبي سُلَيم. أخرجه البيهقي، وقال: " ليث: لا يحتج به ". وفي " التقريب ": " صدوق، اختلط أخيراً، ولم يتميز حديثه؛ فترك " (*) . وأما حديث سَمُرة: فأخرجه الحاكم (1/272) ، والبيهقي من طريق سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة عن الحسن عنه. وقال الحاكم: " صحيح على شرط البخاري ". ووافقه الذهبي. كذا قالا!   (*) ثم حسّنَ الشيخ رحمه الله الحديث - لغيره - انظر " صحيح الترغيب " (555) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 ..............................................................................   والحسن: هو البصري، وكان يدلس كثيراً - كما في " التقريب " -. وإنما روى له البخاري عن سمرة حديث العقيقة (9/487) ، وفيه التصريح بسماعه من سمرة. فما لم يصرح بالسماع؛ فليس بحجة كهذا الحديث. ولذلك ضعفه النووي - كما سبق -. والله أعلم. (تنبيه) : عزا النووي حديث سَمُرة هذا لـ " مسند أحمد "، ولم أجده فيه، وانقلب اسم صحابيه على الشوكاني (2/232) ، وتحرف عليه؛ فقال: جابر بن سمرة. فليعلم. ثم إن هذه الأحاديث لو صحت؛ لا تعارض حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنها تنهى عن إقعاء خاص، وهو إقعاء الكلب، وصورته: أن يلصق أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض. كذلك فسره علماء اللغة؛ ومنهم أبو عبيد فيما رواه البيهقي عنه. فهذا إقعاء غير الإقعاء الثابت في السنة، وبذلك يُجمع بين الأخبار - كما بينه البيهقي، وتبعه ابن الصلاح، والنووي، وغيرهم من المحققين -، وحينئذٍ فلا مبرر للقول بالنسخ - كما فعل الخطابي وغيره -. قال النووي في " المجموع " (3/439) : " والنسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، وعلمنا التاريخ. ولم يتعذر هنا الجمع، بل أمكن - كما ذكره البيهقي -، ولم يعلم أيضاً التاريخ ". قال: " فالصواب الذي لا يجوز غيره: أن الإقعاء نوعان: أحدهما: مكروه، والثاني: سنة. وأما الجمع بين حديثي ابن عباس وابن عمر، وأحاديث أبي حميد ووائل وغيرهما في صفة صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووصفهم الافتراش على قدمه اليسرى؛ فهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت له في الصلاة أحوال؛ حال يفعل فيها هذا، وحال يفعل فيها ذاك، كما كانت له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 ..............................................................................   أحوال في تطويل القراءة، وتخفيفها، وغير ذلك من أنواعها، وكما توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وكما طاف راكباً، وطاف ماشياً، وكما أوتر أول الليل وآخره وأوسطه وانتهى وتره إلى السَّحَر، وغير ذلك - كما هو معلوم من أحواله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يفعل العبادة على نوعين - أو أنواع -؛ ليبين الرخصة والجواز بمرة أو مرات قليلة، ويواظب على الأفضل منها على أنه المختار والأولى. فالحاصل: الإقعاء الذي رواه ابن عباس وابن عمر فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على التفسير المختار، وفعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما رواه أبو حميد وموافقوه من الافتراش، وكلاهما سنة؛ لكن إحدى السُّنّتين أكثر وأشهر. وهي رواية أبي حميد؛ لأنه رواها وصدقه عشرة من الصحابة - كما سبق -، ورواها وائل بن حُجر وغيره؛ وهذا يدل على مواظبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها، وشهرتها عندهم، فهي أفضل وأرجح؛ مع أن الإقعاء سنة أيضاً. فهذا ما يسر الله الكريم من تحقيق أمر الإقعاء، وهو من المهمات؛ لتكرار الحاجة إليه في كل يوم، مع تكرره في كتب الحديث، والفقه، واستشكال أكثر الناس له من كل الطوائف، وقد منَّ الله الكريم بإتقانه، ولله الحمد على جميع نعمه ". انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 ..............................................................................   وجوبُ الاطمئنان بين السجدتين {و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى موضعه " (1) } ، وأمر بذلك (المسيء صلاته) ، وقال له: " لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك " (2) . و" كان يطيلها حتى تكون قريباً من سجدته " (3) ، وأحياناً " يمكث حتى يقول القائل: قد نسي ".   (1) { [أخرجه] أبو داود، والبيهقي. بسندٍ صحيح} . (2) تقدم ذلك في حديثه المشهور به من رواية أبي هريرة، وحديث رفاعة بن رافع. وقوله: " لا تتم ... " إلى آخره. هو من حديثه، أخرجه أصحاب السنن، وغيرهم بإسناد صحيح - كما سبق في (الاستقبال) -. (3) هو من حديث البراء بن عازب. والذي بعده من حديث أنس بن مالك. وقد مضيا في (الاعتدال من الركوع) (698 و 699) . قال ابن القيم (1/85) : " وهذه السنة تركها أكثر الناس من بعد انقراض عصر الصحابة. ولهذا قال ثابت: وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه؛ يمكث بين السجدتين حتى نقول: قد نسي. وأما من حكَّم السنة، ولم يلتفت إلى ما خالفها؛ فإنه لا يعبأ بما خالف هذا الهدي ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 808 الأذكار بين السَّجدتين وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذه الجلسة: 1- " اللهم (وفي لفظ: رب!) اغفر لي، وارحمني، [واجبُرني] ، [وارفعني] ، واهدني، [وعافني] ، وارزقني ". وتارة يقول:   1- هو من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول بين السجدتين: ... فذكره. أخرجه أبو داود (1/135) ، والترمذي (2/76) ، وابن ماجه (1/290) ، والحاكم (1/262 و 271) ، والبيهقي (2/122) ، وأحمد (1/315 و 371) ، والضياء المقدسي في " المختارة "، والطبراني في " الكبير " من طريق كامل بن العلاء عن حَبِيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبيرعنه. واللفظ الآخر لابن ماجه، والبيهقي، وأحمد، والضياء، والطبراني. والزيادتان الأُوليان عند ابن ماجه، والحاكم، والبيهقي، وأحمد. والأولى عند الترمذي. والأخيرة عند أبي داود، والحاكم في رواية له، والضياء، والطبراني. قال النووي في " المجموع " (3/497) : " فالاحتياط والاختيار أن يجمع بين الروايات، ويأتي بجميع ألفاظها؛ وهي: سبعة " ثم ذكرها. وزاد ابن ماجه: في صلاة الليل. وهي عند البيهقي، وأحمد - مطولاً - بلفظ: قال: بِتُّ عند خالتي ميمونة - قال: -، فانتبه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الليل: ... فذكر الحديث. قال: ثم ركع. قال: فرأيته قال في ركوعه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 809 ..............................................................................   " سبحان ربي العظيم ". ثم رفع رأسه، فحمد الله ما شاء أن يحمده. قال: ثم سجد. قال: فكان يقول في سجوده: " سبحان ربي الأعلى ". قال: ثم رفع رأسه. قال: فكان يقول فيما بين السجدتين: ... فذكره. والسياق لأحمد. والحديث؛ قال الترمذي: " غريب. وهكذا رُويَ عن علي ". وقال الحاكم: " صحيح ". ووافقه الذهبي. وقواه الحافظ في " بلوغ المرام " (1/259 بشرح السبل) ، وأما في " التلخيص " (3/483) ؛ فقال: " وفيه كامل أبو العلاء، وهو: مختلف فيه ". وفي " التقريب ": " صدوق يخطئ ". اهـ. فالحق أن الحديث جيد - كما قال النووي في " المجموع " -. ويشهد له أثر علي الذي أشار إليه الترمذي. وقد أخرجه البيهقي بإسناده الصحيح عن سليمان التيمي قال: بلغني أن علياً كان يقول بين السجدتين: (رب! اغفر لي، وارحمني، وارفعني، واجبُرني) . ثم قال البيهقي: " ورواه الحارث الأعور عن علي؛ إلا أنه قال: (واهدني) .. بدل: (وارفعني) ". قلت: والحارث هذا - هو ابن عبد الله الهَمْداني، بسكون الميم -: في حديثه ضعف - كما في " التقريب " -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 810 2- " رب! اغفر لي، رب! اغفر لي ".   وقد رواه ابن نصر (76) من طريقه؛ لكن وقع اسمه مقلوباً - ولعله من بعض النساخ -: عبد الله بن الحارث الهمداني. ثم قال النووي: " واعلم أن هذا الدعاء مستحب باتفاق الأصحاب؛ قال الشيخ أبو حامد: لم يذكره الشافعي في هذا الموضع في شيء من كتبه، ولم ينفه. قال: وهو سنة؛ للحديث المذكور ". قلت: قد قال به الشافعي - كما ذكره الترمذي -، ومن علم حجة على من لم يعلم؛ قال - بعد أن ساق الحديث -: " وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ يرون هذا جائزاً في المكتوبة والتطوع ". 2- هو من حديث حذيفة رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول بين السجدتين: ... فذكره. أخرجه ابن ماجه (1/290) قال: ثنا علي بن محمد: ثنا حفص بن غياث: ثنا العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن طلحة بن يزيد عن حذيفة (ح) : وحدثنا علي ابن محمد: ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن سعد بن عُبيدة عن المستورد بن الأحنف عن صِلَةَ بن زُفَرعن حذيفة به. وهذا الإسناد الثاني صحيح، رجاله كلهم ثقات. والإسناد الأول: رجاله ثقات أيضاً؛ لكنه منقطع؛ إلا أن شعبة وصله؛ فرواه عن عمرو عن طلحة عن رجل من عبس - شعبةُ يرى أنه صِلَةُ بن زُفَر - عن حذيفة به أتم منه. وقد مضى بتمامه في (الاستفتاح) [ص 268] ، مع ذكر من خرجه سوى ابن ماجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 811 ..............................................................................   وقد روي ذلك عن علي رضي الله عنه، أنه كان يفعل ذلك. أخرجه الطحاوي في " المشكل " (1/308) من طريق عبد الرحمن بن زياد: ثنا زهير ابن معاوية عن أبي إسحاق عن علي بذلك. ثم قال الطحاوي: " ولا نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواه، ولا من تابعيهم ومن بعد تابعيهم إلى يومنا هذا ذهب إلى ذلك؛ غير بعض من ينتحل الحديث؛ فإنه ذهب إلى ذلك وقال به. وهذا عندنا من قوله حسن، واستعماله إحياءٌ لسنة من سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإليه نذهب، وإياه نستعمل، وقد وجدنا القياس يشده؛ وذلك أنا رأينا الصلاة مبنية على أقسام: منها القيام؛ وفيه ذكر - وهو الاستفتاح، وما يقرأ بعده من القرآن -، ثم الركوع؛ وفيه ذكر - وهو التسبيح -، ثم الرفع من الركوع؛ وفيه ذكر - وهو: سمع الله لمن حمده، وما سوى ذلك مما يقوله بعض الأئمة من: (ربنا! ولك الحمد) -، ثم السجود؛ وفيه ذكر - وهو التسبيح -، ثم قعدة بين السجدتين؛ وهي التي فيها الذي رويناه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سؤاله ربه عز وجل الغفران مرتين، ثم جلوس فيه ذكر؛ وهو التشهد وما بعده؛ من الصلاة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والدعاء. فكانت أقسام الصلاة كلها يستعمل فيها ذكر الله غير خالية من ذلك، غير القعدة بين السجدتين التي ذكرنا؛ فكان القياس على ما وصفنا: أن يكون حكم ذلك القسم أيضاً من الصلاة كحكم غيره من أقسامها، وأن يكون فيه ذكر لله عز وجل، كما كان من أقسامها. والله الموفق سبحانه ". اهـ. ببعض تلخيص. وقوله: " لا نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوى علي رضي الله عنه ذهب إلى ذلك ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 812 ..............................................................................   إن كان يعني خصوص هذا الدعاء؛ فلا كلام. وإن كان يعني مطلق الدعاء بين السجدتين - كما يشير إلى ذلك سياق كلامه -؛ فليس كما قال؛ فقد روى ابن نصر (76) عن أم سلمة رضي الله عنها: أنها كانت تقول بين الركعتين - يعني: السجدتين -: رب! اغفر وارحم، واهد السبيل الأقوم. ولكن مختصِره المقريزي اختصر إسناده؛ فلم يذكره ليُنظر فيه (*) . وهذا الدعاء ورد مرفوعاً إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن مطلقاً غير مقيد بموضع: أخرجه أحمد (6/303 و 315 - 316) من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن أم سلمة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: ... فذكره. وهذا إسناد ضعيف. وذكره في " المجمع " (10/174) وقال: " رواه أحمد، وأبو يعلى بإسنادين حسنين "! كذا قال، وهو غير سديد بالنسبة إلى سند أحمد؛ فإن فيه علي بن زيد - وهو ابن جُدعان -: فيه ضعف. والحسن - هو البصري، وهو -: مدلس، وقد عنعن. قال الذهبي: " كان الحسن كثير التدليس، فإذا قال في حديثه: عن فلان. ضعف الاحتجاج به، ولا سيما عمَّن قيل: إنه لم يسمع منهم - كأبي هريرة ونحوه -؛ فعدوا ما كان له عن أبي   (*) وفي " مصنف عبد الرزاق " (2892) أنها كانت تقوله في سجودها وفي صلاتها. وفي " مصنف ابن أبي شيبة " (2/534) ، ورجاله ثقات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 813 وكان يقولهما في صلاة الليل (1) .   هريرة في جملة المنقطع ". {وقد اختار الدعاء بهذا الإمام أحمد، وقال إسحاق بن راهويه: " إن شاء قال ذلك ثلاثاً، وإن شاء قال: اللهم! اغفر لي.. لأن كليهما يذكران عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين السجدتين ". كذا في " مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه " رواية إسحاق المروزي (ص 19) } . (1) كذلك جاء النص عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم أجد حديثاً في ذلك مطلقاً أو مقيداً بالفرائض، لكن النظر يقتضي استحباب ذلك فيها أيضاً؛ لعدم وجود الفارق بين النوافل والفرائض، ولما ذكرناه عن الطحاوي قريباً، وكذلك ذهب إلى ذلك من سبق ذكرهم من الأئمة - كما حكاه الترمذي -. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 814 [ السجدة الثانية، والرفع منها ] ثم " كان يكبر ويسجد السجدة الثانية " (1) ، {وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له بعد أن أمره بالاطمئنان بين السجدتين - كما سبق -: " ثم تقول: الله أكبر. ثم تسجد حتى تطمئن مفاصلك، [ثم افعل ذلك في صلاتك كلها] " (2) } . و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه مع هذا التكبير " أحياناً (3) . وكان يصنع في هذه السجدة مثل ما صنع في الأولى، ثم " يرفع رأسه مكبراً " (4) . {وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له بعد أن أمره بالسجدة الثانية - كما مر -: " ثم يرفع رأسه، فيكبر " (5) . وقال له: " [ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة؛] فإذا فعلت ذلك؛ فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً؛ انتقصت من صلاتك " (6) } . و" كان يرفع يديه " أحياناً (7) .   (1 و 3 و 4 و 7) فيه عدة أحاديث سبق ذكرها [ (وانظر ص 798 - 800) ] . (2) { [أخرجه] أبو داود، والحاكم وصححه - ووافقه الذهبي - والزيادة للبخاري ومسلم، [وانظر تخريجه فيما سبق (ص 55 - 57) ] } . (5) { [أخرجه] أبو داود، والحاكم وصححه - ووافقه الذهبي -} . (6) { [أخرجه] أحمد، والترمذي وصححه} . * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 815 جَلْسَةُ الاسْتِراحَةِ ثم " يستوي قاعداً " (1) " على رجله اليسرى معتدلاً؛ حتى يرجع كل   (1) هو من حديث مالك بن الحويرث؛ أنه كان يقول: ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فيصلي في غير وقت الصلاة، فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية في أول ركعة؛ استوى قاعداً، ثم قام، فاعتمد على الأرض. أخرجه الإمام الشافعي في " الأم " (1/101) ، والنسائي (1/173) ، والبيهقي (2/124 و 135) عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثَّقَفي عن خالد الحَذَّاء عن أبي قِلابة قال: كان مالك بن الحُويرث يأتينا فيقول: ... به. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وقد تابعه هُشيم عن خالد - مختصراً - بلفظ: أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته؛ لم ينهض حتى يستوي قاعداً. أخرجه البخاري (2/240) ، وأبو داود (1/134) ، والنسائي أيضاً، والترمذي (2/79) ، والدارقطني (132) ، وكذا الطحاوي، والبيهقي. وصححه الترمذي، والدارقطني. وقد أخرجه البخاري في " صحيحه " (2/241) ، وكذا البيهقي (2/123) من طريق وهُيب عن أيوب عن أبي قِلابة قال: جاءنا مالك بن الحويرث، فصلى بنا في مسجدنا هذا، فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة؛ ولكن أريد أن أريكم كيف رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي. قال أيوب: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 816 ..............................................................................   فقلت لأبي قلابة: وكيف كانت صلاته؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا - يعني: عمرو بن سلمة -. قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية؛ جلس، واعتمد على الأرض، ثم قام. وقد تابعه حماد بن زيد عن أيوب نحوه بلفظ: كان إذا رفع رأسه من السجدة الأولى والثالثة التي لا يقعد فيها؛ استوى قاعداً، ثم قام. أخرجه الطحاوي (2/405) ، وأحمد (5/53 - 54) . وهو صحيح أيضاً على شرطهما. وفي الباب عن عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيهم أبو حُمَيد الساعدي - وهو الآتي بعد هذا -. وقد قال الترمذي - بعد أن ساق الحديث -: " والعمل عليه عند بعض أهل العلم. وبه يقول إسحاق، وبعض أصحابنا ". قلت: {وهذا الجلوس يعرف عند الفقهاء بـ (جلسة الاستراحة) } ، وقد قال به الشافعي، وكذا داود، وعن أحمد نحوه؛ {كما في " التحقيق " (1/111) ، وهو الأحرى به؛ لما عرف عنه من الحرص على اتباع السنة التي لا معارض لها. وقد قال ابن هانئ في " مسائله عن الإمام أحمد " (1/57) : " رأيت أبا عبد الله (يعني: الإمام أحمد) ربما يتوكأ على يديه إذا قام في الركعة الأخيرة، وربما استوى جالساً، ثم ينهض ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 817 عظم الى موضعه " (1) .   وهو اختيار الإمام إسحاق بن راهويه؛ فقد قال في " مسائل المروزي " (1/147/2) : " مضت السنة من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعتمد على يديه ويقوم؛ شيخاً كان أو شاباً ". وانظر " الإرواء " (2/82 - 83) } . واستحبه الإمام ابن حزم في " المحلى " (4/124) ، وهو الصواب؛ لعدم ثبوت ما يعارض هذه السنة، وكل ما جاء مما يخالفها لا يثبت؛ كما سنبين ذلك بحوله تعالى وقوته. (1) هو قطعة من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه. أخرجه البيهقي (2/123) وغيره. وقد سبق ذكره بطوله في (الركوع) [ص 605] . ومنه تعلم أن إنكار الطحاوي (2/205) كون جلسة الاستراحة هذه واردة في حديث أبي حميد خطأٌ واضحٌ؛ فإنها فيه كما ترى، وقد نبه على ذلك الحافظ في " التلخيص " (3/488) ، واستغرب النووي (3/444) ذلك من الطحاوي؛ وإنما اعتمد في إنكاره على روايةٍ في حديث أبي حميد. أخرجها هو، وأبو داود (1/117) من طريق عيسى بن عبد الله بن مالك عن محمد ابن عمروبن عطاء عن عياش بن سهل: أنه كان في مجلس فيه أبوه - وكان من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي المجلس أبو هريرة وأبو أسيد وأبو حُميد الساعدي والأنصار رضي الله عنهم: أنهم تذاكروا الصلاة، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فذكر الحديث. وفيه: أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى؛ قام، ولم يتورك. قلت: والجواب: أن هذه الزيادة - وهي قوله: ولم يتورك - ضعيفة؛ لأنه تفرد بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 818 ..............................................................................   عيسى بن عبد الله بن مالك، وهو مجهول - كما سبق في (الركوع) -. على أنها لو ثبتت؛ لكان الأخذ بما يخالفها من إثبات هذه الجلسة - كما في الحديث الصحيح - أولى؛ لأنها مثبِتة، وهذه نافية، والمثبِت مقدم على النافي - كما تقرر في أصول الفقه -. على أنه من الممكن الجمع بين الروايتين - على فرض تعادلهما في الصحة - بأن يقال: هذه الرواية نفت التورك، ولم تنف الافتراش الثابت في الرواية الأولى؛ فلا تعارض، وإن كان هذا الاحتمال بعيداً. والله أعلم. هذا، وقد جاء ذكر هذه الجلسة في بعض طرق حديث (المسيء صلاته) : عند البخاري (11/31) . لكن قد أشار هو نفسه إلى أن ذكرها فيه وهم من بعض الرواة، وصرح به البيهقي؛ كما في " الفتح " للحافظ، وقال في " التلخيص " (3/488) : " وهو أشبه ". واعلم أنه روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يخالف هذه السنة الصحيحة، فوجب التنبيه عليها؛ لئلا يغتر بها مغتر، فيقع في مخالفة هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فمنها: حديث وائل بن حجر: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سجد؛ وقعت ركبتاه إلى الأرض قبل أن تقع كفاه، فلما سجد؛ وضع جبهته بين كفيه، وجافى عن إبطيه، وإذا نهض؛ نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذيه. أخرجه أبو داود وغيره، كما مضى في (السجود) [ص 716] ، وذكرنا هناك أنه منقطع؛ لأنه من رواية عبد الجبار بن وائل عن أبيه، وقال النووي (3/446) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 819 ..............................................................................   " حديث ضعيف؛ لأن عبد الجبار بن وائل اتفق الحفاظ على أنه لم يسمع من أبيه شيئاً، ولم يدركه ". ومنها: حديث أبي هريرة؛ قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض في الصلاة على صُدورقدميه. أخرجه الترمذي (2/80) من طريق خالد بن إلياس عن صالح مولى التوأمة عنه. وذكره البيهقي (2/124) وقال: " وخالد بن إِلياس - ويقال: إياس -: ضعيف ". وكذا قال الترمذي، وزاد: " عند أهل الحديث، وصالح مولى التوأمة: هو صالح بن أبي صالح، وأبو صالح: اسمه نبهان ". قلت: وهو ضعيف أيضاً؛ كان قد اختلط. ومنها: عن معاذ بن جبل؛ في حديث له: وكان يمكّن جبهته وأنفه من الأرض، ثم يقوم كأنه السهم لا يعتمد على يديه. قال الهيثمي (2/135) : " وفيه الخَصِيب بن جَحْدَر، وهو كذاب ". فقد ظهر لك من هذا البيان أنه لا تصح هذه الهيئة المعارضة للهيئة الثابتة. ومع ذلك؛ فقد اعتمد عليها ابن القيم في " الزاد " (1/85 - 86) وفي رسالة " الصلاة " (212) ، ونفى أنه عليه الصلاة والسلام كان يعتمد على يديه إذا نهض! وأجاب - تبعاً للطحاوي وغيره - عن حديث مالك وأبي حُميد في جلسة الاستراحة: أنه عليه الصلاة والسلام إِنما كان يفعل ذلك للحاجة حينما أسن وأخذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 820 ..............................................................................   اللحم، وأنه لم يفعلها تعبداً وتشريعاً! وهذا ظن خاطئ، لا يجوز بمثله رد السنة الصحيحة؛ لاسيما إذا كان قد رواها جمع من الصحابة بلغوا بضعة عشر شخصاً؛ فكيف يجوز أن يخفى على هؤلاء الأجلة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما فعل ذلك للحاجة لا للعبادة؛ لا سيما وفيهم مالك بن الحويرث رضي الله عنه - وهو الذي روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله له: " صلوا كما رأيتموني أصلي " -؛ مع العلم بأن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فكيف يخفى ذلك على هؤلاء، ثم يعلمه مَنْ جاء مِنْ بعدهم بعدة قرون - مثل الطحاوي، وابن القيم -، ولا دليل لهم على ذلك ولا برهان سوى الظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} ؟! وليس عجبي أن يسلك هذا السبيل مثلُ الطحاوي الذي نصب نفسه لتأييد مذهب أبي حنيفة - إلا نادراً -؛ ولكن عجبي الذي لا ينتهي سلوك ابن القيم هذا السبيل وهو ناصر السنة، وحامل لوائها، ورافع رايتها! ولكن لا بد لكل جواد من كبوة؛ بل كبوات! ورحم الله إلإمام مالكاً حيث قال: ما منا من أحد إلا رادّ ومردود عليه؛ إلا صاحب هذا القبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. نعم؛ لقد احتج ابن القيم رحمه الله على ترك الاعتماد على اليدين بحديث ذكره في رسالة " الصلاة " عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة. ولكن قوله في هذا الحديث: إذا نهض. زيادة غير صحيحة؛ تفرد بها محمد بن عبد الملك الغزال، وهو كثير الخطأ. فلا يجوزأن يعتمد عليها؛ لا سيما إذا خالفت ما ثبت من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما فعلنا ذلك في " التعليقات الجياد " -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 821 ..............................................................................   ولذلك ضعف هذه الزيادة النووي في " المجموع " (*) . وهناك حجة أخرى ذكرها في " الزاد " عن الخلال، وهي من كلام أحمد رحمه الله، رواه ابنه عبد الله في " مسائله " فقال: سمعت أبي يقول: " إن ذهب رجل إلى حديث مالك بن الحويرث؛ فأرجو أن لا يكون به بأس ". قلت: ثم ذكر جلسة الاستراحة، قال: " وكان حماد بن زيد يفعله ". قال: " وأذهب أنا إلى حديث رفاعة بن رافع من طريق ابن عجلان: " ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم قم " ". اهـ. ويعني الإمامُ رحمه الله أن جلسة الاستراحة لم تذكر في حديث (المسيء صلاته) . وهذه أيضاً حجة غريبة؛ فليس هذا الحديث جامعاً لجميع سنن الصلاة وهيئاتها باتفاق العلماء، فإذا جاءت سنةٌ في حديث غيره؛ وجب الأخذ بها، لا ردها بحديث (المسيء صلاته) ! وكم من سنن - بل وواجبات - أخذ بها أحمد وغيره لم يرد ذكرها فيه، أفيجوز ردُّها لذلك؟! وقد قال الإمام النووي رحمه الله (3/443) : " والجواب عن حديث (المسيء صلاته) : أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما علّمه الواجبات دون المسنونات. وهذا معلوم سبق ذكره مرات ". قلت: وكأنه لوضوح ضعف هذه الحجة رجع عنها أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة - كما قال الخلال، على ما في " الزاد " (1/85) -. وهذا   (*) انظر ما سيأتي (ص 836) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 822 ..............................................................................   من إنصاف الإمام أحمد رحمه الله ورجوعه إلى الحق والصواب. ثم قال الإمام النووي: " وأما حديث وائل؛ فلو صح؛ وجب حمله على موافقة غيره في إثبات جلسة الاستراحة؛ لأنه ليس فيه تصريح بتركها، ولو كان صريحاً؛ لكان حديث مالك بن الحويرث وأبي حميد وأصحابه مقدماً عليه؛ لوجهين: أحدهما: صحة أسانيدها. والثاني: كثرة رواتها. ويحتمل أن يكون وائل رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وقت أو أوقات؛ تبياناً للجواز، وواظب على ما رواه الأكثرون. ويؤيد هذا: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لمالك بن الحويرث - بعد أن قام يصلي معه، ويتحفظ العلم منه عشرين يوماً، وأراد الانصراف من عنده إلى أهله -: " اذهبوا إلى أهليكم، ومروهم، وعلِّموهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي ". وهذا كله ثابت في " صحيح البخاري " من طرق، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا وقد رآه يجلس للاستراحة، فلو لم يكن هذا هو المسنون لكل أحد؛ لما أطلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". وبهذا يحصل الجواب عن فرق أبي إسحاق المروزي بين القوي والضعيف، ويجاب به أيضاً عن قول من لا معرفة له: ليس تأويل حديث وائل وغيره بأولى من عكسه ". ثم قال النووي: " واعلم أنه ينبغي لكل أحد أن يواظب على هذه الجلسة؛ لصحة الأحاديث فيها، وعدم المعارض الصحيح لها. ولا تغتر بكثرة المتساهلين بتركها؛ فقد قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} . * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 823 [ القيام إلى الركعة الثانية ] الاعتماد على اليدين في النُّهوض إلى الركعة ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض - معتمداً على الأرض - إلى الركعة الثانية " (*) . {و " كان يعجن في الصلاة: يعتمد على يديه إذا قام " (1) } . و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نهض في الركعة الثانية؛ استفتح القراءة بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، ولم يسكت " (2) .   (*) سبق تخريجه من حديث مالك بن الحويرث (ص 816 - 817) . (1) { [رواه] أبو إسحاق الحربي بسندٍ صالح. ومعناه عند البيهقي بسند صحيح. وأما حديث: " كان يقوم كأنه السهم لا يعتمد على يديه ". فموضوع. وكل ما في معناه ضعيف لا يصح، وقد بينت ذلك في " الضعيفة " (562 و 929 و 968) . وقد أشكل على أحد الفضلاء تقويتي لإسناد الحربي؛ فأوضحت ذلك في كتابي " تمام المنة في التعليق على فقه السنة "؛ فراجعه؛ فإنّه مهم} . (2) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه مسلم (2/99) ، وأبو عوانة (2/99) ، والحاكم (1/215 - 216) ، والبيهقي (2/196) من طريق عبد الواحد بن زياد: ثنا عُمارة بن القعقاع: ثنا أبو زرعة بن عمرو ابن جرير: ثنا أبو هريرة به. واللفظ لمسلم وأبي عوانة. وقال الآخران: استفتح بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . وصححه الحاكم والذهبي، وكذا البيهقي وقال: " وفيه دلالة على أنه لا سكتة في الركعة الثانية قبل القراءة، وهو حديث صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 824 ..............................................................................   ويحتمل أنه أراد به أنه لا يسكت في الثانية، كسكوته في الأولى للاستفتاح ". قلت: وهذا الاحتمال هو الظاهر من الحديث عندنا إذا قابلناه بحديث أبي هريرة الآخر بلفظ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كبر في الصلاة؛ سكت هنية ... الحديث؛ وفيه: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في هذه السكتة: اللهم! باعد بيني وبين خطاياي ... الحديث. وقد مضى [ص 238] . فهذه السكتة - والله أعلم - هي المنفية في هذا الحديث. وقد أشار إلى هذا الإمام مسلم في " صحيحه "؛ حيث ساق أولاً الحديث المشار إليه، ثم ساق بعده هذا الحديث. وإسناد الحديثين واحد، فكأن أحدهما متمم للآخر؛ فالحديث نص في نفي مشروعية دعاء الاستفتاح، ولكنه لا ينفي مشروعية الاستعاذة. وقد اختلف الفقهاء: هل هذا موضع استعاذة أم لا - بعد اتفاقهم على أنه ليس موضع استفتاح -؟ وفي ذلك قولان، هما روايتان عن أحمد، وقد بناهما بعض أصحابه على أن قراءة الصلاة: هل هي قراءة واحدة؛ فيكفي فيها استعاذة واحدة، أو قراءة كل ركعة مستقلة برأسها؟ قال ابن القيم في " الزاد " (1/86) : " والاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر؛ للحديث الصحيح عن أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا نهض من الركعة الثانية؛ استفتح القراءة ولم يسكت. وإنما يكفي استفتاح واحد؛ لأنه لم يتخلل القراءتين سكوت، بل تخللهما ذكر، فهي كالقراءة الواحدة إذا تخللها حمدُ اللهِ، أو تسبيح، أو تهليل، أو صلاة على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 825 ..............................................................................   النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحو ذلك ". كذا قال! والظاهر خلاف ما استظهر، وأنه لا يكفي استعاذة واحدة؛ بل لابد من الاستعاذة في كل ركعة؛ قال الشيخ العلامة محمد حامد الفقي السلفي رئيس (جماعة أنصار السنة) في تعليقه على " المنتقى من أخبار المصطفى " (1/434) : " والظاهر أنهما قراءتان؛ لطول الفصل بالركوع والسجود، وهي حركات كثيرة؛ فلكل ركعة تعوذ. وحديث أبي هريرة لا ينفي هذا؛ لأنه إنما نفى السكتة المعهودة عنده، وهي التي فيها الاستفتاح. أما سكتة التعوذ والبسملة؛ فلطيفة جداً لا يحس بها المأموم؛ لاشتغاله بحركة النهوض للركعة. وأيضاً: فإن كل ركعة معتبرة صلاة؛ ولذلك أوجبوا قراءة {الفَاتِحَة} لكل ركعة، فأولى أن تعتبر كذلك للتعوذ، وهذا الذي رجحه ابن حزم في " المحلى "، وهو الصواب ". قلت: واحتج ابن حزم (3/247) بعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، وهو احتجاج صحيح لا شائبة فيه؛ قال الحافظ في " التلخيص " (3/306) : " وعموم هذه الآية يقتضي الاستعاذة في أول كل ركعة. وهو الذي استظهره الرافعي في " الشرح الكبير "؛ قال: وبه قال القاضي أبو الطيب الطبري، وإمام الحرمين، والرُّوياني وغيرهم ". قال النووي في " المجموع " (3/324) : " وهو المذهب ". وقال في موضع آخر (3/326) : " وهو الأصح في مذهبنا ". قلت: وهو قول في مذهب علمائنا الحنفية تخريجاً؛ فقد قال أبو الحسنات اللكنوي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 826 وكان يصنع في هذه الركعة مثل ما يصنع في الأولى (1) ؛ إلا أنه كان يجعلها أقصر من الأولى - كما سبق (*) -.   في حاشيته على " شرح الوقاية " (1/138) : " وفي " حَلْبة المجلّي " لابن أمير حاج: ينبغي على قول أبي يوسف ومحمد أن يتعوذ في الثانية أيضاً؛ فإنه إنما شرع للقراءة، والقراءة تتجدد في كل ركعة ". انتهى. (1) فيه حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومضى في (الركوع) [ص 605] . وحديث أبي هريرة. ومر في (الرفع من الركوع) [ص 674] . وحديث أبي مسعود البدري. وسبق في (الركوع) [ص 634] . (*) في (القراءة في صلاة الظهر) (ص 457) . * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 827 وجوبُ قراءة {الفَاتِحَة} في كُلِّ ركعةٍ (*) وقد أمر (المسيء صلاته) بقراءة {الفَاتِحَة} في كل ركعة؛ حيث قال له بعد أن أمره بقراءتها في الركعة الأولى (1) : " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " (2) (وفي رواية: " في كل ركعة ") (3) . وقال: " في كل ركعة قراءة " (4) .   (*) هذا المبحث - بحواشيه - أضفناه من " صفة الصلاة " المطبوع، وقد سبق تخريج الشيخ رحمه الله لأحاديثه - مفصلاً - (ص 56 - 57) . (1) [رواه] أبو داود، وأحمد بسندٍ قوي. (2) [رواه] البخاري، ومسلم. (3) [رواه] أحمد بسند جيد. (4) [رواه] ابن ماجه، وابن حبان في " صحيحه "، وأحمد في " مسائل ابن هانئ " (1/52) . وقال جابر: " من صلى ركعة لم يقرأ فيها بـ: {أم القرآن} ؛ فلم يُصَلِّ؛ إلا وراء إمام ". رواه مالك في " الموطأ ". * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 828 التشهد الأول جلسة التشهد ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس للتشهد بعد الفراغ من الركعة الثانية، فإذا كانت الصلاة ركعتين كالصبح؛ " جلس مفترشاً " (1) ، كما كان يجلس بين   (1) رواه وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأيته يرفع يديه إذا افتتح الصلاة حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع. وإذا جلس في الركعتين؛ أضجع اليسرى ونصب اليمنى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ونصب أصبعه للدعاء، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى. قال: ثم أتيتهم من قابل، فرأيتهم يرفعون أيديهم في البرانس. أخرجه النسائي (1/173) : أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري قال: ثنا سفيان قال: ثنا عاصم بن كُلَيب عن أبيه عنه. وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال مسلم، إلا محمد بن عبد الله هذا، وهو ثقة - كما في " التقريب " -. والحديث نصٌّ ظاهر في الافتراش في الصلاة الثنائية كصلاة الصبح، وأحظى الناس بهذا الحديث الإمام أحمد، ثم أبو حنيفة والثوري؛ خلافاً لمالك والشافعي؛ فإنهما يقولان بأن السنة التورك فيها - على تفصيل في ذلك يأتي ذكره في (التشهد الأخير) . والحديث يرد عليهما! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 829 السجدتين، وكذلك " يجلس في التشهد الأول " (1) من الثلاثية أو الرباعية. وأمر به (المسيء صلاته) ؛ فقال له:   (1) هو من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه. رواه عنه محمد بن عمرو ابن عطاء: أنه كان جالساً مع نفر من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكرنا صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله؛ رأيته إذا كبَّر؛ جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع؛ أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه؛ استوى حتى يعود كل فَقَارٍ مكانه، فإذا سجد؛ وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين؛ جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة؛ قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته. أخرجه البخاري (2/245 - 246) ، وأبو داود (1/117 و 152) ، والبيهقي (2/127 - 128) من طريق محمد بن عمرو بن حَلْحَلَة عنه. وقد تابعه عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء، لكن ليس في حديثه ذكر الجلوس في التشهد الأول. وقد مضى لفظه في (الركوع) [ص 605] . والحديث دليل على أن السنة في جلوس التشهد الأوسط إنما هو الافتراش، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ خلافاً لمالك؛ فإنه يقول بالتورك في كل جلوس - كما سيأتي -. وهذا الحديث يرد عليه، وكذا الذي بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 830 " فإذا جلست في وسَط (1) الصلاة؛ فاطمئن (2) ، وافترش (3) فخذك   (1) بفتح السين؛ قال في " النهاية ": " يقال فيما كان متفرق الأجزاء غير متصل - كالناس والدواب - بسكون السين، وما كان متصل الأجزاء - كالدار والرأس -؛ فهو بالفتح. والمراد هنا القعود للتشهد الأول في الرباعية، ويلحق به الأول في الثلاثية ". (2) يؤخذ منه أن المصلي لا يَشْرَعُ في التشهد حتى يطمئن. يعني: يستقر كل مَفصل في مكانه، ويسكن من الحركة. (3) أي: ألقها على الأرض، وابسطها كالفِرَاش؛ للجلوس عليها. قال الشوكاني (2/229) : " وفيه دليل لمن قال: إن السنة الافتراش في الجلوس للتشهد الأوسط. وهم الجمهور ". قال ابن القيم (1/86) : " ولم يُروَ عنه في هذه الجلسة غير هذه القصة (يعني: الفرش والنصب) . وقال مالك: يتورك فيه؛ لحديث ابن مسعود: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجلس في وسط الصلاة وفي آخرها متوركاً ". قال ابن القيم (1/87) : " لم يذكرعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التورك الا في التشهد الأخير ". اهـ. ملخصاً. وأقول: سكت الشوكاني على قول ابن القيم الأخير هذا؛ مع أنه ذكر قبله حديث ابن مسعود الذي ينفي قول ابن القيم! ثم سكت أيضاً على الحديث، ولم يبين حاله ولا من رواه؛ وهو من الأحاديث الغريبة التي تفرد بروايتها الإمام أحمد فيما علمت! فقد أخرجه في " مسنده " (1/459) قال: ثنا يعقوب: ثني أبي عن ابن إسحاق قال: ثني - عن تشهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وسط الصلاة وفي آخرها - عبد الرحمن بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 831 اليسرى، ثم تشهد " (1) .   الأسود بن يزيد النخعي عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها - فكنا نحفظ عن عبد الله حين أخبرنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمه إياه؛ قال -: فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى: التحيات لله ... إلخ. ثم قال: ثم إن كان في وسط الصلاة؛ نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها؛ دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو، ثم يسلم. لكن في ثبوت الحديث بهذه الألفاظ نظر؛ فإنه قد تفرد به ابن إسحاق مخالفاً لغيره ممن هو أوثق منه وأحفظ. وقد قال الذهبي - بعد أن ساق أقوال الأئمة فيه -: " فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوق. وما انفرد به؛ ففيه نكارة؛ فإن في حفظه شيئاً ". قلت: وذِكْرُ التورك والتشهد الأوسط منكرٌ في حديث ابن مسعود هذا؛ فقد أخرجه الشيخان والأربعة وغيرهم من طرق كثيرة، وليس فيه هذا الذي ذكره ابن إسحاق. والله أعلم. (1) هو من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه. رواه محمد بن إسحاق: ثني علي بن يحيى بن خلاد بن رافع عن أبيه عن عمه رفاعة. وزاد في آخره: " ثم تشهد، ثم إذا قمت؛ فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك ". أخرجه أبو داود وغيره - كما سبق في (الاستقبال) -. وسنده حسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 832 {وقال أبو هريرة رضي الله عنه: " ونهاني خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اقعاء كإقعاء الكلب " (1) ، وفي حديث آخر: " كان ينهى عن عُقْبَةِ الشيطان " (2) . و" كان إذا قعد في التشهد؛ وضع كفه اليمنى على فخذه (وفي رواية: ركبته) اليمنى، ووضع كفه اليسرى على فخذه (وفي رواية: ركبته) اليسرى؛ [باسطها عليها] " (3) } .   وقد تابعه في متنه محمد بن عمرو، لكن بلفظ: " إذا سجدت؛ فمكن لسجودك، فإذا رفعت؛ فاقعد على فخذك اليسرى ". أخرجه أبو داود أيضاً. إلا أن هذا يحتمل أن يكون أراد به القعود بين السجدتين، ويحتمل أنه القعود للتشهد. والله أعلم. (1) { [رواه] الطيالسي، وأحمد، وابن أبي شيبة. انظر التعليق (1) (ص 644) . و (الإقعاء) - قال أبو عبيد وغيره -: " هو أن يلزق الرجل أليتيه بالأرض وينصب ساقيه، ويضع يديه بالأرض، كما يقعي الكلب ". قلت: وهذا غير الإقعاء المشروع بين السجدتين - كما تقدم هناك -} . (2) {رواه مسلم، وأبو عوانة، وغيرهما. وهو مخرج في " إرواء الغليل " (316) ، [وسبق تخريجه (ص 177 -178) ] } . (3) { [رواه] مسلم، وأبو عوانة، [وسيأتي تخريجه مفصلاً من حديث ابن عمر (ص 838) } . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 833 و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع حَدَّ (1) مَرْفقِهِ الأيمن على فخذه اليمنى " (2) .   (1) في " النهاية ": " لكل حرف حدّ. أي: نهاية. ومنتهى كل شيء حدُّه ". قلت: وكأن المراد أنه كان لا يُجافي مَرْفِقَهَ عن جنبه في هذا الجلوس؛ لأنه لو جافى؛ لم يكن نهاية مَرْفِقِهِ على فخذه؛ بل يكون خارجاً عنه. ثم رأيت ابن القيم رحمه الله قد صرح بذلك في " الزاد " (1/92) ، ونص كلامه: " وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبسط ذراعه على فخذه، ولا يجافيها، فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه، وأما اليسرى؛ فممدودة الأصابع على الفخذ اليسرى ". (2) هو من حديث وائل بن حجر قال: قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يصلي. فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستقبل القبلة، فرفع يديه حتى حاذتا بأذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع؛ رفعهما مثل ذلك، ووضع يديه على ركبتيه، فلما رفع رأسه من الركوع؛ رفعهما مثل ذلك، فلما سجد؛ وضع رأسه بذلك المنزل من يديه، ثم جلس، فافترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، وحدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، وقبض ثنتين وحلق، ورأيته يقول هكذا - وأشار بشر بالسبابة من اليمنى، وحلق الإبهام والوسطى -. أخرجه أبو داود (1/115) ، والنسائي (1/186) من طريق بِشْر بن المُفَضَّل قال: ثنا عاصم بن كُلَيب عن أبيه عنه. وقد تابعه زهير بن معاوية، وعبد الواحد بن زياد - عند أحمد (2/316 و 318) -، وزائدة - عند النسائي -، وغيرهم -؛ ثلاثتهم عن عاصم به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 834 و " نهى رجلاً وهو جالس معتمد على يده اليسرى في الصلاة؛ فقال: " إنها صلاةُ اليهود " ". وفي لفظ: " لا تجلسْ هكذا؛ إنما هذه جِلْسَة الذين يعذَّبون " (1) ..........................   وإسناده صحيح. وقد تقدم من طريق زائدة في (وضع اليمنى على اليسرى) [ص 209] . ويأتي الإشارة إليه قريباً. (1) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنه. أخرجه الحاكم (1/272) ، ومن طريقه البيهقي (2/136) عن إبراهيم بن موسى: ثنا هشام بن يوسف عن مَعْمَر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عنه. وقال: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. {وهو مخرج مع ما بعده في " الإرواء " (380) } . وقد تابعه عبد الرزاق عن معمر: أخرجه أبو داود (1/157) ، والحاكم أيضاً (1/230) ، وعنه البيهقي (2/135) ، وأحمد (2/147) ، والطبراني، وعنه الضياء المقدسي في " المختارة "، وابن حزم في " المحلى " (4/19) ؛ كلهم عن عبد الرزاق به - مختصراً - بلفظ: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده - زاد الحاكم في رواية: - اليسرى. وقال: " صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا أيضاً. ولفظ أحمد والمقدسي: " يديه " بالتثنية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 835 ..............................................................................   ولعلها محرفة؛ فإن وصفها باليسرى عند الحاكم يدل على أنها واحدة. وقد رواه أبو داود بلفظ: نهى أن يعتمد الرجل على يده إذا نهض في الصلاة. فقوله: إذا نهض. زيادة ضعيفة؛ لأنها من طريق محمد بن عبد الملك الغزال، وهو - وإن كان ثقة؛ فإنه - كثير الخطأ - كما قال مسلمة -، وقد خالف الثقات في هذه الزيادة؛ فهي مردودة. وأما قول النووي في " المجموع " (3/445) : " مجهول ". فليس بصواب - كما بيناه في " التعليقات الجياد " -. هذا، وقد تابع معمراً عبدُ الوارث؛ لكنه أوقفه، وخالفه في متنه. فقال: عن إسماعيل بن أمية: سألت نافعاً عن الرجل يصلي وهو مشبك يديه؟ قال: قال ابن عمر: تلك صلاة المغضوب عليهم. رواه أبو داود. وعبد الوارث: هو ابن سعيد بن ذكوان، وهو ثقة ثبت - كما في " التقريب " -، فلعل ما رواه قضية أخرى. والله أعلم. وأما اللفظ الآخر؛ فأخرجه الإمام أحمد (2/116) من طريق آخر؛ فقال: ثنا محمد بن عبد الله بن الزبير: ثنا هشام - يعني: ابن سعد - عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلاً ساقطاً يده في الصلاة، فقال: ... فذكره. وهذا إسناد جيد. وهو على شرط مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 836 وفي حديث آخر: " هي قِعْدَة المغضوب عليهم " (1) .   وقد أخرجه أبو داود (1/157) ، والبيهقي (2/136) من طرق أخرى عن هشام به موقوفاً بنحوه. وله شاهد؛ وهو الآتي: (1) هو من حديث عَمْرو بن الشَّرِيد عن أبيه: فقال عبد الرزاق: عن ابن جريج قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة: أنه سمع عمرو ابن الشَّريد [عن أبيه] (*) عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يقول في وضع الرجل شماله إذا جلس في الصلاة: ... فذكره. ذكره عبد الحق في " أحكامه " (رقم 1284 - بتحقيقي) ، وسكت عليه مشيراً بذلك إلى صحته. وهو على شرط الشيخين. وقد أخرجه أبو داود (4848) ، وأحمد (4/388) من طريق عيسى بن يونس: أنا ابن جريج به؛ دون ذكر الصلاة.   (*) وفي " المصنف " بدونها؛ كما في نقل عبد الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 837 تحريكُ الإصْبَعِ في التشهد و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس [يتشهد] ؛ وضع كفَّه اليسرى على ركبته اليسرى [باسطَها عليها] ، ويقبضُ أصابعَ كفِّه اليمنى كلها، ويشير بإصبعه التي تلي الإبهام [في القبلة، ويرمي ببصره إليها - أو نحوها -] " (1) .   (1) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه مالك (1/111 - 112) عن مسلم بن أبي مريم عن علي بن عبد الرحمن المُعاوِي أنه قال: رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة، فلما انصرفت؛ نهاني، وقال: اصنع كما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع. فقلت: كيف كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع؟ قال: كان إذا جلس في الصلاة؛ وضع ... الحديث. وقد أخرجه مسلم (2/90 - 91) ، {وأبو عوانة [2/223] } ، وأبو داود (1/156) ، والنسائي (1/186) ، ومحمد في " الموطأ " (106) ، وأحمد (2/65) ؛ كلهم عن مالك به. وكذا البيهقي (2/130) (1) .   (1) {وزاد فيه الحميدي في " مسنده " (131/1) ، وكذا أبو يعلى (275/2) بسندٍ صحيح عن ابن عمر: " وهي مذبّة الشيطان، لا يسهو أحد وهو يقول هكذا - ونصب الحميدي إصبعه - ". قال الحميدي: قال مسلم بن أبي مريم: " وحدثني رجل أنه رأى الأنبياء ممثلين في كنيسة في الشام في صلاتهم قائلين هكذا - ونصب الحميدي إصبعه - ". قلت: وهذه فائدة نادرة غريبة، وسندها إلى الرجل صحيح} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 838 ..............................................................................   ثم أخرجه مسلم، والنسائي من طريق سفيان عن مسلم بن أبي مريم به نحوه. قال سفيان: فكان يحيى بن سعيد يحدثنا به عن مسلم، ثم حدثنيه مسلم. ورواه إسماعيل بن جعفر عن مسلم بن أبي مريم به. وفيه الزيادة الثالثة. أخرجه {أبو عوانة [2/226] } ، والنسائي (173) ، والبيهقي (2/132) . وهي صحيحة ثابتة. ولها طريق أخرى: أخرجها أحمد (2/119) قال: ثنا محمد بن عبد الله أبو أحمد الزبيري: ثنا كثير ابن زيد عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر إذا جلس في الصلاة؛ وضع يديه على ركبتيه، وأشار بأصبعه وأتبعها بصره، ثم قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لهي أشد على الشيطان من الحديد ". يعني: السبابة. وهذا سند حسن أو قريب من الحسن؛ فإن رجاله كلهم ثقات رجال الستة؛ غير كثير بن زيد، وهو صدوق يخطئ - كما في " التقريب " -. ومن طريقه أخرجه {الطبراني في " الدعاء " (ق 73/1) = [ص 205/642 و 643] } ، والبزار أيضاً؛ كما في " المجمع " (2/140) ، وقال عنه: " وثقه ابن حبان، وضعفه غيره " (*) . قلت: وأخرج المرفوعَ منه {الروياني في " مسنده " (249/2) = [290/1439] } ، والبيهقي   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لأبي جعفر البختري في " الأمالي " (60/1) ، وعبد الغني المقدسي في " السنن " (12/2) بسند حسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 839 ..............................................................................   (2/132) من طريق الواقدي: ثنا كثير بن زيد به بلفظ: " تحريك الإصبع في الصلاة مُذْعِرَةٌ للشيطان " (*) . وقال: " تفرد به الواقدي. وليس بالقوي ". كذا قال! ولم يتفرد به - كما رأيت -. ولهذه الزيادة شاهد من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس في التشهد؛ وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة، ولم يجاوز بصره إشارته. وسنده حسن. أخرجه أبو داود (1/156) ، والنسائي (1/187) ، {وابن خزيمة [1/355/718] } ، والبيهقي (1/132) ، وأحمد (4/3) من طريق ابن عجلان: ثني عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه. وعزاه الحافظ في " التلخيص " (3/500) لابن حبان أيضاً في " صحيحه ". وأصله في " صحيح مسلم " - كما سيأتي -. هذا، وأما الزيادة الأولى؛ فهي من طريق أخرى عن حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر بلفظ: كان إذا قعد في التشهد؛ وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسبابة. أخرجه مسلم أيضاً، و {أبو عوانة [2/225] } ، والبيهقي، وأحمد (2/131) وقالا:   (*) قال الشيخ رحمه الله في " ضعيف الجامع " (2401) : " ضعيفٌ جداً ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 840 ..............................................................................   ودعا.. بدل: وأشار بالسبابة. ورواه الدارمي (308) . وأما الزيادة الثانية؛ فهي من طريق عبيد الله عن نافع نحو حديث مالك. أخرجه مسلم أيضاً، و {أبو عوانة [2/225] } والنسائي (1/187) ، والترمذي (2/88) ، وابن ماجه (1/295) ؛ كلهم عن عبد الرزاق عن معمر عنه. واقتصر الترمذي على قوله: " حديث حسن ". وهو قصور! فالحديث صحيح لا شائبة فيه. ثم قال: " والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين؛ يختارون الإشارة في التشهد. وهو قول أصحابنا ". يعني: أهل الحديث. وهو قول أثمتنا الثلاثة؛ فقد قال الإمام محمد - بعد أن ساق الحديث -: " وبصنيع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نأخذ، وهو قول أبي حنيفة ". وقد ذكر أبو يوسف في " الأمالي " كما ذكر محمد - على ما في " فتح القدير " وغيره -. فالعجب من كثير من علمائنا الحنفية كيف أنهم اختاروا ترك الإشارة في التشهد مع ثبوت ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أئمتهم أيضاً! وقد ألف في ذلك الشيخ المحقق ملا علي القاري رسالة نفيسة أثبت فيها هذه السنة، ورد على من خالفها، وأسماها " تزيين العبارة لتحسين الإشارة ". ومن المهم بالنسبة للمقلدين أن نلخص أهم ما جاء فيها؛ فقد ساق الأحاديث الصريحة في الإشارة: منها: حديث ابن عمر وابن الزبير المتقدمين. ومنها: حديث وائل بن حُجر - الآتي قريباً [ص 850]-. ومنها: حديث أبي هريرة، وأبي حميد الساعدي، ونُمير الخُزاعي، وخُفَاف الغفاري، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك، وعقبة بن عامر، وعبد الرحمن بن أبزى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 841 ..............................................................................   وقد خرجها كلها وساق ألفاظها، وقد أضربنا صفحاً عن ذكر أكثرها؛ لأنها ليست على شرطنا. ثم قال الشيخ عليٌّ بعد ذلك (ص 10) : " فهذه أحاديث كثيرة بطرق متعددة شهيرة، ولا شك في صحة أصل الإشارة؛ لأن بعض أسانيدها موجود في " صحيح مسلم ". وبالجملة؛ فهو مذكور في " الصحاح الستّة " وغيرها؛ مما كاد أن يصير متواتراً؛ بل يصح أن يقال: إنه متواتر معنىً؛ فكيف يجوز لمؤمن بالله ورسوله أن يعدل عن العمل به، ويأتي بالتعليل في معرض النص الجليل؛ مع أن ذلك التعليل مدخول، صَدَرَ من العليل، وهو ما قيل - نقلاً عن بعض المانعين للإشارة - بأن فيها زيادة رفع لا يحتاج إليها، فيكون الترك أولى؛ لأن مبنى الصلاة على الوقار والسكينة! وهو مردود بأنه لو كان الترك أولى؛ لما فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو على صفة الوقار والسكينة في المقام الأعلى! ثم لا شك أن الإشارة الى التفريد مع العبادة بالتوحيد نور على نور، وزيادة سرور على سرور؛ فهو محتاج إليه؛ بل مدار الصلاة والعبادة والطاعة عليه. وعلل بعضهم بأن فيه موافقة فرقة الرافضة، فكان تركه أولى؛ تحقيقاً للمخالفة أيضاً! [وهذا] ظاهر البطلان من وجوه: اما أولاً: فلأن عامتهم - على ما نشاهدهم في زماننا - لا يشيرون أصلاً، وإنما يشيرون بأيديهم عند السلام، ويضربون على أفخاذهم؛ تأسفاً على فوت الإسلام. فينقلب التعليل عليهم حجة لنا. وأما ثانياً: فلأنه على تقدير صحة النسبة اليهم؛ فليس كل ما يفعلونه نحن مأمورون بمخالفتهم به حتى يشمل أفعالهم الموافقة للسنة - كالأكل باليمين ونحو ذلك -؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 842 ..............................................................................   بل يستحب ترك موافقتهم فيما ابتدعوه وصار شعاراً لهم - كما هو مقرر في المذهب -، كوضع الحجر فوق السجادة؛ فإنه وإن كانت السجدة على جنس الأرض أفضل باتفاق الأئمة مع جوازها على البساط والفَرْوِ ونحوهما عند أهل السنة؛ لكن وضع نحو الحجر والمدر فوق السجادة بدعة ابتدعوها، وصار علامة لمعشرهم، فينبغي الاجتناب عن فعلهم؛ لسببين: أحدهما: نفس موافقتهم في البدعة؛ كما ورد في الحديث: " خالفوا اليهود والنصارى ". وثانيهما: رفع التهمة. وقد ورد: " اتقوا مواضع التهم " (*) . ونظيره: الوقوف للدعاء في المستجار؛ فإنه صار من ذلك الشعار، وكذا: الخروج من مكة إلى يلملم للإحرام خارج الحرم مع الاتفاق على جواز ما ذكر عند أرباب العلم وأصحاب الحكم؛ بخلاف ما إذا شاركونا في سنة مستمرة؛ كالخروج لإحرام العمرة إلى التنعيم والجِعِرَّانة. فالحاصل: أن مخالفة المبتدعة في الأمر المباح يستحسن؛ زجراً لهم، ورجوعاً إلى الصلاح. وأما الإشارة المذكورة الثابتة على نهج الصواب؛ فليست من هذا الباب. ثم من أدلتها الإجماع؛ إذ لم يعلم من الصحابة ولا من علماء السلف خلاف في هذه المسألة، ولا في جواز هذه الإشارة، ولا في تصحيح هذه العبارة؛ بل قال به إمامنا الأعظم وصاحباه، وكذا الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وسائر علماء الأمصار والأعصار؛ على ما ورد به صحاح الأخبار والآثار، وقد نص عليها مشايخنا المتقدمون   (*) ولا أصل له مرفوعاً - كما في " الضعيفة " (113) -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 843 ..............................................................................   والمتأخرون، فلا اعتداد لما عليه المخالفون، ولا عبرة لما ترك هذه السنة الأكثرون من سكان ما وراء النهر وأهل خراسان، والعراق والروم وبلاد الهند؛ ممن غلب عليهم التقليد، وفاتهم التحقيق والتأييد من التعلق بالقول السديد ". ثم ساق أقوال المشايخ في إثبات الإشارة، وفي صفتها، ثم قال (18) : " وقد أغرب الكَيْداني حيث قال: والعاشر من المحرمات: الإشارة بالسبابة كأهل الحديث. أي: مثل إشارة جماعةٍ يجمعهم العلم بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام! وهذا منه خطأ عظيم، وجرم جسيم، منشؤه الجهل عن عقائد الأصول، ومراتب الفروع من النقول، ولولا حسن الظن به وتأويل كلامه بسببه؛ لكان كفراً صريحاً، وارتداداً صحيحاً! فهل يجهل المؤمن أن يُحَرِّمَ ما ثبت فِعله منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كاد نقله أن يكون متواتراً، ويمنعَ جواز ما عليه عامة العلماء كابراً عن كابر مكابراً؟! والحال: أن الإمام الأعظم، والهمام الأقدم قال: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف مأخذه من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، والقياس الجلي في المسألة. وقال الشافعي: إذا صح الحديث على خلاف فعلي؛ فاضربوا قولي على الحائط، واعملوا بالحديث الضابط. فإذا عرفت هذا؛ فاعلم أنه لو لم يكن نص الإمام على المرام؛ لكان على المقتفين من أتباعه من العلماء الكرام - فضلاً عن العوام - أن يعملوا بما صح عنه عليه الصلاة والسلام. وكذا لو صح عن الإمام - فرضاً - نفيُ الإشارة، وصح إثباتها عن صاحب البشارة؛ فلا شك في ترجيح المثبت المسند إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كيف وقد طابق نقله الصريح ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام بالإسناد الصحيح؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 844 ..............................................................................   فمن أنصف ولم يتعسف؛ عرف أن هذا سبيل أهل التَّدَيُّن من السلف والخلف، ومن عدل عن ذلك؛ فهو هالك بوصف الجاهل المعاند المكابر؛ ولو كان عند الناس من الأكابر. وغاية ما يعتذر به عن بعض المشايخ حيث منعوا الإشارة وذهبوا إلى الكراهة: عدم وصول الأحاديث إليهم، وقد ورد اختلاف فعلها وتركها عليهم، فظنوا أن تركها أولى ". قال: " فالجاهل بالأخبار النبوية والآثار المصطفوية لما رأى أن بعض الناس يشيرون عملاً بالسنة، وبعضهم يتركون الإشارة، إما للجهل، أو للكسل، أو للغفلة؛ فقال: تركها أولى؛ لأنها زيادة في المبنى على أصل المعنى. فجاء بعده غيره وقال: هي مكروهة. وأراد أنها كراهة تنزيه؛ لكن لم يجعل عليه من تنبيه! فتوهم مَنْ بعدهم أنه حرام، وحسب أنه في الدين لعظيم؛ بناءً على أن الكراهة إذا أطلقت؛ فهي كراهة تحريم! ثم قال مَنْ بعده: ما كره؛ فهو حرام عند محمد؛ لا سيما وهو متعلق بعبادة الأحد!! فانظر كيف تدرج الجهلُ، وتركب في نظر العقل العاري عن النقل إلى أن جعل السنة المشهورة من الأمور المنهية المحرمة المهجورة! فاعلم أن تعريف الحرام: ما ثبت نهيه بالدليل القطعي من الكتاب والحديث. ومن القواعد المقررة أن تحريمَ المباحِ حرامٌ؛ فكيف السنة الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام؟! مع أنه يكفي في موجب تكفير الكيداني إهانةُ المحدِّثين الذين هم عمدة أئمة الدين المفهوم من قوله: كأهل الحديث. المفضية إلى قلة الأدب المقتضي لسوء الخاتمة؛ إذ من المعلوم أن أهل القرآن أهل الله، وأهل الحديث أهل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وأُنشد في هذا المعنى: أهل الحديث هُمُ أهل النبي وإن لم ... يصحبوا نَفْسَهُ أنفاسَه صحبوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 845 ..............................................................................   أماتنا الله على محبة المحدثين وأتباعهم من الأئمة المجتهدين، وحشرنا مع العلماء العاملين تحت لواء سيد المرسلين. والحمد لله رب العالمين ". اهـ كلامه رحمه الله. هذا؛ وفي " التعليق الممجد على موطأ محمد " لعبد الحي اللكنوي (106) : " وقد ذكر ابن الهُمَام في " فتح القدير "، والشُّمُنِّي في " شرح النقاية " وغيرهما أنه ذكر أبو يوسف في " الأمالي " مثل ما ذكر محمد. فظهر أن أصحابنا الثلاثة اتفقوا على تجويز الإشارة؛ لثبوتها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بروايات متعددة وطرق متكثرة، لا سبيل إلى إنكارها، ولا إلى ردها. وقد قال به غير واحد من العلماء؛ حتى قال ابن عبد البر: " إنه لا خلاف في ذلك ". وإلى الله المشتكى من صنيع كثير من أصحابنا من أصحاب الفتاوى - كصاحب " الخلاصة "، و " البزّازية الكبرى "، و " العَتّابية "، و " الغِياثية "، و " الولوالجية "، و " عمدة المُفْتِي "، و " الظهيرية "، وغيرها -؛ حيث ذكروا أن المختار هو عدم الإشارة! بل ذكر بعضهم أنها مكروهة! والذي حملهم على ذلك سكوتُ أئمتنا عن هذه المسألة في ظاهر الرواية، ولم يعلموا أنه قد ثبت عنهم بروايات متعددة، ولا أنه ورد في أحاديث متكثرة. فالحذر الحذر من الاعتماد على قولهم في هذه المسألة مع كونه مخالفاً لما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه؛ بل وعن أئمتنا أيضاً! بل لو ثبت عن أئمتنا التصريح بالنفي، وثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الإثبات؛ لكان فِعل الرسول وأصحابه أحق وألزم بالقبول؛ فكيف وقد قال به أئمتنا أيضاً؟! ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 846 ..............................................................................   وقد ذكر نحو هذا في كتابه " عمدة الرعاية " (1/38) ، وتعجب كل العجب من المشايخ المذكورين الذين اختاروا ترك الإشارة وكراهتها، ثم قال: " وزاد عليهم الكَيْداني في "خُلاصته " نغمةً في الطنبور؛ فعدها من المحرمات "! وقال في حاشية " غيث الغمام على إمام الكلام " (ص 41) : " هذا القول من الأقوال الخبيثة المردودة؛ لمخالفته لما ثبت عن أئمتنا الثلاثة من سنية الإشارة - كما صرح به محمد في " موطئه "، وأبو يوسف في " الأمالي " -. والعجب مِنْ جَمْعٍ مِنَ الحنفية كيف أفتوا بكراهة الإشارة مع ثبوتها عن صاحب الشرع وإمام المذهب؟! ". قلت: وأعجب من ذلك أن هؤلاء المفتين يقولون بأن باب الاجتهاد مغلق من بعد القرون الأربعة، ثم هم يجتهدون في هذه المسألة، فيخالفون فيها نصوص أئمتهم المقلَّدين، والآثارَ المرويةَ عن الصحابة والتابعين، والأحاديثَ الصحيحةَ عن سيد المرسلين؛ مع أنه (لا اجتهاد في معرض النص) باتفاقهم، فليتهم لم يقولوا قولهم هذا! وليتهم وقفوا عنده! والله المستعان. وقد كان جرى بحث بيني وبين بعض مشايخي حول هذه المسألة؛ فإنه من القائلين بالمنع رغم كونه قد اطلع على الأحاديث المشار إليها، وعلى أقوال الأئمة الواردة في ذلك. فقلت له: لم لا ترفع أصبعك في الصلاة؟! فاحتج بحجتين: الأولى قديمة معروفة، وقد سبقت في كلام القاري - وهي كون الصلاة مبنية على السكون والهدوء، وأجاب عنها بما تقدم. أما أنا؛ فقلت له: (إذا جاء الأثر؛ بطل النظر، ولا رأي مع النص) ! وهل مثلك إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 847 ..............................................................................   مثل من يقول: أنا لا أركع في الصلاة، ولا أسجد؛ لأن في ذلك من الحركات والانتقالات ما لا يتفق مع الصلاة أو السكون فيها! وهل لك ما تجيبه على ذلك إلا أن تقول: إن الذي أمرنا بالسكون في الصلاة هو الذي أمرنا بهذه الحركات والانتقالات، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} ، فهذا الجواب هو جوابنا لك وكفى. فسكت! وأما حجته الأخرى؛ فهي قوله: لما كان العلماء قد اختلفوا في صفة الرفع؛ فبعضهم يقول: يرفع المسبحة مع قبض الأصابع الأخرى. وبعضهم يقول: يبسط هذه الأخرى ويرفع المسبحة. وبعضهم يقول: يرفعها عند النفي ويضعها عند الإثبات. وبعض يعكس ذلك. وبعضهم يقول: يقبض الأصابع عند وضع اليدين في أول التشهد. وبعضهم إنما يفعل ذلك عند التهليل. وبعضهم يحرك المسبِّحة. وبعضهم لا يحركها. فلما رأيناهم اختلفوا في ذلك؛ تركنا هذه السنة؛ لأننا لم نعرف صفتها! فقلت له: لا يلزم من الاختلاف في صفة شيء ما تركُهُ مطلقاً أو إنكاره! وإلا؛ لزمك أن تترك أشياء كثيرة اختلف فيها العلماء حتى علماء مذهبك! فخذ مثالاً على ذلك: سنية وضع اليمنى على اليسرى في القيام في الصلاة؛ فبعضهم يقول بأن السنة القبض. وبعضهم: الوضع. وبعضهم: الجمع بينهما. هذا في مذهبك. وأما في المذاهب الأخرى؛ فالخلاف أشد؛ فبعضها تقول بأن الوضع يكون تحت السرة. وبعضها: فوقها. وبعضها: على الصدر. بل إن الإمام مالكاً لا يرى مشروعية الوضع مطلقاً - في رواية عنه -؛ فهل تترك أنت هذه السنة لهذه الاختلافات في كيفيتها؛ بل وفي أصلها أيضاً؟! فبهت. ثم قلت: لا ينجيك من هذه الاختلافات إلا الرجوع إلى ما أمرنا الله تعالى به في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 848 ..............................................................................   ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . هذا ما قلته وقتئذٍ، والأمر يحتاج إلى شيء من التفصيل: أما وضع اليدين في القيام؛ فقد سبق بيان ما يثبت في السنة من ذلك في محله. وأما المسألة التي نحن فيها؛ فاعلم أن تلك الاختلافات لا أصل لها في السنة؛ بل بعضها مداره على روايات مجملة، وبعضها مجرد رأي واجتهاد! أما القبض والبسط؛ فالأول هو الثابت صراحة في حديث ابن عمر، وعبد الله ابن الزبير، ووائل بن حجر. وأما البسط؛ فلم يصرح به في حديث ما، وحجة من ذهب إليه: أنه لم يذكر القبض بعض الصحابة في أحاديثهم! وهذا ليس بشيء؛ فإن أحاديث هؤلاء في هذه المسألة مجملة، وأحاديث أولئك مفصلة، والمفصل يقضي على المجمل - كما في الأصول تقرر -. وأما وقت الرفع؛ فلم نجد في ذلك حديثاً يعينه ويحدده، فهو اجتهاد محض ليس عليه دليل. وهذا بناء على أن السنة أن لا تحرك المُسَبِّحة من أول التشهد إلى آخره إلا عند التهليل. وليس كذلك - كما سيأتي -. وأما وقت قبض الأصابع الأخرى؛ فالظاهر من الأحاديث المتقدمة أنه من أول التشهد؛ لأنها تقول: كان إذا جلس؛ وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها. وليس لهذا الظاهر معارض؛ فوجب الأخذ به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 849 و " كان إذا أشار بإصبعه؛ وضع إبهامه على إصبعه الوسطى " (1) . وتارة " كان يحلِّق بهما حلقة " (2) .   وأما اختلافهم في استمرار التحريك؛ فالصواب الذي لا شك فيه مع من أثبته؛ لأنه ثابت في حديث وائل بن حجر. لكنهم اختلفوا أيضاً في صفته - كما سيأتي بيانه قريباً -. (1) هو من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قعد يدعو؛ وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بأصبعه السبابة، ووضع إبهامه على أصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته. أخرجه مسلم (2/90) ، والبيهقي (2/131) ؛ كلاهما من طريق أبي بكر بن أبي شيبة: ثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه. وابن عجلان: إنما أخرج له مسلم مقروناً بغيره. لكن يشهد لموضع الشاهد من حديثه هذا حديثُ ابن عمر المتقدم [ص 840] : وعقد ثلاثة وخمسين. فقد فسروا هذا العقد بأن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى، ويرسل الإبهام إلى أصل المسبِّحة - كما في " التلخيص " (3/499) ، و " تزيين العبارة " (2) -. وقد اختار هذه الصفة الشافعية، مع تجويزهم الصفة الأخرى الآتية. (2) هو قطعة من حديث وائل بن حُجْر في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام بلفظ: ثم قبض اثنين من أصابعه، وحلق حلقة ... الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 850 ..............................................................................   وقد مضى في (قبض اليدين) في (القيام) [ص 209] . وقد رواه البيهقي (2/131) من طريق خالد بن عبد الله: ثنا عاصم بن كُلَيب عن أبيه عنه بلفظ: ثم عقد الخنصر والبنصر، ثم حلق الوسطى بالإبهام، وأشار بالسبابة. وفي لفظ: وعقد أصابعه، وجعل حلقة بالإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى. رواه سعيد بن منصور في " سننه "، وكذا أبو يعلى - كما في رسالة القاري (7 و 10) -. ورواه عبد الرزاق بلفظ: ووضع الإبهام على الوسطى، وحلق بها. وقد اختار هذه الصفة علماؤنا الحنفية، مع تجويزهم الصفة الأولى؛ عكس الشافعية - كما سبق -، وقد قال البيهقي - بعد أن ساق الحديث -: " ونحن نجيزه، ونختار ما رويناه في حديث ابن عمر، ثم ما روينا في حديث ابن الزبير؛ لثبوت خبرهما، وقوة إسناده، ومزية رجاله، ورجاحتهم في الفضل على عاصم ابن كُلَيب ". والحق: أنه لا تفضيل بين الصفتين؛ بل كل منهما سنة ينبغي العمل بكل منهما أحياناً. وقد أشار إلى ذلك شارح " منية المصلي "؛ حيث ذكر الصفتين بدون أن يرجح إحداهما على الأخرى؛ ولذلك قال الشيخ علي القاري (18) : " وهو يفيد التخيير بين نوعي الإشارة الثابتين عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قول حسن، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 851 و " كان إذا رفع أصبعه السبابة؛ يحركها يدعو بها " (1) ، ويقول: " لهي أشد على الشيطان من الحديد ". يعني: السبابة (*) .   وجمع مستحسن؛ فينبغي للسالك أن يأتي بأحدهما مرة وبالآخر أخرى؛ فإنه بالتحري أحرى ". وهذا هو الصواب إن شاء الله تعالى. وذهب ابن القيم في " زاد المعاد " (1/92) إلى أن حديث ابن عمر ووائل بن حُجْر مؤداهما إلى صفة واحدة، محاولاً في ذلك الجمع بين الروايات! وفيه بُعد؛ لتصريح وائل دون ابن عمر بالتحليق. والله أعلم. (1) هو قطعة من حديث وائل المشار إليه آنفاً. وهو حديث صحيح - كما تقدم، ويأتي قريباً (*) -. وقد عارضه حديث عبد الله بن الزبير: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشير بأصبعه إذا دعا، ولا يحركها. أخرجه أبو داود (1/156) ، والنسائي (1/187) ، والبيهقي (2/131) من طريق زياد بن سعد عن محمد بن عجلان عن عامر بن عبد الله عنه. وقال النووي (3/454) : " إسناده صحيح "! وليس بصحيح؛ فإن ابن عجلان متكلَّم فيه. وهو حسن الحديث، إذا سلم من = (*) سبق تخريجه والكلام عليه (ص 839 - 840) .   (*) وانظر تصحيح الشيخ رحمه الله له في " الإرواء " (2/68 - 69) ، و " صحيح أبي داود " (717) ، و " تمام المنة " (ص 218 - 222) ، و " السلسلة الصحيحة " (7/551 - 554) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 852 ..............................................................................   = علته. والواقع أنه معلول من وجوه: أولاً: أنه قد اختلف عليه في قوله: (ولا يحركها) : فرواه عنه زياد بن سعد هذا بهذه الزيادة. وخالفه الليث بن سعد وأبو خالد الأحمر- عند مسلم، والبيهقي -، وابن عيينة - عند الدارمي (1/308) ، وأحمد (4/3) -، ويحيى بن سعيد - عنده، وكذا أبي داود، والنسائي -؛ فرواه أربعتهم عن ابن عجلان بدون هذه الزيادة. ثانياً: أن عثمان بن حكيم رواه عن عامر كذلك بدونها. وتابعه مَخْرَمة بن بُكَير: عند النسائي (1/173) ، والبيهقي (2/132) . فقد اتفق كل من روى الحديث عن عامر على ترك هذه الزيادة؛ إلا رواية عن ابن عجلان، وهي شاذة؛ لما سبق. ولذلك قال ابن القيم (1/85) : " فهذه الزيادة في صحتها نظر، وقد ذكر مسلم الحديث بطوله في " صحيحه " عنه، ولم يذكر هذه الزيادة. وأيضاً: فليس فيه أن هذا كان في الصلاة. وأيضاً: لو كان في الصلاة؛ لكان نافياً، وحديث وائل مثبتاً - وهو مقدم -، وهو حديث صحيح، ذكره أبو حاتم في " صحيحه ". {ولحديث التحريك شاهد في " ابن عدي " (1/287) ، وقال في راويه عثمان بن مِقْسَم: " ضعيف، يُكتب حديثه "} . وقوله: " يدعو بها "؛ قال الإمام الطحاوي في " شرح المعاني " (1/153) : " فيه دليل على أنه كان في آخر الصلاة ". قلت: وذلك لأن الدعاء إنما يشرع عند الجمهور - خلافاً لابن حزم كما سيأتي - في التشهد الذي يليه السلام؛ كما هو ثابت في السنة، ففي ذلك دليل أيضاً على أن السنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 853 ..............................................................................   أن يستمر في الإشارة، وفي تحريكها إلى السلام؛ {لأن الدعاء قبله، وهو مذهب مالك وغيره، وسئل الإمام أحمد: هل يشير الرجل بإصبعه في الصلاة؟ قال: " نعم؛ شديداً ". ذكره ابن هاني في " مسائله عن الإمام أحمد " (ص 80) . قلت: ومنه يتبين أن تحريك الإصبع في التشهد سنة ثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عمل بها أحمد وغيره من أئمة السنة؛ فليتق الله رجال يزعمون أن ذلك عبث لا يليق بالصلاة؛ فهم من أجل ذلك لا يحركونها مع علمهم بثبوتها، ويتكلفون في تأويلها بما لا يدل عليه الأسلوب العربي، ويخالف فهم الأئمة له! ومن الغرائب: أن بعضهم يدافع عن الإمام في غير هذه المسألة - ولو كان رأيه فيها مخالفاً للسنة -؛ بحجة أن تخطئة الإمام يلزم منها الطعن فيه وعدم احترامه! ثم ينسى هذا؛ فيرد هذه السنة الثابتة، ويتهكم بالعاملين بها، وهو يدري - أو لا يدري - أن تهكمه يصيب أيضاً هؤلاء الأئمة الذين من عادته فيهم أن يدافع عنهم بالباطل، وهم هنا أصابوا السنة! بل إن تهكمه به يصيب ذات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه هو الذي جاءنا بها، فالتهكم بها تهكم به، {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا ... } ؟!} . وأمأ قول الشيخ علي القاري في " تزيين العبارة " (17) : " إن الصحيح المختار عند جمهور أصحابنا أنه يشير بالمسبّحة؛ رافعاً لها عند النفي واضعاً لها عند الإثبات، ثم يستمر على ذلك؛ لأنه ثبت العقد عند الإشارة بلا خلاف، ولم يوجد أمر يُغَيِّرُهُ؛ فالأصل إبقاء الشيء على ما هو عليه، واستصحابه إلى آخر أمره ومآله إليه ". فكلام غير صحيح من حيث الدليل؛ لأنه مبني على أن الوضع ثابت في السنة بعد الرفع، وليس كذلك - كما سبق -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 854 ..............................................................................   وعليه يعود الأصل الذي ذكره عليه؛ فإنا نقول: إذا كان قد ثبت في السنة الرفع، ثم لم يرد الوضع بعد ذلك؛ فالأصل إبقاء الشيء على ما هو عليه، واستصحابه إلى آخر أمره ومآله إليه. فهذا الأصل يقتضي إبقاء الأصبع مرفوعة إلى آخر التشهد كما لا يخفى. هذا يقال لو لم يأت الحديث مبيناً لذلك؛ فكيف وقد اتفق الأصل والفرع؟! وقد وجدت في ذلك حديثاً آخر - وإن كان في صحته نظر؛ فإنه في الشواهد معتبر -، وهو: ما أخرجه الترمذي (2/278 - طبع بولاق) من طريق عبد الله بن مَعْدَان: أخبرني عاصم بن كُليب الجَرْمي عن أبيه عن جده قال: دخلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي، وقد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه، وبسط السبابة؛ وهو يقول: " يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك ". وكذلك رواه أبو يعلى، والبغوي، ومُطَيِّن، والباوَرْدي، والطبري عن ابن معدان به - كما في " الإصابة " (2/159) -، وقال الترمذي، ثم البغوي: " غريب ". ثم قال الحافظ: " رجاله موثقون؛ إلا أن أبا داود قال: عاصم بن كُلَيب عن أبيه عن جده: ليس بشيء ". فهذا الحديث مثل حديث وائل في إثبات استمرار الرفع حتى الدعاء؛ لكنه أخص من حديث وائل؛ فإن هذا يفيد استمرار التحريك أيضاً - كما هو مذهب مالك وغيره -، وهو حجة على الشافعية. وقول البيهقي (2/132) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 855 ..............................................................................   " يحتمل أن يكون المراد بالتحريك الإشارة بها، لا تكرير تحريكها؛ فيكون موافقاً لرواية ابن الزبير. والله أعلم ". ليس بقوي؛ لأن هذا الاحتمال إنما يصح أن يقال لو كان حديث ابن الزبير النافي للتحريك صحيحاً ثابتاً، وقد بينا فيما سبق أنه ليس كذلك؛ بل هو معلول، فيبقى حديث وائل بدون معارض، وقد علم أن الفعل المضارع يفيد الاستمرار إلا لقرينة، وإذ ليس؛ فليس. على أنه لو ثبت حديث ابن الزبير؛ لكان الأولى أن يقال: السنة تحريكها أحياناً، وترك ذلك أحياناً؛ عملاً بالحديثين - كما قلنا ذلك في مواضع أخرى -. وهذا أولى من قول ابن القيم المتقدم: " إن حديث ابن الزبير نافٍ، وحديث وائل مثبت؛ وهو مقدم "! فإن هذا يلزم منه رد الحديث الآخر - لو صح -، وليس بجيد! ثم اعلم أنه لم يرد أي حديث - فيما علمنا - يبين كيفية التحريك، فالمصلي بالخيار أن يحرك كيف يشاء؛ لكننا نرى - والعلم عند الله تعالى - أن يكون تحريكه لأصبعه تحريكاً أقرب ما يكون إلى هيئة الصلاة والخشوع فيها. (فائدة) : روى البيهقي (2/133) بإسنادين عن ابن عباس في الرجل يشير بأصبعه؛ قال: هو الإخلاص. قال: " وعن أَبَان بن أبي عَيَّاش عن أنس بن مالك قال: ذلك التضرع. وعن عثمان عن مجاهد قال: مِقْمَعَةُ الشيطان ". وفي معنى قول مجاهد هذا حديث مرفوع سبق ذكره غيرَ بعيد [ص 839 - 840] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 856 {و " كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ بعضهم على بعض. يعني: الإشارة بالإصبع في الدعاء " (1) } . و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل ذلك في التشهدين جميعاً " (2) . و" رأى رجلاً يدعو بأصبعيه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحِّدْ (3) [أحِّدْ] "، [وأشار بالسبابة] " (4) .   (1) { [رواه] ابن أبي شيبة (2/123/1) = [2/231/8429] و [6/88/29679] بسندٍ حسن} . (2) هو من حديث عبد الله بن الزبير. قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس في الثنتين أو في الأربع؛ يضع يديه على ركبتيه، ثم أشار بأصبعه. أخرجه النسائي (1/173) ، والبيهقي (2/132) من طريق ابن المبارك قال: أنبأنا مَخْرَمة بن بُكَير قال: أنبأنا عامر بن عبد الله بن الزبير عنه. وهذا إسناد صحيح. (3) بكسر الحاء المشددة. وكرر للتأكيد بالوحدة، من التوحيد؛ أي: أَشِرْ بأصبع واحدة؛ لأن الذي يدعوه واحد. وأصله: وحد. قلبت الواو همزة. قلت: فما يفعله العامة عقب الوضوء من الإشارة بالسبابتين عند الشهادة؛ خلاف أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . نسأله تعالى أن يجعلنا من المقتدين بسنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمهتدين بهديه. (4) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً كان يدعو ... إلخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 857 ..............................................................................   أخرجه النسائي (1/187) ، والترمذي (2/373 - طبع بولاق) ، والحاكم (1/536) (*) من طريق محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عنه. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح غريب "! وكذا صححه الحاكم - كما يأتي -! وإنما هو حسن فقط؛ للخلاف في ابن عجلان. نعم لم يتفرد به: فقد أخرجه النسائي، والحاكم من طريق أبي معاوية، {وابن أبي شيبة (2/123/2) = [ (2/232/8440) من طريق وكيع؛ كلاهما] } عن الأعمش عن أبي صالح عن سعد قال: مر علي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أدعو بأصبعيّ، فقال: " أَحَّدْ أَحَّدْ ". وأشار بالسبابة. وقال الحاكم: " صحيح الإسنادين جميعاً؛ فأما حديث أبي معاوية؛ فهو صحيح على شرطهما؛ إن كان أبو صالح السمان سمع من سعد ". وقال الذهبي: " صحيح بالإسنادين جميعاً ". وهذا جزمٌ منه بصحة حديث أبي معاوية، وهو صواب؛ فقد ذكروا لأبي صالح رواية عن سعد. والحديث رواه أبو يعلى، {وابن أبي شيبة [ (2/231/8426) - وفيه التصريح بأن الرجل هو سعد -] ) عن أبي هريرة:   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لابن أبي شيبة (12/40/1) ، وهو فيه (6/88/29673) ؛ قال: " ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي صالح عنه؛ دون الزيادة الثانية، وفيه التصريح بأن الرجل هو سعد رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 858 ..............................................................................   أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبصر رجلاً يدعو بأصبعيه جميعاً، فنهاه، وقال: " بإحداهما: باليمين ". قال في " المجمع " (10/168) : " ورجاله رجال " الصحيح ". ورواه الطبراني في " الأوسط "؛ ولفظه: نظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجل يشير بأصبعيه، فقال: " أَوْحِدْ أوحد ". ورجاله ثقات ". وله شاهد من حديث أنس قال: مر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسعد يدعو بأصبعين، فقال: " أَحَّدْ يا سعد! ". أخرجه أحمد. ولم يسم تابعيّه، وبقية رجاله رجال " الصحيح ". وعن ابن عمر: انه رأى رجلاً يشير بأصبعيه، فقبض إحدى إصبعيه، وقال: إنما الله إله واحد. رواه الطبراني موقوفاً. ورجاله رجال " الصحيح " ". {وله شاهد عند ابن أبي شيبة} (*) .   (*) انظر " المصنف " (2/231/8435 و 6/89/29684 و 29685) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 859 وجوبُ التشهد الأول، ومشروعيةُ الدعاءِ فيه ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في كل ركعتين (التحية) " (1) . {و " كان أول ما يتكلم به عند القعدة: (التحيات لله) " (2) } . و" كان إذا نسيها في الركعتين الأوليين؛ يسجد للسهو (3) " (4) . وكان يأمر بها فيقول:   (1) هوقطعة من حديث عائشة بلفظ: وكان يقول في كل ركعتين التحية. وقد مضى [ص 177] . وهو وإن كان معلولاً - كما سبق بيانه -؛ فالمعنى صحيح؛ يشهد له ما بعده. (2) {رواه البيهقي من رواية عائشة بإسناد جيد - كما قال ابن الملقن (28/2) -} . (3) فيه إشارة إلى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يواظب على التشهد دائماً، ولعل هذا هو مستند قول ابن القيم في " الهدي النبوي " (1/87) : " ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتشهد دائماً ". وإلا؛ فإني لم أقف على نص صريح في ذلك. والله أعلم. وقد استدل بعض العلماء بالأحاديث المتقدمة - في عدم رجوعه إلى التشهد حينما ذُكِّر - على أن التشهد الأول غير واجب. قال الحافظ (2/247) : " ووجهه؛ أنه لو كان واجباً؛ لرجع إليه لمَّا سبحوا به بعد أن قام. وممن قال بوجوبه الليث وإسحاق وأحمد في المشهور، وهو قول للشافعي، وفي رواية للحنفية ". قلت: وفي هذا التوجيه نظر؛ فإن لقائل أن يقول: عدم رجوعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو لوجود مانع شرعي؛ وهو الاستتمام قائماً - كما سبق في حديث المغيرة -، ولو أنه لم يستتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 860 ..............................................................................   قائماً؛ لرجع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولذلك أمر بالرجوع في هذه الحالة، فهو وحده دليل مستقل على وجوب التشهد هذا. وهو الحق. وقد ثبت الأمر به في غير ما حديث - كما يأتي -. وقال الشوكاني (2/228) : " وتجبيره بالسجود دائماً يكون دليلاً على عدم الوجوب؛ إذا سلمنا أن سجود السهو إنما يُجبر به المسنون دون الواجب؛ وهو غير مسلّم ". (4) فيه أحاديث: الأول: عن عبد الله ابن بُحَيْنَة أنه قال: صلى لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه؛ كبر، ثم سجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، ثم سلم. أخرجه مالك (1/118) ، وعنه الإمام محمد (104) ، والبخاري (3/171) ، ومسلم (2/83) ، وأبو داود (1/162) ، والنسائي (1/181) ، والطحاوي (1/254) ، والبيهقي (2/333 و 343 و 352) ، وأحمد (5/345) - كلهم عن مالك - عن ابن شهاب عن الأعرج عنه. وأخرجه الترمذي (2/235) ، وابن ماجه (1/364) ، وكذا البخاري (2/246) ، ومسلم، والنسائي (1/186) ، والطحاوي، والبيهقي (2/134 و 352) ، وأحمد (5/346) ؛ كلهم من طرق أخرى عن ابن شهاب به. وصححه الترمذي. ثم أخرجه مالك، وعنه البخاري (3/72) ، ومسلم، والنسائي (1/175 و 276) ، والدارمي (1/353) ، والدارقطني (144) ، والبيهقي (340 و 344) ، وأحمد (5/345) ؛ كلهم عن يحيى بن سعيد عن الأعرج به. ثم أخرجه البخاري (2/247) عن جعفر بن ربيعة، والطحاوي عن يحيى بن أبي كثير؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 861 ..............................................................................   كلاهما عن الأعرج به. {وهو مخرج في " إرواء الغليل " (338) } . الحديث الثاني: عن المغيرة بن شعبة. وقد روي عنه من طرق: 1- عن زياد بن عِلاقة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين؛ قام ولم يجلس، فسبح به مَنْ خلفه، فأشار إليهم: أن قوموا. فلما فرغ من صلاته؛ سلم، وسجد سجدتي السهو، وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه أبو داود (1/163) ، والدارمي (1/353) ، وعنه الترمذي (2/201) ، والطحاوي (1/255) ، والبيهقي (2/338) ، وأحمد (4/247) ؛ كلهم عن يزيد بن هارون عن المسعودي عن زياد به. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وهو كما قال، لكن من غير هذا الوجه؛ فإن المسعودي كان قد اختلط، ويزيد بن هارون سمع منه في الاختلاط - كما قال ابن نمير -. لكن تابعه عنه أبو داود الطيالسي؛ فأخرجه في " المسند " (95) : ثنا المسعودي به. وقد قال الإمام أحمد: " وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومَنْ سمع منه بالكوفة والبصرة؛ فسماعه جيد ". قلت: والطيالسي بصري؛ فلعله سمعه منه فيها. 2- عن عامر الشعبي قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فنهض في الركعتين؛ فسبح به القوم وسبح بهم، فلما صلى بقية صلاته؛ سلم، ثم سجد سجدتي السهو وهو جالس، ثم حدثهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 862 ..............................................................................   فعل بهم مثل الذي فعل. أخرجه الترمذي (2/198 - 199) ، والبيهقي (2/344) ، وأحمد (4/248) من طريق ابن أبي ليلى عنه. قال الترمذي: " وقد تكلم بعض أهل العلم في ابن أبي ليلى من قبل حفظه ". قلت: لكنه لم ينفرد بهذا الطريق؛ بل توبع عليه: فأخرجه الطحاوي (1/255) عن بكر بن بكار قال: ثنا علي بن مالك الرُّوَّاسي - من أنفسهم - قال: سمعت عامراً يحدث به. وعلي بن مالك هذا لم أعرفه، إلا أن يكون هو البصري، وهو ضعيف. 3- عن قيس بن أبي حازم عن المغيرة مثله. أخرجه الطحاوي من طريق جابر عنه. وجابر - هو الجعفي -: ضعيف، لكن توبع عليه: فقد ساقه بعده من طريق قيس بن الربيع وإبراهيم بن طَهْمان؛ كلاهما عن المغيرة ابن شُبَيْل عن قيس بن أبي حازم به. وزاد: ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا صلى أحدكم، فقام من الجلوس؛ فإن لم يستتم قائماً؛ فليجلس، وليس عليه سجدتان، فإن استوى قائماً؛ فَلْيَمْضِ في صلاته، ولْيَسجد سجدتين وهو جالس ". وهذا إسناد صحيح. وقد روى المرفوعَ منه - من قوله عليه الصلاة والسلام - أبو داود (1/163) ، وابن ماجه (1/365) ، والبيهقي (2/343) ، وأحمد (4/253) من طريق جابر الجُعْفي عن المغيرة بن شبيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 863 ..............................................................................   ولذلك ضعفه النووي في " المجموع " (4/122) ، والحافظ في " التلخيص " (4/156) ، وذهلا عن رواية الطحاوي هذه الصحيحة المروية من طريق إبراهيم بن طهمان - وهو ثقة من رجال " الصحيحين " -، مع متابعة قيس بن الربيع له - وهو صدوق حسن الحديث -. وهذه فائدة قلما تجدها في كتاب (*) . والله الموفق. الحديث الثالث: عن سعد بن أبي وقاص: أنه نهض في الركعتين، فسبحوا به؛ فاستتم، ثم سجد سجدتي السهو حين انصرف، وقال: أكنتم تروني كنت أجلس؟! إنما صنعت كما رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع. أخرجه الحاكم (1/322 - 323) ، والبيهقي (2/344) ، وابن حزم (4/174) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عنه. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. ورواه الطحاوي (1/256) من طريق بيانٍ أبي بِشْر الأحْمَسي قال: سمعت قيس ابن أبي حازم به. دون قوله: إنما صنعت ... إلخ. الحديث الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بهم صلاة العصر أو الظهر فقام في ركعتين؛ فسبحوا له، فمضى في صلاته، فلما قضى الصلاة؛ سجد سجدتين، ثم سلم. قال الهيثمي (2/151) : " رواه البزار، ورجاله ثقات ".   (*) انظر الكلام على فقه الحديث - بتوسّع - في " الصحيحة " (1/638 - 639) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 864 " إذا قعدتم في كل ركعتين؛ فقولوا: (التحيات ... إلخ) ، وليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فَلْيَدْعُ الله عز وجل [به] " (1) .   (1) هو من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين غير أن نسبح، ونكبر، ونحمد ربنا، وإن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُلّمَ فواتحَ الخيرِ وخواتمَه؛ فقال: " إذا قعدتم ... " الحديث. أخرجه النسائي (1/174) ، والطحاوي (1/155) ، والبيهقي (2/148) ، والطيالسي (39) ، وأحمد (1/437) ، والطبراني في " الكبير " { (3/251/1) } وفي " الصغير " أيضاً (ص 146) من طرق عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عنه. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. ثم أخرجه أحمد (1/423) من طريق سفيان عن الأعمش ومنصوروحُصَين بن عبد الرحمن بن أبي هاشم وحماد عن أبي وائل، وعن أبي إسحاق عن أبي الأحوص والأسود عن عبد الله به. وحديث الأعمش عن أبي وائل شَقِيق بن سلمة؛ أخرجه الشيخان، وأصحاب " السنن "، وغيرهم بلفظ: " فإذا جلس أحدكم في الصلاة؛ فليقل: التحيات ... " إلخ. وسيأتي لفظه بتمامه إن شاء الله تعالى [893] . وهو بإطلاقه يؤيده رواية أبي إسحاق المفصلة؛ كما هو ظاهر. {قلت: وظاهر الحديث يدل على مشروعية الدعاء في كل تشهد، ولو كان لا يليه السلام. وهو قول ابن حزم رحمه الله تعالى} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 865 وفي لفظ: " قولوا في كل جلسة: التحيات ... " (1) . وأمر به (المسيء صلاته) أيضاً - كما تقدم آنفاً -.   (1) أخرجه النسائي (1/174) من طريق زيد ابن أبي أُنيسة الجَزَري: أن أبا إسحاق حدثه عن الأسود وعلقمة عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نعلم شيئاً، فقال لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... فذكره. وسنده صحيح أيضاً على شرط مسلم. وقد استدل بالحديث من ذهب إلى وجوب التشهد الأول - وقد سبق ذكرهم قريباً -. وممن ذهب إلى ذلك ابن حزم في " المحلى " (3/270) . ورواه النووي في " شرح مسلم " عن فقهاء أصحاب الحديث؛ وذلك لأن الأصل في الأمر الوجوب، ولم يأتِ ما يصلح أن يكون صارفاً له عن الوجوب. وقول النووي: " إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلِّمه الأعرابيَّ حين علمه فروض الصلاة ". ذهول منه؛ فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّمه ذلك - كما في بعض الروايات في " سنن أبي داود " -. وقد سبق بلفظ: " فإذا جلست في وسط الصلاة؛ فاطمئن، وافترش فخذك اليسرى، ثم تشهد ". والعجب من النووي كيف يجعل عدم ذكر هذا التشهد في حديث (المسيء) - بزعمه - صارفاً للأمر به عن الوجوب، ثم لا يجعل عدم ذكر التشهد الأخير فيه صارفاً عن الوجوب! بل يصرح في " المجموع " (3/462) بأن هذا فرض لا تصح الصلاة إلا به، ويجيب عن حديث (المسيء) بقوله: " قال أصحابنا: إنما لم يذكره له؛ لأنه كان معلوماً عنده ". وهذه الحجة يستطيع كل أحد أن يقولها في كل ما هو واجب لم يأت ذكره في حديث (المسيء) . قال الشوكاني (2/228) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 866 و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن " (1) .   " والحاصل أن حكمه حكم التشهد الأخير - وسيأتي -، والتفرقة بينهما ليس عليها دليل يرتفع به النزاع، على أنه يدل على مزيد خصوصية للتشهد الأوسط ذكره في حديث (المسيء) - كما تقدم - ". (1) هو من حديث جمع من الصحابة رضي الله عنهم: منهم: عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن. أخرجه أحمد (1/394) من طريق شَرِيك عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عنه. وهذا سند حسن. وذكره في " المجمع " (2/140) بزيادة: ويقول: " تعلموا؛ فإنه لا صلاة إلا بتشهد ". وقال: " رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه سعد بن سِنَان: ضعفه ابن معين. ورواه البزار برجال موثقين، وفي بعضهم خلاف لا يضر إن شاء الله ". وهو في " الصحيحين " من طريق أخرى بنحوه. وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى. ومنهم: عبد الله بن عباس بلفظ ابن مسعود. أخرجه مسلم (2/14) ، والنسائي (1/188) ، وأحمد (1/315) من طريق عبد الرحمن بن حُمَيد: ثنا أبو الزبير عن طاوس عنه. ورواه الليث عن أبي الزبير عن سعيد بن جُبير وعن طاوس عنه به. رواه مسلم وغيره - كما يأتي [ص 895]-. ومنهم: جابر بن عبد الله. أخرج حديثه النسائي (1/175) ، وابن ماجه (1/292) ، والطحاوي (1/156) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 867 و " السنة إخفاؤه " (1) .   والحاكم (1/266) ، وعنه البيهقي (2/142) من طرق عن أيمن بن نابل عن أبي الزبير عنه به بزيادة: " باسم الله، وبالله، التحيات ... " إلخ. ورواه أحمد (5/363) من هذا الوجه، إلا أنه لم يسم الصحابي، ولم يذكر الزيادة. وقال الحاكم - ووافقه الذهبي -: " صحيح على شرط البخاري ". وليس كما قال؛ فإن أيمن بن نابل حديثه في البخاري متابعة - كما في " التهذيب " -. ثم إن الأئمة قد حكموا بخطئه في هذا الحديث؛ لقوله: عن أبي الزبير عن جابر. وإنما هو عن أبي الزبير عن طاوس وسعيد بن جبير عن ابن عباس - كما سبق -. وخطَّؤوه أيضاً في ذكره التسمية في التشهد. وقد قال النووي في " المجموع " (3/457) : هو حديث " ضعيف عند أهل الحديث؛ كما نقله المصنف عنهم، وكذا نقله البغوي، وممن ضعفه: البخاري، والنسائي ". قال: " وذكر الحاكم أنه حديث صحيح. ولا يقبل ذلك منه؛ فإن الذين ضعفوه أَحْمَلُ من الحاكم وأتقن ". وقد بسط الكلام على الحديث الحافظ في " التلخيص " (3/512 - 513) . فليراجعه من شاء. (1) هو من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: من السنة أن يُخفى التشهد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 868 ..............................................................................   أخرجه أبو داود (1/156) ، والترمذي (2/84 - 85) ، والحاكم (1/267) ، وعنه البيهقي (2/146) من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عنه. وقال الترمذي: " حسن غريب ". والحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. كذا قالا! لكن أخرجه الحاكم (1/230) ، وعنه البيهقي من طريق أخرى عن العلاء بن عبد الجبار العطار: ثنا عبد الواحد بن زياد: ثنا الحسن بن عُبيد الله عن عبد الرحمن بن الأسود به. وقال: " صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. وليس كما قالا؛ فإن الحسن بن عُبيد الله - وهو: النَّخَعي - ليس من رجال البخاري، والعلاء بن عبد الجبار العَطَّار ليس من رجال مسلم. فالحديث صحيح فقط. وإنما رجاله رجال الصحيح. ثم قال الترمذي: " والعمل عليه عند أهل العلم ". وقال النووي (3/463) : " أجمع العلماء على الإسرار بالتشهدين، وكراهة الجهر بهما، واحتجوا له بحديث ابن مسعود هذا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 869 صِيَغُ التشهد وعلمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنواعاً من صيغ التشهد : 1- تشهد ابن مسعود: قال:   1- وهو أصح التشهدات الواردة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتفاق المحدثين؛ قال الترمذي - بعد أن ساقه -: " حديث ابن مسعود قد رُوي عنه من غير وجه، وهو أصح حديث روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَن بعدهم من التابعين، وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق ". قال الحافظ في " الفتح " (2/251) : " وقال البزار - لما سئل عن أصح حديث في التشهد؟ قال -: هو عندي حديث ابن مسعود، وروي من نيف وعشرين طريقاً. ثم سرد أكثرها، وقال: لا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيدَ ولا أشهر رجالاً. اهـ. ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم بذلك البغوي في " شرح السنة ". ومن رجحانه أنه متفق عليه دون غيره، وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه؛ بخلاف غيره، وأنه تلقاه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلقيناً ". والحديث أخرجه الإمام أحمد (1/414) قال: ثنا أبو نُعيم: ثنا سَيف قال: سمعت مجاهداً يقول: ثني عبد الله بن سَخْبَرة أبو مَعْمَر قال: سمعت ابن مسعود يقول: ... فذكره. وهذا إسناد صحيح جداً؛ مسلسل بالتحديث والسماع، وهو على شرط الشيخين. وهكذا، وبهذا الإسناد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في " مسنده " وفي " مصنفه " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 870 ..............................................................................   { (1/90/2) } ، وعنه أخرجه الإسماعيلي، وأبو نعيم - كما في " الفتح " (11/47) -، ومن طريقه أيضاً رواه مسلم (2/14) ؛ إلا أنه لم يسق لفظه، {وأبو يعلى في " مسنده " (258/2) = [4/464/5326] . وهو مخرج في " الإرواء " (321) } . ورواه البخاري (11/47) بسند أحمد، لكنه قال: قلنا: السلام - يعني: - على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فزاد لفظة: (يعني) . وقائلها هو البخاري؛ كما جزم به الحافظ؛ لرواية أحمد وابن أبي شيبة بدون هذه الزيادة، وطريقهما واحد. وكذلك أخرجه البيهقي (2/138) ، وكذا أبو عوانة في " صحيحه "، والسراج، والجَوْزَقي، وأبو نعيم الأصبهاني من طرق متعددة إلى أبي نُعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: فلما قُبِضَ؛ قلنا: السلام على النبي. بحذف لفظة: (يعني) . كما في " الفتح " أيضاً (2/250) . وأخرجه النسائي (1/174 - 175) من طريق إسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه - قال: أنبأنا الفَضْل بن دُكَين - وهو أبو نُعيم - به نحوه دون هذه الزيادة. والزيادة الأولى عنده، وكذا البخاري. وللحديث طرق أخرى، جاء في بعضها مسلسلاً بالأخذ باليد: ، فقال الإمام أحمد (1/450) : ثنا حسين بن علي عن الحسن بن الحُرّ عن القاسم ابن مُخَيْمِرة قال: أخذ علقمةُ بيدي قال: أخذ عبد الله بيدي قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي؛ فعلمني التشهد في الصلاة: " التحيات ... " إلخ. وهذا سند صحيح. وهكذا أخرجه الدارقطني (134) من طرق عن الحسين بن علي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 871 ..............................................................................   وقد تابعه زهير بن معاوية عن الحسن بن الحُرّ به. وزاد في آخره: إذا قلتَ هذا - أو قضيتَ هذا -؛ فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم؛ فقم، وإن شئت أن تقعد؛ فاقعد. أخرجه أبو داود (1/153) ، والدارمي (1/309) ، والطحاوي (1/162) ، والدارقطني (135) ، والطيالسي (36) ، وأحمد (1/422) من طرق عنه به. لكن هذه الزيادة رفعها ضعيف، والصواب - كما بينه الدارقطني وغيره - أنها مدرجة، وأنها من قول ابن مسعود نفسه؛ فقد رواه شبابة بن سوّار: ثنا زهير بن معاوية به بلفظ: قال عبد الله: فإذا قلت هذا ... إلخ. أخرجه الدارقطني (135) ، والبيهقي (2/174) عنه. ثم قال الدارقطني: " شبابة: ثقة، وقد فصل آخر الحديث؛ جَعَلَه من قول ابن مسعود، وهو أصح من رواية من أدرج آخره في كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد تابعه غسان بن الربيع وغيره؛ فرووه عن ابن ثوبان عن الحسن بن الحُرّ كذلك، وجعل آخر الحديث من كلام ابن مسعود، ولم يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". ثم ساق حديث غسان في ذلك. وقد ذكر النووي (3/481) اتفاق الحفاظ على أن هذه الزيادة مدرجة؛ ليست من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتبعه على ذلك الحافظ في " الدراية " (88) ، ونص كلامه: " واتفق الحفاظ على أن هذه الزيادة مدرجة من كلام ابن مسعود؛ منهم: ابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، والخطيب، وأوضحوا الحجة في ذلك ". وقد ذكر كلماتهم الإمامُ الزيلعي في " نصب الراية " (1/424 - 425) . فليراجعها من شاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 872 ..............................................................................   وقد أخرج الحديث النسائي (1/174) ، والطحاوي (1/162) من طرق عن إبراهيم عن علقمة به بلفظ: كنا لا ندري ما نقول إذا صلينا، فعلمنا نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوامع الكلم؛ فقال لنا: " قولوا: التحيات ... ". الحديث. واللفظ للنسائي وزاد: قال علقمة: لقد رأيت ابن مسعود يعلمنا هؤلاء الكلمات؛ كما يعلمنا القرآن. وسنده جيد. وزاد الطحاوي: وقال: " لا صلاة إلا بتشهد ". وروى هذه الزيادة الطبراني - كما مضى قريباً -. رواها الطحاوي من طريق أبي معشر البَراء عن أبي جمرة - بالجيم والراء، وفي نسخة: حمزة؛ بالحاء المهملة والزاي - عن إبراهيم. ويراجع " تهذيب التهذيب " لمعرفة الصواب من النسختين (*) . وتابعه أبو إسحاق عن علقمة - وقد سبق لفظه -. ومن طرق الحديث ما في " المسند " (1/376) عن خُصَيف الجَزَري قال: ثني أبو عُبيدة بن عبد الله عن عبد الله قال: علمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد، وأمره أن يعلمه الناس: " التحيات ... " إلخ. وهذا إسناد فيه ضعف وانقطاع. وسكت عليه الحافظ في " الفتح " (2/252) ، وليس بجيد. وبقية طرق الحديث تراجع فيه (1/393 و 408 و 413 و 440) ، والنسائي، وابن ماجه، والطحاوي، و " المعجم الكبير " للطبراني. و " الأدب المفرد " (144) [للبخاري] .   (*) هو أبو حمزة كما في " تراجم الأحبار من رجال شرح معاني الآثار " (4/377) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 873 علَّمني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد -، [و] كَفِّي بين كَفَّيْه (1) -؛ كما يعلمني السورة من القرآن (2) :   (1) ترجم له البخاري بقوله: (باب الأخذ باليدين. وصافح حمادُ بن زيد ابنَ المبارك بيديه) . قال ابن بطال: " الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة، وذلك مستحب عند العلماء ". قلت: والحديث ليس نصاً في ذلك؛ لأنه لم يرد في المصافحة عند اللقاء؛ فالدعوى أعم من الدليل، والظاهر عندي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أخذ بكفيه كفَّ ابن مسعود زيادة اعتناء بتعليمه، ولَفْتَ اهتمامه إلى ذلك. فيستحب ذلك في مثل هذا الموضع. وأما المصافحة المسنونة عند اللقاء؛ فإنما هي باليد الواحدة - كما تقتضيه اللغة -؛ ففي " النهاية ": " المصافحة هي: مفاعلة؛ من إلصاق صفح الكف بالكف، وإقبال الوجه على الوجه ". ويشهد لذلك الأحاديث الواردة في فضل المصافحة؛ كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن المسلم إذا لقي أخاه، فأخذ بيده؛ تَحَاتَّتْ عنهما ذنوبهما؛ كما يَتَحَاتُّ الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا؛ غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحر ". رواه الطبراني بإسناد حسن (*) عن سلمان الفارسي. ورواه أحمد وغيره عن أنس بلفظ: " ما من مسلمين التقيا، فأخذ أحدهما بيد صاحبه ... ". الحديث نحوه. وفي الباب عن البراء. رواه أحمد (4/289) وغيره. وانظر " الترغيب "؛ فقد ذكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأخذ باليد الواحدة؛ فينبغي الوقوف عنده، وعدم الزيادة عليه إلا بنص من عنده. (2) قال في " المرقاة " (1/557) :   (*) وهو في " ضعيف الترغيب والترهيب " (1628) ، ويغني عنه أحاديث أخرى في " صحيح الترغيب " (3/32 - 33) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 874 " التحيات (1) لله، والصلوات (2) ، والطيبات (3) ، السلام عليك (4) أيها النبي!   " فيه دلالة على اهتمامه، وإشارة إلى وجوبه ". (1) هي: جمع (تحية) . قيل: أراد بها السلام؛ يقال: حَيَّاك الله؛ أي: سلَّم عليك. وقيل: (التحية) : الملك. وقيل: البقاء. وإنما جمع التحية؛ لأن ملوك الأرض يُحَيَّوْن بتحيات مختلفة، فيقال لبعضهم: أبيت اللعن. ولبعضهم: أنعم صباحاً. ولبعضهم: اسلم كثيراً. ولبعضهم: عش ألف سنة. فقيل للمسلمين: قولوا: " التحيات لله ... "؛ أي: الألفاظ التي تدل على السلام، والملك، والبقاء هي لله تعالى. والتحية: تَفْعِلة من (الحياة) ، وإنما أدغمت؛ لاجتماع الأمثال، والهاء لازمة، والتاء زائدة. كذا في " النهاية ". (2) أي: الأدعية التي يراد بها تعظيم الله تعالى، هو مستحقها، لا تليق بأحد سواه. اهـ. منه. وقد قيل في تفسيرها غيرُ ذلك، فإن شئت؛ فراجعها في المطولات؛ كـ " فتح الباري "، و " مرقاة المفاتيح " وغيرها. (3) أي: ما طاب من الكلام، وحسن أن يُثنى به على الله، دون ما لا يليق بصفاته؛ مما كان الملوك يُحَيَّوْن به. وقيل: الطيبات: ذكر الله. وقيل: الأقوال الصالحة؛ كالدعاء والثناء. وقيل: الأعمال الصالحة. وهو أعم. قال ابن دقيق العيد: ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى. ذكره في " الفتح " (2/249) . (4) قيل: معناه: التعويذ بالله، والتحصين به؛ فإن السلام اسم له سبحانه، تقديره: الله عليك حفيظ وكفيل. كما يقال: " الله معك "؛ أي: بالحفظ والمعونة واللطف (*) .   (*) رجح هذا المعنى الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 875 ورحمة الله وبركاته (1) ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (2) -[فإنه إذا   وقيل: معناه السلام والنجاة لكم. ويكون مصدراً؛ كاللذاذة واللذاذ؛ كما قال الله تعالى: {فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ} . كذا في " شرح مسلم " للنووي، ثم قال: " واعلم أنه يجوز فيه حذف الألف واللام؛ فيقال: سلامٌ عليك أيها النبي! و: سلام علينا. ولا خلاف في جواز الأمرين هنا، ولكن الألف واللام أفضل، وهو الموجود في روايات " الصحيحين " ". قال الحافظ (2/249) : " لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف ذلك في حديث ابن عباس، وهو من أفراد مسلم ". (1) هو اسم لكل خير فائض منه تعالى على الدوام. وقيل: (البركات) : الزيادة في الخير. " مرقاة ". (2) الأشهر في تفسير (الصالح) : أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله، وحقوق عباده، وتتفاوت درجاته. قال الترمذي الحكيم: " من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلِّمُه الخلقُ في الصلاة؛ فليكن عبداً صالحاً، وإلا؛ حُرم هذا الفضل العظيم ". قال القفال في " فتاويه ": " ترك الصلاة يضر بجميع المسلمين؛ لأن المصلي يقول: اللهم! اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بد أن يقول في التشهد: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ". فيكون مقصراً بخدمة الله، وفي حق رسوله، وفي حق نفسه، وفي حق كافة المسلمين؛ ولذلك عظمت المعصية بتركها ". كذا في " الفتح ". (فائدة) : اشتهر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عُرج به؛ أثنى على الله تعالى بهذه الكلمات؛ فقال الله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 876 قال ذلك؛ أصاب كُلَّ عبدٍ صالح في السماء والأرض] (*) -، أشهد أن لا اله إلا الله (1) ، .................................................................   " السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته ". فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين ". فقال جبريل: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ". ولكني لم أقف على هذه الرواية في شيء من كتب السنة المعتبرة، وقد أوردها الشيخ علي القاري في " المرقاة " (1/556) نقلاً عن ابن الملك، مشيراً إلى ضعفها بقوله: " رُوي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ". (*) زيادة من " صفة الصلاة "، وهي في سياق الحديث الآتي (ص 894) . (1) أي: لا معبود بحق في الوجود إلا الله الواجب الوجود لذاته تعالى. ذكره القاري وغيره. هذا هو معنى هذه الشهادة التي تحقن دم قائلها، وتنجيه يوم لقائه الله تعالى؛ إذا عمل بمقتضاها، ولم يقتصرعلى التلفظ بها. ولقد ضل كثير من المسلمين حين فهموا منها: أنه لا رب ولا خالق إلا الله تعالى. وبنوا على ذلك: أن من عَبَدَ غيره تعالى بنوع من أنواع العبادات؛ كالاستغاثة بغيره سبحانه، والذبح لغيره، وما شابه ذلك أنه صحيح الاعتقاد، سليم الإيمان! مع أن حقيقة هذه الشهادة: توحيد الإله في هذه العبادات، وغيرها؛ فإنه هو الفارق بين المؤمن الموحد، وبين الكافر المشرك؛ ذلك لأن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يعتقدون هذا المعنى الخاطئ لهذه الشهادة، ولكنهم كانوا يقتصرون على ذلك؛ فلا يؤمنون بأن لا معبود بحق في الوجود إلا الله تعالى. فهم موحدون من ناحية، مشركون من ناحية أخرى؛ موحدون في توحيد الربوبية، كافرون بتوحيد الألوهية. هذا هو الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 877 ..............................................................................   دل عليه القرآن الكريم بنصوصه الصريحة. أما إيمانهم بتوحيد الربوبية وأنه: المتفرد بالخلق والرزق؛ فقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} . وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} . وأما كفرهم بتوحيد الألوهية - الذي هو المراد من هذه الشهادة -؛ فاقرأ قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} . وكانوا إذا دعاهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإيمان بهذه الشهادة؛ يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة {ص} ] . وكذلك كان كفر من قبلهم من المشركين؛ كانوا يكفرون بتوحيد الألوهية، وإلى هذا التوحيد كان يدعوهم أنبياؤهم صلى الله عليهم وسلم؛ كما قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [7: 65] . {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [7: 70] . وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الآية [11: 61] . {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [11: 62] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي قائلين لأممهم: أنِ اعبدوا الله وحده. فأفاد بقوله: في كل أمة: أن جميع الأمم لم تُرسل إليهم الرسل إلا لطلب توحيد العبادة، لا للتعريف بأنه هو الخالق للعالَم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 878 ..............................................................................   وأنه رب السماوات والأرض؛ فإنهم كانوا مُقِرّين بهذا بباعث الفطرة - كما سبق عن الجاهليين -؛ ولهذا لم ترد الآيات في ذلك في الغالب؛ إلا بصيغة استفهام التقرير؛ نحو: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ} . {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} . ومما سبق تعلم أن المشركين لم يتخذوا الأصنام والأوثان شركاء لله تعالى في الربوبية؛ أي: أنهم [ما] اعتقدوا فيهم أنهم شركاء لله في الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، كلا؛ فإنهم نفوا ذلك بأنفسهم، وإنما اتخذوهم شركاء لله سبحانه في العبودية والألوهية؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [38: 3] . فهم مقِرّون بأن المقصود بالذات هو الله تعالى، وأنهم إنما عبدوا أوثانهم؛ وسيلة توصلهم إلى الله. وفي " صحيح مسلم " (4/8) ، و " المختارة " للضياء المقدسي عن ابن عباس: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك. قال. فيقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ويلكم قَدْ قَدْ ". فيقولون: إلا شريكاً هو لك، تملِكه، وما ملك. يقولون هذا، وهم يطوفون بالبيت! ومعنى عبادة المشركين لأوليائهم وأصنامهم هو: أنهم خَصُّوهم بنوع من العبادات: كالاستغاثة بهم، والنذر، والنحر لهم، وغيرها؛ مما يدل على منتهى الخشوع والخضوع، وهم لم يفعلوا ذلك إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله تعالى، وتشفع لهم لديه. فأرسل الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه. وأن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، والتقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده، وهو توحيد العبادة. وقد كان المشركون، منهم: من يعبد الملائكة، وينادونهم عند الشدائد، ومنهم: من يعبد تماثيل لبعض الصالحين، ويهتف بها عند الشدائد، فبعث الله إليهم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 879 ..............................................................................   يدعوهم إلى الله وحده بأن يفردوه بالعبادة - كما أفردوه بالربوبية -، وأن لا يدعوا مع الله أحداً؛ قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} . وأمر عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى؛ وإلا كان كاذباً، منهياً عن أن يقول هذه الكلمة؛ إذ معناها: نخصك بالعبادة ونفردك بها، وهو معنى قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} . كما عرف من علم البيان: أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر؛ أي: اعبدوا الله، ولا تعبدوا غيره. واتقوه ولا تتقوا غيره. فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده، واللجوء إلى الله، والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات من الخضوع، والقيام لله تعالى، والركوع، والسجود، والطواف، والتجرد عن الثياب، والحلق، والقصر كله لا يكون إلا لله عز وجل، ومن فعل ذلك لمخلوق حي، أو ميت، أو جماد، أو غيره؛ فهذا شرك في العبادة والألوهية، وفي النهي عن ذلك نزل قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . وصار من يُفعل له هذه الأمور إلهاً لعابده سواء كان ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو قبراً، أو غير ذلك، وصار بهذه العبادة، أو بأي نوع منها عابداً لذلك المخلوق، وإن أقر بالله وحده وعبده؛ فإن إقرار المشركين بالله، وتقربهم إليه؛ لم يخرجهم عن الشرك؛ قال الله عز وجل في الحديث القدسي: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً، وأشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه ". أخرجه مسلم وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 880 وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " (1) ..........................................   فمن علم ما ذكر من الفرق بين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وجمع بينهما في اعتقاده وعمله؛ فهو الذي تحقق بمعنى لا إله إلا الله، وهو الذي يستحق أجر قائلها، وتنفعه من دهره يوماً ما - كما جاء في الأحاديث النبوية -. وهذا بحث عظيم قد أُلِّفَتْ فيه كتب، ورسائل شتى؛ لأهميته، وخطورة شأنه، فمن شاء التوسع في ذلك؛ فليراجع " تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد " للإمام الصنعاني - وغالب ما كتبناه مأخوذ عنه -، و " تجريد التوحيد " للمقريزي، و " حجة الله البالغة "، وكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم. (1) اعلم أن هذه الشهادة قد جمعت له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفتين لا يتم إيمان المرء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا إذا تحقق بمعناهما. الأولى: كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً لله تعالى، كغيره من عباده تعالى، فهو مثلهم من هذه الناحية، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما أنا بشر مثلكم؛ أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني " (1) . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تُطْروني، كما أَطْرَتِ النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد. فقولوا: عبد الله ورسوله " (2) . ولذلك فلا يجوز لمسلم يشهد هذه الشهادة أن ينزله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزلة فوق التي أنزله الله تعالى فيها؛ فإن ذلك مما لا يرضاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال في الحديث: " أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل " (3) . ولا أن يمدحه إلا بما مدحه الله به، أو بما صحت به   (1 و 2) متفق عليهما. (3) رواه أحمد في " المسند " (3/153 و 241 و 249) بسند صحيح على شرط مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 881 ..............................................................................   الأحاديث والأخبار، فمدحه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل قول بعضهم: فإن من جودك الدنيا وضَرّتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا القول مما يتنافى مع الشهادة بالعبودية لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو القائل - كما حكاه الله تعالى في القرآن الكريم -: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} . وهو القائل للجارية التي كانت تندب من قتل يوم [بدر] ، ثم قالت: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تقولي هكذا، وقولي كما كنت تقولين " (1) . ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديث لها في " الصحيحين ": " ومن حدثكم أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعلم ما في غد؛ فقد أعظم على الله الفرية ". فإذا كان هذا شأن من قال عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه يعلم ما في غد؛ فما بال من يقول: إن من بعض علومه علمَ اللوح والقلم؟! فلا جَرَم أن حَذَّرَنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغلو في مدحه وتعظيمه؛ فإنه سبب هلاك الأمم قبلنا كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم غلوهم في دينهم " (2) . وأما الصفة الأخرى: فهي كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً اصطفاه الله تعالى، وخصه بالوحي وأطلعه على بعض المغيبات، وذلك يستلزم الإيمان بكل ما قاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصح عنه من التشريعات والإخبار بالمغيبات، سواء كان ذلك موافقاً لعقلك، أو بعيداً عن فهمك وعقلك، يجب الإيمان بذلك كله، فمن لم يكن هذا موقفه معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهو لم يؤمن حق الإيمان بأن محمداً رسول الله، فما تنفعه هذه الشهادة، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم،   (1) رواه البخاري. (2) رواه مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 882 [وهو بين ظهرانَيْنَا (1) ، فلما قُبِضَ؛ قلنا: السلام على النبي] (2) .   وذلك ما يفيده قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . ولا شك أن إيمانك وتصديقك بما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأمور التشريعية والغيبية - ولو كانت بعيدة عن متناول عقلك -؛ إنما هو من الإيمان بالغيب الذي هو من صفات المتقين في القرآن: {الم. ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ} . فقف أيها المؤمن! عند نص الشارع الحكيم، ولا تُغالِ فيه، ولا تفرط؛ بل وسطاً بين ذلك؛ لتكون من الناجين عند رب العالمين. (فائدة) : قال الشيخ علي القاري في " المرقاة " (1/557) : " والمنقول أن تَشَهُّدَه عليه الصلاة والسلام، كتَشَهُّدِنا. وأما قول الرافعي: المنقول أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في تشهده: وأشهد أني رسول الله. فمردود؛ بأنه لا أصل له ". (1) بفتح النون، وسكون التحتانية، ثم نون. أصله: (ظهرنا) . والتثنية باعتبار المتقدم عنه والمتأخر؛ أي: كائن بيننا. والألف والنون زيادة للتأكيد، ولا يجوز كسر النون الأولى. قاله الجوهري وغيره. كذا في " الفتح ". (2) قال الحافظ رحمه الله تعالى (11/47) : " هذه الزيادة، ظاهرها أنهم كانوا يقولون: السلام عليك أيها النبي! - بكاف الخطاب - في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما مات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ تركوا الخطاب، وذكروه بلفظ الغَيْبة؛ فصاروا يقولون: السلام على النبي ". وقال في موضع آخر (2/250) : " قال السبكي في " شرح المنهاج " - بعد أن ذكر هذه الرواية من عند أبي عوانة وحده -: " إن صح هذا عن الصحابة؛ دلَّ على أن الخطاب في السلام بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 883 ..............................................................................   غير واجب، فيقال: السلام على النبي ". قلت: قد صح بلا ريب، وقد وجدت له متابعاً قوياً؛ قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج: أخبرني عطاء: أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي: (السلام عليك أيها النبي!) ، فلما مات؛ قالوا: (السلام على النبي) . وهذا إسناد صحيح. وأما ما روى سعيد بن منصور من طريق أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علّمهم التشهد ... فذكره. قال: فقال ابن عباس: إنما كنا نقول: السلام عليك أيها النبي! إذ كان حياً. فقال ابن مسعود: هكذا عُلِّمْنا، وهكذا نُعَلِّم. فظاهرٌ أن ابن عباس قاله بحثاً، وأن ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر أصح { (يعني: رواية البخاري) } ؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، والأسناد إليه - مع ذلك - ضعيف ". وقد نقل كلامَ الحافظ هذا جماعةٌ من العلماء المحققين؛ أمثال: القسطلاني في شرحه على البخاري، والزرقاني في " المواهب اللَّدُنِّية " وفي شرحه على " الموطأ "، وعبد الحي اللكنوي في " التعليق الممجد "، وارتضوه؛ حيث إنهم أقروه {ولم يتعقّبوه بشيء} . هذا؛ والظاهر أن الصحابة رضي الله عنهم لم يصيروا إلى القول: (السلام على النبي) - بلفظ الغَيْبَةِ - إلا بتوقيف من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذ لا مجال للاجتهاد أو القياس في مثل هذا المقام؛ بل هو عين الابتداع في الدين، وحاشا الصحابة من ذلك، لا سيما ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 884 ..............................................................................   مسعود رضي الله عنه، الذي اشتهر من بينهم بشدة محاربته للبدع - مهما كان نوعها -، وقصته في إنكاره على الذين كانوا يذكرون الله مجتمعين، ويعدون التسبيح والتحميد بالحصى أشهر من أن تذكر، وهو القائل رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفِيْتُم، عليكم بالأمر العتيق. ولذا كان يأخذ على أصحابه الواو في التشهد. كما رواه الطحاوي (1/157) ، والبزار في " مسنده " بإسناد صحيح. فمن كان هذا شأنه من التحري في الاتباع؛ كيف يعقل أن يتصرف فيما عَلَّمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه من التشهد بدون إذن منه؟! هذا غير معقول. أضف إلى ذلك أنه ليس منفرداً بذلك عن الصحابة؛ بل قد نقل هو نفسه - وهو الثقة العدل - ذلك عن الصحابة بدون خلاف بينهم، فمن تبعهم على ذلك؛ فـ {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} . {ويؤيده: أن عائشة رضي الله عنها كذلك كانت تعلمهم التشهد في الصلاة: " السلام على النبي ". رواه السراج في " مسنده " (ج 9/1/2) ، والمخلص في " الفوائد " (ج 11/54/1) بسندين صحيحين عنها} (*) .   (*) قال الشيخ رحمه الله في مقدمة " صفة الصلاة " المطبوع (ص 17 - 25/ ط المعارف) : " وقد كنت وقفت على رسالة صغيرة للشيخ عبد الله الغماري، أسماها: " القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع "! لا تتجاوز صفحاتها أربعاً وعشرين صفحة من الحجم الصغير! تعرض فيها للرد عليَّ في بعض ما كنت رددت عليه بالحق، وبالتي هي أحسن؛ ما وقع له من أخطاء حديثية في = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 885 ..............................................................................   ...........................................   = تعليقاته على رسالة الشيخ العلامة العز بن عبد السلام: " بداية السول في تفضيل الرسول "؛ التي حققتها من بعده، وعلقت عليها تعليقات مفيدة، بينت في بعضها جهل الشيخ الغماري بهذا العلم، وتقصيره في تخريج الأحاديث، وبيان مراتبها صحةً أو ضعفاً، وتقليده للترمذي في التحسين؛ لعجزه عن التحقيق، وتجويده لبعض الأحاديث الضعيفة، فألف هو رسالته المذكورة تشفياً وانتقاماً بالباطل، والتي يليق بها أن تسمى بـ: (القول المقذع) ؛ لكثرة ما فيها من السباب والشتائم والنبز بالألقاب مع البهت والافتراء؛ مما كنت بينت بعض ذلك في مقدمة المجلد الثالث من " الأحاديث الضعيفة " (ص 8 - 44) ... وكان مما تعرض لإنكاره علي - في ذلك (القول المقذع) ! - وشغب به علي ونسبني بسببه إلى قلة الفهم، والضعف في الاستنباط؛ ما سيأتي في الكتاب (ص 161) [هو هنا (ص 884 - 885) ] من حمل قول ابن مسعود في التشهد: فلما قُبض (يعني: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ؛ قلنا: السلام على النبي؛ أن هذا كان بتوقيف منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فسود الغماري خمس صفحات (ص 13 - 18) ؛ ليثبت - بزعمه - من وجوه كثيرة أن ذلك كان اجتهاداً من ابن مسعود ومن وافقه!! ولما كانت هذه المقدمة لا تتسع لمناقشتها واحدة واحدة؛ فلا بد من إيجاز الكلام عليها ببيان يجتثها من أصولها كلها، ويجعلها هباءً منثوراً بإذنه تعالى، وفي الوقت نفسه فيه فائدة هادية - إن شاء الله تعالى - لكل حريص على اتباع الحق، وإيثاره على ما وجد عليه الآباء، أو الجمهور من الناس، فأقول: من الواضح جداً أنه لا يعقل أن يتوجه من كان دون الصحابة علماً وتُقىً وخوفاً من الله تعالى، وإيماناً بقوله تعالى في حق نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ؛ لا يعقل أبداً أن يتوجه إلى تعليم من تعاليمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كقوله: " السلام عليك أيها النبي! ". فيغيره؛ فيجعله: "السلام على النبي "! أو إلى تعليمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلام على أهل القبور: " السلام عليكم أهل الديار ... ". فيجعله: " السلام على أهل القبور ... "! فكيف يعقل أن يرتكب مثل هذا التغييرأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبخاصة منهم عبد الله بن مسعود الذي اشتهر من بينهم بشدة محاربته للبدع - مهما كان نوعها -؛ وقصة إنكاره على الذين كانوا يجتمعون في المسجد حلقات، وفي وسط كل حلقة رجل يقول لمن حوله: سبحوا كذا، كبروا = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 886 ..............................................................................   ...........................................   = كذا ... إلخ، وأمام كل واحد منهم حصى يعد به التسبيح والتكبير ... إلخ؛ أشهر من أن تذكر. (انظر " ردي على الشيخ الحبشي ") . وقوله رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق. ونحو ذلك مما هو مأثور عنه، ومذكور في محله، وبخاصة أنه ثبت عنه رضي الله عنه أنه: كان يأخذ على أصحابه الألف والواو في التشهد إذا علمهم. كما رواه ابن أبي شيبة (1/294) ، والطحاوي (1/157) ؛ بسند صحيح عنه. ثم إن الصحابة الذين هم على علم بتعليم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صيغة السلام عليه في التشهد؛ قد قالوا بعد أن مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السلام على النبي ". كما رواه عبد الرزاق بسنده الصحيح عن عطاء بن أبي رباح - كما قال الحافظ ابن حجر على ما سيأتي في الكتاب (ص 162) [وقد تقدّم هنا (ص 884) ]-. ولما كان مثل هذا النص قاصمة ظهر الغماري ومن كان على شاكلته من أهل الأهواء؛ فقد كابر على عادته وأعله بقوله (ص 14) : " عنعنه ابن جريج كما في " مصنف عبد الرزاق " (ج 2 ص 204) ، وابن جريج مدلس؛ فلا يقبل ما عنعنه ". والجواب من وجهين: الأول: نعم؛ ابن جريج مدلس، ولكن قد صح عنه أنه قال: " إذا قلتُ: قال عطاء؛ فأنا سمعتهُ منه، وإن لم أقل: (سمعتُ) ". فإذا قيل: في قوله: " عن عطاء " أنه كقوله: " قال عطاء؛ فلا يضر عدم تصريحه بالسماع - كما هو الظاهر -، ولعل هذا من الأعذار في إخراج الشيخين لحديثه المعنعن عن عطاء. والآخر: أن الغماري تجاهل - كما هي عادته في طمس الحقائق - أن ابن جريج قال في رواية الحافظ عن عبد الرزاق: " أخبرني عطاء ". فزالت شبهة تدليسه؛ ولذلك صححه الحافظ. فكان على الغماري: إما أن يسلم بهذا كله، وإمأ أن يجيب عن ذلك بما يدفع التصحيح، ولكنه لم يصنع شيئاً من ذلك؛ بل لجأ إلى المثل العامي (الهرب نصف الشجاعة) ! = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 887 ..............................................................................   ...........................................   = والظاهر أن العنعنة في " المصنف " هي من الأخطاء الكثيرة التي وقعت في أصله؛ كما يبدو لمن يدقق في تعليقات محققه الشيخ الأعظمي عليه. ومن الغرائب أن محققه علق عليه بقوله: " كنز العمال 4/4668 ". كذا قال، ولم يزد. وذلك هو التحقيق! وبالرجوع إلى هذا الرقم وجدت الأثر فيه كما في " الفتح ": عن ابن جريج: أخبرني عطاء ... من رواية عبد الرزاق؛ فكان على الأعظمي أن ينبه على هذه الفائدة؛ ليسد الطريق على من قد يستغل هذه العنعنة، كما فعل الغماري! ولكن ما يدريني.. لعل الأعظمي تعمد ذلك؛ لأنه خلاف مذهبه! ويشترك مع الغماري في اتباع الهوى والإعراض عن الحجة والدليل عند مخالفة المذهب! ثم رجعت إلى " الجامع الكبير " للسيوطي الذي هو أصل " الكنز "؛ فوجدته مطابقاً له. وبذلك ثبت هذا الأثر، وقامت الحجة على الغماري المغمور بالهوى، والعياذ بالله تعالى. ومن كبره وبطره للحق - وحكمه معروف عند أهل الحديث! - أنني لما أيدت قول ابن مسعود وأنه بتوقيف منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأثر عائشة أنها كانت تعلمهم التشهد في الصلاة: السلام على النبي. كما يأتي معزواً لمصدرين مخطوطين ما رآهما الغماري ولا في المنام! لم يزد على قوله (ص 15) : " وهذا الكلام يدل على جهل عريض (!) وقد أغرب بعزو أثر عائشة إلى (السراج) و (المخلص) خلص الله الألباني من جهله، مع أنه في (مصنف ابن أبي شيبة) و (مصنف عبد الرزاق) ". قلت: فليتأمل القارئ المنصف وقاحة هذا المغمور؛ كيف يرميني بالجهل لمجرد أَنْ جئته من مصدرين لا يعرفهما، ثم يخرس عن الجواب عن التأييد الذي كان الواجب عليه أن يقبله، ويخضع للحق الذي معي، أو يجيب عنه بجواب علمي ان كان عنده؟! وهيهات هيهات؛ إذ لو كان؛ لما وقع في مثل هذه الجهالة التي يترفع عنها حتى السُّوقة! فالله المستعان. ومن خباثته وتدليساته على قرائه قوله (ص 15) : " روى الطبراني بإسناد صحيح عن الشعبي قال: كان ابن مسعود يقول بعد " السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته ": " السلام علينا من ربنا ". [قال:] " فهذه الجملة زادها ابن مسعود اجتهاداً منه، فكلذلك تغيير صيغة السلام من الخطاب إلى الغيبة اجتهاداً (!) منه ". قلت: والجواب من ستة وجوه: = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 888 ..............................................................................   ...........................................   الأول: أن يقال لك: أثبت العرش ثم انقش؛ فإن هذا الأثر لا يصح عن ابن مسعود رضي الله عنه! بل هو محكي عنه - كما يأتي -. وقولك: " بإسناد صحيح عن الشعبي ". فيه تدليس خبيث على عامة القراء الذين لا ينتبهون لما في قولك هذا من التدليس؛ فهلا قلت: إسناده صحيح عن ابن مسعود؟! لم تقل ذلك؛ لأنك تعلم - إن شاء الله - أن الشعبي - واسمه: عامر ابن شراحيل - لم يسمع من ابن مسعود - كما قال ابن أبي حاتم، والدارقطني، والحاكم، والمزي والعلائي، وابن حجر، وغيرهم - وهذا هو السر في اقتصار الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2/143) - بعد أن عزاه للطبراني (وهو فيه 9/276/9184) [على قوله]-: " ورجاله رجال " الصحيح " ". فلم يصححه؛ لأن هذا القول منه ومن غيره لا يعني أنه صحيح - كما نبهت عليه في غير ما موضع من كتبي -؛ لهذا لجأتَ إلى التدليس على القراء، ولم تقل: إسناده صحيح عن ابن مسعود. ولو فعلتَ؛ لافْتَضَحْتَ! الثاني: هب - جدلاً - أنه صح عن ابن مسعود؛ فهذا قد يفيدك - لو كان وحده - في سلام الغيبة؛ فيكون اجتهاداً منه، فأين أنت من سائر الصحابة الذين وافقوه وفيهم السيدة عائشة؟! أفكلهم اجتهدوا وتجرأوا على تغيير النص؟! وأنت وحدك عرفت النص ولزمته؟! مع أنك خالفت نصوصاً كثيرة، منها زيادتك (السيادة) في الصلاة الإبرإهيمية! لا شك أن الذي يحملك على مثل هذا التناقض إنما هو الهوى! والله المستعان. الثالث: هب أنهم كلهم اجتهدوا؛ أفكلهم أخطأوا، وأنت ومن على شاكلتك أصابوا؟! الرابع: قولك: " فهذه الجملة زادها ... ". خطأ محض؛ لأن الجملة - عند البلاغيين والنحويين - كل كلام اشتمل على مُسْنَدٍ ومُسْنَد إليه، وهنا لا شيء من ذلك سوى: " من ربنا ". فهل هذه جملة عند (العلامة الغماري) الذي رشح نفسه - بل فرض نفسه - مجدد هذا القرن في بعض رسائله الأخيرة؟! أم هو من باب التدليس أيضاً على القراء، وإيهامهم أن ابن مسعود زاد في التشهد جملة تامة! وحاشاه من أن يزيد في تعليمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو حرفاً واحداً -، كيف وهو ينكره على أصحابه - كما سبق -؟! = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 889 ..............................................................................   ...........................................   = الخامس: لا شك أن هذه الزيادة منكرة لا يجوز نسبتها إلى ابن مسعود رضي الله عنه؛ لما تقدم بيانه من انقطاع إسنادها، ولمنافاتها لما عرف عنه من الحرص على الاتباع، ونهيه الشديد عن الابتداع، ومن ذلك إنكاره على من زاد في التشهد: " وحده لا شريك له " - كما سيأتي [هنا (ص 903) ]-. وقوله رضي الله عنه: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. السادس: ذكر الغماري أن البيهقي روى في " سننه " عن عائشة قالت: هذا تشهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التحيات لله ... إلى آخره. ونقل عن النووي أنه قال: " إسناده جيد، وهو يفيد أن تشهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل تشهدنا، وهي فائدة حسنة ". وأقول: أما أن إسناده جيد؛ فليس بجيد؛ لأن فيه صالح بن محمد بن صالح التمَّار، وهو غير معروف العدالة، أورده البخاري في " التاريخ " (2/2/291) ، وساق له إسناداً من روايته عن أبيه عن سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه: قال النبي في سعد بن معاذ: ... قال البخاري: " وخالفه شعبة عن سعد عن أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... وهذا أصح ". ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، على أن المخالفة المرجوحة تتردد بينه وبين أبيه محمد بن صالح، وهو ثقة، في حفظه كلام؛ فيمكن أن تكون المخالفة منه، ويمكن أن تكون من ابنه صالح. وعلى كل حال فهو مجهول، لا ينبغي تجويد إسناد مثله، وبخاصة أن الحافظ ابن حجر قد أعلَّ حديث عائشة هذا بالوقف؛ تبعاً للدارقطني. فانظر " التلخيص " (3/514) . وقول النووي: " ... مثل تشهدنا ". يعني: تشهد الشافعية الذي اختاروه من رواية ابن عباس، وليس كما قال؟ لأن تشهدهم فيه: " المباركات ". وهذا غير موجود في حديث عائشة هذا؛ بل هو كحديث ابن مسعود بالحرف الواحد. نعم؛ قبل هذه الرواية عند البيهقي رواية أخرى عن عائشة موقوفة فيها: " الزاكيات ".. مكان: " المباركات ". وفيها أيضاً: " السلام على النبي "؛ بصيغة الغَيْبة! = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 890 ..............................................................................   ...........................................   = ففيها ردٌّ لشغب الغماري ومرواغته - لو كان فيه بقية من إنصاف واعتراف بالحق -. ومما ذكرنا يتبين للقراء تدليس آخر للشيخ الغماري؛ إذ لا علاقة لكلام النووي بما نحن فيه؛ لأن النووي رحمه الله - على ما في كلامه من الخطأ - لم يكن في صدد ترجيح لفظ: " السلام عليك " في (التشهد) على لفظ: " السلام على النبي "، كما يلبّس الغماري على قرائه؛ وإنما هو في صدد ترجيح تشهد ابن عباس على تشهد ابن مسعود. والأمر عندي في هذا واسع، فبأي صيغة من الصيغ الثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشهد المصلي؛ فقد أصاب السنة، وإن كان تشهدُ ابن مسعود أصحَّ روايةً باتفاق العلماء؛ لاتفاق الرواة له على روايته بلفظ واحد دون زيادة حرف أو نقص، ومن ذلك تفصيله رضي الله عنه بين ما كان الصحابة يقولونه في حال حياته في السلام عليه بلفظ الخطاب، وما كانها يقولونه بعد وفاته بلفظ الغيبة؛ بتوقيف منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولذلك كانت السيدة عائشة تعلمهم التشهد بلفظ الغيبة - كما تقدم -. وهذه المسألة ونحوها مما لا يمكن معرفة الصواب فيها إلا بالرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح، وبخاصة أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم؛ نُلِحُّ دائماً في دروسنا ومحاضراتنا أنه لا يكفي إذا دعَونا الناس إلى العمل بالكتاب والسنة أن نقتصر على هذا فقط في الدعوة؛ بل لا بد من أن نضم إلى ذلك جملة: (على منهج السلف الصالح) أو نحوها؛ لقيام الأدلة الشرعية على ذلك، وهي مذكورة في غير هذا الموضع. لا بد من ذلك، وخصوصاً في هذا العصر، حيث صارت الدعوة إلى الكتاب والسنة (موضة) العصر الحاضر، ودعوة كل الجماعات الإسلامية، والدعاة الإسلاميين - على ما بينهم من اختلافات أساسية أو فرعية -، وقد يكون فيهم من هو من أعداء السنة عملياً، ومن يزعم أن الدعوة إليها يفرق الصف! عياذاً بالله منهم. أسأل الله تعالى أن يحيينا على السنة، وأن يميتنا عليها؛ متبعين لمن أثنى الله تبارك وتعالى عليهم بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} . وأن يجعلنا ممن قال فيهم: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 891 وكانوا قبل ذلك 1 [قبل أن يفرض التشهد (1) ] يقولون:   (1) قال في " التلخيص " (3/503) : " واستدل به على فرضية التشهد الأخير، ولقوله: " قولوا ". وبوب عليه النسائي (إيجاب التشهد) ، وساقه من طريق سفيان عن الأعمش ومنصور عن شَقِيق عن ابن مسعود. قال ابن عبد البر في " الاستذكار ": تفرد ابن عيينة بقوله: قبل أن يفرض ". قلت: ابن عيينة: ثقة حافظ؛ فلا يضر تفرده. ولذلك صححه الحافظ، وكذا الدارقطني - كما يأتي -. ويشهد لها ماتقدم مرفوعاً: " لا صلاة إلا بتشهد ". ورواه الطبراني في " الأوسط " من حديث علي بنحوه بلفظ: " لا صلاة لمن لا تشهد له ". قال الهيثمي (2/140) : " وفيه الحارث، وهو ضعيف ". ورواه البيهقي (2/139) موقوفاً على عمر. وسنده صحيح. ثم إن الحديث لم يقيد التشهدَ بالأخير؛ فحصرُ دلالته على فرضية الأخير - كما فعل الحافظ -؛ ليس كما ينبغي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 892 السلام على الله قَبْلَ (1) عباده، 2 [السلام علينا من ربنا] ، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل (2) ، السلام على فلان 3 [فلان]- 4 [يعنون (3) الملائكة]-، فلما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 5 [ذات يوم] ؛ أقبل علينا بوجهه، فقال: " 6 [لا تقولوا: السلام على الله. فـ] إن الله هو السلام (4) ، فإذا جلس أحدكم في الصلاة؛ فليقل: " التحيات ... " فذكره إلى آخره (5) . وقال بعد قوله: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ":   (1) في " صحيح البخاري ": بفتح القاف، وسكون الموحدة. ووقع في بعض النسخ منه: بكسر القاف، وفتح الموحدة. ويؤيده - كما قال الشيخ علي القاري - ما وقع في رواية للبخاري بلفظ: السلام على الله من عباده. (2) زاد الدارمي: السلام على إسرافيل. ولكني في شك من ثبوت هذه الزيادة، وأخشى أن تكون غير محفوظة. (3) وللإسماعيلي من رواية علي بن مسهر: فَنَعدُّ الملائكة. ومثله للسراج من رواية محمد بن فضيل عن الأعمش بلفظ: فنعدُّ من الملائكة ما شاء الله. كذا في " الفتح ". (4) قال الشيخ علي القاري: " لأن معنى السلام عليك هو: الدعاء بالسلامة من الآفات؛ أي: سلمت من المكاره أو من العذاب، وهذا لا يجوز لله تعالى؛ فإن الله هو السلام؛ أي: هو الذي يعطي السلامة لعباده، فَأَنَّى يدعى له، وهو المدعو على الحالات؟! ". (5) هو من حديث ابن مسعود أيضاً، ولفظه: كنا إذا صلينا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قلنا: ... فذكره بزيادة: " ثم يتخير من الكلام ما شاء ". وسيأتي الكلام على هذه الزيادة في آخر الصلاة إن شاء الله تعالى [ص 998 - 1000، 1002 - 1003] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 893 " فإنه إذا قال ذلك؛ أصابَ كلَّ عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض " (1) .   أخرجه البخاري (2/248 و 255 و 11/11) والسياق له في رواية، ومسلم (2/14) ، وأبو داود (1/152) ، والنسائي (1/187) ، والدارمي (1/308) ، وابن ماجه (1/290 - 291) ، والطحاوي (1/154 - 155) ، والبيهقي (2/138) ، وأحمد (1/382 و 413 و427 و 431) من طرق عن الأعمش: ثني شقيق عنه. والزيادة الثانية: تفرد بها أحمد في رواية. وإسنادها صحيح على شرط البخاري. والزيادة الثالثة: عند البخاري، والدارمي، وأبي داود، وغيرهم. والرابعة: عند ابن ماجه. وإسنادها صحيح على شرطهما. والزيادة السادسة: هي عند البخاري في رواية، وكذا أبو داود، وابن ماجه، وأحمد. وأما الزيادة الخامسة: فهي من رواية منصور عن شقيق. أخرجها مسلم، وأحمد (1/413) . وأما الزيادة الأولى: فهي من رواية سفيان بن عيينة عن منصور. أخرجها النسائي (1/187) ، والدارقطني (133) ، وعنه البيهقي (2/138) . وقال الد ارقطني: " هذا إسناد صحيح ". وكذا قال الحافظ في " الفتح " (2/249) . وهو على شرط الشيخين. ثم الحديث له طرق أخرى عن أبي وائل: عند النسائي، وأحمد، وله عنده (1/413) طريق آخر عن ابن مسعود نحوه. (1) استدل به على أن الجمع المضاف، والجمع المحلى بالألف واللام يعم؛ لقوله أولاً: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 894 2- تشهد ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا التشهد، كما يعلمنا [السورة من] القرآن؛ فكان يقول:   " عباد الله الصالحين ". ثم قال: " أصاب كل عبد صالح ". واستدل به على أن للعموم صيغة، قال ابن دقيق العيد: وهو مقطوع به عندنا في لسان العرب، وتصرفات ألفاظ الكتاب والسنة. قال: والاستدلال بهذا فرد من أفراد لا تحصى، لا للاقتصار عليه. كذا في " الفتح ". 2- وبه أخذ الشافعي وأتباعه. وفي " الفتح " (2/252) : " وقال الشافعي - بعد أن أخرج الحديث -: رويت أحاديث في التشهد مختلفة، وكان هذا أحب إليَّ؛ لأنه أكملها. وقال في موضع آخر - وقد سئل عن اختياره تشهد ابن عباس؟ -: لما رأيته واسعاً، وسمعته عن ابن عباس صحيحاً؛ كان عندي أجمع، وأكثر لفظاً من غيره، وأخذت به غير معنّفٍ لمن يأخذ بغيره مما صح ". والحديث أخرجه مسلم (2/14) ، {وأبو عوانة [2/227 و 228] } ، وأبو داود (1/154) ، والنسائي (1/175) ، والترمذي (2/83) ، وابن ماجه (1/291 - 292) ، والطحاوي (1/155) ، والدارقطني (133) ، والبيهقي (2/140) ، وأحمد (1/292) من طرق عن الليث بن سعد عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير وطاوس عنه. والزيادة الأولى: هي عند مسلم، وابن ماجه. وهي عند مسلم، {وأبي عوانة [2/228] } وغيرهما من طريق آخر عن أبي الزبير - وقد مضى [ص 867]-. والزيادة الأخرى: هي عند الجميع؛ حاشا أحمد، وكذا الطحاوي. وأما الرواية الأولى: في تنكير " السلام " في الموضعين؛ فهي عند الشافعي في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 895 " التحيات، المباركات، الصلوات، الطيبات لله (1) ، السلام (وفي رواية: سلام) (2) عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام (وفي رواية: سلام) علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، و [أشهد] أن محمداً رسول الله (وفي رواية: عبده ورسوله) ".   " الأم " (1/101) ، والنسائي، والترمذي، والدارقطني، والبيهقي، وهي رواية لأحمد. وأما الرواية الأخيرة: فهي رواية النسائي، وابن ماجه. وإسنادهما صحيح؛ إسناد مسلم. والحديث صححه الترمذي، والدارقطني. (1) قال النووي في " شرح مسلم ": " تقديره: والمباركات، والصلوات، والطيبات - كما في حديث ابن مسعود وغيره -، ولكن حذفت الواو اختصاراً، وهو جائز معروف في اللغة. ومعنى الحديث: إن التحيات وما بعدها مستحقة لله تعالى، ولا تصلح حقيقتها لغيره ". (2) قال في " المجموع " - بعد أن ذكر الروايتين (3/460) -: " واتفق أصحابنا على أن جميع هذا جائز، لكن الألف واللام أفضل؛ لكثرته في الأحاديث، وكلام الشافعي، ولزيادته؛ فيكون أحوط، ولموافقته سلام التحلل من الصلاة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 896 3- تشهد ابن عمر: عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في التشهد: " التحيات لله، [و] الصلوات، [و] الطيبات، السلام عليك أيها النبي   3- أخرجه أبو داود (1/153) ، والطحاوي (1/154) ، والدارقطني (134) ، والبيهقي (2/139) ، والضياء المقدسي في " المختارة "؛ كلهم من طريق نصر بن علي: ثني شعبة عن أبي بشر سمعت مجاهداً يحدث عن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به. وهذا إسناد صحيح - كما قال الدارقطني، وكذا الحافظ في " الفتح " (2/251) -، وهو على شرط مسلم. والزيادتان عند الدارقطني، والمقدسي، وكذا البيهقي في نسخة. ثم قال الدارقطني: " وقد تابعه على رفعه ابن أبي عدي عن شعبة، ووقفه غيرهما ". كذا قال. وخالفه البيهقي؛ حيث يقول: " ورواه ابن أبي عدي عن شعبة؛ فوقفه، إلا أنه رده إلى حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال: كنا نقولها في حياته، فلما مات؛ قلنا: السلام على النبي ورحمة الله. وكان محمد بن إسماعيل البخاري يرى رواية سيف عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود هي المحفوظة؛ دون رواية أبي بشر. والله تعالى أعلم ". قلت: يحتمل أن يكون لمجاهد روايتان: إحداهما: عن أبي معمر عن ابن مسعود. وقد مضت. والأخرى: عن عبد الله بن عمر. أقول هذا؛ لأن أبا بشر هذا: ثقة، قد أخرجا له في " الصحيحين " عن مجاهد، واسمه: جعفر بن إياس؛ فتوهيمه ليس بالهين، لا سيما وقد ثبت في " الموطأ " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 897 ورحمة الله - قال ابن عمر: زدت فيها (1) : وبركاته -، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله - قال ابن عمر: وزدت فيها (1) : وحده لا شريك له -، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".   (1/113) أن تشهد ابن عمر كان بلفظ: " السلام على النبي ". وإسناده صحيح غاية. فهو شاهد آخر لحديث ابن مسعود المتقدم. هذا، ويؤيد قول البيهقي - أن ابن أبي عدي رواه عن شعبة موقوفاً - ما في " التلخيص " (3/514) : " ورواه البزار عن نصر بن علي أيضاً، وقال: رواه غير واحد عن ابن عمر، ولا أعلم أحداً رفعه عن شعبة إلا علي بن نصر. كذا قال! وقول الدارقطني السابق يرد عليه ". قلت: قد علمت أن البيهقي موافق للبزار في هذا القول، وهو - أعني: البيهقي - متأخر عن الدارقطني، ولا بد أنه قد اطلع على كلامه، فمخالفته له يدل على أن فيه شيئاً، فلعل الدارقطني وهم في ذلك، أو أنه قد اختلفت الرواية في ذلك على ابن أبي عدي؛ رفعاً ووقفاً؛ فوقف الدارقطني على الرواية المرفوعة من حيث فاتت البزار والبيهقي، وفيه بعد. والله أعلم. (1) الظاهر أن هذه الزيادة لم يكن تلقاها ابن عمر منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مباشرة؛ فزادها، ليس اختراعاً وابتداعاً لها من عند نفسه، بل نقلاً عن غيره من الصحابة، الذين رووا التشهد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الزيادة الأولى. وأما الأخرى: فهي ثابتة في تشهد أبي موسى الآتي بعده، ويشهد لهذا الاحتمال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 898 ..............................................................................   ما رواه الإمام أحمد (2/68) قال: ثنا عَفان: ثنا أَبَان بن يزيد: ثنا قتادة: ثني عبد الله ابن بابي المكي قال: صليت إلى جنب عبد الله بن عمر، فلما قضى الصلاة؛ ضرب بيده على فخذه، فقال: ألا أعلمك تحية الصلاة كما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا؛ فتلا عليَّ هؤلاء الكلمات. يعني: قول أبي موسى الأشعري في التشهد. هكذا أخرجه أحمد. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وقد رواه الطحاوي (1/155) عن ابن مرزوق قال: ثنا عفان بن مسلم به. إلا أنه قال: فتلا هؤلاء الكلمات. مثل ما في حديث ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورواية أحمد أصح عندي من رواية ابن مرزوق. فقد رجع أمر هاتين الزيادتين إلى كونهما مرفوعتين إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابن عمر، لكنه لم يسمعهما منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مباشرة؛ بل بواسطة أبي موسى. هذا ما يقتضيه الجمع بين روايتي حديث ابن عمر. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 899 4- تشهد أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ... وإذا كان عند القعدة؛ فليكن من أول قول أحدكم: التحيات، الطيبات، الصلوات (1) لله، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا شريك له] ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، [سبع كلمات هن تحية الصلاة] ".   4- أخرجه مسلم، {وأبو عوانة [2/227] } ، وأبو داود، والنسائي، والدارمي، والطحاوي، والدارقطني، والبيهقي، وأحمد من طرق عن قتادة عن يونُس بن جُبَير عن حِطّان بن عبد الله الرَّقَاشي عنه. وهو قطعة من حديث سبق ذكره بطوله في (التأمين) . والزيادة الأولى: هي عند أبي داود، والنسائي في رواية لهما، من طريق المعتمر بن سليمان التيمي قال: سمعت أبي يحدث عن قتادة به. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وكذلك أخرجها الدارقطني، وقال: " إسناد متصل حسن ". وقول الحافظ في " الفتح " (2/251) : " ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم ". وَهَمٌ. وأما الزيادة الأخرى: فهي عند ابن ماجه (1/292) من طريق ابن أبي عدي: ثنا سعيد بن أبي عَرُوبة وهشام بن عبد الله عن قتادة به. وهي عند النسائي أيضاً من طريق خالد قال: ثنا سعيد عن قتادة به. وهذا سند صحيح أيضاً على شرط مسلم. (1) وفي لفظ: " الزاكيات ".. بدل: " الصلوات ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 900 5- تشهد عمر بن الخطاب: كان رضي الله عنه يعلِّم الناس التشهد وهو على المنبر؛ يقول: " قولوا: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات [لله] ، السلام عليك ... (والباقي مثل تشهد ابن مسعود) ".   أخرجه البيهقي (2/140 - 141 و 377) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. وقد رواه مسلم بهذا السند، لكنه لم يسق لفظه. وأخشى أن تكون هذه الرواية وهماً؛ لأنه تفرد بها معمر دون أصحاب قتادة. ومعمر وإن كان أحد الثقات الأعلام؛ فإن له أوهاماً معروفة - كما قال الذهبي -؛ احتملت له في سعة ما أتقن. 5- أخرجه الإمام مالك (1/113) ، وعنه الإمام محمد (107) . والطحاوي (1/154) ، والبيهقي (2/144) عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري: أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر، يعلم الناس ... إلخ. وهذا سند صحيح - كما قال الزيلعي (1/422) -، ورجاله رجال الستة. والزيادة للبيهقي. ثم أخرجه من طريق معمر عن الزهري به دونها. قال معمر: كأن الزهري يأخذ به، ويقول: علَّمه الناسَ على المنبر، وأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوافرون لا ينكرونه. قال معمر: وأنا آخذ به. ثم رواه مالك وغيره عن عائشة بنحوه؛ موقوفاً بتقديم وتأخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 901 6- {تشهد عائشة: قال القاسم بن محمد: كانت عائشة تعلِّمنا التشهد، وتشيرُ بيدها تقول: " التحيات، الطيبات، الصلوات، الزاكيات لله، السلام على النبي ... " إلى آخر تشهد ابن مسعود} .   فإن قيل: هذا موقوف. فكيف أخرجته في كتابك، وقد اشترطت فيه ألا تذكر فيه إلا المرفوع؟! فالجواب أني إنما أوردته لأمرين: الأول - وهو الأقوى -: أن حكمه الرفع؛ كما قال ابن عبد البر؛ قال: " لأنه من المعلوم أنه لا يقال بالرأي، ولو كان رأياً؛ لم يكن هذا القول من الذكر أولى من غيره من سائر الذكر ". والآخر: هو أنه قد أخذ به أحد الأئمة الأربعة واختاره؛ وهو الإمام مالك رحمه الله، فكان من اللائق إيراده. 6- {أخرجه ابن أبي شيبة (1/293) ، والسَّراج، والمخلِّص - كما تقدم [ص 885]-، والبيهقي (2/144) والسياق له} . واعلم أن للمصلي أن يختار من هذه التشهدات ما شاء منها، فكلها صحيحة ثابتة وإن كان العلماء قد اختلفوا في أفضلها - كما سبق -؛ فقد اتفقوا - أو كادوا - على أنه بأيها تشهد أجزأه؛ قال في " المجموع " (3/457) - بعد أن ساق التشهدات المذكورة؛ حاشا تشهد ابن عمر -: " فهذه الأحاديث الواردة في التشهد كلها صحيحة، وأشدها صحة باتفاق المحدثين: حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس. قال الشافعي والأصحاب: وبأيها تشهد؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 902 ..............................................................................   أجزأه؛ لكن تشهد ابن عباس أفضل ". قال: " وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد منها، وممن نقل الإجماع القاضي أبو الطيب ". قال أبو الحسنات اللكنوي في " التعليق الممجد على موطأ محمد " (109) : " ولكلٍّ وجوهٌ توجب ترجيح ما ذهب إليه، والخلاف إنما هو في الأفضلية، كما صرح به جماعة من أصحابنا، ويشير إليه كلام محمد هاهنا (وهو قوله: التشهد الذي ذكر كله حسن، وليس يشبه تشهد ابن مسعود) ، فما اختاره صاحب " البحر " من تعيين تشهد ابن مسعود وجوباً، وكون غيره مكروهاً تحريماً؛ مخالف للدراية والرواية؛ فلا يعول عليه ". { [تنبيه] : ليس في كل الصيغ المتقدمة زيادة: " ومغفرته ". فلا يعتد بها، ولذلك أنكرها بعض السلف: فروى الطبراني (3/56/1) بسند صحيح عن طلحة بن مصَرِّف قال: زاد ربيع بن خُثَيْم في التشهد [بعد] وبركاته: " ومغفرته "! فقال علقمة: نقف حيث عُلِّمنا: السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته. وعلقمة تلقى هذا الاتباع من أستاذه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ فقد روي عنه. أنه كان يعلم رجلاً التشهد، فلما وصل إلى قوله: " أشهد أن لا إله إلا الله "؛ قال الرجل: وحده لا شريك له. فقال عبد الله: هو كذلك، ولكن ننتهي إلى ما عُلِّمنا. أخرجه الطبراني في " الأوسط " (رقم 2848 - مصورتي) بسند صحيح؛ إن كان المُسَيَّب الكاهلي سمع من ابن مسعود} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 903 الصلاةُ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَوْضِعُها، وصِيَغُها وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على نفسه في التشهد الأول وغيره (1) . وسَنَّ ذلك لأمته؛ حيث أمرهم بالصلاة عليه بعد السلام عليه (2) .   (1) [رواه] أبو عوانة في " صحيحه " (2/324) ، {والنسائي} . (2) قلت: فكما أن السلام عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرع في كل تشهد، فكذلك تشرع الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد كل تشهد، سواء في الجلوس الأول أو الآخر؛ لعموم الأدلة، وإطلاقها: فمنها: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . قال ابن القيم في كتابه القيم " جلاء الأفهام " (249) : " فدل على أنه حيث شرع التسليم عليه شرعت الصلاة عليه؛ ولهذا سأله أصحابه عن كيفية الصلاة عليه وقالوا: قد علمنا كيف نسلم عليك؛ فكيف نصلي عليك؟ فدل على أن الصلاة عليه مقرونة بالسلام عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعلوم أن المصلي يسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني: في التشهد الأول -؛ فيشرع له أن يصلي عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". ومنها: الأحاديث الكثيرة الواردة في الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي على نوعين: مقيدة بالصلاة، ومطلقة. والأولى على قسمين: منها ما هو مقيد بالتشهد، ومنها ما هو مطلق. أما القسم الأول: ففيه أربعة أحاديث: الأول: عن ابن مسعود مرفوعاً: " إذا تشهد أحدكم في الصلاة؛ فليقل: اللهم! صلِّ على محمد ... " إلى آخرها. أخرجه الحاكم (1/269) ، وعنه البيهقي (2/379) عن يحيى بن السَّبَّاق عن رجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 904 ..............................................................................   من بني الحارث عنه. وقال الحاكم: " صحيح ". ووافقه الذهبي! وهو عَجَب؛ فإن الحارثي لم يسمَّ؛ ولذلك قال الحافظ في " التلخيص " (3/504) : " رجاله ثقات، إلا هذا الرجل الحارثي؛ فينظر فيه ". الثاني: عنه أيضاً قال: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ... فذكره، وفيه: " اللهم! صل على محمد ... " إلخ. أخرجه الطبراني في " الكبير "، والدارقطني (135) من طريق محمد بن بكر البُرْساني: نا عبد الوهاب بن مجاهد: ثني مجاهد قال: ثني عبد الرحمن بن أبي ليلى أو أبو معمر عنه. وضعفه الدارقطني - وتبعه الهيثمي (2/145) - بابن مجاهد هذا؛ فقالا: " ضعيف ". الثالث: عن ابن عمر مثله. أخرجه الدارقطني (134) من طريق خارجة بن مصعب عن موسى بن عُبيدة عن عبد الله بن دينار عنه. وقال: " موسى بن عبيدة وخارجة: ضعيفان ". الرابع: عن بريدة مرفوعاً: " يا بريدة! إذا جلست في صلاتك؛ فلا تترك التشهد والصلاة عليَّ؛ فإنها زكاةُ الصلاة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 905 ..............................................................................   رواه الدارقطني أيضاً (136) عن عمرو بن شِمْر عن جابر عن عبد الله بن بريدة عنه. وقال: " عمرو بن شِمْر وجابر: ضعيفان ". وهذه الأحاديث وإن كانت أسانيدها ضعيفة؛ فمجموعها صالح للاحتجاج بها إن شاء الله تعالى؛ لا سيما وأنها مؤيدة بالقسم الثاني، وفيه ثلاثة أحاديث: الأول: عن كعب بن عجرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يقول في الصلاة: " اللهم! صل على محمد ... " إلخ. أخرجه الإمام الشافعي في " الأم " (1/102) : أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: ثني سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه. وإبراهيم بن محمد هذا: ضعيف. وقال ابن القيم (15) : " كان الشافعي يرى الاحتجاج به على عُجَرِهِ وبُجَرِهِ، وقد تكلم فيه مالك والناس ". الثاني: عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله! كيف نصلي عليك - يعني: في الصلاة -؟ قال: " قولوا: اللهم! صلِّ على محمد ... " إلخ. أخرجه الشافعي أيضاً عن شيخه هذا بإسناده عنه. لكن يشهد له: الحديث الثالث: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال: أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن عنده؛ فقال: يا رسول الله! أما السلام عليك؛ فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا - صلى الله عليك -؟ قال: فَصَمَت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حى أحببنا أن الرجل لم يسأله. فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 906 ..............................................................................   " إذا أنتم صليتم علي؛ فقولوا: اللهم! صل على محمد ... " إلخ. أخرجه أبو داود (1/155) ، والدارقطني (135) ، والبيهقي (2/146 و 378) ، وأحمد (4/119) عن محمد بن إسحاق قال: وثني - في الصلاة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا المرء المسلم صلى عليه في صلاته - محمدُ بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد ابن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري عنه. وهذا إسناد حسن متصل - كما قال الدارقطني -. وأما قول الحاكم (1/268) - بعد أن ساقه من هذا الوجه -: " صحيح على شرط مسلم ". فليس بصواب؛ وإن وافقه الذهبي؛ لأن ابن إسحاق إنما خرَّج له مسلم في المتابعات - كما سبق التنبيه عليه مراراً -. على أنه قد تكلم بعضهم في حديثه هذا؛ لأنه تفرد بقوله: إذا نحن صلينا في صلاتنا. مع أن بعض الرواة عن ابن إسحاق لم يذكرها - كما ذكر ذلك ابن القيم بما هو مبين في كتابه " الجلاء ". فراجعه (4 - 6) -. وقد روى الحديث مسلم وغيره، وليس فيه هذه الزيادة، وسيأتي ذكره قريباً إن شاء الله تعالى (*) . أما قوله: أما السلام عليك؛ فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ فهو ثابت في غير ما حديث - كما سنذكره -. وأما النوع الآخر من الأحاديث؛ فسيأتي ذكر كل منها في موضعه إن شاء الله تعالى.   (*) انظر - لزاماً - (ص 922) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 907 ..............................................................................   وقد قال العلماء - كالبيهقي، وابن كثير، والعسقلاني -: ومعنى قولهم: (هذا السلام عليك قد عَلِمْناه) : هو ما علّمهم إياه في التشهد من قولهم: (السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته) . فهو دليل واضح على مشروعية الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأول أيضاً؛ لوجود السلام عليه فيه. ويؤيد ذلك الأحاديثُ التي قبله. وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله - كما نص عليه في " الأم " (1/102 و 105) -، وهو الصحيح عند أصحابه؛ كما صرح به النووي في " المجموع " (3/460) ، ثم قال: " والصحيح أنها تُسَنُّ، وهو نص الشافعي في " الأم " و " الإملاء ". {واستظهره في " الروضة " (1/263 - طبع المكتب الإسلامي) . وهو اختيار الوزير ابن هبيرة الحنبلي في " الإفصاح "؛ كما نقله ابن رجب في " ذيل الطبقات " (1/280) وأ قره} . وقد عقد ابن القيم فصلاً خاصاً للصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأول، وذكر اختلاف العلماء في ذلك، وساق أدلة المجيزين والمستحِبين، وهي بعض الأحاديث التي أوردناها في النوع الأول؛ كحديث ابن عمر، وبريدة؛ وقال: " وهذا يعم الجلوس الأول والآخر ". ثم ذكر لهم حجة أخرى؛ وهي الآية التي مر ذكرها مع كلام ابن القيم عليها، ثم قال: " ولأنه - يعني: التشهد الأول - مكانٌ شرع فيه التشهد، والتسليم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فشرع فيه الصلاة عليه كالتشهد الأخير، ولأن التشهد الأول محل يستحب فيه ذكر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فاستحب فيه الصلاة عليه؛ لأنه أكمل لذكره ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 908 ..............................................................................   ثم ساق أدلة المانعين المخالفين، وليس فيها ما ينبغي الاشتغال بالإجابة عنه، إلا قولهم: إن التشهدَ الأولَ تخفيفُه مشروعٌ، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس فيه؛ كأنه على الرَّضْفِ. وقولهم: إنه لم يثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يفعل ذلك فيه. والجواب عن الأول: إن الحديث المذكور ضعيف لا يصح الاحتجاج به؛ لأنه من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، ولم يسمع منه - كما تقدم ذلك مراراً -. أخرجه أصحاب " السنن " - إلا ابن ماجه -، والحاكم (1/269) ، والبيهقي (2/134) ، والطيالسي (ص 44) ، وأحمد (1/386 و 410 و 428 و 436 و 460) من طرق عن سعد بن إبراهيم عنه. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". وتعقبه الذهبي بقوله: " ينظر؛ هل سمع سعد من أبي عبيدة؟ ". وهذا ليس بشيء؛ فقد صرح سعد بسماعه من أبي عبيدة في رواية الطيالسي، والترمذي، وهو يرويه عنه، وكذا صرح به في رواية لأحمد. وإنما علته الحقيقية ما أشرنا إليه آنفاً، وقد ذكرها الترمذي أيضاً حيث قال: " هذا حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ". ويتعجب منه كيف جمع بين تحسين الحديث وذكرِ علته التي تمنع الحكم عليه بالحسن، مع العلم بأنه ليس له طريق إلا هذه! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 909 ..............................................................................   وقد نقل النووي في " المجموع " (3/460) كلامه مختصراً، وتعقبه حيث قال: " قال الترمذي: هو حديث حسن. وليس كما قال؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع أباه، ولم يدركه باتفاقهم. وهو حديث منقطع ". وكذلك أعله الحافظ في " التلخيص " (3/506) ؛ قال: " وهو منقطع؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، قال شعبة عن عمرو بن مُرَّة: سألت أبا عبيدة: هل تذكر من عبد الله شيئاً؟ قال: لا. رواه مسلم وغيره ". على أن الحديث لو صح؛ لم يكن فيه دليل على ما ذكروا؛ فقد قال الشوكاني (2/242) - بعد أن ذكر الخلاف في وجوب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وساق أدلة الفريقين -: " ولكن تخصيص التشهد الأخير بها مما لم يدل عليه دليل صحيح ولا ضعيف، وجميع هذه الأدلة التي استدل بها القائلون بالوجوب لا تختص بالأخير، وغاية ما استدلوا به على تخصيص الأخير بها حديث ابن مسعود هذا، وليس فيه إلا مشروعية التخفيف، وهو يحصل بجعله أخف من مقابله - أعني: التشهد الأخير -، وأما أنه يستلزم ترك ما دل الدليل على مشروعيته فيه؛ فلا، ولا شك أن المصلي - على أحد التشهدات، وعلى أخصر ألفاظ الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قلت: كالنوعين الأخيرين) - كان مسارعاً غاية المسارعة باعتبار ما يقع من تطويل الأخير؛ بالتعوذ من الأربع، والأدعية المأمور بمطلقها ومقيدها فيه ". وأما الجواب عن قولهم: إنه لم يثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يفعل ذلك فيه؛ فهو المعارَضَةُ بأن يقال: كذلك لم يثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يفعل ذلك في التشهد الأخير؛ أفيدل ذلك على عدم المشروعية؟ كلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 910 ..............................................................................   وتوضيح ذلك: أن الأمور الشرعية تثبت إما بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بفعله، أو بتقريره، وليس من الضروري أن تجتمع هذه الأمور الثلاثة في إثبات أمر واحد اتفاقاً. وعليه؛ فهذه الأدلة التي سقناها، والتي سيأتي ذكرها - كما أنها تدل على مشروعية الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأخير؛ فكذلك - تدل على مشروعيتها في الجلوس الأول بعمومها وإطلاقها - كما تقدم -. نعم؛ لو صح ما يقيد ذلك من الأدلة؛ لأخذنا بها؛ حملاً للمطلق على المقيد، ولكنه لم يصح - كما علمت -. على أنه قد بقي علينا أن ننبه على بعض الروايات التي تصلح دليلاً على ذلك من حيث ظاهر معناها، وإن كانت لا تصلح لذلك من حيث ضعف سندها؛ وهي روايتان: الأولى: عن ابن مسعود قال: علَّمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها ... الحديث وفيه: قال: ثم إن كان في وسط الصلاة؛ نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها؛ دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو، ثم يسلم. أخرجه أحمد، وكذا ابن خزيمة - كما في " التلخيص " (3/507) -. وهو حديث ضعيف - كما سبق بيانه في (جلسة التشهد) -. والأخرى: عن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يزيد في الركعتين على التشهد. أخرجه أبو يعلى من طريق أبي الحويرث عنها. قال الهيثمي (2/142) : " والظاهر أن أبا الحويرث هذا هو خالد بن الحويرث، وهو ثقة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 911 ..............................................................................   وأقول: خالد هذا لم أر أحداً كنّاه بهذه الكنية ولا بغيرها (*) . ثم إن كان هو هذا؛ فهو مجهول، قال ابن معين: " لا أعرفه ". وقال ابن عدي: " إذا كان يحيى لا يعرفه؛ فلا يكون له شهرة، ولا يعرف ". والهيثمي إنما اعتمد في توثيقه على توثيق ابن حبان، وقد اشتهر ابن حبان بتساهله في ذلك؛ فلا يعتمد عليه، ولذلك قال الحافظ في " التقريب ": " مقبول ". أي: مجهول - كما بين ذلك في المقدمة -. والحافظ أقعد في الحديث، وأعرف بعلومه من شيخه الهيثمي. هذا؛ وأما بقية أدلة المانعين التي ذكرها ابن القيم؛ فهي إنما ترِد على الشافعية خاصة، حيث إنهم يفرقون بين التشهد الأول والتشهد الأخير في الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكماً وكمية؛ فيقولون بوجوبها في الأخير دون الأول، ويقولون بأنه لا يشرع إتمامها إلى آخرها في الأول، بل يكرهون الزيادة على: " اللهم! صل على محمد ... "، بخلاف التشهد الأخير؛ فلا تكره الزيادة على ذلك، بل تستحب. فلذلك ألزمهم مخالفوهم بالتسوية بين الصلاتين في الحكم، والكمية، والكيفية؛ وهو إلزام قوي لا مفر لهم منه؛ لأن الدليل واحد في كل من الصلاتين، فكيف يسوغ التفريق بينهما؟! ولذلك نرى أنه لا بد من الإتيان بالصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاملة في كل تشهد؛ ليكون عاملاً بالأمر على تمامه. والله تعالى هو الموفق. ثم وجدت حديثاً فيه التصريح بصلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهدين - عند أبي عوانة   (*) بل هو أبو الجوزاء - كما في " مسند أبي يعلى " (4373) -، ولعله تصحّف على الهيثمي! وانظر (ص 177 - 178) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 912 وعلمهم أنواعاً من صيغ الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) : 1- " اللهم! صلِّ على ........................................................   (2/324) ، [وهو الحديث السابق (ص 904) . وانظر " تمام المنة " (ص 224 - 225) ] . (1) اعلم أنه قد جاءت صيغ كثيرة في الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى جمعها بعض المتقدمين فبلغت ثمانياً وأربعين كيفية؛ منها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ست وثلاثون، والباقي عن الصحابة والتابعين. وقد أورد منها صديق حسن خان في " نزل الأبرار" (167 - 171) نحو ثلاثين كيفية، كلها مرفوعة إلا واحدة، ولكني أرى أنهم قد توسعوا في ذلك بما كانوا في غنى عنه؛ فقد ذكروا في أثناء ذلك روايات ضعيفة لا تصح - كما سيأتي التنبيه على بعضها إن شاء الله تعالى-، وفي الصحيح ما يغني عنها، بل استخرجوا من الرواية الواحدة عن صحابي واحد عدة صيغ وكيفيات، وليس هذا بجيد؛ فإنما نشأ ذلك من اختلاف الرواة، فكان ينبغي الأخذ بالزائد، وضمه إلى الأصل - كما هو صنيعنا في هذا الكتاب -. وسيأتي التنبيه على بعض الأمثلة في ذلك إن شاء الله تعالى. 1- هو من حديث رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يقول: ... فذكره. أخرجه الإمام أحمد (5/374) : ثنا عبد الرزاق: ثنا معمر عن ابن طاوس عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عنه. وهذا إسناد صحيح. رجاله كلهم ثقات رجال الستة. وقد أخرجه الطحاوي في " المشكل " (3/74) من طريق أحمد بن صالح قال: ثنا عبد الرزاق به. لكنه اختصره؛ فلم يقل: " كما صليت على آل إبراهيم ... ". كما أنه لم يذكر: " وبارك على محمد ... " إلخ. واتفقا على زيادة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 913 محمدٍ (1) ، وعلى أهلِ بيتِهِ (2) ، ............................................   قال ابن طاوس: وكان أبي يقول مثل ذلك. {وأخرجه الشيخان دون: " أهل بيته "} . (1) قال العلماء: معنى صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه عند ملائكته. ومعنى صلاة الملائكة عليه: الدعاء له والاستغفار. ومعنى صلاة الآدميين: الدعاء والتعظيم لأمره. وقيل: صلاة الرب: الرحمة. وقد رد هذا القول المحققون من العلماء؛ كالحافظ ابن حجر العسقلاني، وقبله ابن القيم في كتابه " الجلاء ". وقد ساق في بيان ضَعْفِ ذلك خمسة عشر وجهاً؛ أولها: أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته؛ فقال {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} . فعطف الرحمة على الصلاة؛ فاقتضى ذلك تغايُرَهما، هذا أصل العطف. وأما قولهم: و (ألفى قولها كذباً وَمَيْناً) : فهو شاذ نادر لا يحمل عليه أفصح الكلام، مع أن المين أخص من الكذب. قال: " فمعنى الصلاة: هو الثناء على الرسول، والعناية به، وإظهار شرفه وفضله وحرمته؛ كما هو المعروف عند العرب ". قال: " وإن ذُكِرت صلّى عليها وزمزما. أي: برَّك عليها ومدحها. ولا تعرف العرب قط (صلى عليه) بمعنى (رحمه) ". وقال الحافظ في " الفتح " (11/130) : " وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية: أن معنى صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه وتعظيمه. وصلاة الملائكة وغيره عليه: طلب ذلك له من الله تعالى، والمراد: طلب الزيادة؛ لا طلب أصل الصلاة ". (2) في " القاموس ": " أهل الرجل: هم عشيرته، وذوو قرباه ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 914 وعلى أزواجِه (1) ، ..........................................................   قلت: وفي الصيغ الأخرى ذكر الآل. والمعنى واحد؛ فإن أصل الآل: أهل. أُبدلت الهاء همزة؛ فصارت: (أَأْل) . ثم سهلت على قياس أمثالها؛ فقيل: (آل) . ولا يستعمل إلا فيما فيه شرف غالباً؛ فلا يقال: آل الإسكاف، كما يقال: أهله. كما في " القاموس " أيضاً. وقد ذكر ابن القيم في " الجلاء " (ص 133 - 135) قولين في أصل الآل؛ هذا أحدهما، وضعفه من وجوه ذكرها. والقول الثاني: أن أصله: أول. وذكره صاحب " الصحاح " في باب الهمزة والواو واللام. قال: " وآل الرجل: أهله وعياله. وآله أيضاً: أتباعه. وهو عند هؤلاء مشتق من آل يؤول؛ إذا رجع. فآلُ الرجل: هم الذين يرجعون إليه، ويضافون إليه، ويؤولهم: أي: يسوسهم؛ فيكون مآلهم إليه. ومنه: الإيالة؛ وهي السياسة. فآل الرجل: هم الذين يسوسهم ويؤولهم، ونفسه أحق بذلك من غيره؛ فهو أحق بالدخول في آلهِ، ولكن لا يقال: إنه مختص بآله؛ بل هو داخل فيهم ". ونحوه في " الفتاوى " لابن تيمية (1/163) . وقد اختلفوا في المراد بآل محمد على أربعة أقوال؛ أصحها: أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة. على اختلاف بين العلماء في تعيينهم. وقد بسط الكلام على ذلك في " الجلاء " (138 - 150) . (1) جمع (زوج) . وقد يقال: جمع (زوجة) . والأول أفصح، وبها جاء القرآن؛ قال تعالى لآدم: {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} . وأزواجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللاتي دخل بهن إحدى عشرة: 1- خديجة بنت خويلد. ماتت سنة ثلاث قبل الهجرة. 2- زينب بنت خزيمة الهلالية. ماتت سنة أربع بعد الهجرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 915 وذُرِّيَّتِه (1) ؛ .....................................................................   3- زينب بنت جحش (سنة 20) . 4- حفصة بنت عمر بن الخطاب (سنة 27) . 5- رملة: أم حبيبة بنت أبي سفيان (سنة 44) . 6- جويرية بنت الحارث المُصْطَلِقِيّة (سنة 50) . 7- ميمونة بنت الحارث الهلالية (سنة 51) . 8- صفية بنت حُيَي (سنة 52) . 9- سودة بنت زَمْعَة (سنة 54) . 10- عائشة بنت أبي بكر (سنة 58) . 11- هند: أم سلمة بنت أبي أمية القرشية المخزومية (سنة 62) . فهي آخر نسائه موتاً. وقد توفي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تسع منهن اتفاقاً، وهن مَن ذُكرن؛ غير خديجة وزينب بنت خزيمة. ومن شاء الاطلاع على تراجمهن وشيء من خصوصياتهن؛ فليراجع " الجلاء " (154 - 172) . (1) بضم المعجمة؛ من (ذرأ الله الخلق) . أي: نشرهم وأظهرهم. إلا أن الهمزة سُهِّلَت لكثرة الاستعمال. هذا هو الأصح في اشتقاقها - كما في " الجلاء " (172 - 173) - وهي الأولاد وأولادهم. وهل يدخل فيها أولاد البنات؟ فيه خلاف بين الشافعي وأبي حنيفة؛ فأثبت ذلك الأول، ونفاه الآخر، وتوسط أحمد في رواية؛ فقال: " كل من انقطع نسبه من جهة الأب إما بلِعانٍ أو غيره؛ قامت أمه في النسب مقام أبيه وأمه ". قال ابن القيم (177) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 916 كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، إنك حميدٌ (1) مجيدٌ. وبارِكْ (2) على محمدٍ، وعلى أهلِ بيتِه، وعلى أزواجِه، وذريّتِه؛ كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيدٌ ". {وهذا كان يدعو به هو نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} .   " وهو مقتضى النصوص وقولِ ابن مسعود وغيره. والقياس يشهد له بالصحة ". ثم بين وجه ذلك. فراجعه. هذا، والمراد بالذرية هنا أولاد فاطمة ونسلها اتفاقاً؛ فلا يَرِدُ الخلاف المذكور فيه. (1) هو فعيل، من (الحمد) بمعنى: محمود، وأبلغ منه. وهو من حصلت له من صفات الحمد أكملها. وأما (المجيد) : فهو من (المجد) ، وهو صفةُ مَن كَمُلَ في الشرف. وهو مستلزم للعظمة والجلال، كما إن الحمد يدل على صفة الإكرام. ومناسبة ختم هذا الدعاء بهذين الاسمين العظيمين: أن المطلوبَ تكريمُ الله لنبيه، وثناؤه عليه، وزيادة تقريبه، وذلك مما يلزم طلب الحمد والمجد؛ ففي ذلك إشارة إلى أنهما كالتعليل للمطلوب، أو هو كالتذييل له. والمعنى: أنك فاعل ما تستوجب به الحمد والمجد من النعم المترادفة، كريم بكثرة الإحسان إلى جميع عبادك. كذا في " الفتح " (11/136) . (2) من (البركة) ؛ وهي: النماء والزيادة. والتبريك: الدعاء بذلك، ويقال: باركه الله، وبارك فيه، وبارك عليه، وبارك له. فهذا الدعاء يتضمن إعطاءه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامته، وثبوته له، ومضاعفته له، وزيادته. هذا حقيقة البركة. وقد فَصَّلَ ذلك ابن القيم في " الجلاء " (205 - 215) . فليراجعه من شاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 917 2- " اللهم! صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ؛ كما صليتَ على [إبراهيمَ، وعلى] آلِ إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيدٌ. اللهم! بارك على محمدٍ، وعلى آلِ محمدٍ؛ كما باركتَ على [إبراهيمَ، وعلى] آلِ إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيدٌ ".   2- هو من حديث كعب بن عُجْرة. يرويه عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عُجْرة، فقال: ألا أهدي لك هدية؟ إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج علينا؛ فقلنا: يارسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك؛ فكيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا: ... " فذكره. أخرجه البخاري (8/432 و 11/127) ، ومسلم (2/16) ، وأبو داود (1/154 - 155) ، والنسائي (1/190) {وفي " عمل اليوم والليلة " (162/54) } ، والترمذي (2/352 - 353) ، والدارمي (1/309) ، وابن ماجه (1/293) ، والطحاوي في " المشكل " (3/72) ، والبيهقي (2/147) ، والطيالسي (142) ، و {ابن منده في " التوحيد " (68/2) -[140/323] } ، وأحمد (2/241 و 243) ، والطبراني في " الصغير " (193) ؛ كلهم من طرق عن الحكم بن عُتَيبة عنه. وقد تابعه عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وفيه الزيادتان. أخرجه البخاري (6/317) ، والطحاوي (3/73) ، والبيهقي (2/148) . وتابعه أيضاً يزيد بن أبي زياد (*) . أخرجه أحمد (4/244) ، ولفظه:   (*) [والزبير بن عدي: عند {ابن منده وقال: " هذا حديث مجمع على صحته "} ] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 918 ..............................................................................   لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ؛ قالوا: كيف نصلي عليك يا نبي الله؟! قال: " قولوا: ... " فذكره بتمامه بالزيادتين. وهذا إسناد جيد (1) . وقد ثبتتا عند النسائي في رواية عن الحكم أيضاً. وأخرجه الطحاوي من طريق سفيان عن إلأعمش عن الحكم به. مثل رواية يزيد بن أبي زياد في النزول، ولكن ليس فيه: " وعلى آل إبراهيم ". وهي رواية لأبي داود وغيره. ورواه سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن عبد الرحمن به نحواً من هذا. كذا أخرجه الطحاوي. فقد تبين أن هاتين الزيادتين ثابتتان صحيحتان. فقول ابن القيم في " الجلاء " (198) - تبعاً لشيخه ابن تيمية في " الفتاوى " (1/160) -: " ولم يجئ حديث صحيح فيه لفظ: (إبراهيم وآل إبراهيم) معاً ". غير صحيح، وهو ذهول عجيب - لا سيما من مثل ابن تيمية الحافظ - عن كون ذلك ثابتاً في البخاري؛ فضلاً عن " المسند " (2) .   (1) وكذا رواه {الحميدي (138/1) = [2/310] } ، وابن السني في " اليوم والليلة " (33) ، لكن ليس فيه ذكر نزول الآية. (2) {فها قد جئناك به صحيحاً، وهذا في الحقيقة من فوائد هذا الكتاب، ودقة تتبعه للروايات والألفاظ والجمع بينها، وهو - أعني: التتبع المذكور - شيء لم نُسْبق إليه. والفضل لله تعالى، وله الشكر والمنة} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 919 3- " اللهم! صلِّ على محمدٍ، وعلى آلِ محمدٍ؛ كما صليتَ على إبراهيمَ، [وآلِ إبراهيمَ] ، إنك حميدٌ مجيد. وبارك على محمدٍ، وعلى آلِ محمدٍ؛ كما باركتَ على [إبراهيمَ، و] آلِ إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيد ".   وقد جاءت هذه الزيادة أيضاً من حديث طلحة بن عبيد الله - وهو الآتي بعده -، ومن حديث أبي هريرة - وهو النوع السابع -. ومن الغريب أن ابن القيم قد أورده في كتابه (14 - 15) بهذه الزيادة، وقال: " صحيح على شرط الشيخين ". فلا أدري كيف جاز له أن يقول بعد ذلك: " ولم يجئ حديث صحيح فيه اللفظان "! فلعله نسي ما قدم بين يديه. وجاءت الزيادة أيضاً في رواية للبخاري من حديث أبي سعيد الخدري - وهو النوع الخامس -. 3- هو من حديث طلحة بن عبيد الله قال: قلت: يا رسول الله! كيفَ الصلاةُ عليك؟ . قال: " قل: ... " فذكره. أخرجه أحمد (1/162) : ثنا محمد بن بشر: ثنا مُجَمِّع بن يحيى الأنصاري: ثنا عثمان بن مَوْهَب عن موسى بن طلحة عن أبيه. وكذلك أخرجه النسائي (1/190) قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، {وأبو يعلى في " مسنده " (ق 44/2 = [1/282/648) عن أبي بكر بن أبي شيبة؛ كلاهما قالا] } : أنبأنا محمد بن بِشْر به. وفيه الزيادتان. وأخرجه الطحاوي (3/71) قال: ثنا فهد بن سليمان العبدي عن مُجَمِّع بن يحيى به، دون قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 920 ..............................................................................   " وبارك على محمد ... " إلخ. والحديث صحيح على شرط مسلم. ثم أخرجه النسائي من طريق شريك عن عثمان بن مَوْهَب به دون قوله: " وآل إبراهيم ". في الموضعين. وشريك: في حفظه ضعف. ومجمع بن يحيى: أوثق منه وأحفظ؛ فروايته أصح. وقد وجدت للحديث شاهداً من حديث زيد بن خارجة أخي بني الحارث بن الخزرج قال: قلنا: ... الحديث. أخرجه الطحاوي [في " مشكل الآثار "] (3/73) عن يحيى بن المغيرة قال: ثنا يحيى بن مروان بن معاوية (*) عن خالد بن سلمة عن موسى بن طلحة عنه. ورجاله كلهم ثقات؛ غير يحيى بن مروان هذا؛ فلم أعرفه. وروى منه النسائي (1/190) لفظَ: " صلوا عليَّ، واجتهدوا في الدعاء، وقولوا: اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد ". ورواه أحمد (1/199) ، إلا أنه قال. " ثم قولوا: اللهم! بارك ... " إلخ دون قول: " وآل إبراهيم ". روياه من طريق أخرى عن خالد بإسناد صحيح على شرط مسلم. وهي رواية للطحاوي (3/71) .   (*) هذا إسناد محرّف، وهو على الصواب في " مشكل الآثار " (2237 - الطبعة المحققة) ؛ فلينظر هناك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 921 4- (اللهم! صلِّ على محمدٍ 1 [النبيِّ الأميِّ] (*) ، وعلى آل محمدٍ؛ كما صليتَ على 2 [آلِ] إبراهيمَ. وباركْ على محمدٍ 3 [النبي الأميّ] (*) ، وعلى آل محمدٍ؛ كما باركتَ على 4 [آلِ] إبراهيمَ، في العالمين إنك حميدٌ مجيد ".   (*) الزيادتان من " صفة الصلاة " المطبوع، وانظر التعليق في الصفحة التالية. 4- هو من حديث أبي مسعود الأنصاري عقبة بن عمرو قال: أتانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله! فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تمنينا أنه لم يسأله. ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قولوا: ... " فذكره. أخرجه مالك (1/179) ، وعنه مسلم (2/16) ، وأبو داود (1/155) ، والنسائي (1/189) ، والترمذي (2/212 - طبع بولاق) وصححه، والدارمي (1/310) ، والطحاوي (3/71) ، والبيهقي (2/146) ، وأحمد (4/118) ، {وأبو عوانة [2/211] } - كلهم من طريق مالك - عن نُعيم بن عبد الله المُجْمِر أن محمد بن عبد الله بن زيد أخبره عنه. والزيادتان 2 و 4 عند مسلم، والنسائي. والأخرى منهما عند مالك، والترمذي، والدارمي. وللحديث طريق أخرى مختصراً، وفيها الزيادتان. أخرجه النسائي (1/190) عن عبد الرحمن بن بشر عن أبي مسعود الأنصاري قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمرنا أن نصلي عليك ونسلم، فأما السلام؛ فقد عرفناه؛ فكيف نصلي عليك؟ قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 922 ..............................................................................   " قولوا: اللهم! صل على محمد؛ كما صليت على آل إبراهيم. اللهم! بارك على محمد؛ كما باركت على آل إبراهيم ". وإسناده صحيح على شرط مسلم. والحديث رواه محمد بن إسحاق قال: وثني - في الصلاة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا المرء المسلم صلى عليه في صلاته - محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد به نحوه بلفظ: فقال: " إذا أنتم صليتم عليَّ؛ فقولوا: اللهم! صل على محمد النبي الأمي (*) ، وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم. وبارك على محمد النبي الأمي (*) ؛ كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ". أخرجه أبو داود، والدارقطني (135) ، والحاكم (1/268) ، والبيهقي (2/146 و378) ، وأحمد (4/119) ، {وابن أبي شيبة في " المصنف " (2/132/1) = [2/248/8635] } . وقال الدارقطني: " إسناد حسن متصل ". وأما قول الحاكم والذهبي: " صحيح على شرط مسلم ". فغير صحيح - كما سبق بيانه مراراً -. وفي هذا الحديث زيادات لا توجد في الروايات المتقدمة، ولولا تفرد ابن إسحاق بها؛ لأدرجناها في متن الحديث في الأصل (*) . والله أعلم.   (*) ثم وجدنا الشيخ رحمه الله أدرج الزيادة المذكورة في المتن - كما وجدناه فعل في " الصفة " المطبوع -، وحسَّن حديث ابن إسحاق هذا في " صحيح أبي داود " (4/137/902) ، ولعله وجد أن تفرد ابن إسحاق بالزيادة لا يضر؛ لأنها ليس فيها مخالفة للثقات. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 923 5- " اللهم! صلِّ على محمدٍ عبدِك ورسولِك؛ كما صليت على 1 [آل] إبراهيمَ. وباركْ على محمدٍ 2 [عبدِك ورسولِك] ، 3 [وعلى آلِ محمدٍ] ؛ كما باركتَ على إبراهيمَ، 4 [وعلى آلِ إبراهيمَ] ".   5- هو من حديث أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله! هذا السلام عليك قد علمناه؛ فكيف الصلاة عليك؟ قال: " قولوا: ... " فذكره. أخرجه البخاري (8/432 - 433 و 11/138) ، والنسائي (1/190 - 191) ، وعنه ابن السني (124) ، وابن ماجه (1/292 - 293) ، والطحاوي (3/73) ، والبيهقي (2/147) ، وأحمد (3/47) ، {وإسماعيل القاضي في " فضل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (ص 28 - الطبعة الأولى وص 62 الطبعة الثانية / طبع المكتب الإسلامي - بتحقيقي) } من طرق عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن عبد الله بن خباب عنه. والزيادة الأولى: للبخاري في رواية. والثانية: عند الطحاوي، وكذا البيهقي في نسخة. وذكر الباقون بدلاً عنها الزيادة الثالثة. والزيادة الرابعة: تفرد بها البخاري، وأحمد، {وإسماعيل القاضي} دونهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 924 6- " اللهمَّ! صلِّ على محمدٍ، و 1 [على] (*) أزواجِهِ، وذرّيّتِه؛ كما صليتَ على 2 [آلِ] إبراهيمَ. وباركْ على محمدٍ، و 3 [على] (*) أزواجِهِ، وذرّيّتِه؛ كما باركتَ على 4 [آلِ] إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيد " (1) .   (*) الزيادتان من " صفة الصلاة " المطبوع. 6- هو من حديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله! كيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا: ... " فذكره. أخرجه مالك (1/179) ، وعنه البخاري (6/317 و 11/143) ، ومسلم (2/16 - 17) ، وأبو داود (1/155) ، والنسائي (1/191) {وفي " عمل اليوم والليلة " (164/59) } ، وابن ماجه (1/293) ، والطحاوي (3/74) ، وابن السني (124) ، والبيهقي (2/150) ، وأحمد (5/424) - كلهم عن مالك - عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه عن عمرو بن سُليم الزُّرَقي؛ أنه قال: أخبرني أبو حميد الساعدي به. وليس عند ابن ماجه، والطحاوي، وابن السني الزيادتان 2 و 4، كما أن هذا الأخير ليس عنده إلا التبريك عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون الصلاة؛ فلا أدري أهكذا الرواية عنده، أم سقط ذلك من نسختنا من كتابه! (1) قال الحافظ: " واستدل بهذا الحديث (*) على أن الصلاة على الآل لا تجب؛ لسقوطها في هذا الحديث. وهو ضعيف؛ لأنه لا يخلو أن يكون المراد بالآل غير أزواجه وذريته، أو أزواجه وذريته. وعلى تقدير كل منهما لا ينهض الاستدلال على عدم الوجوب:   (*) برواية ابن ماجه، والطحاوي؛ أي: بدون لفظة " آل ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 925 7- " اللهمَّ! صلِّ على محمدٍ، وعلى آلِ محمدٍ، وباركْ على محمدٍ، وعلى آلِ محمدٍ؛ كما صليتَ وباركتَ على إبراهيمَ، وآلِ إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيد ".   أما على الأول؛ فلثبوت الأمر بذلك في غير هذا الحديث، وليس في هذا الحديث المنع منه؛ بل أخرج عبد الرزاق من طريق ابن طاوس عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن رجل من الصحابة الحديث المذكور بلفظ: " صل على محمد، وأهل بيته، وأزواجه، وذريته ". وأما على الثاني؛ فواضح. واستدل به البيهقي على أن الأزواج من أهل البيت، وأيده بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} ". قلت: استدلال البيهقي صحيح - كما بين ذلك ابن القيم في " الجلاء " (144) -. وأما قول الحافظ: إن الحديث لا يدل على المنع من ذكر الآل. فصواب أيضاً، لكن ليس هذا هو موضع النزاع؛ بل هو: هل يجب ذكره أم لا؟ فعلى أساس أن الآل هم غير أزواجه وذريته؛ فالحديث صالح للاحتجاج على عدم وجوب ذكر الآل، ووروده في أكثر الأحاديث يدل على الاستحباب، ويدل على أن ذلك ليس بواجب النوعُ الخامسُ (*) ؛ فإنه لم يذكر فيه الآل ولا الأزواج والذرية؛ فلعل ذلك مِسَاك من ذهب إلى جواز الاقتصار على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون آله - كالشافعية -، لكن دعواهم أعم مما يفيده الحديث؛ فإنهم يقولون: " لو قال: اللهم! صل على محمد؛ أجزأه "! وهذا القدر لم يرد مطلقاً في صفة من صفات الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي علمها إيانا؛ فدعواهم على هذا الوجه لا دليل عليها. فاعلم ذلك. 7- هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله! كيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا: ... " فذكره. وفي آخره:   (*) يعني: رواية الطحاوي، والبيهقي - في نسخة -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 926 ..............................................................................   " والسلام كما علمتم ". أخرجه الطحاوي (3/75) : ثنا صالح بن عبد الرحمن وفهد قالا: ثنا القعنبي قال: ثنا داود بن قيس عن نُعيم بن عبد الله المُجْمِر عنه، وثنا أحمد بن شعيب {النسائي -[وهو عنده في " العمل "] (159/47) -} قال: ثنا حاجِب بن سليمان قال: ثنا ابن أبي فُدَيك قال: ثنا داود بن قيس به. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وقد رواه محمد بن إسحاق السراج عن القعنبي - واسمه: عبد الله بن مسلمة بن قعنب -؛ فقال: أخبرني أبو يحيى وأحمد بن محمد البِرْتي قالا: أنبأنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب به. رواه عبد الوهاب بن منده عن الخفاف عنه. ونقلت هذا عن " الجلاء " (14 - 15) . ثم قال: " وهذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين ". قلت: والصواب ما سبق؛ فإن داود بن قيس إنما أخرج له البخاري تعليقاً، وهو ثقة اتفاقاً. والحديث حجة على ابن القيم؛ فإن فيه الجمعَ بين إبراهيم وآل إبراهيم، وهو ما أنكر ثبوته ابن القيم تبعاً لشيخه، وقد رددنا عليه موسعاً فيما سلف، وإنما أحببنا الإشارة إلى ذلك هنا. هذا، وقد روي الحديث من طريق أخرى عن المُجْمِر. أخرجه أبو داود (1/155) ، ومن طريقه البيهقي (2/151) عن حِبّان بن يَسَار الكِلابي: ثني أبو مُطَرِّف عبيد الله بن طلحة بن عبيد الله بن كُرَيز: ثني محمد بن علي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 927 ..............................................................................   الهاشمي عنه مرفوعاً بلفظ: " من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت؛ فليقل: اللهم! صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته؛ كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ". فهذا إسناد ضعيف؛ فإن حِبّان بن يَسَار هذا: صدوق اختلط. وشيخه عبيد الله بن طلحة: مقبول. يعني: مجهول. ومحمد بن علي الهاشمي: كأنه أبو جعفر الباقر، أو آخر مجهول. كذا في " التقريب ". وله علة أخرى؛ وهي الاضطراب في سنده. فقد أخرجه أبو داود هكذا. وأخرجه النسائي من طريق عمر بن عاصم: ثنا حبان ابن يسار الكلابي عن عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي عن محمد بن علي عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ... فذكره. قال ابن القيم (14) : " وعبد الرحمن هذا: مجهول، لا يعرف في غير هذا الحديث ". وقال السخاوي في " القول البديع " - كما في " الحرز المنيع " (ص 19) -: " رواه ابن عدي في " الكامل "، وابن عبد البر، والنسائي في " مسند علي "، وفي سنده راوٍ مجهول، وآخر اختلط في آخر عمره ". وسواء كان الحديث من رواية أبي هريرة - كما جنح إليه ابن القيم، وكذا الحافظ في " الفتح " (11/131) -، أو من حديث علي رضي الله عنه؛ فهو ضعيف لا يصح؛ لضعف بعض رواته، وجهالة آخر. فسكوت الحافظ عليه، وكذا ابن تيمية في " الفتاوى " (1/163) ليس مما ينبغي السكوت عليه. وأغرب من ذلك أن صديق حسن خان عزا الحديث في " النزل " (167) إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 928 ..............................................................................   " مسلم "! وهو وهم واضح (*) . ولأبي هريرة حديث آخر لا يصح أيضاً، نورده لأجل التنبيه عليه؛ وهو: ما أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (93) عن إسحاق بن سليمان عن سعيد بن عبد الرحمن مولى سعيد بن العاص قال: ثنا حنظلة بن علي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من قال: اللهم! صل على محمد ... " الحديث مثل حديث كعب بن عُجْرة رقم (2) ؛ دون قوله: " إنك حميد مجيد " في الموضعين، وزاد: " وترحم على محمد، وعلى آل محمد؛ كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ شهدت له يوم القيامة بالشهادة، وشفعت له ". ورجاله رجال مسلم؛ غير سعيد بن عبد الرحمن هذا؛ فلم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه سوى شيخه إسحاق هذا؛ فهو في عداد المجهولين؛ كما يفيده قول الحافظ في " التقريب ": " مقبول ". بل قد صرح بما قلنا في " الفتح " (11/133) ؛ فقال - بعد أن عزاه للطبري في " تهذيبه " -: " ورجال سنده رجال " الصحيح "، إلا سعيد بن سليمان - مولى سعيد بن العاص الراوي له عن حنظلة بن علي -؛ فإنه مجهول ".   (*) وعزا الحديثَ الشيخُ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لأبي سعيد بن الأعرابي في " المعجم " (79/2) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 929 ..............................................................................   قلت: كذا في نسختنا من " الفتح ": (سعيد بن سليمان) ، ولعله تحريف من الناسخ أو الطابع. ومما ذكرناه تعلم أن قول السخاوي في " الحرز المنيع " (17) : " حديث حسن، ورجاله رجال " الصحيح " ". ليس بحسن، ولا كل رجاله رجال " الصحيح "؛ فتنبه، ولا تغتر به. ولهذا قال أبو بكر بن العربي في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي " (2/271) : " حذارِ حذارِ من أن يلتفت أحد إلى ما ذكره ابن أبي زيد؛ فيزيد في الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام: وارحم محمداً. فإنها قريب من بدعة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم الصلاة بالوحي؛ فالزيادة فيها استقصار له، واستدراك عليه، ولا يجوز أن يزاد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرف، بل إنه يجوز أن يترحم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل وقت ". وتعقبه بعضهم بحديث أبي هريرة هذا، وقد علمت أنه ضعيف؛ فلا يجوز الاحتجاج به، لا سيما في مخالفة أصل متفق عليه، وهو ما أفاده قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد ". متفق عليه. ومنه تعلم حكم زيادة لفظة: (سيدنا) في هذه الصلوات - كما عليه كثير من الناس من الشافعية وغيرهم -. وقد اختلف العلماء في ذلك - كما سيأتي بيانه في الفوائد الآتية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 930 ..............................................................................   فَوائدُ مهمَّة في الصَّلاةِ على نبيِّ الأُمَّة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه فوائد تتعلق بالصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعمدت ذكرها؛ لغفلة أكثر الناس عنها: الفائدة الأولى : اشتهر السؤال بين العلماء عن وجه التشبيه في قوله: " كما صليت ... " إلخ، مع أن المقرر أن المشبَّه دون المشبه به. والواقع هنا عكسه؛ إذ إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده أفضل من آل إبراهيم بما فيهم إبراهيم نفسه، ولا سيما وقد أضيف إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آل محمد، وقضية كونه أفضل أن تكون الصلاة المطلوبة أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل. وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة كثيرة أوردها ابن القيم في " الجلاء " (186 - 198) ، ثم الحافظ في " الفتح " (11/134 - 136) . وقد بلغت نحو عشرة أقوال، بعضها أشد ضعفاً من بعض، إلا قولاً واحداً؛ فإنه أقواها وأصحها، وقد استحسنه ابن القيم؛ تبعاً لشيخه في " الفتاوى " (1/165) ، وهو قول من قال: إن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طُلب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولآله من الصلاة عليه مثل ما لإبراهيم وآله، وفيهم الأنبياء؛ حصل لآل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم إبراهيم لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيحصل له من المزية ما لا يحصل لغيره. قال ابن القيم (197) : " وهذا أحسن من كل ما تقدم، وأحسن منه أن يقال: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم؛ كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} [3: 33] . قال ابن عباس رضي الله عنه: محمد من آل إبراهيم. وهذا نص؛ إذ أدخل غيره من الأنبياء - الذين هم من ذرية إبراهيم - في آله؛ فدخول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى. فيكون قولنا: " كما صليت على آل إبراهيم ". متناولاً للصلاة عليه، وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، ثم قد أمرنا الله أن نصلي عليه وعلى آله خصوصاً بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموماً، وهو فيهم، ويحصل لآله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 931 ..............................................................................   من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". قال: " ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم أكمل من الصلاة الحاصلة له دونهم؛ فيُطلب له من الصلاة هذا الأمرُ العظيم الذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعاً. ويظهر حينئذٍ فائدة التشبيه، وجريه على أصله، وأن المطلوب له من الصلاة بهذا اللفظ أعظم من المطلوب له بغيره؛ فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبَّه به - وله أوفر نصيب منه -؛ صار له من المشبَّه المطلوبِ أكثر مما لإبراهيم وغيره، وانضاف إلى ذلك مما له من المشبَّه به من الحصة التي لم تحصل لغيره. فظهر بهذا من فضله وشرفه على إبراهيم وعلى كلٍّ مِنْ آله - وفيهم النبيون - ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالةً على هذا التفضيل، وتابعةً له، وهي من موجباته ومقتضياته. فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته. اللهم! صلِّ على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد، وعلى آل محمد؛ كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ". واعلم أنه لم يرد في أكثر هذه الأنواع من صيغ الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكرُ إبراهيم نفسه مستقلاً عن آله؛ بل قال: " كما صليت على آل إبراهيم ". والسبب في ذلك ما تقدم بيانه؛ أن آل الرجل يتناوله كما يتناول غيره ممن يؤوله. قال شيخ الإسلام في " الفتاوى " (1/163) : " إذا أطلق لفظ: (آل فلان) في الكتاب والسنة؛ دخل فيه فلان، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} ، وقوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} ، وقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 932 ..............................................................................   وقوله: {سَلَامٌ عَلَى آل يَاسِينَ} (*) . ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم! صل على آل أبي أوفى ". وكذلك لفظ: (أهل البيت) ؛ كقوله: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ} . فإن إبراهيم داخل فيهم ". ثم قال: " ولهذا جاء في أكثر الألفاظ: " كما صليت على آل إبراهيم "، و: " كما باركت على آل إبراهيم ". وجاء في بعضها إبراهيم نفسه؛ لأنه هو الأصل في الصلاة والزكاة، وسائر أهل بيته إنما يحصل لهم ذلك تبعاً. وجاء في بعضها ذكر هذا وهذا؛ تنبيهاً على هذين ". الفائدة الثانيه : قد علمت مما سبق أن صيغ الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها كلها الصلاة على أهل بيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله؛ ولذلك فلا ينبغي الاكتفاء بالصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، بل لا بد من إضافة الآل إليه، بل لا بد من إتمام الصيغة من أولها إلى آخرها؛ كما وردت؛ تقيُّداً بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قولوا: اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد ... " إلخ، حين سألوه عن كيفية الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {لا فرق في ذلك بين التشهد الأول والآخر، وهو نص الإمام الشافعي في " الأم " (1/102) فقال: " والتشهد في الأولى والثانية لفظ واحد لا يختلف، ومعنى قولي: " التشهد ": التشهد والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يجزيه أحدهما عن الآخر ".   (*) هي قراءة نافع، وابن عامر، ويعقوب؛ كما في " التذكرة في القراءات " لابن غلبون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 933 ..............................................................................   وأما حديث: " كان لا يزيد في الركعتين على التشهد ". فهو حديث منكر، كما حققته في " الضعيفة " (5816) ، [وانظر (ص 911) ] } . وإن من غرائب هذا العصر أن يتجرأ بعض الناس على إنكار ما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طرق مستفيضة صحيحة؛ ألا وهو الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله معاً، مع اطلاعه ووقوفه عليها في كتب السنة {عن جمع من الصحابة؛ منهم كعب بن عجرة، وأبو حميد الساعدي، وأبو سعيد الخدري، وأبو مسعود الأنصاري، وأبو هريرة، وطلحة ابن عبيد الله، وفي أحاديثهم أنهم سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كيف نصلي عليك؟ "، فعلمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الصيغ} ، ألا وهو: الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي في كتابه " الإسلام الصحيح " (ص 177 - 189) ، وحجته في ذلك أن الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ؛ لم يُذكر فيها غيرَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدٌ. وبناء على ذلك رد الأحاديث الصحيحة كلها المخالفة لزعمه؛ فقال (ص 178 - 179) : " إن هناك من أشرك في الصلاة بالنبي غيرَه، وهناك من أوجب هذه الصلاة في كل صلاة، والحق غير شركهم، ولم يجب ما أوجبوا، وهؤلاء أئمة في الدين يقولون؛ فاستمع لما يقولون ... ". ثم ساق أقوالاً كثيرة في نفي الوجوب المشار إليه، ولكنه لم يسق ولا قولاً واحداً في تأييد ما سماه شركاً! وأنه لا يجوز ضم الآل إليه في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم. وإنما ساق بعض الأقوال الموهمة لذلك، وهي عند التحقيق حجة عليه؛ كقوله (ص 179) : " قال ابن تيمية في " منهاج السنة ": لم يأمر الله بالصلاة على معين غير النبي ". فإن هذا القول إنما ينفي أمر الله؛ أي: في كتابه، فليس ينفي أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك - وأمره من أمر الله - في سنته - كما سبق بيانه مفصلاً -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 934 ..............................................................................   وبالتالي؛ فإن هذا القول لا ينفي مشروعية الصلاة على الآل استحباباً في الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ألا ترى أن هذا القائل - أعني: ابن تيمية - قد ذهب كغيره من العلماء قبله وبعده إلى مشروعية ذكر الآل في الصلوات الإبراهيمية - كما تراه في بعض ما نقلناه من كتابه " الفتاوى " فيما تقدم -، ولو كان عندي الآن كتابه " منهاج السنة "؛ لراجعت عبارته (*) ، ولتبين لنا غير ما ذكرنا. وكون الصلاة على الآل لم تذكر في الآية لا يلزم منه عدم مشروعيتها؛ لثبوتها في السنة؛ {وذلك لأنه من المعلوم عند المسلمين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المبين لكلام رب العالمين؛ كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . فقد بين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيفية الصلاة عليه وفيها ذكر الآل، فوجب قبول ذلك منه؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ". وهو مخرج في " تخريج المشكاة " (163 و4247) . وقد جاء في كلامه شبهة له أخرى لا بد لنا من إزاحة الستار عنها؛ وهو قوله - بعد أن ساق الآية السابقة -: " فأي عربي فطن أو غبي لا يلقف ذهنه هذا الكلام سريعاً، وأن الصلاة كالسلام الذي قالوا: إنهم علموه. فكيف يسألون عن مثل ما لم يجهلوه، وهل يأمر رسول الله بغير ما أمر الله؟! ". فهو يشير بهذا الكلام إلى رد أحاديث الصلاة على الآل؛ لأن منها - كما تقدم -: (هذا السلام قد عرفناه؛ فكيف الصلاة عليك؟) . فهو يحيل الصحابة عن مثل هذا السؤال؛ لأن:   (*) انظرها فيه (4/594 و 606) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 935 ..............................................................................   " الصلاة في كلام العرب من غير الله إنما هو دعاء ". كما نقله هو في التعليق (ص 177) . فإذ الأمر كذلك؛ فهذه الأحاديث غير صحيحة! وهذه مغالطة مكشوفة، وكلام خِطَابي لا حجة فيه، وإنما {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} ؛ وذلك لأن الصلاة في اللغة، وإن كان معناها ما ذكر؛ فذلك لا ينفي أن يكون لها معنى شرعي هو غير معناها اللغوي، أو يزيد عليه، ألا ترى أن قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لا يمكن لمسلم أن يفهم معناه اللغوي؛ أي: الدعاء. فالصحابة رضي الله عنهم حين سألوا بقولهم: كيف الصلاة عليك؟ لم يقصدوا المعنى اللغوي المعروف عندهم الذي يلقفه ذهنهم، وإنما سألوا عن الصلاة الشرعية التي لا يمكنهم معرفتها من لغتهم، بل من طريق نبيهم؛ فأجابهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما سألوا، وأمرهم بقوله: " قولوا: اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد ... " إلخ. وكل عالم باللغة العربية - مهما كان ضليعاً فيها كهذا الذي نحن في صدد الرد عليه - لا يمكنه أن يستغني ألبتة عن بيان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للكتاب؛ فإن اللغة وحدها لا تكفي في فهمه على الجادة والصواب؛ ألم تر أن الصحابة - وهم من هم في العربية - قد احتاجوا إلى السؤال عن كيفية الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما سألوه غير ذلك؟ فقد أخرج الشيخان في " صحيحيهما "، والترمذي (2/179 - طبع بولاق) وصححه، وأحمد (1/444) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} ؛ شَقَّ ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله! وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: " ليس ذلك؛ إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ؟ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 936 ..............................................................................   فهذه القصة وغيرها دليل واضح على أنه قد يخفى على الصحابة أو بعضهم معنى بعض الآيات؛ فيسألون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيبينها لهم؛ فلا يجوز - إذن - استغراب صدور مثل هذا السؤال عنهم، وإنكار الأحاديث الصحيحة لمثل هذا الاستغراب - كما صنع النشاشيبي فيما سلف -. وكتابه هذا الذي أسماه " الإسلام الصحيح "، كل الأبحاث التي فيه توحي بأن المؤلف لا يعتد بالسنة كثيراً، وإنما العمدة عنده القرآن، والقرآن فقط؛ ولذلك تراه يقول عن نفسه فيه (ص 67) : " نحن مسلمون قرآنيون "! وقد علمنا أن من مشرب هؤلاء (القرآنيين) ردَّ الأحاديث الصحيحة لأدنى شبهة، لا في صحتها من جهة إسنادها، ولكن لمخالفتها لأهوائهم وميولهم، وقد [سار] على نسقهم في هذا الكتاب؛ فرد أحاديث كثيرة صحيحة، قسم كبير منها في " الصحيحين "، نكتفي الآن بالإشارة إلى أماكنها من الكتاب؛ فانظر: (ص 35 - 36 و 85 - 86 و 116 - 117 و 142 و 149 و 150 و 154 و 212 و 240 - 241 و 276 - 277 و 278) . {وليت شعري! ماذا يقول النشاشيبي - ومن قد يغتر ببهرج كلامه - فيمن عسى أن ينكر التشهد في الصلاة، أو أنكر على الحائض ترك الصلاة والصوم في حيضها؟! بدعوى أن الله تعالى لم يذكر التشهد في القرآن، وإنما ذكر القيام والركوع والسجود فقط! وأنه تعالى لم يسقط في القرآن الصلاة والصوم عن الحائض، فالواجب عليها القيام بذلك! فهل يوافقون هذا المُنْكِر في إنكاره؛ أم ينكرون عليه ذلك؟ فإن كان الأول - وذلك مما لا نرجوه -؛ فقد ضلوا ضلالاً بعيداً، وخرجوا عن جماعة المسلمين! وإن كان الآخر؛ فقد وُفِّقوا وأصابوا، فما ردوا به على المنكِر؛ فهو ردنا على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 937 ..............................................................................   النشاشيبي، وقد بيَّنا لك وجه ذلك. فحذار أيها المسلم! أن تحاول فهم القرآن مستقلاً عن السنة؛ فإنك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك، وهاك المثال أمامك؛ فإن النشاشيبي هذا كان من كبار علماء اللغة في القرن الحاضر، فأنت تراه قد ضلَّ حين اغترَّ بعلمه في اللغة، ولم يستعن على فهم القرآن بالسنة؛ بل إنه أنكرها كما عرفت، والأمثلة على ما نقول كثيرة جداً لا يتسع المقام لذكرها، وفيما سبق كفاية، والله الموفق} . الفائدة الثالثة : في حكم زيادة لفظة: (سيدنا) في الصلوات الإبراهيمية، أو في التشهد. {يرى القارئ أنه ليس في شيء منها لفظ: (السيادة) ، ولذلك اختلف المتأخرون في مشروعية زيادتها في الصلوات الإبراهيمية ... وأريد أن أنقل إلى القراء الكرام هنا رأي الحافظ ابن حجر العسقلاني في ذلك؛ باعتباره أحد كبار علماء الشافعية الجامعين بين الحديث والفقه؛ فقد شاع لدى متأخري الشافعية خلافُ هذا التعليم النبوي الكريم! فقال الحافظ محمد بن محمد بن محمد الغرابيلي (796 - 835) - وكان ملازماً لابن حجر، ومن خطه نقلت (1) -: وسئل (أي: الحافظ ابن حجر) أمتع الله بحياته عن صفة الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة أو خارج الصلاة، سواء قيل بوجوبها أو بندبيتها؛ هل يشترط فيها أن يصفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيادة؛ كأن يقول مثلاً: اللهم! صل على سيدنا محمد، أو على سيد الخلق، أو على سيد ولد آدم. أو يقتصر على قوله: اللهم! صل على محمد؟ وأيهما أفضل: الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو عدم الإتيان به لعدم ورود ذلك في الآثار؟   (1) وهو من محفوظات المكتبة الظاهرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 938 ..............................................................................   فأجاب رضي الله عنه: نعم؛ اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعاً منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما لم يكن يقول عند ذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلى الله عليه وسلم "، وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر! لأنا نقول: لو كان ذلك راجحاً؛ لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم قال ذلك؛ مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك. وهذا الإمام الشافعي - أعلى الله درجته، وهو من أكثر الناس تعظيماً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه: " اللهم! صلِّ على محمد ... " إلى آخر ما أداه إليه اجتهاده، وهو قوله: " كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون ". وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه: " سبحان الله عدد خلقه "؛ فقد ثبت أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأم المؤمنين - ورآها قد أكثرت التسبيح وأطالته -: " لقد قلتُ بعدكِ كلماتٍ؛ لو وُزِنَتْ بما قُلْتِ لوَزَنَتْهُن "، فذكر ذلك. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبه الجوامع من الدعاء. وقد عقد القاضي عياض باباً في صفة الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتاب " الشفا "، ونقل فيه آثاراً مرفوعة عن جماعة من الصحابة والتابعين؛ ليس في شيء منها عن أحد من الصحابة وغيرهم لفظ: (سيدنا) . منها: حديث علي: أنه كان يعلمهم كيفية الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول: اللهم! داحي المَدْحُوَّات! وباري المسموكات! اجعل سوابق صلواتك، ونوامي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 939 ..............................................................................   بركاتك، وزائد تحيتك على محمد عبدك ورسولك، الفاتح لما أُغْلِق. وعن علي أنه كان يقول: صلوات الله البر الرحيم، والملائكة المقربين، والنبيين والصدِّيقين والشهداء الصالحين، وما سبح لك من شاء يا رب العالمين! على محمد بن عبد الله خاتم النبيين وإمام المتقين ... الحديث (*) . وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول: اللهم! اجعل صلواتك، وبركاتك، ورحمتك على محمد عبدك ورسولك، إمام الخير، ورسول الرحمة ... الحديث (**) . وعن الحسن البصري أنه كان يقول: من أراد أن يشرب بالكأس الأروى من حوض المصطفى؛ فليقل: اللهم! صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأولاده وذريته وأهل بيته وأصهاره وأنصاره وأشياعه ومحبيه. فهذا ما أوثره من " الشفا "؛ مما يتعلق بهيئة الصلاة عليه عن الصحابة ومن بعدهم، وذُكِرَ فيه غيرُ ذلك. نعم؛ ورد في حديث ابن مسعود أنه كان يقول في صلاته على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم! اجعل فضائل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين ... الحديث. أخرجه ابن ماجه. ولكن إسناده ضعيف (**) .   (*) قال السخاوي في " القول البديع " (ص 70) : " لم أقف على أصله "، وذكر (ص 71) أثر الحسن البصري الآتي؛ مكتفياً بعزوه للقاضي عياض؛ فكأنه لا أصل له! (**) وكذا ضعفه الشيخ رحمه الله في " ضعيف الترغيب " (1/515) ، ورد تحسين المنذري له بقوله: " كلا؛ فإن فيه المسعودي المختلط ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 940 ..............................................................................   وحديث علي المشار إليه أولاً: أخرجه الطبراني بإسناد ليس به بأس (*) ، وفيه ألفاظ غريبة رُوِّيتُها مشروحة في كتاب " فضل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لأبي الحسن بن فارس. وقد ذكر الشافعية أن رجلاً لو حلف لَيُصَلِّيَنَّ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الصلاة؛ فطريق البر أن يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم! صلِّ على محمد كلما ذكره الذاكرون، وسها عن ذكره الغافلون. وقال النووي: والصواب الذي ينبغي الجزم به أن يقال: " اللهم! صلِّ على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم ... " الحديث. وقد تعقبه جماعة من المتأخرين؛ بأنه ليس في الكيفيتين المذكورتين ما يدل على ثبوت الأفضلية فيهما من حيث النقل، وأما من حيث المعنى؛ فالأفضلية ظاهرة في الأول. والمسألة مشهورة في كتب الفقه، والغرض منها أن كل من ذكر هذه المسألة من الفقهاء قاطبة؛ لم يقع في كلام أحد منهم: (سيدنا) ، ولو كانت هذه الزيادة مندوبة؛ ما خفيت عليهم كلهم حتى أغفلوها، والخير كله في الاتباع، والله أعلم ". قلت: وما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله من عدم مشروعية تسويده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. في الصلاة عليه اتباعاً للأمر الكريم، وهو الذي عليه الحنفية؛ - هو الذي ينبغي التمسك به؛ لأنه الدليل الصادق على حبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) . ولذلك قال الإمام النووي في " الروضة " (1/265) : " وأكمل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم! صلِّ على محمد ... " إلى آخر وفق النوع الثالث المتقدم، فلم يذكر فيه (السيادة) !} وقد أشار إلى المنع من ذلك أبو بكر بن العربي - كما سبق -. وصرح بذلك جمع، وأباحه آخرون.   (*) بل هو ضعيف؛ فيه جهالة وانقطاع؛ كما في " القول البديع " (ص 69 - 70) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 941 ..............................................................................   والذي نعتقده ونَدين الله تعالى به أن نبينا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سيدنا؛ بل هو سيد كل آدمي شاء أم أبى؛ كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع ". رواه مسلم (7/59) ، وأبو داود (2/268) ، وأحمد (2/540) من حديث أبي هريرة. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وغيره. والذي ينبغي البحث فيه هو النظر في جواز زيادة هذه اللفظة فيما شرعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته من صيغ التشهد، والصلوات الإبراهيمية؛ التي أمر بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كيفيات مختلفة، وليس في شيء منها هذه اللفظة - كما رأيت -؛ ولذلك فإنا نقطع بأن الحق مع المانعين من ذلك؛ لأننا نعتقد أن زيادة هذه اللفظة لو كانت مما يقربنا إلى الله زلفى؛ لأمرنا بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما أغفل أمرها؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله تعالى إلا وأمرتكم به ... " الحديث. رواه الطبراني بإسناد صحيح - كما في " الإبداع " -. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمُه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم ... " الحديث. رواه مسلم (6/18) ، وأحمد (2/191) من حديث ابن عمرو. وقد أورده ابن حزم في " الإحكام في أصول الأحكام " (1/90) جازماً به بلفظ: " إن حقاً على كل نبي أن يدل أمته على أحسن ما يعلمه لهم ". فإذا كان الأمر كذلك؛ فعدم أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا بتسويده في الصلاة يدل على أنه لا يجوز التقرب إلى الله تعالى بذلك، ومن فعل ذلك؛ فقد استدرك عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونسبه إلى القصور - كما قال ابن العربي فيما سبق -، ولا يخفى ما في ذلك من الكفر والضلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 942 ..............................................................................   وأيضا فإن الأذكار والأوراد توقيفية؛ لا يجوز الزيادة عليها، كما لا يجوز النقص منها، أو تغيير شيء من ألفاظها، وقد دلَّ على ذلك السنة؛ كما في " الصحيحين " من حديث البراء بن عازب قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أتيت مضجعك؛ فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل: اللهم! أسلمت وجهي إليك ... " الحديث، وفيه: " آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت ". قال البراء: فقلت أستذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت. قال: " لا، - وفي رواية الترمذي، وصححه (2/240 - طبع بولاق) ، والطحاوي في " المشكل " (2/45) قال: فطعن بيده في صدري، ثم قال: - وبنبيك الذي أرسلت ". قال الحافظ في " الفتح " (11/94) : " وأولى ما قيل في الحكمة في رده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على البراء: أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس؛ فيجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، وهذا اختيار المازري؛ قال: فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ولعله أوحي إليه بهذه الكلمات؛ فيتعين أداؤها بحرفها ". وهذه قاعدة عظيمة يجب مراعاتها في جميع الأذكار والأوراد المروية عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أن لا يزاد فيها ولا ينقص، ولا يتصرف فيها بتغييرأي لفظ؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أنكر على من غير لفظ: (النبي) بلفظ: (الرسول) ، مع أنه لم يغير شيئاً من المعنى؛ لما تقرر أن الرسول أعم من النبي، فالرسول نبيٌّ وزيادة، فإذا كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أنكر ذلك - وليس فيه إلا استبدال لفظ بلفظ -؛ فلأن ينكر على من زاد زيادة باللفظ والمعنى من باب أولى، وعليه يدل أيضاً عمل الصحابة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 943 ..............................................................................   فقد أنكر ابن عمر رضي الله عنه على رجل قال بعد أن عطس: الحمد لله، والصلاة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال له: وأنا أقول: الحمد لله، والصلاة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن ما هكذا علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه الترمذي. هذا، ونحن نعلم أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتعبدون الله تعالى بتسويده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة، وهم قطعاً أشد تعظيماً له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منا، وأكثر له حباً، ولكن الفرق بينهم وبيننا أن حبهم وتعظيمهم عملي باتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما هو نص قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . وأما حبنا؛ فلفظي شكلي. فإذا كان السلف لم يتعبدوا بذلك؛ فليس لنا أن نفعل. وقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلا تَعبدوها. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا، ولا تبتدعوا؛ فقد كُفِيْتُم، عليكم بالأمر العتيق. والأمر العتيق: هو الاقتصار على ما صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأوراد والأذكار؛ بدون أدنى زيادة، مهما كان نوعها؛ ولذلك قال الحافظ: " اتباع الآثار الواردة أرجح، ولم تنقل - يعني: لفظة السيادة - عن الصحابة والتابعين، ولم تُرو إلا في حديث ضعيف عن ابن مسعود، ولو كان مندوباً؛ لما خفي عليهم ". قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 944 ..............................................................................   " وهذا يقرب من مسألة أصولية؛ وهي: أن الأدب أحسن، أم الاتباع والامتثال؟ ورجح الثاني؛ بل قيل: إنه الأدب ". قلت: وهذا القيلُ نقله الشيخ الطحطاوي في " مراقي الفلاح " (158) عن " شرح الشفا " للشهاب. وقد ذكر السيوطي نحوه في " الحرز المنيع " (66) عن المجد اللغوي. وأنا أستغرب وقوع مثل هذا الاختلاف بين العلماء؛ فإني لا أعقل أن يكون الأدب خيراً من الامتثال؛ لأن معنى ذلك أن الامتثال ليس فيه من الأدب ما يليق به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ولا يخفى ما فيه، ولأن في هذا القول محاذيرَ كثيرة تؤدي إلى تغير الشريعة! فخذ مثلاً: الشهادة في الأذان، والإقامة، وفي التشهد في الصلاة. فإن الأفضل - على هذا القول - أن يقول المتشهد: (وأشهد أن سيدنا محمداً رسولُ الله) . وإذا كان الأدب مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى من امتثال أمره؛ فكذلك يقال أيضاً: إن الأدب مع الله تعالى أولى من امتثال أمره من باب أولى! فينبغي أن يقال مثلاً: (أشهد أن لا إله إلا الله سبحانه وتعالى) ؛ وغيرها من العبارات التي تدل على تعظيم الله تعالى وتنزيهه! وما أعتقد أن عاقلاً من علماء المسلمين يستجيز هذا التصرف، والتغيير في دين الله تعالى، وسَدُّ ذلك إنما يكون برد ذلك القول، والأخذ بمعارضه: الامتثال خير من الأدب؛ بل هو الأدب. ورحم الله ابن مسعود حيث قال: اقتصادٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من اجتهاد في بدعة. وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 945 ..............................................................................   الفائدة الرابعة : قال الحافظ في " الفتح " (11/139) : " واستُدل بتعليمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه الكيفية - بعد سؤالهم عنها - بأنها أفضل كيفيات الصلاة عليه؛ لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل، ويترتب على ذلك: لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلاة؛ فطريق البرِّ أن يأتي بذلك. هكذا صوبه النووي في " الروضة " ". ثم قال الحافظ: " والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا؛ فليقل: اللهم! صل على محمد النبي ... " إلخ ". قلت: لكن هذا الحديث ضعيف؛ لا يجوز أن يحتج به - كما بينا فيما سبق [ص 928]-؛ فالحق ما استصوبه النووي إن شاء الله تعالى؛ ولذلك قال تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي في " طبقات الشافعية " (1/96) : " سمعت أبي رحمه الله يقول: أحسن ما صُلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الكيفية، ومن أتى بها؛ فقد صلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيقين، وكان له الجزاء الوارد في حديث الصلاة بيقين، وكل من جاء بلفظ غيرها؛ فهو من إتيانه بالصلاة المطلوبة في شك؛ لأنهم قالوا: كيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا: ... " كذا. فجعل الصلاةَ عليه منهم هي قولَ كذا. قال: وإذا قالها العبد؛ فقد سأل الله تعالى أن يصلي على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما صلى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله، ثم إذا قالها عبد آخر؛ فقد طلب صلاة أخرى غير التي طلبها الداعي الأول ضرورةَ أن المطلوبَيْنِ - وإن تشابها -؛ مفترقان بافتراق الطالب، وأن الدعوتين مستجابتان؛ إذ الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة مستجابة، فلا بد أن يكون ما طلبه هذا غير ما طلبه ذاك؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 946 ..............................................................................   فالحاصل أن الله تعالى يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة مماثلة لصلاته على إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله، وكلما دعا عبد؛ فلا تنحصر الصلوات عليه من ربه التي كل منها بقدر ما حصل لإبراهيم وآله؛ إذ لا ينحصر عدد من صلى عليه بهذه الصلاة. وكان رحمه الله لا يفتر لسانه عن الإتيان بهذه الصلاة " (1) . قلت: فَلْيَعْتبِر بكلام السبكي هذا أولئك الذين يضيعون على أنفسهم هذه الأجور والفضائل بإعراضهم عن الصلوات الإبراهيمية - إلا في الصلاة -، ويتمسكون بصلوات بدعية ما أنزل الله بها من سلطان؛ كصلاة الفاتح لِمَا أُغلق، والصلاة النارية، والصلاة الطِّلَّسْمِيَّة المتضمنّة لفكرة وحدة الوجود، وصلاة ابن مشيش، وغيرها كثير. ولا يخلو أكثرها من شرك وإضلال، وقد تولى بيان ذلك الأستاذ الفاضل عبد الرحمن الوكيل في مجلة " الهدي النبوي " في أجزاء هذه السنة (67 هـ) ، تحت عنوان (طواغيت) ؛ فليراجعها من شاء التمسك بهديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن مثل هذه الأبحاث قلما كُتب مثلها. فجزى الله جامعها خير الجزاء. الفائدة الخامسة : السنة في هذه الصلوات أن يؤتى بهذه مرة، وبهذه أخرى؛ كأدعيهَ الاستفتاح، والتشهدات وغيرها، لا أن يجمع بينها في صلاة واحدة - كما ذهب إليه بعض المتأخرين -؛ فإن ذلك يستلزم الإتيان بصفة لم ترد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وذلك بدعة في الدين} . قال الأذرعي: " الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات، ويقول كل ما ثبت؛ هذا مرة، وهذا مرة. وأما التلفيق؛ فإنه يستلزم إحداث صفة في التشهد لم ترد مجموعة في حديث   (1) {ذكره الهيتمي في " الدر المنضود " (ق 25/2) ، ثم ذكر (ق 27/1) أن المقصود يحصل بكلِّ من هذه الكيفيات التي جاءت في الأحاديث الصحيحة} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 947 ..............................................................................   واحد ". قال الحافظ (11/132) : " وكأنه أخذه من كلام ابن القيم؛ فإنه قال: إن هذه الكيفية لم ترد مجموعة في طريق من الطرق، والأولى أن يستعمل كل لفظ ثبت على حدة؛ فبذلك يحصل الإتيان بجميع ما ورد، بخلاف ما إذا قال الجميعَ دفعة واحدة؛ فإن الغالب على الظن أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفعل ذلك ". قلت: وقد فصل القول في هذا في كتابه " الجلاء " (219 - 222) ، فراجعه؛ فإنه نفيس، لا تكاد تجده في كتاب. {وبيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية في بحث له في التكبير في العيدين " مجموع " (69/253/1) } . الفائدة السادسة : قال العلامة صديق حسن خان في كتابه " نزل الأبرار بالعلم المأثور من الأدعية والأذكار " - بعد أن ساق أحاديث كثيرة في فضل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإكثار منها؛ قال - (ص 161) : " لا شك في أن أكثر المسلمين صلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم أهل الحديث ورواة السنة المطهرة؛ فإن من وظائفهم في هذا العلم الشريف التصلية عليه أمام كل حديث، ولا يزال لسانهم رطباً بذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس كتاب من كتب السنة، ولا ديوان من دواوين الحديث - على اختلاف أنواعها؛ من الجوامع والمسانيد والمعاجم والأجزاء وغيرها - إلا وقد اشتمل على آلاف الأحاديث، حتى إن أخصرها حجماً كتاب " الجامع الصغير " للسيوطي، فيه عشرة آلاف حديث، وقس على ذلك سائر الصحف النبوية، فهذه العصابة الناجية والجماعة الحديثية أولى الناس برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة، وأسعدهم بشفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأبي هو وأمي -، ولا يساويهم في هذه الفضيلة أحد من الناس إلا من جاء بأفضل مما جاؤوا به، ودونه خرط القتاد، فعليك يا باغي الخير! وطالب النجاة بلا ضير! أن تكون مُحَدِّثاً، أو متطفلاً على المحدِّثين، وإلا؛ فلا تكن ... ! فليس فيما سوى ذلك من عائدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 948 {وكذلك سنَّ لهم الدعاء في هذا التشهد وغيره، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا قعدتم في كل ركعتين؛ فقولوا: التحيات لله ... ". فذكرها إلى آخرها، ثم قال: " ثم ليتخيَّر من الدعاء أعجبه إليه " (1) } .   تعود إليك ". قلت: وأنا أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني من هؤلاء المحدِّثين الذين هم أولى الناس برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعل هذا الكتاب من الأدلة على ذلك، ورحم الله الإمام أحمد؛ إمام السنة الذي أنشد: دين النبيِّ محمد أخبار ... نعم المطيَّة للفتى آثار لا ترغبن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار ولربما جهل الفتى أثر الهدى ... والشمس بازغة لها أنوار (1) {أخرجه النسائي، وأحمد، والطبراني من طرق عن ابن مسعود (*) ، وهو مخرج في " الصحيحة " (878) مع الكلام في فقهه. وله شاهد في " مجمع الزوائد " (2/142) من حديث ابن الزبير} . * * *   (*) [وانظر تخريجه مفصلاً فيما سبق ص (865) ، وسيأتي الكلام على شطره الأخير (ص 998 - 1000، 1002 - 1003) ] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 949 القيام إلى الركعة الثالثة ثم الرابعة ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض إلى الركعة الثالثة مكبراً (1) ، ...........................   (1) { [رواه] البخاري، ومسلم. [وسبق تخريجه من حديث أبي هريرة (ص 674) ] } . وأما كيف نهوضه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أهو معتمداً على يديه، أم على صدور قدميه؟ فذلك مما لم يرد فيه حديث فيما علمنا، حاشا حديث أبي هريرة: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض في الصلاة على صدور قدميه. فإنه بعمومه يشمل هذا المحل، لكنه حديث ضعيف؛ لا يصح إسناده - وقد تقدم -. ثُمَّ هو معارض في بعض أجزائه لحديث مالك بن الحويرث: كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع رأسه من السجدة الأولى والثالثة التي لا يقعد فيها؛ استوى قاعداً، ثم قام. وهو حديث صحيح - كما سبق -[ص 817] . نعم؛ صح ذلك عن ابن مسعود موقوفاً عليه؛ كما قال عبد الرحمن بن يزيد: رمقت عبد الله بن مسعود في الصلاة؛ فرأيته ينهض، ولا يجلس. قال: ينهض على صدور قدميه في الركعة الأولى والثالثة. أخرجه الطبراني في " الكبير "، والبيهقي (2/125 - 126) من طريق سفيان بن عيينة عن عبدة ابن أبي لبابة عنه. وهذا إسناد صحيح. وقد صححه البيهقي، وقد رواه من طرق أخرى عن ابن يزيد، ورواه أيضاً عن ابن عمر: أنه كان يقوم على صدور قدميه. وسنده صحيح أيضاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 950 ..............................................................................   ولكن جاء عنه خلافه بإسناد آخر؛ فقال معاذ بن نجدة: ثنا كامل بن طلحة: ثنا حماد - هو ابن سلمة - عن الأزرق بن قيس قال: رأيت ابن عمر إذا قام من الركعتين؛ اعتمد على الأرض بيده. فقلت لولده ولجلسائه: لعله يفعل هذا من الكِبَر؟ قالوا: لا، ولكن هذا (1) يكون. أخرجه البيهقي (2/135) . وهذا سند جيد. رجاله كلهم ثقات؛ غير معاذ بن نجدة؛ فقال الحافظ في " اللسان " - تبعاً لأصله " الميزان " -: " صالح الحديث، وقد تُكُلِّم فيه ". ثم قال البيهقي: " وروينا عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يعتمد على يديه إذا نهض. وكذلك كان يفعل الحسن، وغير واحد من التابعين ". قال النووي في " المجموع " (3/444) : " وهو مذهبنا. حكاه ابن المنذر عن ابن عمر، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن عبد الرحمن، ومالك، وأحمد ". قلت: وهو نص الإمام الشافعي في " الأم " (1/101) ؛ قال - بعد أن ساق حديث ابن الحويرث -: " وبهذا نأخذ؛ فنأمر من قام من سجود، أو جلوس في الصلاة أن يعتمد على الأرض بيديه معاً، اتباعاً للسنة؛ فإن ذلك أشبه للتواضع، وأعون للمصلي على الصلاة، وأحرى أن لا ينقلب، وأي قيام قامه سوى هذا كرهته ". قلت: ولا يخفى أن حديث ابن الحويرث أخص مما قاله الشافعي من العموم، فالظاهر أنه قال ذلك قياساً على ما ذكر فيه من القيام، وهو ما يفيده صنيع البيهقي؛   (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: هكذا. أو نحو ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 951 {وأمر به (المسيء صلاته) في قوله: " ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة " - كما تقدم (*) -} . {و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من القعدة؛ كبَّر، ثم قام " (1) } . و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه " (2) مع هذا التكبير أحياناً. و" كان إذا أراد القيام إلى الركعة الرابعة؛ قال: (الله أكبر) " (3) . {وأمر به (المسيء صلاته) - كما تقدم آنفاً -. و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه " (4) مع هذا التكبير أحياناً} . ثم " كان يستوي قاعداً " (5) " على رجله اليسرى معتدلاً حتى يرجع كل عظم إلى موضعه " (6) ، {" ثم يقوم معتمداً على الأرض " (7) .   حيث قال في " سننه ": " (باب الاعتماد بيده على الأرض إذا نهض؛ قياساً على ما روينا في النهوض في الركعة الأولى) ". ثم ساق حديث ابن الحويرث، وعقبه بأثر ابن عمر المذكور آنفاً. (*) (ص 56 - 57) . (1) {رواه أبو يعلى في " مسنده " (284/2) بسند جيد، وهو مخرج في " الصحيحة " (604) } . (2 و 3) { [رواه] البخاري، وأبو داود} . (4) { [رواه] أبو عوانة، والنسائي بسند صحيح} . (5 و 7) هو من حديث ابن الحويرث - وقد مضى تخريجه -[816 - 817] . (6) هو من حديث أبي حميد والعشرة من أصحابه، وقد مضى أيضاً [605] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 952 و " كان يعجن: يعتمد على يديه إذا قام " (1) } . و" كان يقرأ في كل من الركعتين: {الفَاتِحَة} ، وأمر بذلك (المسيء صلاته) ، وكان ربما أضاف إليهما في صلاة الظهر بضع آيات - كما سبق بيانه في (القراءة في صلاة الظهر) -.   (1) { [رواه] الحربي في " غريب الحديث ". ومعناه عند البخاري وأبي داود، وأما حديث: " نهى أن يعتمد الرجل على يده إذا نهض في الصلاة ". فهو منكر لا يصح؛ كما بينته في " الضعيفة " (967) . [وانظر (ص 821 و824) ] } . * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 953 القنوت (1) في الصلوات الخمس للنازلة و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد؛ قنت في الركعة الأخيرة بعد الركوع (2) إذا قال: " سمع الله لمن حمده. اللهم! ربنا لك الحمد " " (3) . و" كان يجهر بدعائه " (4) .   (1) (القنوت) يطلق على معانٍ، والمراد به هنا: الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام. (2) فيه أن السنة في القنوت للنازلة في الصلوات أنه بعد الركوع، وعليه الخلفاء الراشدون، وبه قال مالك، والشافعي، وإسحاق - كما في " المجموع " (3/506) -، وهو اختيار محمد بن نصر المروزي - كما صرح به في كتابه (133) -. وهو الحق؛ فإنه لم يرد مطلقاً عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قنت في النوازل قبل الركوع، ومن أراد التفصيل في ذلك؛ فليراجع " زاد المعاد " (1/102 - 104) ، و " فتح الباري " (2/392 - 393) . (3 و 4) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد؛ قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال: " سمع الله لمن حمده ": " اللهم! ربنا لك الحمد. اللهم! أنْجِ الوليد بن الوليد، وسَلَمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم! اشدد وطأتك على مُضَرَ، واجعلها سنين كَسِني يوسف ". يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 954 ..............................................................................   " اللهم! العن فلاناً وفلاناً " - لأحياء من العرب -، حتى أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} . أخرجه البخاري (8/182) ، والدارمي (1/374) ، {وابن خزيمة (1/78/2) = [1/313/619] } ، والطحاوي (1/142) ، والبيهقي (2/197) ، وأحمد (2/255) من طريق إبراهيم بن سعد: ثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عنه. ورواه ابن نصر (133) دون قوله: فربما قال: ... إلخ. وأخرجه النسائي (1/163 - 164) من طريق بقية عن ابن أبي حمزة قال: ثني محمد قال: ثني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن به نحوه إلى قوله: " كَسِنِي يوسف ". وزاد: ثم يقول: " الله أكبر ". فيسجد. وضاحية مُضَرَ يومئذٍ مخالفون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو في " المسند " (2/502) من طريق يزيد عن محمد عن أبي سلمة وحده؛ دون قوله: وضاحية مضر ... إلخ. وهذا سند جيد. فيه إثبات التكبير بعد القنوت وهو عزيز. واعلم أن قوله في هذا الحديث: حتى أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ، وتمام الآية: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . لا يصح في هذا الحديث؛ لأنه منقطع؛ كما بَيَّنَتْهُ رواية مسلم (2/134) من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة به نحوه وقال بعد قوله: " كسني يوسف ": الجزء: 3 ¦ الصفحة: 955 ..............................................................................   " اللهم! العن لِحْيان ورِعْلاً وذكوان، وعُصية عصت الله ورسوله ". ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ... } الآية. قال الحافظ: " وهذا البلاغ لا يصح؛ لانقطاعه عن الزهري عمن بلغه. ثم إن قصة رِعْل وذكوان كانت بعد أحد، ونزول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} كان في قصة أحد - كما سيأتي [ص 960 - 962]-؛ فكيف يتأخر السبب عن النزول؟! ". والحديث فيه استحباب الجهر بدعاء القنوت، وعليه الشافعية في أصح الوجهين عندهم، وقال النووي (3/502) : " والصحيح أو الصواب استحباب الجهر؛ ففي " البخاري " عن أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهر في قنوت النازلة وفي الجهر بالقنوت أحاديث كثيرة صحيحة ". وهو اختيار الإمام أحمد؛ فقد قال أبو داود في " مسائله " (67) : " سمعت أحمد سئل عن القنوت؟ فقال: الذي يعجبنا أن يقنت الإمام، ويؤمِّنَ من خلفه ". قلت: وذلك هو المنقول عن الصحابة؛ ففي " قيام الليل " لابن نصر (137) : عن أبي عثمان النَّهْدي: كان عمر يقنت بنا في صلاة الغداة؛ حتى يسمع صوته من وراء المسجد. وعن الحسن: أن أُبي بن كعب أَمَّ الناس في رمضان؛ فكان يقنت في النصف الآخر حتى يسمعهم الدعاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 956 و " يرفع يديه " (1) .   (1) رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، وعنه ثابت قال: كنا عند أنس بن مالك فكتب كتاباً بين أهله؛ فقال: اشهدوا يا معشر القراء! قال ثابت: فكأني كرهت ذلك؛ فقلت: يا أبا حمزة! لو سميتهم بأسمائهم؟ قال: وما بأس ذلك؛ أن أقول لكم: قراء؟ أفلا أحدثكم عن إخوانكم الذين كنا نسميهم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القراء؟ فذكر أنهم كانوا سبعين، فكانوا إذا جَنَّهُم الليل؛ انطلقوا إلى معلم لهم بالمدينة، فيدرسون الليل حتى يصبحوا، فإذا أصبحوا، فمن كانت له قوة؛ استعذب من الماء، وأصاب من الحطب، ومن كانت عنده سعة؛ اجتمعوا فاشتروا الشاة وأصلحوها، فيصبح ذلك معلقاً بحُجَرِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما أُصيب خُبَيب؛ بعثهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتوا على حي من بني سُلَيم، وفيهم خالي حرامٌ؛ فقال حَرَامٌ لأميرهم: دعني فلأخبر هؤلاء أنا لسنا إياهم نريد؛ حتى يُخَلُّوا وجهنا. فقال لهم حرام: إنا لسنا إياكم نريد؛ فخلوا وجهنا. فاستقبله رجل بالرمح؛ فأنفذه منه، فلما وجد الرمح في جوفه؛ قال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة! قال: فانطووا عليهم، فما بقي أحد منهم. فقال أنس: فما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ على شيء قط وَجْدَه عليهم؛ فلقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الغداة رفع يديه؛ فدعا عليهم. وفي رواية: يدعو عليهم. أخرجه أحمد قال (3/137) : ثنا هاشم وعفان - المعنى - قالا: ثنا سليمان عن ثابت به. وهذا إسناد صحيح. رجاله كلهم ثقات؛ رجال الشيخين والأربعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 957 ..............................................................................   وقد أخرجه الطبراني في " الصغير " (ص) (*) من طريق علي بن صَقْر السُّكَّري البغدادي: ثنا عَفّان بن مسلم: نا سليمان بن المغيرة عن ثابت به نحوه بلفظ: فلقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما صلى الغداة؛ رفع يديه يدعو عليهم. وروى منه هذا القدر البيهقي (2/211) ، وقال النووي (3/500) : " إسناده صحيح أو حسن ". وقال العراقي في " تخريج الإحياء " (1/159) : " إسناده جيد ". وفي الحديث استحباب رفع اليدين في دعاء القنوت. قال النووي في " المجموع ": " وهذا هو الصحيح عند الأصحاب ". قلت: وعليه الإمام أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة - كما حكاه علماؤنا -. وجاء في ترجمة أبي يوسف: " قال أحمد بن أبي عمران الفقيه: ثني فرج مولى أبي يوسف قال: رأيت مولاي أبا يوسف إذا دخل في القنوت للوتر؛ رفع يديه في الدعاء. قال ابن أبي عمران: كان فرج ثقة ". اهـ من " شرح الهداية " (1/306) . وبه قال أحمد أيضاً {وإسحاق} - كما في " مسائله " {للمروزي (ص 23) } -. وقد ثبت ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ كما أخرجه البخاري في " رفع اليدين " (23) ، وابن نصر (134) ، والبيهقي (2/212) عن أبي عثمان النهدي: كان عمر يقنت بنا في صلاة الغداة، ويرفع يديه؛ حتى يُخرج ضَبْعَيْهِ.   (*) كذا الأصل. وهو في مطبوعه (1/324 - ط: المكتب الإسلامي) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 958 و " يؤمن من خلفه (1) " (2) .   ثم رواه البيهقي عنه من طرق، ثم قال: " وهو صحيح عن عمر. وكذا صححه عنه البخاري ". ثم قال البيهقي: " وروي عن علي رضي الله عنه بإسناد فيه ضعف، وروي عن عبد الله بن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنهما في قنوت الوتر. فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء في الصلاة؛ فدم يثبت بخبر صحيح، ولا أثر ثابت، ولا قياس (1) . فالأولى أن لا يفعله، ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم؛ من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة. وبالله التوفيق " [اهـ. مختصراً] . (1) أخذ به الإمام أحمد - كما سبق [ص 956]-، وهو أصح الوجهين عند الشافعية: أنه يؤمّن على دعاء الإمام، ولا يقنت. (2) هو من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: قنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وصلاة الصبح؛ في دبر كل صلاة، إذا قال: " سمع الله لمن حمده " من الركعة الآخرة؛ يدعو على أحياء من بني سُلَيم: على رِعْل وذكوان وعُصَيَّة، ويؤمِّن مَنْ خلفه. أخرجه أبو داود (1/228) ، وابن نصر (137) ، والحاكم (1/225) ، وعنه البيهقي   (1) {فهو بدعة. وأما خارج الصلاة؛ فلم يصح، وكل ما روي في ذلك ضعيف، وبعضه أشد ضعفاً من بعض؛ كما حققته في " ضعيف أبي داود " (262) ، و " الأحاديث الصحيحة " (597) ، ولذلك قال العز بن عبد السلام في بعض فتاويه: " لا يفعله إلا الجهال "} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 959 ..............................................................................   (2/200) ، وأحمد (1/301) ، والحازمي في " الاعتبار " (62 و 64) ، والضياء المقدسي في " المختارة " (*) من طريق ثابت بن يزيد عن هلال بن خَبَّاب عن عكرمة عنه به. زاد أحمد والحاكم: وكان أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فقتلوهم. قال عكرمة: هذا مفتاح القنوت. وقال الحاكم: " صحيح على شرط البخاري ". ووافقه الذهبي! وفيه نظر بَيِّن؛ فإن هلالاً هذا ليس من رجال البخاري، ثم إن فيه مقالاً. وقال النووي (3/502) : " إسناده حسن أو صحيح ". وقال ابن القيم (1/101) : " حديث صحيح ". وقال الشوكاني في " النيل " (2/495) : " وليس في إسناده مطعن، إلا هلال بن خباب؛ فإن فيه مقالاً، وقد وثقه أحمد، وابن معين وغيرهما ". وسكت عليه الحافظ في " التلخيص " (3/420) . والصواب أن الحديث حسن - كما جزم به الحازمي -. (تنبيه) : قد جاءت قصة دعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رعل وذكوان في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة - كما سبق -، ومن حديث أنس؛ وفيه أنه قال: فذلك بدء القنوت. وهذا مثل قول عكرمة: هذا مفتاح القنوت. وكان ذلك في السنة الرابعة من الهجرة؛ بعد ثلاثة أشهر من غزوة أحد - كما قال   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع للسراج أيضاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 960 ..............................................................................   ابن إسحاق؛ على ما في " البداية " (4/72) -. وذلك يفيد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقنت قبل هذه الواقعة، وليس كذلك؛ فقد ورد أنه قنت أيضاً في غزوة أحد؛ كما روى البيهقي في " المعرفة " - على ما في " نصب الراية " (2/129) - عن عمر بن حمزة عن سالم عن ابن عمر قال: صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح يوم أحد، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية؛ قال: " سمع الله لمن حمده. اللهم! العن أبا سفيان، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام ". فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} . قلت: ومن هذا الوجه أخرجه الترمذي (2/166 - طبع بولاق) ، لكن ليس فيه ذكر الصلاة، وزاد في آخره: فتاب الله عليهم؛ فأسلموا، فحَسُنَ إسلامهم. وقال: " حديث حسن ". ثم رواه هو، والطحاوي في " المشكل " (1/236) من طريق ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر بنحوه. وقال: " حسن صحيح ". وقد أخرجه البخاري في (غزوة أحد) من " صحيحه " (7/293) ، والطحاوي أيضاً، وأحمد (2/147) عن الزهري عن سالم عن أبيه: أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر؛ يقول: " اللهم! العن فلاناً وفلاناً "، بعدما يقول: " سمع الله لمن حمده، ربنا! ولك الحمد ". فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ، إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 961 و " كان يقنت في الصلوات الخمس كلها (1) " (2) .   فليس فيه التصريح أن ذلك كان في أُحُد، وكأن البخاري - بإيراده الحديث في قصة أحد - أشار إِلى رواية البيهقي المصرحة بذلك. قال الحافظ في " الدراية " (ص 117) : " ويؤيد ذلك حديث أنس: أن الآية نزلت يوم أحد؛ بعد أن شُجَّ وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". قلت: هذا أخرجه البخاري (7/292) تعليقاً، ووصله مسلم (5/179) ، والترمذي (2/166) ، والطحاوي (1/289) وفي " المشكل " أيضاً (1/236 - 237) . قال في " الفتح " (8/183) : " وطريق الجمع بينه وبين حديث ابن عمر: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا على المذكورين بعد ذلك في صلاته، فنزلت الآية في الأمرين معاً؛ فيما وقع له من الأمر المذكور، وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم، وذلك كله في أُحُد ". (1) فيه أن السنةَ في قنوت النازلة الدعاءُ في الفرائض الخمس، وهو الصحيح من مذهب الشافعية - كما في " المجموع " (3/494 و 505) -، وهو ثابت عند علمائنا الحنفية - كما نقل ذلك الشيخ أنور الكشميري في " فيض الباري " (2/302) -. قال النووي: " وأما غير المكتوبات؛ فلا يقنت في شيء منهن ". (2) هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه بمعناه. وقد سبق لفظه قريباً [ص 959] . وله شاهد من حديث البراء بن عازب: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 962 ..............................................................................   أخرجه الدارقطني (177) ، والبيهقي (2/198) ، والطبراني، والحازمي (63) (*) من طريق محمد بن أنس عن مُطَرِّف بن طَريف عن أبي الجهم عنه. وهذا إسناد حسن، ورجاله - كما قال الهيثمي (2/138) : - " موثقون ". وأما قول ابن القيم (1/102) : " لا تقوم به حجة ". فمردود؛ لأنه ليس عليه حجة. وهو عند مسلم (2/137) ، وأبي داود (1/227) ، والنسائي (1/164) ، والترمذي (2/251) وصححه، والدارمي (1/375) ، والطحاوي (1/142) ، والبيهقي (2/198) ، والطيالسي (100) ، وأحمد (4/280 و 285) من طريق أخرى عن البراء بلفظ: كان يقنت في الصبح والمغرب. وقال أحمد: " ليس يُروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قنت في المغرب إلا في هذا الحديث، وعن علي قوله ". كذا قال. وهو ذهول عن حديث ابن عباس - وقد أخرجه هو نفسه في " المسند "، كما سبق -. وعن حديث أنس قال: كان القنوت في المغرب والفجر. أخرجه البخاري (2/227 و 394) ، والطحاوي (1/143) ، والبيهقي (2/199) . وقد وهم الحافظ؛ حيث عزاه لمسلم. وفي الباب عن أبي هريرة قال: والله! لأُقَرِّبَنّ بكم صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع للسراج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 963 لكنه " كان لا يقنت فيها إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم " (1) ، فربما قال:   من صلاة الظهر، وصلاة العشاء الآخرة، وصلاة الصبح؛ فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكافرين. أخرجه البخاري (2/226) ، ومسلم (2/135) ، وأبو داود (1/227) ، والنسائي (1/164) ، والدارقطني (178) ، والبيهقي (2/198) ، وكذا الطحاوي (1/142) ، وأحمد (2/255 و 337 و 470) من طريق أبي سلمة عنه. قال الحافظ: " وظاهر الحديث أن جميعه مرفوع ". قلت: ويشهد له الأحاديث التي قبله. (1) هو من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه الخطيب البغدادي في كتاب " القنوت " من حديث محمد بن عبد الله الأنصاري: ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عنه. وهذا سند صحيح؛ كما قال الحافظ في " الدراية " (117) وفي " الفتح " (8/182) ، وعزاه فيه (2/393) وفي " التلخيص " (3/418 و 438) لابن خزيمة في " صحيحه " { [وهو فيه] (1/78/2) = [1/314/620] } . وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقنت في صلاة الصبح، إلا أن يدعو لقوم أو على قوم. أخرجه ابن حبان عن إبراهيم بن سعد عن الزُّهري عن سعيد وأبي سلمة عنه. قال الحافظ: " إسناده صحيح ". قلت: وهو في " صحيح البخاري " بهذا الإسناد بنحوه - وقد سبق في أول الفصل [ص 954]-. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 964 ..............................................................................   وذَكَر الحديثين في " نصب الراية " (2/130) ، ثم قال: " قال صاحب " التنقيح ": وسند هذين الحديثين صحيح. وهما نص في أن القنوت مختص بالنازلة ". قلت: ولذلك أنصف الحافظ ابن حجر؛ حيث قال: " ويؤخذ من جميع الأخبار أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يقنت إلا في النوازل. وقد جاء ذلك صريحاً ". ثم ساق الحديثين. قال ابن القيم (1/97) : " ولم يكن من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القنوت فيها - يعني: صلاة الصبح - دائماً، ومن المحال أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول: " اللهم! اهدني فيمن هديت ... " إلخ، ويرفع بذلك صوته، ويُؤَمِّن عليه أصحابه دائماً إلى أن فارق الدنيا، ثم لا يكون ذلك معلوماً عند الأمة، بل يضيعه أكثر أمته، وجمهور أصحابه، بل كلهم حتى يقول من يقول منهم: إنه مُحْدَثٌ ". قال: " ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان يقنت كل غداة، ويدعو بهذا الدعاء، ويؤمِّن الصحابة؛ لكان نَقْلُ الأمة لذلك كله كنقلهم لجهره بالقراءة فيها، وعددها، ووقتها، وإن جاز عليهم تضييع أمر القنوت؛ جاز عليهم تضييع ذلك، ولا فرق! وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن هديه الجهر بالبسملة كل يوم وليلة خمس مرات دائماً مستمراً؛ ثم يُضَيِّع أكثر الأمة ذلك، ويخفى عليها! وهذا من أمحل المحال، بل لو كان ذلك واقعاً؛ لكان نقله كنقل عدد الصلوات، وعدد الركعات، والجهر والإخفات، وعدد السجدات، ومواضع الأركان، وترتيبها. والله الموفق. والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف: أنه جهر وأسر، وقنت وترك، وكان إسراره أكثر من جهره، وتركه القنوت أكثر من فعله، وإنما قنت عند النوازل؛ للدعاء لقوم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 965 ..............................................................................   وللدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدِمَ من دعا لهم وتخلَّصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين؛ فكان قنوته لعارض، فلما زال؛ ترك القنوت ". قال: " ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها؛ لأجل ما شرع فيها من الطول، ولاتصالها بصلاة الليل، وقربها من السَّحَر، وساعة الإجابة، وللتنزُّل الإلهي، ولأنها الصلاة المشهودة؛ التي يشهدها الله وملائكته، أو ملائكة الليل والنهار - كما روي هذا وهذا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} - ". (تنبيه) : وأما حديث أنس: ما زال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا. فحديث ضعيف، لا يصح. وإن صححه الحاكم والنووي! فهو ضعيف من قبل أبي جعفر الرازي - راويه - عن الربيع عن أنس. وقد بسط الكلام عليه ابن القيم في " الزاد " (1/99 - 100) ، والحافظ في " التلخيص " (3/417 - 418) وغيرهما. (فائدة) : قال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على " الترمذي " (2/252) : " وقد ترك الناس القنوت في النوازل التي تنزل بالمسلمين، وما أكثرها في هذه العصور في شؤون دينهم ودنياهم! حتى صاروا - من تفرقهم وإعراضهم عن التعاون حتى بالدعاء في الصلوات؛ صاروا - كالغرباء في بلادهم، وصارت الكلمة فيها لغيرهم! والقنوت في النوازل بالدعاء للمسلمين، والدعاء على أعدائهم ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات كلها بعد قوله: " سمع الله لمن حمده " في الركعة الآخرة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 966 " اللهم! أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم! اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف، [اللهم! العن لِحْيَانَ ورِعْلاً وذكوانَ، وعُصَيَّة عصت الله ورسوله] " (*) ثم " كان يقول - إذا فرغ من القنوت -: " الله أكبر ". فيسجد " (1)   (*) انظر تخريجه مفصلاً فيما سبق (ص 954 - 956) . (1) هو من حديث أبي هريرة. أخرجه النسائي، وأحمد - كما سبق [ص 955]-، {والسراج (109/1) ، وأبو يعلى في " مسنده " بسند جيد} . * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 967 القنوت في الوتر و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت في ركعة الوتر أحياناً، ويجعله قبل الركوع " (1) .   (1) هو من حديث أُبَيّ بن كعب: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يوتر؛ فيقنت قبل الركوع. أخرجه النسائي (1/248) {وفي " السنن الكبرى " (ق 218/1 - 2) = [1/448/ 1432 و 6/184/10570] } ، وابن ماجه (1/359) ، والضياء المقدسي في " المختارة " من طريق علي بن ميمون قال: ثنا مَخْلَد بن يزيد عن سفيان عن زُبَيد عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عنه. وهذا إسناد جيد. رجاله رجال الشيخين؛ غير علي بن ميمون، وهو ثقة - كما في " التقريب " -. وقد تابعه فِطْرُ بن خليفة، ومِسْعَرُ بن كِدَام عن زبيد. أخرجه عن الأولِ الدارقطنيُّ (175) ، و {البيهقي [3/40] } . وعن الآخرِ البيهقيُّ (3/40) ، وذكرهما أبو داود تعليقاً. وبذلك يصير الإسناد صحيحاً. وله إسناد آخر عن سعيد بن عبد الرحمن: عند الدارقطني -[ومن طريقه البيهقي (3/39) } - قال: ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث: ثنا المُسَيِّب بن واضح: ثنا عيسى بن يونُس عن سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة - قال أبو بكر بن سليمان: ربما قال المسيب: عن عَزْرَة (في الأصل [عند الدارقطني] : عروة. وهو تصحيف) ، وربما لم يقل - عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى به. وهذا سند صحيح أيضاً. وقد أخرجه ابن نصر (131) : ثنا إسحاق: أخبرنا عيسى بن يونس به؛ دون قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 968 ولا يخصه بنازلة (1) .   (عن عزرة) . وكذلك علقه أبو داود. ثم أعله بأن جماعة رووه عن سعيد بن أبي عروبة، وآخرين عن زبيد، لم يذكروا القنوت. وهذه علة غير قادحة؛ لأن الذين زادوا القنوت جماعة أيضاً ثقات؛ فيجب قبول زيادتهم - كما تقرر في المصطلح -؛ ولذلك قد صحح الحديث جمع. قال الحافظ في " التلخيص " (4/249) : " حديث أبي بن كعب: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقنت قبل الركوع. رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأبو علي بن السَّكَن في " صحيحه ". ورواه البيهقي من حديث أبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وضعفها كلها، وسبق إلى ذلك أحمدُ بن حنبل، وابنُ خزيمة، وابنُ المنذر؛ قال الخلال عن أحمد: لا يصح فيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء، ولكن عمر كان يقنت ". وقد ضعف الحديث أيضاً أبو بكر بن العربي؛ فقال: " لم يصح ". فتعقبه الحافظ العراقي بقوله: " بل هو صحيح أو حسن " - كما في " النيل " (3/38) -. ويقويه تلك الشواهد التي أشار إليها الحافظ، وهي وإن كانت ضعيفة الأسانيد؛ فبعضها يقوي بعضاً {وهو مخرج في " الإرواء " (426) } (*) . (1) وكذلك كان لا يخصه بالنصف الأخير من رمضان. والحجة في ذلك: أن الأحاديث الواردة فيه مطلقة غير مقيدة - كما رأيت -، ومثلها حديث الحسن بن علي   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لابن أبي شيبة (12/41/1) ، وأحمد، والطبراني، وابن عساكر (4/244/2) ؛ قال: " بسند صحيح ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 969 ..............................................................................   رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في قنوت الوتر: " اللهم! اهدني فيمن هديت ... " الحديث. وهو صحيح الإسناد - كما يأتي -، وهو مطلق أيضاً؛ ليس فيه شيء من القيود. وقد اعتضدت هذه المُطْلَقات بأعمال الصحابة؛ فقد روى ابن نصر (131) عن عمر، وعلي، وابن مسعود القنوتَ في الوتر في السَّنَةِ كلها. قال الترمذي: " وهو قول أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، وإسحاق، وأهل الكوفة ". واعلم أنه إنما قلنا: كان يقنت أحياناً؛ لأننا تتبعنا الأحاديث الواردة في إيتاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي كثيرة -؛ فوجدنا أكثرها لا تتعرض لذكر القنوت مطلقاً - كأحاديث عائشة، وابن عباس وغيرهما -، ومقتضى الجمع بينها وبين حديث أُبَيّ وما في معناه أن يقال: إنه كان يقنت أحياناً، ويدع أحياناً، إذ لو كان يقنت دائماً؛ لما خفي ذلك على أكثر الصحابة الذين رووا إيتاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك يدل على أن القنوت ليس بالأمر الحتم؛ بل هو سنة، وعليه جمهور العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب أبي يوسف، ومحمد؛ خلافاً لأستاذهما أبي حنيفة؛ فإنه قال بوجوبه. وقد اعترف المحقق ابن الهمام في " فتح القدير " (1/306 و 359 و 360) بأن القول بوجوبه ضعيف لا ينهض عليه دليل، {وهذا من إنصافه وعدم تعصبه} . فراجع كلامه في ذلك؛ فإنه نفيس. ومثل هذا التصريح لا تكاد تجده في كتب علمائنا. هذا، وكون قنوت الوتر قبل الركوع هو مذهب الحنفية، وهو الحق الذي لا ريب فيه؛ إذ لم يصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافه، وهو المروي عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود في " قيام الليل " (133) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 970 ..............................................................................   ورواه الطبراني عن ابن مسعود بسند حسن - كما في " المجمع " (2/137) -، وهو في " مصنف ابن أبي شيبة " [2/97/6910] بلفظ: عن علقمة: أن ابن مسعود وأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع. وسنده حسن أيضاً - كما قال الحافظ في " الدراية " (115) -. وأما الحديث الذي رواه الحاكم (3/172) ، وعنه البيهقي (3/38 - 39) عن الفضل ابن محمد الشَّعْراني: ثنا أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الملك بن شَيْبة الحِزَامي: ثنا ابن أبي فُدَيك عن إسماعيل بن إبراهيم بن عُقبة عن عمه موسى بن عُقبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وتري إذا رفعت رأسي، ولم يبق إلا السجود: " اللهم! اهدني فيمن هديت ... ". وكذلك أخرجه الطبراني في " الكبير ". فهذا إسناد ضعيف. وقول الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ": وَهْمٌ - وإن وافقه عليه الأستاذ أحمد محمد شاكر في تعليقه على " المحلى " (4/148) ، ولا أدري كيف خفي ذلك عليه -، وبيانه من وجوه: أولاً: إن أبا بكر عبد الرحمن بن شيبة لم يخرج له مسلم شيئاً، والبخاري إنما روى له حديثين متابعة. ثم هو متكلم فيه؛ قال أبوأحمد الحاكم: " ليس بالمتين عندهم ". وقال أبو بكر بن أبي داود: " ضعيف ". وقال ابن حبان في " الثقات ": الجزء: 3 ¦ الصفحة: 971 ..............................................................................   " ربما خالف ". وفي " التقريب ": " صدوق يخطئ ". فمن كان هذا حاله؛ لا يقبل منه ما تفرد به دون الثقات. ثانياً: إن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة هو من أفراد البخاري دون مسلم. ثالثاً: إن محمد بن جعفر بن أبي كثير قد خالفه في إسناده ومتنه؛ فقال: ثني موسى بن عُقبة: ثنا أبو إسحاق عن بُرَيد ابن أبي مريم عن أبي الحَوْرَاء عن الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هؤلاء الكلمات في الوتر ... فذكرها؛ دون قوله: إذا رفعت رأسي، ولم يبق إلا السجود. أخرجه الحاكم، والطبراني أيضاً في " الكبير ". وكذلك رواه غير ما واحد عن بُرَيد - كما يأتي -. قال الحافظ في " الدراية ": " وهو الصواب ". وقال في " التلخيص " (3/431) : " (تنبيه) : ينبغي أن يُتأمل في هذه الزيادة؛ فقد رأيت في الجزء الثاني من " فوائد أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني " في تخريج الحاكم له قال: ثنا محمد ابن يونس المُقري: ثنا الفضل بن محمد البيهقي: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة المدني الحِزامي ... بسنده المتقدم، ولفظه: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقول في الوتر قبل الركوع ... فذكره. وزاد في آخره: " ولا منجا منك إلا إليك ". قلت: وبالجملة؛ فهذه الزيادة لا تصح (*) ، سواء كان أصلها قبل الركوع، أو بعده.   (*) ثم مال الشيخ رحمه الله إلى تحسينه. انظر " الإرواء " (2/168 - 169) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 972 وعَلَّم الحسَنَ بن علي رضي الله عنه أن يقول [إذا فرغ من قراءته في الوتر] (*) : " اللهم! اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وَقِني شر ما قضيت، [فـ] (1) إنك تقضي ولا يُقضى عليك. [و] (1) إنه لا يذل من واليت، [ولا يَعِزُّ من عاديت] (2) ،   (*) الزيادة من " صفة الصلاة " المطبوع؛ أخرجها ابن منده في " التوحيد " بسند حسن - كما يأتي قريباً -. (1) قال الحافظ في " التلخيص " (3/426) : " وأسقط بعضهم الواو من قوله: " وإنه لا يذل ... ". وأثبت بعضهم الفاء في قوله: " فإنك تقضي " ". قلت: وأكثر الرواة على إثبات الواو والفاء، وهي رواية {ابن أبي شيبة [1/6888 و29696] } ، وابن خزيمة (1095 و 1096) ، والنسائي، والترمذي، والدارمي، والحاكم، وأحمد. وصحح ذلك النووي في " المجموع " (3/495) ؛ فقال: " الحديث الصحيح باثبات الفاء والواو؛ هذا لفظه في رواية الترمذي وجمهور المحدِّثين ". قال: " وتقع هذه الألفاظ في كتب الفقه مغيرة؛ فاعتَمِدْ ما حققتُه؛ فإن ألفاظ الأذكار يُحافظ فيها على الثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". (2) قال الحافظ (3/432) : " هذه الزيادة ثابتة في الحديث؛ إلا أن النووي قال في " الخلاصة ": إن البيهقي رواها بسند ضعيف. وتبعه ابن الرِّفْعَة في " المطلب "؛ فقال: لم تثبت هذه الرواية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 973 ..............................................................................   وهو معترض؛ فإن البيهقي رواها من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن بُريد ابن أبي مريم عن الحسن - أو الحسين - بن علي؛ فساقه بلفظ الترمذي، وزاد: " ولا يعز من عاديت ". وهذا التردد من إسرائيل إنما هو في الحسن أو في الحسين. وقال البيهقي: كأن الشك إنما وقع في الإطلاق، أو في النسبة. قلت: يؤيد رواية الشك: أن أحمد بن حنبل أخرجه في (مسند الحسين بن علي) من " مسنده " [1/201] من غير تردد؛ فأخرجه من حديث شريك عن أبي إسحاق ... بسنده. وهذا - وإن كان الصواب خلافه، والحديث من حديث الحسن، لا من حديث أخيه الحسين؛ فإنه - يدل على أن الوهم فيه من أبي إسحاق؛ فلعله ساء فيه حفظه، فنسي هل هو الحسن أو الحسين؟! والعمدة في كونه الحسن على رواية يونس بن أبي إسحاق عن بريد ابن أبي مريم، وعلى رواية شعبة عنه - كما تقدم -. ثم إن هذه الزيادة رواها الطبراني أيضاً من حديث شريك وزهير بن معاوية عن أبي إسحاق، ومن حديث أبي الأحوص عن أبي إسحاق ". قلت: ورواية يونس هي رواية أحمد في " المسند "، ورواها عنه أبو داود في " مسائله " (68) . وقد أخرجها الطبراني في " الكبير " عنه أيضاً، وعن شعبة؛ كلاهما عن بريد ابن أبي مريم بهذه الزيادة. وبالجملة؛ فهي زيادة صحيحة ثابتة لا شك فيها، {وفات ذلك النووي؛ فصرح رحمه الله في " روضة الطالبين " (1/253 - طبع المكتب الإسلامي) أنها زيادة من العلماء! مثل زيادتهم: " فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك "! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 974 تباركت ربنا وتعاليت، [لا منجا منك إلا إليك] (*) " (1)   ومن الغريب أنه قال بعد ذلك بسطور: " واتفقوا على تغليط القاضي أبي الطيب في إنكاره: " لا يعز من عاديت "، وقد جاءت في رواية البيهقي. والله أعلم "} . (*) الزيادة من " صفة الصلاة " المطبوعة، وهي عند ابن منده في " التوحيد "، وأبي بكر الأصبهاني في " فوائده " - كما يأتي -. (1) هو من حديث الحسن بن علي نَفْسِه قال: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في قنوت الوتر: ... فذكرها. أخرجه أبو داود (1/225) ، والنسائي (1/252) ، والترمذي (2/328) ، والدارمي (1/373 - 374) ، وابن ماجه (1/358) ، وابن نصر (134) ، والحاكم (3/172) ، والبيهقي (2/209 و 497) ، وأحمد (1/199) ، والطبراني في " الكبير "، {وكذا ابن أبي شيبة [2/95/6888] } من طرق عن بريد ابن أبي مريم عن أبي الحوراء عنه. ورواه ابن خزيمة { (1/119/2) = [2/151 و 152/1095 و 1096] } ، وابن حبان في " صحيحيهما " (*) - كما في " نصب الراية " (2/125) ، و " التلخيص " (4/425) -. والزيادة عند البيهقي، والطبراني. والحديث صحيح - كما قال النووي (3/496) -، ورجاله كلهم ثقات. وسكت عليه الحاكم. واقتصر الترمذي على قوله: " حديث حسن ". وهو قصور. وأما تضعيف ابن حزم له في " المحلى " (4/147 - 148) ؛ فمما لا يلتفت إليه؛ لأنه لا سلف له في ذلك ولا حجة.   (*) {وابن منده في " التوحيد " (70/2) بسند آخر حسن} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 975 ..............................................................................   وهناك زيادات في بعض الروايات لا تصح؛ أحببت التنبيه عليها: فمنها ما عند ابن ماجه من طريق شريك عن أبي إسحاق عن بريد: " ... سبحانك تباركت ... ". وشريك: سيئ الحفظ. وعزا هذه الزيادة الحافظ في " التلخيص " للترمذي. وهو وهم، تبعه عليه الشوكاني (3/37) ! وزاد أبو بكر بن مِهْران الأصبهاني (*) في آخره: " لا منجا منك إلا إليك ". وهي ضعيفة لا تصح (**) - كما سبق قريباً -. (تنبيه) : زاد النسائي من طريق أخرى عن ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم عن موسى بن عُقبة عن عبد الله بن علي عن الحسن بن علي به، قال في آخره: " وصلّى الله على النبي الأمي ". وهذا إسناد ضعيف. وإن قال النووي في " المجموع " (3/499) : " صحيح أو حسن ". فقد تعقبه العلماء، وبيَّنوا وهمه في ذلك؛ قال الحافظ في " التلخيص " (3/430) - بعد أن نقل كلامه هذا -: " قلت: وليس كذلك؛ فإنه منقطع؛ فإن عبد الله بن علي - وهو: ابن الحسين بن علي - لم يلحق الحسن بن علي. وقد اختُلف على موسى بن عقبة في إسناده ". ثم بين هذا الاختلاف.   (*) {وابن منده في " التوحيد " (ق 70/2) } . (**) انظر التعليق (ص 972) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 976 ..............................................................................   ثم ذكر أن يحيى بن عبد الله تفرَّدَ عن موسى بقوله: (عن عبد الله بن علي) ، وبزيادة الصلاة فيه. قلت: ويحتمل أن يكون عبد الله هذا هو غير عبد الله بن علي بن الحسين بن علي. وقد أشار إلى هذا الحافظ في " التهذيب " (5/325) بقوله في ترجمة عبد الله هذا: " وأما روايته عن الحسن بن علي؛ فلم تثبُت، وهي عند النسائي، فإن كان هو صاحب الترجمة؛ فلم يدرك جده الحسن بن علي؛ لأن والده علي بن الحسين لما مات عمه الحسن رضي الله عنه؛ كان دون البلوغ ". وقال القسطلاني في " المواهب "، وشارحه الزُّرْقاني (7/347) ؛ تعقباً على النووي: " وهي زيادة غير ثابتة؛ لأجل عبد الله بن علي؛ لأنه غير معروف. وعلى تقدير أن يكون هو عبد الله بن علي بن الحسين بن علي - وهو مقبول الرواية -؛ فهو منقطع؛ لأنه لم يسمع من جده الحسن بن علي. فقد تبين أنه ليس من شرط الحَسَنِ؛ لانقطاعه أو جهالة راويه، ولم تنجبر الزيادة بمجيئها من وجه آخر، وحينئذٍ فقد تبين شذوذها - على ما لا يخفى -، بل ضعفها ". {ولذلك لم نوردها على طريقتنا في الجمع بين الزيادات؛ وقوفاً منا عند شرطنا المذكور في مقدمة الكتاب، وقال العز بن عبد السلام في " الفتاوى " (66/1 - عام 1962) : " ولم تصح الصلاة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت، ولا ينبغي أن يُزاد على صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء ". وفي هذا القول منه إشارة إلى أنه لا يتوسع في القول بالبدعة الحسنة؛ كما يفعل بعض المتأخرين القائلين بها} . نعم؛ كان أبو حليمة معاذ القاري يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت في رمضان؛ كما رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق - على ما في " الجلاء " (251) -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 977 ..............................................................................   وإسناده صحيح. ورواه ابن نصر أيضاً (136) . ومعاذ هذا: صحابي صغير - كما في " التقريب " -، وهو: ابن الحارث الأنصاري النَّجَّاري، أحد من أقامه عمر رضي الله عنه بمصلى التراويح. {وقد ثبت في حديث إمامةِ أُبَيّ بن كعب الناسَ في قيام رمضان أنه كان يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخرالقنوت، وذلك في عهد عمر رضي الله عنه. رواه ابن خزيمة في " صحيحه " (1097) . فهي زيادة مشروعة؛ لعمل السلف بها، فلا ينبغي إطلاق القول بأن هذه الزيادة بدعة. والله أعلم} . وأما الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قنوت الفجر؛ فلم يرد مطلقاً، بل قال ابن القيم: إنه " نقل من قنوت الوتر إلى قنوت الفجر قياساً؛ كما نقل أصل هذا الدعاء إلى قنوت الفجر ". قلت: لكن روي حديث بإسناد ضعيف: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رفع رأسه من الركوع في صلاة الفجر في الركعة الثانية؛ رفع يديه، فيدعو بهذا الدعاء: " اللهم! اهدني فيمن هديت ... " إلخ. أخرجه الحاكم في " القنوت " - خارج " المستدرك " - من طريق عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة. وهذا إسناد ضعيف. وعزاه الحافظ (3/432) لـ " المستدرك "؛ وهو وَهْمٌ. قال في " الزاد " (1/98) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 978 ..............................................................................   " فما أَبْيَنَ الاحتجاجَ به لو كان صحيحاً أو حسناً، لكن لا يحتج بعبد الله هذا، وإن كان الحاكم صحَّح حديثه في " القنوت " ". وقال الحافظ: " قال الحاكم: صحيح. وليس كما قال؛ فهو ضعيف؛ لأجل عبد الله، فلو كان ثقة؛ لكان الحديث صحيحاً، وكان الاستدلال به أولى من الاستدلال بحديث الحسن بن علي الوارد في قنوت الوتر ". وهناك حديث آخر: رواه البيهقي (3/210) من طريق عبد الرحمن بن هُرْمُز عن بُريد ابن أبي مريم عن ابن عباس نحوه. وهو معلول أيضاً؛ وعلته عبد الرحمن هذا؛ قال الحافظ (3/429) : " يحتاج إلى الكشف عن حاله ". وقال ابن حبان: " إن ذكر صلاة الصبح ليس بمحفوظ " - كما في " النيل " (3/37) -. إذا علمت أنه لم يصح حديث في القنوت بهذا الدعاء في الفجر؛ فالصواب الذي يقتضيه النظر أن لا يكون لقنوت الفجر وِرْدٌ خاص راتب يواظب عليه؛ بل يدعو بما يناسب الحال والنازلة. وكذلك الشأن في بقية الصلوات الخمس. ومن غرائب الفقه المتعارض أن ينقل هذا الدعاء من قنوت الوتر إلى قنوت الفجر أيضاً - كما هو مذهب الشافعية -، وأن تترك الحنفية الدعاء به في الوتر، ويأخذوا بالدعاء الذي كان يقنت به عمر رضي الله عنه في قنوت الفجر، وهو قوله: اللهم! إنا نستعينك، ونستغفرك ... إلخ. فنقلوه هم إلى الوتر! فهؤلاء في طرف، وأولئك في طرف آخر! فإن قيل: فما حجتك في أن عمر رضي الله عنه كان يقنت به في الفجر؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 979 ..............................................................................   قلت: هي ما أخرجه الطحاوي (1/145) ، وكذا أبو داود في " مسائله " (64 - 65) ، وابن نصر (134 - 136) ، والبيهقي (2/210 - 211) من طرق متعددة: أن عمر رضي الله عنه قنت في صلاة الغداة قبل الركوع - وفي رواية: بعد الركوع - بذلك. وصحح البيهقي بعض أسانيده. وقد كان قنوت عمر رضي الله عنه بذلك للنوازل؛ بدليل أنه كان يقول قبل هذا الدعاء: اللهم! العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك. اللهم! خالف بين كلماتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين. بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم! إنا نستعينك، ... إلخ. أخرجه البيهقي وغيره. وبدليل قوله في آخر الدعاء: إن عذابك بالكفار ملحق. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 980 التشهد الأخير وجوب التشهد ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أنْ يتم الركعة الرابعة يجلس للتشهد الأخير. وكان يأمر فيه بما أمر به في الأول، ويصنع فيه ما كان يصنع في الأول؛ إلا أنه " كان يقعد فيه متوركاً " (1) ؛ يفضي بِوَرِكِه (2) اليُسرى إلى الأرض، وُيخْرِجُ قدميه من ناحية واحدة (3) . و " يجعل اليسرى تحت فخذه وساقه " (4) .   (1) هو من حديث أبي حُمَيد الساعدي ورفقائه بلفظ: حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم؛ أَخَّر رجله اليسرى، وقعد متوركاً على شقه الأيسر. وقد تقدم في (الركوع) [ص 605] . وسنده صحيح. (2) {هي ما فوق الفخذ} . (3) هو من حديث أبي حميد أيضاً. أخرجه أبو داود (1/152) ، والبيهقي (2/128) من طريق ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حَبِيب عن محمد بن عمرو بن حَلْحَلة عن محمد بن عمرو العامري عنه. وابن لهيعة: سيئ الحفظ. لكن قد تابعه الليث بن سعد: عند البيهقي (2/102) . فالإسناد صحيح. (4) هو من حديث عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قعد في الصلاة؛ جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 981 ..............................................................................   وفرش قدمه اليمنى، ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه. أخرجه مسلم (2/90) [واللفظ له] ، وأبو عوانة (2/221) ، وأبو داود (1/156) ، والبيهقي (2/130) ، والطبراني في " الكبير " من طريق عبد الواحد بن زياد: ثنا عثمان ابن حَكِيم: ثني عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه به. وقال أبو داود [وأبو عوانة] : (تحت) .. بدل: (بين) . ولعله أوضح في المعنى، والمراد أنه كان يجعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه اليمنى. واعلم أن العلماء اختلفوا في صفة الجلوس في التشهدين: فمنهم من قال: يفترش فيهما. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. ومنهم من قال: يتورك فيهما. وهو قول مالك وأتباعه. ومنهم من قال: يتورك في كل تشهد يليه السلام، ويفترش في غيره. وهو مذهب الشافعي وأصحابه. ومنهم من قال: يتورك في كل صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما؛ فرقاً بين الجلوسين. وهو مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، وهو أسعد الأئمة في هذا المكان بالسنة؛ فإن معه حديثِ أبي حميد هذا ومن معه من الصحابة، وهو نصٌّ في ذلك؛ قال في " زاد المعاد " (1/91) : " قال الإمام أحمد ومن وافقه: هذا مخصوص بالصلاة التي فيها تشهدان، وهذا التورك فيها جُعل فرقاً بين الجلوس في التشهد الأول - الذي يسن تخفيفه؛ فيكون الجالس فيه متهيئاً للقيام -، وبين الجلوس في التشهد الثاني - الذي يكون الجالس فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 982 ..............................................................................   مطمئناً -. وأيضاً فتكون هيئة الجلوس فارقة بين التشهدين، مذكرةً للمصلي حاله فيهما. وأيضاً فإن أبا حميد إنما ذكر هذه الصفة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجلسة التي في التشهد الثاني؛ فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول، وأنه كان يجلس مفترشاً، ثم قال: وإذا جلس في الركعة الآخرة. وفي لفظ: فإذا جلس في الركعة الرابعة ". وينبغي أن نسوق أدلة كل مذهب من المذاهب المذكورة؛ ليظهر الحق منها: أما المدهب الأول: فاحتج أصحابه بثلاثة أحاديث: الأول: عن عائشة قالت: وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى ... الحديث. وقد سبق في (افتتاح الصلاة) . وهو بعمومه حجة ظاهرة؛ لأنها ذكرت ذلك بعد قولها: في كل ركعتين التحية. فقولها: وكان يفرش ... إلخ؛ كأنه نص أنه في كل ركعتين أيضاً؛ لكن الحديث - وإن كان في " صحيح مسلم "؛ فهو - معلّ بالانقطاع كما بَيَّنَّاه هناك. ولو صح؛ لقلنا بجواز الافتراش في التشهد الأخير، وأنه سنة أحياناً، لكنه لم يصح. الثاني: عن وائل بن حُجْر قال: فلما قعد للتشهد؛ فرش رجله اليسرى، ثم قعد عليها، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى، ووضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد أصابعه، وجعل حلقة بالإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى. أخرجه النسائي (1/141) ، والدارمي (1/314) ، وأحمد (4/318) ، والطحاوي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 983 ..............................................................................   (1/152 - 153) ، والبيهقي (2/132) . وسنده صحيح. وأظن أنه تقدم (*) . قال الطحاوي: " قوله: (يدعو) : دليل على أنه كان في آخر الصلاة ". وهو كما قال، لكن ينبغي أن ينظر: هل كانت هذه الصلاة ثنائية أم رباعية؟ وقد وجدت في " سنن النسائي " (1/173) رواية أخرى تُعيِّن ذلك بلفظ: وإذا جلس في الركعتين؛ أضجع اليسرى، ونصب اليمنى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ونصب أصبعه للدعاء. وإسنادها صحيح أيضاً. فهذا نص في أن الافتراش إنما كان في الركعتين، والظاهر أن الصلاة كانت ثنائية، ولعلها صلاة الصبح. وعليه؛ فالحديث لا حجة فيه لهذا المذهب، بل هو حجة للمذهب الرابع - مذهب أحمد -؛ الذي يقول بالافتراش في التشهد الأول في الرباعية، وكذا في الثنائية، وهو حجة على المذهب الثاني والثالث. الحديث الثالث: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتَثْني رجلك اليسرى. أخرجه مالك (1/112 - 113) ، وعنه البخاري (2/242 - 243) عن عبد الرحمن ابن القاسم عن عبد الله بن عبد الله بن عمر أنه أخبره:   (*) في عدة مواضع منها بحث (وضع اليمنى على اليسرى على الصدر) (ص 209) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 984 ..............................................................................   أنه كان يرى عبد الله بن عمر يتربع في الصلاة إذا جلس، ففعلته - وأنا يومئذٍ حديث السن -، فنهاني عبد الله، وقال: ... فذكره. فقلت له: فإنك تفعل ذلك؟ فقال: إن رِجْلَيّ لا تحملاني. وكذلك أخرجه الطحاوي (1/151) ، والبيهقي (2/129) . وأخرجه النسائي (1/173) ، والدارقطني (133) ، والبيهقي أيضاً من طريق يحيى ابن سعيد عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عبد الله به نحوه. وقد سبق لفظ النسائي في (الجلوس بين السجدتين) ، وله عنده - وكذا الدارقطني - ألفاظ أخرى، ثم قال الدارقطني: " كلها صحاح ". قلت: وهو حجة بإطلاقه، إلا أنه قد جاء عن ابن عمر أيضاً ما يقتضي تقييده بالتشهد الأول في الرباعية أو بالتشهد؛ في الثنائية. وهو: ما أخرجه مالك أيضاً، وعنه الطحاوي، والبيهقي عن يحيى بن سعيد أيضاً: أن القاسم بن محمد أراهم الجلوسَ في التشهد؛ فنصب رجله اليمنى، وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه الأيسر، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر، وثني: أن أباه كان يفعل ذلك. فهذا خلاف ما أفادته رواية القاسم بن محمد التي قبل هذه، ومثلها رواية ابنه عبد الرحمن، فإن لم تُحمل إحدى الروايتين على تشهدٍ والأخرى على تشهد آخر؛ تعارضتا. قال الحافظ (2/243) : " فإذا حُملت رواية القاسم وابنه على التشهد الأول، وروايته الأخيرة على التشهد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 985 ..............................................................................   الأخير؛ انتفى عنهما التعارض، ووافق ذلك التفصيلَ المذكورَ في حديث أبي حميد. والله أعلم ". هذا كل ما وجدنا لأرباب هذا المذهب من دليل وحجة. وقد ظهر لك بهذا البيان أنه لا يَسلَمُ لهم ولا حجة واحدة. وأما المذهب الثاني: فقد احتجوا بحديث ابن عمر المذكور قريباً: أنه كان يجلس على وركه الأيسر. والجواب عنه يتضح مما سبق؛ وهو أن هذه الرواية محمولة على التشهد الأخير؛ جمعاً بينها وبين الرواية المعارضة له، فالروايتان بمجموعهما حجة لأحمد على مالك. وقد وجدت له حجة أخرى؛ وهو حديث ابن مسعود: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى: " التحيات ... " الحديث. وهذا نص واضح في التورك في التشهدين، ولكنه لا يصح إسناده - كما سبق بيانه في (الافتراش في التشهد) . فراجعه إن شئت -. ولهم حجة ثالثة، وهو حديث عبد الله بن الزبير هذا. وأجيب عنه بأنه مجمل، وأنه محمول على التشهد الأخير؛ كما دل عليه حديث أبي حميد قبله. ذكره في " الزاد " (1/86) . وأما المذهب الثالث: فليس لهم حجة سوى ما في روايةٍ من حديث أبي حميد بلفظ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 986 ..............................................................................   حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم؛ أخر رجله اليسرى، فقعد متوركاً على شقه الأيسر. وقد تقدمت في (الركوع) [ص 605] . وهذا لا حجة فيه؛ لأن سياق الحديث يدل على أن ذلك إنما كان في التشهد الذي يليه السلام من الرباعية أو الثلاثية؛ فإنه ذكر قيامه من الركعتين، ثم قال: حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم؛ قعد متوركاً. قال ابن القيم (1/92) : " فهذا السياق ظاهر في اختصاص هذا الجلوس بالتشهد الثاني ". قلت: وأصرح منه رواية البخاري المتقدمة آنفاً بلفظ: فإذا جلس في الركعتين؛ جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى. وإذا جلس في الركعة الآخرة؛ قدم رجله اليسرى. ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته. وهذه نص فيما قاله ابن القيم، وهي تبين أن بعض الرواة أجملوا رواية حديث أبي حميد هذا؛ فلم يذكر صفة جلوسه في التشهد الأول؛ فاغتر به من احتج به لهذا المذهب! وإنما يجب الأخذ بالزائد فالزائد - كما هو معلوم -. وأما المذهب الرابع: فقد علمت أن حجته هي حديث أبي حميد هذا، وهو نص صريح قاطع في ذلك؛ فهو أقوى المذاهب وأصحها، وهو الذي يجمع بين مختلف الأحاديث المتقدمة الثابتة، ولا يرد شيئاً منها، بخلاف غيره من المذاهب؛ فإنه يلزم أن يَرُد كثيراً من تلك الأحاديث أو بعضها - كما لا يخفى -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 987 و " ينصب اليمنى " (1) ، وربما " فرشها " (2) أحياناً.   (1) هو من حديث أبي حميد: عند البخاري بلفظ: وإذا جلس في الركعة الآخرة؛ قدم رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته. {أما الثنائية كالصبح؛ فالسنة الافتراش - كما تقدم (ص 829) -. وبهذا التفصيل قال الإمام أحمد كما في " مسائل ابن هاني عنه " (ص 79) } . (2) هو من حديث عبد الله بن الزبير. وقد سبق لفظه قريباً [ص 981 - 982] . وقد اختلف العلماء في الجمع بين حديثه هذا وبين ما سبق قبله من حديث أبي حميد؛ فقال البيهقي (2/305) - بعد أن ساق حديث ابن الزبير -: " ولعل ذلك كان من شكوى ". وقال ابن القيم (1/87) : " ومعنى فرش قدمه اليمنى: أنه كان يجلس في هذا الجلوس على مقعدته؛ فيكون قدم اليمنى مفروشة، وقدم اليسرى بين فخذه وساقه ومقعدته على الأرض، فوقع الاختلاف في قدمه اليمنى في هذا الجلوس: هل كانت مفروشة أو منصوبة؟ وهذا - والله أعلم - ليس اختلافاً في الحقيقة؛ فإنه كان لا يجلس على قدمه، بل يخرجها عن يمينه؛ فتكون بين المنصوبة والمفروشة، فإنها تكون على باطنها الأيمن، فهي مفروشة بمعنى أنه ليس ناصباً لها جالساً على عقبه، ومنصوبة بمعنى أنه ليس جالساً على باطنها وظَهْرُها إلى الأرض. فصح قول أبي حميد ومن معه، وعبد الله بن الزبير. أو يقال: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل هذا وهذا؛ فكان ينصب قدمه، وربما فرشها أحياناً، وهذا أروح لها. والله أعلم ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 988 و " كان يُلْقِمُ كَفه اليسرى ركبتَه؛ يتحامل عليها " (1) .   وهذا التأويل الأخير الذي ذكره هو المختار عندنا؛ تبعاً للنووي في " شرح مسلم "، ويكون فَعَل هذا لبيان الجواز، وأن وضع أطراف الأصابع على الأرض - وإن كان مستحباً باتفاق العلماء - يجوز تركه أحياناً. وهذا التأويل له نظائر كثيرة؛ لا سيما في باب الصلاة - كما مر ذلك في كتابنا هذا -. (1) هو من حديث عبد الله بن الزبير. أخرجه مسلم (1/90) من طريق أبي خالد الأحمر عن ابن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قعد يدعو؛ وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويُلقم كفه اليسرى ركبته. وقد تابعه عثمان بن حَكِيم عن عامر؛ لكن ليس عنده: ويلقم كفه اليسرى. وقد سبق لفظه قريباً [981 - 982] . وتابعه عمرو بن دينار بلفظ: إنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو كذلك، ويتحامل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده اليسرى على رجله اليسرى. أخرجه أبو داود (1/156) ، والنسائي (1/187) ، والبيهقي (2/131 - 132) . واسناده صحيح. وأخرجه الطبراني في " الكبير "، {وأبو عوانة [2/225 - 226] } . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 989 وجوب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنَّ فيه الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما سَنَّ ذلك في التشهد الأول. {وقد مضى هناك ذكر الصيغ الواردة في صفة الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} . وقد " سمع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يدعو في صلاته؛ لم يُمَجِّدِ الله تعالى، ولم يُصَلِّ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال: " عَجِلَ هذا ". ثم دعاه، فقال له أو لغيره: " إذا صلى أحدكم؛ فَلْيَبْدَأْ بتحميد ربه جل وعز، والثناء عليه، ثم يصلي (وفي رواية: ليصل) على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يدعو بعد بما شاء ". [وسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يصلي، فَمَجَّدَ الله، وحمده، وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادعُ؛ تُجَبْ، وسَلْ؛ تُعْطَ "] " (1) .   (1) هو من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه. أخرجه الإمام أحمد (6/18) ، وعنه أبو داود (1/233) ، والترمذي (2/260 - طبع بولاق) ، والحاكم (1/230 و 268) ، وعنه البيهقي (2/147 - 148) ، والطحاوي في " المشكل " (3/76 - 77) عن عبد الله بن يزيد المقرئ: ثنا حيوة قال: أخبرني أبو هانئ حميد بن هانئ عن عَمْرو بن مالك الجَنْبي: ثني أنه سمع فَضالة بن عُبيد صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... فذكره. وهذا سند صحيح متصل. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". وفي الموضع الآخر: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي فيهما! وقد وَهِمَا؛ فإن عمرو بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 990 ..............................................................................   مالك هذا لم يخرجا له في " الصحيحين ". والحديث صححه أيضاً ابن خزيمة { (1/83/2) = [1/351/710] } ، وابن حبان - كما في " الجلاء " (243) -. وأخرجه النسائي (1/189) من طريق ابن وهب عن أبي هانئ به بلفظ: " عَجِلْتَ أيها المصلي! ". ثم علمهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... وفيه الزيادة. وإسنادها صحيح أيضاً. ورواه ابن لهيعة عن أبي هانئ مقتصراً على المرفوع منه فقط بلفظ: " إذا دعا أحدكم ... " الحديث. أخرجه ابن السني (39) . وابن لهيعة: ضعيف؛ لسوء حفظه. ولهذه الزيادة متابع: أخرجه الترمذي، وكذا الطبراني - كما في " المجمع " (10/155 - 156) - من طريق رِشْدين بن سعد عن أبي هانئ بلفظ: بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد؛ إذ دخل رجل، فصلى، فقال: اللهم! اغفر لي وارحمني. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَجِلْتَ أيها المصلي! إذا صليت فقعدت؛ فاحمد الله بما هو أهله، وصلِّ عليَّ، ثم ادعه ". قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيها المصلي! ادعُ؛ تُجَبْ ". وقال الترمذي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 991 ..............................................................................   " حديث حسن ". وقد وجدت لها شاهداً من حديث ابن مسعود قال: كنت أصلي والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست؛ بدأت بالثناء على الله، ثم الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَلْ؛ تعطه، سل؛ تعطه ". أخرجه الترمذي أيضاً (2/488 - طبع الحلبي) من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زِرّ عنه. وهذا سند حسن. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". قال المعلق عليه القاضي أحمد محمد شاكر: " رواه ابن ماجه ". قلت: وقد فتشت عنه فيه؛ فلم أجده. وقد عزاه النابلسي في " الذخائر " (2/193) إلى (كتاب السنة) من ابن ماجه، وقد راجعته؛ فلم أره فيه! وإنما روى (1/63) بهذا الإسناد عن ابن مسعود: أن أبا بكر وعمر بشّراه؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أُنزل؛ فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ". ثم رأيت الحديث في " البيهقي " (2/153) من طريق أخرى عن ابن مسعود أتم منه؛ وفيه: " من أحب ... " إلخ. قوله: " له أو لغيره "؛ كذا في رواية أبي داود، والطحاوي: (أو) . ورواية الآخرين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 992 ..............................................................................   (له ولغيره) ؛ بالواو. قال ابن القيم (246) : " وهي الرواية الصحيحة التي رواها ابن خزيمة، وابن حبان، وأحمد، والدارقطني، والبيهقي وغيرهم ". قال: " و (أو) هنا ليست للتخيير؛ بل للتقسيم. والمعنى: أن أيَّ مصلٍّ صلى؛ فليقل ذلك، هذا أو غيره؛ كما قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} . ليس المراد التخيير؛ بل المعنى: أن أيهما كان؛ فلا تطعه، إما هذا، وإما هذا ". قوله: " والثناء عليه "؛ أراد بذلك التشهدَ؛ بدليل: أنه ليس في الصلاة موضع يشرع فيه الثناء على الله تعالى، ثم الصلاة على رسوله، ثم الدعاء إلا في التشهد آخر الصلاة؛ فإن ذلك لا يشرع في القيام، ولا في الركوع، ولا في السجود اتفاقاً؛ فعلم أنه إنما أراد به آخر الصلاة حال جلوسه في التشهد. كذا في " الجلاء " (242) . ويؤيد ذلك: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث رِشْدين: " إذا صليتَ، فقعدتَ؛ فاحمدِ الله ... " الحديث. وقول ابن مسعود: فلما جلستُ؛ بدأتُ بالثناء على الله، ثم الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم دعوت لنفسي. قوله: " يصلي " كذا رواه أبو داود، والطحاوي. وقال الآخرون: " ليصلِّ ". بزيادة لام الأمر. وقد استدل به على وجوب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد الأخير؛ لأن أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للوجوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 993 ..............................................................................   وقد ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، وكذا أحمد {في آخر الروايتين عنه} ، وإسحاق في رواية عنهما. وقد نقل القول بالوجوب عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ {بل قال الآجري في " الشريعة " (ص 415) : " من لم يصل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تشهده الأخير؛ وجب عليه إعادة الصلاة "} . وذلك يرد قول من نسب الإمام الشافعي إلى الشذوذ (1) لقوله بوجوبها - كالطحاوي وغيره -. قال الحافظ (11/137) : " وأصح ما ورد في ذلك عن الصحابة والتابعين: ما أخرجه الحاكم بسند قوي عن ابن مسعود قال: يتشهد الرجل، ثم يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يدعو لنفسه. وهذا أقوى شيء يُحتج به للشافعي؛ فإن ابن مسعود ذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمهم التشهد في الصلاة، وأنه قال: " ثم ليتخير من الدعاء ما شاء ". فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء؛ دل على أنه اطلع على زيادة بين التشهد والدعاء، واندفعت حجة من تمسك بحديث ابن مسعود في دفع ما ذهب إليه الشافعي؛ مثل ما ذكر عياض؛ قال: وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ليس فيه ذكر الصلاة عليه. وكذا قول الخطابي: إن في آخر حديث ابن مسعود: إذا قلت هذا؛ فقد قضيت صلاتك.   (1) {كما بينه الفقيه الهيتمي في " الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود " (ق 13 - 16) } . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 994 ..............................................................................   لكن رُد عليه بأن هذه الزيادة مدرجة، وعلى تقدير ثبوتها؛ فتحمل على أن مشروعية الصلاة عليه وردت بعد تعليم التشهد. ويتقوى ذلك بما أخرجه الترمذي عن عمر موقوفاً: الدعاء موقوف بين السماء والأرض؛ لا يَصِلُ منه شيء حتى يُصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن العربي: ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي؛ فيكون له حكم الرفع. انتهى. وورد له شاهد مرفوع في " جزء الحسن بن عرفة ". وأخرج المَعْمَريّ في " عمل يوم وليلة " عن ابن عمر بسند جيد قال: لا تكون صلاة إلا بقراءة، وتشهد، وصلاةٍ عليَّ ". وأخرج البيهقي في " الخلافيات " بسند قوي عن الشعبي - وهو من كبار التابعين - قال: من لم يصل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التشهد؛ فليُعِدْ صلاته ". ثم قال الحافظ: " واستَدل له - يعني: الشافعيَّ - ابنُ خزيمة ومن تبعه بحديث فَضَالة بن عُبيد هذا ". قال: " وهذا مما يدل على أن قول ابن مسعود المذكور قريباً مرفوع؛ فإنه بلفظه. وقد طعن ابن عبد البر في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب؛ فقال: لو كان كذلك؛ لأُمر المصلي بالإعادة كما أمر (المسيء صلاته) . وكذا أشار إليه ابن حزم. وأُجيب باحتمال أن يكون الوجوب وقع عند فراغه، ويكفي التمسك بالأمر في دعوى الوجوب ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 995 ..............................................................................   وخير من هذا الجواب وأقوى قولُ ابن القيم في " الجلاء " (237) : " إنَّ هذا كان غير عالم بوجوبها، معتقداً أنها غير واجبة؛ فلم يأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإعادة، وأَمَرَه في المستقبل أن يقولها. فأَمْرُه بقولها في المستقبل دليل على وجوبها. وتَرْكُ أمرِه بالإعادةِ دليلٌ على أنه يعذر الجاهل بعدم الوجوب، وهذا كما لم يأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (المسيء) في الصلاة بإعادة ما مضى من الصلوات - وقد أخبر أنه لا يحسن غير تلك الصلاة - عذراً له بالجهل. فإن قيل: فلِمَ أمره أن يعيد تلك الصلاة، ولم يعذره بالجهل؟ قلنا: لأن الوقت باق، وقد علم أركان الصلاة؛ فوجب عليه أن يأتي بها. فإن قيل: فهلا أمر تارك الصلاة عليه بإعادة تلك الصلاة، كما أمر (المسيء) ؟ قلنا: أمرُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة عليه فيها مُحْكَمٌ ظاهر في الوجوب. ويحتمل أن الرجل لما سمع ذلك الأمر من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بادر إلى الإعادة من غير أن يأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويحتمل أن تكون الصلاة نفلاً؛ لا تجب عليه إعادتها. ويحتمل غير ذلك؛ فلا يترك الظاهر من الأمر - وهو دليل محكم - لهذا المشتبه المحتمل. والله سبحانه وتعالى أعلم ". ومما يدلك على قوة هذا الجواب أنه ثبت في " صحيح مسلم " (2/70) وغيره عن معاوية بن الحكم السلمي: أنه تكلم في الصلاة فقال: وا ثُكل أمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ ... الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 996 ..............................................................................   فلم يأمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإعادة، ولكن علمه تحريم الكلام فيما يستقبل بقوله: " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن ". أفيدل عدم أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بالإعادة على أن الكلام في الصلاة جائز؟! كلا، ثم كلا! فما يكون جواب ابن عبد البر وأمثاله ممن نحا نحو قوله عن هذا الحديث؛ فهو جوابنا عن حديث فضالة. نعم؛ إن الحديث لا يدل على ركنية الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة؛ بحيث إنه يلزم من تركها بطلانُها، وإنما يدل على الوجوب فقط الذي يأثم تاركه. فتنبه لهذا. والله أعلم. ومن أراد التوسع في هذا البحث؛ فليراجع كتاب " الجلاء " لابن القيم (222 - 248) ؛ فإنه بحث طويل، فيه فوائد نفيسة، لا تجدها في كتاب. وفي الحديث أن الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الدعاء؛ سبب لاستجابة الدعاء. وقد قال علي رضي الله عنه: كل دعاء محجوب؛ حتى يُصَلَّى على محمد وآل محمد. رواه الطبراني في " الأوسط ". ورجاله ثقات - كما في " المجمع " (10/160) -. وفي الباب آثار أوردها ابن القيم في فصل خاص من " الجلاء " (260 - 261) ، وقد تقدم منها أثر ابن مسعود قريباً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 997 وجوب الاستعاذةِ من أربع قبل الدُّعاء وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا فرغ أحدكم من التشهد [الآخِر] (1) ؛ " فلْيستعذ (2) بالله من أربع؛   (1) هذه الزيادة تفيد مشروعية هذه الاستعاذة بالتشهد الأخير دون الأول؛ خلافاً لابن حزم في " المحلى " (3/271) ، وتبعه ابن دقيق العيد؛ حيث قال: " المختار أن يدعو في التشهد الأول، كما يدعو في التشهد الأخير؛ لعموم الحديث الصحيح: " إذا تشهد أحدكم؛ فليتعوذ بالله من أربع ... ". قال الحافظ في " التلخيص " (3/507) : " وتعقب بأنه في " الصحيح " عن أبي هريرة بلفظ: " إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير؛ فليتعوذ ". وقال ابن القيم في " الزاد ": " ولا كان أيضاً يستعيذ فيه - يعني: التشهد الأول - من عذاب القبر وعذاب النار ... إلخ. ومن استحب ذلك؛ فإنما فهمه من عمومات وإطلاقات قد صح تبيين موضعها، وتقييدها بالتشهد الأخير ". ثم قال الحافظ في " الفتح " (2/253) - بعد أن ساق الحديث -: " فهذا فيه تعيين هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد؛ فيكون سابقاً على غيره من الأدعية، وما ورد الإذن فيه أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام ". قلت: وهذه الزيادة في آخر الحديث - " ثم يدعو لنفسه بما بدا له " - نص في ذلك. (2) ظاهره يفيد الوجوب، وقد قال به بعض أهل الظاهر - ومنهم ابن حزم (3/271) -؛ قال الحافظ (2/256) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 998 [يقول: (اللهم! إِني أعوذ بك] من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر [فتنة] المسيح الدجال) . [ثم يدعو لنفسه بما بدا له] " (1) .   " وادعى بعضهم الإجماع على عدم الوجوب. وفيه نظر؛ فقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس ما يدل على أنه يرى وجوب هذه الاستعاذة، وذلك أنه سأل ابنه: هل قالها بعد التشهد؟ فقال: لا. فأمره أن يعيد الصلاة ". قلت: وقد روى هذا مسلم في " صحيحه " (2/94) بلاغاً عن طاوس. ثم قال الحافظ: " وأفرط ابن حزم؛ فقال بوجوبها في التشهد الأول أيضاً. وقال ابن المنذر: لولا حديث ابن مسعود: " ثم ليتخير من الدعاء "؛ لقلت بوجوبها ". أقول: هذا التخيير لا يشمل الاستعاذة من هذه الأربع؛ بدليل أن التخيير جاء مقيداً بما بعد الفراغ من هذه الأربع - كما سبق -؛ فالحق وجوبها. والله أعلم. (1) هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه مسلم (2/93) ، {وأبو عوانة [2/235] } ، وابن ماجه (1/294) ، وأحمد (2/237) ، وعنه أبو داود (1/155) من طريق الوليد بن مسلم: ثني الأوزاعي: ثنا حسان بن عطية: ثني محمد ابن أبي عائشة: أنه سمع أبا هريرة يقول: ... فذكره. وأخرجه الدارمي (1/310) ، وكذا مسلم من طرق عن الأوزاعي؛ بدون الزيادة الأولى. ثم أخرجه مسلم، والبيهقي (2/154) ، وأحمد (2/477) عن وكيع عنه بالزيادة الثانية والثالثة. وأخرجه النسائي (1/193) ، {وابن الجارود في " المنتقى " (207) } عن عيسى بن يونس عن الأوزاعي به. وفيه الزيادة الأخيرة. وهو في " مسلم " من هذا الوجه، لكنه لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 999 و " كان يدعو به في تشهده " (1) .   يسق لفظه بتمامه. وقد أخرجه البيهقي من طريق أبي المغيرة ومحمد بن كثير - جميعاً - عن الأوزاعي بلفظ: " إذا فرغ أحدكم من صلاته؛ فلْيَدْعُ بأربع، ثم ليدع بما شاء ... " الحديث. وأخرجه الدارمي عن شيخه محمد بن كثير هذا، ولم يسق لفظه أيضاً، وإنما أحال على الرواية التي سبق عزوها إليه، وقال: " بنحوه ". ثم إن الظاهر أن هذا اللفظ هو لمحمد بن كثير؛ فإن الدارمي روى اللفظ الذي قبله من طريق أبي المغيرة بنحوه؛ وليس فيه هذه الزيادة: " ثم ليدع بما شاء ". وقد قال الحافظ في " الفتح " (2/256) : " وهذه الزيادة صحيحة؛ لأنها من الطريق التي أخرجها مسلم ". وكذلك صححها في " التلخيص " (3/516) بعد أن نسبها للنسائي. وهي في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن مسعود. وقد تقدم ذكرها في (التشهد الأول) [ص 865] . (1) هو من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه. أخرجه أبو داود (1/155 - 156) من طريق محمد بن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن طاوس عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يقول بعد التشهد: ... فذكره بلفظ حديث مالك الآتي بعده. وهذا سند حسن. رجاله كلهم رجال مسلم؛ غير محمد بن عبد الله هذا؛ وثقه ابن حبان، وروى عنه جمع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1000 و " كان يعلّمه الصحابة رضي الله عنهم كما يعلّمهم السورة من القرآن " (1) .   وقد تابعه ابن جريج، لكنه قد خالفه في اسم الصحابي؛ فجعله من (مسند عائشة) . أخرجه الإمام أحمد (6/200) قال: ثنا عبد الرزاق قال: أنا ابن جُريج عن ابن طاوس عن أبيه: أنه كان يقول بعد التشهد في العشاء الآخرة كلمات كان يعظّمهن جداً ... فذكرهن بتقديم وتأخير، وفيه قال: كان يعظّمهن ويذكرهن عن عائشة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا سند صحيح على شرط الستة. وعزاه الحافظ (2/253) لابن خزيمة من هذا الوجه. (1) هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه أيضاً. أخرجه مالك (1/216 - 217) ، وعنه مسلم (2/94) ، وأبو داود (1/241) ، والنسائي (2/320) ، والترمذي (2/263) ، وأحمد (1/242) - كلهم عن مالك - عن أبي الزبير عن طاوس عنه به، وفيه: يقول: " قولوا: اللهم! إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ". وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وله طريق أخرى: أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (100) ، وابن ماجه (2/432) عن كُرَيب عن ابن عباس. وفيه بكر بن سُليم الصوّاف، وهو مقبول - كما في " التقريب " -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1001 الدعاء قبل السلام، وأنواعه ......................................... (*) وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو في صلاته (1) بأدعية متنوعة؛ تارة بهذا، وتارة بهذا، وأقرَّ أدعية أخرى، {و " أمر المصلي أن يتخير منها ما شاء " (2) } ، وهاك هي:   (*) هنا في الأصل - موضع الحذف - قوله: وكان أحياناً يقول: " أحسنُ الكلامِ كلامُ الله، وأحسنُ الهدي هديُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وخرجه الشيخ رحمه الله بقوله: " هو من حديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في صلاته بعد التشهد: ... فذكره. أخرجه النسائي (1/193) من طريق، جعفر بن محمد عن أبيه عنه. وهذا سند صحيح على شرط مسلم ". وقد وجدنا الشيخ رحمه الله لم يذكره في " صفة الصلاة " المطبوع؛ وذلك - لعلّه - لما تبين له أنَّ النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان يقوله في خطبة الجمعة. والله أعلم. انظر تعليقه على الحديث (رقم 956) في " المشكاة " (1/301) ، وللتنبيه والفائدة رأينا جعله في الحاشية. (1) لم يأت تعيين محل هذه الأدعية من الصلاة، وهي تشمل كل موضع صالح للدعاء؛ كالسجود، والتشهد، وقد ورد الأمر بالدعاء فيهما - كما سبق -. وانظر " فتح الباري " (2/253) . (2) { [رواه] البخاري ومسلم (*) . قال الأثرم: " قلت لأحمد: بماذا أدعو بعد التشهد؟ قال: كما جاء في الخبر.   (*) سبق تخريجه مفصلاً (ص 893 - 894) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1002 1- " اللهم! إني أعوذ بك (1) من عذاب القبر (2) ، وأعوذ بك من   قلت له: أوليس قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثم ليتخير من الدعاء ما شاء "؟ قال: يتخير مما جاء في الخبر. فعاودته، فقال: ما في الخبر ". نقله ابن تيمية - ومن خطه نقلت - " مجموع " (69/218/1) ، واستحسنه؛ قال: " فإن اللام في " الدعاء " للدعاء الذي يحبه الله ليس لجنس الدعاء ". إلى آخر كلامه. ثم قال: " فالأجود أن يقال: إلا بالدعاء المشروع المسنون، وهو ما وردت به الأخبار، وما كان نافعاً ". قلت: وهو كما قال؛ لكن معرفة ما كان نافعاً من الدعاء يتوقف على العلم الصحيح، وهذا قلَّ من يقوم به؛ فالأولى الوقوف عند الدعاء الوارد؛ لا سيما إذا كان فيه ما يريده الداعي من المطالب. والله أعلم} . 1- هو من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو في الصلاة: ... فذكرته. أخرجه البخاري (2/253) ، ومسلم (2/93) ، {وأبو عوانة [2/236 - 237] } ، وأبو داود (1/141) ، والنسائي (1/193) ، والبيهقي (2/154) ، وأحمد (6/88 - 89) من طريق الزهري عن عروة عنها. (1) قال القاضي عياض رحمه الله: " دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستعاذته من هذه الأمور التي قد عُوْفِيَ منها وعُصِمَ؛ إنما فعله ليلتزم خوف الله تعالى، وإعظامه، والافتقار إليه، ولتقتدي به أمته، وليبين لهم صفة الدعاء، والمهم منه. والله أعلم ". كذا في " شرح مسلم ". (2) فيه إثبات عذاب القبر وفتنته. وهو مذهب أهل السنة، وأكثر المعتزلة؛ خلافاً لمن نفاه؛ كالخوارج، وبعض المعتزلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1003 فتنة (1) المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات. اللهم! إني   وهذا الحديث وأمثاله كثير تَرُدّ عليهم؛ بل ثبت ذلك في القرآن الكريم: قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلآئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (6: 93) . وقال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (40: 46) . وقد تكلم على الآيتين الحافظ في " الفتح " (3/180 - 186) ، وفسرهما، وشرح الأحاديث التي ذكرها البخاري في هذا الباب، وأطال في استقصائها الحافظ ابن كثير؛ فراجعها في " تفسيره " (2/531 - 538) . (1) قال أهل اللغة: (الفتنة) : الامتحان والاختبار. قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره. كذا في " الفتح ". واعلم أن الأحاديث في خروج الدجال في آخر الزمان كثيرة جداً؛ بل هي متواترة، لا يمكن لمطلع عاقل إنكارها، كلا، ولا تأويل معانيها؛ بل تعطيلها؛ لأن مجموع هذه الأحاديث تقطع بمجيئه. وإنه رجل شاب قَطَطٌ، شَبَّهَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعبد العُزّى بن قَطَن، وإنه أعور العين مكتوب بين عينيه: (كافر) يقرؤه كل مؤمن؛ كاتب وغير كاتب، وهو يخرج بين الشام والعراق، تَبَعُهُ من يهود أصفهان سبعون ألفاً، عليهم الطيالسة، لَبْثُه في الأرض أربعون يوماً؛ يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، سرعته في الأرض كالغيث استدبرته الريح، وليس من بلد إلا سيطؤه، إلا مكة والمدينة، يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، يجيء ومعه مثل الجنة والنار، وذلك في رَأْيِ العين، ويأخذ رجلاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1004 ..............................................................................   فينشره بالمنشار، ثم يحييه، ثم يأخذه ليذبحه، فلا يستطيع إليه سبيلاً؛ فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به؛ فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة. ثم يبعث الله تعالى المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق؛ فيطلب الدجال حتى يدركه بـ (باب لُدٍّ) ؛ فيقتله. كل هذه الأخبار صحيحة ثابتة في " صحيح البخاري " و " مسلم " (*) ، وهي من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها؛ كما قال تعالى: {الم. ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ} . وأما تأويلها، بل تعطيلها - كما فعل غلام أحمد القادياني الذي كان ادعى النبوة - بأن المراد بالدجال: الديانة المسيحية الباطلة، أو المبشِّرون بها - كما في كثير من كتبه، ومنها: " إعجاز المسيح " (ص 27 - 30) -؛ فذلك واضح البطلان، لا يحتاج إلى بيان. ومن إعجاز هذا القادياني المخبول: زعمه أن المراد بالشيطان الرجيم في الاستعاذة هو هذا الدجال - يعني: الديانة المذكورة -؛ قال (29) : " ولا يفهم هذا الرمزَ إلا ذو القريحة الوقادة "! فأكْبِرْ به من إعجاز! ومن وقف على كتبه؛ يعلم أن تفسيره كله أو جله على هذه الطريقة الرمزية الصوفية الغالية، التي لا تستند إلى قاعدة لغوية أو شرعية، وإنما هي الهوى أو الوحي الشيطاني!   (*) انظر كتاب " قصة المسيح الدَّجّال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتله إياه ". بقلم الشيخ رحمه الله، طبع المكتبة الإسلامية، عَمَّان / الأردن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1005 أعوذ بك من المأثم (1) والمغرم ".   وهو في أثناء تفسيره للاستعاذة يشير إلى إنكار وجود الجن وشياطينهم، وإنما الجن عنده وعند أتباعه الضالين هم زعماء الناس؛ كما صرح لي بذلك بعض أتباعه، وكان قد جرى بيني وبينه مناظرة شفهية في هذا الموضع في جلسات تبلغ العشر، كان نتيجتها أن انسحب منها مذموماً مدحوراً. ونحن الآن (شعبان سنة 66) في صدد عقد اجتماعات كل يوم جمعة لهم، وبحضور مبشرهم الهندي نور أحمد منير؛ وذلك لوضع شروط المناظرة الكتابية بيننا وبينهم، بعد أن امتنعوا امتناعاً باتاً من المناظرة الشفهية، وها قد مضى أكثر من أربع جلسات، وهم يراوغون في الجواب عن السؤال الأول الذي كتبناه لهم في دَفْتَرَيِ الفريقين، ووقّعوه - كما وقّعناه - بإمضاءاتهم؛ وخلاصته: هل أنتم مستعدون للبحث معنا في اعتقادكم جواز مجيء أنبياء كثيرين غير مشرعين بعد نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وظاهر أجوبتهم الامتناع عن البحث في هذه العقيدة، ونحن بانتظار الجواب القاطع منهم، وما أُراني أحصل عليه! والله المستعان. (1) {هو الأمر الذي يأثم به الإنسان، أو هو الإثم نفسه؛ وضعاً للمصدر موضع الاسم، وكذلك (المغرم) : ويريد به الدَّين؛ بدليل تمام الحديث: قالت عائشة: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله! فقال: " إن الرجل إذا غرم؛ حدَّث فكذب، ووعد فأخلف "} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1006 2- " اللهم! إني أعوذ بك من شر ما عملت (1) ، ومن شر ما لم أعمل [بعد] ". 3- " اللهم! حاسبني حساباً يسيراً ".   2- هو من حديث عائشة رضي الله عنها: يرويه فَرْوَة بن نَوْفَل قال: قلت لعائشة: حدثيني بشيء كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو به في صلاته ". فقالت: نعم؛ كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... فذكره. أخرجه النسائي (1/192) من طريق جريرعن منصورعن هلال بن يِسَاف عنه. وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وقد أخرجه هو في " صحيحه " (8/80) ، وكذا أبو داود (1/242) ، وابن ماجه (2/432) ، وأحمد (6/31 و 100 و 213 و 278) من طرق عن منصور به، دون قوله: في صلاته. وهو رواية للنسائي (2/321) . {و [أخرجه] ابن أبي عاصم في كتاب " السنة " (370 - بتحقيقي، وطبع المكتب الإسلامي) [من طريق أخرى عن هلال به] (*) . والزيادة له} . (1) أي: من شر ما فعلت من السيئات، وما تركت من الحسنات، أو من شر كل ما يتعلق به كسبي أولاً. سندي. 3- هو من حديث عائشة أيضاً قالت: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في بعض صلاته: " اللهم! حاسبني حساباً يسيراً ". فلما انصرف؛ قلت: يا نبي الله! ما الحساب اليسير؟ قال:   (*) ما بين المعقوفات زيادة يتطلبها السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1007 4- " اللهم! بِعلمكَ الغيبَ، وقدرتكَ على الخَلْق؛ أَحْيني ما عَلمْتَ الحياةَ خيراً لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيراً لي. اللهم! وأسَألك خشيتَكَ في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق (وفي رواية: الحكم) و [العدل] في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى،   " أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه؛ إنه من نوقش الحساب يومئذٍ - يا عائشة! -؛ هلك، وكل ما يصيب المؤمن يكفِّر الله عز وجل به عنه، حتى الشوكة تشوكه ". أخرجه أحمد (6/48) ، والحاكم (1/255 و 4/249 - 250) من طريق محمد بن إسحاق قال: ثني عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير عن عباد بن عبد الله بن الزبير عنها. وهذا إسناد جيد. وقول الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. ليس بصحيح - كما سبق بيانه مراراً -. 4- هو من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه. أخرجه النسائي (1/192) ، وابن نصر في " قيام الليل " (143) ، وابن خزيمة في " التوحيد " (ص 9) ، والحاكم (1/524) ؛ كلهم عن حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه: أنه صلى يوماً صلاة، فأوجز فيها، فقال بعض القوم: لقد خففت؟ فقال: لقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فذكرها. قال الحاكم: " صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا؛ فإن عطاء بن السائب - وإن كان قد اختلط؛ فقد - روى عنه حماد بن زيد قبل الاختلاط؛ ولذلك قال الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " (1/288) : " إسناده جيد ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1008 وأسألك نعيماً لا يَبِيد (1) ، وأسألك قرّة عين [لا تنفد و] لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، و [أسألك] الشوق إلى لقائك؛ في غير ضَرَّاء مُضِرَّة، ولا فتنة مُضلة. اللهم! زَيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ".   ثم قد أخرجه النسائي، وأحمد (4/264) من طريق أخرى عن شَرِيك عن أبي هاشم الواسطي عن أبي مِجْلَز - زاد النسائي: عن قيس بن عُبَاد - قال: صلى عمار بن ياسر ... فذكره بنحوه. وهذا سند حسن. والرواية الأخرى لابن نصر، والحاكم. والزيادتان الأولى والأخيرة لابن خزيمة، والوسطى والأخيرة للحاكم. (1) وقال النسائي: " ينفد ". والصواب رواية الجمهور، ويشهد لها ما في " المسند " (1/437) من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: مر بي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أصلي، فقال: " سل؛ تعطه يا ابن أم عبد! ". فقال عمر: فابتدرت أنا وأبو بكر، فسبقني إليه أبو بكر - وما استبقنا إلى خير إلا سبقني إليه أبو بكر -، فقال: إن من دعائي الذي لا أكاد أن أدع: اللهم! إني أسألك نعيماً لا يبيد، وقرة عين لا تنفد، ومرافقة النبي محمد، في أعلى الجنة؛ جنة الخلد. ورجاله رجال الستة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1009 5- وعَلّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقول:   وقد أخرجه الحاكم (1/523 - 524 و 526) عن شعبة وعن الأعمش عن أبي إسحاق به. وقال: " صحيح؛ إذا سلم من الإرسال ". وكذا قال الذهبي. وليس بسالم من الإرسال؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه - كما مضى مراراً -. والحديث أخرجه أيضاً النسائي في " اليوم والليلة " - كما في " تخريج الإحياء " (1/288) -. 5- هو من (مسند أبي بكر) نفسه. يرويه عبد الله بن عمرو عنه: أنه قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي. قال: " قل: ... " فذكره. أخرجه البخاري (2/254) ، ومسلم (8/74) ، والنسائي (1/192) ، والترمذي (2/268 - طبع بولاق) ، والبيهقي (2/154) ؛ كلهم من طريق قُتيبة بن سعيد قال: ثنا الليث عن يزيدَ بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو به. وقال الترمذي: " حسن صحيح ". ثم أخرجه البخاري (11/110) عن عبد الله بن يوسف، وابن ماجه (2/431) عن محمد بن رُمْحٍ، والبيهقي عن يحيى بن بُكَير، وأحمد (1/3 و 7) عن هاشم بن القاسم وحجاج؛ خمستهم عن الليث به. وقد أخرجه مسلم عن محمد بن رُمْح، لكنه قال: " كبيراً ".. بدل: " كثيراً ". وهي عندي رواية شاذة؛ لمخالفتها لرواية الجماعة، حتى رواية محمد بن رُمْح نفسه عند ابن ماجه! ويرجحها أيضاً أن البخاري أخرج الحديث (13/320) وفي " الأدب المفرد " (103) ، وكذا مسلم من طريق عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب: أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1010 " اللهم! إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً (1) ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم ".   سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إن أبا بكر الصديق قال: ... فذكره بلفظ الجماعة. وخالفه ابن لهيعة عن يزيد؛ فقال: " كبيراً ". أخرجه أحمد (1/4) . وابن لهيعة: ضعيف. وظاهر هذه الرواية أن الحديث من (مسند ابن عمرو) ؛ بخلاف الأولى؛ فإن ظاهرها أنه من (مسند أبي بكر) ، وأوضح من ذلك رواية أبي الوليد الطيالسي عن الليث؛ فإن لفظه عن أبي بكر: قال: قلت: يا رسول الله! ... أخرجه البزار من طريقه - كما في " الفتح " (2/255) -، ثم قال: " ولا يقدح هذا الاختلاف في صحة الحديث ". (1) وفي رواية: " كبيراً ". وقد بينا قريباً أنها شاذة. وعلى فرض ثبوتها؛ فينبغي أن يقول هذه تارة، وهذه تارة. وأما الجمع بينهما فيقال: " كثيراً كبيراً " - كما في " الأذكار " للنووي -؛ فمعترَضٌ عليه - كما بين ذلك ابن القيم في " الجلاء " (219 - 222) ، والشيخ علي القاري في " المرقاة " (2/13) -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1011 6- وأمر عائشة رضي الله عنها أن تقول: " اللهم! إني أسألُك من الخير كله؛ 1 [عاجلهِ وآجلهِ] ؛ ما علمتُ منه وما لم أعلم. وأعوذُ بك من الشرِّ كله؛ 2 [عاجله وآجلهِ] ؛ ما علمتُ منه وما لم أعلم. وأسألك (وفي رواية: اللهم! إني أسأَلك) الجنةَ، وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ، وأعوذ بك من النار، وما قرَّب إليها من قول أو عمل. وأسألك (وفي رواية: اللهم! إني أسألك) من 3 [الـ] خير ما سألك عبدك ورسولك 4 [محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك 5 [محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] . 6 [وأسألك] ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته 7 [لي] رشداً ".   6- هو من حديث عائشة نفسها: أن أبا بكر دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأراد أن يكلمه، وعائشة تصلي؛ فقال لها ر سول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عليك بالكوامل - أو كلمة أخرى - ". وفي رواية: " عليك من الدعاء بالكوامل الجوامع ". فلما انصرفت عائشة؛ سأَلَتْه عن ذلك؟ فقال لها: " قولي: ... " فذكره. أخرجه الحاكم (1/521 - 522) ، وأحمد (6/146 - 147) ، والطيالسي (219) - والرواية الأخرى له -؛ ثلاثتهم عن شعبة عن جَبْر بن حبيب عن أم كلثوم بنت أبي بكر عنها. وقال الحاكم: " صحيح ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وقد تابعه الجُرَيري عن جبر بلفظ: عن عائشة قالت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1012 ..............................................................................   دخل علي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أصلي، وله حاجة، فابطأت عليه. قال: " يا عائشة! عليك بجُمَلِ الدعاءِ وجوامِعِهِ ". فلما انصرفت؛ قلت: يا رسول الله! وما جُمَلُ الدعاءِ وجوامِعُهُ؟ قال: " قولي: ... " فذكره. أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (92 - 93) . وتابعه أيضاً حماد بن سلمة. لكنه لم يذكر الصلاة. أخرجه ابن ماجه (2/433 - 434) ، وأحمد (6/134) من طريق عفان عنه. وفي " الزوائد ": " في إسناده مقال، وأم كلثوم هذه لم أر من تكلم فيها، وعدَّها جماعة في الصحابة. وفيه نظر؛ لأنها ولدت بعيد موت أبي بكر. وباقي رجال الإسناد ثقات ". قلت: أم كلثوم هذه قد روى عنها جمع من الثقات؛ ومنهم: جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، ويكفي في توثيقها رواية مسلم لها في " صحيحه "؛ وكأنه لذلك قال الحافظ في " التقريب ": " ثقة ". فالحق أن الحديث صحيح - كما قال الحاكم، والذهبي -. {وقد خرجته في " الصحيحة " (1542) } . وروى أبو داود (1/233) ، وأحمد (6/189) عن أبي نوفل عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك. وسنده صحيح على شرط مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1013 7- و " قال لرجل: " ما تقول في الصلاة؟ ". قال: أتشهد، ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، أما والله! ما أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ (1) ، ولا دَنْدَنَةَ معاذ. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حولها نُدَنْدِنُ " ".   هذا، والزيادتان الأوليان ثابتتان عند الجميع، حاشا الطيالسي. والزيادة الثالثة هي عنده، وكذا أحمد. والرابعة والخامسة عند الجميع، حاشا ابن ماجه. والسادسة عندهم، إلا البخاري. والأخيرة تفرد بها الطيالسي. والروايتان الأخريان لابن ماجه وأحمد. 7- هو من حديث بعض أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه أبو داود (1/127) ، وأحمد (3/474) عن زائدة عن سليمان عن أبي صالح عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل: ... الحديث. وأخرجه ابن ماجه (1/294 و 2/434) ، {وابن خزيمة (1/87/1) = [1/358/725] } من طريق جرير عن الأعمش - هو سليمان - عن أبي صالح عن أبي هريرة به. وهذا سند صحيح. ورجاله ثقات - كما قال في " الزوائد " -، وكذلك صححه النووي في " المجموع " (3/471) ، وهو على شرط الشيخين. (1) بفتحات، ما سوى النون الأولى؛ فبسكونها. أي: مسألتك الخفية، أو: كلامك الخفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1014 8- وسمع رجلاً يقول في تشهده: (اللهم! إني أسألك يا الله (1) (وفي رواية: بالله) [الواحد] الأحد الصمد؛ الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُواً أحد أن تغفر لي ذنوبي؛ إنك أنت الغفور الرحيم) . فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قد غفر له، قد غفر له، قد غفر له ".   و (الدندنة) : أن يتكلم الرجل بكلام تسمع نغمته ولا يفهم. وضمير (حولها) . للمقالة؛ أي: كلامنا قريب من كلامك. 8- هو من حديث مِحْجَن بن الأدرع: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل المسجد، فإذا هو برجل قد قضى صلاته، وهو يتشهد؛ ويقول: ... فذكره. أخرجه أبو داود (1/156) ، والنسائي (1/191) ، والحاكم (1/267) ، وأحمد (4/338) ، {وابن خزيمة [1/358/724] } من طريق عبد الوارث بن سعيد: ثنا حسين المُعَلِّم عن عبد الله بن بُريدة: ثني حنظلة بن علي عنه. وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي. قلت: حنظلة بن علي لم يخرج له البخاري في " صحيحه "؛ بل في " الأدب المفرد "؛ فهو على شرط مسلم فقط. والزيادة للنسائي وأحمد [وابن خزيمة] . وأخرج أبو داود (1/234) ، والترمذي (2/260 - طبع بولاق) ، وابن ماجه (2/436) ، = (1) هذه رواية أبي داود، وأحمد؛ بياء النداء. ورواية الآخرين: (بالله) .. بحرف الجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1015 ..............................................................................   = والحاكم (1/504) ، وأحمد (5/349 - 350 و 360) عن مالك بن مِغْوَل: ثنا عبد الله ابن بريدة عن أبيه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: (اللهم! إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد) . فقال: " لقد سأل الله باسمه الأعظم؛ الذي إذا سئل به؛ أعطى، وإذا دعي به؛ استجاب ". وقال الحاكم: " صحيح على شرطهما ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. واقتصر الترمذي على تحسينه. وهو قصور. ولعل ذلك بالنسبة إلى بعض رجاله. وأخرجه أيضاً ابن حبان في " صحيحه ". وقال المنذري (2/274) : " قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: وإسناده لا مطعن فيه، ولم يرد في هذا الباب حديث أجود إسناداً منه ". ثم أخرجه الحاكم من طريق شريك عن أبي إسحاق عن ابن بُريدة به نحوه، وقال: " صحيح على شرط مسلم ". كذا قال! وأخرجه الطحاوي في " المشكل " (1/61) عنه عن أبي إسحاق ومالك بن مِغْوَل معاً به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1016 9- وسمع آخر يقول في تشهده: (اللهم! إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت؛ 1 [وحدك لا شريك لك] ، 2 [المنان] ، 3 [يا] بديعَ السماوات والأرض! يا ذا الجلال والإكرام! يا حي! يا قيوم! 4 [إني أسألك] 5 [الجنة، وأعوذ بك من النار] ) . 6 [فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه:   9- الحديث من رواية أنس رضي الله عنه. أخرجه أبو داود (1/234) ، والنسائي (1/191) ، والحاكم (1/503) ، والطحاوي في " المشكل " (1/62) ، و {ابن منده في " التوحيد " (44/2 و 70/1 - 2) = [ص 109/233 و145/341] ، والضياء المقدسي في " المختارة "، وأحمد (3/158 و 245) عن خلف بن خليفة: ثنا حفص ابن أخي أنس بن مالك عنه قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد؛ دعا، فقال في دعائه: ... فذكره. وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. ورواه ابن حبان أيضاً في " صحيحه " - كما في " الترغيب " (2/274) -. وأخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (103) مختصراً. والزيادة الثانية: عند أبي داود، والنسائي، {وابن منده} ، وأحمد. وفي لفظ له: (الحنَّان) . والزيادة الثالثة: عنده في رواية، وكذا عند البخاري. والرابعة: عندهما، وكذا النسائي {وابن منده في الرواية الثانية} . والخامسة: عنده، وكذا أحمد، وبعضها عند البخاري. وللحديث ثلاثة طرق: هذا أحدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1017 ..............................................................................   والثاني: أخرجه ابن ماجه (2/436) ، وأحمد (3/120) ، والضياء المقدسي عن وكيع: ثني أبو خزيمة عن أنس بن سيرين عنه بنحوه. وهذا سند جيد. رجاله رجال الشيخين، حاشا أبا خزيمة، وهو صدوق - كما في " التقريب " -. وفيه الزيادة الأولى والثانية. ثم أخرجه الضياء المقدسي من طريق عيسى بن يونس الرملي: ثنا وكيع بن الجراح - بالرملة - ثنا سفيان: ثني حميد الطويل عن أنس به. وهذا سند جيد، وطريق آخر إن كان محفوظاً؛ فإن عيسى بن يونس هذا: قال في " التقريب ": " صدوق ربما أخطأ ". والثالث: أخرجه الحاكم (1/504) ، وأحمد (3/265) ، والطحاوي (1/62) ، {وابن منده في " التوحيد " (67/1) = [ص 136/213] } ، والطبراني في " الصغير " (ص 215) ، ومن طريقه الضياء المقدسي من وجهين عن إبراهيم بن عُبيد بن رِفاعة عنه. وفيه الزيادة الثانية والثالثة. وعند الطبراني وحده {وابن منده [من الطريق الأول؛ الرواية الثانية] } الزيادة الأخيرة دون قوله: " والذي نفسي بيده! ". وعند الحاكم {وابن منده [من الطريق الثالث] } الزيادة التي قبل هذه. وسكت عليه الحاكم. وكذا الذهبي! وإسناده صحيح. وفيه عند أحمد والطبراني تسمية الرجل الداعي، وهو أبو عياش زيد بن صامت الزُّرَقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1018 " تدرون بما دعا؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم (1) . قال: " والذي نفسي بيده!] لقد دعا الله باسمه العظيم (2) (وفي رواية: الأعظم) ، الذي إذا دعي به؛ أجاب، وإذا سئل به؛ أعطى ".   (1) (تنبيه) : جرت عادة كثير من الناس أنهم إذا سئل أحدهم عما لا علم له به، سواء كان باستطاعة البشر عادة معرفته أم لا؛ أجاب بقوله: الله ورسوله أعلم. وهذا جهل بالشرع؛ فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان يعلم الغيب وهو في قيد الحياة - كما حكى الله تعالى ذلك عنه في القرآن: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} -؛ فكيف يعلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى؟! فالصواب اليوم أن يقتصر في الجواب على قوله: الله أعلم. وإنما كان الصحابة رضي الله عنهم يجيبونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولهم: الله ورسوله أعلم. لعلمهم بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سألهم إلا وعنده علم ذلك، وإلا؛ ليُنَبَّئَهُم به. فتنبه لهذا، ولا تكن من الغافلين! (2) فيه مشروعية التوسل إلى الله تعالى بأسماء الله تعالى {الحسنى وصفاته، وهو ما أمر الله تعالى به في قوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 18] } ؛ ولا سيما الاسم الأعظم. وقد اتفق العلماء على ذلك؛ لهذا الحديث وما في معناه. وإن مما يؤسف له أن ترى الناس اليوم - وفيهم كثير من الخاصة - لا تكاد تسمع أحداً منهم يتوسل بأسماء الله تعالى؛ بل إنهم على العكس من ذلك يتوسلون بما لم يأت به كتاب ولا سنة، ولم يعرف عن السالفين من الأئمة؛ كقولهم: أسألك بحق فلان، أو جاه فلان، أو حرمة فلان! وقد يحتج أولئك على عملهم هذا بأحاديث بعضها صحيح - كحديث الأعمى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1019 ..............................................................................   وإن تكلم فيه بعض المتأخرين، فالصواب ما قلناه -، ولكنه لا يدل على ما زعموه - كما بين ذلك العلماء المحققون -، والبعض الآخر ضعيف لا يصح، وفيها كثير من الموضوعات؛ كحديث: " لما أذنب آدم عليه الصلاة والسلام ... "، وفيه قال: " أسألك بحق محمد إلا غفرت لي ". كما بينت ذلك في تعليقي على " المعجم الصغير " (2/148) ، [و " السلسلة الضعيفة " (رقم 25) ] . ولا أريد التوسع في ذلك الآن، وإنما أردت أن ألفت نظر المسلم البصير في دينه إلى ما يفعله الإحداث في الدين من صرف الناس عن الصحيح الثابت عن سيد المرسلين، وذلك مصداق قول بعض الصحابة رضي الله عنهم: ما أُحدثت بدعة إلا وأُميتت سنة (*) . وإن مما يتعجب منه أن أكثر علمائنا المتأخرين لا يجيزون لأحدهم مخالفة المذهب، ولو كان معه دليل صريح من الكتاب والسنة! ثم هم يخالفون المذهب بتجويزهم لذلك التوسل المبتدع بدون أي دليل صريح من الكتاب والسنة الصحيحة! أقول: إنهم يخالفون المذهب؛ لأنه قد جاءت نصوص صريحة عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأصحابه في المنع مما أجازوا؛ فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: " أكره أن يسأل الله تعالى إلا به ". وكذا قال أبو يوسف، وزاد: " وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك ". وكتب المتون مليئة بهذا المعنى. والكراهة إذا أطلقت؛ فهي للتحريم - كما هو معروف عند علمائنا -. وقال القُدُوري: " المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق؛ فلا تجوز وفاقاً ".   (*) وفي معناه قول حسان بن عطية - وهو تابعي -. انظر " المشكاة " (188) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1020 وكان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: 10- (اللهم! اغفر لي ما قَدّمْتُ، وما أَخّرْتُ، وما أَسْرَرْتُ، وما أَعْلَنْتُ، وما أَسْرَفْتُ، وما أنتَ أعلمُ به مني، أنت المقدِّمُ، وأنت المؤخِّرُ، لا إله إلا أنت ".   فإذن المسالة متفق عليها بين علمائنا، فما بال المنتسبين إلى الحنفية اليوم ينبزون بشتى الألقاب مَن ذهب هذا المذهب الصحيح؛ الموافق للكتاب والسنة، وعمل السلف الصالح رضي الله عنهم؟! وصدق الله العظيم: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (1) . 10- هو من حديث علي رضي الله عنه. وقد مضى بطوله في (الاستفتاح) [الدعاء رقم 2] . أخرجه بهذا اللفظ مسلم (2/185) ، {وأبو عوانة [2/101 و 168 و 235] } ، والترمذي (2/250 - 251 - طبع بولاق) وصححه، والبيهقي (2/32) بلفظ: ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: ... فذكره. وفي رواية لهم ولغيرهم: وإذا سلم؛ قال: ... فذكره. وبهذا اللفظ تقدم هناك، وهذا بظاهره مخالف للرواية الأولى؟ قال الحافظ: " ويجمع بينهما بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام؛ لأن مخرج الطريقين واحد.   (1) {ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة جيدة في هذا الموضوع اسمها " التوسل والوسيلة "، فلتطالع؛ فإنها هامة جدّاً لا مثيل لها في موضوعها. ثم رسالتي " التوسل، أنواعه وأحكامه "..، وهي هامة أيضاً في موضوعها وأسلوبها؛ مع الردّ على بعض شبهات جديدة من بعض الدكاترة المعاصرين. هدانا الله وإياهم أجمعين} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1021 ..............................................................................   وأورده ابن حبان في " صحيحه " بلفظ: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم ... وهذا ظاهر في أنه بعد السلام. ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده ". قلت: وهذا الاحتمال لا بد من المصير اليه، وإلا؛ فاحدى الروايتين خطأ من بعض الرواة، أو رواية بالمعنى. والرواية التي عند ابن حبان قد أخرجها قبله أحمد في " المسند " (1/102) بإسناد صحيح. والله أعلم. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1022 التسليم ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلم عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله "، [حتى يُرى بياض خده الأيمن] ، وعن يساره: " السلام عليكم ورحمة الله "، [حتى يُرى بياض خده الأيسر] " (1) .   (1) هو من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. أخرجه أبو داود (1/157) ، والنسائي (1/194 - 195) ، والترمذي (2/89) ، وابن ماجه (1/295) ، والدارقطني (136) ، والطحاوي (1/158) ، والطبراني في " الكبير " { (3/67/2) } والبيهقي (2/177) ، وأحمد (1/390 و 406 و 408 و 409 و 444 و448) ، {وعبد الرزاق في " مصنفه " (2/219) ، وأبو يعلى في " مسنده " (3/1252) = [9/40/5102] } من طرق عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص - زاد بعضهم: - والأسود ابن يزيد وعلقمة؛ ثلاثتهم عن عبد الله بن مسعود. وقال الترمذي - وليس عنده الزيادة -: " حديث حسن صحيح " (*) . ثم أخرجه النسائي، والدارقطني، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد (1/394 و 418) عن إسرائيل وزهير؛ كلاهما عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه - زاد بعضهم أيضاً: - وعلقمة عن ابن مسعود به بزيادة: ورأيت أبا بكر وعمر يفعلان ذلك. وقال الدارقطني: " إنه أحسن إسناداً من الأول ". ثم أخرجه هو، والبيهقي، وأحمد (1/409 و 414 و 438) من طرق أخرى. وأصله في " صحيح مسلم " (2/91) ، والنسائي، والدارمي (1/310 - 311) ، والبيهقي،   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع للطبراني في " الأوسط " (1/2600/2) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1023 وكان أحياناً يزيد في التسليمة الأولى: " وبركاته " (1) .   وأحمد أيضاً (1/444) مختصراً عن أبي معمر: أن أميراً كان بمكة يسلم تسليمتين، فقال عبد الله: أنَّى عَلِقَها (*) ؟ إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعله. والأحاديث في التسليمتين كثيرة متواترة، وقد ساقها الطحاوي بأسانيدها، وخرجها الزيلعي في " نصب الراية " (1/432 - 434) ، والعسقلاني في " التلخيص " (3/522 - 523) . فليراجعها من شاء. (1) قال الحافظ (3/523) : " وقعت هذه الزيادة في " صحيح ابن حبان " من حديث ابن مسعود، وهي عند ابن ماجه أيضاً، وهي عند أبي داود أيضاً في حديث وائل بن حجر، فيتعجب من ابن الصلاح حيث يقول: إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث! ". قلت: وحديث ابن مسعود: أخرجه الطيالسي أيضاً؛ فقال في " مسنده " (ص 37) : ثنا همام عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عبد الله: أنه كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله. وهذا موقوف. وهو صحيح إن كان همام سمعه من عطاء قبل أن يختلط.   (*) أي: مِن أين تعلّمها؟ ومِن أين جاءَ بها؟ " نهاية ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1024 ..............................................................................   وقد أخرجه الدارقطني (135) مرفوعاً من طريق أخرى، وضعفه بعبد الوهاب بن مجاهد. وأما ابن ماجه؛ فنسختنا من " سننه " المطبوعة في مصر عارية من هذه الزيادة، وقد قال ابن رسلان في " شرح السُّنَن ": " لم نجدها في ابن ماجه ". فالظاهر أن ذلك من اختلاف النسخ، ويؤيد ذلك أن الصنعاني يقول (1/275) إنه قرأها في نسخة صحيحة مقروءة من ابن ماجه بلفظ: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسلم عن يمينه، وعن شماله؛ حتى يُرى بياض خده: " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ". قلت: وهو في ابن ماجه (1/295) من طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود به دون الزيادة - كما ذكرنا (*) -، وقد سبق الحديث برواية أصحاب " السنن " وغيرهم بدونها؛ ففي ثبوتها في ابن ماجه - مع ذاك الاختلاف - نظر عندي. والله أعلم. وأما حديث وائل: فأخرجه أبو داود (1/157 - 158) عن موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان يسلم عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ". وعن شماله: " السلام عليكم ورحمة الله ". وهذا سند صحيح. رجاله كلهم ثقات رجال " الصحيح ".   (*) وقد عزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لابن خزيمة (1/87/2) = [1/359/728] . وهو فيه من الطريق نفسها، وفيه الزيادة في التسليمتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1025 ..............................................................................   وقد صححه {عبد الحق في " أحكامه " (56/2) ، و} النووي في " المجموع " (3/479) ، والحافظ في " بلوغ المرام "، ولكنهما أورداه بذكر الزيادة في التسليمتين. وهي في نسختنا من " السنن " في التسليمة الأولى فقط - كما رأيت -؛ فلا أدري: أذلك من اختلاف نسخ " سنن أبي داود " أيضاً، أم وهما في نقلهما عنه (*) ! والله أعلم. وإنما قيدت هذه الزيادة بالتسليمة الأولى بناء على ما وقع في نسختنا من " السنن "، وتقوَّى ذلك عندي برواية الطيالسي عن ابن مسعود المتقدمة؛ فإنها لم تذكر في التسليمة الثانية، فإن ثبتت فيها؛ قلنا بها، وذكرناها في الكتاب، وإلا؛ فنحن واقفون عند الوارد الثابت (**) . ويتأيد هذا بأن المعروف عند من يُعنى بدراسة هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شؤونه كلها أنه كان يخص اليد اليمنى والجهة اليمنى بمزيد من التشريف والعناية، وأقرب مثال على ذلك تخصيصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليمين بقوله: " السلام عليكم ورحمة الله ". واقتصاره في الجهة اليسرى على: " السلام عليكم ". كما هو مذكور بعد في الأصل. وقد قال السندي رحمه الله: " مقتضاه أنه يزيد في اليمين: " ورحمة الله "؛ تشريفاً لأهل اليمين بمزيد البر، ويقتصر على اليسار على قوله: " السلام عليكم ". وقد جاء زيادة: " ورحمة الله " في اليسار أيضاً. وعليه العمل؛ فلعله كان يترك أحياناً ".   (*) بل هي من اختلاف النسخ؛ كما ذكر الشيخ رحمه الله في " صحيح سنن أبي داود " (4/155) ، ثم قال: " ونسختنا وغيرها على وفق " مختصر السنن " للمنذري ... ، ولعلها أرجح ". (**) ثم مال الشيخ رحمه الله في " صحيح سنن أبي داود " (4/152) إلى شذوذها فانظر كلامه هناك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1026 و " كان إذا قال عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله "؛ اقتصر أحياناً على قوله عن يساره: " السلام عليكم " (1) .   فاعتبار ما ذكرنا من المعنى يقتضي تخصيص الجهة اليمنى بزيادة: " وبركاته ". إلا أن يصح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يخالفه - كما أشرنا -؛ فإنه يقال حينئذٍ: (إذا جاء الأثر؛ بطل النظر) . أو: (إذا جاء نهر الله؛ بطل نهر معقل) . والله سبحانه وتعالى أعلم. (1) هو من حديث ابن عمر رضي الله عنه. يرويه عنه واسع بن حَبَّان قال: قلت لابن عمر: أخبرني عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف كانت؟ قال: فذكر التكبير كلما وضع رأسه، وكلما رفعه، وذكر السلام: " السلام عليكم ورحمة الله " عن يمينه، " السلام عليكم " عن يساره. وقد مضى الحديث بتمامه في (التكبير) . أخرجه النسائي (1/195) ، وأحمد (2/72) عن عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي عن عمرو بن يحيى بن عُمَارة عن محمد بن يحيى بن حَبّان عن عمه واسع به. ثم أخرجه أحمد (2/152) : ثنا روح: ثنا ابن جريج: أخبرني عمرو بن يحيى به. وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجه الطحاوي (1/198) : ثنا علي بن شيبة قال: ثنا روح بن عُبادة به، لكنه زاد في التسليمة الثانية: " ورحمة الله ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1027 ..............................................................................   وكذلك أخرجه النسائي (1/194) ، والبيهقي (2/178) (*) من طريق حجاج قال: قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن يحيى به. فقد اختلف فيه على ابن جريج، والرواية الأولى عنه أصح؛ لأن روح بن عبادة أحفظ من الحجاج - وهو: ابن محمد -؛ قال في " التقريب " عن الأول: " ثقة فاضل، له تصانيف ". وقال عن الآخر: " ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخر عمره؛ لما قدم بغداد قبل موته ". فيحتمل أن روايته هذه مما حدث بها في اختلاطه. ولا يقال: قد وافقه عليها روح بن عبادة في رواية علي بن شيبة. لأنا نقول: قد خالفه الإمام أحمد عنه، وأين هو من الإمام في الثقة والحفظ والعدالة؟! بل إنه غير مشهور بالعدالة، وقد ترجمه الخطيب في " تاريخه " (11/436) ؛ فكان غاية ما قاله في توثيقه: " روى عنه عبد العزيز بن أحمد الغافقي وغيره من المصريين أحاديث مستقيمة ". ثم إنه يرجح رواية أحمد عن ابن جريج متابعة الدراوردي له، وهو ثقة، احتج به مسلم، وما اتفق عليه الثقتان؛ أولى بالقبول مما تفرد به ثقة واحد. فثبت - بما ذكرنا - أن أصل حديث ابن عمر الاقتصار على قوله: " السلام عليكم " عن يساره. ففيه أن السنة الإتيان بذلك أحياناً. وهذا لا ينافي مشروعية زيادة: " ورحمة الله " فيها كالأولى. وعليه أكثر الأحاديث، بل ذلك غالب أحواله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع للسراج أيضاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1028 وأحياناً " كان يسلم تسليمة واحدة " (1) : ......................................   (1) هو من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ... الحديث. أخرجه البيهقي في " سننه " (2/179) وفي " المعرفة " أيضاً عن أبي بكر بن إسحاق، والضياء المقدسي في " الأحاديث المختارة "، عن محمد بن عبد الله الشافعي وسليمان بن أحمد الطبراني - { [وهو عنده] في " الأوسط " (32/2) من " زوائد المعجمين "} -؛ ثلاثتهم عن أبي المثنى معاذ بن المثنى: ثنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي: ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن حميد عن أنس به (*) . وهذا إسناد سكت عليه الحافظ الزيلعي (1/433 - 434) ، وقال الحافظ العسقلاني في " الدراية " (90) : " ورجاله ثقات ". قلت: وهم من رجال البخاري؛ غير أبي المثنى هذا - وهو معاذ بن المثنى بن معاذ العَنْبَري -؛ ترجمه الخطيب في " تاريخه " (13/136) وقال: " سكن بغداد، وحدث بها، وكان ثقة، مات سنة ثمان وثمانين ومئتين ". وقد ذكر من شيوخه عبد الله بن عبد الوهاب هذا. فالحديث عندي صحيح. وقد أورده الهيثمي في " المجمع " (2/145 - 146) بلفظ: "وعن أنس بن مالك قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفتتحون القراءة بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، ويسلمون تسليمة.   (*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لعبد الغني المقدسي في " السنن " (243/1) ؛ قال: " بسند صحيح ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1029 " السلام عليكم " (1) ، " تلقاء وجهه؛ يميل إلى الشق الأيمن شيئاً، [أو:   رواه البزار، والطبراني في " الكبير " و " الأوسط " بالتسليمة الواحدة فقط. ورجاله رجال " الصحيح ". قال المقدسي: " قال الطبراني: لم يروه عن حميد إلا عبد الوهاب، تفرد به الحَجَبي. قلت: رواه أبو خالد الأحمر عن حميد عن أنس: أنه كان يسلم تسليمة واحدة ". وأقول: ويتقوى المرفوع بأن له طريقاً أخرى ذكرها ابن عبد البر؛ كما في " الزاد " (1/94) ، ونص كلامه: " وأما حديث أنس؛ فلم يأت إلا من طريق أيوب السَّخْتِياني عن أنس، ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئاً ". وكأنه لم يقف على رواية حميد هذه عن أنس. وفي الباب عن سَمُرة بن جُنْدب: عند البيهقي. وعن سلمة بن الأكوع: عنده، وكذا ابن ماجه (1/296) . وعن سهل بن سعد الساعدي: عنده أيضاً. وأسانيدها ضعيفة، ولعل بعضها يقوي بعضاً. وفي الباب أيضاً عن عائشة؛ وهو الآتي: (1) هو من حديث عائشة رضي الله عنها. يرويه زرارة بن أوفى قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل؟ فقالت: كان يصلي العشاء، ثم يصلي بعدها ركعتين، ثم ينام، فإذا استيقظ وعنده وضوؤه مُغَطَّى وسواكه؛ استاك، ثم توضأ، فقام؛ فصلى ثمان ركعات، يقرأ فيهن بـ: {فاتحة الكتاب} وما شاء من القرآن. - وقال مرة: ما شاء الله من القرآن -. فلا يقعد في شيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1030 ..............................................................................   منهن، إلا في الثامنة؛ فإنه يقعد فيها فيتشهد، ثم يقوم ولا يسلم؛ فيصلي ركعة واحدة، ثم يجلس فيتشهد، ويدعو، ثم يسلم تسليمة واحدة: " السلام عليكم ". يرفع بها صوته حتى يوقظنا ... الحديث. أخرجه الإمام أحمد (6/236) : ثنا يزيدُ قال: ثنا بَهْزُ بن حَكِيم - وقال مَرّةَ: أنا - قال: سمعت زُرارة بن أوفى يقول: ... فذكره. وهذا سند صحيح. وقد أخرجه من هذا الوجه أبو داود (1/212) بدون قوله: واحدة: " السلام عليكم ". وهو رواية لأحمد من طريق أخرى عن بهز. وقد رواه قتادة عن زرارة بلفظ: تسليمة يسمعنا. أخرجه النسائي (1/250) ، وعنه ابن حزم (3/49) من طريق معاذ بن هشام قال: ثني أبي عنه. وهو في " مسلم " (2/170) من هذا الوجه، لكنه لم يسق لفظه. ورواه ابن حبان في " صحيحه " (رقم 669 - موارد) ، وأبو العباس السراج في " مسنده "؛ كما في " التلخيص " (3/522) ، قال: " وإسناده على شرط مسلم، ولم يستدركه الحاكم، مع أنه أخرج حديث زهير بن محمد عن هشام - كما يأتي - ". فالحديث نص صريح في جواز الاقتصار على التسليمة الواحدة، وقد نازع ابن القيم في ذلك؛ حيث قال (1/93 - 94) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1031 قليلاً] " (1) .   " إن عائشة أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها، ولم تنف الأخرى ". كذا قال. وتعقّبه الزُّرقاني في " شرح المواهب " (7/336) بقوله: " هذا إنما يصح لو جعلت عائشة الإيقاظ غاية للوَحْدَة، وهي إنما جعلته غاية لرفع الصوت؛ فهو صريح في الاقتصار على واحدة؛ لأنها جعلتها صفة لتسليمه، فرفعت احتمال المجاز؛ فهو نص في الوَحدة ". وللحديث طريق أخرى عن عائشة؛ وهو الآتي بعده: (1) هو من حديث عائشة أيضاً: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه ... إلخ. أخرجه الترمذى (2/90 - 91) ، {وابن خزيمة [1/360/729] } ، والدارقطني (137) ، والحاكم (1/230 - 231) ، وعنه البيهقي (2/179) ؛ كلهم من طريق عمرو بن أبي سَلَمة التّنِّيسي عن زهير بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عنها. والزيادة للبيهقي. وقال الدارقطني: (قليلاً) .. بدل: (شيئاً) . وجمع بينهما الحاكم. والله أعلم. ورواه الطحاوي (1/159) من هذا الوجه، دون قوله: تلقاء وجهه ... إلخ. ورواه ابن ماجه (1/291) من طريق عبد الملك بن محمد الصَّنْعاني: ثنا زهير بن محمد به إلى قوله: تلقاء وجهه. ثم قال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي، {وابن الملقن (29/1) } . لكن أعله بعضهم بزهير بن محمد هذا؛ فقال: " وهو - وإن كان من رجال " الصحيحين "؛ لكن - له مناكير، وهذا الحديث منها ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1032 و " كانوا يشيرون بأيديهم إذا سلموا عن اليمين وعن الشمال، فرآهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال: " ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شُمْس (1) ؟! إذا سلم   قلت: لكنه لم يتفرد به؛ فقد رواه بقي بن مخلد في " مسنده " من رواية عاصم عن هشام بن عروة به مرفوعاً. قال الحافظ (3/522) : " وعاصم عندي هو: ابن عمر، وهو ضعيف. ووهم من زعم أنه ابن سليمان الأحول. والله أعلم ". وذكر آخر أن الصواب في الحديث أنه موقوف؛ كما أخرجه الحاكم، والبيهقي من طرق عن عبيد الله عن القاسم عنها: أنها كانت تسلم في الصلاة تسليمة واحدة قِبَلِ وجهها: السلام عليكم. قلت: هذه طريق أخرى، ولا مخالفة بينهما؛ فعائشة روت ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما رواه غيره، وكانت تعمل بما روت - كما سبق مثله عن أنس -. قال البيهقي: " وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم سلموا تسليمة واحدة. وهو من الاختلاف المباح والاقتصار على الجائز. وبالله التوفيق ". وللحديث شواهد: منها: حديث أنس بسند صحيح (*) ، وقد خرجته في " الأحاديث الصحيحة " (316) ، {و " الإرواء " تحت الحديث (327) } . (1) هو بإسكان الميم وضمها. وهي التي لا تستقر؛ بل تضطرب، وتتحرك بأذنابها وأرجلها. والمراد بالرفع المنهي عنه: رفعُهم أيديهم عند السلام مشيرين إلى السلام من الجانبين. كذا في " شرح مسلم ". وقد حمله بعض الحنفية على كل رفع، بما فيه الرفع في الانتقالات. وقد مضى   (*) وقد سبق تخريجه (ص 1029) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1033 أحدكم؛ فليتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده ". [فلما صلوا معه أيضاً؛ لم يفعلوا ذلك] . (وفي رواية: " إنما يكفي أحدَكم أن يضعَ يدَه على فَخِذِه، ثم يسلم على أخيه؛ من على يمينه وشماله ") " (1) .   الرد عليهم [ص 613 - 615] . (1) هو من حديث جابر بن سَمُرة قال: صليت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكنا إذا سلمنا؛ قلنا بأيدينا: السلام عليكم. فنظر إلينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال: ... فذكره. أخرجه مسلم (2/30) ، والنسائي (1/195) ، والطبراني في " الكبير "، والبيهقي (2/181) عن عبيد الله بن موسى: ثنا إسرائيل عن فُرات القَزّاز عن عبيد الله - وهو: ابن القطيفية (*) - عنه. والزيادة للطبراني (**) . والرواية الأخرى هي عند مسلم أيضاً {وأبي عوانة [2/238 - 239] } ، وكذا البخاري في " رفع اليدين " (13) ، والنسائي (194) ، وأبي داود (1/158) ، والطحاوي (1/158) ، {وابن خزيمة [1/361/733] } ، والبيهقي (2/178 و 180) ، وأحمد (5/86 و 88) ، والطبراني في " الكبير "؛ كلهم عن مسعر: ثني عبيد الله ابن القطيفية (*) به.   (*) كذا في أصل الشيخ رحمه الله تعالى في الموضعين. والصواب: القبطية. كما في " التهذيب "، و " التقريب "، وكذا في " مسلم " و " صحيح سنن أبي داود " (916) ، و " المسند "، و " أبي عوانة " وغيرهم. (**) وعزاه الشيخ رحمه الله تعالى في " الصفة " المطبوع للسراج، وأبي عوانة، وهو في " مسنده " (2/239 و 240) من طرق عن الفُرات القَزاز به. وعنده الزيادة في الرواية الثانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1034 ..............................................................................   وله طريق أخرى بلفظ: " ما لي أراكم رافعي أيديكم؛ كأنها أذناب خيل شُمْس! اسكنوا في الصلاة ". أخرجه مسلم، وأبو داود، والطحاوي (1/265) ، والطيالسي (106) ، وأحمد (5/93) ، والطبراني في " الكبير " عن تميم بن طَرَفَةَ عن جابر به. وقوله: " ثم يسلم على أخيه "؛ قال النووي: " المراد بالأخ: الجنس؛ أي: إخوانه الحاضرين عن اليمين والشمال ". وفي الحديث إشارة إلى أنه ينبغي على المصلي أن ينوي بسلامه إخوانه الحاضرين معه في الصلاة. وقد جاء الأمر بذلك نصاً في حديث مختلف فى ثبوته؛ رواه قتادة عن الحسن عن سَمُرَة بن جُنْدُب قال: أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض. (زاد في رواية: في الصلاة) . أخرجه أبو داود (1/158) ، وابن ماجه (1/296) ، والدارقطني (138) ، والحاكم (1/270) ، والبيهقي (2/181) من طريق سعيد بن بَشِير وهَمّام؛ كلاهما عن قتادة به. وقال الحاكم: " صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي. وقال النووي في " المجموع " (3/480) : " وإسناد روايتي الدارقطني والبيهقي حسن. واعتضدت طرق هذا الحديث؛ فصار حسناً أو صحيحاً ". وقال الحافظ (3/523) : " ورواه البزار. وزاد: في الصلاة. وإسناده حسن ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1035 ..............................................................................   قلت: ورجاله عند ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي في رواية رجال الشيخين. لكن الحديث فيه علة؛ وهي أنه من رواية الحسن - وهو: البصري - عن سَمُرَة. قال الشوكاني (2/253) : " وقد اختلف في سماعه منه على أربعة مذاهب: سمع منه مطلقاً. لم يسمع منه مطلقاً. سمع منه حديث العقيقة. سمع منه ثلاثة أحاديث. وقد قدمنا بسط ذلك ". والمتحقق من هذه الأقوال أنه سمع من سمرة في الجملة - كما ذهب إليه الحافظ في " التهذيب " (2/270) -؛ ولكن لما كان الحسن - على جلالة قدره - مشهوراً بالتدليس، وكثرة الإرسال - كما قال الحافظ في " التقريب " -؛ فلا يحتج بحديثه هذا؛ لأنه قد عنعنه، ولم يصرح بسماعه من سَمُرة. نعم؛ له طريق أخرى عند أبي داود (1/154) ، وعنه البيهقي بلفظ: " ثم سلِّموا عن اليمين، ثم سلموا على قارئكم، وعلى أنفسكم ". لكنه ضعيف؛ لما فيه من المجاهيل - كما قال في " التلخيص " -. ولعل هذا الطريق هو من الطرق التي عناها النووي بقوله السابق: " واعتضدت طرق الحديث؛ فصار حسناً أو صحيحاً ". فالله أعلم؛ فإني لم أجد له طريقاً آخر غير هذا. { (تنبيه) : لقد حرَّف الإباضية هذا الحديث، فرواه ربيعهم في " مسنده " المجهول بلفظ آخر، ليحتجوا به على بطلان الصلاة عندهم برفع الأيدي مع التكبير، ومنهم السيابي المردود عليه في المقدمة (*) ، ولفظهم باطل، وبيانه في " الضعيفة " (6044) } .   (*) مقدمة الطبعة الجديدة لِ " صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (ص 26 - المعارف) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1036 وجوب التسليم وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ... وتحليلها (يعني: الصلاة) التسليم " (1) .   (1) مضى بتمامه (ص 182) . وقوله: " تحليلها "؛ أي: تحليل ما حل خارجها من الأفعال. والحديث يدل على وجوب التسليم. وهو مذهب الشافعية. وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. كما في " المجموع " (1/481) و " شرح مسلم " للنووي، قال: " وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: هو سنة، ويحصل التحلل من الصلاة بكل شيء ينافيها؛ من سلام، أو كلام، أو حدث، أو قيام، أو غير ذلك. واحتج الجمهور بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسلم، وثبت في " البخاري " أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". وبالحديث الآخر: " ... تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم " ". واحتُجَّ لأبي حنيفة بثلاثة أحاديث: الأول: حديث (المسيء صلاته) . وأجيب: بأنه لا ينافي الوجوب؛ فإن هذه زيادة، وهي مقبولة. الثاني: حديث ابن مسعود في التشهد: " إذا قلت هذا؛ فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم؛ فقم، وإن شئت أن تقعد؛ فاقعد ". وأُجيب عنه: بأنه حديث لا يثبت - كما سبق في (التشهد) [ص 872]-. وقال الحافظ (2/257) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1037 ..............................................................................   " ضعفه الحفاظ ". الثالث: حديث ابن عمرو: " إذا أحدث - يعني: الرجل -، وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم؛ فقد جازت صلاته ". أخرجه أبو داود (1/101) ، وعنه البيهقي (2/176) ، والترمذي (2/261) واللفظ له من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم: أن عبد الرحمن بن رافع وبكرة بن سَوَادَةَ أخبراه عنه. وهذا سند ضعيف. قال الترمذي: " هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي. وعبد الرحمن بن زياد - هو: الإفريقي، وقد -: ضعفه بعض أهل الحديث ". وقال البيهقي: " لا يصح ". وقد أخرجه أيضاً الطحاوي (1/161 - 162) ، والطيالسي (298) ، والدارقطني (145 - 146) وقال: " عبد الرحمن بن زياد: ضعيف، لا يحتج به ". وقال الخطابي في " المعالم " (1/175) : " هذا الحديث ضعيف، وقد تكلم الناس في بعض نَقَلَتِه، وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم. ولا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهره؛ لأن أصحاب الرأي لا يرون أن صلاته قد تمت بنفس القعود حتى يكون ذلك بقدر التشهد - على ما رووا عن ابن مسعود -. ثم لم يقودوا قولهم في ذلك؛ لأنهم قالوا: إذا طلعت عليه الشمس، أو كان متيمماً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1038 ..............................................................................   فرأى الماء، وقد قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم؛ فقد فسدت صلاته. وقالوا فيمن قهقه بعد الجلوس قدر التشهد: إن ذلك لا يفسد صلاته، ويتوضأ، ومن مذهبهم: أن القهقهة لا تنقض الوضوء إلا أن تكون في صلاة، والأمر في اختلاف هذه الأقاويل ومخالفتها الحديث بيّن ". فتبين بما تقدم أن كل ما احتجوا به على السُّنِّيَّة لا ينهض. فالحق: القول بالوجوب؛ كالجمهور. وقد قال به المتأخرون من الحنفية، ولكن بالوجوب الاصطلاحي عندهم؛ الذي هو دون الفرض. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1039 الخاتمة (*) كل ما تقدم من صفة صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستوي فيه الرجال والنساء، ولم يرد في السنة ما يقتضي استثناء النساء من بعض ذلك؛ بل إن عموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". يشملهن، وهو قول إبراهيم النَّخَعي؛ قال: " تفعل المرأة في الصلاة كما يفعل الرجل ". أخرجه ابن أبي شيبة (1/75/2) بسند صحيح عنه. وحديث انضمام المرأة في السجود، وأنها ليست في ذلك كالرجل؛ مرسل لاحجة فيه. رواه أبو داود في " المراسيل " (117/87) عن يزيد بن أبي حبيب. وهو مخرج في " الضعيفة " (2652) [وانظر (ص 637) ] . وأما ما رواه الإمام أحمد في " مسائل ابنه عبد الله عنه " (ص 71) عن ابن عمر: أنه كان يأمر نساءه يتربعن في الصلاة. فلا يصح إسناده؛ لأن فيه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف. وروى البخاري (**) في " التاريخ الصغير " (ص 95) بسند صحيح عن أم الدرداء: أنها كانت تجلس في صلاتها جِلْسَةَ الرجل. وكانت فقيهة. * * *   (*) هي من مطبوع " الصفة ". (**) وأورده معلقاً في " صحيحه ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1040 إلى هنا ينتهي كتاب " صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التكبير إلى التسليم " مع تخريجه، والتعليق عليه وكان الفراغ منه أصيل يوم الاثنين الواقع (19 شعبان سنة 1366) من هجرة سيد المرسلين. وإني أرجو الله تعالى أن يبارك لي في عمري، ووقتي، ويوفقني أن أجمع كل ما يتعلق بالصلاة، وكذا الطهارة؛ مما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في أجزاء خاصة، سهلة التناول والترتيب، بعيدة عن الحشو والتعقيد، إنه تعالى سميع مجيب. وأختم كتابي هذا بكفارة المجلس: " سبحانك اللهم! وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ". وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعوانا: {أن الحمدُ لله رب العالمين} * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1041 تيسيراً على القراء الكرام رأينا تجميعَ متن " صفة صلاة النبي من التكبير إلى التسليم " ووضعه في نهاية الكتاب؛ ليكون عوناً لهم على تصور صفة الصلاة من بدايتها إلى نهايتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1043 استقبال الكعبة كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة؛ استقبل الكعبة في الفرض والنفل، وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك؛ فقال لـ (المسيء صلاته) : " إذا قمتَ إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر ". و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر يصلي النوافل على راحلته، ويوتر عليها حيث توجهت به [شرقاً وغرباً] ". وفي ذلك نزل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: 115) . و" كان يركع ويسجد على راحلته إيماءً برأسه، ويجعل السجود أخفض من الركوع ". و" كان - أحياناً - إذا أراد أن يتطوع على ناقته؛ استقبل بها القبلة، فكبر، ثم صلى حيث وجَّهَهُ ركابُه ". و " كان إذا أراد أن يصلي الفريضة؛ نزل، فاستقبل القبلة ". وأما في صلاة الخوف الشديد؛ فقد سنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته أن يصلوا " رجالاً؛ قياماً على أقدامهم، أو ركباناً؛ مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها ". وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا اختلطوا؛ فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما بين المشرق والمغرب قبلة ". وقال جابر رضي الله عنه: " كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسيرةٍ أو سريَّة، فأصابنا غيم، فتحرَّينا واختلفنا في القبلة؛ فصلى كلُّ رجل منا على حدة، فجعل أحدنا يخطُّ بين يديه؛ لنعلم أمكنتنا، فلما أصبحنا؛ نظرناه، فإذا نحن صلينا على غير القبلة، فذكرنا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [فلم يأمرنا بالإعادة] ، وقال: " قد أجزأت صلاتكم " ". و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي نحو بيت المقدس -[والكعبة بين يديه]- قبل أن تنزل هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} (البقرة: 144) . فلما نزلت؛ استقبل الكعبة. فبينما الناس بقُباء في صلاة الصبح؛ إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِرَ أن يستقبل الكعبة؛ [ألا] فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا، [واستدار إمامهم حتى استقبل بهم القبلة] ". (ص 55 - 78) . القيام و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقف فيها قائماً، في الفرض والتطوع؛ ائتماراً بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (البقرة: 238) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1045 وأما في السفر؛ فكان يصلي على راحلته النافلة. وسَنَّ لأمته أن يصلوا في الخوف الشديد على أقدامهم، أو ركباناً - كما تقدم -، وذلك قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 238) . و" صلّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضِ موته جالساً ". وصلاها كذلكَ مرةً أخرى قبل هذه؛ حين " اشتكى، وصلّى الناسُ وراءَه قياماً؛ فأشارَ إليهم أنِ اجْلِسُوا؛ فجلسوا، فلما انصرفَ؛ قال: " إنْ كِدْتُمْ آنفاً لتفعلون فِعْلَ فارسَ والروم: يقومون على مُلوكهم وهم قُعود، فلا تفعلوا؛ إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤْتَمَّ به؛ فإذا ركع؛ فاركعوا، وإذا رفع؛ فارفعوا، وإذا صلى جالساً؛ فصلُّوا جلوساً [أجمعون] " ". (ص 79 - 90) . صلاة المريض جالساً وقال عمرانُ بن حصين رضي الله عنه: " كانتْ بي بَوَاسير، فسألت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: " صلِّ قائماً، فإن لم تستطعْ؛ فقاعداً، فإن لم تستطعْ؛ فعلى جنبٍ " "، وقال أيضاً: "سألتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صلاةِ الرجل وهو قاعد؟ فقال: " مَنْ صلّى قائماً؛ فهو أفضلُ، ومن صلى قاعداً؛ فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً (وفي رواية: مضطجعاً) ؛ فله نصف أجر القاعد " ". والمراد به المريض؛ فقد قال أنس رضي الله عنه. " خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناس وهم يصلون قعوداً من مرض، فقال: " إن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " ". و " عاد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مريضاً، فرآه يصلي على وسادة؛ فأخذها، فرمى بها، فأخذ عوداً؛ ليصلي عليه، فأخذه، فرمى به، وقال: " صلِّ على الأرض إن استطعت، وإلا؛ فَأَوْمِ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك " ". (ص 91 - 100) . الصلاةُ في السَّفينة وسُئل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة في السفينة؟ فقالَ: " صَلِّ فيها قائماً؛ إلا أن تخاف الغرق ". (101) . الاعتماد على عمود ونحوه في الصلاة ولمَّا أسنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكبر؛ اتخد عموداً في مصلاه يعتمد عليه. (ص 102 - 103) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1046 القيام والقُعود في صلاة الليل و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ قائماً؛ ركع قائماً، وإذا قرأ قاعداً؛ ركع قاعداً ". و " كان أحياناً يصلي جالساً، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية؛ قام فقرأها وهو قائم، ثم ركع وسجد، ثم يصنع في الركعة الثانية مثل ذلك ". وإنما " صلى السُّبحَة قاعداً في آخر حياته لما أسَنَّ؛ وذلك قبل وفاته بعام ". و " كان يجلس متربعاً ". (ص 104 - 107) . الصلاةُ في النِّعال، والأمْرُ بها و" كان يقف حافياً أحياناً، ومنتعلاً أحياناً ". وأباح ذلك لأمته؛ فقال: " إذا صلى أحدكم؛ فليلبس نعليه، أو ليخلعهما بين رجليه، ولا يُؤْذِي بهما غيره ". وأكد عليهم الصلاة فيهما أحياناً؛ فقال: " خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم ". وكان ربما نزعهما من قدميه وهو في الصلاة، ثم استمر في صلاته؛ كما قال أبو سعيد الخدري: " صلى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، فلما كان في بعض صلاته؛ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى الناس ذلك؛ خلعوا نعالهم، فلما قضى صلاته؛ قال: " ما بالكم ألقيتم نعالكم؟ ". قالوا: رأيناك ألقيت نعليك؛ فألقينا نعالنا. فقال: " إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيها قذراً - أو قال: أذى - (وفي رواية: خبثاً) ؛ فألقيتهما، فإذا جاء أحدكم إلى المسجد؛ فلينظر في نعليه: فإن رأى فيهما قذراً - أو قال: أذى - (وفي الرواية الأخرى: خبثاً) ؛ فليمسحهما، ولْيصلِّ فيهما ". و " كان إذا نزعهما؛ وضعهما عن يساره ". وكان يقول: " إذا صلى أحدكم؛ فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره؛ فتكونَ عن يمين غيره؛ إلا أن لا يكون عن يساره أحد، ولْيضعْهُما بين رجليه ". (ص 108 - 112) . الصلاةُ على المنبر و" صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرةً - على المنبر (وفي رواية: أنه ذو ثلاث درجات) ، فـ[قام عليه، فكبر، وكبر الناس وراءه وهو على المنبر] ، [ثم ركع وهو عليه] ، ثم رفع، فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد، [فصنع فيها كما صنع في الركعة الأولى] ، حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس، فقال: " يا أيها الناس! اني صنعت هذا؛ لتأتموا بي، ولِتَعلَّموا صلاتي ". (ص 113) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1047 السُّتْرَةُ ووجُوبها و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقف قريباً من السترة؛ فكان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، وبين موضع سجوده والجدار ممر شاة ". وكان يقول: " لا تُصلِّ إلا إلى سترة، ولا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى؛ فلتقاتله؛ فإن معه القرين ". ويقول: " إذا صلى أحدكم إلى سترة؛ فَلْيَدْنُ منها؛ لا يقطع الشيطان عليه صلاته ". و " كان أحياناً يتحرى الصلاة عند الأُسْطُوَانَةِ التي في مسجده ". و " كان إذا صلى [في فضاء ليس فيه شيء يستتر به] ؛ غرز بين يديه حَرْبَةً، فصلى إليها والناس وراءه ". وأحياناً " كان يَعْرِضُ راحلته، فيصلي إليها ". وهذا خلاف الصلاة في أعطان الإبل؛ فإنه " نهى عنها ". وأحياناً " كان يأخذ الرحل، فَيَعْدِلُه، فيصلي إلى آخرته "، وكان يقول: " إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مُؤْخِرَة الرحل؛ فليصلِّ، ولا يبالي من مَرَّ وراء ذلك ". و " صلى - مرة - إلى شجرة ". و" كَان أحياناً يصلي إلى السرير، وعائشة رضي الله عنها. مضطجعة عليه [تحت قطيفتها] ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدع شيئاً يمر بينه وبين السترة؛ فقد " كان - مرة - يصلي؛ إذ جاءت شاة تسعى بين يديه، فَسَاعَاهَا حتى ألزق بطنه بالحائط، [ومرت من ورائه] ". و" صلى صلاة مكتوبة، فضم يده، فلما صلى؛ قالوا: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ قال: " لا؛ إلا أن الشيطان أراد أن يمر بين يدي، فَخَنَقْتُه، حتى وجدت بَرْدَ لسانه على يدي. وايم الله! لولا ما سبقني إليه أخي سليمان؛ لارْتُبِطَ إلى سارية من سواري المسجد، حتى يَطِيْفَ به وِلْدَانُ أهل المدينة، [فمن استطاع أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد؛ فليفعل] ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه؛ فليدفع في نحره، [وليدرأ ما استطاع] (وفي رواية: فليمنعه، مرتين) ، فإن أبى؛ فليقاتله؛ فإنما هو شيطان ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه ". (ص 114 - 129) . ما يَقْطَعُ الصَّلاةَ وكان يقول: " يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه كآخرة الرحل: المرأة [الحائض] ، والحمار، والكلب الأسود ". قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله! ما بالُ الأسود من الأحمر؟ فقال: " الكلب الأسود شيطان ". (ص 130 - 139) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1048 الصلاةُ تجاه القبر وكان ينهى عن الصلاة تجاه القبر؛ فيقول: " لا تجلسوا على القبور، ولا تُصَلُّوا إليها ". (ص 140 - 144) . اللباسُ في الصلاة وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل في الصلاة بما تيسر عليه من الثياب، فلم يكن يتخذ لها ثوباً خاصاً؛ إلا صلاة الجمعة - كما سيأتي -؛ فكان تارة " يصلي في حلة حمراء " (وهي ثوبان: إزار، ورداء) ، وكان يأمر بهما؛ فيقول: " إذا صلى أحدكم؛ فليأتزر، وليرتد ". حتى " نهى أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء ". وإنما أراد به القادر على الرداء؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: " إذا صلى أحدكم؛ فليلبس ثوبيه؛ فإن الله أحق من يُزَّيَّنُ له، فإن لم يكن له ثوبان؛ فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود ". وتارة " في جُبَّةٍ شامية ضيقةِ الكُمَّين "، حتى إنه " لما أراد الوضوء؛ ذهب يخرج يده من كُمِّها ليتوضأ؛ فضاقتْ عليه، فأخرج يده من أسفلها ". وكان تحت الجبة قميص أو إزار. وكان أحياناً " يصلي في بُرْدٍ له حضرميٍّ مًتَوَشِّحَه، ليس عليه غيره ". و" في ثوب واحد؛ مخالفاً بين طرفيه، يجعلهما على منكبيه. و " آخر صلاة صلاها في ثوب قِطْرِيٍّ متوشحاً به "، وقال: " إذا صلَّى أحدُكم في ثوبٍ واحدٍ؛ فَلْيُخَالِفْ بين طَرفيه [على عاتِقَيْهِ] . وفي لفظ: " لا يصلِّي أحدُكم في الثوبِ الواحد ليس على عاتِقَيْه منه شيءٌ ". وقيد ذلك بالثوب الواسع؛ فقال: " إذا صلَّيتَ وعليك ثوبٌ واحد، فإن كان واسعاً؛ فالتحف به، وإن كان ضيقاً؛ فاتزر به "، و " قال له رجل: أيصلي أحدنا في ثوب واحد؟ فقال: " أَوَ كلكم يجد ثوبين؟! " ". وقال له آخر: إني أصيد؛ أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: " نعم؛ وزُرَّهُ ولو بشوكة " ". و" كان يصلي في مِرْطٍ بعضُه على زوجه وهي حائض ". و " كان يصلي في الثوب الذي يصيب فيه أهله إذا لم يَرَ فيه أذى ". و" كان يصلي المغرب في فَرُّوج من حرير - وهو القَباء -، فلما قضى صلاته؛ نزعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1049 نزعاً شديداً كالكاره له، ثم ألقاه، ثم قال: " لا ينبغي هذا للمتقين " ". وقد " صلى في خَمِيْصَةٍ لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف؛ قال: " اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جَهْمٍ، وائتوني بأنْبِجَانِيَّة أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي (وفي رواية: فإني نظرتُ إلى عَلَمِها في الصلاة، فكاد يفتنني) ". (ص 145 - 170) . المرأة تصلي بخمار وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ". (ص 171 - 173) . النِّيَّةُ وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ". (ص 174) . التكبير ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح الصلاة بقوله: " الله أكبر "، وأمر بذلك (المسيء صلاته) - كما تقدم -، وقال له: " إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يقول: الله أكبر ". وكان يقول: " مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ". و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع صوته بالتكبير حتى يُسْمع مَنْ خلْفَه ". و " كان إذا مرض؛ رفع أبو بكر رضي الله عنه صوته؛ يُبَلِّغ الناس تكبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وكان يقول: " إذا قال الإمام: الله أكبر؛ فقولوا: الله أكبر ". (ص 175 - 192) . رَفْعُ اليدَيْنِ و" كان يرفع يديه تارةً مع التكبير، وتارةً قبله، وتارةً بعده ". و " كان يرفعهما ممدودة الأصابع، [لا يفرج بينها، ولا يضمها] ". و " كان يجعلهما حذو منكبيه، وربما رفعهما حتى يحاذي بهما [فروع] أذنيه ". (ص 193 - 204) . وَضْعُ اليمنى على اليُسرى، والأمرُ به و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده اليمنى على اليسرى ". وكان يقول: " إنَّا - معشرَ الأنبياء - أُمِرْنا بتعجيل فطرنا، وتأخير سحورنا، وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة ". و " مر برجل وهو يصلي وقد وضع يده اليسرى على اليمنى؛ فانتزعها، ووضع اليمنى على اليسرى ". (ص 205 - 208) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1050 وضعُهُمَا على الصَّدْرِ، والنهي عن الاختصار و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد ". و " أمر بذلك أصحابه ". و" كان - أحياناً - يقبض باليمنى على اليسرى ". و " كان يضعهما على الصدر ". و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن الاختصار في الصلاة "، وهو الصَّلْبُ الذي كان ينهى عنه. (ص 209 - 229) . النَّظَرُ إلى مَوْضع السُّجُودِ، والخُشُوعُ و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى؛ طأطأ رأسه، ورمى ببصره نحو الأرض ". و " لما دخل الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها ". وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي ". و" كان ينهى عن رفع البصر الى السماء "، ويؤكد في النهي حتى قال: " لينتهِيَنَّ أقوام يرفعون أبصارهم الى السماء في الصلاة؛ أو لا ترجع اليهم (وفي رواية: أو لتخطفن أبصارهم) ". وفي حديث آخر: " فإذا صليتم؛ فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته؛ ما لم يلتفت ". وقال أيضاً عن التلفت: " اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ". وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته؛ ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه؛ انصرف عنه ". و " نهى عن ثلاث: عن نُقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " صل صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه؛ فإنه يراك ". ويقول: " ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها؛ إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب؛ ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله ". وقد " صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خميصة لها أعلام، فنظر الى أعلامها نظرة، فلما انصرف؛ قال: " اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي (وفي رواية: " فإني نظرت الى عَلَمِها في الصلاة، فكاد يفتنني) ". وكان لعائشة ثوب فيه تصاوير ممدود الى سهوة، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إليه، فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1051 " أخِّريه عني؛ [فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي] ". وكان يقول: " لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان ". (ص 230 - 237) . أدعية الاستفتاح ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح القراءة بأدعية كثيرة متنوعة، يحمد الله تعالى فيها، ويمجده ويثني عليه، وقد أمر بذلك (المسيء صلاته) ، فقال له: " لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يكبر، ويحمد الله جل وعزّ، ويثني عليه، ويقرأ بما تيسر من القرآن ... "، وكان يقرأ تارة بهذا، وتارة بهذا؛ فكان يقول: 1- " اللهم! باعد بيني وبين خطاياي؛ كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم! نَقَّنِي من خطاياي؛ كما ينقى الثوب الأبيض من الدنَسِ. اللهم! اغسلني من خطاياي بالماء والثَّلْج والبَرَدِ ". وكان يقوله في الفرض. وهو أصح أدعية إلاستفتاح سنداً. 2- " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً [مسلماً] ، وما أنا من المشركين. إن صلاتي، ونُسُكي، ومحيايَ، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له؛ وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين. اللهم! أنت الملك لا إله إلا أنت [سبحانك وبحمدك] ، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذ نبي؛ فاغفر لي ذنبي جميعاً؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت. واصرف عني سيئها؛ لا يصرف عني سيئها إلا أنت. لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، [والمهدي من هديت] ، أنا بك وإليك، [لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك] ، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك ". وكان يقول ذلك في الفرض والنفل. 3- مثله دون قوله: " أنت ربي، وأنا عبدك ... " إلخ، ويزيد: " اللهم! أنت الملك، لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك ". 4- مثله - أيضاً - إلى قوله: " وأنا أول المسلمين "، ويزيد: " اللهم! اهدني لأحسن الأخلاق وأحسن الأعمال؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأخلاق والأعمال؛ لا يقي سيئها إلا أنت ". 5- " سبحانك اللهم! وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1052 وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد: سبحانك اللهم! ... ". 6- مثله، ويزيد في صلاة الليل: " لا إله إلا الله (ثلاثاً) ، الله أكبر كبيراً (ثلاثاً) ". 7- " الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً "؛ استفتح به رجل من الصحابة، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عجبت لها! فتحت لها أبواب السماء ". 8- " الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه "؛ استفتح به رجل آخر، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها؛ أيهم يرفعها ". 9- " اللهم! لك الحمد؛ أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد؛ أنت قَيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن. [ولك الحمد؛ أنت ملِك السماوات والأرض ومن فيهن] . ولك الحمد؛ أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق. اللهم! لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت؛ [أنت ربنا، وإليك المصير؛ فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت] ، [وما أنت أعلم به مني] ؛ أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، [أنت إلهي] ، لا إله إلا أنت، [ولا حول ولا قوة إلا بك] ". وكان يقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الليل؛ كالأنواع الآتية: 10- " اللهم! رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل! فاطر السماوات والأرض! عالم الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ". 11- " كان يكَبِّرُ (عَشْراً) ، ويَحْمَدُ (عَشْراً) ، ويُسَبِّحُ (عَشْراً) ، ويُهَلِّل (عَشْراً) ، ويستغفر (عَشْراً) ، ويقول: " اللهم! اغفر لي، واهدني، وارزقني، [وعافني] " (عَشْراً) . ويقول: " اللهم! إني أعوذ بك من الضيق يوم الحساب " (عَشْراً) ". 12- " الله أكبر [ثلاثاً] ، ذو الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة ". (ص 238 - 269) . القراءة ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعيذ بالله تعالى؛ فيقول: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ من هَمْزِه، ونَفْخِه، ونَفْثِه ". وكان - أحياناً - يزيد فيه فيقول: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان ... ". ثم يقرأ: {بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ولا يجهر بها. (ص 270 - 292) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1053 القراءةُ آيةً آيةً ثم يقرأ {الفَاتِحَة} ، ويُقطعها آية آية: {بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، [ثم يقف، ثم يقول:] {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، [ثم يقف، ثم يقول:] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، [ثم يقف، ثم يقول:] {مَالِكِ يَوْمِ الدَّينِ} ، وهكذا إلى آخر السورة. وكذلك كانت قراءته كلها؛ يقف على رؤوس الآي، ولا يصلها بما بعدها. وكان تارة يقرؤها: {مَلِكِ يَوْمِ الدَّينِ} . وتارة: {مَالِكِ يَوْمِ الدَّينِ} . (ص 293 - 299) . رُكنيةُ {الفَاتِحَة} وفضائلُها وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعظم من شأن هذه السورة؛ فكان يقول: " لا صلاة لمن لم يقرأ [فيها] بـ: {فاتحة الكتاب} [فصاعداً] ". وفي لفظ: " لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بـ: {فاتحة الكتاب} ". وتارة يقول: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بـ: {فاتحة الكتاب} ؛ فهي خداج، هي خداج، هي خداج؛ غير تمام ". ويقول: " قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل ". وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقرؤوا: يقول العبد: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ؛ يقول الله تعالى: حمدني عبدي. ويقول العبد: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ يقول الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي. ويقول العبد: {مَالِكِ يَوْمِ الدَّينِ} ؛ يقول الله تعالى: مَجَّدَني عبدي. يقول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ؛ [قال:] فهذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. يقول العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلْيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ [قال:] فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما أنزل الله عز وجل في التوراة، ولا في الإنجيل مثل {أم القرآن} ؛ وهي السبع المثاني [والقرآن العظيم الذي أوتيته] ". وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (المسيء صلاته) أن يقرأ بها في صلاته، وقال لمن لم يستطع حفظها: " قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله ". وقال لـ (المسيء صلاته) : " فإن كان معك قرآن؛ فاقرأ به، وإلا؛ فاحمد الله، وكبِّره، وهلله ". (ص 300 - 326) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1054 نَسْخُ القراءةِ وراءَ الإمام في الجهرية وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أجاز للمؤتمين أن يَقرؤوا بها وراء الإمام في الصلاة الجهرية؛ حيث كان في صلاة الفجر، فقرأ، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ؛ قال: " لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ ". قلنا: نعم؛ هذّاً يا رسول الله! قال: " لا تفعلوا؛ إلا [أن يقرأ أحدكم] بـ: {فاتحة الكتاب} ؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ". ثم نهاهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن القراءة كلها في الجهرية، وذلك حينما " انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة (وفي رواية: أنها صلاة الصبح) ، فقال: " هل قرأ معي منكم أحد آنفاً؟! ". فقال رجل: نعم؛ أنا يا رسول الله! فقال: " إني أقول: ما لي أنازع؟! ". [قال أبو هريرة:] فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جهر فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [وقرؤوا في أنفسهم سرّاً فيما لا يجهر فيه الإمام] ". وجعل الإنصات لقراءة الإمام من تمام الائتمام به؛ فقال: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر؛ فكبروا، وإذا قرأ؛ فأنصتوا ". كما جعل الاستماع له مغنياً عن القراءة وراءه؛ فقال: " من كان له إمام؛ فقراءة الإمام له قراءة ". هذا في الجهرية. (ص 327 - 364) . وُجُوبُ القراءة في السِّرِّيَّةِ وأما في السرية؛ فقد أقرهم على القراءة فيها، فقال جابر: " كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين الأوليين بـ: {فاتحة الكتاب} وسورة، وفي الأخريين بـ: {بفاتحة الكتاب} ". وإنما أنكر التشويش عليه بها، وذلك حين " صلى الظهر بأصحابه؛ فقال: " أيُّكم قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ؟ ". فقال رجل: أنا، [ولم أرد بها إلا الخير] . فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قد عرفت أن رجلاً خَالَجَنِيْها ". وفي حديث آخر: " كانوا يقرؤون خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [فيجهرون به] ، فقال: " خلطتم عليَّ القرآن ". وقال: " إن المصلِّي يناجي ربه؛ فلينظر بما يناجيه به. ولا يجهرْ بعضكم على بعض بالقرآن ". وكان يقول: " من قرأ حرفاً من كتاب الله؛ فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {الم} حرف؛ ولكن (أَلِف) حرف، و (لام) حرف، و (ميم) حرف ". (ص 365 - 372) . التَّأمِينُ، وجَهْرُ الإمامِ به ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انتهى من قراءة {فاتحة الكتاب} ؛ قال: " آمين ". يجهر، ويمد بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1055 صوته. وكان يأمر المقتدين بالتأمين بُعَيْدَ تأمين الإمام؛ فيقول: " إذا قال الإمام: {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلْيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ؛ فقولوا: آمين؛ [فإن الملائكة تقول: آمين. وإن الإمام يقول: آمين] ، (وفي لفظ: إذا أمَّن الإمام؛ فأمِّنوا) ؛ فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة، (وفي لفظ آخر: إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين. والملائكةُ في السماء: آمين. فوافق أحدهما الآخر) ؛ غفر له ما تقدم من ذنبه ". وفي حديث آخر: " فقولوا: آمين؛ يُجِبْكُم الله ". وكان يقول: " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين [خلف الإمام] ". (ص 373 - 390) . قراءتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ {الفَاتِحَة} ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بعد {الفاتحه} سورة غيرها. وكان يطيلها أحياناً، ويقصرها أحياناً لعارض سفر، أو سعال، أو مرض، أو بكاء صبي تصلي أمُّه معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " جوَّز صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم في الفجر (وفي حديث آخر: صلى الصبح، فقرأ بأقصر سورتين في القرآن) ، فقيل: يا رسول الله! لم جوَّزت؟ قال: " سمعت بكاء صبي، فظننت أن أمه معنا تصلي؛ فأردت أن أفرغ له أمه " ". وكان يقول: " إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوّز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وَجْدِ أمه من بكائه ". وكان يبتدئ من أول السورة، ويكملها في أغلب أحواله. ويقول: " أعطوا كل سورة حَظَّها من الركوع والسجود (وفي لفظ: " لكل سورة ركعة ") ". وكان تارة يقسمها في ركعتين. وتارة يعيدها كلها في الركعة الثانية. وكان أحياناً يجمع في الركعة الواحدة بين السورتين أو أكثر. وقد " كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قُباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به؛ افتتح بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها؛ وكان يصنع ذلك في كل ركعة. فكلمه أصحابه؛ فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى؛ فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها، وتقرأ بأخرى. فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك؛ فعلت، وإن كرهتم؛ تركتكم. وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره. فلما أتاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أخبروه الخبر؛ فقال: " يا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1056 فلان! ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ ". فقال: إني أحبها. فقال: " حُبَّكَ إيَّاها أدخلك الجنة " ". (ص 391 - 401) . جَمْعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ النظائر وغيرها في الركعة و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرُن بين النَّظَائر من المُفَصَّلِ؛ فكان يقرأ سورة: {الرَّحْمَن} (55: 78) و {النَّجْم} (53: 62) في ركعة. و {اقْتَرَبَتِ} (54: 55) و {الحَاقَّة} (69: 52) في ركعة. و {الطُّوْر} (52: 49) و {الذَّارِيَات} (51: 60) في ركعة. و {إِذَا وَقَعَتِ} (56: 96) و {ن} (68: 52) في ركعة. و {سَأَلَ سَائِلٌ} (70: 44) و {النَّازِعَات} (79: 46) في ركعة. و {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} (83: 36) و {عَبَسَ} (80: 42) في ركعة. و {المُدَّثِّر} (74: 56) و {المُزَّمِّل} (73: 20) في ركعة. و {هَلْ أَتَى} (76: 31) و {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ} (75: 40) في ركعة. و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (78: 40) و {المُرْسَلات} (77: 50) في ركعة. و {الدُّخَان} (44: 59) و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (81: 29) في ركعة. وكان أحياناً يجمع بين السور من السبع الطوال؛ كـ {البَقَرَة} و {النِّسَاء} و {آلِ عِمْرَان} في ركعة واحدة من صلاة الليل - كما سيأتي -. وكان يقول: " أفضل الصلاة طول القيام ". و" كان إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المَوْتَى} ؛ قال: " سبحانك! فَبَلى ". وإذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ؛ قال: " سبحان ربي الأعلى " ". (ص 402 - 410) . جَوَازُ الاقتصَارِ على {الفَاتِحَة} و" كان معاذ يصلي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء [الآخرة] ، ثم يرجع فيصلي بأصحابه، فرجع ذات ليلة فصلى بهم، وصلى فتى من قومه [من بني سلمة يقال له: سليم] ، فلما طال على الفتى؛ [انصرف فـ] صلى [في ناحية المسجد] ، وخرج، وأخذ بخطام بعيره، وانطلق، فلما صلى معاذ؛ ذكر ذلك له، فقال: إن هذا به لنفاق! لأخبرن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي صنع، وقال الفتى: وأنا لأخبرن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي صنع. فغدوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره معاذ بالذي صنع الفتى، فقال الفتى: يا رسول الله! يطيل المكث عندك، ثم يرجع فيطيل علينا! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أفتان أنت يا معاذ؟! ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1057 وقال للفتى: كيف تصنع أنت يا ابن أخي إذا صليت؟ ". قال: أقرأ بـ: {فاتحة الكتاب} ، وأسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، وإني لا أدري ما دندنتك ودندنة معاذ! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني ومعاذ حول هاتين، أو نحو ذا ". قال: فقال الفتى: ولكن سيعلم معاذ إذا قَدِم القوم وقد خُبِّروا أن العدو قد أتوا. قال: فقدموا، فاستشهد الفتى، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك لمعاذ: " ما فعل خَصْمِي وخَصْمُك؟ ". قال: يا رسول الله! صدق الله وكذبتُ؛ استُشهد ". (ص 411 - 412) . الجهرُ والإسرارُ في الصَّلوَاتِ الخَمْسِ وغَيْرِها وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بالقراءة في صلاة الصبح، وفي الركعتين الأوليَين من المغرب والعشاء، ويسر بها في الظهر والعصر، والثالثة من المغرب، والأخريين من العشاء. وكانوا يعرفون قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يُسِرُّ به باضطراب لحيته، وبإسماعه إياهم الآية أحياناً وكان يجهر بها أيضاً في صلاة الجمعة، والعيدين، والاستسقاء، والكسوف. (ص 413 - 418) . الجَهْرُ والإسْرارُ في القراءة في صلاةِ الليل وأما في صلاة الليل؛ فكان تارة يُسِرُّ، وتارة يَجْهَر. و " كان إذا قرأ وهو في البيت؛ يسمع قراءته مَنْ في الحجرة. وهذا كناية عن التوسط بين الجهر والإسرار. " وكان ربما رفع صوته أكثر من ذلك حتى يسمعه من كان على عريشه ". (أي: خارج الحجرة) . وبذلك أمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؛ وذلك حينما " خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه يصلي يخفض من صوته، ومَرَّ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يصلي رافعاً صوته، فلما اجتمعا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: " يا أبا بكر! مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك؟ ". قال: قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول الله! وقال لعمر: " مررت بك وأنت تصلي رافعاً صوتك؟ ". فقال: يا رسول الله! أُوْقِظُ الوَسْنَانَ، وأَطْرُدُ الشيطان. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر! ارفع من صوتك شيئاً ". وقال لعمر: " اخفض من صوتك شيئاً ". وكان يقول: " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسِر بالقرآن كالمُسِرِّ بالصدقة ". (ص 419 - 428) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1058 ما كانَ يقرؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات وأما ما كان يقرؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات من السور والآيات؛ فإن ذلك يختلف باختلاف الصلوات الخمس وغيرها، وهاك تفصيل ذلك مبتدئين بالصلاة الأولى من الخمس: 1- صلاةُ الفجر كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فيها بطوال المفصل؛ فـ " كان - أحياناً - يقرأ: {الوَاقِعَة} (56: 96) ، ونحوها من السور في الركعتين ". وقرأ من سورة {الطُّوْر} (52: 49) ؛ وذلك في حجة الوداع. و " كان - أحياناً - يقرأ: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} (50: 45) ونحوها في [الركعة الأولى] ". و" كان - أحياناً - يقرأ بقصار المفصل كـ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (81: 29) ". و " قرأ مرةً: {إِذَا زُلْزِلَتِ} (99: 8) في الركعتين كلتيهما؛ حتى قال الراوي: فلا أدري؛ أنَسِيَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم قرأ ذلك عمداً؟ ". و " قرأ مرة في السفر المعوذتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} (113: 5) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (114: 6) ". وقال لعقبة بن عامر رضي الله عنه: " اقرأ في صلاتك المعوذتين؛ [فما تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بمثلهما] ". وكان أحياناً يقرأ بأكثر من ذلك، فـ " كان يقرأ ستين آية فأكثر "؛ قال بعض رواته: " لا أدري في إحدى الركعتين أو في كلتيهما؟ ". و " كان يقرأ بسورة {الرُّوم} (30: 60) ". و " أحياناً بسورة {يس} (36: 83) ". ومرة " صلى الصبح بمكة؛ فاستفتح سورة {المُؤْمِنِين} (23: 118) ، حتى جاء ذكر موسى وهارون - أو: ذكر عيسى. شك بعض الرواة -؛ أخذته سَعْلَة؛ فركع ". و " كان أحياناً يؤمهم فيها بـ: {الصَّافَّات} (37: 182) ". و" كان يصليها يوم الجمعة بـ: {الم. تَنْزِيلُ} {السَّجْدَة} (32: 30) [في الركعة الأولى، وفي الثانية] بـ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} (76: 31) ". و" كان يطول في الركعة الأولى، ويقصر في الثانية ". (ص 429 - 447) . القراءةُ في سُنَّةِ الفَجْرِ وأما قراءته في ركعتي سنة الفجر؛ فكانت خفيفة جدّاً؛ حتى إن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: " هل قرأ فيها بـ: {أم الكتاب} ؟! ". وكان - أحياناً - يقرأ بعد {الفَاتِحَة} في الأولى منهما آية: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1059 وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . (2: 136) . وفي الأخرى منهما: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (3: 64) . وربما قرأ بدلها: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (3: 52) . وأحياناً يقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} (109: 6) في الأولى، و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (112: 4) في الأخرى. وكان يقول: " نِعْمَ السُّورتانِ هما ". و " سمع رجلاً يقرأ السورة الأولى في الركعة الأولى؛ فقال: " هذا عبد آمن بربه "، ثم قرأ السورة الثانية في الركعة الأخرى؛ فقال: " هذا عبد عرف ربه " " (ص 448 - 456) . 2- صلاة الظهر و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعتين الأوليين بـ: {فاتحة الكتاب} وسورتين، ويُطَوِّلُ في الأولى ما لا يُطَوِّل في الثانية ". وكان - أحياناً - يطيلها، حتى إنه " كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، [ثم يأتي منزله] ، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركعة الأولى؛ مما يُطَوِّلُها ". و " كانوا يظنون أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى ". و" كان يقرأ في كل من الركعتين قدر ثلاثين آية؛ قدر قراءة {الم. تَنْزِيلُ} {السَّجْدَة} (22: 30) وفيها {الفَاتِحَة} . و" كانوا يسمعون منه النَّغْمَةَ بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ، و: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} (88: 26) ". و" كان - أحياناً - يقرأ بـ: {السَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ} (85: 22) ، وبـ: {السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} (86: 17) ونحوهما من السور ". وأحياناً " يقرأ بـ: {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (92: 21) ونحوها ". وربما " قرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} ، ونحوها ". و" كانوا يعرفون قراءته في الظهر والعصر باضطراب لحيته ". و " كان يسمعهم الآية أحياناً ". (ص 457 - 466) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1060 قراءتُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آياتٍ بعدَ {الفَاتِحَة} في الأخِيرَتَيْنِ و" كان يجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأوليين قدر النصف؛ قدر خمس عشرة آية ". و " ربما اقتصر فيهما على {الفَاتِحَة} ". وقد أمر (المسيء صلاته) بقراءة {الفَاتِحَة} في كل ركعة، حيث قال له بعد أن أمره بقراءتها في الركعة الأولى: " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها (وفي رواية: كل ركعة) ". (467 - 470) . 3- صلاة العصر و" كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الأوليين بـ: {فاتحة الكتاب} ، وسورتين؛ ويُطَوِّلُ في الأولى ما لا يُطَوِّلُ في الثانية "، و " كانوا يظنون أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة ". و" كان يقرأ في كل منهما قدر خمس عشرة آية؛ قدر نصف ما يقرأ في كل ركعة من الركعتين الأوليين في الظهر ". و" كان يجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأوليين؛ قدر نصفهما ". و " كان يقرأ فيهما بـ: {فاتحة الكتاب} ". و " كان يسمعهم الآية أحياناً ". ويقرأ بالسور التي ذكرنا في (صلاة الظهر) . (ص 471) . 4- صلاة المغرب و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فيها أحياناً بقصارِ المفصل ". حتى إنهم " كانوا إذا صلوا معه، وسلم بهم؛ انصرف أحدهم وإنه ليُبْصِرُ مَواقعَ نَبْلِه ". و " قرأ في سفر بـ: {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (95: 8) في الركعة الثانية ". وكان أحياناً يقرأ بطوال المفصل وأوساطه؛ فـ " كان تارة يقرأ بـ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (47: 38) ". وتارة بـ: {الطُّوْر} (52: 49) . وتارة بـ: {المُرْسَلات} (77: 50) ؛ قرأ بها في آخر صلاة صلاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و" كان أحياناً يقرأ بطُولَى الطولَيَيْن: [ {الأَعْرَاف} (7: 206) ] [في الركعتين] ". وتارة: بـ: [الأَنْفَال} (8: 75) في الركعتين. (ص 472 - 487) . القراءة في سُنَّة المغرب وأما سُنَّةُ المغرب البَعْدِيَّة؛ فـ " كان يقرأ فيها: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} (109: 6) و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (112: 4) . (ص 488 - 489) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1061 5- صلاة العشاء كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعتين الأوليين من وسط المفصل؛ فـ " كان تارةً يقرأ بـ: {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (91: 15) ، وأشباهها من السور ". و " تارة بـ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (84: 25) ، وكان يسجد بها ". و " قرأ مرة في سفر بـ: {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (95: 8) [في الركعة الأولى] ". ونهى عن إطالة القراءة فيها، وذلك حين " صلى معاذ بن جبل لأصحابه العشاء فطوَّل عليهم؛ فانصرف رجل من الأنصار فصلى، فأُخبر معاذ عنه، فقال: إنه منافق. ولما بلغ ذلك الرجل؛ دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره ما قال معاذ؛ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتريد أن تكون فتاناً يا معاذ؟! إذا أممتَ الناس؛ فاقرأ بـ: {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (91: 15) ، و: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (77: 19) ، و: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (96: 19) ، و: {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (92: 21) ؛ [فإنه يصلي وراءك الكبير، والضعيف، وذو الحاجة] ". (ص 490 - 498) . 6- صلاة الليل وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما جهر بالقراءة فيها، وربما أسر؛ يقصر القراءة فيها تارة، ويطيلها أحياناً، ويبالغ في إطالتها أحياناً أخرى، حتى قال ابن مسعود: " صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة، فلم يزل قائماً حتى هَمَمْتُ بأمر سوء. قيل: وما هَمَمْتَ؟ قال: هَمَمْتُ أن أقعد وأَذَرَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وقال حذيفة بن اليمان: " صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة، فافتتح {البَقَرَة} . فقلت: يركع عند المئة. ثم مضى. فقلت: يصلي بها في ركعة. فمضى. فقلت: يركع بها. ثم افتتح {النِّسَاء} ، فقرأها، ثم افتتح {آلِ عِمْرَان} ، فقرأها. يقرأ مترسلاً: إذا مَرَّ بآية فيها تسبيح؛ سبح، وإذا مَرَّ بسؤال؛ سأل، وإذا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ؛ تَعَوَّذَ، ثم ركع ... " الحديث. و " قرأ ليلة - وهو وَجِعٌ - السبع الطوال ". و " كان أحياناً يقرأ في كل ركعة بسورة منها ". و" ما عُلِمَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ القرآن كله في ليلة [قط] "؛ بل إنه لم يَرْضَ ذلك لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حين قال له: " اقرأ القرآن في كل شهر ". قال: قلت: إني أجد قوة. قال: " فاقرأه في عشرين ليلة ". قال: قلت: إني أجد قوة. قال: " فاقرأه في سَبْعٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1062 ولا تزد على ذلك ". ثم " رَخَّصَ له أن يقرأه في خمس ". ثم " رَخَّصَ له أن يقرأه في ثلاث ". ونهاه أن يقرأه في أقل من ذلك. وعَلَّلَ ذلك في قوله له: " من قرأ القرآن في أقل من ثلاث؛ لم يفقَهْهُ ". وفي لفظ: " لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث ". ثم في قوله له: " فإن لكل عابد شِرَّةً، ولكل شِرَّةٍ فترة؛ فإما إلى سنة، وإما إلى بدعة. فمن كانت فترته إلى سنة؛ فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك؛ فقد هلك ". وكان يقول: " من صلى في ليلة بمئتي آية؛ فإنه يكتب من القانتين المخلصين ". و " كان يقرأ [في] كل ليلة بـ: {بني إسرائيل} (17: 111) ، و {الزُّمَر} (39: 75) ". وكان يقول: " من صلى في ليلة بمئة آية؛ لم يكتب من الغافلين ". و " كان أحياناً يقرأ في كل ركعة قدر خمسين آية أو أكثر ". وتارة " يقرأ قَدْرَ {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ} (73: 20) ". و " ما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الليل كلَّه " إلا نادراً؛ فقد " راقب عبدُ الله بنُ خبّاب بن الأرَتِّ - وكان قد شهد بدراً مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الليلة كلها (وفي لفظ: في ليلة صلاها كلها) حتى كان مع الفجر، فلما سلم من صلاته؛ قال له خباب بن الأَرَتِّ: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي؛ لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها؟ فقال: " أجل؛ إنها صلاةُ رَغَبٍ ورَهَبٍ، [وإني] سألت ربي عز وجل ثلاث خصال؛ فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا (وفي لفظ: أن لا يهلك أمتي بسَنَةٍ) ؛ فأعطانيها. وسألت ربي عز وجل أن لا يُظْهِرَ علينا عدواً من غيرنا؛ فأعطانيها. وسألت ربي أن لا يُلْبِسَنا شيَعاً؛ فَمَنَعَنِيْهَا " ". و " قام ليلة بآية يرددها حتى أصبح وهي: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (5: 118) ؛ [بها يركع، وبها يسجد، وبها يدعو] ، [فلما أصبح؛ قال له أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما زلْتَ تقرأ هذه الآية حتى أصبحت؛ تركع بها، وتسجد بها] ، [وتدعو بها] ، [وقد عَلَّمَك الله القرآن كله] ، [لو فعل هذا بعضُنا؛ لَوَجَدْنَا عليه؟] . [قال: " إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي؛ فأعطانيها، وهي نَائِلَةٌ إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً "] . و " قال له رجل: يا رسول الله! إن لي جاراً يقوم الليل، ولا يقرأ إلا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (112: 4) ؛ [يرددها] [لا يزيد عليها]- كأنه يُقَلِّلُها -؟! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن ". (ص 490 - 538) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1063 7- صلاةُ الوَِتْر " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعة الأولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ، وفي الثانية بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} (109: 6) ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (112: 4) ". وكان يضيف إليها أحياناً: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} (113: 5) ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (114: 6) . ومرة: " قرأ في ركعة الوتر بمئة آية من {النِّسَاء} (4: 167) ". (ص 539 -543) . القراءة في الركعتين بعد الوتر وأما الركعتان بعد الوتر؛ فكان يقرأ فيهما: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} (99: 8) ، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} . (109: 6) . (ص 544) . 8- صلاة الجمعة " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ أحياناً في الركعة الأولى بسورة {الجُمُعَة} (62: 11) ، وفي الأخرى: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} (63: 11) "، و " تارة يقرأ - بدلها -: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} (88: 26) ". وأحياناً " يقرأ في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ} (88: 26) ". (ص 545 - 549) . 9- صلاة العيدين " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ أحياناً في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (87: 19) ، وفي الأخرى: {هَلْ أَتَاكَ} (88: 26) ". وأحياناً " يقرأ فيهما بـ: {ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ} (50: 45) ، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (54: 55) ". (ص 550 - 552) . 10- صلاة الجنازة " السنة أن يقرأ فيها بـ: {فاتحة الكتاب} [وسورة] "، و " يخافت فيها مُخَافَتَةً بعد التكبيرة الأولى ". (ص 553 - 561) . تَرْتيلُ القراءةِ وتحسينُ الصوت بها وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما أمره الله تعالى - يرتل القرآن ترتيلاً؛ لا هَذّاً، ولا عَجَلَةً؛ بل قراءة " مفسرة؛ حرفاً حرفاً "، حتى " كان يرتل السورة؛ حتى تكون أطول من أطولَ منها ". وكان يقول: " يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1064 منزلك عند آخر آية تقرؤها ". و " كان يمد قراءته (عند حروف المد) ؛ فيمد {بِسْمِ اللَّهِ} ، ويمد {الرَّحْمَنِ} ، ويمد {الرَّحِيمِ} ، و {نَضِيدٌ} (50: 45) وأمثالها. وكان يقف على رؤوس الآي - كما سبق بيانه -. و " كان أحياناً يُرَجِّعُ صوته؛ كما فعل يوم الفتح وهو على ناقته، يقرأ سورة {الفَتْح} (48: 49) [قراءة لينة] ". وقد حكى عبد الله بن مغفل ترجيعه هكذا: (آآ آ) . وكان يأمر بتحسين الصوت بالقرآن؛ فيقول: " زينوا القرآن بأصواتكم؛ [فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً] ". ويقول: " إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ؛ حسبتموه يخشى الله ". وكان يأمر بالتغني بالقرآن؛ فيقول: " تعلَّموا كتاب الله، وتعاهدوه، واقتنوه، وتغنَّوا به؛ فوالذي نفسي بيده! لهو أشد تفلتاً من المخاض في العقل ". ويقول: " ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن ". ويقول: " مأ أذن الله لشيء ما أَذِنَ (وفي لفظ: كأَذَنِه) لنبي [حسن الصوت] يتغنى بالقرآن؛ [يجهر به] ". و" قال لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: " لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة! لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ". [فقال أبو موسى: لو علمت مكانك؛ لحبرت لك تحبيراً] " (ص 562 - 595) . الفَتْحُ على الإمام وسَنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفتح على الإمام إذا لُبست عليه القراءة؛ فقد " صلى صلاة، فقرأ فيها، فلُبس عليه، فلما انصرف؛ قال لأُبَيٍّ: " أصليتَ معنا؟ ". قال: نعم. قال: " فما منعك [أن تفتح علي] ؟! ". (ص 596 - 599) . الاستعاذةُ والتَّفْلُ في الصلاة لِدفع الوسوسة وقال له عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي؛ يَلبسها عليَّ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذاك شيطان يقال له: خِنْزِبٌ، فإذا أحسسته؛ فتعوذ بالله منه، واتفُل على يسارك ثلاثاً ". قال: ففعلت ذلك؛ فأذهبه الله عني. (ص 600) . الركوع ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من القراءة؛ سكت سكتةً، ثم رفع يديه؛ على الوجوه المتقدمة في (تكبيرة الافتتاح) ، وكَبَّر، وركع، وأمر بهما (المسيء صلاته) ؛ فقال له: " إنها لا تتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1065 صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ... ثم يكبر الله، ويحمده، ويمجده، ويقرأ ما تيسر من القرآن مما علمه الله وأذن له فيه، ثم يكبر، ويركع، [ويضع يديه على ركبتيه] حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ... "، الحديث. (ص 601 - 625) . صفة الركوع وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الأمر يُطَبِّقُ بين كفيه، ثم يجعلهما بين ركبتيه، [ويخالف بين أصابعه] . ثم ترك ذلك، ونهى عنه. و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع كفيه على ركبتيه ". و " كان يأمرهم بذلك ". وأمر به أيضاً (المسيء صلاته) - كما مر آنفاً -. و " كان يمكّن يديه من ركبتيه [كأنه قابض عليهما] ". و " كان يُفرِّج بين أصابعه ". وأمر به (المسيء صلاته) ؛ فقال: " إذا ركعت؛ فضع راحتيك على ركبتيك، ثم فرِّج بين أصابعك، ثم امكث حتى يأخذ كل عضو مأخذه ". وكان يجعل أصابعه أسفل من ذلك؛ [على ساقيه] . و " كان يجافي، ويُنَحِّي مرفقيه عن جنبيه ". و" كان إذا ركع؛ بسَط ظهرَهُ وسوَّاه "؛ " حتى لو صُبَّ عليه الماء؛ لاستقر ". وقال لـ (المسيء صلاته) : " فإذا ركعتَ؛ فاجعلْ راحتَيْكَ على رُكْبتيك، وامْدُدْ ظهرك، ومكن لركوعك ". و " كان لا يَصُبُّ رأسَه، ولا يُقْنعُ؛ ولكن بين ذلك ". (ص 626 - 639) . وجوبُ الطُّمأنينة في الركوع و" كان يطمئن في ركوعه ". وأمر به (المسيء صلاته) ؛ فقال: " إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ ... " الحديث. وفيه: " ثم يكبر ... ثم يقول: الله أكبر. ثم يركع حتى تطمئن مفاصله ". وكان يقول: " أتموا الركوع والسجود؛ فوالذي نفسي بيده! إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم، وإذا ما سجدتم ". و " رأى رجلاً لا يُتِمُّ ركوعه، وينقر في سجوده وهو يصلي؛ فقال: " لو مات هذا على حاله هذه؛ مات على غير ملة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ [ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم] ، مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده؛ مثل الجائع الذي يأكل التمرة والتمرتين، لا يغنيان عنه شيئاً " ". وقال أبو هريرة رضي الله عنه: " نهاني خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنقر في صلاتي نقر الدّيك، وأن ألتفت التفات الثعلب، وأن أقعي كإقعاء القرد ". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1066 صلاته ". قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟ قال: " لا يتم ركوعها وسجودها ". و " كان يصلي، فلمح بمؤخر عينه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف؛ قال: " يا معشر المسلمين! إنه لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود " ". وقال في حديث آخر: " لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود ". (ص 640 - 648) . أذكار الركوع وكان يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارةً بهذا، وتارةً بهذا: 1- " سبحان ربي العظيم (ثلاث مرات) ". وكان أحياناً يكررها أكثر من ذلك. وبالغ مرةً في تكرارها في صلاة الليل؛ حتى كان ركوعه قريباً من قيامه، وكان يقرأ فيه ثلاث سور من الطوال: {البَقَرَة} ، و {النِّسَاء} ، و {آلِ عِمْرَان} ، يتخللها دعاء واستغفار - كما سبق في (صلاة الليل) -. 2- " سبحان ربي العظيم وبحمده (ثلاثاً) ". 3- " سبّوح، قدوس، رب الملائكة والروح ". 4- " سبحانك اللهم ربنا! وبحمدك، اللهم! اغفر لي ". وكان يكثر منه في ركوعه وسجوده؛ يتأول القرآن. 5- " اللهم! لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، [أنت ربي] ، خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي (وفي رواية: وعظامي) ، وعصبي، [وما استقلت به قدمي؛ لله رب العالمين] ". 6- " اللهم! لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي، خشع سمعي وبصري، ودمي ولحمي، وعظمي وعصبي؛ لله ربِّ العالمين ". 7- " سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة ". وهذا قاله في صلاة الليل. (ص 649 - 666) . إطالة الركوع و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل ركوعه، وقيامه بعد الركوع، وسجوده، وجلسته بين السجدتين قريباً من السواء ". (ص 667 - 668) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1067 النهي عن قراءةِ القرآنِ في الركوع و" كان ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود ". وكان يقول: " ألا وإني نُهِيْتُ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع؛ فعظِّموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود؛ فاجتهدوا في الدعاء؛ فقَمِن أن يستجاب لكم ". (ص 669 -673) . الاعتدال من الركوع، وما يقولُ فيه ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع صُلبه من الركوع قائلاً: " سمع الله لمن حمده " ". وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال: " لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يكبر ... ثم يركع ... ثم يقول: سمع الله لمن حمده. حتى يستوي قائماً ". وكان إذا رفع رأسه استوى؛ حتى يعود كل فَقارٍ مكانه. ثم " كان يقول وهو قائم: " ربنا! [و] لك الحمد " ". وأمر بذلك كلَّ مُصَلٍّ؛ مُؤتماً أو غيره؛ فقال: " صلوا كما رأيتموني أُصلي ". وكان يقول: " إنما جعل الإمام ليؤتم به ... وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: [اللهم] ربنا! ولك الحمد " - زاد في حديث آخر: - " يسمع الله لكم؛ فإن الله تبارك وتعالى قال على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمع الله لمن حمده ". وعَلَّلَ الأمرَ بذلك في حديث آخر بقوله: " فإنه من وافق قوله قول الملائكة؛ غفِرَ له ما تقدم من ذنبه ". وكان يرفع يديه عند هذا الاعتدال على الوجوه المتقدمة في تكبيرة الإحرام، ويقول وهو قائم - كما مر آنفاً -: 1- " ربنا! ولك الحمد ". وتارةً يقول: 2- " ربنا! لك الحمد ". بدون الواو. وأحياناً يقول: 3- " اللهم ربنا! ولك الحمد ". تارة بالواو. وتارة بدونها: 4- " اللهم ربنا! لك الحمد ". وكان يأمر بذلك، فيقول: " إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. فقولوا: اللهم رَبَّنا! لك الحمد؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه ". وكان تارةً يزيد على ذلك إما: 5- " ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد ". وإما: 6- " مِلْءَ السماوات، و [مِلْءَ] الأرض، و [مِلْءَ] ما بينهما، ومِلْءَ ما شئت من شيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1068 بعد ". وتارة يضيف إلى ذلك قوله: 7- " أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ ". وتارة تكون بإضافة: 8- " ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد -[اللهم!] لا مانع لما أعطيت، [ولا معطي لما منعت] ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ". وتارة يقول في صلاة الليل: 9- " لربي الحمد، لربي الحمد ". يكررذلك؛ حتى كان قيامه نحواً من ركوعه الذي كان قريباً من قيامه الأول، وكان قرأ فيه سورة {البَقَرَة} . 10- " ربنا! ولك الحمد؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه [مباركاً عليه؛ كما يحب ربنا ويرضى] ". قاله رجل كان يصلي وراءه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدما رفع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من الركعة وقال: " سمع الله لمن حمده "، فلما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: " من المتكلم آنفاً؟ ". فقال الرجل: أنا يا رسول الله! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يَبْتَدِرُوْنَها؛ أيهم يكتبها أولاً ". (ص 674 - 697) . إطالة هذا القيام، ووجوبُ الاطمئنان فيه وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل قيامه هذا قريباً من ركوعه - كما تقدم -؛ بل " كان يقوم أحياناً حتى يقول القائل: قد نسي؛ [من طول ما يقوم] ". وكان يأمر بالاطمئنان فيه؛ فقال لـ (المسيء صلاته) : " ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً؛ [فيأخذ كل عظم مَأْخَذَه] " (وفي رواية: " وإذا رفعت؛ فأقم صلبك، وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها ") وذكر له: " أنه لا تتم صلاة لأحد من الناس إذا لم يفعل ذلك ". وكان يقول: " لا ينظر الله عز وجل إلى صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعها وسجودها ". (ص 698 - 705) . السجود التكبير ورفع اليدين عند الهوي إلى السجود ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر، ويهوي ساجداً ". وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له: " لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يقول: سمع الله لمن حمده. حتى يستوي قائماً، ثم يقول: الله أكبر. ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ". و " كان إذا أراد أن يسجد؛ كبَّر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1069 [ويجافي يديه عن جنبيه] ، ثم يسجد ". و " كان أحياناً يرفع يديه إذا سجد ". (ص 706 - 713) . الخرور إلى السجود على اليدين و" كان يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه ". وكان يأمر بذلك؛ فيقول: " إذا سجد أحدكم؛ فلا يَبْرُكْ كما يَبْرُكُ البعيرُ، ولْيَضَعْ يديه قبل ركبتيه ". (ص 714 - 724) . صفة السجود وكان يقول: " إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع احدكم وجهه؛ فليضع يديه، وإذا رفع؛ فليرفعهما ". و " كان يعتمد على كفيه [ويبسطهما] ". ويضم أصابعهما، ويوجهها قِبَل القبلة. و " كان يجعلهما حذو منكبيه ". وأحياناً " حذو أذنيه ". و" كان يمكن أنفه وجبهته من الأرض ". وقال لـ (المسيء صلاته) : " إذا سجدت؛ فَمَكِّن لسجودك ". (وفي رواية: " إذا أنت سجدت؛ فأمكنت وجهك ويديك؛ حتى يطمئن كل عظم منك إلى موضعه ") . وكان يقول: " لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين ". و " كان يمكّن أيضاً ركبتيه، وأطراف قدميه، ويستقبل [بصدور قدميه و] بأطراف أصابعهما القبلة ". و " ينصب رجليه ". و " أمر به ". و " كان يفتخ أصابعهما " و" يرص عقبيه ". وكان يرفع عجيزته. (مؤخره) . فهذه سبعة أعضاء كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد عليها: الكفان، والركبتان، والقدمان، والجبهة والأنف. وقد جعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضوين الأخيرين كعضو واحد في السجود؛ حيث قال: " أُمرت أن أسجد (وفي رواية: أُمرنا أن نسجد) على سبعةِ أَعْظُمٍ: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه -، واليدين (وفي لفظ: الكفَّين) ، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفِت الثياب والشعر ". وكان يقول: " إذا سجد العبد؛ سجد معه سبعة آراب: وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه ". وقال في رجل صلى ورأسه معقوص من ورائه: " إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف ". وقال أيضاً: " ذلك كِفْلُ الشيطان ". يعني: مقعد الشيطان. يعني: مغرز ضفره. و " كان لا يفترش ذراعيه "؛ بل كان ينهى عنه. و " كان يرفعهما ويباعدهما عن جنبيه حتى يبدو بياض إبطيه من ورائه ". و " حتى لو أن بَهمة أرادت أن تمر تحت يديه؛ مرَّت ". وكان يبالغ في ذلك حتى قال بعض أصحابه: " إن كنا لنأوي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مما يجافي بيديه عن جنبيه إذا سجد ". وكان يأمر بذلك؛ فيقول: " إذا سجدت؛ فضع كفيك، وارفع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1070 مرفقيك ". ويقول: " اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط (وفي لفظ: كما يبسط) الكلب ". وفي لفظ آخر وحديث آخر: " ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب ". وكان يقول: " لا تبسط ذراعيك [بسط السبع] ، وادّعم على راحتيك، وتجاف عن ضبعيك؛ فإنك إذا فعلت ذلك؛ سجد كل عضو منك معك ". (ص 725 - 759) . وجوبُ الطُّمأنينة في السُّجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بإتمام الركوع والسجود، ويضرب لمن لا يفعل ذلك مَثَلَ الجائع؛ يأكل التمرة والتمرتين لا تغنيان عنه شيئاً. وكان يقول فيه: " إنه من أسوأ الناس سرقةً ". وكان يحكم ببطلان صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود - كما سبق في (الركوع) -، وأمر (المسيء صلاته) بالاطمئنان في السجود - كما تقدم في أول الباب -. (ص 760) . أذكار السجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذا الركن أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارةً هذا، وتارةً هذا: 1- " سبحان ربي الأعلى (ثلاث مرات) ". و " كان أحياناً يكررها أكثر من ذلك ". وبالغ في تكرارها مرة في صلاة الليل حتى كان سجوده قريباً من قيامه، وكان قرأ فيه ثلاث سور من الطوال: {البَقَرَة} و {النِّسَاء} و {آلِ عِمْرَان} ، يتخللها دعاءٌ واستغفارٌ - كما سبق في (صلاة الليل) -. 2- " سبحان ربي الأعلى وبحمده (ثلاثاً) ". 3- " سُبوح، قُدوس، رب الملائكة والروح ". 4- " سبحانك اللهم ربنا! وبحمدك، اللهم! اغفر لي ". وكان يكثر منه في ركوعه وسجوده؛ يتاول القرآن. 5- " اللهم! لك سجدت؛ وبك آمنت، ولك أسلمت، [وأنت ربي] ، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، [فأحسن صُوَرَه] ، وشق سمعه وبصره، [فـ] تبارك الله أحسن الخالقين ". 6- " اللهم! اغفر لي ذنبي كله، دِقَّه وجِلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره ". 8- " سبحان ذي الجبروتِ، والملكوتِ، والكبرياءِ، والعظمة ". وهذا - وما بعده - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1071 كان يقوله في صلاة الليل. 9- " سبحانك [اللهم!] وبحمدك، لا إله إلا أنت ". 10- " اللهم! اغفر لي ما أسررتُ، وما أعلنتُ ". 11- " اللهم! اجعل في قلبي نوراً، [وفي لساني نوراً] ، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من تحتي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل خلفي نوراً، [واجعل في نفسي نوراً] ، وأعظم لي نوراً ". 12- " [اللهم!] [إني] أعوذ برضاك من سخطك، و [أعوذ] بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ". (ص 761 - 770) . النهيُ عن قراءة القرآن في السُّجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، ويأمر بالاجتهاد والإكثار من الدعاء في هذا الركن - كما مضى في (الركوع) - وكان يقول: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء [فيه] ". (ص 771) . إطالةُ السُّجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل سجوده قريباً من الركوع في الطُّول، وربما بالغ في الإطالة لأمر عارض؛ كما قال بعض الصحابة: " خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى صلاتي العشي -[الظهر والعصر] وهو حامل حسناً أو حسيناً، فتقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوضعه [عند قدمه اليمنى] ، ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال: فرفعت رأسي [من بين الناس] ؛ فإذا الصبي على ظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة؛ قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك [هذه] سجدة أطلتها؛ حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك! قال: " كل ذلك لم يكن؛ ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته ". وفي حديثٍ آخر: " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي؛ فإذا سجد؛ وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا منعوهما؛ أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة؛ وضعهما في حجره، وقال: " من أحبني؛ فليحب هذين " ". (ص 772 - 773) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1072 فضل السجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة ". قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله! في كثرة الخلائق؟ قال: " أرأيت لو دخلت صِيرة فيها خيل دُهم بُهم، وفيها فرسٌ أغرُّ مُحَجَّلٌّ؛ أما كنت تعرفه منها؟ ". قال: بلى. قال: " فإن أمتي يومئذٍ غُرٌّ من السجود، محجَّلون من الوُضوء ". ويقول: " إذا أراد الله رحمةَ من أراد من أهل النار؛ أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله؛ فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار؛ إلا أثر السجود ". (ص 774 - 779) . السُّجودُ على الأرضِ والحَصِير وكان يسجد على الأرض كثيراً. و " كان أصحابه يصلون معه في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدهم أن يمكن جبهته من الأرض؛ بسط ثوبه، فسجد عليه ". وكان يقول: " ... وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجداً وطَهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاةُ؛ فعنده مسجده، وعنده طهوره، [وكان مَنْ قبلي يعظمون ذلك؛ إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم] ". وكان ربما سجد في طين وماء، وقد وقع له ذلك في صبح ليلة إحدى وعشربن من رمضان؛ حين أمطرت السماء، وسال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، فسجد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الماء والطين، قال أبو سعيد الخدري: " فأبصرت عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين ". و" كان يصلي على الخُمرة " أحياناً. و " على الحصير " أحياناً. و " صلى عليه - مرةً -، وقد اسود من طول ما لُبِس ". (ص 780 - 797) . الرَّفعُ مِنَ السُّجود ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع رأسه من السجود مكبراً ". وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال: " لا يتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يسجد، حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر. ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً ". و " كان يرفع يديه مع هذا التكبير " أحياناً. (ص 798 - 800) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1073 الافتراش والإقْعَاءُ بين السَّجْدَتَيْنِ ثم " يفرش رجله اليسرى، فيقعد عليها [مطمئناً] "، وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له: " إذا سجدت؛ فمكن لسجودك، فإذا رفعت؛ فاقعد على فخذك اليسرى ". و" كان ينصب رجله اليمنى ". و " يستقبل بأصابعها القبلة ". و" كان أحياناً يقعي؛ [ينتصب على عقبيه، وصدور قدميه] ". (ص 801 - 807) . وجوبُ الاطمئنان بين السجدتين و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ". وأمر بذلك (المسيء صلاته) ، وقال له: " لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك ". و " كان يطيلها حتى تكون قريباً من سجدته ". وأحياناً " يمكث حتى يقول القائل: قد نسي ". (ص 808) . الأذكار بين السَّجدتين وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذه الجلسة: 1- " اللهم (وفي لفظ: رب!) اغفر لي، وارحمني، [واجبرني] ، [وارفعني] ، واهدني، [وعافني] ، وارزقني ". وتارة يقول: 2- " رب! اغفر لي، رب! اغفر لي ". وكان يقولهما في صلاة الليل. (ص 809 - 814) . السجدة الثانية، والرفع منها ثم " كان يكبر ويسجد السجدة الثانية ". وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له بعد أن أمره بالاطمئنان بين السجدتين - كما سبق -: " ثم تقول: الله أكبر. ثم تسجد حتى تطمئن مفاصلك، [ثم افعل ذلك في صلاتك كلها] ". و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه مع هذا التكبير " أحياناً. وكان يصنع في هذه السجدة مثل ما صنع في الأولى. ثم " يرفع رأسه مكبراً ". وأمر بذلك (المسيء صلاته) ؛ فقال له بعد أن أمره بالسجدة الثانية - كما مر -: " ثم يرفع رأسه، فيكبر ". وقال له: " [ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة] ؛ فإذا فعلت ذلك؛ فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً؛ انتقصت من صلاتك ". و " كان يرفع يديه " أحياناً. (ص 815) . جَلْسَةُ الاسْتِراحَةِ ثم " يستوي قاعداً " " على رجله اليسرى معتدلاً؛ حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ". (ص 816 - 823) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1074 القيام إلى الركعة الثانية الاعتماد على اليدين في النُّهوض إلى الركعة ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض معتمداً على الأرض إلى الركعة الثانية ". و " كان يعجن في الصلاة: يعتمد على يديه إذا قام ". و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نهض في الركعة الثانية؛ استفتح القراءة بـ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، ولم يسكت ". وكان يصنع في هذه الركعة مثل ما يصنع في الأولى؛ إلا أنه كان يجعلها أقصر من الأولى - كما سبق -. (ص 824 - 827) . وجوبُ قراءة {الفَاتِحَة} في كُلِّ ركعةٍ وقد أمر (المسيء صلاته) بقراءة {الفَاتِحَة} في كل ركعة؛ حيث قال له بعد أن أمره بقراءتها في الركعة الأولى: " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " (وفي رواية: " في كل ركعة ") . وقال: " في كل ركعة قراءة ". (ص 828) . التشهد الأول / جلسة التشهد ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس للتشهد بعد الفراغ من الركعة الثانية، فإذا كانت الصلاة ركعتين كالصبح؛ " جلس مفترشاً "؛ كما كان يجلس بين السجدتين، وكذلك " يجلس في التشهد الأول " من الثلاثية أو الرباعية. وأمر به (المسيء صلاته) ؛ فقال له: " فإذا جلست في وسَط الصلاة؛ فاطمئن، وافترش فخدك اليسرى، ثم تشهد ". وقال أبو هريرة رضي الله عنه: " ونهاني خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إقعاء كإقعاء الكلب ". وفي حديث آخر: " كان ينهى عن عقبة الشيطان ". و " كان إذا قعد في التشهد؛ وضع كفه اليمنى على فخذه (وفي رواية: ركبته) اليمنى، ووضع كفه اليسرى على فخذه (وفي رواية: ركبته) اليسرى؛ [باسطها عليها] ". و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع حَدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ". و" نهى رجلاً وهو جالس معتمد. على يده اليسرى في الصلاة؛ فقال: " إنها صلاةُ اليهود " ". وفي لفظ: " لا تجلسْ هكذا؛ إنما هذه جِلْسَة الذين يعذَّبون ". وفي حديث آخر: " هي قِعْدَة المغضوب عليهم ". (ص 829 - 837) . تحريكُ الإصْبَع في التشهد و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس [يتشهد] ؛ وضع كَفَّه اليسرى على ركبته اليسرى [باسطها عليها] ، ويقبضُ أصابعَ كفِّه اليمنى كلها، ويشير بإصبعه التي تلي الإبهام [في القبلة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1075 ويرمي ببصره إليها - أو نحوها] ". و " كان إذا أشار بإصبعه؛ وضع إبهامه على إصبعه الوسطى ". وتارة " كان يحلِّق بهما حلقة ". و" كان إذا رفع أصبعه السبابة؛ يحركها يدعو بها ". ويقول: " لهي أشد على الشيطان من الحديد ". يعني: السبابة. و " كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ بعضهم على بعض. يعني: الإشارة بالإصبع في الدعاء ". و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل ذلك في التشهدين جميعاً ". و " رأى رجلاً يدعو بأصبعيه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحِّدْ [أحِّدْ] "، [وأشار بالسبابة] ". (ص 838 - 859) . وجوبُ التشهد الأول، ومشروعيةُ الدعاءِ فيه ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في كل ركعتين (التحية) ". و " كان أول ما يتكلم به عند القعدة: (التحيات لله) ". و " كان إذا نسيها في الركعتين الأوليين؛ يسجد للسهو ". وكان يأمر بها فيقول: " إذا قعدتم في كل ركعتين؛ فقولوا: التحيات ... (إلخ) ، وليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فَلْيَدعُ الله عز وجل [به] "، وفي لفظ: " قولوا في كل جلسة: التحيات ... ". وأمر به (المسيء صلاته) أيضاً - كما تقدم آنفاً -. و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن ". و " السنة إخفاؤه ". (ص 860 - 869) . صِيَغُ التشهد وعلمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنواعاً من صيغ التشهد: 1- تشهد ابن مسعود: قال: علَّمني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد -، [و] كَفِّي بين كَفَّيْه -؛ كما يعلمني السورة من القرآن: " التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين -[فإنه إذا قال ذلك؛ أصاب كُلَّ عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض]- ، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله "، [وهو بين ظهرانينا، فلما قبض؛ قلنا: السلام على النبي] . وكانوا قبل ذلك [قبل أن يفرض التشهد] يقولون: السلام على الله قبْلَ عباده، [السلام علينا من ربنا] ، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان [وفلان] -[يعنون الملائكة]- ، فلما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ذات يوم] ؛ أقبل علينا بوجهه، فقال: " [لا تقولوا: السلام على الله. فـ] إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1076 الصلاة؛ فليقل: " التحيات ... " فذكره إلى آخره. وقال بعد قوله: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ": " فإنه إذا قال ذلك؛ أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض ". 2- تشهد ابن عباس: قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا التشهد، كما يعلمنا [السورة من] القرآن؛ فكان يقول: " التحيات، المباركات، الصلوات، الطيبات لله، السلام (وفي رواية: سلام) عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام (وفي رواية: سلام) علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، و [أشهد] أن محمداً رسول الله (وفي رواية: عبده ورسوله) ". 3- تشهد ابن عمر: عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في التشهد: " التحيات لله، [و] الصلوات، [و] الطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله - قال ابن عمر: زدت فيها: وبركاته -، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله - قال ابن عمر: وزدت فيها: وحده لا شريك له -، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ". 4- تشهد أبي موسى الأشعري: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ... وإذا كان عند القعدة؛ فليكن من أول قول أحدكم: التحيات، الطيبات، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا شريك له] ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، [سبع كلمات هن تحية الصلاة] ". 5- تشهد عمر بن الخطاب: كان رضي الله عنه يعلم الناس التشهد وهو على المنبر؛ يقول: " قولوا: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات [لله] ، السلام عليك ... (والباقي مثل تشهد ابن مسعود) ". 6- تشهد عائشة: قال القاسم بن محمد: كانت عائشة تعلمنا التشهد، وتشير بيدها تقول: " التحيات، الطيبات، الصلوات، الزاكيات لله، السلام على النبي ... " إلى آخر تشهد ابن مسعود. (ص 870 - 903) . الصلاةُ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَوْضِعُها، وصِيَغُها وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على نفسه في التشهد الأول وغيره. وسَنَّ ذلك لأمته؛ حيث أمرهم بالصلاة عليه بعد السلام عليه. وعلمهم أنواعاً من صيغ الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1077 1- " اللهم! صل على محمد، وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه، وذريته؛ كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد، وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه، وذريته؛ كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ". وهذا كان يدعو به هو نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 2- " اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت على [إبراهيم، وعلى] آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم! بارك على محمد، وعلى آل محمد؛ كما باركت على [إبراهيم، وعلى] آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ". 3- " اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم، [وآل إبراهيم] ، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد، وعلى آل محمد؛ كما باركت على [إبراهيم، و] آل إبرإهيم، إنك حميد مجيد ". 4- " اللهم! صل على محمد [النبي الأمي] ، وعلى آل محمد؛ كما صليت على [آل] إبراهيم. وبارك على محمد [النبي الأمي] ، وعلى آل محمد؛ كما باركت على [آل] إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد ". 5- " اللهم! صل على محمد عبدك ورسولك؛ كما صليت على [آل] إبراهيم، وبارك على محمد [عبدك ورسولك] ، [وعلى آل محمد] ؛ كما باركت على إبراهيم، [وعلى آل إبراهيم] ". 6- " اللهم! صل على محمد، و [على] أزواجه، وذريته؛ كما صليت على [آل] إبراهيم. وبارك على محمد، و [على] أزواجه، وذريته؛ كما باركت على [آل] إبراهيم، إنك حميد مجيد ". 7- " اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت وباركت على إبراهيم، وآل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد ". وكذلك سَنَّ لهم الدعاء في هذا التشهد وغيره، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا قعدتم في كل ركعتين؛ قولوا: التحيات لله ... ". فذكرها إلى آخرها، ثم قال: " ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه ". (ص 904 - 949) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1078 القيام إلى الركعة الثالثة ثم الرابعة ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض إلى الركعة الثالثة مكبراً، وأمر به (المسيء صلاته) في قوله: " ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة " - كما تقدم -. و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من القعدة؛ كبَّر، ثم قام ". و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه " مع هذا التكبير أحياناً. و" كان إذا أراد القيام إلى الركعة الرابعة؛ قال: (الله أكبر) ". وأمر به (المسيء صلاته) - كما تقدم آنفاً -. و " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يرفع يديه " مع هذا التكبير أحياناً. ثم " كان يستوي قاعداً على رجله اليسرى معتدلاً حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يقوم معتمداً على الأرض ". و " كان يعجن: يعتمد على يديه إذا قام ". و" كان يقرأ في كل من الركعتين: {الفَاتِحَة} "، وأمر بذلك (المسيء صلاته) ، وكان ربما أضاف إليهما في صلاة الظهر بضع آيات - كما سبق بيانه في (القراءة في صلاة الظهر) -. (ص 950 - 953) . القنوت في الصلوات الخمس للنازلة و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يدعو على لأحد أو يدعو لأحد؛ قنت في الركعة الأخيرة بعد الركوع إذا قال: " سمع الله لمن حمده. اللهم! ربنا لك الحمد ". و " كان يجهر بدعائه ". و " يرفع يديه ". و " يُؤَمِّنُ مَنْ خلفه ". و " كان يقنت في الصلوات الخمس كلها ". لكنه " كان لا يقنت فيها إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم "، فربما قال: " اللهم! أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم! اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف، [اللهم! العن لحيان ورعلاً وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله] ". ثم " كان يقول - إذا فرغ من القنوت -: " الله أكبر ". فيسجد ". (ص 954 - 967) . القنوت في الوتر و" كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت في ركعة الوتر أحياناً، ويجعله قبل الركوع ". ولا يخصه بنازلة. وعَلَّم الحسَنَ بن علي رضي الله عنه أن يقول [إذا فرغ من قراءته في الوتر] : " اللهم! اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت؛ [فـ] إنك تقضي ولا يُقضى عليك، [و] إنه لا يذل من واليت، [ولا يَعِزُّ من عاديت] ، تباركت ربنا وتعاليت، [لا منجا منك إلا إليك] ". (ص 968 - 980) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1079 التشهد الأخير / وجوب التشهد ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أنْ يتم الركعة الرابعة يجلس للتشهد الأخير. وكان يأمر فيه بما أمر به في الأول، ويصنع فيه ما كان يصنع في الأول؛ إلا أنه " كان يقعد فيه متوركاً "؛ يفضي بِوَرِكِه اليُسرى إلى الأرض، ويُخْرِجُ قدميه من ناحية واحدة. و " يجعل اليسرى تحت فخذه وساقه ". و " ينصب اليمنى "، وربما " فرشها " أحياناً. و" كان يُلْقِمُ كَفَّه اليسرى ركبتَه؛ يتحامل عليها ". (ص 981 - 989) . وجوب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنَّ فيه الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما سَنَّ ذلك في التشهد الأول. وقد مضى هناك ذكر الصيغ الواردة في صفة الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد " سمع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يدعو في صلاته، لم يُمَجِّدِ الله تعالى، ولم يصَلِّ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال: " عَجِلَ هذا ". ثم دعاه، فقال له أو لغيره: " إذا صلى أحدكم؛ فَلْيَبْدَأْ بتحميد ربه جل وعز، والثناء عليه، ثم يصلي (وفي رواية: ليصل) على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يدعو بعد بما شاء " ". [و " سمع رجلاً يصلي، فَمَجَّدَ الله، وحمده، وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادعُ؛ تُجَبْ، وسَلْ؛ تُعْطَ "] ". (ص 990 - 997) . وجوب الاستعاذةِ من أربع قبل الدُّعاء وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا فرغ أحدكم منَ التشهد [الآخر] ؛ فليستعذ بالله من أربع؛ [يقول: اللهم! إني أعوذ بك] من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر [فتنة] المسيح الدجال. [ثم يدعو لنفسه بما بدا له] ". و " كان يدعو به في تشهده ". و " كان يعلمه الصحابة رضي الله عنهم كما يعلمهم السورة من القرآن ". (ص 998 - 1001) . الدعاء قبل السلام، وأنواعه وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو في صلاته بأدعية متنوعة؛ تارة بهذا، وتارة بهذا، وأقرَّ أدعية أخرى، و " أمر المصلي أن يتخير منها ما شاء "، وهاك هي: 1- " اللهم! إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات. اللهم! إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1080 2- " اللهم! إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل [بعد] ". 3- " اللهم! حاسبني حساباً يسيراً ". 4- " اللهم! بِعلمكَ الغيبَ، وقدرتكَ على الخَلْق؛ أَحْيني ما عَلِمْتَ الحياةَ خيراً لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيراً لي. اللهم! وأسألك خشيتَكَ في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق (وفي رواية: الحكم) و [العدل] في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا يَبِيد، وأسألك قرّة عين [لا تنفد و] لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، و [أسألك] الشوق إلى لقائك؛ في غير ضَراء مُضِرَّة، ولا فتنة مُضلة. اللهم! زَيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ". 5- وعَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقول: " اللهم! إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم ". 6- وأمر عائشة رضي الله عنها أن تقول: " اللهم! إني أسألك من الخير كله؛ [عاجله وآجله] ؛ ما علمتُ منه وما لم أعلم. وأعوذ بك من الشر كله؛ [عاجله وآجله] ؛ ما علمتُ منه وما لم أعلم. وأسألك (وفي رواية: اللهم! إني أسألك) الجنة، وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار، وما قرَّب إليها من قول أو عمل. وأسألك (وفي رواية: اللهم! إني أسألك) من [الـ] خير ما سألك عبدك ورسولك [محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك [محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] . [وأسألك] ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته [لي] رشداً ". 7- و " قال لرجل: " ما تقول في الصلاة؟ ". قال: أتشهد، ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، أما والله! ما أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ، وَلا دَنْدَنَةَ معاذ. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حولها نُدَنْدِن " ". 8- وسمع رجلاً يقول في تشهده: (اللهم! إني أسألك يا الله (وفي رواية: بالله) [الواحد] الأحد الصمد؛ الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُواً أحد أن تغفر لي ذنوبي؛ إنك أنت الغفور الرحيم) . فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قد غفر له، قد غفر له، قد غفر له ". 9- وسمع آخر يقول في تشهده: (اللهم! إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1081 أنت؛ [وحدك لا شريك لك] ، [المنان] ، [يا] بديعَ السماوات والأرض! يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! [إني أسألك] [الجنة، وأعوذ بك من النار] ) . [فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: " تدرون بما دعا؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " والذي نفسي بيده!] لقد دعا الله باسمه العظيم (وفي رواية: الأعظم) ، الذي إذا دعي به؛ أجاب، وإذا سئل به؛ أعطى ". وكان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: 10- " اللهم! اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت ". (ص 1002 - 1022) . التسليم ثم " كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلم عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله "، [حتى يُرى بياض خده الأيمن] ، وعن يساره: " السلام عليكم ورحمة الله "، [حتى يُرى بياض خده الأيسر] ". وكان أحياناً يزيد في التسليمة الأولى: " وبركاته ". و" كان إذا قال عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله "؛ اقتصر أحياناً على قوله عن يساره: " السلام عليكم ". وأحياناً " كان يسلم تسليمة واحدة: " السلام عليكم "، " تلقاء وجهه؛ يميل إلى الشق الأيمن شيئاً "، [أو: قليلاً] ". و" كانوا يشيرون بأيديهم إذا سلموا عن اليمين وعن الشمال، فرآهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال: " ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شُمْس؟! إذا سلم أحدكم؛ فليلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده ". [فلما صلوا معه أيضاً؛ لم يفعلوا ذلك] . (وفي رواية: " إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه؛ من على يمينه وشماله ") ". (ص 1023 - 1036) . وجوب التسليم وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ... وتحليلها (يعني: الصلاة) التسليم ". (ص 1037 - 1039) . * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1082