الكتاب: التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي المؤلف: عبد القادر عودة الناشر: دار الكاتب العربي، بيروت عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي] ---------- التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي عبد القادر عودة الكتاب: التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي المؤلف: عبد القادر عودة الناشر: دار الكاتب العربي، بيروت عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي] ـ[التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي]ـ المؤلف: عبد القادر عودة الناشر: دار الكاتب العربي، بيروت عدد الأجزاء: 2 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي] [مقدمة المؤلف] الحمد الله الذي علم الإنسان بعد جهل، وهداه بعد ضلال، وفقهه بعد غفلة، والصلاة والسلام على محمد رسول الله الذي أرسله ربه للناس كافة بشيراً ونذيراً وهادياً ومعلماً؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيَّ عن بيّنة. وبعد؛ فهذه دراسات في التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقوانين الوضعية، وفقني الله فيها إلى إظهار محاسن الشريعة، وتفوقها على القوانين الوضعية، وسبقها إلى تقرير كل المبادئ الإنسانية، والنظريات العلمية والاجتماعية التي لم يعرفها العالم ولم يهتد إليها العلماء إلا أخيراً. وسيرى القارئ مصداق هذا القول بين دفتي هذا الكتاب، وأرجو أن لا ينتهي من قراءته إلا وقد أصبح يعتقد بما أعتقده، وهو أن الشريعة الإسلامية هي شريعة كل زمان ومكان. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. {اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 25 - 28] . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 تقديم وتوجيه 1 - موضوع البحث: هذه دراسات في التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقوانين الوضعية وعلى الأخص القانون المصري، تقوم على بحث المبادئ والنظريات العامة في الشريعة والقوانين، وبيان وجوه الخلاف والوفاق بينهما. وقد بدأت فيها بمقارنة أحكام القسم الجنائي، وأرجو أن يعينني الله حتى أتمه، وأن يوفقني بعد إتمامه إلى مقارنة أحكام القسم المدني. 2 - محتويات الجزء الأول: وقد خصصت هذا الجزء لمباحث القسم الجنائي العام، وسيكون الجزء الثاني شاملاً للقسم الجنائي الخاص. 3 - مدى المقارنة بين الشريعة والقانون الوضعي: وسيرى القارئ أني حرصت أشد الحرص على أن تكون المقارنة شاملة لكل المبادئ والنظريات في كل موضوع جل أو هان، وقد أردت من هذا أن يكون القارئ على علم بأحكام الشريعة في كل صغيرة وكبيرة ومدى اتفاقها أو اختلافها مع أحكام القوانين الوضعية، كما أردت أن أقطع الطريق على من في قلوبهم مرض فلا يقولون لماذا خاض في هذا الموضوع وترك ذاك. وحين أقارن بين الشريعة والقوانين الوضعية، لن أتتبع القانون في أطواره الأولى بالمقارنة والموازنة، ولن أقارن بين القانون في القرن السابع الميلادي وبين الشريعة التي أنزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم - في أول هذا القرن؛ فإن القانون في هذه العهود لم يكن في مستوى يسمح له أن يقارن بالشريعة الإسلامية، ولكني أقارن حين أقارن بين القانون في عصرنا الحاضر وبين الشريعة، وحين أفعل هذا إنما أقارن بين قانون متغير متطور يسير حثيثاً نحو الكمال حتى يكاد يبلغه كما يقال، وبين شريعة نزلت من ثلاثة عشر قرناً لم تتغير ولم تتبدل فيما مضى ولن تتغير أو تتبدل في المستقبل، شريعة تأبى طبيعتها التغيير والتبديل؛ لأنها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 عند الله، ولا تبديل لكلمات الله، ولا لأىًّ من صنع الله الذي أتقن كل شئ خلقه، فليس ما يخلقه في حاجة إلى إتقان من بعد خلقه. فنحن إذن حين نقارن إنما نقارن بين أحدث الآراء والنظريات في القانون، وبين أقدمها في الشريعة، أو نحن نقارن بين الحديث القابل للتغيير والتبديل، وبين القديم المستعصي على التغيير والتبديل، وسنرى ونلمس من هذه المقارنة أن القديم الثابت خير من الحديث المتغير، وأن الشريعة على قدمها أجل من أن تقارن بالقوانين الوضعية الحديثة، وأن القوانين الوضعية بالرغم مما انطوت عليه من الآراء واستحدث لها من المبادئ والنظريات لا تزال في مستوى أدنى من مستوى الشريعة. وليعجب من شاء كما يشاء من هذا القول، فإن الحق في هذه الأيام أصبح غير مألوف بحيث يعجب منه أكثر الناس، ولكن العجب لن يستبد بمن كان له عقل يفكر، ويقدر، ويقارن، ويوازن، ويميز الخبيث من الطيب. إن الحديث قد يكون خيراً من القديم إذا قورن ما صنعه الناس قديماً بما يصنعه الناس اليوم، ولكن الحديث لن يتهيأ له أن يصل إلى مستوى القديم إذا قورن ما يصنعه الناس بما صنعه رب الناس. لقد صنع الله موسى وعيسى ومحمداً وأوحى إليهم بالتوراة والإنجيل والقرآن. فهل جاء قبلهم أو بعدهم من غير الرسل من يصح أن يوضع معهم موضع المقارنة؟ وهل استطاع البشر أن يأتوا بمثل ما أتوا به؟ ولقد صنع الله السماء والأرض، وسخر لنا الشمس والقمر، وخلقنا معشر البشر، فهل يحسن البشر أن يصنعوا مثل هذا؟ أنهم لا يحسنون أن يصنعوه، بل إن أكثرهم لا يحسنون أن يفقهوه. وإذا استساغت عقول البشر أن تضع ما يصنعه مخلوق في مستوى ما صنعه مخلوق آخر؛ فإن هذه العقول لا تستسيغ بأي حال أن تضع ما يصنعه المخلوق في مستوى ما صنعه الخالق، لأنها تدرك الفرق بين الصناعتين، وتحس المدى الواسع بين الصانعين. ولا شك أن العقول التي تدرك هذا جديرة بأن تدرك الفرق بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الشريعة الإسلامية وهي من صنع الله، وبين القوانين الوضعية وهي من صنع البشر، فإذا عجزت بعض العقول عن إدراك الفرق بينهما، فأولى بأصحابها أن لا يعجبوا مما نقول وعليهم أن يعجبوا من أنفسهم كيف لا يدركون الواقع المحسوس، وكيف لا يفهمون الأوليات والبدائة؟ 4 - المذاهب الشرعية المقارن بها: وسيرى القارئ أني لم أعتمد في المقارنة على مذهب واحد من مذاهب الفقهاء الإسلاميين، وإنما جعلت عماد المقارنة المذاهب الأربعة المشهورة، وهي: المذهب المالكي، والمذهب الحنفي، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي، فبينت أحكام كل مذهب من هذه المذاهب في كل موضوع طرقته، واجتهدت أن أبين أساس الخلاف بين المذاهب أن كان ثمة خلاف، ليكون القارئ ملماً باتجاه كل مذهب وسنده. 5 - علة الاقتصار على المذاهب الأربعة: وكان بودي أن أدرس بعض المذاهب الأخرى المشهورة كمذاهب الشيعة والخوارج والظاهرية، ولكن ظروفي ووسائلي ووقتي قصرت بي عن بلوغ ما أريد، فأنا موظف شاء حظه أن يكون مقر عمله في الريف دائماً حيث تقل المكتبات والكتب أو تنعدم، ومن ثم فقد اعتمد على نفسي في اقتناء الكثير الذي لا أجده، وقنعت باستعارة القليل الذي أجده، وأغلب من يعتمدون على أنفسهم مثلي في هذه الحالة لا يستطيعون أن يحصلوا على كل ما يشتهون. وكان الوقت معظم مشاكلي، فعملي الرسمي يأخذ مني كل أوقات فراغي تقريباً، ولولا أني خصصت أوقات راحتي اليومية وأيام عطلتي السنوية للدراسة والاطلاع، لما تغلبت على هذه المشكلة. وقد كان هذا كله سبباً في أن أقصر دراستي على هذه المذاهب الأربعة وأن أترك ما عداها من المذاهب المشهورة، ولعلي أتدارك ما فاتني في طبعة مقبلة إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 6 - لغة البحث: ولم أشأ أن أكتب اللغة التي يكتب بها فقهاء الشريعة؛ لأني دون شك أعجز من أن أجاريهم في أسلوبهم الدقيق العميق ولأن القارئ العادي يعجز عن فهم هذا الأسلوب، وفضلت أن أكتب باللغة التي يكتبها ويفهمها رجل القانون الآن مكتفياً بإبقاء الاصطلاحات الفنية الشرعية أو ذكرها وذكر ما يقابلها في اصطلاحنا القانوني، ولكني لم أهمل الإشارة إلى المراجع التي استندت إليها أو أخذت عنها. وقد دفعني لسلوك هذا الطريق الحرص على أن يفهم كل قارئ ما أكتب دون حاجة إلى تعمق في الفهم أو كد للذهن، ولعلي بهذه الطريقة أكون قد سهلت لمن درسوا دراسة مدنية فهم الشريعة دون حاجة للرجوع إلى كتبها، بل لعلي أكون قد سهلت لهؤلاء فهم كتب الشريعة على حقيقتها إذا ما حاولوا الرجوع إليها بعد قراءة كتابي هذا، فمما لا شك فيه أن كتب الشريعة مكتوبة بلغة دقيقة مركزة، ولا يستطيع فهم هذه الكتب إلا من مرن على قراءتها، وكان على علم بالقواعد الشرعية الأساسية، هذه صفات لا تتوافر غالباً فيمن درسوا دراسة مدنية. على أني مهما حاولت أن ألتزم أساليبنا القانونية، فإني اعلم أني عاجز عن التخلص من أثر الأساليب الشرعية، ولعل مصاحبتي الطويلة لكتب الشريعة قد تركت أثرها في لغتي وأسلوبي، وهو أثر أرجو أن يفيد القارئ وأن يقربه بمرحلة من فهم كتب الشريعة. 7 - الفقهاء والشراح: وقد التزمت أن أقصر لفظ الفقهاء على علماء الشريعة، وأن أخصص لفظ الشراح لعلماء القانون، وأحب الآن أن أنبه لذلك حتى إذا ما عرض أحد اللفظين غير مميز على القارئ لم يشتبه عليه الأمر. وأساس هذه التفرقة غلبة التسمية وانطباق اسم كلِّ على عمله، ففي الشريعة يسمون العالم في الغالب فقيهاً، وفي القوانين يسمون العالم في الغالب شارحاً، والواقع أن طبيعة عمل كل منهما تصلح أساساً للاسم الذي غلب عليه، فالعالم في الشريعة يشرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 النصوص وهي قليلة، ويستنبط القواعد والمبادئ والنظريات التي تترتب على هذه النصوص ويترتب على أساسها الأحكام، فأكثر عمله فقه وأقله شرح، ومن ثم غلب عليه لفظ الفقيه. والعالم في القانون أكثر عمله شرح النصوص التي لا حد لها من الكثرة، وهو يشرحها طبقاً للقواعد والمبادئ التي جاءت بها النصوص العامة، وهذا لا يمنعه أن يستنبط بين الحين والآخر مبدأ جديداً أو نظرية حديثة، إلا أن استنباط المبادئ والنظريات هو أقل عمله وشرح النصوص هو أكثر عمله، لأن ورود النصوص في كل ما يتصور من حالات يسد عليه باب التفكير والاستنباط ويوجهه إلى الشرح، ومن ثم غلب عليه لفظ الشارح. 8 - لماذا بدأت بالقسم الجنائي؟: ولقد بدأت بالقسم الجنائي لأنه القسم المنبوذ المظلوم في الشريعة. فنحن معشر القانونيين لا ندرس من الشريعة إلا الجزء الخاص بالأحوال الشخصية، وما عدا ذلك فهو مهمل إهمالاً يكاد يكون تاماً، وبخاصة القسمين المدني والجنائي. وقد أدى بنا هذا الإهمال إلى نتيجة لابد منها وهي أنا نجهل أحكام هذين القسمين جهلاً فاضحاً. ولكننا بالرغم من ذلك نعترف بان الشريعة بلغت في المسائل المدنية مستوى لا يقل عن المستوى الذي بلغته القوانين الوضعين. وقد ساعدنا على هذا الاعتراف من وجه أن رجال القانون يرجعون إلى الشريعة مجبرين في قليل من المواضع المدنية، لأن نصوص القانون المدني التي تحكم هذه المواضيع أخذت عن الشريعة الإسلامية، وهذه النصوص على قلتها يمكن أن تعطي فكرة لا بأس بها عن الشريعة. كذلك ساعد على هذا الاعتراف من وجه آخر أن المرحوم محمد قدري باشا سهل بكتابه "مرشد الحيران" المقارنة بين القسم المدني من الشريعة على مذهب أبي حنيفة وبين القوانين الوضعية، حيث نظم أحكام المذهب الحنفي في المسائل المدنية في مواد وأبواب متتالية على غرار مواد وأبواب القانون المدني المصري، فمكن رحمه الله بعمله هذا لكل من يطلع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 على كتابه أن يقارن بسهولة بين أحكام الشريعة وأحكام القانون، وأن يعرف دون الرجوع إلى الكتب الفقهية مدى الائتلاف والاختلاف، وإن كانت هذه المعرفة وتلك المقارنة لا تنتهي في الغالب إلى نتائج صحيحة ما دام المطلع يجهل كل الجهل الأصول والقواعد العامة التي قامت عليها الأحكام الشرعية، وما دام يجهل كل شئ عن آراء فقهاء المذاهب الأخرى. أما القسم الجنائي فهو في عقيدة جمهور رجال القانون لا يتفق مع عصرنا الحاضر ولا يصلح للتطبيق اليوم، ولا يبلغ مستوى القوانين الوضعية. وهي عقيدة خاطئة مضللة. وإذا حاول أي شخص منصف أن يعرف الأساس الذي قامت عليه هذه العقيدة فسيعجزه أن يجد لها أساساً سوى الجهل، وسيدهشه أن يعلم أننا نحكم على القسم الجنائي في الشريعة بعد الصلاحية ونحن نجهل كل الجهل أحكام الشريعة الجنائية مجملة ومفصلة. ومن المؤلف للنفس أن تروج هذه العقيدة الخاطئة أو الأكذوبة الكبرى، وأن يلقنها الطلبة على أنها عقيدة مسلًّم بها من أولي العلم والقائمين على أمر التشريع، بالرغم من أنها قائمة على مخالفة الواقع، وإنكار الحقائق، والجهل الفاضح بأحكام الشريعة. ومن أراد أن يعرف مدى خطأ هذه العقيدة وضلالها فعليه أن يرجع إلى كتب الشريعة الإسلامية ليرى أن كل مبدأ وكل قاعدة وكل نظرية في الشريعة الإسلامية تنادي بخطأ هذه العقيدة وبعدها عن الصواب. وقد رأيت في الواجب عليّ - بعد أن تبين لي ذلك - أن أحارب هذه العقيدة الخاطئة الظالمة، وأن أبدأ بالكتابة في القسم الجنائي الذي نبذناه دون حق، وجهلناه دون عذر؛ لأعرّف الناس بهذا القسم على حقيقته، ولأبين لهم أن الشريعة تتفوق على القوانين الوضعية تفوقاً عظيماً في المسائل الجنائية العامة، وأن القسم الجنائي في الشريعة صالح كل الصلاحية للتطبيق في عصرنا الحالي وفي المستقبل كما كان صالحاً كل الصلاحية في الماضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 9 - كيف دفعت لدراسة الشريعة؟ وأعترف للقارئ أنني لم أبدأ دراسة الشريعة الإسلامية إلا في سنة 1944م، وأنني لم أكن قبل ذلك مشغوفاً بقراءة كتب الفقه، ولكني كنت مشغوفاً بقراءة كتب التاريخ وسير أبطال الإسلام. وكتب التاريخ الإسلامي لا تتعرض عادة للمسائل الفقهية، ولكنها حين تتعرض للبطل كقاضِ أو حاكم أو مشرِّع، تذكر بعض ما أثر عنه من قضاء أو حكم أو تشريع، وهذه الآثار تثير في الرجل الفني روح المقارنة والمفاضلة، وقد أدهشني أني لم أجد قضاء أو حكماً أو تشريعاً إسلامياً إلا روعيت فيه المبادئ والنظريات الجنائية الحديثة التي قيل لنا في المدارس أنها من ابتداع القوانين الوضعية، وإن العالم لم يعرفها إلا في القرن التاسع عشر على إثر الثورة الفرنسية، فحملني هذا التناقض الظاهر بين ما سمعت وبين ما لمست على أن أدرس القسم الجنائي في الشريعة دراسة منظمة، وقد خرجت من دراستي بأن العيب الوحيد في هذا القسم هو أن الناس يجهلونه كل الجهل، وأنه فيما عدا ذلك خير من أي قانون وضعي على وجه الأرض، بل هو المثل الأعلى الذي يجب أن يأخذ به ويحتذيه كل مشرع وضعي في أي بلد غير إسلامي. 10 - حاجة الكتب الشرعية إلى تهذيب: ولقد أتعبني دراسة القسم الجنائي حيث بدأت الدراسة وأنا لا أعرف شيئاً يذكر عن علم الأصول ولا المصطلحات الفقهية، وزاد الدراسة تعباً أني لم أتعود قراءة كتب الفقه، وأن هذه الكتب ليست مفهرسة، وليس من السهل على من يحب الاطلاع على مسألة معينة أن يعثر على حكمها في الحال، بل عليه أن يقرأ باباً وأبواباً حتى يعثر على ما يريد خصوصاً إذا لم يكن له من يرشده، وقد ييأس الباحث من العثور على ما يريد ثم يوفقه الله فيعثر عليه مصادفة في مكان لم يكن يتوقع أن يجده فيه. ولا يسير فقهاء المذاهب المختلفة على غرار واحد في الترتيب والتأليف، فما يقدمه مذهب قد يؤخره المذهب الآخر، وما يدخل في باب معين في هذا المذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 قد لا يدخله المذهب الآخر في نفس الباب. ويضاف إلى ما سبق أن الفقهاء يكتبون بعبارة مركزة دقيقة، وهم في كثير من الأحوال يذكرون الحكم ولا يذكرون علته خصوصاً في الكتب المختصرة والمتون. ولا شك أن دراسة المذاهب الشرعية دراسة مقارنة مجهده بذاتها؛ لأني كنت أدرس بدلاً من الكتاب الواحد أربعة كتب؛ ولكن هذه الدراسة أفادتني في الواقع فائدة كبرى إذ سهلت لي فهم مختلف النظريات وفهم الأسس التي بني عليها كل فقيه نظريته، وساعدت على إظهار الفروق الدقيقة بين المذاهب الفقهية. وأعترف أني عندما قرأت كتب الشريعة لأول مرة لم أفهمها حق الفهم، فقد أخذت عن بعض المسائل فكرة تبين لي خطؤها في القراءة الثانية، ومن ثم فقد قرأتها مثنى وثلاث ورباع، بل قرأتها حتى أصبحت أستزيد بقراءتها عمقاً ولا أكاد أصحح خطأ. ولقد حملني على قراءة الموضوع الواحد أكثر من مرة أني كنت أدرس المذاهب الأربعة وأدرس عدة كتب لمؤلفين مختلفين في كل مذهب، وساعد على هذا أني لم أحصل أول الأمر إلا على كتب قليلة مختصرة، ثم صرت أحصل تباعاً على غيرها مما هو أكثر توسعاً منها. على أني مع هذا لا أعتقد أني سلمت من الوقوع في خطأ، فما أنا إلا إنسان غير معصوم بذل جهده في تجنب الخطأ، وإني لأرجو ممن يعثر على خطأ أن يبصرني به مشكوراً لأتجنبه في المستقبل. وحين لمست المجهود الذي يجب على رجل القانون أن يبذله ليلم بأحكام الشريعة، ورأيت النتائج الباهرة التي وصلت إليها، واكتشفت الأخطاء المضحكة المبكية التي وقعنا فيها، شعرت أن عليّ واجباً عاجل الأداء نحو الشريعة، ونحو زملائي من رجال القانون، ونحو كل من درسوا دراسة مدنية، وهذا الواجب هو أن أعرض على الناس أحكام الشريعة في المسائل الجنائية في لغة يفهمونها وبطريقة يألفونها، وأن أصحح لرجال القانون معلوماتهم عن الشريعة، وأن أنشر على الناس الحقائق التي حجبها الجهل عنا زمناً طويلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 11 - طريقة التأليف: وسيرى القارئ أني نظمت الكتاب وبوبته على غرار كتب القانون، وقد تعمدت هذا لأقرِّب البحث من قلوب رجال القانون وعقولهم، وحتى لا يشعروا أنه غريب عليهم أو على غير مألوفهم؛ فيقدموا على قراءته متشوقين، ويسهل عليهم أن يبحثوا عما يشاءون لأنهم سيجدونه في المحل الذي ألفوا أن يجدوه فيه. وقد شجعني على اختيار هذه الطريقة أن الفقهاء لا يفصلون بين القسم العام والقسم الخاص كما يفعل اليوم شراح القانون، بل هم يتكلمون عن القواعد العامة بمناسبة الكلام على الجرائم الخاصة كلما اقتضى الأمر بحث قاعدة أو كلام عليها، فإذا ما فصلت القسم العام عن القسم الخاص وأظهرت أحكام كلِّ على حدة، فإنما فعلت ذلك لتسهيل البحث ونزولاً على حكم التطور في التأليف والترتيب، وقد اقتضاني هذا أن أدرس الحدود والقصاص والتعازير، أو بتعبير آخر: كل ما كتب عن الجرائم، لاستخراج من هذا كله القواعد العامة، ثم نظمتها بعد جمعها على الوجه الذي سيره القراء. 12 - كيف وصمت الشريعة بعدم الصلاحية؟ وقد تبين لي - كما سيتبين للقارئ - من دراسة الشريعة أن القائلين بأن الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر لا يبنون رأيهم على دراسة علمية أو حجج منطقية، لأن الدراسة العلمية والمنطق يقتضيان القول بتفوق الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية، وبصلاحية الشريعة لهذا العصر ولما سيتلوه من عصور. وفوق هذا؛ فالقائلون بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر فريقان: فريق لم يدرس الشريعة ولا القانون، وفريق درس القانون دون الشريعة. وكلا الفريقين ليس أهلاً للحكم على الشريعة لأنه يجهل أحكامها جهلاً مطبقاً، ومن جهل شيئاً لا يصلح للحكم عليه. والواقع أن هؤلاء الجاهلين بالشريعة يبنون عقيدتهم الخاطئة في عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 صلاحية الشريعة على قياس خاطئ وليس على دراسة منظمة، ذلك أنهم تعلموا أن القوانين الوضعية القائمة الآن لا تمت بسبب إلى القوانين القديمة التي كانت تطبق حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلاديين، وعلموا أن القوانين الوضعية الحديثة قائمة على نظريات فلسفية واعتبارات اجتماعية وإنسانية لم يكن لها وجود في القوانين القديمة، وتحملهم المقارنة بين هذين النوعين من القوانين على الاعتقاد بعدم صلاحية القوانين القديمة للعصر الحاضر، وهو اعتقاد كله حق، ولكنهم ينساقون بعد ذلك إلى الخطأ حين يقيسون الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية فيقولون: ما دامت القوانين التي كانت سائدة حتى أواخر القرن الثامن عشر لا تصلح لعصرنا الحاضر؛ فكذلك الشريعة الإسلامية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، والتي ظل الكثير من أحكامها معمولاً به حتى أواخر القرن الثامن العشر. وفي هذا القياس الباطل خطؤهم المجسم الذي لا يكاد يفوت الناقد البصير. 13 - وجه الخطأ في قياس الشريعة بالقانون: ووجه الخطأ في هذا القياس أنهم سووا بين القوانين الوضعية التي وضعها البشر وبين الشريعة الإسلامية التي تكفل بوضعها خالق البشر، فهم حين يقيسون إنما يقيسون الأرض بالسماء والناس برب الناس، فكيف يستوي في عقل عاقل أن يقيس نفسه بربه وأرضه بسمائه؟ وجه الخطأ في هذا القياس أنهم سووا بين الشريعة والقانون وهما مختلفان في طبيعتهما جد الاختلاف، ونستطيع أن نتبين مدى هذا الخلاف إذا استعرضنا نشأة كل منهما ومميزاته الجوهرية التي تميزه عن غيره. 14 - لا قياس بين مختلفين: وإذا صح أن الشريعة تختلف عن القوانين اختلافات أساسية وتتميز عنها بمميزات جوهرية فقد امتنع القياس؛ لأن القاعدة أن القياس يقتضي مساواة المقيس بالمقيس عليه، فإذا انعدمت المساواة فلا قياس، أو كان القياس باطلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ولما كان القائلون بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر يبنون رأيهم على قياس الشريعة بالقوانين الوضعية، ولا مساواة بين الشريعة وهذه القوانين؛ فيكون قياسهم باطلاً، وادعاؤهم بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر ادعاء باطلاً، لأنه بني على قياس باطل، وما قام على الباطل فهو باطل. وسنستعرض فيما يلي نشأة القانون و نشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما، وسيظهر هذا الاستعراض الفرق جلياً بين الشريعة والقانون لمن لا يحسن التفريق بينهما، وسيتبين منه أن الشريعة تختلف عن القانون اختلافات أساسية، وتتميز عنه بصفات جوهرية. 15 - نشأة القانون: ينشأ القانون الوضعي في الجماعة التي ينظمها ويحكمها ضئيلاً محدود القواعد، ثم يتطور بتطور الجماعة، فتزداد قواعده وتتسامى نظرياته كلما ازدادت حاجات الجماعة وتنوعت، وكلما تقدمت الجماعة في تفكيرها وعلومها وآدابها. فالقانون الوضعي كالوليد ينشأ صغيراً ضعيفاً، ثم ينمو ويقوى شيئاً فشيئاً حتى يبلغ أشده، وهو يسرع في التطور والنمو والسمو كلما تطورت الجماعة التي يحكمها وأخذت بحظ من الرقي والسمو، ويبطئ في تطوره ونموه كلما كانت الجماعة بطيئة النمو والتطور. فالجماعة إذن هي التي تخلق القانون الوضعي وتصنعه على الوجه الذي يسد حاجاتها وينظم حياتها، وهو تابع لها وتقدمه مرتبط بتقدمها. وعلماء القانون الوضعي حين يتحدثون عن النشأة الأولى للقانون يقولون: إنه بدأ يتكون مع تكون الأسرة والقبيلة، وإن كلمة رب الأسرة كانت قانون الأسرة، وكلمة شيخ القبيلة كانت قانون القبيلة، وإن القانون ظل يتطور مع الجماعة حتى تكونت الدولة، وإن عادات كل أسرة كانت لا تتفق مع عادات غيرها من الأسر، وتقاليد كل قبيلة لم تكن مماثلة لتقاليد غيرها من القبائل. وإن الدولة حين بدأت تتكون وحَّدت العادات والتقاليد وجعلت منها قانوناً ملزماً لجميع الأفراد والأسر والقبائل الداخلين في نطاق الدولة. ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 قانون كل دولة لم يكن يتفق في الغالب مع قوانين الدول الأخرى، وظل هذا الخلاف حتى بدأت المرحلة الأخيرة من التطور القانوني في أعقاب القرن الثامن عشر على هدي النظريات الفلسفية والعلمية والاجتماعية، فتطور القانون الوضعي من ذلك الوقت حتى الآن تطوراً عظيماً، وأصبح قائماً على نظريات لم يكن لها وجود في العهود السابقة. وأساس هذه النظريات الحديثة العدالة والمساواة والرحمة والإنسانية. وقد أدى شيوع هذه النظريات في العالم إلى توحيد معظم القواعد القانونية في كثير من دول العالم، ولكن بقى لكل دولة قانونها الذي يختلف عن غيره من القوانين في كثير من الدقائق والتفاصيل. هذه هي خلاصة لنشأة القانون وتطوره والمراحل التي مر بها تبين بجلاء أن القانون حين نشأ كان شيئاً يختلف كل الاختلاف عن القانون الآن، وأنه ظل يتغير ويتطور حتى وصل إلى شكله الحالي، وأنه لم يصل إلى ما هو عليه الآن إلا بعد تطور طويل بطئ استمر آلاف السنين. 16 - نشأة الشريعة: وإذا كانت هذه هي نشأة القانون، فإن الشريعة الإسلامية لم تنشأ هذه النشأة ولم تسر في هذا الطريق. لم تكن الشريعة قواعد قليلة ثم كثرت، ولا مبادئ متفرقة ثم تجمعت، ولا نظريات أولية ثم تهذبت. ولم تولد الشريعة طفلة مع الجماعة الإسلامية ثم سايرت تطورها ونمت بنموها، وإنما وُلدت شابة مكتملة، ونزلت من عند الله شريعة كاملة شاملة جامعة مانعة، لا ترى فيها عوجاً، ولا تشهد فيها نقصاً، أنزلها الله تعالى من سمائه على قلب رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في فترة قصيرة لا تجاوز المدة اللازمة لنزولها، فترة بدأت ببعثة الرسول وانتهت بوفاته، أو انتهت يوم قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] ولم تأت الشريعة لجماعة دون جماعة، أو لقوم دون قوم، أو لدولة دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 دولة، وإنما جاءت للناس كافة من عرب وعجم، شرقيين وغربيين، على اختلاف مشاربهم وتباين عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم، فهي شريعة كل أسرة، وشريعة كل قبيلة، وشريعة كل جماعة، وشريعة كل دولة، بل هي الشريعة العالية التي استطاع علماء القانون الوضعي أن يتخيلوها، ولكنهم لم يستطيعوا أن يوجدوها. وقد جاءت الشريعة كاملة لا نقص فيها، جامعة تحكم كل حالة، مانعة لا تخرج عن حكمها حالة، شاملة لأمور الأفراد والجماعات والدول، فهي تنظم الأحوال الشخصية والمعاملات وكل ما يتعلق بالأفراد، وتنظم شئون الحكم والإدارة والسياسة وغير ذلك مما يتعلق بالجماعة، كما تنظم علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر في الحرب والسلم. ولم تأت الشريعة لوقت دون وقت، أو لعصر دون عصر، أو لزمن دون زمن، وإنما هي شريعة كل وقت، وشريعة كل عصر، وشريعة الزمن كله حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وقد صيغت الشريعة بحيث لا يؤثر عليها مرور الزمن، ولا يبلي جِدَّتها، ولا يقتضي تغيير قواعدها العامة ونظرياتها الأساسية، فجاءت نصوصها من العموم والمرونة بحيث تحكم كل حالة جديدة ولو لم يكن في الإمكان توقعها، ومن ثم كانت نصوص الشريعة غير قابلة للتغيير والتبديل كما تتغير نصوص القوانين الوضعية وتتبدل. وأساس الفرق بين الشريعة والقانون هو أن الشريعة من عند الله جل شأنه، وهو يقول: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [يونس: 64] ، وهو عالم الغيب القادر على أن يضع للناس نصوصاً تبقى صالحة على مر الزمان. أما القوانين فمن وضع البشر، وتوضع بقدر ما يسد حاجتهم الوقتية، وبقدر قصور البشر عن معرفة الغيب تأتي النصوص القانونية التي يضعونها قاصرة عن حكم ما لم يتوقعوه. ولقد جاءت الشريعة من يوم نزولها بأحدث النظريات التي وصل إليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أخيراً القانون الوضعي مع أن القانون أقدم من الشريعة، بل جاءت الشريعة من يوم نزولها بأكثر ما وصل إليه القانون الوضعي، وحسبنا أن نعرف أن كل ما يتمنى رجال القانون اليوم أن يتحقق من المبادئ موجود في الشريعة من يوم نزولها. 17 - لا مماثلة بين الشريعة والقانون: ونستطيع بعد أن استعرضنا نشأة القانون ونشأة الشريعة أن نقول بحق: إن الشريعة لا تماثل القانون ولا تساويه، ولا يصح أن تقاس به، وإن طبيعة الشريعة تختلف تماماً عن طبيعة القانون، ولو كانت طبيعة الشريعة من طبيعة القانون الوضعي لما جاءت على الشكل الذي جاءت به، وعلى الوصف الذي أسلفنا، ولوجب أن تأتي شريعة أولية ثم تأخذ طريق القانون في التطور مع الجماعة، وما كان يمكن أن تأتي بالنظريات الحديثة التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيراً، بل ما كان يمكن أن تصل إلى مثل هذه النظريات إلا بعد أن تعرفها القوانين وبعد مرور آلاف من السنين. ويستطيع القارئ من استعراض تاريخ القانون وتاريخ الشريعة أن يتبين الاختلافات المتعددة بين الشريعة والقانون والمميزات الكثيرة التي تميز الشريعة عن القانون، وللقارئ أن يتقصى تلك الاختلافات وهذه المميزات إذا شاء، أما أنا فأكتفي بأن أبرز الاختلافات الأساسية والمميزات الجوهرية، لأن في الكلام عليها ما يغني عن الكلام على غيرها. 18 - الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون: تختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية اختلافاً أساسياً من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن القانون من صنع البشر، أما الشريعة فمن عند الله، وكلٌّ من الشريعة والقانون يتمثل فيه بجلاء صفات صانعه، فالقانون من صنع البشر ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم، ومن ثمَّ كان القانون عرضة للتغيير والتبديل، أو ما نسميه التطور، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أو وجدت حالات لم تكن منتظرة. فالقانون ناقص دائماً ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وإن استطاع الإلمام بما كان. أما الشريعة: فصانعها هو الله، وتتمثل قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن؛ ومن ثمَّ صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شئ في الحال والاستقبال حيث أحاط علمه بكل شئ، وأمر جل شأنه أن لا تغير ولا تبدل حيث قال: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [يونس: 64] ؛ لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل مهما تغيرت الأوطان والأزمان وتطور الإنسان. وقد يصعب على بعض الناس بأن يؤمنوا بهذا القول لأنهم لا يؤمنون قبل كل شئ بأن الشريعة من عند الله، ولست أهتم من أمر هؤلاء إلا بأن يؤمنوا بأن الشريعة تتوفر فيها الصفات التي ذكرتها، وعلى أن أقيم لهم الدليل على توافرها وعليهم هم بعد ذلك أن يبحثوا إن شاءوا عن سبب توفر هذه الصفات في الشريعة دون غيرها، وأن يبحثوا عن صانعها، ولينتظروا مني أن أقدم لهم الدليل عند الكلام على مميزات الشريعة، وإن كان في كل فصل من فصول هذا الكتاب الدليل على ما أقول. أما الذين يؤمنون بأن الشريعة من عند الله فليس يصعب عليهم أن يؤمنوا بتوفر الصفات التي ذكرناها في الشريعة ولو لم يقدم لهم الدليل المادي على ذلك، لأن منطقهم يقضي عليهم أن يؤمنوا بتوفر بهذه الصفات فمن كان يؤمن بأن الله هو خلق السموات والأرض، وسير الشمس والقمر والنجوم، وسخر الجبال والرياح والماء، وأنبت النبات، وصور الأجنة في بطون أمهاتهم، وجعل لكل مخلوق خلقه من الحيوان ونبات وجماد نظاماً دائماً لا يخرج عليه، ولا يحتاج لتغيير ولا تبديل ولا تطور. من كان يؤمن بأن الله وضع قوانين ثابتة تحكم طبائع الأشياء وحركاتها واتصالاتها، وأن هذه القوانين الطبيعية بلغت من الروعة والكمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ما لا يستطيع أن يتصوره الإنسان. من كان يؤمن بهذا كله وبأن الله أتقن كل شئ خلقه، فأولى به أن يؤمن بأن الله وضع الشريعة الإسلامية قانوناً ثابتاً كاملاً لتنظيم الأفراد والجماعات والدولة، ولتحكم معاملاتهم، وأن الشريعة بلغت من الروعة والكمال حداً يعجز عن تصوره الإنسان. ومن كان يؤمن بهذا كله ولكنه يريد أن يرى الدليل عليه ليطمئن قلبه فلينتظر مع الفريق الأول حتى يرى الدليل في موضعه، بل لعله يرى في كل مكان من هذا الكتاب ما يطمئن قلبه ونفسه إن شاء الله. الوجه الثاني: أن القانون عبارة عن قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شئونها وسد حاجاتها. فهي قواعد متأخرة عن الجماعة، أو هي في مستوى الجماعة اليوم، ومتخلفة عن الجماعة غداً، لأن القوانين لا تتغير بسرعة تطور الجماعة، وهي قواعد مؤقتة تتفق مع حال الجماعة المؤقتة، وتستوجب التغير كلما تغيرت حال الجماعة. أما الشريعة فقواعد وضعها الله تعالى على سبيل الدوام لتنظيم شئون الجماعة، فالشريعة تتفق مع القانون في أن كليهما وضع لتنظيم الجماعة. ولكن الشريعة تختلف عن القانون في أن قواعدها دائمة ولا تقبل التغيير والتبديل. وهذه الميزة التي تتميز بها الشريعة تقتضي من الوجهة المنطقية: أولاً: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان، وتطورت الجماعة، وتعددت الحاجات وتنوعت. ثانياً: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت أو عصر ما عن مستوى الجماعة. والواقع أن ما يقتضيه المنطق متوفر بوجهيه في الشريعة، بل هو أهم ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع السماوية والوضعية، فقواعد الشريعة الإسلامية ونصوصها جاءت عامة ومرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، كما أنها وصلت من السمو درجة لا يتصور بعدها سمو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ولقد مر على الشريعة الإسلامية أكثر من ثلاثة عشر قرناً، تغيرت في خلالها الأوضاع أكثر من مرة، وتطورت الأفكار والآراء تطوراً كبيراً، واستُحدث من العلوم والمخترعات ما لم يكن على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القانون الوضعي ونصوصه أكثر من مرة لتتلاءم مع الحالات الجديدة والظروف الجديدة، بحيث انقطعت العلاقة بين القواعد القانونية الوضعية التي نطبقها اليوم وبين القواعد القانونية الوضعية التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وبالرغم من هذا كله، ومع أن الشريعة الإسلامية لا تقبل التغيير والتبديل؛ ظلت قواعد الشريعة ونصوصها أسمى من مستوى الجماعات، وأكفل بتنظيم وسد حاجاتهم، وأقرب إلى طبائعهم، وأحفظ لأمنهم وطمأنينتهم. هذه هي شهادة التاريخ الرائعة يقف بها في جانب الشريعة الإسلامية، وليس ثمة ما هو أروع منها إلا شهادة النصوص ومنطق النصوص، وخذ مثلاً قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ، أو اقرأ قول الرسول: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، فهذان نصان من القرآن والسنة بلغا من العموم والمرونة واليسر ما لا يمكن أن يتصور بعده عموم أو مرونة أو يسر، وهما يقرران الشورى قاعدة للحكم على الوجه الذي لا يضر بالنظام العام ولا بمصلحة الأفراد أو الجماعة، وبتقرير مبدأ الشورى على هذا الوجه بلغت الشريعة من السمو حده الأقصى الذي لا يتصور أن يصل إليه البشر في يوم من الأيام، إذ عليهم أن يجعلوا أمرهم شورى بينهم بحيث لا يحدث ضرر ولا ضرار، وهيهات أن يتحقق ذلك بين الناس. ولو تتبعنا نصوص الشريعة لوجدناها على غرار النصين السابقين من العموم والمرونة والسمو، ومن السهل علينا أن نتبين هذه المميزات لأول وهلة في أي نص نستعرضه، فنصوص الشريعة كلها تصلح أمثلة على ما نقول؛ ويكفي أن نسوق للقارئ مثلاً آخر قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، فهذا النص تدل صياغته على أنه بلغ حد العموم والمرونة، أما المبدأ الذي جاء به النص فلم يُعرف بعدُ أن هناك ما هو خير منه، ولا يمكن أن يتصور العقل البشري أن هناك طريقاً لأصحاب الدعوات يسلكونها في نشر دعواتهم خيراً من طريق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن. ويستطيع القارئ أن يقرأ قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] ، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وقوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] ، وقوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] ، يستطيع القارئ أن يستعرض هذه النصوص وغيرها ليرى كيف بلغت من العموم والمرونة كل مبلغ، وليرى أن المبادئ التي جاءت بها هذه النصوص قد بلغت من السمو ما ليس بعده زيادة لمستزيد، أو خيال لمتخيل. الوجه الثالث: أن الجماعة هي التي تصنع القانون، وتلونه بعاداتها وتقاليدها وتاريخها، والأصل في القانون أنه يوضع لتنظيم شئون الجماعة، ولا يوضع لتوجيه الجماعة، ومن ثم القانون متأخراً عن الجماعة وتابعاً لتطورها، وكان القانون من صنع الجماعة، ولم تكن الجماعة من صنع القانون. وإذا كان هذا هو الأصل في القانون من يوم وجوده، فإن هذا الأصل قد تعدل في القرن الحالي، وعلى وجه التحديد بعد الحرب العظمى الأولى، حيث بدأت الدول التي تدعو لدعوات جديدة أو أنظمة جديدة تستخدم القانون لتوجيه الشعوب وجهات معينة، كما تستخدمه لتنفيذ أغراض معينة، وقد كان أسبق الدول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 إلى الأخذ بهذه الطريقة روسيا الشيوعية، وتركيا الكمالية، ثم تلتهما إيطاليا الفاشيستية وألمانيا النازية، ثم اقتبست بقية الدول هذه الطريقة، فأصبح الغرض اليوم من القانون تنظيم الجماعة وتوجيهها الوجهات التي يرى أولياء الأمور أنها في صالح الجماعة. أما الشريعة الإسلامية فقد علمنا أنها ليست من صنع الجماعة، وأنها لم تكن نتيجة لتطور الجماعة وتفاعلها كما هو الحال في القانون الوضعي، وإنما هي من صنع الله الذي أتقن كل شئ خلقه. وإذا لم تكن الشريعة من صنع الجماعة، فإن الجماعة نفسها من صنع الشريعة. إذن الأصل في الشريعة أنها لم توضع لتنظيم شئون الجماعة فقط كما كان الغرض من القانون الوضعي، وإنما المقصود من الشريعة قبل كل شئ هو خلق الأفراد الصالحين والجماعة الصالحة، وإيجاد الدولة المثالية، والعالم المثالي، ومن أجل هذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها، ولا تزال كذلك حتى اليوم، وجاء فيها من المبادئ والنظريات ما لم يتهيأ العالم غير الإسلامي لمعرفته والوصول إليه إلا بعد قرون طويلة، وما لم يتهيأ هذا العالم لمعرفته أو يصل إليه حتى الآن. ومن أجل هذا تولى الله جل شأنه وضع الشريعة، وأنزلها على رسوله نموذجاً من الكمال ليوجه الناس إلى الطاعات والفضائل، ويحملهم على التسامي والتكامل؛ حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل. وقد حققت الشريعة ما أراده لها العليم الخبير، فأدت رسالتها أحسن الأداء، وجعلت من رعاة الإبل سادة للعالم، ومن جهال البادية معلمين وهداة للإنسانية. ولقد أدت الشريعة وظيفتها طالما كان المسلمون متمسكين بها عاملين بأحكامها. تمسك بها المسلمون الأوائل وعملوا بها وهم قلة مستضعفة يخافون أن يتخطفهم الناس، فإذا هم في عشرين سنة سادة العالم وقادة البشر، لا صوت إلا صوتهم، ولا كلمة تعلو كلمتهم، وما أوصلهم لهذا الذي يشبه المعجزات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 إلا الشريعة الإسلامية التي علمتهم وأدبتهم، ورققت نفوسهم، وهذبت مشاعرهم، وأشعرتهم العزة والكرامة، وأخذتهم بالمساواة التامة، والعدالة المطلقة، وأوجبت عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، وحرمت عليهم الإثم والعدوان، وحررت عقولهم ونفوسهم من نير الجهالات والشهوات، وجعلتهم يعتقدون أنهم خير أمة أخرجت للناس؛ يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. كان ذلك حال المسلمين طالما تمسكوا بشريعتهم، فلما تركوها وأهملوا أحكامها تركهم الرقي وأخطأهم التقدم، ورجعوا القهقري إلى الظلمات التي كانوا يعمهون فيها من قبل، فعادوا مستضعفين مستبعدين لا يستطيعون دفع معتد ولا الامتناع من ظالم. وقد خيل للمسلمين وهم في غمرتهم هذه أن تقدم الأوروبيين راجع لقوانينهم وأنظمتهم، فذهبوا ينقلونها وينسجون على منوالها، فلم تزدهم إلا ضلالاً على ضلالهم، وخبالاً على خبالهم، وضعفاً على ضعفهم، بل جعلتهم أحزاباً وشيعاً كل حزب بما لديهم فرحون، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى. ولو أراد الله بالمسلمين خيراً لعلموا أن الشريعة الإسلامية - وقد جاءت كاملة لا يشوبها نقص، حاملة في طياتها وسائل التقدم والتطور المستمر للمجتمع - هي أصلح الشرائع لعصور التقدم وعصور التأخر على السواء، لأنها في كل الأحوال ترمي إلى تكون الجماعة الصالحة وتوجيهها دائماً للتقدم المستمر والتطور الصالح، ولا تقنع من ذلك بما هو دون الكمال التام. وإن في تاريخ المسلمين لآية، وإنه لعبرة لمن كان له قلب، وإن فيه الدليل الحاسم على أن الشريعة الإسلامية هي التي خلقت المسلمين من العدم، وجعلتهم أمة فوق الأمم، ودفعتهم إلى الأمام، وسلطتهم على دول العالم، وإن فيه الدليل الحاسم على أن حياة المسلمين وتقدمهم ورقيهم متوقف على تطبيق الشريعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الإسلامية، فالمسلمون من صنع الشريعة كيانهم تابع لكيانها، ووجودهم مرتبط بوجودها، وسلطانهم تابع لسلطانها. وأحب قبل الانتقال إلى موضوع آخر أن أنبه القارئ إلى أن القانون الوضعي حين تحول أخيراً عن أصله الأول فصار يوضع لتوجيه الجماعة إنما أخذ في ذلك بنظرية الشريعة الإسلامية التي تجعل الأصل في التشريع أن يصنع الجماعة ويوجهها ثم ينظمها، وهكذا انتهى القانون الوضعي إلى ما بدأت به الشريعة وسبقت إليه من ثلاثة عشر قرناً، فإذا ما قال علماء القانون الوضعي إنهم وصلوا لنظرية جديدة، قلنا لهم: كلا ولكنكم تسلكون طريق الشريعة وتسيرون في أثرها. 19 - المميزات الجوهرية التي تميز الشريعة عن القانون: ونستطيع بعد أن عرضنا الخلافات الأساسية بين الشريعة والقوانين الوضعية أن نتبين أهم المميزات التي تميز الشريعة عن القوانين؛ لأن كل ما تخالف الشريعة فيه القوانين يعتبر في الوقت نفسه مما يميز الشريعة عن القوانين. وعلى هذا يمكننا أن نستخلص مما ذكر من الاختلافات: أن الشريعة الإسلامية تمتاز على القوانين الوضعية بثلاث ميزات جوهرية: الميزة الأولى: الكمال: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالكمال؛ أي بأنها استكملت كل ما تحتاجه الشريعة الكاملة من قواعد ومبادئ ونظريات، وأنها غنية بالمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الجماعة في الحاضر القريب والمستقبل البعيد. الميزة الثانية: السمو: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالسمو؛ أي بأن قواعدها ومبادئها أسمى دائماً من مستوى الجماعة؛ وأن فيها من المبادئ والنظريات ما يحفظ لها هذا المستوى السامي مهما ارتفع مستوى الجماعة. الميزة الثالثة: الدوام: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بالدوام؛ أي بالثبات والاستقرار، فنصوصها لا تقبل التعديل والتبديل مهما مرت الأعوام وطالت الأزمان، وهي مع ذلك تظل حافظة لصلاحيتها في كل زمان ومكان. هذه هي الميزات الجوهرية للشريعة الإسلامية، وهي على تعددها وتباينها ترجع إلى أصل واحد نشأت عنه جميعاً بحيث يعتبر كل منها أثراً من آثاره، وهذا الأصل هو أن الشريعة الإسلامية من عند الله ومن صنعه، ولولا أن الشريعة من عند الله لما توفرت فيها صفات الكمال والسمو والدوام، تلك الصفات التي تتوفر دائماً فيما يصنعه الخالق ولا يتوفر شئ منها فيما يصنعه المخلوق. 20 - الأدلة على توفر هذه المميزات في الشريعة: وإذا كنا قد ذكرنا أن الشريعة تتميز بالكمال والسمو والدوام فقد بقى علينا أن نقدم الدليل على توفر هذه المميزات، وسيتبين للقارئ فيما يأتي أن هذه المميزات متوفرة في كل مبدأ، وفي كل نظرية، وفي كل قاعدة قانونية جاءت بها الشريعة الإسلامية، وسنعرض على القارئ الآن طائفة من النظريات والمبادئ الشرعية التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيراً، أو لم تعرفها بعد، تتوفر فيها جميعاً كل هذه المميزات، وسيرى القارئ أن هذه المميزات كلها تتوفر في كل المبادئ والنظريات التي سنتعرض لدراستها في هذا الكتاب، فالدليل إذن على توفر هذه المميزات هو الواقع الذي لا يكذب، وليس بعد منطق الواقع حاجة لدليل أو استدلال. 21 - نظرية المساواة: جاءت الشريعة الإسلامية من وقت نزولها بنصوص صريحة تقرر نظرية المساواة وتفرضها فرضاً، فالقرآن يقرر المساواة ويفرضها على الناس جميعاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 [الحجرات: 13] ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يكرر هذا المعنى في قوله: "الناس سواسية كأسنان المشط الواحد، لا فضل لعربي على عجميِّ إلا بالتقوى"، ثم يؤكد هذا المعنى تأكيداً في قوله: "إن الله قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائهم؛ لأن الناس من آدم وآدم من تراب وأكرمهم عن الله أتقاهم". ويلاحظ على هذه النصوص أنها فرضت المساواة بصفة مطلقة، فلا قيود ولا استثناءات، وأنها المساواة على الناس كافة؛ أي على العالم كله، فلا فضل لفرد على فرد، ولا لجماعة على جماعة، ولا لجنس على جنس، ولا للون على لون، ولا لسيد على مسود، ولا لحاكم على محكوم. وهذا هو نص القرآن يذكر الناس أنهم خلقوا من أصل واحد من ذكر وأنثى، ولا تفاضل إذا استوت الأصول وإنما مساواة، وهذا هو قول الرسول يذكر الناس أنهم جميعاً ينتمون إلى رجل واحد خلق من تراب فهم متساوون ويشبههم في تساويهم بأسنان المشط الواحد، ولم يعرف أن سناً من مشط فضلت سنة أخرى. وقد نزلت نظرية المساواة على الرسول وهو يعيش في قوم أساس حياتهم وقوامها التفاضل، فهم يتفاضلون بالمال والجاه، والشرف واللون، ويتفاخرون بالآباء والأمهات، والقبائل والأجناس، فلم تكن الحياة الاجتماعية وحاجة الجماعة هي الدافعة لتقرير نظرية المساواة، وإنما كان الدافع لتقريرها من وجه هو رفع مستوى الجماعة ودفعهم نحو الرقي والتقدم، كما كان الدافع لتقريرها من وجه آخر ضرورة تكميل الشريعة بما تقتضيه الشريعة الكاملة الدائمة من مبادئ ونظريات. ولا جدال في أن عبارة النصوص جاءت عامة مرنة إلى آخر درجات العموم والمرونة، فلا يمكن مهما تغيرت ظروف الزمان والمكان والأشخاص ان تضيق عبارة النصوص بما يستجد من الظروف والتطورات، والعلة في وضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 نصوص الشريعة على هذا الشكل أن الشريعة لا تقبل التعديل ولا التبديل، فوجب أن تكون نصوصها بحيث لا تحتاج إلى تعديل أو تبديل. وإذا كانت نظرية المساواة قد عرفت في الشريعة الإسلامية من ثلاثة عشر قرناً فإن القوانين الوضعية لم تعرفها إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وإذن فقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير المساواة بأحد عشر قرناً، ولم تأت القوانين الوضعية بجديد حين قررت المساواة، وإنما سارت في أثر الشريعة واهتدت بهداها، وسيرى القارئ فيما بعد أن القوانين الوضعية تطبق نظرية المساواة تطبيقاً محدوداً بالنسبة للشريعة الإسلامية التي توسعت في تطبيق النظرية إلى أقصى حد (1) . 22 - نظرية مساواة المرأة بالرجل: هذه النظرية ليست إلا فرعاً من النظرية العامة للمساواة أو تطبيقاً لها، وقد فضلنا أن نجعل لها مكاناً خاصاً لأهميتها ولأنها دليل ظاهر على عدالة الشريعة وسموها وحكمتها في تقرير الحقوق وتوزيع الواجبات، وأن الشارع لا يطبق المبادئ العامة تطبيقاً آلياً، وإنما يطبقها ليحقق بها نفعاً أو يدفع بها ضرراً. والقاعدة العامة في الشريعة الإسلامية: إن المرأة تساوي الرجل في الحقوق والواجبات، فلها مثل ما له وعليها مثل ما عليه، وهي تلتزم للرجل بما يقابل التزاماته لها، فكل حق لها على الرجل يقابله واجب عليها للرجل، وكل حق للرجل عليها يقابله واجب على الرجل لها، وذلك قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 28] . ولكن الشريعة مع تقريرها المساواة بين الرجل والمرأة كقاعدة عامة   (1) يراجع الفصل المخصص لسريان القانون على الأشخاص، فقد تكلمنا فيه على نظرية المساواة بتوسع بينما قصرنا الكلام هنا على قدر ما يقتضيه المقام من بيان مميزات الشريعة فيما جاءت به من مبادئ ونظريات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ميزت الرجل على المرأة درجة في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] ، وقد بين القرآن حدود هذه الميزة أو الدرجة التي أختص بها الرجل في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ، فبين ذلك أن الدرجة هي درجة الرئاسة والقوامة على شئونهما المشتركة. ولا شك أن الرجل وهو المكلف طبقاً للشريعة بالإنفاق على المرأة وتربية الأولاد والمسئول الأول عن الأسرة أحق بالرئاسة والقوامة على شئون الأسرة المشتركة، لأن مسئوليته عن هذه الشئون تقتضي أن يكون صاحب الكلمة العليا فيها. فالسلطة التي أعطيت للرجل إنما أعطيت له مقابل المسئولية التي حملها ليتمكن من القيام بمسئولياته على خير وجه، وهذا تطبيق دقيق لقاعدة شريعة عامة هي القاعدة التي تقول: "السلطة بالمسئولية"، تلك القاعدة التي جاءت بها الشريعة لتحكم علاقة أصحاب السلطة بغيرهم، ولتبين مدى سلطتهم ومسئوليتهم والتي قررها الرسول عليه السلام في قوله: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها". وإذا كان للرجل درجة على النساء في شئونهما المشتركة، فإن الرجل لا يتميز على المرأة في شئونهما الخاصة، وليس له عليها أي سلطان، فهي تستطيع مثلاً أن تتملك الحقوق وتتصرف فيها دون أن يكون للرجل ولو كان زوجاً أو أباً أن يشرف عليها أو يتدخل في أعمالها. وقد سوت الشريعة الإسلامية بين الرجل والمرأة على الوجه السابق من يوم نزولها أي من ثلاثة عشر قرناً تقريباً في وقت لم يكن فيه العالم مهيئاً للتسوية بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، فلم تكن حاجة الجماعة هي التي دفعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الشريعة لتقرير المساواة وإنما اقتضت ذلك ضرورة تكميل الشريعة بالمبادئ التي يجب أن تكون في شريعة كاملة دائمة. ونستطيع أن ندرك مدى السمو الذي وصلت إليه الشريعة بتقريرها مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة إذا علمنا أن القوانين الوضعية لم تسمح بالتسوية بينهما إلا في القرن التاسع عشر، وأن بعضها يمنع النساء إلى اليوم من التصرف في شئونهن الخاصة إلا بإذن أزواجهن. ويمكننا أن نلاحظ بسهولة مدى عموم النصوص ومرونتها، وأنها لا تضيق بحالة ما، ولا تعجز عن الإحاطة بكل ما يتصور من المسائل، فإذا أضيف هذا إلى ما في النصوص من كمال وسمو كان من الحق أن نقول إن نصوص الشريعة لا تقبل التعديل والتبديل، لأنها ليست في حاجة إلى تعديل أو تبديل. 23 - نظرية الحرية: من المبادئ الأساسية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية مبدأ الحرية، فقد أعلنت الشريعة الحرية وقررتها في أروع مظاهرها؛ فقررت حرية التفكير، و حرية الاعتقاد، وحرية القول، وسنتكلم عن هذه الحريات واحدة بعد الأخرى فيما يأتي. 24 - حرية التفكير: جاءت الشريعة الإسلامية معلنة حرية التفكير، محررة للعقل من الأوهام والخرافات والتقاليد والعادات، داعية إلى نبذ كل ما لا يقبله العقل. فهي تحث على التفكير في كل شئ وعرضه على العقل، فإن آمن به العقل كان محل إيمان، وإن كفر به كان محل كفران. فلا تسمح الشريعة للإنسان أن يؤمن بشيء إلا بعد أن يفكر فيه ويعقله، ولا تبيح له أن يقول مقالاً أو أن يفعل فعلاً إلا بعد أن يفكر فيما يقول ويفعل ويعقله. ولقد قامت الدعوة الإسلامية نفسها على أساس العقل، فها هو القرآن يعتمد في إثبات وجود الله، ويعتمد في إقناع الناس بالإسلام، ويعتمد في حملهم على الإيمان بالله ورسوله وكتابه - يعتمد القرآن في ذلك كله اعتماداً أساسياً على استثارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 تفكير الناس وإيقاظ عقولهم، ويدعوهم بشتى الوسائل إلى التفكير في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم وفي غير ذلك من المخلوقات، ويدعوهم إلى التفكير فيما تقع عليه أبصارهم وما تسمعه آذانهم؛ ليصلوا من وراء ذلك كله إلى معرفة الخالق، وليستطيعوا التمييز بين الحق والباطل. ونصوص القرآن التي تحض على استخدام العقل وتحرير الفكر لا تعد كثرة، منها قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] ، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46] وقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الروم: 8] ، وقوله: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101] ، وقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ* فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7] ، وقوله: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20] ، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ، وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [آل عمران: 7] . ويعيب القرآن على الناس أن يلغوا عقولهم، ويعطلوا تفكيرهم، ويقلدوا غيرهم، ويؤمنوا بالخرافات والأوهام، ويتمسكوا بالعادات والتقاليد دون تفكير فيما يتركون وما يدعون، وينعي عليهم ذلك كله، ويصف من كانوا على هذه الشاكلة بأنهم كالأنعام بل أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأنهم يتبعون غيرهم دون التفكير ولا يحكمون عقولهم فيما يعملون أو يقولون أو يسمعون، ولأن العقل هو الميزة الوحيدة التي ميز الله بها الإنسان على غيره من المخلوقات، فإذا ألغى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 عقله أو عطل فكره تساوى بالأنعام بل كان أضل منها. ونصوص القرآن صريحة في تقرير هذه المعاني، واقرأ إن شئت قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 170 - 171] ، وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ، وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] . وللإنسان أن يفكر فيما شاء كما يشاء وهو آمن من التعرض للعقاب على هذا التفكير ولو فكر في إتيان أعمال تحرمها الشريعة، والعلة في ذلك أن الشريعة لا تعاقب الإنسان على أحاديث نفسه، ولا تؤاخذه على ما يفكر فيه من قول أو فعل محرم، وإنما تؤاخذه على ما أتاه من قول أو فعل محرم، وذلك معنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم". 25 - حرية الاعتقاد: والشريعة الإسلامية وهي أول شريعة أباحت حرية الاعتقاد وعملت على صيانة هذه الحرية وحمايتها إلى آخر الحدود، فلكل إنسان - طبقاً للشريعة الإسلامية - أن يعتنق من العقائد ما شاء، وليس لأحد أن يحمله على ترك عقيدته أو اعتناق غيرها أو يمنعه من إظهار عقيدته. وكانت الشريعة الإسلامية عملية حين قررت حرية العقيدة، فلم تكتف بإعلان هذه الحرية وإنما اتخذت لحمايتها طريقين: أولاهما: إلزام الناس أن يحترموا حق الغير في اعتقاد ما يشاء وفي تركه يعمل طبقاً لعقيدته، فليس لأحد أن يكره آخر على اعتناق عقيدة ما أو ترك أخرى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ومن كان يعارض آخر في اعتقاده فعليه أن يقنعه بالحسنى، ويبين له وجه الخطأ فيما يعتقد، فإن قبل أن يغير عقيدته عن اقتناع فليس عليهما حرج، وإن لم يقبل فلا يجوز إكراهه ولا الضغط عليه، ولا التأثير عليه بما يحمله على تغيير عقيدته وهو غير راضٍ، ويكفي صاحب العقيدة المضادة أنه أدى واجبه؛ فبين الخطأ، وأرشد إلى الحق، ولم يقصر في إرشاد خصمه وهدايته إلى الصراط المستقيم. واقرأ إن شئت هذه المعاني صريحة واضحة في قول تعالى لرسوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ، وقوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] ، وقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22] ، وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] . ثانيهما: إلزام صاحب العقيدة نفسه أن يعمل على حماية عقيدته، وأن لا يقف موقفاً سلبياً، فإذا عجز عن حماية نفسه تحتم عليه أن يهاجر من هذه البلدة التي لا تحترم فيها أهله العقيدة، ويمكن فيه من إعلان ما يعتقد، فإن لم يهاجر وهو قادر على الهجرة فقد ظلم نفسه قبل أن يظلمه غيره، وارتكب إثماً عظيماً، وحقت عليه كلمة العذاب، أما إذا كان عاجزاً عن الهجرة فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وهذا هو القرآن ينص صراحة على ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - 99] . وقد بلغت الشريعة الإسلامية غاية السمو حينما قررت حرية العقيدة للناس عامة مسلمين وغير مسلمين، وحينما تكفلت بحماية هذه الحرية لغير المسلمين في بلاد الإسلام، ففي أي بلد إسلامي يستطيع غير المسلم أن يعلن عن دينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ومذهبه وعقيدته، وأن يباشر طقوسه الدينية، وأن يقيم المعابد والمدارس لإقامة دينه ودراسته دون حرج عليه، فلليهود في البلاد الإسلامية عقائدهم ومعابدهم وهم يتعبدون علناً وبطريقة رسمية، ولهم مدارسهم التي يعلمون فيها الدين الموسوي، ولهم أن يكتبوا ما يشاءون عن عقيدتهم وأن يقارنوا بينها وبين غيرها من العقائد ويفضلوها عليها في حدود النظام العام والآداب والأخلاق الفاضلة، وكذلك حال المسيحيين مع اختلاف مذاهبهم وتعددها، فلكل أصحاب مذهب كنائسهم ومدارسهم، وهم يباشرون عباداتهم علناً، ويعلمون عقائدهم في مدارسهم، ويكتبون عنها وينشرون ما يكتبون في البلاد الإسلامية. 26 - حرية القول: أباحت الشريعة حرية القول وجعلتها حقاً لكل إنسان، بل جعلت القول واجباً على الإنسان في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة والنظام العام وفي كل ما تعتبره الشريعة منكراً؛ وذلك قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 104] ، وقوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج: 41] ، وذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، وقوله: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وقوله: "الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وقوله: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله". وإذا كان لكل إنسان أن يقول ما يعتقد أنه الحق ويدافع بلسانه وقلمه عن عقيدته فإن حرية القول ليست مطلقة، بل هي مقيدة بأن لا يكون ما يكتب أو يقال خارجاً عن حدود الآداب العامة والأخلاق الفاضلة أو مخالفاً لنصوص الشريعة. وقد قررت الشريعة حرية القول من يوم نزولها، وقيدت في الوقت نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 هذه الحرية بالقيود التي تمنع من العدوان وإساءة الاستعمال، وكان أول من قيدت حريته في القول محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو رسول الله الذي جاء معلناً للحرية مبشراً بها وداعياً إليها، ليكون قوله وعمله مثلاً يحتذى، وليعلم الناس انه لا يمكن أن يعفى أحد من هذه القيود إذا كان رسول الله أول من قيد بها مع ما وصفه به ربه من قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] . ولقد أمر الله رسوله أن يبلغ رسالته للناس وأن يدعو الناس جميعاً إلى الإيمان بالله وبالرسالة، وأن يحاج الكفار والمكذبين ويخاطب عقولهم وقلوبهم، ولكن الله جل شأنه لم يترك لرسوله حرية القول على إطلاقها؛ فرسم له طريقة العودة، وبين له منهاج القول والحجاج، وأوجب عليه أن يعتمد في دعوته على الحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل بالتي هي أحسن، وأن يعرض عن الجاهلين، وأن لا يجهر بالسوء من القول، وأن لا يسب الذين يدعون من دون الله، فرسم الله لرسوله حدود حرية القول، وبين لنا أن الحرية ليست مطلقة وإنما هي حرية مقيدة بعدم العدوان وعدم إساءة الاستعمال. وحرية القول في الحدود التي وضعتها الشريعة تعود دون شك على الأفراد والامم بالنفع والتقدم، وتؤدي إلى نمو الإخاء والحب والاحترام بين الأفراد والهيئات، وتجمع كلمة أولي الأمر على الحق دون غيره، وتجعلهم في حالة تعاون دائم، وتقضي على النعرات الشخصية والطائفية، وهذا كله ينقص العالم اليوم، أو يبحث عنه العالم فلا يهتدي إليه. ونستطيع أن نبين مدى صلاحية نظرية الشريعة إذا علمنا أن المشرعين الوضعيين بعد تجاربهم الطويلة ينقسمون اليوم قسمين: قسم يرى حرية القول دون قيد إلا فيما يمس النظام العام، وهؤلاء لا يعيرون الأخلاق أي اهتمام، وتطبيق رأيهم يؤدي دائماً إلى التباغض والتنابذ والتحزب ثم القلاقل والثورات وعدم الاستقرار. وقسم يرى تقييد حرية الرأي في كل ما يخالف رأي الحاكمين ونظرتهم للحياة، وتطبيق رأي هؤلاء يؤدي إلى كبت الآراء الحرة وإبعاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 العناصر الصالحة عن الحكم، ويؤدي في النهاية إلى الاستبداد ثم القلاقل والثورات. ونظرية الشريعة الإسلامية تجمع بين هاتين النظريتين اللتين تأخذ بهما دول العالم، ذلك أن نظرية الشريعة تجمع بين الحرية والتقييد، وهي لا تسلم بالحرية على إطلاقها، ولا بالتقييد على إطلاقه؛ فالقاعدة الأساسية في الشريعة هي حرية القول، والقيود على هذه الحرية ليست إلا فيما يمس الأخلاق أو الآداب أو النظام، والواقع أن هذه القيود قصد منها حماية الأخلاق والآداب والنظام، ولكن هذه الحماية لا تتيسر إلا بتقييد حرية القول، فإذا منع القائل من الخوض فيما يمس هذه الأشياء فقد منع من الاعتداء ولم يحرم من أي حق لأن الاعتداء لا يمكن أن يكون حقاً. ويمكننا بعد ذلك أن نقول: إن الشريعة الإسلامية تبيح لكل إنسان أن يقول ما يشاء دون عدوان؛ فلا يكون شتاماً ولا عياباً ولا قاذفاً ولا كاذباً، وأن يدعو إلى رأيه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل بالتي هي أحسن، وأن لا يجهر بالسوء من القول، ولا يبدأ به، وأن يعرض عن الجاهلين. ولا جدال في أن من يفعل هذا يحمل الناس على أن يسمعوا قوله ويقدروا رأيه، فضلاً عن بقاء علاقاته بغيره سليمة ثم بقاء الجماعة يداً واحدة تعمل للمصلحة العامة. والنصوص القرآنية الآتية تعتبر دستور القول في الشريعة، وهي قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ، وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] ، وقوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ، وقوله: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] ، وقوله: {تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 هذه هي نظرية الحرية بشعبها الثلاث، جاءت بها الشريعة الإسلامية في وقت كان الناس فيه لا يفكرون بعقولهم، ولا يحفلون إلا بما وجدوا عليه آباءهم، وكان من الطبيعي في نظرهم أن يكره الرجل على تغيير عقيدته، ولم يكن لأحد حرية القول أو التفكير إلا أصحاب السلطان والأقوياء. وقد لقى المسلمون الأول عنتاً شديداً في نشر الدعوة وبث العقيدة الإسلامية، فعذبوا لتغيير عقيدتهم، وأكرهوا على ذلك بشتى الوسائل، وكان الكفار والمكذبون يترصدون لهم؛ فلا يحاولون القول إلا منعوهم منه، ولا التعبد إلا آذوهم به. وظاهر مما سبق أن الشريعة حين جاءت بنظرية الحرية لم تكن تجاري تطور الجماعة أو تلبي رغباتهم، لأن العالم كله في ذلك الوقت لم يكن مهيأً لنظرية الحرية، وإنما قررت الشريعة هذه النظرية لترفع بها مستوى الجماعة، وتدفعهم نحو التقدم والرقي، وتسمو بهم عن الموطن الذي نزلت بهم فيه همجيتهم، وأرضاهم به جهلهم، كذلك كان تقرير النظرية لازماً لتكميل الشريعة بما تستلزمه الشريعة الكاملة الدائمة. وقد جاءت النصوص المقررة للحرية والمبينة لحدودها نصوصاً عامة مرنة بحيث لا يمكن أن تحتاج إلى تعديل أو تبديل. وهذا يتفق مع الأساس الذي قامت عليه الشريعة وهو عدم قابليتها للتعديل أو التبديل، ولا شك أن النصوص من العموم والمرنة بحيث لا يمكن أن تضيق بأي حال مهما تغيرت الظروف والأمكنة وطال الزمن. ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير نظرية الحرية بأحد عشر قرناً على الأقل؛ لأن القوانين الوضعية لم تبدأ بتقرير هذه النظرية إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك فلم تكن هذه القوانين تعترف بالحرية بل كانت أقصى العقوبات تخصص للمفكرين ودعاة الإصلاح ولمن ينتقد عقيدة تخالف العقيدة التي يعتنقها أولو الأمر. هذا هو الواقع وهذه هي حقائق التاريخ، فمن شاء بعد ذلك أن يعرف كيف نشأت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الأكذوبة الكبرى التي تقول إن الأوروبيين هم أول من دعا للحرية فليعلم أنها نشأت من الجهل بالشريعة الإسلامية، وقد يعذر الأوروبيون في هذا الجهل أما نحن فلن نجد لأنفسنا عذراً. 27 - نظرية الشورى: جاءت الشريعة الإسلامية مقررة لمبدأ الشورى في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ، وفي قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، ولم يكن تقرير النظرية نتيجة لحال الجماعة، فقد كان العرب في أدنى دركات الجهل وفي غاية التأخر والانحطاط، وإنما قررت الشريعة النظرية لأنها قبل كل شئ من مستلزمات الشريعة الكاملة الدائمة المستعصية على التبديل والتعديل، ولأن تقرير النظرية يؤدي بذاته إلى رفع مستوى الجماعة وحملهم على التفكير في المسائل العامة والاهتمام بها، والنظر إلى مستقبل الأمة نظرة جدية، والاشتراك في الحكم بطريق غير مباشر، والسيطرة على الحكام ومراقبتهم. فالنظرية إذن مقررة لتكميل الشريعة ولتوجيه الجماعة ورفع مستواها. وظاهر من صيغة النصين المقررين لمبدأ الشورى أنهما عامان مرنان إلى آخر حدود العموم والمرونة، بحيث لا يمكن أن يحتاج الأمر إلى تعديلهما أو تبديلهما في المستقبل، وفي هذا بيان لما قلناه من أن الشريعة تتميز بصفة الدوام وأنها لا تقبل التبديل والتعديل. ولهذه الاعتبارات اكتفت الشريعة بتقرير الشورى كمبدأ عام وتركت لأولياء الأمور في الجماعة أن يضعوا معظم القواعد اللازمة لتنفيذها، لأن هذه القواعد تختلف تبعاً لاختلاف الأمكنة والجماعات والأوقات، فلأولياء الأمور مثلاً أن يعرفوا رأي الشعب عن طريق رؤساء الأسر والعشائر، أو عن طريق ممثلي الطوائف، أو بأخذ رأي الأفراد الذين تتوفر فيهم صفات معينة: إما بطريق التصويت المباشر وإما بطريق التصويت الغير مباشر، ولأولياء الأمور أن يسلكوا أي سبيل آخر يرون أنه أفضل من غيره في تعرف رأي الجماعة، بشرط ألا يكون في ذلك كله ضرر ولا ضرار بصالح الأفراد أو الجماعة أو النظام العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أما القواعد الأساسية الخاصة بتطبيق مبدأ الشورى وتنفيذه وهي قليلة فقد بينت الشريعة أحكامها ولم تتركها لأولياء الأمور، وهذه القواعد حكمها حكم مبدأ الشورى لا تقبل التعديل ولا التبديل؛ لأنها قواعد جاءت بها نصوص خاصة، والقاعدة أن ما نُصَّ عليه لا يعدل ولا يبدل. ومن هذه القواعد الأساسية التي توجب الشريعة اتباعها في تطبيق مبدأ الشورى وتنفيذه أن تكون الأقلية التي لم يؤخذ برأيها أول من يسارع إلى تنفيذ رأي الأغلبية، وأن تنفذه بإخلاص باعتباره الرأي الواجب الاتباع، وأن تدافع عنه كما تدافع عنه الأغلبية، وليس للأقلية أن تناقش رأياً اجتاز دون المناقشة، أو تشكك في رأي وضع موضع التنفيذ، وتلك هي سنة الرسول التي سنها للناس والتي يجب على الناس اتباعها، طبقاً لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7] . ولقد سن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه السنة وعمل بها في حياته، واتبعها أصحابه بعد وفاته. عمل الرسول بهذه السنة لما علم باستعداد قريش لغزوة أحد وأنهم أقبلوا إلى المدينة ونزلوا قريباً من جبل أحد، فجمع عليه السلام أصحابه، واستشارهم أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه أن لا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبيّ وبعض الصحابة، ولكن جماعة الصحابة أشاروا بالخروج وألحوا عليه في ذلك. فكان الرسول أول من وضع رأي الأكثرية موضع التنفيذ، إذ نهض من المجلس فدخل بيته ولبس لأمته، وخرج عليهم ليقود الأقلية والأكثرية إلى لقاء العدو خارج المدينة، وقد سارع الرسول بتنفيذ رأي الأغلبية بالرغم من مخالفته لرأيه الخاص الذي أظهرت الحوادث فيما بعد أنه كان الرأي الأحق بالاتباع. وعمل أصحاب الرسول بهذه السنة بعد وفاته في حروب الردة، فقد كان رأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الغالبية أول الأمر متجهاً إلى عدم محاربة المرتدين ومسالمتهم، وكان رأي الأقلية وعلى رأسهم أبو بكر متجهاً إلى محاربة المرتدين وعدم التسامح معهم، وانتهت المناقشة بجنوح الكثيرين إلى رأي أبي بكر بعد اقتناعهم به، فلما وضع هذا الرأي موضع التنفيذ كان المخالفون في الرأي هم أول المنفذين له والمضحين في سبيل تنفيذه بأموالهم وأبنائهم وأنفسهم. وهذه السنة المباركة التي تكمل مبدأ الشورى العام تعتبر في وقتنا الحاضر العلاج الناجع لفشل الديموقراطية. فمن المسلم به أن البلاد الديموقراطية فشلت فشلاً ذريعاً في تطبيق مبدأ الشورى، والسبب الأساسي في هذا الفشل أنهم يسمحون للأقلية أن تناقش الرأي الذي أقرته الأغلبية بعد انتهاء دور المناقشة، وأن تشكك في قيمته وصلاحيته أثناء تنفيذه، بل أنه يظل موضع الانتقاد والسخرية حتى بعد تمام تنفيذه. ولما كانت القاعدة أن فريق الأغلبية هو الذي يتولى الحكم فإن آراء هذا الفريق وأعماله لا تقابل بما يجب لها من الاحترام، بل تكون دائماً محل تشكيك وسخرية ويطعن عليها بتفاهتها وعدم صلاحيتها، بل قد يحدث أن تمتنع الأقلية من تنفيذ القوانين التي تسنها الغالبية، وتظل الحال هكذا حتى يصبح الفريق الحاكم أقلية، فيترك الحكم ليتولاه فريق الأكثرية الذي تقابل آراؤه وأعماله بمثل ما قوبل به فريق الأكثرية السابق، وهكذا لا يتولى الحكم فريق إلا كانت آراؤه وأعماله محل النقد والتشكيك والسخرية. وقد يكون النقد سبيلاً من سبل الإصلاح إذا أبدى الناقد رأيه وقت المناقشة أو نقد آراء لم تناقش من قبل، أما نقد الآراء التي سبقت مناقشتها والتشكيك فيها بعد أن وضعت موضع التنفيذ فذلك هو الفساد بعينه، بل إنه ليتناقض مع الأساس الذي تقوم عليه الشورى؛ فأساس الشورى هو أن يحكم الشعب طبقاً لرأي الأغلبية، ومعنى ذلك أن أغلبية الشعب إذا أجمعت على رأي كان رأيها قانوناً أو حكماً تجب له الطاعة والاحترام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ولقد أدى موقف الأقلية من الأغلبية إلى نتيجته الطبيعية، فظهر أولو الأمر في البلاد الديموقراطية بمظهر العاجز الذي لا يحسن التصرف، وفقد الأفراد ثقتهم في الزعماء والجماعات والأحزاب، وأصبحوا يتشككون في قدرتهم على حكم الشعب وإدارة أموره، وحق لهم أن يفقدوا ثقتهم فيمن تصدوا لقيادتهم فلم يسمعوا عنهم في يوم ما أنهمارتأوا رأياً فكان موضع التقدير، أو جاءوا بفكرة لم تكن موضع السخرية، أو هموا بعمل لم يكن موضع النقد والتشكيك. وإذا كان فشل البلاد الديموقراطية في تطبيق مبدأ الشورى يرجع في الأصل إلى انعدام الثقة فيمن يتصدون لقيادة الشعب، إلا أن تفشي هذا الفشل في كل البلاد الديموقراطية جعل الناس يعتقدون أن مبدأ الشورى نفسه غير صالح للتطبيق، فانتقل الشك وعدم الثقة من القائمين على تطبيق المبدأ إلى المبدأ ذاته، واعتنق كثير من البلاد الديموقراطية مبدأ الديكتاتورية وهم يظنون أنهم سيجدون فيه علاجاً لحالة الشك وعدم الثقة التي تعيش فيها الشعوب. ولكن التجارب أثبتت أن الدكتاتورية انتهت بفشل أفظع من فشل الديموقراطية، لأنها تؤدي إلى كم الأفواه، وتعطيل حرية الرأي وحرية الاختيار، وانعدام الثقة بين الشعوب والحكام، وتوريط الشعوب والحكومات فيما لا تريده أو فيما لا يعود عليها إلا بالضرر. وإذا كانت الديكتاتورية تبدأ غالباً بالنجاح إذا استبدلت بالديموقراطية الفاشلة فإن النجاح لا يرجع إلى النظام ذاته، وإنما يرجع - كما أثبتت التجارب - إلى ثقة المحكومين بشخصية الحاكمين وتعضيدهم إياهم، وإلى حرص الحكام على صالح الجماعة، فإذا تغير الحكام الموثوق بهم، أو فشلوا في القيام بمهمتهم، انعدمت الثقة بين الحكام والمحكومين، وابتدأ الفساد يدب في النظام الديكتاتوري، وكان ذلك إيذاناً بتغيير نظام الحكم، وإن كان التغيير ذاته يتوقف على عوامل أظهرها ضعف الحاكمين أو شجاعة وقوة المحكومين. ونستطيع الآن أن نقول بحق: إن النظام الإسلامي لا يعتبر فقط علاجاً ناجعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 لفشل الديموقراطية، ولكنه أيضاً صمام الأمن الذي يحمي الأمم من الديكتاتورية، لأن هذا النظام يحفظ لمبدأ الشورى قيمته النظرية، ويحقق صلاحيته العملية، ويجيش كل القوى لخدمة الجماعة، ويدعو إلى الثقة بالشورى والقائمين بأمرها، ويسد الطريق على المبادئ الهدامة والديكتاتورية. ونستطيع أيضاً أن نقول: إن النظام الديموقراطي يقوم في الأصل على الشورى والتعاون، ولكنه انتهى بسوء التطبيق إلى تسليط المحكومين على الحاكمين، وانعدام التعاون بينهما، وإن النظام الديكتاتوري يقوم في الأصل على السمع والطاعة والثقة بين الحاكمين والمحكومين، ولكنه انتهى بسوء التطبيق إلى تسليط الحاكمين على المحكومين وانعدام الثقة بينهما. أما النظام الإسلامي فيقوم على الشورى والتعاون في مرحلة الاستشارة، وعلى السمع والطاعة والثقة في مرحلة التنفيذ، ولا تسمح قواعده بتسليط فريق على فريق، وبهذا جمع النظام الإسلامي بين ما ينسب إلى الديموقراطية من فضائل، وما ينسب إلى الديكتاتورية من مزايا ومحاسن، ثم هو في الوقت نفسه برئ من العيوب التي تنسب للديموقراطية والديكتاتورية معاً. ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقرير مبدأ الشورى بأحد عشر قرناً، حيث لم تعترف هذه القوانين بمبدأ الشورى إلا بعد الثورة الفرنسية، اللهم فيما عدا القانون الإنجليزي فقد عرف مبدأ الشورى في القرن السابع عشر، وقانون الولايات المتحدة الذي أقر المبدأ بعد منتصف القرن الثامن عشر، أما القانون الفرنسي فقد أخذ بمبدأ الشورى في أخر القرن الثامن عشر، وعلى أثر ذلك انتشر مبدأ الشورى وأخذت به معظم القوانين في القرن التاسع عشر، فالقوانين الوضعية حين قررت مبدأ الشورى لم تأت بجديد، وإنما انتهت إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية، وسارت في الطريق الذي سلكته الشريعة من القرن السابع الميلادي. 28 - نظرية تقييد سلطة الحاكم: جاءت الشريعة الإسلامية من يوم نزولها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 بنظرية تقييد سلطة الحاكم، فكانت أول شريعة قيدت سلطة الحكام، وحرمتهم حرية التصرف، وألزمتهم أن يحكموا في حدود معينة، ليس لهم أن يتجاوزوها، وجعلتهم مسؤولين عن عدوانهم وأخطائهم. وتقوم النظرية على ثلاثة مبادئ أساسية: أولها: وضع حدود لسلطة الحاكم. ثانيها مسؤولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه. ثالثها: تخويل الأمة حق عزل الحاكم. المبدأ الأول: وضع حدود لسلطة الحاكم: كانت سلطة الحاكم قبل نزول الشريعة سلطة مطلقة لا حد لها ولا قيد عليها، وكانت علاقة الحاكمين بالمحكومين قائمة على القوة البحتة، ومن القوة كان الحاكم يستمد سلطانه، وعلى مقدار قوته كانت سلطته؛ فكلما كان قوياً امتد سلطانه لكل شئ، وإن ضعف انكمشت سلطته أصابها القصور والوهم. وكان الناس يدينون للحاكم بالطاعة، لا لأنه يحكمهم بل لأنه أقوى منهم، فكلما كان الحاكم قادراً على أن يسوق الناس بعصاه أو يغريهم بماله وجاهه فهم من الطائعين السامعين، فإذا ضعف واستطاع أحد منافسيه أن يتغلب عليه فإنه يستطيع تبعاً لذلك أن يتحكم في رقاب الرعية، وكانت الرعية تعتبر خدماً وعبيداً لصاحب السلطان سواءً أورث سلطانه أم اكتسبه. ولما كان الحاكم يستمد سلطته من قوته لم تكن سلطة أي حاكم تساوي سلطة الآخر، ولم تكن هناك حدود مرسومة للحكام لا يتعدونها، بل كان للحاكم أن يأتي ما يشاء ويدع ما يشاء دون حسيب أو رقيب. وجاءت الشريعة فاستبدلت بهذه الأوضاع البالية أوضاعاً جديدة تتفق مع الكرامة الإنسانية والحاجات الاجتماعية، فجعلت أساس العلاقة بين الحكام والمحكومين تحقيق مصلحة الجماعة لا قوة الحاكم أو ضعف المحكومين، وتركت للجماعة حق اختيار الحاكم الذي يرعى مصلحتها ويحفظها، وجعلت لسلطة الحاكم حدوداً ليس له أن يتعداها، فإن خرج عليها كان عمله باطلاً وكان من حق الجماعة أن تعزله وتولي غيره لرعاية شئونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وقد بينت الشريعة مهمة الحاكم بياناً شافياً وحددت حقوقه وواجباته تحديداً دقيقاً؛ فمهمة الحاكم في الشريعة أن يخلف رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا (1) ، ويسمى الحاكم في اصطلاح الفقهاء الإمام. والإمامة أو الخلافة - كما يرى الفقهاء - عقد لا ينعقد إلا بالرضى والاختيار (2) ، وبموجب هذا العقد يلزم الإمام - أي الحاكم - أن يشرف على الشئون العامة للأمة في الداخل والخارج (3) بما يحقق مصلحتها، بشرط أن يكون ذلك كله في حدود ما أنزل الله على رسوله، وفي مقابل التزام الإمام للأمة بهذا الالتزام تلتزم له الأمة على لسان ممثليها الذين اختاروه إماماً أن تسمع له وتطيع أمره، ما لم يتغير حاله فيصبح فاسقاً أو يعجز عن مباشرة عمله (4) ، فإذا تغير حاله انعزل بفسقه أو عجزه. فسلطة الإمام - أي الحاكم - في الشريعة ليست مطلقة، وليس له أن يفعل ما يشاء ويدع ما يشاء، وإنما هو فرد من الأمة اختير لقيادتها وعليه للأمة التزامات وله على الأمة حقوق، وله من السلطة ما يستطيع أن يؤدي به التزاماته ويستوفي به حقوقه، وهو في أداء واجباته واستيفاء حقوقه مقيد بأن لا يخرج على نصوص الشريعة أو روحها، وذلك طبقاً لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ} [المائدة: 49] ، وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] ، وقوله: {لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] . وإذا كان الإمام - أي الحاكم - مقيداً بأن يتبع الشريعة وأن يحكم طبقاً لنصوصها، فمعنى ذلك أن سلطته مقيدة بنصوص الشريعة، فما أباحته فقد امتد سلطانه إليه، وما حرمته عليه فلا سلطان له عليه. والشريعة لا تبيح للحاكم إلا ما تبيحه لكل فرد، ولا تحرم عليه إلا ما حرمته على كل فرد.   (1) الأحكام السلطانية ص3. (2) الأحكام السلطانية ص6. (3) حدد صاحب الأحكام السلطانية واجبات الإمام بأنها: حفظ الدين، وتوفير الأمن والنظام، وإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وحفظ الثغور، والجهاد، والإشراف على الأموال العامة في جبايتها وإنفاقها، والإشراف على الموظفين العموميين الذين يتولون كل هذه المهام. (4) نفس المرجع ص12 -17 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المبدأ الثاني: مسئولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه: وبعد أن بينت الشريعة واجبات الإمام - أي الحاكم - وحقوقه وحددت سلطته على وجه السابق جعلته مسئولاً عن كل عمل يتجاوز به سلطانه، سواء أتعمد هذا العمل أم وقع العمل نتيجة إهماله. ولم تكن الشريعة في تقرير مسئولية الحكام عن تصرفاتهم إلا متمشية مع منطق الأشياء، فقد بينت للحاكم حقه وواجبه وألزمته بأن لا يخرج عن أحكام الشريعة، وجعلته كأي فرد عادي فلم تميزه على غيره بأي ميزة، فكان من الطبيعي - تحقيقاً للعدالة والمساواة واستجابة للمنطق - أن يسأل الحاكم عن كل عمل مخالف للشريعة سواء أتعمد هذا العمل أم وقع منه نتيجة إهماله، ما دام كل فرد يسأل كذلك عن أعماله المخالفة للشريعة (1) . المبدأ الثالث: تخويل الأمة حق عزل الحكام: بينا فيما سبق أن الإمامة تنعقد بناء على عقد يختار فيه الشعب الإمام أي الحاكم، ويلتزم له بالطاعة في مقابل التزاما لحاكم بالإشراف على شئون الأمة وقيادتها في الطريق التي رسمتها الشريعة. وينبني على هذا المنطق أن الحاكم الذي يقوم بمهمته في الحدود المقررة لها يجب له على الشعب السمع والطاعة، أما الحاكم الذي لا يقوم بالتزاماته أو يخرج على حدودها فليس له أن ينتظر من الشعب السمع والطاعة، وعليه هو أن يتنحى عن مركزه لمن هو أقدر منه على الحكم في حدود ما أنزل الله، فإن لم يتنح مختاراً نحّاه الشعب مكرهاً واختار غيره. وهذا الذي يقتضيه المنطق هو نفس حكم الشريعة الصريح، جاء به القرآن وأمر به الرسول، وعمل به الخلفاء الراشدين من بعده، فالله جل شأنه يأمر بطاعة أولي الأمر في حدود ما جاء به الرسول فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ   (1) سنفصل الكلام على مسئولية الحكام عندما نبحث في سريان الشريعة على الأشخاص وإنما تكلمنا هنا عن المسئولية بالقدر الذي يظهر مميزات الشريعة وسبقها في تقرير النظريات الحديثة في القوانين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ، والرسول عليه السلام يقول: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، ويقول: "إنما الطاعة في المعروف"، ويقول في ولاة الأمور: "من أمركم منهم بمعصية فلا سمع ولا طاعة". وبعد موت الرسول اختار المسلمون أبا بكر خليفة عليهم، فكانت أول خطبة يقولها تطبيقاً دقيقاً لهذه النصوص حيث قال: "أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". وولي عمر أمر المسلمين بعد أبي بكر، فكان حريصاً على إظهار معاني هذه النصوص وتثبيتها في الأذهان، خطب يوماً فقال: "لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه؟! قال: لا، القتل أنكل لمن بعده". هذه هي نظرية الشريعة جاءت بها في وقت كانت سلطة الحاكمين على المحكومين سلطة مطلقة، فلم تكن الشريعة حين قررت هذه النظرية تأتي بما يلائم الجماعة ويصلح لحالها، وإنما جاءت بالنظرية لأنها ضرورية للشريعة الكاملة الدائمة من ناحية، ولترفع بها مستوى الجماعة وتدفعهم نحو الرقي من ناحية أخرى، فالنظرية إذن شرعت للتكميل والتوجيه. وهذه هي النصوص التي تقوم عليها النظرية؛ جاءت عامة إلى آخر حدود العموم، مرنة إلى آخر حدود المرونة، بحيث تنطبق في كل زمان ومكان، ولا تضيق بما يمكن أن يستجد من حالات. وقد سبقت الشريعة الإسلامية بنظريتها كل القوانين الوضعية في تقييد سلطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الحاكم، وتعيين الأساس الذي تقوم عليه علاقة الحاكمين بالمحكومين، وفي تقرير سلطان الأمة على الحكام، وأول قانون وضعي اعتراف بعد الشريعة بسلطان الأمة على الحكام هو القانون الإنجليزي، وكان ذلك في القرن السابع عشر أي بعد أن قررت الشريعة نظريتها بأحد عشر قرناً، ثم جاءت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر وعلى أثرها انتشر هذا المبدأ في القوانين الوضعية. وتسير القوانين الوضعية في تقرير النظرية على هدى الشريعة الإسلامية، فتجعل الحد بين الحاكمين والمحكومين الدستور الوضعي الذي يبين حقوق الأفراد والجماعات والحكام ومدى سلطان كلٍّ، كما جعلت النظرية الشرعية الحد بين الحاكمين والمحكومين نصوص الشريعة وهي الدستور الإسلامي. 29 - نظرية الطلاق: أباحت الشريعة الإسلامية للرجل أن يطلق المرأة سواء دخل بها أم لم يدخل، ولو لم يقم دليل ظاهر على أن ضرراً حدث للرجل من الزواج، بالأمر في تطليق المرأة متروك للرجل. وأباحت الشريعة الإسلامية للمرأة أن تطلب من القضاء أن يطلقها على الزوج إذا أثبتت أنه يضارها ضرراً مادياً أو أدبياً، أو لا يؤدي لها ما توجبه الشريعة على الزوج من حقوق للزوجة. وأساس الفرق بين الرجل والمرأة في استعمال حق الطلاق أن للرجل حق القوامة والرئاسة فيما يتعلق بشئون الزوجية (1) ، وهو الذي يتحمل وحده أعباءها، فهو ملزم بمهر الزوجة ونفقات الزواج، وملزم بالإنفاق هلى الزوجة من يوم العقد ولو لم تنتقل إلى بيته، وملزم بالإنفاق عليها وعلى أولادها منه، فأعطى له حق الطلاق مطلقاً من كل قيد في مقابل هذه المسئوليات الجسيمة. وفي هذا مصلحة للمرأة من وجه آخر لأن إلزام الرجل ببيان أسباب الطلاق قد يؤدي إلى تلويث سمعة المرأة   (1) راجع الفقرة 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وحرمانها من الزواج بعد ذلك. أما المرأة فأعطى لها حق الطلاق مقيداً بحصول ضرر مادي أو أدبي، وفي هذا ما يتفق مع تقديم الرجل عليها درجة في شئون الزوجية، وما يحميها حماية كافية من تعنت الزوج، وما يحمي الزوج في الوقت نفسه من أن تسئ الزوجة استعمال حقها في طلب الطلاق. وإذا كانت الشريعة قد أعطت الرجل الطلاق مطلقاً من كل قيد فإنها قد فرضت عليه في مقابل ذلك واجبات قصد منها حماية الزوجة وحفظ مصلحتها. والطلاق إما أن يكون قبل الدخول وقبل فرض مهر الزوجة، وإما أن يكون قبل الدخول وبعد فرض مهر للزوجة، وإما أن يكون بعد الدخول، وفي كل حالة من هذه الالتزامات تعتبر من ناحية تعويضاً للمرأة كما أنها من ناحية أخرى تحمل الرجل على أن يفكر كثيراً قبل استعمال حق الطلاق. الطلاق قبل الدخول وفرض المهر: إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو يفرض لها مهراً فعليه أن يمتعها، أي يعوضها عن الطلاق بما يقتضيه العرف، أي بما تعارف أمثال الزوج ومن هم في طبقته على أدائه للمرأة في مثل هذه الحالة، والمقصود بالأمثال أن يكونوا مثله من الناحية المالية، وذلك قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] . الطلاق قبل الدخول وبعد فرض المهر: وإذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول وبعد فرض المهر فهو ملزم بأن يدفع لها نصف المهر تعويضاً عن الطلاق، طبقاً لقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] . الطلاق بعد الدخول: أما إذا طلق الرجل المرأة بعد الدخول فهو ملزم لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 بكل المهر ولو كان أكثره غير حال، وعليه أن يسلمها كل ما قدمه لها بمناسبة الزواج أو ما ملّكها إياه في حال الزوجية سواء كان ملزماً به أم متفضلاً به عليها، وذلك طبقاً لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [النساء: 20] . وعلى الزوج بعد ذلك أن ينفق على الزوجة حتى تستوفي عدتها وتصبح بذلك أهلاً للزواج من غيره. وتختلف عدة المطلقة بحسب ما إذا كانت حاملاً أو غير حامل، فإن كانت حاملاً فعدتها أن تضع حملها طبقاً لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، وإن لم تكن حاملاً فعدتها أن تمر عليها ثلاثة قروء طبقاً لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] ، والقرء هو الحيض على رأي، والطهر من الحيض على رأي آخر. وأول ما يلاحظ على النصوص التي جاءت في الطلاق أنها نصوص مرنة وعامة إلى آخر حدود العموم والمرونة، ومن ثم كانت صالحة لكل عصر ولكل مصر، ولم تكن في حاجة إلى التعديل والتبديل، ولقد أثبت ذلك الزمن نفسه حيث مر على هذه النصوص أكثر من ثلاثة عشر قرناً وهي لا تزال على ما كانت عليه يوم نزولها من الجدة والصلاحية والسمو. وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد قررت حق الطلاق للزوجين من ثلاثة عشر قرناً وأحاطته بهذه الضمانات القوية العادلة، فإن العالم المتحضر لم يعرف هذا الحق ولم يعترف به إلا في القرن العشرين، بل كان البعض يأخذون على الشريعة أنها جاءت مقررة لحق الطلاق، ثم دار الزمن دورته وجاء عصر العلوم والرقي وتقدمت الأمم وتفتحت العقول، فرأى العلماء والمفكرون أن تقرير حق الطلاق نعمة على المتزوجين وأنه الطريق الوحيد للخلاص من الزواج الفاشل، ومن سوء العشرة ومن الآلام النفسية، وأن الطلاق هو الذي يحقق سعادة الزوجين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 إذا فشل الزواج في تحقيقها، وأنه يحفظ الرجل والمرأة من التعرض للأخطاء ووساوس الشيطان. ولا يكاد اليوم يخلو قانون وضعي من قوانين الأمم المتحضرة من نص على الطلاق والاعتراف به، ولكن هذه القوانين تختلف في مدى الأخذ بمبدأ الطلاق، فالبعض يتوسع في تطبيق المبدأ، والبعض يضيق من الدائرة التي يطبق فيها. فالقانون الروسي يبيح الطلاق للرجل والمرأة دون قيد ولا شرط، فهو يأخذ بالمبدأ الذي وضعته الشريعة للرجل ويطبقه على المرأة والرجل معاً، وقوانين بعض الولايات التابعة للولايات المتحدة الأمريكية تبيح للرجل وللمرأة معاً حق طلب الطلاق إذا أثبت الطالب أن الآخر يضره ضرراً مادياً أو أدبياً، فهذه القوانين تأخذ بالمبدأ الذي قررته الشريعة حقاً للمرأة وتطبقه على الرجل والمرأة معاً. وأكثر القوانين الوضعية تبيح الطلاق بناء على طلب أحد الزوجين في حدود ضيقة ولأسباب معينة، فهذه القوانين تطبق على الرجل والمرأة ما جعلته الشريعة حقاً للمرأة ولكنها تحدد أسباب الطلاق وتضيق من دائرتها. وهكذا بدأ العالم بعد ثلاثة عشر قرناً يعترف بنظرية الشريعة الإسلامية في الطلاق ويأخذ بها، وقد لا يمضي القرن العشرين حتى تتوسع القوانين الوضعية في إباحة الطلاق وتطبيق نظرية الشريعة بحذافيرها. ونستطيع أن نتبين مما سبق أن العالم لم يكن مهيأ لقبول نظرية الطلاق يوم نزلت بها الشريعة، وأن وجود هذه النظرية في الشريعة اقتضته ضرورة تكميل الشريعة بما تحتاج إليه الشريعة الكاملة الدائمة من نظريات، وقصد منه رفع مستوى الجماعة ودفعها نحو الرقي والكمال. 30 - نظرية تحريم الخمر: حرمت الشريعة الإسلامية الحمر تحريماً مطلقاً وجعلت عقوبة تناول الخمر من الحدود "أي العقوبات" المقدرة التي لا يجوز لولى الأمر العفو عنها ولا عن الجريمة التي وضعت لها، ولا يجوز للقاضي أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 يخفضها، أو يستبدل بها غيرها، أو يوقف تنفيذها. ولم تحرم الشريعة الخمر مرة واحدة، بل جاءت بالتحريم تدريجياً، لأن شرب الخمر كان متفشياًٍ في العرب، وكانت الخمر إحدى متعهم وسبيل لهوهم، فاقتضت حكمة التشريع التدرج في التحريم، وكان أول نص من نصوص التحريم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ، فنهاهم الله عن الصلاة وهم سكارى، ولما كانت الصلاة فريضة لابد من أدائها فقد وجب عليهم أن لا يتناولوا الخمر بكميات تسكرهم ليستطيعوا أن يؤدوا فريضة الصلاة خمس مرات فيما بين الفجر والعشاء وهم غير سكارى، ولعل هذا كان داعياً لهم أن يتساءلوا عن حكم الخمر في ذاتها، وقد جاء النص الثاني من نصوص التحريم يرد على هذا التساؤل ويبين علة التحريم، وذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، وبعد أن أصبحت النفوس مهيأة لترك الخمر نزل النص القاطع في التحريم وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90، 91] . وظاهر من نصوص الشريعة أنها عامة مرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، وهذه الميزة التي تتميز بها نصوص الشرعية هي التي جعلت هذه النصوص صالحة للتطبيق وقت نزول الشريعة، وحفظت لها هذه الصلاحية في عصرنا الحاضر أي بعد مضي ثلاثة عشر قرناً على تاريخ نزولها، وهذه الميزة هي التي ستحفظ لها هذه الصلاحية في مستقبل الأيام مهما امتد الزمن وطال. فإذا ما قلنا إن الشريعة لا تقبل التعديل والتبديل فذلك لأنها صيغت بحيث لا تحتاج إلى تعديل أو تبديل. ولم تأت الشريعة بحريم الخمر مجاراة لحال الجماعة أو استجابة لرغباتها، فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 كانت فكرة التحريم بعيدة عن الأذهان، ولم تكن النفوس مهيأة لها، وإنما جاءت الشريعة بالتحريم لأنه ضروري لتكميل الشريعة بما يجب أن تكون عليه الشريعة الكاملة الدائمة، وجاءت به لترفع مستوى الجماعة وتوجهها نحو السمو والكمال، وإذا كان العالم غير الإسلامي قد أصبح الآن يفكر في تحريم الخمر، كما أصبحت النفوس مهيأة لقبول التحريم، فمعنى ذلك أن الشريعة الإسلامية بما قررته من تحريم دعت الناس أن يتقدموا عصرهم بأكثر من ثلاثة عشر قرناً. ولقد دعت الشريعة الإسلامية العالم إلى ترك الخمر وحرمتها على الناس من القرن السابع، ولكن لم يستجب لهذه الدعوة ويأخذ نفسه بتحريم الخمر إلا البلاد الإسلامية، أما ما عداها من البلاد فقد بقيت تحت سلطان الخمر حتى أثبت العلم المادي أخيراً أن الخمر مفسدة عظمى، وأنها تهدم الصحة وتضيع المال وتضعف النسل والعقل وتضر بالإنتاج ضرراً بليغاً، هنالك بدأت الدعوة لتحريم الخمر تظهر وتشتد، وتؤلف لها الجماعات وتجمع لها الأموال وتنشر الصحف، وقد نجحت الدعوة لتحريم الخمر نجاحاً ملحوظاً فلا يكاد يوجد اليوم بلد ليس فيه جماعة قوية تدعو لتحريم الخمر، وتجد كل تعضيد ومساعدة من المفكرين والمصلحين بحيث يمكن أن يقال: إن الدعوة إلى تحريم الخمر أصبحت اليوم عامة. ويستطيع الإنسان أن يرى الدعوة إلى تحريم الخمر ظاهراً في التشريعات التي صدرت في القرن الحالي، فالولايات المتحدة أصدرت من عدة سنين قانوناً يحرم الخمر تحريماً تاماً، والهند أصدرت من عامين قانوناً مماثلاً. وهاتان هما الدولتان الوحيدتان اللتان حرمتا الخمر تحريماً تاماً. أما أكثر الدول فقد استجابت للدعوة استجابة جزئية؛ فحرمت تقديم الخمر وتناولها في المحلات العامة في أوقات معينة من النهار، كما حرمت تقديمها أو بيعها لمن لم يبلغوا سناً معيناً. ونستطيع أن نقول بعد ذلك: إن العالم اليوم أصبح مهيأ لفكرة تحريم الخمر بعد أن ثبت علمياً أنها تضر بالشعوب ضرراً بليغاً، وأن الدعوة إلى التحريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 تأخذ طريقها ويشتد ساعدها كل يوم، وتجد من العلماء والمصلحين كل تعضيد، وأن اليوم الذي تحرم فيه كل الدول الخمر تحريماً قاطعاً لم يعد بعيداً، وأن العالم قد بدأ يأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية ويسير على أثرها فسجل على نفسه بذلك أنه استجاب للحق بعد أن ظل يدعى إليه ثلاثة عشر قرناً فلا يجيب. 31 - نظرية تعدد الزوجات: جاءت الشريعة الإسلامية من يوم نزولها مبيحة لتعدد الزوجات بشرط أن يعلم الزوج من نفسه القدرة على عدل بينهن، فإن كان يعلم أنه لا يستطيع العدل بينهن أو يخشى أن لا يعدل بينهن فلا يجوز له أن يتزوج غير امرأة واحدة، وإذا كان يعلم أنه يستطيع العدل بينهن فليس له أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة، وذلك قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] . وقد سايرت الشريعة الإسلامية منطقها الخاص، وسايرت الطبيعة البشرية، وجاءت متفقة مع الغرض من الزواج حينما قررت إباحة تعدد الزوجات. فأما أن الشريعة قد سايرت منطقها الخاص: فذلك أن الشريعة تحرم الزنا تحريماً كلياً وتعاقب عليه أشد العقاب حتى أنها لتعاقب الزاني المحصن بالرجم (أي القتل رمياً بالحجارة) فوجب أن لا تحرم الزنا على الناس من وجه وتدفعهم إلى الزنا من وجه آخر، ولا شك أن التحريم تعدد الزوجات يدفع الناس إلى الزنا، ذلك أن عدد النساء في العالم يزيد على عدد الرجال، ويزداد الفرق بينهما كلما نشبت الحروب وتعددت، فتحريم الزواج إلا من واحدة يؤدي إلى بقاء عدد كبير من النساء دون زواج، وحرمان المرأة من الزواج مع استعدادها له معناه أن تجاهد المرأة طبيعتها، وهو جهاد ينتهي غالباً بالفشل والاستسلام وإباحة الأعراض والرضا بالسفاح، وكذلك فإن الرجل والمرأة يختلفان من حيث استعدادهما للعملية الجنسية، فالمرأة ليست مستعدة في كل وقت لغشيان الرجل إياها؛ لأنها تحيض كل شهر أسبوعاً في المتوسط، وقد تصل أيام الحيض إلى أسبوعين، وغشيانها محرم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الحيض، ولأنها عندما تلد يحرم غشيانها مدة النفاس وهي أربعون يوماً تقريباً. كذلك فإن استعداد المرأة يضعف طول مدة الحمل أو على الأقل مدة الإثقال بالحمل، أما الرجل فاستعداده واحد لا يختلف باختلاف أيام الشهر والسنة، فإذا حرم على الرجل أكثر من واحدة كان معنى ذلك حمل الكثيرين على الزنا، لأنهم لا يستطيعون أن يكبتوا غرائزهم الجنسية أيام الحيض والنفاس والإثقال بالحمل. وأما أن الشريعة الإسلامية سايرت طبائع البشر في إباحة تعدد الزوجات: فإنها قدرت قوة الغرائز الجنسية حق قدرها، فلم تعرض الرجل أو المرأة لامتحان إن نجح فيه عشرات سقط المئات، ولم تفرض على الرجل أن يتزوج واحدة فقط حتى لا تحكم على بعض النساء بالبقاء عوانس مدى الحياة، يتمنين الرجل فلا يحصلن عليه، ويحملن بالأولاد والأسرة ولا سبيل إلى تحقيق حلمهن، ويقاومن الغرائز الجنسية فلا تعود عليهن المقاومة إلا بضعف الصحة والعقل وخسارة الشرف والعفة، ولم تفرض الشريعة على الرجل أن يتزوج واحدة فقط حتى لا تعرضه للوقوع تحت سيطرة الغرائز الجنسية في فترات الحيض والنفاس أو غيرها من الفترات التي يضعف فيها استعداد المرأة للاستجابة، لأن الرجل في الغالب يخضع لسلطان الغريزة أكثر مما يخضع لسلطان العقل، شأنه في ذلك شأن المرأة، وإن كانت طبيعة المرأة تساعدها على كبت غريزتها أكثر مما يستطيع الرجل. وأما أن حكم الشريعة في إباحتها التعدد متفقاً مع الغرض من الزواج: فالأصل أن الغرائز الجنسية ركبت في الرجل والمرأة لحفظ النوع، وأن الزواج شرع للتناسل وتكوين الأسرة، فإذا تزوج الرجل امرأة عقيماً ولم يبح له أن يتزوج غيرها فقد تعطلت وظائفه الجنسية عن أداء الغرض الذي خلقت له، وتعطل الغرض من الزواج نفسه، كذلك فإن قدرة الزوج على التناسل غير محدودة أما قدرة المرأة فلها حد لا تتعداه؛ فالرجل يستطيع أن ينجب أولاداً حتى يبلغ الستين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أو السبعين في المتوسط وهو في الغالب أقصى عمره، أما المرأة فتنعدم قدرتها على التناسل فيما بين الأربعين والخمسين، فلو حرم على الرجل أن يتزوج أكثر من واحدة لكان معنى ذلك تعطيل وظيفته التناسلية حوالي نصف المدة التي يستطيع فيها أن يؤدي هذه الوظيفة. هذه هي نظرية الشريعة في إباحة تعدد الزوجات، قررتها لدفع الضرر ورفع الحرج، ولتحقيق المساواة بين النساء ولرفع مستوى الأخلاق، وظاهر من النص الذي قررها أنه نص عام إلى آخر حدود العموم، مرن إلى آخر حدود من المرونة، وهذا جعله محتفظاً بصلاحيته التي كانت له من ثلاثة عشر قرناً، وما سيجعله محتفظاً بهذه الصلاحية إلى ما شاء الله. ولم تأت الشريعة بهذا النص لتساير به حال الجماعة، فقد كان العرب يجيزون تعدد الزوجات إلى غير حد، ولم يكونوا يستسيغون تحديد عدد الزوجات، وقد اضطر الكثيرون منهم بعد نزول النص إلى إبقاء أربعة فقط من أزواجهم وتطليق الباقيات، لكن الشريعة جاءت بهذا النص لترفع به مستوى الجماعة، ولأن وجوده ضروري في شريعة دائمة كاملة لا تقبل التغيير والتبديل. ونظرية الشريعة في تعدد الزوجات من النظريات التي لم تعترف بها القوانين الوضعية حتى الآن، بل كانت هذه النظرية قديماً مدعاة لتندر الأوروبيين واستهجانهم، وأداة يستخدمونها في طعنهم على الإسلام، أما اليوم فإن النظرية تجد لها في نفوس علمائهم ومصلحيهم مكاناً، وفي صحفهم السيارة موضعاً، ومن يدري لعل اليوم الذي تأخذ فيه القوانين الوضعية بهذه النظرية قد أقترب، فإن الحرب العظمى التي وقعت سنة 1914 والحرب الأخيرة التي وقعت سنة 1939 قد ساعدت كلاهما على تهيئة الأذهان لهذه النظرية، حيث قتل في كل من الحربين عدد كثير من الرجال وترمل عدد كبير من النساء، وزاد عدد النساء على عدد الرجال زيادة ظاهرة. والحق أن الحروب لم تكن هي الدافع الوحيد الذي حمل الأوربيين على التفكير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 في إباحة تعدد الزوجات، إنما حملهم على ذلك أسباب أخرى متعددة، منها انتشار المخاللة بحيث أصبح لكل رجل عدد من الخليلات يشاركن زوجته في رجولته وعطفه وماله، بل قد يكون لإحداهن في هذه أكثر من نصيب زوجته، ومنها شيوع الزنا وما يترتب عليه من جنايات أقلها كثرة أبناء السفاح الذين يقذف بهم إلى الشوارع خوف العار، وقتل الأجنة في بطون أمهاتها، ومنها الزيادة الطبيعية في عدد النساء وحاجة هؤلاء إلى أن يكنّ زوجات وأمهات، ومنها قلة النسل قلة ظاهرة في الشعوب الأوروبية، فهذه الأسباب مجتمعة مع غيرها دعت الناس إلى أن يفكروا في إباحة تعدد الزوجات باعتباره العلاج الطبيعي لهذه الظواهر والأمراض الاجتماعية الخطيرة. 32 - نظريات في الإثبات والتعاقد: وهذه مجموعة من النظريات التي جاءت بها الشريعة الإسلامية نعرضها تحت عنوان واحد، لأن القرآن جاء بها جميعاً في آية واحدة هي آية الدين، ولأن بعضها يتصل بالبعض الآخر اتصالاً وثيقاً، ولأننا سنتكلم عنها فقط بالقدر الذي يبرز فيها مميزات الشريعة. وآية الدين التي نعنيها هي قول الله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ونص الآية يشمل عدداً من المبادئ التشريعية والنظريات الفقهية، وسنبين أهمها فيما يلي: 33 - نظرية الإثبات بالكتابة: فرضت الشريعة الإسلامية الكتابة وسيلة لإثبات الدين المؤجل سواء كبرت قيمة الدين أو صغرت، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ، وقوله: {وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} ، ويدخل تحت لفظ الدين كل التزام ايا كان نوعه، لأن الالتزام ليس إلا ديناً في ذمة الملتزم له، فيدخل تحت لفظ الدين القرض والرهن والبيع بثمن مؤجل والتعهد بعمل وغير ذلك (1) . أما التصرفات التي تتم في الحال فليس من الواجب كتابتها ما دام كل متعاقد قد وفى بالتزاماته واستوفى حقوقه؛ كمن يشتري شيئاً من آخر ويتسلمه ويسلمه الثمن في الحال، ومثل هذه التصرفات يجوز إثباتها بغير الكتابة مهما بلغت قيمته إذا أثبتت باعتبارها وقائع لا باعتبارها التزامات؛ لأن الوقائع المادية يجوز إثباتها بكل طرق الإثبات. وظاهر من النص الذي فرض الكتابة أنه نص عام ومرن إلى حد بعيد، وأنه يصلح للتطبيق اليوم كما كان صالحاً من ثلاثة عشر قرناً، وكما سيكون صالحاً للمستقبل البعيد، وهذه إحدى مميزات الشريعة التي هيأتها لتكون غير قابلة للتعديل والتبديل. ويوم نزل هذا النص على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان العرب أميين يعيشون في أعماق البادية وفي خشونة من العيش، وأمثال هؤلاء تقل بينهم المعاملات بحيث لا تحتاج إلى تشريع خاص، ولو أن الشريعة كانت كالقانون   (1) كذلك يمكن قياس أي التزام على الدين إذا احتفظ لكلمة الدين بمعنى القرض لأن كليهما شئ مقوم التزم بع بعد مضي أجل معين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 تأتي على قدر حاجة الناس لما جاء بها شئ خاص بإثبات الالتزامات، أو لجاء بها من الأحكام ما يتفق مع أمية العرب وجهالتهم، أما أن تجئ الشريعة على هذا الوجه فتفرض على الأميين كتابة الصغير والكبير فذلك هو السمو الذي تتميز به الشريعة الكاملة الدائمة. فرضت الشريعة الإسلامية الكتابة بين الأميين لتحملهم على أن يتعلموا فتتسع مداركهم وتتثقف عقولهم، ويحسنوا فهم هذه الحياة الدنيا؛ فيصبحوا - وقد تعلموا - أهلاً لمنافسة الأمم الأخرى وللتفوق والسيطرة عليها، وهذه أغراض اجتماعية وسياسية بحتة، أما الغرض القانوني فهو حفظ الحقوق وإقامة الشهادات والابتعاد عن الريب والشكوك. فالشريعة حين أوجبت الكتابة في الصغير والكبير جاءتنا بنظرية عظيمة ذات وجوه سياسية واجتماعية وقانونية، وهذه النظرية التي نزل بها القرآن على الرسول في القرن السابع الميلادي هي من أحدث النظريات في القوانين الوضعية وفي المذاهب الاجتماعية الحديثة، فالدول قد بدأت من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الحالي تفرض على شعوبها أن يتعلموا تعليماً إجبارياً رجالاً ونساء، وهذا الذي تفرضه الدول على الشعوب إنما هو تطبيق للنظرية الإسلامية في ناحيتها السياسية والاجتماعية. وقد بدأت الدول تأخذ بالناحية القانونية من النظرية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، حين اشترط القانون الفرنسي الذي أخذت عنه القوانين الأوروبية أن يكون الدين مكتوباً إذا زاد عن مقدار معين، ولكن شراح القانون رأوا أن الإثبات بالكتابة تكون أكمل وأكثر توفيقاً لو اشترطت الكتابة في الصغير والكبير، وظلوا ينادون برأيهم هذا حتى حققته أخيراً بعض دول أوروبا، ولا يزال الشراح في الدول الأخرى ينادون به ويأملون تحقيقه. وإذن فأحدث نظريات الإثبات في عصرنا الحاضر هي نفس نظرية الشريعة الإسلامية أخذت بها بعض القوانين الوضعية ولا يزال الشراح في بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الدول يطالبون دولهم أن تأخذ بها. 34 - نظرية إثبات الدين التجاري: اشترطت الشريعة - كما بينا - الكتابة لإثبات الدين سواء كان الدين صغيراً أو كبيراً، ولكنها استثنت من هذا المبدأ العام الدين التجاري (1) وأباحت إثباته بغير الكتابة من طرق الإثبات، وذلك قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} ، والعلة في استثناء الديون التجارية من شرط الكتابة أن الصفقات التجارية تقتضي السرعة ولا تحتمل الانتظار، ولأن المعاملات التجارية أكثر عدداً وتكراراً وتنوعاً، فاشتراط الكتابة فيها يؤدي إلى الحرج وقد يضيع فرصة الكسب على المشتري أو يعرض البائع للخسارة، ومن أجل هذا لم تقيد الشريعة المعاملات التجارية بما قيدت به المعاملات المدنية من اشتراط الكتابة. والنص المقرر لهذه النظرية عام ومرن إلى آخر الحدود بحيث لا يحتاج على مر الأزمان تعديلاً أو تبديلاً، وليس أدل على ذلك من صلاحيته لوقتنا الحاضر مع أنه نزل منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً. ومن يعرف شيئاً عن تاريخ العرب وحالهم وقت نزول النص يعلم أن النص لم ينزل مجاراة لحال الجماعة أو تمشياً مع ما وصلت إليه، وإنما كان نزول النص ضرورة لتكميل الشريعة الدائمة الكاملة ولرفع مستوى الجماعة وتوجيههم الوجهة الصالحة. وليس أدل على سمو الشريعة وكمالها من أن نظرياتها في إثبات الدين التجاري   (1) استثنت الشريعة أيضاً من الإثبات بالكتابة حالة الضرورة، وذلك قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 هي نفس النظرية السائدة اليوم في القوانين الوضعية الحديثة، وأنها تعتبر أحدث ما وصل إليه القانون الوضعي في عصرنا الحاضر. 35 - نظرية حق الملتزم في إملاء العقد: جاءت الشريعة الإسلامية بمبدأ عام أوجبته في كتابة العقود هو أن يملي العقد الشخص الذي عليه الحق أو بمعنى آخر أضعف الطرفين، والمقصود من هذا المبدأ العام هو حماية الضعيف من القوي، فكثيراً ما يستغل القوي مركزه فيشترط على الضعيف شروطاً قاسية، فإن كان دائناً مثلاً قسا على المدين، وإن كان صاحب عمل سلب العامل كل حق واحتفظ لنفسه بكل حق، ولا يستطيع المدين أو العامل أن يشترطا لنفسيهما أو يحتفظا بحقوقهما لضعفهما، فجاءت الشريعة وجعلت إملاء العقد للطرف الضعيف لتحفظ به حقوقه، ولتحميه من التورط، ولتكون شروط العقد معلومة له حق العلم، وليقدر ما التزم به حق قدره. وهذه الحالة التي عالجتها الشريعة من يوم نزولها هي من أهم المشاكل القانونية في عصرنا الحالي، وقد برزت في أوروبا في القرن الماضي على أثر نمو النهضة الصناعية وتعدد الشركات وكثرة العمال وأرباب الأعمال، وكان أظهر صور المشكلة أن يستغل رب العمل حاجة العامل إلى العمل أو حاجة الجمهور إلى منتجاته فيفرض على العامل أو المستهلك شروطاً قاسية يتقبلها العامل أو المستهلك وهو صاغر، إذ يقدم عقد العمل أو عقد الاستهلاك مكتوباً مطبوعاً فيوقعه تحت تأثير حاجته للعمل أو حاجته للسلعة، بينما العقد يعطي لصاحب العمل كل الحقوق ويرتب على العامل أو المستهلك كل التبعات. ذلك العقد الذي نسميه اليوم في اصطلاحنا القانوني "عقد الإذعان". وقد حاولت القوانين الوضعية أن تحل هذا المشكل، فاستطاعت أن تحله بين المنتج والمستهلك بفرض شروط تحمي المستهلك من المنتج، وبتعيين سعر السلعة، ولكنها لم تستطع أن تحل إلا بعض نواحي المشكلة بين أصحاب العمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 والعمال، مثل إصابات العمال والتعويضات التي يستحقها العامل إذا أصيب أو طرد من عمله، لأن التدخل بين صاحب العمل والعامل في كل شروط العمل مما يضر بسير العمل ولإنتاج، وبقيت من المشكلة نواح هامة كأجر العامل وساعات العمل ومدة الإجازات وغيرها، يحاول العمال من ناحيتهم حلها بتأليف النقابات والاتحادات وتنظيم الإضرابات، ويرى العمال أن حل مشاكلهم لن يتأتى إلا إذا كان لهم حق إملاء شروط عقد العمل، ويظاهرهم على ذلك بعض المفكرين والكتاب، فهذا الحق الذي يطالب به العمال في كل أنحاء العالم والذي أضرب العمال من أجله وهددوا السلم والنظام في دول كثيرة في سبيل تحقيقه، هذا الحق الذي حقق القانون الوضعي بعضه ولم يحقق بعضه الآخر والذي يأمل العمال أن يتحقق كله إن قريباً أو بعيداً، هذا الحق قررته الشريعة الإسلامية كاملاً للضعفاء على الأقوياء وللملتزمين على الملتزم لهم وجاء به القرآن في آية الدين: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} . وظاهر أن صيغة النص بلغت من العموم والمرونة كل مبلغ. وهذا هو الذي جعل الشريعة تمتاز بأنها لا تقبل التغيير والتبديل. ووجود هذا النص في الشريعة دليل بذاته على سموَّها وكمالها ورقيها وعدالتها، فقد جاءت به منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، بينما القوانين الوضعية لم تصل إلى تقرير مثله حتى الآن مع ما يدعي لها من الرقي والسمو. 36 - نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات: حرمت الشريعة على الإنسان أن يدعى للشهادة فيمتنع عنها، أو أن يشهد واقعة فيكتمها، أو يذكرها على غير حقيقتها، وقد نص على الحالة الأولى في آيه الدين في قوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} ، والمقصود إباؤهم حينما يدعون ليشهدوا تصرفاً ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أو واقعة معينة، فالنص جاء خاصاً بتحمل الشهادة وليس خاصاً بأدائها. أما الحالتان الثانية والثالثة فقد نص عليهما في قوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، وفي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] ، والنصان الأخيران خاصان بتحريم كتمان الشهادة أو الامتناع عن أدائها بتحريم شهادة الزور. والقوانين الوضعية اليوم تأخذ بنظرية الشريعة في تحريم شهادات الزور أو كتمان الشهادة، ولكنها لم تصل بعد إلى تحريم الامتناع عن تحمل الشهادة. ولا شك أن الشريعة تتفوق على القوانين الوضعية من هذه الوجهة، فإن المصلحة العامة تقضي بالتعاون على حفظ الحقوق وبتسهيل المعاملات بين الناس، والامتناع عن تحمل الشهادة يقضي إلى تضييع الحقوق، ويؤدي إلى تعقيد المعاملات وبطئها، وهناك عقود لابد فيها من حضور الشهود كعقد الزواج. فإذا كان الامتناع عن تحمل الشهادات مباحاً تعطلت هذه العقود. ومن ير النصوص التي جاءت في تحريم الامتناع عن تحمل الشهادة أو في تحريم كتمانها أو تغييرها يعلم مدى ما بلغته هذه النصوص من العموم والمرونة، ويفهم العلة في أن الشريعة لا تقبل التعديل والتبديل. ومن يقارن الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية يعلم مدى ما وصلت إليه الشريعة من السمو والكمال، ويتبين أن نصوص الشريعة لم ترد مسايرة لحال الجماعة وإنما وردت لتكمل الشريعة بما تحتاج إليه الشريعة الكاملة الدائمة، ولترفع مستوى الجماعة حتى تقترب من مستوى الشريعة الكامل. 37 - أحكام أخرى في آية الدين: هذه أربع نظريات جاءت بها آية واحدة من القرآن هي آيه الدين؛ أخذت القوانين الوضعية الحديثة باثنتين منها وبدأت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 تأخذ بالثالثة ولم تأخذ بعد بالرابعة، وليست هذه النظريات الأربع هي كل أحكام آية الدين، وإنما هي بعض أحكامها، فالآية تشترط أن يكون الكاتب محايداً عدلاً عالماً بأحكام الشريعة فيما يكتبه، وتوجب عليه أن لا يمتنع عن الكتابة، وتشترط أن يشهد على سند الدين رجلان أو رجل وامرأتان، وتوجب عدم الإضرار بالكاتب أو الشاهد. وهذه كلها مبادئ عامة لا نستطيع أن نستعرضها جميعاً في هذا الكتاب الذي خصصناه للمبادئ العامة الجنائية، وإذا كنا قد تكلمنا عن نظريات دستورية واجتماعية وإدارية فإنما قصدنا من ذلك أن نبين أن نصوص الشريعة في كل ما جاءت فيه تتميز بالكمال والسمو والدوام حتى لا يظن البعض أن هذه المميزات تتوفر في قسم دون آخر من الشريعة. 38 - تذكير: وقبل أن أنتقل إلى موضوع البحث أحب أن أقول للمسلمين الذين يعتقدون - خطأ - أن الشريعة الإسلامية لا تصلح للتطبيق في عصرنا الحاضر؛ أحب أن أقول لهؤلاء: إن هذه العقيدة لا تتفق مع عقيدة الإسلام الذي يدّعونه ويحرصون على التمسك به، وأن عليهم أن يذكروا قوله تعالى: {إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] ، وليعلم هؤلاء أن سبب تأخرها وانحطاطنا هو أننا لم نطبق الشريعة تطبيقاً عادلاً ولا كاملاً في عهودنا المظلمة المتأخرة، وأن حكامنا من الأتراك والمماليك كانوا يحكمون هواهم في كل ما يهتمون به، ويحكمون الشريعة فيما لا يضرهم ولا ينفعهم. وإذا كان سبب تأخرنا هو إهمال الشريعة وترك أحكامها فلن يجدينا الأخذ بالقوانين شيئاً، بل سيزيدنا تأخراً على تأخر وانحطاطاً على انحطاط، وإنما علاجنا المجدي هو القضاء على سبب التأخر والعودة لأحكام الشريعة. لقد طبق آباؤنا بعض أحكام الشريعة دون البعض الآخر، وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه؛ فصدقهم الله وعده - إن وعد الله حق - وأخزاهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 في الحياة الدنيا، وجئنا نحن على آثارهم نتبعهم ونؤمن إيمانهم، فأخزانا الله كما أخزاهم، وسلط علينا كما سلط عليهم، وجعلنا عبرة لأولي الألباب. ولن يغير الله ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا وقلوبنا ونؤمن بالكتاب كله، ذلك وعد الله، والله يقول الحق، وقد قال: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . لقد آمنوا المسلمون الأوائل وحسن إيمانهم فمكن الله لهم في الأرض، وإن الذي مكن لهم على قلتهم وضعفهم قادر أن يمكن لنا في الأرض إذا آمنا وحسن إيماننا، ذلك وعد الله لعباده في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55] ، وذلك وعده لمن اتبع كتابه وتمسك بشريعته حيث يقول جل شأنه: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 منهج البحث 39 - سنتناول في هذا البحث القسم العام الجنائي في الشريعة. والكلام على هذا القسم يقتضي الكلام عن موضعين، أولهما الجريمة، وثانيهما العقوبة، ومن ثم رأينا أن نخصص لكل منهما كتاباً خاصاً. ولما كان الكلام على الجريمة يقتضي تناول الجريمة بصفة عامة ثم تناول أركانها، فقد رأينا أن نجعل الكتاب الأول قسمين: أولهما: خاص بالجريمة بصفة عامة. والثاني: خاص بأركانها. وكل قسم يشتمل على أبواب وفصول ومباحث بقدر ما يقتضيه الحال. أما الكلام على العقوبة فيشمل الكلام على ماهية العقوبة، والمبادئ التي يقوم عليها العقاب، وأقسام العقوبات وأنواعها، وتعدد العقوبات وتنفيذها، والقود، وسقوط العقوبات. وسنخصص لكل حالة من هذه الحالات باباً خاصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الكتاب الأول في الجريمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 القسم الأول من الكتاب الأول 40 - سنتكلم في هذا القسم على موضوعين: أولهما: ماهية الجريمة، وثانيهما: أنواع الجريمة، وسنخصص لكل موضوع من هذين الموضوعين باباً خاصاً. الباب الأول ماهية الجريمة 41 - تعريف الجريمة: تعرف الجرائم في الشريعة الإسلامية بأنها محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير (1) . والمحظورات هي: إما إتيان فعل منهي عنه، أو ترك فعل مأمور به، وقد وصفت المحظورات بأنها شريعة، إشارة إلى أنه يجب في الجريمة أن تحظرها الشريعة. فالجريمة إذن هي إتيان فعل محرم معاقب على فعله، أو ترك فعل محرم الترك معاقب على تركه، أو هي فعل أو ترك نصت الشريعة على تحريمه والعقاب عليه. ويتبين من تعريف الجريمة أن الفعل أو الترك لا يعتبر جريمة إلا إذا تقررت عليه عقوبة. ويعبر الفقهاء عن العقوبات بالأجزية، ومفردها جزاء، فإن لم تكن على الفعل أو ترك عقوبة فليس بجريمة.   (1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وتتفق الشريعة تمام الاتفاق مع القوانين الوضعية الحديثة في تعريف الجريمة، فهذه القوانين تعرف الجريمة بأنها: إما عمل يحرمه القانون، وإما امتناع عن عمل يقضي به القانون، ولا يعتبر الفعل أو ترك جريمة في نظر القوانين الوضعية إلا إذا كان معاقباً عليه طبقاً للتشريع الجنائي (1) . 42 - الجريمة والجناية: وكثيراً ما يعبر الفقهاء عن الجريمة بلفظ الجناية، والجناية لغة: اسم لما يجنيه المرء من شر وما اكتسبه، تسمية بالمصدر من جنى عليه شراً، وهو عام، إلا انه خص بما يحرم دون غيره. أما في الاصطلاح الفقهي فالجناية: اسم لفعل محرم شرعاً، سواء وقع الفعل على نفس أو مال أو غير ذلك. لكن أكثر الفقهاء تعارفوا على إطلاق لفظ الجناية على الأفعال الواقعة على نفس الإنسان أو أطرافه، وهي القتل والجرح والضرب والإجهاض (2) ، بينما يطلق بعضهم لفظ الجناية على جرائم الحدود والقصاص (3) . وإذا غضضنا النظر عما تعارف عليه الفقهاء من إطلاق لفظ الجناية على بعض الجرائم دون البعض الآخر، أمكننا أن نقول: إن لفظ الجناية في الاصطلاح الفقهي مرادف للفظ الجريمة. ويختلف معنى الجناية الاصطلاحي في القانون المصري عنه في الشريعة. ففي القانون المصري: يعتبر الفعل جناية إذا كان معاقباً عليه بالإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن، طبقاً للمادة العاشرة من قانون العقوبات المصري، فإذا كان عقوبة الفعل حسبا ًيزيد على أسبوع، أو غرامة تزيد على مائة قرش، فالفعل جنحة، فإن لم يزد الحبس على أسبوع، أو الغرامة عن مائة قرش، فالفعل مخالفة، طبقاً للمادتين 11، 12 من قانون العقوبات المصري.   (1) الأحكام العامة في القانون الجنائي لعلي بك بدوي ج1 ص39، الموسوعة الجنائية ج3 ص6. (2) البحر الرائق ج8 ص286، والزيلعي ج6 ص97. (3) تبصرة الحكام ج2 ص210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أما في الشريعة: فكل جريمة هي جناية، سواء عوقب عليها بالحبس والغرامة أم بأشد منهما. وعلى ذلك فالمخالفة القانونية تعتبر جناية في الشريعة، والجنحة تعتبر جناية، والجناية في القانون تعتبر جناية في الشريعة أيضاً. وأساس الخلاف بين الشريعة والقانون هو أن الجناية في الشريعة تعني الجريمة أياً كانت درجة الفعل من الجسامة، أما الجناية في القانون فتعني الجريمة الجسيمة دون غيرها. 43 - علة التحريم والعقاب: والأفعال المعتبرة جرائم يؤمر بها أو ينهى عنها، لأن في إتيانها أو في تركها ضرراً بنظام الجماعة أو عقائدها، أو بحياة أفرادها، أو بأموالهم، أو بأعراضهم، أو بمشاعرهم، أو بغير ذلك من شتى الاعتبارات التي تستوجب حال الجماعة صيانتها وعدم التفريط فيها. وقد شرع العقاب على الجريمة لمنع الناس من اقترافها، لأن النهي عن الفعل أو الأمر بإتيانه لا يكفي وحده لحمل الناس على إتيان الفعل أو الانتهاء عنه، ولولا العقاب لكانت الأوامر والنواهي أموراً ضائعة وضرباً من العبث، فالعقاب هو الذي يجعل للأمن والنهي مفهوماً ونتيجة مرجوة، وهو الذي يزجر الناس عن الجرائم، ويمنع الفساد في الأرض، ويحمل الناس على الابتعاد عما يضرهم، أو فعل ما فيه خيرهم وصلاحهم. والعقوبات وإن شرعت للمصلحة العامة فإنها ليست في ذاتها مصالح بل هي مفاسد، ولكن الشريعة أوجبتها لأنها تؤدي إلى مصلحة الجماعة الحقيقية، وإلى صيانة هذه المصلحة. وربما كانت الجرائم مصالح، ولكن الشريعة نهت عنها؛ لا لكونها مصالح، بل لأدائها إلى المفاسد، فالزنا وشرب الخمر والنصب واختلاس مال الغير وهجر الأسرة والانتفاع عن إخراج الزكاة - كل ذلك قد يكون فيه مصلحة للأفراد، ولكنها مصالح ليس لها اعتبار في نظر الشارع، وقد نهى عنها؛ لا لكونها مصالح، بل لأنها تؤدي إلى فساد الجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 والأفعال التي هي مصلحة محضة أو قليلة جداً، وأكثر الأفعال تختلط فيها المصالح والمفاسد، والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما ترجح مفسدته على مصلحته، ولكنه في اختياره ينظر لنفسه لا للجماعة، فيؤثر ما فيه مصلحته ولو أضر بالجماعة، وينفر مما يراه مفسدة عليه ولو كان فيه مصلحة الجماعة. وقد شرعت العقوبات بما فيها من التهديد والوعيد والزجر علاجاً لطبيعة الإنسان، فإن الإنسان إذا نظر إلى مصلحته الخاصة وما يترتب عليها من العقوبات نفر منها بطبعه، لرجحان المفسدة على المصلحة. وكذلك إذا ما فكر في الواجب وما يجلبه عليه من المشاق، فقد يدعوه ذلك لتركه، لكنه إذا ذكر ما يترتب على الترك من عقوبة حمله ذلك على إتيان الفعل، والصبر على المكروه والمشقة. فالعقوبات مقررة لحمل الناس على ما يكرهون ما دام أنه يحقق مصلحة الجماعة، ولصرفهم عما يشتهون ما دام أنه يؤدي إلى إفساد الجماعة. وهذا مصداق قوله عليه السلام: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات". ومن المسلم به أن هناك أناساً يفعلون الفعل لأنه مأمور به، وينتهون عنه لأنه منهي عنه، لا حذراً من العقوبة، ولا خوفاً من النكال، ولكن حياء وخجلاً أن يكونوا عاصين، ومبادرة للطاعة، وتحقيقاً لمصلحة الجماعة، ولكن أمثال هؤلاء قليلون جداً، والأحكام تشرع للكثرة الغالبة، لا لمثل هذه القلة النادرة. وخلاصة ما تقدم: أن الشريعة الإسلامية اعتبرت بعض الأفعال جرائم وعاقبت عليها، لحفظ مصالح الجماعة ولصيانة النظام الذي تقوم عليه الجماعة، ولضمان بقاء الجماعة قوية متضامنة متخلقة بالأخلاق الفاضلة، والله الذي شرع هذه الأحكام وأمر بها لا تضره معصية عاص ولو عصاه أهل الأرض جميعاً، ولا تنفعه طاعة مطيع ولو أطاعه أهل الأرض جميعاً، ولكنه كتب على نفسه الرحمة لعباده، ولم يرسل الرسل إلا رحمة للعالمين، لاستنقاذهم من الجهالة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وإرشادهم من الضلالة، ولكفهم عن المعاصي، وبعثهم على الطاعة. 44 - الشريعة والقانون: وتتفق الشريعة الإسلامية مع القوانين الوضعية في أن الغرض من تقرير الجرائم والعقاب عليها هو حفظ مصلحة الجماعة، وصيانة نظامها، وضمان بقائها. ولكن الشريعة - بالرغم من هذا الاتفاق الظاهر - تختلف عن القوانين الوضعية من وجهتين: 45 - الوجه الأول من الخلاف بين الشريعة والقانون: تعتبر الشريعة الأخلاق الفاضلة أولى الدعائم التي يقوم عليها المجتمع، ولهذا فهي تحرص على حماية الأخلاق وتتشدد في هذه الحماية بحيث تكاد تعاقب على كل الأفعال التي تمس الأخلاق. أما القوانين الوضعية، فتكاد تهمل المسائل الأخلاقية إهمالاً تاماً، ولا تعني بها إلا إذا أصاب ضررها المباشر الأفراد أو الأمن أو النظام العام، فلا تعاقب القوانين الوضعية مثلاً على الزنا إلا إذا أكره أحد الطرفين الآخر، أو كان الزنا بغير رضاه رضاء تاماً، لأن الزنا في هاتين الحالتين يمس ضرره المباشر الأفراد كما يمس الأمن العام. أما الشريعة فتعاقب على الزنا في كل الأحوال والصور، لأنها تعتبر الزنا جريمة تمي الأخلاق، وإذا فسدت الأخلاق فقد فسدت الجماعة وأصابها الانحلال. وأكثر القوانين الوضعية لا تعاقب على شرب الخمر، ولا تعاقب على السكر لذاته، وإنما تعاقب السكران إذا وجد في الطريق العام في حالة سكر بيِّن، فالعقاب على وجوده في حالة سكر بيِّن في الطريق العام، لأن وجوده في هذه الحال يعرض الناس لأذاه واعتدائه، وليس العقاب على السكر لذاته باعتباره رذيلة، ولا على شرب الخمر باعتبار أن شربها مضر بالصحة، متلف للمال، مفسد للأخلاق. أما الشريعة فتعاقب على مجرد شرب الخمر ولو لم يسكر منها الشارب؛ لأنها تنظر إلى الجريمة من الوجهة الخلفية التي تتسع - كما نعلم - لشتى المناحي والاعتبارات، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 صينت الأخلاق فقد صينت الصحة والأعراض والأموال والدماء وحفظ الأمن والنظام. والعلة في اهتمام الشريعة بالأخلاق على هذا الوجه، أن الشريعة تقوم على الدين، وأن الدين يأمر بمحاسن الأخلاق، ويحث على الفضائل، ويهدف إلى تكوين الجماعة الصالحة الخيرة، ولما كان الدين لا يقبل التغيير والتبديل، ولا الزيادة والنقص، فمعنى ذلك أن الشريعة سيظل ما بقى الدين الإسلامي حريصة على حماية الأخلاق، آخذة الشدة من يحاول العبث بها. والعلة في استهانة القوانين الوضعية بالأخلاق، أن هذه القوانين لا تقوم على أساس من الدين، وإنما تقوم على أساس من الواقع وما تعارف الناس عليه من عادات وتقاليد. والقواعد القانونية الوضعية يضعها عادة الأفراد الظاهرون في المجتمع بالاشتراك مع الحكام، وهم يتأثرون حين وضعها بأهوائهم، وضعفهم البشري، ونزعاتهم الطبيعية إلى التحلل من القيود. كذلك فإن هذه القواعد قابلة للتغيير والتبديل بحسب أهواء القائمين على أمر الجماعة. فكان من الطبيعي أن تهمل القوانين الوضعية المسائل الأخلاقية شيئاً فشيئاً، وأن يأتي وقت تصبح فيه الإباحية هي القاعدة والأخلاق الفاضلة هي الاستثناء، ولعل البلاد التي تطبق القوانين الوضعية قد وصلت إلى هذا الحد الآن. ويترتب على هذا الفرق بين الشريعة والقوانين الوضعية، أن يزيد عدد الأفعال التي تكون الجرائم الأخلاقية، ويتسع مداها في البلاد التي تطبق الشريعة، وأن يرتفع مستوى الأخلاق والقيم الروحية إلى درجاته في هذه البلاد. أما البلاد التي تطبق القوانين الوضعية فإن مستوى الأخلاق فيها ينحط إلى أدنى دركاته، وترتفع القيم المادية بينما تنحط القيم الروحية، وتتفشى الإباحية البهيمية، وتنكمش الإنسانية، وتقل الأفعال التي تعتبر جرائم أخلاقية حتى تكاد تنعدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 46 - الوجه الثاني من الخلاف بين الشريعة والقانون: إن مصدر الشريعة الإسلامية هو الله، لأنها تقوم على الدين، والدين من عند الله، أما مصدر القوانين الوضعية فهم البشر الذين يقومون بوضع هذه القوانين. ومن يراجع الجرائم والعقوبات في الشريعة الإسلامية يتبين أن بعض الأفعال قد اعتبرت جرائم، وقررت عقوبتها بنص القرآن، وأن البعض قد اعتبر جريمة أو تقررت عقوبته بفعل الرسول أو قوله، وأن البعض الآخر قد ترك فيه تحديد الفعل المكون للجريمة والعقوبة المقررة لها إلى الهيئة الحاكمة، ولكن لم يترك لهذه الهيئة أن تفعل ما تشاء، بل هي مقيدة في اعتبار الفعل جريمة وفي تقرير العقوبة عليه بقواعد الشريعة العامة وروحها، فليس لها أن تحرم ما أحل الله، ولا أن تحل ما حرمه، ولا أن تعاقب بغير ما أمر به، ولا بما يخالف قواعد الشريعة وروحها العامة، ومن ثم يمكن القول بأن القسم الجنائي في الشريعة كله من عند الله، ولو أن تقرير بعض الجرائم وتحديد عقوبتها من عمل البشر ما داموا يعملون في حدود ما أنزل الله على رسوله. 47 - ما يترتب على كون الشريعة من عند الله: ويترتب على كون الشريعة من عند الله نتيجتان هامتان: النتيجة الأولى: ثبات القواعد الشرعية واستمرارها، ولو تغير الحكام أو اختلفت أنظمة الحكم، فيستوي أن يكون الهيئة الحاكمة محافظة أو مجددة، ويستوي أن يكون نظام الحكم جمهورياً أو ملكياً، فإن ذلك لن يؤثر على القواعد الشرعية في شئ ما، لأن القواعد الشرعية لا ترتبط بالهيئة الحاكمة ولا بنظام الحكم وإنما ترتبط بالدين الإسلامي الذي لا يتغير ولا يتبدل، والذي يؤمن به كل حاكم ويستخدم له كل نظام. وليس الأمر كذلك في القوانين الوضعية التي يضعها الحكام لحماية المبادئ التي يعتنقونها، وخدمة الأنظمة التي يقيمونها، فإن هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 القوانين عرضة للتغيير المستمر، وفي طبيعتها عدم الاستقرار، ويكفي أن تتغير الهيئة الحاكمة أو يتغير النظام القائم لتتغير القوانين وتنقلب الأوضاع. النتيجة الثانية: احترام القواعد الشرعية احتراماً تاماًُ، بحيث يستوي في هذا الفريق الحاكم والفريق المحكوم، لأن كليهما يعتقد أنها من عند الله، وأنها واجبة الاحترام، وهذا الاعتقاد بالذات يحمل الأفراد على طاعة القواعد الشرعية، لأن الطاعة تقربهم من الله طبقاً لقواعد الدين الإسلامي، ولأن العصيان يؤدي إلى العقوبة في الدنيا وإلى ما هو شر من العقوبة في الآخرة؛ فنسبة الشريعة إلى الله أدت إلى احترام الأفراد لها وطاعتها، وكل شريعة في العالم تقدر قيمتها بقدر ما لها في نفوس الأفراد من طاعة واحترام، وليس في العالم اليوم شريعة تداني الشريعة الإسلامية في هذا، ولا شك أنه كلما ازداد احترام الأفراد لشريعتهم وزادت طاعتهم لها، استقرت أمورهم، وحسنت أحوالهم، وتفرغوا لشئون دنياهم. هذا هو شأن الشريعة وما ترتب على نسبتها إلى الله جل شأنه. أما القوانين الوضعية فهي كما قلنا من صنع الفئة الحاكمة، وهي حين تضعها تراعي مصلحتها دون غيرها من الفئات، وتحاول أن تحمي بالقوانين أشخاص رجالها، والمبادئ التي يعتنقونها، والأنظمة التي يقيمونها، فإذا ما ذهبت هذه الفئة وجاء غيرها، تغيرت القوانين لتحمي الفئة الجديدة، والمبادئ الجديدة، والأنظمة الجديدة، وهكذا تتغير القوانين بتغير الحاكمين والمبادئ والأنظمة التي يقوم عليها الحكم، وهي لا تفتأ تتغير وتتبدل بين حين وآخر، وهذا يؤدي إلى عدم احترام القانون، وإلى ذهاب سطوته من النفوس، بل إلى عدم الاكتراث به، حتى لقد أصبحنا اليوم نرى الأحزاب المعارضة تحرض أنصارها على الاستهانة بالقانون والخروج على أحكامه لتصل على أشلائه إلى أغراضها، وما على الأحزاب المعارضة وأصحاب الدعوات الجديدة أو الدعوات الهدامة حرج فيما يدعون إليه، ما داموا يرون أن القانون من صنع أفراد مثلهم، وأنه وضع لحماية أناس ليسوا خيراً منهم، أو أنظمة هي شر في نظرهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ولعل فيما هو حادث اليوم في البلاد الأوروبية من تبدل الأنظمة والحكام وشكل الحكومات الدليل المقنع على زوال سطوة القانون من نفوس الأفراد، ولو استمر الحال على ذلك لذهبت كل قيمة للقوانين الوضعية، وأصبحت لا تساوي أكثر من الورق الذي كتبت عليه. ويجب أن لا ننسى الشريعة الإسلامية لله إنما هي تقرير للواقع والمنطق، فمن يؤمن بأن الدين الإسلامي من عند الله وجب عليه أن يؤمن بأن الشريعة الإسلامية من عند الله، لأن الشريعة هي بالذات القواعد التشريعية للدين الإسلامي، جمعت أحكامه من عبارات، ومعاملات، وأحوال شخصية، وجنايات، وغير ذلك. وليس الغرض من الشريعة خدمة فرد أو هيئة أو جنس أو نظام معين، وإنما وجدت الشريعة لخدمة بني الإنسان كافة على اختلاف ألوانهم وألسنتهم ومناهجهم، كما وجدت لإقرار المساواة والعدالة بينهم، ولتيسير أمورهم. فنسبتها إلى الله لا تفيده جل شأنه شيئاً لأنه غني عن خلقه، وإنما تفيد هذا المجتمع الضال الهداية والاستقرار، وتعود عليه بالاطمئنان والثقة، وتؤدي به إلى الحياة الطيبة القائمة على المحبة والإيثار والمساواة والعدالة. 48 - الجرائم التأديبية أو الأخطار الإدارية: لم يفرق الفقهاء بين الجريمة الجنائية والجريمة التأديبية أو الأخطار الإدارية كما يفرق بينهما شراح القانون اليوم. والعلة في ذلك ترجع إلى طبيعة العقوبات في الشريعة من ناحية، وإلى تحقيق العدالة من ناحية أخرى. فالجرائم في الشريعة إما أن تكون جرائم حدود، أو جرائم قصاص، أو جرائم تعازير، والخطأ الإداري إذا لم يكن جريمة من جرائم الحدود أو القصاص فهو جريمة من جرائم التعازير، فإذا كون الخطأ الإداري جريمة يعاقب عليها بحد أو قصاص عوقب عليه بهذه العقوبة، ومحاكمة الجاني جنائياً ومعاقبته بالعقوبات المقررة لجرائم الحدود والقصاص تمنع من محاكمته تأديبياً وتوقيع عقوبات تأديبية عليه، لأن هذه العقوبات التأديبية لن تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 إلا عقوبات تعزيرية، وهي عقوبات جنائية، فكأن الجاني يعاقب مرتين بعقوبات جنائية على فعل واحد، فضلاً عن أن عقوبات الحدود والقصاص هي أشد العقوبات في الشريعة، وفيها الكفاية لتأديب الجاني وزجره. وإذا كان الجاني موظفاً فإنه يمكن عزله أو وقفه عن الوظيفة إذا ثبتت عليه الجريمة، ويصح اعتبار العزل والوقف عقوبة تعزيرية سببها ارتكاب الجريمة، كما يصح أن يقال إن العزل والوقف لم يقصد بهما العقاب، وأن سببهما زوال صلاحية الجاني لشغل الوظيفة أو مباشر أعمالها، لأن الوظائف في الأصل لا يتولاها المجرمون، فإذا تولاها من ليس مجرماً ثم أجرم أصبح بإجرامه غير صالح لتولي الوظيفة حيث زالت صلاحيته بارتكابه الجريمة. وإذا لم تكن الجريمة التي ارتكبها الموظف حداً أو قصاصاً فهي من التعازير، لأن كل ما عدا الحدود والقصاص يدخل في التعازير سواء جاءت به نصوص الشريعة أم حرمته الهيئة التشريعية طبقاً للسلطان الذي منحته لها نصوص الشريعة، وإذا كانت الجريمة من التعازير فلا تجوز فيها المحاكمة التأديبية، لأن العقوبات التأديبية كالتوبيخ والإنذار والعزل وما أشبه ذلك - كل هذه العقوبات تعزيرية، فلو حوكم الموظف مثلاً تأديبياً ثم حوكم جنائياً ثم حوكم جنائياً لعوقب كل مرة بعقوبة تعزيرية، ولكانت النتيجة أنه حوكم مرتين على فعل واحد هو جريمة تعزيرية، وعوقب مرتين على نفس الفعل بعقوبة تعزيرية أي عقوبة جنائية، وهذا ما تأباه نصوص الشريعة، لأن القاعدة العامة فيها أن لا يعاقب الإنسان على فعل واحد مرتين. فالمانع إذن من اعتبار الجريمة تأديبية أن الفعل يعتبر جريمة جنائية، وأن العقوبة التي يمكن أن توقع في المحاكمة التأديبية هي نفس العقوبة التي يمكن أن توقع في المحاكمة الجنائية، أي أن المانع هو اتحاد الفعل واتحاد العقوبة. والأسباب التي منعت من وجود الجريمة التأديبية في الشريعة الإسلامية تتوفر بصورة عكسية في دائرة القوانين الوضعية، إذ الأصل في هذه القوانين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أن العقوبات الجنائية تخالف العقوبات التأديبية، وأن معظم الجرائم التأديبية لا تدخل تحت حكم القوانين الجنائية، ومن ثم فقد اقتضى تغاير العقوبتين والفعلين أن يحاكم الجاني على الفعل مرتين إذا كان فعله يعتبر جريمة تأديبية، ولا يمنع توقيع إحدى العقوبتين من توقيع الأخرى، كما لا تحول براءته في إحدى المحاكمتين من السير في المحاكمة الثانية، ويعللون ذلك بأن الدعوى التأديبية يقصد منها حماية المهنة أو الوظيفة، وأن الدعوى الجنائية يقصد منها حماية المجتمع. ولا شك أن نظرية الشريعة أكثر تمشياً مع المنطق وانطباقاً على القواعد التشريعية الحديثة التي تمنع من محاكمة الشخص مرتين على فعل واحد، كما أنها تؤدي إلى اختصار الإجراءات، وتقليل المحاكمات، ولا تحول في الوقت نفسه من توقيع العقوبة أو العقوبات التي تتلاءم مع شخصية المتهم والجريمة المنسوبة إليه. 49 - الجريمة المدنية: عرف الفقهاء الإسلاميون موضوع الجريمة المدنية ولكنهم لم يطلقوا عليه هذه التسمية التي نستعملها نحن الآن متأثرون بالقانون الفرنسي. والأصل في الشريعة أن الأموال والنفوس معصومة (1) ، وكل فعل ضار بالإنسان أو بماله مضمون على فاعله إذا لم يكن له حق فيه، والضمان إما عقوبة جنائية إذا كان الفعل ضار معاقباً عليه، وإما تعويض مالي إذا لم يكن الفعل الضار معاقباً عليه. وإذا كان الفعل معاقباً عليه فهو جريمة، أما إذا لم يكن معاقباً عليه فلا يعتبر جريمة، ولا يسمى بهذا الاسم، وإنما هو فعل ضار، وإذن فلا مناسبة تجمع بين الجريمة والفعل الضار إلا أن كليهما مضمون على فاعله.   (1) أي غير مباحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وقد يكون الفعل جريمة يستحق الجاني عليها العقاب، ثم يكون الفعل في الوقت نفسه فعلاً ضاراً فيضمنه الجاني للمجني عليه، كاستهلاك صيد مملوك في الحرم، وشرب خمر الذمى، فإن الفاعل في هاتين الحالتين يعاقب على الصيد والشرب، وعليه قيمة الصيد والخمر لصاحبيهما. وتتفق الشريعة مع القوانين الوضعية في هذه الناحية. فهي تجعل الإنسان مسئولاً مدنياً عن كل فعل ضار بغيره، سواء كان القانون يعتبره جريمة أم لا يعتبره كذلك. فإن كان الفعل جريمة، وكان ضاراً في الوقت نفسه بالغير، كان الفاعل مستحقاً للعقوبة وضامناً للضرر، كما هو حكم الشريعة. ويصطلح شراح القانون المصري على تسمية الفعل الضار بالجريمة المدنية، ولكن هذا الاصطلاح لا يكاد يستعمل في دور المحاكم، وهو قاصر على الكتب الفقهية، ولعل ذلك راجع إلى أن القانون المصري يعبر عن سبب الضمان بالفعل الضار، ولا يعبر عنه بالجريمة المدنية كما عبر القانون الفرنسي. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الباب الثاني أنواع الجريمة 50 - تتفق الجرائم جميعاً في أنها فعل محرم معاقب عليه، ولكنها تتنوع وتختلف إذا نظرنا إليها من غير هذه الوجهة. وعلى هذا يمكننا أن نقسم الجرائم أقساماً متنوعة تختلف باختلاف وجهة النظر إليها. فإذا نظرنا إلى الجرائم من حيث جسامة العقوبة قسمناها إلى حدود، وقصاص أو دية، وتعازير. وإذا نظرنا إليها من حيث قصد الجاني قسمناها إلى جرائم عمدية، وجرائم غير عمدية. وإذا نظرنا إليها باعتبار وقت كشفها قسمناها إلى جرائم متلبس بها، وجرائم لا تلبس فيها. وإذا نظرنا إليها من حيث طريقة ارتكابها قسمناها إلى جرائم إيجابية وجرائم سلبية، وإلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد، وغلى جرائم مؤقتة وجرائم غير مؤقتة. وإذا نظرنا إلى طبيعتها الخاصة قسمناها إلى جرائم ضد الجماعة وجرائم ضد الأفراد، وإلى جرائم عادية وجرائم سياسية. * * * الفصل الأول التقسيم المبني على جسامة العقوبة الحدود - القصاص والدية - التعازير 51 - تنقسم الجرائم بحسب جسامة العقوبة المقررة عليها إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: جرائم الحدود: وهي جرائم المعاقب عليها بحد. والحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 هو العقوبة المقدرة حقاً لله تعالى (1) ، ومعنى العقوبة المقدرة أنها محددة معينة فليس لها حد أدنى ولا حد أعلى، ومعنى أنها حق لله أنها لا تقبل الإسقاط لا من الأفراد ولا من الجماعة. وتعتبر العقوبة حقاً لله في الشريعة كلما استوجبتها المصلحة العامة، وهي دفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة والسلامة لهم، وكل جريمة يرجع فسادها إلى العامة، وتعود منفعة عقوبتها عليهم، تعتبر العقوبة المقررة عليها حقاً لله تعالى؛ تأكيداً لتحصيل المنفعة، وتحقيقاً لدفع الفساد والمضرة، إذ اعتبار العقوبة حقاً لله تؤدي إلى عدم إسقاط العقوبة بإسقاط الأفراد أو الجماعة لها. وجرائم الحدود معينة ومحدودة العدد، وهي سبع جرائم: (1) الزنا (2) القذف (3) الشرب (4) السرقة (5) الحرابة (6) الردة (7) البغي. ويسميها الفقهاء "الحدود" دون إضافة اللفظ جرائم إليها، وعقوباتها تسمى الحدود أيضاً ولكنها تميز بالجريمة التي فرضت عليها فيقال: حد السرقة، حد الشرب، ويقصد من ذلك عقوبة السرقة وعقوبة الشرب. القسم الثاني: جرائم القصاص والدية: وهي الجرائم التعاقب عليها بقصاص أو دية، وكل من القصاص والدية عقوبة مقدرة حقاً للأفراد، ومعنى أنها مقدرة أنها ذات حد واحد، فليس لها حد أعلى وحد أدنى تتراوح بينهما، ومعنى أنها حق للأفراد أن للمجني عليه أن يعفو عنها إذا شاء، فإذا عفا أسقط العفو العقوبة المعفو عنها. وجرائم القصاص والدية خمس: (1) القتل العمد (2) القتل شبه العمد (3) القتل الخطأ (4) الجناية على ما دون النفس عمداً (5) الجناية على ما دون النفس خطأ. ومعنى الجناية على ما دون النفس: الاعتداء الذي لا يؤدي للموت كالجرح والضرب.   (1) فتح القدير ج4 ص112، 113، الإقناع ج4 ص244، الأحكام السلطانية ص192، 195، بدائع الصنائع ج7 ص33، 56 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ويتكلم الفقهاء عن هذا القسم عادة تحت عنوان الجنايات، متأثرين في ذلك بما تعارفوا عليه من إطلاق لفظ الجناية على هذه الأفعال (1) ، ولكن بعض الفقهاء يتكلمون عن هذا القسم تحت عنوان الجراح (2) ناظرين إلى أن الجراحة هي أكثر طرق الاعتداء، كما أن بعض الفقهاء يؤثرون لفظ الدماء (3) عنواناً لهذا القسم. القسم الثالث: جرائم التعازير: هي الجرائم التي يعاقب عليها بعقوبة أو أكثر من عقوبات التعزير، ومعنى التعزير التأديب، وقد جرت الشريعة على عدم تحديد عقوبة كل جريمة تعزيرية، واكتفت بتقرير مجموعة من العقوبات لهذه الجرائم تبدأ بأخف العقوبات وتنتهي بأشدها، وتركت للقاضي أن يختار العقوبة أو العقوبات في كل جريمة بما يلائم ظروف الجريمة وظروف المجرم، فالعقوبات في الجرائم التعزير غير مقدرة. وجرائم التعزير غير محدودة كما هو الحال في جرائم الحدود أو جرائم القصاص والدية، وليس في الإمكان تحديدها. وقد نصت الشريعة على بعضها وهو ما يعتبر جريمة في كل وقت كالربا وخيانة الأمانة والسب والرشوة، وتركت لأولي الأمر النص على بعضها الآخر، وهو القسم الأكبر من الجرائم التعازير، ولكن الشريعة لم تترك لأولي الأمر الحرية في النص على هذه الجرائم بل أوجبت أن يكون التحريم بحسب ما تقتضيه حال الجماعة وتنظيمها والدفاع عن مصالحها ونظامها العام، وأن لا يكون مخالفاً لنصوص الشريعة ومبادئها العامة.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص233، الإقناع ج4 ص162، البجيرمي على المنهج ج4 ص129. (2) تحفة المحتاج ج4 ص1، المغني ج9 ص318. (3) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص230 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وقد قصدت الشريعة من إعطاء أولي الأمر حق التشريع في هذه الحدود تمكينهم من تنظيم الجماعة وتوجيهها الوجهات الصحيحة، وتمكينهم من المحافظة على مصالح الجماعة والدفاع عنها ومعالجة الظروف الطارئة. والفرق بين الجريمة التي نصت عليها الشريعة والعمل الذي يحرمه أولو الأمر: أن ما نصت عليه الشريعة محرم دائماً فلا يصح أن يعتبر فعلاً مباحاً، أما ما يحرمه أولو الأمر اليوم فيجوز أن يباح غداً إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة. 52 - أهمية هذا التقسيم: تظهر أهمية تقسيم الجرائم إلى حدود، وقصاص أو دية، وتعازير، من عدة وجوه سنبينها فيما يلي: أولاً: من حيث العفو: جرائم الحدود لا يجوز فيها العفو مطلقاً، سواء من المجني عليه أو ولي الأمر أي الرئيس الأعلى للدولة، فإذا عفا أحدهما كان عفوه لغواً لا أثر له على الجريمة ولا على العقوبة. أما في جرائم القصاص فالعفو جائز من المجني عليه، فإذا عفا ترتب على العفو أثره، فللمجني عليه أن يعفو عن القصاص مقابل الدية، وله أن يعفو عن الدية أيضاً، فإذا عفا عن أحدهما أعفى منه الجاني. وليس لرئيس الدولة الأعلى أن يعفو عن العقوبة في جرائم القصاص بصفته هذه، لأن العفو عن هذا النوع من الجرائم مقرر للمجني عليه أو وليه، لكن إذا كان المجني عليه قاصراً ولم يكن له أولياء كان الرئيس الأعلى للدولة وليه، إذ القاعدة الشرعية أن السلطان ولي من لا ولي له، وفي هذه الحالة يجوز لرئيس الدولة العفو بصفته ولي المجني عليه، لا بأي صفة أخرى، وبشرط ألا يكون العفو مجاناً. وفي جرائم التعازير لولي الأمر - أي رئيس الدولة الأعلى - حق العفو عن الجريمة، وحق العفو عن العقوبة، فإذا عفا كان لعفوه أثره بشرط أن لا يمس عفوه حقوق المجني عليه الشخصية. وليس للمجني عليه أن يعفو في التعازير إلا عما يمس حقوقه الشخصية المحضة. ولما كانت الجرائم تمس الجماعة فإن عفو المجني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 عليه من العقوبة أو الجريمة لا يكون نافذاً وإن أدى في الواقع إلى تخفيف العقوبة على الجاني، لأن للقاضي سلطة واسعة في جرائم التعازير من حيث تقدير الظروف المخففة، وتخفيف العقوبة. ولا شك أن عفو المجني عليه يعتبر ظرفاً مخففاً. ثانياً: من حيث سلطة القاضي: في جرائم الحدود إذا ثبتت الجريمة وجب على القاضي أن يحكم بعقوبتها المقررة لا ينقص منها شيئاً ولا يزيد عليها شيئاً، وليس له أن يستبدل بالعقوبة المقررة عقوبة أخرى، ولا أن يوقف تنفيذ العقوبة، فسلطة القاضي في جرائم الحدود قاصرة على النطق بالعقوبة المقررة للجريمة. وفي جرائم القصاص سلطة القاضي قاصرة على توقيع العقوبة المقررة إذا كانت الجريمة ثابتة قبل الجاني، فإذا كانت العقوبة القصاص وعفا المجني عليه عن القصاص أو تعذر الحكم به لسبب شرعي وجب على القاضي أن يحكم بالدية ما لم يعف المجني عليه عنها؛ فإذا عفا كان على القاضي أن يحكم بعقوبة تعزير. وله في التعازير - كما سنبين - سلطة واسعة. أما جرائم التعازير فللقاضي فيها سلطة واسعة في اختيار نوع العقوبة ومقدارها، فله أن يختار عقوبة شديدة أو خفيفة بحسب ظروف الجريمة والمجرم، وله أن ينزل بالعقوبة إلى أدنى درجاتها، وله أن يرتفع بها إلى حدها الأقصى، وله أن يأمر بتنفيذ العقوبة أو إيقاف تنفيذها. ثالثاً: من حيث قبول الظروف المخففة: ليس للظروف المخففة أي أثر على جرائم الحدود والقصاص والدية، فالعقوبة المقررة لازمة مهما كانت ظروف الجاني. أما في جرائم التعازير فللظروف المخففة أثرها على نوع العقوبة ومقدارها، فللقاضي أن يختار عقوبة خفيفة، وأن ينزل بها إلى أدنى حدودها، وله أن يوقف تنفيذها. رابعاً: من حيث إثبات الجريمة: تشترط الشريعة لإثبات جرائم الحدود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 والقصاص عدداً معيناً من الشهود، إذا لم يكن دليل إلا الشهادة، فجريمة الزنا لا تثبت إلا بشهادة أربعة شهود يشهدون الجريمة وقت وقوعها، وبقية جرائم الحدود والقصاص لا تثبت إلا بشهادة شاهدين على الأقل. أما جرائم التعازير فتثبت بشهادة شاهد واحد. ولا تعرف القوانين الوضعية هذا التقسيم، وإنما هي تقسم الجرائم غالباً إلى جنايات وجنح ومخالفات. * * * الفصل الثاني تقسيم الجرائم بحسب قصد الجاني الجرائم المقصودة - الجرائم غير المقصودة 53 - تنقسم الجرائم بحسب قصد الجاني إلى جرائم مقصودة وجرائم غير مقصودة: (أ) الجرائم المقصودة: هي التي يتعمد الجاني فيها إتيان الفعل المحرم وهو عالم بأنه محرم، وهذا هو المعنى العام للعمد في الجرائم المقصودة أو الجرائم العمدية. وللعمد معنى خاص في القتل، وهو تعمد الفعل المحرم وتعمد نتيجته، فإن تعمد الجاني الفعل دون نتيجة كان الفعل قتلاً شبه عمد، وهو ما يسمى في القوانين الوضعية بـ "الضرب المفضي إلى الموت". (ب) الجرائم غير المقصودة: هي التي لا ينتوي فيها الجاني إتيان الفعل المحرم ولكن يقع الفعل المحرم نتيجة خطأ منه، والخطأ على نوعين (1) :   (1) نهاية المحتاج ج7 ص235، المغني ج9 ص320، الزيلعي ج6 ص97، بدائع الصنائع ج7 ص234، وراجع أيضاً الفقرتين 284، 301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 النوع الأول: هو ما يقصد فيه الجاني الفعل الذي أدى للجريمة ولا يقصد الجريمة ولكنه مع ذلك يخطئ: إما في نفس الفعل كمن يرمي حجراً ليتخلص منه فيصيب أحد المارة، أو يرمي صيداً فيخطئه ويصيب آدمياً. وإما أن يكون الخطأ في ظنه كمن يرمي ما يظنه حيواناً فإذا هو إنسان، أو يرمي من يظنه جندياً من جنود الأعداء فإذا هو أحد الوطنيين. ففي هذه الحالات يقصد الجاني الفعل ولا يقصد الجريمة، ولكن خطأه في فعله أو ظنه يؤدي إلى وقوع الجريمة. النوع الثاني: هو ما لا يقصد فيه الجاني الفعل ولا الجريمة، ولكن يقع الفعل نتيجة لإهماله أو عدم احتياطه، كمن ينقلب وهو نائم على آخر بجواره فيقتله، وكمن يحفر بئراً في طريق ولا يتخذ احتياطاته لمنع سقوط المارة فيه. 54 - أهمية هذا التقسيم: تظهر أهمية تقسيم الجرائم إلى مقصودة وغير مقصودة من وجهين: أولهما: أن الجريمة المقصودة تدل على روح إجرامية لدى الجاني، أما غير المقصودة فليس فيها ما يدل على ميل الفاعل للإجرام، ومن ثم كانت عقوبة الجريمة المقصودة شديدة وعقوبة الجريمة غير المقصودة خفيفة. ثانيهما: يمتنع العقاب على الجريمة المقصودة إذا لم يتوفر ركن العمد، أما الجريمة غير المقصودة فيعاقب عليها لمجرد الإهمال أو عدم التثبت. وتعرف القوانين الوضعية هذا التقسيم، وهي تتفق مع الشريعة في موضوعه ونتائجه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الفصل الثالث تقسيم الجرائم بحسب وقت كشفها جرائم متلبس بها - وجرائم لا تلبس فيها 55 - تنقسم الجرائم بحسب وقت كشفها إلى جرائم متلبس بها وجرائم لا تلبس فيها. الجريمة المتلبس بها: هي الجريمة التي تكشف وقت ارتكابها، أو عقب ذلك ببرهة يسيرة. وقد عرف قانون "تحقيق الجنايات المصري" التلبس في المادة الثامنة بأن مشاهدة الجاني متلبساً بالجناية (1) هي رؤيته حال ارتكابها أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة، ويعتبر أيضاً أن الجاني شوهد متلبساً بالجناية إذا تبعه من وقعت عليه الجناية عقب وقوعها منه بزمن قريب، أو تبعته العامة مع الصياح، أو وجد في ذلك الزمن حاملاً لآلات أو أسلحة أو أمتعة أو أوراقاً أو أشياء أخرى يستدل منها على أنه مرتكب الجناية أو مشارك في فعلها. والجريمة التي لا تلبس فيها: هي التي لا تكشف وقت ارتكابها، أو التي يمضي بين ارتكابها وكشفها زمن غير يسير. والمعروف لدى فقهاء الشريعة أن التلبس هو كشف الجريمة وقت ارتكابها، ولكن ليس في الشريعة ما يمنع من اعتبار حالة التلبس طبقاً لوجهة "القانون المصري"، خصوصاً وأن المقصود من اعتبار هذه الحالة قائمة هو تسهيل الإجراءات لكشف الحقيقة.   (1) معنى لفظ "الجناية" هنا يتفق مع معنى الجناية في الشريعة الإسلامية وهو الجريمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 56 - أهمية هذا التقسيم: تظهر أهمية هذا التقسيم في الشريعة من وجهين: أولهما: من حيث الإثبات: إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود وكان الدليل عليها هو شهادة الشهود؛ فيجب أن يكون الشهود قد شهدوا بأنفسهم الحادث وقت وقوعه، ورأوا الجاني وهو يرتكب الجريمة، ويجيز الإمام مالك أن يكون الشهود سماعيين (1) ينقلون عمن شهدوا الحادث، ولا يجيز هذا باقي الأئمة (2) . ثانيهما: من حيث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إذ شوهد الجاني وهو يرتكب الجناية كان لأي شخص أن يمنعه بالقوة عن ارتكاب الجريمة، وأن يستعمل القوة اللازمة لمنعه، سواء كانت الجريمة اعتداء على حقوق الأفراد كالسرقة، أو اعتداء على حقوق الجماعة كشرب الخمر والزنا، وهذا ما يسمى بـ "حق الدفاع الشرعي العام". * * * الفصل الرابع [تقسيم الجرائم بحسب طريقة وكيفية ارتكابها ووقوعها] المبحث الأول [تقسيم الجرائم بحسب طريقة ارتكابها] جرائم إيجابية - وجرائم سلبية 57 - تنقسم الجرائم إلى إيجابية وسلبية: بحسب ما إذا كان الفعل قد ارتكب بطريق الإيجاب أو السلب، أو بحسب ما إذا كان الفعل مأموراً به أو منهياً عنه.   (1) المدونة ج6 ص45. (2) بدائع الصناع ج7 ص49، نهاية المحتاج ج8 ص307، الإقناع ج4 ص407. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 والجريمة الإيجابية: تتكون من إتيان فعل منهي عنه كالسرقة والزنا والضرب. والجريمة السلبية: تتكون من الامتناع عن إتيان فعل مأمور به، كامتناع الشاهد عن أداء الشهادة والامتناع عن إخراج الزكاة. وأكثر الجرائم إيجابية وأقلها الجرائم السلبية. 58 - الجريمة الإيجابية تقع بطريق السلب: ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن الجريمة الإيجابية قد تقع بطريق السلب، فإذا وقعت على هذا الوجه استحق فاعلها العقوبة، فمن حبس إنساناً ومنعه الطعام أو الشراب أو الدفء في الليالي الباردة حتى مات جوعاً أو عطشاً أو برداً فهو قاتل عمداً إن قصد بالمنع قتله، وذلك ما يراه مالك (1) والشافعي (2) وأحمد (3) ، أما أبو حنيفة (4) فلا يرى الفعل قتلاً، لأن الهلاك حصل بالجوع والعطش والبرد ولم يحصل بالحبس، ولا صنع لأحد في الجوع والعطش والبرد، ولكن أبا يوسف ومحمداً يريان الفعل قتلاً عمداً، لأنه لا بقاء لآدمي إلا بالأكل والشرب والدفء. فالمنع عند استيلاء الجوع والعطش والبرد على الممنوع يكون إهلاكاً له. والأم التي تمنع ولدها الرضاع قاصدة قتله تعتبر قاتلة عمداً، ولو أنها لم تأت بعمل إيجابي (5) . ومن منع فضل مائه مسافراً، عالماً بأنه لا يحل له منعه، وأنه يموت إن لم يسقه،   (1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص215. (2) نهاية المحتاج ج7 ص239. (3) المغني ج9 ص327. (4) بدائع الصنائع ج7 ص234، البحر الرائق ج8 ص295. (5) الشرح الكبير للدردير ج4 ص215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 اعتبر قاتلاً له عمداً وإن لم يَلِ قتله بيده، وهو رأي في مذهب مالك (1) . ويرى بعض فقهاء مذهب أحمد أنه قتل شبه عمد (2) . وإذا حضر نساء ولادة فقطعت إحداهن الحبل السُّري ولم تربطه بعد قطعه متعمدة الامتناع عن ربطه فمات الوليد بسبب ذلك فهي قاتلة له، ومن الممكن اعتبار بقية الحاضرات قاتلات إذا لم يرون أيضاً ربط الحبل السري، لأن القطع غير مهلك في ذاته، وإنما المهلك ترك الربط، ولما كن جميعاً قد تعمدن ترك الربط فالهلاك ينسب إليهن جميعاً (3) . 59 - متى يعتبر الممتنع مسئولاً؟: والظاهر من تتبع أمثلة الفقهاء أن الممتنع لا يعتبر مسئولاً عن كل جريمة ترتبت على امتناعه، وإنما يسأل فقط حيث يجب عليه شرعاً أو عرفاً أن لا يمتنع. وإذا كان هذا هو القاعدة فهناك اختلاف على ما يوجبه الشرع والعرف، ومن الطبيعي أن يكون هذا الخلاف ما دامت وجهات النظر مختلفة، فمثلاً: يرى بعض الحنابلة أن من أمكنه إنجاء آدمي من هلكة كماء ونار أو سبع فلم يفعل حتى هلك فلا مسئولية عليه (4) ، ويرى بعض الحنابلة أنه مسئول (5) ، وأساس هذا الخلاف هو: هل الإنجاء واجب أم غير واجب؟ ومن هذا القبيل المثل الذي ضربناه عن منع الماء. 60 - الشريعة والقوانين الوضعية: واتجاه فقهاء الشريعة في القتل بالترك هو نفس الاتجاه الذي سار عليه أغلب شراح القوانين الوضعية ابتداء من القرن التاسع عشر، أما قبل ذلك فقد كانت غالبية الشراح ترى أنه لا يمكن إحداث الجريمة بالترك، لأن الترك عدم ولا ينشأ عن العدم وجود، وكانت   (1) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص240. (2) المغني ج9 ص581. (3) الفتاوي الكبرى لابن حجر ج4 ص220، 221. (4) الإقناع ج4 ص205. (5) المغني ج9 ص581. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أقلية الشراح ترى أن الترك يصلح سبباً للجريمة كالفعل تماماً، لأن كليهما يرجع إلى إرادة الإنسان، وقد انتهت الغالبية إلى التسليم بأن الترك يصلح سبباً للجريمة، ولكنهم لم يأخذوا بهذا المبدأ على إطلاقه، وقيدوه بأن يكون الشخص مكلفاً في الأصل بالعمل، وأن يكون الامتناع أو الترك مخالفة لهذا التكليف، ويستوي عندهم أن يكون مصدر التكليف بالعمل القانون أو الاتفاق. ومن الأمثلة التي يضربها شراح القوانين على القتل بالترك: حبس شخص دون حق ومنع الطعام عنه بقصد قتله، وامتناع الأم عمداً عن إرضاع ولدها بقصد قتله. ويضربون مثلاً على الحالة التي لا مسئولية فيها: الامتناع عن إنقاذ مشرف على الغرق، أو إنسان أحاطت به النار، أو أقدم على افتراسه سبع. والأمثلة في الحالين تكاد تكون نفس الأمثلة التي يضربها فقهاء الشريعة الإسلامية. 61 - الفرق بين الشريعة والقانون: ويلاحظ أن اشتراط شراح القوانين أن يكون العمل واجباً بمقتضى القانون أو الاتفاق يساوي تماماً ما يشترطه فقهاء الشريعة من أن يكون العمل واجباً بمقتضى الشريعة، لأن الشريعة توجب الوفاء بالعقود والاتفاقات طبقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، فمن كان عليه واجب طبقاً لاتفاق فهو واجب أيضاً طبقاً للشريعة ما دام لا يخرج على نصوصها أو روحها فالشريعة والقانون يتفقان تماماً في هذه النقطة. ولكن الشريعة تخالف القوانين الوضعية في أنها تجعل الجاني مسئولاً عن الترك والامتناع إذا كان العرف يوجب على الشخص أن يعمل ولا يمتنع، ولا شك أن الشريعة منطقية في هذا التوسع، لأن الشرائع والقوانين جميعاً بل واتفاقات الأفراد تفترض أن ما يفرضه العرف يجب اتباعه، ولا معنى لأن ينص في الاتفاقات على واجبات مقررة بمقتضى العرف ومتعارف عليها من الجميع، فإذا سئل الشخص عن واجب يفرضه اتفاق دولي فأولى به أن يسأل عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 واجب يفرضه العرف ويعترف به الناس دون حاجة لاتفاق أو إثبات. وتمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بأنها عرفت هذه النظرية من القرن السابع، بينما لم تبدأ القوانين الوضعية بمعرفتها إلا في القرن التاسع عشر، فكأن القوانين لم تجئ إلا بما سبقتها إليه الشريعة. * * * المبحث الثاني تقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها جرائم بسيطة - وجرائم اعتياد 62 - تنقسم الجرائم في الشريعة بحسب كيفية ارتكاب الجاني لها إلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد: الجريمة البسيطة: هي التي تتكون من فعل واحد كالسرقة والشرب، ويستوي أن تكون الجريمة مؤقتة أو مستمرة، وجرائم الحدود والقصاص أو الدية كلها جرائم بسيطة. وجريمة الاعتياد: هي التي تتكون من تكرر وقوع الفعل، أي أن الفعل بذاته لا يعتبر جريمة، ولكن الاعتياد على ارتكابه هو الجريمة. وجرائم الاعتياد توجد بين جرائم التعازير، ويستدل عليها من النص المحرم للفعل، فإن كان يشترط للعقاب اعتياد الفعل فالجريمة جريمة عادة، وإن كان يكتفي بمجرد وقوع الفعل فالجريمة بسيطة. والأصل أن التعزير يكون على فعل المحرمات وترك الواجبات، وهذا متفق عليه، إلا أنهم اختلفوا في التعزير على فعل المكروه وترك المندوب (1) ، فرأى   (1) المكروه: هو ما طلب من المكلف الكف عنه طلباً غير حتم، والمندوب: هو ما طلب فعله من المكلف طلباً غير حتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 البعض أن لا عقاب على فعل مكروه أو ترك مندوب إطلاقاً (1) ورأى البعض العقاب على فعل المكروه وترك المندوب (2) كلما دعت إلى ذلك المصلحة (3) . والذين يرون العقاب على ترك المندوب وإتيان المكروه يشترطون أن يتكرر الترك أو الإتيان، فإذا لم يتكرر فلا عقاب، وإذن فهم لا يجعلون العقاب على الفعل أو الترك في ذاته، وإنما يجعلون العقاب على التكرار الذي يدل على أن الجاني جعل الفعل أو الترك عادة وإلفاً له، ويعتبرون أن العادة قد تكونت إذا حصل الفعل أو الترك مرة ثانية، أي أن العادة عندهم تتكون من مرتين (4) ، وعلى هذا فكل مكروه أو مندوب عوقب عليه فهو من جرائم العادة. 63 - أهمية هذا التقسيم: تظهر أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد من الوجوه الآتية: أولاً: من حيث مبدأ سريان التقادم: في الجرائم البسيطة تبدأ المدة المسقطة للدعوى من يوم ارتكاب الجريمة إن كانت مؤقتة، ومن يوم انتهاء الحالة المحرمة إن كانت غير مؤقتة. أما في جرائم العادة فالمدة المسقطة تبدأ من تاريخ وقوع الفعل الأخير المكون للعادة.   (1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج3 ص21، 22، الإقناع ج4 ص270، 271، مواهب الجليل ج6 ص320، بدائع الصنائع ج7 ص63. (2) المصطفى للغزالي ص75، 76، تحفة المحتاج ج8 ص18، مواهب الجليل ج6 ص320، تبصرة الحكام ج2 ص259، 260، الأحكام السلطانية ص212. (3) يطلق بعض هذا الفريق عبارته بحيث توهم أن إتيان المكروه وترك المندوب يعاقب عليه بصفة مطلقة ولكنهم في الواقع لا يقصدون هذا؛ لأن القاعدة العامة في التعزير أنه مقيد بالمصلحة العامة، ولذلك أجيز لولي الأمر في جرائم التعزير العفو عن العقوبة، وعلى هذا تكون تلك العبارات المطلقة مقيدة بهذه القاعدة العامة. (4) مواهب الجليل ج6 ص320، الأحكام السلطانية ص213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ثانياً: من حيث الاختصاص: يكون الاختصاص في الجريمة البسيطة للمحكمة التي وقع في دائرتها الفعل المكون للجريمة إذا كانت الجريمة مؤقتة، فإن كانت مستمرة أو متجددة فالاختصاص لكل محكمة استمر في دائرتها الفعل أو تجدد، فيكون الاختصاص في الجريمة العادة للمحكمة التي وقع في دائرتها الفعل الأخير المكون للعادة (1) . ثالثاً: من حيث تطبيق قواعد التداخل: الحكم في جريمة عادة يمنع من محاكمة الجاني على الأفعال السابقة ولو لم تدخل في المحاكمة الأولى، لأن قواعد الشريعة لا تسمح بتعدد العقوبة على الجرائم التي من نوع واحد والتي لم يحكم فيها بعد، وتكتفي عقوبة واحدة عنها جميعاً طبقاً لقواعد التداخل. والقوانين الوضعية تصل إلى هذه النتيجة نفسها بتطبيق قاعدة قوة الشيء المحكوم فيه. وإذا حوكم الجاني مرة فمن المنطق أن لا يحاكم مرة ثانية، إلا إذا وقع منه أكثر من فعل واحد من الأفعال التي تكون العادة، لأن العقوبة مقررة على الاعتياد على الفعل المحرم لا على الفعل ذاته، وهذا هو الرأي الذي تأخذ به محكمة النقص المصرية. 64 - الشريعة والقوانين الوضعية: تتفق الشريعة والقوانين الوضعية في تقسيم الجرائم إلى جرائم بسيطة وجرائم عادة، وتتفق معها في تعريف جريمة العادة وفي أن العقاب على الاعتياد، وفي مصر استقر الفقه والقضاء على أن العادة تتكون من وقوع الفعل أو الترك مرتين. 65 - الجرائم التي تتكون من أفعال متلاحقة: قد يرتكب الجاني عدة   (1) يرى بعض الشراح الفرنسيين أن يكون الاختصاص يكون للمحكمة التي يقيم الجاني في دائرتها إذا كان العمل المكون للعادة قد وقع وحده في دائرة محكمة غير التي وقع فيها الفعل الآخر، إذ لا يمكن أن يعتبر محلاً للجريمة إلا المكان الذي تقع فيه أفعال كافية لتكوين العادة، فإذا لم تتوفر بالعادة في مكان معين فإنها تتوفر في شخص الجاني ومن ثم ترفع عليه الدعوى في محل إقامته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أفعال من نوع واحد تنفيذاً لغرض جنائي واحد؛ فيسرق أمتعة من مسكن على عدة دفعات، أو يضرب شخصاً ضربات متعددة، وحكم هذه الأفعال المتعددة المتلاحقة طبقاً للشريعة الإسلامية أنها جريمة واحدة ويعاقب عليها بعقوبة واحدة، فمن سرق منزلاً على دفعتين أو أكثر يعتبر مرتكباً لجريمة سرقة واحدة. ومن ضرب شخصاً أكثر من ضربة يعتبر مرتكباً لجريمة ضرب واحدة. 66 - الفرق بين الأفعال المتلاحقة وجريمة العادة والجريمة غير المؤقتة: تختلف الأفعال المتلاحقة عن جريمة العادة في أن الأفعال المتعددة المكونة لجريمة العادة لا يعاقب على فعل واحد منها لأنه لا يكون الجريمة، أما في الأفعال المتلاحقة فيعاقب على أي فعل منها، لأنه يكون الجريمة دون حاجة لوقوع غيره، فمن انتوى أن يسرق بيتاً على عدة مرات ثم دخله فأخذ بعض الأمتعة على أن يعود ليأخذ بعضاً آخر ولكنه لم يعد يعتبر مرتكباً لجريمة السرقة، كما لو عاد وأخذ أمتعة في مرة أخرى أو أكثر. وتختلف الأفعال المتلاحقة عن الجريمة غير المؤقتة؛ لأن الجريمة المكونة من أفعال متلاحقة تتعدد فيها الأفعال، ولكن كل فعل منها منفصل عن الآخر، بينما الجريمة غير المؤقتة تتكون من فعل واحد أو امتناع يستمر حدوثه وقتاً طويلاً أو يتجدد حدوثه ذلك الوقت. 67 - العلة في اعتبار الأفعال المتلاحقة جريمة واحدة: تعتبر الأفعال المتلاحقة مكونة لجريمة واحدة على تعددها وانفصالها؛ لأن قواعد الشريعة الإسلامية لا تسمح بتعدد العقوبة على الجرائم التي من نوع واحد، وتكتفي بعقوبة واحدة عليها طبقاً لقاعدة التداخل، وهذا يقتضي من باب أولى اعتبار الأفعال المتلاحقة الصادرة تنفيذاً لغرض جنائي واحد جريمة واحدة، كما أن وقوع هذه الأفعال تنفيذاً لفكرة واحدة ولغرض جنائي واحد يجعل منها جريمة واحدة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 المبحث الثالث تقسيم الجرائم بحسب كيفية ارتكابها جرائم مؤقتة - وجرائم غير مؤقتة 68 - سكوت الفقهاء عن هذين النوعين من الجرائم: لم يذكر الفقهاء شيئاً عن تقسيم الجرائم إلى جرائم مؤقتة وجرائم غير مؤقتة، وعلة ذلك - كما يبدو لنا - أن الفقهاء يهتمون فقط بجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، لأنها جرائم ثابتة لا تتغير الأفعال المكونة لها، ولا تتغير العقوبات المقررة عليها، وهذه الجرائم كلها مؤقتة وليس فيها جريمة واحدة غير مؤقتة، فلم يكن هناك إذن ما يدعو للتفرقة بين الجريمة المؤقتة والجريمة غير المؤقتة. أما جرائم التعازير فبعضها مؤقت وبعضها غير مؤقت، ولكن الفقهاء جروا على إهمال بحث أحكام هذه الجرائم، لأن للسلطة التشريعية سلطاناً كبيراً فيها من حيث تحديد الأفعال المكونة لمعظمها، وتعيين العقوبة الواجبة عليها، وآراء السلطات التشريعية في جرائم التعازير تختلف باختلاف البلدان والعادات، فما قد تبيحه سلطة تشريعية في بلد ما قد تحرمه سلطة أخرى في بلد آخر، وما قد تعاقب عليه سلطة تشريعية من وجه قد تعاقب عليه سلطة أخرى من وجه آخر، ولهذا كله لم يهتم الفقهاء ببحث التعازير بحثاً مفصلاً كما اهتموا بجرائم الحدود، واكتفوا ببحث بعض الأحكام الهامة الثابتة التي لا تتغير بتغير البلاد والسلطات. أما الآن وقد أصبحنا نحرص على بيان أحكام الجرائم عامة سواء كانت تعازير أو غير تعازير، فليس ثمة ما يمنع من التعرض لبحث الجرائم المؤقتة وغير المؤقتة. 69 - جرائم التعازير مؤقتة وغير مؤقتة: والظاهر من تتبع جرائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 التعازير أنها تنقسم بحسب الوقت الذي يستغرقه وقوعها إلى جرائم مؤقتة وجرائم غير مؤقتة. فالجرائم المؤقتة: هي التي تتكون من فعل أو امتناع يحدث في وقت محدود ولا يستغرق أكثر من الوقت اللازم لوقوع الفعل أو قيام حالة الامتناع، مثل جريمة السرقة فإنها تتم بمجرد وقوع الفعل أي أخذ الشيء خفية، ومثل جريمة الشرب فإنها تتم بمجرد شرب الخمر، ومثل جريمة كتمان الشهادة فإنها تتم بمجرد الامتناع عن أداء الشهادة. والجرائم غير المؤقتة: هي التي تتكون من فعل أو امتناع قابل للتجدد والاستمرار فيستغرق وقوعها كل الوقت الذي تتجدد فيه الجريمة أو تستمر، ولا تعتبر الجريمة منتهية إلا بانتهاء حالة التجدد أو الاستمرار. ومثال ذلك حبس شخص دون حق، والامتناع عن إخراج الزكاة، والامتناع عن تسليم طفل إلى حاضنه، والامتناع عن أداء الدين مع المقدرة عليه. 70 - مقياس التمييز بين الجريمة المؤقتة وغير المؤقتة: ونصوص التشريع هي وحدها التي تبين إن كانت الجريمة مؤقتة أم غير مؤقتة، لأن هذه النصوص تعرف الجريمة وتبين ركنها المادي فتميزها بذلك عن غيرها، فإن كان الفعل أو الامتناع يقع وينتهي بمجرد ارتكاب الفعل أو قيام حالة الامتناع فالجريمة مؤقتة، وإن كان الفعل أو الامتناع يكون حالة مستمرة الحدوث أو التجدد فالجريمة غير مؤقتة. وينبغي في هذا المقام أن نميز بين استمرار الجريمة واستمرار نتيجتها، فالسرقة تتم بأخذ الشيء خفية فهي جريمة مؤقتة، وبقاء المسروقات بعد ذلك تحت يد السارق ليس استمراراً للسرقة، وإنما هو استمرار لنتيجتها. وجريمة الشرب تتم بتناول الخمر فهي جريمة مؤقتة، فإذا سكر الشارب فإن سكره لا يعتبر استمراراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 للجريمة، وإنما هو استمرار لنتيجتها، إذ السكر نتيجة للشرب. والضرب والجرح جريمة مؤقتة تتم بمجرد وقوع الضرب وحدوث الجرح، فإذا بقى المجني عليه تحت العلاج مدة ما فذلك ليس استمراراً للجريمة، وإنما هو أثر الجريمة ونتيجة لها. 71 - تقسيم الجرائم غير المؤقتة: تنقسم الجرائم غير المؤقتة إلى جرائم متجددة وجرائم مستمرة (1) . فالجرائم المتجددة: هي التي يتوقف فيها استمرار الجريمة على تدخل إرادة الجاني تدخلاً متكرراً مقصوداً، كالامتناع عن أداء الزكاة، أو عن تسليم المحضون لحاضنه، وكإحراز سلاح دون رخصة. ففي هذه الحالات يأتي الجاني الفعل أو يمتنع عنه، وتبقى جريمته قائمة ما بقى محرزاً للسلاح، أو ممتنعاً عن أداء الزكاة، أو تسليم الطفل. ولكن بقاء الجريمة يتوقف على إرادة الجاني الذي يرى أن يبقى محرزاً للسلاح دون ترخيص، أو تسليم الطفل الحاضنه. والجرائم المستمرة: هي التي لا يتوقف استمرار الجريمة فيها على تدخل إرادة الجاني، بل يستمر الفعل المكون للجريمة دون حاجة لتدخل إرادة الجاني، كحفر بئر في الطريق، وإقامة بناء في ملك الغير، أو خارجاً عن خط التنظيم. 72 - أهمية تقسيم الجرائم إلى مؤقتة وغير مؤقتة: لهذا التقسيم أهمية من عدة وجوه نبسطها فيما يلي:   (1) فضلنا أن نقسم الجرائم إلى مؤقتة وغير مؤقتة، والأخيرة إلى متجددة ومستمرة. وهذا مخالف لما جرى عليه الشراح من تقسيم الجرائم إلى مؤقتة ومستمرة، وتقسيم المستمرة إلى جرائم مستمرة استمراراً متجدداً، وجرائم مستمرة استمراراً تاماً. وقد دعانا إلى مخالفة الشراح أن الألفاظ التي استعملناها أكثر دقة وانطباقاً على المعاني المقصودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 (أ) من حيث الاختصاص: فالمحكمة المختصة بمحاكمة الجاني على الجريمة المؤقتة هي المحكمة التي وقع في دائرتها الفعل المكون للجريمة، لأن القضاء يتخصص بالزمان والمكان. أما المحكمة المختصة بمحاكمة الجاني على الجريمة غير المؤقتة فهي كل محكمة وقع في دائرتها الفعل المتجدد أو المستمر، ولما كان من الممكن أن يقع هذا الفعل في أمكنة متعددة فمعنى ذلك أن المحاكم المختصة بنظر الجريمة غير المؤقتة يصح أن تكون أكثر من محكمة واحدة. (ب) من حيث التقادم: ففي الجريمة المؤقتة تحسب المدة المسقطة للدعوى العمومية من وقت ارتكاب الجريمة، وفي الجريمة غير المؤقتة تحسب المدة من انتهاء حالة التجدد أو الاستمرار. (ت) من حيث تطبيق التشريعات الجديدة: لا تسري التشريعات الجديدة على ما يقع قبلها من الجرائم المؤقتة، ولكنها تسري على الجرائم غير المؤقتة التي بدأت قبل صدور التشريعات الجديدة، إذا ظلت حالة التجدد أو استمرار قائمة إلى ما بعد العمل بهذه التشريعات. (ث) من حيث قوة الشيء المقضي به: يعتبر الحكم في الجريمة المؤقتة صادراً عن الواقعة التي عرضت على المحكمة، فإذا كانت هناك وقائع أخرى سابقة لم تعرض على المحكمة، فلا يعتبر الحكم شاملاً لها ولو كانت من نوع الواقعة التي صدر عنها الحكم، وكذلك الحال في الوقائع التي حدثت بعد صدور الحكم. وإذا كانت الوقائع السابقة واللاحقة من نوع الواقعة المحكوم فيها، جاز رفع الدعوى من جديد عن الوقائع اللاحقة، وامتنع رفعها عن الوقائع السابقة. والعلة لهذه التفرقة أن قواعد التداخل تنطبق على الوقائع السابقة، وطبقاً لهذه القواعد لا يجوز رفع الدعوى عن وقائع سابقة إذا كانت مماثلة للواقعة التي حكم فيها، لأن العقوبة شرعت للتأديب والزجر، ووضعت على أنها تكفي لتحقيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 هذين المعنيين، فلا حاجة إذن تعدد العقوبات، إلا إذا وقعت وقائع جديدة بعد توقيع العقوبة (1) . أما في الجرائم الغير مؤقتة، فيعتبر الحكم شاملاً لجميع الوقائع السابقة على رفع الدعوى، ولو لم تعرض بعض هذه الوقائع على المحكمة؛ لأن كل الوقائع تكون جريمة واحدة، ومن ثم فلا يجوز رفع الدعوى من جديد عن الوقائع التي لم تعرض على المحكمة ما دام سابقة على صدور الحكم. أما الوقائع اللاحقة لصدور الحكم، فهذه يجوز رفع الدعوى من جديد عنها إذا كانت الجريمة من الجرائم المتجددة، ولا يجوز رفع الدعوى عنها إذا كانت من الجرائم المستمرة. 73 - بين الشريعة والقوانين الوضعية: تتفق الشريعة مع القوانين الوضعية فيما ذكرناه من تقسيم الجرائم إلى مؤقتة وغير مؤقتة، كما تتفق معها فيما يترتب على النقسيم، ولكن النظرية السائدة في القوانين الوضعية تقضي بأنه يمكن العقاب على الوقائع السابقة على الواقعة التي صدر الحكم فيها إذا كانت الجريمة مؤقتة؛ لأن الحكم ليس حجة إلا فيما يختص بالواقعة المحكوم فيها، وعلة الاختلاف أن الشريعة تأخذ بنظرية التداخل، وهي نظرية لم تعرفها القوانين الوضعية بعد، وإن كان بعض الشراح قد عرفوها ونادوا بها، كما سيتبين لنا عند الكلام على هذه النظرية. * * * الفصل الخامس [تقسيم الجرائم بحسب طبيعتها] المبحث الأول تقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة جرائم ضد الجماعة - وجرائم ضد الأفراد 74 - تنقسم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة إلى جرائم ضد الجماعة وجرائم ضد الأفراد: الجرائم التي تقع ضد الجماعة: هي التي شرعت عقوبتها لحفظ مصالح الجماعة،   (1) راجع الفقرة 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 سواء وقعت الجريمة على فرد، أو على جماعة، أو على أمن الجماعة ونظامها. ويقول الفقهاء: إن عقوبة هذا النوع من الجرائم شرعت حقاً لله تعالى (1) ، ومعنى هذا الاصطلاح أنها شرعت لحماية الجماعة، ولكنهم يجعلون العقوبة حقاً لله، إشارة إلى عدم جواز العفو عنها، أو تخفيفها، أو إيقاف تنفيذها. والجرائم التي تقع ضد الأفراد: هي التي شرعت عقوبتها لحفظ مصالح الأفراد، ولو أن ما يمس مصلحة الأفراد هو في الوقت ذاته ماس بمصالح الجماعة. وتعتبر جرائم الحدود من الجرائم الماسة بمصلحة الجماعة، ولو أنها في الغالب تقع على أفراد معينين، وتمس مصالحهم مساساً شديداً، كالسرقة والقذف، وليس في اعتبارها ماسة بالجماعة إنكار لمساسها بالأفراد، وإنما هو تغليب لمصلحة الجماعة على مصلحة الأفراد، بحيث لو عفا الفرد لم يكن لعفوه أثر على الجريمة والعقوبة. وجرائم القصاص والدية من الجرائم التي تقع على الأفراد، وليس معنى ذلك أنها لا تمس الجماعة وإنما معناه تغليب حق الفرد على حق الجماعة، فللفرد أن يتنازل عن القصاص والدية، وهما العقوبتان المقررتان أصلاً للجريمة، وقد أعطى له حق التنازل لأن الجريمة تمسه مساساً مباشراً، فإذا تنازل عن العقوبة لم يترك الجاني، وإنما يعاقب بعقوبة تعزيرية، حفظاً لمصلحة الجماعة التي مست مساساً غير مباشر. وجرائم التعازير بعضها يمس مصلحة الجماعة، وبعضها يمس مصلحة الأفراد والجماعة، على المعنى الذي شرحناه سابقاً. والواقع أن كل جماعة تمس مصلحة الجماعة تمس في النهاية مصلحة الأفراد، وكل جريمة تمس مصلحة الأفراد تمس في النهاية مصلحة الجماعة، ولو كان محل الجريمة حقاً خالصاً للفرد، وفي هذا يقول حق الفقهاء: "ما من حق لآدمي   (1) بدائع الصنائع ج7 ص33، فتح القدير ج4 ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 إلا ولله فيه حق، إذ من حق الله على كل مكلف ترك أذاه لغيره" (1) ، فإذا اعتبرت الشريعة بعض الجرائم ماسة بمصلحة الجماعة فذلك لأنها تمس مصلحة الجماعة أكثر مما تمس مصلحة الفرد، وإذا اعتبرت بعض الجرائم ماسة بمصلحة الأفراد فذلك لأنها تمس مصلحة الأفراد أكثر مما تمس مصلحة الجماعة. * * * المبحث الثاني تقسيم الجرائم بحسب طبيعتها الخاصة جرائم عادية - وجرائم سياسية، أي بغي 75 - التفرقة بين الجرائم العادية والجرائم السياسية: فرقت الشريعة من يوم وجودها بين الجرائم العادية وجرائم البغي؛ أي الجرائم السياسية، ولكن الشريعة راعت في هذه التفرقة مصلحة الجماعة وأمنها، والمحافظة على نظامها وكيانها، فلم تعتبر كل جريمة ارتكبت لغرض سياسي جريمة سياسية، وإن كانت قد اعتبرت بعض الجرائم العادية التي ترتكب في ظروف سياسية معينة جرائم سياسية. ولا تختلف الجريمة السياسية عن الجريمة العادية في طبيعتها، فكلاهما تتفق مع الأخرى في المحل والنوع والوسائل، وإنما يختلفان في البواعث التي تبعث عليهما. فالجريمة السياسية ترتكب لتحقيق أغراض سياسية، أو تدفع إليها بواعث سياسية، أما الجرائم العادية فالأصل فيها أن تكون بواعثها عادية، ولكن ليس ثمة ما يمنع من أن تدفع إليها بواعث سياسية، ومعنى هذا أن الجريمة العادية تختلط أحياناً بالجريمة السياسية، ولهذا كان للتفريق بين الجريمتين أهمية كبرى.   (1) شرح الزرقاني على مختصر خليل ج8 ص115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 76 - متى توجد الجريمة السياسية: ولا توجد الجريمة السياسية في الظروف العادية، فكل جريمة وقعت في الأحوال العادية هي جريمة عادية مهما كان الغرض منها والدوافع إليها، فمن يقتل رئيس الدولة لغرض سياسي اعتبرت جريمة عادية، ولو كان القاتل نفسه من المشتغلين بالسياسة، ما دام أن القتل وقع في أحوال عادية، ولقد قتل عبد الرحمن بن ملجم علي بن أبي طالب خليفة المسلمين لتحقيق غرض سياسي، فاعتبر القتل عادياً بالرغم من أن القاتل من الخوارج (1) ، وهذا هو رأي عليّ نفسه، والرأي الذي أخذ به العلماء من بعده، والرأي الذي أخذ به العلماء من بعده، فإنه قال لولده الحسن: "أحسنوا إساره، فإن عشت فأنا وليّ دمي، وإن مت فضربة كضربتي"، ولو لم يكن القتل عادياً لما اعتبر نفسه ولى الدم إن شاء عفا وإن شاء اقتص، ولما طلب من الحسن أن يقتص بضربة كضربته (2) . وإنما توجد الجريمة السياسية في الظروف غير العادية، وعلى وجه التحديد في حالة الثورة، وفي حالة الحرب الأهلية، فإذا ثار فريق من الرعية على الدولة وإذا قامت حرب بين الدولة وبين بعض رعاياها الخارجين عليها، أمكن أن توجد الجريمة السياسية إذا توفرت شروط معينة في الثوار أو المحاربين، فإذا لم تتوفر هذه الشروط، أو توفرت ولكن لم توجد حالة الثورة أو الحرب، فالجرائم التي تقع لا يمكن أن تكون جرائم سياسية، وإنما هي جرائم عادية. 77 - المجرمون السياسيون: تسمى الجريمة السياسية في اصطلاح الفقهاء "البغي"، ويسمى المجرمون السياسيون "البغاة" أو "الفئة الباغية". والبغاة كما يعرفها الفقهاء: "هم القوم الذين يخرجون على الإمام (3) بتأويل سائغ ولهم منعة وشوكة" (4) ، أو: "هم فرقة من المسلمين خالفت الإمام   (1) الخوارج فئة كانت تناقض علياً ولا يراه صالحاً للخلافة. (2) الشرح الكبير ج10 ص52. (3) رئيس الدولة أو حاكمها العام. (4) الشرح الكبير ج10 ص49 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الأعظم (1) أو نائبه لأحد شيئين: إما لمنع حق وجب عليه من زكاة، أو حكم عليها من أحكام الشريعة المتعلقة بالله أو بآدمي (2) ، أو الدخول تحت طاعته بالقول والمباشرة باليد لحاضر، والإشهاد على الدخول لمن غاب عنه، إن كان كل منهما من أهل الحل والعقد، واعتقاد ذلك ممن لا يعبأ به ولا يعرف فإنه حق؛ لخبر: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية"، أو خالفته لخلعه؛ أي إرادته خلعه (3) أي عزله، لحرمة ذلك عليهم وإن جار (4) . وإذا كان الفقهاء قد اصطلحوا على تسمية فريق الخارجين بالبغاة، فإنهم يسمون الفريق الآخر الذي لم يخرج عليه بأهل العدل. 78 - الشروط التي يجب توافرها في المجرمين والسياسيين أو البغاة: نستطيع أن نستخلص من تعريف البغاة ومما سبق الشروط التي يجب توافرها في المجرم وعمله ليعتبر مجرماً سياسياً أو باغياً: أولاً: الغرض من الجريمة: يشترط أن يكون الغرض من الجريمة إما   (1) الخليفة أو الإمام الذي بعده إمام، أو الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية. (2) الأحكام المتعلقة بالله هي الأحكام المتعلقة بصيانة مصالح الجماعة، والأحكام المتعلقة بآدمي هي ما وضع لصيانة مصلحة الأفراد. (3) الرأي الغالب في المذاهب الأربعة أن الإمام لا ينعزل بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق، ومن ثم فلا يجب الخروج عليه بقصد عزله وتولية غيره؛ لأن إباحة الخروج عليه تدعو إلى عدم الاستقرار وكثرة الفتن والثورات واضطراب أمور الناس. والأقلية ترى أن للأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه، وأنه ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، فإذا وجد من الإمام ما يوجب اختلال أحوال المسلمين، وانتكاس أمور الدين، كان للأمة خلعه كما كان له نصبه؛ لانتظام شئون الأمة وإعلائها، وإذا أدى خلعه إلى فتنة احتمل أدنى المضرتين. وهناك من يرى خلعه إذا لم يستلزم فتنة. وروى عن مالك أنه قال: من قام على إمام يريد إزالة ما بيده إن كان- أي المقوم عليه- مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذب عنه والقيام معه، أما غيره فلا، دعه وما يراد منه ينتقم الله من ظالم بظالم. راجع: شرح الزرقاني ج8 ص60، وحاشية ابن عابدين ج3 ص429، والأحكام السلطانية ص14، والإقناع ج4 ص92.. (4) شرح الزرقاني على مختصر خليل ج8 ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 عزل رئيس الدولة أو الهيئة التنفيذية، وإما الامتناع عن الطاعة، فإذا توفر الغرض على هذا الوجه مع توفر الشروط الأخرى كانت الجريمة سياسية والمجرم سياسياً. أما إذا كان الغرض من الجريمة إحداث أي تغيير يتنافى مع نصوص الشريعة، كإدخال نظام غير إسلامي يخالف النظام، أو تمكين دولة أجنبية من التسلط على البلاد، أو إضعاف قوة الدولة أمام غيرها من الدول، إذا كان الغرض من الجريمة شيئاً من هذا أو مثله، فإن الجريمة لا تكون بغياً - أي سياسية - وإنما هي إفساد في الأرض، ومحاربة لله ورسوله، وهي جريمة عادية قررت لها الشريعة عقوبة قاسية (1) . ثانياً: التأول: يشترط في البغاة - أي المجرمين - أن يكونوا متأولين، أي أن يدعوا سبباً لخروجهم، ويدللوا على صحة ادعائهم، ولو كان الدليل في ذاته ضعيفاً، كادعاء الخارجين على الإمام عليّ بأنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم، وكتأول بعض مانعي الزكاة في عهد أبي بكر بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن كانت صلاته سكناً لهم، طبقاً لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} إلى قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] ، فإذا لم يدعوا سبباً للخروج، أو ادعوا سبباً لا تقره الشريعة إطلاقاً، كأن طلبوا عزل رئيس الدولة دون أن ينسبوا إليه شيئاً، أو طلبوا عزله لأنه ليس من بلدهم، فهم قطاع طريق يسعون في الأرض بالفساد، ولهم عقوبتهم الخاصة، وليسوا بأي حال بغاة أو مجرمين سياسيين (2) . ثالثاً: الشوكة: يشترط في الباغي - أي المجرم السياسي - أن يكون ذا شوكة وقوة لا بنفسه بل بغيره ممن هم على رأيه، فإن لم يكن من أهل الشوكة على هذا   (1) أسنى المطالب ج4 ص111، 112، المغني ج10 ص52، نهاية المحتاج ج7 ص382، البحر الرائق ج5 ص151. (2) البحر الرائق ج5 ص151، 154. شرح الزرفاني ج8 ص62. نهاية المحتاج ج7 ص382، 383. المغني ج10 ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الوصف فلا يعتبر مجرماً سياسياً ولو كان متأولاً (1) . رابعاً: الثورة أو الحرب: ويشترط بعد ذلك كله أن تقع الجريمة في ثورة أو حرب أهلية اشتعلت لتنفيذ الغرض من الجريمة، فإن وقعت الجريمة في غير حالة الثورة أو الحرب الأهلية، فهي ليست بغياً؛ أي جريمة سياسية، وإنما هي جريمة عادية، يعاقب فاعلها بالعقوبة العادية المقررة لها. وتلك هي سنة عليّ بن أبي طالب في الخوارج، فلقد عرض قوم من الخوارج به، فنادوا وهو يخطب على منبره: لا حكم إلا الله، يعرضون به لأنه قبل التحكيم، فرد عليّ من على منبره قائلاً: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، لا نبدؤكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، أي ما دمتم لم تثوروا علينا (2) . 79 - حقوق البغاة ومسئوليتهم قبل الثورة: للبغاة أن يدعوا إلى ما يعتقدون بالطريق السلمي المشروع، ولهم الحرية في أن يقولوا ما يشاءون في حدود نصوص الشريعة، وللعادلين أن يردوا عليهم ويبينوا لهم فساد آرائهم، فإذا خرج أحد من الفريقين في قوله أو دعوته على النصوص الشرعية عوقب على جريمته باعتبارها جريمة عادية، فإن كان قاذفاً حد، وإن كان ساباً عزر، وإن أرتكب احد البغاة أية جريمة عوقب عليها باعتبارها جريمة عادية (3) . وللبغاة حق الاجتماع، فإذا تحيزوا أو اجتمعوا في مكان معين، فلا سلطان لأحد عليهم، ما داموا لم يمتنعوا عن حق، أو يخرجوا عن طاعة. وهذه أيضاً   (1) نهاية المحتاج ج7 ص385. (2) المغني ج10 ص58. الشرح الكبير ج10 ص71، 72. أسنى المطالب ج4 ص112. نهاية المحتاج ج7 ص384. (3) الأحكام السلطانية ص58. المغني ج10 ص60. أسنى المطالب ج4 ص112- 114. نهاية المحتاج ج7 ص376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 سنة علي بن أبي طالب في الخوارج، فقد اعتزلت طائفة من الخوارج علياً عليه السلام بالنهروان، فولى عليهم عاملاً أقاموا على طاعته زمناً وهو لهم موادع، إلى أن قتلوه، فأنفذ إليهم علي: أن سلموا القتلة، فأبوا، فقالوا: كلنا قتلة، فلما خرجوا عن الطاعة وجاهروا بالعصيان قاتلهم عليّ (1) . ويشترط مالك والشافعي وأحمد أن يبدأ أهل البغي بالقتال حتى يقاتلوا أهل العدل وفي هذه الحال تستحل دماؤهم. أما أبو حنيفة فيكتفي بتجمعهم وامتناعهم ويرى في ذلك ما يكفي لقتالهم (2) . 80 - حقوق البغاة ومسئوليتهم أثناء الثورة وما بعدها: فإذا اشتعلت الثورة أو قامت الحرب الأهلية كان على ولي الأمر أن يقصد من القتال ردع البغاة لا قتلهم وإفنائهم، وأن يقاتل من أقبل منهم، ويكف عمن أدبر وهرب، وأن لا يجهز عن جريحهم، وأن لا يقتل أسيرهم (3) أو من ألقوا سلاحهم منهم، وأن لا يصادر أموالهم، وأن لا يستولي على نساؤهم وأولادهم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "منعت دار الإسلام ما فيه" (4) . فإذا انتهت حالة الحرب وانطفأت الثورة، وجب على ولي الأمر أن يرد على البغاة أموالهم التي في يد أهل العدل، وما تلف منها في غير قتال فهو مضمون على متلفه، وأما ما أتلفه أهل البغي في ثائرة الحرب من نفس ومال فهو هدر،   (1) الأحكام السلطانية ص48، البحر الرائق ج5 ص152، المغني ج10 ص53- 58، نهاية المحتاج ج7 ص383. (2) شرح فتح القدير ج4 ص411. (3) يرى أبو حنيفة قتل الأسير إذا أقتضت المصلحة ذلك، على خلاف باقي الأئمة، البحر الرائق ج5 ص153. (4) الأحكام السلطانية ج49، البحر الرائق ج5 ص152- 153، المغني ج10 ص63، نهاية المحتاج ج7 ص386- 387، شرح الزرقاني ج4 ص61- 62، تبصرة الحكام ج2 ص249، أسنى المطالب ج4 ص 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وما أتلفوه على أهل العدل في غير ثائرة الحرب من نفس ومال فهو مضمون عليهم، وهم مسئولون عنه، وهذا هو الرأي الراجح. أما الرأي المضاد فيرى أصحابه تضمين البغاة ما أتلفوه في الحرب، وحجتهم أن المعصية لا تبطل حقاً ولا تسقط غرماً. أما حجة أصحاب الرأي الأول فهي أن الفتنة العظمى وقعت أيام علي ومعاوية، فأجمع الصحابة على أن لا يقام حد على رجل ارتكب محرماً بتأويل القرآن، ولا يغرم مالاً أتلفه بتأويل القرآن، ويحتجون كذلك بأن البغاة طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ، فلا تضمن ما أتلفته على أهل العدل، كما لا يضمن أهل العدل ما أتلفوه، ولآن تضمن أهل البغي يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة (1) . وإذا كان البغاة لا يسألون عن الجرائم التي ارتكبوها أثناء الثورة من إهلاك للأنفس والأموال، فإن لولي الأمر - إن لم يعف عن جرائمهم - أن يعاقبهم على خروجهم عن الطاعة بعقوبة تعزيرية إن رأى في ذلك مصلحة، ولكن يشترط أن لا تكون هذه العقوبة القتل عند مالك والشافعي وأحمد، لأنهم لا يبيحون قتل الجريح ولا الأسير فأولى أن لايباح قتل المسلم، أما أبو حنيفة فيبيح قتل الأسير للمصلحة العامة ويبيح قتل البغاة على أثر الظهور عليهم، فالقياس عنده أن يقتل الباغي تعزيزاً. وعلى كل حال فإن سلطة القاضي في الجرائم التعزيرية واسعة بحيث يجوز له أن يختار العقوبة الملائمة من عدة عقوبات، كما أن لولي الأمر حق العفو عن العقوبة كلها أو بعضها. 81 - عقوبة البغاة أو المجرمين السياسيين في الشريعة الإسلامية: ظاهر مما تقدم أن عقوبة البغاة تختلف باختلاف الأحوال، فالجرائم التي   (1) نهاية المحتاج ج7 ص386- 387، البحر الرائق ج5 ص153، شرح الزرقاني ج8 ص61- 62، الأحكام السلطانية ص50، أسنى المطالب ج4 ص114، المغني ج10 ص60- 61، الشرح الكبير ج10 ص61- 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 يرتكبونها قبل الثورة والحرب أو بعدها يعاقبون عليها بعقوباتها العادية؛ لأنها جرائم عادية لم تقع في حالة ثورة أو حرب، أما الجرائم التي ترتكب أثناء الثورة أو الحرب الأهلية، فما اقتضته منها حالة الثورة أو الحرب: كمقاومة رجال الدولة وقتلهم، والاستيلاء على البلاد وحكمها، والاستيلاء على الأموال العامة وجبايتها، وإتلاف السكك والكباري، وإشعال النار في الحصون، ونسف الأسوار والمستودعات، وغير ذلك مما تقتضيه طبيعة الحرب، فهذه الجرائم السياسية، وتكتفي الشريعة فيها بإباحة دماء البغاة، وإباحة أموالهم بالقدر الذي يقتضيه ردعهم والتغلب عليهم، فإذا ظهرت الدولة عليهم، وألقوا سلاحهم، عصمت دماؤهم وأموالهم، وكان لولي الأمر أن يعفو عنهم، أو أن يعزَّرهم على خروجهم لا على الجرائم التي ارتكبوها أثناء خروجهم، فعقوبة الخروج إذن هي التعزير، وهو جريمة سياسية، أما عقوبة الجرائم التي تقتضيها حالة الحرب أو الثورة فهي القتل، بالشروط التي ذكرناها سابقاً. هذا هو حكم الجرائم التي تقع أثناء الثورة أو الحرب وتقتضيها طبيعة الحرب والثورة، أما الجرائم التي تقع من البغاة ولا تستلزمها طبيعة الثورة أو الحرب، فهذه تعتبر جرائم عادية يعاقبون عليها بالعقوبات العادية، ولو أنها وقعت أثناء الثورة أو الحرب، كشرب الخمر، والزنا، وقتل أحد الثائرين زميلاً له أو سرقة ماله (1) . 82 - بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية: كانت القوانين الوضعية إلى ما قبل الثورة الفرنسية تعتبر الجريمة السياسية أشد خطراً من الجريمة العادية، وكانت تعامل المجرم السياسي معاملة تتنافى مع أبسط قواعد العدالة، فتعاقبه بعقوبات قاسية، وتصادر ماله، وتأخذ أهله بذنبه، وتحرمه من الحقوق   (1) تكلمنا هنا عن البغي - أي الجرائم السياسية- بالقدر الذي يبين الحدود الفاصلة بين الجريمة العادية والجريمة السياسية وبين العناصر الأساسية للجريمة السياسية. اما التفاصيل والدقائق فموضعها الجزء الثاني من كتابنا هذا حين نتكلم عن البغي كجريمة من الجرائم الخاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 التي يتمتع بها المجرمون العاديون. ثم ابتدأت القوانين الوضعية تغير نظرتها إلى الجريمة السياسية بعد الثورة الفرنسية، وبعد أن كثرت الثورات في البلاد الأوروبية، وتعددت الانقلابات في النظم السياسية، فأصبح المجرم السياسي ينظر إليه نظرة عطف وإشفاق، ووضعت للجرائم السياسية عقوبات هي في مجموعها أخف من العقوبات العادية. وقد اختلف الشراح في المميز الذي يميز بين الجريمة العادية والجريمة السياسية، فرأى فريق أن المميز الوحيد هو غرض المجرم من الجريمة، فإن كان يرمي إلى تحقيق غرض سياسي فالجريمة سياسية وإلا فهي عادية. وعيب هذا المذهب أنه يحكَّم الباعث على الجريمة في تحديد ماهية الجريمة، ويخوَّل للقتلة والسارقين أن يتمتعوا بميزات لا يصح أن يتمتعوا بها. ورأى فريق آخر أن العبرة في تحديد نوع الجريمة بطبيعة الحق المعتدي عليه بصرف النظر عن الدوافع إلى الجريمة. فلا تعتبر جريمة سياسية طبقاً لهذا الرأي إلا الجريمة التي تمس كيان الدولة أو نظامها. وعيب هذا الرأي أنه يجعل بعض الجرائم التي لا شك في أنها سياسية جرائم عادية، كالجرائم التي ترتبط بأعمال الثورة أو الحرب الأهلية. وقد رأى فريق من الشراح أن يفرقوا بين الجرائم التي ترتكب في حالة ثورة أو حرب أهلية، والجرائم التي ترتكب في الأحوال العادية، واعتبروا الجرائم التي تقع في الأحوال العادية جرائم عادية ولو كانت الدوافع فيها سياسية، أما الجرائم التي تقع أثناء الثورة أو الحرب الأهلية فهي جرائم سياسية إذا كان للجريمة علاقة بالثورة أو الحرب الأهلية، وكانت من الأفعال التي تبيحها الحرب النظامية، وإلا فهي جريمة عادية. وهذا الرأي هو الذي أقره معهد القانون الدولي. والاتجاه الحديث في القوانين الوضعية يعتبر الجرائم الموجهة ضد النظام الاجتماعي كجرائم الشيوعية والفوضوية جرائم عادية، كما يعتبر كل الجرائم الماسة باستقلال الدولة جرائم عادية؛ لأنها تمس الوطن ولا تمس نظام الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والحكام، وهذا هو الرأي الذي أقره معهد القانون الدولي في سنة 1892، حيث قرر أنه لا يعد من الجرائم السياسية من حيث تطبيق قواعد تسليم المجرمين الأعمال الجنائية الموجهة ضد النظام الاجتماعي (1) . ويتبين مما سبق أن أحدث الآراء في القوانين الوضعية تعتبر الجريمة سياسية إذا كانت موجهة ضد الحكام وشكل الحكم الداخلي فقط، لا ضد النظام الاجتماعي ولا ضد الدولة واستقلالها وعلاقتها بغيرها من الدول، وبشرط أن تقع في حالة ثورة أو حرب أهلية، وأن تكون مما تقتضيه طبيعة الثورة أو الحرب، وهذا يتفق تماماً مع الحدود التي وضعتها الشريعة للجريمة السياسية من ثلاثة عشر قرناً. ولا فرق بين الشريعة والقوانين في هذه النقطة إلا أن الشريعة قد سبقت بالتفرقة بين الجرائم العادية والسياسية، وتحديد الجرائم السياسية، وأن القوانين تسير في أثر الشريعة وتأخذ بمبادئها. * * *   (1) الموسوعة الجنائية ج3 ص47-53. شرح قانون العقوبات لكامل مرسي والسعيد مصطفى ص79-85. القانون الجنائي لعلي بدوي ص76-88. القانون الجنائي لأحمد صفوت ص73-76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 القسم الثاني من الكتاب الأول الأركان العامة للجريمة 83 - أركان الجريمة: قلنا في تعريف الجريمة: إن الجرائم محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو بتعزير، وأن المحظورات هي: إما إتيان فعل منهي عنه، أو ترك فعل مأمور به، وقلنا: إن المحظورات وصفت بأنها شرعية؛ لأنها يجب أن تكون محظورة بنصوص الشريعة، وأن الفعل والترك لا يعتبر بذاته جريمة إلا إذا كان معاقباً عليه. ولما كانت الأوامر والنواهي تكاليف شرعية فإنها لا توجه إلا لكل عاقل فاهم للتكليف، إذ التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة، ومن استطاع أن يفهم أصل الخطاب ولا يفهم تفاصيله من كونه أمراً أو نهياً، ومقتضياً للثواب والعقاب، كالمجنون والصبي الذي لا يميز، فهو في عجزه عن فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة في العجز عن فهم أصل الخطاب، ومن ثم يتعذر تكليفه؛ لأن المقصود من التكليف كما يتوقف على فهم أصل الخطاب فهو يتوقف أيضاً على فهم تفاصيله (1) . ويتبين مما سبق أن للجريمة بصفة عامة أركاناً لا بد من توافرها، وهذه الأركان ثلاثة:   (1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص215، المستصفي للغزالي ج1 ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 1 - أن يكون هناك نص يحظر الجريمة ويعاقب عليها، وهو ما نسميه اليوم في اصطلاحنا القانوني بالركن الشرعي للجريمة. 2 - إتيان العمل المكون للجريمة سواء كان فعلاً أو امتناعاً، وهذا ما نسميه في اصطلاحنا القانوني بالركن المادي للجريمة. 3 - أن يكون الجاني مكلفاً أي مسئولاً عن الجريمة، وهذا ما نسميه اليوم بالركن الأدبي. هذه هي الأركان العامة التي يجب توفرها بصفة عامة في كل جريمة، ولكن توفر هذه الأركان العامة لا يغني عن وجوب توفر الأركان الخاصة لكل جريمة على حدة حتى يمكن العقاب عليها، كركن الأخذ خفية في السرقة، وركن الوطء في جريمة الزنا، وغير ذلك من الأركان الخاصة التي تقوم عليها الجرائم المعينة بذواتها. والفرق بين أركان الجريمة العامة وأركانها الخاصة: أن الأركان العامة واحدة في كل جريمة، بينما الأركان الخاصة في عددها ونوعها باختلاف الجريمة. وقد جرى الفقهاء الإسلاميون على بحث أركان الجريمة العامة وأركانها الخاصة بمناسبة بحث كل جريمة، ولكنا رأينا مجاراة للتطور الحديث في التأليف أن نبحث الأركان العامة في القسم الجنائي العام، وأن نترك بحث الأركان الخاصة للقسم الجنائي الخاص الذي يتناول الكلام على الجرائم واحدة بعد واحدة بصفة خاصة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الباب الأول الركن الشرعي للجريمة 84 - توجب الشريعة لاعتبار الفعل جريمة أن يكون هناك نص يحرم هذا الفعل، ويعاقب علي إتيانه: وهذا ما نسميه اليوم: الركن الشرعي للجريمة. ووجود النص المحرم للفعل المعاقب عليه لا يكفي بذاته للعقاب على كل فعل وقع في أي وقت وفي أي مكان ومن أي شخص، وإنما يشترط للعقاب على الفعل المحرم أن يكون النص الذي حرمه نافذ المفعول وقت اقتراف الفعل، وأن يكون سارياً على المكان الذي اقترف فيه الفعل، وعلى الشخص الذي اقترفه، فإذا تخلف شرط من هذه الشروط امتنع العقاب على الفعل المحرم. فالكلام على الركن الشرعي يقتضي بحث المواضيع الآتية، وسنخصص لكل منها فصلاً خاصاً: 1 - النصوص المقررة للجرائم والعقوبات؛ أي الأحكام الجنائية الشرعية. 2 - سريان النصوص الجنائية على الزمان. 3 - سريان النصوص الجنائية على المكان. 4 - سريان النصوص الجنائية على الأشخاص. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الفصل الأول النصوص المقررة للجرائم والعقوبات أي الأحكام الجنائية الشرعية 85 - الكلام على الأحكام الجنائية الشرعية يقتضي الكلام على: أولاً: الأحكام وأثرها في الجريمة والعقوبة. ثانياً: أدلة الأحكام الجنائية الشرعية؛ أي مصادر التشريع الجنائي. ثالثاً: تفسير الأحكام الجنائية. رابعاً: تعارض - أي النصوص - ونسخها وبطلانها. خامساً: علاقة الأحكام الشرعية بالأحكام القانونية. وسنخصص لكل واحد من هذه المواضيع مبحثاً خاصاً. * * * المبحث الأول الأحكام الجنائية الشرعية وأثرها في الجريمة والعقوبة 86 - تمهيد: يقسم الفقهاء الأحكام الشرعية - أي النصوص - إلى نوعين: أحكام تكليفية، وأحكام وضعية. فالحكم التكليفي: هو ما اقتضى طلب فعل من المكلَّف، أو كفه عن فعل، أو تخييره بين فعل والكف عنه (1) ، ويسمى هذا الحكم تكليفيًّا؛ لأنه يتضمن إلزام المكلف إتيان فعل، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى   (1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص181 وما بعدها، المستصفي للغزالي ج1 ص65 وما بعدها، أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ، أو إلزام المكلف الكف عن فعل، مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء:33] ، وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [الإسراء:32] ، أو تخيير المكلف في إتيان الفعل والكف عنه، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} [المائدة:2] ، وقوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . والحكم الوضعي: هو ما اقتضى جعل شئ سبباً لشيء، أو شرطاً له، أو مانعاً منه، وسمي الحكم وضعياً لأنه يقتضي: 1 - وضع أسباب لمسببات، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، فقد اقتضى الحكم الأول جعل السرقة سبباً في قطع يد السارق، واقتضى الحكم الثاني جعل الزنا سبباً لجلد الزاني. 2 - أو يقتضي وضع شروط لمشروطات، كقوله تعالى: {لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] . فهذا الحكم يقتضي اشتراط أربعة شهود لإثبات جريمة الزنا. ومثل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع إلا في ربع دينار" فهذا الحكم يشترط لقطع يد السارق أن تبلغ قيمة المسروق ربع دينار فأكثر. 3 - أو يقتضي وضع موانع من أحكام، مثل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع في ثمر معلق"، فهذا الحكم يقتضي جعل تعليق الثمر - أي عدم حصد الحاصلات والثمار - مانعاً من القطع في سرقتها. ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ميراث لقاتل"، فهذا الحكم يقتضي جعل القتل الحاصل من الوارث مانعاً له من الإرث (1) .   (1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص81 وما بعدها، المستصفي للغزالي ج1 ص93، أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص74 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 والفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي يظهر من وجهين: أولهما: أن الحكم التكليفي يقصد به طلب فعل أو الكف عنه، أو التخيير بين إتيان الفعل وتركه. أما الحكم الوضعي فلا يقصد به طلب ولا كف ولا تخيير، ولكن المقصود منه بيان الأسباب والشروط والموانع. ثانيهما: أن الحكم التكليفي يكون دائماً في مقدور المكلَّف، فيستطيع أن يفعله أو يتركه إن شاء؛ أما الحكم الوضعي فقد يكون أمراً في مقدور المكلف، وقد لا يكون في مقدوره. وينبغي أن نلاحظ أن النص الواحد قد يشتمل على حكم تكليفي وحكم وضعي في آن واحد، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} ، فهذا النص يشتمل على حكم تكليفي هو طلب الكف عن السرقة، ويشتمل في الوقت نفسه على حكم وضعي هو جعل السرقة سبباً في قطع يد السارق. وليس يهمنا فيما يتعلق بالنص على الجريمة إلا الحكم التكليفي المقتضي طلب فعل من المكلف أو كفه عن فعل. أما الأحكام التكليفية المخيرة فلا يعاقب على تركها أو إتيانها، ولا يعتبر إتيانها أو تركها جريمة، على الرأي الراجح. وفيما يتعلق بالنص على العقوبة يهمنا الحكم الوضعي، سواء كان سبباً أو شرطاً أو مانعاً؛ لأنه يبين العقوبة وأسبابها وشروطها وموانعها. 87 - قواعد أصولية شرعية: من القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية: أنه "لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص"، أي أن أفعال المكلف المسؤول لا يمكن وصفها بأنها محرمة ما دام لم يرد نص بتحريمها، ولا حرج على المكلف أن يفعلها أو يتركها حتى ينص على تحريمها. وهناك قاعدة أساسية أخرى تقضي بأن: "الأصل في الأشياء والأفعال الإباحة"، أي أن كل فعل أو ترك مباح أصلاً بالإباحة الأصلية، فما لم يرد نص بتحريمه فلا مسؤولية على فاعله أو تاركه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وهاتان القاعدتان (1) تؤديان معنى واحداً هو أنه لا يمكن اعتبار فعل أو ترك جريمة إلا بنص صريح يحرم الفعل أو الترك، فإذا لم يرد نص يحرم الفعل أو الترك فلا مسؤولية ولا عقاب على فاعل أو تارك. ولما كانت الأفعال المحرمة لا تعتبر جريمة في الشريعة بتحريمها وإنما بتقرير عقوبة عليها، سواء كانت العقوبة حداً أو تعزيراً، فإن المعنى الذي يستخلص من ذلك كله هو أن قواعد الشريعة الإسلامية تقضي بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص. وهناك قاعدة أصولية ثالثة تقضي بأنه: "لا يكلف شرعاً إلا من كان قادراً على فهم دليل التكليف أهلاً لما كلف به، ولا يكلف شرعاً إلا بفعل ممكن مقدور للمكلف معلوم له علماً يحمله على امتثاله" (2) . فهذه القاعدة تبين الشروط الواجب توفرها في المكلف؛ أي الشخص المسؤل، والشروط الواجب توفرها في الفعل المكلف به. فأما المكلف فيشترط فيه: أولاً: أن يكون قادراً على فهم دليل التكليف، أي أن يكون في استطاعته فهم النصوص الشرعية التي جاءت بالحكم التكليفي؛ لأن العاجز عن الفهم لا يمكن أن يمتثل ما كلف به. ثانياً: أن يكون أهلاً لما كلف به؛ أي أن يكون أهلاً للمسئولية وأهلاً للعقوبة. أما الفعل المكلف به فيشترط فيه:   (1) القاعدة الأخيرة يأخذ بها أكثر الحنفية والشافعية، والقاعدة الأولى يقول بها غيرهم وهم الذين يرون أن الإجابة تستدعي مبيحاً والمبيح هو الله تعالى إذا خير بين الفعل وتركه بخطابه، فإذا لم يكن خطاب لم يكن تخيير ولا إباحة. فالأفعال عند هؤلاء لا محظورة ولا مباحة ولا حرج في إتيانها أو تركها حتى ينص على حظرها أو إباحتها. ... وهناك فريق يأخذ بالقاعدة الثانية على أساس أن معنى الإباحة هو أن لا حرج في إتيان الفعل. ... وقد كان هذا الخلاف سبباً في وضع هاتين القاعدتين الأصوليتين. ومن شاء أن يستزيد فليراجع: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص130 وما بعدها. والمستصفي للغزالي ج1 ص63 وما بعدها. ومسلم الثبوت ج1 ص49. والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج1 ص52 وما بعدها. (2) أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أولاً: أن يكون ممكناً، فلا تكليف بمستحيل. ثانياً: أن يكون مقدوراً للمكلف؛ أي في قدرة الشخص إثباته أو تركه، فإن لم يكن كذلك فلا يصح التكليف به. ثالثاً: أن يكون الفعل بعد إمكانه وقدرة المكلف عليه معلوماً للمكلف علماً تاماً يحمله على الامتثال، والعلم التام الذي يحمله على الامتثال يقتضي: (أ) العلم بالأحكام التكليفية، ولا تكون معلومة إلا إذا نص عليها ونشر نصها على الكافة، فمن لم يعلم بأمر أو نهي لا يمكن أن يأتمر به أو ينتهي عنه. وتطبيق هذا الشرط على الجرائم يعني أن لا جريمة بلا نص ينشر على الناس. (ب) أن يكون في الحكم ما يحمل المكلف على الامتثال ويكفه عن العصيان، وهذا يقتضي علم المكلف بأنه سيعاقب على عدم الطاعة. وتطبيق هذا الشرط على الجرائم معناه أن النص على الجريمة يقتضي النص على العقوبة. وظاهر بجلاء من هذه القاعدة الأصولية أنها تعني - كالقاعدتين السابقتين - أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص. 88 - مصدر هذه القواعد الأصولية: وهذه القواعد الأصولية التي تقطع بأن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في الشريعة الإسلامية، لا تستند فيما جاءت به إلى العقل والمنطق، ولا تستند إلى نصوص الشريعة العامة التي تأمر بالعدل والإحسان وتحرم الظلم والحيف، وإنما تستند إلى نصوص خاصة صريحة في هذا المعنى، منها قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاًًًًًًً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص:59] ، وقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ، وقوله: {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام:19] ، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وقوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، فهذه النصوص قاطعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 في أن لا جريمة إلا بعد بيان، ولا عقوبة إلا بعد إنذار، وأن الله لا يأخذ الناس بعقاب إلا بعد أن يبين لهم وينذرهم على لسان رسله، وأنه ما كان ليكلف نفساً إلا بما تطيقه. 89 - متى وجدت قاعدة "لا جريمة ولا عقوبة بلا نص"؟: وجدت هذه القاعدة في الشريعة الإسلامية من مدة تزيد على ثلاثة عشر قرناً، حيث جاءت بها نصوص القرآن كما بينا، وبهذا تمتاز الشريعة على القوانين الوضعية التي لم تعرف هذه القاعدة إلا في أعقاب القرن الثامن عشر الميلادي، حيث أدخلت في التشريع الفرنسي كنتيجة من نتائج الثورة الفرنسية، وقررت لأول مرة في إعلان حقوق الإنسان الصادر في سنة 1789، ثم انتقلت القاعدة من التشريع الفرنسي إلى غيره من التشريعات الوضعية. 90 - كيف طبقت الشريعة القاعدة؟: بينا فيما سبق أن القاعدة العامة في الشريعة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص. ودللنا على ذلك بإيراد النصوص الشرعية التي تقرر القاعدة، وبإيراد القواعد الأصولية التي وضعت تطبيقاً لهذه القاعدة العامة. وإذا كانت الشريعة تقضي بتطبيق القاعدة على كل الجرائم فإن الشريعة لا تطبق القاعدة على غرار واحد في كل الجرائم، بل إن كيفية التطبيق تختلف بحسب ما إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، أو جرائم القصاص والدية، أو جرائم التعازير. وسنرى فيما يلي كيف طبقت الشريعة القاعدة على مختلف أنواع الجرائم. * * * الفرع الأول لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم الحدود 91 - أثر القاعدة في جرائم الحدود: طبقت الشريعة قاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص تطبيقاً دقيقاً في جرائم الحدود، وهذا ظاهر بجلاء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 تتبع النصوص التي وردت في هذه الجرائم. وجرائم الحدود سبع: (1) الزنا (2) القذف (3) الشرب (4) السرقة (5) الحرابة (6) الردة (7) البغي. ففي جريمة الزنا يقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [الإسراء: 32] ، ويقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني فقد جل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة". فهذه النصوص تحرم الزنا وتعاقب عليه بالتغريب والجلد والرجم، وهي كل العقوبات المقررة للزنا في الشريعة. وفي جريمة القذف يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، فهذا النص يحرم القذف ويعاقب عليه بعقوبة أصلية هي الجلد، وبعقوبة تبعية هي الحرمان من حق أداء الشهادة، وليس للقذف في الشريعة عقوبة غير هاتين العقوبتين. وفي جريمة الشرب يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام"، ويقول: "ما أسكر كثيره قليله حرام". وهذه النصوص قاطعة في تحريم تناول الخمر والمسكرات. أما العقوبة فقد عين النبى - صلى الله عليه وسلم - نوعها بقوله: "اضربوه"، ولكن لم يؤثر عنه أنه حدد مقدار العقوبة تحديداً قاطعاً. وقد روى عنه أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ضرب أربعين في الخمر، وروي عنه أن الضرب لم يكن محدد العدد، وفي عهد عمر - رضي الله عنه - أجمع الصحابة على أن يضرب شارب الخمر ثمانين جلدة قاسياً على القاذف؛ لأن الشارب إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. فالعقوبة إذن تحددت بقول الرسول وعمله وإجماع الصحابة. وسنة الرسول مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، وإجماع الصحابة مصدر آخر من مصادر التشريع، أي أن السنة والإجماع يقوم كلاهما مقام النص على العقوبة. وفي جريمة السرقة يقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة: 38] ، فهذا النص يحرم السرقة ويحدد عقوبتها. وفي جريمة الحرابة يقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] ، فهذا النص يحرم الحرابة والسعي بالفساد في الأرض، ويعاقب على ذلك بالنفي والقطع والقتل والصلب. وفي جريمة الرِدة يقول الله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، ويقول: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه"، ويوقل أيضاً: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". فهذه النصوص تحرم الردة ويعاقب عليها بالقتل. وفي جريمة البغي يقول الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أتاكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وأمركم على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه"، ويقول: "ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق هذه الأمة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائناً من كان". فهذه النصوص تحرم بغي طائفة على طائفة، وتجعل جراء البغي القتال والقتل حتى يفيء الباغي ويرجع عن بغيه. هذه هي جرائم الحدود ليس فيها جريمة إلا نُصّ على تحريمها ونُصّ على عقوبتها، بل لقد عينت الشريعة العقوبات في جرائم الحدود تعييناً دقيقاً بحيث لم تترك للقاضي أيه حرية في اختيار نوع العقوبة أو تقدير كمها، حتى ليمكن القول بأن هذه العقوبات ذات حد واحد حكماً، وإن كان بعضها يحتمل بطبيعته أن يكون ذا حدين. فلا تسمح الشريعة للقاضي أن ينقص العقوبة أو يستبدل غيرها بها أو يوقف تنفيذها، ولم تجعل الشريعة لظروف الجريمة أو المجرم أي أثر على عقوبات جرائم الحدود، كما أنها لم تجعل للسلطة التنفيذية حق العفو عن هذه العقوبات. ومن ثم سميت هذه العقوبات بالعقوبات المقدرة حقاً لله تعالى، إشارة إلى أنها محددة النوع والمقدار، وأنها لازمة فلا يمكن المساس بها. * * * الفرع الثاني لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم القصاص والدية 92 - أثر القاعدة في جرائم القصاص والدية: طبقت الشريعة القاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص تطبيقاً دقيقاً في جرائم القصاص والدية، وليس أدل على ذلك من استعراض النصوص التي وردت في هذه الجرائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أما الجرائم التي يعاقب عليها بالدية فهي: جرائم القصاص إذا عفي عن القصاص أو امتنع القصاص لسبب شرعي، ثم القتل شبه العمد، والقتل الخطأ، وإتلاف الأطراف خطأ، والجرح الخطأ. ففي جريمة القتل العمد يقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33] ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] ، ويقول جل شأنه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من اعتبط مؤمناً بقتل فهو قود به إلا إن رضى ولى المقتول"، ويقول: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا فالقود - أي القصاص - وإن أحبوا فالعقل - أي الدية"، ويقول: "في النفس مائة من الإبل". فهذه النصوص تحرم القتل العمد وتجعل عقوبته القصاص، إلا إذا عفا ولي القتيل فتكون العقوبة الدية، وهي مائة من الإبل. وفي جريمة إتلاف الأطراف عمداً والجرح العمد يقول الله جل شأنه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] ، ويقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] ، ويقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، ويقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم} [النحل: 126] ، فهذه النصوص صريحة في تحريم إتلاف الأطراف والجراح، وفي جعل عقاب الجريمة القصاص في حالة العمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وفي جريمة القتل شبه العمد يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ: قتيل السوط، والعصا، والحجر، مائة من الإبل"، فهذا النص يحرم القتل شبه العمد، ويعاقب عليه بالدية. وفي جريمة القتل الخطأ يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92] ، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بنو مخاض"، فهذان النصان يحرمان القتل الخطأ، ويعاقبان عليه بالدية، ويبينان مقدارها وأوصافها. وفي قطع الأطراف والجراح خطأ حدد الرسول العقوبة على أساس أن ما كان في الجسم منه عضو واحد كالأنف والذكر واللسان ففيه الدية كاملة، وما كان في الجسم منه عضوان ففيه نصف الدية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "في الأنف إذا أوعب مارنه جدعاً الدية"، وقال: "وفي اللسان الدية، وفي الذكر الدية"، وقال: "في الصلب الدية"، وقال: "في اليدين الدية وفي الرجلين الدية"، وقال: "في الأنثيين الدية"، وقال: "في الأذنين الدية"، وقال: "في العين خمسون من الإبل"، وقال: "في السن خمسة من الإبل"، وأوجب الرسول الدية في إذهاب المعاني، كالسمع والبصر والعقل. أما الجراح فقد حدد النبي عقوبة بعضها دون بعض، فجعل أرش الموضحة خمساً من الإبل، وأرش الهاشمة عشراً من الإبل، وفي الأمة والدامغة (1) ثلث   (1) الموضحة والهاشمة والآمة والدامغة أسماء لجراح تصيب الرأس والوجه، وتسمى الشجاجز والموضحة: هي التي تكشف عن العظم. والهاشمة: هي التي تهشم العظم. والآمة: هي التي تصل إلى الجلدة التي تغطي المخ. والدامغة: هي التي تصل إلى المخ نفسه. ويطلق الفقهاء لفظ الشجاج على جراح الرأس والوجه، أما ما عدا ذلك فيسمونه جراحاً إلا ما يصل للتجويف الصدري والبطني فيسمونه جائفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الدية. والقاعدة العامة في الشريعة: أن كل تلف أو جرح لم يحدد له الرسول دية أو أرشاً (1) فيه حكومة، وهي ما يحكم به القاضي بناء على تقدير أهل الخبرة بحيث لا يمكن أن تصل الحكومة إلى الدية أو الأرش الذي عينه الرسول للتلف أو الجرح الذي يليه في الشدة. وهذه القاعدة مجمع عليها من الأمة. والدية في قطع الأطراف والجراح العمدية هي نفس الدية الواجبة في الخطأ، ولكنهما يختلفان في الوصف، فدية العمد مغلظة، ودية الخطأ مخففة، طبقاً لأحاديث الرسول وفعله. وإذن فالعقوبة في إتلاف الأطراف محددة تحديداً لا شك فيه بنصوص صريحة في معظم الأحوال، وبإجماع لا شك فيه في بقية الحالات، والإجماع كما علمنا مصدر تشريعي من مصادر الشريعة الإسلامية، وهو ملزم بالمكلف كما يلزمه النص الصريح. ومما سبق يتبين أن جرائم القصاص والدية منصوص عليها وعلى عقوباتها، وان الشريعة عينت هذه العقوبات تعييناً دقيقاً بحيث لم تترك للقاضي حرية في اختيار العقوبة وتقديرها، فكل مهمته أن يوقع العقوبة المقررة إذا ثبت لديه أن الجاني هو الذي أرتكب الجريمة بغض النظر عن ظروف الجريمة وظروف الجاني. ويلاحظ أن سلطة القاضي في جرائم القصاص والدية تماثل سلطته في جرائم الحدود، ولا تفترق عنها إلا في أن القاضي ملزم أن لا يطبق عقوبة القصاص أو الدية إذا عفا عنها المجني عليه أو وليه، وأن يطبق العقوبة التي   (1) يطلق لفظ الدية على الدية الكاملة، ويطلق لفظ الأرش على بعض الدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 توجبها الشريعة أو يوجبها ولي الأمر في حالة العفو عن القصاص والدية. وعقوبة القصاص وعقوبة الدية من العقوبات المقدرة؛ لأنها محددة النوع والمقدار، ولكنها مقدرة حقاً للأفراد، ومن ثم كان للمجني عليه أو وليه العفو عن العقوبة لأنها حقه، وصاحب الحق يستطيع أن يستوفيه وأن يتركه، أما ولي الأمر فليس له أن يسقط عقوبة القصاص أو الدية أو أن يعفو عن أحدهما، كما أنه لا يستطيع أن يسقط عقوبات الحدود أو يعفو عنها؛ لأنه لا يملك إسقاط حق الله ولا حقوق الأفراد (1) ، وإن كان عليه أن يستوفيها لأن استيفاءها من مقتضيات وظيفته. * * *   (1) يقسم الفقهاء الحقوق التي تنشأ عن الجرائم إلى نوعين: حق الله تعالى، وحق الآدميين، ويعتبرون حق الله تعالى كلما كان خالصاً لله أو كان حق الله فيه غالباً، ويعتبرون الحق للعبد كلما كان خالصاً لها وكان حق العبد غالباً فيه. وتنشأ حقوق الله عن الجرائم التي تمس مصالح الجماعة ونظامها، وتنشأ حقوق الآدميين عن الجرائم التي تمس حياة الأفراد وحقوقهم. وحين ينسب الفقهاء الحق لله، يعنون بذلك أنه لا يقبل الإسقاط عن الأفراد ولا من الجماعة، وحين ينسبون الحق للأفراد يعنون بذلك أنه لا يقبل الإسقاط إلا من الأفراد. ... والواقع أن كل جريمة تمس مصلحة الجماعة إنما تمس في النهاية مصلحة الأفراد، وكل جريمة تمس مصلحة الأفراد تمس في النهاية مصلحة الجماعة ولو كان محل الجريمة حقاً خالصاً للفرد. وفي هذا يقول أحد الفقهاء: "ما من حق لآدمي إلا ولله فيه حق إذ من حق الله على كل مكلف ترك أذاه لغيره" راجع شرح الزرقاني على مختصر خليل ج8 ص115، فإذا اعتبرت الشريعة بعض الجرائم ماسة بمصلحة الجماعة؛ فذلك لأنها تمس مصلحة الجماعة أكثر مما تمس مصلحة الفرد، وإذا اعتبرت بعض الجرائم ماسة بمصلحة الأفراد؛ فذلك لأنها تمس مصلحة الأفراد أكثر مما تمس= =مصلحة الجماعة. والأصل في الشريعة: أن فرض العقوبة واستيفاءها حق لله تعالى، ولكن الشريعة جعلت استيفاء بعض العقوبات حقاً للأفراد، كعقوبة القصاص والدية؛ فلهم أن يتمسكوا بها أو يتنازلوا عنها. فإذا تنازلوا عنها كان للجماعة أن تعاقب الجاني بالعقوبة الملائمة لظروف الجريمة والمجرم. وعلى هذا فإن جعل استيفاء بعض العقوبات حقاً للأفراد لا يسلب الجماعة حقها في فرض عقوبات أخرى على هذه الجرائم، ولا يمنع من تنفيذ هذه العقوبات الأخرى بمعرفة الجماعة. ... والخلاصة: أن الحق ينسب لله كلما كان خالصاً لمصلحة الجماعة أو غلبت عليه مصلحة الجماعة، ونسبة الحق لله لا تفيده جل شأنه شيئاً، وإنما تمنع الجماعة والأفراد من إسقاط الحق؛ لأن حق الله لا يملك أحد إسقاطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الفرع الثالث لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير 93 - أثر القاعدة في جرائم التعازير: طبقت الشريعة قاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير أيضاً، وكان من المنطقي أن تطبقها؛ لأن القاعدة من القاعد الأساسية في الشريعة فلا يمكن إهمالها، ولكن الشريعة لم تطبق القاعدة على الوجه الذي طبقتها به على جرائم الحدود، أو جرائم القصاص والدية، ولم تتقيد بالحدود الضيقة التي قيدت بها تطبيق القاعدة في هذه الجرائم، وإنما توسعت الشريعة في تطبيق القاعدة على جرائم التعازير إلى حد ما؛ لأن المصلحة العامة وطبيعة التعزير تقتضي هذا التوسع الذي جاء على حساب العقوبة في أغلب الأحوال، وعلى حساب الجريمة في القليل النادر. وقد جاء هذا التوسع على حساب العقوبة؛ لأنه لا يشترط في جرائم التعازير أن يكون لكل جريمة عقوبة معينة محددة يتقيد بها القاضي كما هو الحال في جرائم الحدود أو جرائم القصاص والدية، فللقاضي أن يختار لكل جريمة ولكل مجرم العقوبة الملائمة من مجموعة من العقوبات شرعت لعقاب الجرائم التعزيرية كلها، وللقاضي أن يخفف العقوبة وأن يغلظها. وجاء التوسع على حساب الجريمة؛ لأنه يجوز في بعض الجرائم التي تمتاز بصفات معينة أن لا ينص على الجريمة بحيث يعينها النص تعييناً كافياً، بل يكفي أن ينص عليها بوجه عام. 94 - ما هو التعزير؟: ولأجل أن نتبين أثر القاعدة تماماً في جرائم التعازير يجب أن نعرف قبل كل شئ ما هو التعزير. التعزير: هو تأديب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ذنوب لم تشرع فيها الحدود (1) ، أي هو عقوبة على جرائم لم تضع الشريعة لها عقوبات معينة محددة، فهو يتفق مع الحدود (2) من وجه وهو أنه تأديب استصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب، ولكنه يختلف عنها من وجهين (3) : أولهما: أن لكل حد عقوبة معينة أو عقوبات لا محيص من توقيعها على الجاني، أما في التعزير فهناك مجموعة من العقوبات تبدأ من النصح وتنتهي بالجلد والحبس، وقد تصل للقتل في الجرائم الخطيرة، ويترك للقاضي أن يختار من بين هذه المجموعة العقوبة الملائمة للجريمة لحال المجرم ونفسيته وسوابقه، وللقاضي أن يوقع أكثر من عقوبة، وله أن يخفف العقوبة أو يشددها وله أن يوقف التنفيذ إن رأى في ذلك ما يكفي لردع الجاني وتأديبه. ثانيهما: أن عقوبة الحد لا يجوز لولي الأمر فيها العفو، أما عقوبات التعزير فلولي الأمر العفو عنها كلها أو بعضها. 95 - الشريعة لم تنص على كل جرائم التعازير: لم تنص الشريعة على كل جرائم التعازير، ولم تحددها بشكل لا يقبل الزيادة والنقصان، كما فعلت في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، وإنما نصت على ما تراه من هذه الجرائم ضاراً بصفة دائمة بمصلحة الأفراد والجماعة والنظام العام، وتركت لأولي الأمر في الأمة أن يحرموا ما يرون بحسب الظروف أنه ضار بصالح الجماعة أو أمنها أو نظامها، وأن يضعوا قواعد لتنظيم الجماعة وتوجيهها، ويعاقبوا على مخالفتها. والقسم الذي ترك لأولي الأمر من جرائم التعازير أكبر من القسم الذي نصت عليه الشريعة وحددته، ولكن الشريعة لم تترك لأولي الأمر حرية مطلقة فيما يحلون أو يحرمون بل أوجبت أن يكون ذلك متفقاً   (1) الأحكام السلطانية ص205، بدائع الصنائع ج7 ص63، أسنى المطالب ج4 ص161. (2) المقصود بالحدود: العقوبات المقدرة وهي المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية. (3) الأحكام السلطانية ص206، 207 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 مع نصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية. 96 - أقسام التعزير: ينقسم التعزير ثلاثة أقسام: (1) تعزير على المعاصي (2) وتعزير للمصلحة العامة (3) وتعزير على المخالفات. والأول فرض على أفعال حرمتها الشريعة بذواتها ويعتبر إتيانها معصية. والثاني فرض لأفعال وحالات لم تحرم لذواتها وإنما حرمت لأوصافها، ولا يشترط في الفعل أو الحالة المحرمة أن يكون معصية. والثالث فرض على أفعال حرمتها الشريعة بذواتها ويعتبر إتيانها مخالفة ولا يعتبر معصية. والفرق بين هذه الأقسام الثلاثة: أن الفعل في القسم الأول يكون محرماً دائماً ومعتبراً معصية، وفي القسم الثاني لا يكون الفعل محرماً إلا إذا توفر فيه وصف معين؛ لأن الفعل ذاته ليس معصية، أما في القسم الثالث فيكون الفعل مأموراً به أو منهياً عنه، ولكن إتيانه يعتبر مخالفة لا معصية. * * * القسم الأول: التعزير على المعاصي 97 - التعزير على المعاصي: من المتفق عليه أن التعزير يكون في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، سواء كانت المعصية لله أو لحق آدمي (1) ، ومعنى أن المعصية لله أنها تمس حقوق الجماعة أو أمنها أو نظامها، ومعنى لأنها حق آدمي أنها تمس حقوق الأفراد. والمعاصي: هي إتيان ما حرمته الشريعة من المحرمات، وترك ما اوجبته من الواجبات (2) .   (1) المهذب ج2 ص306، مواهب الجليل ج6 ص319- 320، المغني والشرح الكبير ج10 ص347، حاشية ابن عابدين ج3 ص251، الزيلعي ج3 ص 207. (2) المعنى الفني للمعصية يقابل تماماً بالمعنى للجريمة في استعمالها القانوني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ويعرف المحرم: بأنه ما طلب من المكلف الكف عن فعله طلباً حتماً، بأن تكون صيغة طلب الكف دالة على الحتم، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] ، أو أن يكون النهي عن الفعل مقترناً بما يدل على أنه حتم، مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ، وقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33] ، أو أن يكون الأمر بالاجتناب مقترناً بذلك، نحو قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، أو أن يكون طلب الكف مقترناً بترتيب عقوبة، مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . ويعرف الواجب: بأنه ما طلب فعله من المكلف طلباً حتماً بأن أقترن طلبه بما يدل على تحتيم فعله، مثل قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 104] ، ومثل قوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] . ويختلف المحرم عن المكروه: فالمكروه هو ما طلب من المكلف الكف عن فعله طلباً غير حتم، فإن كان الطلب حتماً فهو محرم. ويختلف الواجب عن المندوب: فالمندوب هو ما طلب فعله من المكلف طلباً غير حتم، فإن كان الطلب حتماً فهو الواجب. وقد يشتمل المحرم بالمكروه، ويشتبه الواجب بالمندوب، وفي هذه الحالة يعتمد على القرائن لبيان نوع الطلب، فإن دلت القرائن على الكف المحتم فهو المحرم، وإن دلت على الفعل المحتم فهو الواجب، أما إذا دلت على الكف غير المحتم فهو المكروه، وإن دلت على الفعل غير المحتم فهو المندوب. ومن أهم القرائن المعتبرة في حالة الاشتباه قرينة العقوبة، فإن فرضت على مخالفة الطلب عقوبة فالفعل محرم أو واجب، وإن لم تفرض عقوبة فالفعل مكروه أو مندوب، ما لم يستفد الحتم من قرينة أخرى، ولهذا يعرف بعض العلماء الأصول المحرم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 بأنه ما استحق فاعله العقوبة، ويعرف الواجب: بأنه ما يستحق تاركه العقوبة، ويعرف المكروه: بأنه ما لا يستحق فاعله العقوبة وإن استحق اللوم، بأنه ما لا يستحق تاركه العقوبة وقد يستحق اللوم. وهي تعريفات غير دقيقة كما يرى البعض الآخر (1) . 98 - أنواع المعاصي: يقسم الفقهاء المعاصي إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: ما فيه الحد (2) ، وقد تضاف إلى الحد الكفارة: مثل القتل والسرقة والزنا وغير ذلك من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، ولا يدخل تحت هذا النوع إلا جرائم الحدود وعددها سبع، وجرائم القصاص والدية وعددها خمس؛ لأن هذه الجرائم دون غيرها هي التي تعاقب عليها الشريعة بعقوبة الحد؛ أي بعقوبة مقدرة. والأصل في هذا النوع من المعاصي أن عقوبة الحد تغني فيه عن التعزير، لكن ليس ثمة ما يمنع أن يجتمع التعزير مع عقوبة الحد إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة، وهذا هو اتجاه المذاهب الأربعة. فمالك يرى تعزير الجاني مع عقوبة القصاص في الجناية عمداً على ما دون النفس (3) ، وحجته في هذا أن القصاص جعل مقابلاً للجريمة، وهو حق المجني عليه، وأن التعزير للتأديب وهو حق الجماعة، ولا يرى مالك الجمع بين القصاص والتعزير في القتل العمد؛ لأنه لا فائدة من التعزير مع القتل، ولكنه يرى التعزير كلما سقط القصاص لمانع من الموانع (4) . وفي مذهب الشافعي يجيزون اجتماع الحد مع التعزير، كمن قتل من لا يقاد   (1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص160- 174، علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص79- 89 (2) المقصود بالحد هنا العقوبة (3) مواهب الجليل ج6 ص 247. شرح الدردير ج4 ص224. (4) مواهب الجليل ج6 ص 268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 به، فإن عليه الدية وهي حد وعليه التعزير، وكالزيادة على الأربعين في حد الشرب؛ لأن حد الشرب عند الشافعية أربعون جلدة، وما زاد على ذلك فهو عندهم تعزير، وكتعليق يد السارق في عنقه بعد قطعها؛ فإن القطع هو الحد والتعليق تعزير (1) . وفي مذهب أحمد يجيزون تعليق يد السارق في عنقه بعد قطعها (2) ، ومعنى هذا أنهم يجيزون أن يجتمع مع الحد التعزير. وفي مذهب أبي حنيفة يعتبرون التغريب المقرر للزاني غير المحصن تعزيراً لا حداً، ويجيزون أن يجتمع التغريب مع الحد بهذه الصفة، ومعنى هذا أنهم يجيزون اجتماع الحد مع التعزير (3) . النوع الثاني: ما فيه الكفارة ولا حد فيه: كالوطء في نهار رمضان، والوطء في الإحرام. والكفارة في أصلها نوع من العبادة؛ لأنها عبارة عن عتق أو صوم أو إطعام مساكين، فإذا فرضت فيما لا يعتبر معصية كانت عبادة خالصة، ومثل ذلك الإطعام بدل الصوم لمن لا يطيق الصوم، وإذا فرضت على معصية فهي عقوبة خالصة، كالكفارة في القتل الخطأ والظهار، والكفارة في هذا تشبه المال، فهو قد يكون عقوبة جنائية كما في حالة الغرامة، وقد يكون تعويضاً إذا حكم به لتعويض الضرر، وقد يكون عقوبة وتعويضاً إذا جمع بين العقوبة والتعويض كالدية. والمعاصي التي تدخل تحت هذا النوع محدودة، ومحلها إفساد صيام،   (1) أسنى المطالب ج4 ص162، نهاية المحتاج ج8 ص18 (2) المغني ج10 ص266 (3) بدائع الصناع ج7 ص39. شرح فتح القدير ج4 ص136 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 أو إفساد إحرام، أو حنث يمين، أو وطء في حيض أو ظهار (1) . ويختلف الفقهاء في جواز التعزير في هذا النوع من المعاصي، فيرى البعض أن لا تعزير فيه؛ اكتفاء بالعقوبة التي حددت له وهي الكفارة، ويرى البعض الآخر - ورأيهم الراجح - أنه لا يجوز أن يجتمع مع الكفارة التعزير (2) . النوع الثالث: ما لا حد فيه ولا كفارة: كتقبيل المرأة الأجنبية والخلوة بها، والشروع في السرقة، وأكل الميتة، ويدخل تحت هذا النوع ما لا يدخل تحت النوعين السابقين، فيدخل تحته معظم المعاصي، بل إن المعاصي التي تدخل تحته لا تعد كثرة؛ لأنها غير محصورة. ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن هذا النوع من المعاصي فيه التعزير، أي لا عقوبة عليه إلا التعزير. والمعاصي التي لا حد فيها ولا كفارة متنوعة، ولكنها لا تخرج عن أحد أنواع ثلاثة (3) : (أ) نوع شرع في جنسه الحد ولكن لا حد فيه: كالسرقة من غير حرز، وسرقة ما دون النصاب، والسرقة غير التامة. فالسرقة شرع فيها الحد بشروط منها: أن تكون من حرز، وأن يكون المسروق نصاباً، وأن تكون السرقة تامة، فإذا لم تتوفر هذه الشروط فلا حد. ومثل ذلك الشروع في الزنا ومقدمات الزنا من خلوة وتقبيل وعناق. وهكذا كل ما شرع فيه الحد ولم تتوفر فيه شروط الحد فلا حد فيه وإنما فيه تعزير.   (1) عبرنا بهذه العبارات لنجمع بين مختلف الآراء، فهناك مثلاً من يرى الكفارة على الوطء في الحيض، وهناك من لا يراه، وهناك من يقول بالكفارة في الوطء في الصيام فقط، ومن يقول بها فيما يفطر ويغذي. (2) أعلام الموقعين ج2 ص221، المقدمات لابن رشد ج2 ص151، تبصرة الحكام ج2 ص259، أسنى المطالب ج4 ص162، نهاية المحتاج ج8 ص18 (3) بدائع الصنائع ج7 ص64 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 (ب) نوع شرع فيه الحد ولكن امتنع الحد فيه: إما لشبهة درأت الحد؛ كوطء الزوجة في دبرها، وسرقة المال المشترك، وإما لسبب خاص بالجاني؛ كقتل الأب ولده، فإنه لا قصاص فيه، وسرقة الفروع من الأصول فإنها لا تقع فيها، ويحل محل القطع التعزير. (ج) نوع لم يشرع فيه ولا في جنسه الحد: ومن هذا النوع أكثر المعاصي مثل: أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وخيانة الأمانة ممن ائتمن عليها؛ كأمين بيت المال وناظر الوقف والوصي والوكيل، ومثل تطفيف المكيال والميزان، وشهادة الزور، وأكل الربا، والسب، والرشوة، وغير ذلك. 99 - ما هو السبيل إلى معرفة المعاصي؟: والمعاصي سواء كان فيها حد أو كفارة أو لا حد فيها ولا كفارة، مبينة بياناً لا خفاء فيه في الشريعة الإسلامية، وكل إنسان يستطيع إذا شاء أن يعرفها ويلم بها لو راجع النصوص من قرآن وسنة، فالسبيل إلى معرفة المعاصي هو نفس السبيل الذي تعرف به الجرائم في القوانين الوضعية، وهو الاطلاع والدراسة؛ فمن اطلع ودرس عرف المعاصي في الشريعة، وعرف الجرائم في القوانين الوضعية، ومن لم يطلع ولم يدرس فهو جاهل بالشريعة، كما هو جاهل بالقوانين وبغيرها من العلوم. وليس يعيب الشريعة في أي شئ أن المعاصي لم تجمع في كتاب واحد، فإن العبرة ليست بجمع الجرائم، وعلى عقوباتها، على أنه ليس في الشريعة ما يمنع أولي الأمر من جمع المعاصي في كتاب خاص تبين فيه واحدة واحدة، مرتبة بحسب نوعها أو عقوباتها أو محلها أو غير ذلك من أوجه الترتيب والتنظيم، ما دام المقصود من التجميع تسهيل الاطلاع على المعاصي وتيسير العلم بها. ومن يراجع نصوص الشريعة ويدرسها يستطيع دون شك أن يجد لكل معصية نصاً صريحاً حرمها، ونصاً صريحاً يعاقب عليها إن كانت المعصية معاقباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 عليها بالحد أو الكفارة، أما إن كانت معاقباً عليها بالتعزير فإنه يجد النص الذي حرمها، والنصوص التي فرضت عقوبات التعزير عليها وعلى غيرها. ولقد استعرضنا جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، فوجدنا لكل هذه الجرائم نصوصاً تحرمها وتحد عقوباتها، وهذه الجرائم تدخل كما علمنا تحت النوع الأول من أنواع المعاصي، وهو النوع الذي فيه الحد أصلاً والكفارة مع الحد أحياناً، وبقى أن نستعرض النوع الثاني من المعاصي الذي فيه الكفارة، والذي قلنا إن هناك خلافاً على التعزير فيه، وبعد أن نستعرض النصوص التي وردت فيه نستعرض النوع الثالث من المعاصي وهو النوع الذي لا حد فيه ولا كفارة. 100 - المعاصي التي فيها الكفارة ولا حد فيها: ذكرنا أن هذه المعاصي هي إفساد الصيام، وإفساد الإحرام، والحنث في اليمين، والوطء في حيض، والوطء في ظهار، وسنعرضها واحدة بعد أخرى. إفساد الصيام: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] ، ويقول: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] . وروى أبو هريرة، أن رجلاً جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد ما تعتق به رقبة؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تطعم به ستين مسكيناً؟ قال: لا. ثم جلس فأتى النبي بفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فيه تمر فقال: تصدق بهذا". فهذه نصوص صريحة تفيد وجوب الصوم وتحرم إفساده بجماع أو طعام أو شراب، وتجعل عقوبة من أفسد صيامه بجماع: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً، كفارة عن المعصية التي وقع فيها (1) . إفساد الإحرام: يقول الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، ويقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، ويقول: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] ، ويقول: {يَا أَيُّهَا   (1) اختلف الفقهاء في تطبيق النص المقرر للعقوبة، فمالك وأبو حنيفة يريان تطبيقة إذا أفسد الصيام بأكل أو شرب، والشافعي وأحمد يريان مع أهل الظاهر قصر النص على حالة الجماع فقط. وأساس الخلاف بين الفريقين أن الفريق الأول يرى العقوبة على إفساد الصيام، وهو يفسد بالجماع والأكل والشرب، والفريق الثاني يرى أن العقوبة جاءت على الجماع فقط، فلا تنطبق على غير ما جاءت فيه.. وهناك خلافات أخرى أهمها: أن البعض يرى تطبيق النص على المرأة كما ينطبق على الرجل، والبعض لا يرى تطبيقه إلا على الرجل. كذلك يرى البعض أن النص ينطبق على حالة العمد فقط، والبعض يسوي بين المتعمد والناسي. ويرى البعض في حالة تعدد الإفطار تطبيق قاعدة التداخل، ولا يرى البعض تطبيقها. ولكل فريق حججه؛ ولا نرى ما يدعو هنا لسردها فكلها خلافات في تفسير النصوص وتطبيقها. ... راجع بداية المجتهد ج1 ص210 وما بعدها، الهداية ج1 ص96، الإقناع ج1 ص312 وما بعدها، المهذب ج1 ص183 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ} [المائدة: 2] . ومن السنة الثابتة ما يرويه كعب بن عجرة: أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُحْرِماً فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله أن يحلق رأسه، وقال له: "صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة مساكين، مُدَّين لكل إنسان، أو انْسُك بشاة". ومن المتفق عليه أن المنع من حلق الرأس لم يقصد لذاته، وإنما قصد منه منع الزينة والترفيه، ولذا يأخذ حكمه استعمال الطيب، ولبس المخيط. وروى ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم: "لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا العمامة ولا الخف، إلا أن يجد نعلين فيقطعهما من أسفل الكعبين، ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران". ويفسر الرفث بالجماع، والفسوق بأنه الخروج عما يجب على المحرم إلى الأشياء التي كانت مباحة قبل أن يُحْرِم، كالصيد والطَّيب والزينة بلبس المخيط (1) . هذه هي النصوص التي تحرم ما يفسد الإحرام، وتلك هي العقوبات التي فرضتها على من يفسد إحرامه، وهي نصوص صريحة كانت وما تزال عماد الفقهاء في بيان ما يفسد الإحرام، وما يجب عليه من عقوبة. الحنث في اليمين: يقول الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] ، ويقول: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبد الرحمن بن سمرة   (1) تفسير المنار ج2 ص217 وما بعدها، بداية المجتهد ج1 ص286 وما بعدها، المهذب ج1 ص204 وما بعدها، الهداية ج1 ص125 وما بعدها، الإقناع ج1 ص355 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكِلْتَ إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أُعِنْتَ عليها، وإن حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفَّر عن يمينك"، ولا شك أن هذه النصوص صريحة في تحريم الحِنْث باليمين، وتبيان عقوبة الفعل المحرم (1) . الوطء في الحيض: يقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} [البقرة: 222] ، وروي عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض: أنه يتصدق بدينار، وروي عنه بنصف دينار، وروي أيضاً في حديث ابن عباس هذا أنه إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار، وروي هذا الحديث على أنه يتصدق بخمسي دينار. ونص القرآن صريح في تحريم إتيان المرأة في الحيض، أما الحديث المروي عن ابن عباس فقد صح عند أحمد فأوجب الكفارة ديناراً على من وطئ الحائض (2) . أما الأئمة الثلاثة فلم يصح عندهم شئ من هذه الأحاديث؛ ولذلك لم يوجبوا الكفارة في وطء الحائض عملاً بالأصل الذي هو سقوط الحكم حتى يثبت بدليل (3) . ويترتب على القول بعدم وجوب الكفارة أن الفعل يكون عند القائلين بهذا من المعاصي التي لا حد فيها ولا كفارة، أي من المعاصي التي يمكن التعزير فيها. الوطء في الظهار: يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ   (1) بداية المجتهد ج1 ص329 وما بعدها، المهذب ج2 ص150 وما بعدها، الهداية ج2 ص63 وما بعدها، الإقناع ج4 ص337 وما بعدها. (2) الإقناع ج1 ص64. (3) بداية المجتهد ج1 ص46، الهداية ج1 ص18 وما بعدها، المهذب ج1 ص36 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 3، 4] ، والنص قاطع في تعيين المعصية وتحديد العقوبة (1) . 101 - المعاصي التي لا حد فيها ولا كفارة: بينا فيما سبق أن المعاصي التي لا حد فيها ولا كفارة تنقسم إلى ثلاثة أنواع: نوع شرع في جنسه الحد ولكن لا حد فيه، ونوع شرع في جنسه الحد ولكن امتنع الحد فيه، ونوع لم يشرع فيه ولا في جنسه الحد. فأما النوع الأول والثاني فقد سبق أن بينا النصوص التي وردت بالتحريم فيهما وذلك عندما تكلمنا على النصوص التي جاءت في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية. وأما النوع الثالث فيدخل تحته أكثر المعاصي، ولو كان ما يدخل تحته محدوداً لاستعراضنا النصوص التي وردت فيه كلها كما فعلنا في غيره من الأنواع، ولكن الواقع أن المعاصي التي تدخل تحت هذا النوع غير محدودة، ومن ثم فلن نستعرضها جميعاً، وسنكتفي بعرض النصوص التي تحرم أهم المعاصي؛ تدليلاً على أن الشريعة الإسلامية تطبق قاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في هذا النوع من المعاصي. 1 - تحريم بعض المطاعم: يقول الله التعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}   (1) اختلف الفقهاء في تفسير معنى {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} ففسرها مالك والشافعي وأحمد بأنه يعود لما حرمه على نفسه بأنه ينوي وطأها أو إمساكها أو هما معاً. وفسرها مجاهد وطاوس وأبو= =حنيفة بأن العود المقصود هو العود في الإسلام إلى ما تقدم من ظهارهم في الجاهلية. وفسرها داود الظاهري بأن العود هو أن يكرر الظهار ثانية، فمن لم يظهر مرتين فليس بعائد ولا كفارة. فالمعصية بحسب تفسير مالك والشافعي وأحمد جريمة بسيطة، وبحسب تفسير الباقين وعلى الأخص داود من جرائم العادة، ولا تتكون إلا بحصول الظهار الثاني، أما الأول وحده فلا يكون المعصية، ومن ثم لم تترتب الكفارة إلا على الثاني. راجع: بداية المجتهد ج2 ص87 وما بعدها، الهداية ج3 ص14 وما بعدها، المهذب ج2 ص120 وما بعدها، الإقناع ج4 ص82 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 [البقرة: 173] ، ويقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] ، ويقول: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة:1] ، ويقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157] ، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكلب خبيث، خبيث ثمنه"، ويروي جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: ذبحنا يوم حنين الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل. وروى ابن عباس أن النبي نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وأكل كل ذي مخلب من الطير. وروت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خمس يُقتلن في الحِلَّ والحرَم: الحية، والفأرة، والغراب الأبقع، والحَدَأة، والكلب العقور". 2 - خيانة الأمانة: يقول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72] ، ويقول: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] ، ويقول: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] ، ويقول: {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ} [النساء: 6] ، ويقول: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] ، ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29] ، وقال الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 عليه الصلاة والسلام: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"، وقال: "لا إيمان لمن لا أمانة له". 3 - غش المكاييل والموازين وغيرها: يقول الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3] ، ويقول: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 181 - 183] . 4 - شهادة الزور: يقول الله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} [البقرة: 282] ، ويقول: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] ، ويقول: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] وقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] ، ويروي أبو بَكْرةَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " وكررها ثلاثاً. قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين" وكان متكئاً فجلس فقال: "ألاَ وقول الزور، وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. 5 - أكل الربا: يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، ويقول: {يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 279] ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] ، ويقول: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} [الروم: 39] ، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اجتنبوا السبع الموبقات". قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". 6 - السب: يقول الله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] ، ويقول: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ، ويقول: {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: 11] ، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يَحْقِرُه"، وقال: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وعرضه وماله"، وقال: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"، وقال: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". 7 - الرشوة: يقول الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] ، ويقول: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما"، وقال: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم"، وقال: "هدايا الأمراء غُلول، وهدايا الأمراء سُحْت"، ويروي أبو حميد الساعدي أن رسول الله بعث ابن اللتيبة على الصدقة، فلما جاء قال: هذا لكم وهذا أهدى لي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال أقوام نستعملهم على ما ولاَّنا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدى لي، فهلاَّ جلس في بيت أبيه فنظر أيهدى له أم لا؟ ". 8 - ألعاب القمار والميسر: يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] . 9 - دخول المساكن بغير حق: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: 27] ، ويقول: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} [النور: 29] . 10 - التجسس: يقول الله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] . هذه هي عشر جرائم من أهم جرائم التعزير، استعرضناها والنصوص التي وردت فيها، وظاهر بجلاء أن النصوص عينت الجرائم التي حرمتها بما لاسبيل إلى الشك فيه، ويستطيع من له إلمام بالشريعة أن يجد لكل ما حرمته الشريعة نصاً يعين الجريمة ويحددها، وفي هذا وفيما استعرضناه من نصوص وردت في المعاصي التي يعاقب عليها بحد أو كفارة، وفي هذا كله الدليل القاطع على أن الشريعة تطبق قاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص على كل الأفعال التي حرمتها. 102 - ظنون لا أساس لها من الحق: ولقد ظن البعض خطأ أن الشريعة الإسلامية لم تعين جرائم التعزير، وأنها تركت للقاضي تلك المهمة، ورتبوا على هذا الظن الخاطئ أن سلطة القاضي في التعزير سلطة تحكمية، وأن جرائم التعازير وعقوباتها غير منصوص عليها وأنها متروكة لتقدير القاضي، فإن رأى أن عاقب على الفعل عاقب ولو أنه لم يحرم من قبل أو لم يسبق العقاب عليه. ومنطق هؤلاء باطل، لأنه يقوم على ظنون لا أساس لها من الحق أو الواقع. ولقد وقع هؤلاء في ظنهم الخاطئ؛ نتيجة لسوء الفهم وقلة الاطلاع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فكتب الشريعة مركزة العبارة، تصاغ عبارتها عادة في دقة بالغة حتى لتبلغ في تركيزها أكثر مما تبلغه نصوص القوانين الوضعية من التركيز والدقة، وللفقهاء فوق ذلك كله تعبيرات واصطلاحات خاصة ينبغي أن يلم بها المرء قبل دراسة الشريعة، كما ينبغي أن يلم دارس القانون قبل دراسته بالاصطلاحات القانونية، فمن جهل الاصطلاحات الشرعية ولم يدقق في الاطلاع على نصوص الشريعة، فلا شك أنه لم يصل إلى فهم كتب الشريعة فهماً صحيحاً، وهذا هو الذي حدث فعلاً للقائمين بأن الشريعة لم تحدد جرائم التعزير وعقوباتها، فإنهم لم يفهموا ما كتبه الفقهاء في هذه المسألة على وجهه الصحيح، ولو فهموه على وجهه لعلموا أن الشريعة حددت الأفعال المعتبرة المعاصي وعينتها، وأن الشريعة توجب على القاضي قبل كل شيء أن يبحث عما إذا كان الفعل المنسوب للجاني معصية بحسب نصوص الشريعة أم لا، فإن وجده معصية بحيث إن كانت التهمة ثابتة قبل الجاني أم لا، فإن كانت ثابتة عاقبه بإحدى العقوبات التي وضعتها الشريعة للتعزير، بشرط أن تكون عقوبة ملائمة في نوعها وكَمها للجريمة وللمجرم، أما إذا وجد القاضي أن الفعل ليس معصية فلا جريمة ولا عقوبة. وليس للقاضي ولا لأحد كائناً من كان أن يعتبر فعلاً ما معصية ما لم تعتبره الشريعة كذلك، وليس للقاضي ولا لأحد كائناً من كان أن يعاقب على معصية بعقوبة لم تقررها الشريعة وإلا كان محرماً ما أحله الله، مبيحاً ما حرمه، وقائلاً على الله بغير علم. 103 - نماذج مما كتبه الفقهاء في التعزير: ونستطيع أن نتبين صحة ما قلناه من عرض بعض ما كتبه بعض الفقهاء عن التعزير. فهذا فقيه حنفي يقول: "التعزير يكون في كل معصية ... إلخ، وليس فيه شيء مقدر، وإنما هو مفوض إلى رأي الإمام على ما تقتضي جنايات الناس وأحوالهم" (1) . وهذا فقيه شافعي يقول: "من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة عزر حسب ما يراه السلطان" (2) . وهذا فقيه   (1) الزيلعي ج3 ص208. (2) المهذب ج2 ص306 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 مالكي يقول بعد أن يعدد جرائم القصاص والديات وجرائم الحدود: "وما عداها فيوجب التعزير، وهو موكول لاجتهاد الإمام. ويعزر الإمام لمعصية الله أو لحق آدمي" (1) . وهذا فقيه حنبلي يقول: "التعزير هو التأديب وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وأقله غير مقدر فيرجع فيه إلى اجتهاد الإمام والحاكم فيما يراه وما يقتضيه حال الشخص" (2) . فهذه كلمات القليلة عن التعزير لا يمكن فهمها على حقيقتها إلا إذا فهم معنى المعصية، ومعنى الحد، ومعنى الكفارة، ومعنى العقوبة المقدرة، والعقوبة غير المقدرة. ولقد بينا معنى المعصية والكفارة فيما سبق فلنبين الآن معنى الحد. والحد: هو العقوبة المقدرة شرعاً، ومعنى أنها مقدرة شرعاً أن الشارع عين نوعها وبين مقدارها بنفسه، ولم يترك للقاضي حق تعيينها أو تقديرها، ولم يجعل له أن ينقص منها أو يزيد فيها، أو يستبدل بها غيرها، أو يوقف تنفيذها، فهي عقوبة لازمة، وهي عقوبة تصبح بتعيينها وتقديرها ذات حد واحد ولو كانت طبيعتها تسمح بأن تكون ذات حدين، فعقوبة الزاني غير المحصن عقوبة مقدرة وهي الجلد مائة جلدة لا تنقص واحدة ولا تزيد واحدة، وقد أصبحت بهذا التعيين والتحديد عقوبة ذات حد واحد، ولو أن طبيعتها تسمح بأن تكون ذات حدين، وعقوبة القذف ثمانون جلدة لا تزيد واحدة ولا تنقص واحدة؛ فهي عقوبة مقدرة. وعقوبة القصاص مقدرة بطبيعتها؛ لأنها لا تزيد ولا تنقص شيئاً عما فعله الجاني. وعقوبة الدية مقدرة؛ لأنها ذات حد واحد بتعيينها وتحديد مقدارها، بحيث لا يستطيع القاضي أن يزيد فيها أو ينقص منها. أما العقوبة غير المقدرة فهي: كل عقوبة تُرك للقاضي اختيار نوعها من بين عقوبات متعددة، وتُرك له أن يقدر كمها - إذا لم تكن بطبيعتها ذات حد   (1) مواهب الجليل ج6 ص319 (2) الإقناع ج4 ص268 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 واحد - بحيث لا يرتفع حدها الأعلى ولا ينزل عن حدها الأدنى. فإذا فهمنا معنى هذه الاصطلاحات سهل علينا أن نفهم ما يقوله الفقهاء عن التعزير، فإذا قالوا: إن التعزير يكون في كل معصية، فمعنى ذلك أن التعزير يكون في كل فعل نصت الشريعة على تحريمه، وإذا قالوا: إن التعزير ليس فيه شيء مقدر، فمعنى ذلك أن جرائم التعازير لم توضع لكل منها عقوبة معينة مقدرة لا محيص من توقيعها على الجاني كما هو الحال في جرائم الحدود أو جرائم القصاص والدية، وإنما وضعت لها عدة عقوبات ليس القاضي ملزم بتطبيق إحداها دون الأخرى، وإنما له أن يختار منها واحدة أو أكثر، فإذا اختار إحداها وكانت ذات حدين بطبيعتها فله أن ينزل بالعقوبة إلى الحد الأدنى، أو يرتفع بها إلى الحد الأعلى، وعلى هذا إذا كانت عقوبة الجريمة التعزيرية ليست مقدرة لعدم النص على حد معين لازم من العقاب. وإذا قال الفقهاء: إن التعزير مفوض لرأي الإمام أو الحاكم أو اجتهادهما، فمعنى ذلك أن القاضي وهو القائم مقام الإمام أو السلطان أو الحاكم ترك له حق اختيار عقوبة التعزير وتقديرها طبقاً لما يراه من ظروف الجريمة وظروف المجرم، وطبقاً لما يؤديه إليه اجتهاده ورأيه الشخصي في تقدير هذه الظروف. 104 - كيف فرضت الشريعة عقوبات التعزير؟: بينا فيما سبق أن الشريعة نصت على جرائم التعازير وعينتها، وقدمنا الدليل على ذلك من نصوص الشريعة، ومن قواعدها العامة، ومن النصوص التي حرمت الجرائم وعينتها، وقلنا إن الشريعة كما نصت على جرائم التعزير نصت أيضاً على عقوبات التعزير، والآن نقدم الدليل على هذا القول: أولاً: عقوبة الوعظ، وعقوبة التهديد، وعقوبة الجلد أو الضرب: هذه العقوبات نص عليها القرآن والسنة، فيقول الله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] ، فهذا النص القرآني يفرض ثلاث عقوبات تعزيرية على المرأة لا تطيع زوجها، وهي الوعظ، والهجر، والضرب، ولما كان النشوز وعدم الطاعة معصية لا حد فيها ولا كفارة، فمعنى ذلك أن هذه العقوبات فرضت لكل معصية لا حد فيها ولا كفارة. وإذا كان الهجر في المضاجع عقوبة خاصة بالمرأة لا يملكه إلا الزوج، فإن الهجر في المضاجع ليس إلا نوعاً من الهجر، وقد أمر الرسول بهجر الثلاثة الذين خلفوا، وأمر عمر بهجر صبيع، فالهجر عقوبة عامة معناها المقاطعة وحدها توبة المهجور (1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله امرأ علق سوطه بحيث يراه أهله"، وقال: "لا ترفع عصاك عن أهلك"، وقال: "علموا أولادكم الصلاة لسبع واضربوهم على تركها لعشر"، وقال: "من بلغ حداًً في غير حد فهو من المعتدين"، فهذه النصوص تفرض عقوبتين: أولاهما: التهديد بالعقاب والتخويف منه، وهذا ما يستفاد من تعليق السوط بحيث يرى وعدم رفع العصا. والثانية: هي الضرب بالعصا أو الجلد بالسوط، والنص الأخير صريح في جواز الجلد في غير الحدود، كما أنه يعين الحد الأعلى بعقوبة الجلد على رأى. فالقرآن والسنة يفرضان عقوبات الوعظ والهجر والتهديد والجلد، وعقوبة الجلد والضرب ذات حدين بطبيعتها، ويرى البعض أن الحديث السابق عين الحد الأعلى للعقوبة، بينما يرى البعض أن الحد الأعلى يعينه ولي الأمر (2) . أما عقوبة الوعظ والتهديد فكلاهما عقوبة ذات حد واحد بطبيعتها، أما حد عقوبة الهجر فهو توبة المهجور، كما قلنا من قبل.   (1) تراجع الفقرات 481، 487، 488. (2) راجع الفقرة 481. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ثانياً: عقوبة التوبيخ: يروى عن أبي ذر أنه قال: ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية". فهذا هو الرسول يعاقب أبا ذر بتوبيخه، ومن ثم يكون التوبيخ عقوبة تعزيرية، وسنة سنها الرسول، والسنة هي المصدر الثاني للشريعة سواء كانت عملية أو قولية. ثالثاً: الحبس والصلب: ومصدر هاتين العقوبتين هو السنة العملية أيضاً، فمما يروى عن الرسول أنه حبس شخصاً في تهمة، وأنه صلب رجلاً حياً على جبل يقال له أبو ناب (1) . رابعاً: القتل: مصدر هذه العقوبة السنة القولية، فيروى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه"، وفي رواية: "ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق هذه الأمة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائناً من كان" (2) . والمفروض أن عقوبة القتل مقررة للجرائم الخطيرة. خامسا: ً الغرامة والتشهير والنفي: ومصدر هذه العقوبات الإجماع والإجماع مصدر من مصادر الشريعة كالقرآن والسنة (3) . وظاهر مما سبق أن العقوبات التعزيرية مصدرها القرآن والسنة والإجماع، ومن ثم فهي عقوبات شرعية مقررة بطريقة شرعية لا شك فيها (4) . وفي الوقت الذي حددت فيه النصوص وفعل الرسول وإجماع الأمة أنواع العقوبات التعزيرية انعقد الإجماع على أن يترك للقاضي اختيار العقوبة الملائمة   (1) راجع الفقرتين 482، 486. (2) راجع الفقرة 480. (3) راجع الفقرات 485، 491، 493. (4) تكلمنا هنا عن العقوبات بغاية الاختصار، ولكننا فصلنا القول عن العقوبات الشرعية في كتاب العقوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وتقديرها، كما ترك له أن يمضي العقوبة أو يوقف تنفيذها. 105 - لا جريمة ولا عقوبة في التعزير بغير نص: وظاهر مما سبق أن الشريعة الإسلامية نصت على جرائم التعزير وعقوباتها، وعينت الجرائم وحددت العقوبات تحديداً دقيقاً بحيث لا يستطيع القاضي أن يعاقب على فعل لم تحرمه الشريعة، ولا يستطيع أن يعاقب بغير العقوبات المقررة للتعازير، ولا أن يخرج على حدودها. وإذا كانت هذه هي شهادة النصوص الصريحة، وشهادة الواقع الملموس، فإن القول بأن للقاضي سلطة تحكمية في جرائم التعزير هو قول لا أساس له، ولا نكون مغالين إذن إذا قلنا: إن أساس هذا القول هو قلة الاطلاع أو سوء الفهم، فالحقيقة التي لا يجادل فيها إلا مكابر أن كل من أوتي حظاً من الاطلاع على نصوص الشريعة، وقدرة على تفهم أساليب الفقهاء واصطلاحاتهم، يعلم حق العلم أن القاضي ليس له سلطة تحكمية ولا غير تحكمية في تعيين الجرائم والعقوبات، وأن نصوص الشريعة تكفلت ببيان الجريمة والعقوبة، وأن سلطة القاضي منحصرة في تطبيق النص على الواقعة المعروضة عليه، فإن انطبق وقع على الجاني العقوبة، ولكن الشريعة أعطت القاضي سلطة واسعة في اختيار العقوبة التي يراها ملائمة من بين عقوبات مقررة للجريمة، وجعلت له أن ينظر في اختيار العقوبة إلى شخصية المتهم وسوابقه، ودرجة تأثره بالعقوبة، كما ينظر إلى الجريمة وأثرها في الجماعة، وجعلت للقاضي أن يعاقب بعقوبة واحدة أو بأكثر منها، وأن يصعد بالعقوبة إلى حدها الأعلى، أو ينزل بها إلى حدها الأدنى، وله أن يعاقب المتهم بوعظه أو توبيخه أو تهديده، فينذره بأن لا يعود لمثل ما فعل، وله أن يعاقب بأشد من ذلك، بحبس أو بغرامة، وله أن يمضي العقوبة أو يوقف تنفيذها. هذه هي سلطة القاضي في الشريعة، وهي ليست سلطة تحكمية، وإنما هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 سلطة أعطيها ليتمكن من علاج المجرم والجريمة، وهي سلطة الاختيار وتقدير لا سلطة تحكم واستعلاء، قصد منها تمكين القاضي من تقدير خطورة الجريمة والمجرم واختيار العلاج المناسب لهما، وإنها لسلطة قمينة أن تحقق العدل، وترفع الرحج، وتضع الأمور في مواضعها، وتعاقب كلاً بما يستحقه. وهذه الطريقة التي ابتكرتها الشريعة من ثلاثة عشر قرناً لمعالجة جرائم التعزير هي الطريقة التي اتجهت إليها القوانين الوضعية أخيراً، فهي تنجو نحو توسيع سلطان القضاء في اختيار العقوبة الملائمة للمجرم وللجريمة وتقدير هذه العقوبة، فتجعل للقاضي أن يختار في الغالب بين عقوبتين، أو يوقعهما معاً، وأن يرتفع بالعقوبة إلى حدها الأعلى، أو ينزل بها إلى الحد الأدنى، وتجعل للقاضي أيضاً أن يوقف تنفيذ العقوبة أو يمضيها بشروط معينة، ولكن سلطة القاضي في القوانين الوضعية لا تزال أضيق بكثير من سلطة القاضي في الشريعة الإسلامية، وكثيراً ما يتعرض الأول للحرج حيث يجد نفسه عاجزاً عن توقيع العقوبة التي تتلاءم مع الحالة المعروضة عليه، ولقد كان هذا سبباً دعا الكثيرين من علماء القانون إلى أن يطالبوا بتوسيع سلطان القاضي، واقترح بعضهما حلاً للمشكلة ألا ينص القانون على عقوبة كل جريمة بذاتها، بل تعين الجرائم دون تعيين عقوبتها، ثم تعين العقوبات التي يستطيع القاضي تطبيقها، ويترك له أن يختار هو لكل جريمة العقوبة الملائمة بعد تقدير ظروف الجريمة وظروف الجاني. وهذه الطريقة التي يقترحها بعض علماء القانون هي نفس الطريقة التي تسير عليها الشريعة في جرائم التعزير. * * * القسم الثاني: التعزير للمصلحة العامة 106 - التعزير للمصلحة العامة: القاعدة العامة في الشريعة أن التعزير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 لا يكون إلا في معصية، أي في فعل محرم لذاته منصوص على تحريمه، ولكن الشريعة تجيزاستثناء من هذه القاعدة العامة أن يكون التعزير في غير معصية، أي فيما لم ينص على تحريمه لذاته إذا اقتضت المصلحة العامة التعزير (1) . والأفعال والحالات التي تدخل تحت هذا الاستثناء لا يمكن تعيينها ولا حصرها مقدماً؛ لأنها ليست محرمة لذاتها، وإنما تحرم لوصفها، فإن توفر فيها الوصف فهي محرمة وإن تخلف عنها الوصف فهي مباحة، والوصف الذي جعل علة للعقاب هو الإضرار بالمصلحة العامة أو النظام العام، فإذا توفر هذا الوصف في فعل أو حالة استحق الجاني العقاب، وإذا تخلف الوصف فلا عقاب، وعلى هذا يشترط في التعزير للمصلحة العامة أن ينسب إلى الجاني أحد أمرين: (1) أنه أرتكب فعلاً يمس المصلحة العامة أو النظام العام. (2) أنه أصبح في حالة تؤذي المصلحة العامة أو النظام العام. فإذا عرضت على القضاء قضية نسب فيها للمتهم أنه أتى فعلاً يمس المصلحة العامة أو النظام العام، أو أصبح في حالة تؤذي المصلحة العامة أو النظام العام، وثبت لدى المحكمة صحة ما نسب إلى المتهم لم يكن للقاضي أن يبرئه، وإنما عليه أن يعاقب على ما نسب إليه بالعقوبة التي يراها ملائمة من بين العقوبات المقررة للتعزير، ولو كان ما نسب إلى الجاني غير محرم في الأصل ولا عقاب عليه لذاته. ويستدل الفقهاء على مشروعية التعزير للمصلحة العامة بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلاً اتهم بسرقة بعير، ولما ظهر فيما بعد أنه لم يسرقه أخلى الرسول سبيله (2) ، ووجه الاستدلال أن الحبس عقوبة تعزيرية والعقوبة لا تكون   (1) نهاية المحتاج ج8ص18، 19، الإقناع ج4 ص269، ابن عابدين ج3 ص251، 259، تبصرة الحكام ج2 ص26 (2) شرح فتح القدير ج4 ص117 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 إلا عن جريمة وبعد ثبوتها، فإذا كان الرسول قد حبس الرجل لمجرد الاتهام فمعنى ذلك أنه عاقبه على التهمة، وأنه أباح عقاب كل من يوجد نفسه أو توجده الظروف في حالة اتهام ولو لم يأت فعلاً محرماً، وهذا العقاب الذي فرضه الرسول بعمله تبرره المصلحة العامة، ويبرره الحرص على النظام العام؛ لأن ترك المتهم مطلق السراح قبل تحقيق ما نسب إليه يؤدي إلى هربه، وقد يؤدي إلى صدور حكم غير صحيح عليه، أو يؤدي إلى عدم تنفيذ العقوبة عليه بعد الحكم، فأساس العقاب هو حماية المصلحة العامة وصيانة النظام العام. ويستدل الفقهاء أيضاً على مشروعية التعزير للمصلحة العامة بما فعل عمر رضي الله عنه بنصر بن حجاج، فقد كان عمر يعس في المدينة فسمع امرأة تقول: هل من سبيل لخمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج؟ فدعا عمر نصر بن حجاج، فوجده شاباً حسن الصورة فحلق رأسه فازداد جمالاً، فنفاه إلى البصرة، خشية أن تفتتن النساء بجماله، مع أنه لم ينسب إليه أنه ارتكب فعلاً محرماً. ووجه الاستدلال أن النفي عقوبة تعزيرية وقعها عمر على نصر بن حجاج لأنه رأى أن وجوده في المدينة ضار بصالح الجماعة مع أن جماله هو الذي أوجده في هذه الحالة، ومع أنه لم يقصد الإضرار بالمصلحة العامة أو النظام العام. ومن أمثلة التعزير للمصلحة العامة تأديب الصبيان على ترك الصلاة والطهارة، وتأديبهم على ما يأتون من أفعال تعتبرها الشريعة جرائم، مع أن هذه الأفعال لا تعتبر جرائم في حق الصبيان غير المميزين؛ لأنهم ليسوا أهلاً للتكليف، فلا يعتبر إقدامهم على هذه الأفعال عصياناً، ولا تعتبر أفعالهم معاصي (1) ، ومن ثم فهم لا يعاقبون بالعقوبات المقررة لها، ولكنهم يعزرون لحماية المصلحة العامة.   (1) نهاية المحتاج ج8 ص18، الإقناع ج4 ص269، 273، بدائع الصنائع ج7 ص64، ويرى البعض اعتبار الفعل معصية بذاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ومن أمثلة التعزير للمصلحة العامة منع المجنون من الاتصال بالناس إذا كان في اتصاله بهم ضرر عليهم، وحبس من شهر بإيذاء الناس ولو لم يقم عليه دليل أنه أتى فعلاً معيناً. ونظرية التعزير للمصلحة العامة تسمح باتخاذ أي إجراء، لحماية أمن الجماعة وصيانة نظامها من الأشخاص المشبوهين والخطرين، ومعتادي الإجرام، ودعاة الانقلابات والفتن، والنظرية بعد ذلك تقوم على قواعد الشريعة العامة التي تقضي بأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف. 107 - سلطة القاضي في التعزير للمصلحة العامة ليست تحكمية: قلنا: إن الحالات التي يُعزَّر فيها على فعل لم ينص على تحريمه بذاته من قبل لا يمكن حصرها، وإن القاضي ليس له أن يحكم بالعقوبة في الحالة التي تعرض عليه إلا إذا كان فيها ما يمس النظام العام أو صالح الجماعة، فإن لم تكن كذلك قضى بالبراءة، وإذا عاقب فليس له أن يعاقب إلا بإحدى عقوبات التعزير، فسلطة القاضي إذن ليست مطلقة ولا تحكمية، وإنما هي مقيدة بقيود بينتها الشريعة وأوجبت توفرها. وسلطة القاضي هنا لا تزيد شيئاً عن سلطته في جرائم التعزير المنصوص على تحريمها، وكل ما يمكن قوله عن هذه السلطة أنها سلطة واسعة أعطيت للقاضي ليحسن اختيار العقوبة وتقدير ظروف الجريمة والمجرم، ولم تعط إليه ليخلق الجرائم وينشئ العقوبات، ومهما وسعت الشريعة من سلطة القاضي فإنها لم تخرج عن قاعدتها العامة التي تقضي بأن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص، بل ظلت الشريعة متمسكة بهذه القاعدة، وإن طبقتها على وجه خاص في حالة التعزير للمصلحة العامة. ويخطئ خطأ جسيماً من يظن أن القاضي له أن يعتبر الفعل جريمة إذا كان ماساً بالنظام العام أو صالح الجماعة؛ لأن الشريعة تشترط للعقاب أن تكون الحالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 أو الفعل ماساً بالصالح العام أو النظام، وهذا في ذاته تحديد للجريمة، ونص صريح على أن كل إنسان أتى فعلاً يمس مصلحة عامة أو نظام الجماعة، أو وجد في حالة تؤذي المصلحة والنظام العامين - يعاقب بالعقوبات المقررة للمعاصي، والفعل المحرم إذا لم يعين بذاته فإنه يعين بوصفه. 108 - لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في هذا النوع من التعزير: فالشريعة إذن لم تخرج على القاعدة القائلة بأن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص، وإنما تساهلت في تطبيقها على هذا النوع من الجرائم أكثر مما تساهلت في تطبيقها على جرائم التعزير العادية. فبدلاً من أن تنص على الفعل المكون للجريمة وتحدد له عقوبة مقدرة كما فعلت في جرائم الحدود أو جرائم القصاص والدية، وبدلاً من أن تنص على الفعل المحرم وتعينه ثم تترك القاضي أن يعاقب عليه بالعقوبة التي يراها ملائمة من بين العقوبات المقررة للتعزير، جاءت بدلاً من هذا كله تقرر: أن كا فعل أو حالة تمس نظام الجماعة أو مصلحتها يعاقب عليها بالعقوبة التي يراها القاضي ملائمة من العقوبات المقررة للتعزير. ونستطيع أن نتبين فيما يلي الطرائق المختلفة التي اتبعتها الشريعة في تطبيق قاعدة أن لا عقوبة ولا جريمة بلا نص، ومدى الفرق بين هذه الطرائق: أولاً: من حيث النص على الجريمة: حددت الشريعة عين الفعل المكون للجريمة، وعينته تعييناً لا شك فيه في جرائم الحدود، وفي جرائم القصاص والدية، وفي جرائم التعازير العادية، فهو جريمة في أي وقت، وفي أي ظرف، أما في التعزير للصالح العام فالفعل المحرم لم يحدد بعينه، وإنما حُدد بوصفه، ولما كان من الممكن أن يتخلف الوصف عن الفعل، فيترتب على هذا أن يكون فعل ما في بعض الظروف ماساً بصالح الجماعة أو نظامها، وفي ظروف أخرى غير ماس بهما. ثانياً: من حيث النص على العقوبة: نصت الشريعة على العقوبات المقررة للجرائم في كل الأحوال، ولكنها عينت عقوبة كل جريمة على حدة، وجعلتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 لازمة في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، أما في جرائم التعازير جميعاً سواء كانت عادية أو مقررة لحماية المصلحة العامة والنظام العام فقد عينت الشريعة مجموعة من العقوبات لهذه الجرائم، وتركت للقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة. هذا هو أثر قاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص في جرائم التعازير المقررة لحماية المصلحة العامة. فالقاعدة مطبقة ولكن في حدود واسعة، ومن ثم فلا يمكن القول بأن الجاني يعاقب على فعل لم يحرم، أو لم يعلم بسبق تحريمه؛ لأن الشريعة تعاقب على كل فعل يصدر من صاحبه ماساً بالنظام العام أو المصلحة العامة، وعلى كل حال يوجد فيها الجاني إذا مست بنظام الجماعة وصالحها، فعلى كل إنسان إذن أن يبتعد عن كل ما يمس بالصالح العام، وعليه أن يراعي الظروف ويحسب حسابها ويقدرها في كل وقت وآن. 109 - العلة في إجازة التعزير للمصلحة العامة: والضرورات الاجتماعية هي المسوغ الوحيد لإقرار الشريعة هذا النوع من جرائم التعزير، فحماية نظام الجماعة وصوالحها العامة تقتضي نصوصاً مرنة تلائم كل وقت وآن، وكل ظرف وحالة، وليس أكثر مرونة وأكثر ملائمة لحاجات الجماعة من هذا الذي جاءت به الشريعة، فإنه قَمين أن يقمع كل من تحدثه نفسه بإلحاق الضرر بالجماعة أو بنظامها؛ لأنه إذا استطاع أن يفلت من أحكام النصوص الجامدة فلن يستطيع بحال أن يفلت من هذه النصوص المرنة، وسنرى بعد قليل أن أحدث القوانين الوضعية أخذت بنظرية الشريعة الإسلامية توصلاً لحماية النظام العام والصالح العام. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 القسم الثالث: التعزير على المخالفات 110 - التعزير على المخالفات: الأصل في التعزير أنه على فعل المحرمات وترك الواجبات، وهذا متفق عليه، ولكن الفقهاء اختلفوا على جواز التعزير في إتيان المكروه وترك المندوب، ففريق يرى أن لا عقاب على فعل مكروه أو ترك مندوب (1) ، وفريق يرى العقاب على فعل المكروه وترك المندوب (2) . وأساس اختلافهم في هذا الحكم هو اختلافهم في تعريف المكروه والمندوب، فمن رأى أن المكروه نهى بتخيير في الفعل، وأن المندوب أمر بتخيير في الفعل، أو أن المكروه ليس نهياً، والمندوب ليس أمراً، من رأى هذا قال بعدم جواز العقاب؛ لأن العقاب لا يكون إلا بتكليف. ومن رأى أن المندوب أمر لا تخيير فيه، وأن المكروه نهي لا تخيير فيه، قال بجواز العقاب على فعل المنهي عنه وترك المندوب إليه، والقائلين بهذا الرأي مع تجويزهم العقاب لا يسمون الفعل أو الترك معصية، ولا يسمون الجاني عاصياً، وإنما يسمون الفعل والترك مخالفة، والجاني مخالفاً، ويعللون ذلك بأن العصيان اسم ذم، وأن الذم أسقط عن فاعل المكروه وتارك المندوب (3) . ويحتج بعض القائلين بالعقاب بفعل عمر رضي الله عنه، حيث مر على شخص   (1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج1 ص43، الإقناع ج4 ص270، 271، مواهب الجليل ج6 ص320. بدائع الصنائع ج7 ص63، فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت ج1 ص111، 112. (2) المستصفي للغزالي ج1 ص75، 76، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص170 وما بعدها، تحفة المحتاج ج8 ص18، مواهب الجليل ج6 ص320، تبصرة الحكام ج2 ص259، 260، الأحكام السلطانية ص712. (3) المستصفي للغزالي ج1 ص76، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص173، 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أضجع شاة يذبحها، وجعل يحد الشفرة، فعلاه بالدَّرة وقال له: هلا حددتها أولاً؟ (1) والذين يقولون بالعقاب يشترطون أن يتكرر إتيان المكروه وترك المندوب حتى يمكن العقاب، فالعقاب عندهم ليس على الإتيان أو الترك في ذاته، وإنما هو على اعتياد إتيان المكروه وترك المندوب، ويعتبرون أن العادة تتكون من تكرار الفعل مرتين (2) . وإذا وقع الإتيان أو الترك ماساً بمصلحة عامة أو بالنظام العام عوقب على الإتيان والترك دون حاجة للتكرار، سواء أخذنا برأي القائلين بالعقوبة أو بالرأي المضاد؛ لأن العقاب في هذه الحالة ليس أساسه اعتبار الفعل مكروهاً أو الترك مندوباً إليه، وإنما أساسه أن الفعل أو الترك ماس بالمصلحة العامة أو النظام العام. * * * الفرع الرابع كيف طبقت القوانين الوضعية القاعدة 111 - القوانين الوضعية وقاعدة النص على الجريمة والعقاب: لم تعرف القوانين قاعدة: "لا جريمة ولا عقاب بلا نص" إلا في أواخر القرن الثامن عشر؛ لأن القاعدة وليدة الثورة الفرنسية، أما قبل ذلك فكان القضاة يتحكمون في تحديد الجرائم وتعيين عقوبتها، فيعتبرون الفعل جريمة ولو لم يكن نص على تجريمه، ويعاقبون عليه بأية عقوبة شاءوا ولو لم يكن منصوصاً   (1) مواهب الجليل ج6 ص320. (2) مواهب الجليل ج6 ص320، الأحكام السلطانية ص312. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 عليها، وقد كانت هذه السلطة التحكمية هي الدافع الأول الذي دفع إلى تقرير القاعدة والعمل بها (1) . 112 - كيف طبقت القوانين القاعدة؟: والقوانين الوضعية لا تطبق القاعدة اليوم على الوجه الذي سبق أن طبقتها به يوم عرفتها، فقد كان القانون الفرنسي أول قانون طبقها، وعنه أخذت أكثر القوانين، وكان القانون الفرنسي يتشدد أول الأمر في تطبيقها تشدداً عظيماً، فعين الجرائم تعييناً دقيقاً وجعل لكل جريمة عقوبة محددة ليس للقاضي أن يزيد فيها أو ينقص منها، فكانت مهمة القاضي منحصرة في أن يحكم بالعقوبة إذا تبين له أن المتهم مدان، وأن يحكم بالبراءة إذا لم تثبت التهمة دون أن يكون لظروف المتهم أو الجريمة أثر على العقوبة، ولم يكن للسلطة التنفيذية حق العفو ولا تخفيض العقوبة، فكانت مهمتها قاصرة على تنفيذ الحكم أياً كان. وقد اضطر المشرع الفرنسي إلى العدول عن هذا النظام، لا لأنه غير صالح ولكن لعدم صلاحية الأداة التي وكل إليها تطبيقه، فالتشريع الفرنسي يأخذ بنظام المحلفين وهم أناس ينقادون لعاطفتهم أكثر مما ينقادون لعقولهم، فكانوا يقررون في كثير من الحالات أن المتهمين ليسوا مدانين، لا لأن المتهمين برآء ولكن تحرجاً من معاقبتهم بعقوبة شديدة لا يملك القاضي أن يتصرف في تطبيقها أو يخفف من شدتها، ولا تملك السلطة التنفيذية أن تخفضها أو تتساهل في تنفيذها، ومن ثم عدلت نصوص القانون الفرنسي لمعالجة هذه الحالة فجعل المشرع لكل عقوبة حدين: حداً أدنى وحداً أعلى، وترك للقاضي أن يقدر العقوبة فيما بين هذين الحدين، كما أنه جعل لكثير من الجرائم عقوبتين، وترك للقاضي أن   (1) شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص101، القانون الجنائي لعلي بدوي ص102، القانون الجنائي لأحمد صفوت ص77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 يحكم بهما معاً أو يختار إحداهما فقط (1) . وقد انتقلت قاعدة "لا جريمة ولا عقوبة بلا نص" من القانون الفرنسي إلى القوانين الوضعية الأخرى، ولكنها أخذت تتطور تحت تأثير التجربة والاختيار وحاجات الجماعة؛ فأعطى القضاة حق إيقاف تنفيذ العقوبة، وأعطت السلطة التنفيذية الحق في العفو عن العقوبة أو تخفيضها، وحق الإفراج تحت شرط، واستحدث نظام العقوبة غير المحدودة. ومع أن القاعدة تطورت هذا التطور الكبير فإن شراح القانون الوضعي يرون أن القاعدة ظلت محترمة، وأن هذا التوسع لا يخل بشرعية العقوبة ما دام أن هذا التوسع جاء طبقاً لنصوص القانون، وما دام أن القضاة يستعملون سلطة خولهم الشارع إياهم مقدماً. ولقد كان التساهل في تطبيق القاعدة من ناحية العقوبة، وبقيت القاعدة سليمة محترمة زمناً طويلاً فيما يختص بتعيين الجريمة، حتى إذا جاء القرن العشرون أخذت القاعدة كلها تصبح محلاً للانتقاد وهاجمها الكثيرون من الشراح بحجة أنها لا تصلح لمواجهة الضرورات الاجتماعية، وأنها تؤدي إلى ضياع مصلحة الجماعة، ذلك أن نصوص القوانين الجنائية تقصر دائماً عن تناول كل ما يخل بنظام الجماعة وصوالحها، وأن المجرمين يتفننون في الهرب من الوقوع تحت سلطان النصوص ثم يعبثون ما شاءوا بمصالح الأفراد والجماعة ونظامها، وهم آمنون من العقاب، فإذا استصدرت قوانين لتحريم الأفعال الجديدة التي أدى ارتكابها للعبث بالمصلحة العامة، عاد المجرمون يعملون على التهرب من نصوصها القاصرة، وعادوا إلى جرائمهم آمنين من العقاب. وقد كان لهذا الانتقاد أثره العلمي فبدأت بعض الدول الكبرى تخرج على   (1) شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص102، القانون الجنائي لعلي بدوي ص102 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 القاعدة من جديد فيما يختص بتعيين الجريمة وتحديد العقوبة معاً، كالتشريع الألماني الصادر في سنة 1935، حيث خول للقاضي إذا عرض عليه فعل يمس المجتمع الألماني دون أن يكون قد ورد فيه نص جنائي خاص أن يعتبر هذا الفعل جريمة ويوقع على مرتكبه عقوبة (المادة الثانية من القانون الألماني) . وكالقانون الإيطالي، فإنه ترك للقاضي في بعض الأحوال تعديل تنفيذ العقوبة من حيث مدتها وأسلوبها. وكالقانون السوفياتي الذي خرج على القاعدة من سنة 1926. وكالقانون الدانمركي الذي أباح العقاب على أي فعل يمكن قياسه على فعل آخر محرم. ولا نذكر القانون الإنجليزي الذي يأخذ بنظام يشبه نظام التعازير في الشريعة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل بدأ علماء القانون الجنائي يناقشون المبدأ في مؤتمراتهم العامة بعد أن كان فوق المناقشة؛ توصلاً إلى معرفة مدى حاجة المجتمع إليه، ومدى عجز المبدأ عن حماية صوالح المجتمع، وقد عرض هذا الموضوع على المؤتمر الدولي الرابع لقانون العقوبات في سنة 1937، ولكن المؤتمر قرر الإبقاء على القاعدة. ويتجه العلماء والشراح الآن إلى الخروج على القاعدة من وجهين: فمن ناحية الجريمة يرون الاكتفاء بتعيين الأفعال المحرمة تعييناً عاماً، بحيث يدخل تحت النص الواحد أكثر من حالة واحدة، وبحيث لا يستطيع المجرم أن يفلت من هذا النص العام المرن. ومن ناحية العقوبة يرون الاكتفاء بتحديد الحد الأقصى للعقوبة دون الحد الأدنى؛ ليكون للقاضي سلطة واسعة في تطبيق العقوبة، بل يرى بعض كبار العلماء الجنائيين أن يترك تحديد العقوبة - نوعاً ومقداراً - إلى اختيار القاضي وتقديره حتى تكون العقوبة محققة للغاية من تشريعها (1) . 113 - بين الشريعة والقانون: ظاهر مما سبق أن كلاً من الشريعة   (1) الموسوعة الجنائية ج5 ص552 وما بعدها، القانون الجنائي لعلي بدوي ص103، شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص102- 104 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 والقوانين الوضعية توجب أن لا تكون جريمة ولا عقوبة بلا نص، ولكن الشريعة تختلف عن القوانين في تطبيق هذه القاعدة من عدة وجوه: أولاً: من حيث تاريخ تطبيق القاعدة: طبقت الشريعة الإسلامية القاعدة بل أن تعرفها القوانين الوضعية وتطبقها باثنى عشر قرناً على الأقل، فالقوانين الوضعية لم تأت بشئ جديد، وإنما أخذت النظرية التي ابتكرتها الشريعة. ثانياً: من حيث التطبيق بصفة عامة: يختلف تطبيق القاعدة في الشريعة باختلاف نوع الجرائم التي تطبق عليها، ففي الجرائم الخطيرة التي يتأثر بها أمن الجماعة ونظامها تأثراً شديداً تتشدد الشريعة في تطبيق القاعدة تشدداً تاماً، فتدقق في تحديد الجريمة وتعيين العقوبة، وهذا هو المتبع في جرائم الحدود، وفي جرائم القصاص والدية. وفي الجرائم الأقل خطورة - وهي جرائم التعازير بصفة عامة - تتساهل الشريعة في تطبيق القاعدة من ناحية العقوبة، فتجعل لجرائم التعازير كلها مجموعة من العقوبات، وتترك للقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة. وفي جرائم التعازير المقررة للمصلحة العامة تتساهل الشريعة في تطبيق القاعدة من ناحية الجريمة، وتكتقي بوضع نصوص عامة جداً يدخل تحتها أي فعل يمس المصلحة العامة والنظام العام. فكأن الشريعة تطبق القاعدة بثلاثة طرق؛ لكل نوع من الجرائم طريقة خاصة تلائمه وتلائم مصلحة الجماعة والأفراد. أما القوانين الوضعية فتطبق القاعدة بطريقة واحدة على كل الجرائم، ولعل هذا هو علة النتائج السيئة التي ترتبت على تطبيق القاعدة، ففي أول الأمر طبقت القوانين الوضعية الطريقة الأولى - التي خصصتها الشريعة للجرائم الخطيرة - على كل الجرائم التي يعاقب عليه القانون، فكان التعميم في التطبيق سبباً في تحرج المحلفين والقضاة من الحكم بعقوبة شديدة في جريمة غير خطيرة وفي تبرئة كثير من القضايا، ثم عدلت القوانين الوضعية عن هذه الطريقة، وأخذت بطريقة الشريعة الثانية مع تضييق سلطة القاضي في اختيار العقوبة وتحديدها، ولكنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 طبقت هذه الطريقة أيضاً بصفة عامة، فكان من نتيجة هذا التعميم أن كثر وقوع الجرائم الخطيرة، وصارت تزيد عاماً بعد عام؛ لأن القضاة يعاقبون عليها بعقوبات بسيطة، مستعملين سلطتهم في اختيار العقوبة وتقديرها، وهذه الطريقة هي المتبعة الآن في معظم القوانين الوضعية، إلا أن بعض القوانين الوضعية كالقانون الألماني والقانون الدانمركي أخذت أيضاً بطريقة الشريعة الثالثة في بعض الجرائم؛ فكأنها تطبق الطريقتين الشرعيتين الثانية والثالثة. ولا شك أن نظرية الشريعة الإسلامية في تطبيق القاعدة أكثر دقة ومرونة وأقرب إلى حاجات الجماعة، وأكفل بحماية الأمن والنظام، كما أن فيه العلاج الناجع لما ظهر من عيوب في تطبيق القاعدة بطريقة واحدة على كل الجرائم. ثالثاً: من حيث الجريمة: تراعي الشريعة، كقاعدة عامة عندما تحدد الجريمة، أن يكون النص عاماً، ومرناً إلى حد كبير، بحيث ينطوي تحته كل ما يمكن تصوره من حالات، ولا يخرج عن حكمه أية حالة، والشريعة تضيق من دائرة هذا التعميم (1) إلى حد ما في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، أما فيما عداها فالتعميم في النص يأخذ حده كما هو الحال في المعاصي التي يحزر فيها، مثل قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] تحريماً جريمة التجسس، ومثل قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، ومثل قوله: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ} [الشعراء: 181] ، ومثل قوله: {لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] ، وفي التعزير المقرر للمصلحة العامة يصل التعميم والمرونة إلى حد تحريم الفعل بوصفه لا بذاته، بحيث لا يمكن معرفة ما إذا كان الفعل جريمة أو غير جريمة إلا بعد أن يقع. وقد كان لعموم النصوص ومرونتها أثرها البالغ في صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، واستغنائها عن التعديل والتبديل.   (1) إذا لم يكن التضييق ظاهراً في النصوص المحرمة للجريمة فإنه ظاهر في بقية النصوص الأخرى التي تحكم الجريمة، فالسرقة جاء نصها عاماً ولكن دائرة هذا التعميم ضيقت بما وضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قيود؛ كاشتراط الحرز، واشتراط أن لا يكون الثمر معلقاً، وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أما القوانين الوضعية فالأصل فيها أن تحدد الجريمة، وتعيينها تعييناً دقيقاً، وتبين أركانها الأساسية التي لا تقوم بغيرها، ومن ثم كانت الأفعال التي يمكن أن تدخل تحت أي نص محدودة، وكانت كل حلة جديدة تقتضي تغييراً في النصوص، وكان من السهل التحايل على النصوص والتهرب من أحكام قانون العقوبات. ولعل هذا هو الذي دعا علماء القانون الآن إلى أن يفكروا في أن تكون النصوص عامة ومرنة؛ لدرجة تسمح بأن تحكم كل الحالات، وهذا الذي يقوم به علماء القانون اليوم هو الأساس الذي قامت عليه الشريعة الإسلامية. رابعاً: من حيث العقوبة: القاعدة العامة في الشريعة هي أن ينص على عقوبة الجريمة بحيث تتعين العقوبة لا شك فيه، وبحيث لا يكون للقاضي أن يخلق عقوبة من عنده، وقد فرقت الشريعة بين الجرائم التي تمس أمن الجماعة ونظامها مساساً شديداً، وبين غيرها من الجرائم، والقسم الأول هو جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، والقسم الثاني هو جرائم التعازير بأنواعها المختلفة. ففي جرائم القسم الأول لكل جريمة عقوبة أو عقوبات معينة، لا خيار للقاضي في توقيعها، هو ملزم بالحكم بها متى ثبت لديه أن الجاني أرتكب الجريمة. أما في القسم الثاني فقد عينت الشريعة مجموعة من العقوبات لجرائم التعازير بأنواعها، وتركت للقاضي أن يختار العقوبة الملائمة أو أكثر من عقوبة، كما تركت له أ، يقدر العقوبة من بين الحد الأعلى والحد الأدنى للعقوبة إذا كانت ذات حدين، وأن يوقف تنفيذ العقوبة أو يمضيها طبقاً لما يراه ملائماً لحال المجرم ولظروف الجريمة. أما القوانين الوضعية فتحدد لكل جريمة عقوبة واحدة هي في الغالب ذات حدين، أو تحدد لكل جريمة عقوبتين كلتاهما ذات حدين، وتترك للقاضي أن يوقع العقوبتين أو عقوبة واحدة، وأن يقدر العقوبة من بين الحد الأدنى والأعل للعقوبة، وله أن يوقف تنفيذ العقوبة بشروط معينة وله أن يمضيها، وفي كيثر من الجرائم تشترط القوانين الوضعية أن لا تنزل العقوبة عن حد معين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 كما أنها تمنع إيقاف تنفيذ العقوبة، والغالب أن يكون ذلك في الجرائم الخطيرة. وظاهر من هذا أن سلطة القاضي في القوانين الوضعية أضيق بكثير من سلطة القاضي في الشريعة، فالقاضي الذي يطبق القانون الوضعي مقيد بتطبيق العقوبة التي حددها القانون إذا كانت عقوبة واحدة، ولا يستطيع أن يختار إلا بين عقوبتين إذا أعطي حق الاختيار، وليس له في كثير من الأحوال أن ينزل بالعقوبة عن حد معين، وليس له أن يوقف التنفيذ في كثير من الجرائم، وهو بالتالي لا يملك السلطان الكافي الذي يساعده على معالجة المجرم والإجرام علاجاً يتفق مع المصلحة العامة. وقد رأى الكثير من كبار العلماء أن علاج هذه الحالة لا يتأتى إلا إذا أمكن القاضي من اختيار العقوبة نوعاً ومقداراً، وهذا يتأتى إلا إذا كان له أن يطبق مجموعة من العقوبات، فإذا أخذ بهذا الرأي الذي ينادي به كبار العلماء اليوم فإن القانون يصبح مثل الشريعة فيما يتعلق بجرائم التعازير وعقوباتها. وظاهر كذلك من منع القاضي من إيقاف التنفيذ في الجرائم الخطيرة، ومن عدم السماح له بأن ينزل بالعقوبة عن حد معين، ومن تحديد عقوبة أو عقوبتين لكل جريمة، ظاهر من هذا أن القوانين تأخذ مبدأ الشريعة في جرائم الحدود والقصاص ولكن إلى حد محدود. وليس يهمنا أن تكون القوانين الوضعية مخالفة للشريعة الآن في بعض الحالات، فقد كانت تخالفها في كل شئ حتى أواخر القرن الثامن عشر، وإنما يهمنا أن نعلم أن القانون الوضعي بدأ بعد ذلك يسير وراء الشريعة، ويأخذ بمبادئها، ويطبق نظرياتها، وأن ما يطلبه علماء القانون أن يتحقق في القانون هو نفس ما تأخذ به الشريعة، وما تقوم عليه، وإن في ذلك لذكرى للذاكرين. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 المبحث الثاني أدلة الأحكام الشريعة أي مصادر التشريع الجنائي 114 - مصادر التشريع الإسلامي بصفة عامة: من المتفق عليه بين جمهور الفقهاء أن مصادر التشريع الإسلامي أربعة: (1) القرآن (2) السنة (3) الإجماع (4) القياس. ويعبر الفقهاء عن المصادر التشريعية بأنها الأدلة التي تستمد منها الأحكام. ومن المتفق عليه أيضاً أن الحكم الذي يدل عليه واحد من هذه الأدلة الأربعة هو حكم واجب الاتباع. ويرتب الفقهاء الأدلة والاستدلال بها طبقاً للترتيب الذي ذكرناه، فالمصدر الأول للشريعة هو القرآن، والمصدر الثاني هو السنة، والمصدر الثالث هو الإجماع، والمصدر الرابع هو القياس، فإذا لم يوجد حكم الواقعة في القرآن رجع إلى القياس. وهناك مصادر أخرى للشريعة مختلف عليها، فيراها البعض مصادر تشريعية أحكامها ملزمة، ولا يراها البعض الآخر كذلك، والمصادر المختلف عليها هي: الاستحسان، والاستصحاب، والمصلحة المرسلة، والعرف، وشرع من قبلنا، ومذهب الصحابى. 115 - مصادر التشريع الجنائي الإسلامي: مصادر التشريع الجنائي فيما يختص بالإجراءات الجنائية هي نفس المصادر التي سبق الكلام عليها، مع مراعاة أن بعضها متفق عليه والبعض مختلف عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 أما مصادر التشريع الإسلامي الجنائي المقرر للجرائم والعقوبات فأربعة فقط، منها ثلاثة متفق عليها وهي: (1) القرآن (2) السنة (3) الإجماع. أما الرابع فهو القياس، وقد اختلف فيه الفقهاء، فرأى البعض أنه مصدر تشريعي جنائي، ورأى البعض الآخر أنه ليس مصدراً في تقرير الجرائم والعقوبات. ويجب أن نلاحظ الفرق الهام بين القرآن والسنة من ناحية وبين غيرهما من المصادر من ناحية أخرى. فالقرآن والسنة هما أساس الشريعة، وهما اللذان جاءا بنصوص الشريعة المقررة للأحكام الكلية. أما بقية المصادر فهي لا تأتي بأسس شريعة جديدة، ولا تقرر أحكاماً كلية جديدة وإنما هي طرق للاستدلال على الأحكام الفرعية من نصوص الرآن والسنة، ولا يمكن أن تأتي بما يخالف القرآن والسنة، لأنها تستمد منهما وتستند إلى نصوصهما. * * * الفرع الأول القرآن 116 - القرآن: هو كتاب الله المنزل على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو المدون بين دفتي المصحف المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس. 117 - نصوص القرآن قطعية: ولقد نقل القرآن إلينا بطريق التواتر كتايةً ومشافهة، والتواتر يفيد الجزم والقطع بصحة المنقول، ومن ثم كانت نصوص القرآن قطعية الورود، فمن المقطوع به أنها وردت إلينا عن الرسول كما أنزلت عليه من ربه؛ لأنها نقلت إلينا عن الرسول بطريق التواتر كتاية ً ومشافهةً. والنقل بطريق التواتر يفيد القطع واليقين، فقد كتب القرآن عن الرسول جماعة من كتاب الوحي، وحفظه جمع من الصحابة لا يمكن أن يتواطئوا على الكذب، ونقله عن هذه الجموع جموع أخرى فلم يختلفوا في حرف أو لفظ على تعدد البلاد وتباعد الأقطار واختلاف الأجناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 118 - دلالة نصوص القرآن قطعية وظنية: وإذا كانت نصوص القرآن قطعية فإن دلالتها على معانيها قد تكون قطعية وقد تكون ظنية. فإن كان النص دالاً على معناه ولا يحتمل التأويل كانت دلالته قطعية، مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فدلالة ثمانين على العدد قطعية، ودلالة أبداً على التأبيد قطعية. وإن كان النص دالاً على معناه ولكنه يحتمل التأويل كانت دلالته ظنية، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] فلحفظ القرء قد يعني الحيض وقد يعني الطهر، ومن ثم فدلالته على معناه ظنية لا قطعية، إذ من المحتمل أن يكون المراد من اللفظ الحيض، ومن المحتمل أن يكون المراد الطهر. 119 - أحكام القرآن شرعت للدنيا والآخرة: وأحكام القرآن على نوعين: أحكام يراد بها إقامة الدين وهذه تشمل أحكام العقائد والعبادات. وأحكام يراد بها تنظيم الدولة والجماعة، وتنظيم علاقة الأفراد بعضهم ببعض، وهذه تشمل أحكام المعاملات والعقوبات والأحكام الشخصية والدستورية والدولية ... إلخ. وأحكام القرآن على تنوعها وتعددها أنزلت بقصد إسعاد الناس في الدنيا والآخرة، ومن ثم كان لكل عمل دنيوي وجه أخروي، فالفعل التعبدي أو المدني أو الجنائي أو الدستوري أو الدولي له أثره المترتب عليه في الدنيا من أداء الواجب، أو إفادة الحل والملك أو إنشاء الحق أو زواله، أو توقيع العقوبة، أو ترتيب المسئولية ... الخ، ولكن هذا الفعل الذي يترتب عليه أثره في الدنيا له أثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 آخر مترتب عليه في الآخرة، وهو المثوبة أو العقوبة الأخروية. وينبني على كون الشريعة مقصوداً بها إسعاد الناس في الدنيا والآخرة أن يعتبر وحدة لا تقبل التجزئة، أو جملة لا تقبل الانفصال؛ لآن أخذ بعضها دون بعض لا يؤدي إلى تحقيق الغرض منها، ولأنه لا توجد شريعة أخرى على وجه الأرض معمول بها تسلك مسلك الشريعة الإسلامية، فلا ينبغي أن تقاس الشريعة في هذا بغيرها. ومن يتتبع آيات الأحكام يجد كل حكم منها يترتب عليه جزاءان: جزاء دنيوي، وجزاء أخروي، فالقرآن يحرم القتل حيث يقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33] ، ويجعل للقتل جزاءين أحدهما دنيوي، والثاني أخروي، فأما جزاء الدنيا فهو القصاص، وأما جزاء الآخرة فهو العذاب الأليم، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] ، والعذاب الأليم هو عذاب الآخرة، يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] ، ويؤيده أن القصاص عقوبة الدنيا على الاعتداء. وجزاء قطع الطريق أو الحرابة: القتل والقطع والصلب والنفي؛ عقوبة دنيوية والذاب العظيم عقوبة أخروية، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] . وجزاء السارق: القطع في الدنيا، والعذاب في الآخرة، لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 38، 39] ، والمقصود التوبة بعد العقوبة الدنيوية، ولا يتوب بعد عقابه إلا من كان مسئولاً مسئولية أخروية. وإشاعة الفاحشة ورمي المحصنات له عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة، حيث يقول جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة} [النور: 19] ، ويقول: {ِإِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور 23، 25] . والزنا له عقوبتان أيضاً إحداهما في الدنيا والثانية في الآخرة، فيقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 68، 70] . وأكل أموال اليتامى معاقب عليه في الدنيا والآخرة، وذلك قوله تعالى: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] . وأكل الربا له عقوبتان؛ الأولى في الدنيا والثانية في الآخرة، وذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وتعطيل المساجد له أيضاً عقوبة دنيوية وعقوبة أخروية، حيث يقول جل شأنه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] . والتولي عند الزحف له عقوبتان أيضاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15، 16] . وللمرتد عقاب في الدنيا وعقاب في الآخرة في قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] . وهكذا لا نكاد نجد حكماً لم ترتب عليه الشريعة عقوبة أخروية فوق العقوبة الدنيوية؛ وإن وجدنا شيئاً من ذلك فإنه يدخل تحت قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 18 - 20] ، وقوله: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 13 - 14] ، وهناك كثير من النصوص العامة قاطعة بهذا المعنى، وفيما ذكرناه هنا كفاية. ولم تشرع أحكام الشريعة الإسلامية للدنيا والآخرة عبثاً، وإنما اقتضى ذلك منطق الشريعة. فهي في أصلها تعتبر أن الدنيا دار ابتلاء وفناء، وأن الآخرة دار بقاء وجزاء، وأن الإنسان مسئول عن أعماله في الدنيا ومجزى عنها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الآخرة، فإن فعل خيراً فلنفسه، وإن أساء فعليها، والجزاء الدنيوي لا يمنع من الجزاء الأخروي إلا إذا تاب الإنسان وأناب. 121 - أحكام الشريعة لا تتجزأ: وأحكام الشريعة لا تتجزأ ولا تقبل الانفصال، وليس ذلك فقط لما ذكرناه من أن التجزئة تخالف الغرض من الشريعة، وإنما لأن نصوص الشريعة نفسها تمنع من العمل ببعضها وإهمال البعض الآخر، كما تمنع من الإيمان ببعضها والكفر ببعض، وتوجب العمل بكل أحكامها والإيمان إيماناً تاماً بكل ما جاءت به، فمن لم يؤمن بهذا ويعمل به دخل تحت قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة: 85] . والنصوص الواردة في تحريم العمل ببعض الشريعة دون بعضها كثيرة منها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160] ، والكتمان معناه العمل ببعض الأحكام دون بعضها الآخر، والاعتراف ببعضها وإنكار البعض الآخر. ومنها: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 174 - 175] . وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] . وقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وقوله: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] . وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41] . وقوله: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150 - 151] . وقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ *أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 48 - 50] . وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67، 68] . وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا * فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 64، 65] . 122 - ميزات الشريعة: وتمتاز الشريعة الإسلامية عن الشرائع الوضعية بميزات عظيمة هي أن أحكامها شرعت للدنيا والآخرة. وهذا هو السبب الوحيد الذي يحمل معتنقيها على طاعتها في السر والعلن والسراء والضراء؛ لأنهم يؤمنون بأن الطاعة نوع من العبادة يقربهم إلى الله، وأنهم يثابون على هذه الطاعة، ومن استطاع منهم أن يرتكب جريمة ويتفادى العقاب الدنيوي فإنه لا يرتكبها مخافة العقاب الأخروي وغضب الله عليه. والشريعة تلزم معتنقيها أن يتخلقوا بالأخلاق الفاضلة، ومن تخلق بالأخلاق الفاضلة ندر أن يرتكب جريمة، وهم بعد ذلك يعلمون أن الله رقيب عليهم، ومطلع على أعمالهم، وأنهم مهما استخفوا من الناس فلن يستخفوا من الله وهو معهم أينما كانوا، وكل ذلك مما يدعو إلى قلة الجرائم، وحفظ الأمن وصيانة نظام الجماعة ومصالحها العامة، بعكس الحال في القوانين الوضعية فإنها ليس لها في نفوس من تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها، وهم لا يطيعونها إلا بقدر ما يخشون من الوقوع تحت طائلتها، ومن استطاع أن يرتكب جريمة ما وهو آمن من سطوة القانون فليس ثمة ما يمنعه من ارتكابها من خلق أو دين، ولذلك تزداد الجرائم زيادة مطردة في البلاد التي تطبق القوانين الوضعية، وتضعف الأخلاق، ويكثر المجرمون من الطبقات المستنيرة، تبعاً لزيادة الفساد الخلقي في هذه الطبقة، ولقدرة أفرادها على التهرب من سلطان القانون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وتفرض الشريعة على معتنقيها أن يؤمنوا بأنها من عند الله، وأنها أصلح نظام وأعدله، ومن ثم فهم لا يعدلون بها نظاماً آخر، ويترتب على هذا أن لا تجد مؤمناً بالدين الإسلامي يرضي بأي نظام مخالف له أو خارج عليه، كالشيوعية وما أشبه، بينما تجد من تطبق عليهم القوانين الوضعية يقيسون الأنظمة بمقياس المصلحة المادية العاجلة، فيستشرفون إلى كل نظام جديد، ويتطلعون إلى الأخذ بكل ما يرونه أفضل من نظامهم أو مما يمكنهم من الجاه والمال والسلطان، ومن ثم يعيشون غير مستقرين على مبدأ ولا نظام. فمزج الشريعة بين أحكام الدنيا والدين وإيمان المسلمين بها ضمن للشريعة الاستمرار والثبات، وبث في المحكومين روح الطاعة والرضاء، ودعاهم إلى التخلق بالأخلاق الكريمة، وجعل للشريعة قوة في الردع ليست لأي قانون وضعي آخر مهما أحكم وضعه وأحسن تطبيقه وتنفيذه. * * * الفرع الثاني السنة 123 - تعريف السنة: هي ما أُثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير. فالسنة على ثلاثة أنواع: سنة قولية، وسنة فعلية، وسنة تقريرية. أولاً: السنة القولية: هي أحاديث الرسول التي قالها في مختلف المناسبات، مثل قوله: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زناً بعد إحصان، أو قتل نفس بدون نفس". وكقوله: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العَقْل". وكقوله في عقوبة الزاني الذي لم يحصن: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام". وكقوله: "لا قطع في ثمر معلَّق، ولا في حَريسة الجبل، فإن آواه المَراح أو الجَرين فالقطع فيما بلغ ثَمَن المِجَنَّ". وقوله: "من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ثانياً: السنة الفعلية: هي أفعاله - صلى الله عليه وسلم - مثل قضائه بالعقوبة في الزنا بعد الإقرار، وقطعه اليد اليمنى في السرقة، وقضائه بشاهد واحد ويمين المدعي. ثالثاً: السنة التقريرية: هي ما صدر عن بعض أصحاب الرسول من أقوال وأفعال أقرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسكوته وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسانه، فيعتبر عمل الصحابي أو قوله بعد أن أقره الرسول كأنه صادر عن الرسول نفسه، ومثل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن سأله: بم تقضي؟ قال: أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيي، فأقره الرسول على ذلك حيث قال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله". 124 - مركز السنة من القرآن: القرآن هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، وأساس هذا التشريع، والسنة هي المصدر الثاني، وتلي القرآن في المرتبة. وأحكام السنة من الناحية التشريعية لا تعدو أن تكون واحداً من ثلاثة: الأول: فهي إما أن تكون سنة تقرر وتؤكد حكماً جاء به القرآن، فيكون الحكم مرجعه القرآن والسنة معاً، كتحريم القتل بغير حق، وشهادة الزور، والسرقة، وغير ذلك من الأوامر والنواهي التي جاء بها القرآن والسنة. الثاني: وإما أن تكون سنة مفصلة مفسرة حكماً جاء به القرآن مجملاً، أو مقيدة ما جاء في القرآن مطلقاً، أو مخصصة ما جاء فيه عاماً، فيكون هذا التفسير أو التقييد أو التخصيص الذي جاءت به السنة بياناً للمقصود من الحكم الذي جاء به القرآن، لأن الله جعل لرسوله حق البيان لنصوص القرآن بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فالسنة هي التي فصلت كيفية إقامة الصلاة والحج وإيتاء الزكاة؛ لأن القرآن أمر بإقامة الصلاة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وإيتاء الزكاة، وحج البيت، ولم يبين عدد الركعات، ولا كيفية الصلاة، ولا مقادير الزكاة، ولا مناسك الحج. والسنة هي التي قيدت وخصصت كثيراً من أحكام القرآن، فنصوص القرآن أحلت البيع وحرمت الربا، والسنة هي التي بينت بيوع الربا. ونصوص القرآن حرمت الميتة والدم، والسنة قيدت هذا الإطلاق، وخصصت التحريم وبينت ما يحل من أنواع الميتة والدم. ونصوص القرآن جعلت الميراث للأولاد، والسنة منعت ميراث القاتل. والقرآن يعاقب السارق والسارقة بالقطع، والسنة منعت القطع إلا في ربع دينار فصاعداً، ومنعت القطع إلا في السرقة من حِرْز. الثالث: وإما أن تكون سنة مثبتة حكماً سكت عنه القرآن، فيكون الحكم أساسه السنة وليس له دليل في القرآن، كقول الرسول: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها"، وكقوله في تحريم الذهب والفضة: "هذان حرامان على رجال أمتي حلالان لنسائها"، وكقوله: "يَحْرُمُ من الرضاع ما يَحْرُم من النسب". 125 - أنواع السنة بحسب روايتها: تنقسم السنة بحسب روايتها ثلاثة أقسام: أسنة متواترة. ... ب - سنة مشهورة. ... جـ - سنة آحاد. (أ) السنة المتواترة: هي ما رواه عن رسول الله جمع يمتنع عادة أن يتواطأ أفراده على كذب؛ لكثرتهم وأمانتهم، ثم رواه على الجمع جمع مثله، وعن هذا الجمع جمع آخر، وهكذا حتى وصلت إلينا بسند كل طبقة من رواته جمع لا يتفقون على كذب من مبدأ التلقي عن الرسول حتى وصلت إلينا. ومن هذا القسم السنن العملية في أداء الصلاة والصوم وغير ذلك من شعائر الدين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 التي تلقاها المسلمون جموعاً عن الرسول، ولقنوها جموعاً أخر دون خلاف عليها مع اختلاف الأعصار وتباعد الأمصار. (ب) السنة المشهورة: هي ما رواها عن الرسول صحابي أو أكثر دون أن يبلغ الرواة حد التواتر، ثم نقلها عن الراوي أو الرواة جمع من جموع التواتر، وتناقلها عن هذا الجمع جموع أخر حتى وصلت إلينا بسند أول طبقة فيه فرد أو أفراد لا يبلغون حد التواتر، وباقي طبقاته من جموع التواتر، ومن هذا القسم ما رواه عمر بن الخطاب وابن مسعود وغيرهما من الصحابة. (جـ) سنة الآحاد: هي ما رواها عن الرسول آحاد أو جمع لم يبلغ حد التواتر وتناقلها عن هؤلاء أمثالهم من الآحاد أو الجموع التي لا تبلغ حد التواتر حتى وصلت إلينا بسند طبقات الرواة فيه آحاد أو جموع لا تبلغ حد التواتر، ومن هذا القسم معظم الأحاديث. 126 - هل السنن قطعية أم ظنية؟: السنة المتواترة قطعية الورود عن الرسول لأن تواتر النقل يفيد الجزم بصدق الرواة، والسنة المشهورة قطعية الورود عن الصحابي الذي نقلها عن الرسول، وليست قطعية الورود عن الرسول، لأن من تلقاها عن الرسول ليس جمعاً من جموع التواتر، ولأن من تلقاها عن الصحابي جمع من جموع التواتر، وسنة الآحاد ظنية الورود عن الرسول. والسنن جميعاً قد تكون قطعية الدلالة، وهذا إذا كانت لا تحتمل تأويلاً، وقد تكون ظنية الدلالة، وهذا إذا كانت تحتمل التأويل. 127 - حجية السنة: لا خلاف في أن أقوال الرسول وأفعاله وتقاريره التي قصد بها التشريع ونقلت إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح - تعتبر حجة ملزمة للمسلمين، ومصدراً تشريعياً واجب الاتباع، سواء كانت قطعية الورود أو ظنية الورود، فالسنة المتواترة واجبة الاتباع، لأن ورودها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 عن الرسول مقطوع به، والسنة المشهورة وسنة الآحاد واجبة الاتباع وإن كانت ظنية الورود عن الرسول؛ لأن هذا الظن راجح بما توفر في الرواة من العدالة والإتقان. وقد اعتبرت أحكام السنة ملزمة واجبة الاتباع لأن القرآن جعلها كذلك، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، ويقول: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، ويقول: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80] ، ويقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} [النساء: 64] ، ويقول: {قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 32] ، ويقول: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31] ، ويقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7] . فالسنة إذن تشريع واجب الاتباع بنص القرآن، وقد أجمع الصحابة في حياة الرسول وبعد وفاته على وجوب اتباع سنته، فكانوا في حياته يمضون أحكامه، ويمتثلون أمره ونهيه؛ يُحلون ما أحل، ويُحرمَّون ما حرم، وبعد وفاته إذا لم يجدوا في القرآن حكم أي واقعة نزلت بهم يسألوا عن سنة الرسول فيها، وكان أبو بكر إذا لم يحفظ سنة في واقعة ما خرج ينشد المسلمين أيهم يحفظ سنة عن النبي في تلك الواقعة، كذلك كان يفعل عمر وغيره من الصحابة والتابعين. 128 - هل تعتبر كل أقوال الرسول وأفعاله تشريعاً؟: أفعال الرسول وأقواله على أنواع: فمنها ما صدر عنه باعتباره بشراً؛ كالقيام والقعود والأكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 والشرب، ومثل هذه الأفعال لا تعتبر تشريعاً؛ لأنها صدرت عن الرسول بمقتضى بشريته وليست جزءاً من رسالته. وبعض الأفعال صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودل الدليل أنها من خصائصه لا يشاركه فيها أحد، كالزواج بأكثر من أربعة، ودخول مكة بغير إحرام، والوصال في الصوم، وهذه أيضاً لا تعتبر تشريعاً؛ لأنها خاصة بالرسول فلا يشاركه فيها غيره. وبعض الأفعال صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأساسه خبرته الخاصة بالشئون الدنيوية، كالاتجار والزراعة وتنظيم الجيش، وهذه الأفعال وأمثالها ليست تشريعاً أيضاً؛ لأن مبناها الخبرة الشخصية، والرسول نفسه كان لا يعتبر هذه الأفعال تشريعاً، فقد أشار على بعض الصحابى بتأبير النخل على وجه خاص فلم يصلح النخل به، فعدل عن رأيه وقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وفي موقعة بدر أراد أن ينزل بالجيش في مكان معين، فقال له أحد أصحابه: أهذا منزل أنزلكه الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة" فأشار الصحابي بإنزال الجنود في مكان آخر لأسباب بينها فأخذ الرسول بمشورته. أما الأقوال والأفعال التي صدرت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقصد البيان والتعليم والإرشاد فهي تشريع ملزم، ومثل ذلك قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقوله: "خذوا عني مناسككم"، وقطعه يد السارق اليمنى من الكوع بياناً لقوله تعالى: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} ، وكأمره بدفن المرجوم والصلاة عليه حينما سئل عن ماعز فقال: "افعلوا به كما تفعلون بموتاكم"، وكاختياره سوطاً لا هو بالشديد ولا هو باللين حينما أراد إقامة الحد، ومثل ذلك أيضاً ما روي عنه من أن أم سلمة سألته عن قبلة الصائم، فقال لها: "لم لم تقولي لهم إني أقبل وأنا صائم؟ "، ولما سألته عن بل الشعر في الاغتسال قال: "أما أنا فيكفيني أن أحثو رأسي ثلاث حثيات من الماء". ولقد اختلف الصحابة في الغسل من غير إنزال فأنفذ عمر إلى عائشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 رضي الله عنها وسألها عن ذلك؛ فقالت: فعلته أنا ورسول الله واغتسلنا. فأخذ عمر الناس بذلك. وكان عمر يقبل الحجر الأسود في طوافه ويقول: إني أعلم أنك حجر لا يضر ولا ينفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. ولولا أن فعل رسول الله وقوله متبع لما أخذ الصحابة بفعله وقوله. * * * الفرع الثالث الإجماع 129 - تعريف الإجماع: الإجماع هو اتفاق جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حكم شرعي. 130 - حجية الإجماع: إذا اتفق جميع المجتهدين في الأمة الإسلامية متفرقين أو مجتمعين على حكم واقعة من الوقائع كان هذا الحكم المتفق عليه واجب الاتباع، واعتبر الإجماع قطعياً على الحكم. أما إذا كان الرأي صادراً عن أكثرية المجتهدين فإنه يعتبر دليلاً ظنياً، ويجوز للأفراد اتباعه ويجوز للمجتهدين أن يروا خلافه، ما لم ير ولي الأمر أن يوجب اتباعه فيصبح في هذه الحالة واجب الاتباع. 131 - الأساس التشريعي للإجماع: أساس الإجماع هو القرآن والسنة، فالاجتهاد لا يقوم على التحكم وإنما يقوم على مبادئ الشريعة العامة وروحها فيما لم يرد فيه نص صريح في القرآن والسنة، واتفاق المجتهدين على حكم معين قاطع في موافقة هذا الحكم لمبادئ الشريعة العامة وروح التشريع فيها؛ لأن اجتماعهم على حكم واحد مع اختلاف الأقطار والبيئات والمذاهب دليل على أن وحدة الحق هي التي جمعتهم. وقد دعا القرآن والسنة إلى اعتبار الإجماع تشريعاً ملزماً، فقوة الإلزام في الإجماع واعتباره مصدراً تشريعياً مرده إلى نصوص القرآن ونصوص السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 القرآن: فأما القرآن فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] ، ومن المتفق عليه أن أولي الأمر في هذه الأية مقصود بهم الحكام والعلماء معاً، فكل منهم ولي أمر في عمله، فإذا أجمع العلماء على حكم وجب اتباعه؛ لأن طاعتهم واجبة بنص القرآن، كذلك قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، والمقصود بأولي الأمر في هذه الآية العلماء. السنة: أما السنة فجعلت رأي الجماعة صواباً خالصاً بعيداً عن الخطأ، واعتبرت الرأي المجمع عليه حسناً عند الله، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجتمع أمتي على الخطأ"، وقال: "لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلالة"، وقال: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن". 132 - الإجماع مصدر القوانين والوائح والقرارات: القوانين الجنائية هي النصوص التي تصدرها السلطات المختصة بسن القوانين بغض النظر عن شكل الحكومة الدستوري، وهذه النصوص تسمى في مصر قوانين إذا جاءت عن طريق البرلمان، وتسمى مراسيم بقوانين إذا أصدرها الملك في غيبة البرلمان، طبقاً للمادة 41 من الدستور المصري، وفي كلا الحالين يجب أن تقرها أغلبية من أعضاء البرلمان، فإذا أقرتها الأغلبية أمر الملك بإصدارها، وأصبحت ملزمة للأفراد. فمصدر القوانين هو الإجماع الناقص، أو هو إجماع الأكثرية على القواعد والمبادئ التي يحتويها القانون، وقوة القانون الملزمة تأتي لا من هذا الإجماع وإنما من أمر ولي الأمر لإصدار القانون ووضعه موضع التنفيذ، فالإجماع هنا دليل ظني لا قطعي. واللوائح والقرارات هي ما تصدره السلطات الإدارية والمحلية من قواعد لتنفيذ قانون ما، بناء على السلطة المخولة لهذه السلطات بنص القانون فمصدرها هو مصدر القانون أي الإجماع الناقص، وقوتها الإلزامية مستمدة من أمر ولي الأمر الذي أصدر القانون، وخول لمن وكل إليه التنفيذ سلطة التنفيذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 133 - مركز القوانين واللوائح والقرارات من التشريع الإسلامي: تعتبر القوانين والقرارات واللوائح مكملة للتشريع الإسلامي؛ لأن الشريعة تعطي لأولي الأمر حق التشريع فيما يمس مصلحة الأفراد ومصلحة الجماعة، وقيما يعود على الأفرادوالجماعة بالنفع، فللسلطة التشريعية في أي بلد إسلامي أن تعاقب على أي فعل مباح إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك، ولها أن تعفو عن الجريمة أو عن العقوبة (1) إذا كانت الجريمة من جرائم التعازير واقتضت المصلحة العامة العفو عن الجريمة، أو العفو عن العقوبة كلها أو بعضها، ولها أن تضيق من سلطان القاضي في أي جريمة من جرائم التعازير وأن تتركه واسعاً ما دامت المصلحة العامة تقتضي هذا. والقوانين والقرارات واللوائح التي تصدرها السلطة التشريعية تكون نافذة واجبة الطاعة شرعاً، وبشرط أن لا يكون فيها ما يخالف نصوص الشريعة الصريحة أو يخرج على مبادئها العامة وروح التشريع فيها، وإلا فهي باطلة بطلاناً مطلقاً، كما سنبين فيما بعد عند الكلام على النسخ. 134 - الشريعة لم تنفرد بجعل الإجتماع تشريعاً: وقد يظن البعض أن الشريعة انفردت باعتبار الإجماع مصدراً للتشريع، وهو ظن خاطئ، فالقوانين الوضعية في غير البلاد الإسلامية أساسها رأي الجماعة سواء في التشريع أو التطبيق. فالقوانين لا تصدر إلا إذا وافقت عليها أغلبية الهيئات التشريعية، والنظريات القانونية التي يجمع عليها معظم الفقهاء أو معظم القضاة يكون لها - دون تشريع - قوة ملزمة مصدرها هذا الإجماع الناقص. وتجعل القوانين الوضعية الحكم لرأي غالبية القضاة عند الاختلاف إذا تعدد القضاة، فإذا كانت المحكمة مكونة من ثلاثة قضاة كان الحكم ما يراه اثنان منهما، وإذا اختلفت الدوائر المحاكم العليا في تقرير المبادئ القانونية أو تفسير النصوص كان الحكم لأغلبية قضاة هذه الدوائر مجتمعين. ومعنى هذا كله أن القوانين الوضعية تسلم بالإجماع، وتجعل   (1) راجع الفقرة 191 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الإجماع الناقص مصدراً للتشريع والتفسير والتطبيق؛ لأنه يمثل رأي الأكثرين. * * * الفرع الرابع القياس 135 - تعريف القياس: القياس هو إلحاق ما لا نص فيه نص في الحكم الشرعي المنصوص عليه لاشتراكهما في علة هذا الحكم. ويؤخذ من هذا التعريف أن للقياس أربعة أركان: (1) المقيس عليه: وهو الأمر الذي ورد النص ببيان حكمه، ويسمى الأصل. (2) المقيس: وهو الأمر الذي لم يرد نص بحكمه، ويراد معرفة حكمه، ويسمى الفرع. (3) الحكم: وهو الحكم الشرعي الذي ورد به النص في الأصل، ويراد الحكم به على الفرع. (4) العلة: وهي الوصف الذي شرع الحكم في الأصل لأجله وتحقق في الفرع (1) . 136 - هل القياس ممكن في جميع الأحكام؟: اختلف الفقهاء في جواز إجراء القايس في جميع الأحكام الشرعية، فرأت قلة أنه جائز لأن جميع الأحكام الشرعية من جنس واحد، وتدخل تحت حد واحد هو حد الحكم الشرعي وتشترك فيه، وقد جاز على بعضها أن يكون ثابتاً بالقياس، وما جاز على بعض المتماثلات كان جائزاً على بعضها الآخر. ورأي جمهور الفقهاء أن القياس لا يجوز إجراؤه بصفة عامة في كل الأحكام الشرعية ولو أنها تدخل تحت حد واحد؛ لأنها متنوعة ومتمايزة بأمور موجبة للتنوع والتمايز، ولا مانع من   (1) أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أن يكون ما جاز على بعضها وثبت له قد جاز باعتبار خصوصيته وتعيينه لا باعتباره حكماً شرعياً مجرداً، وعند هؤلاء أن القياس في كل الأحكام ممتنع لسببين: أولهما: أنه يفضي إلى أمر ممتنع فكان ممتنعاً؛ لأن كل قياس لابد له من أصل يستند إليه، فلو كان كل حكم يثبت بالقياس لكان حكم أصل القياس ثابتاً بالقياس، وكذلك حكم أصل أصله، وإذا تسلسل الأمر إلى غير نهاية امتنع وجود قياس ما؛ لتوقفه على أصول لا نهاية لها. وثانيهما: أن من الأحكام ما يثبت غير معقول المعنى؛ كتحديد جلد الزاني غير المحصن بمائة جلدة، وقاذف المحصنات بثمانين، وما كان كذلك فإجراء القياس فيه متعذر؛ لأن القياس يقوم على تعدية علة الأصل للفرع، فما لا يعقل له علة يمتنع إثباته بالقياس (1) . 137 - القياس في الجرائم والعقوبات: واختلف الذين لا يجيزون القياس في كل الأحكام في جواز القياس في الجرائم والعقوبات، فقال بعضهم: إنه جائز، وقال بعضهم: إنه غير جائز، ولكل حججه. والقائلون بجواز القياس لهم حجتان: الأولى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر القياس حين سأل معازاً: بم تقضي؟ قال: أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيي، فأقره الرسول على قوله: أجتهد رأيي، وهو تعبير مطلق لا تفصيل فيه، فدل ذلك على جواز القياس في الجرائم والعقوبات. الثانية: أن الصحابي لما اشتوروا في حد شارب الخمر قال علي رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحدوه حد المفترى.   (1) الإحكام في أصل الأحكام للآمدي ج4 ص89 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فقياس حد الشارب على حد المفترى، ولم ينقل عن أحد من الصحابة نكير فكان إجماعاً. والقائلون بعد جواز القياس يحتجون بثلاث حجج: الأولى: أن الحدود والكفارات من الأمور المقدرة التي لا يمكن تعقل المعنى الموجب لتقديرها، والقياس أساسه تعقل علة حكم الأصل، فما لا يعقل له من الأحكام علة فالقياس فيه متعذر. الثانية: أن الحدود عقوبات، وكذلك الكفارات فيها شائبة العقوبة، والقياس مما يدخله احتمال الخطأ، واحتمال الخطأ شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات؛ لقوقه عليه الصلاة والسلام: "ادراءوا الحدود بالشبهات". الثالثة: أن الشارع قد أوجب حد القطع بالسرقة، ولم يوجبه بمكاتبة الكفارة مع أنه أولى بالقطع، وأوجب الكفارة بالظهار لكونه منكراً وزوراً ولم يوجبها في الردة مع أنها أشد في المنكر وقول الزور. فحيث لم يوجب ذلك فيما هو أولى فهو دليل على امتناع جريان القياس فيه (1) . وقد تكون حجج هذا الرأي من القوة بحيث ترجحه على الرأي الأول، خصوصاً إذا لاحظنا أن تقرير حد القاذف لم يكن نتيجة القياس، إنما كان تقريره نتيجة للإجماع عليه، ولا عبرة بالاستدلال عليه بطريق القياس؛ لأن القياس لم يجعله تشريعاً ملزماً، وإنما الذي جعله كذلك هو الإجماع عليه. على أنه يجب أن نعرف أن القياس في العقوبات يقتضي قبل كل شئ القياس في الجرائم، وأن القائلين بجواز القياس في الجرائم لا يؤدي قولهم إلى توسيع الدائرة التي تنطبق فيها النصوص، فالقياس في الجرائم والعقوبات إذن ليس مصدراً تشريعياً، وإنما هو مصدر تفسيري يساعد على تعيين الأفعال التي تدخل   (1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج4 ص82 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 تحت النص، فإذا حرم النص صورة معينة لعلة ما ألحق بها القياس كل الصور المماثلة التي تتوفر علة التحريم، كإلحاق اللواط بازنا، وإلحاق القتل بالمثقل بالقتل بالمحدد، وإلحاق المسكر بالخمر عند البعض، وإلحاق القبر بالمسكن وغيره من الأمكنة المعدة لحفظ المال بحيث يعتبر آخر الكفن سارقاً ... وهكذا. ولا ضير من الأخذ بهذا الرأي الذي تأخذ به المحاكم اليوم إلى حد كبير، وينادى بالتوسع في تطبيقه علماء القانون وشراحه. 138 - القياس في الإجراءات: ويسلم الفقهاء بالقياس في الإجراءات الجنائية، بل يسلمون بالقياس وبغيره من المصادر الأخرى التي لا يعترفون بها مصادر تشريعية جنائية، كالعرف، ومذهب الصحابي، فمثلاً يرى البعض أن يكون الإقرار في السرقة مرتين قياساً على اشتراط الأقارير الأربعة في الزنا، ومن لا يسلم بهذا يرى أن الحكم بالزنا فقط فلا قياس عليه. ويرى البعض جواز شهادة النساء في الجرائم قياساً على جواز شهادتين في المسائل المدنية. ويجمعون على الحفر للمرجوم، وهو مذهب علي. ويشترط أبو حنيفة وأصحابه وجود رائحة الخمر مع شهادة الشهود في إثبات جريمة الشرب، وهو مذهب عبد الله بن مسعود. * * * المبحث الثالث تفسير الأحكام الجنائية، أي النصوص الجنائية 139 - سلطة القاضي في تفسير النصوص: للقاضي وهو يطبق النصوص أن يفسرها إذا وجد غموضاً أو خفاء في دلالتها، أو تضارباً بين عباراتها. وقد وضع الفقهاء قواعد للتفسير تطبق وتراعى في فهم الأحكام من النصوص، وبعض هذه القواعد لغوية وبعضها تشريعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الفرع الأول القواعد اللغوية الموضوعة للتفسير 140 - كيف استنبطت هذه القواعد؟: استنبط علماء الأصول هذه القواعد من استقراء الألفاظ والعبارات والأساليب العربية، ودلالة كل ذلك على معناه المعروف لغوياً، فقد بحث العلماء دلالات الألفاظ والعبارات وما فيها من وضوح أو غموض؛ لأن بعضها يكون واضحاً وبعضها يكون غامضاً، ثم بحثوا اللفظ من حيث اشتراكه في أكثر من معنى، ومن حيث عمومه وشموله لكل أفراده، ومن حيث خصوصه وانطباقه على بعض الأفراد دون البعض، فقواعد التفسير اللغوية يقتضي العلم بها أن ندرس: أولاً: دلالات العبارات والألفاظ أو مفهوماتها. ثانياً: وضوح الدلالات وغموضها. ثالثاً: اشتراك الألفاظ وعمومها وخصوصها. وقد وضعت قواعد التفسير أصلاً لتطبق في فهم معاني النصوص الشرعية، ولكنها في الواقع تطبق أيضاً في معاني أي نص غير شرعي ما دام مصوغاً في لغة عربية. 141 - أولاً: دلالات العبارات والألفاظ أو مفهوماتها: من المسلم به أن لكل لفظ دلالته، ولكل عبارة دلالتها، ويترتب على ذلك أن النص الشرعي وهو مكون من ألفاظ وعبارات قد تكون له دلالة واحدة، وقد يكون له أكثر من دلالة، ويستدل بالنص عادة على دلالاته؛ أي مفهوماته، وهذه المفهومات لا تخرج عن خمسة: الأول: مفهوم العبارة: وهو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من صيغة النص، وهو الذي قصده الشارع من وضع النص؛ لأن المشرع حين يضع النص يختار له من الألفاظ والعبارات ما يدل دلالة واضحة على غرضه، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 يصوغه بعد ذلك بحيث يتبادر المعنى المقصود من النص إلى ذهن المطلع بمجرد الاطلاع عليه. الثاني: مفهوم الإشارة: هو معنى لم يوضع النص من أجله، ولا يتبادر إلى الذهن من الاطلاع على صيغة النص، ولكنه مع ذلك يكون لازماً لعبارة النص أو لبعض ألفاظه، فمفهوم الإشارة هو معنى لازم للنص غير مقصود من سياقه، مثل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر: 8] ، فمفهوم العبارة الذي وضع النص من أجله هو أن الفقراء المهاجرين لهم نصيب من الفيء، ومفهوم الإشارة أن أموال هؤلاء المهاجرين التي تركوها قد خرجت عن ملكهم؛ لأن وصفهم بأنهم فقراء يستلزم أن لا تكون أموالهم على ملكهم. الثالث: مفهوم الدلالة: هو المعنى الذي يفهم من روح النص ومنطقه، فإذا دلت عبارة النص على حكم في واقعة ما لعلة استوجبت هذا الحكم، فكل واقعة أخرى من جنسها تدخل تحت مفهوم النص إذا توفرت فيها علة الحكم، وكانت مساوية للواقعة التي جاء بها النص أو أولى منها بالحكم، على أن تكون المساواة أو الأولوية متبادرة إلى الفهم دون حاجة لقياس أو اجتهاد، ومثل ذلك قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] ، فقد نهى الله عن التأفف من الوالدين ونهرهما وحرم ذلك، وهذا هو المفهوم من عبارة النص، ولكن الذي يفهم من دلالته أن كل ما ساوى التأفف أو كان أشد منه محرم أيضاً، لتوفر علة التحريم فيما يساوي التأفف، ولأن ما زاد عليه أولى بالتحريم، أما ما يقل عن التأفف والنهر فلا يدخل تحت النص. ويسمى الاستدلال على هذا الوجه بالقياس الجلي؛ لظهور فهم المساواة أو الأولوية بين المنطوق والمفهوم الموافق له كما يسمى مفهوم الدلالة بمفهوم الموافقة، لأنه يوافق منطوق النص في علة الحكم موافقة تفهم بمجرد فهم عبارة النص، ويسمى أيضاً فحوى الخطاب؛ أي روحه وما يعقل منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الرابع: مفهوم الاقتضاء: هو المعنى الذي يقتضيه النص بحيث لا تصح صيغة النص ولا تستقيم دون تقدير هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، فهذه الصيغة قد يفهم منها معاني كثيرة ولكن لا يمكن أن تصح وتستقيم إلا إذا فهمت على أن التحريم مقصود منه الزواج، وهذا هو مفهوم الاقتضاء. ومثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، فمفهوم الاقتضاء فيها هو تحريم الأكل. الخامس: مفهوم المخالفة: هو المعنى المخالف لمفهوم العبادة، او هو المعنى الذي انتفت عنه قيود النص، وقد اختلف الأصوليون في مفهوم المخالفة، فرأى فريق منهم أن لكل نص دلالتين: دلالة على حكم معين في منطوقه، ودلالة على نقيض هذا الحكم فيما يخالفه، أي في مفهومه المخالف، فقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام: 145] ، يدل على تحريم الدم المسفوح بمنطوق النص، ويدل على إباحة الدم غير المسفوح بمفهوم النص المخالف، فكلما دل النص بمنطوقه على حكم معين فإنه يدل على نقيض هذا الحكم بمفهومه المخالف. فمفهوم المخالفة ليس مسكوتاً عنه عند هؤلاء. والفريق الثاني يرى أن مفهوم المخالفة مسكوت عنه، وأن النص يوضح للحكم المنطوق به، ولا يوضع لمفهومه المخالف. فطبقاً لهذا الرأي لا دلالة للنص إلا على حكمه المعين في منطوقه، وأما مفهومه المخالف فلا دلالة للنص على حكم فيه، وهذا هو الرأي الراجح. 142 - تعارض المفهومات: إذا تعارضت المفهومات يرجح مفهوم العبارة على مفهوم الإشارة؛ لأن مفهوم العبارة هو المعنى الذي وضع النص من أجله، وأما مفهوم الإشارة فهو معنى لازم لبعض ألفاظ النص ولكن الشارع لم يقصده لذاته. وإذا تعارض مفهوم العبارة أو مفهوم الإشارة مع مفهوم الدلالة رجح مفهوم العبارة أو مفهوم الإشارة؛ لأن كل منهما مفهوم الصيغة أو الألفاظ التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 اختارها الشارع، أما مفهوم الدلالة فهو ما يفهم من روح النص ومنطقه، وليس يصح أن نبطل معنى العبارات والألفاظ التي اختارها الشارع للمعنى الذي نفهمه نحن من روح النص. أما مفهوم الاقتضاء فهو مقدم على غيره؛ لأنه المعنى الذي لا تصح صيغة النص ولا تستقيم إلا به. أما مفهوم المخالفة فقد رأينا أنه على الرأي الراجح مسكوت عنه ولا عمل له. 143 - ثانياً: وضوح الدلالات وغموضها: تنقسم الألفاظ والعبارات والنصوص من حيث ظهور معناها إلى نوعين: نوع واضح الدلالة على معناه وليس في دلالته غموض ولا إبهام، ونوع غامض الدلالة وفيه غموض وخفاء. والواضح الدلالة ليس على درجة واحدة في وضوح دلالته، بل بعضه أوضح الدلالة من بعض، كما أن الغامض الدلالة بعضه أخفى دلالة من بعض. 144 - أقسام الواضح لدلالة: ينقسم الواضح الدلالة إلى أربع أقسام: (1) الظاهر ... (2) النص ... (3) المفسر ... (4) المحكم. 145 - الظاهر: الظاهر هو ما دلت صيغته على معناه دلالة واضحة، بحيث لا يتوقف فهم معناه على قرينة خارجية، ولم يكن معناه هو المقصود أصلاً من السياق أي من وضع الصيغة، مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، فإحلال البيع وحرم الربا يفهم من لفظي "أحل" و"حرم" دون حاجة إلى قرينة خارجية، وهذا المعنى لم يقصد من سياق الآية؛ لأنها سيقت أصلاً لنفي المماثلة بين البيع والربا، رداً على من قالوا بأن البيع مثل الربا: {بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . حكم الظاهر: يجب العمل بما ظهر منه ما لم يقم دليل يقتضي العدول عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ظاهره، إذ الأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره إلا بدليل يقتضي صرفه عن ظاهره، او إرادة معنى آخر منه. وإذا كان الظاهر عاماً احتمل التخصيص، وإذا كان مطلقاً احتمال التقييد، وإن كان حقيقة احتمل أن يراد به معنى مجازياً، إلى غير ذلك من وجوه التأويل. ولا يكون التأويل صحيحاً إلا إذا بني على دليل شرعي: من نص، أو قياس، أو روح التشريع ومبادئه العامة، فإذا لم يبن على دليل شرعي كان تأويلاً باطلاً. 146 - النص: هو ما دلت صيغته دلالة واضحة على معناه المقصود أصالة من السياق، فمتى كان المعنى ظاهراً بوضوح في اللفظ - وهو المقصود أصالة من السياق - كان اللفظ نصاً عليه، فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} نص على نفي المماثلة بين البيع والربا؛ لأنه معنى ظاهر من اللفظ ومقصود أصالة من سياقه. حكم النص: حكمه هو حكم الظاهر، ويحتمل مثله التأويل. 147 - المفسر: هو ما دلت صيغته دلالة واضحة على معنى مفصل ينتفي معه احتمال التأويل، مثل قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، ويعتبر النص مفسراً ولو ورد مجملاً غير مفصل إذا ألحق به الشارع ما يفصله ويزيل إجماله، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33] ، فهو نص مجمل، ولكن الرسول فصل معناه حين قال: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الزنا بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير نفس". حكم المفسر: يجب العمل به كما فصل، ولا يحتمل أن يؤول أو يصرف عن ظاهره، والتفسير الذي ينفي احتمال التأويل هو التفسير المستفاد من الصيغة، أو المستفاد من بيان تفسيري مصدره المشرع، أما تفسير الفقهاء والمجتهدين فلا يعتبر من التشريع ولا ينتفي معه احتمال التأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 148 - المحكم: هو ما دلت صيغته دلالة واضحة على معنى لا يبقي إبطالاً ولا تبديلاً، ولا يبقى معها احتمال للتأويل. والمحكم لا يقبل الإبطال ولا التبديل؛ لأن الحكم المستفاد منه حكم أساسي من قواعد الدين كعبادة الله وحده، والإيمان بكتبه ورسله، أو لأنه من أمهات الفضائل التي لا تختلف باختلاف الأحوال، كبر الوالدين والعدل، أو لأنه حكم فرعي جزئي أيده الشارع، كقوله تعالى في قاذفي المحصنات: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ، والمحكم لا يقبل التأويل؛ لأنه مفصل ومفسر تفسيراً لا مجال معه للتأويل. حكم المحكم: يجب العمل به قطعاً ولا يحتمل صرفه عن ظاهره. 149 - حكم التعارض: إذا تعارض ظاهر ونص، رجح النص؛ لأن الشارع قصده أصالة. وإذا تعارض نص ومفسر، رجح المفسر؛ لأنه أوضح دلالة على المراد منه إذ لا يحتمل التأويل. وإذا تعارض محكم ومفسر، رجح المحكم لأنه أقوى دلالة من المفسر. 150 - أقسام الغامض الدلالة: ينقسم الغامض الدلالة إلى أربع أقسام: (1) الخفي ... (2) المشكل ... (3) المجمل ... (4) المتشابه. 151 - الخفي: الخفي في الاصطلاح هو اللفظ الدال على معناه دلالة ظاهرة، ولكن في انطباق معناه على بعض الأفراد غموض وخفاء يحتاج إلى نظر وتأمل. ومنشأ هذا الغموض أن الفرد فيه صفة زائدة على سائر الأفراد، أو ينقص صفة عنها، أو أن له اسماً خاصاً دونها، فهذه الزيادة أو هذا النقص أو هذه التسمية الخاصة تجعله موضع اشتباه، فيكون اللفظ خفياً بالنسبة لهذا الفرد. مثال ذلك لفظ السارق، فإنه ينطبق على كل من أخذ مال الغير خفية من حرز مثله؛ لأن السرقة هي أخذ مال الغير خفية من حرز مثله، ولكن في انطباق لفظ السارق على الطرار - أي النشال - نوع من الغموض والخفاء؛ لأن النشال يأخذ المال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 من حاضر يقظان معتمداً على خفة يده ومسارقة الأعين، فهو يغاير السارق بوصف زائد فيه، هو جرأة المسارقة، ومن ثم فقد سمي باسم خاص. ومثال ذلك النباش أي سارق الأكفان، فإنه يختلف عن السارق في أنه يأخذ ما ليس على ملك أحد على رأى، أو يأخذ من غير حرز على رأى آخر. فلفظ السارق يعتبر خفياً بالنسبة للطرار والنباش، والوسيلة لإزالة هذا الخفاء هي البحث والاجتهاد، فإن رأي القاضي أن اللفظ يتناولهما ولو بمفهوم الدلالة جعلتهما من مدلولات اللفظ، وطبق عليهما حكم السرقة، وإن رأى أن اللفظ لا يتناولهما بأي طريق من طرق الدلالة لم يطبق عليهما حكم السرقة. والذي حدث في هاتين الحالتين بالذات أن المجتهدين أجمعوا على اعتبار الطرار سارقاً، ولكنهم اختلفوا في اعتبار النباش كذلك. 152 - المشكل: هو اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، ولكن يمكن تعيين المراد منه بقرينة خارجية. ومثاله اللفظ المشترك؛ فإنه موضوع لأكثر من معنى واحد، وليس في صيغته ما يدل على المعنى الذي يقصده الشارع منه، ولكن القرينة الخارجية تعين المعنى الذي يقصده الشارع، كلفظ القرء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] فإنه موضوع للطهر والحيض، وليس في صيغته ما يدل على المعنى الذي قصده الشارع. وقد ينشأ الإشكال من مقابلة النصوص بعضها ببعض، بأن يكون كل نص على حدته ظاهر الدلالة على معناه ولا إشكال فيه، ولكن الإشكال في التوفيق والجمع بين هذه النصوص. والطريق لإزالة إشكال المشكل هو الاجتهاد، فعلى القاضي إذا ورد في النص لفظ مشترك أن يتوصل بالقرائين والأدلة الشرعية إلى إزالة إشكال اللفظ وتعيين المراد منه، وإذا وردت نصوص ظاهرها التخالف والتناقض فعليه أن يؤولها تأويلاً صحيحاً يوفق بينها ويزيل ما في ظاهرها من اختلاف، وعلى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 يعتمد في تأويله على نصوص أخرى، أو على مبادئ الشريعة العامة وحكمة التشريع فيها. 153 - المجمل: هو اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، ولا توجد معه قرائن لفظية أو حالية تبين هذا المراد. من ذلك الألفاظ التي نقلها الشارع عن معانيها اللفظية ووضعها لمعان اصطلاحية شرعية خاصة، كألفاظ الصلاة والزكاة والصيام وغيرها من كل لفظ أراد به الشارع معنى شرعياً خاصاً لا معناه اللغوي، فإذا ورد لفظ من هذه الألفاظ في نص شرعي كان مجملاً حتى يفسره الشارع، ولذلك جاءت السنة العملية والقولية بتفسير الصلاة وبيان أركانها وشروطها وكيفيتها، كما جاءت بتفسير الزكاة والصلاة وغيرهما مما جاء مجملاً في نصوص القرآن. ومن المجمل: اللفظ الغريب الذي فسره القرآن، كلفظ القارع في قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ* وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة: 1 - 5] . وكل لفظ أراد به الشارع معنى خاصاً وليس في صيغة اللفظ ولا في القرائن الخارجية ما يبينه فهو لفظ مجمل، والطريق إلى بيانه وإزالة إجماله هو الشارع نفسه، فإن لم يبينه فلا بيان له. وإذا صدر من الشارع بيان لمجمل ولكنه غير واف بتفصيل كل ما أريد منه، فإن اللفظ المجمل ينتقل بهذا البيان غير الوافي من باب المجمل إلى باب المشكل، ويكون على القاضي أن يزيل الإشكال واجتهاده دون حاجة إلى بيان أو تفسير جديد من الشارع. 154 - المتشابه: هو اللفظ الذي لا تدل صيغته على المراد منه، ولا توجد قرائن خارجية تبينه، واستأثر الشارع بعلمه فلم يفسره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وليس في النصوص التشريعية شيء من المتشابه، فلا يوجد في آيات الأحكام أو أحاديث الأحكام لفظ متشابه لا يعلم المراد به، وإنما يوجد المتشابه في مواضع أخرى، ومن أمثلته الحروف المقطعة التي بدأت بها بعض سور القرآن. 155 - ثالثاً اشتراك الألفاظ وعمومها وخصوصها: ينقسم اللفظ من حيث المعنى الذي وضع له إلى: مشترك، وعام وخاص. 156 - اللفظ المشترك: هو لفظ وضع المعنيين أو أكثر بأوضاع متعددة فهو يدل على ما وضع له على سبيل البدل، أي يدل على هذا المعنى أو ذاك؛ كلفظ القرء يدل على الحيض والطهر، ولفظ اليد في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فإنه يعني اليمنى واليسرى، ويعني من رءوس الأصابع إلى الرسغين وإلى المرفق وإلى المنكب. والاشتراك قد يكون بين معنى لغوي ومعنى اصطلاحي شرعي، وقد يكون بين أكثر من معنى واحد من المعاني اللغوية. فإذا كان الاشتراك بين معنى لغوي ومعنى اصطلاحي شرعي وجب حمل اللفظ على المعنى الاصطلاحي الشرعي دون غيره، فلفظ الطلاق موضوع لغة لحل أي قيد وموضوع شرعاً لحل قيد النكاح، فإذا أراد معرفة المعنى المقصود من هذا اللفظ المشترك في قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وجب أن نعرف أن المقصود هو المعنى الاصطلاحي. وإذا كان اللفظ المشترك مشتركاً بين معنيين أو أكثر من المعاني اللغوية وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يعينه، لأن الشارع لا يقصد عقلاً من اللفظ إلا أحد معانيه، وللقاضي أن يستدل بالقرائن والأمارات التي تعين المعنى المراد، ومثال اللفظ المشترك بين معنيين لغويين الواو في قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فالواو لفظ مشترك يستعمل لغة للعطف كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 يستعمل للحال، فإن أريد به الحال كان النهي وارداً على ما لم يذكر اسم الله عليه، والحال أنه فسق أي ذكر عليه حين ذبحه اسم غير الله، وإن أريد به العطف كان النهي وارداً على ما لم يذكر اسم الله عليه مطلقاً، سواء ذكر عليه حين الذبح اسم غير الله أم لم يذكر. ومهما تعددت معاني اللفظ المشترك فإن الشارع لا يقصد إلا أحدها دون غيره؛ لأن المعاني المتعددة توضع على سبيل البدل؛ أي على أن يحل معنى بدلاً من آخر، ولأن بعض المعاني متضاربة فلو جمع بينها لكان المقصود المعنى وضده في وقت واحد. 157 - اللفظ العام: هو لفظ وضع لمعنى واحد يتحقق في أفراد كثيرين غير محصورين، ويدل بوضعه اللغوي على شمول هذه الأفراد واستغراقها جميعاً، مثل لفظ الوصية في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصية لوارث" فهو يدل بوضعه اللغوي على شمول كل وصية؛ لأنه نكرة في سياق النفي وهي تدل على العموم. والفرق بين اللفظ المشترك واللفظ العام، أن المشترك وضع لمعان متعددة، أما العام فموضوع لمعنى واحد يتحقق في أفراد كثيرين. والألفاظ التي تفيد العموم تنحصر بالاستقراء في سبعة أنواع: 1 - لفظ كل ولفظ جميع، فكل منهما يفيد شمول أفراد ما يضاف إليه، مثل قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] . 2 - المفرد المعرف بـ"أل" الجنسية، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وقوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، فالمراد: جنس السارق وجنس البيع وجنس الربا، والجنس يتحقق في كل فرد، فينطبق النص على كل سارق وكل بيع وكل ربا. 3 - الجمع المعرف بـ"أل" الجنسية أو المعرف بالإضافة، ومثل الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] ، ومثل الثاني قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] . 4 - النكرة في سياق النفي، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا يقاد والد بولده"، وقوله: "لا وصية لوارث". 5 - الاسم الموصول، مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . 6 - اسم الشرط، مثل قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} [النساء: 93] ، وقوله: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] . 7 - اسم الاستفهام، مثل قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245] . 158 - دلالة العام قطعية: وإذا ورد في نص شرعي لفظ عام ولم يقم دليل على تخصيصه وجب حمله على عمومه، لأنه موضوع لغة لهذا العموم، ولم يقم دليل يصرفه عما وضع له، وكان ثبوت الحكم الوارد بالنص لجميع أفراد هذا العام قطعياً لا ظنياً؛ لأن اللفظ عند الإطلاق يلازمه معناه قطعاً، وهذا هو معنى القاعدة الأصولية: "العام الذي لم يخصص يتناول جميع أفراده قطعاً". وإذا قام دليل على تخصيص العام وجب حمله على ما بقى من أفراده بعد التخصيص، وكان الحكم الوارد بالنص لهذه الأفراد الباقية بعد التخصيص ظنياً لا قطعياً؛ لأن النص الذي خصص العام أولاً لابد أن يكون معللاً، وهذه العلة قد تتحقق في فرد آخر مما بقى بعد التخصيص، فكأن التخصيص الأول قد جعل كل فرد من أفراد العام الباقية محتملاً للتخصيص، ولهذا الاحتمال لا تكون الدلالة قطعية. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 فهذا نص عام ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خصصه بقوله: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، ففتح هذا التخصيص للمجتهدين باب تخصيص آخر فقاسوا المصاهرة على النسب، وحرموا من الرضاع ما يحرم بالمصاهرة، كما حرم النص من الرضاع ما يحرم من النسب. 159 - ما يترتب على قطعية دلالة العام: ويترتب على القول بقطعية دلالة العام الذي لم يخصص نتيجتان هامتان: النتيجة الأولى: أن العام في نصوص القرآن والسنة المتواترة لا يخصصه ابتداء قياس ولا سنة غير متواترة؛ لأن كليهما ظني الدلالة، والظني لا يخصص القطعي. أما إذا خصص العام بقطعي فيصح بعد ذلك أن يخصصه قياس أو سنة غير متواترة؛ لأن العام بالتخصيص الأول صار ظني الدلالة، ومن ثم يصح تخصيصه بظني مثله. النتيجة الثانية: أن العام الذي لم يخصص إذا دل على حكم ودل نص خاص على خلافه فإنهما يتعارضان؛ لتساويهما في أن كلاً منهما قطعي الدلالة، فإذا خصص العام فإنه لا يعارض النص الخاص، لأنه يصير ظني الدلالة فلا يعارض النص الخاص وهو قطعي الدلالة، ويكون الترجيح للقطعي. على أن البعض يرى أن العام ظني الدلالة في كل الأحوال، لأن استقراء نصوص الشريعة دل على أنه لم يبق فيها عام على عمومه حتى اشتهرت هذه القاعدة: "ما من عام إلا وخصص". ويترتب على هذا الرأي أن العام من نصوص القرآن والسنة يخصص ابتداء بالقياس، وبالسنة غير المتواترة، وأنه إذا دل نص عام على حكم ودل نص خاص على خلافه لا يتعارضان، بل يرجح الخاص لأنه قطعي الدلالة، أما العام فظني الدلالة، والقاعدة أن الظني والقطعي لا يتعارضان لعدم تساويهما، وأن التعارض لا يكون إلا بين متساويين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 160 - تخصيص العام: يقصد من التخصيص العام صرفه عن عمومه وقصره على بعض ما يتناوله من الأفراد بحيث لا يدخل تحت حكم النص إلا ما بقى من أفراده بعد التخصيص، ولا يكون التخصيص إلا بدليل، وهذا الدليل على نوعين: دليل غير مستقل ودليل مستقل. 161 - الدليل غير المستقل: هو ما كان جزءاً من عبارة النص العام، مثل الاستثناء الوارد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 4 - 5] . 162 - الدليل المستقل: هو ما لم يكن جزءاً من عبارة النص العام، وهو على ثلاثة أنواع: النوع الأول: المبادئ العامة للشريعة: فإنها تخصص العام من الأحكام الشريعة، كما في النصوص التي جاءت بتكاليف دون تخصيص، فإن هذه النصوص لا تنطبق إلا على من هم أهل للتكليف، أما فاقدو الأهلية كالمجانين والأطفال فلا تنطبق عليهم هذه النصوص طبقاً لمبادئ الشريعة العامة، فكأن هذه المبادئ العامة خصصت نصوصاً عامة من نصوص الشريعة. النوع الثاني: العرف: وقد يخصص العرف النصوص العامة فيحمل العام على ما يقتضي العرف بحمله عليه، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "لا قطع إلا في ربع دينار". فقيمة الدينار تخضع للتقدير المتعارف عليه بين الناس. النوع الثالث: النص الشرعي: فقد يخصص النص العام بنص آخر، ولكن يشترط أن يكون المخصص في مرتبة العام المخصص من حيث قطعيته أو ظنيته أو أن يكون أعلى منه، وينبني على ذلك أن نصوص القرآن يخصص بعضها بعضاً، وأن نصوص السنة يخصص بعضها بعضاً، إذا كانت كلها متواترة، أو كلها من أخبار الآحاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ويخصص القرآن بالسنة إذا كانت متواترة، ولا يخصص بحديث غير متواتر أو مشهور، ولا يخصص حديث متواتر أو مشهور بحديث من أخبار الآحاد؛ لأن القرآن قطعي، وفي حكمه الحديث المتواتر أو مشهور، أما خبر الآحاد فظني. 163 - المقصود من التخصيص: يقصد من التخصيص إما بيان المراد من النص العام، وإما نسخ الحكم وإبطاله بالنسبة لبعض الأفراد دون البعض الآخر، والقاعدة أنه لا يبين النص إلا ما كان في درجته أو أعلى منه، ولا ينسخه إلا ما كان كذلك. 164 - اللفظ الخاص: هو لفظ وضع للدلالة على فرد واحد بالشخص مثل محمد، أو واحد بالنوع مثل رجل، أو على أفراد متعددة محصورة مثل ثلاثة وعشرة ومائة وقوم ورهط وجمع وفريق، وغير ذلك من الألفاظ، التي تدل على عدد من الأفراد، ولا تدل على استغراق جميع الأفراد. 165 - حكم اللفظ الخاص: إذا ورد اللفظ الخاص في نص شرعي فإنه يدل دلالة قطعية لا ظنية على معناه الخاص الذي وضع له، مثل قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، فلفظ الثمانين والعشرة يدل دلالة قطعية على معناه، ولا تحتمل الثمانون أو عشرة نقصاً أو زيادة. لكن إذا قام دليل يقتضي تأويل اللفظ الخاص وإرادة معنى آخر منه وجب حمله على مقتضى هذا الدليل، كما تأولوا لفظ الشاة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في كل أربعين شاة شاة" فظاهر الحديث أنه لا يجزي في زكاة الأربعين شاة إلا واحدة منها، ولا تجزئ قيمتها، ولكن حكمة التشريع والأصول العامة في التضمين تقتضي تأويل هذا اللفظ وصرفه عن ظاهره؛ لأن الغرض من الزكاة دفع حاجة الفقراء، وهي تندفع بقيمة الشاة كما تندفع بالشاة، ومن ثم أول اللفظ على أن المقصود بالشاة شاة أو ما يعادل قيمتها، وعلى هذا الوجه تأولوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 إطعام المساكين العشرة، فرأوا أنه يجوز إطعام واحد عشر مرات، كما يجوز إطعام العشرة مرة واحدة. 166 - حالات اللفظ الخاص: للفظ الخاص حالات متعددة: فقد يرد مطلقاً، وقد يرد مقيداً، وقد يأتي في صيغة الطلب أي الأمر، وقد يأتي في صيغة النهي. 167 - المطلق والمقيد: المطلق هو ما دل على فرد شائع غير مقيد لفظاً بأي قيد، مثل مصري والمقيد هو ما دل على فرد مقيد لفظاً بقيد ما، مثل مصري مسلم. وحكم المطلق أنه يؤخذ على إطلاقه إلا إذا قام دليل على تقييده، فإن هذا الدليل المقيد يصرفه عن الإطلاق ويعين المراد منه، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] فإنه يفيد إطلاق القصاص في كل قتل متعمد، ولكنه قيد بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقاد والد بولده" فصار المراد من الآية القتل المتعمد الحاصل من غير والد. وإذا ورد اللفظ مطلقاً في نص شرعي ومقيداً في نص آخر، فإن كان الحكم الوارد فيهما متحداً، والسبب الذي بني عليه الحكم متحداً، حمل المطلق على المقيد، وكان المراد من المطلق هو المقيد؛ لأن الاختلاف بالإطلاق والتقييد لا يتصور مع اتحاد الحكم وسببه، ومثل ذلك قوله تعالى في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] فلفظ الدم في هذه الآية مطلق، وقوله تعالى في سورة الأنعام: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام: 145] ، فلفظ الدم في هذه الآية مقيد، والحكم في هذه الآيتين متحد وهو التحريم، والسبب متحد وهو أكل الدم. أما إذا اختلف النصاب في الحكم أو السبب فلا يحمل المطلق على المقيد، بل يعمل بكل نص في الحالة التي وضع لها؛ لأن اختلاف الحكم أو السبب هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 علة الإطلاق أو التقييد، مثل قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، وقوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، فالحكم واحد وهو تحرير الرقبة، والسبب مختلف؛ لأنه في الأولى قتل، وفي الثانية المظاهرة، فاختلاف السبب ترتب عليه تقييد الرقبة بالإيمان أي بأن يكون صاحبها مؤمناً تشديداً للعقوبة، ولم تقيد الرقبة بشئ في حالة المظاهرة؛ لأن الفعل لا يقتضي التشديد فيكتفي فيها بعتق أي رقبة. 168 - صيغة الأمر: إذا ورد اللفظ الخاص في صيغة الأمر أو في صيغة الخبر التي تعني الأمر فإن اللفظ يفيد الإيجاب أي الإلزام بفعل المأمور به أو المخبر عنه، كقوله تعالى: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] ، فالأول يوجب قطع يد السارق، والثاني يوجب تربص المطلقة ثلاثة قروء. ولكن إذا وجدت قرينة تصرف صيغة الأمر عن الإيجاب أخذ بما تدل عليه هذه القرينة، كقوله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} [الأعراف: 31] فإنه للإباحة، وقوله: {تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فإنه للندب، وكالتهديد في قوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] ، وغير ذلك مما تدل عليه صيغة الأمر بالقرآئن، فإذا لم توجد قرينة فالأمر للإيجاب. 168 - صيغة النهي: إذا ورد اللفظ الخاص بصيغة النهي أو بصيغة الخبر التي في معنى النهي أفاد التحريم؛ أي طلب الكف عن فعل النهي عنه على وجه الإلزام، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] ، وقوله: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] . وإذا وجدت قرينة تصرف صيغة النهي عن معناها إلى معنى آخر أخذ بالمعنى الذي دلت عليه القرينة، مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] فهو للدعاء، وقوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فهو للكراهة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الفرع الثاني القواعد التشريعية التي تراعى عند التفسير 169 - ماهية القواعد التشريعية: وضع علماء الأصول بعض القواعد التشريعية التي يجب الإلمام بها ومراعاتها على كل من يتعرض لتفسير النصوص التشريعية، وقد استمدوا هذه القواعد من استقراء الأحكام التي جاءت بها النصوص وعلل هذه الأحكام، ومن المبادئ العامة للشريعة وروح التشريع، حيث تبين لهم أن الشارع أراد من الشريعة أن يحقق مقاصد عامة، وأن بعض النصوص شرعت لحماية حقوق الجماعة، والبعض شرع لحماية حقوق الأفراد، والبعض شرع لحماية حقوق الجماعة وحقوق الأفراد معاً، فإذا راعى القاضي أو الفقيه هذه الاعتبارات كان له أن يجتهد في معرفة الأحكام ما لم يكن هناك نص صريح. 170 - مقاصد الشارع العامة من التشريع الإسلامي: لم يضع الشارع الأحكام الشرعية اعتباطاً، وإنما قصد بها تحقيق مقاصد عامة، ولا يمكن أن تفهم النصوص على حقيقتهاإلا إذا عرف مقصد الشارع من وضعها، لأن دلالة الألفاظ والعبارات على المعاني قد تحتمل أكثر من وجه، والذي يرجح واحداً من هذه الوجوه على غيره هو الوقوف على قصد الشارع، وقد تتعارض النصوص بعضها من بعض فلا يرفع هذا التعارض ولا يوفق بينها إلا معرفة ما قصده الشارع منها، فيجب إذن على كل باحث في التشريع الإسلامي أن يلم قبل كل شئ بمقاصد الشارع من التشريع، وأن يعرف الوقائع التي نزلت من أجلها نصوص القرآن، أو وردت فيها السنة، لتساعده على فهم النص، وأسباب النزول والورود مبينة في كتب التفسير والسنة. وقد حصر علماء الأصول مقاصد الشارع العامة من التشريع في ثلاثة مقاصد: 171 - المقصد الأول: حفظ كل ضروري للناس في حياتهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 والأمر الضروري هو ما تقوم عليه حياة الناس ولابد منه لاستقامة مصالحهم، وإذا فقد اختل نظام حياتهم وعمت فيهم الفوضى وانتشر الفساد. والأمور الضرورية ترجع إلى خمسة أشياء: (1) الدين ... (2) النفس ... (3) العقل ... (4) النسل ... (5) المال. وقد شرع الإسلام لكل واحد من هذه الضروريات الخمسة أحكاماً تكفل إيجاده وإقامته، وأحكاماً تكفل حفظه وصيانته، فكل حكم يكفل إقامة هذه الأمور الخمسة أو حفظها هو حكم ضروري. 172 - المقصد الثاني: توفير ما هو حاجي للناس: والأمر الحاجي هو ما يحتاج إليه الناس للتيسير واحتمال مشاق التكليف وأعباء الحياة، وإذا فقد لا يختل نظام حياتهم ولا تعم الفوضى ولكن ينالهم الحرج والمشقة، فالأمور الحاجية بهذا المعنى تشمل كل ما يرفع الحرج، ويخفف مشاق التكليف، وييسر طرق التعامل. 173 - المقصد الثالث: تحقيق ما فيه تحسين لحال الأفراد والجماعة: والأمر التحسيني هو ما تقتضيه المروءة والآداب وسير الأمور على أحسن منهاج، وإذا فقد لا يختل نظام حياتهم كما إذا فقد الأمر الضروري، ولا ينالهم حرج كما إذا فقد الأمر الحاجي، ولكن تكون حالهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة. والأمور التحسينية بهذا المعنى ترجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وكل ما يقصد به سير الناس في حياتهم عل أفضل الطرق وخير المناهج. 174 - ترتيب المقاصد العامة في التشريع: الضروريات هي أهم المقاصد إذا ترتب على فقدها اختلال النظام والأمن وشيوع الفوضى. وتليها في الأهمية الحاجيات؛ لأنه يترتب على فقدها وقوع الأفراد والجماعة في الحرج والعسر وتحميلهم المشاق. وتليها التحسينية، وفقدها لا يترتب عليه تقويض النظام، ولا اختلال الأمن، ولا وقوع الناس في حرج، وإنما يترتب على فقدها الخروج على ما تستحسنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 العقول، والبعد عن الكمال الإنساني. ومن ثم كانت الأحكام التي شرعت لحفظ الضروريات أحق الأحكام بالمراعاة، ثم تليها التي شرعت لتوفير الحاجيات، وهكذا. ومن المقرر أنه لا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحكم حاجي، ولا يراعى حكم حاجي إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري، ولذا أبيح كشف العورة إذا أقتضى هذا علاج أو جراحة؛ لأن ستر العورة أمر تحسيني والعلاج أمر ضروري، وأبيح تناول النجس للتداوي وفي حالة الضرورة؛ لأن المنع من النجاسات تحسيني والتداوي ودفع الضرورة أمر ضروري. وتجب الفرائض والواجبات على المكلفين ولو شق عليهم ذلك، لأن الفرائض والواجبات من الضروريات، ورفع المشقة والحرج أمر تحسيني، فلا يراعى التحسيني إذا مس الضروري. والأحكام الضرورية لا يجوز الإخلال بها إلا إذا كانت مراعاتها تؤدي إلى الإخلال بضروري أكثر أهمية، فالجهاد واجب لحفظ الدين؛ لأن حفظ الدين أهم من حفظ النفس. وشرب الخمر يباح لمن أكره على شربها أو اضطر إليها؛ لأن حفظ النفس أهم من حفظ العقل. وإذا كانت وقاية النفس من الهلاك في إتلاف مال الغير، كان للإنسان أن يقي نفسه من الهلاك ويتلف مال غيره؛ لأن حفظ النفس أهم من حفظ المال. 175 - حقوق الجماعة وحقوق الأفراد: أفعال المكلفين سواء كانت جرائم أو لم تكن، بعضها حق خالص لله، أو حق الله غالب فيه. وبعضها حق خالص للمكلف، أو حق المكلف غالب فيه. وحين يعبر الفقهاء بما هو حق لله يقصدون ما هو حق للجماعة، وما قصد به تحقيق مصلحتها وحفظ النظام العام فيها، وقد جعلوه حقاً لله؛ لأنه لم يقصد به نفع فرد معين، وليس للأفراد حكاماً أو محكومين حق إسقاطه أو العفو عنه أو إهمال إقامته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ويعتبر من حقوق الله الخالصة؛ أي من حقوق الجماعة: الضرائب، والعقوبات على الجرائم الماسة بالجماعة كالزنا والسرقة والحرابة، والعقوبات التعبدية كالكفارة، وغير ذلك مما يمس حقوق الجماعة ويؤثر على أمنها ونظامها وتماسكها وقوتها. وهناك أفعال تمس حقوق الأفراد ولكن حق الجماعة غالب عليها، كحد القذف؛ لأن الجريمة تمس الأعراض، ففي العقوبة عليها مصلحة خاصة للمقذوف كما أن في عدم التبليغ عنها مصلحة خاصة له أيضاً؛ لأن للقاذف أن يثبت صحة القذف، وإثبات ذلك قد يؤدي إلى إقامة حد الزنا على المقذوف. ولما كانت الجريمة تمس الأعراض، وتؤدي إلى التنابز والتعادي، وتشويه السمعة، وتلويث الأمهات والأولاد، والتشكيك في نظام الأسرة، جعل الحد حقاً لله، وغلب حق الله على حق المقذوف بحيث إذا أثبتت الجريمة فليس للمقذوف أن يتنازل أو يعفو، وإن كان له أن يبلغ عن الجريمة. وهناك أفعال تمس حقوق الجماعة ولكن حق الفرد غالب فيها، مثل القتل، فإنه يمس أمن الجماعة ونظامها، ويمس الأفراد مساساً مباشراً، والعقوبة عليه وضعت لحفظ مصالح الجماعة والأفراد، ولكن أعطى للفرد حق العفو عن عقوبة القصاص أو عقوبة الدية، فغلب بذلك حق الفرد على حق الجماعة (1) . والأفعال التي تمس حقوق الأفراد الخالصة هي التي تمس حقوقاً ترك للأفراد أن يستوفوها أو يتركوها، كتحصيل الدين، وحبس العين المرهونة، والمطالبة بالتعويض المترتب على فعل الجاني.   (1) راجع الفقرتين 381، 471. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ومع أن الفقهاء يقسمون الحقوق إلى حقوق لله وحقوق للأفراد، إلا أن الكثيرين منهم يرون - بحق - أن كل ما يمس حق الجماعة الخالص أو حق الأفراد الخالص يعتبر حقاً لله تعالى، أي من حقوق الجماعة ونظامها؛ لأن كل حكم شرعي إنما شرع ليمتثل ويتبع ومن حق الله على عباده أن يمتثلوا أوامره، ويجتنبوا نواهيه، ويعلموا بشريعته، فكل حكم إذن فيه حق لله من هذه الوجهة، وإذا قيل إن حكماً ما يرتب حقاً مجرداً للفرد ففي ذلك كثير من التجاوز، ولا يعتبر هذا القول صحيحاً على إطلاقه، وإنما يصح على تغلب حق العبد في الأمور الشخصية، كذلك فإن ما يعتبر حقاً خالصاً لله يمس دون شك مصالح الأفراد إما عاجزاً أو آجلاً؛ لأن الشريعة إنما وضعت لتحقيق مصلحة العباد. 176 - الاجتهاد: الاجتهاد في الاصطلاح: هو بذل الجهد للوصول إلى معرفة حكم شرعي، من دليل تفصيلي من الأدلة التي يضعها الشارع للدلالة على الأحكام. والقاعدة أنه إذا كان النص صريحاً قطعي الورود والدلالة فلا مجال للاجتهاد فيه، ويجب تطبيقه بحالته؛ لأنه قطعي الورود، أي: لا شك في وروده عن الله أو الرسول، فليس وروده محل بحث، ولأنه قطعي الدلالة فليس معناه محل بحث، ومن هذا آيات الأحكام المفسرة والمحكمة مثل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فلا مجال للاجتهاد في معاقبة الزاني بالجلد، ولا في عدد الجلدات، وكذلك لا اجتهاد في كل العقوبات المقدرة، ومثل الآيات القرآنية المفسرة أو المحكمة السنن المتواترة المفسرة. أما إذا كان النص ظني الورود أو الدلالة فهو محل للاجتهاد، وللمجتهد أن يبحث في الدليل من حيث سنده وطريق وصوله إلينا، ومن حيث دلالته على معناه. ومجال الاجتهاد واسع فيما لا نص فيه، فالمجتهد يبحث الواقعة التي لا نص فيها ليصل لمعرفة حكمها عن طريق القياس، أو الاستحسان، أو الاستصحاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أو العرف، أو المصالح المرسلة، وهذا ممكن في المسائل المدنية والشخصية، وفي الإجراءات الجنائية، ولكنه غير ممكن في تقرير الجرائم والعقوبات؛ لأن الجرائم والعقوبات لابد فيها من النص الصريح، ولا يؤخذ فيها بالقياس أو غيره كما ذكرنا قبلاً. 177 - كلمة ختامية عن قواعد التفسير: هذه هي القواعد العامة اللغوية والتشريعية التي وضعها الفقهاء للاهتداء بها في تفسير النصوص، على القاضي أن يستعين بها في تفهم النصوص، ومعرفة مراميها، وما يدخل تحتها، كما أن هذه القواعد تعينه على معرفة النص الواجب التطبيق، ومدى سلطته في تفسير النص أو إعماله أو إبطاله. وإذا كان للقاضي المدني أن يطبق هذه القواعد بتوسع، وأن يجعل للقياس والعرف والعدالة وغير ذلك من الاعتبارات مكاناً عند تفسير النص وتطبيقه، إلا أن القاضي الجنائي مقيد بأن يحصر اجتهاده في تفسير النص وتطبيقه على الواقعة المعروضة عليه، فليس له أن يخلق جريمة أو عقوبة من طريق القياس أو العرف أو الاستحسان، ولو كانت الواقعة المعروضة عليه مما ينفر منها الخلق الفاضل. وليس للقاضي الجنائي أن يخالف النص الصريح مهما كانت الظروف والاعتبارات، وعليه أن يراعى في كل الأحوال مبدأين شرعيين أساسيين: وأولهما قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ادراءوا الحدود بالشبهات"، وثانيهما: قوله: "إن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"، وسنتكلم على هذين المبدأين فيما يلي: 178 - المبدأ الأول: درء الحدود بالشبهات: القاعدة العامة في الشريعة أن الحدود تدرأ بالشبهات، والحدود هي العقوبات المقدرة، ويدخل تحت الحدود العقوبات المقررة لجرائم الحدود، والعقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية، أما العقوبات المقررة لجرائم التعازير فلا تعتبر حدوداً؛ لأنها عقوبات غير مقدرة (1) .   (1) راجع الفقرات 51، 103، 440. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 والأصل في هذه القاعدة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ادرءوا الحدود بالشبهات". فعلى هذا الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول، وأجمع عليه فقهاء الأمصار قامت القاعدة. وقد عمل الصحابة بها بعد وفاة الرسول، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلى من أن أقيمها بالشبهات. وروي عن معاذ وعبد الله بن مسعود وعقبه بن عامر أنهم قالوا: إذا اشتبه عليك الحد فادرأه. وليس في الفقهاء من ينكر قاعدة درء الحدود بالشبهات إلا الظاهريون، فإنهم يرون أن الحد لا يحل درؤه بالشبهة، ولا يسلمون بصحة ما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة (1) . والآثار الكثيرة المروية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة تؤيد صحة هذه القاعدة، من ذلك أنه لما جاء ماعز معترفاً بالزنا للرسول قال عليه السلام: "لعلك قبلت، لعلك لمست، لعلك غمزت" كل ذلك يلقنه أن يقول نعم بعد إقراره بالزنا. وجئ له بسارق معترف بالسرقة فقال له: "أسرقت؟ ما أخاله سرق". ولما جاءته الغامدية مقرة بالزنا، قال لها نحواً من ذلك. فهذه جرائم من جرائم الحدود كان الدليل الوحيد فيها على الجريمة هو الإقرار، وكان الرسول يلقن المقر أن يعدل عن إقراره، ولو لم يكن للعدول أثره في درء الحد لما أوحى به الرسول للمقر. أما كيف يدرأ العدول الحد فذلك أن الإقرار هو الدليل الوحيد في قضية، والعدول عن الإقرار شبهة في عدم صحة الإقرار، والحدود تدرأ بالشبهات. ولما جاءت شراحة الهمدانية معترفة بالزنا لعلي رضي الله عنه قال لها: لعله وقع عليك وأنت نائمة؟ لعله استكرهك؟ لعل مولاك زوجك منه وأنت تكتمينه؟ وما كان على يقصد من هذه الأسئلة إلا ما قصده الرسول عليه السلام. ومن أجل ذلك يرى بعض الفقهاء أنه يستحب للقاضي أن يعرض للمقر   (1) شرح فتح القدير ج4 ص139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 بالرجوع عن الإقرار إذا لم يكن ثمة دليل إلا الإقرار (1) . 179 - تعريف الشبهة: الشبهة هي ما يشبه الثابت وليس بثابت (2) ، أو هي وجود المبيح صورة مع انعدام حكمه أو حقيقته (3) . ومن الأمثلة على الشبهة: (1) شبهة الملك في سرقة الملك المشترك: فمن سرق مالاً يشترك فيه مع آخر يدرأ عنه الحد؛ لأن السرقة هي أخذ مال الغير خفية؛ ولأنه لم يأخذ مالاً خالصاً للغير وإنما أخذه متلبساً بماله. (2) وشبهة الملك في سرقة الأب من ابنه: فالأب حين يأخذ خفية مال ولده ينطبق عليه تعريف السرقة، ويستحق عقوبة القطع، ولكن الحد يدرأ عن الأب لشبهة تملكما الولد، وهذه الشبهة أساسها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك". (3) وشبهة الملك في اللواط بالزوجة: فإتيان الزوج زوجته في دبرها محرم، ويعتبره الفقهاء زنا، ولكنهم يدرءون الحد عنه؛ لأن الزواج يجعل الزوجة في ملك الزوج، ويعطيه حق التمتع بكل جسمها، فتملك الزوج للزوجة يقوم شبهة في أن له أن يلوط بها. وقيام هذه الشبهة يستوجب درء الحد. ومن الأمثلة على الشبهة: شبهة عدم الثبوت: من أقر بارتكابه جريمة من جرائم الحدود ولم يكن دليل إلا إقراره وجب عليه الحد بالإقرار، فإذا عدل عن إقراره كان العدول شبهة في عدم الثبوت؛ لاحتمال أن يكون إقراره غير صحيح، وترتب على قيام هذه الشبهة درء الحد. ومثل ذلك يقال عن عدول الشهود إذا لم يكن دليل إلا الشهود. وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على درء الحدود بالشبهات إلا أنهم لا يتفقون على كل الشبهات، فهناك ما يراه البعض شبهة صالحة للدرء بينما لا يراه البعض   (1) شرح فتح القدير ج4 ص121. (2) لا يقصد بالثبوت ثبوت الفعل فقط، وإنما يقصد بالثبوت معناه العام، فيشمل ثبوت الفعل وثبوت الحكم. شرح فتح القدير ج4 ص140. (3) المغني ج10 ص152 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الآخر شبهة، والأمثلة على ذلك كثيرة: فمن وجد امرأة في فراشه فوطئها ظناً منه أنها امرأته درء عنه الحد عند مالك والشافعي وأحمد (1) ؛ لأنهم يرون في وجود المرأة على فراش الرجل شبهة تؤيد دعواه في أنه ظنها امرأته. أما أبو حنيفة (2) فلا يرى في وجود المرأة على فراش الرجل شبهة؛ لأنه ينام على الفراش غير الزوجة من أقاربها أو زائراتها. ومن تزوج امرأة من محاربه يدرأ عنه الحد عند أبي حنيفة، فلا يحد حد الزنا لشبهة العقد. ويخالفه في ذلك أبو يوسف ومحمد (3) ، ويريان ما يراه مالك والشافعي وأحمد من أن الحد لا يدرأ لشبهة العقد ما دام الجاني عالماً بالتحريم (4) . وكل نكاح أجمع على بطلانه كنكاح الخامسة، أو المتزوجة، أو المعتدة، أو المطلقة ثلاثاً، يدرأ فيه أبو حنيفة الحد، ولو كان الجاني عالماً بالتحريم؛ لأن العقد في رأي أبي حنيفة شبهة، والشبهة تدرأ الحد (5) . ولا يرى مالك والشافعي وأحمد درء الحد في هذه الحالات؛ لأنهم لا يعتبرون العقد شبهة (6) . ويرى أبو حنيفة أن من يستأجر امرأة للزنا لا يحد لشبهة العقد. ويخالفه في هذا أبو يوسف ومحمد، حيث يريان ما يراه ممالك والشافعي وأحمد (7) ؛   (1) أسنى المطالب ج4 ص126، شرح الزرقاني ج8 ص78، المغني ج10 ص155. (2) شرح فتح القدير ج4 ص147 (3) شرح فتح القدير ج4 ص147. (4) شرح الزرقاني ج8 ص76، اسنى المطالب ج4 ص127، المغني ج10 ص154. (5) شرح فتح القدير ج4 ص143، 148، 149 (6) شرح الزرقاني ج8 ص76، 77، 80، أسنى المطالب ج4 ص126، المغني ج10 ص154 (7) شرح الزرقاني ج8 ص76، أسنى المطالب ج4 ص127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وهو أن لا يدرأ الحد لشبهة العقد؛ لأنه عقد لا تستباح به المرأة. وحجة أبي حنيفة أن العقد عقد منفعة؛ وأن الزاني يستوفي بالزنا منفعة فأورث العقد شبهة (1) . ويدرأ أبو حنيفة الحد في سرقة ما هو مباح الأصل، كسرقة الماء بعد إحرازه، والصيد بعد صيده؛ لأن كليهما في أصله مال مباح، وفيه شركة عامة، "والإباحة الأصلية تورث شبهة في بقاء المال مباحاً بعد إحرازه، والشركة العامة تورث شبهة في بقاء الشركة قائمة بعد إحراز المال" (2) . أما مالك والشافعي وأحمد فلا يدرءون الحد؛ لأنهم لا يرون شبهة في كون المال مباح الأصل (3) . ويجعل أبو حنيفة التفاهة شبهة في المال تدرأ الحد عن سارقه، ويرتب على ذلك أن لا قطع في التراب والطين والجص والتبن وأشباهها، ولا قطع في التبن والحشيش والقصب والحطب وأشباهها، وحجته أن الناس لا يتمولون هذه الأشياء عادة، ولا يضنون بها لعدم عزتها وقلة خطرها، ويعدون الضن بها من باب الخساسة، ويعتمد أبو حنيفة على عرف الناس وعاداتهم في بيان الشئ التافه، ولكنه يسلم بأن الشئ التافه قد يصبح بالصناعة ذا قيمة، كالقصب يصنع منه النشاب، فإذا أخرجت الصناعة الشئ التافه عن تفاهته كان القطع واجباً في سرقته. ويخالف أبو يوسف أبا حنيفة، ويرى أن الحد لا يدرأ إلا في سرقة التراب والسرجين، ولا يدرأ فيما عداهما ما دام المسروق مالاً متقوماً، ودليل التقوم والمالية عنده هو جواز البيع والشراء في المال. ويخالف مالك والشافعي وأحمد مذهب أبي حنيفة ولا يرون شبهة في تفاهة المال ما دامت قيمته تبلغ النصاب (4) .   (1) شرح فتح القدير ج4 ص148. (2) شرح فتح القدير ج4 ص 327 (3) شرح الزرقاني ج8 ص95، أسنى المطالب ج4 ص141، المغني ج10 ص247 (4) المرجع المذكور في رقمي 7، 8 من الصفحة السابقة، بدائع الصنائع ج7 ص67، 68 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ويدرأ أبو حنيفة الحد في سرقة ما يتسارع إليه الفساد، كالطعام الرطب والبقول واللحم والخبز وما أشبه. ويخالفه في ذلك أبو يوسف، ويأخذ برأي مالك والشافعي وأحمد، وهم لا يرون شبهة في كون المسروق مما يتسارع إليه الفساد (1) . ولا يرى أبو حنيفة القطع في سرقة باب المسجد لشبهة عدم تحريزه (2) . ويرى مالك والشافعي وأحمد القطع في سرقة باب المسجد، لأنه محرز ولا شبهة في عدم تحريزه (3) . 180 - أنواع الشبهة: اهتم الفقهاء الشافعيون والحنفيون بتقسيم الشبهة وبيان أنواعها المختلفة، أما الفقهاء المالكيون والحنابلة فقد اكتفوا بالتعرض للشبه واحدة بعد أخرى بصفة عامة كلما استلزم ذلك الأمر. وقد قسم الشافعية الشبهة ثلاثة أنواع: 1 - شبهة في المحل: كوطء الزوجة الحائض أو الصائمة، أو إتيان الزوجة في دبرها، فالشبهة هنا قائمة في محل الفعل المحرم؛ لأن المحل مملوك للزوج ومن حقه أن يباشر الزوجة، وإذا لم يكن له أن يباشرها وهي حائض أو صائمة أو أن يأتيها في الدبر إلا أن ملك المحل للزوج وحقه عليه يورث شبهة، وقيام هذه الشبهة يقتضي درء الحد، سواء اعتقد الفاعل بحل الفعل أو بحرمته؛ لأن أساس الشبهة ليس الاعتقاد والظن، وإنما أساسها محل الفعل وتسلط الفاعل شرعاً عليه. 2 - شبهة في الفاعل: كمن يطأ امرأة زفت إليه على أنها زوجته، ثم تبين   (1) الكراجع السابقة (2) شرح فتح القدير ج4 ص230 (3) شرح الزرقاني ج8 ص99، وأسنى المطالب ج4 ص140، المغني ج10 ص255 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 أنها ليست زوجته. فأساس الشبهة ظن الفاعل واعتقاده، بحيث يأتي الفعل وهو يعتقد أنه لا يأتي محرماً، وقيام هذا الظن عند الفاعل يورث شبهة يترتب عليها درء الحد، فإذا أتى الفاعل الفعل وهو عالم بأنه محرم فلا شبهة. 3 - شبهة في الجهة: ويقصد من هذا التعبير الاشتباه في حل الفعل وحرمته. وأساس هذه الشبهة الاختلاف بين الفقهاء على الفعل، فكل ما اختلفوا على جوازه أو حله يقوم الاختلاف فيه شبهة، ويدرأ فيه الحد، فمثلاً يجيز أبو حنيفة النكاح بلا ولي، ويجيز مالك النكاح بلا شهود، ويجيز ابن عباس نكاح المتعة، ومن ثم فلا يعتبر الوطء في هذه الأنكحة المختلف عليها زنا يحد عليه، بل يقوم الخلاف شبهة تدرأ الحد، ولو كان الفاعل يعتقد بحرمة الفعل؛ لأن هذا الاعتقاد في ذاته ليس له أثر ما دام العلماء مختلفين على الحل والحرمة (1) . ويقسم الحنفية الشبهة قسمين: الأول: الشبهة في الفعل (2) : ويسمونها أيضاً شبهة الاشتباه، وشبهة مشابهة، وهي شبهة في حق من اشتبه عليه الفعل دون من لم يشتبه عليه. وتثبت هذه الشبهة في حق من اشتبه عليه الحل والحرمة، ولم يكن ثمة دليل سمعي يفيد الحل، بل ظن غير الدليل دليلاً، كمن يطأ زوجته المطلقة ثلاثاًَ في عدتها (3) . ويشترط لقيام الشبهة في الفعل أن لا يكون هناك دليل على التحريم أصلاً، وأن يعتقد الجاني الحل، فإذا كان هناك دليل على التحريم، أو لم يكن الاعتقاد بالحل ثابتاً، فلا شبهة أصلاً. الثاني: الشبهة في المحل: ويسمونها الشبهة الحكمية أو شبهة الملك. ويشترط   (1) أسني المطالب ج4 ص126. (2) شرح فتح القدير ج4 ص140، 141. (3) يحصر الحنفيون شبهة الفعل في ثمانية مواضع في جريمة الزنا، أحدها إتيان المطلقة ثلاثاً أتناء العدة، والأئمة الثلاثة يخالفون الحنفيين، ولا يرون شبهة في هذه المواضع، ومن ثم فهم لا يعترفون بشبهة الفعل في جريمة الزنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 في هذه الشبهة أن تكون ناشئة عن حكم من أحكام الشريعة، فالسرقة محرمة بنص القرآن حيث قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أنت ومالك لأبيك"، فالنص الثاني يقوم بذاته شبهة على تطبيق حكم النص الأول الذي يحرم السرقة ويعاقب عليها بالقطع؛ لأن النص الثاني يجعل الولد وماله ملكاً للأب، فإذا سرق الأب مال ولده فقد سرق ماله حكماً، فالشبهة في المحل أو الشبهة الحكمية تتحقق بقيام دليل شرعي ينفي الحرمة ولا عبرة بظن الفاعل، فيستوي أن يعتقد الفاعل أنه يسرق، أو يعتقد أنه لا يسرق؛ لأن الحرمة مشكوك فيها بقيام دليل الحد (1) . ويضيف أبو حنيفة نوعاً ثالثاً من الشبهات، وهو شبهة العقد، فعنده أن الشبهة تثبت بالعقد ولو كان العقد متفقاً على تحريمه وكان الجاني عالماً بالتحريم. ولكن أصحابه وباقي الأئمة الأربعة يخالفونه في هذا، ولا يرون العقد شبهة إلا إذا كان الجاني يظن الحل ويعتقده. وعلى هذا تكون الشبهة على رأي أبي حنيفة على ثلاثة أنواع: شبهة الفعل، وشبهة المحل، وشبهة العقد. 181 - ما يترتب على درء الحدود بالشبهات: تختلف النتائج التي تترتب على الأخذ بقاعدة درء الحدود بالشبهات، ففي بعض الأحيان يؤدي تطبيق القاعدة إلى درء عقوبة الحد وتبرئة المتهم من الجريمة المنسوبة إليه، وفي بعض الأحيان يؤدي تطبيق القاعدة إلى درء عقوبة الحد وإحلال عقوبة تعزيرية محلها. ويبرأ المتهم من الجناية المنسوبة إليه في ثلاث حالات: الأولى: إذا كانت الشبهة قائمة في ركن من أركان الجريمة؛ فمن زفت إليه غير زوجته، فأتاها على اعتقاد أنها زوجته، لا يعاقب على الزنا بعقوبة الحد، ولا بعقوبة تعزيرية،   (1) شرح فتح القدير ج4 ص141، 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وإنما يحكم ببراءته؛ لانعدام القصد الجنائي لديه، والقصد الجنائي ركن من أركان جريمة الزنا. ومن أخذ خفية مالاً له وهو يعتقد أنه مال الغير لا يعاقب على السرقة حداً ولا تعزيراً؛ لانعدام ركن من أركان الجريمة، وهو كون المال مال الغير. الثانية: أن تكون الشبهة قائمة في انطباق النص المحرم على الفعل المنسوب للمتهم، فمن تزوج بلا شهود أو بلا ولي، أو تزوج زواج متعة، لا يعاقب حداً ولا تعزيراً باعتباره زانياً؛ لأن العلماء اختلفوا في هذه الأنكحة، فأحلها بعضهم وحرمها البعض الآخر، وهذا الاختلاف معناه الشك في انطباق نص الزنا على هذه الأفعال، ومن ثم تجب تبرئة المتهم من الجناية المنسوبة إليه. الثالثة: أن تكون الشبهة قائمة في ثبوت الجريمة، فإذا شهد شخصان على آخر بأنه شرب خمراً، ثم عدلا عن شهادتهما ولم يكن هناك دليل آخر، درئ الحد لشبهة صدق الشاهدين في عدولهما، وبرئ المتهم مما نسب إليه. وإذا نسب إلى شخص يُجَنُّ ويفيق أنه ارتد أو سرق، ولم يعلم إن كان ارتكب الجريمة وقت الإفاقة أو وقت الجنون، درئ عنه الحد؛ لشبهة عدم التكليف، وبرئ مما نسب إليه. وفيما عدا هذه الحالات الثلاث فإن تطبيق القاعدة إذا أدى لدرء الحد فإنه يؤدي في الوقت ذاته إلى استبدال التعزير بالحد أياً كان مصدر الشبهة، فالأب يدرأ عنه الحد في سرقة مال ولده؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "أنت ومالك لأبيك"، ولكنه يعزر؛ لأن الدرء كان لشبهة حكمية أي شبهة في المحل. ومن يأت زوجته في دبرها يدرأ عنه الحد للشبهة في المحل، ولكنه يعزر. ومن يتزوج مَحرَماً أو يستأجر امرأة للزنا يُدرأ عنه الحد لشبهة العقد عند أبي حنيفة، ولكنه يعزر. ومن سرق مالاً تافهاً كالتراب، أو مباح الأصل كالصيد بعد صيده، يدرأ عنه حد السرقة عند أبي حنيفة؛ لشبهة التفاهة والإباحة، ولكنه يعزر. ومن يسرق باب المسجد يدرأ عنه الحد في رأي أبي حنيفة لشبهة عدم الحرز، ولكنه يعزر. وإذا نسب إلى شخص سرقة مثلاً، واشتبه فيما إذا كان بلغ الحلم أم لم يبلغ، درئ عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الحد، وعزر على ما نسب إليه. ومن يقر على نفسه بجريمة من جرائم الحدود ولا دليل عليه إلا إقراره يحد بإقراره، فإذا عدل عن إقراره كان عدوله شبهة تدرأ الحد، ولكنه يعزر بدلاً من عقوبة الحد. والفرق بين عدول المقر عن الإقرار، وعدول الشهود عن الشهادة: أن المتهم يعزر عند العدول عن الإقرار ويبرأ إذا عدل الشهود عن شهادتهم. وأساس هذا الفرق أن الإنسان لا يتهم نفسه عادة بجريمة لم يرتكبها، ولكن من السهل أن يتهمه غيره كذباً بما لم يفعله. على أنه إذا تبين أن الإقرار كان نتيجة إكراه كان الحكم بالبراءة واجباً، إذ الإقرار نتيجة الإكراه أو التهديد باطل؛ لحديث ابن عمر: "ليس الرجل على نفسه بأمين إن جوَّعت أو خوَّفت أو أوثقت". ولأن الإقرار يكون حجة لترجيح جانب الصدق فيه، فإذا امتنع المقر عن الإقرار حتى هُدد أو أُكره فالظاهر أنه كاذب في إقراره، والعدول عن الإقرار الصحيح يدرأ به الحد للشبهة، ولكن الإقرار يبقى مع هذا مرجحاً فيه جانب الصدق، فيصلح دليلاً يُعزَّر به وإن لم يصلح دليلاً لعقوبة الحد. والمسألة على كل حال متروكة لتقدير القاضي، فإن اقتنع أن الإقرار صحيح عاقب بعقوبة تعزيرية، وإن لم يقتنع حكم بالبراءة. 182 - هل تطبق قاعدة درء الحدود بالشبهات على جرائم التعازير؟: الأصل في قاعدة درء الحدود بالشبهات أنها وضعت لجرائم الحدود، لكن ليس ثمة ما يمنع من تطبيقها على جرائم التعازير؛ لأن القاعدة وضعت لتحقيق العدالة ولضمان صالح المتهمين، وكل متهم في حاجة لتوفير هذين الاعتبارين سواء كان متهماً في جريمة من جرائم الحدود أو جرائم التعازير. وتطبق القاعدة على جرائم التعازير في الحالات الثلاث التي يؤدي تطبيقها إلى البراءة في جرائم الحدود، ولا تطبق في حالات استبدال الحد بعقوبة تعزيرية؛ لأن جرائم التعازير عقوباتها غير مقدرة ومتروكة لتقدير القاضي واختياره، بعكس عقوبات جرائم الحدود فهي غير مقدرة وبالغة في الشدة والردع، وليس للقاضي أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 يعدل عنها ويستبدل بها غيرها إلا في حالة درء الحد للشبهة. 183 - المبدأ الثاني: تفضيل الخطأ في العفو: من المبادئ العامة المقررة في الشريعة أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، وأصل هذا المبدأ قول الرسول عليه السلام: "إن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"، ومعنى هذا المبدأ أنه لا يصح الحكم بالعقوبة إلا بعد التثبت من أن الجاني ارتكب الجريمة، وأن النص المحرم منطبق على الجريمة، فإذا كان ثمة شك في أن الجاني ارتكب الجريمة، أو في انطباق النص المحرم على الفعل المنسوب للجاني، وجب العفو عن الجاني، أي الحكم ببراءته؛ لأن براءة المجرم في حال الشك خير للجماعة، وأدعى إلى تحقيق العدالة من عقاب البرئ مع الشك. ومبدأ الخطأ في العفو ينطبق على كل أنواع الجرائم، فهو ينطبق على جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، وجرائم التعازير. ويمكن القول بأن مبدأ درء الحدود بالشبهات على أهميته يعتبر تطبيقاً لمبدأ الخطأ في العفو، على الأقل في الحالات التي يؤدي فيها درء الحد لتبرئة الجاني. 184 - القانون والشريعة: وتأخذ القوانين الوضعية بصفة عامة بطريقة الشريعة في التفسير، وإذا كانت القوانين تميل إلى تقييد سلطة القاضي في تفسير النصوص الجنائية، إلا أن المحاكم اتجهت تحت تأثير الضرورات العملية، والرغبة في حماية المصالح العامة، إلى التوسع في تفسير النصوص الجنائية، من ذلك أنها اخترعت نظرية التسليم الضروري في السرقة؛ لحماية الجمهور من ضرب من ضروب السرقة، لا يدخل تحت نص القانون إذا أخذ بنظرية التفسير الضيق، وكذلك اعتبرت المحاكم الكهرباء منقولاً؛ لتعاقب على اختلاسها بعقوبة السرقة، كذلك عاقبت على سرقة أكفان الموتى، والقاعدة التي تتبعها المحاكم يحبذها أكثر الشراح، وهي عين الطريقة التي تأخذ بها الشريعة الإسلامية. والقاعدة في القانون أن يفسر كل شك لمصلحة المتهم، وتطبيق هذه القاعدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 قد يؤدي إلى تخفيف عقوبة الجاني، وقد يؤدي إلى تبرئة المتهم. فمثلاً إذا شكت المحكمة في ركن الإكراه في السرقة بالإكراه، فسر ذلك الشك لمصلحة المتهم، واعتبرت الواقعة سرقة عادية، وعوقب عليها بعقوبة الجنحة بدلاً من عقوبة الجناية. وإذا شكت المحكمة في ثبوت الجريمة، أو في توفر ركن من أركانها، حكم ببراءة المتهم. ويتبين من هذا أن تفسير الشك لمصلحة المتهم في القانون يقابل في الشريعة درء الحد بالشبهات وتفضيل الخطأ في العفو، ويؤدي إلى نفس نتائج هذين المبدأين (1) . * * * المبحث الرابع تعارض الأحكام (أي النصوص) ونسخها 185 - التعارض: إذا تعارض نصان في قوة واحدة: كآيتين، أو آية وسنة متواترة، أو سنتين متواترتين، أو حديثين مشهورين، أو خبرين من أخبار الآحاد، وعلم تاريخ ورود كل من النصين المتعارضين، كان اللاحق منهما ناسخاً للسابق. وإذا لم يعلم تاريخ ورود النصين المتعارضين، رجح أحدهما على الآخر بطريق من طرق الترجيح، والترجيح إما أن يكون من ناحية المتن، وإما من ناحية السند، فمن جهة المتن يرجح الأقوى دلالة، فيرجح المفهوم بالعبارة على المفهوم بالإشارة وهكذا، ويرجح المحكم على المفسر، والمفسر على النص وهكذا، ويرجح العام على المخصص. ومن جهة السند يرجح الخبر الذي رواته من أهل الفقه والأمانة على غيرهم. وإذا لم يرجح أحد النصين المتعارضين على الآخر، يجمع بينهما بطريق من طرق الجمع والتوفيق، وهذا يكون بتخصيص أحد النصين لحالة، وتخصيص   (1) القانون الجنائي لعلي بدوي ص106- 110، شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص114، 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الآخر لحالة آخرى، أو يجعل أحد النصين مبيناً الحكم الدنيوي، والثاني مبيناً الحكم الأخروي، أو يجعل أحدهما حقيقياً، والثاني مجازياً، أو بغير ذلك. وإذا لم يعلم تاريخ ورود النصين المتعارضين، ولم يقم دليل على رجحان أحدهما على الأخر، ولم يمكن الجمع والتوفيق بينهما، عُدل عن الاستدلال بهما إلى الاستدلال بما دونهما مرتبة، فإن كان التعارض بين متواترين عدل إلى خبر الآحاد. ويراعى دائماً في حالة الترجيح والجمع والتوفيق عدم الخروج على مبادئ الشريعة العامة وروح التشريع، فتكون الموازنة بين الأدلة قائمة على ضوء مقاصد الشارع والمبادئ العامة. 186 - النسخ: هو إبطال حكم تشريعي بدليل يدل عليه صراحة أو ضمناً إبطالاً كلياً أو جزئياً لمصلحة اقتضته. فالنسخ الصريح: هو أن يصدر تشريع ينص صراحة على إبطال تشريع سابق، ومثال ذلك ما حدث في تشريع الزنا، فقد كانت العقوبة أول الأمر الحبس في البيوت والإيذاء، وذلك قوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً *وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: 15، 16] ، ثم نسخ ذلك صراحة بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وبقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة". ومثل النسخ الصريح أيضاً قول الرسول عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكركم الحياة الآخرة". والنسخ الضمني: هو أن يصدر الشارع تشريعاً لاحقاً لا ينص فيه صراحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 على إبطال التشريع السابق، ولكنه يأتي في التشريع اللاحق بأحكام تعارض أحكام التشريع السابق، بحيث لا يمكن التوفيق بين التشريعين إلا بإلغاء أحدهما، فيعتبر اللاحق ناسخاً للسابق ضمناً. والنسخ الكلي: هو إبطال تشريع سابق إبطالاً كلياً بالنسبة لكل فرد من أفراد المكلفين. والنسخ الجزئي: هو أن يجئ التشريع عاماً شاملاً كل فرد مكلف، ثم يلغى بالنسبة لبعض الأفراد، ومثال ذلك حكم القذف، فقد كان عاماً ثم نسخ بالنسبة إلى الأزواج فقط حيث شرعت لهم الملاعنة. 187 - محل النسخ: محل النسخ هو الأحكام التشريعية، وليست نصوص القرآن والسنة كلها قابلة للنسخ، بمعنى أن ما ورد به نص سابق يمكن أن ينسخه نص لاحق، فهناك نصوص محكمة لا تقبل النسخ بحال، وهي: أولاً: النصوص التي تضمنت أحكاماً أساسية كالنصوص التي أوجبت الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، والنصوص التي جاءت بأصول العقائد والعبادات، والنصوص التي قررت أمهات الفضائل كالصدق والعدل وأداء الأمانات، والنصوص التي حرمت الرذائل كالشرك بالله وقتل النفس بغير الحق، والزنا، والسرقة، والفساد في الأرض والظلم وغير ذلك. ثانياً: النصوص التي جاءت بأحكام مؤبدة، كقوله تعالى في قاذفي المحصنات: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] . ثالثاً: النصوص التي دلت على وقائع وقعت وأخبرت عن حوادث، كقوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5] ، وكقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالرعب مسيرة شهر"؛ لأن نسخ الخبر تكذيب للمخبر به، والكذب محال على الشارع. هذه الأنواع الثلاثة من النصوص لا تقبل النسخ وليست محلاً له، أما ماعداها من النصوص فهو يقبل النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 188 - متى كان النسخ؟: وإذا قلنا أن النصوص تقبل النسخ أو لا تقبله، فهذا القول فيما يتعلق بالقرآن والسنة ينطبق على العهد الذي كان التشريع ينزل فيه، وهو ينتهي بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أما بعد وفاته فقد أصبحت نصوص القرآن والسنة محكمة جميعها لا تقبل النسخ، ولا هي محل له، حيث لا توجد سلطة تملك تغيير ما أنزله الله على رسوله بعد انقطاع الوحي ووفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 189 - أي النصوص تنسخ الأخرى؟: القاعدة العامة في الشريعة أن النص لا ينسخه إلا نص في قوته أو أقوى منه، وأن النص الأقل قوة لا ينسخ نصاً أقوى منه. والنصوص في الشريعة مصدرها - كما علمنا - القرآن والسنة والإجماع والقياس، وما يصدره أولو الأمر من قوانين ولوائح وقرارات. والمصدران الأساسيان للشريعة هما القرآن والسنة، فهما اللذان جاءا بأسس الشريعة وأحكامها العامة والخاصة، أما بقية المصادر فهي لا تأتي بأسس شرعية جديدة، ولا تضع أحكاماً عامة جديدة، وإنما هي طرق للاستدلال على الأحكام الفرعية من نصوص القرآن والسنة، فهي لا يمكن أن تأتي بما يخالف القرآن والسنة، لأنها تستمد منهما وتستند على نصوصهما، وهذا ينطبق على الإجماع والقياس كما ينطبق على القوانين واللوائح التي يصدرها أولو الأمر، فالإجماع أساسه اتفاق المجتهدين على حكم شرعي متفق مع نصوص القرآن والسنة، فإن لم يكن نص فلا بد أن يكون متفقاً مع مبادئ الشريعة العامة وروحها. والقياس أساسه إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص من القرآن والسنة، والقوانين واللوائح تصدر من أولي الأمر لتنظيم حال الجماعة على أساس القرآن والسنة، وتجب طاعتها كلما كانت صادرة على هذا الأساس، وإلا فلا طاعة لها ولا لمن أصدرها. ويتبين مما سبق أن القرآن والسنة هما أساس الشريعة ومرجعها، وأنهما أقوى مصادر الشريعة وأعلاها درجة، أما بقية المصادر فهي تابعة للقرآن والسنة، وتقوم على نصوصهما، فالقرآن والسنة أصل وبقية المصادر فروع لهما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ولا يمكن عقلاً أن يكون الفرع مساوياً للأصل ولا أقوى منه، وإذن فمن المحال أن ينسخ القرآن أو السنة إجماع أو قياس (1) أو قانون أو لائحة. أما نصوص القرآن فينسخ بعضها بعض، وقد تنسخها السنة المتواترة؛ لأنها كلها قطعية وفي قوة واحدة. ونصوص السنة غير المتواترة قد ينسخ بعضها بعضاً؛ لأنها في قوة واحدة، وقد ينسخها القرآن والسنة المتواترة؛ لأنها أقوى منها. ولكن لا يُنسخ نص قرآني أو سنة متواترة بسنة غير متواترة؛ لأن الأقوى لا يُنسخ بما هو أقل منه قوة. وقد استقرت نصوص القرآن والسنة بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إذ بوفاته انقطع الوحي، وانقطع ورود النصوص، فصارت نصوص القرآن والسنة محكمة؛ لأن باب نسخها أغلق نهائياً، وأصبحت قانوناً واحداً يفسر خاصها العام، ويبين مقيدها المطلق؛ كأنما شرعت كلها دفعة واحدة على الحالة التي انتهت إليها. 190 - حكم الإجماع والقياس المخالفين للقرآن والسنة: يصعب أن يكون هناك إجماع أو قياس مخالف للقرآن والسنة؛ لأن الإجماع يجب أن يقوم على دليل من القرآن والسنة، فلا إجماع بلا مستند شرعي (2) . وإذا كان من شروط الإجماع أن يكون مستنداً إلى القرآن والسنة، فلا يتصور أن يكون مخالفاً لهما إلا إذا كان إجماعاً ممن يجهل القرآن والسنة ومن غير المجتهدين، وهذا ليس إجماعاً شرعياً ولا يترتب عليه أي أثر شرعي، وكل ما يأتي عن طريقه باطل بطلاناً مطلقاً. ومن المستبعد أن يكون هناك قياس مخالف للقرآن والسنة إذا روعيت   (1) المستصفي للغزالي ج1 ص126، فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت ج3 ص84. (2) فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت ج2 ص238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 شروط القياس؛ لأن أساس القياس أنه يلحق ما لا نص فيه بما فيه نص؛ لاشتراكهما في علة الحكم، فالحكم الذي يجئ عن طريق القياس هو حكم من أحكام القرآن أو السنة. فإذا فرض أن قياساً ما جاء بحكم مخالف للقرآن أو السنة، فهو قياس باطل بطلاناً مطلقاً؛ لأن من الشروط الأساسية في الشريعة أن يراعي المجتهد النصوص قبل كل شئ فلا يخرج عليها، وأن يتقيد بمقاصد الشارع العامة وبروح التشريع (1) . * * * المبحث الخامس علاقة الأحكام الشرعية بأحكام القوانين 191 - حكم القوانين واللوائح المخالفة للقرآن والسنة: إذا جاءت القوانين واللوائح متفقة مع نصوص القرآن والسنة، أو متمشية مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، وجبت الطاعة لها، وحقت العقوبة على من خالفها. أما إذا جاءت القوانين واللوائح خارجة على نصوص القرآن والسنة، أو خارجة على مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، فهي قوانين ولوائح باطلة بطلاناً مطلقاً، وليس لأحد أن يطيعها، بل على كل مسلم أن يحاربها. وسنبين فيما يلي أسباب هذا البطلان بعد أن نتكلم عن نظرية البطلان ذاتها. 192 - نظرية البطلان في الشريعة: أساس نظرية البطلان في الشريعة الإسلامية هو أن الأوامر والنواهي لم تجئ عبثاً، وأن الله أنزل كتابه وأرسل رسوله للناس؛ ليطيعوه ويعملوا بما جاء به، فمن عمل بما جاء به الرسول فعمله صحيح؛ لأنه وافق أمر الشارع، ومن خالف فقد بطل عمله؛ لمخالفته أمر الشارع، والله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} [النساء: 64] ،   (1) راجع الفقرات 115، 135، 169، 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7] ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} [النساء: 59] . وتنطبق نظرية البطلان على عمل الأفراد والجماعات، والحكام والمحكومين، وتصرفات هؤلاء وهؤلاء، فكل عمل أو تصرف جاء موافقاً لنصوص الشريعة أو مبادئها العامة وروحها فهو صحيح، وما جاء مخالفاً لنصوص الشريعة أو مبادئها العامة أو روحها التشريعية فهو باطل بطلاناً أصلياً، ولا يترتب عليه أي أثر، ومن ثم فكل قانون أو لائحة أو أمر جاء على خلاف الشريعة فهو باطل بطلاناً مطلقاً، وكل عبادة جاءت على خلاف الشريعة فهي عبادة باطلة، وكل تصرف أو عقد جاء على خلاف الشريعة فهو باطل بطلاناً مطلقاً. فالعمل إما أن يكون موافقاً للشريعة فهو صحيح، وإما أن يكون مخالفاً لها فهو باطل، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء. والمخالفون وهم الأحناف يخالفون نظرية الجمهور فيما يمس حقوق الجماعة، فعندهم أن القوانين واللوائح والأوامر المخالفة للشريعة باطلة بطلاناً مطلقاً، ولكنهم يخالفون فيما يمس بحقوق الأفراد، أي في العقود والتصرفات، فيرون أنها تكون صحيحة إذا كانت موافقة للشريعة، فإذا جاءت على خلافها فهي باطلة بطلاناً مطلقاً إذا كان الخلل في أصل العقد أو التصرف، أي في ركن من أركانه، أما إذا كان الخلل في وصف من أوصاف العقد أو التصرف، أي في شرط خارج عن ماهيته وأركانه، فالعقد أو التصرف يكون فاسداً لا باطلاً. والفرق بين الفاسد والباطل عندهم أن الباطل لا يترتب عليه أثر مطلقاً، وأن الفاسد يترتب عليه بعض آثاره (1) . وإذا طبقنا نظرية البطلان على القوانين واللوائح والقرارات والأوامر، أمكننا أن نقول على وجه القطع: إن التشريعات الوضعية على اختلاف أسمائها   (1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص186، 187، المستصفي للغزالي ج1 ص94، أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص99- 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 تكون باطلة بطلاناً مطلقاً كلما جاءت مخالفة لنصوص الشريعة الإسلامية، أو خارجة عن مبادئها العامة، أو مباينة لروح التشريع الإسلامي. وأساس هذا البطلان كونها مخالفة للشريعة طبقاً لرأي جمهور الفقهاء، وأساسه - طبقاً لرأي أبي حنيفة وأصحابه - أن القوانين واللوائح والأوامر بما يمس صالح الجماعة ونظامها العام، أو يمس حقوق الله طبقاً لتعبيرهم، وكل ما يتصل بصالح الجماعة ونظامها باطل بطلاناً مطلقاً إذا جاء مخالفاً للشريعة الإسلامية، فأساس البطلان إذن بإجماع الفقهاء هو مخالفة القوانين واللوائح والقرارات والأوامر لنصوص الشريعة أو مبادئها العامة أو روحها التشريعية. 193 - الأدلة على بطلان التشريعات الوضعية المخالفة للشريعة: بينا فيما سبق أن تطبيق نظرية البطلان في الشريعة يقتضي إبطال التشريعات الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية، وسنبين الآن أن هذا البطلان يستند إلى نصوص القرآن، ونصوص السنة، وإلى الإجماع، وهي مصادر القانون الجنائي في الشريعة الإسلامية. فقد جاءت نصوص القرآن والسنة صريحة في إبطال كل ما يخالف الشريعة، ومن ثم انعقد الإجماع على احترام هذه النصوص الصريحة وإبطال كل ما يخالفها، وسنقدم فيما يلي الأدلة على ذلك: 1 - إن الله أمر باتباع الشريعة ونهى عن اتباع ما يخالفها: فلم يجعل لمسلم أن يتخذ من غير شريعة الله قانوناً، وجعل كل ما يخرج على نصوص الشريعة، أة مبادئها العامة، أو روحها التشريعية، محرماً تحريماً قاطعاً على المسلمين بنص القرآن الصريح، حيث قسم الله الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما: إما الاستجابة لله والرسول واتباع ما جاء به الرسول، وإما اتباع الهوى، فكل ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى بنص القرآن، وذلك قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 كذلك قسم الله طريق الحكم بين الناس إلى طريقين لا ثالث لهما: أولهما: الحق، وهو الوحي الذي أنزل على رسله، وثانيهما: الهوى، وهو كل ما خالف الوحي، فقال جل شأنه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] . وقال تعالى موجهاً الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18، 19] . فقسم الأمر بين الشريعة التي جعل رسوله عليها، وأوحى إليه العمل بها، وأمر الأمة الإسلامية باتباعها، وبين اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وأمر بالأول ونهى عن الثاني. وقال جل شأنه: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] فأمر باتباع ما أنزل منه خاصة، ونهى عن اتباع ما يخالفه، وبين أن من اتبع غير ما أنزل من عند الله فقد اتبع أولياء من دون الله (1) . وهكذا قطعت نصوص القرآن في تحريم كل ما يخالف نصوص الشريعة صراحة أو ضمناً، وكل ما يخالف مبادئها العامة أو روحها التشريعية، ونهت نهياً جازماً عن العمل بغير الشريعة، واعتبرت العامل بغير الشريعة متبعاً هواه منقاداً إلى الضلال، مضلاً لغيره ظالماً لنفسه ولغيره، كافراً بما أنزل الله، متخذاً لنفسه أولياء من دون الله. 2 - إن الله لم يجعل لمؤمن أن يرضى بغير حكم الله، أو يتحاكم إلى غير ما أنزل الله: بل لقد أمر الله أن يكفر بكل حكم غير حكمه، واعتبر الرضا بغير حكمه ضلالاً بعيداً، واتباعاً للشيطان، وذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ   (1) أعلام الموقعين ج1 ص53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 60] . فمن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله وما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه. والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله، فمن آمن بالله ليس له أن يؤمن بغيره، ولا أن يقبل حكماً غير حكمه (1) . 3 - إن الله لم يجعل لمؤمن ولا مؤمنة أن يختار لنفسه أو يرضى لها غير ما اختاره الله ورسوله: ومن تخير غير ذلك فهو ضال لم يعرف الإيمان لقلبه سبيلاً، وذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، فإذا أمر الله باتباع ما أنزل على رسوله ونهى عن اتباع غيره، فليس لمؤمن أن يرضى بغير ما أنزل الله، فإن رضيه واختاره لنفسه فهو غير مؤمن (2) . 4 - إن الله حرم على المؤمنين أن يسبقوا رسوله بقول أو فعل أو أمر أو رأي، كما حرم عليهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت نبيه: فقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تعطوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ   (1) أعلام الموقعين ج1 ص56 (2) نفس المرجع ج1 ص57 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] ، فإذا كان رفع الصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم، فكيف بتقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها إليه، أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم؟ وقال جل شأنه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] ، فإذا جعل الله من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون إذا كانوا معه إلا بعد استئذانه، فأولى أن يكون من لوازم الإيمان أن لا يذهبوا إلى قول أو فعل، ولا إلى مذهب علمي أو سياسي إلا بعد استئذانه، وإذنه يعرف بعد وافته بموافقة ما يذهبون إليه لما جاء به، فإن وافقه فقد أذن، وإن لم يوافقه - ثم ذهبوا إلى هذا المخالف - فقد انتفى عنهم الإيمان، وحبطت أعمالهم، وخسروا دنياهم وآخرتهم (1) . 5 - إن الله أمر بأن يكون الحكم طبقاً لما أنزل، وجعل من لم يحكم بما أنزل الله كافراً، وظالماً، وفاسقاً: فقال جل شأنه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، وقال: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] ، وقال: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] . ومن المتفق عليه بين المفسرين أن من قبلنا استحدثوا لأنفسهم شرائع وقوانين، وتركوا بالحكم بها بعض ما أنزل الله، فاعتبرهم الله بعملهم هذا كفاراً وظلمة وفاسقين. ومن المتفق عليه أيضاً بين المفسرين أن من يستحدث من المسلمين أحكاماً غير ما أنزل الله، ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته، فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى كل بحسب حاله، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر   (1) أعلام الموقعين ج1 ص58 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 عليه فهو كافر قطعاً، ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم إن كان في حكمه مضيعاً لحق، أو تاركاً لعدل، أو مساواة، وإلا فهو فاسق (1) . 6 - وإذا لم يكن لمؤمن أن يؤمن بغير ما أنزل الله، أو يقبل حكماً غير حكمه: فليس لمؤمن أن يحاول التوفيق بين ما جاء من عند الله وبين ما يخالفه، وأن يجعل بين حكم الله وحكم الطاغوت أو حكم الهوى، فإن ذلك هو الكفر المبرقع والنفاق السافر، وعلى كل مسلم أن يحارب الدعوة إلى هذا التوفيق، وأن يعرض عن الداعين إليه؛ لأن الإيمان بالله وبما جاء من عنده يتنافى مع التوفيق بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه، بل الإيمان المحض يقتضي إعلان الحرب الشعواء على كل ما يخالف ما جاء به الرسول من طريقة، وحقيقة، وعقيدة، وسياسة، ورأي، حتى يكون الحكم خالصاً لما جاء من عند الله، وحتى تكون كلمة الذين كفروا بما جاء من عند الله السفلى، وكلمة الله هي العليا (2) . ذلك هو حكم الله، نزل في الصادين عن سبيل الله، الداعين إلى التوفيق بين ما جاء من عند الله وما يخالفه، وذلك هو قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} النساء: 61 - 63] . 7 - إن الله نفى الإيمان عن العباد، وأقسم بنفسه على ذلك، حتى يحكموا الرسول فيما شجر بينهم من الدقيق والجليل والخطير والحقير: ولم يكتف في إثبات الإيمان لهم بهذا التحكيم المجرد، بل اشترط لاعتبارهم مؤمنين أن ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق من قضاء الرسول وحكمه، وأن يسلموا تسليماً،   (1) تفسير المنار ج6 ص405، روح المعاني للألوسي ج6 ص145، تفسير الطبريج6 ص119، تفسير القرطبي ج6 ص150. (2) أعلام الموقعين ج1 ص57 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وينقادوا للرسول انقياداً، والرسول لا يحكم إلا بما أنزل الله وبما أراه إياه، فالمؤمن يجب عليه إذن أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤمن بها أصلح الأحكام وأفضلها ولو قال الناس إن غيره أصلح منه؛ لأنه لا يكون مؤمناً إلا إذا أطاع طاعة تامة، وانقاد انقياداً تاماً كاملاً لما أمر الله ورسوله، وذلك قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . ويستدل الفقهاء بهذه الآية على أن من رد شيئاً من أوامر الله أو أوامر رسوله فهو خارج عن الإسلام، سواء ردة من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول، أو الامتناع عن التسليم، ولقد حكم الصحابة بارتداد ما نعى الزكاة؛ لأن الله حكم بأن من لم يسلم بما جاء به الرسول ولم يسلم بقضائه وحكمه فليس من أهل الإيمان (1) . 8 - إن كان ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين، ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أياً كانت؛ لأن حق الهيئة الحاكمة في التشريع مقيد بأن يكون التشريع موافقاً لنصوص الشريعة، متفقاً مع مبادئها العامة وروحها التشريعية، فإن استباحت الهيئة الحاكمة لنفسها أن تخرج عن حدود وظيفتها، وأن تصدر قوانين لا تتفق مع الشريعة وتضعها موضع التنفيذ، فإن عملها لا يحل هذه القوانين المحرمة، ولا يبيح لمسلم أن يتبعها أو يطبقها، أو يحكم بها، أو ينفذها؛ بل تظل محرمة تحريماً قاطعاً على كل مسلم ومسلمة، ومن واجب الأفراد لا من حقوقهم أن يمتنعوا على اتباعها، ومن واجب الموظفين أن يمتنعوا عن تنفيذها، لأن طاعة أولي الأمر لا تجب لهم استقلالاً، وإنما تجب ضمن طاعة الرسول، ولا تجب لهم مطلقة، وإنما تجب في حدود ما أمر به الله ورسوله، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ   (1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص214، أعلام الموقعين ج1 ص57، 58 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ، فأمر الله بطاعته وطاعة رسوله، وإعادة فعل الطاعة عند ذكر الرسول يشعر بأن طاعة الرسول تجب له استقلالاً سواء كان ما أمر به في القرآن أو لم يكن فيه، لأنه أُوتي الكتاب ومثله معه، وحذف فعل الطاعة عند ذكر أولي الأمر دليل على أن طاعة أولي الأمر لا تجب لهم استقلالاً وإنما هي في ضمن طاعة الرسول، كذلك فإن تقدم طاعة الله وطاعة الرسول يقتضي أن لا يطاع أولو الأمر إلا بعد استيفاء الطاعة لله وللرسول في كل ما يصدر عن ولي الأمر، فأولو الأمر يطاعون تبعاً لطاعة الله وطاعة الرسول، وبعد توفر الطاعة لله ورسوله، فمن أمر منهم بما يوافق ما أنزل الله على رسوله فطاعته واجبة، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة (1) . 9 - إن السنة بينت حدود الطاعة لأولي الأمر، ونهت عن طاعتهم فيما يخالف ما أنزل الله: فصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وقال: "إنما الطاعة في المعروف"، وقال في ولاة الأمور: "من أمركم منهم بمعصية فلا سمع ولا طاعة". وفي عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر أحد الأمراء جنوده أمراً فتقاعسوا عن تنفيذه، فجمع حطباً وأشعل ناراً، ثم قال لهم: ألم يأمركم الرسول أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فإني آمركم أن تدخلوا هذه النار، فهموا أن يدخلوها، فلما بلغ ذلك الرسول قال: "لو دخلوها لما خرجوا منها" أي لخلدوا في النار في دار الآخرة، قال الرسول هذا القول مع أنهم كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم وظناً منهم أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قصروا في الاجتهاد وبادروا على طاعة من أمر بمعصية الله استحقوا أن النار جزاءهم لا يخرجون منها. وإذا كان   (1) أعلام الموقعين ج1 ص51، تفسير المنار ج5 ص180 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 حال من قصر في الاجتهاد واشتبه عليه الأمر فلم يتثبت منه، كيف يكون حال من أطاع أمراً مخالفاً مخالفة صريحة لما أنزل الله؟ (1) . 10 - إن إجماع الأمة الإسلامية انعقد بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنه لا طاعة لأولي الأمر إلا في حدود ما أنزل الله: فهذا أبو بكر خليفة رسول الله يقول مخاطباً لمسلمين بعد مبايعته: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم. فجعل رضي الله عنه طاعته مشروطة بطاعة الله، فإن عمل في حدود ما أنزل الله وجبت طاعته، وإن خرج عن هذه الحدود فلا سمع ولا طاعة. وهؤلاء فقهاء هذه الأمة ومجتهدوها يجمعون على أن طاعة أولي الأمر لا تجب إلا فيما أمر الله، وأن لا طاعة لهم فيما يخالف ذلك (2) ولا خلاف بينهم قولاً أو اعتقاداً في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن إباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر، واستباحة إبطال الحدود، وتعطيل أحكما الشريعة، وشرع ما لم يأذن به الله، إنما هو كفر وردة، وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد واجب على المسلمين، وأقل درجات الخروج على ولي الأمر عصيان أوامره ونواهيه المخالفة للشريعة (3) . 11 - إن أولي الأمر بحسب نصوص الشريعة الإسلامية ليس لهم حق التشريع المطلق للأسباب التي بيناها: وإن حقهم في التشريع قاصر على نوعين من التشريع: الأول: تشريعات تنفيذية يقصد بها ضمان تنفيذ نصوص الشريعة الإسلامية. والثاني: تشريعات تنظيمية لتنظيم الجماعة وحمايتها وسد حاجاتها على أساس مبادئ الشريعة العامة. وهذه التشريعات لا تكون إلا فيما سكتت عنه الشريعة فلم تأت بنصوص خاصة فيه ولا يمكن أن تكون فيما نصت عليه   (1) أعلام الموقعين ج1 ص57. (2) الشرح الكبير ج9 ص341، شرح الدردير ج4 ص218، المهذب ج2 ص189، حاشية ابن عابدين ج3 ص429. (3) تفسير المنار ج6 ص367، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص214، روح المعاني للألوسى ج5 ص66 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الشريعة، ويشترط في هذه التشريعات قبل كل شئ أن تكون متفقة مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، فهي تشريعات توضع بقصد تنفيذ مبادئ الشريعة العامة، وإذن فهي في حقيقتها نوع آخر من التشريعات التنفيذية. 12 - إن أولي الأمر حين يتولون التشريع المقيد على الوجه السابق يقومون به إما باعتبارهم خلفاء للرسول أو نواباً عن الجماعة الإسلامية: فإن كانوا خلفاء للرسول فليس لهم أن يخرجوا على ما جاء به الرسول؛ لأنهم خلفوا بقصد تنفيذ ما جاء به، وإن كانوا نواباً عن الجماعة الإسلامية فليس لهم أن يخرجوا على ما تدين به هذه الجماعة وما تؤمن به، وإلا خرجوا على حدود النيابة، لأن الجماعة لم تقمهم حكاماً إلا لإقامة الدين وحكم الجماعة على أساس الشريعة الإسلامية. فأولي الأمر - أياً كان السند الذي يستندون إليه في حق التشريع - ليس لهم أن يخرجوا على نصوص الشريعة أو مبادئها العامة أو روحها التشريعية. 13 - إن الشريعة الإسلامية هي الدستور الأساسي للمسلمين: كما تبين مما سبق، فكل ما يوافق هذا الدستور فهو صحيح، وكل ما يخالف هذا الدستور فهو باطل، مهما تغيرت الأزمان وتطورت الآراء في التشريع؛ لأن الشريعة جاءت من عند الله على لسان رسوله ليعمل بها في كل زمان وكل مكان، فتطبيقها ليس محدوداً بزمن، ولا مقصوراً على أشخاص ولا أجيال أو أجناس، وهي واجبة التطبيق حتى تلغى أو تنسخ، ولا يمكن أن تلغى أو تنسخ؛ لأن القاعدة الأساسية في الشريعة الإسلامية بل وفي القوانين الوضعية الحديثة أن النصوص لا ينسخها إلا نصوص في مثل قوتها أو أقوى منها، أي نصوص صادرة من نفس الشارع أو من هيئة لها سلطان التشريع مثل ما للهيئة التي أصدرت النصوص المراد نسخها، أو من هيئة يزيد سلطانها التشريعي على سلطان من أصدر النصوص المطلوب نسخها، فالنصوص الناسخة إذن يجب أن تكون قرآناً أو سنة حتى يمكن أن تنسخ ما لدينا من قرآن وسنة، وليس بعد الرسول قرآن حيث انقطع الوحي، ولا سنة حيث توفى الرسول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ولا يمكن أن يقال إن ما يصدر عن هيئاتنا التشريعية البشرية في درجة القرآن والسنة، أو أن لها من سلطان التشريع ما لله وللرسول، ولكن الذي يمكن أن يقول وهو الواقع إن أولي الأمر منا لا يملكون حتى التشريع، وإنما لهم حق التنفيذ أو التنظيم، فالتشريع من حق الله والرسول، وقد انتهى عهده بوفاة الرسول، واستقر أمره بانقطاع الوحي، والتنفيذ والتنظيم لأولي الأمر، فلهم أن يصدروا قوانين ولوائح وأوامر تنفيذاً لما شرعه الله ورسوله، ولهم أن ينظموا الجماعة ويوجهوها طبقاً لما شرعه الله ورسوله، فالله قد تكفل بوضع التشريعات الأصلية وشرع على لسان رسوله نصوصاً وأحكاماً أساسية، وأوجب على أولي الأمر تنفيذها كما هي، كما أوجب عليهم أن ينظموا الجماعة ويوجهوها على أساسها، ولهم في سبيل أداء هذا الواجب أن يصدروا القوانين والمراسيم واللوائح والقرارات التي تضمن تنفيذ هذه التشريعات الأساسية، وإقامة الجماعة على أساسها، ولكن ليس لهم بأي حال أن يعطلوا التشريعات الأساسية أو يلغوها؛ لأن ذلك خارج عن سلطانهم ولا يتسع له مقدورهم. وإذا أردنا أن نأتي بتشبيه يقرب هذا المعنى إلى أذهاننا، قلنا: إن الشريعة تعتبر بمثابة القوانين الوضعية، وإن ما تصدره الهيئات التشريعية يعتبر بمثابة اللوائح والقرارات التي تصدر لضمان تنفيذ هذه القوانين، أو قلنا: إن الشريعة تعتبر بمثابة الدستور الوضعي، وإن ما تصدره الهيئات التشريعية يعتبر بمثابة القوانين الوضعية التي يشترط فيها أن تكون موافقة لنصوص الدستور وغير خارجة عليه وإلا كانت باطلة. ونخلص من هذا كله بأن القوانين واللوائح والقرارات أدنى مرتبة من القرآن والسنة، ولا يمكن أن يتغلب القانون الأدنى على القانون الأعلى درجة. 14 - إن الدستور المصري ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام: ومعنى هذا أن النظام الأساسي الذي تقوم عليه الدولة هو الإسلام، وأنه المصدر الذي تأخذ عنه، والمرجع الذي تنتهي إليه، والحاكم الذي تأتمر بأمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وتنتهي بنهيه، فوجود هذا النص في الدستور المصري - وهو القانون الأولى بالنسبة لغيره من القوانين التي تسنها هيئاتنا التشريعية - يقتضي أن نتقيد بنصوص الشريعة الإسلامية في قوانيننا، وسياساتنا، وتعليمنا، وتنظيمنا الداخلي والخارجي، وفي كل أوجه نشاطنا، فلا نحل إلا ما أحلته الشريعة، ولا نحرم إلا ما حرمته، ولا نخرج على مبادئ الشريعة وروحها في تشريعاتنا وأنظمتنا. ونحن لا نذكر هذا النص من الدستور لنستدل به على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية وبطلان القوانين المخالفة لها، وإنما نذكره فقط لنبين ما يقتضيه، ويستوي عندنا بعد ذلك أن يعترف الدستور بالدين الإسلامي أو ينكره، فإن اعتراف الدستور أو إنكاره ليس له قيمة ذاتية، والعبرة في هذا الأمر بالواقع وبحكم الدين الإسلامي نفسه، وحكم الدين الإسلامي: أنه لا قانون للمسلمين غير الشريعة، وأن الشريعة هي دستورهم وقانونهم الأساسي، وكل ما خالفها من القوانين الوضعية باطل سواء سمي دستوراً أو قانوناً أو لائحة أو قراراً أو أمراً أو غير ذلك من المسميات، التي لا تعترف بها الشريعة إلا إذا كانت موافقة لنصوصها وغير خارجة على مبادئها العامة وروحها. 15 - إن نظرية الشريعة الإسلامية في بطلان كل ما يخالف القرآن والسنة أو بمعنى آخر كل ما يخالف التشريعات الأساسية هي نظرية تعترف به اليوم كل البلاد التي تطبق القوانين الوضعية، ولكنها تختلف في تطبيقها، فأكثر البلاد المتمدينة ترى بطلان كل قانون أو لائحة أو قرار جاء مخالفاً للدستور، باعتبار أن الدستور هب التشريع الأساسي لهذه البلاد، ويجب أن لا يصدر قانون أو لائحة أو قرار على خلافه، ولأن الدستور لا تعدل نصوصه إلا بشروط خاصة وبأغلبية خاصة لا تشترط في أي قانون، فالهيئة التي شرعت الدستور أعلى من الهيئات التي شرع القوانين وغيرها. أما أقلية البلاد المتمدينة فلا تأخذ بنظرية البطلان على إطلاقها وتفرق بين القوانين وما دونها من قرارات واللوائح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 والأوامر، فإذا جاء القانون مستوفياً شكله القانوني اعتبر صحيحاً ولو كان مخالفاً للدستور، أما اللوائح والقرارات والأوامر فتعتبر باطلة إذا جاءت مخالفة للدستور أو القوانين ولو استوفت شكلها القانوني، وسند أصحاب هذه النظرية أن القوانين تعتبر عندهم في درجة الدستور، لأن الهيئة التشريعية التي صدر الدستور والقوانين واحدة وسلطانها واحد، أما الهيئة التي تصدر اللوائح والأوامر والقرارات فهي أقل درجة من الهيئة التي وضعت الدستور والقوانين وسلطانها أقل (1) . هذه هي نظرية البطلان في القوانين الوضعية عند من يأخذون بها على إطلاقها ومن يقيدونها، فإذا طبقناها مطلقة أو مقيدة على البلاد الإسلامية وجب أن نقول ببطلان كل ما يخالف الشريعة الإسلامية سواء استوفى الشكل أو لم يستوفيه؛ لأن الشريعة عي التشريع الأساسي للمسلمين؛ ولأن شارعها هو الله أجل من أن يقارن بعبادة المشرعين. وقبل أن نترك هذه النقطة يجب أن نقرر أن الشرائع الوضعية لم تعرف نظرية البطلان هذه إلا حديثاً، فعمرها في القوانين الوضعية أقل من قرن، بينما عرفتها الشريعة الإسلامية من قبل أن تعرفها القوانين الوضعية بأكثر من أثنى عشر قرناً، ويكفي الشريعة فخراً أن يكون أقدم ما فيها هو أحدث ما في القوانين، وأن تكون النظرية التي يهلل لها الناس اليوم يرون فيها كل الضمان ضد طغيان السلطة التشريعية الإسلامية، وإذا كان الناس يجهلون هذا وغيره من الشريعة الإسلامية فليس الذنب ذنب الشريعة، وإنما هو ذنب أهلها الذين لا يعرفون عنها بعض ما يعرفونه عن غيرها. 16 - إن استيفاء التشريعات المخالفة للشريعة شكلها القانوني لا يمنع من أنها تشريعات باطلة بطلاناً مطلقاً من ناحية الموضوع: وصحة الشكل لا يمكن أن   (1) شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص109 وما بعدها، الموسوعة الجنائية ج5 ص558 وما بعدها، القانون الجنائي لعلي بدوي ص105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 تؤثر على بطلان الموضوع؛ لأن صحة الشكل لا تحيل الحرام حلالاً والباطل صحيحاً، ومن ثم يجب على القاضي أن لا يطبق التشريعات المخالفة للشريعة ولو استوفت شكلها القانوني. 194 - مدى بطلان ما يخالف الشريعة: قلنا: إن ما يخالف الشريعة من قانون أو لائحة أو قرار باطل بطلاناً مطلقاً، لكن هذا البطلان لا ينصب على كل نصوص القانون أو اللائحة أو القرار، إنما ينصب فقط على النصوص المخالفة للشريعة دون غيرها؛ لأن أساس البطلان هو مخالفة الشريعة، فلا يمتد البطلان منطقياً لما يوافق الشريعة من النصوص، ولو أنها أدمجت في فانون واحد أو لائحة واحدة أو قرار واحد مع غيرها من النصوص المخالفة للشريعة. وتعتبر النصوص الموافقة للشريعة صحيحة ما دامت قد صدرت من هيئة تشريعية مختصة، واستوفت الإجراءات الشكلية المقررة. وإذا كان البطلان قاصراً على النصوص المخالفة للشريعة فإن هذه النصوص لا تعتبر باطلة في كل حالة، وإنما هي باطلة فقط في الحالات التي تخالف فيها الشريعة، صحيحة في الحالات التي تتفق فيها مع الشريعة، وليس هذا بمستغرب ما دام أساس الصحة والبطلان راجع إلى موافقة الشريعة أو مخالفتها، إذ العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً. ومن الأمثلة على بطلان النص الواحد في بعض الحالات وصحته في بعض الحالات الأخرى جريمة الزنا، فعقوبتها في الشريعة رجم الزاني المحصن، وجلد الزاني غير المحصن، والزنا شرعاً هو إدخال الحشفة أو مقدارها في الفرج، فما كان دون ذلك فلا حد فيه، وإنما فيه التعزير؛ فالشروع في الزنا ومقدمات الزنا من قبلة وعناق وملامسة كل ذلك لا يعاقب عليه بعقوبة الحد: وهي الرجم والجلد، والفعل التام لا يعاقب عليه في بعض الحالات بعقوبة الحد إذا درء الحد للشبهة، أو كان الجاني صغير السن، وعلى هذا فالجرائم التامة التي يجب فيها الحد لا يجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أن تطبق عليها نصوص القانون؛ لأنها تخالف حكم الشريعة، وتعاقب بعقوبة غير عقوبتي الرجم والجلد اللتين توجبهما الشريعة، أما الجرائم التامة التي درء فيها الحد، والجرائم غير التامة، فالعقوبة عليها هي عقوبة التعزير طبقاً للشريعة. والتعزير من العقوبات التي تتركها الشريعة لتصرف الهيئات التشريعية، ولما كان قانون العقوبات صادراً عن هذه الهيئات، فإن عقوباته تعتبر تعازير عن الأفعال التي لا يعاقب عليها بعقوبة الحد؛ أي بأية عقوبة مقدرة، ومن ثم تكون نصوص قانون العقوبات باطلة في كل حالة يجب فيها الحد صحيحة في كل حالة تستوجب التعزير. والسرقة العادية عقوبتها القطع في الشريعة، وعقوبتها الحبس في القانون، ولكن حد القطع لا يجب إلا في سرقة تامة توفرت فيها شروط الحد، فإذا لم تكن السرقة تامة، أو لم تتوفر شروط الحد، فالعقوبة هي التعزير، ومن ثم تكون نصوص قانون العقوبات الخاصة بالسرقة باطلة في كل سرقة عادية تعاقب عليها الشريعة بالقطع، وصحيحة في كل سرقة تعاقب عليها الشريعة بالتعزير. والقذف في الشريعة عقوبته الجلد ثمانين جلدة، ولكن القذف المعاقب عليه بعقوبة الحد هو الرمي بالزنا أو نفي النسب، وما عدا ذلك لا يعتبر قذفاً وإنما يعتبر سباً وعقوبته التعزير، ولما كانت الأجزية في قانون العقوبات تعازير فإن نصوص قانون العقوبات الخاصة بالقذف تعتبر باطلة في كل قذف تعاقب عليه الشريعة بعقوبة الحد، وتعتبر صحيحة في كل قذف أو سب تعاقب عليه الشريعة بعقوبة التعزير، إلا فيما يختص بالمنع من إثبات القذف فإن الشريعة لا تمنع القاذف من إثبات ما قذف به بينما القوانين تمنع ذلك (1) .   (1) راجع الفقرة 240: إثبات القذف حق للقاذف، وقانون العقوبات المصري لا يمس الحقوق الشرعية طبقاً للمادة السابعة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 195 - ما يترتب على بطلان النصوص المخالفة للشريعة: يترتب على اعتبار النصوص المخالفة للشريعة باطلاً بطلاناً مطلقاً نتائج هامة نبينها فيما يلي: أولاً: من وجهة تطبيق النصوص الباطلة: يجب على القاضي أن يطبق النصوص القانونية الباطلة في حالة البطلان، وعليه أن يطبقها فقط في حالات الصحة، وليس للقاضي أن يحتج بأن القوانين لا تخوله حق الفصل في صحتها وبطلانها مرتكناً في ذلك إلى نفس هذه القوانين، فإن سلطة القاضي في إبطال ما يخالف الشريعة تأتي من الشريعة لا من القوانين المخالفة لها. ويستوي أن يحكم القاضي ببطلان النص المخالف أو يكتفي بالامتناع عن طبيعته لبطلانه؛ لأن القاضي لابد أن يبين في حكمه سبب امتناعه عن تطبيق النص وهو البطلان، وهذا البيان يساوي تماماً الحكم بالبطلان ولو جاء في أسباب الحكم فقط ولم يدخل في منطوقه، لأنه سبب جوهري، والأسباب الجوهرية تعتبر جزءاً من منطوق الحكم. وليس للقاضي أن يحكم بالبراءة بحجة بطلان النص المطلوب تطبيقه على الواقعة، أو بحجة أنه مكلف طبقاً للقانون أن يحكم بعقوبة معينة فإن لم يحكم بها فعليه أن يبرئ المتهم. ليس للقاضي ذلك؛ لأن القول بالبطلان أساسه أن الشريعة تمنع من تطبيق غير أحكامها، وتوجب أن يعاقب مرتكب الجريمة بالعقوبات التي قررتها، فإذا أخذنا بحكم الشريعة في بطلان نص القانون استلزم ذلك الأخذ بحكم الشريعة في عقوبة الواقعة، فيجب إذن أن لا يحكم القاضي بالبراءة، وأن يحكم بالعقوبة المقررة في الشريعة الإسلامية ما دام مختصاً بنظر الجريمة. وإذا اقتنع القاضي ببطلان النصوص المخالفة للشريعة وجب عليه أن يطبق حكم الشريعة، وليس يهمه بعد ذلك أن ينفذ حكمه أو لا ينفذ ما دام قد أدى واجبه وفعل ما يعتقده حقاً، فضلاً عن أن التنفيذ ليس من اختصاصه، بل هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 من اختصاص السلطة التنفيذية، وهي ملزمة بتنفيذ أحكام القضاء كلما كانت نهائية أو واجبة التنفيذ، فإذا أصبح حكم القاضي نهائياً اضطرت السلطة التنفيذية لتنفيذه. ثانياً: من وجهة الاختصاص: وليس للقاضي أن يحكم بعدم اختصاصه بنظر الجريمة المعروضة عليه؛ لأنه مختص بنظرها طبقاً لنص القانون الجنائي الذي أصدرته الهيئة التشريعية، ولأن النصوص التي تحدد الاختصاص صحيحة إذا صدرت ممن يملك توزيع الاختصاص، ولا عبرة بما كان عليه العمل قديماً عند نظر جرائم الحدود فإن القضاء في الشريعة الإسلامية يتخصص بالزمان والمكان، ولولي الأمر طبقاً للشريعة سلطة توزيع الاختصاص القضائي، وقد وزعه فيما يختص بالجرائم على المحاكم الجنائية بالشكل الوارد في القوانين. وإذا كان توزيع الاختصاص بين المحاكم الجنائية قائماً أصلاً على أساس جسامة العقوبة إلا أن المشرع قد بين بشكل قاطع الجرائم التي تختص بها كل محكمة، وما دامت القوانين الجنائية لم تذكر شيئاً عن العقوبات الشرعية فلننظر إلى الجريمة ذاتها، فإن كانت من اختصاص المحاكم الجزئية اعتبر القاضي نفسه مختصاً وحكم بالعقوبة المقررة في الشريعة بدلاً من العقوبة التي جاء بها القانون ولا تقرها الشريعة، على أساس أن المشرع رضي له أن يحكم بالعقوبة المقررة لهذه الجريمة على كل من ارتكبها، وجعل الحكم بعقوبتها من اختصاصه. وعلى هذا يكون القاضي الجزئي مختصاً بنظر قضايا السرقة العادية، والقذف، والشرب، أما السرقة المصحوبة بإكراه أو تهديد، والسرقة التي ترتكب في الطريق العام، وهي ما يسمى في الشريعة بقطع الطريق أو الحرابة، فهذه من اختصاص محاكم الجنايات لسببين: أولهما: أن الفعل المكون للجريمة جعل بنص القانون من اختصاص محاكم الجنايات. وثانيهما: أن الشريعة نصت على القتل عقوبة في هذه الجريمة والقتل عقوبة لا يحاكم بها إلا محاكم الجنايات طبقاً للقانون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أما جريمة الزنا فإن كانت من غير محصنين نظرنا إلى الفعل المنسوب إليهما، فإن كان القانون قد جعله من اختصاص محكمة الجنح حوكم المتهمان أمام هذه المحكمة، وإن كان قد جعله من اختصاص محكمة الجنايات حوكم المتهمان أمامها، ويمكن القول بأنه لا داعي اختصاص محاكم الجنايات في الزنا من غير المحصنين؛ لأن اختصاص هذه المحاكم كان أساسه توقيع عقوبة خاصة تخالف العقوبة التي توقعها محكمة الجنح، فإذا كان الفعل لا يعاقب عليه في الشريعة إلا بعقوبة واحدة هي الجلد، كان من المعقول أن تكون محكمة الجنح هي المختصة، ما دامت تختص بتوقيع عقوبة الجلد على الزنا في بعض الصور. وإذا كان الزنا من محصنين فالجريمة من اختصاص محاكم الجنايات؛ لأن العقوبة المقررة للزنا هي الرجم أي القتل بطريق معين، والحكم بعقوبة القتل من اختصاص محاكم الجنايات، وليس من اختصاص القاضي الجزئي. وإذا كان أحد الزانيين غير محصن، فالاختصاص لمحاكم الجنايات أيضاً؛ لأن فعل الزنا لا يمكن تجزئته، ووحدة الفعل المنسوب للزانيين تقتضي أن يحاكما عليه أمام محكمة واحدة؛ ولأن القاضي الجزئي لا يملك عقاب الزاني المحصن، وإن كان له أن يعاقب الزاني غير المحصن، أما محكمة الجنايات فتملك عقاب الزاني المحصن بالرجم وتملك أن تعاقب بما هو أدنى من الرجم كالجلد؛ لأن من يملك الأكثر يملك الأقل. ثالثاً: من وجهة تطبيق القوانين بصفة عامة: يترتب على الأخذ بنظرية البطلان أن لا يطبق من أحكام القوانين الوضعية جنائية، أو مدنية، أو تجارية، أو دولية ... إلخ إلا الأحكام التي تتفق مع نصوص الشريعة، إذا كانت الشريعة قد نصت صراحة على أحكام خاصة، أو الأحكام التي تتفق مع مبادئ الشرعية العامة وروحها التشريعية، إذا لم تكن الشريعة قد نصت على أحكام خاصة. أما الأحكام المخالفة للشريعة فتهمل إهمالاً تاماً، وتحل محلها أحكام الشريعة، مع مراعاة اختيار الآراء الشرعية التي تنسجم مع نصوص القوانين الصحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ولا يشترط لصحة نصوص القوانين أن تكون أحكامها موافقة لمذهب معين في الشريعة كالمذهب الحنفي مثلاً أو المالكي، بل يكفي لعتبار حكم القانون صحيحاً أن يكون موافقاً لرأي أحد المجتهدين من فقهاء الشريعة، إذ أن اختيار المشرع لحكم متفق مع مذهب شرعي يعتبر أخذاً بالمذهب المتفق مع هذا الحكم. وإذا كان بعض الحكم متفقاً مع الشريعة وبعضه مخالفاً لها فالمخالف باطل، ويحل محله حكم الشريعة الذي ينسجم مع بقية الحكم الذي لم يبطل دون حاجة للقيد بمذهب شرعي معين. وعلى هذا الأساس يمتنع التنافر بين النصوص، ويكون هناك تناسق بين النصوص الشريعة والنصوص القانونية، على أن هذا لا يمنع المشرع فيما بعد من اختيار النظريات الشرعية التي تتفق مع حالتنا الاجتماعية، وتعديل القوانين تعديلاً شاملاً على أساس هذه النظريات. رابعاً: من وجهة تطبيق الشريعة: يترتب على بطلان النصوص القانونية المخالفة للشريعة أن تطبق المحاكم في الحال نصوص الشريعة الإسلامية دون حاجة لتدخل من الهيئة التشريعية، كما يترتب على البطلان أن تلتزم الهيئة التشريعية حدود الشريعة فيما تصدره من قوانين ولوائح وقرارات جديدة. 196 - مدى التغييرات التي تترتب على الأخذ بنظرية البطلان: يترتب على الأخذ بنظرية البطلان عدم تطبيق النصوص المخالفة للشريعة وإحلال نصوص الشريعة محلها، ولن يؤدي تطبيق أحكام الشريعة إلى إحداث تغيير كبير في أوضاعنا القانونية؛ لأن معظم النصوص القانونية لا تختلف 'ن أحكام الشريعة، وإذا خالف بعض النصوص ما يقول به بعض الفقهاء فإن هذه النصوص تتفق مع ما يقول به البعض الآخر من الفقهاء، وسنكتفي هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ببيان التغييرات التي تصيب قانون العقوبات (1) وهي ترتبط إلى حد كبير بنوع الجريمة، وتختلف بحسب ما إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، أو جرائم القصاص والدية، أو جرائم التعزير. 197 - أولاً: في جرائم الحدود: جرائم الحدود معدودة في الشريعة وهي على سبيل الحصر سبع جرائم: الزنا، القذف، الشرب، السرقة، الحرابة، الردة، البغي. وتعاقب الشريعة على هذه الجرائم بعقوبات معينة تسمى حدوداً، ويشترط لعقوبة الحد أن تكون الجريمة تامة، وألا يكون هناك مانع شرعي من توقيع العقوية، فإذا توفر هذان الشرطان فلابد من عقوبة الحد. وفي هذه الحالة يجب تطبيق نصوص الشريعة، وتبطل نصوص القانون ويمتنع تطبيقها. أما في الحالات التي لا يعاقب فيها على هذه الجرائم بعقوبة الحد كأن كانت الجريمة تامة ولم تستوف شروط العقوبة، أو درء الحد للشبهة، أو كانت الجريمة شروعاً، فالعقوبة في هذه الحالات طبقاً للشريعة هي عقوبة التعزير، والتعزير يرجع فيه إلى ولي الأمر، ونصوص قانون العقوبات ليست إلا تعازير مقررة ممن يملك حق تقريرها، فيكون قانون العقوبات هو الواجب التطبيق في هذه الحالات، وإذن فقانون العقوبات لن يعطل إلا في جرائم الحدود التامة المستوفية لشروط الحد، وهذا القول ينطبق على كل جرائم الحدود عدا جريمة الردة فلها حكم خاص. الردة: تعتبر الشريعة الردة جريمة ماسة بالنظام العام، تعاقب عليها بعقوبة القتل، وعقوبة الردة لا يمكن إسقاطها بحال في الشريعة، أما قانون العقوبات   (1) رأينا الاكتفاء هنا ببيان التغييرات التي تصيب قانون العقوبات المصري نتيجة للأخذ بنظرية البطلان؛ لأن هذا الكتاب خاص بالجريمة والعقوبة، ونستطيع بعد أن عرفنا أساس البطلان أن نعرف النصوص المدينة الباطلة ومدى بطلانها، وأن نعرف النصوص الباطلة في قوانين الإجراءات ومدى بطلانها، وهكذا نستطيع كلما عرفنا حكم الشريعة وحكم القانون أن نقول: إن حكم القانون باطل إذا كان مخالفاً للشريعة، وإنه صحيح إذا كان موافقاً للشريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فلا يعتبر الردة جريمة ولا يعاقب عليها، ولما كان كل ما يخالف الشريعة باطلاً فقد وجب تطبيق حكم الشريعة على كل مرتد، والحكم عليه بالعقوبة المقررة طبقاً للشريعة، ولو أن قانون العقوبات المصري لم يذكر عن الردة شيئاً. وهذا القول إذا أمكن تقريره من الوجهة النظرية فإن من الصعب عملاً تنفيذه، فليس في الإمكان محاكمة المرتد والحكم عليه إلا إذا عرض أمره على القضاء، وعرض الجرائم على القضاء مقيد بإجراءات على القضاء مقيد بإجراءات خاصة تتخذها النيابة العمومية، وعلى هذا فسيظل نص الردة الشرعي معطلاً حتى ترى النيابة العمومية تنفيذه، على أن جريمة الردة يمكن أن تعرض على القضاء بصورة عكسية، فالشريعة تهدر دم المرتد ولا تعاقب قاتله؛ لأنه أتى فعلاً مباحاً، فإذا قتل المرتد إنسان وعرض أمر القاتل على القضاء وجب على القاضي أن يبرئه؛ لأنه قتل نفساً غير معصومة؛ ولأن الشريعة تجعل من واجب كل إنسان لا من حقه أن يقتل المرتد. وهذا الواجب ليس فرض عين وإنما هو من فروض الكفاية إذا قام به فرد سقط عن الآخرين. 198 - ثانياً: في جرائم القصاص والدية: يدخل تحت هذا النوع من الجرائم القتل العمد، والقتل الخطأ، والجرح العمد، والجرح الخطأ، ولكل جريمة حكمها. القتل العمد: الأصل في الشريعة هو أن يعاقب بالقصاص على القتل العمد، سواء كان القتل مقترناً بسبق إصرار وترصد أو غير مقترن، وسواء كانت هناك ظروف مخففة أو لم تكن، ولا تجيز الشريعة للقاضي أن يخفف العقوبة أو يستبدل بها غيرها، أما القانون المصري فيعاقب بالإعدام على القتل المقترن بسبق إصرار وترصد، وعلى القتل بالسم، وعلى القتل المقترن بجريمة أخرى، وفيما عدا ذلك فالعقوبة على القتل هي الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، ويجيز القانون المصري في كل الأحوال تخفيف العقوبة واستبدال غيرها بها إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 كانت الظروف تدعو للتخفيف. وهذا الخلاف الظاهر بين الشريعة والقانون المصري يقضي الأخذ بنصوص الشريعة دائماً في الحالات التي توجب فيها الشريعة القصاص، فيحكم القاضي بالقصاص في كل هذه الحالات، ويمتنع عليه أن يحكم بعقوبة أخرى. ويجيز الشريعة لولي المجني عليه أن يعفو عن القصاص، فإذا عفا سقطت عقوبة القصاص، ولولي الدم إما العفو مجاناً، وإما على الدية أو مقابلها، فإذا عفا على الدية وجبت الدية على الجاني، وكان على القاضي أن يحكم بها، ويجب في حالة العفو على الدية والعفو مجاناً أن يحكم على الجاني بعقوبة تعزيرية، طبقاً لرأي مالك (1) أما أبو حنيفة (2) والشافعي (3) وأحمد (4) فلا يوجبون التعزير في حالة العفو ولكن ليس لديهم ما يمنع من التعزير إن اقتضته المصلحة العامة. والقانون المصري لا يجعل لعفو أولياء المجني عليه أثراً على العقوبة المقررة، ولكن العفو يمكن اعتباره ظرفاً قضائياً مخففاً يؤدي إلى تخفيف العقوبة، أو استبدال غيرها بها، طبقاً للمادة 17 من قانون العقوبات المصري، وهذا الذي أخذ به القانون المصري يتفق مع مذهب الإمام مالك حيث يرى عند العفو أن تستبدل بعقوبة القصاص عقوبة التعزير. فكأن المشرع المصري قد أخذ بمذهب مالك في هذه المسألة، وعلى هذا يجب في حالة العفو على الدية الحكم بها وبعقوبة تعزيرية، وفي حالة العفو مجاناً يجب الحكم بعقوبة تعزيرية، ولما كانت العقوبات المقررة في قانون العقوبات هي عقوبات تعزيرية، فيجب الحكم بالعقوبات المقررة فيه للقتل في حالة العفو إلا عقوبة الإعدام؛ لأن الإعدام هو عقوبة القصاص وهي تسقط بالعفو طبقاً للشريعة، وللقاضي في هذه الحالات أن يراعى الظروف المخففة   (1) مواهب الجليل ج6 ص268. (2) بدائع الصنائع ج7 ص246 (3) المهذب ج2 ص21 وما بعدها (4) المغني ج9 ص467 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ويقدرها طبقاً لنص المادة 17 عقوبات؛ لأن الشريعة تبيح ذلك للقاضي في عقوبات التعازير. وفي بعض الحالات يمتنع القصاص في القتل العمد، طبقاً للشريعة، كحالة قتل الأب ولده، وحالة القتل الحاصل من حَدَث، والقاعدة أن الدية تحل محل القصاص كلما امتنع القصاص لسبب من الأسباب الشرعية، وما قيل في حالة العفو عن القصاص يقال مثله عن حالة امتناع القصاص. وخلاصة ما تقدم: أن نصوص القانون تعطل كلما كان القصاص واجباً، طبقاً للشريعة، وأن نصوص القانون تطبق في حالة العفو وامتناع القصاص، سواء وجبت الدية أو لم تجب، ولا يعطل من هذه النصوص إلا ما يقضي بالإعدام عقوبة للجريمة، وهذا هو نفس الأساس الذي كان يقوم عليه قانون العقوبات المصري قبل تعديل سنة 1904. الشروع في القتل: يختلف حكم الشروع في القتل تبعاً لأثر الشروع، فإن كان الشروع قد أحدث أثراً (1) يقتص منه فالعقوبة القصاص، وإن أحدث أثراً لا يقتص منه، أو أثراً يمتنع فيه القصاص، فالعقوبة الدية أو الأَرْش. والأصل عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد أنهم يكتفون بهذه العقوبات ولا يوجبون معها التعزير، لكنهم يجيزون اجتماع التعزير مع الحدود إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة. وأما مالك فيوجب التعزير مع القصاص أو الدية (2) . وعلى هذا يجب أن تطبق عقوبات القانون مع عقوبات الشريعة، كلما أوجبت الشريعة القصاص أو الدية أو الأرش، ما دام الفقهاء لا يمنعون جمع عقوبة الحد مع عقوبة التعزير، وما دام أولو الأمر قد أوجبوا عقوبات تعزيرية معينة هي العقوبات التي نص عليها   (1) قصدنا بالأثر معناه العام؛ فيدخل فيه الشجاج والجراح وقطع الأطراف وإتلاف معانيها. (2) مواهب الجليل ج6 ص247، شرح الدردير ج4 ص224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 قانون العقوبات، وللقاضي أن يراعي الظروف فيخفف العقوبة التعزيرية أو يشددها؛ لأن ذلك حقه طبقاً للشريعة والقانون معاً. أما الشروع الذي لم يترك أثراً فعقوبته في الشريعة التعزير، ومن ثم تطبق عليه نصوص قانون العقوبات؛ لأن عقوباته تعزيرية. القتل شبه العمد: يختلف الفقهاء في القتل شبه العمد، فأبو حنيفة والشافعي وأحمد يعترفون به، ومالك ينكره ولا يرى القتل إلا عمداً أو خطأ ولا وسط بينهما. والقائلون بالقتل شبه العمد يقررون أن عقوبته الدية فقط، ولكنهم مع هذا يجيزون أن يجتمع التعزير مع الدية، فطبقاً لرأيهم تطبق نصوص القانون في القتل شبه العمد مع نصوص الشريعة، ما دام ولي الأمر يوجب التعزير فيه. وإذا طبقنا نظرية مالك التي تجيز الجمع بين القصاص والدية وبين التعزير في الجراح، كان من المنطق أن نقول بوجوب الجمع بين الدية وبين التعزير في القتل شبه العمد؛ لأنه إذا صح أن يعاقب الجارح والضارب بالقصاص أو الدية مع التعزير، فأولى أن يعاقب الجارح أو الضارب بالدية مع التعزير إذا أدى جرحه أو ضربه للموت، ولا يقدح في هذه النتيجة أن مالكاً لا يعترف بالقتل شبه العمد؛ لأن هذه النتيجة التي خلصنا إليها هي منطق نظرية مالك في الجمع بين الحد والتعزير في الجراح، وليست منطق نظريته في إنكار شبه العمد. وإذن فآراء الأئمة جميعاً تؤدي إلى تطبيق نصوص الشريعة مع نصوص القانون المصري في وقت واحد على القتل شبه العمد، ولا يمنع هذا القاضي من أن يخفف العقوبة التعزيرية طبقاً للمادة 17 عقوبات أو طبقاً لنصوص الشريعة. القتل الخطأ: عقوبة القتل الخطأ في الشريعة الإسلامية هي الدية المخففة، ولم يقل أحد من الفقهاء بوجوب التعزير مع الدية كما قيل ذلك في القتل العمد؛ لأن طبيعة العمد تختلف عن الخطأ، ولكنهم جميعاً يجيزون اجتماع التعزير مع الحد، وعلى هذا يجب أن تطبق عقوبة الشريعة والعقوبة القانونية كما هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الحال في القتل شبه العمد، ما دام أولو الأمر قد أوجبوا التعزير. الجراح في العمد والخطأ: تعاقب الشريعة على الجراح المتعمدة بالقصاص كلما أمكن القصاص، لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، وتعاقب بالقصاص في إتلاف الأطراف كلما كان القصاص ممكناً، فإذا لم يمكن قصاص فالعقوبة الدية، أو الأرش، أو الحكومة. ويوجب مالك أن يجتمع التعزير مع الدية أو القصاص تأديباً للجاني، أما بقية الأئمة فيجيزون الجمع ولا يوجبونه، فطبقاً لرأي مالك لا تعطل نصوص قانون العقوبات بل تطبق مع القصاص أو الدية كاملة أو ناقصة، وطبقاً لرأي بقية الأئمة يجمع بين القصاص والدية وبين العقوبة القانونية ما دام أولو الأمر قد أوجبوا التعزير، وعلى هذا فآراء الجميع لا تتعارض مع نصوص القانون المصري، ولا تؤدي إلى إبطالها. أما جراح الخطأ فعقوباتها الدية أو الأرش أو الحكومة، وحكمها حكم القتل الخطأ ومن ثم يجب فيها تطبيق نصوص قانون العقوبات وتطبيق الشريعة في وقت واحد. الضرب الذي لا يترك أثراً: تعاقب الشريعة على الضرب الذي لا يترك أثراً بالتعزير، ولما كانت العقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات هي عقوبات تعزيرية فإن نصوص قانون العقوبات لن تعطل في هذه الحالة. 199 - ثالثاً: في جرائم التعازير: علمنا مما سبق (1) أن الشريعة الإسلامية لم تنص على كل جرائم التعازير ولم تحددها كما فعلت في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، وأنها نصت على بعض جرائم التعازير وتركت القسم الأكبر منها لأولي الأمر، وجعلت لهم أن يحرموا إتيان بعض الأفعال أو يوجبوا إتيان بعض الأفعال، بقصد صيانة الجماعة وتنظيمها، والمحافظة على أمنها   (1) راجع الفقرة 51، 93 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ونظامها، ويشترط أن لا يحرجوا في يحرمون فعله أو يوجبون فعله على نصوص الشريعة، أو مبادئها العامة، أو روحها التشريعية. والقاعدة العامة التي تأخذ بها الشريعة في العقاب على جرائم التعازير: أنها حددت مجموعة من العقوبات التعزيرية تبدأ بأخف العقوبات وتنتهي بأشدها، وتركت للقاضي أن يختار من هذه المجموعة العقوبة أو العقوبات التي يراها ملائمة للجريمة والمجرم. وإذا كانت تلك هي القاعدة العامة التي سارت عليها الشريعة في جرائم التعازير التي نصت عليها، إلا أنه ليس في الشريعة ما يلزم أولي الأمر بالسير على هذه القاعدة في الجرائم التي تركت لهم الشريعة تحديدها، بل ليس في الشريعة ما يمنع أولي الأمر من أن يجعلوا لكل جريمة تعزيرية حرمتها الشريعة أو حرمها أولو الأمر عقوبة معينة يلزم القاضي توقيعها إذا ثبتت الجريمة، أو جعله لكل جريمة عقوبتين يختار القاضي إحداهما، كذلك ليس في الشريعة ما يمنع أولي الأمر من تعيين الحد الأدنى للعقوبة، بحيث لا يستطيع القاضي أن ينزل عنه، وهذا الذي لا تمنع منه الشريعة هو الذي عمل به في قوانين العقوبات. ولما كانت نصوص قانون العقوبات واللوائح والقرارات التي تعين الجرائم وتعاقب عليها قد وضعت بمعرفة أولي الأمر، فإن الجرائم التي تنص عليها تعتبر طبقاً للشريعة جرائم تعزيرية، كلما كانت متفقة مع نصوص الشريعة أو غير خارجة على مبادئها العامة وروحها التشريعية. ويلاحظ أن القوانين الجنائية وضعت في البلاد الإسلامية دون أن يراعي واضعوها نصوص الشريعة، بل إنهم تعمدوا إغفال النصوص الشرعية إغفالاً تاماً، وبهذا خرج أولو الأمر عن حدود وظيفتهم، وهذا الخروج إذا كان لا يؤدي إلى بطلان كل عملهم فإنه يؤدي إلى بطلان كل ما يصدر عنهم مخالفاً للشريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وقد ترتب على إغفال أولي الأمر لنصوص الشريعة من ناحية، وعلى ما لهم من حق التشريع من ناحية أخرى، أن أصبح لدينا ثلاثة أنواع من جرائم التعازير: النوع الأول: جرائم نصت عليها الشريعة ولم تنص عليها القوانين واللوائح: مثل جريمة أكل الميتة ولحم الخنزير، وجريمة البيوع الربوية، والامتناع عن إخراج الزكاة، ومخالفة أحكام العدة، ومخالفة الهيئات المشروعة للعبادات كالجهر في صلاة الإسرار، والإسرار في صلاة الجهر، وكالزيادة في الصلاة. النوع الثاني: جرائم نصت عليها الشريعة ونصت عليها القوانين واللوائح: وهذه الجرائم قسمان: قسم لا تختلف فيه الشريعة عن القوانين كجرائم تطفيف الكيل والوزن وخيانة الأمانة والرشوة، وقسم تختلف فيه الشريعة عن القانون كجريمة الربا، فالشريعة تعاقب على الربا في كل صوره، أما القانون فلا يعاقب إلا على الربا الفاحش بشروط وقيود خاصة، وكجرائم المقامرة والمراهنة، فإن الشريعة تحرمها تحريماً مطلقاً، بينما تحرمها القوانين في حالات خاصة. النوع الثالث: جرائم نصت عليها القوانين واللوائح ولم تنص عليها الشريعة: وهذه الجرائم قسمان: قسم يقوم على مبادئ تتفق مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، كمخالفات السيارات والتعليم، ومثل الأفعال التي قصد من تحريمها تنظيم الجماعة كقوانين تنظيم المهن، أو التي قصد من تحريمها تحقيق مصلحة عامة كمكافحة الآفات والأمراض. وقسم يقوم على مبادئ تخالف نصوص الشريعة وتتنافى مع مبادئها العامة وروحها التشريعية، ومن الأمثلة على ذلك: الجرائم التي نصت عليها لائحة بيوت الدعارة، فالمبدأ الذي قامت عليه هذه اللائحة هو إباحة الزنا والترخيص به رسمياً، وقد وضعت اللائحة لتنظيم مبدأ الإباحة، بينما الشريعة تحرم الزنا في كل صوره تحريماً مطلقاً. ومن أمثلة هذا القسم: الجرائم التي نصت عليها القوانين التي تنظم تقطير الخمور وبيعها وتقديمها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فإن المبدأ الذي تقوم عليه هذه القوانين هو إباحة شرب الخمر، وقد وجدت هذه القوانين لتنظيم هذا المبدأ، بينما الشريعة تحرم شرب الخمر تحريماً عاماً. 200 - مدى حقوق ولي الأمر في التحريم والعقاب: قلنا فيما سبق إن أولي الأمر أغفلوا نصوص الشريعة الإسلامية إغفالاً تاماً حين وضعوا قانون العقوبات والقوانين واللوائح الملحقة به، ونستطيع أن نستدل على هذا الإغفال في مصر بأن الشارع المصري نص في لائحة ترتيب المحاكم على أن لا جريمة ولا عقوبة بلا نص، وكرر هذا النص عند إصدار الدستور المصري حيث ضمنه إياه (1) ، وجمع الشارع الجرائم والعقوبات، والقواعد العامة للجريمة والعقاب في كتاب واحد سماه قانون العقوبات، أصدره وأوجب العمل به، وجعل لكل جريمة عقوبة أو اثنتين على الأكثر، وجعل للعقوبة حداً أدنى وحداً أعلى ليس للقاضي أن يتجاوزه، ومنع إيقاف تنفيذ العقوبة إلا بتوفر شروط معينة. وقد قصد الشارع المصري من كل هذا أن لا يعاقب إلا على ما نص عليه هو من الأفعال المحرمة في الحدود التي حددها، وبالعقوبات التي عينها، واعتبر كل ما عدا ذلك من الأفعال مباحاً ولو كانت الشريعة تنص صراحة على تحريمه والعقاب عليه، كالربا، فالشريعة تحرمه في كل أنواعه وصوره   (1) نص الدستور المصري على أنه لا جريمة ولا عقوبة بلا نص، متأثراً في ذلك بالدساتير الأوروبية. ولا شك أن واضعي الدستور قصدوا من هذا النص ما قصده واضعوا الدساتير الأوروبية، أي قصدوا أن لا يعترفوا إلا بالجرائم والعقوبات المنصوص عليها في القوانين الوضعية، لكن هذا النص المصري يتضارب مع نص أساسي من نصوص الدستور المصري، وهو النص الذي يقضي بأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام؛ لأن التزام الدولة الإسلام ديناً لها معناه التزامها الشريعة الإسلامية شريعة لها، إذ الشريعة الإسلامية هي مجموعة القواعد التشريعية التي جاء بها الإسلام وأوجبها، فإذا فسرنا النص الأول كما يفسر في الدساتير الأوروبية كان معنى ذلك إهمال النص= =الثاني وإبطاله وعدم الاعتراف بالإسلام والشريعة الإسلامية، وإذا أوجبنا العمل بالنص الثاني باعتبار أنه أساسي يقوم عليه كيان الدولة ونظامها العام، وجب أن نفسر النص الأول التفسير الذي يرفع التناقض بأن نقول إنه يسري على الجرائم التي نصت عليها الشريعة والقوانين معاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وأياً كان مقداره، أما القانون فلا يحرم الربا إلا في صور خاصة وبشروط معينة، وكتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، فالشريعة تحرم تناول هذه الأشياء وتعاقب على تناولها، والقانون لا يحرمها ولا يعاقب عليها. وبالإجمال فإن الشارع أهمل النصوص الشرعية ولم يقم على تنفيذها، واكتفى بإقامة ما نص عليه في قانون العقوبات وما ألحق به من قوانين ولوائح. هذا هو الذي فعله الشارع في مصر، وقد فعل مثله في غير مصر من البلاد الإسلامية، فهل في قواعد الشريعة ما يبرر فعل الشارع، وإلى أي حد يمكن أن يوصف عمله بالصحة أو البطلان؟ وسنستطيع الإجابة على هذا السؤال إذا عرفنا حقوق ولي الأمر في الشريعة، ومدى هذه الحقوق. ومن المسلم به في الشريعة أن لولي الأمر في تعيين الجرائم والعقاب ثلاثة حقوق: 201 - الحق الأول: حق التحريم والإيجاب والعقاب: لولي الأمر أن يحرم إتيان أفعال معينة أو يوجب إتيان أفعال معينة، وأن يعاقب على مخالفة الأمر الذي حرم الفعل أو أوجبه. وإذا كان لولي الأمر حق العقاب فله أن يعاقب على الجريمة بعقوبة واحدة أو بأكثر، وأن يحدد مبدأ العقوبة ونهايتها. وولي الأمر مقيد في استعمال هذا الحق بعدم الخروج على نصوص الشريعة، أو مبادئها العامة، أو روحها التشريعية، وبأن يكون قصده في التحريم والإيجاب والعقاب تحقيق مصلحة عامة، أو دفع مضرة أو مفسدة. وعلى هذا فعمل ولي الأمر صحيح كلما كان في حدود حقه، فإن خرج عن هذه الحدود فهو باطل فيما خرج فيه عن حدود حقه وصحيح فيما عدا ذلك. فليس لولي الأمر أن يهمل نصوص الشريعة، أو أن يمنع تطبيقها، فإن فعل فعمله باطل. وإذن فالجرائم التي نصت عليها الشريعة ولم تنص عليها القوانين يجب العقاب عليها كلما ارتكبت؛ لأن النصوص التي حرمتها لم تنسخ وليس لولي الأمر حق نسخها، والجرائم التي نصت عليها الشريعة والقوانين يؤخذ فيها دائماً بحكم الشريعة كلما اختلفت مع القانون؛ لأن كل نص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 قانوني يخالف الشريعة باطل فيما جاء به من خلاف، أما الجرائم التي تتفق في أحكامها الشريعة والقانون، فيؤخذ فيها بحكم القانون؛ لا لأنه حكم القانون، بل لأنه حكم الشريعة. أما الجرائم التي نصت عليها القوانين ولم تنص عليها الشريعة، فيؤخذ فيها بحكم القانون، ما دام أنه ليس خارجاً على مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، فإن خرج عليها بطل حكمه ولم يعمل به. 202 - الحق الثاني: حق تخصيص القضاء: لولي الأمر أن يخصص القضاء فيجعل الفصل في الجرائم لقضاة معينين، ويجعل لبعضهم الفصل في جرائم بعينها، وللبعض الآخر النظر في بقية الجرائم، أو يجعل للبعض حق توقيع عقوبات معينة، وللبعض الآخر حق توقيع بقية العقوبات. وحق ولي الأمر في تخصيص القضاء مقيد بعدم الخروج على نصوص الشريعة، أو مبادئها العامة، وروحها التشريعية، فإن خرج عن هذه الحدود فأمره باطل لا يقيد القضاة، ولا يمنعهم من النظر فيما حرمه عليهم الأمر الباطل. فمثلاً لولي الأمر أن يخصص قاضياً معيناً بنظر جريمة السرقة، وآخر بنظر جريمة القتل، ولكن ليس له أن يمنع القضاة من نظر هذه الجرائم أو من نظر جرائم أكل الميتة، أو شرب الخمر، أو الردة، أو منع الزكاة. ولولي الأمر أن يخصص قاضياً لنظر جرائم الربا أو المقامرة المراهنة، ولكن ليس له أن يمنع القاضي من نظرها على الوجه الذي حرمته الشريعة. ولولي الأمر أن يحدد العقوبات التي يملك القاضي توقيعها في جرائم التعازير ويلزمه أن لا يوقع غيرها، ولكن ليس له أن يلزمه توقيع عقوبات غير العقوبات الشرعية في جرائم الحدود، أو جرائم القصاص والدية. ويعتبر القاضي مختصاً بنظر الجريمة إذا كانت مما نصت عليه الشريعة ولم ينص عليه القانون، ما دامت عقوباتها تماثل العقوبات المفروضة على الجرائم التي خُصَّ قانوناً بنظرها، ولا عبرة بسكوت ولي الأمر عن هذه الجرائم؛ لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الشريعة نصت عليها وأوجبت عقاب مرتكبيها؛ ولأن الشريعة لا تبيح بحال لولي الأمر أن يعطل نصوصها، فإذا عطلها لم يكن للقضاء أن يسايره، وكان على القاضي أن يطبق نصوص الشريعة؛ ويحكم بالعقوبة التي قررتها الشريعة ما دام مختصاً بتوقيع مثل هذه العقوبة أو بنظر مثل الجريمة المعطلة. ويعتبر القاضي مختصاً بنظر الجريمة طبقاً لما نصت عليه الشريعة إذا كان القانون قد نص عليها على وجه يخالف أحكام الشريعة. والعلة في اختصاص القاضي هنا هي نفس العلة في اختصاصه بالجرائم التي أهملها القانون ولم ينص عليها. وإذا كانت الجريمة مما نص عليه القانون دون الشريعة؛ فالقاضي يختص بنظرها إذا لم يكن هناك خروج على نصوص الشريعة أو مبادئها العامة أو روحها التشريعية. فإذا تحقق هذا الخروج كان القاضي غير مختص بنظر الجريمة؛ لأنه ليس له أن ينظر إلا ما يتفق مع الشريعة، أو كان عليه أن يقضي بالبراءة لبطلان النص الذي حرم الفعل. وإذا كان من واجب القاضي شرعاً أن يعاقب على كل جريمة تعزيرية نصت عليها الشريعة ولم ينص عليها القانون، فما هي العقوبة التي يجب على القاضي أن يطبقها في هذه الحالة؟ وهل يعاقب بإحدى العقوبات المقررة في قانون العقوبات، أم يعاقب بإحدى عقوبات التعزير التي قررتها الشريعة؟ وجواب هذا السؤال هو أن العقاب يجب أن يكون بإحدى العقوبات التعزيرية التي قررتها الشريعة؛ وأنه لا يجوز للقاضي أن يعاقب على جريمة لم ينص عليها قانون العقوبات بإحدى العقوبات المنصوص عليها في هذا القانون؛ لأن واضع هذا القانون جعل لكل جريمة نص عليها عقوبة معينة، ولكل عقوبة حداً بحيث تختلف العقوبات باختلاف الجرائم، ولم يضع عقوبات عامة لغير الجرائم التي نص عليها، فلا يمكن إذن أن تطبق نصوص قانون العقوبات على ما لم يفكر فيه واضع القانون أو يدخله في حسابه، وإنما يعاقب على هذه الجرائم بإحدى عقوبات التعزير التي قررتها الشريعة، أو بأكثر من عقوبة واحدة طبقاً لما يراه القاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ملائماً لظروف الجريمة والمجرم، ذلك أن الأصل في الشريعة أن لجرائم التعازير مجموعة من العقوبات تتدرج من أتفه العقوبات إلى أشدها، والقاضي هو الذي يعين العقوبة التي تستحقها الجريمة بعد أن يطلع على ظروف الجريمة والمجرم، وليس القاضي ملزماً بتوقيع عقوبة معينة لكل جريمة، وإنما له الخيار والتعيين؛ يختار من مجموعة العقوبات ويعين العقوبة التي يراها ملائمة، فإذا جاء ولي الأمر وقيد سلطة القاضي في جرائم التعزير التي نص عليها، أو في بعض الجرائم التي نصت عليها الشريعة ونص هو أيضاً عليها، فإن سلطة القاضي تظل على حالها في الجرائم التي نصت عليها الشريعة ولم ينص عليها القانون؛ لأن الأصل هو توسيع سلطة القاضي، والتقييد جاء من جهة ولي الأمر في جرائم معينة، فتظل سلطة القاضي على حالها فيما لا قيد فيه، ويكون القيد فيما نص عليه ولي الأمر فقط، ومن ثم فللقاضي في جرائم التعزير التي نصت عليها الشريعة دون القانون أن يعاقب بالتوبيخ والتهديد والجلد والحبس والنفي والقتل والحبس إلى غير أمد معين، وغير ذلك من عقوبات التعزير، وللقاضي الجزئي أن يوقع العقوبات التعزيرية فيما عدا الحبس المؤبد أو غير المحدد المدة والقتل؛ لأن نية ولي الأمر ظاهرة في قانون العقوبات في أنه أراد أن يجعل هاتين العقوبتين من اختصاص محاكم الجنايات. أما جرائم التعزير التي نص عليها القانون مخالفاً حكم الشريعة، فحكمها أن ما اتفق فيه القانون مع الشريعة طبقت عليه نصوص القانون، وما اختلف فيه القانون مع الشريعة اعتبر غير منصوص عليه في القانون، وأخذ حكم الجرائم التعزيرية التي نصت عليها الشريعة ولم ينص عليها القانون، فصور الربا التي لم ينص عليها القانون يعاقب عليها بالعقوبات الشريعة، والصور التي نص عليها ولا يتفق نصه فيها مع نصوص الشريعة تأخذ نفس الحكم، أما الصور التي يتفق فيها القانون مع الشريعة فيعاقب عليها بالعقوبات القانونية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 203 - الحق الثالث: حق العفو (1) : من المسلم به في الشريعة أن لولي الأمر حق العفو في جرائم التعازير دون غيرها من الجرائم، فله أن يعفو عن الجريمة، وله أن يعفو عن العقوبة كلها أو بعضها، وله حق العفو سواء في الجرائم التعزير التي نصت عليها الشريعة، أو في الجرائم التي نص عليها هو. وحق ولي الأمر في العفو مقيد بأن لا يكون مخالفاً لنصوص الشريعة، أو مبادئها العامة وروحها التشريعية، كما أنه مقيد بأن يقصد به تحقيق مصلحة عامة أو دفع مفسدة. وإذا كان من حق ولي الأمر أن يعفو عن الجريمة، وأن يعفو عن العقوبة، فإن حقه في العفو لا يتولد سببه، فلا يستطيع أن يعفو عن الجريمة إلا إذا وجدت الجريمة، ولا يستطيع أن يعفو عن العقوبة إلا إذا حكم بالعقوبة، فليس لولي الأمر إذن أن يعفو مقدماً عن الجرائم قبل وقوعها، أو عن العقوبات قبل الحكم بها؛ لأن ذلك يعتبر إباحة للأفعال المحرمة لا عفواً عن الجريمة أو العقوبة. ولا شك أن لولي الأمر أن يبيح الأفعال التي حرمها ابتداء إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة، والعلة في ذلك أن الشريعة أعطيه حق التحريم إذا اقتضت التحريم مصلحة عامة، وإعطاء حق التحريم يقتضي إعطاء حق الإباحة إذا اقتضته مصلحة عامة أيضاً، فمن استطاع أن يبيح، ما دامت المصلحة العامة هي التي استوجبت التحريم أو الإباحة. أما الأفعال التي حرمتها الشريعة ابتداء فليس لولي الأمر أن يبيحها إطلاقاً؛ لأنه ليس هو الذي حرمها حتى يكون له يبيحها؛ ولأن الشريعة لم تجعل له في هذه الأفعال إلا حق العفو عن الجريمة أو العقوبة، فقد نصت الشريعة على المعاصي التي رأت تحريمها بصفة دائمة وحددتها وأمرت بالعقاب عليها،   (1) راجع الفقرات من532 إلى 535. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ولكنها تركت لولي الأمر أن يعفو إذا رأى العفو خيراً من العقوبة، وأن يعاقب إذا رأى العقوبة خيراً من العفو، بل تركت له أن يعفو عن الجريمة، وأن يعفو عن العقوبة كلها أو بعضها، فإذا عفا بعد وقوع الجريمة أو عفا بعد الحكم بالعقوبة وكانت المصلحة العامة تبرر هذا العفو فهو صحيح، أما العفو عن الجرائم قبل وقوعها فهو إباحة لها وليس عفواً عنها، ولا يملك ولي الأمر أن يحل ما حرمه الله، وأن يبيح ما لم يبحه الله، فإذا فعل فعمله باطل ولا أثر له. والعلة في منع ولي الأمر من إباحة ما حرمته نصوص الشريعة هي أن ولي الأمر لو أعطي له هذا الحق لكانت نصوص الشريعة عبثاً؛ لأن ولي الأمر يستطيع أن يعطلها في أي وقت شاء بما له من حق التحليل والتحريم. وعلى هذا لا يصح القول بأن الجرائم التي نصت عليها الشريعة ولم ينص عليها القانون تعتبر مباحة؛ لأن ولي الأمر ليس من حقه أن يبيح ما حرمته الشريعة ولا يصح هذا القول أيضاً فيما لا يختص بالجرائم التي نص عليها القانون مخالفاً للشريعة، كذلك ليس لأولي الأمر إباحة الجرائم التي نصت عليها الشريعة ونص عليها القانون، ولكن لأولي الأمر أن يبيحوا ما حرموه هم ولم تحرمه الشريعة. ونستطيع بعد بيان حق ولي الأمر في العفو أن نقول: إن الجرائم التي يحرمها ولي الأمر والعقوبات التي يفرضها على هذه الجرائم هي من حق ولي الأمر، فله أن يحرم اليوم، وله أن يبيح في الغد ما حرمه، وأن يعفو عن الجريمة كما يعفو عن العقوبة، ولا قيد على ولي الأمر في استعمال هذا الحق إلا أن يكون تصرفه متفقاً مع المصلحة العامة وبغرض تحقيق هذه المصلحة، أما الجرائم التي حرمتها الشريعة والعقوبات التي فرضتها فالأمر فيها جد مختلف، فكل فعل حرمه القرآن أو السنة فهو محرم ليس لكائن من كان أن يحله، وكل عقوبة فرضتها الشريعة في جرائم الحدود أو جرائم القصاص والدية فهي عقوبة لازمة واجبة ليس لولي الأمر أن يهملها أو يعفو عنها. أما العقوبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 التي فرضتها الشريعة لجرائم التعازير فهي وإن كانت لازمة وواجبة إلا أن الشريعة أعطت لولي الأمر فيها أن يعفو عن العقوبة إذا كان العفو يحقق مصلحة عامة، وأن يعفو عن الجريمة إذا كان العفو يحقق هذه المصلحة، وله أن يقيد كل جريمة تعزيرية بعقوبة معينة من عقوبات التعازير أو بأكثر من عقوبة إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة، فحق ولي الأمر في الجرائم والعقوبات التي فرضتها الشريعة قاصر على تنظيم عقوبات التعزير، وحق العفو عنها وعن الجريمة التعزيرية. ولقد بحث الفقهاء هذه المسألة فخرجوا من بحثها مجمعين على أن إقامة عقوبات الحدود واجبة على ولي الأمر، فإذا أهمل إقامتها كان من واجب كل فرد أن يقيمها دون أن يعتبر مرتكباً لجريمة، فإذا أقامها سقط الواجب بإقامتها عن غيره، ومعنى هذا أن الفقهاء يعتبرون إقامة الحدود من الفروض التي تلزم جميع الأفراد حاكمين ومحكومين، ولا تسقط عنهم إلا إذا أقيمت، ولا يجوز فيها عفو ولا إباحة. وأجمع الفقهاء أيضاً على أن العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية حكمها حكم الحدود، فهي واجبة الإقامة ما لم يعفو المجني عليه أو وليه عن العقوبة، فإذا أهمل ولي الأمر إقامتها كان للمجني عليه أن يقتص لنفسه، وكان لولي دم المجني عليه أن يقتص من الجاني دون أن يعتبر القصاص في هذه الحالة جريمة (1) . واتفق الفقهاء على أن ولي الأمر ليس له أن يحل ما حرم الله، ولا أن يبيح ما أمر بمنعه، أياً كان نوع العقوبة المقررة على الفعل المحرم، ولكنهم اختلفوا على إقامة عقوبات التعازير، فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن إقامة عقوبات التعازير واجب على ولي الأمر ليس له أن يتركه إلا إذا كان العفو   (1) الإقناع ج4 ص244، الأم ج6 ص171، حاشية البناني ج8 ص118، شرح فتح القدير ج4 ص112- 113، 160- 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 خيراً من العقوبة، فإذا اقتضت المصلحة العامة أن يعفو عن جريمة بعد وقوعها أو عن عقوبة بعد الحكم بها، كان له أن يعفو. وأساس نظرية هؤلاء الفقهاء أن جرائم التعازير حرمت وفرضت عليها العقوبات لمصلحة الجماعة، ولصيانة النظام العام الذي تقوم عليه الجماهير وهو الإسلام، ولما كان ولي الأمر هو ممثل الجماعة الذي أقامته لحفظ مصالحها وصيانة نظامها، فقد وجب عليه أن يعاقب على جرائم التعازير، وأن يهمل إقامة هذه العقوبات إلا إذا اقتضى صالح الجماعة أو نظامها العام العفو عن الجريمة أو العقوبة، ففي هذه الحالة يسقط عن عاتق ولي الأمر واجب إقامة العقوبة (1) . ويرى الشافعي أن إقامة عقوبات التعازير حق لولي الأمر، وليست واجباً عليه، وأساس هذا الرأي أن لولي الأمر أن يعفو عن الجريمة، وأن يعفو عن العقوبة، فله إذن أن يعاقب وأن لا يعاقب، وكل ما يكون للإنسان أن يفعله أو يتركه فهو حق وليس واجباً عليه (2) . ويلاحظ أن التسليم بنظرية الشافعي لا يؤدي بأي حال إلى تعطيل النصوص التي جاءت بجرائم التعازير؛ لأن الشافعي لم يقل بأن لولي الأمر أن يعطل نصوص الشريعة أو أن يبيح ما حرمته الشريعة، إنما قال إن لولي الأمر أن يعاقب أو أن يعفو، فالجريمة لا تزال في نظرية الشافعي جريمة، وما حرمته الشريعة يحرم إتيانه، وإنما لولي الأمر بعد وقوع الجريمة أن يعاقب أو يعفو، واستعمال ولي الأمر لحقه في العقوبة أو العفو مقيد بصالح الجماعة ونظامها العام، الذي يقتضي العفو عن العقوبة تارة، ويقتضي تنفيذ العقوبة تارات، وليس لولي الأمر أن لا يستجيب لمقتضيات المصلحة العامة أو النظام العام؛ لأنه لم   (1) حاشية البناني وشرح الزرقاني ج8 ص115- 116، بدائع الصنائع ج7 ص63- 64، المغني ج10 ص348. (2) أسنى المطالب ج4 ص162- 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 يمنح حق العفو عن العقوبة أو إيقاعها إلا ليكون قادراً على تحقيق مصلحة الجماعة وتثبيت نظامها، ولم يول أمر الجماعة إلا لحماية مصالحها وحفظ نظامها. والواقع أن الشافعي لم يقصد بنظريته أن يعطل نصوص الشريعة، أو أن يمنع العقاب على جرائم التعازير، وإنما قصد من وضع نظريته أن يقرر مسئولية الولاة عن ضمان ما يترتب على تنفيذ عقوبات التعازير، من موت أو قطع عضو أو تعطيله وما أشبه، ولا أدل على ذلك من أن فقهاء المذهب الشافعي يتكلمون عن هذه النظرية في باب ضمان المتلفات، ولا يذكرون عنها شيئاً في باب التعزير، فهم يرون أن العقاب في التعازير من حق ولي الأمر لأن له أن يعفو وأن لا يعفو، وأن يختار عقوبة دون عقوبة، وما دام ولي الأمر غير ملزم بالعقاب وغير ملزم بعقوبات معينة، فهو مسئول عن ضمان ما يؤدي إليه العقاب من موت أو عجز أو تعطيل طرف أو قطعه؛ لأنه كان يستطيع أن يعاقب بغير عقوبة التي أدت لهذه النتيجة، وكان يستطيع أن لا يعاقب، فإذا اختار عقوبة معينة فأدت إلى الموت مثلاً فهو مسئول عن ضمان ما حدث، لأنه كان يستعمل حقاً، والقاعدة في الشريعة أن استعمال الحق مقيد بشرط السلامة (1) . فالشافعي حين قرر نظريته لم يرد أن يعطل نصوص الشريعة، أو يمنع العقاب على جرائم التعازير، وإنما قصد الوصول إلى نتيجة لا علاقة لها بهذين الأمرين، هي إلزام الولاة بضمان سراية عقوبات التعازير (2) ، فإذا استطعنا أن لا ننسى هذه الاعتبارات أمكننا أن نفهم نظريته على حقيقتها، وتبين لنا أن العقاب إذا كان حقاً لولي الأمر عند الشافعي، فإن ولي الأمر ليس له أن يعطله إلا تحقيقاً لمصلحة عامة. وهذه النظرية لا تكاد تختلف شيئاً في نتيجتها العلمية عن نظرية مالك وأبي حنيفة وأحمد التي تجعل لولي الأمر أن لا يعاقب تحقيقاً   (1) الأم ج6 ص171، أسنى المطالب ج4 ص162. (2) أسنى المطالب ج4 ص163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 لمصلحة عامة، وإن جعلت العقاب في الأصل واجباً، فالنظريتان لا تختلفان في نتيجتهما العلمية من حيث توقيع العقوبة، وإن اختلفتا من الناحية الفقهية في تقرير مسئولية ولي الأمر عن سراية العقوبة. * * * الفصل الثاني سريان النصوص الجنائية على الزمان 204 - قاعدة أصولية: القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الجنائية لا تسري إلا بعد صدورها وعلم الناس بها (1) : فلا تسري على الوقائع السابقة على صدورها أو علم بها، ومقتضى هذه القاعدة أن النصوص الجنائية ليس لها أثر رجعي، وأن الجرائم يعاقب عليها بالنصوص المعمول بها وقت ارتكاب هذه الجرائم. وليس في كتب الفقه مباحث خاصة عن الأثر الرجعي للنصوص، ولكن ليس معنى ذلك أن الشريعة لا تعرف الأثر الرجعي ولم تتعرض له، فإن من يتتبع آيات الأحكام وأسباب النزول يستطيع بسهولة أن يخرج بنظرية الشريعة كاملة في الأثر الرجعي. ونستطيع أن نقول بعد أن تتبعنا آيات الأحكام الجنائية: إن القاعدة العامة في الشريعة هي أن التشريع الجنائي ليس له أثر رجعي، وإن هذه القاعدة العامة لها استثناءان: أولهما: إن التشريع الجنائي يجوز أن يكون له أثر رجعي في حالة الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن العام أو النظام العام.   (1) راجع الفقرة 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ثانيهما: إن التشريع الجنائي يجب أن يكون له أثر رجعي لكما كان ذلك في مصلحة الجاني. والفرق بين الاستثنائين أن الأول جوازي للشارع، فله أن يجعل للتشريع أثراً رجعياً بشرط أن تستوجب ذلك مصلحة عامة، والثاني وجوبي، فليس للشارع أن يمنعه إلا إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة، وسندلل فيما يلي على القاعدة وما استثنى منها. 205 - القاعدة العامة "لا رجعية في التشريع الجنائي": فأما القاعدة العامة فهي مستخلصة من تتبع آيات الأحكام الجنائية وأسباب نزولها، فقد نزلت جميع الأحكام التي حرمت المعاصي بعد أن فشا الإسلام، فلم يعاقب بها على الجرائم التي وقعت قبل النزول، عدا جريمة القذف وجريمة الحرابة، فهناك من يرى أن عقوبتهما طبقت على جرائم وقعت قبل النزول، ومن الصعب أن نستعرض كل الجرائم واحدة بعد أخرى، ولهذا سنكتفي باستعراض الجرائم الهامة. فالزنا حرم في أول الإسلام، وكانت العقوبة عليه أول الأمر مخففة، وهي الإيذاء والحبس في البيوت طبقاً لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً *وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: 15، 16] ، ثم شددت عقوبة الزنا بعد ذلك، فصارت الجلد والرجم طبقاً لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وطبقاً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم الحجارة"، ولو كان للتشديد أثر رجعي لطبقت عقوبة الجلد والرجم على الجرائم التي وقعت قبل تقدير هاتين العقوبتين، ولكن لا نعلم أحداً أو رجم لزنا وقع قبل تشديد عقوبة الزنا. ومن ثم فلم يكن للنص المعاقب على الزنا أثر رجعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وحرم الله نكاح زوجة الأب بعد أن كان جائزاً، فأصبح لهذا النوع من النكاح وجهين: أحدهما: جنائي، والثاني: فمن الناحية الجنائية أصبح نكاح زوجة الأب جريمة، ومن الناحية المدنية ظل النكاح عقداً من العقود، وقد اعتبرت الشريعة نكاح زوجة الأب جريمة، ولكنها لم تجعل للنص أثراً رجعياً حيث قال الله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً} [النساء: 22] ، فلم يطبق حكم النص إلا على الوقائع التي وقعت بعد نزوله والعلم به، ولكن ترتب على نزول النص التفريق بين الأزواج الذين سبق لهم أن تزوجوا هذه الزيجات المحرمة، فكان للنص أثر رجعي من الناحية المدينة امتد إلى وقت انعقاد العقد، ولم يكن للنص أثر رجعي من الناحية الجنائية، فلم يعاقب أحد ممن فسخت زيجاتهم، لقوله تعالى: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} . وكذلك كان الحال في تحريم نكاح الأمهات والبنات وغيرهن من المحارم، فقد عدد النص القرآني المحارم اللائي يحرم نكاحهن ثم قال: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 23] ، وقد ترتب على نزول آية التحريم التفرقة بين الزوجين في الزيجات المحرمة، فكان النص أثر رجعي من الناحية المدينة، ولكن لم يكن النص أثر رجعي من الناحية الجنائية فلم يعاقب أحد على هذه الزيجات المحرمة التي تمت قبل نزول النص لقوله تعالى في آخر الآية: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} . ومثل ذلك حدث يوم حرم القرآن أن يتزوج الرجل أكثر من أربع نسوة، فقد كان العرب يتزوجون أكثر من أربع فلما نزل قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فرق بين الزوج وما زاد على الأربع، ولم يعاقب زوج على ما حدث منه قبل نزول النص، فكان للنص أثر رجعي من الناحية المدنية، ولكن لم يكن له أثر رجعي من الناحية الجنائية. وحرمت الخمر والميسر على مراحل، فنهى المسلمون أن يقربوا الصلاة وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 سكارى بقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فرق بين الزوج وما زاد على الأربع، ولم يعاقب زوج على ما حدث منه قبل نزول النص، فكان للنص أثر رجعي من الناحية المدنية، ولكن لم يكن له أثر رجعي من الناحية الجنائية. وحرمت الخمر والميسر على مراحل، فنهى المسلمون أن يقربوا الصلاة وهم سكارى بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ، ثم بين الله لهم أن الخمر والميسر إثماً ومنفعة وأن إثمهما أكبر من نفعهما فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، ثم حرم الله الخمر والميسر بعد ذلك تحريماً قاطعاً حيث قال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، وجعل الرسول حد الشرب الجلد، وعقوبة الميسر التعزير، ولكن لا يعلم أن أحداً عوقب على شرب الخمر أو لعب الميسر قبل نزول التحريم، ولا يعلم أن نصاً من نصوص التحريم كان له أثر رجعي. ومن ثم يمكن القول بأن النصوص التي حرمت الخمر والميسر لم يكن لها أثر رجعي. وجاءت الشريعة بقطع يد السارق حيث يقول الله جل شأنه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة: 38] ، ولا يعلم أن هذا النص طبق على سرقة وقعت قبل نزوله. ومن ثم يمكن القول بأن نص السرقة لم يكن له أثر رجعي. وحرم الله الربا وكان مباحاً بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279] ، فأصبح الربا بعد التحريم جريمة من وجه، عملاً مدنياً من وجه آخر، وجاءت النصوص المحرمة بحكمين: إحداهما: جنائي، والآخر: مدني. فأما الحكم الجنائي فيقضي بأن لا عقاب على الربا السابق على نزول التحريم، وأن العقاب على ما بعده فقط. وأما الحكم المدني فيقتضي بأن ليس للدائن غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 رأس ماله فقط. فالحكم الجنائي ليس له أثر رجعي، والحكم المدني له أثر رجعي يعود إلى الوقت الذي انعقد فيه العقد الربوي. وحرم الله على المحرم قتل الصيد، وجعل على قتله عقوبة، ولكنه عفا عما سلف لينبه على أن النص ليس له أثر رجعي، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] . هذه هي بعض النصوص الجنائية ظاهر من استعراضها أنها ليس لها أثر رجعي، وهي في هذا تدلنا على طريقة الشريعة في التشريع الجنائي، وترشدنا إلى قاعدة الشريعة العامة. ويستطيع القارئ أن يلاحظ أن بعض النصوص صرحت بالعفو عما سلف أي بانعدام الأثر الرجعي، والبعض الآخر لم يصرح به، وليس لهذا في ذاته أهمية؛ لأن النص على العفو عما سلف أي عما حدث قبل نزول النص يعتبر في ذاته نصاً عاماً مقرراً لقاعدة عامة، ولو أنه جاء ضمن نص خاص، فيطبق إذن على كل النصوص الجنائية لا على الحالات التي اقترن بتحريمها دون غيرها، وهذا التفسير يتفق مع القاعدة الشريعة الأساسية التي تقضي بأنه: "لا يكلف شرعاً إلا بفعل ممكن، مقدور للمكلف، معلوم له علماً يحمله على امتثاله"، ويتفق مع القاعدة الشريعة الأساسية التي تقضي بأن: "لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص"، كما أنه يتفق مع نصوص الشريعة الأكثر عموماً، فالله جل شأنه يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ، ويقول: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] ، ويقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] . ونخرج من هذا كله بأن قاعدة الشريعة العامة في التشريع الجنائي تقضي بأن هذا التشريع ليس له أثر رجعي، وأن نصوص الشريعة ومبادئها العامة وتاريخ هذه النصوص كل ذلك يقطع بأن لا رجعية في التشريع الجنائي. 206 - الاستثناء الأول: جواز الرجعية في حالة الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن العام والنظام العام: إذا كانت القاعدة العامة في الشريعة أن لا رجعية في التشريع الجنائي، فإنه يجوز استثناء من تلك القاعدة أن يكون للتشريع الجنائي أثر رجعي في حالة الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن أو النظام العام. ومن الأمثلة على هذا الاستثناء: جرائم القذف والحرابة والظهار، فقد طبقت العقوبة فيها على وقائع سابقة على نزول النص. وفي نص القذف خلاف، فالبعض يرى أنه نزل قبل حادث الإفك فلما كان هذا الحادث وبرأ الله عائشة منه طبق النص على القاذفة، وعوقبوا بالعقوبة التي يقررها، وإذا صح هذا الرأي لم يكن لنص القذف أثر رجعي، حيث لا يعلم أنه طبق على واقعة سابقة على نزوله. ويرى البعض - ورأيهم هو الراجح - أن النص نزل بمناسبة حادث الإفك، فإذا صح هذا الرأي كان لنص القذف أثر رجعي، إذ الثابت الذي لا خلاف فيه أن رسول الله حد القذفة، فكأنه طبق النص على وقائع سابقة على نزوله. ويمكن أن يعلل الأثر الرجعي بما ترتب على الحادث الذي نزل فيه النص من آثار هامة، فقد قذف جماعة زوج النبي وخاضوا في عرضها؛ وآذوها وآذوا النبي بالإفك الذي قالوا؛ حتى اضطرب المجتمع الإسلامي اضطراباً شديداً؛ وكاد المسلمون يقتتلون، فقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعد إلى المنبر بعد أن خاض الناس في هذا الأمر، وقال: "يا معشر المسلمين من يعذرني في رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان على أهلي إلا معي". فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من الخزرج أمرتنا فأطعنا أمرك. فقام سعد ابن عبادة فقال - وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية -: أي سعد بن معاذ، لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير وهو ابن عمة سعد بن معاذ وقال لسعد بن عبادة: لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين؛ فتأثر الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله يخفضهم حتى سكتوا (1) . فهذا الحادث الذي أهم المسلمين، وكاد يوقع الفتنة بينهم، والذي أنزل الله فيه قرآناً، هو حادث هام يمس أمن الجماعة ونظامها، وهو أحق ما يجعل للنصوص فيه أثر رجعي؛ لأن العقوبة في مثل هذا الحادث تدعو إلى تهدئة النفوس الثائرة ومحو ما خلفته الجريمة من آثار. وقد اختلفوا أيضاً في أسباب نزول آية الحرابة، والذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين، وهم قوم من عرينة، قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتووا المدينة، فأمر لهم الرسول بلقاح، وأمرهم أن يشربوا ألبانها وأبوالها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا النعم، فأرسل الرسول في أثرهم فجئ بهم، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك قوله: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] . وقيل أن الآية نزلت على قوم من أهل الكتاب بينهم وبين الرسول عهد فنقضوا العهد، وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض. وروى   (1) تفسير الطبري ج18 ص53، تفسير الألوسي ج18 ص79، تفسير الشهاب على البيضاوي ج6 ص159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ابن جرير أن الآية نزلت عتاباً للنبي؛ لأنه قطع أيدي العرنيين وتركها دون حسم، وسمل أعينهم كما سملوا عين الراعي فنزلت الآية تحريماً للمثلة (1) . فإذا صحت رواية ابن جرير وكانت الآية قد نزلت بعد عقاب العرنيين فيكون الرسول قد عاقبهم طبقاً لقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وتكون الآية قد نزلت بحكم جديد ثابت لعقاب من يفع تلك الفعلة، ويترتب على صحة هذه الرواية أن لا يكون للنص أثر رجعي؛ لأنه لم يطبق على حالة سبقت نزوله. وإذا صحت الرواية القائلة بأنها نزلت لعقاب العرنيين، أو الرواية القائلة بأنها نزلت في قوم مشركين، فإن الآية قد نزلت بعقوبة فعل سابق عليها، ومن ثم يكون لها أثر رجعي، والجمهور يرجح الرواية القائلة بأن الآية نزلت لعقاب العرنيين، وعلى هذا يكون الرأي الراجح أن الآية لها أثر رجعي. ولا شك أن المصلحة العامة التي اقتضت أن يكون للنص أثر رجعي، فقد كان حادث العرنيين فظيعاً، يوشك لو لم يؤخذ أصحابه بعقوبة رادعة أن يجرئ الناس على المسلمين، وعلى النظام الجديد، وأن يشجع على قطع الطريق، وزعزعة الأمن والنظام، فكان لابد من عقاب رادع على هذه الجريمة، ولكن العقاب الرادع يقتضي أن يجعل للنص أثر رجعي، فجعل له هذا الأثر حفظاً للأمن العام وحماية للجماعة ونظامها، كما جعل لنص القذف أثر رجعي، لتقطع الألسنة وتهدأ الفتنة وتسكن النفوس الثائرة، فحفظ الأمن وحماية الجماعة ونظامها هو الغرض الأول والأخير من جعل الأثر الرجعي للنص الجنائي.   (1) تفسير الطبري ج6 ص119، تفسير المنار ج6 ص302، تفسير القرطبي ج6 ص148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وإذا كان هناك خلاف في أسباب نزول آية القذف وآية الحرابة فإنه لا خلاف في أسباب نزول آية الظهار، وإذا كان الخلاف في أسباب نزول آية القذف وآية الحرابة مما يدعو إلى الشك في أن الشريعة تجيز الرجعية في التشريع الجنائي، فإن الاتفاق على سبب نزول آية الظهار، وعلى أنها طبقت على واقعة سابقة، مما يقطع بأن الشريعة تجيز أن يكون للتشريع الجنائي أثر رجعي، وهذا الذي تقطع به آية الظهار ينهي الخلاف القائم في آيتي القذف والحرابة لمصلحة القائلين بأن كليهما طبقت على واقعة سابقة عليها، ويؤكد أن هاتين الآيتين كان لهما أثر رجعي. ولقد كان الظهار (1) في الجاهلية وفي أول الإسلام طلاقاً، أي أنه كان تصرفاً يترتب عليه فسخ عقد الزواج وإنهاؤه، ولم يكن يعتبر جريمة، حتى ظاهر أوس بن الصامت من زوجته خولة، فقال لها: أنت علىّ كظهر أمي، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعائشة تغسل شق رأسه، فقالت: يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي، وأكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حرمت عليه، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي إليه، ثم قالت: يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي، ونفضت له بطني، وظاهر مني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حرمت عليه. فكلما قال لها ذلك رسول الله هتفت وصاحت: إلى الله أشكو فاقتي. فنزل الوحي وقد قامت عائشة رضي الله عنها تغشل شق رأسه الآخر، فأومأت إليها عائشة أن أسكتي، فلما قضي الوحي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادعي لي زوجك، فلما حضر تلا عليه الرسول قول الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ   (1) الظهار: هو تشبيه الرجل وطء من تحل له من النساء بوطء من تحرم عليه منهن تحريماً مؤبداً بنسب أو صهر أو رضاع، وكانت العرب تكني عن ذلك بالظهر، فيقول الرجل منهم: امرأتي علىّ كظهر أمي، ولذلك سمي ظهاراً لأنه مأخوذ من الظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 1 - 4] . بهذه الآيات التي نزلت في الظهار أخبر الله تعالى أن لفظ الظهار الذي كانوا يطلقون به نساءهم منكر من القول وزور، والمنكر من القول هو الذي لا تعرف حقيقته، والزور الكذب، وإنما قال الله فيه إنه كذب لأنهم صيروا به نساءهم كأمهاتهم، وهن لا يصرن كأمهاتهم ولا كذوي محارمهم؛ لأن ذوي المحارم لا يحللن لمظاهر أبداً، كذلك حرم الله الظهار وعاقب عليه، فأخرجه بهذا من باب التصرف إلى باب الجريمة، ومن باب المباح إلى باب المعاقب عليه. ولقد طبقت آية الظهار أول ما طبقت على أوس بن الصامت نفسه، فقد قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أتستطيع أن تعتق رقبة؟ قال: لا. قال: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات خشيت أن يعشو بصري. قال: فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا يا رسول الله إلا أن تعينني فأعانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأطعم ستين مسكيناً، وراجع زوجته (1) . وإذا كانت عقوبة الظهار قد طبقت على أوس بن الصامت عن واقعة حدثت قبل نزول النص فمعنى ذلك أن آية الظهار لها أثر رجعي. 207 - الاستثناء الثاني: وجوب الرجعية إذا كان التشريع أصلح للجاني: إذا صدر نص جنائي أصلح للجاني وجب تطبيق هذا النص دون غيره على الجاني، ولو أن الجاني أرتكب جريمته تحت حكم نص أشد عقوبة.   (1) المقدمات لابن رشد ج2 ص140، 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ويشترط لتطبيق النص الأصلح للجاني أن لا يكون الحكم الصادر على الجاني طبقاً للنص القديم قد أصبح نهائياً، فإن كان قد أصبح نهائياً فقد انتهى الأمر به، ولا تعاد محاكمة الجاني طبقاً للنص الجديد. والعلة في تطبيق النص الأصلح أن العقوبة مقصود منها منع الجريمة وحماية الجماعة، فهي ضرورة اجتماعية اقتضتها مصلحة الجماعة، وكل ضرورة تقدر بقدرها، فإذا كانت مصلحة الجماعة في تخفيف العقوبة وجب أن يستفيد الجاني الذي لم يحكم عليه بعد من النص الجديد المخفف للعقوبة؛ لأن حفظ مصلحة الجماعة ليس في التشديد، ولأنه من العدل أن لا تكون العقوبة زائدة عن حاجة الجماعة ما دامت شرعت لحماية الجماعة؛ ولأن العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً. ومن الأمثلة البارزة على هذا الاستثناء جريمة القتل، لك أن العرب قبل الإسلام كانت تباين في الفضل وتعترف بهذا التباين، فإذا كان بينها ما يكون بين الجيران من قتل العمد أو الخطأ عرف لصاحب الفضل فضله، وتباينت الديات بحيث تكون دية الشريف أضعاف دية الرجل دونه، واتسع هذا التباين حتى تعدى الأفراد إلى القبائل، فكانت دية النضير يمثلاً ضعف دية القرظي، وكان الشريف من العرب إذا قتل لم يقتل قاتله فقط من أشراف قبيلة القاتل من يرونه كفء القتيل، وربما لم يرضوا إلا بعدد يقتلونهم، ولقد قتل أحد أفراد قبيلة غني شاس بن زهير، فجمع عليهم أبوه زهير بن خزيمة؛ فقالوا له: سل في قتل شاس. فقال: إحدى ثلاث لا يغنيني غيرها. قالوا: وما هي: قال: تحيون لي شاساً، أو تملئون ردائي من نجوم السماء، أو تدفعون إليّ قبيلة بأسرها فأقتلها، ثم لا أرى أني أخذت منه عوضاً. فهذا هو ولي القتيل يرى أن قبيلة بأسرها لا يجزي قتلها في قتل ولده. ولما قتل كليب بن وائل اقتتلوا دهراً طويلاً واعتزلهم بعضهم، فأصابوا ابناً له يقال له بجير، فأتاهم وقال: قد عرفتم عزلتي فبجير بكليب وكفوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 عن الحرب، فقالوا: بجير بشسع نعل كليب. فقاتلهم بعد اعتزاله وكان من أشراف القبيلة (1) . وقد جاء الإسلام وبعض العرب يطلب بعضاً بدماء وجراح، فمحا حكم الجاهلية وسوى في الحكم بين الناس، وذلك قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ، وسوى الإسلام بين دم الشريف والوضيع، وبين دماء الأحرار ودماء العبيد، وبين دماء الرجال والنساء، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] ، وبعد نزول هذا الحكم انتهى التفاوض في الدماء والجارح والديات، وطبق الحكم على ما سبقه من دماء وجراح لم يحكم فيها بعد، وبهذا كان للنص أثر رجعي. ويترتب على ما توجبه الشريعة من تطبيق التشريع الأصلح للجنائي نتائج منطقية هامة: 1 - إذا صدر التشريع الجديد قبل الحكم في الجريمة وكان أصلح للجاني حوكم الجاني بمقتضاه ولو أنه أرتكب الجريمة في ظل التشريع القديم. 2 - إذا صدر التشريع الجديد بعد الحكم وكان أصلح للمحكوم عليه نفذ من العقوبة المحكوم بها ما يتفق مع العقوبة التي يقررها التشريع الجديد. 3 - إذا كان التشريع الجديد بعد الحكم وكان يبيح الفعل ولا يعاقب عليه، فيجب أن لا ينفذ الحكم الذي صدر طبقاً للتشريع القديم، كما يوجب أن يوقف تنفيذه إذا كان قد بدئ في تنفيذه. 4 - إذا كان التشريع الجديد يشدد العقوبة فلا ينطبق على الجاني؛ لأنه ليس   (1) الأم ج6 ص7، تفسير القرطبي ج2 ص244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الأصلح له، ولأن الأصل أن الجرائم يعاقب عليها طبقاً للنصوص السارية وقت ارتكابها. 208 - الشريعة والقانون: بينا فيما سبق المبادئ التي تسير عليها الشريعة الإسلامية في سريان النصوص على الزمان، وهذه المبادئ هي نفس المبادئ التي تأخذ بها القوانين الوضعية اليوم، ولكن القوانين الوضعية لم تأخذ بهذه المبادئ إلا أخيراً، فقد كانت القاعدة في القوانين الوضعية قديماً أن يكون للشارع الحق في أن يجعل لأي قانون جنائي أثراً رجعياً، ولم يكن حقه في ذلك مقيداً بأي قيد، فلما جاءت الثورة الفرنسية أُلغي هذا الحق، ولم يعد للشارع أن يصدر قوانين جنائية لها أثر رجعي، وقد ظل هذا المبدأ محترماً من عهد الثورة الفرنسية إلى أن بدأ علماء القانون والمشرعون يخرجون عليه في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، حيث تبين لهم أن التقييد المطلق ضار بمصالح الجماعة، وإن كان متفقاً مع صالح الفرد، ورأوا أن صالح الجماعة يجب أن يرجح على الصالح الفردي، بحيث إذا اقتضي صالح الجماعة أن يجعل للقانون أثر رجعي كان للشارع هذا الحق. وممن يرى هذا الرأي الشراح الإيطاليون، فإنهم يرون قبول الأثر الرجعي للقوانين التي تنشئ عقوبات أشد لأمور كانت جرائم من قبل؛ لأن حق المجتمع يعلو على مصلحة المجرم. ويرى الشراح الإنجليز أن الأثر الرجعي للعقوبة المشددة أمر معقول. وقد جعل المشرع المصري والمشرع الفرنسي للقانون أثراً رجعياً في قوانين معتادي الإجرام والاشتباه (1) . وظاهر مما سبق أن المبدأ الحديث الذي يراه الشراح ويأخذ به المشرعون هو أن المشرع ليس له في الأصل أن يجعل للقانون أثراً رجعياً، ولكن له   (1) القانون الجنائي لعلي بدوي ص116- 117، الموسوعة الجنائية ج5 ص568 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 استثناء أن يمارس هذا الحق كلما اقتضت المصلحة العامة، وهذه هي نفس النظرية الإسلامية. وعلى أثر انتهاء الحرب الأخيرة في سنة 1945 حاكمت الدول المنتصرة زعماء الدول المغلوبة وقوادها وحكامها، وحكمت عليهم بعقوبات تتراوح بين الإعدام والأشغال الشاقة والسجن، وكان موضوع المحاكمة أفعالاً لم تكن تعتبر جرائم، لا في قوانين البلاد المنتصرة أو المنهزمة، ولا في القانون الدولي، ولم يكن يعاقب عليها من قبل، وهذه المحاكمة التاريخية تطبيق واسع لنظرية رجعية القوانين لم يسبق له مثيل. أما عن تطبيق التشريع الأصلح للمتهم على ما سبقه من الجرائم فهي قاعدة معترف بها في كل القوانين الوضعية تقريباً وإن كانت القوانين لم تعرف هذه القاعدة إلا في القرن الماضي. وهكذا نستطيع أن نقول بعد هذه المقارنة: إن القوانين الوضعية بدأت من القرن الماضي تأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية في الأثر الرجعي الجنائي، وإن ما نعتبره اليوم أحدث الآراء والنظريات في القوانين الوضعية ليس إلا تطبيقاً دقيقاً للنظرية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية من ثلاثة عشر قرناً. * * * الفصل الثالث سريان النصوص الجنائية على المكان 209 - هل الشريعة عالمية أم إقليمية: الأصل في الشريعة الإسلامية أنها شريعة عالمية لا مكانية، جاءت للعالم كله لا لجزء منه، وللناس جميعاً لا لبعضهم، فهي شريعة الكافة لا يختص بها قوم دون قوم، ولا جنس دون جنس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ولا قارة دون قارة، وهي شريعة العالم كله، يخاطب بها المسلم وغير المسلم، وساكن البلاد الإسلامية، وساكن البلاد غير الإسلامية. ولكن لما كان الناس جميعاً لا يؤمنون بها، ولا يمكن فرضها عليهم فرضاً، فقد قضت ظروف الإمكان أن لا تطبق الشريعة إلا على البلاد التي يدخلها سلطان المسلمين دون غيرها من البلاد، وهكذا أصبح تطبيق الشريعة الإسلامية مرتبطاً بسلطان المسلمين وقوتهم؛ فكلما اتسعت الأقاليم التي يتسلط عليها المسلمون اتسع نطاق تطبيق الشريعة، وكلما انكمش سلطانهم انكمشت الحدود التي تطبق فيها الشريعة، فالظروف والضرورة هي التي جعلت من الشريعة الإسلامية شريعة إقليمية وإن كانت الشريعة في أساسها شريعة عالمية. ولهذا نستطيع أن نقول: إن الشريعة الإسلامية في أساسها شريعة عالمية إذا نظرنا إليها من الوجهة العلمية، ولكنها في تطبيقها شريعة إقليمية إذا نظرنا إليها من الوجهة العلمية. 210 - تقسيم العالم: وقد نظر الفقهاء إلى هذا الاعتبار حين قسموا العالم كله إلى قسمين لا ثالث لهما: الأول يشمل كل البلاد الإسلام، ويسمى دار الإسلام، والثاني يشمل كل البلاد الأخرى، ويسمى دار الحرب؛ لأن القسم الأول يجب فيه تطبيق الشريعة الإسلامية، أما القسم الثاني فلا يجب فيه تطبيقها لعدم إمكان هذا التطبيق. 211 - دار الإسلام: تشمل دار الإسلام البلاد التي تظهر فيها أحكام الإسلام (1) ، أو يستطيع سكانها المسلمون أن يظهروا فيها أحكام الإسلام (2) ، فيدخل في دار الإسلام كل بلد سكانه كلهم أو أغلبهم مسلمون، وكل بلد يتسلط عليه المسلمون ويحكمونه ولو كانت غالبية السكان من غير المسلمين، ويدخل في دار الإسلام كل بلد يحكمه ويتسلط عليه غير المسلمين ما دام فيه سكان مسلمون   (1) بدائع الصنائع ج7 ص130. (2) أسنى المطالب ج4 ص204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 يظهرون أحكام الإسلام، أو لا يوجد لديهم ما يمنعهم من إظهار أحكام الإسلام. وسكان دار الإسلام نوعان: مسلمون، وهم كل من آمن بالدين الإسلامي. وذميون، هم غير المسلمين الذين يلتزمون أحكام الإسلام، ويقيمون إقامة دائمة في دار الإسلام، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية. فيصح أن يكونوا مسيحيين ويصح أن يكونوا يهوداً، ويصح أن يكون مجوساً، أو صابئة، أو عباد ما أستحسن، أو مما لا يدينون بدين. وسكان دار الإسلام جميعاً مسلمين وذميين معصومو الدم والمال؛ لأن العصمة (1) في الشريعة تكون بأحد شيئين: بالإيمان، والأمان. ومعنى الإيمان الإسلام، ومعنى الأمان العهد، ويكون بعقد الذمة، وبالموادعة، وبالهدنة، وما أشبه. فمن آمن برسالة محمد - أي أسلم - فقد عصم دمه وماله بالإسلام، لقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"، ومن دخل في أمان المسلمين بعقد من عقود الأمان فقد عصم دمه وماله بالأمان، ولو بقى على غير دين الإسلام، فسكان دار الإسلام من المسلمين معصومو الدم والمال بإسلامهم، وسكان دار الإسلام من الذميين معصومو الدم والمال بأمانهم (2) . والأمان في الشريعة الإسلامية على نوعين (3) : أمان مؤقت، وأمان مؤبد. فالأمان المؤقت ما كان محدوداً بأجل كالمهادنة، وكالإذن بدخول دار الإسلام لأجل معين. والأمان المؤبد هو ما ليس له أجل ينتهي به، ولا يكون إلا بعقد الذمة، ولا يتمتع به إلا الذميزن الذين يقيمون إقامة دائمة بأرض الإسلام،   (1) العصمة معناها: عدم اإباحة، فمن كان معصوم الدم والمال فهو غير مباح الدم والمال. (2) بدائع الصنائع ج7 ص102، مواهب الجليل ج6 ص231، أسنى المطالب ج4 ص218، الشرح الكبير ج10 ص630. (3) بدائع الصنائع ج7 ص106، أسنى المطالب ج4 ص210، مواهب الجليل ج3 ص360- 364، 380 وما بعدها، المغني ج10 ص578. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وعليهم في مقابل هذا الأمان الدائم التزام أحكام الإسلام (1) . 212 - دار الحرب: وتشمل دار الحرب كل البلاد غير الإسلامية التي لا تدخل تحت سلطة المسلمين، أو لا تظهر فيها أحكام الإسلام، سواء كانت هذه البلاد تحكمها دولة واحدة أو تحكمها دول متعددة، ويستوي أن يكون بين سكانها المقيمين بها إقامة دائمة مسلمين أو لا يكون، ما دام المسلمون عاجزين عن إظهار أحكام الإسلام. وسكان دار الحرب على نوعين: فهم إما حربيون، وإما مسلمون. فالحربيون هم سكان دار الحرب الذين لا يدينون بالإسلام، ويقال لأحدهم حربي. والحربيون غير معصومين، فدماؤهم وأموالهم مباحة ما لم يكن بينهم وبين دار الإسلام عهد أو هدنة؛ لأن العصمة في الشريعة لا تكون كما قلنا إلا بأحد شيئين؛ بالإيمان أو الأمان. وليس للحربيين - إذا لم يكن بينهم وبين دار الإسلام عهد - أن يدخلوا دار الإسلام، فإذا دخلها أحدهم فهم مباح الدم والمال، ويجوز قتله ومصادرة ماله، كما يجوز أسره والعفو عنه. وإذا دخل الحربي دار الإسلام بإذن أو أمان خاص أو بناء على عهد فهو مستأمن، والمستأمن يعصم دمه وماله عصمة مؤقتة؛ لأن أمانه مؤقت لا دائم، وله أن يقيم في دار الإسلام المدة التي يستأمن فيها معصوم الدم والمال، فإذا انتهى أمانه عاد حربياً كما كان مهدر النفس والمال إذا ترك دار الإسلام، أما إذا بقى فيها مختاراً فيرى البعض أنه يصبح حربياً، ويرى البعض أنه يصبح ذمياً باختياره البقاء في دار الإسلام، ويصير معصوماً عصمة مؤبدة.   (1) لا يلزم الذمي بكل أحكام الإسلام وإنما يلزم فقط بما لا يتعارض مع معتقده الديني، فيؤخذ بأحكام الإسلام في ضمان النفس والمال والعرض، وتقام الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه كالسرقة دون ما يعتقدون حله كشرب الخمر (راجع: الشرح الكبير ج10 ص611، بدائع الصنائع ج7 ص111 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 أما المسلم الذي يسكن دار الحرب ولم يهاجر إلى دار الإسلام أصلاً فهو عند مالك والشافعي وأحمد من أهل دار الإسلام يعصم بإسلامه دمه وماله، ولو أنه مقيم في دار الحرب مهما طالت إقامته، وإذا أراد دخول دار الإسلام لا يمنع منها. بينما يرى أبو حنيفة أن المسلم المقيم في دار الحرب ولم يهاجر إلى دار الإسلام غير معصوم بمجرد إسلامه؛ لأن العصمة عند أبي حنيفة ليست بالإسلام وحده وإنما يعصم المسلم عنده بعصمة الدار ومنعة الإسلام المستمدة من قوة المسلمين وجماعتهم، والمسلم في دار الحرب لا منعة له ولا قوة فلا عصمة له، ولكن له أن يدخل دار الإسلام في أي وقت فإذا دخلها استفاد العصمة (1) . وكان يعتبر الحربي مباح الدم إذا دخل دار الإسلام دون إذن، فكذلك يعتبر المسلم والذمي مباحي الدم للحربيين إذا دخلا دار الحرب دون إذن أو أمان، فإذا دخلا بإذن أو أمان سمي كلاهما مستأمناً، على أن تكون إقامته مؤقتة، وله أن يرجع إلى دار الإسلام في أي وقت شاء، فإذا رأى المسلم أن يبقى بصفة دائمة في دار الحرب فذلك لا يغير من الأمر شيئاً ما دام باقياً لى إسلامه، فإن خرج عن إسلامه صار حربياً، وإذا أراد الذمي أن يقيم إقامة دائمة في دار الحرب انقلب حربياً. وإذا تزوج المسلم أو الذمي حربية أو مستأمنة فإنها تصبح بالزواج ذمية. أما إذا تزوج الحربي المستأمن من ذمية فإنها لا تصبح بزواجه حربية، كما أنه لا يصبح ذمياً بزواجها على الرأي الراجح، وإذا تزوج المستأمن مستأمنة ثم أصبح ذمياً أصبحت مثله ذمية (2) . 213 - مدى إقليمية الشريعة: رأينا فيما سبق أن الشريعة في أصلها   (1) بدائع الصنائع ج7 ص252. (2) البحر الرائق ج3 ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 عالمية، وأن الظروف قضت من الناحية العملية أن تكون إقليمية فلا تطبق إلا على دار الإسلام، وقد بقى أن نعرف مدى هذه الإقليمية. فهل تطبق الشريعة على كل سكان البلاد الإسلامية أم تطبق على بعضهم دون البعض الآخر؟ وإذا طبقت الشريعة على الجرائم التي تقع في دار الإسلام، فهل يطبق على ما يرتكبه أهل هذه الدار من جرائم أثناء وجودهم في دار الحرب؟ الأصل في الشريعة الإسلامية أنها يسري على كل من يقيمون في دار الإسلام، مهما تعددت حكوماتهم واختلفت نظم الحكم فيها، فيستوي أن تكون البلاد الإسلامية خاضعة كلها لحكم دولة واحدة، كما كان الحال في عهد الدولة الأموية أو خاضعة لحكم دول متعددة كما هو الحال اليوم، وتسري الشريعة على كل السكان؛ سواء كانوا متقدمين أو متأخرين، يسكنون السهول والوديان أو الصحاري والجبال، ولا عبرة باختلاف أديانهم أو لغاتهم أو أجناسهم، وعلى من يقيمون في دار الإسلام أن يلتزموا أحكام الشريعة لا في دار الإسلام فقط بل في خارج دار الإسلام. فالمبدأ الشرعي العام إذن هو سريان الشريعة على الجرائم التي ترتكب في دار الإسلام أياً كان مرتكبها، وعلى الجرائم التي ترتكب في دار الحرب من مقيم في دار الإسلام. وأساس هذا المبدأ العام هو طبيعة الشريعة وظروفها، فهي شريعة عالمية كما قلنا، وهي بهذا الوصف واجبة التطبيق على كل جريمة تقع في أي بقعة من بقاع العالم، ولما كانت الظروف لا تسمح بتطبيق الشريعة إلا في بلاد الإسلام، وعلى المقيمين بها، فقد اكتفى - نزولاً على حكم الظروف - بتطبيق الشريعة على الجرائم التي تقع في دار الإسلام، ولو كان مرتكبها لا ينتمي لدار الإسلام؛ لأن تطبيق الشريعة ممكن في دار الإسلام على كل من يوجد في هذه الدار، واكتفى بتطبيق الشريعة على الجرائم التي تقع في دار الحرب من مقيم في دار الإسلام؛ لأنه من الممكن أن تطبق الشريعة على المقيمين في دار الإسلام وإن كان لا يمكن تطبيقها على دار الحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 هذا هو المبدأ العام في الشريعة الإسلامية، ولا خلاف عليه، ولكن الفقهاء اختلفوا في تطبيقه تبعاً للاعتبارات المختلفة التي نظر إليها كل منهم عند التطبيق، وقد أدى هذا الخلاف إلى وجود ثلاث نظريات مختلفة عن سريان التشريع الجنائي على المكان. 214 - النظرية الأولى: وصاحبها أبو حنيفة، ويرى أن الشريعة تطبق على الجرائم التي ترتكب في دار الإسلام، أي مكان داخل حدود الدولة الإسلامية، أياً كانت الجريمة، وسواء كان مرتكبها مسلماً أو ذمياً؛ لأن المسلم ليس له قانون غير الشريعة، ولا يجوز له أن يرضى لنفسه قانوناً غيرها؛ ولأن الذمي التزم أحكام الإسلام التزاماً دائماً بقبوله عقد الذمة الدائم. أما من يقيم إقامة مؤقتة في دار الإسلام فلا تطبق عليه أحكام الشريعة إذا ارتكب جريمة تمس حقاً لله، أي تمس حقاً للجماعة، وإنما يعاقب بمقتضى الشريعة إذا ارتكب جريمة تمس حقاً للأفراد، وقد علمنا أن من يقيم إقامة مؤقتة في دار الإسلام يسمى المستأمَن. ويعلل أبو حنيفة إعفاء المستأمن بأنه لم يدخل دار الإسلام للإقامة، بل لحاجة يقضيها، كتجارة أو رسالة أو لمجرد المرور، وليس في الاستئمان ما يلزمه بجميع أحكام الشريعة في الجرائم والمعاملات، بل هو يلزم فقط بما يتفق مع غرضه من دخول دار الإسلام، وبما يرجع إلى تحصيل مقصده وهو حقوق العباد؛ فعليه أن يلتزم الإنصاف وكف الأذى، ما دمنا قد التزمنا له بتأمينه بإنصافه وكف الأذى عنه. ولما كانت جرائم القصاص والقذف مما يتعلق بحقوق العباد ويمسها مساساً شديداً، فإن المستأمن يؤخذ بهاتين الجريمتين كما يؤخذ بغيرهما من الجرائم التي تمس حقوق الأفراد كالغضب والتبديد، أما ماعدا ذلك من الجرائم التي تمس حقوق الأفراد فلا يسأل عنها، ولا تلزمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 عقوبتها، سواء كانت هذه العقوبات خالصة لله تعالى أو يغلب فيها حق الله تعالى كالزنا والسرقة (1) . أما الجرائم التي يرتكبها مسلم أو ذمي خارج دار الإسلام فلا تطبق عليها الشريعة الإسلامية، سواء وقعت من شخص مقيم في دار الإسلام ثم سافر إلى دار الحرب وعاد، أو وقعت من شخص كان يقيم في دار الحرب ثم أقام بعد ذلك في دار الإسلام؛ لأن المسألة عند أبي حنيفة ليست مسألة إلتزام المسلم أو الذمي بأحكام الإسلام أينما كان مقامه، وإنما هي واجب الإمام في إقامة الحد، ولا يجب على الإمام أن يقيم الحد أو العقوبة إلا وهو قادر على الإقامة؛ لأن الوجوب مشروط بالقدرة، ولا قدرة للإمام على من يرتكب جريمة في دار الحرب أثناء ارتكابها، فإذا انعقدت القدرة لم تجب العقوبة (2) . ومعنى ما سبق أن القضاء بالعقوبة يقتضي الولاية على محل الجريمة وقت ارتكاب الجريمة، ولا ولاية للدولة الإسلامية على محل ارتكاب الجريمة. ويترتب على ما سبق أنه لو دخل مكان الجريمة في ولاية الدولة الإسلامية بعد ارتكاب الجريمة فلا تطبق الشريعة على الجريمة؛ لأن الولاية كانت منعدمة وقت وقوع الجريمة. وإذا ارتكب المسلم أو الذمي جريمة في دار الإسلام وهرب منها إلى دار الحرب، فلا يسقط هربه العقوبة؛ لأن الفعل وقع موجباً للعقوبة، وكذلك حال المستأمن فيما يعاقب على ارتكابه من جرائم، فإن عودته لدار الحرب لا تسقط عقوبته، ولا تمنع من العقاب على جريمته (3) . وإذا عسكر جنود الدولة الإسلامية في دار الحرب فكل جريمة وقعت في   (1) شرح فتح القدير ج4 ص155، 156. (2) شرح فتح القدير ج4 ص152، 153. (3) بدائع الصنائع ج7 ص131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 المعسكر تأخذ حكم الجرائم المرتكبة في دار الإسلام؛ لأن أرض المعسكر في حيازة جند الدولة، وللدولة سلطان عليها، فيعتبر المعسكر لهذا دار إسلام. أما الجرائم التي ترتكب خارج المعسكر، فحكمها حكم الجرائم التي ترتكب في دار الحرب (1) . ويرى أبو حنيفة أن الجرائم التي ترتكب من الجنود أثناء الغزو لا تنفذ عقوباتها إلا بعد الرجوع لأرض الإسلام، لقوله عليه السلام: "لا تقطع الأيدي في الغزاة" (2) . ويفرق أبو حنيفة في جرائم القتل بين عدة حالات: فإذا كان القتيل قد أسلم وبقي في دار الحرب ولم يهاجر إلى دار الإسلام فلا قصاص ولا دية إذا قتله مسلم أو ذمي من أهل دار الإسلام. وإذا كان القتيل مسلماً أو ذمياً من أهل دار الإسلام ودخل دار الحرب مستأمناً فلا قصاص؛ لانعدام الولاية على محل الجريمة، ولكن يلزم القاتل بالدية. وإذا كان القتيل قد دخل دار الحرب مكرهاً كالأسير فيرى أبو حنيفة أن لا قصاص ولا دية في قتله؛ لأن الأسر يبطل عصمة الأسير، ولكن محمداً وأبا يوسف يخالفان في هذا، ويريان أن الأسر لا يبطل عصمة الأسير، وأن القاتل والمقتول من أهل دار الإسلام، فإذا لم يمكن القصاص لانعدام الولاية على محل الجريمة وقت وقوعها فيلزم القاتل بالدية ضماناً عن القتل؛ لأن ولاية الضمان ثابتة على المتقاضين وقت التقاضي (3) ويجيز أبو حنيفة للمسلم والذمي إذا دخلا دار الحرب مستأمنين أن يتعاقدا برباً مع حربي أو مع مسلم لم يهاجر إلينا، لأن الربا إتلاف مال للحربي برضاه، وهذا لا يتنافى مع عقد الأمان؛ لأن المسلم الذي لم يهاجر أمواله غير معصومة.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص132. (2) شرح فتح القدير ج4 ص154. (3) بدائع الصنائع ج7 ص133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ولأبي يوسف رأي مخالف في هذه النقطة، فهو يرى أن المسلم والذمي عليهما - إذا دخلا دار الحرب - أن يلتزما أحكام الإسلام، فلا يفعلان ما يحرمه ولو كان مباحاً في دار الحرب، وما دام الربا محرماً بنصوص الشريعة فهو محرم في دار الإسلام وفي دار الحرب. ويفرق محمد بين المعاملة بالربا مع حربي وبين المعاملة مع مسلم لم يهاجر إلينا، ويرى أن التعاقد بالربا مع حربي في دار الحرب جائز للسبب الذي يذكره أبو حنيفة، أما التعاقد بالربا مع مسلم لم يهاجر إلينا فهو جائز (1) . ومن المتفق عليه في مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز للمسلم والذمي أن يتعاقد أحدهما مع الآخر على الربا في دار الحرب، كما لا يجوز لهما ذلك في دار الإسلام، فإن تعاقدا في دار الحرب فلا عقاب لانعدام الولاية على محل الجريمة وقت وقوعها، ولكن على آخذ الربا الضمان أي رد ما أخذه ولو كان الآخر في دار الحرب؛ لأن الرد ليس عقوبة وتكفي فيه الولاية على المتقاضين وقت التقاضي. وإذا دخل المسلم أو الذمي دار الحرب مستأمناً فأدان حربياً أو أدانه حربي ثم خرج المسلم أو الذمي إلى دار الإسلام، وخرج الحربي إليها مستأمناً، فإن القاضي لا يقضي لواحد منهما على صاحبه بالدين. وكذلك لو غصب أحدهما صاحبه شيئاً لا يقضي بالغصب؛ لأن المداينة في دار الحرب وقعت هدراً لانعدام ولايتنا عليهم، وانعدام ولايتهم في حقنا أيضاً، وكذلك الغصب؛ ولأن المداينة والغصب يصادف كلاهما مالاً غير مضمون، إذا الأصل أن مال أهل دار الإسلام مباح للحربي، ومال الحربيين مباح لأهل دار الإسلام، وإنما التزم المسلم أو الذمي بعقد الأمان أن يكف عن أذى الحربيين أثناء إقامته في دارهم وأن ينصفهم، كما التزموا هم بعقد الأمان أن ينصفوا المسلم أو الذمي المستأمن وأن يكفوا عن إيذائه. فإذا غضب أحد الطرفين الآخر شيئاً فقد غصب مالاً مباحاً له، ولكنه حنث بعهده وغدر وآذى من تعهد بالكف عن إيذائه ولم ينصفه   (1) بدائع الصنائع ج7 ص132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 والحنث والغدر في ذاته ليس سبباً لتحريم المال المباح أو تحليل المال المحرم. والحكم كذلك لو كانا حربيين أدان أحدهما الآخر في دار الحرب ثم خرجا إلى دار الإسلام مستأمنين فلا يقضي بينهما في الدين؛ لأنه لا ولاية لنا عليهم وقت الدين ولا وقت التقاضي، أما إذا خرجا إلى دار الإسلام مسلمين، فإن القاضي يقضي بينهما لثبوت الولاية عليهما وقت التقاضي (1) . وإذا غصب المسلم أو الذمي مسلماً أو ذمياً في دار الحرب أو أدانه فلا عقوبة على الغصب، ولكن يقضى بالدين وبضمان المغصوب، والعلة في امتناع العقاب هي انعدام الولاية على محل الجريمة وقت وقوعها، والعلة في القضاء بالدين والضمان هي قيام الولاية على المتقاضين وقت التقاضي. ونستطيع أن نستخلص مما سبق أن الجرائم التي تقع في دار الحرب من مسلم أو ذمي على حربي لا يعاقب عليها، طبقاً لرأي أبي حنيفة، لانعدام الولاية على محل الجريمة وقت وقوعها، ولا تختص المحاكم في دار الإسلام بالنظر فيما يطلبه المجني عليه أو أولياؤه من ضمان مالي عن هذه الجرائم. وكذلك الحكم إذا كان المجني عليه في حكم الحربي كالأسير المسلم أو المسلم الذي لم يهاجر إلى دار الإسلام. أما إذا كان المجني عليه من أهل دار الإسلام فإن الجرائم لا يعاقب عليها أيضاً لانعدام الولاية على محل الجريمة، ولكن المحاكم في دار الإسلام تختص بالنظر فيما يطلبه المجني عليه أو أولياؤه من ضمان مالي عن الجريمة التي وقعت في دار الحرب، وعلى المحاكم أن تقضي بهذا الضمان ولو كان يعتبر عقوبة من بعض الوجوه، كالدية فإنها تعتبر تعويضاً من وجه وعقوبة من وجه آخر، ومعنى ذلك أن المحاكم ممنوعة من توقيع العقوبات البحتة؛ أما العقوبة التي فيها معنى تعويض   (1) بدائع الصنائع ج7 ص132، 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 المجني عليه عما أصابه من الجريمة فلا تمنع منها؛ لأنها تحكم بها باعتبارها ضماناً لا باعتبارها عقوبة. هذه هي نظرية أبي حنيفة في سريان الشريعة الإسلامية على المكان، وقد كان لرأيه في عدم سريان الشريعة على المستأمن أثر سيئ على البلاد الإسلامية؛ لأن رأيه اتخذ أساساً وسنداً في منح الامتيازات الأجنبية للمستأمنين، أي من نسميهم اليوم بالأجانب، وكلنا يعلم مدى ما قاسته البلاد الإسلامية وما تزال تقاسيه من آثار هذه الامتيازات التي منحت للأجانب وقت ضعفهم وقوة المسلمين؛ لتشجع الأجانب على دخول دار الإسلام، وتؤمنهم على أنفسهم وأموالهم، فأصبحت بعد ضعف المسلمين سبباً لاستغلال المسلمين، وتضييع حقوقهم، واستعلاء الأجانب عليهم. 215 - النظرية الثانية: وهي نظرية أبي يوسف من فقهاء المذهب الحنفي، ويرى أن الشريعة الإسلامية تسري على كل المقيمين في دار الإسلام سواء كانت إقامتهم دائمة كالمسلم والذمي، أو كانت إقامتهم مؤقتة كالمستأمن، وحجته في ذلك أن المسلم يلزمه إسلامه بالتزام أحكام الإسلام، وأن الذمي ملزم بأحكام الإسلام التزاماً دائماً بمقتضى عقد الذمة الذي يضمن له الأمان الدائم، أما المستأمن فيلتزم أحكام الإسلام بمقتضى عقد الأمان المؤقت الذي خوله الإقامة المؤقتة في دار الإسلام، وبقبوله دخول دار الإسلام؛ لأنه بطلبه دخول دار الإسلام قد قبل أن يلتزم أحكام الإسلام مدة إقامته، ولأنه لما منح إذن الإقامة منحه على هذا الشرط، فصار حكمه حكم الذمي، ولا فرق بينهما إلا أن الذمي أمانه مؤبد والمستأمن أمانه مؤقت، ولهذا يعاقب المستأمن مهما قصرت مدة إقامته على الجرائم التي يرتكبها في دار الإسلام، سواء تعلقت هذه الجرائم بحقوق الجماعة أو بحقوق الأفراد (1) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ووجه الخلاف فيما سبق بين نظرية أبي يوسف ونظرية أبي حنيفة ينحصر في تطبيق الشريعة على المستأمن، فأبو يوسف يرى تطبيق الشريعة على المستأمن في كل الأحوال، وأبو حنيفة لا يطبق الشريعة على المستأمن إلا في الجرائم التي تمس حقوق الأفراد دون غيرها من الجرائم. ويتفق أبو يوسف مع أبي حنيفة في أن الشريعة لا تسري على الجرائم التي ترتكب في دار الحرب ولو ارتكبها المقيمون في دار الإسلام، ولكنه يخالف أبا حنيفة في مسألتين ذكرناهما أثناء عرض نظرية أبي حنيفة، الأولى منهما أن أبا يوسف يرى أن المسلم والذمي لا يجوز لأحدهما في دار الحرب أن يتعاقد برباً مع حربي أو مع مسلم مقيم بدار الحرب لم يهاجر إلينا، ولو كان التعاقد على الربا غير محرم في دار الحرب؛ لأنه محرم عليه طبقاً لأحكام الإسلام وهو ملزم بهذه الأحكام أينما كان، ولكنه لا يعاقب إذا أخذ رباً في دار الحرب لانعدام الولاية على محل الجريمة وقت وقوعها. والفرق بين رأي أبي حنيفة ورأي أبي يوسف في هذه النقطة أن أبا حنيفة لا يرى الفعل في ذاته محرماً بينما يحرمه أبو يوسف. والثانية منهما مسألة الأسير المسلم إذا قتله في دار الحرب مسلم أو ذمي، فأبو حنيفة لا يرى في قتله قصاصاً ولا دية؛ لأنه فقد بالأسر عصمته، بينما يرى أبو يوسف أن في قتله الدية؛ لأن الأسر لا يفقده عصمته، ولأن القصاص غير ممكن لانعدام الولاية، فيلتزم القاتل بالدية ضماناً عن القتل، لأن للمحاكم الإسلامية أن تقضي بالضمان عن الجريمة المرتكبة في دار الحرب إذا كان الجاني والمجني عليه من أهل دار الإسلام؛ لأن ولاية المحاكم عليهما قائمة وقت المطالبة بالضمان وإن انعدمت على محل الجريمة. والفرق بين الرأيين في هذه المسألة هو نفس الفرق في المسألة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 216 - النظرية الثالثة: وهي نظرية مالك (1) والشافعي (2) وأحمد (3) ، وهم يرون أن الشريعة تطبق على كل جريمة ترتكب في أي مكان داخل حدود دار الإسلام، سواء اكن مرتكب الجريمة مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً؛ لأن المسلم ملزم بطبيعة إسلامه بأحكام الشريعة، والذمي ملزم بأحكام الشريعة بعقد الذمة الذي التزم بمقتضاه أحكام الإسلام التزاماً دائماً في مقابل الأمان الدائم والعصمة الدائمة لنفسه ولماله، والمستأمن ملزم بأحكام الشريعة بطلبه الأمان ودخوله أرض الإسلام بعد إعطائه الأمان، فحكمه حكم الذمي، ولا يختلف المستأمن عن الذمي إلا في أن المستأمن إقامته بدار الإسلام مؤقتة، والذمي إقامته مؤبدة. وإذا هرب المستأمن من دار الإسلام بعد ارتكابه جريمة ما، فلا تسقط العقوبة بهربه وخروجه من دار الإسلام، بل تستوفي العقوبة حين القدرة عليه. كذلك تطبق الشريعة عند هؤلاء الأئمة على كل جريمة ارتكبها مسلم أو ذمي في دار الحرب، بخلاف جرائم الحربي المستأمن التي يرتكبها في دار الحرب فإنه لا يعاقب عليها في دار الإسلام؛ لأنه لم يلتزم أحكام الإسلام إلا من يوم دخوله داره، أما المسلم والذمي فيستوي في حقهما ارتكاب الفعل المحرم في دار الإسلام أو في دار الحرب ما دام الإسلام يحرمه، وإذا كان اختلاف الدارين لا يؤثر على تحريم الفعل فإنه لا يؤثر بالتالي على العقوبة المقررة جزاء على إتيان الفعل المحرم. ويعاقب المسلم والذمي على الجرائم التي يرتكبها أحدهما في دار الحرب،   (1) مواهب الجليل ج3 ص355، 365، المدونة ج16 ص91. (2) المهذب ج2 ص358. (3) المغني ج10 ص439، 537، الشرح الكبير ج9 ص383. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ولو كان الفعل مباحاً في دار الحرب كالربا، ما دامت الشريعة الإسلامية تحرم على أحدهما هذا الفعل. أما إذا كان الفعل محرماً في دار الحرب ولكن الشريعة الإسلامية تبيحه فلا عقاب على من ارتكبه في دار الحرب. وإذا ارتكب الذمي جريمة في دار الحرب وكان قد ترك دار الإسلام بقصد عدم العودة إليها، فلا يعاقب عليها إذا عاد إلى دار الإسلام؛ لأنه يصبح حربياً بتركه دار الإسلام، وتزول صفته كذمي، فلا يعود ملتزماً بأحكام الإسلام، وإذا عاد إلى دار الإسلام فإنه يعود باعتباره حربياً مستأمناً لا ذمياً. وإذا ارتد المسلم وترك دار الإسلام، وارتكب جريمة بعد ذلك في دار الحرب، فلا يعاقب عليها في دار الإسلام ولو عاد مسلماً؛ لأنه أصبح بردته وترك دار الإسلام حربياً، فلم يكن ملتزماً وقت الجريمة بأحكام الإسلام. ويعتبر هؤلاء الفقهاء المعسكر الإسلامي أرضاً إسلامية ولو كان في دار الحرب، ولكن يستوي عندهم أن ترتكب الجرائم في المعسكر أو في خارجه، لأن الجرائم التي ترتكب في دار الإسلام أو في دار الحرب معاقب عليها عندهم على الوجه الذي سبق بيانه. ويرى مالك والشافعي أن لا يؤخر العقاب على الجرائم التي يرتكبها الجنود إلى حين عودتهم إلى دار الإسلام، بل تنفذ العقوبات كلما استحقت، إلا إذا لم يكن لأمير الجيش حق توقيع العقوبة، وإلا إذا كان بالمسلمين حاجة إلى الجاني، أو كان لهم به قوة، وهذا الاستثناء الأخير للشافعي خاصة. ويرى أحمد تأخير تنفيذ العقوبة حتى يعود الجند إلى دار الإسلام، أو حتى يعود الجاني وحده، وهذا الرأي يتفق مع رأي أبي حنيفة وقد سبق أن بسطنا. وإذا كانت القاعدة عند الأئمة الثلاثة هي عقاب المسلم والذمي على الجرائم التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 يرتكبانها في دار الحرب، فإن هذه القعدة تنطبق على جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، وجرائم التعازير التي نصت عليها الشريعة، وكذلك جرائم التعزير التي ينص عليها أولو الأمر، ولكن القاعدة لا تنطبق على كل هذه الجرائم بدرجة واحدة؛ لاختلاف طبيعة كل نوع عن الآخر، فجرائم الحدود والقصاص التي ترتكب في دار الحرب يجب العقاب عليها، وليس لولي الأمر حق العفو عن العقوبة أو الجريمة، وجرائم التعزير التي نصت عليها الشريعة يجب العقاب عليها، ولكن لولي الأمر أن يعفو عن الجريمة بعد وقوعها، وأن يعفو عن العقوبة كلها أو بعضها بعد الحكم بها، أما جرائم التعزير التي ينشئها ولي الأمر فيجوز أن يعاقب عليها إذا رأى ذلك ولي الأمر، ويجوز أن لا يعاقب عليها، لأن ولي الأمر هو الذي حرم الأفعال المكونة لهذه الجرائم، ويجوز له أن يبيحها وأن لا يعاقب عليها إذا وقعت في دار الحرب، ومعنى هذا أن العقاب على الجرائم التي ترتكب في دار الحرب ليس واجباً في كل الجرائم. هذا هو مقتضى نظرية الأئمة الثلاثة، أما نظريتا أبي حنيفة وأبي يوسف فمقتضاهما أن لا عقاب على أية جريمة ترتكب في دار الحرب مهما كان نوعها، لأن العقاب أساسه الولاية على محل الجريمة وقت ارتكابها، والولاية منعدمة في كل الأحوال. 217 - بين الشريعة والقانون: هذه هي النظريات الإسلامية الثلاث وهي تكاد تكون نفس النظريات التي عرفتها القوانين الوضعية حتى اليوم، فقد عرفت القوانين الوضعية ثلاث نظريات مماثلة: أولاها: تقضي بتطبيق القانون على رعايا الدولة دون غيرهم في الداخل والخارج، وقد كانت هذه النظرية سائدة في القرون الوسطى، وهي تماثل نظرية أبي حنيفة فيما يختص بتطبيق القانون في إقليم الدولة على رعاياها فقط دون الأجانب، ولكنها تخالف نظرية أبي حنيفة في أن القانون يتبع الرعايا في الخارج، الأمر الذي لا يراه أبو حنيفة. والثانية: تقضي بتطبيق القانون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 على جميع المقيمين في أرض الدولة من وطنيين وأجانب على ما يقع منهم داخل أرض الدولة فقط من الجرائم، أما ما يقع منهم في الخارج فلا عقاب عليه، وقد ظلت هذه النظرية سائدة حتى القرن التاسع عشر، وهي نفس نظرية أبي يوسف. والثالثة: تقضي بتطبيق القانون على كل المقيمين بأرض الدولة من وطنيين وأجانب إذا ارتكبوا أية جريمة داخل حدود الدولة، كما تقضي بتطبيق القوانين على بعض الجرائم التي ترتكب خارج أرض الدولة، وهذه النظرية هي السائدة اليوم في القوانين الوضعية، وهي النظرية التي أخذ بها قانون العقوبات المصري. ولا فرق بين هذه النظرية ونظرية مالك والشافعي وأحمد إلا أن نظرية الفقهاء الإسلاميين تجعل العقاب واجباً في بعض الجرائم التي تقع في الخارج ولا خيار لولي الأمر فيه، وتترك لولي الأمر أن يعاقب على البعض الآخر إن رأى مصلحة في ذلك. أما النظرية القانونية فتترك للهيئة التشريعية أن تعاقب على ما ترى مصلحة في العقاب عليه من الجرائم التي تقع في الخارج. وهذا الفرق ليس له أثر كبير من الوجهة العملية، لأن الجرائم التي يجب فيها العقاب طبقاً للنظرية الإسلامية هي من أخطر الجرائم وأهمها، ومصلحة الدولة تقتضي العقاب عليها. 218 - كيف يمكن تطبيق النظريات الإسلامية مع تعدد دول الإسلام؟: يلاحظ على النظريات الإسلامية أنها تقسم العالم قسمين: دار الإسلام، ودار الحرب، وقد يظن البعض أن هذا يقتضي أن تكون البلاد الإسلامية كلها تحت حكم دولة واحدة، والبلاد الأجنبية كلها تحت حكم دولة واحدة، وهو ظن لا أساس له من الواقع، فالنظريات الإسلامية لم توضع على أساس أن تكون البلاد الإسلامية محكومة بحكومة واحدة، وإنما وضعت على أساس ما يقتضيه الإسلام، والإسلام يقتضي أن يكون المسلمون في كل بقاع الأرض يداً واحدة، يتجهون اتجاهاً واحداً تسوسهم سياسة واحدة، وأبسط الصور وأكفلها بتحقيق هذه الغاية أن تكون كل بلاد الإسلام تحت حكم دولة واحدة، ولكن ليست هذه هي الصورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الوحيدة التي تحقق أهداف الإسلام، لأن هذه الأهداف يمكن أن تتحقق مع قيام دول متعددة في دار الإسلام ما دامت هذه الدول تتجه اتجاهاً واحداً، والإسلام لا يتنافى مع نظام كنظام الولايات المتحدة الأمريكية، ولا مع نظام كنظام الولايات السوفيتية القائم في روسيا، ولا مع نظام كنظام الدمنيون الإنجليزي، ولا يتنافى مع النظام القائم الآن في البلاد العربية بعد قيام الجامعة العربية التي تعمل على توحيد الاتجاهات والسياسات في الدول العربية المختلفة، ولا يتنافى مع قيام جامعة إسلامية تتكون من كل الدول الإسلامية، وتشرف عليها وتعمل على توحيد أغراضها واتجاهاتها وعلى حل ما يثور فيها من نزاع داخلي، ولا يتنافى الإسلام مع أي نظام آخر ما دام هذا النظام يحقق الأهداف الإسلامية، وأن هذه الأهداف هي أن يكون المسلمون يداً واحدة على من عداهم، وأن يكون اتجاههم واحداً وسياستهم واحدة. وليس أدل على صحة ما نقول من أن النظريات الإسلامية وضعت في عهد العباسيين بعد أن انقسمت الدولة الإسلامية الأولى إلى ثلاث دول: دولة عباسية في المشرق، ودولة العلويين في المغرب، ودولة الأمويين في الأندلس، وقد ظلت هذه النظريات تطبق بعد أن أصبح في كل قطر إسلامي دولة إسلامية. وتعتبر النظريات الإسلامية كل البلاد الأجنبية دار حرب واحدة مع اختلاف الدول التي تحكمها، فقد كان المسلمون يحاربون الترك والروس والهنود والأسبان والفرنسيين والرومان، وكانوا يعتبرون بلاد كل هؤلاء وغيرهم دار حرب. فالمقصود إذن من تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب ليس جعل العالم تحت حكم دولتين أو وحدتين سياسيتين، وإنما هو تقسيم العالم إلى قسمين: أحدهما: دار أمن وسلام للمسلمين، والثاني: دار خوف وعداء للمسلمين، وبيان الأحكام التي تسري على المقيمين في كل دار، وقد اعتبرت البلاد الإسلامية على اختلاف حكوماتها داراً واحدة، لأنها محكومة بقانون واحد هو الشريعة الإسلامية، فهي من هذه الوجهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وحدة قانونية لا تختلف فيها الأحكام باختلاف الجهات ولا باختلاف الأجناس، واعتبرت البلاد غير الإسلامية داراً واحدة؛ لأن الأحكام التي تسري عليها طبقاً للشريعة الإسلامية أحكام واحدة لا تختلف باختلاف الجهات واختلاف الأجناس. وهذا هو الأساس الصحيح لتقسيم العالم إلى دار حرب ودار إسلام. وعلى هذا فتعدد الدول الإسلامية لن يمنع اليوم من تطبيق النظريات الإسلامية كما لم يمنع من تطبيقها قديماً، فقد طبقها الأندلسيون في الأندلس، والمغاربة في المغرب، والعلويون في مصر، والعباسيون في بغداد، ونستطيع اليوم أن نطبقها في مصر وفي لبنان وفي سوريا والعراق والحجاز والباكستان وفي المغرب، وفي كل بلد إسلامي له حكومة تحكمه وحدود تحده. ومن السهل تطبيق النظريات الإسلامية اليوم، ولكن تطبيقها من كل دولة إسلامية أن تعتبر نفسها ممثلة للإسلام في جميع بقاع العالم ولا في داخل حدودها فقط، فمثلاً إذا أردنا أن نطبق نظرية أبي حنيفة في مصر فإننا نعاقب أولاً كل من يرتكب جريمة داخل حدود البلاد المصرية مسلماً كان الجاني أو ذمياً، مصرياً أو شامياً أو عراقياً أو فلسطينياً أو فارسياً، وهكذا؛ لأن كل فرد من رعايا أية دولة إسلامية لا يعتبر أجنبياً بالنسبة لأية دولة إسلامية أخرى، ولأن بلاد الإسلام كلها دار واحدة تحكمها شريعة واحدة، ونعاقب ثانياً كل هؤلاء على أية جريمة يرتكبونها في أي بلد إسلامي آخر، سواء كانوا يقيمون في مصر إقامة دائمة أو إقامة مؤقتة، بشرط أن لا يكونوا قد عوقبوا على هذه الجريمة في محل ارتكابها، أو في أي بلد إسلامي آخر بغير العقوبة التي توجبها الشريعة، وجب أن يعاقبوا مرة ثانية بالعقوبة المقررة في الشريعة؛ لأن بلاد الإسلام كلها دار واحدة مهما اختلفت حكوماتها، ولأن الإسلام يوجب على كل دولة إسلامية أن تقيم أحكامه وأن تبادر إلى تغيير المنكر والنهي عنه، ومن تغيير المنكر أن تبادر الدولة بتوقيع العقوبة التي توجبها الشريعة على من استحقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وما سبق يصدق على جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، وجرائم التعازير التي نصت عليها الشريعة، مع ملاحظة أن لولي الأمر في جرائم التعازير حق العفو عن الجريمة والعفو عن العقوبة، وليس له ذلك في جرائم الحدود، ولا في جرائم القصاص والدية، أما جرائم التعازير التي يحرمها أولو الأمر فلا يصدق عليها ما قلنا، ولا يعاقب عليها إلا إذا كان الفعل محرماً في محل وقوعه، ومحل المحاكمة عليه، فإذا كان الفعل مباحاً في محل وقوعه امتنع العقاب عليه في أية دولة أخرى، وإذا كان محرماً في محل وقوعه فقط امتنع العقاب عليه في أي محل آخر. وأساس التفرقة بين جرائم الحدود جرائم القصاص من جهة، وبين جرائم التعازير من جهة أخرى، أن إقامة العقوبة في جرائم الحدود واجبة على كل مسلم، ولا يصح تأخيرها، ولا يجوز العفو عنها، وأن عقوبات جرائم القصاص واجبة ما لم يعف عنها المجني عليه أو أولي دمه، فإذا لم تقم حكومة إسلامية عقوبات الحدود والقصاص وجبت إقامتها على الحكومات الأخرى، وإن لم تقمها الحكومات وجبت على الأفراد، أما عقوبات التعازير فيجوز إيقاف تنفيذها والعفو عنها. وأساس التفرقة بين جرائم التعازير التي نصت عليها الشريعة، وجرائم التعازير التي حرمها أولو الأمر، أن الأفعال المكونة للنوع الأول لا يجوز إباحتها وإن جاز العفو عن الجريمة وعقوبتها، أما الأفعال المكونة للنوع الثاني فيجوز إباحتها بعد تحريمها فضلاً عن جواز العفو عن الجريمة وعقوبتها. وإذا أردنا أن نطبق نظرية أبي يوسف، فإنَّا نعاقب فوق ما تقدم كل مستأمن ارتكب جريمة في أي بلد إسلامي إذا لم يعاقب عليها في محل ارتكابها أو عوقب عليها بغير العقوبة المقررة شرعاً، لأنه بدخله في البلد الإسلامي التزم بأحكام الإسلام، وتلك الأحكام تلزم كل دولة إسلامية أن تطبقها، وعلى هذا تكون كل دولة إسلامية قادرة على أن تعاقب طبقاً للشريعة كل مسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 أو ذمي أو مستأمن ارتكب جريمة في دار الإسلام سواء كان محل الجريمة واقعاً في حدود الدولة التي توقع العقوبة أو في حدود دولة إسلامية أخرى. وإذا أردنا أن نطبق نظرية مالك والشافعي وأحمد فإنا نعاقب على الحالات الثلاثة السابقة، ونعاقب فوق ذلك كل مسلم أو ذمي من رعايا مصر أو من رعايا أية دولة إسلامية على ما يرتكبه في دار الحرب من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية وجرائم التعازير التي نصت عليها الشريعة، ولكل دولة إسلامية أخرى مثل هذا الحق على رعايا الدول الإسلامية الباقية، لأن من واجب كل حكومة إسلامية أن تقيم الحدود ولا تؤخرها، فإذا تركتها حكومة وجبت على أي حكومة أخرى تستطيعها. أما إذا كانت الجرائم الواقعة في الخارج تعازير مما حرمها الشارع، فيعاقب عليها في كل دولة تحرمها رعايا هذه الدولة ورعايا الدول الإسلامية الأخرى إذا كانت قوانين تلك الدول تعاقب عليها، فإن لم تكن تعاقب عليها فلا يصح أن تعاقب عليها رعاياها في أية دولة إسلامية أخرى ولو كانت هذه الدولة تحرمها، لأن عدم العقاب عليها في الدولة التي يتبعها الجاني يعتبر إباحة لها، وإذا لجأ الجاني بعد ارتكاب الجريمة التي تحرمها دولته إلى دولة إسلامية أخرى لا تحرمها فلا يصح أن يحاكم الجاني على الجريمة في الدولة التي لجأ إليها، لأن الفعل مباح طبقاً لقوانينها، وإنما يصح أن يسلم الجاني لدولته لتعاقبه إذا طلبت ذلك. وليس من الضروري للعقاب على الأفعال التي تقع في دار الحرب أن تكون معتبرة جرائم في دار الحرب؛ لأن العقاب يجب طبقاً للشريعة التي يلتزم المسلم والذمي بأحكامها أينما كان أحدهم، فيستوي إذن أن يكون الفعل مباحاً في دار الحرب أو محرماً. 219 - نتيجة تطبيق النظريات الإسلامية: ويتبين مما سبق أن كل جريمة يرتكبها رعايا الدولة الإسلامية في الداخل أو في الخارج يعاقبون عليها بالعقوبة المقررة لها في الشريعة الإسلامية، وأن ترك الجاني بلده وهربه منها إلى بلد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 إسلامي آخر لا ينجيه من المحاكمة وتوقيع نفس العقوبة عليه، والسبب الوحيد في الوصول إلى هذه النتيجة هو خضوع البلاد الإسلامية جميعاً لتشريع واحد هو الشريعة الإسلامية، واعتبار البلاد الإسلامية داراً واحدة على اختلاف أقطارها، واعتبار كل حكومة من حكوماتها ممثلة للحكومات الأخرى في إقامة الحدود وتطبيق نصوص الشريعة. هذه هي النتيجة التي يؤدي إليها تطبيق النظريات الإسلامية، وإنها لهي عين الحلم الجميل الذي يحلم به علماء القانون الوضعي حين يتمنون أن يكون القانون الجنائي موحداً في كل الدول، وأن تعتبر كل دولة ممثلة لجميع الدول الأخرى في إقامة حق العقاب، بحيث لا يستطيع المجرم أن يفلت من العقاب إذا ارتكب جريمة في دولة وهرب لأخرى، وبحيث يعاقب على جريمته في أي مكان يوجد به بنفس العقوبة المقررة لجريمته في محل ارتكابها. هذا هو الحلم الجميل الذي تحلم به المجامع الدولية للقانون الجنائي، وترى فيه خير نظام يقضي على الإجرام، وهذا الحلم الجميل هو الحقيقة التي جاءت به الشريعة الإسلامية من ثلاثة عشر قرناً، وهو النظرية التي طبقتها الشريعة من يوم نزولها أو من يوم انتشار المسلمين في أصقاع العالم، ويكفي الشريعة فخراً أنها سبقت بمثلها العليا وأنظمتها المثلى، وأن القوانين الوضعية بأنظمتها المبتكرة وأحلامها الجميلة إنما تسير على هدى الشريعة، وتتبع أثرها، وتعمل على منوالها، وقل مع ذلك أن تلحق بها. 220 - ما يدخل في دار الإسلام: يعتبر داراً للإسلام كل البلاد التي فيها سلطان للمسلمين سواء كان المسلمون فيها أغلبية أو أقلية، وكل البلاد التي دخلت في ذمة المسلمين والتزم أهلها أحكام الإسلام ولو لم يكن فيها مسلمون، وكل الأماكن التي يسكنها مسلمون يستطيعون أن يظهروا أحكام الإسلام ولا يمنعهم من ذلك مانع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ويدخل في دار الإسلام كل ما يتبعها من جبال وصحاري وأنهار وبحيرات وأراض وجزر، وما فوق هذه جميعاً من طبقات الجو مهما ارتفعت. ويعتبر في حكم دار الإسلام كل مكان في دار الحرب يعسكر فيه الجيش الإسلامي، وتعتبر المراكب الحربية قياساً على هذا جزءاً من دار الإسلام. والأصل في الشريعة أن البحار العامة ليست ملكاً لأحد، وهذا يتفق مع القانون الدولي في عصرنا الحاضر، وليس في الشريعة ما يمنع من جعل البحار الإقليمية تابعة للدولة التي تملك الشاطئ إلى حد معين. ولم يذكر الفقهاء شيئاً عن السفن غير الحربية؛ ولكن تطبيق النظرية العامة عند أبي حنيفة وأصحابه يؤدي إلى عدم العقاب على الجرائم التي ترتكب فيها إذا كانت في مياه إقليمية تابعة لدار الحرب، أما إذا كانت في مياه تابعة لدار الإٍسلام أو غير تابعة لأحد، كما لو كانت في وسط البحر، فتطبق الشريعة الإسلامية على الجرائم التي تتركب فيها. أما تطبيق نظرية مالك والشافعي أحمد فيؤدي إلى العقاب على الجرائم التي ترتكب في السفن التجارية سواء كانت في مياه تابعة لدار الإسلام أو دار الحرب، أو في مياه عامة، مع مراعاة التفرقة التي ذكرناها من قبل بين جرائم الحدود والقصاص، وبين جرائم التعازير، والتفرقة بين جرائم التعازير التي نصت عليها الشريعة، وبين جرائم التعازير التي حرمها أولو الأمر. وتطبق القواعد السالفة على الطائرات، فالطائرات الحربية تعاقب على كل الجرائم التي ترتكب فيها، لأنها تأخذ حكم المعسكر والسفن الحربية، أما الطائرات التجارية فتأخذ حكم السفن التجارية. 221 - الشريعة والقانون: والقوانين الوضعية لا يختلف حكمها شيئاً عن الشريعة في هذا كله، فهي تعتبر الفضاء الذي يعلو أرض الدولة تابعاً لها، وتجعل المياه الإقليمية المجاورة للشاطئ تحت سيادة الدولة التي تملك الشاطئ، وتجعل السفن الحربية خاضعة لقضاء الدولة التي تتبعها، أما السفن التجارية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فيطبق عليها قانون الدولة التي تتبعها طالما كانت في المياه التابعة لهذه الدولة أو في عرض البحر، فإذا كانت في مياه دولة أخرى فقد اختلفت الدولة في حكم هذه الحالة، فالبعض يطبق قانون الدولة صاحبة المياه لا قانون الدولة التي تتبعها السفينة، وهذا هو المتبع في إنجلترا، وهو تطبيق لنظرية أبي حنيفة وأبي يوسف، وكثير من الدول يعتبر السفينة خاضعة لقانون الدولة التي تتبعها، وهذا تطبيق لنظرية الأئمة الثلاثة. وفي فرنسا يرون تطبيق قانون الدولة صاحبة المياه الإقليمية في حالات دون أخرى، فهم يمزجون بين النظريتين السابقتين. 222 - تسليم المجرمين وإبعادهم: ذكرنا أن الدول الإسلامية تعتبر كل منها ممثلة للإسلام في تطبيق الشريعة الإسلامية، فإذا جنى عراقي مثلاً جناية في العراق أمكن محاكمته عنها في مصر، ولكن قد يحدث أن يجني المسلم أو الذمي أو المستأمن جناية في بلد إسلامي ثم يهرب إلى بلد إسلامي آخر، أو يهرب إلى دار الحرب، فتطلبه الدولة التي وقعت في أرضها الجريمة لمحاكمته، فهل يمكن تسليمه إليها لمحاكمته أمام محاكمها؟ وقد يشتهر الجاني بارتكاب الجرائم والإخلال بالأمن، فهل يمكن أن تبعد الدولة من أرضها من اتصف بهذه الصفات؟ هذان موضوعان سنتكلم عنهما فيما يلي واحدة بعد الأخرى. 223 - أولاً: تسليم المجرمين: من الممكن أن يقال: إن محاكمة الجاني على جريمته في محل وقوعها أفضل من محاكمته عليها في غير هذا المحل، وأدعى إلى تحقيق ضمان تحقيق العدالة والزجر عن الإجرام، لأن المحل إلى وقعت فيه الجريمة يتيسر فيه إقامة الأدلة ومناقشتها، لوجود الشهود به، وإمكان مشاهدة آثار الجريمة، والإحاطة بكل ظروفها، كما أن عقاب المجرم على جريمته في محل ارتكابها يحفظ للعقوبة قيمتها كاملة، فالعقوبة مقصود بها التأديب والزجر، تأديب المجرم وزجر غيره ممن شهدوا الجريمة أو علموا بها، والعقوبة التي تقام في غير محل الجريمة إذا أدت لتأديب المجرم فإنها لا تؤدي وظيفتها كاملة من حيث الزجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وعلى هذا يحسن أن يسلم الجاني إلى الدولة صاحبة السلطان على محل الجريمة لمحاكمته وإن لم يكن ثمة ضرر كبير من محاكمة الجاني في الدولة التي هرب إليها طالما كان تشريعها هو نفس تشريع الدولة التي تطلب التسليم. ولكن من الممكن أن يقال أيضاً: إن في تسليم الجاني الذي ينتمي إلى دولة معينة إلى دولة أخرى لمحاكمته على جريمة ارتكبها في أرض الدولة الأخيرة يعرض الجاني من التمكن من عدم الدفاع عن نفسه بين قوم لا يعرفهم ولا يتصل بهم بصلة الجنس أو اللغة، وقد يؤدي التسليم لظلمه والإضرار به. هذان رأيان يخطر كلاهما بالذهن إذا فكرنا في تسليم المجرمين؛ ولكل منهما وجاهته ومحاسنه وعيوبه، وقد راعت الشريعة الإسلامية كل هذه الاعتبارات حين اختطت خطة وسطاً بين هذين الرأيين تضمن بها تحقيق العدالة بدر الإمكان، وتمنع الظلم عن رعايا الدولة الإسلامية بقدر المستطاع، وأساس هذا الرأي الوسط التفرقة بين التسليم لدولة إسلامية، والتسليم لدولة غير إسلامية. 224 - التسليم لدولة إسلامية: ليس في الشريعة ما يمنع من أن تسلم أية دولة إسلامية لأية دولة إسلامية أخرى أي مسلم أو ذمي أو مستأمن ارتكب في أرض إحدى الدولتين جريمة ما والتجأ إلى أرض الأخرى، ما لم تكن هذه الدولة الأخرى قد حاكمته فعلاً على هذه الجريمة طبقاً لنصوص الشريعة، فإن لها أن تمتنع عن تسليمه؛ لأنه لا يجوز طبقاً للشريعة أن يعاقب على الفعل الواحد مرتين، فإن كانت المحاكمة التي تمت على غير أساس الشريعة فليس للدولة أن تمتنع عن التسليم إذا كانت الدولة طالبة التسليم تنوي أن تحاكم الجاني طبقاً لنصوص الشريعة، ولا عبرة بالعقوبة التي وقعت على الجاني على خلاف نصوص الشريعة، ولا قيمة للمحاكمة التي انتهت بهذه العقوبة، لأنها محاكمة باطلة لقيامها على نصوص باطلة لا تعترف بها الشريعة. وللدولة المطلوب منها التسليم أن تمتنع عن التسليم إذا كانت تنوي أن تحاكم الجاني وتطبق عليه نصوص الشريعة، وكانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الدولة طالبة التسليم لا تطبق نصوص الشريعة، أو لا تنوي تطبيقها، وهذا طبعاً لا يكون إ في الجرائم ذات العقوبات المقدرة؛ أي في جرائم الحدود والقصاص. ولعل جواز التسليم ومنع التسليم واحدة، وهي أن كل بلد إسلامي يعتبر جزءاً من دار الإسلام، وأن كل الدول الإسلامية تعتبر ممثلة للإسلام، وعلى كل منها أن تقيم حدوده، وتنفذ أحكامه، ففي حالة التسليم لا يسلم الجاني إلى دولة غريبة عنه، ولا يحاكم بشريعة يجهلها، ولا يعرضه التسليم لظلم أو ضرر، والتسليم لا يقصد منه إلا ضمان تحقيق العدالة والزجر عن الإجرام، وفي حالة الامتناع عن التسليم لدولة إسلامية لا يكون الامتناع إلا لإقامة نصوص الشريعة ولتحقيق العدالة والزجر عن الإجرام. 225 - التسليم لدولة غير إسلامية: لا تجيز الشريعة الإسلامية لدولة إسلامية أن تسلم رعاياها مسلمين أو ذميين ليحاكموا في دار الحرب عن جرائم ارتكبوها في تلك الدار، ولا يجوز لدولة إسلامية أن تسلم أيضاً رعايا أية دولة إسلامية أخرى لدولة غير إسلامية، لأن هؤلاء في حكم رعاياها من الوجهة الشريعة. ولا تجيز الشريعة لدولة إسلامية أن تسلم مسلماً منتمياً لدولة محاربة إذا هاجر لدار الإسلام من دار الحرب، ولو طلبته الدولة التي كان يقيم في أرضها، ما لم يكن هناك اتفاق سابق على التسليم، فإن كان هناك اتفاق سابق وجب الوفاء بشروطه إلا الباطل منها. ويعتبر الاتفاق على التسليم باطلاً إذا كان له أثر رجعي أي إذا أريد به تسليم المسلمين اللاجئين لدار الإسلام قبل الاتفاق، ويعتبر باطلاً كل شرط يقضي بتسليم النساء المسلمات اللاجئات إلى دار الإسلام سواء لجأن لدار الإسلام قبل الاتفاق أو بعده، فالمرأة المسلمة لا يجوز تسليمها بأية حال لدولة غير إسلامية، ولو كانت من رعاياها أصلاً، ولو كان لها زوج وأولاد وأهل يطلبونها في دار الحرب، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . وقد اختلف في صحة شرط تسليم الرجال المسلمين بعد الاتفاق، فيرى أحمد وبعض الفقهاء في مذهب مالك أنه صحيح ويجب الوفاء به (1) . ويرى أبو حنيفة وبعض الفقهاء في مذهب مالك في شرط التسليم باطل، حيث لا يجيزون تسليط غير المسلم على المسلم بأي حال (2) . ويفرق الشافعية بين من له عشيرة تحميه في دار الحرب، ومن ليس له عشيرة تحميه، ويجيزون تسليم الأول دون الثاني، وأساس منع التسليم عندهم هو خشية الفتنة (3) . ويلاحظ أن من أسلم من دار الحرب ولجأ إلى دار الإسلام يعتبر بدخوله دار الإسلام من أهل هذه الدار، ورعية للدولة الإسلامية التي دخل أرضها، ومن ثم الدولة حين تمتنع عن تسليمه إنما تمتنع عن تسليم أحد رعاياها، وهذا في ذاته تطبيق لقاعدة الشريعة العامة التي لا تجيز للدولة الإسلامية أن تسلم رعاياها لدولة غير إسلامية، ولا يعتبر تسليم الرعايا دولة إسلامية أخرى خروجاً عن هذه القاعدة العامة، لأن أراضي الدول الإسلامية كلها تعتبر داراً للإسلام وتخضع لشريعة واحدة هي الشريعة الإسلامية، ولأن كل دولة إسلامية تمثل النظام الإسلامي في العالم كله. ويجوز لأي دولة إسلامية أن تسلم المستأمن للدولة التي يتبعها إذا طلبته لتعاقبه على جريمة ارتكبها في بلده بشرط أن يكون هناك اتفاق يقضي بذلك، ولكن ليس لها أن تسلمه إلى دولة أخرى غير دولته، لأن هذا يتنافى مع عقد الأمان الذي أعطي له فأمن بمقتضاه على نفسه، إلا أن يكون هناك عهد بين الدولة الإسلامية وبين الدولة طالبة التسليم يقضي بالتسليم فيعتبر الأمان قائماً على   (1) المغني ج10 ص524، مواهب الجليل ج3 ص386. (2) فتح القدير ج4 ص296، روح المعاني للألوسي ج28 ص67- 68، مواهب الجليل ج3 ص387. (3) المهذب ج3 ص277، أسنى المطالب ج4 ص227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 أساس التقيد بهذا العهد، ويجوز التسليم وفاء بالعهد. وقاعدة الشريعة التي يقضي بأن لا تسلم الدولة رعاياها هي القاعدة التي تأخذ بها أكثر الدول اليوم، ولكن بعض الدول كإنجلترا وأمريكا تجيز تسليم رعاياها دون اشتراط المثل، وهو مبدأ لا تأخذ به الشريعة إلا فيما بين الدول الإسلامية فقط. فالمبدءان المعمول بهما اليوم في العالم هما مبدءا الشريعة الإسلامية بالذات، ولكن الشريعة تطبق كلاً منهما في حالات معينة، بينما الدول اليوم تأخذ بأحد المبدأين دون الآخر، ولا تجمع بينهما كما فعلت الشريعة. والدول الحديثة متفقة اليوم على أن لا تسلم من يكون خاضعاً لقضائها في الجريمة المطلوب التسليم من أجلها ولو كان الجاني أجنبياً. وهذا تطبيق لمبادئ الشريعة، لأن الدولة إذا كانت مختصة بالجريمة فعليها أن تعاقب الجاني، وإذا عاقبته فلا معنى لتسليمه بعد ذلك. 226 - تسليم الأرقاء: وتتفق الدول اليوم على عدم تسليم الأرقاء الهاربين، وهو مبدأ قررته الدول في القرن الماضي بعد إبطال الرق، ولكن هذا المبدأ قررته الشريعة الإسلامية من مدة تزيد عن ثلاثة عشر قرناً، ونستطيع أن نقول: إنه تقرر على وجه التحديد يوم الحديبية، فقد لجأ عدد من عبيد قريش إلى معسكر المسلمين في هذا اليوم، فأرسلوا في طلبهم وقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنهم ما خرجوا رغبة في دينك، وإنما خرجوا هروباً من الرق، فقال ناس من المسلمين: صدقوا يا رسول الله ردهم عليهم. فغضب رسول الله، وقال: "هم عتقاء الله". والقاعدة في الشريعة أن الرقيق إذا أسلم ولجأ إلى دار الإسلام، أو معسكر المسلمين، أو أسلم وبقى في دار الحرب حتى ظهر المسلمون عليها، فهو حر في كل هذه الأحوال، ولا يجوز رده (1) .   (1) شرح فتح القدير ج4 ص346، المهذب ج2 ص279، المغني ج10 ص523، مواهي الجليل ج3 ص386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ويرى الشافعي رده في حالة واحدة، وهي إذا أسلم في دار الحرب ثم هاجر بعد الإسلام، وكان بين أهل دار الحرب ودار الإسلام عهد، لأن العبيد مال، وأهل دار الحرب في أمان على أنفسهم ومالهم بالعهد القائم بينهم وبين دار الإسلام. ويرد أحمد على هذا الرأي بأن الأمان أعطى لهم على ما في قدرة المسلمين عمله، وما هو في قبضة المسلمين، والأرقاء في قبضة أهل دار الحرب لا في قبضة المسلمين (1) . 227 - تسليم المجرمين السياسيين والعسكريين: وتتفق الدول أيضاً على عدم تسليم المجرمين في الجرائم السياسية والجرائم العسكرية، وليس في قواعد الشريعة الإسلامية ما يمنع من إقرار هذه الجزئيات؛ لأنها لا تختلف مع قواعد الشريعة العامة التي بسطناها فيما سبق. 228 - هل يمكن معاقبة الحربيين الذين أسلموا ولجأوا إلى دار الإسلام؟: عرفنا أن الشريعة لا تجيز تسليم النساء إطلاقاً، وأنها لا تجيز تسليم الرجال ما لم يكن هناك اتفاق سابق، وأن تسليم الرجال حتى في حالة الاتفاق مختلف عليه، فهل يمكن مع هذا أن نعاقب المسلم الذي لجأ من دار الحرب إلى دار الإسلام على جريمته التي ارتكبها في دار الحرب؟ وللرد على هذا السؤال يجب أن نفرق بين فرضين، أولهما أنه ارتكب هذه الجرائم قبل الإسلام، وثانيهما أنه ارتكبها بعد الإسلام، فإن كانت الجرائم قبل الإسلام فلا عقاب عليها باتفاق؛ لأن القاعدة في الشريعة أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وأساس هذه القاعدة قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وقد طبقت هذه القاعدة على من آذوا الرسول والمسلمين، ومن قتلوا المسلمين أو مثَّلوا بهم، مثل كعب بن أُبي الذي أذى الرسول والمسلمين بهجائه ومثل وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب، ومثل هند زوجة أبي سفيان التي مثلت بحمزة بعد قتله.   (1) المهذب ج2 ص279، أسنى المطالب ج4 ص228، المغني ج10 ص523. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أما إذا كانت الجرائم قد ارتكبت بعد الإسلام، فإذا طبقنا نظرية أبي حنيفة وأبي يوسف فلا عقاب، لأن الجرائم وقعت في أرض الحرب ولا ولاية للمسلمين عليها، والعقاب على الجريمة يقتضي الولاية وقت وقوعها. وإذا طبقنا نظرية مالك والشافعي وأحمد وجب العقاب، بشرط أن يكون الجاني عالماً أو في إمكانه أن يعلم أن الشريعة تحرم هذه الأفعال، فإن لم يكن عالماً ولا في إمكانه أن يعلم بالتحريم فلا عقاب، وإن كان عالماً أو في إمكانه أن يعلم فإنه يعاقب على ما تحرمه الشريعة، أما ما لا تحرمه فلا عقوبة عليه ولو كان محرماً في دار الحرب (1) . 229 - ثانياً: إبعاد المجرمين: يختلف حكم الإبعاد بحسب ما إذا كان الشخص من أهل دار الإسلام أو من أهل دار الحرب: إبعاد المسلمين والذميين: رأينا فيما سبق أن بلاد المسلمين جميعاً تعتبر وحدة واحدة، وتسمى دار الإسلام. ويترتب على اعتبارها وحدة واحدة أنه لا يجوز منع المسلم أو الذمي من دخول أي إقليم إسلامي آخر غير الإقليم الذي يقيم فيه أصلاً. والأصل في الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز إبعاد المسلم أو الذمي عن دار الإسلام، لأن نفي المسلم عن دار الإسلام يعرضه للفتنة، ويؤدي به إلى الهلكة، ويحول بينه وبين إظهار شعائر الدين، ولأن نفي الذمي عن دار الإسلام مناقض لعقد الذمة. ويترتب على اعتبار بلاد المسلمين وحدة واحدة، وعلى عدم جواز إبعاد المسلم أو الذمي عن دار الإسلام، أنه لا يجوز لدولة إسلامية أن تبعد مسلماً أو ذمياً   (1) راجع الفقرات من 214 إلى 216 والفقرة 298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 من أرضها، ولو كان المسلم أو الذمي من غير رعاياها، ولو كان قد دخل أرضها ليقيم بها إقامة مؤقتة. فقواعد الشريعة الإسلامية إذن لا تسمح بمنع المسلم أو الذمي من دخول أي بلد إسلامي، ولا تبيح إبعاد المسلم أو الذمي من أي بلد إسلامي دخله، لأن المسلم أو الذمي لا يعتبر بأي حال أجنبياً عن دار الإسلام، ولا عن دوله، فكل بلد في دار الإسلام تعتبر بلده، وكل دولة أو حكومة فيها تعتبر دولته وحكومته؛ لأنها تمثل الإسلام، ومن يعتنقه من المسلمين، ومن يلتزم أحكامه من الذميين، قبل أن تمثل الإقليم ومن يتوطنه من المسلمين والذميين. وإذا كان الأصل أنه لا يجوز منع رعايا دولة إسلامية من الدخول في أرض دولة إسلامية أخرى، أو إبعادهم عنها، فهل يجوز إذا دعت لذلك ضرورة المحافظة على الأمن العام، أو النظام، أن تضع الدولة قيوداً على دخول البلاد التي تحكمها بقدر ما تستدعيه تلك الضرورة؟ وهل يجوز للدولة الإسلامية إذا دعت الضرورة إبعاد من ليسوا رعاياها أصلاً إلى بلادهم الأصلية أو إلى أي بلد آخر؟ ومن القواعد الأولية في الشريعة الإسلامية أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن كل ضرورة تقدر بقدرها، ومعنى ذلك أن ما لا يباح عمله في الظروف العادية يباح عمله عند الضرورة، وتطبيقاً لهاتين القاعدتين الأوليين يجوز للدولة الإسلامية عند الضرورة أن تضع قيوداً على دخول البلاد التي تحكمها، بقدر ما تستدعيه حالة الضرورة، وبشرط أن لا يمكن دفع الضرورة بوسيلة أخرى، ويجوز للدولة الإسلامية عند الضرورة أن تبعد أي مسلم أو ذمي عن أرضها، إذا لم يكن هناك وسيلة لدفع الضرورة إلا الإبعاد. ويجوز أن يكون الإبعاد لبلد المبعد الأصلية أو لأي بلد إسلامي آخر، ولكن لا يجوز بأي حال أن يكون الإبعاد إلى دار الحرب، ولو كان بين دار الإسلام وبين المكان الذي أبعد إليه من دار الحرب موادعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ولكني مع هذا أرى أنه ليس لدولة إسلامية أن تحرم دخول أرضها على رعايا دول إسلامية أخرى، ولا أن تمنعهم من الإقامة فيها، بحجة ضرورة المحافظة على الأمن والنظام، أو بأية حجة أخرى، لأن في يد كل دولة من إجراءات الأمن، ومن نصوص الشريعة، ما يسد الحاجة ويدفع كل ضرورة، ويمكن الدولة من المحافظة على الأمن والنظام، وحماية كل مرفق، ومراقبة المشبوهين، , أخذهم بنشاطهم المضاد لمصالح الدولة، وإذا كان هذا كله في متناول الدولة ولا يعطل تنفيذه قاعدة من قواعد الشريعة، فليس للدولة أن تعدل عنه بحجة الضرورة إلى ما يعطل قاعدة هامة من قواعد الشريعة، وإذا كانت الدولة لا يستطيع إبعاد رعاياها ولا منعهم من دخول أرضها، وتكتفي في دفع ما يصدر منهم بهذه الوسائل التي ذكرناها، فأولى بالدولة أن تكتفي بنفس هذه الوسائل في دفع الغرباء والمهاجرين الذين هم أضعف حيلة وأقل مقاومة من الرعايا المستوطنين. فعلى كل دولة إسلامية إذن أن لا تبعد رعايا الدول الإسلامية الأخرى، وأن لا تمنعهم من دخول أرضها، وأن تعاملهم كرعاياها تماماً، وإذا أتوا ما يخل بالأمن عاقبتهم بما يستحقون كما تعاقب رعاياها، وهذا الذي نقول هو الرأي الذي يتفق مع أغراض الشريعة الإسلامية ومراميها من توحيد دار الإسلام وجعلها دار أمن وسلام لكل مسلم وذمي، أما الرأي المضاد فيؤدي فوق ما ذكرنا له من عيوب إلى عدم المساواة، وإثارة النعرات الوطنية والجنسية، وهذا ما يحاربه الإسلام ولا يرضاه. 230 - إبعاد الحربيين: ليس للحربيين أن يدخلوا دار الإسلام إلا بإذن خاص، أو بناء على عهد، طبقاً لقواعد الشريعة الإسلامية، وليس لهم إذا سمح لهم بدخول دار الإسلام أن يقيموا فيها إلا إقامة مؤقتة لا يزيد على سنة واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 في رأي أبي حنيفة والشافعي وبعض الحنابلة (1) ، أما البعض الآخر فيرى مع مالك أن الإقامة المؤقتة ليس لها مدة معينة (2) . والأصل عند الشافعي أن مدة الإقامة لا يزيد على أربعة أشهر إلا إذا رأي الإمام وكان في ذلك مصلحة (3) . وإذا انتهت مدة إقامة الحربي كان من حق الدولة الإسلامية أن تبعده من أرضها، ولها أن تبعده ولو لم تنته مدة إقامته إذا أتى ما يخل بالأمن، أو خشي منه الإخلال بالأمن، تطبيقاً لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء} [الأنفال: 58] ، ولقوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} [التوبة: 7] ، على أنه يشترط عند الإبعاد أن يبعد الحربي إلى مكان يأمن فيه على نفسه، أو أن يرد إلى مأمنه، لأنه دخل دار الإسلام على أمان، فوجب أن لا يعرض للهلكة، وأن يرد إلى المكان الذي يأمن فيه، قوله تعالى: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] . ويلاحظ أنه لا يجوز إبعاد الذمي ولو خشى من خيانته، أو أتى ما يدل على خيانته، ويفرقون بينه وبين المستأمن بأن الذمي من رعايا الدولة، ويقيم في دار الإسلام إقامة دائمة، فهو كالمسلم في قبضة الإمام، وخيانته إن ظهرت يمكن استدراكها وعقابه عليها كخيانة المسلم، أما المستأمن فليس كذلك، ومن الصعب استدراك خيانته (4) . 231 - الشريعة والقوانين: تأخذ القوانين الوضعية بمبدأ منع الأجانب من دخول أرض الوطن وإبعادها عنها بعد دخولهم كلما اقتضت ذلك مصلحة عامة، ولا تجيز القوانين الوضعية دخول الأجانب أرض الدولة إلا بإذن،   (1) شرح فتح القدير ج4 ص351، المغني ج10 ص437. (2) المغني ج10 ص436، مواهب الجليل ج3 ص359. (3) أسنى المطالب ج4 ص204. (4) شرح فتح القدير ج4 ص294، مواهب الجليل ج3 ص386، المهذب ج2 ص294، المغني ج10 ص520 وما عبدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 على أن يقيموا إقامة مؤقتة، فإذا انتهت هذه المدة أخرجوا من أرض الدولة ما لم تجدد مدة الإقامة، وهذه المبادئ التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيراً هي نفس المبادئ التي جاءت بها الشريعة من ثلاثة عشر قرناً. وتتفق القوانين الوضعية مع الشريعة أيضاً في عدم جواز إبعاد رعايا الدولة، أو منعهم من دخول أرض الوطن، ولكن القوانين الوضعية تختلف مع الشريعة في أن القوانين لا توجب إبلاغ الشخص المبعد إلى مأمنه، كما توجب ذلك الشريعة، ويكفي في معظم القوانين أن يبعد الشخص عن أرض الدولة ولو عرضه ذلك للهلاك، وتفوق الشريعة في هذه المسألة لا يحتاج إيضاحاً. 232 - الجنسية في الشريعة: تقوم الجنسية في الشريعة الإسلامية على أساس الدار، أو بتعبير آخر: على أساس الإسلام ومسالمته، والتزام أحكامه أو الكفر به، فأهل دار الإسلام لهم جنسية واحدة سواء كانوا مسلمين أو ذميين محكومين بحكومة واحدة أو بحكومات متعددة، ومهما تميز المصري عن السوري أو العراقي أو المغربي فذلك تمييز محلي أو إقليمي لا ينبني عليه حكم شرعي ولا يؤدي إلى تمييز في الخارج. وأهل دار الحرب لهم جنسية واحدة مهما تعددت بلادهم وحكوماتهم، ومهما تميز الإنجليزي عن الفرنسي أو الأمريكي فذلك تمييز داخلي فيما بينهم، ولكن أحكام الشريعة واحدة بالنسبة لهم جميعاً متفرقين ومجتمعين، على أن الشريعة لا تمنع من النظر إلى الدول الأجنبية المختلفة كل على حدة بحسب ظروفها، فيجوز مثلاً أن يكون بين المسلمين وبين الفرنسيين عهد أو هدنة، وهكذا. وأساس الجنسية في دار الإسلام اعتناق الإسلام، أو التزام أحكامه، فمن اعتنق الإسلام فهو مسلم، ومن التزم أحكام الإسلام ولم يسلم فهو ذمي، وأساس الجنسية في دار الحرب هي إنكار الإسلام وعدم التزام أحكامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وتتغير الجنسية في الشريعة بتغيير الأساس الذي تقوم عليه، فتتغير جنسية الحربي باعتناق الإسلام، أو بالدخول في ذمة المسلمين والتزام أحكام الإسلام. ويشترط للدخول في الذمة الهجرة إلى دار الإسلام، فلا تعتبر المحارب ذمياً وهو في بلده إلا أن يدخل البلد كله في الذمة ويلتزم أهله أحكام الإسلام فلا تشترط حينئذ الهجرة؛ لأن البلد يصبح بذلك دار إسلام. وتتغير جنسية المحارب بإسلامه دون حاجة لهجرته إلى دار الإسلام، وإن كان أبو حنيفة يشترط لاعتباره معصوماً أن يهاجر إلى دار الإسلام. وتتغير جنسية المسلم والذمي بتغير الأساس الذي تقوم عليه؛ فتتغير جنسية المسلم بالردة، وتتغير جنسية الذمي بعدم التزام أحكام الإسلام، وبالإقامة الدائمة في دار الحرب. والزواج يجعل الزوجة تابعة للزوج، ولكنه لا يؤدي وحده لتغير الجنسية، فالمسلم أو الذمي إذا تزوج في دار الحرب من محاربة لم تلحق به الزوجة في جنسيته إلا إذا دخلت دار الإسلام، فإن دخلت دار الإسلام أصبحت بالزواج والهجرة لدار الإسلام ذمية، وإذا تزوج المستأمن في دار الإسلام من ذمية فلا يصير ذمياً بزواجها، ولا تصير هي بزواجه حربية، إلا إذا رضى هو أن يقيم في دار الإسلام إقامة دائمة فيصبح ذمياً، وإلا إذا هاجرت هي مع زوجها إلى دار الحرب. وإذا تزوج المسلم من حربية فأسلمت تغيرت جنسيتها بالإسلام دون حاجة للهجرة؛ لأن الجنسية تتغير أصلاً بالإسلام وحده، فالزواج ليس هو الذي يكسب الجنسية وإنما هو الإسلام والتزام أحكامه والإقامة بداره. وتغيير جنسية الزوج لا يؤثر على جنسية المرأة، فالذمي إذا أقام بدار الحرب لم تلحق به زوجته صار حربياً، وبقيت هي ذمية، والمسلم إذا ارتد صار حربياً، ولم يؤثر ذلك على جنسية زوجته إلا إذا ارتدت مثله. ويتبع الصغار ومن في حكمهم كالمجنون أبويهم في الجنسية، فإذا أسلم الزوجان أو دخلاً في الذمة تبعهما أولادهما غير المميزين، وإذا أسلم الأب وحده أو دخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 في الذمة تبعه أولاد غير المميزين، وإذا أسلمت الأم وحدها أو دخلت في الذمة تبعها الأولاد غير المميزين في رأي أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وتبعوا الأب في رأي مالك. ويتبع الأولاد غير المميزين أبويهم في الجنسية على الوجه السابق كلما كان التغيير من جنسية أدنى إلى جنسية أعلى، والجنسية الإسلامية هي العليا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "الإسلام يعلو ولا يعلى"، فإذا كان التغيير من الجنسية العليا إلى الجنسية الدنيا فلا يتبع الأولاد من غير جنسيته من الأبوين، بل يبقون على جنسيتهم الأولى، فإذا ارتد الزوجان المسلمان وأصبحا محاربين بقى أولادهما غير المميزين مسلمين، وكذلك الحكم لو ارتد أحد الأبوين فقط (1) . هذه هي القواعد العامة التي تقوم عليها الجنسية في الشريعة الإسلامية، وهناك تفاصيل ليس هذا محل ذكرها. وهذه القواعد العامة التي جاءت بها الشريعة هي نفس القواعد العامة التي تأخذ بها القوانين الوضعية اليوم في مسائل الجنسية، فالجنسية تقوم في القوانين على أساس الإقليم، فكل من يقيم إقامة دائمة في أرض الدولة فله جنسيتها. وهذا يقابل الإقامة الدائمة في دار الإسلام. وتسقط الجنسية عن الشخص وتتغير إذا أقام في أرض أخرى مدة معينة ورضي بالدخول في جنسيتها وتتبع المرأة جنسية الزوج بشروط معينة، ويتبع الأولاد الصغار جنسية الأبوين كقاعدة عامة. * * *   (1) المغني ج10 ص93- 96، مجلة القانون والاقتصاد س1 ع1 ص11-14، شرح الزرقاني ج8 ص69، أسنى المطالب ج4 ص123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الفصل الرابع سريان النصوص الجنائية على الأشخاص 233 - تمهيد تاريخي: كان القانون الوضعي حتى آخر القرن الثامن عشر يميز بين الأفراد ولا يعترف بالمساواة بين المحكومين، وكان يميز بينهم في المحاكمة وفي توقيع العقوبة، وفي تنفيذ العقوبة، وكانت المحاكم تتعدد تبعاً لتعدد طوائف الأمة، فللأشراف محاكم خاصة وقضاة من طبقة معينة، ولرجال الدين محاكم خاصة وللجمهور محاكم خاصة، ولكل من هاتين الطائفتين قضاتهم. وكانت الجريمة الواحدة يعاقب عليها أما هذه المحاكم المختلفة بعقوبات مختلفة، وكان لشخصية الجاني اعتبارها في القانون، فالعمل الذي يأتيه الشريف ويعاقب عليه بأتفه العقوبات يعاقب عليه الشخص العادي إذا أتاه بأقصى العقوبات، وكانت العقوبة تنفذ على الشريف بطريقة تتفق مع شرفه، ولكنها تنفذ على رجل الشارع بطريقة تتفق مع ضعته وحطته؛ فإذا حكم بالإعدام مثلاً على شريف ووضيع ضربت رقبة الشريف بالسيف، وشنق الوضيع في حبل كما تشنق الكلاب، وكانت بعض الأفعال تعتبر جرائم إذا أتاها العامة يحاسبون عليها أشد الحساب، بينما يأتيها الأشراف ورجال الدين في كل وقت فلا يحاسبون عليها ولا يحاكمون عنها. كان هذا شأن القانون الجنائي الوضعي حتى أواخر القرن الثامن عشر، حتى جاءت الثورة الفرنسية، فجعلت المساواة أساساً من الأسس الأولية في القانون، وأصبحت القاعدة أن تسري نصوص القوانين على الجميع، ولكن مبدأ المساواة بالرغم من ذلك لم يطبق تطبيقاً دقيقاً حتى الآن، إذ لم يكن من السهل التخلص من التقاليد القديمة دفعة واحدة وإنكار الماضي كله، فبقيت حالات من التمييز وعدم المساواة اعتبرت استثناءات من مبدأ المساواة التامة، وراح بعض الكتاب ينتحل لها المعاذير أو يبررها بحيل قانونية، بينما راح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 البعض ينتقدها ويطالب بإلغائها، وكانت الغلبة للفريق الأخير، إذ اتجهت إلى رأيه بعض التشريعات الحديثة التي وضعت في آخر القرن التاسع عشر وفي القرن الحالي (القرن العشرين) ، فضيقت من مدى هذه الاستثناءات أو حاولت أن تقضي على بعضها، وأغلب المفكرين اليوم يدعون إلى مساواة التامة، ويعملون جاهدين لتحقيقها، وقد تتحقق المساواة التامة قريباً وقد لا تتحقق، ولكنها الأمل الذي تحتاج له القلوب وتتجه إليه الإنسانية. 234 - أمثلة على عدم المساواة في القوانين الوضعية: ومن أظهر الأمثلة على عدم المساواة في القوانين الوضعية ما يأتي: أ - تمييز رئيس الدولة: تميز القوانين الوضعية دائماً بين رئيس الدولة الأعلى ملكاً كان أو رئيس جمهورية وبين باقي الأفراد، فبينما يخضع الأفراد للقانون لا يخضع له رئيس الدولة بحجة أنه مصدر القانون، وأنه السلطة العليا، فلا يصح أن يخضع لسلطة هي أدنى منه وهو مصدرها. وتعتبر بعض الدساتير ذات الملك مقدسة، كالدستور الدنمركي والدستور الأسباني قبل الجمهورية، أما الدستور الإنجليزي فيجعل ذات الملك مصونة لا تمس، ويفترض أن الملك لا يخطئ، وفي بلجيكا ومصر ذات الملك مصونة لا تمس، وكذلك كان الحال في إيطاليا ورومانيا قبل إلغاء النظام الملكي. والأصل في النظام الجمهوري أن رئيس الجمهورية غير المسئول، وكانت شعوب العالم تعترف بهذا الوضع لرؤساء الدول الجمهورية حتى القرن التاسع عشر، ثم بدأت تخرج عليه تحقيقاً لمبدأ المساواة، فالدستور الفرنسي يجعل رئيس الجمهورية مسئولاً جنائياً في حالة واحدة هي حالة الخيانة العظمى، ودستور تشيكوسلوفاكيا قبل الحرب الأخيرة أجاز التحقيق مع رئيس الجمهورية في حالة الخيانة العظمى، والدستور البولندي الذي وضع بعد الحرب سنة 1914 جعل رئيس الجمهورية مسئولاً جنائياً في حالة الخيانة العظمى والاعتداء على الدستور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 كما جعله مسئولاً إذا ارتكب جريمة عادية، واشترط لمحاكمته إذن البرلمان وأغلبية خاصة. ونستطيع أن نستخلص مما سبق أن القوانين الوضعية تأخذ بنظريات ثلاث في مسئولية رؤساء الدول عما يرتكبون من جرائم: فالنظرية الأولى لا تجعل الرئيس مسئولاً عن أية جريمة ارتكبها، والنظرية الثانية تجعله مسئولاً عن بعض الجرائم دون البعض الآخر، والنظرية الثالثة تجعله مسئولاً عن كل الجرائم التي يرتكبها. ولا شك أن مسئولية رؤساء الدول قد تطورت في القوانين الوضعية تطوراً عظيماً، فبعد أن كانت القاعدة العامة - حتى القرن الثامن عشر - إعفائهم من المسئولية إعفاء تاماً، أهملت تلك القاعدة، وأصبح الكثيرون من رؤساء الدول مسئولين مسئولية جزئية أو مسئولية تامة. ب - تمييز رؤساء الدول الأجنبية: وتعفي القوانين الوضعية رؤساء الدول الأجنبية ملوكاً كانوا أو رؤساء جمهوريات من أن يحاكموا على ما يرتكبونه من الجرائم في أي بلد آخر غير بلادهم، سواء دخلوه بصفة رسمية أو متنكرين، وهذا الإعفاء يشمل كل أفراد حاشية الملك أو رئيس الجمهورية. وحجة شراح القوانين في هذا الإعفاء أن إجازة محاكمة رؤساء الدول وأفراد حاشيتهم لا تتفق مع ما يجب لهم من كرم الضيافة والتوفير والاحترام. وهي حجة لا تستقيم مع المنطق؛ لأن رئيس الدولة الذي ينزل بنفسه إلى حد ارتكاب الجرائم يخرج على قواعد الضيافة، ولا يستحق شيئا من التوفير والاحترام، ومثل هذا يقال في أفراد الحاشية. والواقع أن الإعفاء تقليد قديم كان معمولاً به قبل أن تأخذ القوانين الوضعية بمبدأ المساواة، وظل معمولاً به حتى اليوم، وقد ساعد على بقائه اعتراف الدول به، وصيرورته جزءاً من القانون الدولي، والمعروف أن القانون الدولي لا يتطور بمثل السرعة التي تطور بها القوانين الخاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ج - تمييز رجال السلك السياسي: تعفي القوانين الوضعية المفوضين السياسيين الذين يمثلون الدول الأجنبية من أن يسري عليهم قانون الدولة التي يعملون فيها، ويشمل الإعفاء حاشيتهم وأعضاء أسرهم. وحجة شراح القوانين في هذا الإعفاء أن الممثلين السياسيين يمثلون دولهم أمام الدولة التي يعملون في أرضها، وليس لدولة على أخرى حق العقاب، وأن الإعفاء ضروري لتمكينهم من أداء وظائفهم، وحتى لا تتعطل لتعريضهم للقبض والتفتيش والمحاكمة. ويمكن الرد على هاتين الحجتين بأن الممثل السياسي ليس إلا فرداً من رعايا دولة أجنبية، وأن للدولة حق العقاب على رعايا الدول الأجنبية إذا ارتكبوا جريمة في أرضها، ولا يمكن أن يعطل سريان القانون على الممثل السياسي أعمال هذا الممثل ما دام يحترم القانون ويطيعه ولا يعرض نفسه للوقوع تحت طائلته. د - تمييز أعضاء الهيئة التشريعية: وتعفى القوانين الوضعية ممثلي الشعب في البلاد النيابية من العقاب على ما يصدر منهم من الأقوال أثناء تأدية وظائفهم، وقد أخذ الدستور المصري بهذا الاتجاه، فمنع من مؤاخذة أعضاء البرلمان على ما يبدونه من الأفكار والآراء في المجلسين (1) ، أي أنه أعفاهم من مسئولية عن الجرائم القولية الشفوية أو الكتابية التي تلقى أو تكتب في دار المجلسين، والمقصود من هذا الإعفاء إعطاء أعضاء البرلمان قدراً من الحرية يساعدهم على أداء وظائفهم حق الأداء، إلا أن الإعفاء بالرغم من هذا اعتداء صارخ على مبدأ المساواة؛ لأن هناك مجالس نيابية أخرى هي مجالس المديريات ليس لأعضائها أن يتمتعوا بمثل الحصانة التي يتمتع بها أعضاء البرلمان، ولأن هناك من الوطنيين من يشتغل بالمسائل العامة وله فيها تأثير أكثر مما لأي عضو من أعضاء البرلمان، وبالرغم من ذلك فهم محرومون من مثل حصانة أعضاء البرلمان. هـ - تمييز الأغنياء: وتميز القوانين الوضعية الأغنياء على الفقراء في كثير   (1) المادة 109 من الدستور المصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 من الحالات، ومن الأمثلة على ذلك في القانون المصري أن قانون تحقيق الجنايات يوجب على القاضي أن يحكم بالحبس في كثير من الجرائم، على أن يقدر للمحكوم عليه كفالة مالية إذا دفعها أجل تنفيذ الحكم عليه حتى يفصل في الاستئناف وإن لم يدفعها حبس دون انتظار لنتيجة الاستئناف (1) . وفي هذا خروج ظاهر على مبادئ المساواة، إذ يستطيع الغني دائماً أن يدفع الكفالة فلا ينفذ عليه الحكم، بينما يعجز الفقير عن دفعها في أغلب الأحوال فينفذ عليه الحكم في الحال. ويجيز قانون تحقيق الجنايات المصري للمتهم المحبوس أن يعترض على حبسه فينظر اعتراضه أمام القاضي، وللأخير أن يفرج عن المتهم بضمان مالي (2) . وفي تقرير مبدأ الضمان المالي خروج ظاهر على مبدأ المساواة؛ لأن الغني يستطيع دائماً أن يدفع الضمان المالي فيخرج من حبسه، أما الفقير فهو في أغلب الأحوال عاجز عن دفع الضمان، فيظل رهين محبسه، وقد تقضي المحكمة ببراءته مما نسب إليه، فتكون النتيجة أنه حبس لا لأنه أجرم بل لأنه عجز عن دفع الكفالة، أو بتعبير آخر: لأنه فقير. وتمييز الظاهرين من أفراد الجماعة: وتميز القوانين الوضعية الظاهرين من أفراد الجماعة على غيرهم، ومن الأمثلة على ذلك في القانون المصري أن لوكيل النيابة أن يرفع الدعوى العمومية على المتهم في جنحة دون استئذان جهة ما، ولكن إذا كان المتهم موظفاً أو محامياً أو طبيباً أو عضواً في البرلمان أو شخصية ظاهرة فإن وكيل النيابة لا يستطيع رفع الدعوى العمومية إلا بعد استئذان جهات معينة، ويجوز لوكيل النيابة أن يحفظ القضية اكتفاء بجزاء إداري يوقع على الموظف أو الطبيب أو المحامي، وبذلك ينجو المتهم من العقوبة الجنائية، ومثل هذا الحفظ غير ممكن بالنسبة لأفراد الشعب العاديين.   (1) المادة 180 من قانون تحقيق الجنايات المصري. (2) المواد من 104 إلى 110 من قانون تحقيق الجنايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ويجيز القانون المصري لمن وقع عليه ضرر من جريمة أن يطالب بتعويض ما أصابه من الضرر، والمحاكم حين تقدر هذا التعويض تراعي مركز الشخص وماله، وما أصابه من ضرر وما فاته من نفع، فلو أن مدير شركة وعاملاً في نفس الشركة أصيبا في حادث واحد بإصابات متماثلة فطالبا بتعويض، لكان التعويض الذي يحكم به لمدير الشركة ضخماً كبيراً، ولكان التعويض الذي يحكم به للعامل تافهاً ضئيلاً. وقد جرى الشارع المصري على هذه الطريقة فيما حدده من تعويضات عن إصابات العمال أثناء عملهم بإصابات تؤدي إلى تعطيلهم أو عجزهم أو وفاتهم، حيث أوجب أن يكون تعويض العامل أو ورثته على أساس مرتب العامل في مدة معينة ولمدة معينة. فإن كان مرتبه صغيراً كان تعويضه كذلك، وإن كان مرتبه كبيراً كبر التعويض (1) . ويترتب على ذلك أنه لو أصيب عاملان معاً في مصنع واحد، وفي حادث واحد، وتحت ظروف واحدة، ففقد كل منهما ذراعه الأيمن، أو يده اليمنى، أو إبهامه الأيمن مثلاً، فإن صاحب المرتب الأقل منهما يكون تعويضه أقل من التعويض الذي يصرف لزميله. 235 - بين القانون والشريعة: هذه هي نظرية المساواة كما تطلع علينا بها القوانين الوضعية الحديثة؛ لا يزال مهيضة الجناح، مقصوصة الأطراف، لم تسو بين الرؤساء والمرءوسين، والحاكمين والمحكومين، ولم تسو بين الفرد والفرد، ولا بين الجماعة والجماعة، ولا بين الغني والفقير. وقد يدهش بعض الذين لا يعلمون أن يعلموا أن نظرية المساواة التي لم يتم نضجها وتكوينها في القانون الوضعي الحديث قد نضجت تمام النضج وتكوين تمام التكوين ووصلت إلى أقصى مداها الشريعة الإسلامية، ولا تمتاز الشريعة   (1) المواد من 25 إلى 29 من قانون 64/ 1936 الخاص بإصابات العمال والجدول الملحق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الإسلامية على القوانين الوضعية بهذا فقط، بل تمتاز عليها أيضاً بأنها عرفت نظرية المساواة على هذا الوجه من أربعة عشر قرناً، بينما لم تبدأ القوانين الوضعية بمعرفتها إلا في آخر القرن الثامن عشر. ويستطيع المفكرون المثاليون طلاب المساواة التامة أن يرجعوا إلى الشريعة الإسلامية، فإن المساواة التامة التي يبحثون عنها قائمة في الشريعة، يحوطها من جمال التكوين، وجلال التقنين، وعدالة التشريع، ما يبهر أبصارهم ويحير ألبابهم، ولكنه دون شك يحقق أحلامهم ويشبع أطماعهم. 236 - نظرية المساواة في الشريعة: جاءت الشريعة من يوم نزولها بنظرية المساواة التامة، فقررت المساواة على إطلاقها، فلا قيود ولا استثناءات، وإنما مساواة تامة بين الأفراد، ومساواة بين الجماعات، ومساواة تامة بين الأجناس، ومساواة تامة بين الحاكمين والمحكومين، ومساواة تامة بين الرؤساء والمرءوسين، لا فضل لرجل على رجل، ولا لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي. وذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وذلك ما أكده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "الناس سواسية كأسنان المشط الواحد، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، وفي قوله: "إن الله قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرهم بآبائهم، لأن الناس من آدم، وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم". فالناس جميعاً في الشريعة متساوون على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، متساوون في الحقوق، متساوون في الواجبات، متساوون في المسؤوليات، وهم في ذلك كأسنان المشط الواحد لا تزيد سن عن سن، ولا تنقص سن عن سن، أو هم في ذلك كأبناء الرجل الواحد والمرأة الواحدة، ترشحهم وحدة أصلهم إلى المساواة في حقوقهم وواجباتهم ومسؤولياتهم، لا فضل لرجل على رجل كما يفضل اليوم أبناء إنجلترا وفرنسا على أبناء المستعمرات التابعة لهاتين الدولتين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ولا فضل لأبيض على أسود كما يفضل اليوم الأمريكي الأبيض على الأمريكي الأسود، ولا فضل لعربي على عجمي، أي لا فضل لجنس على جنس كما ادعت ألمانيا وغيرها من دول أوروبا أفضليتها على بقية الأجناس. والتقوى هي وحدها نصاب التفاضل بين الناس في الشريعة الإسلامية، ولكنه تفاضل في حدود معينة، تفاضل بين الناس عند ربهم فقط، فأكرمهم عند الله أتقاهم، وكون التقي كريماً على الله لا يعطيه حقاً عند الناس يزيد على ما لغيره من الحقوق، فالتقوى صفة تؤثر في صلة الإنسان بربه أكثر مما تؤثر في صلة الإنسان بغيره، والتفاضل الذي ينشأ عن التقوى هو تفاضل معنوي لا مادي. وتطبق الشريعة مبدأ المساواة إلى أوسع مدى يتصوره العقل البشري، ولهذا لا تفرق نصوصها بين الرؤساء والمرءوسين، ولا بين الملوك والسوقة، ولا بين ممثلي الدول السياسيين والرعايا العاديين، ولا بين ممثلي الشعب وأفراده، ولا بين الأغنياء والفقراء، ولا بين الظاهرين والخاملين، وسنبين فيما يلي حكم هذه الحالات التي جعلناها أمثلة على انعدام المساواة في القوانين. 237 - المساواة بين رؤساء الدول والرعايا: تسوي الشريعة بين رؤساء الدول والرعايا في سريان القانون، ومسئولية الجميع عن جرائمهم، ومن أجل ذلك كان رؤساء الدول في الشريعة أشخاصاً لا قداسة لهم، ولا يمتازون عن غيرهم، وإذا ارتكب أحدهم جريمة عوقب عليها كما يعاقب أي فرد. ولقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو نبي ورئيس دولة لا يدعي لنفسه قداسة ولا امتيازاً، وكان يقول دائماً: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110] ، و {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء: 93] ، وكان قدوة لخلفائه وللمسلمين في توكيد معاني المساواة بين الرؤساء والمرءوسين. دخل عليه أعرابي فأخذته هيبة الرسول، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "هوَّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد"، وتقاضاه غريم له دَيْناً فأغلظ عليه، فهم به عمر بن الخطاب، فقال الرسول: "مه يا عمر، كنتُ أحوج إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 أن تأمرني بالوفاء، وكان أحوج إلى أن تأمره بالصبر" (1) . وخرج أثناء مرضه الأخير بين الفضل ابن عباس وعلي حتى جلس على المنبر، ثم قال: "أيها الناس من كنت جلدتُ له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء من قِبَلي فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إليَّ من أخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس". ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى (2) . وجاء خلفاء الرسول من بعده فنسجوا على منواله، واهتدوا بهديه، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يصعد المنبر بعد أن بويع بالخلافة، فتكون أول كلمة يقولها توكيداً لمعنى المساواة، ونفياً لمعنى الامتياز، قال: أيها الناس، قد وُليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. ثم يعلن في آخر كلمته أن من حق الشعب الذي اختاره أن يعزله، فيقول: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم (3) . وهذا عمر بن الخطاب يولى الخلافة فيكون أكثر تمسكاً بهذه المعاني، حتى إنه ليرى قتل الخليفة الظالم. خطب يوماً فقال: لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جَنِفَ قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلتَ وإن تعوج عزلوه، قال: لا، القتل أنكل لمن بعده (4) . وأعطى أبو بكر القَوَد من نفسه، وأقاد للرعية من الولاة. وفعل عمر بن   (1) زاد المعاد ج1 ص59. (2) تاريخ ابن الأثير ج2 ص154. (3) تاريخ ابن الأثير ج2 ص160. (4) تاريخ ابن الأثير ج3 ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الخطاب مثل ذلك، وتشدد فيه، فأعطى القود من نفسه أكثر من مرة (1) . ولما قيل له في ذلك قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي القود من نفسه، وأبا بكر يعطي القود من نفسه، وأنا أعطي القود من نفسي (2) . ومن تشدد عمر في هذا الباب أنه ضرب رجلاً، فقال له الرجل: إنما كنتُ أحد رجلين: رجل جهل فعُلَّم، أو أخطأ فعُفي عنه. فقال له عمر: صدقت، دونك فامتثِل؛ أي اقتص (3) . وأخذ عمر الولاة بما أخذ به نفسه، فما ظلم وال رعيته إلا أقاد من الوالي للمظلوم، وأعلن على رءوس الأشهاد مبدأه في موسم الحج، حيث طلب ولاة الأمصار أن يوافوه في الموسم، فلما اجتمعوا خطبهم وخطب الناس قال: أيها الناس، إني ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فُعل به شئ سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفس عمر بيده لأقصنَّه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيتك إن كان رجل من المسلمين على رعيته فأدب بعض رعيته إنك لتقصنه منه؟ فقال: أي والذي نفس عمر بيده، إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقصه وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقص من نفسه (4) . وقد جرى العمل في الشريعة على محاكمة الخلفاء والملوك والولاة أمام القضاء العادي، وبالطريق العادي، فهذا هو علي بن أبي طالب في خلافته يفقد درعاً له ويجدها مع يهودي يدعي ملكيتها، فيرفع أمره إلى القاضي، فيحكم لصالح اليهودي ضد علي. وهذا هو المغيرة والي الكوفة يُتهم بالزنا، فيحاكم على الجريمة   (1) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص113 - 115. (2) الأم ج6 ص44. (3) الخراج لأبي يوسف ص65. (4) تاريخ ابن الأثير ج3 ص308، كتاب الخراج لأبي يوسف ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 المنسوبة إليه بالطريق العادي. ويقص علينا التاريخ أن المأمون وهو خليفة المسلمين اختصم مع رجل بين يدي يحيى بن أكثم قاضي بغداد، فدخل المأمون إلى مجلس يحيى وخلفه خادم يحمل طِنْفِسةً لجلوس الخليفة، فرفض يحيى أن يميز الخليفة على أحد أفراد رعيته، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تأخذ على صاحبك شرف المجلس دونه، فاستحيا المأمون ودعا للرجل بطنفسة أخرى. وبعض الخصومات التي كانت تثور بين الخليفة والولاة وبين الأفراد كانت تفض بطريق شرعي بحت "هو التحكيم"، كما فعل عمر ابن الخطاب، فقد أخذ فرساً من رجل على سَوْم فحمل عليه فعَطِبَ، فخاصم الرجل عمر، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً، فقال الرجل: إني أرضى بشريح العراقي، فقال شريح لعمر: أخذته صحيحاً سليماً فأنت له ضامن حتى ترده صحيحاً سليماً، وكان هذا الحكم الذي صدر ضد عمر هو الذي حَفَزَ عمر لتعيين شريح قاضياً. وفقهاء الشريعة الإسلامية وإن كانوا يشترطون في الإمام - أي رئيس الدولة الإسلامية - شروطاً لا تتوفر في كل شخص، إلا أنهم يسوونه بجمهور الناس أمام الشريعة، ولا يميزونه عنهم في شئ. وهذا متفق عليه فيما يختص بالولاة والحكام والسلاطين والملوك الذين يخضعون للخليفة أو يستمدون سلطتهم منه، إلا أنهم اختلفوا في الإمام الذي ليس فوقه إمام، ولهم في سريان نصوص الشريعة عليه نظريتان: النظرية الأولى: وهي نظرية أبي حنيفة، ويرى أن كل شئ فعله الإمام الذي ليس فوقه إمام مما يجب به الحد كالزنا والشرب والقذف لا يؤاخذ به إلا القصاص والمال، فإنه إذا قتل إنساناً أو أتلف مال إنسان يؤاخذ به؛ لأن الحد حق الله تعالى، وهو المكلف بإقامته ومن المتعذر أن يقيم الحد على نفسه؛ لأن إقامته بطريق الخزي والنكال ولا يفعل ذلك أحد بنفسه، ولا ولاية لأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 عليه ليستوفيه؛ ولأن فائدة الإيجاب الاستيفاء، فإذا تعذر لم يجب، بخلاف حقوق العباد كالقصاص وضمان المتلفات؛ لأن حق استيفائها لمن له الحق فيكون الإمام فيه كغيره، وإن احتاج إلى المنَعَة فالمسلمون منعته فيقدر بهم على الاستيفاء، فكان الوجوب مفيدا (ً (1) . وخلاصة ما سبق أن الجرائم التي تمس حقوق الجماعة لا يعاقب عليها الإمام الذي ليس فوقه إمام؛ لا لأنه معفي من العقاب، ولكن لتعذر إقامة العقوبة عليه، إذ أنه صاحب الولاية على غيره، وليس لغيره ولاية عليه حتى يقيم عليه العقوبة، ولأن ولاية العقاب في الجرائم التي تمس حقوق الجماعة للإمام وليست للأفراد، وإذا كانت الشريعة توجب العقاب على هذه الجرائم، إلا أن ولاية الإمام على حق العقاب في هذه الجرائم تمنع من العقاب على الجرائم التي يرتكبها الإمام، حيث لا يعقل أن يعرض الإمام نفسه للخزي والنكال بإقامة الحد على نفسه، وإذا امتنع تنفيذ العقوبة فقد امتنع الواجب وهو العقاب، وإذا امتنع الواجب لم يعد واجباً. فالفعل المحرم في رأي أبي حنيفة يظل محرماً ويعتبر جريمة، ولكن لا يعاقب عليه لعدم إمكان العقاب. ويترتب على هذا أن الإمام لو زنا وهو محصن فقتله أي فرد من الأفراد فإن القاتل لا يعاقب على القتل؛ لأنه قتل شخصاً مباح الدم (2) ، إذ الزنا من محصن عقوبته الموت، ولما كانت عقوبة الزنا من الحدود، والحدود لا يجوز تأخيرها ولا العفو عنها، فإن قتل الزاني المحصن يعتبر واجباً لا بد منه إزالة للمنكر، وتنفيذاً لحدود الله، فمن يقتل الزاني المحصن فإنه يؤدي واجباً عليه، ومن ثم فلا يمكن اعتباره قاتلاً. أما الجرائم التي تمس حق الأفراد كالقتل والجرح، فيرى أبو حنيفة أن   (1) شرح فتح القدير ج4 ص160، 161، البحر الرائق ج5 ص20، الزيلعي ج3 ص187. (2) حاشية الطهطاوي ج4 ص260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الإمام الذي ليس فوقه إمام يؤخذ بها ويعاقب عليها؛ لأن حق استيفائها ليس له أصلاً، وإنما هو للمجني عليهم وأوليائهم، وإذا قام الإمام باستيفاء العقوبة في هذه الجرائم فإنما يقوم به نيابة عن الأفراد، ولمنع الحيف والإضرار بالغير. فإذا ارتكب الإمام جريمة من هذا النوع كان للأفراد أصحاب الحق الأصلي في استيفاء العقوبة أن يستوفوا العقوبة من الإمام مستعينين في ذلك بالقضاء وبالجماعة، وإذا ما استوفي الأفراد العقوبة الواجبة عن غير طريق القضاء فلا حرج عليهم؛ لأنهم فعلوا ما هو حقهم (1) . وإذا ولى الإمام نائباً عنه أو قاضياً للحكم في كل الجرائم، كان من حق النائب أو القاضي أن يأخذ الإمام الذي ليس فوقه إمام بكل جريمة سواء مست حقاً لله أو حقاً للأفراد (2) . وعلى هذا لو ترك للمحاكم تطبيق الشريعة أخذاً بنظام فصل السلطات، كان للمحاكم أن تحكم على الإمام الذي ليس فوقه إمام بعقوبة أية جريمة يرتكبها. ويؤخذ على نظرية أبي حنيفة أنها تقوم على أساس ضعيف؛ لأن الإمام ليس إلا نائباً عن الجماعة، ولأن الخطاب في التشريع الإسلامي موجه للجماعة وليس للإمام، وإنما أقامت الجماعة الإمام ليقيم أحكام الشريعة، ويرعى صالح الجماعة، فإذا ارتكب أحد الأفراد جريمة كان للإمام أن يعاقبه بما له من حق القيام على تنفيذ نصوص الشريعة نيابة عن الجماعة، وإذا ارتكب الإمام نفسه جريمة عاد للجماعة حقها، وعاقبت الإمام حيث لا يصلح للنيابة عنها في هذه الحالة. النظرية الثانية: وهي نظرية مالك والشافعي وأحمد، وهؤلاء لا يفرقون بين جريمة وجريمة، ويرون الإمام مسئولاً عن كل جريمة ارتكبها سواء تعلقت بحق الله   (1) شرح فتح القدير ج4 ص161. (2) نفس المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 أو بحق الفرد؛ لأن النصوص عامة والجرائم محرمة على الكافة بما فيهم الإمام، معاقب عليها ممن ارتكبها ولو كان الإمام، ولا ينظر هؤلاء الأئمة إلى إمكان تنفيذ العقوبة كما ينظر الحنفية؛ لأن تنفيذ العقوبات ليس للإمام وحده، وإنما له ولنوابه، فإذا ارتكب جريمة وحكم عليه بعقوبتها نفذ العقوبة على الإمام أحد من ينوبون عنه ممن لهم تنفيذ هذه العقوبة (1) . ولم يكتف الفقهاء بتقرير عقوبة رئيس الدولة الأعلى على ما يرتكبه من جرائم، بل بحثوا فيما كان ينعزل بارتكابه الجرائم، فرأى البعض أن الإمام ينعزل بارتكابه المحظورات، وإقدامه على المنكرات، تحكيماً للشهوة وانقياداً للهوى؛ لأن عمله هذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة، ويمنع من استدامتها (2) . 238 - رؤساء الدول الأجنبية: وإذا كانت الشريعة لا تميز رئيس الدولة الإسلامية الأعلى فهي من باب أولى لا تميز رئيس دولة أجنبية (3) ، وإذن فالشريعة تسري على رؤساء الدول الأجنبية وعلى رجال حاشيتهم أثناء وجودهم في دار الإسلام، فإذا ارتكبوا أية جريمة عوقبوا عليها. وإذا كان أبو حنيفة يرى عدم إمكان عقاب الإمام على الجرائم التي تمس حقوق الجماعة، فإن هذا الرأي لا يفيد رؤساء الدول الأجنبية شيئاً؛ لأن أساس هذا الرأي أن   (1) المدونة ج16 ص57، مواهب الجليل ج6 ص242، 296، 297، الإقناع ج4 ص244، 245، الشرح الكبير ج9 ص342، 343، 382، المهذب ج3 ص189، الأم ج6 ص36، فقه القرآن والسنة ص97. (2) الأحكام السلطانية للماوردي ص14، أسني المطالب ج4 ص111. (3) المقصود من الدول الأجنبية الدول المحاربة التي تقوم في دار الحرب، أما الدول الإسلامية فلا تعتبر إحداها أجنبية بالنسبة للأخرى، ولا تسمح قواعد الشريعة بإعفاء رؤساء الدول الإسلامية من عقوبات الجرائم التي ارتكبوها في دولة إسلامية أخرى، بل إنه يمكن عقابهم في هذه الدولة الإسلامية على الجرائم التي ارتكبوها في أي مكان من دار الإسلام، وعلى الجرائم التي ارتكبوها في دار الحرب، على التفصيل الذي بينا في الفقرة 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الإمام لا يمكن أن ينفذ العقوبة على نفسه، والعقوبة هنا لا تقع عليه وإنما تقع على غيره. على أن رؤساء الدول في دار الحرب وحاشيتهم يمكن أن يستفيدوا من نظرية أبي حنيفة في تطبيق الشريعة على المستأمن، ورؤساء الدول في دار الحرب وحاشيتهم ليسوا إلا مستأمنين، وطبقاً لهذه النظرية لا يعاقب المستأمن إلا على الجرائم التي تمس حتى الأفراد، أما الجرائم التي تمس حق الجماعة فلا يعاقب عنها. وقد علمنا أن أبا يوسف يخالف أبا حنيفة في هذا، ويرى كما يرى باقي الأئمة عقاب المستأمن على كل الجرائم التي يرتكبها في دار الإسلام (1) . 239 - رجال السلك السياسي: تسري الشريعة على رجال السلك السياسي فيما يرتكبون من جرائم في دار الإسلام، سواء تعلقت الجرائم بحقوق الجماعة أو بحقوق الأفراد، وليس في قواعد الشريعة ما يسمح بإعفائهم من تطبيق الشريعة عليهم، إلا إذا أخذنا بنظرية أبي حنيفة في المستأمن، وهي تقضي بسريان الشريعة على المستأمن إذا ارتكب جريمة تمس حق الأفراد، فإذا ارتكب جريمة تمس حق الجماعة فلا تسري عليه الشريعة. ويلاحظ أن رجال السلك السياسي الذين يمكن اعتبارهم مستأمنين هم الذين ينتمون لدولة محاربة ويمثلونها وليسوا مسلمين، أما المسلمون الذين يمثلون دولة محاربة أو دولة إسلامية فهؤلاء لا يعتبرون مستأمنين بحال، وحكمهم حكم أي مسلم يقيم في دار الإسلام. وليس في أخذ رجال السلك السياسي بجرائمهم ما يعيب الشريعة، ما دامت الشريعة تسوي بينهم وبين غيرهم من رعايا الدولة، وتجعل حكمهم حكم رئيس الدولة، ولكن العيب في التفرقة التي تأخذ بها القوانين الوضعية بحجة حمايتهم   (1) راجع الفقرة 214 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وتمكينهم من أداء وظائفهم؛ لأن الممثل السياسي الذي يرتكب الجرائم لا يستحق الحماية، ولا يصلح لأداء وظيفته، ولأنه لا يحمي الممثل شئ مثل ابتعاده عن الشبهات والمحرمات، وإذا خيف من اتخاذ الاتهام ذريعة للضغط على الممثل فهو خوف في غير محله؛ لأن هناك من وسائل الضغط ما هو أسهل وأسرع وأجدى من الاتهام، فمنع محاكمة الممثل السياسي لا يمنع من الضغط عليه والتأثير فيه، والحجج التي يبررون بها منع المحاكمة لا تبرر المنع بحال من الأحوال. 240 - أعضاء الهيئة التشريعية: لا تسمح قواعد الشريعة بإعفاء البرلمان من العقاب على الجرائم القولية التي يرتكبونها في دار البرلمان؛ لأن الشريعة تأبي أن تميز فرداً على فرد، أو جماعة على جماعة، ولأنها تأبي أن تسمح لفرد أو هيئة بارتكاب الجرائم مهما كانت وظيفة الفرد أو صفة الجماعة. وقد يظن البعض أن القانون يتفوق في هذه الناحية على الشريعة، ولكن قليلاً من التفكير يؤدي بنا إلى القطع بأن الشريعة تتفوق في هذه الناحية تفوقاً عظيماً، سواء نظرنا إلى المسألة من وجهتها الفنية، أو نظرنا إلى المسألة من الوجهة الاجتماعية والأخلاقية. فالقانون الوضعي يقوم في جرائم القول على قاعدة النفاق والرياء، ويعاقب الصادق والكاذب على السواء، والمبدأ الأساسي في القانون أنه لا يجوز أن يقذف امرؤ أخر أو يسبه أو يعيبه، فإن فعل عوقب سواء كان صادقاً فيما قال أو كاذباً. وإذا كان هذا المبدأ يحمي البرآء من ألسنة الكاذبين الملفقين، فإنه يحمي أيضاً الملوثين والمجرمين والفاسقين من ألسنة الصادقين. وبهذا المبدأ الذي قام عليه القانون انعدام الفرق بين الخبيث والطيب، والمسيء والمحسن، وانعدام الحد بين الرذيلة والفضيلة، وبهذا المبدأ انحط المستوى الأخلاقي بين الشعوب، فالطيب لا يستطيع أن ينقد الخبيث، والخبيث سادر في غيه، ذاهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 إلى نهاية طوره؛ لأنه لا يخشى رقيباً ولا حسيباً من الجماهير، ولا يستطيع امرؤ طبقاً لهذا المبدأ القانوني أن يسمي الأسماء بمسمياتها، وأن يصف الموصوفات بأوصافها، لا يستطيع أن يقول لمن زنى يا زاني، ولا يستطيع أن يقول لمن سرق يا سارق، ولا يستطيع أن يقول للمفتري يا كاذب، فإن قالها باء بالعقوبة، وباء الزاني والسارق والكاذب فوق حماية القانون بالتعويض المالي على ما نسب إليهم من قول هو عين الحق والصدق. ذلك هو مبدأ القانون في جرائم القول، يحرم على الناس أن يقولوا الحق وأن يتناهوا عن المنكر، وأن يحطوا من قدر المسيء ليرفعوا من قدر المحسن والإحسان. وقد شعر واضعوا القانون المصري بخطورة هذا المبدأ على الشعب إذا طبق على إطلاقه، فاستثنوا منه حالات أربع هي: 1 - حالة الطعن في أعمال موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية أو مكلف بخدمة عامة: فإن الطاعن لا يعاقب على طعنه إذا حصل بسلامة نية، وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، بشرط أن يثبت الطاعن حقيقة كل فعل أُسند إلى المقذوف (1) ، وقد تقرر هذا الاستثناء لإشعار الموظف والنائب والمكلف بخدمة عامة أن أعمالهم معرضة للانتقاد، فيدعوهم ذلك إلى الإحسان ما استطاعوه. 2 - حالة دعوة الأمة إلى الانتخاب: فإن نص المادة 68 من قانون الانتخاب يبيح الأقوال الصادقة عن سلوك المرشح وأخلاقة أثناء المعركة الانتخابية بالرغم من تحريم قانون العقوبات هذه الأقوال في الأوقات العادية، وقد جعلت هذه الإباحة ليستطيع كل مرشح وكل ناخب أن يقول ما يعرف عن سلوك المرشح وأخلاقه دون خوف من العقاب، وليسهل على الناخبين أن يميزوا بين المرشحين ويختاروا   (1) راجع المادة 302 من قانون العقوبات المصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 من يصلح للنيابة عنهم بعد أن يسمعوا عنه كل ما يتعلق بسلوكه وأخلاقه. 3 - حالة انعقاد البرلمان: فإن أعضاءه لا يؤاخذون على ما يبدونه من الأفكار والآراء في المجلسين طبقاً لنص المادة 109 من الدستور، وقد وضع هذا النص لتمكين نواب الأمة من أن يقولوا ما يشاءون دون تحرج أو خوف من المحاكمة والعقاب. ويلاحظ أن هذه الحالة تختلف عن الحالتين السابقتين في أن القاذف في الحالتين السابقتين لا ينجو من العقاب إلا إذا كان صادقاً فيما قال، أما عضو البرلمان فلا يحاكم ولا يعاقب سواء كان صادقاً فيما قال أو مختلقاً لما قال. 4 - حالة المحاكمة والتقاضي: فالمادة 309 من قانون العقوبات تنص على الإعفاء من العقاب على القذف أو السب الذي يحدث من الخصوم أو وكلائهم في دفاعهم الشفوي أو الكتابي أمام المحاكم، ولا يترتب عليه إلا المقاضاة المدنية أو المحاكمة التأديبية. ويلاحظ أن القاذف والساب لا يعاقب جنائياً على قذفه أو سبه سواء كان صادقاً أو كاذباً فيما قال. هذا هو مبدأ القانون المصري وهو نفس المبدأ الذي تأخذ به القوانين الوضعية بصفة عامة، وهذه هي مستثنيات المبدأ في مصر، وهي لا تكاد تختلف كثيراً عما في معظم القوانين الوضعية. والعيب الفني في نصوص القانون المصري هو التناقض الظاهر وانعدام الانسجام، فبينما المبدأ الأساسي يقوم على حماية الحياة الخاصة للأفراد، إذا بالاستثناءات تقوم على إباحة الحياة الخاصة والعامة، وبينما المبدأ الأساسي هو تحريم القول الصادق والكاذب على السواء، إذ ببعض الاستثناءات تبيح القول الصادق فقط، وبعضها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 يبيح القول الصادق والقول الكاذب معاً، وليس بعد هذا تناقض ولا اضطراب. والعيب الخلقي الاجتماعي أن القانون حين قرر حماية الحياة الخاصة للأفراد قد قضى بإفساد الحياة العامة للجماعة؛ لأن الأفراد هم الذين يكونون الجماعة، وإذا صلحوا صلحت الجماعة، ولا يمكن أن يتصور وجود جماعة صالحة أفرادها فاسدون، ولا شك أن حماية حياة الأفراد الخاصة يؤدي إلى فساد أخلاقهم، وهدم الوازع الأدبي في نفوسهم، فمن يحاول أن يوجد جماعة صالحة من هؤلاء قبل اجتثاث الفساد من نفوسهم فهو كمن يحاول إقامة بيت من لبنات تالفة غير متماسكة، فلا يكاد ينتهي من بنائه حتى يخر عليه من السقف أو ينتقض من القواعد. أما المبدأ الأساسي للجرائم القولية في الشريعة فأساسه تحريم الكذب والافتراء، وإباحة الصدق في كل الأحوال، ولذلك فلا عقاب في الشريعة على من يقول الحق، ولا مؤاخذة على من يسمي الأشياء بمسمياتها، والمواصفات بأوصافها، لا عقاب على من يقول للزاني يا زاني إذا أثبت أنه زان، ولا عقاب على من يقول للسارق يا سارق إذا أثبت أنه سارق، ولا عقاب على من يقول للكاذب إنك كاذب إذا لم يعد قول الحق. وليس لهذا المبدأ استثناءات ما، فكل إنسان يستطيع أن يطعن في أعمال الموظفين العموميين والنواب والمكلفين بخدمات عامة وينسب إليهم عيوبهم ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وله أن يتعدى أعمالهم العامة إلى أعمالهم وحياتهم الخاصة ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وليس لهم أن يتضرروا من عيوبهم ولا من الصفات القائمة في أعمالهم أو أشخاصهم. ولم تحم الشريعة الإسلامية الحياة الخاصة للموظفين العموميين ومن في حكمهم كما تفعل القوانين الوضعية؛ لأن الشريعة لا تحمي النفاق والرياء والكذب، ولأن الشخص الذي لا يستطيع أن يسير سيرة حسنة في حياته الخاصة ليس أهلاً - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 في نظر الشريعة - لأن يتولى شيئاً من أمور الناس في حياتهم العامة. وكل إنسان في وقت الانتخاب وفي غير وقت الانتخاب يستطيع طبقاً للشريعة أن يقول للمحسن هذا محسن، وللمسيء هذا مسيء، ما دام يستطيع أن يثبت إساءة المسيء، وكل إنسان سواء كان عضواً في البرلمان أو في أي هيئة أخرى، أو كان عاطلاً من عضوية الهيئات على الإطلاق، له الحق في أن ينسب ما يشاء إلى من شاء، ما دام يستطيع أن يثبت ما ينسبه إلى هؤلاء. فليس في الشريعة كما في القانون ما يدعو إلى تحليل الصدق في وقت الانتخاب، وتحريمه في غير ذلك من الأوقات؛ لأن الشريعة توجب الصدق على الدوام، ولا تحرمه في أي ظرف من الظروف أو زمن من الأزمان. وليس في الشريعة كما في القانون ما يدعو إلى تحليل الصدق والكذب معاً لأعضاء البرلمان والمتقاضين؛ لأن ذلك يجعل الصدق والكذب بمنزلة سواء، والشريعة توجب الصدق كل الوجوب وتحرم الكذب كل التحريم، فلا تجمع في حكم واحد بين المتناقضين، ولأن أعضاء البرلمان هم أهل الرأي والشورى، فإذا أحل لهم الكذب وأمنوا العقوبة عليه كانوا أقرب إلى مظنة الوقوع فيه، وما قيمة الرأي والمشورة من قوم يظن فيهم أنهم لا يصدقون في كل الأحوال؟ ولأن الشريعة الإسلامية تقوم على المساواة، وفي تمييز أعضاء البرلمان والمتقاضين خروج على المساواة. هذا هو مبدأ الشريعة الإسلامية في الجرائم القولية؛ يقوم على الصدق وتحريم الكذب، ويقوم على المساواة والمنطق والأخلاق الفاضلة، ويرمي إلى إصلاح الجماعة وتقويمها، وتشجيع الصالح وكبت الطالح، وتربية الأفراد على الأخلاق الحسنة، ورفع مستوى الفضيلة بين الجماعة، وشتان بين هذا المبدأ في قوته وصلاحيته، وبين مبدأ القانون في ضعفه وتهافته. 241 - الأغنياء والفقراء: لا تفرق الشريعة بين الأغبياء والفقراء فهم لدى الشريعة سواء، وقواعد الشريعة لا تسمح أن يستفيد الغني من غناه أو أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 يضار الفقير بفقره، ولهذا لا تعترف الشريعة بنظام المالي أو الكفالة المالية إذا كانت العقوبة الحبس لا لشيء إلا أنه نظام يقوم على غير المساواة. والمعروف في الشريعة هو نظام الكفالة الشخصية، ويطبق في حالة الحبس للدين، فمن كان محبوساً لدين جاز أن يفرج عنه إذا كان له كفيل، ولا شك أن كل محبوس لدين يستطيع أن يجد شخصاً يكفله؛ لأن الحبس للدين لا يكون إلا عند الامتناع عن الدفع مع القدرة عليه، ولكن كل محبوس لا يستطيع أن يدفع فوراً قدراً من المال. أما الحبس في الجرائم على ذمة التحقيق والمحاكمة فيراه بعض الفقهاء نوعاً من التعزير، أي عقوبة اقتضتها حالة الاتهام التي نزلت بالمتهم، ويترتب على اعتبار هذا النوع من الحبس عقوبة أنه لا يمكن إخلاء سبيل المتهم بكفالة شخصية؛ لأن الكفالة لا تقبل في العقوبة. ويرى بعض الفقهاء أن الحبس في هذه الحالة حبس للاحتياط (1) وليس عقوبة، وعلى هذا الأساس تجوز فيه الكفالة الشخصية ولا شك أن كل محبوس حبساً احتياطياً يستطيع أن يجد له كفيلاً ولكن كل محبوس لا يستطيع أن يدفع ضماناً مالياً، وسواء اعتبرنا الحبس تعزيراً أو احتياطاً فإن قبول الكفالة الشخصية أو عدم قبولها أساسه المساواة التامة بين الأفراد. 242 - الظاهرون في الجماعة: لا تميز الشريعة الإسلامية بين الأفراد، فهم لدى الشريعة سواء، فالحاكم كالمحكوم، والشريف كالوضيع، والقوي كالضعيف، والنابه كالخامل. وقد عاتب الله رسوله عتاباً شديداً لأنه اهتم بأمر قادة قريش وسراتها أكثر مما اهتم بأمر فقير أعمى هو أبن أم مكتوم عمرو بن قيس، جاء يسأل الرسول أن يعمله مما علمه الله، وكان النبي مجتمعاً في هذا   (1) المدونة الكبرى ج16 ص14، 17، 18، المبسوط للسرخسي ج26 ص106، شرح فتح القدير ج4 ص117، نهاية المحتاج ج7 ص284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الوقت بصناديد قريش وسراتها يكلمهم في شأن الدعوة، فكره أن يقطع عليه ابن أم مكتوم كلامه، وظهرت هذه الكراهية في وجهه، وأعرض عنه وهو يطمع في استمالة القوم، فأنزل الله جل شأنه في ذلك الحادث قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى *فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 - 10] . وقد حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على تطبيق مبدأ وعدم التمييز بين الأفراد، من ذلك أنه طبق هذا المبدأ يوم أن سرقت امرأة من أشراف قريش، فتحدث الناس أن رسول الله عزم على قطع يدها، اعظموا ذلك وكلموا فيها الرسول، فقام خطيباً فقال: "ما إكثاركم على في حد من حدود الله، وقع على أمة من إماء الله؟ والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد نزلت بمثل الذي نزلت به لقطع محمد يدها". وخاصم عبد من عامة الناس عبد الرحمن بن عوف وهو من كبار الصحابة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغضب عبد الرحمن بن عوف، وسب العبد قائلاً: يا ابن السوداء. فغضب النبي أشد الغضب، ورفع يده قائلاً: "ليس لابن بيضاء على ابن سوداء سلطان إلا بالحق"، فاستخذى عبد الرحمن وخجل، ورأى أن يعتذر للعبد أوضح اعتذار وآلمه للنفس، فوضع خده على التراب، وقال للعبد: طأ عليها حتى ترضى. وكلنا يذكر قصة جبلة بن الأيهم، فقد داس أعرابي على إزاره وهما يطوفان بالكعبة، فلطمه جبلة، فشكاه الأعرابي إلى عمر بن الخطاب، فأمر بالقصاص، وعز على جبلة وهو شريف أن يقتص منه الأعرابي، فهرب ولحق بأرض الروم وتنصر، ثم أدركه الندم، فقال مقالته المشهورة: تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وكان عمر بن الخطاب حريصاً على التسوية بين الأشراف والعامة، وله في ذلك وقائع مشهورة (1) . والقاعدة في الشريعة أن التعويضات لا ينظر فيها إلى شخصية المجني عليه، ولا مركزه، ولا ثروته، وإنما يقدر التعويض على أساس نتيجة الفعل الذي وقع عليه، فإذا قتل شريف ووضيع فديتهما واحدة، وإذا أصيب عامل في شركة ومدير الشركة في حادث وترتب على الحادث أن فقد كل منهما ذراعاً أو أصبعاً عوض كل منهما تعويضاً مساوياً لتعويض الآخر. 243 - المسلمون والذميون: وتسوي الشريعة بين المسلمين والذميين في تطبيق نصوص الشريعة في كل ما كانوا فيه متساوين، أما ما يختلفون فيه فلا تسوي بينهم فيه؛ لأن المساواة في هذه الحالة تؤدي إلى ظلم الذميين، ولا يختلف الذميون عن المسلمين إلا فيما يتعلق بالعقيدة، ولذلك كان كل ما يتصل بالعقيدة لا مساواة فيه، والواقع أنه إذا كانت المساواة بين المتساوين عدل خالص فإن المساواة بين المتخالفين ظلم واضح، ولا يمكن أن يعتبر هذا استثناء من قاعدة المساواة، بل هو تأكيد للمساواة، إذ المساواة لم يقصد بها إلا تحقيق العدالة، ولا يمكن أن تتحقق العدالة إذا سوى بين المسلمين والذميين فيما يتصل بالعقيدة الدينية؛ لأن معنى ذلك هو حمل المسلمين على ما يتفق مع عقيدتهم، وحمل الذميين على ما يختلف مع عقيدتهم، ومعناه أيضاً عدم التعرض للمسلمين فيما يعتقدون، والتعرض للذميين فيما يعتقدون وإكراههم على غير ما يدينون، ومعناه أخيراً الخروج على قواعد الشريعة العامة التي تقضي بترك الذميين وما يدينون، والخروج على نص القرآن الصريح: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] . والجرائم التي تفرق فيها الشريعة بين المسلمين والذميين هي الجرائم القائمة على   (1) كتاب الخراج لأبي يوسف ص50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 أساس ديني محض كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، فالشريعة الإسلامية تحرم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ومن العدل أن يطبق هذا التحريم على المسلم الذي يعتقد طبقاً لدينه بحرمة شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ولكن من الظلم أن يطبق هذا التحريم على غير المسلم الذي يعتقد بأن شرب الخمر غير محرم وأن أكل لحم الخنزير لا حرمه فيه، ولو طبقت قاعدة المساواة تطبيقاً أعمي لأخذ الذميون بأفعال هي في عقيدتهم غير محرمة، وفي هذا ظلم بين، فكان من العدل الذي أخذت به الشريعة نفسها أن قصرت التحريم على المسلمين دون غيرها، فالمسلم إذا شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير ارتكب جريمة معاقباً عليها، أما الذمي فلا يعتبر شربه الخمر وأكله لحم الخنزير جريمة. ولكن يعاقب الذميون على الجرائم القائمة على أساس ديني إذا كان إتيانها محرماً في عقيدتهم، أو يعتبر عندهم رذيلة، أو إذا كان إتيان الفعل مفسداً للأخلاق العامة، أو ماساً بشعور الآخرين، فمثلاً شرب الخمر ليس محرماً في عقيدة الذميين ولكن السكر محرماً عندهم، أو هو رذيلة، فضلاً عن أنه مفسد للأخلاق العامة، ومن ثم كان الذميون معاقبين على السكر دون الشرب، فمن شرب حتى سكر عوقب، ومن شرب ولم يسكر فلا عقوبة عليه. والشريعة توجب الصوم على المسلم، وترى في عدم الصوم معصية، وفي التظاهر بالإفطار معصية، ولكنها لا تعاقب على عدم الصوم إلا المسلم؛ لأنه ملزم به طبقاً لعقيدته، ولأن غير المسلم ليس ملزماً بالصوم؛ لأنه لا يعتقد به، ولو حمل عليه بالعقوبة ظلم وأكره على عمل ما لا يعتقد، ولا إكراه في الدين. أما التظاهر بالإفطار فيعاقب عليه المسلم والذمي معاً؛ لأن الذمي وقد التزم أحكام الإسلام يجب عليه أن يمتنع عن كل ما يمس شعائر الإسلام وشعور المسلمين، وهذا دون شك في استطاعته، ولا يمس أي مساس بعقيدته، والتظاهر بالإفطار فيه مساس بشعيرة الصوم، وبشعور الصائمين، فإذا ما تظاهر الذمي بالإفطار عوقب على تظاهره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 بالإفطار، وإذا لم يتظاهر فلا عقاب عليه ولو أنه مفطر؛ لأن الصوم ليس واجباً عليه. 244 - ميزة للشريعة: ويترتب على التفرقة في تطبيق نصوص الشريعة بين المسلمين والذميين أن تكون الجرائم في الشريعة قسمين: قسم عام يعاقب على إتيانه كل المقيمين في دار الإسلام، وقسم خاص يعاقب على إتيانه دون غيرهم، ولا يمكن أن يقع إلا منهم، وأساس هذا القسم هو الدين. وليس في القوانين الوضعية الحديثة - على ما أعلم - قانوناً واحداً لم يسلك مسلك الشريعة من حيث جعل بعض الجرائم عاماً يقع من كل الرعايا، وبعضها خاصاً يقع من بعض الرعايا فقط، ولكن القوانين لا تجعل أساس التفرقة الدين. وقد اضطرت الشريعة الإسلامية لسلوك هذا الطريق لتحقيق العدالة، وتوفير حرية الاعتقاد، والمحافظة على النظام، وأساس النظام في الشريعة هو الإسلام. أما القوانين الوضعية فليس فيها ما يحمل واضعها على سلوك هذا الطريق؛ لأن القوانين تجرد عادة من كل ما له مساس بالعقائد والأخلاق والدين على العموم، ويكتفي فيها بحريم ما يمس علاقات الأفراد المادية، أو يمس الأمن، أو نظام الحكم. وقد أدت طريقة القوانين إلى فساد الأخلاق، وشيوع الفوضى، والتحلل من كل القيود، وأوجدت في الجماهير روح التمرد، والاستعداد للخروج على قواعد القانون والاستهانة بها، فكثرت الثورات والانقلابات، وصارت النظم تتغير يوماً بعد يوم، وكل نظام يلاقي مصير الذي سبقه. ولقد أوقع المشرعين الوضعيين في هذا الخطأ الفاحش أنهم أرادوا أن يحققوا المساواة، ويطبقوا مبدأ حرية الاعتقاد، فلم يروا وسيلة لتطبيق هذين المبدأين معاً إلا أن يجردوا القانون من كل ما يمس العقائد والأخلاق والأديان، فأدى بهم هذا التطبيق السيئ إلى هذه النتائج المحزنة، ولو أنهم أخذوا بطريقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الشريعة الإسلامية لضمنوا تحقيق ما شاءوا من مبادئ، ولمنعوا من وقوع هذه المساوئ. ولعل عذر المشرعين الوضعيين فيما حدث أن القوانين الوضعية كانت إلى ما قبل الثورة الفرنسية تقوم على أساس ديني يراعى فيه مذهب الحاكم واعتقاده، لا مذاهب المحكومين جميعاً وعقائدهم، بحيث كان المخالفون في العقيدة يحملون حملاً بسطوة القانون على اعتناق مذهب الحاكم أو عقيدته، وقد أدى هذا المسلك إلى إثارة الشحناء والبغضاء بين أفراد الشعب الواحد، وإراقة الدماء وتعدد المذابح، مما كان له رد فعل قوي حمل المشرعين على أن يعالجوا هذه الحالة بتجريد القوانين الحديثة من كل ما يمس العقائد والأخلاق والأديان، ولكن هذا العلاج أدى إلى نتائج لا تقل سوءاً كما رأينا، ولا أظن أن هناك علاجاً موفقاً كعلاج الذي ارتأته الشريعة، فإنه يؤدي إلى الأخذ بمبدأي المساواة وحرية الاعتقاد، كما يؤدي في الوقت نفسه إلى الاحتفاظ بالقيم الأخلاقية والروحية، وهي الأساس الأول في احترام الشرائع والقوانين. ويجب ألا ننسى حين نقارن القوانين الوضعية بالشريعة الإسلامية، أن الشريعة الأخيرة شريعة دينية أساسها الإسلام، فلا يمكن بطبيعة الحال أن تتجه اتجاهاً يخالف الإسلام، وأن الدين الإسلامي يعتبر النظام الأساسي للدولة بكل ما يشتمل عليه من صوم وصلاة وزكاة وحج وتوحيد، وبكل ما يوجبه ويحرمه، وهو نظام لا يقبل التجزئة بطبيعته، فليس من المستطاع الأخذ ببعضه وترك بعضه؛ لأن الأخذ ببعضه وترك بعضه هدم له. وقد فهم أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الوضع حق الفهم، فحاربوا مانعي الزكاة بعد وفاة الرسول واعتبروهم مرتدين، مع أن المسلمين كانوا في أشد الحاجة إلى المسالمة في هذا الوقت العصيب الذي انتفضت فيه شبه جزيرة العرب كلها على المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 فالشريعة إذن لا يمكن بأي حال أن تتخلى عن العقاب على الجرائم الدينية أو الأخلاقية؛ لأنها تقوم على النظام الإسلامي، ولأنها وجدت لحماية هذا النظام والمحافظة على مقوماته، فلابد أن تحرم كل ما يسمه وتعاقب عليه. ولا يصح أن يعتبر عيباً في الشريعة الإسلامية، لأنه صفة أساسية لاصقة بكل نظام أقيم أو يقام على وجه الأرض، فكل نظام له أسسه التي يقوم عليها، ومقوماته التي لا يستمر بغيرها، ولا يمكن أن يقوم أي نظام وضعي إذا أهملت أسسه، وتجوهلت مقوماته، فالديموقراطية لها أسس معينة ومقومات خاصة، وكل نظام من هذه الأنظمة تختلف أسسه ومقوماته اختلافاً ظاهراً عن أسس النظام الآخر ومقوماته، ولا يمكن أن يعيش أي نظام من هذه الأنظمة إذا أهملت بعض أسسه أو تجوهلت بعض مقوماته؛ لأنه بهذه الأسس والمقومات وجد وعاش، وتميز عن غيره من الأنظمة، ونحن نعلم أن كل نظام من هذه الأنظمة الثلاثة يضع عقوبات قاسية على كل ما يمس أسس النظام أو يهدم مقوماته، فلا عيب إذن على الشريعة إذا عاقبت على كل ما يمس النظام الذي قامت عليه؛ لأن ما تفعله الشريعة هو طبيعة لازمة لكل نظام يراد له البقاء والنماء والاستقرار. وإذا كانت الشريعة تعاقب على ما لا تعاقب عليه القوانين الوضعية فليس ذلك بشيء؛ لأنه يرجع إلى تغاير النظم واختلاف طبائعها، وما دامت اتجاهات النظم مختلفة، وطبائعها مختلفة، فلا يمكن أن تتفق فيما تحل وفيما تحرم. والأمثلة على ذلك بارزة في الأنظمة الوضعية، فالشيوعية مثلاً تعاقب على الدعوة للنازية والديموقراطية، والنازية تعاقب على الدعوة للديموقراطية والشيوعية، والديموقراطية تحارب الشيوعية والنازية وتعاقب عليهما، والملكية الفردية مباحة إلى غير حد في البلاد الديموقراطية، ولكنها جريمة في البلاد الشيوعية. فاختلاف الأفعال المحرمة في النظم لا يمكن أن يكون عيباً بذاته، لأن قيمة النظام لا تقاس بما يحل وما يحرم، ولا بعمومه وخصوصه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وإنما يقاس بما يؤدي إليه من إسعاد الجماعة، ورقيها وتفوقها، ونشر العدل والمساواة والتراحم بين أفرادها. ولست أترك هذا الموضوع قبل أن أبين حقيقة مقررة في الشريعة الإسلامية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهي أن الشريعة نصت على أفعال معينة واعتبرتها جرائم، وأوجبت العقوبات عليها، ولم تجعل لولي الأمر حق العفو عن العقوبة أو الجريمة في بعض هذه الجرائم، وهي الحدود والقصاص، وجعلت له حق العفو عن الجريمة أو العقوبة في بعضها الآخر، وهي جرائم التعازير، كذلك ترك لولي الأمر أن يحرم كل الأفعال التي تقتضي مصلحة الجماعة والنظام العام تحريمها، وأهم هذه الأفعال هي الأفعال التي تخالف روح الشريعة أو مبادئها العامة، فإن رأى ولي الأمر أن المصلحة تقتضي تحريم فعل معين حرمه وعاقب عليه بعقوبة تعزيرية، وحق ولي الأمر في التحريم والعفو عن العقوبة أو الجريمة مقيد بالصالح العام والنظام العام؛ أي النظام الإسلامي وعلى هذا يمكن القول بأن كل الجرائم ذات الأساس الديني البحت لا خيار في العقاب عليها، لأن الجريمة إن كانت حداً فلا محيص من العقاب عليها، وإن كانت الجريمة تعزيراً فإن العفو عن العقوبة أو الجريمة مقيد بمصلحة النظام الإسلامي، ولا شك أن العفو في كل الأحوال يتنافى مع هذا النظام. كذلك فإن ولي الأمر ملزم بتحريم كل ما يتنافى مع روح الإسلام ومبادئه العامة وفرض عقوبة عليه، فسلطان ولي الأمر في التحريم وعدم التحريم والعفو وعدم العفو مقرر لمصلحة النظام الإسلامي، وليس لمصلحة ولي الأمر ولا لأية مصلحة أخرى. والعقوبة المقررة للجرائم الدينية إنما قررت لمصلحة النظام الإسلامي دون غيره، وما كان مقرراً لمصلحة نظام ما فلا يصح أن يجادل فيه من يريد إقامة هذا النظام، ولا يصح أن يتهاون في شأنه القائمون على أمر هذا النظام، ولا ضير في أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 تخالف الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في العقاب على الجرائم الدينية، فإن الخلاف راجع إلى اختلاف طبيعة النظم، ولن يثني هذا الخلاف المسلمين عن تفصيل النظام الإسلامي على غيره من الأنظمة، كما لم يثن الشيوعيين عن تحبيذ الشيوعية وتفضيلها على غيرها من الأنظمة، مع أنها تخالف كل نظام وضعي أو سماوي وجد على وجه الأرض حتى اليوم، كما أنها لا تتفق مع طبائع الأشياء. ولقد قلنا: إن الشريعة الإسلامية تقسم الجرائم إلى جرائم عامة تقع من كل الرعايا، وجرائم خاصة تقع من المسلمين دون غيرهم، وإن أساس هذه الجرائم الخاصة هو الدين. وقلنا: إن هذا المسلك غير غريب على القوانين الوضعية في اتجاهها الحديث وإن كانت لا تجعل أساس التفرقة الدين. وتفصيل ذلك أن القوانين الوضعية الحديثة لا تخلو من نصوص خاصة لا تنطبق إلا على بعض الأشخاص أو بعض الهيئات، كالنصوص التي تنطبق على القضاة دون غيرهم، أو على المحامين أو الأطباء، وهذه النصوص تحرم على بعض الأشخاص أو بعض الهيئات أفعالاً معينة، وتعاقب عليها بعقوبات خاصة، وتحريم بعض الأفعال على أشخاص أو فئات معينة يساوي ما فعلته الشريعة من عقاب المسلم على بعض الأفعال المحرمة عليه دون غيره، ومعنى ذلك أن القوانين الوضعية الحديثة قد اضطرت لحماية المصلحة الفردية والعامة أن تأخذ بالنظرية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية من أربعة عشر قرناً لحماية مصالح الجماعة ونظامها العام. 245 - هل تفرق الشريعة في العقوبة بين المسلم وغير المسلم؟: القاعدة في الشريعة أن من ارتكب جريمة عوقب بالعقوبة المقررة لها، وإذا كانت الشريعة تحرم الفعل على فئة دون فئة للأسباب التي بيناها فيما سبق فإن الشريعة لا تخص فئة بعقوبة دون فئة. والعقوبات في الحدود مقدرة، أي عقوبات ذات حد واحد لا تزيد ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 تنقص، وليس للقاضي أن يستبدل بها عقوبات أخرى، والعقوبات في جرائم القصاص مقدرة أيضاً، ولكن يصح أن يستبدل بها عقوبات أخرى إذا عفا المجني عليه أو وليه، أو كان مانع شرعي من العقوبة، وليس للقاضي حق الاستبدال، وعليه أن يطبق العقوبة الأصلية إذا لم يكن مانع أو عفو، فإن كان أحدهما طبق العقوبة البديلة، أما عقوبات التعزير فهي ذات حدين غالباً، وتقدير العقوبة متروك للقاضي ينزل بالعقوبة إلى حدها الأدنى، أو يرتفع بها إلى الحد الأعلى، بحسب ما يرى من ظروف الجريمة وظروف الجاني. وظاهر مما سبق أن طبيعة العقوبات في الشريعة لا تسمح بالتفريق في العقوبة بين فرد وفرد، ولا مسلم وغير مسلم، وأن لكل جريمة عقوبتها فمن ارتكب جريمة استحق عقوبتها سواء كان مسلماً أو غير مسلم. لكن هناك جرائم اختلف فيها الفقهاء على الشروط التي يجب توافرها في الجاني أو المجني عليه؛ ليستحق الجاني العقوبة المقررة لهذه الجرائم، وهذا الخلاف قد يدعو غير الملم بالشريعة أو بأحكام المذاهب المختلفة إلى الظن بأن الشريعة تفرق في العقوبة بين المسلم وغير المسلم، والجرائم المختلف عليه على وجه التحديد ثلاث: القتل العمد، الزنا، والقذف. فأما القتل العمد فعقوبته في الشريعة هي القصاص، ولكن مالكاً والشافعي وأحمد لا يجيزون القصاص من المسلم إذا قتل الذمي، وحجتهم ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا لا يقتل مسلم بكافر". أما أبو حنيفة فيرى القصاص من المسلم إذا قتل الذمي؛ لأنه لفظ الكافر بأنه من لا عهد له فلا ينطبق على الذمي لأنه ذو عهد، ويتمسك بعموم النص الذي جعل القصاص عقوبة لكل قتل. فالخلاف بين الفقهاء هنا هو الخلاف في تفسير نص، ولا شك أن التفسير الذي يسوي بين المسلم والذمي هو التفسير الذي يستقيم مع عموم النص ومع التسوية بين الاثنين في الجرائم عامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وفي الزنا لا خلاف على عقاب الزاني غير المحصن، فالمسلم غير المحصن والذمي غير المحصن عقوبتهما واحدة وهي الجلد، ولكن الفقهاء اختلفوا في الزاني المحصن، فرأى أبو حنيفة أن الذمي لا يمكن أن يعاقب بالرجم وهو العقوبة المقررة للزاني المحصن، وحجته أم من شروط الإحصان الإسلام فلا يمكن اعتبار الذمي محصناً؛ ولذلك فعقوبته في كل الأحوال الجلد، أما المسلم المحصن فعقوبته الرجم. ورأى مالك والشافعي وأحمد أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان، ومن ثم فالذمي المحصن يعاقب عندهم بالرجم كالمسلم. فالخلاف بين الفريقين أساسه تفسير لفظ الإحصان. والقذف من أركانه الإحصان لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] ، فإذا فسر لفظ الإحصان على أن من شروطه الإسلام ترتب على هذا التفسير أن يعاقب قاذف المسلم بعقوبة الحد وهي الجلد ثمانين جلدة، ويعاقب قاذف الذمي بالتعزير، والتعزير قد يكون جلداً أو حبساً أو غير ذلك، وقد يكون أخف من عقوبة الحد، وقد يكون أنكى منها. وظاهر من مقارنة النتائج في هذه الجرائم الثلاث أن الأمر لا يسير على نهج واحد، ولا ينتهي بنتائج واحدة، فإذا كانت النتيجة في القتل تخفيف عقوبة المسلم، فقد كانت في الزنا تخفيف عقوبة الذمي، وتشديد عقوبة المسلم. أما في القذف فقد تكون النتيجة في صالح الذمي وقد تكون ضده. وهذه النتائج التي تنتهي إليها آراء الفقهاء تكفي بذاتها لدفع ما يمكن أن يظن من أن الشريعة تميز المسلم على غير المسلم في العقوبة، كما أن هذه النتائج تؤيد ما قلناه من أن المسألة ترجع إلى تفسير النصوص والاختلاف على فهمها، ولا ترجع إلى أن الشريعة تميز فريقاً على فريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 246 - مبدأ الشريعة في سريان النصوص الجنائية على الأشخاص: ويتضح مما سبق أن نصوص الشريعة تسري على كل الأشخاص، ولا يعفي منها أي شخص مهما كان مركزه أو ماله أو جاهه أو صفاته، وأن الشريعة تطبق مبدأ المساواة إلى آخر حدوده، ولا تسمح بتمييز شخص على شخص، أو هيئة على هيئة، أو فريق على فريق. هذه هي المساواة في الشريعة الإسلامية، وهذا هو تطبيقها في سريان النصوص الجنائية. ولا شك أن الشريعة أجل من أن تقارن بالقوانين الوضعية في هذا الوجه، فالقوانين على ما استحدث لها من نظريات لا تزال أدنى مستوى من الشريعة، ويستطيع كل منصف بعد هذه المقارنة التي عقدناها أن يقول: إن نظرية المساواة بلغت في الشريعة درجة الكمال المطلق، ولكنها في القانون لا تزال كالطفل الذي يحسن أن يحبو ولا يستطيع أن يقف على قدميه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الباب الثاني الركن المادي للجريمة 247 - منهاج البحث: يتوفر الركن المادي للجريمة بإتيان الفعل المحظور سواء كانت الجريمة إيجابية أو سلبية، وقد يتم الجاني الفعل فتعتبر الجريمة تامة، كمن سرق متاعاً من آخر وخرج به من الحرز، وقد لا يتم الجاني الفعل فتعتبر الجريمة غير تامة، كمن يضبط قبل الخروج بالمسروقات من الحرز أو بعد خروجه مباشرة، وهذا ما نسميه اليوم في اصطلاحنا القانوني بالشروع في الجريمة. وقد يرتكب الفعل المحرم شخص واحد، وقد يتعاون على ارتكابه جماعة يتفقون على الجريمة فينفذها أحدهم أو بعضهم، أو يحرض بعضهم بعضاً، أو يساعد بعضهم البعض الآخر ويعينه حال ارتكابها، وهذا ما يسمى بالاشتراك في الجريمة. فالكلام على الركن المادي يتناول الكلام على الجريمة التامة، والشروع، والاشتراك. ومحل الكلام على الجريمة التامة هو القسم الجنائي الخاص حيث تبحث كل جريمة وتبين أركانها وشرائطها وعقوباتها، وهذا ما يوجبه منطق الفصل بين القسم العام والقسم الخاص، أما الشروع والاشتراك فسنتكلم عليهما فيما يأتي، وسنخصص لكل منهما فصلاً خاصاً. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الفصل الأول الشروع في الجريمة 248 - الفقهاء والشروع في الجريمة: لم يهتم فقهاء الشريعة بوضع نظرية خاصة للشروع في الجرائم ولم يعرفوا لفظ الشروع بمعناه الفني كما نعرفه اليوم، ولكنهم اهتموا بالتفريق بين الجرائم التامة والجرائم غير التامة، ويمكننا أن نرد عدم اهتمامهم بوضع نظرية خاصة بالشروع لسببين. أولهما: أن الشروع في الجرائم لا يعاقب عليه بقصاص (1) ولا حد وإنما يعاقب عليه بالتعزير أياً كان نوع الجريمة. وقد جرى الفقهاء على أن يهتموا فقط بجرائم الحدود والقصاص؛ لأنها جرائم ثابتة لا يدخل على أركانها وشروطها التغيير أو التعديل، كما أن عقوبتها مقدرة ليس للقاضي أن يغلظها أو يخففها، أما جرائم التعزير فإذا استثنينا العدد القليل الذي نصت عليه الشريعة كتحريم الميتة وخيانة الأمانة، فإن معظم الجرائم التعزيرية متروك أمرها للسلطة التشريعية أي لأولي الأمر، يحرمون من الأفعال ما يرونه ماساً بالمصلحة العامة أو النظام العام، ويعاقبون عليه، ويتركون ما لا يرون ضرورة للعقاب عليه، كما أن تقدير العقاب في جرائم التعزير عامة متروك لأولي الأمر سواء كان التحريم بنص الشريعة أو كان التحريم راجعاً لأولي الأمر. فيستطيع ولي الأمر أن يخفف عقوبات جرائم التعازير وأن يشددها طبقاً لما تقتضيه المصلحة العامة، وللقاضي بعد ذلك سلطة واسعة في توقيع العقوبة، فله أن ينزل بها إلى الحد الأدنى، وأن يرتفع بها إلى الحد الأعلى، ويترتب على ذلك أن جرائم التعازير ليست ذات أهمية بالنسبة لجرائم الحدود والقصاص، وأن جرائم   (1) يعاقب على الشروع في القتل إذا أدى لجرح أو قطع بالقصاص كلما كان ذلك ممكناً، ولكن العقاب في هذه الحالة ليس على الشروع في القتل الذي لم يتم، وإنما على الجرح أو القطع باعتبار أن ما حدث هو جريمة تامة، وسيأتي تفصيل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 التعازير جرائم عقوباتها غير ثابتة قد يعاقب عليها بعقوبات تافهة وقد يعاقب عليها بعقوبات جسيمة، وأن أغلب جرائم التعازير قد يعاقب عليها في زمان دون زمان ومكان دون مكان، وقد تتغير أركانها بتغير وجهة نظر أولي الأمر. ولهذا كله لم يتكلم الفقهاء عن جرائم التعازير إلا كلاماً عاماً، ولم يدخلوا في تفاصيل أركان الجريمة وشروطها، وعلى هذا الأساس لم يتكلموا عن الشروع بصفة خاصة؛ لأنه من جرائم التعازير. ثانيهما: أن قواعد الشريعة الموضوعة للعقاب على تعازير منعت من وضع قواعد خاصة للشروع في الجرائم، لأن قواعد التعازير كافية لحكم جرائم الشروع. فالقاعدة في الشريعة أن التعزير يكون في كل معصية ليس فيها حد مقدر ولا كفارة، أي أن كل فعل تعتبره الشريعة معصية هو جريمة يعاقب عليها بالتعزير ما لم يكن معاقباً عليها بحد أو كفارة، ولما كان الحد والكفارة لا يعاقب بها إلا على جرائم معينة أتمها الجاني فعلاً، فإن كل شروع في فعل محرم لا يعاقب عليه إلا بالتعزير، ويعتبر كل شروع معاقب عليه معصية في حد ذاته أي جريمة تامة، ولو أنه جزء من الأعمال المكونة لجريمة لم تتم، ما دام الجزء الذي تم محرماً لذاته، ولا استحالة في أن يكون فعل ما جريمة معينة إذا كان وحده، وأن يكون مع غيره جريمة من نوع آخر. فالسارق إذا ما نقب البيت ثم ضبط قبل أن يدخله يكون مرتكباً لمعصية تستوجب العقاب، وهذه المعصية تعتبر في ذاتها جريمة تامة، ولو أنها بدء في تنفيذ جريمة السرقة، وعندها يتسلق السارق المنزل الذي يريد أن يسرق منه يرتكب معصية، وعندما يدخل البيت دون نقب أو تسلق بقصد السرقة يرتكب معصية، وإذا أذن له بدخول البيت فجمع متاعه ليسرقه فضبط قبل الخروج منه فهو مرتكب لمعصية، وهكذا كلما أتى السارق فعلاً تحرمه عليه الشريعة فهو مرتكب لمعصية؛ أي جريمة تامة تستوجب العقاب، إذا نظرنا إليها على حدة، ولو أن هذه المعصية تعتبر جزءاً من جريمة أخرى إذا نظرنا إلى جريمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 السرقة التي لم تتم، فإذا أتم الجاني سلسلة الأفعال المكونة لجريمة السرقة، وخرج بالمسروقات من الحرز، فإن كل الأفعال التي أتاها تكون مجتمعة جريمة معين هي السرقة، وبتمام جريمة السرقة تجب عقوبة الحد وهي العقوبة المقررة للسرقة التامة، ويمتنع التعزير على ما دون التمام؛ لأن كل الأفعال اندمجت وتكونت منها جريمة السرقة. والزاني إذا دخل بيت المرأة المزني بها يرتكب معصية، وإذا جلس معها في خلوة يرتكب معصية، وإذا قبلها يرتكب معصية، وكل هذه الأفعال تعتبر شروعاً في جريمة الزنا التي لم تتم، ولكن كل فعل منها يعتبر بذاته معصية تامة تستوجب التعزير، فإذا ما تمت جريمة الزنا وجب الحد وامتنع التعزير، لأن كل هذه المقدمات تكون مع الإيلاج جريمة واحدة تامة هي جريمة الزنا. وهكذا يتبين لنا مما سبق أنه لم يكن ثمة ما يدعو الفقهاء لوضع نظرية خاصة بالشروع في الجرائم، وإنما دعتهم الضرورة فقط إلى التفرقة بين الجريمة التامة والجريمة غير التامة في جرائم الحدود والقصاص، لأن الجريمة التامة دون غيرها هي التي تستوجب عقوبة الحد أو القصاص، أما الجرائم غير التامة فلا تستوجب هاتين العقوبتين وفيها التعزير فقط. ومن الخطأ البين أن يظن البعض أن الشريعة لا تعرف الشروع في الجرائم، إذ الظاهر مما تقدم أنها عرفت الشروع حق المعرفة، وكل ما في الأمر أنها عالجته بطريقتها الخاصة لا على طريقة القوانين الوضعية. ولم يعبر الفقهاء عن الجرائم غير التامة بتعبير الشروع في الجرائم، لأن الأفعال التي لم تتم تدخل في جرائم التعازير كلما تكون منها معصية، وتعتبر جرائم تامة بذاتها ولو أنها لم تكف لتكوين الجرائم المقصودة أصلاً، فليس هناك ما يدعو لتسميتها بالجرائم المشروع فيها ما دام أن ما تم منها يعتبر في ذاته جريمة تامة، وإذا عبرنا اليوم عن الجرائم غير التامة وقلنا إنها جرائم الشروع فلن نأتي بشيء جديد، وإنما هو إطلاق تسمية جديدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 على بعض جرائم التعازير، وتمييز لبعض جرائم التعازير عن بعضها الآخر، دون أن تكون هناك حاجة ملحة لهذه التسمية أو هذا التمييز، ودون أن يدفعنا إلى هذا التعبير إلا البيان والإقناع، ومقارنة نظرية الشريعة بما يقابلها في القوانين الوضعية. ونظرية الشريعة في الشروع أوسع مدى منها في القوانين الوضعية، فهي تعاقب على الشروع في كل جريمة إذا كون الفعل غير التام معصية، وهي تسير على هذه القاعدة دون استثناء، فمن رفع على إنسان عصاً ليضربه بها فحيل بينه وبين ذلك فهو مرتكب لمعصية يعزر عليها، ومن حاول إطلاق النار على آخر فلم يصبه فهو مرتكب لمعصية عقوبتها التعزير. أما القوانين الوضعية فتعاقب غالباً على الشروع في أكثر الجنايات، وعلى الشروع في بعض الجنح، دون البعض الآخر، وليس لها قاعدة عامة في هذا. ومن تطبيقات نظرية الشريعة حالة إحداث جرح بقصد القتل، فإن الجرح إذا أدى للموت أعتبر الفعل قتلاً عمداً، وإذا شفى المجني عليه اعتبر جرحاً فقط وعوقب عليه الجاني بعقوبة خاصة، أما إذا أراد الجاني أن يقتل المجني عليه فلم يصبه فالفعل معصية وفيه تعزير. 249 - المراحل التي تمر بها الجريمة وأيها يعتبر معصية: تمر الجريمة بمراحل معينة قبل أن يرتكبها المجرم، فهو أولاً يفكر فيها، ثم يعقد العزم على ارتكابها، ثم يحضر بعد ذلك المعدات ويهيئ الوسائل اللازمة لتنفيذها؛ كشراء سلاح يقتل به، أو منقب ينقب به حائط المنزل الذي يريد السرقة منه، أو إعداد مفتاح مصطنع ليفتح به باب محل الجريمة. فإذا أعد المجرم معدات الجريمة انتقل إلى مرحلة ثالثة هي مرحلة التنفيذ؛ فيبدأ في تنفيذ جريمته على الوجه الذي فكر فيه وأعد له الوسائل. هذه هي المراحل الثلاث التي يمر بها المجرم حتى يرتكب جريمته. فأي هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 المراحل يعتبر معصية وبالتالي جريمة تستحق العقاب؟ والجواب هو ما سنبينه فيما يلي: أولاً: مرحلة التفكير والتصميم: لا يعتبر التفكير في الجريمة والتصميم على ارتكابها معصية تستحق التعزير وبالتالي جريمة يعاقب عليها؛ لأن القاعدة في الشريعة الإسلامية أن الإنسان لا يؤاخذ على ما توسوس له نفسه أو تحدثه به من قول أو عمل، ولا على ما ينتوي أن يقوله أو يعمله؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم"، وإنما يؤاخذ الإنسان على ما يقوله من قول وما يفعله من فعل. وهذا المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الشريعة من يوم وجودها هو مبدأ حديث في القوانين الوضعية، أخذت به جميعاً في عصرنا الحاضر، ولكنها لم تعرفه ولم تأخذ به إلا ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر بعد الثورة الفرنسية، وقبل ذلك كان من الممكن أن يعاقب على النية أو التفكير إذا أمكن إثباتهما، فالشريعة في تقريرها هذا المبدأ قد سبقت كل شريعة وضعية، والشرائح الوضعية حين أخذت متأخرة بهذا المبدأ إنما أخذت بأقدم المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية، ويبقى بعد ذلك أن الشريعة الإسلامية ليس فيها استثناءات لهذا المبدأ، أما القوانين الوضعية فلا يزال بها استثناءات للمبدأ، ومن الأمثلة على ذلك: أن القانون المصري والفرنسي يفرقان بين عقوبة القتل العمد المصحوب بسبق الإصرار أو الترصد، وبين عقوبة القتل العمد الخالي عن سبق الإصرار أو الترصد، ويشددان العقوبة في الحالة الأولى ويخففانها في الثانية. ثانياً: مرحلة التحضير: لا تعتبر مرحلة التحضير أيضاً معصية، ولا تعاقب الشريعة على إعداد الوسائل لارتكاب جريمة إلا إذا كانت حيازة الوسيلة أو إعدادها مما يعتبر معصية في حد ذاته، كمسلم أراد سرقة إنسان بواسطة إسكاره فإن شراء المسكر أو حيازته يعتبر بذاته معصية يعاقب عليها دون حاجة لتنفيذ الغرض الأصلي وهو السرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 والعلة في عدم اعتبار دور التحضير جريمة، أن الأفعال التي تصدر من الجاني يجب للعقاب عليها أن تكون معصية، ولا يكون الفعل معصية إلا إذا كان اعتداء على حق لله، أي حق للجماعة أو على حق للأفراد، وليس في إعداد وسائل الجريمة في الغالب ما يعتبر اعتداء ظاهراً على حق الجماعة أو حقوق الأفراد، وإذا أمكن اعتبار بعض هذه الأفعال اعتداء فإنه اعتداء قابل للتأويل؛ أي مشكوك فيه، والشريعة لا تأخذ الناس في الجرائم إلا باليقين الذي لا شك فيه. ثالثاً: مرحلة التنفيذ: هذه هي المرحلة الوحيدة التي تعتبر فيها أفعال الجاني جريمة، ويعتبر الفعل جريمة كلما كان معصية، أي اعتداء على حق الجماعة أو حق الفرد، وليس من الضروري أن يكون الفعل بدءاً في تنفيذ ركن الجريمة المادي، بل يكفي أن يكون الفعل معصية، وأن يكون مقصوداً به تنفيذ الركن المادي، ولو كان لايزال بين الفعل وبين الركن المادي أكثر من خطوة، فمثلاً في النقب والتسلق وكسر الباب وفتحه بمفتاح مصطنع كل ذلك يعتبر معصية تستحق التعزير، وبالتالي شروعاً في سرقة، ولو أن بين كل منها وبين الفعل المادي المكون لجريمة السرقة خطوات؛ هي دخول محل السرقة، والاستيلاء على المسروقات، وإخراجها من الحرز. كذلك يعزر الجاني باعتباره مرتكباً لمعصية أو شارعاً في سرقة إذا تعرض للنقب أو فتح الباب أو حاول التسلق ولو لم يتم ما تعرض له أو حاول فعله. ويعتبر الجاني مرتكباً لمعصية يعزر عليها وبالتالي يعتبر شارعاً في الزنا إذا دخل منزل المرأة التي يقصد الزنا بها، أو اجتمع بها في غرفة واحدة، أو قبلها أو ضمها، أو فعل غير ذلك من مقدمات الزنا، وهو يعاقب على هذه الأفعال ولو أن بينه وبين الفعل المادي المكون لجريمة الزنا أكثر من خطوة. ويرى أبو عبد الله الزبيري تعزير الجاني باعتباره مرتكباً لمعصية أو شارعاً في السرقة إذا وجد بجوار المنزل المراد سرقته ومعه مِبْرَد ليستعمله في فتح الباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 أو مِنْقب لينقب به الحائط، ولو أنه لم يبدأ في فتح الباب أو نقب الحائط، إذا ثبت أنه جاء بقصد السرقة، ويرى تعزير الجاني كذلك إذا وجد مترصداً بجوار محل السرقة يترصد غفوة الحارس ليسرق المتاع الذي يحرسه (1) . فمقياس الفعل المعاقب عليه في الشروع هو أن يكون ما أتاه المتهم مكونا لمعصية كالنقب، ويستعان على معرفة ما إذا كان الفعل معصية أو غير معصية بنية الجاني وقصده من الفعل؛ لأن ثبوت هذه النية يزيل كل شك ويساعد على تحديد نوع المعصية. وقد جعل أبو عبد الله الزبيري في الأمثلة التي ذكرناها سابقاً شأناً كبيراً لنية الجاني، فالترصد بجوار محل السرقة قد يكون للسرقة أو لعمل آخر مباح، ولكن نية الجاني وحدها هي التي أزالت الشك عن الفعل وعينت المعصية، ووجود الجاني بجوار محل السرقة ومعه مبرد أو منقب يحتمل أن يكون الجاني قاصداً سرقة هذا المحل أو غيره، ويحتمل أن يكون أراد السرقة أو أراد عملاً آخر غير محرم، ولكن نية الجاني هي التي أخرجت الفعل من حيز الاحتمال إلى حيز اليقين وعينت المعصية. 250 - الشريعة والقانون: وتتفق الشريعة مع القوانين الوضعية في عدم العقاب على مرحلتي التفكير والتحضير، وفي قصر العقاب على مرحلة التنفيذ، ولكن شراح القوانين يختلفون على الوقت الذي يعتبر فيه الجاني قد بدأ بالتنفيذ، فأصحاب المذهب المادي يرون أن بدء التنفيذ المكون للشروع هو البدء في تنفيذ الفعل المادي المكون للجريمة، فإذا كانت الجريمة تتكون من فعل واحد كان الشروع هو البدء في تنفيذ هذا الفعل، وإذا كانت تتكون من جملة أفعال كان البدء في أحدها شروعاً في الجريمة، ولا يعد بدءاً في التنفيذ أي عمل آخر لا يدخل في الأفعال المكونة للجريمة. ويرى أصحاب المذهب الشخصي أنه يكفي لتحقيق الشروع أن يبدأ الفاعل تنفيذ فعل ما، سابق مباشرة   (1) الأحكام السلطانية ص206، 207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 على تنفيذ الركن المادي للجريمة ومؤدًّ إليه حتماً، ويستعين أصحاب هذا المذهب بنية الجاني وشخصيته لمعرفة الغرض الذي قصده من فعله. والمذهب الشخصي لا يختلف في شئ عن نظرية الشريعة الإسلامية، فكل ما يمكن العقاب عليه بحسب هذا المذهب تعاقب عليه الشريعة، ولكن نظرية الشريعة مع هذا تتسع لأكثر ما يتسع له المذهب الشخصي؛ لأن الشريعة تعاقب على كل ما يأتيه الجاني إذا تكون مما فعله معصية، سواء كان ما فعله الجاني مؤدياً حتماً إلى الركن المادي للجريمة المقصودة أو لا يؤدي إليه؛ كدخول منزل بقصد الزنا بامرأة فيه. أما المذهب الشخصي فيستوجب أن يكون الفعل مؤدياً حتماً للركن المادي كنقب وفتح محل السرقة بمفتاح مصطنع. ويأخذ القانون المصري بالمذهب الشخصي، وقد انتهت أحكام محكمة النقض المصرية إلى الأخذ بهذا المذهب. 251 - العقاب على الشروع: قاعدة الشريعة الإسلامية في جرائم الحدود والقصاص أن لا يتساوى عقاب الجريمة التامة بالجريمة التي لم تتم، وأصل هذه القاعدة حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين" (1) . وهذه القاعدة لا يمكن الخروج عليها في جرائم الحدود وجرائم القصاص، فلا يمكن العقاب على الشروع في الزنا التام وهي الجلد والرجم، ولا يمكن العقاب على الشروع في السرقة بعقوبة القطع؛ لأن القطع جعل جزاء الجريمة التامة. ولا شك أن البون شاسع بين الشروع والفعل التام، فيجب أن يؤخذ المتهم بقدر ما فعل، ويجزي بقدر ما اكتسب، فضلاً عن أن التسوية في العقاب بين الشروع والجريمة التامة تحمل مَن شرع في جريمة   (1) تعتبر جرائم القصاص وجرائم الحدود حدوداً. والحد في الأصل هو ما كانت عقوبته مقدرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 على إتمامها؛ لأنه يرى نفسه قد استحق عقوبة الجريمة التامة بالبدء في تنفيذ الجريمة، فليس ثمة ما يغريه بالعدول عنها (1) . ونستطيع أن نقيس الشروع في جرائم التعازير بالشروع في جرائم الحدود والقصاص، فنقول: إن القواعد العامة التي تسري على جرائم الحدود والقصاص تسري على جرائم التعازير، ولو وردت هذه القواعد خاصة بجرائم الحدود والقصاص فقط؛ لأن هذين النوعين من الجرائم هما أهم الجرائم وما يسري على الجرائم الهامة يسري على غيرهما. ونستطيع أن نخصص الحديث بالعقوبات المقدرة فقط، وهي عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص، ونص الحديث يحتمل هذا التخصيص فهو "من بلغ حداً في غير حد"، والحد الأول هو العقوبة، والحد الثاني هو الجريمة، فالنص قاطع بلفظه بأنه ورد في جرائم الحدود والقصاص دون غيرهما، ومن ثم يجوز تسوية عقوبة الشروع بعقوبة الجريمة التامة في غير الحدود خصوصاً وأن التعازير غير مقدرة، وللقاضي حرية واسعة في تقدير العقوبة من بين حديها الأدنى والأعلى. والقوانين الوضعية لا تخرج عن هذين الاتجاهين، فبعضهما يسوي بين عقوبة الشروع وعقوبة الجريمة التامة، وبعضها يعاقب على الشروع بعقوبة أخف من عقوبة الجريمة التامة. 252 - أثر عدول الجاني عن الفعل: إذا شرع الجاني في ارتكاب الجريمة فإما أن يتمها وإما أن لا يتمها، فإذا أتمها فقد استحق عقوبتها، وإذا لم يتمها فإما أن يكون أُكره على عدم إتمامها كمن يضبط وهو يجمع المسروقات من محل السرقة، وإما أن يكون هو الذي عدل مختاراً عن إتمامها، وفي حالة العدول   (1) راجع الفقرة 481. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 إما أن يكون لسبب ما غير التوبة، كأن يكتفي الجاني بما فعل، أو يرى أنه ينقصه بعض الأدوات، أو يرى أن يعاود الكرَّة في وقت آخر مناسب، أو يخشى أن يراه أحد، وإما أن يكون سبب العدول هو توبة الجاني وشعوره بالندم ورجوعه إلى الله. فإذا كان سبب عدم إتمام الجريمة هو إكراه الجاني على ذلك كأن يضبطه المجني عليه أو يصاب بحادث يمنعه من إتمام الجريمة، فإن ذلك لا يؤثر على مسئولية الجاني في شئ، ما دام أن الفعل الذي أتاه يعتبر معصية. وإذا عدل الجاني عن إتمام الجريمة لأي سبب غير التوبة، فهو مسئول عن الفعل كلما اعتبر الفعل معصية، أي اعتداء على حق الجماعة أو حق الفرد، فمثلاً إذا قصد سرقة منزل فنقبه أو كسر بابه، ثم عدل عن دخوله لأنه رأى الحارس يمر في هذه المنطقة فخشى أن يكتشف الحادث، أو دخل المنزل ثم خرج دون أن يسرق شيئاً لأنه عجز عن فتح خزانة النقود، أو ليأتي بزميل له يعاونه في فتح الخزانة أو يعاونه في حمل المسروقات، فهو في كل هذه الحالات يعاقب بالرغم من عدوله؛ لأنه عدل لسبب غير التوبة، ولأن ما وقع منه فعلاً يعتبر معصية، فالنقب معصية، ودخول منزل الغير دون إذنه معصية، وكسر باب منزل الغير معصية. أما إذا وصل إلى باب المنزل بقصد السرقة ثم عدل لأي سبب وعاد، فإنه لا يعاقب؛ لأن ما فعله لا يعتبر اعتداء على حق الجماعة أو حق الفرد ومن ثَمَّ لا يعتبر معصية، وإذا لم يعتبر الفعل معصية فلا عقاب. 253 - التعديل للتوبة: أما إذا كان سبب عدول الجاني عن الفعل هو توبته ورجوعه إلى الله، فإن الجاني لا يعاقب على ما فعل، إذا كانت الجريمة هي جريمة الحرابة، وذلك لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 34] ، فالمحارب إذا تاب قبل القدرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 عليه سقطت عقوبته بالرغم من أنه أتى الجريمة التامة. وإذا كان هذا هو حكم من أتم الجريمة فأولى به أن يكون حكم من لم يتمها. وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على أن التوبة تسقط العقوبة المقررة لجريمة الحرابة (1) إذا حدثت التوبة قبل القدرة على المحارب، فإنهم اختلفوا في أثر التوبة على ما عدا هذه الجريمة، ولهم في ذلك ثلاث نظريات: النظرية الأولى: ويقول بها بعض الفقهاء في مذهب الشافعي ومذهب أحمد، ومجمل رأيهم أن التوبة تسقط العقوبة، وحجتهم في ذلك أن القرآن نص على سقوط عقوبة المحارب بالتوبة، وجريمة الحرابة هي أشد الجرائم، فإذا دفعت التوبة عن المحارب عقوبته كان من الأولى أن تدفع التوبة عقوبة ما دون الحرابة من الجرائم، وأن القرآن لما جاء بعقوبة الزنا الأولى رتب على التوبة منع العقوبة، وذلك قوله تعالى: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} [النساء: 16] ، وذكر القرآن حد السارق وأتبعه بذكر التوبة في قوله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، ومن لا ذنب له لا حد عليه، وقال الرسول في ماعز لما أُخبر بهربه: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه". ويشترط هؤلاء الفقهاء لتُسقط العقوبة أن تكون الجريمة مما يتعلق بحق الله، أي أن تكون من الجرائم الماسة بحقوق الجماعة كالزنا والشرب، وأن لا تكون مما يمس حق الأفراد كالقتل أو الضرب، ويشترط بعض هؤلاء الفقهاء شرطاً آخر، وهو أن تكون التوبة مصحوبة بإصلاح العمل، وهذا الشرط   (1) من المتفق عليه أن التوبة تسقط ما يمس حقوق الجماعة أما ما يمس حقوق الأفراد فلا يسقط بالتوبة. فالمحارب إذا أخذ المال فقط ثم تاب سقطت عنه عقوبة القطع بالتوبة ولكنه يلزم برد المال، وإذا أخذ المال وقتل ثم تاب سقطت عنه عقوبة القتل حداً ولكنه يلزم برد المال ولا تسقط عنه عقوبة القصاص إلا بعفو أولياء القتيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 يقتضي مضي مدة يعلم بها صدق التوبة، ولكن البعض الآخر يكتفي بالتوبة ولا يشترط إصلاح العمل (1) . ويترتب على الأخذ بهذه النظرية أن تسقط العقوبة عمن يعدل عن إتمام جريمته تائباً كلما كانت الجريمة مما يمس حقوق الجماعة، أما الجرائم التي تمس حقوق الأفراد فلا يؤدي العدول عن ارتكابها لسقوط العقوبة بحال ولو كان سبب العدول هو التوبة. النظرية الثانية: وهي نظرية مالك وأبي حنيفة وبعض الفقهاء في مذهبي الشافعي وأحمد، ومجمل رأيهم أن التوبة لا تسقط العقوبة إلا في جريمة الحرابة للنص الصريح الذي ورد فيها؛ لأن الأصل أن التوبة لا تسقط العقوبة، فالله أمر بجلد الزاني والزانية فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فجعل الجلد عاماً للتائبين وغير التائبين، وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، فجعل القطع للتائب وغير التائب. وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجم ماعز والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة وكلهم جاءوا تائبين معترفين على أنفسهم يطلبون أن يتطهروا من ذنوبهم بإقامة الحد عليهم، وقد سمى الرسول فعلهم توبة فقال في حق المرأة: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم". ويرى هؤلاء الفقهاء أن العقوبة لا تسقط بالتوبة، لأنها كفارة عن المعصية، ولا يرون شبهاً بين المحارب وبين غيره من المجرمين حتى يقاس أحدهما على الآخر، فالمحارب شخص لا يقدر عليه فجعلت التوبة مسقطة لعقوبته إذا تاب قبل القدرة عليه بتشجيعه على التوبة والامتناع عن الفساد في الأرض، أما المجرم العادي فهو شخص مقدور عليه دائماً فليس ثمة ما يدعو لإسقاط العقوبة عنه بالتوبة، بل إن العقوبة هي التي تزجره عن الجريمة، وفضلاً عن ذلك فإن القول بأن   (1) نهاية المحتاج ج8 ص6، المغني ج10 ص316، 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 التوبة تسقط العقوبة يؤدي إلى تعطيل العقوبات؛ لأن كل مجرم لا يعجز عن ادعاء التوبة (1) . ويترتب على هذه النظرية أن عدول الجاني عن إتمام جريمته تائباً راجعاً إلى الله لا يمنع عنه العقوبة كلما اعتبر فعله معصية. النظرية الثالثة: وهي نظرية ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهما من الحنابلة. وعندهما أن العقوبة تطهر من المعصية، وأن التوبة تطهر من المعصية وتسقط العقوبة في الجرائم التي تمس حقاً لله، فمن تاب من جريمة من هذه الجرائم سقطت عقوبته إلا إذا رأى الجاني نفسه أن يتطهر بالعقوبة، فإنه إذا اختار أن يعاقب عوقب بالرغم من توبته (2) . ويترتب على هذه النظرية أن من عدل عن إتمام جريمته تائباً تسقط عنه العقوبة إذا كانت الجريمة مما يمس حقاً لله، أي حقاً من حقوق الجماعة، ما لم يطلب الجاني نفسه أن يعاقب، أما إذا كانت الجريمة تمس حقاً للأفراد فلا تسقط العقوبة. والقاعدة العامة في القوانين الوضعية هي أن توبة الجاني لا تسقط العقوبة، وهذا يتفق مع نظرية مالك ومن معه، ولكن بعض القوانين الوضعية لا تعاقب الجاني إذا عدل مختاراً عن إتمام الجريمة، ومن هذه القوانين القانون المصري والقانون الفرنسي، وهذا يتفق مع ما يقوله بعض الفقهاء المسلمين من أن التوبة تسقط العقوبة. وبعض القوانين الوضعية لا تخلي الجاني من المسئولية عن الشروع ولو عدل عن إتمام الجريمة مختاراً كالقانون الإنجليزي والقانون الهندي. 254 - الشروع في الجريمة المستحيلة: ليس في أقوال الفقهاء ما يشير   (1) شرح الزرقاني ج8 ص110، بدائع الصنائع ج7 ص96، أسني المطالب ج4 ص156، المغني ج10 ص316. (2) أعلام الموقعين ج2 ص197، 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 إلى ما نسميه اليوم بالجريمة المستحيلة. والجريمة المستحيلة - كما يعرفها شراح القوانين الوضعية - هي التي يستحيل وقوعها: إما لعدم صلاحية وسائلها، كمن يطلق على آخر بقصد قتله بندقية لا يعلم أنها غير معمرة أو أن إبرتها مكسورة، وإما لانعدام موضوعها، كمن يطلق عياراً على ميت بقصد قتله وهو غير عالم بموته. وقد كانت الجريمة المستحيلة محل نظر فقهاء القانون الوضعي ومناقشاتهم في القرن الماضي، وكان بعضهم يرى العقاب على الشروع فيها، وبعضهم لا يرى ذلك. أما اليوم فقد اتجه الرأي إلى إهمال نظرية الاستحالة والأخذ بالمذهب المضاد وهو المذهب الشخصي، ويقوم على النظر إلى غرض الفاعل وخطورته، فمتى كانت الأفعال التي أتاها تدل صراحة على قصد الفاعل فهو شارع في الجريمة وتجب عليه عقوبة الشروع. ورأي أصحاب المذهب الشخصي في الجريمة المستحيلة يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، إذ يستوي في الشريعة الإسلامية أن تستحيل الجريمة بالنسبة لوسائلها أو موضوعها والغاية منها، فإن ذلك كله لا ينفي مسئولية الجاني إن كان ما فعله معصية، ولا شك أن محاولة الجاني الاعتداء على المجني عليه هي في ذاتها معصية بغض النظر عما إذا كانت المحاولة قد أدت لنتيجتها أم لم تؤد لذلك، وسواء كانت نتيجة المحاولة ممكنة الحصول أو مستحيلة الوقوع؛ لأن المحاولة في كل الأحوال اعتداء على الفرد وعلى أمن الجماعة، وما دامت النية الجنائية قد ظهرت وتجسمت في أفعال خارجية أتى بها الجاني بقصد تنفيذ جريمته فهو جان يستحق العقاب كلما تكوَّن من أفعاله معصية، وإذا كان الفعل لم يلحق أذى فعلاً بالمجني عليه، أو كانت الجريمة قد استحال تنفيذها، فإن ذلك أمر يترك تقديره للقاضي، فيعاقب الجاني بالعقوبة التي تتلاءم مع قصده وخطورته والظروف التي أحاطت بتنفيذ جريمته. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الفصل الثاني الاشتراك في الجريمة 255 - صور الاشتراك: قد يرتكب الجريمة فرد واحد، وقد يرتكبها أفراد متعددون فيساهم كل منهم في تنفيذها، أو يتعاون مع غيره على تنفيذها. وصور المساهمة والتعاون لا تخرج مهما اختلفت عن حالة من أربع: فالجاني قد يساهم في تنفيذ الركن المادي للجريمة مع غيره، وقد يتفق مع غيره على هذا التنفيذ، وقد يحرضه عليه، وقد يعينه على ارتكاب الجريمة بشتى الوسائل دون أن يشترك معه في التنفيذ. وكل واحد من هؤلاء يعتبر مشتركاً في الجريمة سواء اشترك مادياً في تنفيذ الركن المادي للجريمة أو لم يشترك مادياً في تنفيذه. وللتمييز بين من يشترك مادياً ومن لا يشترك في تنفيذ الركن المادي للجريمة: يسمى من يباشر تنفيذ الركن المادي: شريكاً مباشراً، ويسمى من لا يباشر التنفيذ: شريكاً متسبباً، ويسمى الفعل المباشر: الاشتراك المباشر في الجريمة، ويسمى فعل الشريك المتسبب: الاشتراك غير المباشر أو الاشتراك بالتسبب. وأساس هذه التفرقة أن الأول يباشر تنفيذ الركن المادي للجريمة فهو شريك في المباشرة، وأن الثاني يتسبب في الجريمة باتفاقه أو تحريضه أو بذله العون ولكنه لا يباشر تنفيذ ركن الجريمة المادي فهو شريك بالتسبب (1) . ولعل في التفريق بين الشركاء المختلفين على الوجه ما يزيل اللبس الذي يحدث من تسمية كل واحد من الشركاء بالشريك دون تمييز بين من يباشر الجريمة ومن لم يباشرها، ولعل رجال القانون في مصر أول من يعاني من هذا اللبس حيث جرى الشراح المصريون على تسمية المتسبب والمباشر بالشريك.   (1) شرح الزرقاني ج8 ص10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 256 - اهتمام وإهمال: ويجب أن نلاحظ قبل كل شئ أن فقهاء الشريعة اهتموا بإبراز أحكام الاشتراك المباشر، بينما أهملوا إلى حد كبير أحكام الاشتراك بالتسبب، ولذلك الاهتمام وهذا الإهمال علتان: العلة الأولى: أن الفقهاء - كما ذكر من قبل (1) - قصروا همهم على بيان أحكام الجرائم ذات العقوبات المقدرة وهي جرائم الحدود والقصاص، لأنها جرائم ثابتة لا تقبل التغيير والتعديل، ولأن عقوباتها مقدرة لا تقبل الزيادة أو النقص. أما جرائم التعزير فلم يهتموا بها ولم يضعوا لها أحكاماً خاصة، لأنها في الغالب جرائم غير ثابتة، تتغير بتغير ظروف الزمان والمكان واختلاف وجهات النظر، كما أن عقوبات التعزير غير ثابتة فهي تقبل الزيادة والنقص. العلة الثانية: أن القاعدة العامة في الشريعة أن العقوبات المقدرة تقع على من باشر الجريمة دون المتسبب، وهذه القاعدة مطبقة بدقة عند أبي حنيفة، ولكن بقية الفقهاء يستثنون من القاعدة جرائم الاعتداء على النفس وما دونها؛ أي جرائم القتل والجرح، وحجتهم في ذلك أن من طبيعة هذه الجرائم أن تقع بالمباشرة والتسبب، وأنها تقع كثيراً بالتسبب، فلو طبقت القاعدة على المباشر فقط لامتنع توقيع العقوبة المقدرة على المتسبب مع أنه نفذ الركن المادي للجريمة كما فعل المباشر. ويقصر هؤلاء الفقهاء الاستثناء على الشركاء المباشرين، أما الشركاء المتسببون فيخضعونهم للقاعدة العامة. ويترتب على القاعدة العامة أن الشريك المتسبب إذا اشترك في جريمة ذات عقوبة مقدرة لم يعاقب بهذه العقوبة؛ لأن العقوبة المقدرة لا تقع إلا على الشريك المباشر فقط، فجريمة الاشتراك بالتسبب هي من جرائم التعازير في كل حال سواء اشترك الشريك المتسبب في جريمة من جرائم الحدود والقصاص،   (1) راجع الفقرة 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 أو اشترك في جريمة من جرائم التعازير. وهذا يفسر لنا اهتمام الفقهاء بالاشتراك المباشر، وإهمالهم الاشتراك بالتسبب، فقد اهتموا بالاشتراك المباشر؛ لأن الشريك المباشر يعاقب بعقوبة الحد والقصاص إذا ارتكب جريمة من هذا النوع، وقد أهملوا الاشتراك بالتسبب؛ لأن الشريك بالتسبب لا يعاقب بعقوبة الحد أو القصاص، وإنما يعزر، فجريمته دائماً من جرائم التعازير ولو أنه اشترك في جريمة من جرائم الحدود أو القصاص. والفقهاء بالرغم مما سبق لم يهملوا الاشتراك غير المباشر إهمالاً كلياً، بل تعرضوا له أثناء بحث الجناية على النفس أو ما دونها، أي جرائم القتل والجرح؛ لأن هذه الجرائم ترتكب إما مباشرة وإما بالتسبب، والاشتراك غير المباشر نوع من التسبب. وما ذكره الفقهاء عن الاشتراك بالتسبب بمناسبة الكلام على القتل والجرح كاف على قلته لاستخراج القواعد العامة التي بنى عليها الفقهاء أحكام هذا النوع من الاشتراك، وسنرى فيما بعد أن هذه القواعد لا تختلف في مجموعها عن قواعد الاشتراك بالتسبب في أحدث القوانين الوضعية. 257 - شروط الاشتراك العامة: والاشتراك سواء كان مباشراً أو غير مباشر له شرطان عامان يجب توفرهما لاعتبار الاشتراك جريمة، وهذان الشرطان هما: أولاً: أن يتعدد الجناة، فإذا لم يتعددوا فليس هناك اشتراك مباشر، ولا غير مباشر. ثانياً: أن ينسب إلى الجناة فعل محرم معاقب عليه، فإذا لم يكن الفعل المنسوب إليهم معاقباً عليه فليس هناك جريمة وبالتالي لا اشتراك. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 المبحث الأول الاشتراك المباشر 258 - اشتراك المباشرين: الأصل أن هذا النوع من الاشتراك يوجد في حالة تعدد الجناة الذين يباشرون ركن الجريمة المادي، وهو ما نسميه اليوم بتعدد الفاعلين الأصليين أو اشتراك أكثر من فاعل أصلي في الجريمة، ولكن الفقهاء يلحقون هذا النوع من الاشتراك بعض صور الاشتراك بالتسبب ويجعلون حكمها واحداً ولو أن الشريك بالتسبب لا يباشر ركن الجريمة المادي بنفسه، وعلى هذا يعتبر مباشراً للجريمة: أولاً: من يرتكبها وحده أو مع غيره، فمن قتل إنساناً أو سرق متاعاً فهو مباشر لجريمة القتل أو السرقة، وإذا اشترك اثنان أو ثلاثة في قتل فأطلق كل منها عياراً على المجني عليه فأصابه إصابة قاتلة فكل منهم مباشر لجريمة القتل، وإذا سرقوا من حرز أمتعة لآخر فكل منهم سارق. مسئولية المباشر في حالتي التوافق والتمالؤ: يفرق أغلب الفقهاء بين مسئولية الشريك المباشر في حالة التوافق وبين مسئوليته في حالة التمالؤ، ففي حالة التوافق يسأل كل شريك عن نتيجة فعله فقط، ولا يسأل عن نتيجة فعل غيره، كشخصين ضربا ثالثاً فقطع أحدهما يده وقطع الثاني رقبته، فسأل الأول عن القطع، ويسأل الثاني عن القتل، أما في حالة التمالؤ فيسأل كل منهما عن القتل. والتوافق معناه أن تتجه إرادة المشتركين في الجريمة إلى ارتكابها دون أن يكون بينهم اتفاق سابق، بل يعمل كل منهم تحت تأثير الدافع الشخصي والفكرة الطارئة، كما هو الحال في المشاجرات التي تحدث فجأة، فيتجمع لها أهل المتشاجرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 دون اتفاق سابق، ويعمل كل منهم بحسب ما تمليه عليه رغبته الذاتية وفكرته الطارئة، ففي هذه الحالة وأمثالها يقال أن بين المشتركين توافقاً، ولكن كلاً منهم لا يسأل إلا عن فعله فقط، ولا يتحمل نتيجة فعل غيره. أما التمالؤ فيقتضي الاتفاق السابق بين الشركاء المباشرين على ارتكاب الجريمة، بمعنى أنهم يقصدون جميعاً قبل ارتكاب الحادث الوصول إلى تحقيق غرض معين، ويتعاونون أثناء وقوع الحادث على إحداث ما اتفقوا عليه، فإذا اتفق شخصان على قتل ثالث، ثم ذهبا لتنفيذ الجريمة فضربه أحدهما بسكين فقطع إصبع يده، وذبحه الثاني، فإنهما يعتبران متماثلان على جريمة القتل، وكلاهما مسئول عن القتل لهذا التمالؤ. ولا يفرق أبو حنيفة بين التوافق والتمالؤ، فحكمهما عنده واحد، والجاني لا يسأل في الحالين إلا عن فعله فقط (1) . أما بقية الأئمة فيفرقون بين التوافق والتمالؤ على الوجه الذي سبق بيانه (2) . على أن بعض الفقهاء في مذهب الشافعي وأحمد يأخذون برأي أبي حنيفة (3) . متى يعد الجاني شريكاً مباشراً؟: يعد الجاني شريكاً مباشراً كلما أتى فعلاً يعتبر به أنه بدأ في تنفيذ الجريمة، وهو يعتبر كذلك كلما أتى فعلاً يعتبر معصية قاصداً به تنفيذ الجريمة، فهو يعد مباشراً للجريمة كلما اعتبر شارعاً في تنفيذها بتعبيرنا العصري، سواء تمت الجريمة أو لم تتم؛ لأن تمام الجريمة أو عدم تمامها ليس له أثر على اعتباره شريكاً مباشراً، وإنما قاصر على العقوبة، فإن تمت الجريمة وكانت حداً وجبت عقوبة الحد، وإن لم تتم وجبت عقوبة التعزير فقط،   (1) الزيلعي ج6 ص114، البحر الرائق ج8 ص310. (2) شرح الدردير ج4 ص217، 218، نهاية المحتاج ج7 ص261، 263، تحفة المحتاج ج4 ص14، 15، حاشية البيجيرمي على المنهج ج4 ص140، الإقناع ج4 ص71. (3) المغني ج9 ص366، الشرح الكبير ج9 ص335، المهذب ج2 ص716. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فإذا كانت الجريمة من جرائم التعزير فالعقوبة هي التعزير في حالة التمام وعدم التمام. وقد بينا من قبل أن نظرية الشريعة الإسلامية في الشروع تتفق من نظرية أصحاب المذهب الشخصي في القوانين الوضعية (1) ، وهي النظرية السائدة في معظم القوانين والتي يتجه إليها معظم الشراح، ونزيد هنا أن نظرية الشريعة في الشريك المباشر قامة على نفس الأساس الذي قامت عليه نظرية الشروع، ومن ثم فهي تتفق مع ما تأخذ به معظم القوانين الوضعية الحديثة ومنها القانون المصري. ثانياً: يعتبر مباشراً للجريمة الشريك المتسبب إذا كان المباشر آله في يده يحركه كيف يشاء، ولا خلاف بين الفقهاء على تقرير هذا المبدأ، ولكنهم يختلفون في تطبيقه، فمن يأمر شخصاً حسن النية بقتل آخر فيقتله فإن الآمر يعتبر فاعلاً مباشراً للجريمة عند مالك والشافعي وأحمد ولو أنه لم يباشر الفعل المادي؛ لأن المأمور كان أداة في يد الآمر يحركه كيف يشاء (2) . أما أبو حنيفة فلا يعتبر الآمر مباشراً إلا إذا كان أمره إكراهاً للمأمور فإن لم يبلغ الأمر درجة الإكراه فهو شريك بالتسبب فقط وليس مباشراً ولا يأخذ حكم المباشر (3) . واعتبار الشريك بالتسبب مباشراً هي نظرية محل خلاف بين القوانين الوضعية وبين الشراح، فمن القوانين والشراح من يأخذ بها ومنهم من لا يأخذ بها، وكان القانون المصري يأخذ بهذه النظرية قبل سنة 1904 حيث كان يعاقب الرئيس الآمر بالقتل والقادر على استعمال الوسائل   (1) راجع الفقرة 250. (2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص216، 218، المهذب ج2 ص189، الشرح الكبير ج9 ص344، المغني ج9 ص331. (3) بدائع الصنائع ج7 ص180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الجبرية باعتباره فاعلاً أصلياً لا شريكاً للفاعل (1) . أما بعد سنة 1904 فقد أصبح القانون المصري يعتبر الآمر شريكاً كما هو ظاهر النص، ولكن المحاكم المصرية لا يزال مع ذلك على اعتبار الشريك المتسبب مباشراً متأثرة في هذا بقوة النظرية ورجوح رأي مؤيديها، فكأن المحاكم المصرية تأخذ اليوم في هذه المسألة بنظرية الشريعة الإسلامية. 259 - عقوبة المباشرين: القاعدة في الشريعة أن تعدد الفاعلين لا يؤثر على العقوبة التي يستحقها كل منهم لو كان قد ارتكب الجريمة بمفرده، فعقوبة من اشترك مع آخرين في مباشرة جريمة هي نفس العقوبة المقررة لمن ارتكب الجريمة واحدة، ولو أن الجاني عند التعدد لا يأتي كل الأفعال المكونة للجريمة. 260 - أثر ظروف المباشر على العقوبة: وإذا كانت عقوبة الجريمة واجبة على كل مباشر وإن اشترك مع غيره إلا أن عقوبة كل مباشر تتأثر بظروفه الخاصة. والأصل في ذلك أن العقوبة المستحقة على كل جان تتأثر بصفة الفعل، وصفة الفاعل، وقصد الفاعل، فقد يكون الفعل بالنسبة لأحد الجناة اعتداء، وبالنسبة للثاني دفعاً لصائل، أي دفاعاً شرعياً، وبالنسبة للثالث تأديباً. وقد يكون أحد الفاعلين مجنوناً وأحدهم عاقلاً، وقد يكون أحدهم عامداً وأحدهم مخطئاً. وكل هذا يؤثر على العقوبة، فمن كان في حالة دفاع أو تأديب لا عقاب عليه إذا لم يجاوز حد الدفاع أو التأديب، ومن كان مجنوناً فلا عقاب عليه، بخلاف العاقل المميز، ومن كان مخطئاً نزلت عقوبته عن عقوبة العامد. 261 - هل تتأثر عقوبة الشريك بظروف شريكه؟: القاعدة في   (1) راجع المادتين 223، 224 من قانون العقوبات المصري الصادر في سنة 1883. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الشريعة أنه إذا تأثرت عقوبة أحد الشركاء لصفة في الفعل، أو لصفة في التفاعل، أو لقصد الفاعل، فإن عقوبة الشريك الآخر الذي لم تتوفر له هذه الصفات لا تتأثر بفعل غيره أو صفته أو قصده. فإذا جرح شخصاً آخر دفاعاً عن نفسه وتعمد ثان جرحه بقصد قتله، فمات من الجرحين، فإن الجاني الأول يعفي من العقاب؛ لأن وجوده في حالة دفاع شرعي أباح له الفعل، ويعاقب الثاني بعقوبة القتل العمد؛ لأن فعله عدوان متعمد، ولا يؤثر على عقوبته أنه اشترك في القتل مع من يباح له القتل؛ لأن إعفاء الأول كان لصفة في فعله لم تتوفر في فعل الثاني. وإذا اشترك مجنون مع عاقل في ارتكاب جريمة أعفى الأول من العقوبة لجنونه، وعوقب الثاني بالعقوبة المقررة للجريمة دون أن يكون للإعفاء الأول أثر على عقوبة الثاني، إذ الإعفاء أساسه معنى أو صفة توفرت في الأول ولم تتوفر في الثاني. والأب حين يشترك مع غيره في قتل ولده لا يقتص منه، ولكن الغير يقتص منه؛ لأن أساس إعفاء الأب صفة الأبوة في الأب وهي صفة خاصة به لا تتوفر في شريكه فلا يستفيد منها الشريك. والعامد والمخطئ إذا اشتركا في جريمة قتل عوقب كل منهما على أساس قصده، فعلى العامد عقوبة العمد، وعلى المخطئ عقوبة الخطأ، ولا تتأثر عقوبة الأول بتخفيف عقوبة الثاني؛ لأن أساس التخفيف انعدام قصد الجاني وهو معنى لا يتوفر في العامد (1) . هذه هي القاعدة الأساسية في الشريعة الإسلامية ولا خلاف عليها بين الفقهاء، وإذا كانوا قد اختلفوا عند تطبيق القاعدة على جرائم الحدود والقصاص فإن الخلاف ليس في الواقع على تطبيق هذه القاعدة، وإنما الخلاف على تطبيق قاعدة أخرى هي قاعدة درء الحدود بالشبهات، كما أن الخلاف محصور في   (1) مواهب الجليل ج6 ص242، الشرح الكبير للدردير ج4 ص218، 219، بدائع الصنائع ج7 ص439، البحر الرائق ج8 ص301، نهاية المحتاج ج7 ص262 وما بعدها، المهذب ج2 ص297، المغني ج9 ص373، 379 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 حالات التي يحتمل فيها أن يكون فعل أحد المباشرين هو الذي أدى إلى النتيجة المعاقب عليها دون فعل الآخر أو الآخرين، كحالة القتل من مخطئ وعامد ومن مدافع ومعتد، ومن مجنون وعاقل، ومن صبي وبالغ، ومن عمل الطبيب وعدوان الجاني. اختلفوا في هذه الحالات وأمثالها؛ لأن فعل الشريكين أدى للقتل ومن المحتمل أن يكون فعل أحدهما هو الذي أدى للقتل دون فعل شريكه، فرأى البعض في قيام هذا الاحتمال شبهة درأ على أساسها الحد عن الشريك الآخر، ورأى البغض أن لا شبهة فلم يدرأ الحد وعاقب كلاً بعقوبته المستحقة عليه، فالخلاف إذن ليس على القاعدة الأصلية، وإنما هو على قاعدة درء الحدود بالشبهات، وإن كانت النتيجة العملية عند من يدرأ الحد أن الشريك يتأثر بظروف شريكه عملاً سواء كانت هذه الظروف قائمة على صفة الفعل أو صفة الفاعل أو قصده. ونظرية الشريعة في عدم تأثر عقوبة الشريك المباشر بظروف شريكه تتفق تمام الاتفاق مع النظرية التي أخذ بها قانون العقوبات المصري، وهي النظرية السائدة في القوانين الوضعية، فالقانون المصري ينص على أنه "إذا وجدت أحوال خاصة بأحد الفاعلين تقتضي تغيير وصف الجريمة أو العقوبة بالنسبة له فلا يتعدى أثرها إلى غيره منهم. وكذلك الحال إذا تغير الواصف باعتبار قصد مرتكب الجريمة أو كيفية علمه بها" (1) . * * * المبحث الثاني الاشتراك بالتسبب 262 - الشركاء المتسببون: يعتبر شريكاً متسبباً من اتفق مع غيره على   (1) راجع المادة 39 من قانون العقوبات المصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ارتكاب فعل معاقب عليه، ومن حرض غيره أو أعانه على هذا الفعل، ويشترط في الشريك أن يكون قاصداً الاتفاق أو تحريض أو الإعانة على الجريمة. 263 - شروط الاشتراك بالتسبب: ويستخلص مما سبق أن الاشتراك بالتسبب لا يوجد إلا إذا توفرت ثلاثة شروط: أولها: فعل معاقب عليه هو الجريمة. وثانيها: وسيلة لهذا الفعل وهي اتفاق أو تحريض أو إعانة. وثالثها: أن يكون الشريك قاصداً من وسائله وقوع الفعل المعاقب عليه. وسنتكلم على هذه الشروط واحداً بعد الآخر فيما يلي: الشرط الأول: الفعل المعاقب عليه: يشترط لوجود الاشتراك أن يكون هناك فعل معاقب عليه، وأن يقع هذا الفعل، وليس من الضروري أن يقع الفعل تاماً، بل يكفي لمؤاخذة الشريك أن يكون الفعل غير تام؛ أي شروعاً معاقباً عليه، وليس من الضروري أن يعاقب الفاعل المباشر ليعاقب الشريك، فقد يكون المباشر حسن النية فلا يعاقب ويعاقب الشريك، وقد يعفي الفاعل من العقوبة لصغره أو لجنونه ويعاقب الشريك. الشريك الثاني: ويجب أن يكون الاشتراك باتفاق أو تحريض أو إعانة: أ - الاتفاق: يفرق أغلب الفقهاء كما ذكرنا (1) بين التوافق والاتفاق أي التمالؤ، فالتوافق هو توارد خواطر أكثر من شخص على ارتكاب جريمة ما دون اتفاق فيما بينهم، ولا يعتبر الموافقون شركاء بالتسبب، وإنما يمكن اعتبارهم شركاء بالمباشرة إذا ارتكبوا الفعل المحرم. أما الاتفاق فيقتضي تفاهماً سابقاً على ارتكاب الجريمة بين الشريك المتسبب والشريك المباشر، كما يقتضي اتجاه إرادتهما واتحادهما على ارتكاب الجريمة، فإذا لم يكن هناك اتفاق سابق فلا اشتراك، وإذا كان هناك اتفاق سابق ولكن   (1) راجع الفقرة 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 على غير الجريمة التي ارتكبت فليس هناك اشتراك، فمن اتفق مع آخر على سرقة جاموسة شخص معين فذهب المباشر وضرب صاحب الجاموسة أو سرق الجاموسة شخص آخر فلا اشتراك، ولكن انعدام الاشتراك لا يمنع من العقاب على الاتفاق مستقلاً؛ لأنه معصية. ولقيام الاشتراك يجب أن تقع الجريمة نتيجة للاتفاق، فإذا وقعت الجريمة المتفق عليها ولكن لم يكن وقوعها نتيجة الاتفاق فلا اشتراك، فمن اتفق مع آخر على قتل ثالث، وبعد اتفاقهما وقبل حلول الموعد المحدد لارتكاب الجريمة علم الثالث بما دبر له؛ فذهب إلى الموكل بمباشرة الجريمة وحاول أن يقتله، فقتله الآخر دفاعاً عن نفسه، فلا مسئولية على المباشر؛ لأنه كان في حالة دفاع عن النفس، ولكنه هو ومن اتفق معه مسئولان عن اتفاقهما على ارتكاب جريمة القتل ولو لم تنفذ هذه الجريمة؛ لأن الاتفاق على ارتكاب الجريمة معصية في ذاته سواء وضع موضع التنفيذ أو لم يوضع. نظرية لمالك: ويعتبر مالك من اتفق مع آخر على ارتكاب جريمة وحضر أثناء ارتكابها شريكاً مباشراً لا شريكاً متسبباً، ولو أنه لم يباشر الجريمة ولم يعن المباشر إذا كان بحيث لم يباشرها غيره باشرها هو. وهذه نظرية مالك في الشريك المتسبب على الإطلاق، سواء كانت وسيلة التسبب الاتفاق أو التحريض أو الإعانة (1) ، وينفرد مالك بهذه النظرية فلا يوافقه عليها غيره من الفقهاء. ب - التحريض: يقصد بالتحريض إغراء المجني عليه بارتكاب الجريمة، والمفروض أن يكون الإغراء هو الدافع لارتكاب الجريمة، فإذا كان من وجه إليه الإغراء سيرتكب الجريمة ولو لم يكن إغراء ولا تحريض، فلا يمكن القول بأن التحريض هو الذي دفع الجاني للجريمة، وسواء كان للتحريض أثر أو لم   (1) شرح الزرقاني ج8 ص10، مواهب الجليل ج6 ص242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 يكن، فإنه يجوز طبقاً لقواعد الشريعة العقاب على التحريض مستقلاً؛ لأن التحريض على ارتكاب الجريمة معصية وأمر بإتيان المنكر. ويعتبر تحريضاً الأمر بالقتل، والإكراه على القتل، والفرق بين الأمر والإكراه أن الأمر لا يؤثر على اختيار المأمور فيكون في وسعه أن يأتي الجريمة أو يتركها، أما المكره فليس كذلك؛ لأن الإكراه يؤثر على اختياره وليس في وسعه أن يختار إلا بين شيئين: إما إتيان الجريمة، وإما قبول ما يهدد به والصبر عليه. وإذا كان الآمر ذا سلطان على المأمور كسلطان الأب على ولده الصغير والمعلم على تلميذه فقد يبلغ الأمر درجة الإكراه، وإذا لم يكن المأمور صغيراً ولا معتوهاً ولا مجنوناً ولم يكن للآمر عليه سلطان فليس الأمر إلا تحريضاً عادياً قد ينتج أثره وقد لا ينتجه. ويفرقون في حالة وجود سلطان للآمر بين المميز وغيره، فإن كان المأمور غير مميز ولا يمكنه أن يخالف الآمر فهو أداة للآمر ولو أنه باشر الجريمة، ويعتبر الآمر هو المباشر لها ولا يعتبر في هذه الحالة شريكاً بالتسبب (1) . ويرى مالك أن المحرض إذا حضر في محل الجريمة أثناء مباشرتها يعتبر فاعلاً أصلياً سواء ساعد المباشر أو لم يساعده، بشرط أن يكون بحيث إذا لم يباشر غيره الجريمة باشرها هو. جـ - الإعانة: يعتبر شريكاً في الجريمة بالتسبب من أعان غيره على ارتكابها ولو لم يتفق معه على ارتكابها من قبل، فمن يرقب الطريق للقاتل أو السارق يعتبر معيناً له، ومن يستدرج المجني عليه لمحل الحادث ثم يتركه لغيره يقتله   (1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص216، 218، المهذب ج2 ص189، المغني ج9 ص331، بدائع الصنائع ج7 ص180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 أو يسرقه فهو معين للقاتل أو السارق، ومن ينتظر خارج محل السرقة ليساعد الجاني أو الجناة في نقل المسروقات يعتبر معيناً لهم. ويميز الفقهاء بين المباشر والمعين، فالمباشر هو الذي يأتي الفعل المحرم أو يحاول إتيانه، أما المعين فلا يباشر نفس الفعل ولا يحاول مباشرته، وإنما يعين المباشر بأفعال لا صلة لها بذات الفعل المحرم ولا يعتبر تنفيذاً لهذا الفعل. وقد اختلف الفقهاء في حكم من أمسك إنساناً ليقتله ثالث، فرأى البعض أن الممسك شريك معين وليس مباشراً للقتل، وهو رأي أبي حنيفة والشافعي، ورأي في مذهب أحمد، وحجتهم أن الممسك إذا كان تسبب بفعله في القتل إلا أن الآخر هو الذي باشره، والمباشرة تتغلب على السبب إذا لم يكن ملجئاً. ورأى البعض أن الممسك والقاتل كلاهما مباشر للقتل، وهذا رأي مالك والرأي الثاني في مذهب أحمد، وحجتهم أن القاتل باشر القتل والممسك تسبب فيه، وأن المباشرة والسبب تساويا في إحداث نتيجة الفعل وهي القتل، ولم يكن في الإمكان أن تحدث هذه النتيجة لو لم يكن أحد الفعلين (1) . والخلاف بين الفقهاء لا يرجع إلى اعتبار هذا معيناً وذاك مباشراً، فلا خلاف بينهم في تعريف المعين والمباشر، وإنما الخلاف يرجع إلى تطبيق القواعد التي تبين الطريقة التي ارتكبت بها الجريمة، وهل هي المباشرة أو التسبب (2) . هذه القواعد تتلخص في أن المباشرة إذا اجتمعت مع السبب لا تخرج عن حالات ثلاث: الأولى: أن يتغلب السبب على المباشرة، ويحدث ذلك إذا لم تكن المباشرة عدواناً، كشهادة الزور على المتهم بالقتل والحكم عليه بناء على هذه الشهادة. الثانية: أن تتغلب المباشرة على السبب، ويكون ذلك كلما قطعت المباشرة   (1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217، البحر الرائق ج8 ص345، نهاية المحتاج ج7 ص244، الشرح الكبير ج9 ص233. (2) راجع الفقرة 314 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 عمل السبب ولم يكن السبب ملجئاً، كمن ألقى بآخر في لجة لا تستطاع النجاة منها فلقيه ثالث في اللجة فقتله. الثالثة: أن يعتدل السبب والمباشرة، ويكون ذلك كلما تساوى عملهما، كالإكراه على القتل، فإن المكره هو الذي يحرك المباشر ويحمله على ارتكاب الحادث، ولولا الأول لما فعل الثاني شيئاً، ولولا فعل الثاني ما أدى الإكراه للقتل. فالخلاف واقع في تطبيق هذه القواعد لا في غيرها، إذ الممسك يعتبر متسبباً في القتل والثاني مباشراً له، فقد اجتمعت إذن مباشرة وتسبب. فمن اعتبر الممسك شريكاً مباشراً فقد رأى أن المباشرة اعتدلت مع السبب وتساوى عملهما، ومن اعتبر الممسك شريكاً بالتسبب فقد رأى أن المباشرة تغلبت على السبب وأن عمل الممسك يعتبر إعانة على القتل لا مباشرة له. ويعتبر مالك المعين شريكاً مباشراً في حالة التمالؤ على الجريمة، أي في حالة الاتفاق السابق على الجريمة إذا حضر المعين محل الحادث، أو كان على مقربة منه، بحيث لو استعين به على ارتكاب الجريمة لم يتأخر عن ارتكابها. فإذا لم يكن هناك اتفاق سابق عى الجريمة، وإذا حضر المعين محل الحادث ولم يكن على استعداد لارتكاب الجريمة لو استعين به، فهو شريك بالتسبب فقط. أما بقية الفقهاء فيعتبرون المعين شريكاً بالتسبب في كل الحالات ما دام أنه لم يباشر تنفيذ الجريمة. الشرط الثالث: أن يكون الشريك قاصداً من وسائله وقوع الفعل المعاقب عليه. ويشترط أن يقصد الشريك من اتفاقه أو تحريضه أو عونه وقوع جريمة معينة، فإن لم يقصد جريمة بعينها فهو شيك في كل جريمة تقع ما دامت تدخل في قصده المحتمل، فإذا لم يقصد الشريك جريمة ما، أو قصد جريمة معينة فارتكب الجاني غيرها، فلا اشتراك. فمن أعطى إنساناً فأساً ليعزق بها أرضه فقتل بها آخر فلا يعتبر أنه أعان القاتل على القتل، ومن حرض إنساناً على ضرب آخر فأتلف زراعته فلا يعتبر شريكاً في جريمة الإتلاف. على أن عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 مسئولية المحرض باعتباره شريكاً لا يمنع من مسئوليته عن التحريض على الضرب ولو لم تقع الجريمة المحرض عليها؛ لأن التحريض في ذاته معصية أي جريمة. 264 - علاقة السببية بين الاشتراك والجريمة: لا يعتبر الاشتراك موجوداً إلا إذا كان بينه وبين وقوع الجريمة علاقة السببية المباشرة، فإذا كانت وسيلة الإشراك هي الاتفاق وجب أن تقع الجريمة نتيجة لهذا الاتفاق، فإن لم تكن الجريمة نتيجة للاتفاق فلا اشتراك. وإذا كانت وسيلة الاشتراك التحريض وجب أن تقع الجريمة نتيجة للتحريض، فإن وقعت نتيجة لغير التحريض أو لم يكن للتحريض أثر في نفس المباشر فلا اشتراك. ويجب أن يكون بين الإعانة ووقوع الجريمة علاقة السببية، فمن استدرج إنساناً إلى مكان معين ليقتله آخر فلم يجد القاتل في المكان المتفق عليه فتركه يعود لمنزله، ثم جاء الجاني بعد ذلك فلما علم بما حدث ذهب إلى المجني عليه وقتله في منزله، ففي هذه الحالة لا يسأل المعين باعتباره شريكاً لانعدام علاقة السببية بين فعله ووقوع الجريمة. وانعدام الاشتراك لا يمنع من العقاب على الاتفاق والتحريض والإعانة باعتبارها معاصي أي جرائم بذاتها، ولا يتوقف العقاب عليها على تنفيذ الجريمة التي قصدت منها. 265 - هل يكون الاشتراك بعمل سلبي؟: وسائل الاشتراك هي الاتفاق والتحريض والإعانة. والاتفاق والتحريض وسيلتان إيجابيتان بطبيعتهما ولا يتصور نسبة الاتفاق والتحريض لمن لم يتفق ومن لم يحرض. أما الإعانة فتحتمل بطبيعتها أن تكون سلبية، كمن رأى جماعة يسرقون منزلاً فسكت عليهم، أو رآهم يقتلون آخر فلم يمنعهم عنه، أو رأى رجلاً يلقي بصغير لا يحسن العوم في نهر فلم يمنعه ولم ينقذ الصغير، فهل يعتبر السكوت في هذه الأحوال وأمثالها إعانة يؤاخذ عليها أم لا؟ أغلب الفقهاء لا يرون في هذه الحالات وأمثالها إعانة لمن باشر الجريمة؛ لأن السكوت وإن أمكن اعتباره عوناً من الناحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الأدبية إلا أنه لا يمكن اعتباره اشتراكاً بالتسبب وإعانة على الجريمة من الناحية الشرعية، إذ الإعانة المعاقب عليها تقتضي التفاهم بين المعين والمباشر، كما تقتضي أن يقصد الشريك من إعانته حدوث الجريمة، وأن تؤدي الإعانة إلى حدوثها. والسكوت على المجرمين في حالة من يرى جريمة ترتكب فلا يمنع من ارتكابها؛ السكوت في هذه الحالة لا يقوم على تفاهم، وإنما قد يكون نتيجة الخوف أو عدم المبالاة، كما أن الساكت لا يقصد من سكوته حدوث الجريمة، وليس بين سكوته وبين ارتكاب الجريمة علاقة السببية التي يجب توفرها بين عون المعين ووقوع الجريمة. ولكن بعض الفقهاء لا يأخذون بهذا الرأي، ويفرقون بين القادر على منع الجريمة، ومن لا يقدر على منعها، فأما من يقدر على منع الجريمة أو إنجاء المجني عليه من الهلكة فهو مسئول جنائياً عن سكوته، ويعتبر مشاركاً في الجريمة ومعيناً للجناة، وأما من لا يقدر على منع الجريمة أو إنجاء المجني عليه من الهلكة فلا مسئولية عليه إذا سكت، ولا يعتبر معيناً على الجريمة حيث لم يكن في إمكانه أن يفعل شيئاً، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها (1) . 266 - عدول الشريك وأثره: إذا عدل الشريك عن اتفاقه مع المباشر أو تحريضه له، أو عدل عن تقديم العون إليه، ثم وقعت الجريمة بالرغم من ذلك، فمن السهل في حالة الاتفاق والإعانة إعفاء الشريك من عقوبة الجريمة التي وقعت؛ لأن ما حدث منه لم يكن سبباً في وقوع الجريمة، أما في حالة التحريض فمن الصعب القول بإعفاء الشريك من العقاب، إلا إذا أثبت المحرض أنه أزال كل أثر لتحريضه، وأن المباشر ارتكب الجريمة وهو غير متأثر بتحريض الشريك. على أن هذا لا يمنع من العقاب على الاتفاق والتحريض باعتبار كل منهما معصية في ذاته وبغض النظر عن الجريمة التي وقعت، كما أن هذا لا يمنع من العقاب على العون الذي قدم كلما كان معصية. 267 - عقوبة الشريك المتسبب: القاعدة في الشريعة أن العقوبات   (1) المغني ج9 ص580، 581. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 المقدرة جعلت لمباشر الجريمة دون الشريك المتسبب، وتطبيق هذه القاعدة يقتضي أن من اشترك في جريمة من جرائم الحدود أو القصاص لا يعاقب بالعقوبة المقررة للجريمة أياً كانت وسيلة الاشتراك، أي سواء كان الاشتراك بالاتفاق أو التحريض أو العون، وإنما يعاقب بالتعزير. والعلة في اختصاص هذه القاعدة بجرائم الحدود والقصاص أن العقوبات المقررة لهذه الجرائم بالغة الشدة، وأن عدم مباشرة الشريك المتسبب للجريمة يعتبر شبهة تدرأ عنه الحد، ولأن الشريك المتسبب أياً كان الحال أخف جرماً وأقل خطراً من مباشر الجريمة، ومن ثم لم تستو عقوبتهما. لكن إذا كان فعل الشريك المتسبب بحيث يجعله في حكم المباشر، كما لو كان المباشر مجرد أداة في يد الشريك المتسبب فإن الأخير يعاقب في هذه الحالة بعقوبة الحد أو القصاص؛ لأنه يعتبر شريكاً مباشراً لا شريكاً متسبباً. وقد عرفنا نظرية مالك التي تعتبر الشريك المتسبب أياً كانت وسيلة الاشتراك شريكاً مباشراً إذا حضر تنفيذ الجريمة، وكان بحيث إذا لم ينفذها غيره نفذها هو، أو اشترك مع غيره في تنفيذها. وبمقتضى هذه النظرية يعاقب الشريك المتسبب بعقوبة الحد والقصاص كلما اعتبر شريكاً مباشراً. أما جرائم التعازير فنستطيع أن ننظر إليها من وجهين: 1 - فإذا قسناها على جرائم الحدود والقصاص وجب أن لا نسوي بين عقوبة الشريك المباشر وعقوبة الشريك المتسبب، ووجب أن نجعل عقوبة الأخير أخف من عقوبة الأول، ويمكن تعليل هذا الرأي بأن القواعد التي تنطبق على جرائم الحدود والقصاص، هي نفس القواعد التي تنطبق على جرائم التعازير في الغالب، وأن الشريك المتسبب أقل خطراً وأخف جرماً من الشريك المباشر، فلا معنى للتسوية بين مختلفين. 2 - وإذا قلنا إن القاعدة خاصة بجرائم الحدود والقصاص، وإن سبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 التفرقة بين الشريك المباشر والشريك المتسبب هو شدة العقوبة، وجب أن نقول إن جرائم التعازير لا يفرق فيها بين عقوبة الشريك المباشر والشريك المتسبب، وهذا هو الذي نرجحه؛ لأن جريمة كل من الشريكين جريمة تعزيرية والعقوبة المقررة عليها عقوبة تعزيرية، والشريعة لا تفرق بين جريمة تعزيرية وأخرى، ولا تحدد لكل جريمة عقوبة بعينها، وتترك للقاضي أن يختار العقوبة المناسبة للجريمة والمجرم، كذلك فإن عقوبات التعزير غير مقدرة؛ أي غير ثابتة، وما دامت العقوبة غير ثابتة وتقديرها متروك للقاضي فمن الصعب وضع حدود لعقوبة المباشر والمتسبب، كما أنه لا فائدة عملية ترجى من وراء وضع هذه الحدود. ويترتب على هذا الرأي أنه يصح أن تزيد عقوبة الشريك المتسبب على عقوبة الشريك المباشر، كما يصح أن تقل عنها أو تساويها؛ لأن عقوبات التعازير ذات حدين في الغالب، وللقاضي حرية تقدير العقوبة من بين الحدين مراعياً في التقدير ظروف المجرم والجريمة، فإذا رأى القاضي أن ظروف الشريك المباشر تقتضي استعمال الرأفة خفف عنه، وإذا رأى أن ظروف الشريك المتسبب تقتضي استعمال الشدة غلظ عقوبته. ويستطيع القاضي على هذا الأساس أن يرفع عقوبة أحد الشريكين إلى الحد الأعلى، أو أن ينزل بها إلى الحد الأدنى، كما يستطيع أن يسوي بين عقوبة الشريكين إذا رأى أن الظروف تقضي بالتسوية بينهما. 268 - أخذ الشريك بقصده الاحتمالي: ويسأل الشريك المتسبب عن الجريمة التي ارتكبها الشريك المباشر، ولو كانت أشد من الجريمة التي قصدها الشريك المتسبب، ما دامت الجريمة التي وقعت نتيجة محتملة لاشتراكه، وكان من الممكن توقع حصولها نتيجة لتنفيذ الجريمة المقصودة، فمن حرض شخصاً على ضرب آخر فضربة ضربة أدت لوفاته، فالشريك المتسبب لا يسأل عن الضرب فقط وإنما يسأل عن القتل شبه العمد؛ لأن القتل كان نتيجة محتملة الوقوع لتنفيذ جريمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الضرب، وإذا ضربه فأحدث به إصابة أدت لبتر يده أو شللها فالشريك المتسبب مسئول عن جريمة إبانة الطرف أو إذهاب معناه؛ لأن هذا من النتائج المتوقعة للضرب. 269 - أثر ظروف الشريك المباشر على الشريك المتسبب: قد تتأثر عقوبة الشريك المتسبب بالظروف التي تؤثر على عقوبة الشريك المباشر وقد لا تتأثر بها، وعقوبة الشريك المباشر تتأثر بعقوبة الفعل، وصفة الفاعل، وقصده، كما بينا سابقاً (1) . فأما من جهة الفعل: فإذا ارتكب الشريك المباشر الفعل الذي قصده الشريك المتسبب، فعلى كل منهما عقوبته كلما كان الفعل من جرائم التعزير، أما إن كان الفعل من جرائم الحدود أو القصاص فلكل منهما عقوبته الخاصة؛ للأسباب التي بيناها (2) . وإذا ارتكب المباشر فعلاً غير الذي قصده الشريك المتسبب فلا يعاقب الأخير بعقوبة هذا الفعل إلا إذا كان داخلاً في قصده المحتمل. وإذا كانت العقوبة قائمة على صفة الفاعل فشددت أو خففت أو انعدمت لصفته: فإن الشريك المتسبب لا يتأثر بشيء من هذا؛ لأن التشديد والتخفيف وامتناع العقاب راجع لمعنى في الشريك المباشر لا يتوفر في الشريك المتسبب، فإذا كان الشريك المباشر صبياً أو مجنوناً فلا عقاب عليه، وعلى الشريك المتسبب العقاب، وإذا كان الشريك المباشر معتاداً على الإجرام شددت عليه العقوبة دون الشريك المتسبب، وإذا كان الشريك المباشر صغير السن خففت عليه العقوبة لصغر سنه، ولم تخفف عن الشريك المتسبب. وإذا كانت العقوبة قائمة على قصد الفاعل عوقب بها الشريك المتسبب إذا لم يكن قصده مخالفاً لقصد المباشر، ولا يعاقب بها إذا كان قصده الخاص يوجب عليه عقوبة أقل منها.   (1) راجع الفقرتين 260، 261. (2) راجع الفقرة 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ويراعى دائماً في كل الحالات أن هناك فرقاً بين عقوبة الشريكين في جرائم الحدود والقصاص. 270 - ظروف الشريك الخاصة: إذا كان للشريك المتسبب صفات خاصة تستدعي تغيير وصف الجريمة أو العقوبة فإنها تسري عليه، فإذا كان عائداً شددت عقوبته، وإذا كان صغير السن خففت عقوبته، وإذا كان معتوهاً أو مجنوناً أعفى من العقوبة، وإذا كان للشريك المتسبب الحق في إتيان الفعل فحرض غيره عليه، كأن حرضه على تأديب ولده، أو تلميذه، أو زوجته، فالفعل يعتبر جريمة بالنسبة للمباشر، ولا يعتبر بالنسبة للشريك المتسبب؛ لأنه لو باشر الفعل بنفسه لما اعتبر مجرماً، وإذا زاد فعل المباشر على حد التأديب كانت مسئولية الشريك المتسبب قاصرة على تعدي حد التأديب فقط. 271 - بين الشريعة والقانون: وتتفق الشريعة مع القوانين الوضعية في تعريف الاشتراك بالتسبب، وشروط هذا النوع من الاشتراك، ووسائل الاشتراك، ووجوب توفر علاقة السببية بين وسيلة الاشتراك ووقوع الجريمة. وتتفق نظرية الشريعة في عقوبة الشركاء في جرائم الحدود والقصاص مع النظرية التي يأخذ بها القانون البلجيكي اليوم، فهو يجعل عقوبة الشريك المتسبب أقل من عقوبة الشريك المباشر. وتتفق كذلك مع ما أخذ به القانون المصري في القتل العمد. وتتفق نظرية الشريعة في عقوبة الشركاء في جرائم التعازير مع النظرية التي أخذ بها القانون المصري والقانون الفرنسي في معظم الجرائم، حيث يسوي كلاهما بين عقوبة الشريك المباشر وعقوبة الشريك المتسبب. وتتفق نظرية الشريعة في استفادة الشريك المتسبب من ظروفه الخاصة مع ما يأخذ به القانون الإيطالي الذي يقرر هذا المبدأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 272 - العقاب على وسائل الاشتراك إذا لم تقع الجريمة المقصودة: القاعدة العامة في الشريعة أن لا عقاب على حديث النفس ووسوسة الصدر وما ينتوي المرء عمله ما لم يعمل به أو يتكلم. وأساس هذه القاعدة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عفا لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم". ويترتب على هذه القاعدة أن الفرد إذا فكر في الجريمة وانتواها وصمم عليها فلا عقاب عليه، ما دام لم يخرج نيته إلى حيز التنفيذ، سواء كان التنفيذ بعمل مثل ارتكاب الجريمة، أو بقول كأن يأمر غيره بارتكاب الجريمة أو يحرضه على ذلك أو يتفق معه على ارتكاب الجريمة. والأصل في الشريعة أن الاتفاق على الجريمة والتحريض عليها وإعانة المجرم على جريمته، كل ذلك يعتبر بذاته جريمة مستقلة، سواء وقعت الجريمة المقصودة أو لم تقع. وهو يعتبر جريمة من وجهين: أولهما: أن الشريعة تحرم الأمر بالمنكر والاتفاق والإعانة عليه، والجرائم هي أشد المنكرات وأكبرها في الشريعة. وثانيهما: أن الاتفاق على الجريمة والتحريض والإعانة عليها يؤدي إلى ارتكاب ما تحرمه الشريعة وهو الجرائم والقاعدة الأصولية أن ما أدى إلى المحرم فهو محرم. وعلى هذا يجوز عقاب من اتفق أو حرض أو أعان على جريمة ولو لم تقع هذه الجريمة؛ لأن مجرد الاتفاق والتحريض والإعانة لا يخرج عن كونه جريمة بذاته، فإذا وقعت الجريمة المقصودة اعتُبر المتفق أو المحرض أو المعين شريكاً بالتسبب فيها وكان عليه عقوبتها طبقاً للقواعد التي بيناها فيما سبق. وينبني على ما سبق أن التحريض العام على الجرائم معاقب عليه في الشريعة، وأن الاتفاق الجنائي على الجرائم معاقب عليه، سواء أدى التحريض أو الاتفاق إلى نتائجه المقصودة أو لم يؤد لهذه النتائج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ومبدأ الشريعة في العقاب على الاتفاق والتحريض والإعانة باعتبارها جرائم مستقلة يتفق تمام الاتفاق مع مبدأها في عدم العقاب على النية ما لم يصحبها عمل أو قول، فالمتفق أو المحرض على الجريمة ينوي إتيان الجريمة ويظهر نيته مصحوبة بقول هو الاتفاق أو التحريض، والمعين على الجريمة يظهر نيته مصحوبة بعمل هو المساعدة، فأصبح كل منهم أهلاً للعقاب على ما وسوست له نفسه بعد أن أظهره في عمله أو قوله. وتتفق القوانين الوضعية مع الشريعة في أحد المبدأين وتخالفها في الآخر، فتتفق القوانين مع الشريعة في أن لا عقاب على النية مستقلة عن القول أو العمل، ولكن القوانين لا تطبق المبدأ بدقة حيث له مستثنيات، منها تشديد العقاب على الجرائم العمدية المصحوبة بسبق إصرار، وتخفيفه في الجرائم العمدية التي لم يصحبها سبق إصرار. ومعنى هذه التفرقة أن القوانين تعاقب على النية مستقلة عن الفعل. أما الشريعة الإسلامية فتطبق المبدأ بدقة ولا تجعل له مستثنيات. أما المبدأ الثاني فتخالف فيه القوانين الشريعة، حيث تأخذ القوانين عامة بعدم العقاب على الاتفاق أو التحريض أو الإعانة، إلا إذا وقعت الجريمة المقصودة، سواء وقعت تامة أو لم تتم، على أن القوانين الوضعية قد خرجت على هذا المبدأ في كثير من الحالات، وأصبحت اليوم تعاقب على الاتفاقات الجنائية باعتبارها جرائم مستقلة، ولو لم تقع الجرائم المقصودة أو يشرع فيها. ومن هذا القبيل ما نص عليه قانون العقوبات المصري في المادة 47 منه. وهذا الاتجاه الذي اتجهت إليه القوانين الوضعية هو أخذ بنظرية الشريعة التي تمتاز بأنها أدق منطقاً وأوفى بتحقيق حاجات الجماعة. فمن وجهة المنطق: إما أن يكون الاتفاق أو التحريض أو العون محرماً لذاته أو غير محرم، فإن كان محرماً لذاته فقد وجب العقاب عليه سواء وقعت الجريمة المقصودة أو لم تقع، وإن كان غير محرم لذاته فلا محل للعقاب عليه بعد وقوع الجريمة؛ لأن العقاب عليه عقاب على عمل غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 محرم، ولأن الجريمة وقعت ممن باشرها وهو مختار مميز فلا يسأل عنها غيره، ولأن المتفق أو المحرض أو المعين لم يعمل شيئاً ما بعد الاتفاق والتحريض والإعانة، وقد اعتبرناها غير محرمة لذاتها. ومن وجهة تحقيق مصلحة الجماعة: فإن نظرية الشريعة تساعد على حفظ النظام وكبح تيار الإجرام، وليس أدل على ذلك من أن القوانين الوضعية أخذت بنظرية الشريعة أخيراً على الأقل في الاتفاقات الجنائية. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 الباب الثالث الركن الأدبي 273 - موضوع البحث: سنتكلم في هذا الباب على موضوعين: أولهما: المسئولية الجنائية. وثانيهما: ارتفاع المسئولية الجنائية. وسنخصص لكل موضوع فصلاً خاصاً. الفصل الأول المسئولية الجنائية 274 - موضوع البحث: سنتكلم في هذا الفصل على أساس المسئولية الجنائية، وعلى محل المسئولية الجنائية، وعلى سبب المسئولية ودرجاتها، ثم على قصد العصيان أو القصد الجنائي، وعلى أثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية، وعلى أثر الرضاء على المسئولية، وعلى الأفعال المتصلة بالجريمة وعلاقتها بالمسئولية. وسنخصص لكل موضوع مبحثاً خاصاً. * * * المبحث الأول أساس المسئولية الجنائية 275 - عرض تاريخي للمسئولية الجنائية: أولاً: في القوانين الوضعية: كانت القوانين الوضعية في العصور الوسطى وإلى ما قبل الثورة الفرنسية تجعل الإنسان والحيوان بل الجماد محلاً للمسئولية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الجنائية، وكان الجماد يعاقب كالحيوان على ما نسب إليه من أفعال ضارة، كما يعاقب الإنسان على ما ينسب إليه من أفعال محرمة، وكانت العقوبة تصيب الأموات كما تصيب الأحياء، ولم يكن الموت من الأسباب التي تعفي الميت من المحاكمة والعقاب، ولم يكن الإنسان مسئولاً جنائياً عن أعماله فقط، وإنما كان يسأل عن عمل غيره ولو لم يكن عالماً بعمل هذا الغير، ولو لم يكن له سلطان فعلي على هذا الغير؛ فكانت العقوبة تتعدى المجرم إلى أهله وأصدقائه، وتصيبهم كما تصيبه؛ وهو وحده الجاني وهم البراء من جنايته. وكان الإنسان يعتبر مسئولاً جنائياً عن عمله، سواء كان رجلاً أو طفلاً مميزاً أو غير مميز، وسواء كان مختاراً أو غير مختار، مدركاً أو فاقد الإدراك. وكانت الأفعال المحرمة لا تعيَّن قبل تحريمها، ولا يعلم بها الناس قبل مؤاخذتهم عليها، وكانت العقوبات التي توقع غير معينة في الغالب، يترك للقضاة اختيارها وتقديرها، فكان الشخص يأتي الفعل غير محرم من قبل، فيعاقب عليه إذا رأى صاحب السلطان أن فعله يستحق العقاب، ولو لم يكن عوقب أحد من قبل على هذا الفعل، ولو لم يكن الفعل أُعلن تحريمه من قبل. وكانت العقوبات على الفعل الواحد تختلف اختلافاً ظاهراً؛ لأن اختيار نوعها وتقدير كمها متروك للقاضي، فله أن يعاقب بما شاء وكما يشاء دون قيد ولا شرط. هذه هي بعض المبادئ البالية التي كانت القوانين الوضعية تقوم عليها، وهي مبادئ ترجع في أساسها إلى نظرية المسئولية المادية التي كانت تسيطر على القوانين الوضعية، والتي تنظر إلى الصلة المادية البحتة بين الجاني والجناية، وبين الجاني وغيره من أهله والمتصلين به، ولا تحسب حساباً لملكات الجاني الذهنية، وقدرته على التفكير والتمييز والاختيار، وتوجيه إرادته للفعل، ومدى اتصال ذلك كله بالفعل المحرم وأثره عليه. وقد ظلت هذه المبادئ سائدة في القوانين الوضعية حتى جاءت الثورة الفرنسية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فزعزعت هذه الأوضاع الجائزة، وأخذت تحل محلها من ذلك الحين مبادئ جديدة، تقوم على أساس العدالة وعلى جعل الإدراك والاختيار أساساً للمسئولية، فأصبح الإنسان الحي وحده هو محل المسئولية الجنائية، وأصبحت العقوبة شخصية لا تصيب إلا من أجرم ولا تتعداه إلى غيره، ورفعت المسئولية عن الأطفال الذين لم يميزوا، ووضعت عقوبات بسيطة للأطفال المميزين، وارتفعت المسئولية عن المكرَه وفاقد الإدراك، وأصبح من المبادئ الأساسية في القوانين أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون، وأن لا عقوبة إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القوانين، وقيدت حرية القضاة في اختيار العقوبة وتقديرها. ثانياً: في الشريعة الإسلامية: ومن يعرف شيئاً قليلاً عن الشريعة الإسلامية يستطيع أن يقول وهو آمن من الخطأ إن كل هذه المبادئ الحديثة التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، قد عرفتها الشريعة من يوم وجودها، وإنها من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الشريعة. فالشريعة لا تعرف محلاً للمسئولية إلا الإنسان الحي المكلَّف، فإذا مات سقطت عنه التكاليف ولم يعد محلاً للمسئولية. والشريعة تعفي الأطفال إلا إذا بلغوا الحلم مما لا يعفى من الرجال، لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 59] ، ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يصحو، وعن المجنون حتى يفيق". والشريعة لا تؤاخذ المكرَه ولا فاقد الإدراك، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ، وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ، ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ومن القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية: {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 38، 39] ، فلا يسأل الإنسان إلا عن جنايته، ولا يؤخذ بجناية غيره مهما كانت صلته به. ومن القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية أن كل ما لم يحرم فهو مرخص لا عقاب على إتيانه، فإذا حرم فالعقوبة من وقت العلم بالتحريم، أما ما قبل ذلك فيدخل في قوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف} [المائدة: 95] . وليس للقضاة في الشريعة الإسلامية أي شئ من الحرية في اختيار العقوبة أو تقديرها في جرائم الحدود والقصاص، أما في التعازير فلهم حرية مقيدة، لهم أن يختاروا العقوبة من بين عقوبات معينة، ولهم أن يقدروا كمية العقوبة إن كانت ذات حدين بما يتناسب مع ظروف الجريمة والمجرم، ولكن ليس لهم أن يعاقبوا بعقوبة لم يقررها أولو الأمر، ولا أن يرتفعوا بالعقوبة أو ينزلوا بها عن الحدود التي وضعها أو يضعها أولو الأمر. هذه هي المبادئ الحديثة التي ابتدأت القوانين الوضعية تعرفها في القرن الماضي، قد عرفتها الشريعة الإسلامية وطبقتها قبل القوانين الوضعية باثنى عشر قرناً. ومن المؤلم حقاً أن يجهل أكثر رجال القانون في البلاد الإسلامية هذه الحقائق الأولية، وأن يخيل إليهم من جهلهم بأحكام الشريعة أن القوانين الوضعية هي أول ما استحدث هذه المبادئ التشريعية. 276 - نظرية المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية والأسس التي تقوم عليها: من المتفق عليه أن الأفعال المحرمة يؤمر بها أو ينهى عنها، لأن في إتيانها أو تركها ضرراً بنظام الجماعة أو عقائدها أو بحياة أفرادها أو بأموالهم أو بأعراضهم أو بمشاعرهم أو بغير ذلك من الاعتبارات التي تمس مصالح الأفراد أو مصالح الجماعة ونظامها، والأفعال التي تمس مصالح الأفراد تنتهي بمساس مصلحة الجماعة ونظامها، فالأفعال التي تحرم إذن لم تحرم إلا لحفظ مصالح الجماعة ونظامها، والعقوبات التي تفرض على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 هذه الأفعال إنما تفرض لحماية مصالح الجماعة ونظامها (1) والأفعال التي تحرم لا تحرم لذاتها؛ لأن من هذه الأفعال ما قد يستفيد منه الفاعل ويعود عليه بالنفع كالسرقة وخيانة الأمانة والرشوة، فإنها تعود على الجاني بالكسب، وكالزنا فإنه يعود على الزاني باللذة وإطفاء الشهوة، وكالقتل للانتقام فإنه يعود على القاتل بشفاء نفسه من الحقد والشعور بالذلة والعار. فهناك فوائد محققة تعود على الجاني من ارتكاب الجريمة، ولكن هذه الفوائد التي قد يصيبها الجاني من جريمته تؤدي إلى إفساد الجماعة والإضرار بها وانحلال نظامها، ولتلافي هذه النتائج حرمت هذه الأفعال؛ حماية للجماعة من الفساد وحفظاً لنظامها من التفكك والانحلال. والأفعال المحرمة بعضها يعتبر بطبيعته جريمة؛ لأنه يتنافى مع الأخلاق الفاضلة كالسرقة والزنا، وبعضها لا يعتبر بطبيعته جريمة ولم يحرمه الشارع؛ لأنه يمس الشرف أو يؤذي الأخلاق، وإنما حرمه لأن في إباحته إضراراً بالجماعة؛ كتحريم حمل السلاح، وتحريم الانتقال من محل موبوء بمرض معد إلى محل غير موبوء، وتحريم الامتناع عن تلقي العلم، فمثل هذه الأفعال تحرم لحفظ مصالح الجماعة ودفع الضرر عنها. وإذا كانت الأفعال تحرم لمصلحة الجماعة، فإن العقوبة تفرض باعتبارها وسيلة لحماية الجماعة مما يضر بصوالحها ونظامها، ولما كانت العقوبة هي أمثل الوسائل لحماية الجماعة من الجريمة والإجرام، فإن العقوبة بهذا تصبح ضرورة اجتماعية لا مفر منها، ومثل العقوبة في هذا كل وسيلة أخرى تقوم مقام العقوبة في حماية الجماعة من الإجرام والمجرمين. وإذا كانت العقوبة ضرورة اجتماعية، فإن كل ضرورة تقدر بقدرها، فلا يصح أن تكون العقوبة أكثر مما ينبغي لحماية الجماعة ودفع ضرر الإجرام عنها، كما لا يصح أن تكون أقل مما يجب لحماية الجماعة من الإجرام.   (1) راجع الفقرة 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وتعتبر العقوبة محققة لمصلحة الجماعة كلما بعدت عن الإفراط والتفريط، وهي تعتبر كذلك كلما توفرت فيها العناصر الآتية: 1 - أن تكون العقوبة بحيث تكفي لتأديب الجاني وكفه عن معاودة الجريمة، وأن تكون بحيث يستطيع القاضي أن يختار نوع العقوبة الملائمة لشخصية الجاني وأن يقدر كمية العقوبة التي يراها كافية لتأديبه وكف أذاه، وهذا يقتضي تنوع العقوبات وتعددها للجريمة الواحدة، وجعل العقوبات ذات حدين؛ ليستطيع القاضي أن يختار العقوبة الملائمة ويقدر كميتها من بين حدي العقوبة الأدنى والأعلى (1) . 2 - أن تكون العقوبة كافية لزجر الغير عن ارتكاب الجريمة بحيث إذا فكر في الجريمة وعقوبتها وجد أن ما يعود عليه من ضرر العقوبة قد يزيد على ما يعود عليه من نفع الجريمة. وهذا يقتضي أن تكون أنواع العقوبات وحدودها العليا بحيث تنفر من الجريمة. 3 - أن يكون هناك تناسب بين الجريمة والعقوبة، بحيث تكون العقوبة على قدر الجريمة، فلا يصح أن يكون عقاب قطع الطريق كعقاب السرقة العادية، ولا يصح أن تكون عقوبة القتل العمد متساوية مع عقوبة القتل الخطأ. ولقد عاقبت الشريعة مثلاً على السرقة بقطع اليد، ولكنها لم تعاقب على القذف بقطع اللسان، ولا تعاقب على إتلاف الزنا بالخصاء، وعاقبت على القتل العمد بالقصاص ولكنها لم تعاقب على إتلاف الأول بالقصاص. 4 - أن تكون العقوبة عامة بحيث تطبق العقوبة المقررة للجريمة على من ارتكبها، فلا يعفى منها أحد لمركزه أو شخصه أو غير ذلك من الاعتبارات. والعقوبة التي تتوفر فيها العناصر السابقة هي العقوبة العادية، ولا يصح أن تقع إلا على من ارتكب الجريمة وهو مدرك مختار، فإذا لم يكن الجاني مدركاً   (1) تسير الشريعة على هذه القاعدة في كل الجرائم إلا جرائم الحدود والقصاص، وقد بينا علة ذلك في الفقرات من 440 إلى 442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 أو مختاراً فلا عقاب كقاعدة عامة، فالمجنون لا يقتص منه إذا قتل غيره، ولا يجلد إذا زنا وهو غير محصن، وكذلك الصغير الذي لم يميز، ولكن امتناع العقوبة العادية لعدم الإدراك أو الاختيار لا يمنع الجماعة من حماية نفسها بالوسائل التي تراها كافية أو ملائمة. فالصغير غير المميز إذا لم يكن الاقتصاص منه إذا قتل فإنه يمكن أن يوضع في ملجأ، أو يرسل به لإحدى الإصلاحيات، والمجنون إذا لم يكن عقابه فإن من الممكن حماية الجماعة من شره بوضعه في مستشفى، وهكذا إذا امتنع عقاب الجاني بالعقوبات العادية، وكان من الضروري اتقاء شره وحماية الجماعة منه، فإن للجماعة أن تتخذ من الوسائل ما تجمي به نفسها من شر الجاني ولو أنه غير مسئول ويمكن عقابه، كأن تضعه في ملجأ أو مستشفى أو مدرسة إلى أمد محدود أو غير محدود بحيث لا يخرج منه إلا إذا أمن شره أو صلح حاله. وهذه الوسائل على اختلاف أنواعها وأثارها تعتبرها الشريعة تعازير، فهي عقوبات ولكنها غير عادية أو هي عقوبات خاصة. والمقصود منها أساساً هي حماية الجماعة، على أنه قد يقصد منها أيضاً التأديب وإصلاح الجاني كما في حالة الصغار. ويعلل الفقهاء اشتراط الإدراك والاختيار لاستحقاق العقاب العادي بأن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خلق العباد وخلق الموت والحياة، وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلو عباده ويختبرهم أيهم أحسن عملاً، وأنه هيأ لهم أسباب الابتلاء في أنفسهم وفي خارج أنفسهم، فأما في أنفسهم فقد خلق لهم العقول، والأسماع، والأبصار، والإرادات، والشهوات، والقوى، والطبائع، والحب، والبغض، والميل، والنفور، والأخلاق المتضادة المقتضية لآثارها اقتضاء السبب لمسببه، وأما في خارج أنفسهم فقد خلق لهم المنافع والمعاني التي تحرص النفوس عليها وتتنافس في الوصول إليها، كما خلق لهم من المعاني والأسباب ما تكرهه النفوس وتعمل على دفعه عنها، ولم يترك الله جل شأنه الناس ودواعي أنفسهم وطبائعهم، بل ركب في فطرهم وعقولهم معرفة الخير والشر والنافع والضار والألم واللذة ومعرفة أسبابها، ولم يكتف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 بمجرد ذلك حتى عرفهم به مفصلاً على ألسنة رسله، وقطع معازير الناس بأن أقام على صدق رسله من الأدلة والبراهين ما لا يبقى معه لهم عليه حجة؛ ليهلك من هلك من بينة، ويحيى من حيى عن بينة، وصرف لهم طرق الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، وضرب لهم الأمثال، وأزال عنهم كل إشكال، ومكنهم من القيام بما أمرهم به ترك ما نهاهم عنه غاية التمكين وأعانهم عليه بكل سبب، وسلطهم على قهر طباعهم، وأرشدهم إلى التفكر والتدبر وإيثار ما تقضي به عقولهم، وأكمل لهم دينهم وأتم عليهم نعمته بما أوصله إليهم على ألسنة رسله من أسباب العقوبة والمثوبة والبشارة والنذارة والرغبة والرهبة، وحقق لهم ذلك فجعل بعضه في دار الدنيا ليكون علماً وأمارة لتحقق ما أخره عنهم في دار الجزاء والمثوبة ويكون العاجل مذكراً بالآجل. وكان من بعض حكمته أن حرم على الناس ما يضر بعقولهم وأبدانهم وأموالهم وما ويضر بأفرادهم وجماعتهم ونظامهم، وشرع لهم من العقوبات عليه ما يقطع أطماعهم ويرد عدوانهم ويمنع تظلمهم، فإن سمعوا وأطاعوا لم يضرهم ذلك شيئاً، وإن عصوا فقد حقت عليهم العقوبة بعصيانهم وعدوانهم، ولا عذر لهم بعد أن عملوا بما حرم عليهم وما ينتظرهم من عقاب، وبعد أن أتوا ما أتوا وهم مختارين مدركين (1) . أما من لم يكن مدركاً أو مختاراً فلا عقاب عليه؛ لأن المكلف بإتيان فعل أو تركه يجب أن يفهم الخطاب الموجه إليه؛ أي الأمر والنهي، وهو لا يستطيع أن يفهم ذلك إلا إذا كان عاقلاً، كما أنه لا يمكن القول بأن المكلف عصى أمر الشارع إذا كان قد أُكره على الفعل المحرم (2) . وسنعرض على القارئ فيما يلي نموذجاً مما يقوله الفقهاء في تعليل عدم العقاب في هاتين الحالتين، وهذا   (1) أعلام الموقعين ج2 ص214- 216. (2) المستصفي للغزالي ج1 ص83، 84، 90، فواتح الرحموت ج1 ص143 وما بعدها وص 166، أصول الفقه للخضري ص109 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 القول لأبي الحسن الآمدي صاحب كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" قال (1) : "اتفق العقلاء على أن شرط المكلف (2) أن يكون عاقلاً فاهماً للتكليف، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال، كالجماد والبهيمة". "ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب دون تفاصيله من كونه أمراً أو نهياً، ومقتضياً للثواب والعقاب، ومن كون الآمر به هو الله تعالى، وأنه واجب الطاعة، وكون المأمور به على صفة كذا وكذا، كالمجنون والصبي الذي لا يميز - فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة إلى فهم أصل الخطاب، ويتعذر تكليفه أيضاً إلا على رأي من يجيز التكليف بما لا يطاق؛ لأن المقصود من التكليف كما يتوقف على فهم أصل الخطاب فهو متوقف على فهم تفاصيله". "وأما الصبي المميز وإن كان يفهم ما لا يفهمه غير المميز، غير أنه أيضاً غير فاهم على الكمال ما يعرفه كامل العقل من وجود الله تعالى، وكونه متكلماً مخاطباً مكلفاً بالعبادة، ومن وجود الرسول الصادق والمبلغ عن الله تعالى، وغير ذلك مما يتوقف عليه مقصود التكليف، فنسبته إلى غير المميز كنسبة غير المميز إلى البهيمة فيما يتعلق بفوات شرط التكليف". وإن كان مقارباً لحالة البلوغ بحيث لم يبقى بينه وبين البلوغ سوى لحظة واحدة، فإنه وإن كان فهمه كفهمه الموجب لتكليفه بعد لحظة، غير أنه لما كان العقل والفهم فيه خفياً، وظهوره فيه على التدريج، ولم يكن له ضابط يعرف به، جعل له الشارع ضابطاً وهو البلوغ وحط عنه التكليف قبله تخفيفاً عليه، ودليله قوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق". "وعلى هذا فالغافل عما كلف به والسكران المتخبط لا يكون خطابه وتكليفه في حالة غفلته وسكره أيضاً، إذ هو في تلك الحالة أسوأ حالاً من الصبي المميز   (1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص215 وما بعدها. (2) المكلف هو الشخص الذي يوجه إليه الأمر والنهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 فيما يرجع إلى فهم خطاب الشارع وحصول مقصوده منه، وما يجب عليه من الغرامات والضمانات بفعله". "واختلفوا في الملجأ إلى الفعل بالإكراه بحيث لا يسعه تركه في جواز تكليفه بذلك الفعل إيجاداً وعدماً، والحق أنه إذا خرج بالإكراه إلى حد الاضطرار، وصار نسبة ما يصدر عنه من الفعل إليه نسبة حركة المرتعش إليه، كان تكليفه به إيجاداً وعدماً غير جائز إلا على القول بتكليف ما لا يطاق وإن كان ذلك جائزاً عقلاً لكنه ممتنع الوقوع سمعاً لقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، والمراد منه رفع المؤاخذة ... وأما إن لم ينته إلى حد اضطرار فهو مختار وتكليفه جائز عقلاً وشرعاً". هذه هي نظرية المسئولية في الشريعة الإسلامية، وظاهر مما سبق أنها تقوم على أساسين: أولهما: أن العقوبة فرضت لحماية الجماعة وحفظ نظامها وتحقيق الأمن لها، فهي ضرورة اجتماعية استلزمها وجود الجماعة، وكل ضرورة تقدر بقدرها. فإذا اقتضت مصلحة الجماعة أن تكون العقوبة قاسية غلظت العقوبة، وإذا اقتضت مصلحة الجماعة أن تخفف العقوبة خففت العقوبة، وإذا اقتضت مصلحة الجماعة استئصال المجرم استؤصل منها: إما بقتله وإما بحبسه حتى يموت أو ينصلح حاله. ثانيهما: أن العقوبة العادية لا يستحقها إلا من كان مدركاً مختاراً من المكلفين، فإذا لم يكن المكلف مدركاً أو مختاراً فلا مسئولية عليه وبالتالي لا عقاب، ولكن هذا لا يمنع الجماعة من أن تحمي نفسها من الشخص غير المسئول بالوسيلة الملائمة لحاله وحال الجماعة، ولو كانت هذه الوسيلة عقوبة ما دامت تلائم حال المعاقب. 277 - نظرية المسئولية الجنائية في القوانين الوضعية: وإذا كانت الشريعة قد عرفت النظرية التي بسطناها من ثلاثة عشر قرناً ولم تعرف غيرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 فإن القوانين الوضعية قد عرفت أكثر من نظرية واحدة، فقبل الثورة الفرنسية كانت المسئولية الجنائية قائمة على أساس النظرية المادية، ومقتضاها العقاب على أي فعل أياً كان مرتكبه، وبغض النظر عن صفته وحالته، وقد أدت هذه النظرية إلى عقاب الإنسان والحيوان والجماد، وأدت إلى عقاب الأحياء والأموات والأطفال والمجانين. وبعد الثورة الفرنسية قامت المسئولية الجنائية على أساس من فلسفة الاختيار، ويسمى هذا المذهب بالمذهب التقليدي، وخلاصته أنه لا يصح أن يسأل جنائياً إلا من يتمتع بالإدراك والاختيار، وأن الإنسان وحده هو الذي تتوفر فيه هاتان الصفتان، وأن الإنسان بعد سن معينة يستطيع أن يميز بين الخير والشر ويختار بينهما، ومثل هذا الشخص هو الذي توجه إليه أوامر الشارع ونواهيه، فإذا خالف الشارع مع قدرته على الإدراك والاختيار كان من العدل أن يعاقب جزاء على مخالفتة أمر الشارع. فأساس المسئولية هو الإدراك والاختيار، والعقوبة مفروضة ضماناً لتنفيذ أمر الشارع، وجزاء عادلاً على مخالفته. وبعد أن ساد المذهب التقليدي زمناً ظهر المذهب الوضعي، وهو قائم على فلسفة الجبر، وخلاصته أن المجرم لا يأتي الجريمة مختاراً، وإنما يأتيها مدفوعاً إليها بعوامل لا قبل له بها ترجع إلى الوراثة والبيئة والتعليم والتركيب الجثماني، وإذا كان الجاني لا خيار له في ارتكاب الجريمة فقد امتنع عقابه طبقاً للمذهب التقليدي، ولكن يمكن عقابه إذا اعتبرت العقوبة وسيلة من وسائل الدفاع عن الجماعة وحمايتها، وعلى أساس هذا المذهب يعاقب الإنسان سواء كان مختاراً أو غير مختار، مدركاً أو غير مدرك، عاقلاً أو مجنوناً، وإنما تختلف العقوبة التي تصيب كل جان باختلاف سنه وعقليته، وقد أخذت بعض القوانين بهذا المذهب ومنها القانون السوفيتي الصادر في سنة 1926، ولكن أكثر الدول لم تأخذ به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 ثم ظهر بعد ذلك مذهب آخر قصد منه التوفيق بين المذهبين السابقين، ويسمى مذهب الاختيار النسبي، ويرى أصحابه الإبقاء على المذهب التقليدي، لأن الإنسان مهما كان اختياره محدوداً فإن لإرادته دخلاً في الجريمة، ولكن المذهب الجديد يضيف إلى المذهب القديم فكره أخرى، وهي أن للمشرع أن يحمي الجماعة من إجرام الأشخاص الذين يمتنع عقابهم لانعدام إدراكهم أو اختيارهم، بأن يتخذ معهم إجراءات خاصة مناسبة لحالتهم. وهذا المذهب هو الذي يسود القوانين الوضعية اليوم (1) . ويلاحظ أن المذهب القانوني الأخير يؤدي إلى نفس النتائج التي يؤدي إليها مذهب الشريعة الإسلامية، ولا يفترق عنه إلا في أن نظرية الشريعة أدق منطقاً وأفضل صياغة، فهي تجعل العقوبة ضرورة اجتماعية ووسيلة لحماية الجماعة، وتفرق في تطبيق وسائل حماية الجماعة بين الشخص المختار المدرك وبين فاقد الإدراك أو الاختيار، أما المذهب القانوني فأساس العقوبة فيه مخالفة أمر الشارع وتحقيق العدالة، وهذا الأساس مأخوذ عن المذهب التقليدي، وهو أساس يتعارض منطقياً مع معاقبة غير المسئول، أو إتخاذ أي إجراء ضده، إذ لا يمكن أن يقال إن فاقد الإدراك والاختيار خالف أمر الشارع، وإذا لم يكن قد خالف أمر الشارع فليس من العدالة في شئ أن يؤاخذ بأي وجه من وجوه المؤاخذة. والشريعة الإسلامية وإن كانت تجعل أساس المسئولية الجنائية الإدراك والاختيار، والمدرك المختار مسئولاً كلما خالف أمر الشارع، وتعتبر فاقد الإدراك أو الاختيار غير مسئول، إلا أنها تجعل العقاب ضرورة اجتماعية ووسيلة لحماية المجتمع، وهذا يجعل من حق الشارع عقاب المسئول جنائياً بالعقوبة التي تحمي الجماعة منه، كما يجعل من حق الشارع أن يتخذ ضد غير المسئول الوسائل الملائمة لحماية الجماعة من شره وإجرامه إذا دعت الضرورة لذلك.   (1) القانون الجنائي لعلي بدوي ص330، 335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ويجب أن لا ننسى بعد هذا أن نظرية الشريعة الإسلامية عُرفت من القرن السابع الميلادي، وأن أحدث المذاهب الوضعية لم يعرف إلا في القرن العشرين، وأن ما يقال من أن القوانين تقوم على أسس حديثة لا تعرفها الشريعة هو قول أقل ما يقال فيه أنه يخالف الواقع. 278 - معنى المسئولية الجنائية في الشريعة: معنى المسئولية الجنائية في الشريعة أن يتحمل الإنسان نتائج الأفعال المحرمة التي يأتيها مختاراً وهو مدرك لمعانيها ونتائجها، فمن أتى فعلاً محرماً وهو لا يريده كالمكره أو المغمي عليه لا يسأل جنائياً عن فعله، ومن أتى فعلاً محرماً وهو يريده ولكنه لا يدرك معناه كالطفل أو المجنون لا يسأل أيضاً عن فعله. فالمسئولية الجنائية في الشريعة تقوم على ثلاثة أسس: أولها: أن يأتي الإنسان فعلاً محرماً. ثانيها: أن يكون الفاعل مختاراً. ثالثها: أن يكون الفاعل مدركاً (1) . فإذا وجدت هذه الأسس الثلاثة وجدت المسئولية الجنائية، وإذا انعدم أحدها انعدمت. 279 - معنى المسئولية الجنائية في القوانين الوضعية: معنى المسئولية الجنائية في القوانين الوضعية الحديثة هو نفس معنى المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية، وأسس المسئولية في القوانين هي نفس الأسس التي تقوم عليها المسئولية في الشريعة، ولا يخالف الشريعة إلا القوانين التي تقيم نظرية المسئولية على فلسفة الجبر، وعدد هذه القوانين محدود. والقوانين الوضعية عامة لم تكن كذلك قبل الثورة الفرنسية، فقد كان للمسئولية الجنائية في ذلك الوقت معنى أخر، وهو أن يتحمل الفاعل أياً كان نتيجة فعله، سواء كان إنساناً أو غير إنسان، مختاراً أو غير مختار، مميزاً أو غير مميز،   (1) اخترنا التعبير بالإدراك على التعبير بالتمييز لأن الفقهاء يجعلون التمييز أدنى درجة من الإدراك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فكأن أغلب القوانين الوضعية تسير الآن في نفس الطريق الذي سلكته الشريعة الإسلامية من ثلاثة عشر قرناً. * * * المبحث الثاني محل المسئولية الجنائية 280 - الإنسان محل المسئولية: ولما كانت الشريعة الإسلامية تشترط أن يكون الفاعل مدركاً مختاراً، فقد كان طبيعياً أن يكون الإنسان فقط هو محل المسئولية الجنائية، لأنه وحده هو المدرك المختار. أما الحيوان أو الجماد فلا يمكن أن يكون محلاً للمسئولية الجنائية لانعدام الإدراك والاختيار. محل المسئولية هو الإنسان الحي، فلا يمكن أن يكون الميت محلاً للمسئولية الجنائية حيث ينعدم بالموت إدراكه واختياره، ولأن القاعدة في الشريعة أن الموت يسقط التكاليف. وإذا كان اشتراط الإدراك والاختيار يجعل الإنسان وحده محل المسئولية الجنائية، فإن توفر هذين الشرطين يستوجب ذلك فقط أن يكون الإنسان المسئول عاقلاً بالغاً مختاراً، فإن لم يكن كذلك فلا مسئولية عليه، لأن غير العاقل لا يكون مدركاً ولا مختاراً، ومن لم يبلغ سناً معيناً لا يمكن أن يقال أنه تام الإدراك والاختيار، وعلى هذا فلا مسئولية على طفل ولا مجنون أو معتوه أو فاقد الإدراك بأي سبب آخر، ولا مسئولية على مكره أو مضطر. الشخصيات المعنوية: وقد عرفت الشريعة الإسلامية من يوم وجودها الشخصيات المعنوية، فاعتبر الفقهاء بيت المال جهة، والوقت جهة؛ أي شخصاً معنوياً، وكذلك اعتبرت المدارس والملاجئ، والمستشفيات وغيرها، وجعلت هذه الجهات أو الشخصيات المعنوية أهلاً لتملك الحقوق والتصرف فيها، ولكنها لم تجعلها أهلاً للمسئولية الجنائية؛ لأن المسئولية تبنى على الإدراك والاختيار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وكلاهما منعدم دون شك في هذه الشخصيات، لكن إذا وقع الفعل المحرم ممن يتولى مصالح هذه الجهات، أو الأشخاص المعنوية كما نسميها الآن، فإنه هو الذي يعاقب على جنايته ولو أنه كان يعمل لصالح الشخص المعنوي. ويمكن عقاب الشخص المعنوي كلما كانت العقوبة واقعة على من يشرفون على شئونه أو الأشخاص الحقيقيين الذين يمثلهم الشخص المعنوي؛ كعقوبة الحل والهدم والإزالة والمصادرة، كذلك يمكن شرعاً أن يفوض على هذه الشخصيات ما يحد من نشاطها الضار حماية للجماعة ونظامها وأمنها. وإذا كان هذا هو حكم الشريعة الإسلامية من ثلاثة عشر قرناً؛ أي من يوم وجودها، فإن القوانين الوضعية كانت إلى عهد غير بعيد تجعل الإنسان والحيوان والجماد محلاً للمسئولية الجنائية، ولم تكن تفرق بين الإنسان الحي والميت ولا بين المميز وغير المميز ولا بين المختار والمكره؛ لأنها كانت تنظر إلى الجريمة بغض النظر عن فاعلها، ومن ثم كان العاقل البالغ والصبي غير المميز والمجنون والمعتوه يعاقبون على جرائمهم دون النظر إلى حالاتهم وعقلياتهم، بل كان الحيزان وكذلك الجماد يعاقب على ما يمكن أن ينسب إليه من أفعال جنائية. أما اليوم بعد أن تغيرت الأسس التي كانت تقوم عليه القوانين الوضعية فإن هذه القوانين لا تعرف محلاً للمسئولية الجنائية غير الإنسان الحي، كما أنها تفرق في حكمها بين المدرك المختار وبين فاقد الإدراك والاختيار، وبهذا أصبحت في هذه النقطة المطابقة للشريعة الإسلامية. 281 - شخصية المسئولية الجنائية: من القواعد الأولية في الشريعة الإسلامية أن المسئولية الجنائية شخصية، فلا يسأل عن الجرم إلا فاعله ولا يؤخذ امرؤ بجريرة غيره مهما كانت درجة القرابة أو الصداقة بينهما. وقد قرر القرآن الكريم هذا المبدأ العادل في كثير من آياته، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] ، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 18] ، {وَأَن لَّيْسَ للإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] ، {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] . وجاءت أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - تؤكد هذا المبدأ حيث يقول: "لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه"، وحيث يقول لأبي رمثة وابنه: "إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه". ومبدأ شخصية المسئولية الجنائية يطبق تطبيقاً دقيقاً في الشريعة الإسلامية من يوم وجودها، وليس لهذا المبدأ العام إلا استثناء واحد، وهو تحميل العاقلة الدية مع الجاني في شبه العمد والخطأ، وأساس هذا الاستثناء الوحيد هو تحقيق العدالة المطلقة، أي نفس الأساس الذي قام عليه مبدأ شخصية العقوبة؛ لأن تطبيق هذا المبدأ على دية شبه العمد والخطأ لا يمكن أن يحقق العدالة المطلقة بل أنه يؤدي إلى ظلم فاحش (1) . ومن الفقهاء من لا يعتبر تحميل العاقلة الدية استثناء من مبدأ شخصية العقوبة حيث يرى أنه ليس في إيجاب الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني، إنما الدية على القاتل. وأمر هؤلاء بالدخول معه في تحمله على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته، وقد أوجب الله في أموال الأغنياء حقوقاً للفقراء من غير إلزامهم ذنباً لم يذنبوه، بل على وجه المواساة، وأمر بصلة الأرحام بكل وجه أمكن ذلك، وأمر ببر الوالدين، وهذه كلها أمور مندوب إليها بالمواساة وإصلاح ذات البين، فكذلك أمرت العاقلة بتحمل الدية عن قاتل الخطأ على جهة المواساة من غير إجحاف بهم وبه، وإنما يلزم كل رجل منهم ثلاثة دراهم أو أربعة مؤجلة ثلاث سنين. فهذا مما ندبوا إليه من مكارم الأخلاق، وقد كان تحمل الديات مشهوراً في العرب قبل الإسلام، وكان ذلك مما يعد من جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت لأتمم مكارم   (1) راجع الفقرة 472. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الأخلاق" فهذا فعل مستحسن في العقول مقبول في الأخلاق والعادات (1) . وتأخذ اليوم القوانين الوضعية الحديثة بمبدأ شخصية المسئولية الجنائية، فلا يؤخذ بالجرائم غير جناتها ولا تنفذ العقوبة إلا على من أجرم دون غيره، ولكن القوانين الوضعية لم تطبق هذا المبدأ بدقة تامة حتى الآن، والمتتبع لنصوصها يجد خروجاً على هذا المبدأ في كثير من الحالات، فالقانون المصري مثلاً يعتبر من اشتراك في تجمهر وهو عالم بالغرض منه مسئولاً عن أية جريمة تقع من أحد المتجمهرين بقصد تنفيذ الغرض المقصود من التجمهر، كلك يعتبر مدبري التجمهر مسئولين جنائياً عن أية جريمة يرتكبها أحد المتجمهرين، مع أن التطبيق الدقيق للمبدأ يستوجب عدم مسئوليتهم إلا إذا كانوا قد اتفقوا على ارتكاب هذه الجريمة أو حرضوا عليها. ونجد مثل هذا فيما يقرره القانون المصري من مسئولية رئيس تحرير الجريدة عما يكتب في الجريدة ولو كان غائباً، وفي تحميل أصحاب بيوت العاهرات مسئولية المخالفات التي تقع ضد المواد 13، 14، 15، 16، 19 من لائحة العاهرات، وفي تحميل أصحاب المحلات العمومية مسئولية بعض الجرائم التي يرتكبها الغير في هذه المحلات، وفي اعتبار الأب أو ولي الأمر مسئولاً عن جريمة صغير الذي حكم بتسليمه إليه إذا ارتكب الصغير جريمة ثانية في خلال سنة من تاريخ الأمر بتسليمه، كما هو نص المادة 69 من قانون العقوبات المصري. وإذا كان الشراح يعللون هذه الحالات بأن العقوبة تقع على الخطأ من المعاقب لا على فعل غيره فإنه من الواضح الذي لا جدال فيه أن خطأ المعاقب يفترض قانوناً، وأنه يعتبر قائماً بناء على فعل يقع من الغير لم يشترك فيه المعاقب بأي وسيلة من وسائل الاشتراك. ولم تكن القوانين الوضعية تطبق مبدأ شخصية المسئولية قبل الثورة   (1) أحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص ج2 ص224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الفرنسية كما تطبقه اليوم، وإنما كانت تعتبر المرء مسئولاً عن عمله وعن عمل غيره ولو لم يكن عالماً بعمل هذا الغير ولو لم يكن له سلطان عليه، وكانت العقوبة تتعدى المجرم إلى أهله وأصدقائه، وتصيبهم كما تصيبه، وهو وحده الجاني وهم البرآء من جنايته. وإذا كانت القوانين الوضعية الحديثة قد أخذت أخيراً بمبدأ شخصية المسئولية الذي جاءت به الشريعة الإسلامية من ثلاثة عشر قرناً، فإن الظاهر مما سبق أن القوانين الوضعية لم تصل في تطبيق هذا المبدأ إلى الحد الذي وصلت إليه الشريعة وأن دائرة تطبيقه في القانون أضيق من دائرة تطبيقه في الشريعة. 282 - المجني عليه: المجني عليه هو من وقعت الجناية (1) على نفسه، أو على ماله، أو على حق من حقوقه. ولا تستلزم الشريعة أن يكون المجني عليه مختاراً مدركاً كما استلزمت هاتين الشرطين في الجاني؛ لأن الجاني مسئول عن الجناية مأخوذ بها؛ ولأن المسئولية مترتبة على عصيان أمر الشارع (2) ، وأوامر الشارع لا يخاطب بها إلا مدرك مختار، أما المجني عليه فغير مسئول وإنما هو معتدى عليه، اكتسب بالاعتداء حقاً قِبَل المعتدي وهو الجاني، وصاحب الحق   (1) معنى الجناية في الشريعة هو الجريمة أيا كانت بغض النظر عما إذا كانت العقوبة المقررة عليها جسيمة أو بسيطة. (2) والأوامر التي تعاقب على عصيانها إما أن يأمر بها الله أو الرسول أو أولي الأمر كالخليفة أو السلطان أو الحاكم، فإذا كان الآمر هو الله فقد وجب الأمر بإيجابه وتعين نفاذه، أما إذا كان الآمر الرسول أو ولي الأمر فإن الأمر لا يجب إيجاب الرسول أو ولي الأمر، وإنما يجب الأمر لأن الله أوجب علينا طاعة الرسول وأولي الأمر في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] فأمر الرسول وولي الأمر يجب بإيجاب الله، ومن ثم يكون كل أمر صادر من ولي الأمر مخالفاً لأمر الله أو أمر الرسول باطلاً ولا تجب طاعته. راجع: المستصفي للغزالي ج1 ص83، وشرح مسلم الثبوت لعبد العلي الأنصاري ص25 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 لا يشترط فيه الإدراك ولا الاختيار، وإنما يشترط فيه فقط أن يكون أهلاً لاكتساب الحقوق. والحقوق التي تنشأ عن الجرائم على نوعين (1) : حقوق لله تعالى (2) وحقوق للآدميين. فأما النوع الأول فينشأ عن الجرائم التي تمس مصالح الجماعة ونظامها. وأما النوع الثاني فينشأ عن الجرائم التي تمس الأفراد وحقوقهم. وعلى هذا يصح أن يكون المجني عليه إنساناً مميزاً أو غير مميز عاقلاً أو مجنوناً، ويصح أن يكون المجني عليه طائفة من الناس كما لو بغت طائفة على أخرى، ويصح أن يكون المجني عليه الجماعة كلها كما لو كانت الجريمة زناً أو ردة. وكما يصح أن يكون المجني عليه شخصاً طبيعياً يصح أن يكون شخصاً معنوياً؛ كأن يسرق الجاني مالاً لشركة أو لوقف أو للدولة. وإذا كان محل الجريمة حيواناً أو مالاً في صورة الجماد أو عقيدة من العقائد فالمجني عليه هو مالك الحيوان أو المال أو الهيئة التي تعتنق العقيدة. وظاهر مما سبق أن المجني عليه في كل الصور والأحوال هو الإنسان، إما باعتباره فرداً وإما باعتباره منتمياً لهيئة. وتعتبر الشريعة الإنسان مجنياً عليه ولو لم ينفصل عن أمه، فمن أحدث جائفة (3) بامرأة حامل فأجهضت فقد جنى على شخصين هما الأم والجنين حيث أجاف الأم وأسقط الجنين، ووجبت عليه عقوبتان هما أَرْش (4) الجائفة ودية   (1) راجع الفقرة 74. (2) راجع الفقرة 175. (3) الجائفة: هي الجرح النافذ للتجويف الصدري أو البطني. (4) الأرش: هو بعض الدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الجنين (1) ، وإذا شربت الأم دواء فأجهضت فعليها دية الجنين (2) . ويعرف البعض الجنين في هذا المقام بأنه ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد، ويرى البعض أن الجنين هو ما استبانت خلقته، ويرى البعض الثالث أن الجنين هو ما وجدت الحياة فيه (3) . والقاعدة في الشريعة أن الإنسان تنتهي شخصيته بموته، فإذا مات أصبح لا وجود له، وانتقلت أمواله وحقوقه إلى دائنيه وورثته. وإذا كانت نفس الإنسان وماله وحقوقه هي محل الجريمة فلا يتصور أن يكون الإنسان بعد الموت محلاً للجريمة إلا في حالتين: 1 - الاعتداء على رفات الأموات: لا يعتبر الاعتداء على جثّة الميت أو رفاته جريمة واقعة على الميت باعتباره إنساناً، ولا يعتبر هو المجني عليه، إنما يحرم الاعتداء على رفات الأموات باعتبارها شيئاً محترماً لدى الجماعة وله حرمته في نفوسهم، فالمجني عليه في الجريمة هو الجماعة والشريعة تعاقب مرتكبها باعتباره معتدياً على حرمة الأموات أو حرمة المقابر. 2 - قذف الأموات: من القواعد الأولية في الشريعة أن الدعوى لا تقام على القاذف إلا إذا تقدم المقذوف بالشكوى؛ لأن الجريمة تمس المجني عليه مساساً شديداً وتتصل بعرضه وسمعته، ولأن للجاني الحق في أن يثبت وقائع القذف, فإذا أثبتها أصبح المقذوف مسئولاً عن الجريمة التي قذف بها ووجبت عليه عقوبتها، ولهذا علق رفع الدعوى على شكوى المقذوف فإذا شكا أخذت الدعوى سيرها. وإذا كان المقذوف حياً وقت القذف فله وحده حق الخصومة،   (1) مواهب الجليل ج6 ص257، بدائع الصنائع ج7 ص325، أسني المطالب ج4 ص89، المغني ج9 ص535، 542. (2) مواهب الجليل ج6 ص258، أسني المطالب ج4 ص92، المغني ج9 ص557. (3) بداية المجتهد ج2 ص292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فإن مات بعد القذف وقبل الشكوى فليس لغيره من ورثته أو عصباته أن يخاصم القاذف ويشكوه، إلا إذا كان المقذوف قد مات قبل العلم بالقذف، أما إذا مات بعد الشكوى فتحل ورثته محله عند مالك والشافعي وأحمد، وتسقط الدعوى بموته عند أبي حنيفة، لأنه يرى أن حق المخاصمة في دعوى القذف ليس حقاً مالياً حتى يورث. وإذا كان المقذوف ميتاً فجمهور الفقهاء يبيحون رفع الدعوى على القاذف بناء على شكوى الورثة أو الأصول أو الفروع، وحجتهم في ذلك أن القذف يتعدى الميت إلى الأحياء، وأنهم قدح في نسبهم فكأن القاذف قذفهم معني، ولهذا كان لهم حق تحريك الدعوى دفعاً للعار عن أنفسهم. ويرى بعض الفقهاء أن العار يلحق الأصول والفروع دون غيرهم، ولهذا قصر حق المخاصمة عليهم. ويرى البعض أن العار يلحق كل الورثة، وأصحاب هذا الرأي يبيحون للورثة جميعاً حق المخاصمة. وعلى كل حال فمن له حق المخاصمة يستطيع أن يخاصم دون توقف على غيره ممن له نفس الحق، ولو كان هذا الغير أقرب درجة للميت، أي أن الأبعد يستطيع أن يخاصم ولو لم يخاصم الأقرب (1) . وإذا كان الفقهاء يعللون المخاصمة بأنها لدفع العار على المخاصم من أصول الميت أو فروعه أو ورثته، وكان للأبعد أن يخاصم مع وجود الأقرب فمعنى ذلك أن الدعوى قصد منها حماية الأحياء لا حماية الميت، ودفع العار عنهم لا عنه، خصوصاً وأن القذف يتعدى دائماً المقذوف إلى غيره، إذ القذف في الشريعة معناه نفي النسب عن المقذوف أو نسبة الزنا إليه، فالمقذوف سواء كان رجلاً أو امرأة إذا نفيّ عنه نسبه تعداه نفي النسب إلى أصوله وفروعه وورثته، وإذا كان رماه فنسب إليها الزنا تعداها القذف إلى أصولها وفروعها وورثتها. 283 - الشريعة والقانون: تتفق القوانين الوضعية مع الشريعة الإسلامية   (1) مواهب الجليل ج2 ص305، الزيلعي ج3 ص203، 204، الشرح الكبير ج1 ص230 وما بعدها، المهذب ج2 ص292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فيما قلناه عن المجني عليه، فيصح فيها أن يكون المجني عليه إنساناً مميزاً أو غير مميز، عاقلاً أو مجنوناً، ويصح أن يكون إنساناً طبيعياً أو معنوياً، وفرداً أو جماعة، كما أن القوانين الوضعية تحمي الجنين قبل أن ينفصل عن أمه، فتعاقب على الإجهاض (1) سواء حدث من الأم أو من غيرها، وتحمي جدث الميت ورفاته، فتعاقب من ينتهك حرمة القبور (2) ، وهي في ذلك تتفق مع الشريعة. أما فيما يتعلق بالقذف فالرأي السائد في القوانين الوضعية اليوم أن القوانين توضع لحماية الأحياء دون الأموات (3) ، ومن ثم فقذف الميت لا يعاقب عليه إلا إذا تعدى أثر القذف إلى الأحياء من ورثة المقذوف أو ذوي قرباه، فلا مانع إذن من المحاكمة والعقاب. وبعض القوانين لا تعلق رفع الدعوى على شكوى المقذوف أو ورثته كما هو الحال في القانون المصري، ولكن بعض القوانين تشترط لرفع الدعوى شكوى المقذوف كما هو الحال في القانون الفرنسي، فإذا مات المجني عليه سقط بموته حق الشكوى إلا إذا قصد من القذف المساس بكرمة أسرة المقذوف وذويه الأحياء فيحق لهم حينئذ أن يرفعوا الشكوى باسمهم. واتجاه القوانين الوضعية في قذف الأموات لا يكاد يختلف عن اتجاه الشريعة، فدعوى القذف في الشريعة تمس دائماً أسرة المقذوف وأهله، فإذا أجازت الشريعة للورثة رفع الدعوى دون قيد فإن هذا يساوي تماماً ما أجازته القوانين للورثة من رفع الدعوى في حالة المساس بهم؛ لأن القوانين لا تقصر القذف على نسبة الزنا ونفي النسب كما هو الحال في الشريعة، وإنما تعتبر القوانين قاذفاً   (1) راجع المواد 260- 264 من قانون العقوبات المصري. (2) راجع المادة 160 من قانون العقوبات المصري. (3) أحمد أمين ص544، 555، القانون الجنائي لأحمد صفوت ص153 وما بعدها، شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 كل من أسند لغيره واقعة توجب احتقاره. ومن المسلم به أن كثيراً مما يعتبر قذفاً في القوانين لا يمس ورثة المقذوف أو أهله الأحياء، أما نسبة الزنا للمقذوف ونفي النسب عنه فلا شك أنه يمسهم، ومن ثم يكون القول بأن القوانين تجيز دائماً ودون قيد لورثة المقذوف وأهله الأحياء أن يرفعوا الدعوى في هاتين الحالتين على القاذف، أما تعليق الدعوى على شكوى المقذوف فقد رأينا أن بعض القوانين كالقانون الفرنسي يتفق مع الشريعة في هذا المبدأ، وأن قوانين أخرى منها القانون المصري لا تعلق رفع الدعوى على شكوى القاذف. * * * المبحث الثالث سبب المسئولية ودرجتها 284 - سبب المسئولية الجنائية وشرطها: السبب هو ما جعله الشارع علامة على مسببه، وربط وجود المسبب بوجوده، وعدمه بعدمه، بحيث يلزم من وجود السبب وجود المسبب ومن عدمه (1) . والشرط هو ما يتوقف وجود الحكم الشرعي على وجوده، ويلزم من عدمه عدم الحكم (2) . وسبب المسئولية الجنائية هو ارتكاب المعاصي، أي إتيان المحرمات التي حرمتها الشريعة وترك الواجبات التي أوجبتها، وإذا كان الشارع قد جعل ارتكاب المعاصي سبباً للمسئولية الجنائية إلا أنه جعل وجود المسئولية الشرعي موقوفاً على توفر شرطين لا يغني أحدهما عن الآخر وهما: الإدراك والاختيار، فإذا انعدم أحد هذين الشرطين انعدمت المسئولية الجنائية، وإذا وجد الشرطان معاً وجدت المسئولية، فالسرقة معصية حرمها الشارع وجعل القطع عقوبة لفاعلها،   (1) أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف ص91. (2) أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف ص93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 فمن سرق مالاً من آخر فقد جاء بفعل هو سبب للمسئولية الجنائية، ولكنه لا يسأل شرعاً إلا إذا وجد فيه شرطا المسئولية وهما الإدراك والاختيار، فإن كان غير مدرك كمجنون مثلاً فلا مسئولية عليه، وإن كان مدركاً ولكنه غير مختار فلا مسئولية عليه أيضاً. وإذا وجد سبب المسئولية وهو ارتكاب المعصية، ووجد شرطاها وهما الإدراك والاختيار، اعتبر الجاني عاصياً، وكان فعله عصياناً أي خروجاً على ما أمر به الشارع، وحقت عليه العقوبة المقررة للمعصية. أما إذا ارتكبت المعصية ولم يتوفر في الفاعل شرطا المسئولية أو أحدهما فلا يعتبر الفاعل عاصياً ولا يعتبر فعله عصياناً، وإذن فالوجود الشرعي للمسئولية الجنائية متوقف على وجود العصيان وعدمها تابع لعدمه. والعصيان في الشريعة يقابل الخطأ والخطيئة La Faute في تعبير القوانين الوضعية، ولكن التعبير بالعصيان أدق في دلالته على المعنى المقصود - هو مخالفة أمر الشارع - من التعبير بالخطأ والخطيئة، فضلاً عن أن التعبير الأخير يؤدي إلى الخلط بين لفظ الخطأ بمعنى غير المتعمد، وبين لفظ الخطأ بمعنى مخالفة أمر الشارع. 285 - درجات المسئولية: رأينا فيما سبق أن الوجود الشرعي للمسئولية الجنائية يتوقف على وجود العصيان، فمن الطبيعي إذن أن تكون درجات المسئولية تابعة لدرجات العصيان. والأصل في هذه المسألة أن الشريعة الإسلامية تقرن دائماً الأعمال بالنيات وتجعل كل امرئ نصيباً من نيته، وهذا معنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، والنية محلها القلب ومعناها القصد، فتقول العرب: نواك الله بحفظه؛ أي قصدك الله بحفظه، فمن انتوى بقلبه أن يفعل ما حرمته الشريعة ثم فعل ما انتواه فقد قصده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وتطبيقاً لقاعدة اقتران الأعمال بالنيات لا تنظر الشريعة للجناية وحدها عندما تقرر مسئولية الجاني، وإنما تنظر للجناية أولاً وإلى قصد الجاني ثانياً، وعلى هذا الأساس ترتب مسئولية الجاني (1) . والمعاصي التي يمكن أن تنسب للإنسان المدرك المختار فيسأل عنها جنائياً لا تخرج عن نوعين: نوع يأتيه الإنسان وهو ينتوي إتيانه ويقصد عصيان الشارع، ونوع يأتيه الإنسان وينتوي إتيانه ولا يقصد عصيان الشارع، أو لا ينتوي إتيانه ولا يقصد العصيان ولكن الفعل يقع بتقصيره أو بتسبيبه، فالنوع الأول هو ما يتعمده قلب الإنسان، والنوع الثاني هو ما يخطئ به. ولما كانت الشريعة الإسلامية تقرن الأعمال بالنيات كما قلنا فقد فرقت في المسئولية الجنائية بين ما يتعمد الجاني إتيانه وبين ما يقع من الجاني نتيجة خطئه، وجعلت مسئولية الجاني العامد مغلظة ومسئولية الجاني المخطئ مخففة، وعلة التغليظ على العامد أنه يتعمد العصيان بفعله وقلبه فجريمته متكاملة، وعلة التخفيف على المخطئ أن العصيان لا يخطر بقلبه وإن تلبس بفعله فجريمته غير متكاملة. وقد فرق القرآن بين العامد والمخطئ في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُم} [الأحزاب: 5] ، وكرر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المعنى في قوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، والمقصود من عدم الجناح ومن رفع الخطأ هو تخفيف مسئولية المخطئ وعدم تسويته بالعامد، ولا يقصد من هذين التعبيرين محو المسئولية الجنائية كلية، وليس أدل على ذلك من أن الله جل شأنه جعل عقوبة القتل العمد القصاص، وجعل عقوبة القتل الخطأ الدية والكفارة، فغلظ مسئولية العامد وخفف مسئولية المخطئ ولم يمحها كلية، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}   (1) أعلام الموقعين ج3 ص101- 104، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج5 ص141 وما بعدها، الأشباه والنظائر ص8 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 [البقرة: 178] ، وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} [النساء: 92] . وهكذا تتنوع المسئولية الجنائية وتتعدد درجاتها بحسب تنوع العصيان وتعدد درجاته، فإذا أردنا أن نعرف مدى تنوع المسئولية وتعدد درجاتها فعلينا أن نعرف مدى تنوع العصيان وتعدد درجاته. وقد عرفنا فيما سبق أن العصيان إما أن يتعمده العاصي وإما أن يخطئ به، فهو إما عمد وإما خطأ، والعمد والخطأ كلاهما على نوعين بحسب درجة جسامته، فالعمد ينقسم إلى عمد وشبه عمد، والخطأ ينقسم إلى خطأ وما جرى مجرى الخطأ، ومن ثم يكون العصيان على أربع درجات، وبالتالي تكون المسئولية الجنائية على أربع درجات؛ لأنها تقوم على العصيان، وتغلظ وتخفف بحسب درجة العصيان من الجسامة والبساطة. 1 - العمد: المعنى العام للعمد هو أن قصد الجاني إتيان الفعل المحظور، فمن شرب الخمر وهو يقصد شربها فقد شربها متعمداً، ومن سرق وهو يقصد السرقة فقد تعمدها، والعمد هو أجسم أنواع العصيان، وترتب عليه الشريعة أجسم أنواع المسئولية، وتفرض عليه أغلب العقوبات. وللعمد في القتل معنى خاص عند جمهور الفقهاء: هو أن يقصد الجاني الفعل القاتل ويقصد نتيجته. ويفرق جمهور الفقهاء بين القتل الذي يتوفر فيه هذا المعنى الخاص وبين القتل الذي يتوفر فيه العمد بمعناه العام فقط، ويسمون الأول القتل العمد، ويسمون الثاني القتل شبه العمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 2 - شبه العمد: لا تعرف الشريعة شبه العمد إلا في القتل والجناية على ما دون النفس (1) . وهو غير مجمع عليه من الأئمة، فمالك لا يعترف به في القتل ولا فيما دون القتل، ويرى أنه ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فمن زاد قسماً ثالثاً زاد على النص، ذلك أن القرآن نص على القتل العمد والقتل الخطأ فقط، فقال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} ، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا} ، وعلى أساس هذا الرأي يعرف مالك العمد في القتل بأنه إتيان الفعل بقصد العدوان، فهو لا يشترط أن يقصد الجاني الفعل ويقصد نتيجته (2) . ويتفق أبو حنيفة والشافعي وأحمد (3) في الاعتراف بشبه العمد في القتل ولكنهم يختلفون في وجوده فيما دون النفس، فيرى الشافعي (4) أن العمد فيما دون النفس إما أن يكون عمداً محضاً وإما أن يكون شبه عمد، وهذا هو الرأي الراجح في مذهب أحمد (5) . ويرى أبو حنيفة (6) أن شبه العمد لا يوجد فيما دون النفس، ورأيه يتفق مع الرأي المرجوح في مذهب أحمد (7) . وشبه العمد في القتل معناه إتيان الفعل القاتل بقصد العدوان دون أن تتجه نية الجاني إلى إحداث القتل، ولكن الفعل يؤدي للقتل، وحجة القائلين به أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إن في قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الأبل"، وسمى شبه العمد بهذه التسمية؛ لأنه يشبه العمد من حيث قصد الفعل ولا يشبهه من حيث انعدام قصد الفعل.   (1) الجناية على ما دون النفس معناها الاعتداء على الجسم بما لا يؤدي للقتل كالضرب والجرح وقطع الأطراف وغير ذلك. (2) مواهب الجليل ج6 ص241. (3) نهاية المحتاج ج7 ص235، الزيلعي ج6 ص97، المغني ج9 ص320. (4) الأم ج6 ص45. (5) الإقناع ج4 ص189. (6) البحر الرائق ج8 ص287. (7) المغني ج9 ص410. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وشبه العمد فيما دون النفس معناه إتيان الفعل بقصد العدوان دون أن تتجه نية الجاني إلى إحداث النتيجة التي انتهى إليها الفعل. وشبه العمد أقل جسامة من العمد، وينبني على ذلك أن تكون عقوبة شبه العمد أخف من عقوبة العمد. فعقوبة العمد الأساسية القصاص، وعقوبة شبه العمد الدية والتعزير إن رأى ولي الأمر تعزير الجاني. 3 - الخطأ: هو أن يأتي الجاني الفعل دون أن يقصد العصيان ولكنه يخطئ إما في فعله وإما في قصده. فأما الخطأ في الفعل فمثله أن يرمي طائراً فيخطئه ويصيب شخصاً. وأما الخطأ في القصد فمثله أن يرمي من يعتقد أنه جندي من جنود الأعداء؛ لأنه في صفوفهم أو عليه لباسهم، فإذا به جندي من جنود الوطن معصوم الدم. 4 - ما جرى مجرى الخطأ: يلحق الفعل بالخطأ ويعتبر جارياً مجراه في حالتين: أولاهما: أن لا يقصد الجاني إتيان الفعل ولكن الفعل يقع نتيجة تقصيره، كمن ينقلب وهو نائم على صغير بجواره فيقتله. وثانيتهما: أن يتسبب الجاني في وقوع الفعل المحرم دون أن يقصد إتيانه، كمن يحفر حفرة في الطريق لتصريف ماء مثلاً فيسقط فيها أحد المارة ليلاً. والخطأ أكثر جسامة مما جرى مجرى الخطأ؛ لأن الجاني في الخطأ يقصد الفعل وتنشأ النتيجة المحرمة عن تقصيره وعدم احتياطه، أما فيما جرى مجرى الخطأ فالجاني لا يقصد الفعل ولكن الفعل يقع نتيجة تقصيره أو تسببه. وأول من قسم الخطأ إلى خطأ وما جرى مجراه هو أبو بكر الرازي، فقد رأى أن الفعل في الخطأ مقصود إلا أن الخطأ يقع تارة في الفعل وتارة في قصد الفاعل، ولا ينطبق هذا على الساهي والنائم والمتسبب، ولما كان فعل كل من هؤلاء غير مقصود أصلاً فليس هو إذن في حيز الخطأ كما أنه ليس في حيز العمد أو شبه العمد، ولما كان حكم فعل الساهي والنائم والمتسبب هو حكم الخطأ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 حيث الجزاء فقد رأى أبو بكر الرازي إلحاقه بالخطأ باعتباره جارياً مجراه (1) . 286 - الشريعة والقانون: وتتفق القوانين مع الشريعة فيما ذكرنا من سبب المسئولية وشرطها، فسبب المسئولية في القانون هو ارتكاب الجرائم، وشرط المسئولية هو الإدراك والاختيار كما هو الحال في الشريعة، ولا مسئولية ما لم يكن الجاني مخطئاً؛ أي عاصياً، ودرجات المسئولية تتعدد وتتنوع بحسب تنوع الخطأ (2) وتعدده. والخطأ في القانون على نوعين: عمد وخطأ، والخطأ على نوعين: خطأ بإهمال وخطأ بسيط، ويدخل تحت العمد ما يدخل في الشريعة تحت العمد وشبه العمد، ويدخل تحت الخطأ ما يدخل تحت الخطأ في الشريعة وما يجري مجراه. والقوانين الوضعية وإن كانت لا تعترف بشبه العمد في القتل إلا أنها تجعل هذا النوع من القتل ضرباً مفضياً للموت، وتخفف عقوبته عن عقوبة القتل العمد، فتصل بذلك إلى الغرض الذي ترمي إليه الشريعة من التفرقة بين القتل بقصد الضرب والقتل بقصد القتل، فالخلاف إذن بين الشريعة والقانون خلاف في التسمية لا غير. ولا شك أن تعبير الشريعة بالقتل شبه العمد أصح منطقاً من تعبير القوانين الوضعية، ذلك أن القتل شبه العمد يندرج تحته الموت الناشئ عن الضرب والجرح وإعطاء المواد السامة والضارة والتغريق والتحريق والتردية والخنق، وكل ما يدخل تحت القتل العمد إذا انعدمت نية القتل عند الجاني وتوفر قصد الاعتداء، ولفظ القتل يدخل تحته كل ما يؤدي للموت. فاختيار الفقهاء لهذا التعبير للدلالة على هذه الأنواع المختلفة من الاعتداء والإيذاء هو اختيار موفق؛ لأنها تنتهي جميعاً بالموت، أما لفظ الضرب المفضي للموت الذي عبرت به القوانين الوضعية فإذا دخل تحته الضرب باليد أو بأداة أخرى فإنه لا يمكن أن يندرج تحته غير ذلك   (1) أحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص ج2 ص223. (2) ذكرنا فيما سبق أن الخطأ أو الخطيئة في القانون يقابل العصيان في الشريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 من أنواع الإيذاء والاعتداء المختلفة الصور والوسائل كالتغريق والتحريق والتردية والخنق. وشراح القانون المصري يعترفون بقصور لفظ الضرب عن استيعاب المعنى الذي يندرج تحته قانوناً. * * * المبحث الرابع قصد العصيان: أو القصد الجنائي 287 - قصد العصيان أو القصد الجنائي: بينا فيما سبق أن أساس المسئولية الجنائية هو العصيان، أي عصيان أمر الشارع، وأن مسئولية الجاني تختلف باختلاف درجة العصيان، فإن قصد الجاني العصيان شددت العقوبة وإن لم يقصد العصيان خففت العقوبة، فقصد العصيان عامل أولى في تعيين عقوبة الجاني، وهذا القصد هو ما نسميه اليوم في اصطلاحنا القانوني بالقصد الجنائي. وقصد العصيان أو القصد الجنائي هو تعمد إتيان الفعل المحرم أو تركه مع العلم بأن الشارع يحرم الفعل أو يوجبه، وينبغي أن لا يفوتنا إدراك الفرق بين العصيان وبين قصد العصيان، فالعصيان عنصر ضروري يجب توفره في كل جريمة سواء كانت الجريمة بسيطة أو جسيمة، من جرائم العمد أو جرائم الخطأ، فإذا لم يتوفر عنصر العصيان في الفعل فهو ليس جريمة. أما قصد العصيان فلا يجب توفره إلا في الجرائم العمدية دون غيرها. والعصيان هو فعل المعصية؛ أي إتيان الفعل المحرم أو الامتناع عن الفعل الواجب دون أن يقصد الفاعل العصيان، كمن يلقي حجراً من نافذة ليتخلص منه فيصيب به ماراً في الشارع، فهو قد فعل معصية بإصابة غيره، ولكنه لم يقصد بأي حال أن يصيب غيره، ولم يقصد بالتالي فعل المعصية. أما قصد العصيان فهو اتجاه نية الفاعل إلى الفعل أو الترك مع علمه بأن الفعل أو الترك محرم، أو هو فعل المعصية بقصد العصيان، كمن يلقي حجراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 من نافذة بقصد إصابة شخص مار في الشارع فيصيبه، فإنه يرتكب معصية لم يأتها إلا وهو قاصد فعلها. ويتفق هذا المثل مع المثل السابق في أن كلاً من الجانبين أتى معصية حرمها الشارع، ويختلف المثلان في أن الجاني في المثل الثاني قصد إتيان المعصية بينما الجاني في المثل الأول لم يقصد إتيان المعصية. والتفرقة بين العصيان وبين قصد العصيان تقابل النفرقة بين الإرادة Volonté وهي تعمد الفعل المحرم أو تركه مادياً وبين القصد Intention وهو تعمد النتيجة المترتبة على الفعل المادي، تلك التفرقة التي نقول بها اليوم في القوانين الوضعية. ولا شك أن التعبير بالعصيان عن إتيان الفعل المادي ويقصد العصيان عن تعمد نتيجة الفعل هو تعبير أكثر دقة ودلالة على هذين المعنيين من التعبير عنهما بالإرادة والقصد؛ لأنه ليس ثمة فرق بين الإرادة والقصد من الوجهة اللغوية، وهما لفظان مترادفان يصلح كلاهما للدلالة على تعمد الفعل وتعمد نتيجته، وهذه الصلاحية اللغوية تؤدي إلى الخلط بين المعاني الفنية كما تؤدي إلى العجز عن تمييزها أحياناً. وقصد العصيان أو القصد الجنائي قد يوجد لدى الجاني قبل اقتراف الجريمة، كأن ينتوي قتل إنسان ثم ينفذ القتل بعد ذلك بزمن ما، وقد يعاصر القصد الجريمة كما هو الحال في جرائم المشاجرات أو في الجرائم التي تحدث بغتة بغير تدبير سابق. ويستوي في الشريعة أن يكون القصد سابقاً للجريمة أو معاصراً لها، فالعقوبة في الحالين واحدة؛ لأن أساس تقدير العقوبة هو القصد المقارن للفعل وقد توفر، ولا يصح تشديد العقاب مقابل القصد السابق على الفعل؛ لأن معنى ذلك هو العقاب على القصد وحده مستقلاً عن الفعل، والقاعدة في الشريعة أن لا عقاب على حديث النفس وقصد الجريمة قبل ارتكابها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تكلم"، وعلى أساس هذه القاعدة لا تفرق الشريعة في القتل والجرح بين العمد مع سبق الإصرار والترصد وبين العمد الخالي من سبق الإصرار والترصد، بل تجعل العقوبة واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 في الحالين، فعقوبة القتل العمد هي القصاص سواء سبقه إصرار وترصد أو لم يسبقه، وعقوبات الشجاج والجراح في حالة العمد مع سبق الإصرار والترصد هي نفس عقوباتها في حالة التعمد الخالي من سبق الإصرار والترصد. والقوانين الوضعية لا تعاقب على النية مستقلة عن الفعل أو القول كقاعدة عامة، ولكنها مع ذلك تفرق بين عقوبة العمد المصحوب بسبق الإصرار أو الترصد وبين عقوبة العمد الذي لم يصحبه سبق إصرار أو ترصد، وقد جرى القانون المصري على هذه التفرقة في جرائم القتل والضرب والجرح المتعمدة. 288 - الفرق بين القد والباعث: وقد فرقت الشريعة من يوم وجودها بين القصد والباعث؛ أي بين قصد العصيان وبين الدوافع التي دفعت الجاني للعصيان، ولم تجد الشريعة الباعث على ارتكاب الجريمة أي تأثير على تكوين الجريمة أو على العقوبة المقررة لها، فيستوي لدى الشريعة أن يكون الباعث على الجريمة شريفاً كالقتل للثأر، أو الانتقام للعرض، أو أن يكون الباعث على الجريمة وضيعاً كالقتل بأجر أو القتل للسرقة، فالباعث على الجريمة ليس له علاقة بتعمد الجاني ارتكاب الجريمة، ولا يؤثر على تكوينها ولا عقوبتها شيئاً ما. وإذا كان من الممكن عملاً أن لا يكون للباعث أثر على تكوين الجريمة، وأن لا يكون له أثر على عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، فإن هذا لا يمكن عملاً في عقوبات التعازير؛ ذلك أن الباعث أياً كان لن يؤثر في طبيعة الفعل المكون للجريمة؛ لأن الشارع ضيق سلطان القاضي في عقوبات الحدود والقصاص، بحيث لا يستطيع أن يجعل للبواعث أي اعتبار. أما في التعازير فقد ترك الشارع للقاضي من الحرية في اختيار العقوبة وتقديرها ما يمكنه عملاً من أن يحل البواعث في تقدير العقوبة محل الاعتبار. فللباعث أثر من الوجهة العملية على عقوبات التعازير دون غيرها من العقوبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وعلة ذلك أن عقوبات الجرائم التعزيرية غير مقدرة، وللقاضي حرية واسعة فيها؛ فله أن يختار نوع العقوبة ويعين كمها، فإذا راعى القاضي البواعث فخفف العقوبة أو شددها فإنه يفعل ذلك في نطاق حقه، ولا يخرج عن حدود سلطانه. أما جرائم الحدود والقصاص فعقوبتها مقدرة أي محددة، وليس للقاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها، ومن الواجب عليه أن يحكم بها مهما كان الباعث على الجريمة، فسواء كان الباعث شريفاً أو وضيعاً فالعقوبة لن تتغير. وأكثر القوانين الوضعية تتفق في هذه المسألة مع الشريعة، فهي لا تخلط أيضاً بين الباعث على الجريمة والقصد الجنائي، ولا تجعل للباعث أثراً على تكوين الجريمة أو عقوبتها كقاعدة عامة، ولكن بالرغم من ذلك فإن للباعث من الوجهة العملية أثره على تقدير العقوبة، إذ للقاضي أن يقدر العقوبة الملائمة من بين الحدين الأدنى والأعلى للعقوبة، وله في كثير من الأحوال أن يختار إحدى عقوبتين، وهو يختار العقوبة ويقدر كمها طبقاً لما يرى أن الجاني يستحقه، وهو يدخل في تقديره ظروف الجريمة والمجرم، والبواعث التي دفعت لارتكاب الجريمة، فيخفف العقوبة إن رأى الجاني مستحقاً التخفيف، ويغلظها إن رآه مستحقاً التغليظ، وبهذا يكون للباعث أثره العملي على العقوبة. وهذه هي طريقة القانون الفرنسي والقانون المصري. على أن هناك بعض القوانين كالقانون الإيطالي والبولوني (1) تجعل من الباعث ظرفاً مخففاً أو مشدداً للعقوبة، وتلزم القاضي بمراعاة هذا الباعث عند تقدير العقوبة، وهذه القوانين وإن كانت تعترف بأن للباعث أثراً قانونياً على العقوبة إلا أنها من الوجهة العملية لا تصل إلى أكثر من النتائج التي تصل إليها القوانين التي لا تعترف بالباعث من الوجهة النظرية، لأن القاضي لا يستطيع عملاً   (1) القانون الجنائي لعلي بدوي ص340 وما بعدها، الموسوعة الجنائية ج3 ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 أن يتخلى دائماً عن اعتبار البواعث عند تقدير العقوبة، سواء اعتبر الشارع البواعث أو لم يعتبرها. فالفرق بين الشريعة والقوانين الوضعية أن الشريعة لا تعترف بالباعث ولا تجعل له أثراً في الجرائم الخطيرة التي تمس الجماعة ونظامها، وهي جرائم الحدود والقصاص، أما فيما عدا هذه الجرائم، فإن الشريعة وإن لم تعترف بالباعث من الوجهة النظرية، إلا أنه ليس فيها ما يمنع القاضي من تقدير الباعث من الوجهة العملية، وأكثر القوانين تهمل الكلام على الباعث ولا تعترف به من الوجهة النظرية، ولكن هذا لا يمنع القاضي من تقدير البواعث عملاً في كل الجرائم البسيطة والخطيرة على السواء. ولا شك أن طريقة الشريعة أسلم وأفضل، لأنها تضع مصلحة الجماعة في الجرائم الخطيرة فوق كل اعتبار، ولا تسمح للقاضي بأن يفاضل بين هذه المصلحة ومصلحة الجاني؛ لأن معنى ذلك هو إخضاع المصلحة العامة للعواطف والأهواء. 289 - صور القصد: وليس للقصد صورة معينة فهو يظهر في صور متنوعة تختلف باختلاف الجرائم ونية المجرم، فقد يكون القصد عاماً، وقد يكون خاصاً، وقد يكون القصد معيناً أو غير معين، وقد يكون القصد مباشراً أو غير مباشر. 290 - القصد العام والقصد الخاص: يتوفر القصد العام كلما تعمد الجاني ارتكاب الجريمة مع علمه بأنه يرتكب محظوراً، وأكثر الجرائم يكتفي فيها بتوفر القصد الجنائي العام، كجريمة الجرح والضرب البسيط فإنه يكفي فيها أن يتعمد الجاني إتيان الفعل المادي مع علمه بأنه يأتي فعلاً محرماً. وفي بعض الجرائم لا يكتفي الشارع بالقصد العام، بل يشترط أن يتوفر معه قصد خاص كتعمد نتيجة معينة أو ضرر خاص، كما هو الحال في جريمة القتل العمد أو جريمة السرقة، ففي جريمة القتل العمد لا يكفي أن يضرب الجاني المجني عليه أو يجرحه وهو عالم بأن الضرب والجرح محرم، بل يجب أن يتعمد مع الضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 أو الجرح إرهاق روح المجني عليه، فالشارع يوجب لمحاسبة الجاني على القتل العمد أن يتعمد بعد توفر القصد العام نتيجة معينة أو قصداً خاصاً، فإذا توفر القصد العام فقط ومات المجني عليه كان الفعل قتلاً شبه عمد لا قتلاً عمداً (1) . وفي جريمة السرقة لا يكفي أن يأخذ الجاني مال الغير خفية وهو عالم بأن هذا الفعل محرم، بل يجب أن يتعمد مع ذلك تملك المال، فإذا أخذه وهو لا يقصد تملكه لم تتكون جريمة السرقة. وفي الحالات التي يشترط فيها قصد خاص يختلط القصد الجنائي بالباعث كلما كان القصد الخاص هو الباعث على الجريمة، فمن يقتل شخصاً بقصد إزالته من طريقه يختلط قصده الخاص بالباعث على الجريمة، ولكن لا يمكن أن يقال: إن الباعث يؤثر على الجريمة أو العقوبة؛ لأننا لا ننظر إلى الباعث في حالة الاختلاط باعتباره باعثاً وإنما باعتباره قصداً خاصاً. 291 - القصد المعين والقصد غير المعين: يكون القصد معيناً إذا قصد الجاني ارتكاب فعل معين على شخص أو أشخاص معينين (2) . ويعتبر الفعل معنياً سواء كان بطبيعته ذا نتائج محدودة كمن يذبح شخصاً أو أكثر بسكين، أو كان بطبيعته ذا نتائج غير محدودة كمن يلقي قنبلة على جماعة، فهو يعرف دون شك أن فعله سيؤدي إلى قتل وجرح الكثيرين، ولكنه لا يستطيع تحديدهم من قبل كما يستطيع من يستعمل السكين. ويعتبر الفعل معيناً ولو كانت نتائجه غير محدودة كلما أتاه الجاني وهو عالم   (1) لا يشترط مالك القصد الخاص في جريمة القتل؛ لأنه لا يعترف بالقتل شبه العمد، والقتل عنده نوعان لا ثالث لهما: قتل عمد وقتل خطأ، فيعتبر قاتلاً عمداً عنده كل من أتى الفعل بقصد العدوان ولو لم يقصد إزهاق روح المجني عليه، فالقصد العام كاف وحده عند مالك لتكوين جريمة القتل العمد. (2) نهاية المحتاج ج7 ص235، البجيرمي على شرح المنهج ج4 ص130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 بنتائجه قاصداً تحقيق هذه النتائج كلها أو بعضها، لا يبالي أيها تحقق وأيها تخلف. ويعتبر المجني عليه معنياً كلما أمكن تعيينه، ولو لم يعين باسمه أو شخصه أو وصفه، فمن قصد أن يصيب أي شخص من جماعة معينة يعرف أفرادها وأطلق عليهم النار فأصاب أحدهم فقد أصاب شخصاً معيناً، ومن أطلق النار بقصد إصابة أي شخص من جماعة معينة لا يعرف أفرادها فقد أصاب شخصاً معيناً؛ لأن الجماعة معينة، ولأنها تصبح مقصودة فتعتبر جماعة وأفراداً (1) . ويكون القصد غير معين إذا قصد الجاني ارتكاب فعل معين على شخص غير معين، ويعتبر الشخص غير معين إذا لم يكن في الإمكان تعيينه قبل الجريمة، فإذا أطلق الجاني كلباً عقوراً ليعقر من يقابله، أو حفر بئراً في الطريق ليسقط فيها من يمر في الطريق، كان المجني عليه غير معين، ويشترط ليكون القصد غير معين أن لا يقصد الجاني من فعله هلاك شخص معين، فإن قصده فالقصد معين بالنسبة لهذا الشخص، وإن هلك الشخص المعين وهلك معه غير معين فالقصد معين بالنسبة للأول وغير معين بالنسبة للثاني (2) . ويستوي عند الفقهاء الإسلاميين بصفة عامة أن يكون القصد معيناً أو غير معين، فحكمهما واحد من حيث مسئولية الجاني وتكييف فعله، إلا أنهم اختلفوا في مسئولية الجاني وتكييف فعله إذا كان الفعل قتلاً وكان القصد غير معين، فيرى بعض الشافعية أن الجاني لا يسأل باعتباره قاتلاً متعمداً إذا قصد قتل غير معين، وإنما يسأل عن الفعل باعتباره قتلاً شبه عمد ما دام الشخص الذي قصد بالجريمة منهما غير معين (3) . ويفرق المالكيون بين القتل المباشر والقتل بالتسبب، ويسوون في حالة القتل المباشر بين القصد المعين والقصد غير المعين، ويجعلون   (1) تحفه المحتاج ج4 ص2، 3. (2) تحفه المحتاج ج4 ص2، 3، شرح الخرشي ج8 ص8. (3) تحفه المحتاج ج4 ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 القاتل مسئولاً عن القتل العمد، أما في حالة القتل بالتسبب فلا يسأل القاتل باعتباره قاتلاً عمداً إلا إذا قصد شخصاً معيناً يفعله وهلك هذا المعين، فإن قصد غير معين فلا يسأل باعتباره قاتلاً متعمداً، وإنما يسأل عن القتل الخطأ (1) . ويمكن تعليل رأي الشافعيين بأن القتل العمد يشترط فيه قصد إزهاق روح المجني عليه، وهذا الشرط لا يتحقق إلا إذا قصد الإنسان فعلاً يؤدي للقتل، وقصد به شخصاً معيناً، فإن قصد غير معين فقد قصد الفعل دون شك ولكنه لم يقصد إزهاق روح المجني عليه الذي لا يعرفه ولا يدري من يكون، والذي قد يتضح فيما بعد أنه أعز الناس على الجاني وأحبهم إليه، فالجاني لا يمكن أن يقصد قصداً صحيحاً أو جدياً إزهاق روح إنسان قبل أن يتعين لديه هذا الإنسان، والجاني يؤخذ في القتل العمد بأنه قصد إزهاق روح القتيل مع أنه لا يمكن أن يقال في حالة القصد غير المعين إن الجاني قصد إزهاق روح القتيل بالذات، وإذا انعدم قصد إزهاق روح القتيل فقد بقى قصد الفعل الذي أدى للموت، وهذا الفعل يكيف شرعاً بأنه قتل شبه عمد (2) . ويمكننا أن نعلل رأي المالكيين بنفس التعليل السابق، كما يمكننا أن نعلل تفرقتهم بين القتل المباشر والقتل بالتسبب بأن المجني عليه في حالة القتل المباشر يكون في الغالب معيناً؛ لأن القاتل يباشر القتل بنفسه دون واسطة، فهو لا يباشر الفعل القاتل قبل أن يتمكن من المجني عليه، وإذا تمكن منه فقد أصبح معيناً لديه، بعكس الحال في القتل بالتسبب، فإن الجاني يباشر القتل بواسطة، وهو في أغلب الأحوال يستطيع أن يباشر الفعل القاتل قبل أن يتمكن من المجني عليه وقبل أن يصبح معيناً لديه.   (1) مواهب الجليل ج6 ص240، شرح الدردير ج4 ص216. (2) يمكن الوصول للنتيجة نفسها مع اعتبار الفعل قتلاً عمداً إذا قلنا: إن هناك شبهة في صحة القصد أو في جديته، لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ويترتب على درء عقوبة القصاص أن يعاقب على الفعل بعقوبة القتل شبه العمد مع وصفه بأنه قتل عمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 أما فقهاء الحنفية والحنابلة ومعهم بعض الشافعية فإنهم لا يفرقون بين القصد المعين وبين القصد غير المعين في القتل وغير القتل، فالجاني سواء قصد بالفعل شخصاً معيناً أو قصد شخصاً غير معين قهو قاتل متعمد إذا أدى فعله إلى النتيجة التي قصدها (1) . ويلاحظ أن تقسيم القصد في الشريعة إلى معين وغير معين مقابل تقسيم القصد في القانون إلى محدود وغير محدود، وأن رأى الفقهاء القائلين بعدم التفرقة بين القصد المعين وغير المعين في القتل يتفق تمام الاتفاق مع رأي شارح القانون الفرنسي والمصري، حيث لا يفرق هؤلاء أيضاً بين القصد المحدود وغير المحدود؛ لأن الجاني في الحالين يقصد النتيجة التي حدثت أو يقبل وقوعها عند ارتكاب الجريمة. ونصوص القانون المصري والفرنسي لا تفرق بين القصد المحدود والقصد غير المحدود أيضاً، فهي بهذا تتفق مع رأي الفقهاء القائلين بعدم التفرقة بين القصد المعين والقصد غير المعين، فالمادة 231 من قانون العقوبات المصري المماثلة للمادة 297 من قانون العقوبات الفرنسي تعرف سبق الإصرار بأنه: "هو القصد المصمم عليه قبل الفعل لارتكاب جنحة أو جريمة، غرض المصر منها إيذاء شخص معين أو أي شخص غير معين وجده أو صادفه، سواء كان هذا القصد معقباً على حدوث أمر أو موقوفاً على شرط". أما الفقهاء القائلون بالتفرقة بين القصد المعين والقصد غير المعين، فرأيهم يطابق أو يقترب من النظرية الألمانية، التي تعتبر الجاني مخطئاً لا عامداً كلما أدى فعله إلى نتائج لم يتمثلها أو لم يقصدها قصداً صحيحاً.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص233، 234، المهذب ج2 ص184، أسنى المطالب ج4 ص3، الإقناع ج4 ص163، المغني ج9 ص320 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 292 - القصد المباشر والقصد غير المباشر: يعتبر القصد مباشراً يواء كان معيناً أو غير معين كلما ارتكب الجاني الفعل وهو يعلم نتائجه ويقصدها، بغض النظر عما إذا كان يقصد شخصاً معيناً أو لا يقصد شخصاً معيناً. ويعتبر القصد غير مباشر إذا قصد الجاني فعلاً معيناً فترتب على فعله نتائج لم يقصدها أصلاً أو لم يقدر وقوعها، ويسمى القصد غير المباشر بالقصد المحتمل أو القصد الاحتمالي. ولم يتعرض الفقهاء للقصد المباشر أو غير المباشر كما أنهم لم يعرفوا تعبير القصد الاحتمالي، ولكن ليس معنى هذا أن الشريعة الإسلامية لم تعرف القصد الاحتمالي، وأنها لا تفرق بين القصد المباشر وغير المباشر، فقد عرفت الشريعة حق المعرفة القصد الاحتمالي وفرقت بين القصد المباشر وغير المباشر من يوم نزولها، وليس أدل على ذلك من جرائم الجراح والضرب، فالضارب والجارح يضرب أو يجرح وهو لا يقصد إلا مجرد الإيذاء أو التأديب، ولا يتوقع أن يصيب المجني عليه إلا بجرح بسيط أو كدمات خفيفة، أو لا يتوقع أن يصيبه إلا بمجرد الإيلام، ولكن الجاني مع هذا لا يسأل جنائياً عن النتائج التي قصدها فقط أو التي توقعها وإنما يسأل أيضاً عن النتائج التي لم يقصدها ولم يتوقعها، فإذا أدى الضرب أو الجرح إلى قطع طرف أو فقد منفعته فهو مسئول عن ذلك مأخوذ به، وإذا أدى الضرب أو الجرح إلى قطع طرف أو فقد منفعته فهو مسئول عن ذلك مأخوذ به، وإذا أدى الضرب أو الجرح إلى الموت فهو مسئول عن موت المجني عليه باعتبار الفعل قتلاً شبه عمد لا ضرباً ولا جرحاً. فالشريعة تحمل الجاني في جرائم الضرب والجرح نتائج فعله ولو لم يقصدها أو يتوقعها، وتحمل الجاني هذه النتائج معناه أن الجاني يؤخذ بقصده غير المباشر أو بقصده غير المحتمل. وإذا كانت الشريعة قد عرفت القصد غير المباشر على الوجه السابق ورتبت عليه حكمه فلا عبرة بعد ذلك بما يكتبه الفقهاء عنه، وسواء استخلصوا من أحكام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 الشريعة نظرية عامة في القصد الاحتمالي أو لم يستخلصوا نظرية عامة واكتفوا بتطبيق نصوص الشريعة، فإن هذه مسألة ثانوية ترجع إلى تقدير الفقهاء أنفسهم وإلى طريقتهم في الكتابة. على أننا مع هذا نستطيع مع تتبع أقوال الفقهاء في جرائم القتل والضرب والجرح أن نتبين بسهولة رأي كل منهم فيما نسميه اليوم بالقصد الاحتمالي وحكم هذا القصد، وسنرى فيما يأتي أن آراء الفقهاء في هذه المسألة لا تخرج عن ثلاثة آراء يختلف كل منها عن الآخر اختلافاً ظاهراً: 293 - الرأي الأول: هذا الرأي لمالك وهو يفرق عندما يتعرض لجرائم القتل والجرح والضرب بين الجرائم المتعمدة والجرائم غير المتعمدة، ويجعل الجاني في الحالين مسئولاً عن النتيجة التي انتهى إليها فعله، فمن أدى فعله إلى الموت فهو مسئول عن القتل، ومن أدى فعله إلى قطع عضو أو فقد منفعته فهو مسئول عن ذلك، ومن شفى جرحه دون عاهة أو لم يترك ضربه أثراً كانت مسئوليته بقدر ما انتهى إليه فعله. والفرق بين الجرائم المتعمدة وغير المتعمدة ليس في ذات الفعل المادي الذي أتاه الجاني وإنما في قصد الجاني وقت إتيان الفعل، فمن أتى الفعل بقصد العصيان كان متعمداً، ومن أتاه دون أن يقصد العصيان كان غير متعمد. ويكتفي مالك في جرائم القتل والجرح والضرب المتعمد بالقصد العام وهو قصد العدوان، ولا يشترط في القتل العمد أن يقصد الجاني إزهاق روح المجني عليه (1) ، ولا يشترط في قطع العضو أو في فقد منفعته أن يقصد الجاني هذه النتيجة، ومن ثم يعتبر الجاني قاتلاً عمداً عند مالك إذا لطم شخصاً أو لكزه بقصد العدوان فأدى ذلك إلى موته، وكذلك يعتبر قاتلاً عمداً لو رماه   (1) كان القضاء الفرنسي إلى سنة 1832 يكتفي في جرائم القتل العمد بالقصد العام حتى صدر قانون يعاقب على الضرب المفضي للموت بعقوبة خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 بحجر صغير أو بقضيب أو ضربه بعصاً خفيفة ولو لم يوال الضربات، ما دام أنه قد فعل ذلك بقصد العدوان وأدى الفعل للموت، ويعتبر قاتلاً عمداً من يدفع شخصاً بقصد العدوان أو يأخذ برجله فيسقط فتؤدي السقطة لموته، ولا يشترط في كل هذه الأحوال أن تكون الأداة قاتلة، ولا أن يقصد الجاني إزهاق روح المجني عليه (1) . ومن لطم شخصاً بقصد العدوان ففقأ عينه أو أذهب بصره فهو مسئول عن نتيجة فعله ولو لم يقصدها أو يتوقعها (2) . وإذا كان الجارح أو الضارب الذي لم يقصد إلا مجرد العدوان مسئولاً عن كل نتائج فعله فمعنى ذلك أنه لا يؤخذ بقصده المعين المحدد، وإنما يؤخذ بما يحتمل أن يترتب على هذا القصد، أو بتعبيرنا العصري: يؤخذ بقصده المحتمل. فخلاصة رأي مالك أن الجاني مسئول عن كل نتائج فعله المقصود، سواء قصد هذه النتائج بالذات أو لم يقصدها، توقعها أو لم يتوقعها، وسواء كانت هذه النتائج قريبة يكثر حدوثها أو بعيدة يندر وقوعها. وقد كان مالك في رأيه هذا منطقياً مع نفسه؛ لأنه لا يعترف بالقتل شبه العمد، ولأنه جعل القتل نوعين لا ثالث لهما ولا وسط بينهما: هما القتل العمد والقتل الخطأ، فلم يكن لديه بعد هذا ما يدعوه لاشتراط نية خاصة في القتل العمد ليميزه عن غيره. 294 - الرأي الثاني: وهو رأي فقهاء مذهب أبي حنيفة والرأي المرجوح في مذهب أحمد. ويفرق أصحاب هذا الرأي أيضاً بين جرائم القتل والجرح والضرب المتعمدة وبين الجرائم غير المتعمدة، ويجعلون الجاني في الحالين مسئولاً عن النتيجة التي انتهى إليها فعله، وأساس الفرق بين الجرائم   (1) المدونة ج16 ص108، مواهب الجليل ج6 ص240. (2) مواهب الجليل ج6 ص246، 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 المتعمدة وغير المتعمدة هو قصد الجاني، فإن أتى الفعل بقصد العصيان فهو متعمد، وإن لم يصطحب الفعل بقصد العصيان فهو غير متعمد. ويفرق هؤلاء الفقهاء بين القصد في القتل العمد والقصد فيما عداه من جرائم الاعتداء على النفس أو ما دون النفس (1) ، فيشترطون في القتل العمد أن يقصد الجاني الفعل القاتل ويقصد معه إزهاق روح المجني عليه، فإن توفر هذان القصدان فالجاني قاتل متعمد، وإن توفر الأول دون الثاني فالفعل قتل شبه عمد. وفيما عدا القتل العمد لا يشترطون إلا القصد العام أو قصد العصيان؛ أي تعمد إتيان الفعل مع العلم بأنه محظور، فإذا توفر هذا القصد فالجاني مسئول عن نتائج فعله سواء قصدها كلها أو لم يقصدها، توقعها أو لم يتوقعها، وسواء كانت هذه النتائج قريبة يكثر حدوثها، أو بعيدة يندر وقوعها، فمن ضرب شخصاً بقصد ضربه فقط فأدى الضرب لموته كان مسئولاً عن جريمة القتل شبه العمد لا الضرب، ومن لطم شخصاً ففقأ عينه أو أذهب بصره، فهو مسئول عن نتيجة الفعل لا عما قصده من الفعل (2) ، وهكذا. وأصحاب هذا الرأي يتفقون مع مالك ويخالفونه، فيتفقون معه تمام الاتفاق فيما دون القتل حيث يأخذون الجاني بقصده المحتمل، ويجعلونه مسئولاً عن نتائج فعله المتعمد، ولو لم يقصد هذه النتائج أو لم يتوقعها. ويخالفون مالكاً في القتل العمد، حيث لايرون أخذ الجاني بقصده المحتمل في القتل العمد، ويشترطون   (1) يفرق الفقهاء بين الجناية على النفس والجناية على ما دون النفس، فالجناية على النفس هي الجريمة التي تؤدي للموت سواء كانت الجريمة متعمدة أو غير متعمدة، والجناية على ما دون النفس يعبر بها عن كل أذى يقع على جسم الإنسان فلا يودي بحياته، وهو تعبير دقيق يتسع لكل أنواع الاعتداء والإيذاء التي يمكن تصورها، فيدخل تحته الجرح والضرب والدفع والجذب والعصر والضغط وقص الشعر ونتفه وغير ذلك، ويعبر القانون المصري عن نفس المعنى بلفظ الجرح والضرب فقط، وهو تعبير ناقص لا يتسع لغير الضرب والجرح من أنواع الإيذاء والاعتداء. (2) البحر الرائق ج8 ص287، بدائع الصنائع ج7 ص233، المغني ج9 ص410، الشرح الكبير ج9 ص428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 لاعتباره قاتلاً عمداً أن يقصد إزهاق روح القتيل، بينما يؤخذ الجاني عند مالك بقصده المحتمل في القتل العمد وغيره. وعلة هذا الاختلاف أن من عدا مالك من الفقهاء يجعلون القتل ثلاثة أنواع: عمد، وشبه عمد، وخطأ. وقد اقتضى هذا التقسيم منهم أن يجعلوا لكل نوع من هذه الأنواع حداً يميزه عن غيره، فاشترطوا في القتل العمد أن يقصد الجاني إزهاق روح القتيل، ليميزوا بين القتل العمد وبين القتل شبه العمد الذي يكفي فيه أن يقصد الجاني الفعل القاتل، فإذا قصد الجاني الفعل القاتل وقصد إزهاق روح القتيل فهو قاتل متعمد، وإذا قصد الفعل القاتل فقط فهو قاتل شبه متعمد، بينما هو في الحالين قاتل متعمد في رأي مالك. 295 - الرأي الثالث: وهو رأي الشافعي والرأي الراجح في مذهب أحمد. ويفرق أصحاب هذا الرأي أيضاً بين الجرائم المتعمدة وغير المتعمدة، ويجعلون الجاني مسئولاً في الحالين عن نتائج فعله، كما يجعلون أساس التفرقة قصد الجاني، فإن أتى الفعل بقصد العصيان فهو متعمد، وإن لم يقصد العصيان فهو غير متعمد. ويفرقون في جرائم الاعتداء على النفس بين القتل العمد والقتل شبه العمد، ويجعلون القاتل مسئولاً عن القتل العمد كلما قصد الفعل وقصد إزهاق روح المجني عليه، ويجعلونه مسئولاً عن القتل شبه العمد إذا قصد الفعل ولم يقصد إزهاق روح المجني عليه، ولو كان لا يؤدي غالباً للموت. فلا مجال للقصد المحتمل في دائرة القتل العمد، وفي هذا يتفق أصحاب هذا الرأي مع أصحاب الرأي السابق. أما في جرائم الاعتداء على ما دون النفس فيرى أصحاب هذا الرأي مسئولية الجاني باعتباره متعمداً عن كل نتائج فعله التي قصدها، ومسئوليته عن كل النتائج التي يؤدي إليها فعله غالباً ولو لم يقصدها أو يتوقعها؛ لأن تأدية الفعل غالباً لهذه النتائج يجعلها في حكم النتائج المقصودة، فإذا أدى الفعل إلى نتائج لم يقصدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الجاني، ولا يؤدي إليها فعله غالباً، فلا يسأل الجاني عن هذه النتائج باعتباره متعمداً لها؛ لأنه لم يقصد هذه النتائج ولا يؤدي فعله غالباً إليها، كذلك لا يسأل الجاني عن هذه النتائج باعتباره مخطئاً؛ لأنه قصد الفعل وإن لم يقصد نتائجه، وإنما يسأل الجاني عن نتائج الفعل باعتباره شبه عامد، وشبه العمد درجة بين العمد والخطأ، والأصل أن شبه العمد مزيج من العمد والخطأ؛ لأن الجاني يتعمد الفعل ولا يقصد نتائجه، ولأن نتائج الفعل في شبه العمد ليست مما يؤدي لها الفعل غالباً، فالجاني يتعمد الفعل ويخطئ في نتائجه، فوجب أن يعاقب بعقوبة العمد وعقوبة الخطأ. فمن صفع شخصاً على وجهه ففقأ عينه أو أذهب بصره دون أن يقصد هذه النتيجة، لا يسأل عن فعله باعتباره متعمداً؛ لأنه وإن قصد الفعل لم يقصد نتيجته، ولأن الصفع لا يؤدي غالباً لهذه النتيجة. كذلك لا يسأل الجاني باعتباره مخطئاً لأنه تعمد الفعل، وإنما يسأل الجاني باعتباره شبه عامد ويعاقب على فعله بعقوبة أخف من عقوبة العامد وأغلظ من عقوبة المخطئ. ومن أدخل إصبعه في عين إنسان ففقأها أو أذهب بصرها، يسأل عن نتيجة فعله باعتباره متعمداً؛ لأنه قصد الفعل وقصد نتيجته، أو لأن الفعل يؤدي غالباً لهذه النتيجة. ومن رمى إنساناً بحجر فأوضحه أو هَشَمَه (1) يسأل عن نتيجة فعله باعتباره متعمداً؛ لأنه قصد الفعل، ولأن فعله يؤدي غالباً لهذه النتيجة. ومن رمى غيره بحصاة صغيرة في جبهته فورمت ثم أوضحت لا يسأل عن هذه النتيجة باعتباره متعمداً إذا لم يكن يقصدها؛ لأن الفعل لا يؤدي غالباً لها، وإنما يسأل عن هذه النتيجة باعتباره شبه عامد (2) .   (1) الإيضاح والهَشم اسمان لنوعين من الشجاج. والشجاج هي الجراح التي تصيب الرأس والوجه. (2) نهاية المحتاج ج7 ص267، الأم ج6 ص45، الإقناع ج4 ص186، المغني ج9 ص410، الشرح الكبير ج9 ص428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 296 - مقارنة بين الآراء الثلاثة: القصد الاحتمالي لا وجود له في جريمة القتل العمد عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، بينما يسلم مالك بوجود المحتمل في القتل العمد ويؤخذ الجاني في كل الأحوال بقصده المحتمل. والأصل في هذا الخلاف أن مالكاً يقسم القتل إلى عمد وخطأ فقط، فكل ما ليس خطأ فهو عمد عند مالك، وكل عمد يكفي فيه قصد العدوان، ذلك القصد الذي يميز العمد عن الخطأ. أما بقية الأئمة فيقسمون القتل إلى عمد وشبه عمد وخطأ، ويشترطون في العمد قصد الفعل وقصد إزهاق روح المجني عليهن فإذا قصد الجاني الفعل ولم يقصد القتل فهو شبه عامد لا متعمد، وعليه عقوبة تقل عن عقوبة العمد وتزيد عن عقوبة الخطأ. وهكذا كان اشتراط قصد إزهاق روح المجني عليه عند من يشترطون هذا الشرط سبباً في امتناع القصد الاحتمالي في دائرة القتل العمد. ويسلم الفقهاء جميعاً بوجود القصد الاحتمالي فيما دون النفس؛ أي في الجرح والضرب وما أشبه، ويتفق مالك وأبو حنيفة في أخذ الجاني بقصده المحتمل في كل الأحوال ما دام قد تعمد الفعل، ويظاهرهما على ذلك الرأي المرجوح في مذهب أحمد. ويتفق الشافعي مع الرأي الراجح في مذهب أحمد على أن الجاني مسئول عن النتائج التي قصدها باعتباره عامداًن وأنه يؤخذ بقصده الاحتمالي فيسأل باعتباره عامداً كلما كانت النتائج في حكم المقصودة، وتعتبر النتائج كذلك إذا كانت غالبة الوقوع، فإذا لم تكن نتائج الفعل مقصودة ولا غالبة الوقوع فهي نتائج غير مقصودة أو في حكم النتائج غير المقصودة، ولكن لا يسأل عنها الجاني باعتباره مخطئاً؛ لأنه تعمد الفعل، وإنما يسأل عنها باعتباره شبه عامد، ويعاقب عليها بعقوبة بين عقوبة العمد وعقوبة الخطأ. 297 - بين الشريعة والقانون: الأساس الأول الذي قامت عليه نظرية القصد الاحتمالي هو جرائم القتل والجرح والضرب، والأحكام التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وضعت لهذه الجرائم هي التي بعثت فكرة القصد الاحتمالي إلى الوجود وجعلت منها نظرية خاصة. وأكثر القوانين الوضعية لا تضع قواعد عامة للقصد الاحتمالي وتكتفي بالنص عليه في جرائم خاصة هي جرائم الضرب والجرح والجرائم الأخرى التي تؤدي إلى قتل أو جرح، فقانون العقوبات المصري مثلاً يأخذ الجاني بقصده المحتمل في جرائم الجرح والضرب (المواد من 240 إلى 243 عقوبات) ، وفي جرائم تعذيب متهم لحمله على الاعتراف (المادة 126 عقوبات) ، وفي جريمة تعطيل المواصلات أو تعريضها للخطر إذا أدى ذلك إلى جرح إنسان أو موته (المادتان 167، 168 عقوبات) ، في جريمة الحرق المتعمد إذا أدى إلى موت شخص كان موجوداً في الأماكن المحرقة (المادة 257 عقوبات) ، وفي جريمة تعريض الأطفال للخطر إذا نشأ عن ذلك انفصال عضو من أعضاء الطفل أو فقد منعته أو نشأ عن ذلك موت الطفل (المادتان 285، 286 عقوبات) . ولم يضع القانون المصري قواعد عامة للقصد الاحتمالي إلا عندما تعرض لعقوبة الشركاء، حيث نصت المادة 43 عقوبات على أن: "من اشترك في جريمة فعليه عقوبتها، ولو كانت غير التي تعمد ارتكابها، متى كانت الجريمة التي وقعت بالفعل نتيجة محتملة للتحريض أو الاتفاق أو المساعدة التي حصلت". ونظرية القصد الاحتمالي لن تعرف في القوانين الوضعية إلا أخيراً، وهي من النظريات المسلم بها علمياً المختلف في شأنها عملياً، فالقوانين تختلف في مدى تطبيقها، والشراح يختلفون في تصويرها وتحديدها، ولكن ما أخذت به القوانين وما يراه الشراح على اختلافهم لا يخرج في مجموعه عن النظريات الثلاث التي عرفها الفقه الإسلامي. فالقانون المصري يأخذ في جرائم القتل والضرب والجرح بنظرية أبي حنيفة، وإن كان لا يشترط صراحة في جريمة القتل العمد توفر قصد إزهاق روح القتيل؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 لأن هذا الشرط تقتضيه التفرقة بين القتل العمد والضرب المفضي للموت، وقيام هذا الشرط يؤدي إلى استبعاد القصد الاحتمالي من دائرة جريمة القتل العمد، ويجعل القانون المصري الجارح والضارب مسئولاً عن نتائج فعله سواء قصدها أو لم يقصدها، توقعها أو لم يتوقعها، وسواء كانت النتائج قريبة الوقوع أو بعيدة الوقوع. والقانون الفرنسي يأخذ في جرائم القتل والضرب والجرح بمثل ما أخذ به القانون المصري، فمن ضرب إنساناً بعصاً فأحدث به جرحاً أدى لموته فهو مسئول عن جريمة الضرب المفضي إلى الموت، وإذا أدى الضرب إلى عاهة فالجاني مسئول عن إحداث عاهة، وإذا أعجز الضرب المجني عليه مدة تزيد على العشرين يوماً كان الجاني مسئولاً عن هذه النتيجة، فإن قلت مدة العجز عن ذلك كان الجاني مسئولاً عن قدر نتيجة فعله، والجاني يسأل في كل هذه الأحوال المختلفة باعتباره عامداً لا مخطئاً. والشراح المصريون والفرنسيون يسلمون بما سبق، باعتباره مما نص عليه القانون، ولا يرون الأخذ بالقصد الاحتمالي في جريمة القتل العمد؛ لأن الأخذ بنظرية القصد الاحتمالي في القتل العمد يؤدي إلى اختلاط القتل العمد بالضرب المفضي للموت، ويجعل التمييز بين هاتين الجريمتين متعذراً، ولكنهم فيما عدا هذا يصوغون نظريتهم في القصد الاحتمالي على أساس آخر، ويجعلون الجاني مسئولاً كلما كانت النتائج قريبة ومحتملة الوقوع وفي الإمكان توقعها، سواء توقعها الجاني بالفعل أو لم يتوقعها. ويرى بعض الشراح أن يؤاخذ الجاني على أساس أنه متعمد في حالتين: الأولى: إذا نص القانون على ذلك. والثانية: إذا كانت النتائج من النتائج الملازمة للفعل، بحيث لا يتصور أن الجاني قصد الفعل دون أن يقصد نتائجه، وفيما عدا هاتين الحالتين يسأل الجاني باعتباره مخطئاً (1) .   (1) شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص375، مجلة القانون والاقتصاد السنة الأولى ص877. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ويستخلص مما سبق أن القانونين المصري والفرنسي يأخذان بنظرية أبي حنيفة كاملة في القتل والضرب والجرح، كما يأخذان بنظرية مالك في الضرب والجرح فقط، ويأخذان بنظرية الشافعي فيما يتعلق بالقتل فقط. أما نظرية الشراح المصريين والفرنسيين فهي أقرب ما تكون لنظرية الشافعي وأصحاب الرأي الراجح في مذهب أحمد، ولكن نظرية الفقهاء الإسلاميين أدق منطقاً ومقياساً؛ لأنها تعطي النتائج الغالبة الوقوع حكم النتائج المقصودة، وتجعل الجاني في حكم العامد، كما أنها تجعل للنتائج التي لا يغلب وقوعها حكماً خاصاً، وتجعل الجاني مسئولاً عنها باعتباره شبه عامد. وهذا منطق دقيق واضح ليس فيه تعقيد ولا التواء، فالمقياس الذي تقاس به مسئولية الجاني عما لم يقصده من نتائج هو غلبة وقوع هذه النتائج، وهو مقياس عادل؛ لأن نتائج الفعل الغلبة الوقوع تكون دائمة في ذهن الجاني، ولا تكاد تنفصل ذهنياً عن الفعل المادي، فإذا قصد الجاني الفعل فقد قصدها، وهو مقياس ثابت؛ لأنه يقوم على أساس مادي ثابت هو غلبة وقوع النتائج، ولا يقوم على أساس اعتباري يختلف باختلاف الأشخاص وقدرتهم على التفكير والاستنتاج. أما الشراح فيقيمون نظريتهم على أسس غير ثابتة، ويقيسون المسئولية بمقاييس ليست دقيقة، إذ يجعلون الجاني مسئولاً عن النتائج كلما كانت قريبة ومحتملة الوقوع وفي الإمكان توقعها، واشترط قرب النتائج ليس مقياساً صحيحاً ولا أساساً ثابتاً ما دامت درجة القرب لم تحدد بحد ثابت، واحتمال وقوع النتائج ليس أساساً ثابتاً ولا مقياساً صحيحاً، ومثل ذلك يقال عن إمكان توقع النتائج، فالنتائج المحتملة قد تكون قريبة وقد تكون بعيدة، وما يمكن أن يتوقعه شخص قد لا يتوقعه آخر، وما يراه شخص محتملاً قد يراه الآخر غير محتمل. ولعل هذه العيوب هي التي دعت بعض الشراح إلى القول بمسئولية الجاني باعتباره عامداً كلما كانت النتائج من النتائج الملازمة للفعل، بحيث لا يتصور أن الجاني قصد الفعل دون أن يقصد نتيجته. وهؤلاء الشراح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وإن جاءوا بمقياس مادي ثابت إلا أنهم قضوا على نظرية القصد الاحتمالي؛ لأن النتائج الملازمة للفعل هي نتائجه الطبيعية التي يسأل عنها الجاني على أساس قصده العام دون الحاجة إلى اللجوء لنظرية القصد الاحتمالي. والقانون الإنجليزي لا يشترط في القتل العمد توفر إرادة القتل عند القاتل، بل يعتبر محدث القتل قاتلاً عمداً متى كان يعلم أو كان في استطاعته أن يعلم أن فعله يمكن يمكن أن يترتب عليه الموت، بغض النظر عما إذا كان قد أراد هذه النتيجة أو لم يردها، وبهذا الرأي أخذ القانون السوداني، إذ يعتبر القتل عمداً إذا حصل الفعل بقصد تسبيب الموت، أو إذا علم الفاعل أو كان له داع أن يعلم أن الموت ربما يكون النتيجة المحتملة للفعل، أو لأي ضرر جسدي كان القصد أن يسببه الفعل (1) . فالقانون الإنجليزي والقانون السوداني يأخذان في القتل العمد بقصده المحتمل، وهذا يتفق مع النظرية الألمانية التي تأخذ الجاني بقصده الاحتمالي في القتل العمد وغيره، كلما تمثل الجاني أو توقع النتيجة أو النتائج التي وقعت ولو لم يقصدها بالذات. وتتفق النظرية الألمانية والقانون الإنجليزي والقانون السوداني مع مذهب مالك في مؤاخذة الجاني بقصده الاحتمالي في القتل العمد، ولكن مذهب مالك بالرغم من هذا الاتفاق الظاهر يتسع لما تضيق عنه النظرية الألمانية، ولا تمتد إليه نصوص القانون الإنجليزي أو السوداني؛ إذ الجاني لا يؤخذ بقصده الاحتمالي عند الألمان، ولا طبقاً للقانونين الإنجليزي والسوداني، إلا إذا توقع أن فعله قد يؤدي للموت، وأما في مذهب مالك فالجاني يسأل عن القتل ولو لم يقصده أو لم يتوقعه، فمثلاً إذا لطم الجاني شخصاً صحيح الجسم بقصد العدوان   (1) أحمد بك أمين ص319، مجلة القانون والاقتصاد السنة الأولى ص876. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ودون أن يقصد الجاني القتل أو يخطر في باله أن فعله قد يؤدي إلى الموت، فمات المجني عليه من اللطمة، فالجاني قاتل متعمد عند مالك (1) ، وليس قاتلاً متعمداً طبقاً للنظرية الألمانية أو طبقاً للقانونين الإنجليزي والسوداني. ولا يفوتنا أن نلاحظ أن المقاييس التي وضعتها النظرية الألمانية والقانونان الإنجليزي والسوداني هي مقاييس شخصية غير ثابتة، فالجاني طبقاً للنظرية الألمانية يجب أن يتمثل أو يتوقع النتيجة، والتمثل مسألة داخلية يصعب إثباتها إلا إذا اعترف بها الجاني، وما قد يتمثله شخص لا يتفق مع ما قد يتمثله آخر مما يصعب معه وضع قاعدة للتمثل والتوقع، والجاني طبقاً للقانونين الإنجليزي والسوداني يجب أن يعلم أو أن يكون في استطاعته أن يعلم أن الفعل قد يؤدي للموت، والعلم أيضاً مسألة داخلية، ومن الصعب إثباته إلا إذا اعترف به الجاني، وما قد يعلمه شخص أو يستطيع أن يعلمه ولا يستطيع أن يعلمه شخص آخر، ومن ثم فليس في الإمكان وضع قاعدة للعلم واستطاعة العلم. وقد حاولت التشريعات الوضعية الحديثة أن تضع نصوصاً عامة للقصد الاحتمالي، ولكن هذه النصوص على اختلافها لا تخرج عما قال به الفقهاء الإسلاميون، فالقانون المكسيكي الصادر في سنة 1931 يجعل الجاني مسئولاً باعتباره عامداً عن كل النتائج التي لم يقصدها، إذا كانت من نتائج الفعل الضرورية أو العادية، أو كان الجاني قد توقع حدوثها، أو عزم على مخالفة القانون مهما كانت النتيجة، وهذا الذي أخذ به القانون المكسيكي إنما هو مزيج من النظريات الإسلامية. والقانون الإيطالي الصادر في سنة 1930 يجعل الجاني مسئولاً عن النتائج التي لم يقصدها ويعاقبه بعقوبة أقل من عقوبة العامد   (1) كان القضاء الفرنسي يطبق مذهب مالك في القتل حتى سنة 1832 حيث صدر قانون يعاقب على الضرب المؤدي للموت بعقوبة أقل من عقوبة القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وأكثر من عقوبة المخطئ، ونظرية القانون الإيطالي تقوم على نفس الأسس التي تقوم عليها نظرية الشافعي والرأي الراجح في مذهب أحمد. تلكم هي نظريات الفقهاء الإسلاميين في القصد الاحتمالي، وهذه هي نظريات شراح القوانين، وظاهر بجلاء مما قدمنا أن القوانين الوضعية لم تأت بجديد على الشريعة، وأن الشراح لم يعرفوا في عهدنا أكثر مما عرفه الفقهاء في العهود القديمة، فالشريعة قد أخذت بالقصد الاحتمالي في دائرة الجرائم التي تصيب النفس وما دون النفس، والقوانين الوضعية لم تخرج عن هذه الدائرة، ونظريات الفقهاء الإسلاميين لا تزال كما رأينا أدق منطقاً وأكثر سعة وأفضل صياغة من كل النظريات التي يقول بها شراح القوانين. * * * المبحث الخامس أثر الجهل والخطأ والنسيان على المسئولية 298 - أثر الجهل على المسئولية الجنائية: من المبادئ الأولية في الشريعة الإسلامية أن الجاني لا يؤاخذ على الفعل المحرم إلا إذا كان عالماً علماً تاماً بتحريمه، فإذا جهل التحريم ارتفعت عنه المسئولية. ويكفي في العلم بالتحريم إمكانه، فمتى بلغ الإنسان عاقلاً وكان ميسراً له أن يعلم ما حرم عليه: إما برجوعه للنصوص الموجبة للتحريم، وإما بسؤال أهل الذكر، اعتبر عالماً بالأفعال المحرمة، ولم يكن له أن يعتذر بالجهل أو يحتج بعدم العلم، ولهذا يقول الفقهاء: "لا يقبل في دار الإسلام العذر بجهل الأحكام". ويعتبر المكلف عالماً بالأحكام بإمكان العلم لا بتحقق العلم فعلاً، ومن ثم يعتبر النص المحرم معلوماً للكافة ولو أن أغلبهم لم يطلع عليه أو يعلم عنه شيئاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ما دام العلم به كان ممكناً لهم. ولم تشترط الشريعة تحقق العلم فعلاً؛ لأن ذلك يؤدي إلى الحرج ويفتح باب الادعاء بالجهل على مصراعيه ويعطل تنفيذ النصوص. هذه هي القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية ولا استثناء لها، وإذا كان الفقهاء يرون قبول الاحتجاج بجهل الأحكام ممن عاش في بادية لا يختلط بمسلمين، أو ممن أسلم حديثاً ولم يكن مقيماً بين المسلمين، فإن هذا ليس استثناء في الواقع وإنما هو تطبيق للقاعدة الأصلية التي تمنع مؤاخذة من يجهل التحريم حتى يصبح العلم ميسراً له، فمثل هؤلاء لم يكن العلم ميسراً لهم، ولا يعتبرون عالمين بأحكام الشريعة. أما إذا كان مدعي الجهل ناشئاً بين المسلمين أو أهل العلم فلا يقبل منه الادعاء بالجهل. ويلحق الجهل بمعنى النصوص الحقيقي بالجهل بذات النصوص، فحكمهما واحد، فلو ادعى الجاني أن النص لا يدل على التحريم أو أن نصاً آخر أباح الفعل المحرم، فإن جهله بالمعنى الحقيقي للنصوص لا يرفع عنه المسئولية الجنائية. وهذا هو الخطأ في التفسير كما نسميه اليوم في لغتنا القانونية. ومن الأمثلة المشهورة في الشريعة على الخطأ في التفسير: أن جماعة من المسلمين شربوا الخمر في الشام مستحلين لها مستدلين بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} [المائدة: 93] فأقيم عليهم حد الخمر. وتتفق القوانين الوضعية تمام الاتفاق مع الشريعة فيما يختص بأثر الجهل بالقانون على المسئولية الجنائية، فالقاعدة في القوانين الوضعية أن الإنسان لا يعذر بجهل القانون، وأن عبارة الجهل بالقانون تشمل العلم به والخطأ في فهمه وتفسيره، ولكن إذا كان الإنسان في ظروف يستحيل معها العلم بصدور قانون فله أن يحتج بالجهل، ويضربون لذلك مثلاً حالة المحاصرين في قلعة إذا خرجوا منها وخالفوا قوانين صدرت أثناء ضرب الحصار عليهم، وأساس الخروج على القاعدة أن هؤلاء لم يتيسر لهم العلم بالقانون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 299 - أثر الخطأ على المسئولية الجنائية: الخطأ هو وقوع الشيء على غير إرادة فاعله. فالفاعل في جرائم الخطأ لا يأتي الفعل عن قصد ولا يريده، وإنما يقع الفعل منه على غير إرادته وبخلاف قصده، وفي بعض الأحيان يقصد الجاني فعلاً معيناً ليس جريمة ليس ذاته، فيتولد من هذا الفعل المباح ما يعتبر جريمة دون أن يقصد الجاني ما تولد عن فعله. وتعتبر الجريمة المتولدة عن الفعل المباح جريمة غير عمدية ولو أن الجاني قصد الفعل المباح؛ لأنه قصد بفعله محلاً غير المحل المحرم أي غير محل الجريمة. ومثال ذلك أن يتمضمض صائم فيسري الماء إلى حلقه، أو يرمي صائد طيراً فيصيب إنساناً. فالصائم قصد إدخال الماء إلى فمه ليتمضمض ولم يقصد إدخاله إلى حلقه ليفطر، فهو قد قصد فعلاً مباحاً، ولكن تولد عن الفعل المباح الذي قصده فعل آخر غير مباح لم يقصده وإنما وقع على غير إرادته. والصائد قصد صيد الطائر ولم يقصد إصابة المجني عليه، فهو قد قصد فعلاً مباحاً ولكن تولد عن الفعل المباح الذي قصده فعل آخر غير مباح لم يقصده وهو إصابة المجني عليه، ومحل الفعل المقصود هو الطائر ومحل الفعل الغير مقصود هو الإنسان. والمخطئ كالعامد مسئول جنائياً كلما وقع منه فعل يحرمه الشارع، ولكن سبب مسئوليتهما مختلف، فمسئولية العامد سببها أنه قصد عصيان أمر الشارع وتعمد إتيان ما حرمه أو ترك ما أوجبه، ومسئولية المخطئ سببها أنه عصى الشارع لا عن قصد ولكن عن تقصير وعدم تثبت واحتياط (1) . 300 - المسئولية عن الخطأ استثناء: والأصل في الشريعة أن المسئولية الجنائية لا تكون إلا عن فعل متعمد حرمه الشارع ولا تكون عن الخطأ، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}   (1) أصول الفقه للخضري ص131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 [الأحزاب: 5] ، ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ولكن الشريعة أجازت العقاب على الخطأ استثناء من هذا الأصل (1) ، من ذلك قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ... } [النساء: 92] . ولما كان الأصل هو العقاب على العمد، والاستثناء هو العقاب على الخطأ، فإنه يترتب على ذلك أن كل جريمة عمدية يعاقب عليها فاعلها إذا أتاها عامداً، ولا يعاقب عليها إذا أتاها مخطئاً، ما لم يكن الشارع قد قرر عقوبة لمن أتاها مخطئاً؛ لأن الجريمة بهذا تصبح من جرائم العمد وجرائم الخطأ في أن واحد. فمن زنا عامداً عوقب بعقوبة الزنا، ولكن من أتى امرأة أجنبية زفت إليه على أنها امرأته لا عقاب عليه؛ لأنه أخطأ والجريمة عمدية. ومن سرق عامداً عوقب بعقوبة السرقة، ولكن من أخذ مال غيره سهواً أو خطأ مع مال له لا عقاب عليه؛ لأنه أخطأ ولم يتعمد الفعل المحرم والجريمة عمدية. ومن شرب الخمر عوقب بعقوبة الشرب، ولكن من شربها يظنها ماء لا عقاب عليه؛ لأنه شربها من غير عمد والجريمة عمدية. وهكذا كل جريمة عمدية أتاها الجاني عامداً فعليه عقوبتها فإذا أتاها مخطئاً فلا عقاب عليه. ويمكن تعليل عدم العقاب بأن الخطأ يعدم ركناً من أركان الجريمة العمدية فلا تتكون الجريمة، على أن انتفاء المسئولية الجنائية لانعدام ركن من أركان الجريمة لا يمنع من مسئولية الفاعل مسئولية مدنية، إذ القاعدة في الشريعة أن الدماء والأموال معصومة، وأن الاعذار الشريعة لا تنافي عصمة المحل، فمن زقت إليه امرأة على أنها زوجته فوطئها يحسبها زوجته لا يعاقب جنائياً وإنما عليه مهرها؛ لأن الوطء في دا الإسلام لا يخلو من حد أو   (1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج5 ص149 وما بعدها، وص154 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 مهر. ومن أخذ خفية مالاً للغير وهو يحسبه ماله ثم صرف فيه لا يعتبر سارقاً لانعدام القصد الجنائي، ولكنه يلتزم بضمان هذا المال لصاحبه. أما إذا كانت الجريمة مما يحرم إثباته عمداً أو خطأ، كالقتل والجرح، فإن العامد يعاقب على فعله بالعقوبة المقررة للعمد، بينما يعاقب المخطئ بالعقوبة المقررة للخطأ، وقد بينا من قبل أن الشارع يفرق بين عقوبة العامد وعقوبة المخطئ، فيغلظ عقوبة الأول ويخفف عقوبة الثاني (1) . ويلاحظ أن الصالح العام هو الذي اقتضى العقاب على الخطأ، فهناك من جرائم الخطأ ما له خطورته ويكثر وقوعه، كالقتل والجرح خطأ، ولما كان أساس الخطأ هو التقصير وعدم الاحتياط فقد عاقب الشارع على الجرائم الخطأ التي يكثر وقوعها ولا يخفى خطرها؛ لأن العقاب عليها يحقق مصلحة عامة إذ يحمل الأفراد على التثبت والاحتياط فيقل هذا النوع من الجرائم. ولقد نصت الشريعة الإسلامية على جرائم معينة واعتبرت أغلب هذه الجرائم عمدية وأقلها من جرائم الخطأ، ولما كان الأصل هو العقاب على الجرائم العمدية والاستثناء هو العقاب على الخطأ فإنه لا يجوز لولي الأمر أن يعاقب من ارتكب خطأ جريمة عمدية إلا إذا كان في ذلك تحقيق مصلحة عامة، وهذا يصدق على الجرائم متى حرمتها الشريعة، أما الجرائم التي حرمها أولو الأمر فلهم فيها أن يعاقبوا على العمد والخطأ مع مراعاة الشريعة الأصلية، وهي أن العقاب على العمد هو الأصل، وأن العقاب على الخطأ هو الاستثناء، وأن العقاب على الخطأ لا محل له ما لم يحقق مصلحة عامة (2) .   (1) راجع الفقرة 285. (2) لا يجيز المعتزلة العقاب على الخطأ إلا ما نص عليه، وحجتهم أن المؤاخذة تكون بالجناية، والجناية لا تكون إلا بالقصد، والخطأ لا قصد فيه فلا جناية فيه ولا مؤاخذة عليه، ولكن الجمهور يرى أن في الخطأ عدم تثبت والاحتياط الواجبين، فمن تسبب في خطأ أو باشره فقد أتى بجناية وجازت مؤاخذته، راجع: فواتح الرحموت لعبد العلي الأنصاري ج1 ص166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 301 - أنواع الخطأ: الخطأ في الشريعة على نوعين: خطأ متولد، وخطأ غير متولد. الخطأ المتولد: هو ما تولد عن فعل مباح أو فعل أتاه الفاعل وهو يعتقد أنه مباح. والخطأ المتولد إما أن يكون مباشراً، كمن يرمي طائراً فيصيب شخصاً، وكمن يرمي جندياً في صفوف الأعداء أو عليه لباسهم معتقداً أنه من العدو ثم يتبين أنه من جنود الوطن. وإما أن يكون بالتسبب، كمن يحفر بئراً في الطريق العام بإذن من ولي الأمر ولا يتخذ الاحتياطات لمنع المارة من السقوط فيه. الخطأ غير المتولد: هو كل ما عدا الخطأ المتولد، وهو إما أن يكون خطأ مباشراً فيقع من المخطئ مباشرة دون واسطة، كما لو انقلب نائم على صغير بجواره فقتله، وإنما أن يكون خطأ بالتسبب، وهو ما يتسبب فيه المخطئ دون أن يقع منه مباشرة، كما لو حفر شخصاً بئراً في الطريق العام دون إذن ولي الأمر فوقع فيه أحد المارة، وكما لو وضع شخص أحجاراً في الشارع العام دون إذن فاصطدم فيها شخص وأصيب. ويطلق بعض الفقهاء على الخطأ المتولد المباشر لفظ الخطأ مطلقاً من كل قيد، ويسميه بعضهم: الخطأ المحض، أما الخطأ المباشر غير المتولد، والخطأ بالتسبب متولداً وغير متولد، فيسمونه اصطلاحاً: ما جرى مجرى الخطأ (1) ، ومن الفقهاء من لا ينوع الخطأ ولا يفرق بين صوره المختلفة ويسميها جميعاً خطأ. 302 - أساس الخطأ: أساس الخطأ في الشريعة هو في الأصل عدم التثبت والاحتياط، ولكن لا يشترط مع هذا لمسئولية المخطئ أن يقع منه تقصير في كل الأحوال، وإنما يشترط وقوع التقصير في الخطأ المتولد، أما فيما عداه فالتقصير   (1) راجع الفقرة 285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 مفترض في الجاني ولا يعفي من المسئولية إلا إذا ثبت أنه ألجئ إليه إلجاء. ويسير الفقهاء على قاعدتين عامتين يحكمان الخطأ، وبتطبيقهما نستطيع أن نقول إن شخصاً ما أخطأ أو لم يخطئ (1) : القاعدة الأولى: إذا أتى الجاني فعلاً مباحاً أو يعتقد أنه مباح فتولد عنه ما ليس مباحاً فهو مسئول عنه جنائياً، سواء مباشره أو تسبب فيه، إذا ثبت أنه كان يمكنه التحرز منه، فإذا كان لا يمكنه التحرز منه إطلاقاً فلا مسئولية. القاعدة الثانية: إذا كان الفعل غير مباح فأتاه الجاني أو تسبب فيه دون ضرورة ملجئة، فهو تعد من غير ضرورة، وما نتج عنه يسأل الجاني عنه جنائياً، سواء كان مما يمكن التحرز عنه أو مما لا يمكن التحرز عنه. 303 - نوع من الخطأ عند مالك: ويعتبر مالك من الخطأ الأفعال التي يأتيها الجاني بقصد التأديب أو اللعب إذا أدت لموت المجني عليه أو جرحه، وقد أخذ بهذا الرأي نتيجه لعدم اعترافه بشبه العمد؛ لأن القتل عنده ليس إلا عمداً أو خطأ، والعمد ما قصد فيه الجاني العدوان، والخطأ هو ما عدا ذلك، ومن يأت الفعل بقصد التأديب أو اللعب لا يتوفر لديه قصد العدوان بحسب رأي مالك ومن ثم أعتبر فعله خطأ لا عمداً. 304 - الخطأ في الشخص والخطأ في الشخصية: يراد بالخطأ في الشخص أن يقصد الجاني قتل شخص معين فيصيب غيره، ويراد بالخطأ في الشخصية أن يقصد الجاني قتل شخص على أنه زيد فيتبين أنه عمرو. والخطأ في الشخص والخطأ في الشخصية نوعان من الخطأ المتولد، فالخطأ في الشخص هو الخطأ في الفعل، فمن يرمي شخصاً معيناً فيخطئه ويصيب غيره فقد أخطأ في فعله، والخطأ الذي وقع فيه متولد عن فعله الذي قصده. أما الخطأ في الشخصية فهو خطأ في ظن   (1) بدائع الصنائع ج7 ص271، 272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 الفاعل وقصده، فمن رمى شخصاً على أنه زيد ثم تبين أنه رمى عمراً فقد أخطأ في قصده، والخطأ الذي وقع فيه تولد عما ظنه صحيحاً وقصده. وقد اختلف الفقهاء في حكم الخطأ في الشخص والشخصية، فرأى البعض أن الجاني يسأل عن الجريمة باعتباره متعمداً، ورأى البعض أن الجاني يسأل عن الجريمة باعتباره مخطئاً. فأما القائلون بأن الجاني يعتبر عامداً فهم أغلب الفقهاء في مذهب مالك وبعض فقهاء المذهب الحنبلي، وهؤلاء يفرقون بين ما إذا كان الفعل المقصود أصلاً محرماً أو غير محرم، فإن كان الفعل المقصود أصلاً محرماً فإن الخطأ في الفعل أو في الظن لا يؤثر على مسئولية الجاني شيئاً؛ لأنه قصد في الأصل فعلاً محرماً فهو جان متعمد، فمن أراد قتل زيد فأخطأه وقتل عمراً يعتبر قاتلاً عمداً لعمرو، ومن قتل عمراً حاسباً أنه زيد يعتبر قاتلاً عمداً عمرو. أما إذا كان الفعل المقصود أصلاً غير محرم فإن الخطأ في الفعل أو في الظن يكون له أثره على مسئولية الجاني؛ لأنه قصد فعلاً مباحاً فإذا أخطأ في فعله أو في ظنه فهو جان مخطئ لا متعمد، فمن رمى صيداً أو غرضاً فأخطأه وقتل آدمياً يعتبر قاتلاً خطأ، ومن رمى حربياً أو مهدر الدم فأخطأه وقتل معصوماً يعتبر كذلك قاتلاً خطأ، ومن قتل عمراً وهو يحسبه زيداً المهدر الدم يعتبر أيضاً قاتلاً خطأ (1) . وأما القائلون بأن الجاني يعتبر مخطئاً فهم فقهاء مذهبي أبي حنيفة والشافعي وبعض الحنابلة، وهؤلاء جميعاً يرون أن من قصد قتل شخص أو إصابته فأخطأ في فعله وقتل أو أصاب غيره، أو أخطأ في ظنه، وتبين أنه قتل أو أصاب غير من قصده، فإن الجاني يكون مسئولاً عن القتل أو الجرح الخطأ فقط، سواء كان الفعل   (1) مواهب الجليل ج6 ص240- 243، الشرح الكبير للدردير ج4 ص215، المغني ج9 ص339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الذي قصده أصلاً مباحاً أو محرماً؛ لأن الجاني لم يقصد قتل من قتل ولا إصابة من أصيب، ولو علم بأنه يخطئ ما أقدم على الفعل (1) . ويفرق بعض الفقهاء في مذهب مالك بين الخطأ في الشخص والخطأ في الشخصية، ويرون أن الجاني يسأل باعتباره مخطئاً في حالة الخطأ في الشخص سواء كان الفعل الذي قصده أصلاً مباحاً أو محرماً، أما في حالة الخطأ في الشخصية فيسأل الجاني باعتباره عامداً كلما كان الفعل الذي قصده أصلاً محرماً. ورأى القائلين باعتبار الجاني عامداً إذا كان الفعل المقصود أصلاً محرماً يتفق مع رأي شراح القانون المصري، ورأى أغلب الشراح الفرنسيين، ورأى القائلين باعتبار الجاني مخطئاً في كل الأحوال يتفق مع النظرية الألمانية، أما القائلون بالتفرقة بين الخطأ في الشخص والخطأ في الشخصية فيتفق رأيهم مع ما يقول به بعض الشراح الفرنسيين (2) . 305 - أثر النسيان على المسئولية: النسيان هو عدم استحضار الشيء في وقت الحاجة إليه. وقد قرنت الشريعة الإسلامية النسيان بالخطأ في قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، وفي قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان". وقد اختلف الفقهاء في حكم النسيان، فرأى البعض أن النسيان عذر عام في العبادات والعقوبات، وأن القاعدة العامة في الشريعة أن من فعل محظوراً ناسياً فلا إثم عليه ولا عقاب، لكن الناسي إذا أعفي من المسئولية الجنائية فإنه   (1) بدائع الصنائع ج7 ص234، نهاية المحتاج ج7 ص237، الإقناع ج4 ص168، المغني ج9 ص339. (2) شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص356 وما بعدها، القانون الجنائي لعلي بدوي ص356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 لا يعفى من المسئولية المدنية؛ لأن الأموال والدماء معصومة والأعذار الشريعة لا تتنافى مع عصمة المحل (1) ، وطبقاً لهذا الرأي لا يعاقب الناسي إذا ارتكب فعلاً محرماً ما دام قد أتى الفعل وهو لا يذكر أنه محرم، ولكن النسيان لا يسقط الواجبات بل على الناسي إتيانها حين يذكرها أو يذكر بها، وإلا وجبت عليه العقوبة المقررة. ويرى البعض أن النسيان عذر بالنسبة للمؤاخذة في الآخرة؛ لأن العقوبة الأخروية تنقضي على القصد ولا قصد للناسي. أما بالنسبة لأحكام الدنيا فلا يعتبر النسيان عذراً معفياً من العقوبة الدنيوية إلا فيما يتعلق بحقوق الله تعالى، فإنه يعتبر عذر فيها بشرط أن يكون هناك داع طبيعي للفعل، وأن لا يكون هناك ما يذكر الناسي بما نساه. ويضربون مثل لذلك أكل الصائم ناسياً فإن طبع الإنسان يدعوه للأكل وليس هناك ما يذكره بالصوم. أما ما يتعلق بحقوق الأفراد فالنسيان لا يعتبر فيها عذراً بأي حال (2) . وإذا كانت بعض الجرائم مما يمس حقوق الله كالزنا وشرب الخمر وما أشبه، إلا أنه يمكن القول بأن الجرائم التي يعتبر النسيان فيها عذراً يندر وقوعها؛ لأن نسيان الفعل المحرم نادر في ذاته؛ ولأن الجريمة التي تنسى يجب أن يندفع إليها الناسي بدوافع طبيعية كما يجب أن لا يكون هناك ما يذكره بالتحريم. ويمكننا أن نتصور من أسلم حديثاً يعطش فيشرب الخمر ناسياً، ومن طلق امرأته طلاقاً بائناً يأتيها وهي في العدة ناسياً. وسواء أخذ بهذا الرأي أو بالرأي السابق فإن ادعاء النسيان وحده لا يعفي من العقاب، وإنما يبقى قبل كل شئ أن يثبت الجاني أنه ارتكب الجريمة ناسياً،   (1) أعلام الموقعين ج2 ص140، المستصفى للغزالي ج1 ص84، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص217، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج5 ص149 وما بعدها. (2) أصول الفقه للخضري ص119، مجلة القانون والاقتصاد السنة الأولى ص374، الأشباه والنظائر ص166، 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وهذا عمل من الصعوبة بمكان، ومن ثم كان مبحث النسيان في الجرائم مبحثاً قليل الأهمية، إذ يندر أن يستطيع شخص أن يثبت بدليل مقنع أنه ارتكب الجريمة ناسياً. والنسيان عند أصحاب الرأي الأخير لا يسقط الواجبات أيضاً، فالواجب يظل واجباً على الناسي وعليه أن يفعله، كما أن النسيان يعتبر شبهة تدرأ العقوبة كلما وجبت عقوبة الحد على الناسي، وإذا درأت عقوبة الحد حل محلها التعزير، فأثر النسيان على الجرائم طبقاً للرأي الأخير قاصر على إعفاء الناسي من العقوبة في بعض الأحوال ودرء عقوبة الحد عنه في حالات أخرى. * * * المبحث السادس أثر الرضاء بالجريمة على المسئولية الجنائية 306 - أثر الرضاء على المسئولية الجنائية: الأصل في الشرعية الإسلامية أن رضاء المجني عليه بالجريمة وإذنه فيها لا يبيح الجريمة ولا يؤثر على المسئولية الجنائية إلا إذا هدم الرضا ركناً من أركان الجريمة كالسرقة والغصب مثلاً، فإن الركن الأساسي في الجريمتين هو أخذ المال على غير رغبة المجني عليه، فإذا رضي المجني عليه بأخذ المال كان الفعل مباحاً لا جريمة. وهذه القاعدة العامة تطبقها الشريعة بدقة على كل الجرائم ما عدا جرائم الاعتداء على لنفس وما دونها، أي جرائم القتل والجرح والضرب، وكان المنطق يقضي أن تطبيق القاعدة على هذه الجرائم أيضاً؛ لأن الرضا لا يهدم ركناً من أركان جريمة القتل أو الجرح أو الضرب، ولكن الذي منع من تطبيق هذه العاقدة هو وجود قاعدة أخرى خاصة بهذه الجرائم، وهي أن للمجني عليه وأوليائه حق العفو عن العقوبة الأصلية في الجناية على النفس وما دون النفس، فلهم أن يعفوا عن القصاص إلى الدية، ولهم أن يعفوا عن القصاص والدية معاً، فلا يبقى بعد ذلك إلا تعزير الجاني إن رأى ذلك أولو الأمر، أي من لهم حق التشريع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وقد أدى وجود القاعدتين معاً إلى اختلاف الفقهاء على المدى الذي تطبق فيه كل قاعدة، كما جعل آراء الفقهاء في القتل تختلف عن آرائهم في القطع والجرح، ولهذا سنتكلم أولاً عن الرضاء بالقتل، ثم نتكلم بعد ذلك عن الرضاء بالقطع والجرح. 307 - الرضاء بالقتل: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن الإذن بالقتل لا يبيح الفعل؛ لأن عصمة النفس لا تباح إلا بما نص عليه الشرع، والإذن بالقتل ليس منها، فكان الإذن عدماً لا أثر له على الفعل، فيبقى الفعل محرماً معاقباً عليه باعتباره قتلاً عمداً، لكنهم اختلفوا فيما بينهم على العقوبة التي توقع على الجاني، فرأى أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد أن يدرءوا عقوبة القصاص عن الجاني، وأن تكون العقوبة الدية على أساس أن الإذن بالقتل شبهة، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ادرأوا الحدود بالشبهات"، والقصاص معتبر حداً، فكل شبهة تقوم في فعل مكون لجريمة عقوبتها القصاص يدرأ بها الحد عن الجاني، ورأى زفر أن الإذن لا يصلح أن يكون شبهة، ومن ثم فهو لا يدرأ القصاص، فوجب أن يكون القصاص هو العقوبة (1) . والرأي الراجح في مذهب مالك أن الإذن بالقتل لا يبيح الفعل ولا يسقط العقوبة، ولو أبرأ المجني عليه الجاني من دمه مقدماً؛ لأنه أبرأه من حق لم يستحقه بعد، وعلى هذا يعتبر الجاني قاتلاً عمداً. وبعض أصحاب هذا الرأي يرى أن تكون العقوبة القصاص حيث لا يعتبر الإذن شبهة تدرأ القصاص ويوجب الدية بدلاً من القصاص. أما الرأي المرجوح في مذهب مالك - وينسبه ابن عرفة لسحنون - فهو أن الإذن بالقتل لا يبيح الفعل، ولكنه يسقط عقوبتي القصاص والدية معاً، وإن   (1) بدائع الصنائع ج7 ص236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 كان لا يمنع من التعزير. ولكن الرأي المعروف عن سحنون في العتيبة (1) أنه يدرأ القصاص عن الجاني للشبهة ويوجب الدية (2) . وفي مذهب الشافعي رأيان: أولهما: أن الإذن في القتل يسقط عقوبتي القصاص والدية ولا يبيح الفعل. وثانيهما: أن الإذن في القتل لا يبيح الفعل ولا يسقط العقوبة، وبعض أصحاب هذا الرأي يرى في الإذن شبهة تدرأ القصاص وتوجب الدية، وبعضهم الآخر يوجب القصاص ولا يرى في الإذن شبهة (3) . ويرى أحمد وأصحابه أن الإذن في القتل يسقط العقوبة على الجاني؛ لأن من حق المجني عليه العفو عن العقوبة، والإذن بالقتل يساوي العفو عن عقوبة القتل (4) . وهذا التعليل هو نفس ما يقول به أصحاب الرأي الأول في مذهب الشافعي. 308 - الرضاء بالجرح والقطع: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن الإذن بالقطع والجرح يترتب عليه منع العقوبة؛ لأن الأطراف عندهم يسلك مسلك الأموال، وعصمة المال تثبت حقاً لصاحبه، فكانت العقوبة على القطع والجرح محتملة السقوط بالإباحة والإذن. ولكنهم اختلفوا فيما إذا أدى الجرح أو القطع للموت، فأبو حنيفة يرى الفعل قتلاً عمداً؛ لأن الإذن كان عن الجرح أو القطع فلما مات تبين أن الفعل وقع قتلاً لا جرحاً ولا قطعاً، ومن ثم فعليه عقوبة القتل العمد، ولما كان الإذن يعتبر شبهة تدرأ القصاص فيتعين أن تكون العقوبة الدية، أما أبو يوسف ومحمد فمن رأيهما أنه إذا أدى الجرح   (1) اسم كتاب في فقه مذهب مالك. (2) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص235، 236، الشرح الكبير للدردير ج4 ص213. (3) نهاية المحتاج ج7 ص428. (4) الإقناع ج4 ص171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 أو القطع للموت فلا شئ على الجاني إلا التعزير؛ لأن العفو عن الجرح أو القطع عفو عما تولد منه وهو القتل (1) . ومذهب مالك هو أن الإذن بالقطع أو الجرح لا عبرة به إلا إذا استمر المجني عليه مبرئاً له بعد الجرح أو القطع، فإن لم يبرئ المجني عليه الجاني بعد الجرح أو القطع فقد وجبت العقوبة المقررة وهي القصاص أو الدية إذا امتنع القصاص لسبب شرعي، أما إذا استمر المجني عليه مبرئاً للجاني فإن العقوبة المقررة أصلاً وهي القصاص والدية تسقط ويحل محلها التعزير، هذا إذا لم يؤدي الجرح أو القطع للموت، فإذا أدى إليه اعتبر الجاني قاتلاً عمداً ووجبت عقوبة القتل العمد (2) . والإذن بالجرح والقطع يسقط العقوبة في مذهب الشافعي ما لم تر الجماعة عقابه تعزيراً، فإذا أدى الجرح أو القطع إلى الموت فمن فقهاء المذهب من يرى مسئولية الجاني عن القتل العمد، ولكنه يدرأ القصاص لشبهة الإذن، فتكون الدية هي العقوبة، ومن فقهاء المذهب من يرى امتناع العقاب؛ لأن الموت تولد عن فعل مأذون فيه (3) ، والإذن يسقط العقوبة. والإذن بالجرح والقطع عن أحمد كالإذن بالقتل مسقط للعقوبة وإن كان الإذن لا يبيح الفعل؛ لأن للمجني عليه الحق في إسقاط العقوبة، وقد أسقطها بإذنه (4) . 309 - أسباب الخلاف بين الفقهاء في الإذن بالقتل والجرح: أساس الاختلاف في هذه المسألة أن المجني عليه وأوليائه العفو عن العقوبة في القتل والجرح، والعقوبة أصلاً هي القصاص، فإذا امتنع لسبب شرعي حلت   (1) بدائع الصنائع ج7 ص236، 237. (2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص213. (3) نهاية المحتاج ج7 ص248، 296، تحفة المحتاج ج4 ص30، 31. (4) الإقناع ج4 ص371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 محله الدية، وللمجني عليه وأوليائه أن يعفو عن القصاص إلى الدية، وأن يعفو عن الدية والقصاص معاً، فإذا عفوا سقطت العقوبة المقررة للقتل أو الجرح ولم يبق إلا عقوبة التعزير إن رأى ولاة الأمور تقريرها في حالة العفو. وعلى هذا الأساس قام اختلافهم في القتل، فمن قال بأن الإذن يمنع من العقاب اعتبر الإذن عفواً مقدماً ورتب عليه سقوط العقوبة، ومن قال بأن الإذن لا يمنع من العقاب رأى أن الإذن لا يعتبر عفواً؛ لأن العفو عن القتل يستدعي وجود القتل، فإذا جاء العفو قبل القتل فهو عفو غير صحيح؛ لأنه لم يصادف محله، ومعنى ذلك أن حق المجني عليه في العفو لا ينشأ إلا بعد وقوع الجريمة، فإذا عفا قبل وقوعها فقد وقع عفوه لغواً؛ لأن حقه لم يكن نشأ بعد حتى يعفو عنه، ومن جعل العقوبة الدية اعتبر الإذن شبهة تدرأ الحد أي القصاص، ومن قال بالقصاص لم يجعل الإذن شبهة دارئة القصاص. أما في حالة الجرح الذي لم يؤد إلى موت المجني عليه فمن قال بإسقاط العقوبة اعتبر الإذن بالجرح أو القطع عفواً مقدماً، واعتبره عفواً صحيحاً؛ لأنه استمر حتى تم إحداث الجرح أو القطع، ومن قال بعدم سقوط العقوبة اعتبر الإذن السابق باطلاً؛ لأنه لم يصادف محله واشترط لإسقاط العقاب أن يبرئ المجني عليه الجاني بعد الجرح أو القطع. ومن أسقط العقاب في الجرح المؤدي للموت اعتبر الموت متولداً عن الجرح وهو مأذون فيه، وما تولد عن عفو عنه أخذ حكمه. ومن رأى العقاب أعتبر الإذن عن جرح لا عن قتل، فإذا ظهر أن الفعل قتل فهو غير مأذون فيه، ولكنه مع ذلك اعتبر الإذن الباطل شبهة تدرأ القصاص. 310 - بين الشريعة والقانون: القاعدة العامة من القوانين أن رضاء المجني عليه بالجريمة لا يبيح القتل ولا يرفع العقاب إلا إذا كان الرضاء يعدم ركناً من أركان الجريمة، وفي هذا تتفق القوانين مع الشريعة إلا أن القوانين الوضعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 تجعل الرضاء ركناً في بعض الجرائم التي لا يغير الرضاء من طبيعتها شيئاً، كالزنا فإن الرضاء به لا يغير من طبيعة الجريمة، ولا يحي لمن عمل الفعل مناف للأخلاق خارج على المألوف إلى عمل متفع مع الأخلاق والعادات المألوفة، ومثل ذلك اللواط، وهتك العرض. وهذا لا يتفق مع مبادئ الشريعة، كما أنه خروج من القوانين على القاعدة العامة التي ذكرناها، إذ المفروض في الرضاء أن يؤثر على أركان الجريمة الطبيعية، كما هو الحال في السرقة؛ إذ أن الرضاء يعدم الجريمة، أما الرضاء في الزنا فلا أثر له إطلاقاً، والفعل في حالة الرضاء وعدمه زناً لا شك فيه، في لسان العرف، والعادات، والأخلاق، وآداب الجماعة. ويلاحظ أن رضاء المجني عليه بالجرح والقطع والقتل في الشريعة الإسلامية لا أثر له على تكوين الجريمة، وإنما أثره قاصر على إسقاط العقوبة، لا لأن المجني عليه أو أولياءه رضوا بالجريمة، وإنما لأن من حقهم العفو عن العقوبة. والشريعة حين تقرر للمجني عليه ووليه حق العفو في الجرائم التي ذكرناها لا يأتي بمبدأ غريب على القوانين، وطبقته في الجرائم التي تمس العرض، فالقانون المصري مثلاً يعطي للزوج حق العفو عن عقاب زوجته الزانية، فإذا عفا سقطت عنها العقوبة ولو كان قد حكم بها وبدئ في تنفيذها. على أن هناك فرقاً بين الشريعة والقوانين في هذه المسألة، فالشريعة إذا أعطت للمجني عليه أو وليه حق العفو عن العقوبة، فإنما أعطته حق العفو عن العقوبة الأصلية فقط، وهي القصاص أو الدية، ولم ترتب على عفوه سقوط حق الجماعة في العقاب بصفة مطلقة، بل تركت للجماعة أن تعاقب الجاني إذا شاءت بعقوبة أقل شدة من العقوبة الأصلية، فالعفو في جرائم القتل والجرح يؤدي إلى إسقاط حق المجني عليه في التعويض، وإلى استبدال عقوبة مخففة بعقوبة مغلظة، ولكنه لا يؤدي إلى إسقاط العقوبة كلية، بينما العفو عن الزوجة الزانية طبقاً للقانون المصري يمنع من عقابها بأية عقوبة أخرى، ومعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ذلك أن حق العفو الذي منحته الشريعة للمجني عليه مقيد بمصلحة الجماعة، بينما حق العفو الذي تمنحه القوانين للمجني عليه غير مقيد بقيد ما. وإذا كانت القوانين الوضعية لا تعطي المجني عليه أو وليه حق العفو في جرائم القتل والجرح والضرب، فإن عفو المجني عليه أو وليه يؤدي عملاً إلى مثل ما أدت إليه نظرية الشريعة في هذه المسألة، إذ القوانين الوضعية تجعل للقتل والجرح عادة عقوبتين، وتترك للقاضي أن يختار إحداهما، كما أنها تترك للقاضي أن يستبدل بالعقوبات الأصلية عقوبات أخف منها إذا اقتضت ظروف الجاني والجانية هذا التخفيف، ولا شك في أن عفو المجني عليه وأوليائه من أهم الظروف التي تدعو إلى تخفيف العقوبة على الجاني، كما أن العفو يؤدي بطبيعته إلى إسقاط التعويض المدني، وبهذا ينتهي العفو في دائرة القوانين من الوجهة العملية إلى مثل النتائج التي يؤدي إليها العفو في الشريعة الإسلامية. على أن بعض القوانين الوضعية كالقانون الألماني تجعل لرضاء المجني عليه في حالة القتل والشروع فيه أثراً على العقوبة، وتفرق بين هذه الحالة وحالة القتل العمد بدون رضاء المجني عليه، وتجعل القتل برضاء المجني عليه جريمة من نوع خاص، وتعاقب عليها بعقوبة تقل عن عقوبة القتل العمد. وما هذه المبادئ القانونية إلا تطبيق لنظرية الشريعة الإسلامية. وتمتاز نظرية الشريعة بأن فيها أسهل الحلول للمعضلة التي تواجه المحاكم وشراح القانون اليوم، وهي قتل المريض الميئوس منه لتخليصه من آلامه. 311 - الانتحار والمسئولية الجنائية: تحرم الشريعة الإسلامية الانتاحر كما تحرم القتل، وقد جاء التحريم في القرآن، كما جاءت به السنة، فالله تعالى يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33] ، والانتحار قتل نفس، ويقول جل شأنه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] ، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 مخلداً فيها أبداًن ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً"، والانتحار قد يكون عمداً، وقد يكون خطأ، وكلاهما محرم. وإذا نجحت عملية الانتحار ومات المنتحر، فلا عقوبة عليه؛ لأن العقوبة تسقط بالموت، ولكن الفقهاء اختلفوا في الكفارة، فرأى مالك وأبو حنيفة أن لا كفارة في قتل النفس مطلقاً، ويظاهرهما على هذا الرأي في مذهب أحمد. أما الشافعي فيرى أن قتل نفسه عمداً أو خطأ وجبت الكفارة في ماله ويرى بعض الفقهاء في مذهب أحمد ما يراه الشافعي من وجوب الكفارة في قتل النفس، ولكنهم لا يوجبون الكفارة إلا في مال من قتل نفسه خطأ (1) . والكفارة عقوبة تعبدية يقصد منها مصلحة الجاني نفسه، فمن أوجبها في مال المنتحر فقد راعى هذه الناحية. ويترتب على تحريم الانتحار أن يعاقب شريك المنتحر؛ سواء كان الاشتراك بالتحريض، أو الاتفاق، أو العون. وإذا لم يمت من حاول الانتحار عوقب على محاولته الانتحار، وعوقب معه شركاؤه في الجريمة، وعقوبة الجميع هي التعزير. وطريقة الشريعة في تحريمها الانتحار والعقاب على الاشتراك والشروع فيه تتفق مع ما يأخذ به الكثير من القوانين الوضعية الحديثة، كالقانون الإنجليزي، والسوداني، والإيطالي، وغيرهم. أما القانون المصري، والقانون الفرنسي، فلا يعتبر الانتحار فيهما جريمة، وكذلك لا يعتبر الاشتراك في الانتحار. 312 - إصابة الشخص نفسه: وتحرم الشريعة على الإنسان أن يصيب نفسه بأذى عمداً أو خطأ؛ فليس له أن يجرح نفسه أو يقطع طرفه أو غير ذلك، فإن فعل عوقب على ذلك بعقوبة تعزيرية، وإذا كان من المحرم أن يصيب   (1) أسنى المطالب ج4 ص95، نهاية المحتاج ج7 ص365، 366، المغني ج10 ص38، 39، بدائع الصنائع ج7 ص252، شرح الدردير ج4 ص254، مواهب الجليل ج6 ص268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الإنسان نفسه، فإن من المحرم على غيره أن يشترك معه في تلك الجريمة. وتتفق الشريعة في هذا مع كثير من القوانين الوضعية، وإن كانت بعض القوانين كالقانون المصري تجعل التحريم مقصوراً على أشخاص معينين، وفي حالات معينة. 313 - المبارزة والمسئولية الجنائية: المبارزة قتال ين شخصين قد يكون متفقاً عليه من قبل، وقد ينشب دون سابقة اتفاق. وقد يحرص كل من المتبارزين على قتل صاحبه، وقد ينوي أن يخرجه حتى يعجزه عن المبارزة ولا يشترط في المبارزة أن يكون بسلاح معين، فيصح أن تكون بالسيوف أو الخناجر، ويصح أن تكون بالأسلحة النارية، ويصح أن تكون بالعصا، ويصح أن تكون بالأيدي، والمهم في المبارزة أن يحرص كل على قتل صاحبه، أو جرحه، أو إيذائه، فإن كانت المبارزة مقصوداً بها مجرد إظهار المهارة والتفوق، ولم يقصد بها الإيذاء، فهي نوع من أنواع الفروسية التي تبيحها الشريعة، وسنتكلم عليها فيما بعد. أما المبارزة المقصود بها الإيذاء أو الجرح أو القتل، فهي محرمة شرعاً؛ لأنها ليست إلا قتلاً أو جرحاً أو إيذاء، وهذه أفعال تحرمها الشريعة تحريماً قاطعاً، فمن تبارز مع آخر فقتله، فهو قاتل متعمد إذا تعمد قتله، وإذا جرحه وهو يقصد قتله فأدى الجرح لموته، فهو قاتل متعمد، أما إذا جرحه بقصد تعطيله فقط، ولم يقصد قتله، فهو جارح عمداً، فإن أدى الجرح لموته فهو قاتل شبه متعمد. ولا تبيح الشريعة المبارزة لإيذاء الخصم إلا في الحرب، ففي الحرب تجوز المبارزة مع المحارب، ويباح قتله، وجرحه، وإيذاؤه؛ لأن دمه مهدرن كذلك تجوز مبارزة الباغي وقت الحرب ولو أنه مسلم؛ لأن البغاه تهدر دماؤهم وقت الحرب. ولقد دعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد للبراز فأجاب، وأذن لأصحابه للبراز يوم بدر، ويوم الخندق، والفقهاء يبيحون البراز، سواء دعا إليه المقاتل ابتداء أو كان إجابة لدعوة غيره، ولكن أبا حنيفة لا يبيح للمقاتل أن يدعو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 للبراز مبتدئاً؛ لأن ذلك تطاول وبغي في رأيه، بينما بقية الفقهاء يرون الدعوة للبراز ابتداء نوعاً من إظهار القوة وإرهاب العدو (1) . ويجب أن نفرق في المبارزة المحرمة بين حالتين. الأولى: ما إذا أحل كل من المتبارزين زميله من دمه، وفي هذه الحالة تطبق القواعد الخاصة برضاء المجني عليه بالقتل والجرح، وقد سبق أن بينا هذه القواعد. الثانية: إذا لم يحل أحد المتبارزين الآخر من دمه، وفي هذه الحالة تطبق على القاتل أو الجارح النصوص الخاصة بالقتل والجرح، ولا يكون لاتفاق المتبارزين أثر على العقوبة الواجبة؛ لأن الاتفاق على المبارزة ليس معناه الرضاء بالقتل والجرح. فالمبارزة في الشريعة تخضع للنصوص العامة التي تحرم القتل والجرح؛ لأن المبارزة تؤدي إلى القتل والجرح. وهناك نصوص يمكن أن يستدل بها على تحريم المبارزة، ومن ذلك ما رواه أبو بكرة حيث يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" فقلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه". ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، ولكننا لسنا في حاجة لهذه النصوص الخاصة لتحريم المبارزة؛ لأن النصوص العامة التي حرمت القتل والجرح كفيلة بهذا التحريم. وإذا أدت المبارزة إلى قتل أحد المتبارزين أو جرحه فإن القتل والجرح ينسب لفاعله فقط ولا ينسب للمتبارزين معاً، ولا يعتبر اتفاقهما على المبارزة ونشوء القتل والجرح عن التقائهما اشتراكاً منهما في القتل أو الجرح قياساً على التصادم؛ لأن القتل أو الجرح الناشئ عن التصادم مترتب عن فعل المتصادمين معاً، وعلى القوة الناشئة من اصطدامهما، أما القتل والجرح في حالة البراز فناشئ عن فعل أحد   (1) الأحكام السلطانية ص31 وما بعدها، مواهب الجليل للحطاب ج3 ص359، أسنى المطالب ج4 ص192، المغني ج10 ص394 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 المتبارزين وقوته ولا أثر لفعل الآخر وقوته في إحداث القتل أو الجرح. فإذا تصادمت سيارتان ونشأ عن اصطدامهما قتل شخص أو جرحه، فإن القوة التي أدت للقتل أو الجرح ترجع إلى قوة اندفاع السيارتين معاً والتقاء هاتين القوتين، ولو لم تلتق هاتان القوتان لما حدث القتل أو الجرح. أما في المبارزة فقدرة كل مبارز وقوته هي التي ينشأ عنها فعله؛ فإذا ضرب أحدهما الآخر فجرحه أو أطلق عليه رصاصة فأصابته، فليس لقوة المصاب أو عمله دخل في إصابته (1) . وتتفق نظرية الشريعة الإسلامية في المبارزة مع أغلب القوانين الوضعية الحديثة، فإنها تحرم المبارزة وتعاقب عليها باعتبار ما يحدث عنها قتلاً أو جرحا أو إيذاء، ومن هذه القوانين القانون المصري والقانون الفرنسي. وهناك قوانين أخرى تحرم المبارزة ولكنها تعاقب على ما ينشأ عنها بعقوبات خاصة، بدلاً من تطبيق عقوبة القتل والجرح، ومن هذه القوانين القانون الإيطالي، والقانون البولندي (2) . * * * المبحث السابع الأفعال المتصلة بالجريمة وعلاقتها بالمسئولية الجنائية 314 - الأفعال المتصلة بالجريمة: الأفعال المتصلة بالجريمة لا تعدو أن تكون فعلاً من ثلاثة: فهي إما مباشرة، وإما سبب، وإما شرط. والتمييز بين هذه الأفعال الثلاثة ضروري للتمييز بين الجاني وغير الجاني.   (1) راجع كتاب القصاص لأحمد محمد إبراهيم ص113 وما بعدها، فإنه يعطي المبارز حكم الاصطدام، وهو رأي غير منطقي، كما أنه يؤدي إلى اعتبار كل تشاجر أو اعتداء في حكم الاصطدام كلما وقف المجني عليه موقف المدافع أو المقاوم. (2) شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص461. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 المباشرة: هي ما أحدث الجريمة بذاته دون واسطة وكان علة للجريمة، كذبح شخص بسكين فإن الذبح يحدث الموت بذاته، وهو في الوقت نفسه علة الموت. وكالخنق فإنه يحدث الموت بذاته، وهو في الوقت نفسه علة للموت. وكإشعال نار في الشيء المحترق، فإن إشعال النار يحدث الحريق بذاته، وهو في الوقت نفسه علة الشيء الحريق. وكأخذ السارق مال الغير من حرزه خفية، فإن الأخذ يحدث السرقة وهو علة لها. وكتناول الخمر فإنه يحدث جريمة الشرب وهو في الوقت نفسه علة لها. السبب: هو ما أحدث الجريمة لا بذاته بل بواسطة وكان علة للجريمة، كشهادة الزور على بريء بأنه قتل غيره فإنها علة للحكم على المشهود عليه بالموت ولكن الشهادة لا تحدث بذاتها الموت، وإنما يحدث الموت بواسطة فعل الجلاد الذي يتولى تنفيذ حكم القاضي الذي صدر بالموت. وكحفر بئر في طريق المجني عليه وتغطيتها بحيث إذا مر عليها سقط فيها وجرح أو مات، فالحفر هو علة الموت أو الجرح، ولكن الحفر لا يحدث الجرح أو الموت بذاته، وإنما يحدثه بواسطة سقوط المجني عليه في البئر. ونستطيع أن نفرق بين المباشرة والسبب بأن المباشرة تولد الجريمة دون واسطة، وأن السبب يولد المباشرة أو هو واسطة لتولد المباشرة التي تتولد عنها الجريمة. والسبب ثلاثة أنواع: (أ) سبب حسي: وهو ما يولد المباشرة توليداً محسوساً مدركاً لا شك فيه ولا خلاف عليه سواء كان السبب معنوياً أو مادياً، كالإكراه على القتل والجرح فإنه يولد في المكره داعية القتل والجرح دون شك. وكحفر بئر في طريق المجني عليه وتغطيتها، حتى إذا ما مر عليها سقط فيها ومات أو جرح, فلا شك أن الحفر هو الذي تولد عنه التردي ثم الموت أو الجرح. وكإشعال النار في البيت الذي ينام فيه المجني عليه حتى إذا ما استيقظ كانت النار قد أحاطت به وقضت عليه. وكإطلاق حيوان مفترس على المجني عليه بقصد قتله فيفترسه الحيوان. وكأمر طفل غير مميز بقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 شخص فيقتله. فهذه كلها أسباب مادية ومعنوية تؤدي إلى الجريمة بطريق محسوس مدرك لا يشك فيه ولا يختلف عليه. (ب) سبب شرعي: وهو ما يولد المباشرة توليداً شرعياً؛ أي أساسه النصوص الشرعية، كشهادة الزور بالقتل والسرقة فإنها تولد في القاضي داعية الحكم بالموت على القاتل والقطع على السارق، وتنفيذ الحكم يؤدي إلى مباشرة الموت والقطع، وكتعمد القاضي أن يحكم ظلماً بالقتل أو القطع؛ فإن تنفيذ هذا الحكم يؤدي إلى مباشرة الموت أو القطع. (ج) سبب عرفي: وهو ما يولد المباشرة توليداً عرفياً لا حسياً ولا شرعياً، كترك الطعام المسموم في متناول الضيف، وكالقتل بوسيلة معنوية مثل الترويع والتخويف والسحر. ويدخل تحت السبب العرفي الأسباب الحسية التي بعدت فأصبحت مشكوكاً فيها أو مختلفاً عليها، ومثل ذلك إشعال نار في مسكن شخص بقصد قتله، فإن إشعال النار سبب محسوس للموت إذا مات المجني عليه محترقاً، ولكن إذا أنقذ المجني عليه ووضع في مستشفى لعلاجه فانهدم المستشفى على المجني عليه ومات تحت الأنقاض، فإن إشعال النار يصبح سبباً للموت مشكوكاً فيه أو مختلفاً عليه، وينقلب إلى سبب عرفي. والسبب العرفي قد يكون مادياً وقد يكون معنوياً، ويسمى السبب بالعرفي لأن حد السببية في النوع هو الحد المتعارف عليه، أي ما أقره عرف الناس وقبلته عقولهم (1) . الشرط: هو ما لا يحدث الجريمة وهو علة لها، ولكن وجوده جعل فعلاً آخر محدثاً للجريمة وعلة لها. ومثل ذلك أن يلقي إنسان آخر في بئر حفره ثالث لغير غرض القتل فيموت الثاني، فإن ما أحدث الموت وكان علة له هو   (1) نهاية المحتاج ج7 ص340، الوجيز للغزالي ص122 وما بعدها، أسنى المطالب ج4 ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 الإلقاء في البئر لا حفر البئر، ولكن الإلقاء ما كان يمكن أن يكون له أثره الذي حدث لولا وجود البئر، فوجود البئر شرط لجريمة القتل التي وقعت بواسطة الإلقاء في البئر. 315 - حكم المباشرة والسبب والشرط: صاحب الشرط لا مسئولية عليه ما دام لم يقصد بفعله التدخل في الجريمة أو تسهيلها أو الإعانة عليها؛ لأن فعله لم يحدث الجريمة ولم يكن علة لها، ولو اقتصر الأمر على فعله ما وقعت الجريمة بأي حال، وإذا كان الفعل شرطاً لوقوع الجريمة إلا أن فاعله لم يأته بقصد إجرامي. ولكن صاحب الشرط يسأل جنائياً عن فعله إذا قصد به التدخل في الجريمة أو تسهيلها أو الإعانة عليها، فإذا أسقط شخص آخر في بئر حفرت للري فمات من سقتطه فلا مسئولية على حافر البئر، ولكن إذا حفر البئر بقصد تسهيل الجريمة فحافره مسئول، ومن يستدرج القتيل لمحل قتله مسئول إذا قصد تسهيل الجريمة، ولا يسأل إذا كان لا علم له بما دبر للقتيل (1) . أما صاحب المباشرة والتسبب فكلاهما مسئول عن فعله؛ لأنه علة للجريمة ولا يمكن أن تحدث الجريمة بدونه، على أن الأمر في تحديد المسئولية يدق إذا كان المجني عليه قادراً على دفع أثر فعل المباشر والمتسبب، وقد وضع بعض الفقهاء القواعد الآتية لحكم هذه الحالة: أولاً: إذا كان الفعل مؤدياً بطبيعته للجريمة والدفع غير موثوق به، فإن المباشر أو المتسبب يسأل عن الجريمة، ولا عبرة بسكوت المجني عليه عن دفع الفعل أو إهماله في ذلك؛ لأن الفعل هو الذي أحدث الجريمة وهو علتها، وليس لسكوت المجني عليه عن دفع الجريمة أو إهماله دخل في حدوث الجريمة، ولا يمكن عقلاً أن يكون علة لها، فمن أحدث بآخر جرحاً بقصد قتله فمات من   (1) أسنى المطالب ج4 ص6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 الجرح فالفاعل مسئول عن القتل والعمد ولو امتنع المجني عليه عن معالجة الجرح أو أهمل في علاجه. ثانياً: إذا كان الفعل لا يؤدي بطبيعته للجريمة وكان الدفع موثوقاً به فلم يدفع المجني عليه الفعل، ففي هذه الحالة يسأل الجاني عن الفعل فقط ولا يسأل عن النتيجة التي ترتبت عليه؛ لأن الفعل لم يحدث النتيجة ولم يكن علة لها، وإنما الذي أحدثها هو عدم الدفع من جهة المجني عليه، ومثل ذلك أن يلقي شخص بآخر في ماء قليل لا يغرق، فيبقى هذا الآخر مستلقياً في الماء حتى يدركه النوم أو حتى تتصلب أطرافه من البرد فيغرق، فمسئولية الجاني قاصرة على الإلقاء في الماء فقط ولا يسأل عن نتيجة الإلقاء في الماء وهي الموت؛ لأن الموت لم ينشأ عن إلقاء الميت في الماء وإنما كان نتيجة بقائه في الماء، على أنه يشترط أن يكون الميت قد بقى في الماء مختاراً مع قدرته على الخروج منه، فإذا حدث له شلل أو كسر أو إغماء نتيجة إلقائه في الماء فعاقه عن الخروج أو غرق نتيجة لذلك، فالإلقاء في الماء هو الذي أحدث الجريمة وهو علتها، ومن ثم يسأل عن القتل من باشر الإلقاء أو تسبب فيه. ولا خلاف بين الفقهاء على هذا المبدأ ولكنهم يختلفون في تطبيقه، فالشافعية مثلاً يرون أن من فصد فلم يربط جرحه حتى نزف دمه ومات لا يسأل من فصده عن القتل؛ لأن الفصد لا يؤدي بطبيعته للموت ولأن الموت لو ربط محل الفصد لما نزف. والحنابلة يرون أن من أحدث الفصد مسئول عن القتل؛ لأنه أحدث الجرح الذي أدى للموت، ولأن الدفع ليس موثوقاً به (1) . إذا كان الفعل يؤدي بطبيعته للجريمة والدفع سهل، كما لو ألقى من يحسن السباحة في ماء مغرق فلم يسبح وترك نفسه يغرق، وكما لو ألقي شخص في نار قليلة يستطيع الخروج منها فبقى فيها حتى احترق، ففي هاتين الحالتين وأمثالهما   (1) الوجيز ج2 ص122 وما بعدها، المغني ج9 ص326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 خلاف، فالبعض يرى أن الفاعل قاتل؛ لأن الإلقاء في الماء يدهش الملقى عن السباحة فيغرق، ولأن أعصاب الملقى في النار تتشنج بإلقائه في النار فتعسر عليه الحركة، ولأن العادة أن لا يستسلم الإنسان للموت فيكون الموت نتيجة للإلقاء. ويرى البعض أن الفاعل لا يعتبر قاتلاً ما دام المجني عليه كان يستطيع السباحة فلم يفعل، والخروج من النار فبقى فيه (1) . وكلا الفريقين يرى الجاني مسئولاً جنائياً، ولكن الفريق الأول يجعله مسئولاً عن نتيجة الفعل، بينما يجعله الفريق الآخر مسئولاً عن الفعل دون نتيجته قياساً على الحالة الثانية، وأكثر الذين يعتبرون الفاعل قاتلاً يعتبرونه قاتلاً شبه عمد لا قاتلاً عمداً؛ لأن الفعل لا يؤدي غالباً للموت. 316 - الفرق بين مسئولية المباشر ومسئولية المتسبب: الأصل في الشريعة الإسلامية أن المباشر والمتسبب كلاهما مسئول جنائياً عن فعله، لكن المساواة في المسئولية لا تستلزم تساويهما في العقوبة في جرائم الحدود؛ لأن القاعدة في جرائم الحدود أن عقوبة الحد لا تجب إلا على مباشر (2) فلا يمكن إذن أن يعاقب المتسبب بعقوبة حد، وإنما يعاقب بعقوبة تعزيرية، ويمكن تعليل هذه القاعدة بأن الأصل في الجرائم ارتكابها بطريق المباشرة، وأن جرائم الحدود يغلب ارتكابها بطريق المباشرة ويقل ارتكابها بطريق التسبب فخصصت عقوبة الحدود لشدتها بما هو أصل وبما يغلب وقوعه. أما جرائم القصاص فعقوبتها وإن كانت مقدرة كعقوبة الحدود إلا أنها تقع على المباشر والمتسبب معاً عند مالك والشافعي وأحمد؛ لأن هذه الجرائم تقع غالباً بطريق التسبب فلو قصرت عقوبتها على المباشر فقط لتعطلت نصوص   (1) نهاية المحتاج ج7 ص243، 245، المغني ج9 ص326، البحر الرائق ج8 ص294، مواهب الجليل ج6 ص240، الشرح الكبير للدردير ج4 ص215، 216. (2) المهذب ج2 ص189، الشرح الكبير ج9 ص342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 القصاص لإمكان الجاني أن يعدل عن طريق المباشرة إلى طريق التسبب (1) . ولكن أبا حنيفة لا يسوي بين عقوبة القتل العمد المباشر والقتل العمد بالتسبب (2) مع أنه يعتبر الفعل في الحالين قتلاً عمداً، وهو يخصص عقوبة القصاص للقاتل المباشر ويدرأها عن القاتل المتسبب، وحجته في هذا أن عقوبة القتل العمد هي القصاص، ومعنى القصاص المماثلة، والقصاص في ذاته قتل بطريق المباشرة، فيجب أن يكون الفعل المقتص عنه قتل بطريق المباشرة ما دام أساس عقوبة القصاص المماثلة في الفعل، فمن حفر بئراً ليسقط فيها آخر بقصد قتله لا يقتص منه؛ لأن الحفر سبب القتل ولكنه لم يؤد إليه مباشرة، ومن شهد على آخر زوراً بأنه ارتكب جريمة عقوبتها القتل فحكم عليه بالقتل على أساس هذه الشهادة المزورة لا يقتص منه؛ لأن الشهادة وإن كانت سبب الحكم بالإعدام إلا إنها لم تؤد لإعدام المشهود عليه مباشرة (3) . وفي جرائم التعزير لا فرق بين عقوبة المباشر والمتسبب، فالعقوبات المقررة لهما واحدة. ولكن هذا لا يقتضي التسوية بينهما في نوع العقوبة التي توقع على كليهما ومقدار هذه العقوبة؛ لأن عقوبات التعازير غير مقدرة، وللقاضي حرية في اختيار العقوبة من بين عقوبات معينة، وتحديد مقدار العقوبة من بين حديها الأدنى والأعلى. 317 - مدى مسئولية المباشر والمتسبب إذا اجتمع سبب ومباشرة: إذا اجتمع سبب ومباشرة فلا يخرج الأمر في تحديد مسئولية المتسبب والمباشر عن حالة من ثلاث:   (1) المعني ج 9 ص331، أسنى المطالب ج4 ص5 وما بعدها، مواهب الجليل ج6 ص241. (2) يعتبر أبو حنيفة القتل بالتسبب قتلاً مباشراً إذا كان من باشر القتل أداة في يد المتسبب كما في حالة الإكراه. (3) بدائع الصنائع ج7 ص239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 الأولى: أن يغلب السبب المباشرة: ويتغلب السبب على المباشرة إذا لم تكن المباشرة عدواناً، وفي هذه الحالة تكون المسئولية على المتسبب دون المباشر، كقتل المحكوم عليه بالإعدام بناء على شهادة الزور، فتنفيذ الحكم بمعرفة الجلاد هو المباشرة وشهادة الزور هي السبب، ولما كان فعل الجلاد لا يعتبر عدواناً كان صاحب السبب أي شاهد الزور هو القاتل، وهكذا كلما تغلب السبب على المباشرة انتفت مسئولية المباشر ووقعت المسئولية على عاتق صاحب السبب (1) . الثانية: أن تغلب المباشرة السبب: وتتغلب المباشرة على السبب إذا قطعت عمله، كمن ألقى إنساناً في ماء بقصد إغراقه فخنقه آخر كان يسبح في الماء، وكمن ألقى بإنسان من شاهق فتلقاه آخر قبل وصوله إلى الأرض فقط رقبته بسيف، أو أطلق عياراً نارياً قتله قبل وصوله إلى الأرض، فالمسئول عن القتل في هذه الصور هو مباشر وعليه وحده القصاص، أما المتسبب فيعزر على فعله فقط ولا يحاسب على نتيجته وهي الموت. ويرى البعض أن المباشرة لا تقطع عمل السبب إذا كانت السلامة من السبب غير متوقعة، كمن رمى آخر من شاهق لا يمكن أن يسلم منه فتلقاه آخر قبل أن يصل إلى الأرض وقده بالسيف، فإن السبب في هذه الحالة يعتدل مع المباشرة، ويكون كل من المباشر والمتسبب مسئولين عن القتل؛ لأن عمل كل منهما يتمم عمل الآخر، أما إذا كان السبب يسلم منه فتقطع المباشرة عمل السبب على الوجه الذي سبق بيانه (2) . والمفروض في الأمثلة السابقة أن المباشر والمتسبب ليس بينهما اتفاق على الجريمة. ويرى أبو حنيفة أن المباشرة تغلب السبب دائماً كلما اجتمعا وكانت المباشرة   (1) أسنى المطالب ج4 ص6، مواهب الجليل ج6 ص241. (2) المغني ج9 ص385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 عدواناً، بحيث يضاف الحكم إلى المباشر دون المتسبب (1) ، وإضافة الحكم إلى المباشر دون المتسبب لا يترتب عليها إعفاء المتسبب فهو مسئول عن فعله كلما كان فعله معصية. وأهمية هذه القاعدة لا تظهر إلا في جرائم الحدود والقصاص؛ لأن تغليب المباشرة على السبب وإضافة الحكم إلى المباشر يؤدي إلى قصر عقوبة الحد والقصاص على المباشر دون غيره، ويجعل عقوبة المتسبب التعزير كلما تغلبت المباشرة على السبب. الثالثة: أن يعتدل السبب والمباشرة: بأن يتساوى أثرهما في إحداث الجريمة، وفي هذه الحالة يكون المتسبب والمباشر مسئولين معاً عن نتيجة الفعل، كالإكراه على القتل والأمر به؛ لأن المكره والآمر مسئولان عن القتل كما يسأل المكره والمأمور. وعند أبي حنيفة أن السبب لا يعتدل مع المباشرة أبداً؛ لأنه يضيف الحكم للمباشرة كلما اجتمعت مع سبب وكانت عدواناً، وهو في هذا يخالف ما يراه مالك والشافعي وأحمد، وإذا كان أبو حنيفة يعتبر المكره مسئولاً عن القتل فليس ذلك لأنه يرى اعتدال السبب مع المباشرة، وإنما لأنه يعتبر صاحب السبب مباشراً إذا كان المباشرة آلة في يده. 318 - رابطة السببية والمسئولية: ويشترط لمسئولية الجاني عن الجريمة التي تنسب إليه أن تكون ناشئة عن فعله، وأن يكون بين الفعل الذي أتاه والنتيجة التي يسأل عنها رابطة السببية. وقد لا يصعب القول بوجود رابطة السببية بين فعل الجاني ونتيجته، إذا كان فعل الجاني مباشرة لاتصال الفعل بالنتيجة اتصالاً مباشراً. أما إذا كان فعل الجاني   (1) الأشباه والنظائر ص81، مجلة القانون والاقتصاد السنة السادسة ص581. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 سبباً فقد يصعب في كثير من الأحوال القول بوجود رابطة السببية بين الفعل والنتيجة حيث لا يتصل الفعل اتصالاً مباشراً بنتيجته، وتتجلى هذه المصاعب كلما تعددت العلل المؤدية للنتيجة، فساعد بعضها عمل البعض، أو قطع بعضها عمل البعض، وكلما بعدت النتائج وتوالدت الأسباب بينها وبين الأفعال، وسنستعرض فيما يأتي هذه المصائب ونبين حكمها. 319 - تعدد العلل المسببة للنتيجة: القاعدة أن الجاني يسأل عن نتيجة فعله إذا كان فعله وحده هو علة النتيجة، أو كان لفعله إذا نظر إليه منفرداً عن غيره (1) دخل في إحداث النتيجة، فالجاني مسئول عن نتيجة فعله سواء كان هو الذي أحدث النتيجة وحده أو كان أحد العوامل التي اشتركت في إحداثها، فمن أحدث بآخر جرحاً قاتلاً بقصد فتله فأدى الجرح للموت فهو مسئول عن القتل العمد، وإذا كان بالمجني عليه إصابات قاتلة من قبل فأحدث به الجاني إصابة أخرى قاتلة فمات منها جميعاً، فالجاني مسئول عن القتل العمد، ولو أن الموت نتيجة لكل هذه الإصابات، ويستوي أن تكون الإصابات التي كانت بالمجني عليه ناشئة عن فعله هو كما لو جرح نفسه، أو عن فعل غيره كما لو ضربه إنسان أو نهشه حيوان. وإذا كان بالمجني عليه إصابات قاتلة سببها فعل مباح كالدفاع الشرعي مثلاً، فأحدث به آخر إصابة أو إصابات أخرى عدواناً بقصد قتله فمات من جميع الإصابات، فالجاني مسئول عن القتل العمد، ولو أن بعض الإصابات التي أدت للموت ناشئة عن فعل نباح، وكذلك الحكم لو كانت الإصابات السابقة غير عمدية، وهو نفس الحكم لو كانت الإصابات غير العمدية أو الناشئة عن فعل مباح لاحقة بالإصابات التي أحدثها الجاني وليست سابقة عليها. وإذا كانت بعض الإصابات أفحش من بعض، فإن الجاني الذي أحدث   (1) المفروض أن الجاني لا علاقة له بغيره من الفاعلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 أبسط الإصابات مسئول عن القتل العمد ما دامت إصابته مهلكة بذاتها أو لها دخل في القتل على انفرادها، كما أنه لا عبرة بعدد الإصابات التي يحدثها كل جان، فلو كان بشخص مائة إصابة أدت إلى قتله، فالجاني الذي أحدث واحدة منها فقط مسئول عن القتل ما دام لإصابته دخل في القتل على انفرادها ولو كانت بقية الإصابات من فعل شخص واحد. وإذا أساء المجني عليه علاج نفسه أو أهمل العلاج، أو سمح لطبيب بعلاج جرحه أو إجراء عملية فأخطأ العلاج أو قصر في العملية، وساعد كل ذلك على إحداث النتيجة فإن الجاني مع ذلك يسأل عن القتل العمد، ما دام فعله مهلكاً بذاته، أو كان له منفرداً دخل في إحداث النتيجة. وإذا كان المجني عليه مريضاً أو ضعيفاً أو صغيراً فيعتبر الجاني مسئولاً عن قتله عمداً إذا ضربه أو جرحه ضرباً أو جرحاً لا يقتل الصحيح أو الكبير، ما دام من شأن هذا الضرب أو الجرح أن يقتل المريض والضعيف والصغير. 320 - انقطاع فعل الجاني: ويسأل الجاني عن نتيجة فعله ما لم ينقطع فعل الجاني بفعل آخر يتغلب عليه ويقطع عمله، ففي هذه الحالة يسأل الجاني عن الفعل دون نتيجته، فمن يجرح إنساناً جرحاً قاتلاً بقصد قتله يعتبر قاتلاً لا عمداً إذا كان من الجرح، ولكن إذا جاء ثالث فقطع رقبة الجريح فهو قاتل، والأول جارح لا قاتل؛ لأن فعله انقطع عمله وانقضى أثره بفعل الثالث. ويسأل الجاني عن الفعل دون نتيجته إذا انقطع أثر الفعل فلم يؤد للنتيجة، ولو كان الجاني قاصداً النتيجة، فمن يجرح إنساناً قاصداً قتله فيشفى الجرح يسأل باعتباره جارحاً لا قاتلاً؛ لأن الجرح انقطع أثره فلم يؤد للموت. 321 - توالد العلل والمسببات: قلنا: إن الجاني يسأل عن نتيجة فعله إذا كان فعله وحده هو علة النتيجة، أو كان فعله إذا نظر إليه منفرداً من غيره دخل في إثارة النتيجة، وهذه هي القاعدة العامة في الشريعة، ومن السهل تطبيقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 كلما كان فعل الجاني علة مباشرة للنتيجة، كذبح شخص بسكين؛ فإن الذبح علة مباشرة للموت. ولكن المسائل لا تعرض دائماً بهذه السهولة. فهناك حالات كثيرة لا يكون فيها فعل الجاني هو العلة المباشرة للنتيجة، وإنما تتولد العلل وتتوالى بين الفعل والنتيجة بحيث تضعف صلة السببية بين الفعل المنسوب للجاني والنتيجة التي يسأل عنها، وبحيث يبعد الفعل عن النتيجة، ولا يكون سبباً مباشراً لها، ومثل ذلك أن يحدث الجاني بالمجني عليه جرحاً بقصد قتله فينقل المجني عليه إلى المستشفى فيحدث حريق بالمستشفى يموت فيه المجني عليه، فهل يسأل الجاني عن الموت باعتبار أن الجرح الذي أحدثه سبب نقل المجني عليه إلى المستشفى، وأن النقل تولد عنه موت المجني عليه محترقاً، أم يسأل الجاني عن الجرح فقط؟ ومثل ذلك أيضاً أن يشهد شخصان زوراً على آخر بأنه قتل الثالث، فيحكم على المتهم البريء بالقتل وتنفذ فيه، ثم تتبين بعد ذلك براءته، فهل يعتبر شاهد الزور قاتلاً باعتبار أن فعله علة للحكم، وأن الحكم تولد عنه الأمر بالتنفيذ، وأن الأمر بالتنفيذ تولد عنه قيام الجلاد بقتل المحكوم عليه؟ ولحل هذه الصعوبات يفرق الفقهاء بين الثلاثة أنواع من العلل والأسباب: أولها: العلل والأسباب الحسية: وهي العلل التي تتولد عنها النتائج توليداً محسوساً مدركاً لا شك فيه ولا خلاف عليه، بغض النظر عما إذا كانت النتيجة قد تولدت عن العلة المباشرة أو كانت قد تولدت عن علة متولدة عن العلة الأولى، فكلما كان فعل الجاني علة محسوسة ومدركة للنتيجة فهو مسئول عن النتيجة، كإشعال النار في بيت المجني عليه بقصد قتله، حتى إذا ما استيقظ كانت النار قد أحاطت به فلم يستطيع النجاة ومات محترقاً، فغن الجاني وضع النار في المنزل وكان وضعها علة في احتراق المنزل، وكان إحراق المنزل علة في موت المجني عليه محترقاً. ثانيها: العلل والأسباب الشرعية: وهي العلل والأسباب التي تولد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 نتائج يسأل عنها الجاني بمقتضى النصوص الشرعية، كاعتبار شاهد الزور في جريمة القتل قاتلاً للمحكوم عليه. وهذا النوع من العلل يتحمل الجاني نتيجته التي ترتبها عليه النصوص مهما بعدت النتائج وضعفت صلة السببية بين النتائج والفعل. ثالثها: العلل والأسباب العرقية: وهي كل علة أو سبب لا يولد النتائج توليداً حسياً ولا شرعياً، ويدخل تحت هذا النوع من العلل كل ما لا يدخل تحت النوعين السابقين. وتنسب العلة أو السبب إلى العرف؛ لأن حد السببية هو الحد المتعارف عليه؛ أي ما أقره عرف الناس وقبلته عقولهم. وحكم هذا النوع من العلل أن الجاني يتحمل النتائج مهما توالدت العلل والأسباب، إذا كان العرف يقضي بمسئولية هذه النتائج، أما إذا كان العرف يمنع من مسئوليته عن النتائج فلا يسأل عنها، فمثلاً لو خرق شخص قارباً يركبه المجني عليه بقصد إغراقه في لجة لا نجاة منها فلما أشرف القارب على الغرق ألقى المجني عليه بنفسه في الماء سابحاً فالتقمه حوت، فإن الجاني يسأل عن القتل ولو أن فعل الجاني وهو خرق القارب لم يكن العلة أو السبب المباشر المؤدي للموت بل كان علة لغرق القارب، وكان غرق القارب علة لإلقاء المجني عليه بنفسه في الماء، وكانت هذه العلة الأخيرة علة لالتهام الحوت له، وهذه العلة الأخيرة هي التي أدت مباشرة للموت، ويسأل الجاني عن النتيجة التي ترتبت على فعله مع توالد العلل وتواليها وبعد النتيجة عن فعلة؛ لأن العرف يعتبر صلة السببية قائمة بالرغم من ذلك كله ويعتبر الجاني قاتلاً. وإذا ضرب الجاني شخصاً بقصد قتله فأحدث به إصابات استلزم علاجها وضع المجني عليه في المستشفى، ثم حدث زلزال أدى لهدم المستشفى وموت المجني عليه تحت الأنقاض، فإن الجاني يسأل باعتباره جارحاً فقط، ولا يسأل عن النتيجة النهائية وهي الموت، ولو أن الموت كان علة لوجود المجني عليه بالمستشفى وكان وجوده بالمستشفى علة لفعل الجاني؛ لأن العرف لا يعتبر الجاني قاتلاً في هذه الحالة. والساحر الذي يمارس أعمال السحر والشعوذة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 بقصد قتل إنسان معين لا يسأل عن القتل إذا مات الشخص المقصود، وإنما يسأل عن الأفعال التي أتاها دون نتيجتها؛ لأن عرفنا اليوم لا يعترف بأن السحر يؤدي للقتل. 322 - نظرية السببية في الشريعة: ويمكننا أن نستخلص مما سبق نظرية السببية في الشريعة وهي أن الجاني لا يسأل عن نتيجة فعله إلا إذا كان بين الفعل والنتيجة رابطة سببية، وهي الرباط الذي يربط الفعل الحاصل من الجاني بالنتيجة التي يسأل عنها، أو هي الرباط الذي يربط السبب بالمسبب والعلة بالمعلول، فإذا توفرت هذه الرابطة كان الجاني مسئولاً عن نتيجة فعله، وإذا انعدمت رابطة السببية بين الفعل ونتيجته، أو قامت هذه الرابطة ثم انقطعت قبل تحقق النتيجة سواء كان الانقطاع طبيعياً أو بفعل شخص آخر، فإن الجاني يسأل عن فعله فقط ولا يسأل عن نتيجته. ولا يشترط أن يكون فعل الجاني هو السبب الوحيد المحدث للنتيجة، بل يكفي أن يكون فعل الجاني سبباً فعالاً في إحداث النتيجة، ويستوي بعد ذلك أن يكون فعل الجاني هو الذي سبب النتيجة وحده، أو سببها معه أفعال أو عوامل أخرى ترجع إلى فعل المجني عليه أو الغير، أو ترجع إلى حالة المجني عليه الطبيعية أو الصحية. والجاني مسئول عن نتيجة فعله سواء كان فعله علة مباشرة للنتيجة أو كان علة غير مباشرة للنتيجة، بل هو مسئول ولو كانت النتيجة علة لعلة أو علل أخرى تولدت من فعل الجاني، ما دام المتعارف عليه بين الناس أن يكون الجاني مسئولاً عن مثل هذه الحالة. ولا يسمح الفقهاء بتوالد الأسباب والعلل وتواليها إلى غير حد، بل يقيدون التوالد والتوالي بالعرف، فما اعتبره العرف سبباً للنتيجة فهو سبب لها ولو كان سبباً بعيداً، وما لم يعتبره العرف سبباً للنتيجة فهو ليس سبباً لها ولو كان سبباً قريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وقد سلك الفقهاء هذا المسلك؛ لأنه أقرب إلى العدالة وألصق بطبائع الأشياء، فلو أنهم اكتفوا في تحديد رابطة السببية بالسبب المباشر فقط كما فعل شراح القانون الفرنسي في القتل العمد لأدى ذلك إلى خروج كثير من الأفعال التي يعتبرها العقل والعرف قتلاً، ولو أنهم بالغوا فأخذوا بكل سبب غير مباشر كما فعل بعض الشراح الألمان لأدخلوا في دائرة القتل أفعالاً كثيرة لا يعتبرها عرف الناس ولا منطقهم قتلاً. ومن أجل ذلك جاءت نظرية السببية في الشريعة مرنة تتسع لكل ما يتسع له عرف الناس ومنطقهم، عادلة؛ لأنها تعتمد على شعور الناس بالعدالة وإحساسهم بها، بل لإن جعل العرف مقياساً تقاس به كفاية السبب لتحقيق النتيجة هو الذي ضمن لنظرية الشريعة البقاء ما بقى الناس، لأن الناس - سواء تقدموا أو تأخروا جهلوا أو تعلموا - لهم عرف يطمئنون إليه وعقول لا ترتاح إلا إلى ما تراه عدلاً، ونظرية الشريعة تتمشى مع عرفهم ونظرهم للعدالة في كل وقت وفي كل ظرف. 323 - بين الشريعة والقوانين: ونظرية الشريعة في السببية تفضل على قدمها النظرية الفرنسية وتتفق مع أحدث النظريات التي ظهرت في دائرة القوانين الوضعية. فالشراح الفرنسيون حتى اليوم لا يقبلون في القتل العمد إلا السبب المباشر؛ أي السبب الذي يؤدي للموت بشرط أن لا تتوسط بينه وبين الموت عوامل أخرى تؤدي بذاتها للموت أو تساعد على إحداثه، فمثلاً إذا ضرب الجاني شخصاً أو جرحه بقصد قتله فأهمل المجني عليه العلاج أو أساء علاج نفسه أو كان مريضاً أو ضعيفاً فساعد إهماله أو سوء علاجه أو مرضه أو ضعفه على الوفاة، فإن الضرب أو الجرح لا يعتبر في نظر الشراح الفرنسيون علة مباشرة للموت؛ لأن هناك عوامل أخرى ساعدت على إحداث الوفاة وقد لا تحدث الوفاة لو لم تكن هذه العوامل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 ويطبق الشراح الفرنسيون نظريتهم هذه في حالة القتل العمد فقط، ولكنهم لا يرون بأساً من قبول السبب غير المباشر في القتل الخطأ، وفي هذه التفرقة وحدها ما يؤكد أن نظريتهم معيبة؛ لأنه إذا كان العدل يقتضي أن لا يقبل في القتل العمد إلا السبب المباشر فمن الظلم أن يقبل السبب الغير مباشر في القتل الخطأ، وإذا كان العدل يقتضي أن يقبل السبب غير المباشر في القتل الخطأ فمن الظلم أن لا يقبل في القتل العمد. وأحدث نظريات السببية تأخذ بالسبب المباشر وبالسبب غير المباشر معاً، وقد ظهرت هذه النظريات الحديثة في ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا وسويسرا وانتقلت إلى غيرها من البلاد، وتعتبر النظريات الألمانية في السببية أنموذجاً لأحدث النظريات في السببية، ولذلك سنكتفي بعرضها. وأول النظريات الألمانية هي نظرية السبب الأقوى أو السبب الفعال، وبمقتضى هذه النظرية يسأل الجاني عن النتيجة إذا كان فعله هو السبب الأساسي في إحداثها، ولو كانت هناك عوامل أخرى ساعدت على إحداث النتيجة؛ لأن هذه العوامل تعتبر شروطاً لحدوث النتيجة لا أسباباً لها ما دام أنها لا تقوم بالدور الأول في إحداث النتيجة، أما إذا قام أحد هذه العوامل بالدور الأول في إحداث النتيجة فإن النتيجة تنسب إليه ويصبح فعل الجاني شرطاً لحدوث النتيجة لا سبباً لها. وقد أخذ على هذه النظرية أنها تقوم على المفاضلة بين العوامل التي تؤدي لإحداث النتيجة من حيث قوة هذه العوامل وضعفها، مع أنها جميعاً ضعيفها وقويها ضرورية لإحداث النتيجة، ولو امتنع أحدهما مهما كان ضعيفاً لما انتهت النتيجة للشكل الذي انتهت عليه. وقد ظهرت بعد ذلك نظرية ثانية هي نظرية التعادل أريد منها معالجة عيب النظرية الأولى، ولذلك فإن أصحابها لا يفاضلون بين العوامل التي تؤدي إلى إحداث النتيجة بل يضعونها جميعاً في مستوى واحد، وعندهم أن فعل الجاني هو العامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الأول الذي سبب النتيجة ولولاه لما حدثت، ومن ثم فهو مسئول عن النتيجة بغض النظر عن العوامل الأخرى التي ساعدت على إحداثها، ويستوي عندهم أن تكون العوامل عادية أو غير عادية، راجعة إلى فعل المجني عليه أو فعل غيره، ناشئة عن حالته الطبيعية أو حالته الصحية، قاطعة لفعل الجاني أو غير قاطعة. وقد أخذ على نظرية التعادل أنها تحمل الجاني النتيجة رغم انقطاع فعله بفعل آخر أدى دون شك لحدوث النتيجة، وأنها تسمح بتوالد العلل والأسباب وتواليها إلى غير حد، وتحمل الجاني النتيجة باعتبارها متولدة عن فعله الذي انقطع عمله قبل حدوث النتيجة. وأحدث النظريات الألمانية هي نظرية السبب الملائم، وقد وجدت لعيوب نظرية التعادل، وهي تقوم على الأساس الذي قامت عليه نظرية التعادل ولكنها لا تحمل الجاني المسئولية عن النتيجة إلا إذا اعتبر فعله سبباً ملائماً لإحداث النتيجة، ويعتبر السبب ملائماً إذا كان كافياً لإحداث النتيجة طبقاً لما تعارف عليه الناس وما تقتضيه الأشياء. ونظرية السبب الملائم الألمانية تقوم على نفس الأساس التي تقوم عليه النظرية الإسلامية، وتكاد كلاهما تؤدي إلى نفس النتائج التي تؤدي إليها الأخرى من حيث ترتيب المسئولية، ولعل أهم فرق بينهما أن النظرية الإسلامية سبقت النظرية الألمانية بثلاثة عشر قرناً، وأن النظرية الألمانية تولدت عن نظريات أخرى كانت تتطور مرة بعد أخرى؛ لتأخذ بما يتفق مع الشريعة الإسلامية وتتخلص مما يخالفها. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الفصل الثاني ارتفاع المسئولية الجنائية 324 - علة ارتفاع المسئولية الجنائية: بينا فيما سبق أن المسئولية الجنائية تقوم على أسس ثلاثة هي (1) : (1) إتيان فعل محرم. ... (2) أن يكون الفاعل مختاراً. ... (3) وأن يكون مدركاً. فإذا توفرت هذه الأسس الثلاثة توفرت المسئولية الجنائية، وإذا انعدم أحدها لم يعاقب الجاني على فعله، على أن عدم العقاب لا يرجع في كل الحالات إلى سبب واحد بعينه، فإذا لم يكن الفعل محرماً فلا مسئولية إطلاقاً؛ لأن الفعل غير محرم، والمسئولية لا تكون قبل كل شيء إلا عن فعل محرم، وإذا كان الفعل محرماً ولكن الفاعل فاقد الإدراك او الاختيار فالمسئولية الجنائية قائمة، ولكن العقاب يرتفع عن الفاعل لفقدانه الإدراك أو الاختيار. فالمسئولية ترتفع إذن، إما لسبب يتعلق بالفعل، وإما لسبب يرجع للفاعل، وفي الحالة الأولى يكون الفعل مباحاً، وفي الحالة الثانية يبقى الفعل محرماً، ولكن لا يعاقب على إتيانه. 325 - أسباب الإباحة: يباح الفعل المحرم في الشريعة الإسلامية؛ لأسباب متعددة، ولكنها كلها ترجع، إما لاستعمال حق، وإما لأداء واجب، فاستعمال الحقوق وأداء الواجبات هو الذي يبيح إتيان الأفعال المحرمة على الكافة، ويمنع من مؤاخذة الفاعل؛ لأن الشريعة جعلت له حقاً في إتيان الفعل المحرم أو ألزمته بإتيانه فأباحت له بذلك إتيان ما حرم على الكافة.   (1) راجع الفقرة 285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 326 - أسباب رفع العقوبة: وترتفع العقوبة عن الفاعل لأربعة أسباب هي: (1) الإكراه. ... (2) السكر. ... (3) الجنون. ... (4) صغر السن. وفي هذه الحالات الأربع يرتكب الجاني فعلاً محرماً ولكن العقوبة ترتفع عنه، لفقدان الاختيار أو الإدراك. 327 - الإعفاء من العقاب: وقد جاءت الشريعة بعد ذلك كله بمبدأ آخر يسمح بإعفاء الجاني من العقاب بالرغم من أنه استحقه؛ لارتكابه فعلاً محرماً وهو متمتع بالإدراك والاختيار، ويعتبر هذا المبدأ استثناء من القاعدة العامة، ولعل الشارع يقصد من إقرار هذا المبدأ الاستثنائي تشجيع الجاني على التوبة في الجرائم الخطيرة والعدول عن الاشتراك فيها، خصوصاً وقد جاء النص المقرر للمبدأ بعد النص المقرر لعقوبة جريمة الحرابة، وهي من أخطر الجرائم، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:33، 34] ، ومن المسلم به أن هذا النص ينطبق على جريمة الحرابة، أما ما عداها من جرائم الحدود فمختلف عليه وقد سبق الكلام عن هذا الخلاف (1) . ولا شك أن المبدأ الذي جاء به النص يمكن تطبيقه على بعض جرائم التعازير إذا رأى أولو الأمر مصلحة في ذلك. 328 - بين الشريعة والقانون: هذه هي أسباب ارتفاع المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية، وهي بذاتها نفس أسباب ارتفاع المسئولية في القوانين الوضعية، وحكم هذه الأسباب في الشريعة والقوانين واحد من حيث التكييف، فالشريعة تجعل استعمال الحقوق وأداء الواجبات مبيحاً للفعل فلا   (1) راجع الفقرة 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 جريمة في فعل يستعمل حقاً أو يؤدي واجباً. وهذا هو نفس الحكم في القانون المصري وغيره من القوانين الوضعية الحديثة. والشريعة ترفع العقاب في حالات الإكراه والسكر والجنون وصغر السن، مع بقاء الفعل جريمة، وهكذا الحكم في القوانين. والشريعة تعفي من العقاب في بعض الجرائم الخطيرة من يتوب ويعدل عن ارتكاب الجريمة قبل القدرة عليه، وهكذا تفعل القوانين الوضعية الحديثة. والفرق الوحيد بين الشريعة والقوانين الوضعية أن أسباب الإباحة وأسباب رفع العقاب والإعفاء من العقاب عرفت كلها في الشريعة الإسلامية من يوم وجودها؛ أي من مدة تزيد على ثلاثة عشر قرناً، وعرفت من أول يوم على الوجه الذي هي عليه الآن، بينما القوانين الوضعية لم تعرف هذا كله إلا في أواخر القرن الثامن عشر، وفي القرن التاسع عشر، ولم تعرفه إلا سبباً بعد سبب وخطوة بعد خطوة. * * * المبحث الأول أسباب الإباحة استعمال الحقوق وأداء الواجبات 329 - العلة في إباحة الأفعال المحرمة: الأصل في الشريعة الإسلامية أن الأفعال المحرمة محظورة على الكافة بصفة عامة، لكن الشارع رأى استثناء من هذا الأصل أن يبيح بعض الأفعال المحرمة لمن توفرت فيهم صفة خاصة؛ لأن ظروف الأفراد أو ظروف الجماعة تقتضي هذه الإباحة، ولأن هؤلاء الذين تباح لهم الأفعال المحرمة يأتونها في الواقع لتحقيق غرض أو أكثر من أغراض الشارع. فالقتل مثلاً محرم على الكافة، وعقوبة القاتل عمداً القصاص؛ أي القتل، ولكن الشارع جعل تنفيذ هذه العقوبة من حق ولي الدم وذلك لقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] ، فولي الدم حينما يقتل القاتل يأتي عملاً مباحاً له بصفة خاصة، ولو أن هذا العمل محرم على الكافة، وهو حين يأتيه يحقق غرضين، أولهما: القصاص من القاتل. وثانيهما: أن يكون القصاص بيد ولي الدم. والجرح محرم على الكافة، ولكن لما كانت حياة الإنسان أو راحته قد تتوقف على عملية جراحية، فقد أبيح للطبيب بصفة خاصة جرح المريض لإنقاذه من آلامه أو لإنقاذ حياته؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولأن الشريعة تحض على التداوي من الأمراض وتوجب على المرء أن لا يلقي بنفسه في التهلكة، فإحداث الجرح يحقق من أغراض الشارع دفع الضرورة، والتداوي من المرض، وإنقاذ النفس من الهلكة. والضرب محرم على الكافة، ولكن تربية الصغار وتنشئتهم نشأة طيبة تقتضي بطبيعتها أن يؤدبوا ويضربوا، ولما كانت الشريعة توجب على المشرفين على الصغار أن يحسنوا تربيتهم وتنشئتهم؛ فقد أبيح لهؤلاء أن يضربوا الصغار بقصد التأديب والتعليم تحقيقاً للواجب المفروض عليهم. وهكذا استوجبت طبيعة الأشياء وصالح الأفراد والجماعة وتحقيق غايات الشارع، استوجب لكل هذا أن يعطى لبعض الأفراد حق ارتكاب الأفعال المحرمة على الكافة. وإذا كان الفعل المحرم قد أبيح؛ لتحقيق مصلحة معينة، فقد وجب منطقياً أن لا يؤدي الفعل المحرم إلا لتحقيق المصلحة التي أبيح من أجلها، فإن ارتكاب الفعل لغرض آخر فهو جريمة، فالطبيب الذي يجرح مريضاً بقصد علاجه يؤدي واجباً كلف به فعمله مباح، ولكنه إذا جرح المريض بقصد قتله فهو قاتل وعمله جريمة. 330 - الحق والواجب: والأصل أن صاحب الحق له أن يستعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 حقه وأن لا يستعمله، فإذا استعمله فلا حرج عليه، وإن تركه فلا إثم عليه، فالحق إذن هو ما يجوز فعله ولا يعاقب على تركه. ويقابل الحق الواجب، وكلاهما يختلف عن الآخر في طبيعته، فإذا كان الحق يجوز فعله فالواجب يتحتم فعله، وإذا كان صاحب الحق لا يأثم بتركه ولا يعاقب على تركه فإن المكلف بالواجب يأثم بتركه ويعرض نفسه للعقوبة المقررة لترك الواجب. وإذا كان الحق والواجب يختلفان في طبيعتهما، إلا أنهما يتفقان من الناحية الجنائية في أن الفعل الذي فعل أداء لواجبه أو استعمالاً لحق هو فعل مباح ولا يعتبر جريمة. والفعل الواحد قد يعتبر حقاً لشخص بعينه وواجباً على شخص آخر، فالقتل قصاصاً هو حق لولي الدم إذا باشره، ولكن الفعل نفسه واجب على الجلاد إذا تركت مباشرته له، والتأديب في مذهب أبي حنيفة هو حق للزوج والأب ولكنه واجب على المدرس والمعلم. وللتفرقة بين الحق والواجب أهمية من وجهين: أولهما: وهو متفق عليه من الفقهاء: أن الحق لا يمكن العقاب على تركه وأن الواجب يمكن عقاب تاركه. وثانيهما، وهو مختلف عليه بين الفقهاء: أن الحق يتقيد بشرط السلامة وأن الواجب لا يتقيد بشرط السلامة؛ أي أن من باشر حقاً مسئول دائماً عن سلامة المحل الذي باشر عليه الحق؛ لأنه مخير بين أن يأتي الفعل أو يتركه، أما من كان عليه واجب فلا يسأل عن سلامة محل واجبه؛ لأنه ملزم بتأدية الواجب وليس له أن يتخلى عنه، وهذا هو رأي أبي حنيفة والشافعي، أما مالك وأحمد فعندهما أن الحق كالواجب غير غير مقيد بشرط السلامة؛ لأن استعمال الحق في حدوده المقررة عمل مباح ولا مسئولية على مباح. ولمعرفة ما إذا كان الفعل حقاً أو واجباً بالنسبة لشخص معين ننظر هل يتحتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 إتيان الفعل أم لا؟ وهل يعاقب على تركه أو يأثم لتركه أم لا؟ فإن كان يتحتم عليه إتيان الفعل فهو واجب، وكذلك إن كان يأثم بتركه أو يعاقب على تركه، أما إذا كان له أن يأتي الفعل أو يتركه دون أن يأثم أو يعاقب فالفعل حق بالنسبة له. وإذا حللنا الحق وجدنا أنه سلطة ذات حدود معينة تمنح لصاحب الحق على محل الحق، فحق التأديب يعطي المؤدب سلطة على محل التأديب وهو الزوجة مثلاً، أو الابن أو التلميذ، وإذا حللن الواجب وجدنا أنه يعطي أيضاً للمكلف به نفس السلطة على محل الواجب، ويجعل مباشرة الواجب حقاً له على المحل، فواجب التأديب عند من يقولون بأنه واجب يعطي للمكلف بالواجب نفس سلطة صاحب الحق على التلميذ والابن، فالمكلف بالواجب هو في الواقع صاحب حق على محل الواجب ولكن ليس له أن يترك استعمال حقه، وهذا هو الفرق الوحيد بين صاحب الحق والمكلف بالواجب. والكلام على استعمال الحقوق وأداء الواجبات يقتضي الكلام على: (1) الدفاع الشرعي. ... ... (2) التأديب. ... ... (3) التطبيب. (4) ألعاب الفروسية. (5) إهدار الأشخاص. (6) حقوق الحكام وواجباتهم. وسنخصص لكل من هذه المواضيع مبحثاً خاصاً. الفرع الأول الدفاع الشرعي 331 - الدفاع الشرعي في الشريعة على نوعين: أ - دفاع شرعي خاص، ويسمى اصطلاحاً دفع الصائل. ب - دفاع شرعي عام، ويسمى اصطلاحاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وسنخصص لكل من هذين النوعين مطلباً خاصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 المطلب الأول الدفاع الشرعي الخاص، أو "دفاع الصائل" 332 - معنى الدفاع الشرعي الخاص: الدفاع الشرعي الخاص في الشريعة هو واجب الإنسان في حماية نفسه أو نفس غيره، وحقه في حماية ماله أو مال غيره من كل اعتداء حال غير مشروع بالقوة اللازمة لدفع هذا الاعتداء. والدفاع الشرعي الخاص، سواء كان واجباً أو حقاً مقصوداً به دفع الاعتداء، ليس عقوبة عليه؛ بدليل أن دفع الاعتداء فعلاً لا يمنع من عقاب المعتدى على اعتدائه. ويصطلح الفقهاء على تسمية الدفاع الشرعي الخاص بدفع الصائل، وعلى تسمية المعتدى صائلاً، والمعتدى عليه مصولاً عليه. والأصل في دفع الصائل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وما رواه يعلي بن أمية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان لي أجير فقاتل إنساناً فعض أحدهما يد الآخر فانتزع المعضوض يده من فم العاض فانتزع إحدى ثنيتيه، فأتى النبي فأهدر ثنيتيه وقال: "أفيدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل"، وما رواه عبد الله بن عمرو من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد"، وما رواه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح". وكما أقرت الشريعة دفع الصائل لرد اعتدائه عن نفس الدافع أو عرضه أو ماله، كذلك أقرته لدفع الاعتداء عن نفس الغير أو عرضه أو ماله، لقوله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 السلام: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، ولقوله: "إن المؤمنين يتعاونون على الفتان". 333 - التكييف الشرعي لدفع الصائل: لا خلاف بين الفقهاء في أن دفع الصائل شرع ليحمي الإنسان نفسه أو غيره من الاعتداء على النفس والعرض والمال، ولكنهم اختلفوا في التكييف الشرعي لدفع الصائل من وجهين: أولهما: ماهية الدفاع، وهل هو واجب على المدافع فليس له أن يتخلى عنه كلما كان في مقدوره، أم هو حق للمدافع فله أن يدفع الاعتداء وله أن لا يدفعه؟ وقد اتفق الفقهاء على أن دفع الصائل واجب على المدافع في حالة الاعتداء على العرض، فإذا اراد رجل امرأة على نفسها ولم تستطع دفعه إلا بالقتل كان من الواجب عليها أن تقتله إن أمكنها ذلك؛ لأن التمكين منها محرم، وفي ترك الدفاع تمكين منها للمعتدي، وكذلك شأن الرجل يرى غيره يزني بامرأة أو يحاول الزنا بها ولا يستطيع أن يدفعه عنها إلا بالقتل، فإنه يجب عليه أن يقتله إن أمكنه ذلك. والواجب هو الذي يذم تاركه ويلام شرعاً بوجه ما على رأي، وهو ما يعاقب على تركه طبقاً لرأي آخر (1) ، ويستوي أن تكون العقوبة على الواجب دنيوية أو أخروية. والدفاع الواجب قد لا يعاقب على تركه عقوبة دنيوية، ولكن تاركه يعتبر آثماً مستحقاً للعقوبة الأخروية، فانعدام المسئولية الجنائية على ترك الواجب لا يغير شيئاً من طبيعة الواجب ولا يعفى من أدائه.   (1) الإحكام في أصول للآمدي ج1 ص138 وما بعدها، المستصفي للغزالي ج1 ص65، 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وانعدام المسئولية الجنائية على ترك الواجب لا يسوى بين الواجب وبين الحق؛ لأن الحق يتضمن التخيير بين الفعل والترك والواجب لا تخيير فيه؛ كما أن صاحب الحق لا يعتبر آثماً بالفعل أو الترك، أما تارك الواجب فآثم شرعاً (1) . واختلف الفقهاء في الدفاع عن النفس، فظاهر مذهب أبي حنيفة يتفق مع الرأي الغالب في مذهبي مالك والشافعي على أن دفع الصائل عن النفس واجب (2) . والرأي المرجوح في مذهبي مالك والشافعي يتفق مع الرأي الراجح في مذهب أحمد على أن دفع الصائل عن النفس جائز (3) وليس واجباً. وحجة هؤلاء أن حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة: "اجلس في بيتك فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك"، أو في لفظ آخر: "فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل". كذلك يحتجون بعمل عثمان رضي الله عنه إذ ترك القتال مع إمكانه وهو يعلم أن الثوار يريدون نفسه. وبعض الحنابلة يفرقون بين حالة الفتنة وغيرها، ويجعلون الدفاع جائزاً مطلقاً في حالة الفتنة، أما في غير حالة الفتنة فيجعلونه واجباً مطلقاً (4) ، وهو رأي بعض الشافعية والمالكية (5) . أما الدفع عن المال فأغلب الفقهاء يرونه جائزاً لا واجباً، فللمعتدى عليه أن يدفع الصائل إن شاء، وأن لا يدفعه. والفرق بين المال والنفس، أن المال مما يباح بالإباحة أما النفس فلا تباح بالإباحة. ولكن بعض الفقهاء يرون أن الدفع عن المال واجب إذا كان مالاً فيه روح؛ أي ليس جماداً، أو كان مالاً للغير في يد   (1) المستصفي للغزالي ج1 ص74. (2) حاشية ابن عابدين ج5 ص481، تحفة المحتاج ج4 ص124، مواهب الجليل ج6 ص323، الزيلعي وحاشية الشلبي ج6 ص110. (3) المغني ج10 ص350 وما بعدها. (4) الإقناع ج4 ص290. (5) حاشية الرملي ج4 ص168، وأسنى المطالب ج4 ص168، شرح الزرقاني وحاشية البناني ج8 ص118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 المدافع كمال المحجور عليه أو الوقف، أو مالاً مودوعاً، أو كان مالاً للمدافع ولكن تعلق به حق للغير كرهن أو إجازة (1) . ثانيهما: صيال الصبي والجنون والحيوان: يرى مالك والشافعي وأحمد أن الإنسان إذا صال عليه صبي أو مجنون أو حيوان يكون في حالة دفاع، فإذا قتل الصبي أو المجنون أو الحيوان ولم يكن في وسعه أن يحمي نفسه من الصيال إلا بالقتل فلا مسئولية عليه من الناحية الجنائية أو المدنية، لأنه كان يؤدي واجباً في دفع الصائل عن نفسه (2) . ولكن أبا حنيفة وأصحابه عدا أبي يوسف يرون أن يكون الموصول عليه مسئولاً مدنياً عن دية الصبي والمجنون وقيمة الحيوان، وحجتهم في ذلك أن الدفاع شرع لدفع الجرائم، وعلم الصبي والمجنون لا يعتبر جريمة وكذلك فعل الحيوان الأعجم، ومن ثم فلا وجود للدفع في حالة صيال الصبي والمجنون والحيوان، ولكن للمعتدى عليه في هذه الحالة الحق في قتل الصائل أو جرحه أو إيذائه على أساس الضرورة الملجئة، والقاعدة أن الضرورة الملجئة لا تعفي من الضمان وإن أعفت من العقاب؛ لأن الدماء والأموال معصومة؛ لأن الأعذار الشرعية لا تنافي هذه العصمة. ويرى أبو يوسف أن يكون المصول عليه مسئولاً عن قيمة الحيوان فقط لأن فعل الصبي أو المجنون جريمة ولكن رفع عنهما العقاب لانعدام الإدراك، أما فعل الحيوان الأعجم فليس جريمة، ويترتب على هذا أن يكون المصول عليه في حالة دفاع إذا صال عليه صبي أو مجنون، وفي حالة ضرورة ملجئة إذا صال عليه حيوان (3) .   (1) أسنى المطالب ج4 ص168. (2) مواهب الجليل ج6 ص323، تبصرة الحكام ج2 ص303، الأم ج6 ص172، المهذب ج2 ص243، الإقناع ج4 ص289. (3) البحر الرائق ج8 ص302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وحجة القائلين بقيام حالة الدفاع في كل حال أن من واجب الإنسان أن يحمي نفسه ونفس غيره من كل اعتداء يقع على النفس، ومن حقه ومن واجبه أحياناً أن يحمي ماله ومال غيره من كل اعتداء يقع على المال سواء كون الاعتداء جريمة أم لا، وأن فعل الاعتداء بذاته لا يحل دم الصائل ولكنه يوجب على المصول عليه أو يجيز له أن يمنع الاعتداء، فإذا لم يكن في الإمكان منع الاعتداء إلا بالقتل فذلك هو القدر اللازم لرد الاعتداء، فمشروعية منع الاعتداء هو الذي أحل دم الصائل وليس الاعتداء في ذاته، ومن ثم فليس من الضروري أن يكون الاعتداء جريمة (1) . 334 - بين الشريعة والقانون: بينا فيما سبق التكييف الشرعي للدفاع، أما تكييف الدفاع في القوانين الوضعية فقد اختلف باختلاف الأزمنة، فقديماً كانوا يرن أنه حق مستمد من القانون الطبيعي لا القانون الوضعي، وفي العصور الوسطى اعتبر الدفاع حالة لا تمنع من العقوبة، ولكنها تؤهل للعفو عن العقوبة. وفي القرن الثامن عشر فسر الدفاع بأنه حالة للضرورة تبيح للمرء أن يدافع عن نفسه بنفسه، وتنشأ الضرورة من عدم وجود حماية حاضرة من الهيئة الاجتماعية. وفي القرن التاسع عشر كيف الدفاع بأنه حالة من حالات الإكراه؛ لأن الخطر المحدق بالمدافع يجعله عديم الاختيار، ولأن الجاني يندفع بغريزته للمحافظة على حياته. وقد أخذ على هذا التكييف بأنه لا يعلل الدفاع عن الغير ولا عن المال، وأنه يؤدي إلى تبرير الدفاع عند استعمال الحق أو أداء الواجب. وأحدث الآراء اليوم في القوانين الوضعية أن الدفاع استعمل لحق أباحه القانون الوضعي بل أداء لواجب؛ لأن من حق كل إنسان بل ومن واجبه أن يعني بالمحافظة على حياته وأن يدافع عن نفسه وماله، فضلاً عن أن الجماعة   (1) الأم ج6 ص172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 لا مصلحة لها في العقاب، لأن المدافع ليس بالمجرم الذي يخشى على الجماعة من شره. والظاهر من مقارنه هذه الآراء المختلفة باختلاف العصور وتطوراتها المستمرة أنها انتهت في القرن العشرين إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية في القرن السابع, فالدفاع يكيف في الشريعة بأنه واجب في أكثر الحالات حق في بعضها، وهو يكيف اليوم في القوانين الوضعية بأنه حق إن لم يكن واجباً، ولعلنا بعد قليل نرى شراح القوانين الوضعية يحددون الدفاع الواجب كما فعل فقهاء الشريعة. ويرى شراح القوانين الوضعية أنه يجوز استعمال حق الدفاع ضد المجنون والطفل، ولو أن كليهما معفى من العقاب؛ لأن الدفاع الشرعي ليس عقاباً يقع على المعتدى، وإنما هو دفع لعدوانه، وهذا يتفق مع ما يراه أغلب الفقهاء. ولكن شراح القوانين اختلفوا فيما إذا كان هجوم الحيوان يمكن دفعه استناداً إلى حق الدفاع الشرعي، أو استناداً إلى أنه حالة ضرورة، فرأى البعض ما يراه فقهاء الحنفية، من أن الحيوان الأعجم لا يمكن اعتباره معتدياً أو مرتكباً لجريمة، وأن حالة الضرورة هي التي تبيح قتل الحيوان، ورأى البعض الآخر تطبيق نظرية الدفاع الشرعي بالنسبة للحيوان، وهو ما يراه مالك والشافعي وأحمد (1) . ويتفق القانون المصري مع مذهب أبي حنيفة في اشتراط أن يكون فعل الصائل جريمة، فإن لم يكن جريمة لم توجد حالة الدفاع (2) . 335 - شروط دفع الصائل: لدفع الصائل شروط يجب توفرها حتى يعتبر المصول عليه في حالة دفاع، وهذه الشروط هي: أولاً: أن يكون هناك اعتداء أو عدوان، ثانياً: أن يكون هذا الاعتداء حالاً، ثالثاً: أن لا يمكن دفع الاعتداء يطريق آخر، رابعاً: أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة لدفعه.   (1) الموسوعة الجنائية ج1 ص525. (2) راجع المادة 246 من قانون العقوبات المصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الشرط الأول: أن يكون هناك اعتداء: يجب أن يكون الفعل الواقع على المصول عليه اعتداء، فإن لم يكن كذلك لم يجز دفعه، فالأب إذا ضرب ولده أو زوجته للتأديب، والمعلم إذا أدب الصبي، والجلاد حين يقطع رقبة المحكوم عليه أو يد السارق، ومستوفي القصاص حين يقتل القاتل أو يقطع يده قصاصاً، كل هؤلاء لا يعتبر فعلهم عدواناً أو اعتداء، وإنما هو استعمال لحق أو أداء لواجب. ويترتب على اشتراط الاعتداء أو العدوان في الفعل أن كل عمل أوجبته الشريعة أو أجازته لا يعتبر اعتداء إذا باشره صاحب الحق فيه، كالقبض والتفتيش والجلد والحبس، وغير ذلك من الحقوق والواجبات المقررة للأفراد والسلطات العامة أو عليهم. وليس للاعتداء حد مقرر؛ فيصح أن يكون الاعتداء شديداً، ويصح أن يكون بسيطاً، وبساطة الاعتداء لا تمنع من الدفاع، ولكنها تقيد المدافع بأن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة لدفعه. ويصح أن يكون الاعتداء واقعاً على نفس المصول عليه أو عرضه أو ماله، كما يصح أن يكون واقعاً على نفس الغير أو عرضه أو ماله، ويصح أن يكون واقعاً على نفس الصائل أو ماله، كمن حاول أن يقتل نفسه أو يقطع طرفه أو يتلف ماله (1) . وليس من الضروري في رأي مالك والشافعي وأحمد أن يكون الاعتداء جريمة معاقباً عليها، ولكن يكفي أن يكون عملاً غير مشروع، وليس من الضروري في رأي هؤلاء الفقهاء أن يكون الصائل مسئولاً جنائياً عن فعله، فيصح أن يكون الصائل مجنوناً أو طفلاً، ويكفي لقيام حالة الدفاع أن يكون فعل الصائل أياً كان غير مشروع. أما أبو حنيفة وأصحابه فيشترطون أن يكون الاعتداء   (1) أسنى المطالب ج4 ص167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 مما يعتبر جريمة معاقباً عليها، وأن يكون الصائل مسئولاً جنائياً عنها، وإلا كان الدفاع قائماً على حالة الضرورة. ويخالفهم أبو يوسف في هذا حيث يشترط أن يكون الفعل جريمة دون حاجة لأن يكون الصائل مسئولاً عن الجريمة جنائياً. ورأي أبو يوسف يتفق تمام الاتفاق مع نص القانون المصري الذي يشترط أن يكون الفعل جريمة. ويعتبر الفعل اعتداء سواء كان مصدره إنساناً أو حيواناً، وهو ما يراه مالك والشافعي وأحمد، ولكن أبا حنيفة وأصحابه جميعاً لا يرون مبرراًُ لوجود حالة الدفاع عن هجوم الحيوان؛ لأن فعله لا يعتبر جريمة، ويرون رد الهجوم على أساس حالة الضرورة، وهو رأي قد يتفق أيضاً مع نص القانون المصري، الذي يعاقب على قتل الحيوان إذا كان قتله دون مقتض (م355 عقوبات) . هذا إذا فسرنا المقتضى بأنه حالة ضرورة وهو الرأي الراجح؛ لأن فعل الحيوان ليس جريمة في ذاته، أما إذا أمكن في بعض الأحوال اعتبار الفعل جريمة من صاحب الحيوان؛ فالدفاع يوجد ولكنه لا يوجد في غير ذلك من الحالات. وليس للصائل أن يرد دفاع المصول عليه ثم يحتج بأنه كان يدافع عن نفسه؛ لأنه هو الذي اعتدى فأصبح باعتدائه عرضة لدفاع المصول عليه، فإذا اقتضى الدفاع قتل الصائل فقد أصبح دم الصائل هدراً، أما المصول عليه فمعصوم، وإذا اقتضى الدفاع جرح الصائل لتعطيله فقد أصبح الجرح هدراً مع بقاء المصول عليه معصوماً. ومن الأمثلة على ذلك قضاء علي رضي الله عنه في امرأة تزوجت، فلما كان ليلة زفافها أدخلت صديقها الحجلة سراً، وجاء الزوج فدخل الحجلة فوثب عليه الصديق فاقتتلا فقتل الوج الصديق، وقتلت المرأة الزوج، فقضى عليّ بقتل المرأة بالزوج ولم يعتبرها مدافعة عن نفسها أو عن غيرها. لكن إذا زادت أعمال الدفاع عن الحد اللازم لرد العدوان اعتبر الزائد منها عدواناً وكان الصائل أن يدفعه ويقاد المصول عليه بما زاد عن حاجة الدفاع ويؤخذ بجريرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ولا يشترط لقيام حالة الدفاع أن يقع الاعتداء فعلاً، فليس على المصول عليه أن ينتظر حتى يبدره الصائل بالاعتداء، بل للموصول عليه أن يبدر الصائل بالمنع ما دامت حالته على أنه سيعتدي، فإذا أقبل الرجل بالسيف أو غيره من السلاح إلى الرجل فإنما له ضربه على ما يقع في نفسه، فإن وقع في نفسه أنه يضربه وإن لم يبدأه المقبل إليه بالضرب فليضربه وإن لم يقع في نفسه ذلك لم يكن له ضربه (1) ، ويجب أن يكون الاعتقاد بالاعتداء غالياً على الظن حتى يمكن تبرير الدفاع، أما الوهم والظن الضعيف فلا يبرره، فإذا دخل رجل بالسلاح داراً فغلب على ظن صاحب الدار أنه قاصد قتله - لأسباب معقولة - كان له أن يبدره بالقتل، وإذا توقع صاحب الدار من لص أنه سيعاجله وكان توقعه مبنياً على أسباب معقولة فليقتله ولا شيء عليه. وإشهار السلاح بقصد المزاح واللعب لا يوجد المشهور عليه في حالة دفاع ولا يجعله مصولاً عليه؛ لأن إشهار السلاح على هذا الوجه لا يعتبر اعتداء، لكن إذا كانت الظروف تدل على أن الصائل يظهر المزاح ويبطن الجد حتى يتمكن من المصول عليه، كان للمصول عليه دفع شره ولو بقتله إذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل (2) . ولمعرفة بداية الاعتداء ونهايته أهمية قصوى؛ لأن الدفاع يتولد عن الاعتداء وينتهي بانتهائه، فلا دفاع قبل الاعتداء ولا دفاع بعد الاعتداء، فإذا ضرب المصول عليه الصائل فانصرف أو جرحه فأعجزه عن الاعتداء فليس للمصول عليه أن يتبعه ليضربه مرة أخرى، وليس له بعد أن يعجزه أن يثنى عليه، فإذا فعل من ذلك شيئاً فهو جرح أو قتل وعليه عقوبته، ولكن يجوز للمصول عليه أن يتبع الصائل ليسترد منه ما هرب به من مال، وتعتبر حالة الدفاع قائمة   (1) الأم ج6 ص27. (2) نفس المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 حتى يسترد من الصائل ما أخذه, وللمصول عليه أن يقتل الصائل ليسترد منه المسروق إذا لم يمكن استرداده بطريقة أخرى. والرغبة في الاعتداد لا تخلق حالة الدفاع وإنما المعتبر هو إمكان الاعتداء، فمن كان يريد الاعتداء ولكنه لا يستطيعه فضربه أو جرحه أو قتله جريمة؛ لأن الدفاع مقرر لدفع الاعتداء والاعتداء غير ممكن في ذاته. الشرط الثاني: أن يكون الاعتداء حالاً: لا يوجد المصول عليه في حالة دفاع إلا إذا كان الاعتداء حالاً، فإن لم يكن حالاً فعمل المصول عليه ليس دفاعاً وإنما اعتداء؛ لأن الدفاع لا يوجد إلا إذا تحقق الاعتداء في الفعل أو الظن فحلول الاعتداء هو الذي يخلق حالة الدفاع، ومن ثم لم يكن الاعتداء المؤجل محلاً للدفاع، ولم يكن التهديد بالاعتداء محلاً للدفاع، إذ ليس هناك خطر يحتمي منه الإنسان بالدفاع العاجل، وإذا اعتبر التهديد اعتداء في ذاته فإنه يجب أن يندفع بما يناسبه، والالتجاء للسلطات العمومية كاف لحماية المصول عليه من التهديد. الشرط الثالث: أن لا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر: يشترط لوجود حالة الدفاع أن لا تكون هناك وسيلة أخرى ممكنة لدفع الصائل، فإذا أمكن دفع الصائل بوسيلة أخرى غير الدفع وجب استعمالها، فإن أهمل المصول عليه هذه الوسيلة ودفع الاعتداء فهو معتد، فإذا أمكن دفع الصائل مثلاً بالصراخ والاستغاثة فليس للمصول عليه أن يضربه أو يجرحه أو يقتله، فإن فعل كان فعله جريمة (1) ، وإذا أمكن الاحتماء برجال السلطة العمومية في الوقت المناسب أو استطاع المصول عليه أن يمنع نفسه أو يمتنع بغيره دون استعمال العنف فليس له أن يستعمله (2) .   (1) حاشية ابن عابدين ج5 ص482، أسنى المطالب ج4 ص167. (2) الأم ج6 ص27، أسنى المطالب ج4 ص167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 وقد اختلف الفقهاء في الهرب كوسيلة لدفع الاعتداء، فمن رأى أن الهرب يصلح وسيلة من وسائل دفع الاعتداء فقد أوجب الهرب على المصول عليه؛ لأن الهرب هو الوسيلة المناسبة لدفع الاعتداء، والمصول عليه مكلف بدفع الاعتداء بأيسر ما يمكن (1) . فمن رأى أن الهرب لا يصلح وسيلة من وسائل الدفاع فإنه لا يلزم المصول عليه بالهرب، ويجعل له أن يثبت ويدافع إذا لم يكن إلا الهرب أو الدفاع (2) . وفرق بعض الفقهاء بين ما إذا كان الهرب مشيناً أو غير مشين، وجعلوه لازماً إذا لم يكن مشيناً وغير لازم إذا كان مشيناً (3) . ويشترط على كل حال عند من يرون الهرب دفاعاً أن يقوم الهرب مقام الدفاع، فإذا كان الدفاع عن المال أو الحريم ولم يستطع المدافع الهرب بالمال أو الحريم فلا يعتبر الهرب دفاعاً ولا يلزم به المصول عليه (4) . الشرط الرابع: أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة لرده: يشترط في الدفاع أن يكون بالقدر اللازم لدفع الاعتداء، فإن زاد عن ذلك فهو اعتداء لا دفاع، فالمصول عليه مقيد دائماً بأن يدفع الاعتداء بأيسر ما يندفع به، وليس له أن يدفعه بالكثير إذا كان يندفع بالقليل، فإذا دخل رجل منزل آخر بغير إذنه وكان يدفع بالأمر بمغادرة المنزل أو بالتهديد بالضرب فليس له أن يضربه، فإن لم يخرج ضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به؛ لأن المقصود دفعه فإن اندفع بقليل فلا حاجة لأكثر منه، فإن علم أنه يخرج بالعصا لم يكن له ضربه بالحديد؛ لأن الحديد آلة للقتل بخلاف العصا، وإن ذهب مولياً لم يكن له قتله ولا اتباعه، وإن ضربه ضربة عطلته لم يكن له أن يثني عليه؛ لأنه كفى شره، وإن ضربه فقطع يمينه فولى مدبراً فضربه فقطع رجله فقطع الرجل مضمون عليه بالقصاص أو الدية؛   (1) المغني ج10 ص353. (2) نفس المرجع السابق، الأم ج6 ص28. (3) تحفة المحتاج ج4 ص126. (4) المرجع السابق، أسنى المطالب ج4 ص167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 لأنه في حال لا يجوز له فيها ضربه (1) ، وإن كان لا يندفع إلا بالقتل أو خاف أن يبدره بالقتل إن لم يقتله فله ضربه بما يقتله أو يقطع طرفه، وما أتلف منه فهو هدر؛ لأنه تلف لدفع شره (2) . ومن قصده رجل في نفسه أو ماله أو أهله بغير حق فله أن يدفعه بأيسر ما يندفع به، فإذا أمكنه الدفع بالصياح والاستغاثة لم يدفع باليد، وإن كان في موضع لا يلحقه الغوث دفعه باليد، فإن لم يندفع باليد دفعه بالعصا، فإن لم يندفع بالعصا دفعه السلاح، فإن لم يندفع إلا بإتلاف عضو دفعه بإتلاف عضو، فإن لم يندفع بالقتل دفعه بالقتل. وإن قدر على دفعه بالعصا فقطع عضواً أو قدر على دفعه بالقطع فقتله، وجب عليه الضمان (3) ، أي العقاب؛ لأنها جناية من غير حق فأشبه ما إذا جنى عليه من غير دفع، وإن قصده ثم انصرف عنه لم يتعرض له، وإن ضربه فعطله لم يجز أن يضربه ضربة أخرى؛ لأن القصد كف أذاه (4) . ومن عض يد آخر ولم يمكنه تخليصها إلا بفك لحيته فك لحيته، وإن لم يندفع إلا بأكثر من هذا فعله ولا مسئولية عليه. ومن أراد امرأة على نفسها فقتلته لتدفع عن نفسها، فلا شيء عليها. ومن قضاء عمر رضي الله عنه في هذا الباب أن رجلاً أضاف ناساً من هذيل فأراد امرأة على نفسها فرمته بحجر فقتلته، فقال عمر: "والله لا يؤدى أبداً". وإذا صالت بهيمة على إنسان دفعها بالقدر الذي تندفع به، فإن لم تندفع إلا بالقتل قتلها ولا مسئولية عليه من الناحيتين الجنائية والمدنية، إلا في مذهب   (1) المغني ج10 ص351، 352. (2) نفس المرجع السابق. (3) يعبر الفقهاء كثيراً عن الجزاء بالضمان، والضمان قد يكون عقوبة بدنية وقد يكون عقوبة مالية. (4) المهذب ج2 ص241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 أبي حنيفة فإنه يسأل مدنياً فقط، لأن الدفع كان على أساس حالة الضرورة، وحالة الضرورة ترفع المسئولية الجنائية ولا ترفع المسئولية المدنية. وإذا اطلع رجل على بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه فله أن ينهاه، فإن لم ينته جاز له أن يدفعه بأيسر ما يندفع به، فإن لم يندفع إلا بفقأ عينه ففقأها فلا مسئولية عليه، وهذا رأي مجمع عليه في مذهب الشافعي ومذهب أحمد (1) ، وحجتهما حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح"، وحديث الرسول مروى عن سهل بن سعد أن رجلاً اطلع في جحر من باب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الرسول يحك رأسه بمدرى في يده، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لو علمت أمك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر"، وفضلاً عن الحديثين فإن هذا الرأي تطبيق لقواعد الدفاع، وعلى هذا الرأي الأقلية في مذهبي مالك وأبي حنيفة، أما الغالبية فترى أن المدافع ليس له أن يفقأ عين من يطلع من الخارج لمجرد النظر؛ لأنه لو نظر إنسان إلى عورة آخر بغير إذنه لم يستبح فقأ عينه، فالنظر إلى إنسان في بيته أولى أن لا يستباح به الفقأ، ويرى الحنيفية أن الحديث قصد به المبالغة في الزجر عن الاطلاع (2) ، ويرى المالكية أن الرمي أبيح للتنبيه أو المدافعة لا بقصد الإيذاء أو إصابة العين، فإذا قصد عينه فعليه القود، وإذا قصد التنبيه فأصاب عينه فهي إصابة خطأ يسأل عنها باعتباره مخطئاً لا عامداً (3) . ويرى علاء الدين الكاساني أن الأصل في كل ما سبق هو أن من قصد قتل إنسان لا ينهدر دمه بمجرد هذا القصد، ولكن ينظر إن كان المشهور عليه (أي المصول عليه) يمكنه دفعه عن نفسه بدون القتل لا يباح له القتل، وإن كان لا يمكنه الدفع إلا بالقتل يباح القتل؛ لأنه من ضرورات الدفع. فإن شهر   (1) المغني ج10 ص255، المهذب ج2 ص242. (2) حاشية ابن عابدين ج5 ص485. (3) مواهب الجليل ج6 ص322، 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 عليه سيفه يباح له أن يقتله؛ لأنه لا يقدر على الدفع إلا بالقتل، ألا ترى أنه إذا استغاث الناس يقتله قبل أن يلحقه الغوث إذ السلاح لا يلبث فكان القتل من ضرورات الدفع فيباح قتله، فإذا قتله فقد قتل شخصاً مباح الدم فلا شئ عليه (1) . ولا حرج على المصول عليه إذا تعذر بدر الصائل بالدفع ولم ينتظر حتى يقع عليه الاعتداء ما دامت حالة الصائل تدل على قصده الاعتداء. وإذا كان الصائل يندفع بالعصا فلم يجد إلا سيفاً أو سكيناً فلا حرج عليه أن يدفعه بأيهما إذ لا يمكنه الدفع إلا به ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب العصا (2) . وليس للمصول عليه أن يقصد قتل الصائل أو جرحه ابتداء إلا إذا علم أنه لا يندفع إلا بذلك وأن القتل أو الجرح هو القوة اللازمة لدفعه (3) . والمقياس الصحيح للقوة اللازمة لدفع الاعتداء هو ظن المدافع المبني على أسباب معقولة، فهذا المقياس تقاس القوة اللازمة لدفع الاعتداء ولا تقاس بالضرر الحقيقي الذي وقع أو ضرر الذي كان الصائل ينتوي أن يحدثه، فللمصول عليه إذن أن يدفع الصائل بأيسر ما يغلب على ظنه أن الصائل يندفع به بشرط أن يكون ظن المصول عليه قائماً على أسباب معقولة. ويراعى أن الأمر قد يخرج عن حد الضبط عند الالتحام سيما إذا كان الصائلون جماعة؛ لأن دفع أحدهم بأيسر ما يندفع به قد لا يندفع به الآخر وقد يؤدي إلى إهلاك المصول عليه (4) ، ومن ثم يرجع في تقدير القوة الملائمة لظروف كل واقعة. 336 - تجاوز حد الدفاع: إذا استعمل المدافع قوة أكثر مما تقضي الضرورة لدفع الاعتداء فهو مسئول عن فعله الذي تعدى به حد الدفاع المشروع،   (1) بدائع الصنائع ج7 ص93. (2) أسنى المطالب ج4 ص167. (3) شرح الزرقاني وحاشية البناني ج8 ص118. (4) تحفة المحتاج ج4 ص126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فإذا كان الصائل يندفع بالتهديد فضربه فهو مسئول عن الضرب، وإن كان يندفع بالضرب باليد فجرحه فهو مسئول عن الجرح، وإن كان يندفع بالجرح فقتله فهو مسئول عن القتل، وإن هرب الصائل بعد أن جرحه فاتبعه المدافع وجرحه مرة ثانية فهو مسئول عن الجرح الثاني، وإن عطل مقاومته ثم قطع بعد ذلك يده أو رجله أو قتله فهو مسئول عما فعله بعد تعطيل المقاومة، وهكذا يسأل المصول عليه عن كل فعل لم يكن لاوماً لدفع الاعتداء. وبين الاعتداء والدفع ارتباط وثيق؛ لأن الدفاع يتولد عن الاعتداء، فإذا بدأ الاعتداء بدأت حالة الدفاع، وإذا انتهى الاعتداء فق انتهت حالة الدفاع، ومن ثم لا يعتبر المصول عليه مدافعاً إذا انتهى الاعتداء، ويسأل عن كل فعل يقع منه بعد انتهاء الاعتداء. ولكن لا يعتبر الاعتداء منتهياً إذا هرب الصائل وأخذ معه المال المصول عليه. فللمدافع أن يتتبعه حتى يسترد منه ما أخذه، وأن يستعمل معه القوة اللازمة في استرداده، فإن لم يكن إلا القتل إمكان استرداد المأخوذ قتله (1) . والأصل في أفعال الدفاع أنها مباحة ولا عقاب عليها، ولكنها إذا تعدت الصائل وأصابت غيره خطأ فالفعل الذي وقع على الغير لا يعتبر مباحاً إذا أمكن نسبة الخطأ والإهمال إلى المدافع، فمن أراد أن يضرب الصائل فأخطأه وأصاب غيره فجرحه أو قتله فهو مسئول عن جرح هذا الغير أو قتله خطأ ولو أنه تعمد الفعل، إذ الفعل في ذاته مباح على الصائل ولكنه وقع على الغير خطأ، وتشبه هذه الحالة ما إذا أراد إنسان أن يصيد صيداً فأخطأه وأصاب شخصاً فالصيد في ذاته عمل مباح ولكن الصائد يسأل عن إصابة الشخص خطأ. ونصب الحبالات والأشراك والفخاخ وراء الأبواب أو الأسوار أو في   (1) حاشية ابن عابدين ج5 ص274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 الممرات بقصد قتل المعتدين أو جرحهم جائز عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد (1) ، وليس على صاحب المكان مسئولية؛ لأنه من قبيل الدفاع، ولأن الداخل قتل نفسه بتعديه ودخوله مسكن غيره دون حق، ولكن مالكاً (2) يرى مسئولية الفاعل إذا قصد بعمله إصابة الداخلين أو إهلاكهم، أما إذا قصد سد حاجة من حاجات المسكن أو المكان فلا مسئولية عليه. ولعل رأي مالك أقرب إلى الدقة في تطبيق قواعد الدفاع؛ لأن الدفاع قائم على رد الاعتداء بأيسر ما يندفع به وقد يندفع المعتدي بأيسر من الجرح أو القتل. وقد تعرض شراح القوانين لهذه المسألة بالذات فمنهم من رأى الفعل دفاعاً ومنهم من لم يره كذلك، وعرضت قضية من هذا النوع على المحاكم الفرنسية فقضت ببراءة صاحب المسكن على اعتبار أن عمله طريقة من طرق الدفاع الشرعي (3) . 337 - أيكون للصائل حق الدفاع؟: يصبح الصائل في حالة دفاع إذا تعدى المصول عليه حدود الدفاع المشروع؛ لأن عمل المصول عليه يصبح حينذاك اعتداء والدفاع يتولد عن الاعتداء، أما إذا بقى فعل المصول عليه في حدود الدفاع فلا يعتبر الصائل إلا معتدياً وليس له أن يدعي بأنه كان يدفع عن نفسه. وإذا تجاوز المصول عليه حد الدفاع اعتبر عمله اعتداء، وكان للصائل أن يدفع عن نفسه هذا الاعتداء بأيسر ما يندفع به. 338 - حكم دفع الصائل: من المتفق عليه بين الفقهاء أن أفعال الدفاع مباحة، فلا مسئولية على المدافع من الناحية الجنائية؛ لأن الفعل ليس جريمة، ولا مسئولية عليه من الناحية المدنية؛ لآنه أتى فعلاً مباحاً وأدى واجباً أو استعمل حقاً قرره الشارع، وأداء الواجبات واستعمال الحقوق لا يترتب عليه أية   (1) حاشية ابن عابدين ج5 ص524، تحفة المحتاج ج4 ص50، المغني ج9ص571. (2) تبصرة الحكام ج2 ص296، مواهب الجليل ج6 ص241. (3) القسم العام لأحمد بك صفوت ص224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 مسئولية. أما إذا تعدى المدافع حدود الدفاع المشروع فعمله جريمة يسأل عنها من الناحيتين المدنية والجنائية. وقد بينا من قبل أن أبا حنيفة يرى مسئولية المدافع مدنياً عن قتل الصبي والمجنون أو جرحهما أو قتل الحيوان أو جرحه، كما بينا أن أبا يوسف يخالفه ويرى المسئولية المدنية فقط في حالة قتل الحيوان، وقلنا إن هذين الرأيين مخالفان لما يراه جمهور الفقهاء. 339 - بين الشريعة والقانون: هذا هو دفع الصائل في الشريعة الإسلامية، وأحكام القوانين الوضعية وأراء شراحها لا تكاد تختلف اليوم شيئاً عن أحكام الشريعة، وقد بينا الأساس الذي يقوم عليه الدفاع في الشريعة وقارناه بالأسس التي قام عليها الدفاع في القوانين الوضعية ويقوم عليها اليوم. أما شروط الدفاع في الشريعة فهي نفس الشروط في القوانين الوضعية الحديثة وعلى الأخص في القانون المصري والفرنسي، وآراء الشراح في هرب المدافع لا تختلف عن آراء الفقهاء، فبعضهم يرى هرب المدافع وبعضهم لا يراه، وبعضهم يفرق بين الهرب المشين والهرب غير مشين ويوجب الهرب إا لم يكن شائناً، وحكم الدفاع في الشريعة هو نفس حكمه في القوانين الوضعية التي تجعل الفعل مباحاً ولا ترتب عليه مسئولية جنائية أو مدنية على المدافع إلا في حالة تجاوز الدفاع. * * * المطلب الثاني الدفاع الشرعي العام أو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" 340 - مصدر إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] ، وقوله: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ *يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113، 114] ، وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} [التوبة: 71] ، وقوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة:78، 79] ، وقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110] ، وقوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج: 41] ، وقوله: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وقوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] ، وقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] . وقد تأكدت هذه المعاني جميعاً بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومنها أنه روي أن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده". وروي عن أبي ثعلبة الخشني أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 عن تفسير قوله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، فقال: "يا أبا ثعلبة مر بالمعروف وانه عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متعباً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بنفسك ودع عنك العوام". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم". وقال: "ما أعمال البر عند الجهاد في سبيل الله إلا كنفثة في بحر لجي، وما جميع أعمال البر والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي". وقال: "إياكم والجلوس على الطرقات"، قالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: "فإذا أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقها" قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وقال أبو عبيد بن الجراح: قلت: يا رسول الله أي الشهداء أكرم على الله عز وجل؟ قال: "رجل قام إلى وال جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله، فإن لم يقتله فإن القلم لا يجري عليه بعد ذلك وإن عاش ما عاش". وقال الحسن البصري: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك، فذلك الشهيد منزلته في الجنة بين حمزة وجعفر". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بئس القوم قوم لا يأمرون بالقسط، وبئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر". وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: "من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 341 - ماهية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: المعروف هو كل قول أو فعل ينبغي قوله أو فعله طبقاً لنصوص الشريعة الإسلامية ومبادئها العامة وروحها، كالتخلق بالأخلاق الفاضلة، والعفو عند المقدرة، والإصلاح بين المتخاصمين، وإيثار الآخرة على الدنيا، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، وإقامة المعاهد والملاجئ والمستشفيات، ونصرة المظلوم، والتسوية بين الخصوم في الحكم، والدعوة إلى الشورى، والخضوع لرأي الجماعة وتنفيذ مشئتها، وصرف الأموال العامة في مصارفها، إلى غير ذلك. والمنكر هو كل معصية حرمتها الشريعة سواء وقعت من مكلف أو غير مكلف، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب خمراً فعليه أن يمنعه ويريق خمره، ومن رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة فعليه أن يمنع ذلك، والمنع واجب سواء ارتكب المعصية في سر أو في علانية. ويعرف المنكر عند بعض الفقهاء بأنه كل محذور الوقوع في الشرع (1) ، ويفضل هؤلاء الفقهاء التعبير بمحذور الوقوع على التعبير بمعصية؛ لأن المنكر عندهم أعم من المعصية، ولأنهم لا يعتبرون فعل الصبي والمجنون معصية؛ لأن الفعل في رأيهم لا يكون معصية إلا إذا كان فاعله عاصياً، ولأن المعصية بلا عاص محال. والأمر بالمعروف قد يكون قولاً محضاً كالدعوة إلى التبرع للمنكوبين أو الانخراط في سلك المجاهدين، وقد يكون الأمر بالمعروف عملاً محضاً كالتبرع بمبلغ من المال أو الانضمام إلى المجاهدين، وقد يجتمع القول والعمل كالدعوة إلى الجهاد والانخراط في سلك المجاهدين، أو كالدعوة إلى إخراج الزكاة وإخراج الداعي لها فعلاً.   (1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 والنهي عن المنكر قد يكون قولاً محضاً كالنهي عن شرب الخمر، وقد يكون عملاً محضاً كإراقة الخمر أو منع شاربها بالقوة من شربها. وإذا كان النهي عن المنكر قولاً فهو النهي عن المنكر، وإذا كان عملاً فهو تغيير المنكر. فالأمر بالمعروف إذن هو الترغيب فيما ينبغي عمله أو قوله طبقاً للشريعة، والنهي عن المنكر هو الترغيب في ترك ما ينبغي تركه طبقاً للشريعة (1) . 342 - التكييف الشرعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من المتفق عليه بين الفقهاء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حقاً للأفراد يأتونه إن شاءوا ويتركونه إذا شاءوا، وليس مندوباً إليه يحسن بالأفراد إتيانه وعدم تركه، وإنما هو واجب على الأفراد ليس لهم أن يتخلوا عن أدائه، وفرض لا محيض لهم من القيام بأعبائه، وقد أوجبت الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتقوم الجماعة على الخير، وينشأ الأفراد على الفضائل، وتقل المعاصي والجرائم، فالحكومة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والجماعات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والأفراد يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبذلك يستقر أمر الخير والمعروف بين الجماعة، ويقضي على المنكر والفساد بتعاون الصغير والكبير والحاكم والمحكوم. والفقهاء، وإن كانوا قد اتفقوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنهم اختلفوا في تحديد هذا الواجب من وجهين: الوجه الأول: في صفة الواجب، والوجه الثاني: فيمن يلزمهم هذا الواجب. الاختلاف في صفة الواجب: انقسم الفقهاء فريقين في تحديد صفة الوجوب، فقال البعض: إن الواجب فرض عين؛ أي واجب محتم، وعلى كل مسلم   (1) الفخر الرازي ج3 ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 أن يؤديه بنفسه على قدر استطاعته، ولو كان هناك من هو أقدر منه على تأديته، أو من هو على استعداد لتأديته، أو من هو متفرغ لتأديته، وهم يشبهونه بفريضة الحج فهي فرض عين لكن على المستطيع، وعندهم أفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آكد من فريضة الحج، ولم تشترط فيها الاستطاعة؛ لأنها مستطاعة دائماً، فالاستطاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممكنة لجميع الأفراد، فالجاهل يستطيع أن يأمر بالمعروف فيما هو ظاهر كأداء الصلاة والصوم، وأن ينهى عن المنكر فيما لا يخفى كالسرقة والزنا، والعالم يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيما هو ظاهر وفيما هو خفي. ويرى أصحاب هذا الرأي أن يف جعل الواجب فرض عين حفاظاً للأمة وحرزاً لها من الفساد والتحلل (1) . ورأى الفريق الآخر - وهم جمهرة الفقهاء - أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات كالجهاد، فهو واجب حتم على كل مسلم، ولكن هذا الواجب يسقط على الفرد إذا أداه عنه غيره (2) ، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] ، وعندهم أن من (3) للتبعيض، وأن الله قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} ، ولم يقل: كونوا كلكم آمرين بالمعروف، فإذا قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين، فهو فرض؛ لأن الله أوجبه بقوله: {وَلْتَكُن} وهو فرض كفاية؛ لأنه واجب على البعض لا على الكل (4) . الاختلاف فيمن يلزمهم الواجب: يرى جمهرة الفقهاء أن الأمر بالمعروف   (1) تفسير المنار ج4 ص34، 35، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص29. (2) الفخر الرازي ج3 ص19، الكشاف للزمخشري ج1 ص319، أحكام القرآن لابن العربي ج1 ص128، أحكام القرآن للقرطبي ج4 ص165، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص29، أسنى المطالب ج4 ص179، مواهب الجليل ج3 ص348. (3) يرى الفريق الأول أن "من" للبيان وليس للتبعيض. (4) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 والنهي عن المنكر واجب على كل أفراد الأمة لقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110] ، ويرى بعض الفقهاء أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقع إلا على عاتق القادرين على أدائه وهم علماء الأمة دون غيرهم، وحجتهم أن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وقد يغلظ في موضع يستوجب اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من يزيده الإنكار إلا تمادياً وإصراراً، وأنه ربما عرف الحكم في مذهب وجهله في مذهب آخر، وأصحاب هذا الرأي م القائلين بأنه فرض كفاية، وعندهم أنه ما دام الواجب على الكفاية فإنه يسقط عن البعض إذا قام به البعض الآخر، وهذا يتفق تماماً مع تخصيص العلماء بهذا الواجب (1) . ويرد على هؤلاء بأن الواجب لا يسقط بتحميله للبعض دون البعض، وإنما يسقط بالأداء، فإذا لم يقمبه العلماء فهو فرض على غيرهم، وفضلاً عن ذلك فإن طبيعة الواجب على الكفاية تقتضي أن يلتزم به الكل، ويظلوا مسئولين عنه حتى يؤديه بعضهم فيسقط عن الباقين بالأداء، ثم إن وضع واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عاتق الجاهل لن يؤدي إلى الأضرار التي يتوقعونها؛ لأن الجاهل بطبيعة الحال لا يأمر ولا ينهى إلا فيما هو ظاهر لا خلاف عليه كأداء الصلاة والنهي عن السرقة والزنا. 343 - الشروط الواجب توافرها في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: رأينا فيما سبق أن جمهرة الفقهاء توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كافة أفراد الأمة لا على فئة معينة منها، ولكنهم مع ذلك يشترطون شروطاً خاصة فيمن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، وبعض هذه الشروط يرجع إلى طبيعة الواجب، وإلى مبادئ الشريعة العامة، وبعضها متفق عليه، وبعضها   (1) الفخر الرازي ج3 ص20، الكشاف للزمخشري ج1 ص318، مجموعة الرسائل لابن تيمية، الحسبة ص37، 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 مختلف فيه، وهي جميعاً لا تخرج عن خمسة شروط: الشرط الأول: التكليف: يشترط فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون مكلفاً؛ أي مدركاً مختاراً، وهذا الشرط لازم إذا نظر إلى وجوب الأمر والنهي؛ لأن ترك القيام بالواجب يؤدي إلى مسئولية التارك، ولا مسئولية على غير مكلف طبقاً لقواعد الشريعة العامة، وعلى هذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره واجباً لا يجب إلا على المكلف. واعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً لا يمنع غير المكلف من الأمر والنهي باعتبارهما قربة من القربات (1) ؛ لأن غير المكلف أهل للقربات، وله أن يأتي القربات ولو أنها لا تجب عليه، ولا يجوز منعه من إتيانها، ولكن له هو إن شاء أن يمتنع من نفسه عن إتيانها، كصلاة الصغير وصومه، فإن الصلاة لا تجب عليه، وكذلك الصوم فإذا أتي أحدهما كان عمله قربة، ولم يجز لأحد أن يمنعه من الصلاة أو الصوم، لكن إذا شاء الصغير أن يمتنع فلا إثم عليه في الامتناع، وعلى هذا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم يكن واجباً على غير المكلف فهو حق له يأتيه إن شاء ويتركه إن شاء، فالصبي المراهق للبلوغ له - وإن لم يكن مكلفاً - إنكار المنكر، وله أن يريق الخمر ويكسر أدوات الملاهي، وإذا فعل ذلك نال به ثواباً، ولم يكن لأحد منعه على اعتبار أنه غير مكلف به. الشرط الثاني: الإيمان: يشترط فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون مؤمناً بالدين الإسلامي، فالمسلم وحده هي الذي يقع على عاتقه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما غير المسلم فلا يلتزم بهذا الواجب (2) .   (1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص14. (2) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وقد روعي في اشتراط هذا الشرط ترك الحرية التامة لغير المسلم في أن يعتقد ما يشاء، وحمايته من الإكراه على اعتناق ما يخالف عقيدته، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل فيه كل ما أوجبته الشريعة عمله أو حببت للناس فعله من صلاة وصيام وحج وتوحيد وغير ذلك، والنهي عن المنكر يدخل فيه النهي عن كل ما خالف الشريعة من أفعال وعقائد فيدخل عن التثليث وعن القول بصلب المسيح وقتله، ويدخل فيه النهي عن الترهب وعن شرب الخمر وعن أكل لحم الخنزير وغير ذلك مما تخالف فيه الشريعة الإسلامية الأديان الأخرى، فلو ألزم غير المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لألزم بأن يقول بما يقول به المسلم وبأن يعتقد بما يعتقد به المسلم، ولألزم بأن يبطل عقيدته الدينية ويظهر عقيدة الإسلام، وهذا هو الإكراه في الدين الذي تحرمه الشريعة الإسلامية في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] فمن أجل حماية حرية العقيدة جعل هذا الواجب على المسلم دون غيره. الشرط الثالث: القدرة: ويشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون قادراً على الأمر والنهي وتغيير المنكر، فإن كان عاجزاً فلا وجوب عليه إلا بقلبه؛ أي عليه أن يكره المعاصي وينكرها ويقاطع فاعليها. وسقوط الواجب لا يترتب على العجز الحسي وحده، بل يلحق بالعجز الحسي خوف الآمر والناهي من أن يصيبه مكروه، أو أن يؤدي نهي الناهي إلى منكر شر من المنكر الذي نهى عنه، ففي هذين الحالين يسقط الواجب أيضاً، فمن علم أن أمره أو نهيه لن ينفع وأنه سيضرب إذا تكلم لم يجب عليه أمر أو نهي، وعليه فقط أن يكره المعصية وينكرها بقلبه ويقاطع فاعليها وأن لا يحضر مواضع المعاصي والمناكر، ومن علم أن نهيه إذا نهى منكر سيؤدي إلى إزالته أو إلى أن يزول ويخلفه ما هو أقل منه رتبة فقد وجب عليه النهي عن لمنكر، وإذا علم أن النهي عن المنكر سيؤدي إلى منكر آخر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 درجته فهو بالخيار إن شاء منع المنكر ونهى عنه، وإن شاء تركه بحسب ما يؤديه إليه اجتهاده. أما إذا علم أن إزالة المنكر ستؤدي إلى ما هو شر منه فقد سقط عنه الواجب، بل حرم عليه النهي، ومن الأمثلة على ذلك أن يجد مع شخص شراباً حلالاً نجس بسبب وقوع نجاسة فيه ويعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبه الخمر فلا معنى لإراقته، ومثل ذلك ما حدث من ابن تيمية، فقد مر وبعض أصحابه في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم أصحاب ابن تيمية شرب الخمر ولكن ابن تيمية أنكر على أصحابه قولهم، وقال لهم: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعوهم وخمرهم (1) . ومن علم أن أمره أو نهيه لا يفيد ولكنه لم يخف مكروهاً، فلا يجب عليه الأمر والنهي (2) لعدم فائدتهما، ولكن يستحب له أن يأمر وينهى لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين (3) . ومن استطاع أن يبطل المنكر بفعله ولكنه يعلم أنه يصاب بمكروه بسبب تعرضه لإبطال المنكر، فلا يجب عليه إبطال المنكر، ولكن ستحب له أن يبطله (4) ، كمن يقدر على إراقة الخمر أو تكسير أدوات اللهو، ولكنه يعلم أنه سيضرب إن فعل هذا، فلا يجب عليه إبطال المنكر، وإنما يستحب له أن يبطله لا باعتباره واجباً، بل باعتباره قربة من القربات. ويلحق بالعجز الحسي العجز العلمي، فالعامي لا يجب عليه الأمر والنهي إلا في الجليات المعلومة كشرب الخمر والزنا والسرقة وترك الصلاة، وفيما عدا الجليات   (1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص26 وما بعدها، أعلام الموقعين ج3 ص28 مجموعة الرسائل، الحسبة ص67، 68. (2) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص26. (3) يرى البعض أن الواجب لا يسقط في هذه الحالة. راجع: أسنى المطالب ج4 ص180. (4) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 المعلومة لا يجب عليه أمر ولا نهي؛ لأنه يعجز عن فهم حقائقها ومعرفة فقهها ولو سمح به بالخوض فيها لكان ما يفسده أكثر مما يصلحه (1) . ولا يشترط في إسقاط الواجب بالعجز وما يلحق به أن يكون العجز وما في حكمه معلوماً علماً محققاً، بل يكفي فيه الظن الغالب؛ لأن للظن الغالب في هذه الحالات معنى العلم والحكمة، فمن غلب على ظنه أن إنكاره لا يفيد لم يجب عليه إنكار، ومن غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه لم يجب عليه، وإن غلب على ظنه إنه لا يصاب وجب عليه، أما إذا شك فيه من غير رجحان، فإن الشك لا يسقط الوجوب (2) . الشرط الرابع: العدالة: يشترط بعض الفقهاء هذا الشرط، فيرون أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يصح أن يكون فاسقاً، ويحتجون بقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ، وبقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] ، وعندهم أن هداية الغير فرع للاهتداء، وتقويم الغير فرع للاستقامة، وأن العاجز عن إصلاح نفسه أشد عجزاً عن إصلاح غيره. ولكن الرأي الراجح لى الفقهاء: أن للفاسق أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنه لا يشترط في الآمر أو الناهي أن يكون معصوماً عن المعاصي كلها؛ لأن في اشتراط هذا الشرط سداً لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قال سعيد بن جبير: "إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد بشيء". والأصل أن الفاسق يفسق بإتيانه المعاصي؛ أي بإتيانه المحرمات وترك الواجبات، فإذا حرم على الفاسق أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كان معنى   (1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص28، تفسير المنار ج4 ص34. (2) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص28، 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 ذلك أن ترك الواجب يسقط غيره من الواجبات، وأن الواجب يصير حراماً بارتكاب حرام آخر. وليس في الآيتين اللتين استدل بهما الفريق الأول ما يمنع الفاسق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما جاءا بالنعي على من يأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويأتيه، والمقصود منهما أن يجعل الإنسان فعله مصدقاً لقوله؛ ليكون لقوله أثره ونتيجته المرجوة (1) . الشرط الخامس: الإذن: ويشترط بعض الفقهاء فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يأذن له الإمام أو الحاكم بذلك، وحجتهم أن الإمام أو الحاكم يستطيع اختيار من يحسن القيام بهذه الوظيفة، وأن تركها إلى الأفراد دون قيد ولا شرط يؤدي إلى الفساد والفتن، ولكن جمهرة الفقهاء على خلاف هذا الرأي، ولا يشترطون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذن شخص أو هيئة ما، ويرون أن تخصيص أناس من قبل الإمام لأداء هذه الوظيفة لا يمنع غيرهم من القيام بها، وحجتهم أن النصوص الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة توجب على كل فرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجعل كل من رأى منكراً فسكت عليه عاصياً، وتضع على عاتقه أن ينهى عنه أينما رآه وكيفما رآه، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له. وفضلاً عن ذلك فإن الإمام والحاكم ممن يوجه إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا كان من الواجب أمر الإمام بالمعروف ونهيه عن المنكر فكيف يحتاج في إذنه لتأدية الواجب. والرأي الأخير هو الرأي الذي جرى عليه العمل في كل العهود حتى في الأوقات التي خصص فيها الخلفاء والولاة رجالاً معينين للأمر بالمعروف والنهي   (1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص15- 17، الكشاف ج1 ص319، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 عن المنكر، فإن هذا الخصيص لم يمنع أي فرد من أفراد الأمة عن القيام بهذا الواجب، بل لقد كان بعض الأفراد يتصدون إلى الولاة والخلفاء يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ويتصدون لتغيير المنكر بأيديهم فلا يستطيع الخلفاء والولاة أن يقولوا لمن فعل شيئاً من ذلك إنك مخطئ (1) . والذين يشترطون إذن الإمام يقصدون من هذا الشرط تنظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يقصدون تحريمها على من لم يؤذن له، فمن لم يؤذن له إذا وجد جماعة يشربون الخمر فكسر دنانهم وأراق خمرهم، أو وجد رجلاً يزني ولم يستطع منعه إلا بقتله فقتله، لا يعتبر أنه ارتكب جريمة الإتلاف أو جريمة القتل؛ لأن الفعلين مباحان له بنصوص الشريعة الصحيحة، وإنما يعاقب على مخالفته أمر الإمام أو استخفافه بأوامر السلطة التنفيذية. 344 - شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ليس للأمر بالمعروف شروط خاصة ولا أوقات خاصة؛ لأن الأمر بالمعروف نصيحة وهداية وتعليم، وكل ذلك جائز في كل وقت وفي كل مناسبة. أما النهي عن المنكر وتغييره فله شروط خاصة يجب توفرها لجواز النهي أو التغيير. وهذه الشروط هي: (1) وجود منكر. (2) وأن يكون موجوداً في الحال. (3) وأن يكون ظاهراً دون تجسس. (4) وأن يدفع المنكر بايسر ما يندفع به. الشرط الأول: وجود منكر: يشترط لجواز النهي عن المنكر أو تغيير المنكر أن يكون هناك منكر. والمنكر هو كل معصية حرمتها الشريعة، أو هو كل ما كان محذور الوقوع في الشرع. ويستوي أن يكون فاعل المنكر مكلفاً أو غير مكلف، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه،   (1) تفسير المنار ج4 ص33 وما بعدها، إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص19 وما بعدها، أحكام القرآن للجصاص ج2 ص33، البحر الرائق ج5 ص45، أسنى المطالب ج4 ص179 وما بعدها، مواهب الجليل ج3 ص348، الكشاف ج1 ص319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وكذا إن رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة فعليه أن يمنعه. ولا فرق بين الصغير ولا الكبير في النهي عن المنكر أو تغيير المنكر، فكشف العورة في الحمام، والخلوة بالأجنبية، وإتباع النظر للنسوة الأجنبيات، كل ذلك منكر وإن كان من الصغائر ويجب النهي عنه ومنعه (1) . ولكن يشترط في المنكر أن يكون منكراً معلوماً دون حاجة لاجتهاد، فكل ما هو محل للاجتهاد لا محل للنهي عنه أو تغييره، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع، وليس للشافعي أن ينكر على حنفي نكاحاً لا ولي فيه (2) . الشرط الثاني: أن يكون موجوداً في الحال: ويشترط في المنكر أن يكون حالاً، بمعنى أن تكون المعصية راهنة وصاحبها مباشر لها وقت النهي أو التغيير كشربه الخمر أو خلوته بأجنبية، فإذا فرغ من المعصية فليس ثمة مكان للنهي عن المنكر أو تغييره، وإنما هناك محل للعقاب على المعصية والعقاب من حق السلطات العامة وليس للأفراد، فإذا اعترض شخص الجاني فجرحه أو آذاه أو شتمه فهو مرتكب لجريمة، أما إن فعل ذلك أثناء مباشرة المعصية وكان المنع عنها يقتضي هذا الفعل فهو ناه عن منكر أو مغير لمنكر ولا يعتبر فعله جريمة؛ لأن فعله أداء واجب. وإذا كانت المعصية متوقعة الحصول كمن يعد الموائد ويزين المجلس استعداداً لشرب الخمر فليس على مثل هذا من سبيل إلا بالوعظ والنصح وما زاد على ذلك كالتعنيف والشتم والضرب فهو جريمة، بل إن الوعظ أو النصح لا يجوز إذا أنكر عزمه على الشرب؛ لأن في الوعظ والنصح بعد إناره إساءة ظن بالمسلم. الشرط الثالث: أن يكون ظاهراً دون تجسس أو تفتيش: يشترط النهي عن المنكر أو تغييره أن يكون المنكر ظاهراً بغير تجسس أو تفتيش، فإذا توقف   (1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص35، 36. (2) المرجع السابق ص37، 38، أسنى المطالب ج4 ص180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 إظهار المنكر على التجسس والتفتيش لم يجز إظهار المنكر؛ لأن الله حرم التجسس في قوله: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] ، ولأن للبيوت حرمة وللأشخاص حرمة لا يجوز انتهاكها قبل أن تظهر المعصية، الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تتبع عورات الناس فقال لمعاوية: "إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم"، وقال عليه السلام: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو كان في جوف بيته"، وقد استقر الأمر في الشريعة على هذا من أول يوم، ومما يذكر في هذا الباب ما حدث من عمر رضي الله عنه، فقد تسلق دار رجل فوجده على معصية فأنكر عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوحه: فقال: وما هي؟ فقال: قد قال الله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} وقد تجسست، وقال تعالى: {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] وقد تسورت من السطح، وقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] وما سلمت، فتركه عمر وشرط عليه التوبة. وإذا كان عمر قد تركه فلم يعاقبه ولم يغير المنكر فذلك لأن دخول المسكن وهو الذي أظهر المنكر وهو دخول من غير حق ومن غير وجهه. ومثل هذا ما رواه عبد الرحمن بن عوف قال: "خرجت مع عمر رضي الله عنه ليلة في المدينة بينما نحن نمشي إذ ظهر لنا سراج فانطلقنا نؤمة فلما دنونا منه إذا باب مغلق على قوم لهم أصوات ولغط، فأخذ عمر بيدي وقال: أتدري بيت من هذا؟ قلت لا، فقال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ قال: أرى أنا قد أتينا ما نهانا الله عن، قال الله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} ، فرجع عمر وتركهم". وتحريم التجسس والتفتيش يترتب عليه أن لا ينبغي لإنسان مثلاً أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الغناء والأوتار، ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 الخمر والحشيش، وليس لإنسان أن يتحسس ملابس شخص ليعرف ما يخفيه تحتها، ولا ليدخل بيته ليعرف أي شيء يخفيه فيه، بل ليس له أن يستخبر من جيرانه ليخبروه بما يجري في داره (1) . لكن إذا غلب على الظن استسرار شخص بالمعاصي لأمارات دلت على ذلك أو لخبر يغلب على الظن صدقه كشم رائحة الحشيش خارجة من مسكن شخص، أو سماع صوت عيار أو استغاثة، أو أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا بامرأة ليزني بها أو برجل ليقتله، فيجوز في مثل هذه الحالات التجسس والبحث والتفتيش، حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات (2) . والأصل أن من أغلق باب داره وتستر بحيطانه فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لتعرف المعصية والبحث عنها، لكن إذا اخبر ابتداء - من غير استخبار - شخصان أو شخص واحد على رأى (3) بأن فلاناً يرتكب المعاصي في بيته جاز دخول البيت دون إذن، كذلك يجوز الدخول دون إذن إذا ظهرت المعصية في الدار ظهوراً يعرفه من الخارج كظهور رائحة الخمر وأصوات السكارى (4) . ودلالة الشكل كدلالة الرائحة والصوت، وما ظهرت دلالته فهو غير مستور بل هو مكشوف، وقد أمرنا بأن نستر ما ستر الله وننكر على من أبدى لنا صفحته، حيث يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من أتي شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم حد الله عليه"، والإبداء - أي إبداء الصفحة - له درجات؛ فتارة يبدو لنا بحاسة السمع، وتارة بحاسة الشم، وتارة بحاسة   (1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص34. (2) الأحكام السلطانيةص218. (3) أسنى المطالب ج4 ص180، الأحكام السلطانية ص218. (4) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص36، 37، 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 البصر، وتارة بحاسة اللمس، ولا يمكن أن نخصص ذلك بحاسة البصر وحدها إذ المرا العلم وغلبة الظن، وهذه الحواس تفيد العلم وعلية الظن كما يفيدها البصر. الشرط الرابع: دفع المنكر بأيسر ما يندفع به: يشترط في دفع المنكر أن يدفع بما يدفعه وبايسر ما يدفعه، فلا يجوز أن يدفع بأقل مما يدفعه ما دام الدافع قادراً على دفعه بالأكثر، ولا يجوز أن يدفع بأكثر مما يدفعه؛ لأن ما زاد عن الحاجة يعتبر جريمة، ولكن يجوز دفع المنكر بأقل مما يدفعه في حالة عدم القدرة، فإذا كان المنكر يدفع باليد ولم يكن الدافع قادراً على هذه الوسيلة دفعه بلسانه، فإن لم يستطع دفعه بقلبه. ودفع المنكر بما يندفع به يقتضي أن تختلف وسائل دفع المنكر باختلاف نوع المنكر واختلاف حال فاعله؛ لأن ما يندفع به شخص قد لا يندفع به آخر، وما يصلح لدفع منكر لا يصلح لدفع منكر آخر. 345 - وسائل دفع المنكر: وقد حصر بعض الفقهاء (1) الوسائل الصالحة لدفع المنكر في سبع وسائل وهي: التعريف، والنهي بالنصح والوعظ، والتعفيف، والتغيير باليد، والتهديد بالضرب والقتل، وإيقاع الضرب والقتل، والاستعانة بالغير. التعريف: ويكون كلما أقدم الشخص على المنكر وهو يجهل أنه منكر، فالوسيلة الصالحة لدفع المنكر في هذه الحالة هي تعريف فاعل المنكر أن فعله منكر. ويجب أن يكون تعريفه باللطف من غير عنف؛ لأن في التعريف نسبته إلى الجهل وهذا في ذاته إيذاء له، ولكن لابد منه لدفع المنكر، فوجب أن يكون التعريف في غاية اللطف حتى لا يكون إيذاء دون مبرر؛ لأن إيذاء المسلم محرم. النهي بالوعظ والنصح: ويوجه إلى من يقدم على الأمر وهو عالم بكونه   (1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج5 ص45 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 منكرا إذا غلب علي الظن أنه يؤدي إلى ترك المنكر، كصاحب الغيبة الذي يعلم أنها محرمة ولكن يرجى أن يتركها لو وعظ ونصح، وينبغي أن يكون الناهي شفيقاً لطيفاً بعيداً عن العنف والغضب. التعنيف: ويكون عند العجز عن المنع باللطف، ويوجه إلى المصر المستهزئ بالوعظ والنصح ويشترط في العنف شرطان: أحدهما: أن لا يقدم عليه إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف. والثاني: أن لا ينطق إلا بالصدق ولا يسترسل في التعنيف فيطلق لسانه بما لا يحتاج إليه، بل يقتصر على قدر الحاجة، وليس للمعنف أن يسب فاعل المنكر بما فيه كذب ولا أن يقذفه، وإنما يصح أن يخاطبه بما فيه مما لا يعد فحشاً، كقوله: يا فاسق، يا جاهل، يا أحمق، يا غبي، وما يجري هذا المجرى؛ لأن كل عاص فاسق والفاسق أحمق جاهل ولولا حمقه وجهله ما عصى الله، وكل من ليس بكيس فهو أحمق؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله". التغيير باليد: والمقصود بالتغيير هو ذات المنكر؛ ككسر الملاهي، وإراقة الخمر، وخلع الحرير من رأس العاصي وعن بدنه، وإخراجه من الدار المغصوبة، وإزالة مايضعه من المواد في الطريق العام فيسده أو يضيقه، إلى غير ذلك. والتغيير لا يكون إلا في المعاصي التي تقبل بطبيعتها التغيير المادي، أما معاصي اللسان والقلب فليس في الاستطاعة تغييرها مادياً، وكذلك كل معصية تقتصر على نفس العاصي وجوارحه الباطنة. ويشترط في التغيير باليد أن لا يباشر دافع المنكر التغيير بيده طالما استطاع أن يحمل فاعل المنكر على التغيير، فليس له أن يجر الغاصب من الدار المغصوبة إذا كان يستطيع تكليفه الخروج منها ماشياً، وليس له أن يريق الخمر بنفسه إذا استطاع أن يكلف شاربها أو محرزها بإراقتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 ويشترط في التغيير أيضاً أن يقتصر فيه على القدر المحتاج إليه، فليس لدافع المنكر أن يأخذ بلحية الغاصب أو رجله ليخرجه من الدار المغصوبة ما دام يستطيع أن يجذبه أو يجره إلى خارجها من يده، وليس له أن يحرق أدوات الملاهي ما دام يستطيع أن يكسرها ويعطلها عن العمل، وحد الكسر أن تتكلف من النفقات في إصلاحها ما يساوي ثمن مثلها. وليس له أن يكسر أواني الخمر إذا استطاع أن يريق الخمر دون كسر الأواني. والأصل فيما سبق أن تغيير المنكر لا يقصد به إلا دفع المنكر ولا يقصد منه عقوبة فاعل المنكر ولا زجر غيره، والزجر إنما يكون عن المستقبل والعقوبة تكون على الماضي، والدفع على الحاضر الراهن، وليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع وهو إعدام المنكر وإزالته، فما زاد على قدر الإعدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر عن لاحق، وذلك إلى السلطات العامة وليس للأفراد. التهديد بالضرب والقتل: وينبغي أن يسبق الضرب كلما أمكن تقديمه عليه، ويشترط في التهديد أن لا يهدد الدافع بوعيد لا يجوز له تحقيقه كقوله: لأنهبن دارك، أو لأضربن ولدك، أو لأسبين زوجتك، بل ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام، وإن قاله عن غير عزم فهو كذب، وإنما يجوز له أن يهدد بما يجوز له تحقيقه في سبيل دفع المنكر كقوله: لأجلدنك، لأكسرن رأسك، لأضربن رقبتك، وما أشبه، وله أن يتوعده بأكثر مما في عزمه الباطن إذا علم أن ذلك يردعه عن المنكر. الضرب والقتل: ويجوز عند الضرورة أن يباشر دافع المنكر ضرب فاعل المنكر لكفه عنه، ويشترط أن لا يندفع المنكر بغير الضرب، وأن لا يزيد الضرب عن الحاجة في الدفع، فإذا اندفع المنكر بصفعة أو ضربة فليس للدافع أن يصفع أو يضرب مرة أخرى. وإذا لم يندفع المنكر إلا بالجرح وإشهار السلاح فللدافع أن يشهر السلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 وأن يجرح، كما لو قبض فاسق على امرأة وبينه وبين الدافع نهر حائل أو جدار مانع فيأخذ بندقيته ويقول له: خل عنها أو لأرمينك، فإن لم يخل عنها فله أن يرميه، وينبغي أن لا يقصد المقتل بل الساق والفخذ وما أشبه، وله أن يسل سيفه ويقول له: اترك هذا المنكر أو لأضربنك، فكل ذلك دفع للمنكر ودفعه واجب بكل ممكن، ولا فرق في ذلك بين ما يتعلق بحدود الله كالزنا وقطع الطريق وبين ما يتعلق بحقوق الأفراد كالضرب والجرح والغضب. وإذا كان فاعل المنكر لا يمتنع عن المنكر إلا بقتال قد يؤدي إلى قتله كان على دافع المنكر أن يقاتله ولو كان المنكر الذي يراد منعه أقل درجة من القتل، فلو قصد إنسان أن يقطع طرف نفسه وكان لا يمتنع عن ذلك إلا بقتال ربما أدى لقتله وجب منعه عن القطع وقتاله عليه؛ لأن الغرض ليس حفظ نفسه وطرفه بل الغرض حسم سبيل المنكر والمعصية، وقتله في دفع المنكر ليس معصية وقطع طرف نفسه معصية، وذلك مثل دفع الصائل على المال بما يقتله فإنه جائز لا على معنى افتداء درهم من المال بروح شخص وإنما هو جائز بقصد دفع المعاصي، وقصد الصائل لأخذ المال معصية وقتله دفعاً للمعصية ليس في ذاته معصية (1) . الاستعانة بالغير: وإذا عجز الدافع عن دفع المنكر بنفسه واحتاج إلى أعوان يعينونه على دفعه بقوتهم وأسلحتهم، فقد رأى بعض الفقهاء أن الأفراد ليس لهم أن يدفعوا المنكر بهذه الوسيلة وليس لهم مباشرتها؛ لأنها تؤدي إلى تحريك الفتن وإختلال الأمن والنظام؛ لأن الفاسق قد يستعد أيضاً بأعوانه فيؤدي ذلك إلى القتال؛ وإنما للأفراد أن يباشروا هذه الوسيلة إذا أذن لهم الإمام بمباشرتها، وهو لا يأذن إلا لمن أقامه من قبله للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ورأى البعض الآخر أن للأفراد مباشرة هذه الوسيلة دون حاجة لإذن   (1) إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج7 ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 الإمام؛ لأنه إذا جاز للأفراد استعمال الوسائل الأخرى فقد جاز لهم أن يستعملوا الوسيلة الأخيرة؛ لأنه ما من وسيلة غيرها إلا وقد يؤدي استعمالها إلى التضارب، والتضارب يدعو بالطبيعة إلى التعاون، فلا ينبغي إذن أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا كان انتهاء الأمر إلى الفتنة من النوادر والنادر لا حكم له فإنه يضاف إلى ذلك أنه ليس في الشريعة ما يمنع من القول بأن كل من قدر على دفع منكر فعليه أن يدفعه بيده وسلاحه وبنفسه وأعوانه. 346 - هل يجوز استعمال الوسائل السابقة في حق الكافة؟: يجوز استعمال الوسائل التي سلف ذكرها في حق الكافة عدا الوالدين والزوج والحاكم. فأما الوالدين فليس للولد عليهما إلا التعريف ثم النهي بالوعظ والنصح، وليس له أن يعنفهما أو يهددهما أو يضربهما، ولكن له على رأي أن يغير ما يأتيان من المنكر بحيث لا يمس شخصيهما، كأن يريق خمرهما أو يرد ما يجد في بيتهما من مال مغصوب أو مسروق لأصحابه. وعلة استثناء الأبوين من الحكم العام أن الله تعالى نهى عن التأفف منهما وإيذائهما فقال: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] ، وقد ورد في حق الأبوين ما يوجب الاستثناء من العموم إذ لا خلاف في أن الأب لا يقاد بولده، وأن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حداً وليس له أن يباشر إقامة الحد عليه، فإذا لم يجز للابن إيذاء الأب بعقوبة هي حق على جناية سابقة فلا يجوز إيذاءه بما هو منع عن جناية مستقبلة متوقعة. وأما الزوجة فحكمها مع الزوج حكم الولد مع أبويه لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لو جاز السجود لمخلوق لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، وهذا يقتضي منع المرأة من إيذاء الزوج. وأما الرعية مع الحاكم أو السلطان أو الإمام فليس للرعية عليه إلا التعريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 والنهي بالموعظة والنصح، أما التغيير باليد فالرأي الراجح أنه غير جائز؛ لأنه يفضي إلى خرق هيبته وإسقاط حرمته وذلك محظور؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية، وليأخذ بيده فليخل به، فإن قبلها قبلها، وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له"، ولقوله أيضاً: "من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله في الأرض". 347 - حكم التجاوز في دفع المنكر: إذا استعمل المدافع في النهي عن المنكر أو تغييره وسيلة تزيد عما يقتضيه الحال فهو مسئول عن هذه الزيادة، وكذلك إذا تعدى الحدود المقررة لوسيلة من الوسائل، فإذا عنف فاعل منكر فقذفه فهو مسئول عن القذف؛ لأن القذف لا يدخل في التعنيف، وإذا كان المنكر يندفع بالتعنيف أو التهديد فضرب فاعل المنكر أو جرحه فهو مسئول عن الضرب والجرح، وإذا اندفع المنكر بضربة واحدة أو جرح واحد فضربة ضربة ثانية أو جرحه جرحاً ثانياً فهو مسئول عما فعل بعد اندفاع المنكر. وإذا كان المنكر يندفع بتغييره باليد فليس له أن يتعدى الحدود المقررة للتغيير، فإذا كان المنكر شرب الخمر أو إحرازها فإن تغيير المنكر يكفي فيه إراقة الخمر، فإذا أتلف الموائد المنصوبة في محل الخمار أو الأبواب أو الأمتعة أو أحرقها فهو مسئول عن ذلك. ولا محل للنهي عن المنكر أو تغييره قبل مباشرة المنكر أو بعد مباشرته؛ لأن مباشرة المنكر هي التي تحل النهي عنه أو تغييره دفعاً للمنكر، فإذا لم يقع المنكر فلا يمكن اعتبار ما يقع على قاصد فعل المنكر دفعاً وإنما هو اعتداء، وإذا انتهى فاعل المنكر من فعله فما يقع عليه من أفعال أو ما يوجه إليه من أقوال بسبب فعل المنكر لا يعتبر دفعاً للمنكر وإنما اعتداء على فاعله. والأصل أن ما يدفع به المنكر مباح ولا يعتبر جريمة ما دام لم يتعد الحدود المقررة لدفع المنكر، لكن إذا تعدت أفعال دفع المنكر إلى الغير وأصابته خطأ اعتبر الفعل بالنسبة للغير خطأ ولو أنه صدر من فاعله متعمداً إياه؛ لأن الفعل المباح ضد فاعل المنكر محرم ضد غيره، فالتعمد لا عبرة به؛ لأنه تعمد فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 مباح والقاعدة أن من تعمد فعلاً مباحاً فأخطأ في فعله يسأل عن نتيجة الخطأ باعتباره مخطئاً لا عامداً. 348 - هل لفاعل المنكر حق الدفاع؟: ليس لفاعل المنكر أن يتعدى على من يدفع المنكر بحجة أنه يدفع عن نفسه أو ماله طالما أن دافع المنكر لم يتجاوز حدود دفع المنكر، فإذا تعدى هذه الحدود كان عمله اعتداء وكان لفاعل المنكر أن يدفع هذا الاعتداء. 349 - الفرق بين الدفاع الشرعي العام والدفاع الشرعي الخاص: إذا قارنا الدفاع الشرعي العام بالدفاع الشرعي الخاص تبين لنا أن الأسس التي يقوم عليها كل منهما واحدة، وأن أحكامهما واحدة وأنهما لا يكادان يختلفان إلا في بعض التفاصيل. والواقع أن الدفاع الشرعي الخاص لا يختلف عن الدفاع الشرعي العام من هذه الناحية، ولكنهم يفرقون بينهما من ناحية الموضوع، فموضوع الدفاع الشرعي الخاص هو كل صيال - أي هجوم أو اعتداء - يمس سلامة الإنسان أو يمس ماله أو عرضه، ويسمى هذا النوع من الدفاع بدفع الصائل، وموضوع الدفاع الشرعي العام هو ما عدا ذلك مما يمس حقوق الجماعة وأمنها ونظامها، ويسمى هذا النوع من الدفاع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد يقال أن هذه التفرقة الموضوعية تفرقة اسمية، لأن أكثر ما يدفع فيه الفاعل باعتباره صائلاً يمكن دفع الفعل فيه باعتباره منكراً، ولكن هذا القول غير صحيح، لأن ما يدفع فيه الفعل باعتباره منكراً لا يدفع فيه الفاعل باعتباره صائلاً، فدفع الصائل لا يكون إلا إذا وجد صيال - أي هجوم أو اعتداء - على الإنسان أو ماله أو عرضه، أما دفع المنكر فيكون كلما انعدم الصيال أو الهجوم أو الاعتداء، فمثلاً إذا هجم رجلاً على امرأة يريد اغتصابها فإنه يدفع عنها باعتباره صائلاً، فهنا دفاع شرعي خاص، أما إذا أتاها برضاها ففعلهما يدفع باعتباره منكراً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 فهنا دفاع شرعي عام. ومن يحاول قتل غيره يدفع عنه باعتباره صائلاً، ويكون الدافع في حالة دفاع شرعي خاص، أما من يحاول الانتحار فيدفع فعله باعتباره منكراً ويكون الدافع في حالة نهي عن المنكر أو تغييره، ومن يحرق مال غيره أو يتلفه يدفع باعتباره صائلاً، ولكن من يحرق ماله أو يتلف مال الغير برضاه يدفع باعتباره فاعلاً لمنكر، فالصيال - أي الهجوم أو الاعتداء - هو ما يميز الدفاع الشرعي الخاص عن الدفاع الشرعي العام. 350 - بين الشريعة والقانون: تمتاز الشريعة الإسلامية من يوم وجودها بما جاءت به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي ميزة لم تعرفها القوانين الوضعية قديماً، ولكنها بدأت تعرفها وتأخذ بها في نطاق ضيق ابتداء من القرن الماضي، ولقد أوجبت الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتجعل من كل إنسان رقيباً على غيره من الأفراد والحكام، ولتحمل الناس على التناصح والتعاون وعلى الابتعاد عن المعاصي والتناهي عن المنكرات، ولقد ترتب على إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن أصبح الأفراد ملزمين بأن يوجه بعضهم بعضاً، وأن يوجهوا الحكام ويقوموا عوجهم وينتقدوا تصرفاتهم، والتوجيه أساسه الأمر بالمعروف والتقويم والنقد أساسه النهي عن المنكر. ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا حق الفهم وسلموا به تسليماً، فهذا أبو بكر يصعد المنبر بعد مبايعته فيقول: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم"، وهذا عمر يقول بعد توليته الخلافة: "من رأى في اعوجاجاً فليقومه"، وترتب على إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن أصبح الأفراد ملزمين بالتعاون على إقرار النظام وحفظ الأمن ومحاربة الإجرام، وأن يقيموا من أنفسهم حماة لمنع الجرائم والمعاصي وحماية الأخلاق، وكان في هذا كله الضمان الكافي لحماية الجماعة من الإجرام، وحماية أخلاقها من الانحلال، وحماية وحدتها من التفكك، وحماية نظامها من الآراء الطائشة والمذاهب الهدامة، بل كان فيه الضمان الكافي للقضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 على المفاسد في مكمنها وقبل ظهورها وانتشارها. ولم تعرف القوانين الوضعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ابتداء من القرن الماضي، حيث بدأت تعترف للأفراد بحق النقد وحق التوجيه، وتعترف للأفراد بالقبض على المجرم في حالة التلبس وتسليمه إلى الجهات المختصة، وتعطي في بعض الحالات للأفراد الحق في منع الجاني بالقوة من ارتكاب الجريمة إذا كانت ماسة بمصالح الجماعة كقلب نظام الحكم وتخريب المنشآت العامة، ولكن القوانين الوضعية مع هذا لم تأخذ بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إطلاقه، وإنما قصرت تطبيقه على حالات معينة، بخلاف الشريعة التي تطبقه في كل الحالات وفي جميع الجرائم. الفرع الثاني التأديب 351 - (أولاً) : تأديب الزوجة: من حق الزوج في الشريعة الإسلامية أن يؤدب زوجته إذا لم تطعه فيما أوجبه الله عليها من طاعته كأن تثاقل عليه إذا دعاها أو تخرج من منزله بغير إذنه، وأساس هذا الحق قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} [النساء: 34] ، وقوله: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] ، والنشوز هو معصية الزوج مأخوذ من النشز؛ أي الارتفاع، فكأنها ارتفعت وتعالت عما أوجب الله عليها من الطاعة. 352 - ما يؤدب فيه: من المتفق عليه أن للزوج أن يؤدب زوجته بصفة عامة على المعاصي التي لا حد فيها، كمقابلة غير المحارم، وترك الزينة، والخروج دون إذن، وعصيان أوامر الزوج وتبذير ماله. والرأي الراجح أن له تعزيرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 على ترك فرائض الله إذا كانت مسلمة كترك الصلاة والصوم (1) . ومن المتفق عليه أن الزوجة لا تضرب لخوف النشوز قبل إظهاره، وإنما تضرب لإظهار النشوز فعلاً (2) . 353 - هل يجوز التأديب لأول معصية؟: يرى مالك وأبو حنيفة أن الضرب لا يكون لأول معصية، وإنما يكون لتكرر المعصية والإصرار عليها، فإذا عصت أول مرة وعظها بالرفق واللين، وإن عادت كان له أن يهجرها، فإن عادت كان له أن يضربها، وحجة أصحاب هذا الرأي أن الواو وردت للترتيب في قوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] ، وأن المقصود من التأديب هو الزجر عن المعصية في المستقبل وما هذا سبيله يبدأ فيه بالأسهل فالأسهل (3) ، وهذا يتفق مع الرأي المرجوح في مذهبي الشافعي وأحمد. ويترتب على الأخذ بهذا الرأي أن يعاقب من يضرب زوجته لأول معصية أو لثاني معصية، أما من يضربها للثالثة فلا عقوبة عليه؛ لأنه استعمل حقه في حدوده المقررة، ويعاقب أيضاً من يضرب زوجته للمعصية الثالثة إذا لم يكن وعظها أو هجرها قبل ذلك، فعلى الضارب ليعفي من العقوبة أن يثبت أنها عصت قبل الضرب مرتين وأنه وعظها في أولاهما وهجرها في الثانية. والرأي الراجح في مذهبي الشافعي وأحمد أن من حق الزوج ضرب الزوجة سواء تكررت المعصية أو لم تتكرر، وسواء سبق الضرب وعظ وهجر أو لم يسبق الضرب شئ من ذلك، وحجة أصحاب هذا الرأي أن عقوبات المعاصي   (1) البحر الرائق ج5 ص53، أسني المطالب ج4 ص162، إحياء علوم الدين المجلد الثاني ج4 ص146، الشرح الكبير ج8 ص169. (2) الشرح الكبير ج9 ص168. (3) مواهب الجليل ج4 ص15، 16، مقدمات ابن رشد ج2 ص104، بدائع الصنائع ج2 ص334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 لا تختلف بالتكرار، وأن الواو في قوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} جاءت لمطلق الجمع وليست للترتيب (1) . ويترتب على هذا الرأي أن من ضرب زوجته لأول معصية لا يعاقب على ضربها؛ لأنه استعمل حقه في حدوده المقررة. 354 - هل يسأل الزوج عن سبب الضرب؟: يرى أحمد أن لا يسأل الزوج عن سبب الضرب؛ لأن الرجل قد يضرب الزوجة لأجل الفراش فإن أخبر بذلك استحيا وإن أخبر بغيره كذب، ويستند في هذا المبدأ إلى ما روى الأشعث عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا أشعث احفظ عني شيئاً سمعته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسألن رجلاً فيما ضرب امرأته". وهذا الحديث يوجب الأخذ بقول الزوج أنه ضربها للتأديب، ويمنع البحث عن سبب الضرب ما لم تدعي هي أنه ضربها لغير التأديب فحينئذ يجب على الزوج أن يثبت سبب الضرب. ولا يتوقف تأديب الزوجة على سن معينة فللزوج أن يؤدبها مهما بلغت من العمر على خلاف الصغار، فإن حق تأديبهم ينتهي بالبلوغ. 355 - حد الضرب: وليس للزوج أن يضرب زوجته أي ضرب شاء، فحقه مقيد بضربها ضرباً غير مبرح لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح". والضرب غير المبرح هو الضرب غير الشديد، وقد فسره البعض بأنه الضرب الذي يؤلمها ولا يكسر لها عظماً ولا يدمي لها جسماً، وقال البعض أنه الضرب الذي لا يسود الجلد ولا ينهر الدم وأن يكون مما يعتبر مثله تأديباً. وعرفه البعض بأنه ما كان غير مدم ولا مدمن. وقال البعض انه الضرب الذي لا يترك أثراً. وكل هذه التفسيرات على اختلاف عباراتها تؤدي معنى واحداً.   (1) المهذب ج2 ص74، أسني المطالب ج3 ص239، المغني ج8 ص162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 ويشترط في ضرب التأديب أن لا يكون على الوجه ولا على المواضع المخوفة كالبطن (1) . ويشترط في الضرب أن يكون بقصد التأديب وأن لا يسرف فيه وأن يكون مما يعتبر مثله تأديباً، فإن كان كذلك فلا مسئولية على الزوج؛ لأن الفعل حقه فهو مباح له، ويراعى الوسط في الضرب فما يعتبر تأديباً في وسط قد لا يعتبر تأديباً في وسط آخر، وما يخرج عن حدود التأديب في وسط قد لا يصل حد التأديب في وسط آخر. ويصح أن يكون التأديب باليد وبالسوط وبالعصا. ويشترط إذا كان التأديب عن أمر تعاقب عليه السلطات العامة أن لا يبلغ لهذه السلطات، وأن لا تكون الدعوى العمومية قد رفعت ضد الزوجة بشأن هذا الأمر، فإن حدث شئ من هذا فليس للزوج أن يؤدب الزوجة (2) ، وتعليل هذا أن السلطات العامة هي المختصة أصلاً بالعقاب، فإذا عرض الأمر عليها سقط حق الزوج في التأديب؛ لأنه حق اعطى له استثناء حتى لا يؤدي تدخل السلطات العامة في كل أمر إلى إساءة العلاقة بين الزوجين، فإذا سرقت الزوجة مثلاً من جارتها أو سبتها ولم تر الجارة أن تلجأ للسلطات العامة كان للزوج أن يؤدب زوجته على ما حدث منها، أما إذا لجأت الجارة إلى السلطات العامة لم يكن للزوج أن يؤدب الزوجة إلا إذا كان هناك ما يمس حقوقه عليها، كأن يكون قد نهاها عن سب جارتها أو نهاها عن الخروج من المنزل، فإن مخالفتها عصيان له واعتداء على حقه فيجوز له أن يؤدبها على هذا فقط، لا على السرقة أو السب. وليس للزوج أن يؤدب الزوجة إذا اعتقد أو غلب على ظنه أن التأديب لا فائدة منه، وليس له أن يخرج عن حدود التأديب إذا اعتقد أو غلب على   (1) المغني ج8 ص163.. (2) مواهب الجليل ج4 ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 ظنه أن إصلاحها لا يكون إلا بالضرب الشديد، ويعتبر عمل الزوج في الحالين اعتداء لا تأديباً (1) . 356 - حكم السراية: وإذا ضرب الزوج زوجته بقصد التأديب فتلفت من الضرب أو أصيبت بعاهة فمن رأي مالك وأحمد أن الزوج لا يضمن الزوجة إذا تلفت من التأديب المشروع على أن يكون الضرب مما يعتبر مثله أدباً، فإن كان الضرب شديداً بحيث لا يكون مثله أدباً للزوجة ففيه الضمان (2) . أما أبو حنيفة والشافعي فيريان أن الزوج يضمن تلف زوجته سواء كان الضرب مما يعتبر تأديباً أو كان أشد من ذلك، وحجة أبي حنيفة أن التأديب فعل يبقى المؤدب بعده حياً، فإذا أدى الضرب إلى تلف المضروب أو إلى تلف أحد أعضائه، فقد وقع قتلاً أو قطعاً أو تأديباً، وحجة الشافعي أن التأديب ليس واجباً على الزوج وإنما هو حقه ومتروك لاجتهاده، فيتحمل نتيجة اجتهاده. والمتأخرون من فقهاء مذهبي أبي حنيفة والشافعي يحتجون في تحميل الزوج نتيجة الفعل بأن التأديب ليس واجباً عليه، وإنما هو حق له واستعمال الحق مقيد بشرط السلامة، وبأن حق الزوج في التأديب متمحض لنفعه الشخصي وله أن يستعمله أو يتركه (3) . وحجة مالك وأحمد أن استعمال الحق في حدوده عمل مباح ولا مسئولية على عمل مباح. 357 - المسئولية على التأديب: ويتبين من الرأيين السابقين أن الزوج لا يسأل جنائياً ولا مدنياً عن التأديب ما دام في حدوده المشروعة؛ لأنه   (1) مواهب الجليل ج4 ص16، أسنى المطالب ج3 ص239. (2) المغني ج10 ص349. (3) المغني ج10 ص349، حاشية الطهطاوي ج4 ص275، الأم ج6 ص131ووما بعدها.166 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 يستعمل حقاً أباحه له الشارع. أما إذا تعدى الزوج حدود التأديب المشروع فهو مسئول جنائياً ومدنياً عن فعله. والخلاف الذي عرضناه بين الفقهاء هو على الحالة التي لا يخرج فيها التأديب عن حدوده المقررة ولكنه يؤدي إلى الموت أو إلى تلف عضو. 358 - (ثانياً) : تأديب الصغار: للأب الحق في تأديب أولاده الصغار الذين دون البلوغ، وللمعلم أياً كان مدرساً أو معلم حرفة تأديب الصغير، وللجد وللوصي تأديب من تحت ولايتهما، وللأم حق التأديب على رأي إذا كانت وصية على الصغير أو كانت تكفله ولها هذا الحق في غيبة الأب، وفيما عدا هذه الأحوال فليس لها حق التأديب على الرأي الراجح (1) . 359 - شروط تأديب الصغار: ويشترط في تأديب الصغار ما يشترط في تأديب الزوجة؛ فيجب أن يكون التأديب لذنب فعله الصغير لا لذنب يخشى أن يفعله، وأن يكون الضرب غير مبرح متفقاً مع حالة الصغير وسنه، وأن لا يكون على الوجه والمواضع المخوفة كالبطن والمذاكير، وأن يكون بقصد التأديب، وأن لا يسرف فيه، وأن يكون مما يعتبر مثله تأديباً للصغير، فإذا كان الضرب في هذه الحدود فلا مسئولية علي الضارب؛ لأن الفعل مباح له. 360 - حكم السراية: وإذا أدى الضرب إلى تلف الصغير أو تلف أحد أعضائه فمالك وأحمد يريان أن المؤدب لا يضمن ما دام الضرب مما يعتبر مثله أدباً، وما دام التأديب في حدوده المشروعة، فإن كان الضرب شديداً بحيث لا يعتبر مثله أدباً فالمؤدب مسئول عنه جنائياً (2) . ويرى الشافعي أن المؤدب ضامن تلف الصغير وتلف أطرافه في أى حال؛   (1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص11، حاشية الطهطاوي ج5 ص275. (2) المغني ج10 ص349، 350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 لأن التأديب حقه وليس واجباً عليه، فله أن يتركه وله أن يفعله فإن فعله فهو مسئول عنه (1) . ورأي أبي حنيفة الشخصي أن الأب والجد والموصي يضمنون تلف الصغير أو تلف أطرافه كما يضمن الزوج زوجته، ولكن هذا الرأي غير معمول به في المذهب بل إن بعض الفقهاء يرى أن أبا حنيفه عدل عنه، والرأي المعمول به في المذهب هو رأي أبي يوسف ومحمد وهما يريان أن الأب والجد والوصي مأذونون في الفعل ولا مسئولية عما تولد عن فعل مأذون فيه. أما المعلم والمدرس فيفرق أبو حنيفة وأصحابه بين ما إذا كان الضرب بغير إذن الأب أو الوصي، وفي هذه الحالة يكون الضارب مسئولاً جنائياً؛ لأنه متعد في الضرب حيث ضرب من لم يؤذن له في ضربه، فأما إذا كان الضرب بإذن الأب أو الوصي فلا مسئولية للضرورة؛ لأن المعلم إذا علم أنه يلزمه الضمان بالسراية يمتنع عن التعليم والناس في حاجة إليه فأسقطوا اعتبار السراية في حقه لهذه الضرورة، فمذهب أبي حنيفة وأصحابه في تأديب الصغار يتفق مع مذهبي مالك وأحمد (2) في النتيجة. ويفرق بعض الحنفية بين ضرب التأديب وضرب التعليم، ويرون أن ضرب التأديب حق وأن ضرب التعليم واجب، والأول مقيد بشرط السلامة والثاني غير مقيد، والتفرقة مقصورة على الضرب المعتاد في الكم والكيف والمحل، أما غير المعتاد فموجب للضمان في الكل؛ أي في ضرب التأديب وضرب التعليم (3) . ونستطيع أن نميز على ضوء هذه التفرقة بين ضرب الزوج وغيره، فضرب الزوج للتأديب دائماً، أما ضرب الأب والجد والولي والوصي والمعلم فقد يقصد به التعليم وقد يقصد به التأديب، ولكن معنى التأديب يختلط بمعنى التعليم في حالة   (1) الأم ج6 ص166 وما بعدها. (2) بدائع الصنائع ج8 ص305، حاشية الطهطاوي ج4 ص275. (3) حاشبة الطهطاوي ج4 ص275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 الصغير؛ لأن كل تأديب له يقصد منه تعليمه أكثر مما يقصد منه زجره. 361 - الفروق بين المذاهب: يختلف مذهب مالك والشافعي وأحمد عن مذهب أبي حنيفة في أنهم يعتبرون التأديب بصفة عامة حقاً لا واجباً. أما في مذهب أبي حنيفة فيعتبرون تأديب الصغار واجباً بصفة عامة، أو واجباً على الأقل في حالة ما إذا قصد به التعليم. ويختلف مذهب الشافعي عن مذهبي مالك وأحمد في أن الشافعي يقيد استعمال الحق بشرط السلامة، أما مالك وأحمد فلا يقيدان الحق بشرط ما دام الفعل قد وقع في حدود الحق، ولذلك فمذهبهما في نتيجته يتفق مع مذهب أبي حنيفة في نتيجته ولو أن التأديب في المذهب الأخير واجب لا حق. * * * الفرع الثالث التطبيب 362 - إباحة التطبيب: من المتفق عليه في الشريعة أن تعلم فن الطب فرض من فروض الكفاية، وأنه واجب حتماً على كل شخص لا يسقط عنه إلا إذا قام به غيره، وقد اعتبر تعلم الطب فرضاً لحاجة الجماعة للتطبيب، ولأنه ضرورة اجتماعية، وإذا كان الغرض من تعلم الطب هي التطبيب وكان تعلم الطب واجباً فيترتب على هذا أن يكون التطبيب واجباً على الطبيب لا مفر له من أدائه، على أن التطبيب يعتبر واجباً كفائياً كلما أكثر من طبيب في بلدة واحدة، فإذا لم يوجد إلا واحد فالتطبيب فرض عين عليه؛ أي أنه واجب غير قابل للسقوط. والنتيجة البديهية لاعتبار التطبيب واجباً أن لا يكون الطبيب مسئولاً عما يؤدي إليه عمله قياماً بواجب التطبيب؛ لأن القاعدة أن الواجب لا يقيد بشرط السلامة، لكن لما كانت طريقة أداء هذا الواجب متروكة لاختيار الطبيب وحده ولاجتهاده العلمي والعملي، فقد دعا ذلك إلى البحث فيما إذا كان يسأل جنائياً عن نتائج عمله إذا أدى إلى نتائج ضارة بالمريض باعتبار أنه حين يؤدي واجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 التطبيب أشبه بصاحب الحق منه بمؤدي الواجب لما له من السلطان الواسع وحرية الاختيار في الطريقة والكيفية التي يؤدي بها عمله. وقد اجتمع الفقهاء على عدم مسئولية الطبيب إذا أدى عمله إلى نتائج ضارة بالمريض، ولكنهم اختلفوا في تعليل رفع المسئولية، فأبو حنيفة يرى أن المسئولية ترتفع لسببين: أولهما الضرورة الاجتماعية إذ الحاجة ماسة إلى عمل الطبيب وهذا يقتضي تشجيعه وإباحة العمل له ورفع المسئولية عنه حتى لا يحمله الخوف من المسئولية الجنائية أو المدنية على عدم مباشرة فنه، وفي هذا ضرر عظيم بالجماعة. ثانيهما: إذن المجني عليه أو وليه، فاجتماع الإذن مع الضرورة الاجتماعية أدى لرفع المسئولية (1) . ويرى الشافعي أن علة رفع المسئولية عن الطبيب أنه يأتي فعله بإذن المجني عليه وأنه يقصد صلاح المفعول ولا يقصد الإضرار به، فإذا اجتمع هذان الشرطان كان العمل مباحاً للطبيب وانتفت مسئوليته عن العمل إذا كان ما فعله موافقاً لما يقول به أهل العلم بصناعة الطب (2) . ويتفق رأي أحمد مع رأي الشافعي (3) . أما مالك فيرى أن سبب رفع المسئولية هو إذن الحاكم أولاً وإذن المريض ثانياً، فإذن الحاكم يبيح للطبيب الاشتغال بالتطبيب، وإذن المريض يبيح للطبيب أن يفعل بالمريض ما يرى في صلاحه، فإذا اجتمع هذان الإذنان فلا مسئولية على الطبيب ما لم يخالف أصول الفن أو يخطئ في فعله (4) . وعلى هذا فالطبيب غير مسئول عن عمله؛ لأن من واجبه أن يؤديه، ولا يسأل عن نتائج عمله ولو أن له حرية كاملة في اختيار هذا العمل وفي اختيار الطريقة التي   (1) بدائع الصنائع ج7 ص305. (2) نهاية المجتاج ج8 ص2. (3) المغني ج10 ص349، 350. (4) مواهب الجليل ج6 ص321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 يؤدي بها هذا العمل، ولو جرح الطبيب شخصاً فمات، أو أعطاه دواء فأحدث له تسمماً أدى إلى موته، فلا مسئولية على الطبيب من الناحية الجنائية والمدنية. 363 - حسن النية: والمفروض في الطبيب أنه يؤدي عمله بقصد نفع المريض وبحسن نية، فإذا قصد قتل المريض أو كان سيئ النية في عمله فهو مسئول عن فعله جنائياً ومدنياً، ولو لم يؤد فعله إلى الوفاة أو إحداث عاهة، بل ولو أدى فعله إلى إصلاح المريض؛ لأن فعل الطبيب في هذه الحالة يقع فعلاً محرماً معاقباً عليه. 364 - خطأ الطبيب: إذا اخطأ الطبيب في عمله فإنه لا يسأل عن خطئه إلا إذا كان خطأ فاحشاً، والخطأ الفاحش هو ما لا تقره أصول فن الطب ولا يقره أهل العمل بفن الطب، ويضرب الفقهاء مثلاً على الخطأ غير الفاحش قصة صبية سقطت من سطح فانتفخ رأسها فقال كثير من الجراحين إن شققتم رأسها تموت، وقال واحد منهم إن لم تشقوه اليوم تموت وأنا أشقه وأبريها، فشقه فماتت بعد يوم أو يومين، ولما سؤل في ذلك أحد الفقهاء المشهورين أفتى بأنه ما دام الشق بإذن وما دام الشق معتاداً ولم يكن فاحشاً خارج الرسم؛ أي لم يكن هناك خروج فاحش على القواعد الفنية المرسومة لهذا الشق، فإن الطبيب لا يضمن؛ أي لا يسأل جنائياً ولا مدنياً، فقيل له: فإن قال الطبيب إن ماتت فأنا ضامن هل يضمن؟ فقال: إنه لا يضمن؛ أن ضمان الطبيب يترتب على خطئه الفاحش لا على تعهده بنجاح العملية (1) . 365 - إذن المريض: ويشترط لرفع المسئولية عن الطبيب أن يأتي الفعل بإذن المريض أو بإذن وليه أو وصيه، فإن لم يكن للمريض ولي أو وصي   (1) حاشية الطهطاوي ج4 ص276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وجب إذن الحاكم باعتباره ولي من لا ولي له، وإذن الحاكم في إجراء جراحة لمريض لا ولي له يختلف عن إذن الحاكم للطبيب في مباشرة التطبيب بصفة عامة. 366 - إذن ولي الأمر: وليس في الشريعة ما يمنع ولي الأمر من أن يشترط في الطبيب أن يكون على درجة معينة من العلم، وأن تتوفر فيه مؤهلات خاصة، وأن لا يباشر التطبيب إلا إذا رخص له ولي الأمر بمباشرته، وقد جعل مالك إذن الحاكم في التطبيب شرطاً في انتفاء المسئولية عن الطبيب كما قدمنا. ومن تطبب وهو غير طبيب كان مسئولاً عن عمله لقوله عليه الصلاة والسلام: "من تطبب ولم يعرف الطب فهو ضامن". فإن قصد العدوان والإضرار فهو متعمد، وإن لم يقصد الإضرار بالمريض ولا العدوان فهو مخطئ على رأي ومتعمد على رأي (1) ، والرأي الأول هو الراجح. 367 - شروط عدم المسئولية: يستنتج مما سبق أنه يشترط لعدم المسئولية عن التطبيب الشروط الآتية: 1 - أن يكون الفاعل طبيباً. 2 - أن يأتي الفعل بقصد العلاج وبحسن نية. 3 - أن يعمل طبقاً للأصول الطبية. 4 - أن يأذن له المريض أو من يقوم مقامه كالولي. فإذا توفرت هذه الشروط في التطبيب فلا مسئولية، وإن انعدم أحدها كان الفاعل مسئولاً. 368 - الملحقون بالأطباء: ويلحق بالطبيب البيطار والحجام والخاتن،   (1) شرح الزرقاني علي مختصر خليل ج8 ص116، 117، نهاية المحتاج ج8 ص32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 وحكمهم جميعاً حكم الطبيب من حيث المسئولية، ويشترط في عملهم ما يشترط في عمل الطبيب، فيجب في الختان مثلاً أن يكون الفاعل خاتناً، وأن يأتي الفعل بحسن نية وبقصد الختان، وأن يعمل طبقاً للأصول الفنية، وأن يأذن له المختون أو من يقوم مقامه كالولي. 369 - بين الشريعة والقوانين الوضعية: تتفق القوانين الوضعية مع الشريعة الإسلامية في اعتبار التطبيب عملاً مباحاً كما تتفق مع الشريعة في الشروط التي تمنع من المسئولية، فتستلزم أن يكون الفاعل طبيباً، وأن يأتي الفعل بقصد العلاج وبحسن نية، وأن يعمل طبقاً للأصول الفنية، وأن يأذن له المريض في الفعل. وتعتبر القوانين الوضعية التطبيب حقاً بينما تعتبره الشريعة واجباً، ولا شك أن نظرية الشريعة أفضل؛ لأنها تلزم الطبيب بأن يضع مواهبه في خدمة الجماعة، كما أنها أكثر انسجاماً مع حياتنا الاجتماعية القائمة على التعاون والتكاتف وتسخير كل القوى لخدمة الجماعة. وقد اختلف شراح القوانين ورجال القضاء في تعليل ارتفاع المسئولية عن الطبيب (1) ، فذهب الفقه والقضاء في إنجلترا إلى أن سبب عدم المسئولية هو رضاء المريض بالفعل، وأخذ بهذا الرأي بعض الشراح في ألمانيا وفرنسا، وحكمت به المحاكم في فرنسا ومصر قديما (ً (2) ، وذهب كثير من الشراح الفرنسيين إلى أن سبب ارتفاع المسئولية هو انعدام القصد الجنائي؛ لأن الطبيب يفعل الفعل بقصد شفاء المريض، وقد أخذ القضاء المصري وقتاً ما بهذا الرأي (3) . والرأي   (1) القانون الجنائي لعلي بدوي ص400 وما بعدها، شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص422. (2) نقض في 24 أبريل سنة 1897، القضاء السنة الرابعة ص251. (3) نقض في 18 يناير سنة 1918 المجموعة الرسمية س18 رقم 18 ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 الأخير الذي يسود اليوم في مصر وفرنسا هو أن التطبيب عمل مشروع تبيحه الدولة وتنظمه وتشجع عليه؛ لأن الحياة الاجتماعية تقتضي ذلك. وهذه التعليلات على اختلافها هي نفس التعليلات التي ذكرها الفقهاء الإسلاميون لعدم مسئولية الطبيب إذا أدى عمله إلى نتائج ضارة بالمريض. * * * الفرع الرابع ألعاب الفروسية 370 - الشريعة وألعاب الفروسية: تحتفل الشريعة بألعاب الفروسية وتحض عليها باعتبارها مقوية للأجسام منشطة للعقول، كما أنها مظهر للمهارة ودعوة للشجاعة والفتوة، وتشمل ألعاب الفروسية في الشريعة ما نسميه اليوم بالألعاب الرياضية وألعاب الفروسية والسباق، فكل ذلك يدخل تحت مدلول لفظ الفروسية. وتجيز الشريعة من ألعاب الفروسية كل ما يؤدي إلى التفوق في القوة والمهارة مما ينفع الجماعة وقت السلم أو وقت الحرب، كالمسابقة بالأقدام، وسباق الخيل، وسباق السفن والسيارات والطائرات، وسباق الطير وما أشبه، وكللعب بالشيش والمزاريق والسيوف والعصا، وكالرماية بالنبال والمنجنيق والأسلحة النارية، وكالمصارعة والملاكمة والعلاج (1) - أي رفع الأثقال - وشد الحبل والسباحة وغيرها. وتمتاز الشريعة الإسلامية بأنها جاءت صريحة في الأمر بالفروسية والترغيب فيها وذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي"،   (1) يعبر الفقهاء عن رفع الأثقال بالعلاج، راجع كتاب الفروسية لابن القيم ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 وقوله: "المسلم القوي خير من المسلم الضعيف"، وقوله: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة في الجنة، صانعه يحتسب في صنعه الخير، والرامي به، ومنبله، ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها". ولقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سابق بالأقدام، وثبت عنه أنه سابق بين الأبل، وثبت عنه أنه سابق بين الخيل، وثبت عنه أنه حضر نضال السهام وصار مع إحدى الطائفتين فأمسكت الأخرى وقالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: "ارموا وأنا معكم كلكم"، وثبت أنه صارع ركانه، وثبت عنه أنه طعن بالرمح وركب الخيل مسرجة ومعراة. ولقد حرص أصحاب الرسول على تنفيذ هذه النصوص والعمل بها. من ذلك ما رواه مصعب بن سعد قال: كان سعد يقول: أي بني تعلموا الرماية فإنها خير لعبكم. وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح "أن علموا غلمانكم العوم ومقاتلتكم الرمي"، وكتب إلى عامله بأذربيجان كتاباً جاء فيه: "اخشوشنوا، واخلولقوا (1) ، واقطعوا الركب (2) ، وانزوا على الخيل نزواً، وارتموا الأغراض (3) ") . والأصل في الشريعة الإسلامية أن كل ما ينفع الأمة في دينها أو دنياها من علم أو فن أو صناعة فهو من فروض الكفاية وتعلمه واجب على الأمة ولا خيار لها في الأخذ به أو تركه، وعلى هذا تكون الفروسية بما يدخل تحتها من   (1) اخلولقوا: أي تهيأوا لما يراد منكم وكونوا خلقاء به جديرين بفعله. (2) أمرهم بقطع الركب حتى لا يعتادوا الركوب دائماً بالركاب. (3) ارتماء الأغراض أي رمي الأهداف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 ضروب المهارة والقوة والتفوق فرضاً من فروض الكفاية وواجباً على الأفراد ليس لهم أن يتخلوا عنه. وتجيز الشريعة العوض في الرمي وفي المسابقة تشجيعاً للأفراد على الإقدام عليها والتفوق فيها، وللفقهاء آراء مختلفة فيما يجوز فيه العوض وما لا يجوز فيه (1) . ويرى مالك أن يكون العوض دائماً من بيت المال؛ لأن ألعاب الفروسية تعود منفعتها للجماعة، وهي إعداد عسكري للأفراد. ولكن أبا حنيفة والشافعي وأحمد يجيزون أن يكون العوض من بيت المال، أو من مال غير اللاعبين، أو من مال أحد اللاعبين دون الآخر بحيث إذا تفوق الآخر أذخ العوض وإن لم يتفوق لم يأخذه (2) . 371 - حكم إصابات اللعب: وألعاب الفروسية قد تؤدي إلى إصابات تقع على اللاعبين أو على غيرهم، فإن نشأت هذه الإصابات عن لعبة لا تقوم على استعمال القوة والعنف بين اللاعبين، وليس في ممارستها ما يستلزم استعمال القوة مع الخصم أو يحتم ضربه أو يعرضه للجرح، فمثل هذه الإصابة تحكمها قواعد الشريعة العامة؛ لأنها من ضروريات اللعبة، فإن تعمدها أحد فهو مسئول عنها باعتبارها جريمة عمدية، وإن وقعت نتيجة إهمال أو رعونة فهو مسئول عنها باعتبارها جريمة غير عمدية. أما الألعاب التي تستلزم استعمال القوة مع الخصم كالمصارعة أو تستلزم الضرب كالملاكمة والتحطيب فإن الإصابات الناشئة عنه لا عقاب عليها إذا لم   (1) يرى البعض أن العوض لا يكون إلا في الرمي وفي مسابقة الخيل والإبل، ويراه البعض جائزاً في المسابقة بالأقدام وفي المصارعة والسباحة ورفع الأثقال والمشابكة بالأيدي وفي سباق البغال والحمير والبقر والفيلة. والفريق الأول هم المالكية والحنابلة، والفريق الثاني هم الحنفية والشافعية على خلاف بينهم. (2) مواهب الجليل ج3 ص390 وما بعدها، حاشية ابن عابدين ج6 ص657، مجمع الأنهرج2 ص526، تحفة المحتاج ج4 ص215 وما بعدها، المغني ج11 ص128 وما بعدها، الفروسية ص69 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 يتعد محدثها الحدود المرسومة للعب؛ لأن وجوب ممارسة اللعبة يقتضي بذاته إباحة ما يصحبها عادة من إصابات في الحدود المعروفة، فإذا تعدى اللاعب حدود اللعب وأحدث بزميله إصابة ما، فهي جريمة عمدية إذا تعمدها، وجريمة غير عمدية إذا لم يتعمدها. 372 - بين الشريعة والقانون: هذا هو حكم ألعاب الفروسية في الشريعة الإسلامية أما حكمها في القوانين الوضعية فغير متفق عليه، فبض البلاد يعتبرها أفعالاً مباحة، وبعضها يعتبر ما يحدث عنها من ضربات وإصابات جرائم، وبعض ولايات أمريكا المتحدة تأخذ بالفكرة الأولى، وبعضها يأخذ بالفكرة الثانية، وتقضي المحاكم في بلجيكا بالعقوبة على ما يحدث من إصابات نتيجة ممارسة الألعاب الرياضية، بينما تقضي المحاكم في فرنسا بالبراءة، والسائد في إنجلترا وإيطاليا وألمانيا أن الألعاب الرياضية مشروعة في حدود معينة ولا يترتب عليها أية مسئولية، وفي مصر وفرنسا يرى البعض ارتفاع المسئولية، ويرى البعض المسئولية، والرأي الأول هو الراجح. واختلف شُرَّاح القوانين في سبب ارتفاع المسئولية، فقال البعض إنه انعدام القصد الجنائي، وقال البعض أنه رضاء المجني عليه، وقال البعض الأخير بأن الدولة تعتبر الألعاب مشروعة فتبيحها وتشجع عليها، فمن يمارسها فإنما يمارس حقاً خوله له القانون، وممارسة الحق لا يترتب عليه مسئولية (1) ، وهذا الرأي هو أحدث الآراء وأرجحها، والعمل به يؤدي إلى نفس النتائج التي تؤدي إليها نظرية الشريعة الإسلامية، والفرق الوحيد بين نظرية الشريعة وهذا الرأي أن الشريعة ترى في ألعاب الفروسية واجباً على الأفراد، بينما هي طبقاً لهذا الرأي حق لا واجب.   (1) القانون الجنائي لعلي بدوي ص398، شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص421، 422. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 ونظرية الشريعة أدق منطقاً؛ لأن ألعاب الفروسية ضرورة اجتماعية اقتضتها مصلحة الأفراد والجماعة من الوجهات الصحية والخلقية والحربية والاجتماعية، ولا توجد دولة اليوم إلا وتحض عليها وتشجعها وتلقنها النشء في المدارس كما تلقن العلوم الضرورية، بل إنها أصبحت من العلوم الأولية في المدارس التي تعد رجال البوليس والجيش، وإذا كان لألعاب الفروسية هذه المنزلة في حياة الأمة فمن المنطق أن تعتبر واجباً على الأفراد لا حقاً لهم؛ لأن الواجب هو ما لا يستطيع التخلي عنه، أما الحق فلا حرج على صاحبه أن يأتيه أو يتركه. * * * الفرع الخامس إهدار الأشخاص 373 - معنى الإهدار: الإهدار هو الإباحة، ويقع على نفس الشخص أو على طرفه أو على ماله، فإذا وقع الإهدار على نفس شخص أبيح جرحه أو قطعه أو قتله، وإذا وقع الإهدار على طرف شخص لم يبح من الشخص إلا قطع هذا الطرف، وإذا وقع الإهدار على مال شخص أبيح ماله كإباحة مال الحربي، والمقصود من هذا البحث إهدار الأشخاص لا إهدار الأموال. ونستطيع أن نعرف إهدار الأشخاص أو طرفه، كما نستطيع أن نعرف الشخص المهدر بأنه من أبيحت نفسه أو طرفه. 374 - علة الإهدار: علة الإهدار الوحيدة هي زوال عصمة الشخص، وتزول العصمة إما بزوال سببها، وإما بارتكاب الجرائم المهدرة. زوال العصمة بزوال سببها: القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية أن الدماء والأموال معصومة أي ليست مباحة. وأساس العصمة: إما الإيمان، وإما الأمان. ومعنى الإيمان: الإسلام، ومعنى الأمان: العهد؛ كعهد الذمة وعهد الهدنة وما أسبه. فبالإيمان تعصم دماء المسلمين وأموالهم؛ لقوله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". وبالأمان تعصم دماء غير المسلمين وأموالهم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} [التوبة: 7] ، وقوله: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] ، وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَه ُ} [التوبة: 6] ، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عند شروطهم"، وقوله: "إننا لا يصلح في ديننا الغدر"، وقوله: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه صرف ولا عدل"، وقوله: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فقبل وكف عنهم، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم". والأمان في الشريعة الإسلامية على نوعين: أمان مؤقت، وأمان مؤبد. فالأمان المؤقت ما كان محدوداً بأجل طال هذا الأجل أو قصر، ويقوم هذا النوع من الأمان على معاهدات السلام وعدم الاعتداء، أو على معاهدات الإقامة المعقودة بين دار الإسلام ودار الحرب أي بين الدولة الإسلامية وأي دولة غير إسلامية، ويدخل تحت هذا النوع عقد الهدنة والإذن بالإقامة في دار الإسلام (1) . والأمان المؤبد هو ما ليس له أجل محدود ينتهي به، ولا يكون إلا بعقد   (1) بدائع الصنائع ج7 ص106، أسنى المطالب ج4 ص210، مواهب الجليل ج4 ص360، 364، المغني ج10 ص578. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 الذمة، ولا يتمتع به إلا الذميون الذين يقيمون إقامة كاملة في دار الإسلام وعليهم في مقابل ذلك التزام أحكام الإسلام (1) . والأصل أن الناس في العالم على نوعين: إما مؤمن بالإسلام وإما منكر به. والمنكرون على نوعين: إما مسالم للإسلام وإما محارب له، فالمسالمون للإسلام من كان بينهم وبين دار الإسلام حالة سلم متبادل، أو عقد من عقود السلم، كعقد الهدنة أو الموادعة أو عقد الذمة، وأما المحاربون فهم من كانوا في حالة حرب مع دار الإسلام، ويسمى هؤلاء بالحربيين وكل من عدا الحربيين من سكان العالم دماؤهم وأموالهم معصومة إما بإسلامهم (2) وإما بمسالمتهم، أو بتعبير آخر: إما بإيمانهم وإما بأمانهم. وإذا كان أساس العصمة هو الإيمان والأمان فإن العصمة تزول بزوال الأساس الذي قامت عليه، فالمسلم تزول عصمته بردته وخروجه عن الإسلام، والمستأمن والمعاهد والذمي ومن في حكمهم تزول عصمتهم بانتهاء أمانهم ونقض عهدهم، وإذا زالت عصمتهم أصبحوا بزوالها حربيين حكمهم حكم الحربي الذي لم يكتسب عصمة. وإذا كانت العصمة تعني تحريم الدم والمال فإن زوالها يعني إباحة الدم والمال، وهذا هو الإهدار، ولما كانت العصمة لا تزول إلا عن مرتد أو حربي فمعنى ذلك أن المرتد والحربي مهدران وسبب إهدارهما هو زوال عصمتهما. زوال العصمة بارتكاب الجرائم المهدرة: وكما تزول العصمة بالردة وبانتهاء الأمان ونقد العهد فإنها تزول أيضاً بارتكاب الجرائم المهدرة، والجرائم المهدرة هي الجرائم التي تجب عليها عقوبات مقدرة متلفة للنفس أو الطرف. والجرائم المهدرة هي على وجه الحصر: (1) الزنا من محصن. ... ... ... ... (2) قطع الطريق   (1) المغني ج10 ص567، نهاية المحتاج ج8 ص80، بدائع الصنائع ج7 ص110. (2) راجع الفقرة 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 أو الحرابة. (3) البغي. ... ... ... ... (4) القتل والقطع المتعمدان. (5) السرقة. ويشترط في الجريمة المهدرة شرطان لا يغني أحدهما عن الآخر، أولهما: أن تكون الجريمة ذات عقوبة مقدرة، والعقوبات المقدرة محلها جرائم الحدود وجرائم القصاص فقط، أما جرائم التعازير فعقوباتها غير مقدرة (1) . ثانيهما: أن تكون العقوبة متلفة للنفس أي قتلاً، أو متلفة للطرف أي قطعاً. وإذا تخلف أحد هذين الشرطين لم تكن الجريمة مهدرة، فالسرقة التي لا قطع فيها كسرقة الأب من الابن، والقتل العمد المعاقب عليه بالدية، لا يعتبر أيهما جريمة مهدرة؛ لأن العقوبة فيها غير متلفة ولو أن العقوبة في حالة الدية مقدرة، ومثل ذلك الزنا من غير محصن والقذف وشرب الخمر، فعقوبات هذه الجرائم الثلاث عقوبات مقدرة ولكنها غير متلفة، ومن ثم فهي جرائم غير مهدرة. وكذلك الحكم لو كانت العقوبة متلفة ولكنها غير مقدرة كالقتل تعزيراً. وارتكاب الجرائم المهدرة يزيل العصمة من وقت ارتكاب الجريمة لا من وقت الحكم بالعقوبة؛ لأن أساس زوال العصمة هو ارتكاب الجريمة وليس هو الحكم بالعقوبة، وفضلاً عن ذلك فالعقوبات المقدرة ما هي إلا حدود والقواعد العامة في الشريعة أن الحدود واجبة التنفيذ فوراً ولا تحتمل التأخير أو التهاون كما أنها لا تحتمل العفو أو إيقاف التنفيذ، عدا عقوبة القصاص فيجوز العفو فيها من المجني عليه أو وليه، ومن ثم كانت الحدود عقوبات لازمة محتمة لا محيص عنها، ولم يكن هناك ما يدعو لتعليق زوال العصمة على الحكم بالعقوبة. وإذا كان للمجني عليه أو وليه العفو في عقوبة القصاص فإن ذلك لا يؤثر على القاعدة العامة؛ لأن زوال العصمة في جرائم القصاص نسبي لا عام، فالعصمة تزول بالنسبة للمجني عليه أو وليه فقط ويظل الجاني معصوماً بالنسبة للآخرين،   (1) راجع الفقرتين 51، 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 فإذا عفا المجني عليه أو وليه سقطت العقوبة المتلفة وعاد الجاني معصوماً عصمة تامة كما كان قبل ارتكاب الجريمة. وفيما عدا الجرائم السابقة لا تزول العصمة بارتكاب أية جريمة أخرى ولو كانت عقوبتها القتل ما دامت العقوبة تعزيرية؛ لأن لولي الأمر في الجرائم التي يعاقب عليها بالتعزير حق العفو عن الجرائم وحق العفو عن العقوبة، ومن ثم كانت العقوبة غير لازمة حتماً، وكل عقوبة غير محتمة لا تزيل العصمة ولا تهدر الجاني ولو كانت متلفة حتى بعد صدور الحكم بها؛ لأن من الجائز أن يعفو ولي الأمر عن العقوبة في اللحظة الأخيرة. 375 - المهدرون: ونخرج مما سبق أن المهدرين هم: (1) الحربي. ... ... ... (2) المرتد. ... ... (3) الزاني المحصن. (4) المحارب. ... ... ... (5) الباغي ... ... (6) من عليه القصاص. (7) السارق ولكل واحد من هؤلاء لهم أحكام خاصة، ولهذا سنتكلم عليهم واحداً بعد آخر فيما يأتي: 376 - أولاً: الحربي: هو أصلاً من ينتمي لدولة في حالة حرب مع الدولة الإسلامية، وهو أيضاً من كان معصوماً بأمان أو عهد فانتهى أمانة أو نقض عهده. ومن المتفق عليه أن الحربي مهدر الدم، فإذا قتله شخص أو جرحه فقد قتل أو جرح شخصاً مباح القتل أو الجرح ولا عقاب على فعل مباح، وإنما يعاقب الفاعل في بعض الحالات؛ لأنه أحل نفسه محل السلطة التنفيذية وافتات عليها بإتيانه عملاً مما اختصت نفسها به. ولا عقاب على قتل الحربي إطلاقاً إذا قتل في ميدان الحرب أو قتل دفاعاً عن النفس في غير ميدان الحرب، وفي هذا يتفق حكم الشريعة الإسلامية مع القوانين الوضعية. أما إذا قتل الحربي في غير ميدان الحرب لغير مقتض كأن ضبط في دار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 الإسلام أو استأسر فقتله من ضبطه أو أسره أو قتله غيرهما، فإن القاتل لا يؤاخذ باعتباره قاتلاً؛ لأن الحربي مباح الدم طبقاً للشريعة وضبطه أو أسره لا يعصمه ولا يغير من صفته كحربي، فيبقى دمه مباحاً بعد الضبط أو الأسر، فمن قتله فقد قتل مباح الدم ولا مسئولية على قتل مباح باعتبار فعل القتل، وإنما المسئولية تأتي من كون القاتل اعتدى على السلطة العامة التي يوكل إليها أمر من يضبط أو يؤسر من الحربيين، فمن هذه الوجهة يسأل القاتل ويعاقب لافتياته على السلطة العامة. وقتل الحربي في ميدان الحرب وفي حالة الدفاع عن النفس يعتبر واجباً، وفيما عدا ذلك فهو حق للقاتل وليس واجباً عليه. هذا هو حكم الشريعة الإسلامية، وهو يخالف حكم القوانين الوضعية التي تعتبر الفعل قتلاً عمداً وتعاقب عليه على هذا الاعتبار، وإن كان الذي يحدث عملاً أن المحاكم تقدر ظروف الجاني والمجني عليه وتقضي على الجاني بعقوبة مخففة بقدر الإمكان. والنتيجة العملية أن الشريعة تتفق مع القوانين الوضعية في عقاب القاتل، ولكن الخلاف واقع في تكييف الفعل المعاقب عليه، فالقوانين تعتبره قتلاً والشريعة تعتبره افتياتاً على السلطات العامة. 377 - ثانياً: المرتد: المرتد هو المسلم الذي غير دينه، فالردة مقصورة على المسلمين ولا يعتبر مرتداً من يغير دينه من غير المسلمين. ويعتبر المرتد مهدر الدم في الشريعة (1) ، فإذا قتله شخص لا يعاقب باعتباره   (1) يعتبر المرتد مهدر الدم من وجهين: أولهما: أنه كان معصوماً بالإسلام فلما ارتد زالت عصمته فأصبح مهدراً، وثانيهما: أن عقوبة المرتد في الشريعة القتل حداً لا تعزيراً لقوله عليه السلام: "لا يحل قتل امرئ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزناً بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس"، ولقوله: "من بدل دينه فاقتلوه"، فعقوبة الردة عقوبة متلفة، وعلى هذا تعتبر الردة من الجرائم المهدرة إذا نظر إلى عقوبتها، ولكن لما كان أساس الردة هو الرجوع عن الإسلام وهو الأصل في العصمة فقد نظر في الإهدار إلى الوجه الأول دون الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 قاتلاً عمداً، سواء قتله قبل الاستتابة (1) أو بعدها؛ لأن كل جناية على المرتد هدر ما دام باقياً على ردته. والأصل أن قتل المرتد للسلطات العامة، فإن قتله أحد الأفراد دون إذن هذه السلطات فقد أساء وافتات عليها فيعاقب على هذا لا على فعل القتل في ذاته. وعلى هذا الرأي فقهاء المذاهب الأربعة (2) إلا أن في مذهب مالك رأياً مخالفاً (3) يرى أصحابه أن المرتد غير معصوم، ولكنهم يرون مع ذلك أن على قاتله التعزير ودية لبيت المال، وحجتهم أن المرتد تجب استتابته، فهو بعد ردته كافر فمن قتله فقد قتل كافراً محرم القتل فتجب عليه ديته لبيت المال؛ لأنه هو الذي يرث المرتد، فكأن أصحاب هذا الرأي يزيلون عصمة المرتد بالردة ويعصمونه بكفره، وهو تناقض ظاهر يكفي لهدم رأيهم، ويمكن الرد عليهم بأنه لما كان مسلماً عصمه الإسلام فلما كفر زالت عصمته، وأن الكفر لا يعصم صاحبه وإنما الذي يعصمه الأمان من ذمة أو عهد أو غيرهما والمرتد لا يدخل تحت واحد منها فلا يمكن اعتباره معصوماً بعد كفره. ويشترط لعقاب قاتل المرتد على افتياته واستهانته بالسلطات العامة أن تكون هذه السلطات قد اختصت نفسها بمعاقبة المرتد، فإذا كانت لا تعاقب على الردة كما هو حادث اليوم في مصر وغيرها من بلاد الإسلام، فليس لها أن تعاقب قاتل المرتد باعتباره مفتاتاً عليها؛ لأنه لا يعتبر مفتاتاً إلا بتدخله فيما اختصت نفسها به من تنفيذ أحكام الشريعة، فإذا كانت قد أهملت تنفيذ حكم من الأحكام فأقامه الأفراد فليس لهل أن تؤاخذهم على إقامته بحال من الأحوال.   (1) يشترط الفقهاء قبل الحكم بعقوبة الردة أن يستتاب المرتد ويعرض عليه الإسلام من جديد فإن لم يتب قتل حداً. (2) البحر الرائق ج5 ص125، الإقناع ج4 ص301، المهذب ج2 ص238، مواهب الجليل ج6 ص233. (3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 والقاعدة العامة عند الشافعيين أن غير المعصوم معصوم على أنداده، فالمرتد غير معصوم ولكنه معصوم على شبيهه (1) ، فلا يباح دمه لمرتد مثله، فإن قتله فهو قاتل متعمد ولو أسلم فيما بعد، بخلاف ما لو قتله مسلم فإنه لا يعتبر قاتلاً، وكذلك لو قتله ذمي على الرأي الراجح (2) ، ويطبق الشافعيون قاعدتهم هذه على كل المهدرين، ولكن الفقهاء الآخرين لا يأخذون بهذه القاعدة. وقتل المرتد يعتبر واجباً في الشريعة الإسلامية على كل فرد وليس حقاً؛ لأن عقوبة الردة من الحدود وهي واجبة الإقامة ولا يجوز العفو عنها ولا تأخيرها، ولا يعفى الأفراد من هذا الواجب أن يعهد بإقامته إلى السلطات العامة، ولا يسقط هذا الواجب عن الأفراد إلا إذا نفذته السلطات فعلاً. وتختلف القوانين عن الشريعة الإسلامية في أنها لا تعاقب على تغيير الدين بالذات، ولكنها تأخذ بنظرية الشريعة وتطبقها على من يخرج على النظام الذي تقوم عليه الجماعة، فالدولة الشيوعية تعاقب من رعاياها من يترك المذهب الشيوعي وينادي بالديموقراطية أو الفاشية، والدولة الفاشية تعاقب من يخرج على الفاشية وينادي بالشيوعية أو الديموقراطية، والدول الديموقراطية تحارب الشيوعية والفاشية وتعتبرهما جريمة، فالخروج على المذهب الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي في دائرة القانون يقابل الخروج على الدين الإسلامي الذي يقوم عليه نظام الجماعة في الشريعة الإسلامية. والخلاف بين الشريعة والقوانين في هذه المسألة خلاف في تطبيق المبدأ وليس خلاف على ذات المبدأ، فالشريعة الإسلامية تجعل الإسلام أساس النظام الاجتماعي، فكان من الطبيعي أن تعاقب على الردة لتحمي النظام الاجتماعي. والقوانين الوضعية لا تجعل الدين أساساً للنظام الاجتماعي، وإنما تجعل أساسه أحد المذاهب الاجتماعية. فكان من الطبيعي أن لا تحرم تغيير الدين وأن تهتم بتحريم   (1) أسني المطالب ج4 ص13، شرح الأنصاري على البهجة ج5 ص3، 4. (2) شرح الأنصاري على البهجة ج5 ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 كل مذهب اجتماعي مخالف للمذهب الذي أسس عليه نظام الجماعة. وقد جرى قانون العقوبات المصري مجرى القوانين الوضعية التي أخذ عنها فلم ينص على عقاب المرتد مع أن الإسلام هو أساس نظام الجماعة في كل البلاد الإسلامية، ولكن عدم النص على عقاب المرتد لا يعني أن الردة مباحة؛ لأن الردة جريمة يعاقب عليها بالقتل حداً طبقاً لنصوص الشريعة الإسلامية، تلك النصوص التي لا تزال قائمة، ولا يمكن أن تلغى أو تنسخ بالقوانين الوضعية ما بقي الإسلام قائماً، كما بينا ذلك من قبل (1) ، فمن يقتل الآن مرتداً لا يعاقب على قتله بأي حال، ولا يعتبر مفتاتاً على السلطات العامة؛ لأنه أتى فعلاً مباحاً طبقاً للشريعة وأدى واجباً من الواجبات التي تفرضها عليه. ويلاحظ أن قانون العقوبات المصري وإن لم ينص على عقاب المرتد إلا أنه لا يسري على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة (م60 عقوبات) ، وهذا يكفي لإعفاء قاتل المرتد من العقاب؛ لأن إعفاء من يستعمل حقه أساسه إباحة الفعل في الشريعة، وقتل المرتد فعل تبيحه الشريعة وإذا كان قتل المرتد واجباً وليس حقاً فإن كل واجب يساوي الحق ويزيد عليه درجة، فهو يساويه إذا نظرنا إلى ذات الفعل أو من يقع عليه الفعل، فإذا نظرنا إلى الفعل وجدنا أنه مباح في حالة الحق والواجب، وإذا نظرنا إلى من يقع عليه الفعل وجدنا أنه لا يستطيع دفع الفعل باعتباره جريمة؛ لأن من حق الفاعل أن يأتيه عليه سواء في حالة الحق أو الواجب. ويزيد الواجب على الحق إذا نظرنا إلى مصدر التكليف، فالمكلف بالواجب ملزم بإتيانه، أما صاحب الحق فله أن يأتيه أو يتركه، فالفرق بين الواجب والحق لا يظهر إلا في مسئولية المكلف بالواجب عند تركه، فهو قد يتعرض للعقاب بترك الواجب أما صاحب الحق فلا   (1) راجع الفقرة 191 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 يتعرض بالترك لعقوبة ما، فإذا أعفي صاحب الحق من المسئولية إذا أتى فعلاً مباحاً له أن يأتيه أو يتركه، فأولى أن يعفى المكلف بالواجب إذا أتى فعلاً مباحاً ليس له أن يتركه. ويضاف إلى ما سبق أن المادة السابعة من قانون العقوبات المصري نصت أيضاً على أن أحكام هذا القانون لا تدخل في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة، والواجبات المقررة على الأفراد ليست كما ذكرنا إلا حقوقاً شخصية لهم في إتيان الفعل إذا نظرنا إلى محل الواجب، فالتطبيب واجب على الطبيب يلزمه الشارع بأدائه ولكن تأدية هذا الواجب تعطي الطبيب الحق في جرح المريض أو بتر طرفه. وقتل المرتد واجب على كل فرد يسأل عن تأديته أمام الشارع ولكن تأدية هذا الحق تعطي المكلف بالواجب الحق في قتل المرتد. ومن واجب الجلاد قطع رقاب المحكوم عليهم بالقتل، ولكن تأدية هذا الواجب تعطيه الحق في قطع رقبة المحكوم عليه. على أننا لسنا في حاجة لهذا التعليل ما دمنا نقول ببطلان النصوص القانونية المخالفة للشريعة. 378 - (ثالثاً) : الزاني المحصن: تعاقب الشريعة الزاني المحصن بالرجم والزاني غير المحصن بالجلد، وعقوبة الرجم عقوبة متلفة يقصد منها إهلاك الزاني وزجر غيره، أما عقوبة الجلد فغير متلفة ويقصد منها تأديب الزاني وزجر غيره. ولما كانت عقوبة الرجم متلفة وكانت حداً أي عقوبة مقدرة فقد اعتبر الزاني المحصن مهدر الدم. ومن المتفق عليه عند مالك وأبي حنيفة وأحمد أن ليس على قاتل الزاني المحصن قصاص ولا دية؛ لأن الزاني المحصن يصبح بزناه مباح القتل، ولما كانت عقوبة الزنا من الحدود، والحدود لا يجوز تأخيرها ولا العفو عنها، فإن قتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 الزاني المحصن يعتبر واجباً لا بد منه إزالةً للمنكر وتنفيذاً لحدود الله (1) . ويتفق الرأي الراجح في مذهب الشافعي مع الرأي السابق، أما الرأي المرجوح في مذهب الشافعي فيرى أصحابه أن قاتل الزاني المحصن يقتل به؛ لأنه قتله لغيره وليس لنفسه فوجب فيه القصاص، كما لو قتل رجل رجلاً فقتله غير ولي الدم (2) . ويرد على ذلك بأن الزاني المحصن مباح الدم للجميع لا لشخص بعينه، وأن قتله متحتم لا خيار فيه، بعكس القاتل فإن دمه لا يباح إلا لولي الدم فقط وله الخيار إن شاء قتل وإن شاء عفا. وإذا كان لا يجوز مؤاخذة من يقتل الزاني المحصن باعتباره قاتلاً، فإنه يجوز أن يؤاخذ باعتباره مفتاتاً على السلطات العامة (3) بشرط أن تأخذ السلطات العامة على عاتقها أداء هذا الواجب، فإذا أهملت في أداء هذا الواجب أو تخلت عنه فليس لها أن تؤاخذ من أداه بحجة أنه مفتات عليها. ويشترط الشافعيون في قاتل الزاني المحصن أن يكون معصوماً؛ لأن مهدر الدم لا يعتبر مهدراً لمثله، فالزاني المحصن لا يعتبر مهدر الدم للزاني المحصن، ولا للمرتد، ولا للحربي؛ لأنهم جميعاً في درجة واحدة ودمهم جميعاً مهدر (4) . أما إذا كان الزاني غير محصن فعقوبته الجلد فقط، فمن قتله في غير حالة التلبس اعتبر قاتلاً عمداً وأقيد به؛ لأنه قتل معصوم الدم، وهذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة. وإذا قتل الزاني غير المحصن في حالة تلبس فلا عقوبة على قاتله عند مالك   (1) حاشية الطهطاوي ج4 ص260، مواهب الجليل ج6 ص231، 233، المغني ج9 ص43. (2) المهذب ج2 ص186. (3) المرجع السابق، وتبصرة الحكام ج2 ص170. (4) تحفة المحتاج ج4 ص10، شرح الأنصاري على البهجة ج5 ص3، 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 وأبي حنيفة وأحمد، وحجتهم في ذلك قضاء عمر رضي الله عنه، فقد كان يتغدى يوماً فأقبل عليه رجل يعدو ومعه سيف مجرد ملطخ بالدم حتى قعد مع عمر، وجاء جماعة في أثره فقالوا: إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته. فقال عمر: ما يقول هؤلاء؟ قال الرجل: لقد ضربت فخذي امرأتي بالسيف، فإن كان بينهما أحد فقد قتلته، فقال لهم عمر: ما يقول الرجل؟ فقالوا: ضرب بالسيف فقطع فخذي امرأته وأصاب وسط الرجل فقطعه اثنين. فقال عمر للرجل: إن عادوا فعد، وأهدر دم القتيل. ويعلل بعض الفقهاء إباحة القتل في حالة التلبس بالزنا بالاستفزاز الذي ينتاب القاتل فيدفعه للقتل، وهؤلاء يفرقون بين الأجنبية وغير الأجنبية، فإن كانت المزني بها أجنبية فلا يباح القتل، وإن لم تكن أجنبية يباح القتل؛ لأن الزنا بالأجنبية لا يستفز الشخص كما يستفزه الزنا بأهله من زوجة أو أم أو أخت .... الخ. ولكن أغلب الفقهاء لا يعللون الإباحة بالاستفزاز، وإنما يعللونها بتغيير المنكر، فيرون أن قتل الزاني غير المحصن في حالة التلبس تغيير للمنكر باليد وهو واجب على من استطاعه (1) . وأصحاب هذا الرأي لا يفرقون بين الزنا بأجنبية أو بغير أجنبية، ويبيحون قتل الزاني غير المحصن رجلاً كان أو امرأة في حالة التلبس مطلقاً، وهذا هو الرأي الراجح في المذاهب الثلاثة (2) . أما الشافعي فلا يرى قتل الزاني غير المحصن في حالة التلبس إلا إذا لم يمكن منعه عن الجريمة إلا بالقتل، وفيما عدا هذا يعتبر قتله جريمة يعاقب عليها بعقوبة القتل العمد سواء كانت هناك حالة استفزاز أو لم تكن؛ لأن الاستفزاز   (1) راجع الفقرة 345. (2) تبصرة الحكام ج2 ص169، 170، البحر الرائق ج5 ص40، 41، المغني ج10 ص353 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 لا يبيح القتل، ولأن دفع المنكر لا يبيح القتل إلا إذا كان القتل هو الوسيلة الوحيدة لدفع المنكر (1) ، على أن بعض الشافعيين يرى قتل الزاني غير المحصن ما دام قد أولج لأنه مواقع في كل لحظة (2) ، ويبيح هؤلاء لدافع المنكر أن يبدأ بالقتل. ويستوي عند الفقهاء أن يكون القتل للزنا بصفة عامة قبل حكم القضاء بثبوت جريمة الزنا أو بعد الحكم، والمهم أن تثبت جريمة الزنا على القتيل بأدلتها الشريعة، فإن ثبتت فلا يسأل القاتل عن القتل على التفصيل السابق، وإن لم تثبت فهو مسئول جنائياً عن القتل العمد. وليس في القوانين الوضعية الحديثة ما يتفق مع الشريعة الإسلامية في عقاب الزنا، فليس في هذه القوانين ما يعاقب على الزنا بالقتل أو ما يعاقب على كل زنا كما تفعل الشريعة، وقد نهج قانون العقوبات المصري نهج القوانين الوضعية السائدة في البلاد غير الإسلامية، لكن نصوص العقوبات أياً كانت لا أثر لها على أحكام الشريعة، وهي نصوص باطلة بطلاناً مطلقاً في كل ما يخالف الشريعة، صحيحة فقط في كل ما يتفق مع أحكام الشريعة أو مبادئها العامة. وقد بسطنا هذا من قبل بسطاً وافياً فلا نعود إليه (3) . وإذا كان قتل الزاني المحصن واجباً تلزم به الشريعة الأفراد فإن هذا الواجب يدخل تحت الحقوق الشخصية التي نص عليها قانون العقوبات المصري للأسباب التي ذكرناها بمناسبة الكلام على واجب قتل المرتد، ولا نذكر هذا لنبرر به قتل الزاني المحصن فقتله واجب طبقاً للشريعة، ولا عبرة بالنصوص القانونية المخالفة للشريعة، وإنما نذكر ما نذكر في هذا الشأن لنبين مدى اضطراب النصوص القانونية، فبعضها لا يعاقب على ما تبيحه الشريعة من قتل المرتد والزاني وغيرهما من المهدرين كالمادة السابعة من قانون العقوبات، وبعضها يحرم   (1) المهذب ج2 ص186، الأم ج6 ص26. (2) شرح الأنصاري على البهجة ج5 ص113. (3) راجع الفقرة 191 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 قتل المهدرين كنص المادة (230 عقوبات) ، وعلة هذا الاضطراب أن واضع قانون العقوبات كان يجهل مدى الحقوق المقررة للأفراد في الشريعة ومدى الواجبات المفروضة عليهم. 379 - (رابعاً) : المحارب: المحارب هو من يرتكب جريمة الحرابة؛ أي الإفساد في الأرض أو قطع الطريق كما يسميها البعض، أو السرقة الكبرى كما يسميها البعض الآخر. ولجريمة الحرابة أكثر من عقوبة واحدة وذلك ظاهر من قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] ، فعقوبة الحرابة هي القتل والصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف والنفي، وأول ما يلاحظ على هذه العقوبات المتعددة أنها ليست جميعاً متلفة. وقد اختلف الفقهاء في أمر هذه العقوبات هل هي مرتبة على قدر الجريمة أم هي على التخيير؟ وأساس اختلافهم هو تفسير الحرف "أو" فمن رأى البعض أنه جاء للتفصيل والترتيب، ومن رأى البعض أنه جاء للتخيير. ويرى الفقهاء في مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد أن العقوبات مرتبة على سحب الجناية التي وقعت، فمن قتل ولم يأخذ مالاً قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع، ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب (1) ، ومن أخاف السبيل ولكنه لم يقتل ولم يأخذ مالاً نفى (2) .   (1) لا يرى أبو حنيفة بأساً من الجمع بين القطع والقتل في هذه الحالة، ويخالفه في هذا صاحباه، ولأحمد رأي يتفق مع أبي حنيفة في هذه النقطة، راجع: بدائع الصنائع ج7 ص93، والمغني ج10 ص305. (2) المغني ج10 ص304 وما بعدها، بدائع الصنائع ج7 ص93، أسنى المطالب ج4 ص154، 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وعند مالك أن المحارب إذا قتل فلابد من قتله، وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه، وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه، ومعنى التخيير عند مالك أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام، فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه؛ لأن القتل يرفع ضرره، وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعه من خلاف، وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك فيه وهو النفي والتعزير (1) . والحرابة جريمة من جرائم الحدود وعقوبتها حدود، والقاعدة أن عقوبة الحد لازمة فلا تسقط بإهمال تنفيذها ولا بالعفو عنها. ولكن عقوبات الحرابة تسقط استثناء بالتوبة لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 34] ، فإذا تاب المحارب سقطت عنه عقوبات القتل والصلب والقطع والنفي؛ أي العقوبات المقررة حداً لجريمة الحرابة، بشرط أن تكون التوبة قبل القدرة عليه، فإن تاب بعد القدرة لم يسقط عنه شيء (2) . ويترتب على التفصيلات التي ذكرناها أن المحارب يختلف حاله في الإهدار باختلاف رأي الفقهاء فيما إذا كانت العقوبات جاءت على وجه الترتيب أو التخيير، فإذا قلنا إنها جاءت غلى الترتيب فالمحارب يهدر دمه بالقتل، وبالقتل وأخذ المال، وتهدر يده اليمنى ورجله اليسرى بأخذ المال فقط، ولا يهدر منه شيء بإخافة السبيل فقط؛ لأن العقوبة النفي وهو غير متلف. وإن قلنا إن العقوبات على التخيير فالمحارب يهدر دمه بالقتل؛ لأن العقوبة هي القتل   (1) بداية المجتهد ج2 ص380، 381. (2) المغني ج10 ص315، بداية المجتهد ج2 ص382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 أو الصلب وكلاهما عقوبة متلفة، وكذلك الحكم في حالة القتل وأخذ المال. أما إذا أخذ المال ولم يقتله أو يصلبه إلا أن له أن يقطعه، فالقطع هو أقل العقوبات الواجبة ولا يمكن النزول عنه. وأما إذا أخاف السبيل فقط فلا يهدر منه شيء ولو أن الإمام أن يقتله أو يصلبه أو يقطعه؛ لأن الإمام أيضاً أن ينفيه والنفي عقوبة غير متلفة. ويعتبر الجاني مهدراً على الوجه السابق من وقت ارتكاب الجريمة لا من وقت الحكم بالعقوبة. وينبني على هذه القاعدة أن تتغير حالة الإهدار في الجاني عند القائلين بالتخيير في العقوبة؛ لأن من يأخذ المال فقد قد يحكم عليه بالقتل فيصبح مهدر الدم من وقت الحكم بعد أن كان مهدراً في طرفيه فقط من وقت ارتكاب الجريمة، ومن أخاف السبيل فقط إذا حكم عليه بالقتل أو القطع يهدر إهداراً كلياً أو جزئياً من وقت الحكم مع أنه لم يكن مهدراً قبل ذلك. وتزول حالة الإهدار بتوبة المحارب قبل القدرة عليه ويعود المحارب معصوماً، فمن قتله أو قطعه بعد ذلك فهو قاتل أو قاطع متعمد إذا كان عالماً بالتوبة، فإن لم يكن عالماً فهو قاتل أو قاطع خطأ. ويعتبر قتل المحارب قبل التوبة أو قطعه واجباً لا حقاً، لأن عقوبات الحرابة من الحدود ولا يجوز تأخيرها، وتنفيذها واجب على كل فرد أصلاً، واختصاص أولي الأمر أنفسهم بإقامة هذه العقوبات لا يسقط واجب إقامتها عن الأفراد إلا إذا أقيمت فعلاً. ويجوز للسلطات العامة أن تعاقب من يقتل أو يقطع مهدراً لا باعتباره قاتلاً أو قاطعاً، وإنما باعتباره مفتاتاً على السلطات العامة، ولكن يشترط لاستحقاق العقاب في هذه الحالة أن تكون السلطات حريصة على إقامة الحدود طبقاً لنصوص الشريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 وإذا كان المحارب مهدراً إهداراً جزئياً كأن أخذ المال ولم يقتل فقتله شخص فهو مسئول عن قتله عمداً، وإذا قطع طرفاً غير الطرف المستحق فهو مسئول عن قطعه عمداً ما لم يقصد الطرف المستحق فيخطئ ويصيب غيره، فإنه يسأل عن قطعه فقط. وإذا قطع الطرف المهدر فأدى القطع إلى الموت فلا مسئولية على القطع؛ لأن الموت تولد عن القطع واجب، والواجب لا يتقيد بشرط السلامة. 380 - (خامساً) : الباغي: الباغي هو من يعمل على تغيير نظام الحكم أو الحكام بالقوة، أو يمتنع عن الطاعة متعمداً على القوة. والبغي جريمة توجه ضد نظام الحكم والحكام ولا توجه إلى النظام الاجتماعي، فإذا كانت الجريمة مقصوداً بها النظام الاجتماعي فهي ليست بغياً، وإنما هي فساد في الأرض، والنظام الاجتماعي الذي تقوم عليه الجماعة هو الإسلام وليس لها نظام غيره. ويشترط الفقهاء في جريمة البغي شروطاً خاصة سبق أن ذكرناها (1) أهمها: أن يكون البغاة متأولين، وأن يكونوا ذوي شوكة ومنعة، وأن يبدءوا في تنفيذ غرضهم بالقوة على رأى، أو أن يأخذوا في التجمع والامتناع بقصد تنفيذ غرضهم بالقوة. وإذا توفرت شروط جريمة البغي أهدر دم الباغي، فمن قتله فقد قتل شخصاً مباح الدم ولا عقوبة عليه، ويظل دم الباغي مهدراً حتى تنتهي حالة البغي. ويختلف مذهب أبي حنيفة (2) عن غيره في أنه يهدر دمهم من وقت تجمعهم وامتناعهم ولو لم يبدءوا بالقتال أو الاعتداء. أما مالك والشافعي وأحمد فيشترطون لإهدار دم البغاة أن يبدءوا بالقتال أو الاعتداء. والقاعدة عندهم أن الباغي لا يحل   (1) راجع الفقرة 78. (2) البحر الرائق ج5 ص142، بدائع الصنائع ج7 ص236، شرح القدير ج3 ص411. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 دمه بغير حرب أو صيال (1) . وقتال البغاة واجب في الشريعة لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، وهذا الواجب ملقىً على عاتق كل فرد، فإذا خصصت السلطات العامة أشخاصاً بأعيانهم لقتال البغاة، فإن هذا لا يمنع غيرهم من أداء الواجب ولا يسقطه عنهم ما دامت حالة البغي قائمة. وليس للسلطات العامة أن تؤاخذ قاتل الباغي على القتل؛ لأن الباغي مباح القتل، ولكن لهذه السلطات أن تعاقب القاتل باعتباره مفتاتاً على السلطات العامة بشرط أن تكون السلطات قائمة بأداء هذا الواجب ومخصصة له من يقوم بأدائه. 381 - (سادساً) : من عليه القصاص: القصاص في الشريعة هو العقوبة الأصلية للقتل والجرح العمد، ومعنى القصاص أن يعاقب الجاني بمثل فعله، والقصاص عقوبة مقدرة كما أنه عقوبة متلفة، ويقع القصاص على النفس وعلى ما دون النفس، فإذا وقع على النفس كان قتلاً، وإذا وقع على ما دون النفس كان جرحاً أو قطعاً. ومن أتى فعلاً يوجب القصاص يعتبر مهدراً فيما أوجبه على نفسه بفعله، فإن وجب عليه القتل فهو مهدر الدم، وإن وجب عليه قطع طرف أو جارحة فهو مهدر في طرفه أو جارحته التي وجب فيها القصاص. والإهدار في القصاص إهدار نسبي، فلا يهدر الجاني إلا للمجني عليه أو وليه وفيما عدا ذلك فهو معصوم في حق الكافة، وعلة نسبية الإهدار في القصاص أن القصاص حق لا واجب فلا يهدر الجاني إلا لصاحب الحق إن شاء استعماله، فالقتل لا يبيح دم القاتل إلا لولي القتيل، فإذا جاء أجنبي فقتل القاتل ولو بعد   (1) مواهب الجليل ج6 ص278، المهذب ج2 ص236، الإقناع ج4 ص293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 الحكم عليه بالقصاص فقد ارتكب جريمة قتل متعمد؛ لأنه قتل شخصاً معصوم الدم في حقه؛ ولأن من المحتمل أن يعفو ولي الدم عن المحكوم عليه فيمتنع تنفيذ الحكم. وهذا هو رأي جمهور الفقهاء (1) . والأصل في الشريعة أن إقامة الحدود واستيفاء العقوبات للسلطان، ولا يستثنى من هذا الأصل إلا القصاص فللمجني عليه أو وليه أن يستوفي العقوبة بنفسه. ومن المتفق عليه أن لولي الدم أن يستوفي القصاص بنفسه في القتل بعد الحكم بالعقوبة وتحديد ميعاد التنفيذ، بشرط أن يكون الاستيفاء تحت إشراف السلطان وبشرط أن يكون ولي الدم قادراً على الاستيفاء ومحسناً له، فإن كان عاجزاً عن الاستيفاء أو لا يحسنه جاز له أن يوكل من يتوفر فيه هذان الشرطان، وليس ثمة ما يمنع من أن يكون الوكيل موظفاً مخصصاً لهذا الغرض. أما القصاص فيما دون النفس فمختلف عليه، فيرى مالك والشافعي ورأيهما وجه في مذهب أحمد أن المجني عليه أو وليه ليس له أن يستوفي القصاص فيما دون النفس بأي حال سواء كان يحسن القصاص أو لا يحسنه؛ لأنه لا يؤمن مع قصد التشفي أن يحيف على الجاني أو يجني عليه بما لا يمكن تلافيه، وإنما يتولى القصاص من يحسنه من الخبراء، ويقول مالك في هذا: "أحب إلى أن يولي الأمام على الجراح رجلين عدلين، فإن لم يجد إلا واحداً فأرى ذلك مجزئاً إن كان عدلاً" (2) . ويرى أبو حنيفة ورأيه وجه في مذهب أحمد أن للمجني عليه أن يستوفي القصاص بنفسه فيما دون النفس؛ لأنه حقه فله استيفاؤه بنفسه كسائر الحقوق   (1) المغني ج9 ص356. (2) مواهب الجليل ج6 ص253، 254، المهذب ج2 ص197، الشرح الكبير ج9 ص399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 ما دام يحسنه، فإن لم يكن يحسنه فله أن يوكل عنه خبيراً بالقصاص. والقائلون بهذا الرأي في مذهب أحمد لا يرون مانعاً من تعيين رجل خبير بالقصاص بأجر من بيت المال تكون مهمته أن يستوفي نيابة عمن لا يحسنون الاستيفاء (1) . والأصل في تقرير حق القصاص للمجني عليه أو وليه قول الله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] ، والمفروض أن مستحق القصاص ليس له أن يستعمل حقه إلا بعد الحكم بالعقوبة وفي الوقت المحدد للتنفيذ. وفي الوقت الذي منحت فيه الشريعة ولي الدم حق القصاص فإنها منحته حقاً آخر هو حق العفو عن القصاص، وجعلت له أن يعفو على مال أو مجاناً؛ فإذا عفا امتنع القصاص واكن للسلطات العامة أن تعاقب الجاني بما تراه من عقوبة أخرى دون القتل. وقد حضت الشريعة ولي الدم على العفو بمختلف الأساليب، فجعلت للعافي أن يعفو على مال يأخذه، ووعدته بالثواب في الآخرة وبرضاء الله جل شأنه، من ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ، وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] ، واعتبرت الشريعة العفو رحمة من الله للناس، وذلك قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] ، ويؤثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عنه أنس أنه ما رفع إليه أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو. وقد يحسب البعض أن تقرير حق القصاص لولي الدم إنما هو إقرار للعادات الأولية التي كانت سائدة في الشعوب الهمجية، ولكنها فكرة خاطئة لا تقوم   (1) بدائع الصنائع ج7 ص246، الشرح الكبير ج9 ص398، 399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 على أساس صحيح، فإن الشريعة حين قررت هذا الحق لولي الدم لم تكن تقر عادات سائدة كما يظن البعض وإنما كانت تنظر قبل كل شيء إلى طبيعة البشر وغرائزهم، وإلى مصلحة الأفراد والجماعة، شأنها في كل ما جاءت به من مبادئ وما قررته من حقوق أو فرضته من واجبات. وليس ثمة من ينكر أن حب الانتقام طبيعة في الإنسان، وأنه مهما تثقفت طباعه وهذبت غرائزه فإنه يفضل أن ينتقم بيده لنفسه على أن يكون الانتقام بيد غيره، وليس ثمة أيضاً من يجادل في أن الإنسان بطبعه يكون أقرب للعفو عن حقه بنية صحيحة كلما كان قادراً على الوصول لحقه لا يمنعه عنه مانع. ومن المبادئ المسلم بها أن تقرير القصاص عقوبة للقتل من مصلحة الجماعة؛ لأن القتل أنفى للقتل، ولأن في القصاص حياة، ومن المبادئ السلم بها أيضاً أن العفو عن القصاص بنية صحيحة يؤدي إلى حفظ الأمن وصيانة الدماء وتقليل الجرائم. على أساس الطبيعة البشرية وعلى أساس هذه المبادئ السليمة المسلم بها قررت الشريعة حق ولي الدم في أن يقتص بنفسه، لترضى بذلك نزعة الانتقام الكامنة في أغواره، ولتحول بينه وبين أن يأخذ حقه بيده قبل المحاكمة أو قبل الموعد المحدد لتنفيذ العقوبة، أو أن يرى العقوبة التي تنفذها السلطات العامة غير كافية لشفاء نفسه فيحاول أن ينتقم من أهل القاتل. وعلى نفس الأسس جعلت الشريعة لولي الدم أن يقتص أو أن يعفو، فبعد أن مكنته من القصاص كل التمكين، وسلطته على الجاني إلى هذا الحد، حببت إليه العفو، ودعته إليه وأغرته به من الناحية المادية، فجعلت له أن يعفو على مال، وأغرته به من الناحية المعنوية فوعدته رضاء الله وحسن ثواب الآخرة، حتى إذا ما عفا بعد هذا كله عفا بنية صحيحة، وانمحت الزخائم والحزازات وحل الوئام محل الخصام وهو العامل الفعال في حفظ الأمن وإقرار النظام بين الجماعات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 وللسلطة العامة بعد ذلك أن تعاقب القاتل بما تراه ملائماً من العقوبات بشرط أن لا تصل إلى القتل. فالشريعة إذن قصدت من إعطاء ولي الدم حق القصاص إصلاح النفوس، وإحلال الوئام محل الخصام، وحفظ الأمن والنظام، وتقليل الجرائم، وحمل الناس على احترام الأحكام، ومنعهم من التفكير في الانتقام لأنفسهم وأهليهم، كما أنها قصدت فوق هذا كله حفظ الدماء والأرواح وعدم الإسراف في عقوبة الإعدام بقدر الإمكان. وحق القصاص حق لا يتجزأ، أما حق العفو فحق قابل للتجزئة، وهذا هو رأي أبي حنيفة والشافعي وأحمد، ويترتب على هذا الرأي أنه لو عفا أحد أولياء الدم سقط حق الباقية في القصاص. ولكن مالكاً يرى أن حق العفو حق لا يقبل التجزئة أيضاً ويترتب على ذلك أن العفو لا يكون له أثر ما لم يكن من جميع أولياء الدم، فإذا عفا أحدهم كان للآخر أن يقتص. وأبسط الصور في استعمال حق القصاص أن يحكم على الجاني بالعقوبة، فإذا حان موعد التنفيذ نفذ ولي الدم العقوبة أو وكل غيره في تنفيذها، ومن المسلم به أن لا مسئولية على ولي الدم في هذه الحالة، وأن فعله ليس جريمة؛ لأنه يستعمل حقاً قرره له الشارع. لكن يحدث أن تتملك الرعونة ولي الدم فيقتص قبل الحكم على الجاني أو بعد الحكم وقبل ميعاد التنفيذ، كذلك يحدث أن يعفو ولي الدم عن القصاص تحت بعض المؤثرات ثم يعود فيرى القصاص خيراً له فيقتص بعد العفو، وقد يعفو بعض الأولياء بينما يقتص البعض الآخر، وقد يسارع بعض الأولياء بالقصاص قبل أخذ رأي الباقين وفيهم من يرى العفو، فهل يعتبر مباشر القصاص في هذا الحالات مستعملاً حقاً أم مرتكباً لجريمة؟ وهل يعفى من العقوبة أم يؤاخذ على فعله؟ ذلك ما سنبينه فيما يلي مبتدئين أولاً بحكم هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 الحالات في القتل ذاكرين بعد ذلك حكمها فيما دون القتل. 382 - أولاً: حكم قتل الجاني: (أ) القتل قبل الحكم أو قبل موعد التفيذ: إذا قتل ولي الدم الجاني المستحق للقتل قصاصاً، فسواء قبل الحكم أو بعده وقبل ميعاد التنفيذ فلا عقوبة عليه للقتل؛ لأنه أتي فعلاً مباحاً له ومارس حقاً قرره له الشارع، ولكنه يعاقب على تسرعه وممارسته حقه حلول الوقت المناسب، وعلى افتياته على السلطات العامة التي جعلت لممارسة حق القصاص وقتاً معيناً، والسلطات العامة أن تعاقبه على هذا الافتيات بالعقوبة التعزيرية التي تراها مناسبة (1) . ويشترط في حالة القتل قبل صدور الحكم بالقصاص أن يثبت القتل على الجاني، فإن لم يثبت اعتبر ولي الدم قاتلاً متعمداً. وظاهر مما سبق أنه لا فرق بين القتل قبل الحكم أو بعده ما دامت الجريمة ثابتة على الجاني، وعلة ذلك أن حق ولي الدم في القصاص يتولد بمجرد ارتكاب جريمة القتل، لا من وقت الحكم بالقصاص. فولي الدم حين يقتل الجاني قبل الحكم عليه إنما يستعمل حقه في القصاص الذي ثبت له من وقت ارتكاب الجاني جريمة القتل. والمفروض في المسألة أو ولي الدم واحد، أو أنهم متفقون إذا كانوا متعددين على قتل الجاني، أو ليس فيهم من يرى العفو عنه. (ب) القتل بعد العفو: يرى أبو حنيفة والشافعي وأحمد أن عفو بعض الأولياء أو كلهم يسقط القصاص؛ لأن القصاص لا يتجزأ فإذا عفا أحدهم أو بعضهم فقد عفا عن بعض القصاص ولا يمكن إحياء بعض الشخص وقتل بعضه. وعلى هذا إذا قتل الجاني من لم يعف من الأولياء وهو عالم بعفو غيره فقد ارتكب   (1) مواهب الجليل ج6 ص233، شرح البهجة ج5 ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 جريمة قتل عقوبتها القصاص عند أبي حنيفة وأحمد، أما الشافعي فيفرق بين حالتين: أولاهما: حالة ما إذا كان القتل بعد أن أقر القضاء العفو وحكم بسقوط القود. وفي هذه الحالة يرى وجوب القصاص. وثانيتهما: إذا كان القتل قبل أن يحكم بسقوط القود، وحكم هذه الحالة هو حكم القتل قبل استئذان بقية الأولياء يرى فيها البعض القصاص ويرى فيها البعض الدية (1) . فإذا قتل ولي الدم الجاني بعد العفو وكان لا يعلم بالعفو فهو مسئول عن القتل، ولكن جهله بالعفو يدرأ عنه القصاص، وتكون العقوبة الدية في رأي أبي حنيفةوأحمد، وفي مذهب الشافعي رأيان: رأي يقول بالقصاص، ورأي يقول بالدية، وحجة القائلين بالقصاص أن حق القصاص يسقط بالعفو فكان عليه أن يتأكد من بقاء حقه قبل استعماله، وحجة القائلين بالدية أن حق ولي الدم ثابت في الصاص، والأصل بقاؤه، فإن قتله وهو يعلم بالعفو معتقداً بقاء حقه في القصاص فإن ذلك يكون شبهة تدرأ الحد. أما مالك فيرى أن العفو لا يتجزأ، وأن العفو لا يعتبر موجوداً إلا إذا كان من كل أولياء الدم المستحقين للقصاص، فإن عفا أحدهم فإن عفوه لا يسقط حق الآخرين في القصاص، فإذا اقتص أحدهم بعد عفو غيره من الألياء الباقين فلا مسئولية عليه؛ لأن عفو هؤلاء غير معتبر ولا أثر له على حق القصاص، ولكن هذا لا يمنع من تعزير المقتص إذا كان في عمله افتيات على السلطات العامة (2) . (ج) القتل قبل استئذان باقي الأولياء: إذا قتل الجاني أحد الأولياء أو بعضهم قبل استئذان باقي الأولياء، فلولي أو الأولياء القاتلون مسئولون جنائياً عن القتل، وهذا متفق عليه بين الفقهاء عدا مالك، وإن كانوا قد اختلفوا في عقوبة   (1) بدائع الصنائع ج7 ص248، تحفة المحتاج ج4 ص26، المهذب ج2 ص197، المغني ج9 ص465، 466. (2) المغني ج9 ص466. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 الولي القاتل، فأبو حنيفة وأحمد لا يريان الاقتصاص من القاتل؛ لأن من حقه أن يتلف بعض القتيل فكان هذا شبهة تدرأ القصاص وتوجب الدية بدلاً منه، ويتفق هذا الرأي مع الرأي الراجح في مذهب الشافعي، أما الرأي المرجوح في مذهب الشافعي فيرى أصحابه أن يقتص من الولي؛ لأن بعض القاتل غير مستحق له، قياساً على ما إذا اشترك جماعة في قتل واحد فإن الشريك لا يقتل إلا بعض المقتول ومع ذلك يقتص منه. ويرد أصحاب الرأي المضاد بأن هذا القياس غير صحيح؛ لأن الشريك لا يقتص منه لإتلاف بعض المقتول وإنما لأنه أتلفه كله، ويرى البعض القصاص من الولي؛ لأنه أتلف كل القاتل وهو لا يستحق منه شيئاً إذ لا يستحق بعضه إلا إذا أصبح كله مستحقاً بموافقة بقية الأولياء، فإذا لم يوافق أحد الأولياء فقد امتنع استحقاق كل القاتل أو بعضه؛ لأن القصاص لا يتجرأ فمن قتل القاتل فقد أتلفه كله دون أن يستحق فيه شيئاً؛ لأن عدم الإذن منع من استحقاق كله، ومن لا يستحق كله لا يستحق بعضه (1) . أما مالك فلا يرى عقوبة القاتل أصلاً؛ لأنه فعل حقه وحقه القصاص (2) . وأساس رأي الفقهاء الثلاثة أن استئذان بقية الأولياء ضروري؛ لأن أحدهم قد يعفو، أما رأي مالك فأساسه أن عفو البعض دون البعض لا يسقط القصاص وأن القصاص لا يسقط إلا بعفو كل الأولياء المستحقين للقصاص، ولهذا كان القاتل مستعملاً حقه في القصاص. (د) القتل من العافي: إذا كان القاتل هو نفس العافي فهو مسئول عن   (1) بدائع الصنائع ج7 ص243، المهذب ج2 ص197، الشرح الكبير ج9 ص386، 387. (2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 فعله، ويعتبر قاتلاً عمداً باتفاق (1) وعقوبته القصاص سواء عفا مجاناً أو على مال (2) ؛ لأن الجاني بالعفو عنه صار معصوم الدم. (هـ) إتلاف جوارح القاتل: وإذا أتلف ولي الدم جارحة أو عضواً من الجاني ثم عفا عنه ولم يقتله مثل أن يقطع أطرافه أو بعضها فعليه دية ما أتلف في رأي أبي حنيفة وأحمد؛ لأنه قطع طرفاً له قيمة حال القطع بغير الحق، ولأنه - كما يقول أبو حنيفة - استوفى غير حقه فهو مسئول عما استوفاه بغير حق؛ لأن حقه في القتل لا في القطع، وكان القياس أن يقتص منه إلا أن القصاص درئ للشبهة "شبهة أن له تلف الطرف تبعاً للنفس"، وإذا درئ القصاص وجبت الدية، ولكن حقه في الطرف لا يثبت إلا مع ثبوت القتل ضرورة، وهذه الضرورة تتحقق عند التنفيذ بالقتل لا قبل ذلك، فإذا قتل ظهر حقه في الأطراف تبعاً، وإن لم يقتل لم يظهر حقه في الطرف لا أصلاً ولا تبعاً، ومن هذا يتبين أنه استوفى غير حقه (3) . ويرى الشافعي ومعه أبو يوسف ومحمد من فقهاء المذهب الحنفي أن من يتلف جارحة أو عضواً من الجاني لا يسأل جنائياً إذا عفا عن القتل، ويعزر إذا لم يعف عن القتل عقوبة له على أنه مثَّل به قبل قتله، وحجتهم في عدم المسئولية في حالة العفو أنه قطع طرفاً أو أطرافاً من جملة استحق إتلافها، ومن له إتلاف الكل لا يصح أن يؤاخذ على إتلاف البعض (4) . ويرى مالك مسئولية الولي إذا أتلف جارحة أو قطع عضواً من الجاني   (1) المقصود بالاتفاق اتفاق الأئمة الأربعة، ولكن هناك من يرى غير رأيهم، فالحسن يرى أن يؤخذ من القاتل الدية، وعمر بن عبد العزيز يرى تعزير القاتل. (2) بدائع الصنائع ج7 ص247، حاشية الطهطاوي ج4 ص758، المهذب ج2 ص197، نهاية المحتاج ج7 ص286، المغني ج9 ص461، الشرح الكبير ج9 ص391. (3) المغني ج9 ص391، البحر الرائق ج8 ص319، 320. (4) المهذب ج2 ص202، بدائع الصنائع ج7 ص304. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 سواء عفا عن القتل أو لم يعف، وعليه في ذلك القصاص؛ لأن الجاني يستقاد له ومنه وتعقل جراحاته ما لم يقتل (1) . 383 - ثانياً: حكم ما دون القتل: إذا وجب على الجاني قصاص متلف فيما دون النفس كقطع إصبع أو يد أو أذن كان الجاني غير معصوم بالنسبة لمستحق القصاص في حدود ما يستحقه فقط، فليس لمستحق القصاص أن يقطع غير العضو المماثل، فإن فعل فهو قاطع عمداً، وإن قطع العضو المماثل فلا يسأل عن القطع وإنما يسأل عن إفتياته على السلطات العامة وتعجله بالقصاص. أما لو كان القاطع أجنبياً فهو مسئول عن القطع؛ لأن الجاني معصوم في حقه ولم يهدر إلا للمجني عليه أو وليه. وإذا قطع المستحق طرفاً من الجاني في الوقت المعين للقصاص أو قبله فسرى القطع إلى النفس ومات الجاني منه فلا يسأل المستحق عن الموت، لأنه نشأ عن فعل مباح هو استعمال حق القصاص. وهذا هو رأي الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد من فقهاء المذهب الحنفي، وحجتهم أن الموت نشأ عن فعل مأذون فيه ولا يعتبر جريمة وما تولد عن مباح فهو مباح، فضلاً عن أن تنفيذ العقوبة ضرورة لابد منها، فلو حمل منفذ العقوبة النتائج التي تتولد عن فعله لتعطل تنفيذ العقوبات. أما أبو حنيفة فيرى أن المستحق يسأل عن الموت باعتباره قاتلاً شبه متعمد، وحجته أن الفعل المأذون فيه هو القطع وهو حقه ولكنه استوفى أكثر من حقه وجاء بالقتل فعليه مسئوليته (2) . أما مالك فهو وإن كان يرى منع المستحق من أن يقتص في الأطراف لنفسه إلا أنه يمنعه للمصلحة العامة، مع التسليم بأنه صاحب حق في القصاص،   (1) مواهب الجليل ج6 ص325، المدونة ج16 ص222، المغني ج9 ص391. (2) المغني ج9 ص443، المهذب ج2 ص200، تحفة المحتاج ج4 ص27، بدائع الصنائع ج7 ص305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 والمبدأ العام عند مالك أن سراية القود غير مضمونة؛ أي لا يترتب عليها مسئولية جنائية، وعلى هذا فإذا اقتص شخص لنفسه في طرف فسرى إلى النفس فلا مسئولية عليه عن السراية ولكنه مسئول لافتياته على السلطات العامة (1) . وما ذكرناه عن أحكام العفو في القتل وحالاته المختلفة ينطبق على العفو عن القصاص فيما دون النفس وليس ثمة يدعو لتكراره هنا. 384 - (سابعاً) : السارق: كل من ارتكب سرقة يجب فيها القطع يعتبر غير معصوم بالنسبة للعضو الذي يجب قطعه، أما ما عدا ذلك كم الأعضاء فتظل على عصمتها: وعلة الإهدار أن القطع عقوبة متلفة وهي حد يجب أن يقام وليس فيه عفو ولا تخيير، ولهذا كان القطع واجباً لا حقاً، وهو واجب على كل فرد وإن تكفلت السلطات العامة بإقامته، ولا يسقط هذا الواجب إلا بأدائه فعلاً. ويترتب على ما سبق أنه لو عدا إنسان على السارق فقطع يده أو رجله التي يجب قطعها فإنه قطع عضواً غير معصوم وأدى واجباً تفرضه الشريعة عليه، فإذا كانت السلطات العامة قد تكفلت بأداء هذا الواجب فيعاقب القاطع لافتياته على السلطات العامة، ولكنه لا يعاقب على القطع في ذاته، ولكن لا يجوز للسلطات العامة أن تعاقب القاطع باعتباره مفتاتاً إلا إذا كانت قائمة بأداء الواجب (2) . وإذا كان القطع قبل ثبوت السرقة فلا يسأل القاطع عن القطع إذا أثبت السرقة بعد ذلك، أما إذا لم تثبت السرقة فهو مسئول عن القطع (3) .   (1) بداية المجتهد ج3 ص342، المغني ج9 ص443، مواهب الجليل ج6 ص253. (2) مواهب الجليل ج6 ص321، نهاية المحتاج ج7 ص254. (3) المغني ج10 ص269، 270، البحر الرائق ج5 ص62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 وإذا سرى القطع إلى نفس فمات السارق فلا يسأل القاطع عن الموت إلا إذا كان مسئولاً عن القطع، فإن كان مسئولاً عن القطع فهو مسئول عن قتله عمداً وإن لم يكن فلا مسئولية؛ لأن الموت عن قطع واجب والواجب لا يتقيد بشرط السلامة. والفرق بين هذه الحالة وحالة القصاص عند أبي حنيفة أن القصاص حق للمقتص وليس واجباً عليه، وهو مخير في حقه إن شاء عفا وإن شاء أقتص، بل هو مندوب إلى العفو، فضلاً عن أن استعمال الحق عند أبي حنيفة مقيد بشرط السلامة. أما القطع للسرقة فواجب؛ لأنه حد وإقامة الحد واجبة على كل فرد ولو أن نائب الجماعة مخصص بإقامتها، فضلاً عن أن الضرورة تقتضي التسامح فيما ينشأ عن تنفيذ الحد حتى لا تتعطل إقامة الحدود (1) . ويشترط الشافعية في القاطع أن لا يكون مهدراً، وتطبيقاً لقاعدتهم الخاصة وهي أن غير المعصوم معصوم على أنداده، وهي قاعدة لا يطبقها إلا الشافعيون. ويرى بعض الشافعية أن السارق معصوم إلا على المجني عليه في السرقة، ويعتبرون القطع حقاً للمجني عليه، وهو رأي مرجوح (2) . * * * الفرع السادس حقوق الحكام وواجباتهم (3) 385 - واجبات الحكام: تضع الشريعة واجبات على عاتق السلطات العامة وتلزمها بأدائها لصالح الجماعة، ويقوم بتنفيذ هذه الواجبات الموظفون   (1) بدائع الصنائع ج7 ص305، البحر الرائق ج8 ص319. (2) شرح البهجة ج5 ص3. (3) للحكام بصفتهم أفراداً كل حقوق الأفراد وعليهم كل الواجبات التي سبق بيانها، ولكنهم بصفتهم حكاماً لهم حقوق وعليهم واجبات من نوع آخر، وقد خصصنا هذا البحث لهذه الحقوق التي يتميز بها الحكام وتلك الواجبات التي يحملونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 العموميون على اختلاف درجاتهم كل فيما يختص به. فإذا أدى الموظف واجبه فلا يسأل عنه جنائياً ولو كان الفعل الذي قام به مما تحرمه الشريعة بصفة عامة، فالقتل مثلاً محرم على الكافة ولكنه مباح إذا كان عقوبة؛ لأن العقوبة ليست عدواناً، ولأن من واجب القاضي أن يحكم بها ومن واجب الهيئة التنفيذية أن تنفذها، والحكم بعقوبة الجلد وتنفيذها من واجبات الموظفين، ولا مسئولية على قاضٍ أو منفذ ول أن الضرب محرم أصلاً؛ لأن الحكم واجب على القاضي، والتنفيذ واجب على المنفذ، ولا خيار لأحدهما فيما يجب عليه. والقاعدة في الشريعة الإسلامية أن الموظف لا يسأل جنائياً إذا أدى عمله طبقا للحدود المرسومة لهذا العمل. أما إذا تعدى هذه الحدود فهو مسئول جنائياً عن عمله إذا كان يعلم أن لا حق له فيه، أما إذا حسنت نيته فأتي العمل وهو يعتقد أن من واجبه إتيانه فلا مسئولية عليه من الناحية الجنائية. ومن تطبيقات هذه القاعدة إقامة الحدود، فلا خلاف بين الفقهاء في أن إقامة الحدود واجبة، وأن سائر الحدود إذا أتي بها على الوجه المشروع من غير زيادة فلا مسئولية على مقيمها عما تؤدي إليه من تلف؛ لأن الواجب لا يقيد بشرط السلامة، ولأنه لابد للمكلف بالواجب من إتيانه، فمن أقام حد الزنا على غير محصن فضربه مائة جلدة بطريقة مشروعة فلا مسئولية على الضارب إذا أدى الضرب إلى الموت، فإذا تعمد الزيادة عن المائة أو الخطأ فزاد على المائة فأدى الضرب إلى الموت فهو مسئول جنائياً في حالين، وهو مسئول عن الزيادة في الحالين ولو لم يؤد الضرب للموت. وإذا أمر الإمام مقيم الحد أن يضرب أكثر من مائة، وكان مقيم الحد يعتقد طاعة الإمام وتجهل تجريم الزيادة، فلا مسئولية عليه وإنما مسئولية على الإمام، فإذا كان عالماً بالتحريم فهو مسئول ولا يعفيه الأمر من المسئولية (1) . ومن تطبيقات هذه القاعدة أن الإمام يقتص منه في كل ما تعمده من   (1) المغني ج10 ص334، شرح فتح القدير ج4 ص217، 218، 251، أسنى المطالب ج4 ص163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 جور جار به على الناس، فإذا قتل إنساناً قتل به، وإذا قطع إنساناً قطع به، سواء باشر الفعل كأن ضربه بسيف أو تسبب فيه كأن حكم عليه ظلماً بالقتل أو القطع (1) . وكان يسأل الإمام عن عمده يسأل عن خطئه، لكنهم اختلفوا في ضمان الخطأ، فرأى البعض أن الضمان على الإمام وعاقلته؛ لأنه ضمان وجب بخطئه مسئوليته عنه كمسئولية أي مخطئ. ورأى البعض أن ضمان الخطأ في بيت المال؛ لأن خطأ الإمام يكثر فلو وجب الضمان في ماله ومال عاقلته لأجحف بهم، فضلاً عن أن الحاكم يعمل للجماعة وليس لنفسه (2) . ويطبق مالك وأبو حنيفة وأحمد القاعدة السابقة في التعازير، فيرون أن لا عقوبة ولا ضمان على حاكم عزر إنساناً إذا أدت العقوبة التعزيرية إلى موت المحكوم عليه، سواء كانت العقوبة في ذاتها مهلكة كعقوبة الإعدام، أو كانت غير مهلكة كالجلد ولكن تنفيذها أدى لموت المحكوم عليه، ورأى هؤلاء الفقهاء قائم على أن فعل المحكوم عليه استوجب الحكم بالعقوبة وتنفيذها عليه، وأن التعزير واجب لحفظ سلامة الأفراد وصيانة نظام الجماعة، والواجب غير مقيد بشرط السلامة إذا أداه المكلف به في حدوده المشروعة ولم يتعمد الزيادة عليه ولم يحدث منه خطأ في أدائه (3) . أما الشافعي فيرى أن يضمن الإمام دية المحكوم عليه إذا عزره فمات أو كانت العقوبة التعزيرية هي الموت؛ لأن من حق الإمام العفو عن الجريمة والعفو   (1) شرح فتح القدير ج4 ص160، 161، المهذب ج2 ص189، الشرح الكبير ج9 ص342، 343، مواهب الجليل ج6 ص242، المدونة ج16 ص57، الأم ج6 ص170، 171. (2) المغني ج10 ص334، 335، المهذب ج2 ص228، الأم ج6 ص170، 171. (3) المغني ج10 ص349، شرح الزرقاني ج8 ص116، شرح فتح القدير ج4 ص212، 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 عن العقوبة كما أن من حقه اختيار العقوبة الملائمة للجريمة والمجرم، والتعزير بعد هذا مقصود بع التأديب لا الهلاك فكان مشروطاً بسلامة العاقبة، فإذا عاقب الإمام بعقوبة متلفة أو بعقوبة أدت للتلف فعلاً فهو مسئول عن ضمان الجاني. ويدخل في التعزير عند الشافعي حد الخمر إذا زاد على أربعين جلدة، فإذا ضرب شارب الخمر أكثر من أربعين فأدى ذلك لموته كان الإمام مسئولاً؛ لأن ما زاد على الأربعين تعزير مشروط بسلامة العاقبة. ويحتج الشافعي في ترتيب المسئولية على الإمام عن التعزير المتلف أو المؤدي للتلف بأن علياً - رضي الله عنه - قال: ليس أحد عليه الحد فيموت فأجد في نفسي شيئاً أن الحد قتله إلا حد الخمر فإن رسول الله لم يسنه لنا. كما يحتج بأن علياً أشار على عمر بضمان امرأة استدعاها عمر ففزعت وألقت جنينها حين أرسل إليها، وقد عمل عمر بمشورته. ويحتج أيضاً بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ير التعزير واجباً في كل حال، وأنه عفا عن الجريمة وعفا عن العقوبة في جرائم التعزير (1) . ورأي الأئمة الثلاثة يتفق مع مبدأ الذي تسير عليه القوانين الوضعية الحديثة على خلاف رأي الشافعي، ولكن رأي الشافعي يؤدي إلى مبدأ اجتماعي صالح إذ يعوض ورثة المحكوم عليه عن موت عائلهم الذي يموت في أغلب الأحوال من عقوبة لم يقصد منها موته، ولا شك أن مثل هذا التعويض يساعد على حماية أسرة المحكوم عليه وتنشئة أولاده تنشئة حسنة. 386 - حقوق الحكام: للحكام في الشريعة كل ما للأفراد من الحقوق ولكن لهم فوق ذلك حق الأمر على الأفراد، واستعمال هذا الحق يؤدي إلى ترتيب واجب على الأفراد هو واجب الطاعة، وقد قرر القرآن هذا الحق   (1) أسنى المطالب ج4 ص163، شرح البهجة ج5 ص108، المهذب ج2 ص228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وذلك الواجب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . وحق الأمر وواجب الطاعة كلاهما مقيد غير مطلق، فليس لآمر أن يأمر بما يخالف الشريعة، وليس لمأمور أن يطيع فيما يخالف الشريعة سواء كان موظفاً أو غير موظف، وذلك ظاهر من قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} ، ومن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وقوله: "من أمركم من الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه". فأمر الحاكم في الشريعة لا يخلي المأمور من المسئولية ولو كان المأمور موظفاً. وإذا أمر الرئيس مرءوسه بعمل مخالف للشريعة فأتاه وهو عالم بأنه غير مباح له كان على المرءوس عقوبة الفعل الذي أتاه، لأن أمر الرئيس في هذه الحالة يعتبر أمراً غير ملزم لا تجب طاعته، لأنه صدر فيما لا سلطان للرئيس فيه، وليس للمرءوس أن ينفذه فإن نفذه حمل مسئوليته. وإذا كان الفعل محرماً ولكن المأمور لا يعلم بذلك ونفذه طاعة للأمر معتقداً أنه غير محرم فلا مسئولية علي المأمور لحسن نيته، بشرط أن يكون الفعل داخلاً في اختصاص الآمر، إذ من الواجب على المأمور أن يطيع رئيسه فيما ليس بمعصية (1) . وإذا أكره الرئيس المرءوس على قتل أحد أو جلده بغير حق فمات فكلاهما مسئول جنائياً عن الفعل، ولا يعفي الإكراه المرءوس من المسئولية ولو كان الإكراه ملجئاً، إذ الأصل في الشريعة أن الإكراه على القتل لا يعفي المكره من العقوبة. وإذا كان الإكراه الملجئ لا يعفي من العقوبة فالإكراه الأدبي لا يعفي منها من باب أولى. والواقع أن الشريعة لا ترى في مركز الرئيس من المرءوس ما يحمل الأخير على إطاعة أمر مخالف للشريعة.   (1) الشرح الكبير ج9 ص342، 343، أسنى المطالب ج4 ص7 وما بعدها، شرح الزرقاني ج8 ص10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 وإذا كان الآمر يعتقد حل الفعل الذي أمر به، وكان المأمور لا يعتقد حله ثم نفذه بالرغم من ذلك، فإن عليه المسئولية دون الآمر. ولا فرق فيما سبق بين أن يكون المأمور جندياً أو غير جندي، فصفة المأمور لا تحل له ارتكاب فعل محرم، وصفة الآمر لا تبيح له أن يأمر بما ليس من حقه. 387 - بين الشريعة والقانون: وحكم الشريعة في حق الآمر وواجب الطاعة يتفق مع أحدث النظريات في القوانين الوضعية إلا فيما تراه هذه القوانين من تفرقة بين حالة الجندي وغير الجندي، فإنها لا تسمح للجندي بمخالفة أوامر رؤسائه فيما هو ظاهر أنه من اختصاصهم، بينما تسمح لغير الجندي بمخالفة أمر رئيسه إذا رأى أن الأمر مخالف للقانون. والشريعة لا تقبل هذه التفرقة؛ لأنها تحرم تحريماً قاطعاً طاعة الرئيس فيما هو معصية سواء كان المرءوس جندياً أو غير جندي، ولا شك أن الشريعة تتفوق على القوانين في هذه الناحية لأنها تشجع المرءوس على قول الحق، وعلى سلوك السبيل السوي، وتجعل الرئيس في حالة عجز عن مخالفة التشريع؛ لأنه لا يجد من ينفذ أمره، وفي ذلك خير ضمان للمحكومين والحاكمين على السواء. * * * المبحث الثاني أسباب رفع العقوبة 388 - ما يرفع العقوبة: ترفع العقوبة عن الفاعل في أربع حالات هي: (1) الإكراه. ... ... (2) السكر. ... ... (3) الجنون. ... (4) صغر السن. وفي كل حالة من هذه الحالات يرتكب الفاعل فعلاً يحرمه الشارع ويعاقب عليه، ولكن الشارع يعفيه من العقاب لحالة قائمة فيه لا في فعله، فأساس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 الإعفاء من العقوبة صفة قائمة في شخص الفاعل. بعكس الأمر في أسباب الإباحة فإن الإباحة أساسها وجود صفة في الفعل لا يجعله محرماً، وعلى هذا نستطيع أن نميز بين أسباب الإعفاء من العقوبة وبين أسباب الإباحة بأن الإعفاء يرجع لصفة في الفاعل وأن الإباحة ترجع لصفة في الفعل. وسنخصص فيما يأتي مبحثاً لكل حالة من حالات رفع العقوبة. * * * الفرع الأول الإكراه 389 - تعريف الإكراه: يعرف الفقهاء الإكراه: بأنه فعل يفعله الإنسان بغيره فيزول رضاه أو يفسد اختياره. وبأنه فعل يوجد من المكره يحدث في المحل - أي المكره - معنى يصير به مدفوعاً إلى الفعل الذي طلب منه. وبأنه عبارة عن تهديد الغير على ما هدد بمكروه على أمر بحيث ينتفي به الرضاء (1) . ويعرفه البعض بأنه ما يفعل بالإنسان مما يضره أو يؤلمه (2) . ويرى البعض أن حد الإكراه هو أن يهدد المكره قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقاب يؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أكره عليه وغلب على ظنه أنه يفعل به ما هدد به إذا امتنع مما أكرهه عليه (3) . 390 - أنواع الإكراه: الإكراه نوعان: نوع يعدم الرضاء ويفسد الاختيار، وهو ما خيف فيه تلف النفس، ويسمى إكراهاً تاماً أو إكراهاً ملجئاً. ونوع يعدم الرضاء ولا يفسد الاختيار، وهو ما لا يخاف فيه   (1) البحر الرائق ج8 ص179. (2) مواهب الجليل ج4 ص45. (3) أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملي ج3 ص282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 التلف عادة كالحبس والقيد لمدة قصيرة، والضرب الذي لا يخشى منه التلف، ويسمى إكراهاً ناقصاً أو إكراهاً غير ملجئ (1) . والإكراه الناقص لا يؤثر إلا على التصرفات التي تحتاج إلى الرضاء كالبيع والإجارة والإقرار، فلا تأثير له على الجرائم. أما الإكراه التام فيؤثر فيما يقتضي الرضاء والاختيار معاً كارتكاب الجرائم، فمن أكره على جريمة زنا مثلاً ينبغي أن يكون الإكراه الواقع عليه بحيث يعدم رضاه ويفسد اختياره، والإكراه التام هو الذي سنتكلم عنه. ويرى بعض الفقهاء في مذهب أحمد ورأيهم مرجوح أن الإكراه يقتضي شيئاً من العذاب مثل الضرب والخنق وعصر الساق وما أشبه، وأن التوعد بالعذاب لا يكون إكراهاً، ويستدلون على ذلك بقصة عمار بن ياسر حين أخذه الكفار فأرادوه على الشرك بالله فأبى عليهم، فلما غطوه في الماء حتى كادت روحه تزهق أجابهم ما طلبوا، فانتهى إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبكي فجعل يمسح الدموع من عينه ويقول: "أخذك المشركون فغطوك في الماء وأمروك أن تشرك بالله ففعلت، فإن أخذوك مرة أخرى ففعل ذلك بهم"، ويستدلون أيضاً بما قاله عمر رضي الله عنه: ليس الرجل أميناً على نفسه إذا أجعته أو ضربته أو أوثقته. فهؤلاء الفقهاء يرون أن الإكراه مادياً وسابقاً على الفعل الذي يأتيه المركه فلا يعتبر الفاعل مكرهاً؛ في رأيهم (2) . ويرى أصحاب الرأي الراجح في مذهب أحمد ما يراه مالك وأبو حنيفة والشافعي، فيرون أن الوعيد بمفرده إكراه، وأن الإكراه لا يكون غالباً إلا بالوعيد بالتعذيب أو بالقتل أو الضرب أو بغير ذلك، أما ما مضى من العقوبة   (1) البحر الرائق ج3 ص80. (2) المغني ج8 ص260، الشرح الكبير ج8 ص240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 فإنه لا يندفع بفعل ما أكره عليه، ولا يخشى منه شيئاً بعد وقوعه، إنما الخشية والخوف مما يهدد به، فإذا وقع الفعل المهدد به انتهت الخشية وذهب الخوف، فالذي يندفع إذن بإتيان الفعل المكره عليه هو ما يتوعد به من العقوبة أو التعذيب وليس ما وقع فعلاً (1) . وعلى هذا فالإكراه يصح أن يكون مادياً، ويصح أن يكون معنوياً، الإكراه المادي هو ما كان التهديد والوعيد فيه واقعاً، أما الإكراه المعنوي فهو ما كان الوعيد والتهديد فيه منتظر الوقوع. 391 - شروط الإكراه: يشترط لوجود الإكراه توفر الشروط الآتية، فإن لم تتوفر فلا يعتبر الإكراه قائماً ولا يعتبر الفاعل مكرهاً: أولاً: أن يكون ملجئاً - أي مما يستضر به ضرراً كبيراً - بحيث يعد الرضاء كالقتل والضرب الشديد والقيد والحبس الطويلين. وتقدير الوعيد الذي يستضر به مسألة موضوعية تختلف باختلاف الأشخاص والأسباب المكره عليها، فقد يكون الشيء إكراهاً في حق شخص دون آخر وفي سبب دون آخر، فبعض الأشخاص قد لا يتضرر من الضرب عدة أسواط والبعض قد يتضرر من ضربة سوط واحدة، والبعض قد يرحب بمكثه في السجن أمداً طويلاً، والبعض قد يضار ببقائه في السجن ليلة واحدة، والتهديد بالضرب والحبس والقتل لا يعتبر إكراهاً في جريمة القتل، ولكنه يعتبر إكراهاً في جريمة الشرب أو السرقة، والضرب اليسير في حق من يبالي به ليس إكراهاً، ولكنه يعتبر إكراهاً في حق ذوي المروءات إن وقع على وجه يكون إخراقاً بصاحبه وعضالة وشهرة في حقه.   (1) المغني ج8 ص261، البحر الرائق ج8 ص80، أسنى المطالب ج3 ص282، 283، مواهب الجليل ج3 ص45، 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 والتهديد بالشتم والسب والقذف ليس إكراهاً باتفاق (1) . وأمر صاحب السلطان يعتبر في ذاته إكراهاً دون حاجة إلى اقترانه بالوعيد أو التهديد إذا كان المفهوم أم جزاء المخالفة هو القتل أو الضرب الشديد أو الحبس والقيد الطويلان. وأمر من لا سلطان له لا يعتبر إكراهاً إلا إذا كان المأمور يعلم أنه إن لم يطع وقعت عليه وسائل الإكراه، أو كان الآمر قد اعتاد إيقاع هذه الوسائل على من يخالف أمره (2) . وأمر الزوج لزوجته في حكم أمرر السلطان إن كانت تخشى أن تقع عليها وسائل الإكراه عند عدم الطاعة، فإن أطاعت وهي لا تخشى شيئاً من هذا فلا يعتبر الأمر إكراهاً (3) . ويعتبر الوعيد إكراهاً إذا وجه لنفس المكره، وهذا متفق عليه، فإذا وجه لغيره فهناك اختلاف. فيرى المالكية أن الوعيد إكراه ولو وقع على أجنبي (4) . ويرى بعض الحنفية أن الوعيد ليس إكراهاً إذا وقع على غير المكره، ولكن بعضهم يرى أن هذا إكراه إذا وقع على الولد أو الوالد أو على ذي رحم محرم، وهذا يتفق مع رأي الشافعية (5) . ويرى الحنابلة أن الوعيد إكراه إذا وقع على الابن أو الأب (6) . والوعيد بإتلاف المال إكراه عند مالك والشافعي وأحمد إذا لم يكن المال يسيراً، فإن كان المال يسيراً فلا إكراه، وتقدير ما إذا كان المال يسيراً أو غير   (1) المغني ج8 ص261، مواهب الجليل ج4 ص45. (2) حاشية ابن عابدين ج5 ص112. (3) حاشية ابن عابدين ج5 ص125. (4) مواهب الجليل ج4 ص45. (5) حاشية ابن عابدين ج5 ص110، أسنى المطالب وحاشية الشهار الرملي ج3 ص283. (6) الإقناع ج4 ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 يسير يرجع فيه إلى الشخص نفسه ومقدار ثروته، فقد يكون المال يسيراً بالنسبة لشخص وغير يسير بالنسبة لشخص آخر (1) . والأصل في مذهب أبي حنيفة أن الوعيد بإتلاف المال ليس إكراهاً ولو كان إتلاف المال يلحق ضرراً جسيماً بصاحبه؛ لأن محل الإكراه الأشخاص لا الأموال، ولكن بعض فقهاء الحنفية يرى الوعيد بإتلاف المال إكراهاً، وأصحاب هذا الرأي يختلفون فيما بينهم فيشترط بعضهم أن يكون الوعيد بإتلاف كل المال ليكون إكراهاً، والبعض لا يشترط إتلاف كل المال ويكفي عندهم لاعتبار الإكراه قائماً أن يكون الوعيد بإتلاف جزء من المال يستضر بإتلافه ضرراً كبيراً (2) . ويجب أن يكون الوعيد بفعل محذور أي غير مشروع، فإن كان الفعل المهدد به مشروعاً فلا يعتبر الفاعل مكروهاً، فمن كان محكوماً عليه بالجلد أو الحبس وهدد بتنفيذ العقوبة عليه إن لم يرتكب جريمة فارتكبها فعليه عقوبتها ولا يعتبر أنه كان في حالة إكراه؛ لأن الفعل الذي هدد به مشروع فلا يعتبر أن التهديد هو الذي حمله على الفعل بل يعتبر أنه قد أتى الفعل بمحض إرادته (3) . ثانياً: أن يكون الوعيد بأمر حال (4) يوشك أن يقع إن لم يستجب المكره فإن كان الوعيد بأمر غير حال فليس ثمة إكراه، لأن المكره لديه من الوقت ما يسمح له بحماية نفسه ولأنه ليس في الوعيد غير الحال ما يحمله على المسارعة بارتكاب الفعل، ويرجع في تقدير ما إذا كان الوعيد حالاً أو غير حال إلى ظروف المكره وإلى ظنه الغالب المبني على أسباب معقولة.   (1) مواهب الجليل ج4 ص45، أسنى المطالب ج3 ص282، الإقناع ج4 ص4، المغني ج8 ص261. (2) البحر الرائق ج8 ص82. (3) حاشية ابن عابدين ج5 ص120، أسنى المطالب ج3 ص282، المغني ج8 ص260. (4) حاشية ابن عابدين ج5 ص109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 ثالثاً: أن يكون المكره قادراً على تحقيق وعيده؛ لأن الإكراه لا يتحقق إلا بالقدرة، فإن لم يكن المكره قادراً على فعل ما هدد به فلا إكراه. ولا يشترط في المكره أن يكون ذا سلطان كحاكم أو موظف؛ لأن العبرة بالقدرة على الفعل المهدد به لا بصفة المكره. رابعاً: أن يغلب على ظن المكره أنه إذا لم يجب إلى ما دعي إليه تحقق ما أوعد به، فإن كان يعتقد أن المكره غير جاد فيما أوعد به، أو كان يستطيع أن يتفادى الوعيد بأي طريقة كانت، ثم أتى الفعل مع ذلك، فإنه لا يعتبر مكرهاً. ويجب أن يكون ظن المكره مبنياً على أسباب معقولة. 392 - حكم الإكراه: يختلف حكم الإكراه باختلاف الجرائم، ففي بعض الجرائم لا يكون للإكراه أي أثر، وفي بعضها ترتفع المسئولية الجنائية ويباح الفعل، وفي بعضها تبقى المسئولية الجنائية وترتفع العقوبة، فالجرائم بالنسبة للإكراه على ثلاثة أنواع: (1) نوع لا يؤثر عليه الإكراه فلا يبيحه الإكراه ولا يرخص به. (2) نوع يبيحه الإكراه فلا يعتبر جريمة. (3) نوع يرخص به الإكراه فيعتبر جريمة ولكن لا يعاقب عليه. 393 - الجرائم التي لا يؤثر عليها الإكراه: اتفق الفقهاء على أن الإكراه الملجئ لا يرفع العقوبة عن المكره إذا كانت الجريمة التي ارتكبها قتلاً أو قطع طرف أو ضرباً مهلكاً (1) ، وحجتهم في ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57] ، ويعللون عقاب المكره بأنه قتل المجني عليه متعمداً ظالماً لاستبقاء نفسه معتقداً أن في قتله نجاة نفسه وخلاصه من شر المكره.   (1) البحر الرائق ج8 ص74، 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 والظاهر أن الفقهاء يرون أن كل جريمة يمكن أن تباح أو يرخص بها للإكراه إلا قتل الإنسان والاعتداء عليه اعتداء مهلكاً، فإنه كبيرة والتساهل فيها يؤدي إلى خطر جسيم، ولذلك يتشددون في هذه الناحية ويجمعون على عدم تأثير الإكراه على العقوبة في هذه الجرائم. ولكنهم اختلفوا على نوع العقوبة، فمالك وأحمد يريان القصاص من المكره (1) . وفي مذهب الشافعي رأيان أرجحهما يرى القصاص والثاني يرى أصحابه أن تكون العقوبة الدية على اعتبار أن الإكراه شبهة تدرأ القصاص (2) . وفي مذهب أبي حنيفة (3) اختلاف على العقوبة، فزفر يرى القصاص، وأبو حنيفة ومحمد يريان الاكتفاء بتعزير المكره أي عقابه بالعقوبة التي يراها الشارع ملائمة، وأبو يوسف يرى الدية على المكره. ونظرية فقهاء الشريعة في عقاب المكره على القتل وقطع الأطراف والضرب المهلك تتفق تماماً في النتيجة مع ما يراه أصحاب النظرية المادية من شرح القوانين الوضعية، وهم الذين يرون أن في حالة الإكراه يتعارض حقان أو مصلحتان، وأن الفاعل يختار بين الجريمة والخطر الذي يتهدده، أو بين تضحية نفس وتضحية الغير، ولا يرون العقاب إذا ضحى بالأقل قيمة لتضحية رغيف لإحياء شخص جائع، أما إذا تساوت المصلحتان أو ضحى بأكبرهما قيمة يرون عقاب الفاعل (4) . وقد طبقت هذه النظرية في إنجلترا في حادث ملخصه أن يختاً غرق ونجا من ركابه القبطان وآخر وخادم، واستقلوا قارباً للنجاة فبقوا به ثمانية عشر يوماً يقاسون أشد الآلام، وبعدها اتفق القبطان ورفيقه   (1) مواهب الجليل ج6 ص242، المغني ج9 ص331، الإقناع ج4 ص171. (2) تحفة المحتاج ج4 ص7، المهذب ج3 ص189. (3) بدائع الصنائع ج7 ص179. (4) الموسوعة الجنائية ج1 ص492. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 على قتل الخادم ليشربا دمه وليقتاتا بلحمه، وقتلاه فعلاً، فحكم عليهما بالإعدام، ثم استبدل الإعدام بالحبس. 394 - الجرائم التي يباح فيها الفعل: يرفع الإكراه المسئولية الجنائية في كل فعل محرم يبيح الشارع إتيانه في حالة الإكراه كأكل الميتة وشرب الدم، ولقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، ولقوله: {اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ، فأكل الميتة وشرب الدم كلاهما محرم في غير حالة الإكراه، ولكنه يباح إذا أكره الإنسان عليه، ومن ثم فلا مسئولية على إتيان الفعل ولو أنه محرم أصلاً، لأن التحريم يزول بالإكراه، بل أن المكره ليأثم فيما بينه وبين ربه طبقاً للرأي الراجح إذا امتنع عن مطاوعة المكره؛ لأنه يلقي بنفسه في التهلكة بامتناعه وعدم مطاوعته (1) . ويشترط في الإكراه الذي يرفع المسئولية الجنائية ويبيح الفعل أن يكون إكراهاً ملجئاً، فإن كان ناقصاً فإنه لا يحل الفعل فيبقى الفعل محرماً معاقباً عليه. ويمكن معرفة الأفعال التي يرفع فيها الإكراه المسئولية الجنائية من مراجعة النصوص التي حرمتها، فإن كانت أحلتها عند الضرورة أو الإكراه فهي من هذا النوع، وإن لم تكن أحلتها فهي ليست منه. وعلى كل حال فهذه الأفعال خاصة بالمطاعم والمشارب المحرمة كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر الدم والنجاسات. ويختلف الفقهاء في شرب الخمر، فأبو حنيفة والشافعي وأحمد يرون الإكراه يبيح الفعل، أما مالك فيرى الإكراه يرفع العقوبة ولا يبيح   (1) بدائع الصنائع ج7 ص176، المهذب ج2 ص245 وما بعدها، مواهب الجليل ج3 ص229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 الفعل فيظل الفعل محرماً على أصله، ولكن الفاعل لا يعاقب لعدم التكليف؛ أي لانعدام الاختيار (1) . مسئولية المكره المدنية عن هذه الجرائم: والأصل أن الإنسان لا يسأل جنائياً ولا مدنياً عن فعل مباح، والإكراه في هذا النوع من الجرائم يحل الفعل، ومن ثم فلا يسأل الفاعل مدنياً عن الجريمة في ذاتها، وإنما يسأل عن كل فعل آخر صحبها إذا ألحق هذا الفعل ضرراً بالغير، فلحم الخنزير مثلاً محرم أصلاً ولكن الإكراه يبيح للإنسان أن يتناول هذا اللحم، ولا يعتبر تناوله جريمة ولا مسئولية على الآكل من الوجهة المدنية إذا اشترى اللحم، أما إذا غصبه أو سرقه ممن يملكه فإنه يسأل مدنياً قبل المالك بقيمة ما غصب أو سرق. والواقع أن المسئولية المدنية هنا ليست عن أكل اللحم وإنما هي عن الغصب أو السرقة فكلاهما جريمة لا يعاقب عليها للإكراه، والإعفاء من العقاب لا يمنع من المسئولية المدنية عن هاتين الجريمتين. 395 - بين الشريعة والقانون: وتختلف الشريعة عن القوانين الوضعية في أنها تجعل الإكراه مبيحاً لبعض الأفعال المحرمة، بينما القاعدة في القوانين الوضعية أن الإكراه لا يبيح الفعل وإنما يرفع العقوبة فقط، والواقع أن الأفعال التي يبيحها الإكراه في الشريعة محدودة وقد حرمت هذه الأفعال أصلاً، لأن في إتيانها ضرراً بمن يأتيها، فشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير محرمة؛ لأنها تضر بصحة الشارب والآكل قبل كل شيء، فهي أفعال محرمة لمصلحة الفاعل لا لمصلحة الغير، فكان من العدل أن تباح إذا أدى تحريمها لإلحاق ضرر أكبر بالفاعل، أو بتعبير آخر إذا انتفت حكمة التحريم، أما ما عدا ذلك من الأفعال فأساس التحريم فيها مصلحة الغير، وسواء أكره الشخص على إتيانه أو أتاه مختاراً فإن   (1) المراجع السابقة، ومواهب الجليل ج5 ص318، تبصرة الحكام ج2 ص227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 الفعل يمس مصلحة الغير، فأساس التحريم قائم في حالتي الإكراه والاختيار، ومن ثم بقى الفعل جريمة في الحالين، ولكن لما كان الفاعل قد أتى الفعل وهو مكره فقد رفعت عنه عقوبة الفعل للإكراه. ولعل منطق الشريعة في هذه الناحية أدق من منطق القوانين الوضعية التي تسوي في الحكم بين الجرائم جميعاً وإن اختلف أساس التحريم فيها. فالقانون المصري مثلاً يعاقب على استعمال اللحم المذبوح خارج السلخانة (1) ، والحكمة في تحريم الاستعمال الخوف من أن يكون اللحم من حيوان مصاب بمرض معد فيمرض الآكل، فإذا اضطر الجوع إنساناً ليأكل من هذا اللحم اعتبر فعله جريمة بالرغم من أن التحريم قصد به أصلاً المحافظة على حياة الآكل، بالرغم من أن تحريم الفعل في حالة الاضطرار يؤدي إلى القضاء على حياة الآكل، واكتفى برفع العقاب عنه مع أن علة التحريم في هذه الحالة منعدمة. وهكذا لا نجد الشريعة خالفت القوانين الوضعية إلا وجدنا الحق والعدل والمنطق في جانب الشريعة. 396 - الجرائم التي ترتفع فيها العقوبة: يرفع الإكراه التام العقوبة في كل الجرائم الأخرى عدا ما سبق مع بقاء الفعل محرماً على أصله، ولعة ذلك أن المكره لا يأتي الفعل راضياً عنه ولا مختاراً له اختياراً صحيحاً؛ والمرء لا يسأل عن فعله إلا إذا كان مدركاً مختاراً، فإذا انعدم الإدراك أو الاختيار فلا عقاب على الفاعل. فالسبب في الإعفاء راجع إلى الشخص لا إلى الفعل في ذاته، ومن ثم رفعت العقوبة عن الفاعل وبقى الفعل محرماً. وكل ما يشترط لرفع العقوبة عن المكره أن يكون الإكراه تاماً، فإن كان ناقصاً لم ترتفع العقوبة، ويستوي أن يكون الإكراه التام مادياً أو معنوياً.   (1) المادة الأولى من لائحة السلخانات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 ومن الجرائم التي تدخل تحت هذا القسم القذف والسب والسرقة وإتلاف مال الغير، فهه الجرائم وغيرها مما يدخل تحت هذا القسم لا عقاب عليها إذا أكره الإنسان على إتيانها إكراهاً تاماً، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النجل: 106] ، ولكن تبقى الأفعال المكونة لهذه الجرائم محرمة لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله". واختلف الفقهاء في زنا الرجل، فقال أبو حنيفة أولاً: إن الرجل لا يزني إلا منتشراً، والانتشار دليل على الشهوة والاختيار، فإذا زنا فهو غير مكره وعليه العقوبة، ثم عدل أبو حنيفة عن هذا الرأي؛ لأن الانتشار قد يكون دليل على الفحولية لا دليل الاختيار (1) . وفي مذاهب مالك والشافعي وأحمد من يرى رأي أبي حنيفة الأول ولكنهم قلة ورأيهم مرجوح، والرأي الراجح في المذاهب الثلاثة هو أن الإكراه يعفي الرجل من عقوبة الزنا؛ لأن التهديد والتخويف يكون على ترك الزنا لا على إتيانه، والفعل في ذاته لا يخاف منه فليس ثمة ما يمنع الانتشار (2) . أما المرأة المكرهة على الزنا فلا عقوبة عليها باتفاق، لقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وقد جرى العمل بهذا من عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث يروى أن امرأة استكرهت على عهده فدرأ عنها الحد. ولا فرق في حالة المرأة بين الإكراه بالإلجاء؛ أي أن تغلب على أمرها بقوة مادية وهو ما نسميه اليوم بالإكراه المادي، وبين أن تكره بالتهديد وغيره وهو ما نسميه اليوم بالإكراه المعنوي، ومن القضايا المشهورة قضية امرأة عطشت فاستسقت راعياً فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت، فلما رفع أمرها لعمر استشار علياً رضي الله عنهما فأفتى علي بأنها مضطرة ولا عقاب عليها لقوله تعالى:   (1) بدائع الصنائع ج7 ص180. (2) مواهب الجليل ج5 ص294، تحفة المحتاج ج4 ص91، المغني ج10 ص158، 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فلم يعاقبها عمر. حكم المسئولية المدنية: يسأل المكره مدنياً في هذا القسم عن الأضرار التي أصابت غيره من الجرائم التي ارتكبها ولو أنه معفى من عقوبتها؛ لأن القاعدة في الشريعة أن الدماء والأموال معصومة؛ أي أن الاعتداء عليها محرم، وأن الأعذار الشريعة لا تبيح عصمة المحل؛ أي أن ما اعتبره الشارع عذراً للفاعل لا يبيح نفس الفعل المحرم. فإذا أعفى الفاعل من العقوبة فهو ملزم بتعويض غيره من الأضرار التي سببها له بإنجاء نفسه من الهلكة والضرر. وتتفق الشريعة في هذا القسم مع القوانين الوضعية الحديثة ولا تختلف عن القانون المصري الذي ينص على رفع العقاب عمن ارتكب جريمة ألجأته إلى ارتكابها ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره ولم يكن لإرادته دخل في حلوله ولا في قدرته منعه بطريقة أخرى (1) . والقوانين الوضعية وإن كانت رفعت العقوبة عن المكره إلا أنها تجعله مسئولاً مدنياً عن الأضرار التي أحدثها بالغير؛ شأنها في ذلك شأن الشريعة. 397 - أساس نظرية الإكراه في الشريعة: بينا فيما سبق أن أساس حالة الإكراه المبيح للفعل، ونبين الآن أساس ما عداه من حالات الإكراه. والظاهر من تتبع آراء الفقهاء أنهم يرون أن الإكراه يعدم الرضا ولا يعدم الاختيار، فالمكره لا ينعدم اختياره إطلاقاً وإنما يفسد فقط ويضيق مداه بحيث لا يستطيع أن يختار إلا بين أمرين: إما ارتكاب الجريمة وإما تعريض نفسه لوعيد المكره. وإذا كانت المسئولية الجنائية تقوم على اختيار فإنها لا تنعدم إلا إذا انعدم الاختيار، ولا يعتبر الاختيار منعدماً إذا انحصر وضاق مداه على   (1) راجع المادة 61 من قانون العقوبات المصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 الوجه السابق؛ لأن المكره يستطيع أن يختار على أي حال. والمكره حين يختار ارتكاب الجريمة يلحق الضرر بغيره، وحين يختار الوعيد يلحق الضرر بنفسه، وكلاهما أمر تأباه الشريعة، فهي تحرم على الناس الإضرار بالغير كما تحرم على الناس أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فالمكره حين يختار إنما يختار بين محرمين أو بين ضررين. وقد وضعت الشريعة قاعدتين لحكم هذه الحالة: أولهما: أن الضرر لا يزال بالضرر، ومقتضى هذه القاعدة أنه لا يجوز للإنسان أن يدفع الضرر بمثله، فليس له أن يدفع الغرق عن أرضه بإغراق أرض غيره، ولا أن يحفظ ماله بإتلاف مال غيره، وليس للمضطر أن يتناول طعام مضطر آخر، وهكذا. وثانيتهما: أن أخف الضررين يرتكب لاتقاء أشدهما، ومقتضى هذه القاعدة أنه إذا لم يكن بد من ارتكاب أحد الضررين فيجوز للإنسان أن يرتكب أخفهما لدفع الأشد، ولا يجوز له أن يرتكب أشد الضررين لدفع أخفهما. فتطبيق هاتين القاعدتين يوجب على المكره أن يأتي من الأمرين أمراً واحداً بعينه، فإذا اتاه فهو لا يختار في الواقع وإنما يضطر إلى إتيانه اضطراراً بحكم الإكراه أولاً ونزولاً على حكم الشريعة ثانياً، وإذن فاختياره ينعدم تماماً إذا نزل على حكم قاعدتي الضرر سالفي الذكر، فتنعدم المسئولية الجنائية لانعدام الاختيار وترتفع العقوبة. أما إذا خالف حكم قاعدتي الضرر ودفع الضرر بمثله، أو دفع الضرر الأخف بالأشد، فقد اختار، وهذا الاختيار لا يعدم المسئولية الجنائية ولا يرفع العقوبة ولو كان مداه ضيقاً. وقد جاءت أحكام الإكراه في الشريعة تطبيقاً دقيقاً لما سبق، فإذا قتل المكره غيره أو قطع طرفه أو ضربه ضرباً مهلكاً فإنما يفعل هذا ليدفع عن نفسه القتل أو ما يؤدي إلى القتل من القطع أو ضرب مهلك، وليس له أن يدفع الضرر بمثله أو بأشد منه، فإذا فعل ذلك فقد اختار وهذا الاختيار على ضيق مداه لا يرفع عنه المسئولية الجنائية فيعاقب على القتل والقطع والضرب المهلك. أما ما عدا هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 من الجرائم كالسرقة والقذف والسب والزنا والتبديد وإتلاف الأموال فليس فيها ما يساوي التهديد بتلف النفس، فإذا ارتكب المكره الجريمة لينجي نفسه من الهلكة فإنه لا يدفع الضرر بمثله، وإنما يدفع أشد الضرين بأخفهما، ولا يختار بين الضررين نزولاً على حكم الشريعة، وإذن فهو مكره على إتيان الجريمة ولا خيار له في إتيانها أو تركها، وإذا انعدم اختياره انعدمت المسئولية الجنائية وارتفعت عنه العقوبة. 398 - بين الشريعة والقوانين الوضعية: هذه هي نظرية الإكراه في الشريعة، ومن له إلمام بالقوانين الوضعية يرى أن نظرية الشريعة جمعت بين نظريتين يقول بهما شراح القوانين: إحداهما: النظرية الشخصية، والثانية: النظرية المادية، وقد جمعت نظرية الشريعة بين أفضل ما في النظريتين القانونيتين وسلمت من عيوبهما، ذلك أن أصحاب النظرية الشخصية يرون أن أساس الإكراه هو انعدام حرية المكره في الاختيار، أما أصحاب النظرية المادية فيرون أنه كان مختاراً وأن فكرة توفر الاختيار وانعدامه لا تصلح أساساً لتعليل الإكراه، والصحيح عندهم أنه في حالة الإكراه يكون هناك تنازع بين حقين أو مصلحتين، وأن هذا التنازع يقتضي تضحية أحدهما ما دام أقل قيمة من الآخر، أما إذا تساوت قيمة الحقين أو المصلحتين أو زادت قيمة أحدهما فأصحاب النظرية ينقسمون على بعضهم، فمنهم من يرى العقاب إذا تساوى ضرر الجريمة مع ضرر الإكراه أو زاد عليه، ومنهم من لا يرى العقاب في أي حال؛ لأن الجريمة في هذه الحالة لا تهم الجماعة، ولأن المجرم لا يعتبر خطراً، وهو تعليل غير مقنع ولا يبرر الجريمة على أساس قانوني (1) . 399 - الإكراه والضرورة: ويلحق بالإكراه حالة الضرورة من حيث الحكم، ولكنها تختلف عن الإكراه في سبب الفعل، ففي الإكراه يدفع   (1) الموسوعة الجنائية ج1 ص492، شرح قانون العقوبات للدكتورين كامل مرسي والسعيد مصطفى ص376 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 المكره إلى إتيان الفعل شخص آخر يأمر المكره بإتيان الفعل ويجبره على إتيانه، أما في حالة الضرورة فلا يدفع الفاعل إلى إتيان الفعل أحد، إنما يوجد الفاعل في ظروف يقتضيه الخروج منها أن يرتكب الفعل المحرم؛ لينجي نفسه أو غيره من الهلكة، كمن يركب مع آخرين قارباً مملوءاً بالأمتعة يكاد يغرق لثقل حمولته فإن نجاة الركاب تقتضي تخفيف حمولة القارب وإلقاء بعض الأمتعة التي تثقله في الماء. ومن أمثلة على حالة الضرورة الجوع الشديد والعطش الشديد، فإن الجائع أو العطشان إذا لم يجد ما يأكله أو يشربه من طريق مباح هلك، وقد يندفع الجائع أو العطشان تحت تأثير الجوع والعطش إلى سرقة ما يسد رمقه أو يطفئ عطشه كما قد يندفع إلى تناول طعام أو شراب محرم، ومثل ذلك يقال عمن كاد يهلك من البرد إذا أشعل ناراً في حطب آخر ليستدفئ أو أشعلها له غيره. ففي كل هذه الأحوال يوجد نفس الفاعل أو يوجد غيره في حالة أو في ظروف مهلكة فيندفع الفاعل إلى إتيان فعل محرم لإنجاء نفسه أو لإنجاء غيره من الهلكة. 400 - شروط حالة الضرورة: يشترط لوجود حالة الضرورة أربعة شروط: 1 - أن تكون الضرورة ملجئة بحيث يجد الفاعل نفسه أو غيره في حالة يخشى منها تلف النفس أو الأعضاء. 2 - أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة، فليس للجائع أن يأكل الميتة قبل أن يجوع جوعاً يخشى منه. 3 - أن لا يكون لدفع الضرورة وسيلة إلا ارتكاب الجريمة، فإذا أمكن دفع الضرورة بفعل مباح امتنع دفعها بفعل محرم، فالجائع الذي يستطيع شراء الطعام ليس له أن يحتج بحالة الضرورة إذا سرق طعاماً. 4 - أن تدفع الضرورة بالقدر اللازم لدفعها، فليس للجائع أن يأخذ من طعام غيره إلا ما يرد جوعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 401 - حكم حالة الضرورة: يختلف حكم حالة الضرورة باختلاف الجريمة، فهناك جرائم لا تؤثر عليها الضرورة، وجرائم تبيحها الضرورة وجرائم ترتفع فيها العقوبة للضرورة. 402 - الجرائم التي لا تؤثر عليها الضرورة: ليس للضرورة أثر على جرائم القتل والجرح والقطع، فليس للمضطر بأي حال أن يقتل غيره أو يقطعه أو يجرحه لينجي نفسه من الهلكة، فإذا كان جماعة في قارب مشرف على الغرق لثقل حمولته فليس لأحدهم أن يلقي غيره في الماء ليخفف حمولة القارب ولينجي نفسه وغيره من الهلكة، ولا يعفيه هذا إذا فعله من العقاب. ومن المتفق عليه أن الشخص الذي يحرم قتله أو جرحه أو قطعه هو الشخص المعصوم، أما المهدر فقتله مباح بل هو واجب في أكثر الأحوال. ويحرم مالك أكل لحم الإنسان في حالة الضرورة ولو كان مهدراً، فمن جاع حتى أوشك أن يهلك ولم يجد إلا مهدراً فليس له أن يأكل من لحمه ما يرد جوعه سواء كان المهدر حياً أو ميتاً، وهذا هو الرأي الراجح في مذهب أبي حنيفة (1) . ويجيز الشافعي وأحمد أكل لحم المهدر في حالة الضرورة سواء كان المهدر حياً أو ميتاً، ويوافقهما في هذا بعض الحنفية بل يبيح الشافعي وبعض الحنفية أكل لحم الميت المعصوم في حالة الضرورة؛ لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، أما أحمد فيحرم أكل لحم المعصوم الميت (2) . ويبيح الشافعي للمضطر أن يقطع من جسمه فلذة ليأكلها في حالة الضرورة إذا ظن السلامة مع القطع (3) . ويخالفه في هذا بقية الفقهاء. وليس للمضطر أن يأخذ من مضطر مثله ما يقيم حياته؛ لأنه أحق به حيث   (1) مواهب الجليل ج3 ص233، حاشية ابن عابدين ج5 ص296. (2) المغني ج11 ص79، أسنى المطالب ج1 ص571. (3) أسنى المطالب ج1 ص571. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 يساويه في الضرورة وينفرد في الملك، فإن أخذه منه فمات فهو مسئول عن موته ويعتبر قاتلاً له بغير حق (1) . وللمضطر أن يأخذ ما يقيم حياته من غيره إذا لم يكن في حاجة إليه، وإن احتاج الأمر إلى قتال قاتله عليه، فإن قُتِل المضطر فقاتله مسئول جنائياً عن قتله ولا يعتبر في حالة دفاع، وإن قتله المضطر فهو هدر؛ لأنه ظالم بقتاله المضطر فأشبه الصائل. وليس للمضطر أن يقاتل على شئ كلما استطاع أن يأخذه بشراء أو استرضاء مهما تغالى صاحب الشيء في الثمن؛ لأن المضطر لا يلزمه شرعاً إلا ثمن المثل (2) ، وهذا هو رأي مالك والشافعي وأحمد، ولا يختلف عن رأي أبي حنيفة إلا في أنه يبيح للمضطر أن يقاتل الممتنع باليد لا بالسلاح (3) . 403 - الجرائم التي تبيحها الضرورة: تباح الجريمة للضرورة إذا كانت الشريعة تنص على إباحتها في حالة الضرورة، وهذا النوع من الجرائم خاص بالمطاعم والمشارب كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الدم والنجاسات، فهذه الجرائم وأمثالها يباح إتيانها في حالة الاضطرار باتفاق، وبشرط أن يقتصر الفعل المحرم على القدر الذي يسد الضرورة، فمن اضطره الجوع إلى أكل الميتة فله أن يأكل منها بقدر ما يسد رمقه ويأمن معه من الموت على رأي، أو بقدر ما يشبعه على رأي آخر، ولكن ليس له أن يزيد على ما يشبعه إلا إذا كانت الضرورة مستمرة كما لو كان منقطعاً في صحراء (4) .   (1) المغني ج11 ص80، مواهب الجليل ج6 ص240. (2) المغني ج11 ص80، أسنى المطالب ج1 ص572، مواهب الجليل ج3 ص234. (3) حاشية ابن عابدين ج5 ص296. (4) أحكام القرآن للجصاص ج1 ص130، أسنى المطالب ج1 ص570، المغني ج11 ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 وللمضطر التزود من الطعام أو الشراب المحرم إذا كان يعلم أن الضرورة مستمرة، بشرط أن لا يطعمه ولا يشربه إلا إذا تجددت الضرورة (1) . وقد اختلفوا في إتيان الفعل المحرم الذي يباح للضرورة، فقال البعض ورأيهم الراجح: إن إتيان الفعل واجب على المضطر وليس حقاً له، فالمضطر إلى الطعام أو الشراب يأثم إذا لم يأكل المحرم أو يشربه لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، ولقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] ، فوجب على الإنسان كلما قدر على إحياء نفسه بما أحله الله أن يتناوله ليحيي نفسه، ويرى البعض الآخر ورأيهم مرجوح أن إباحة الأكل والشرب رخصة للمضطر له أن يأتيها أو يتركها، فإتيان الفعل حق لا واجب (2) . 404 - الجرائم التي ترفع الضرورة عقوبتها: وفيما عدا النوعين السابقين من الجرائم فإن المضطر إذا أتى الجرائم الأخرى مدفوعاً إلى ارتكابها بالضرورة فإنه يعفى من العقوبة مع بقاء الفعل محرماً، ومثل ذلك سرقة الجائع الطعام أو الشراب، وإلقاء أمتعة الركاب في البحر إذا أشرف المركب على الغرق. ويشترط للإعفاء من العقوبة أن لا يأتي المضطر الفعل إلا بالقدر الذي يدفع الضرورة، فليس للجائع أن يأكل من طعام غيره إلا ما يرد جوعه، وليس له أن يأخذ معه شيئاً، وليس لراكب القارب المشرف على الغرق أن يلقي من أمتعة الركاب إلا بالقدر الذي يمنع غرق القارب. ويشترط للإعفاء من العقوبة أن يكون الفعل المحرم مما يرد الضرورة، فإذا لم يكن كذلك فلا إعفاء، فمن يسرق أمتعة من آخر ليبيعها ويشتري بثمنها   (1) مواهب الجليل ج3 ص233، أسنى المطالب ج1 ص570، المغني ج11 ص75. (2) أحكام القرآن للجصاص ج1 ص128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 طعاماً لا يستطيع أن يدعي أنه كان في حالة ضرورة؛ لأن سرقة الأمتعة لا تدفع الضرورة مباشرة، أما من يسرق رغيفاً فإنه يستطيع أن يقول إنه كان في حالة ضرورة؛ لأن السرقة تؤدي مباشرة لدفع الضرورة. 405 - حكم المسئولية المدنية في حالة الضرورة: حكم المسئولية المدنية في حالة الضرورة هو حكمها في حالة الإكراه، فالمضطر مسئول مدنياً كلما كان فعله محرماً ولو رفعت عنه العقوبة ولا مسئولية عليه كلما كان فعله مباحاً. 406 - الأساس الشرعي لحالة الضرورة: الأساس الشرعي لحالة الضرورة هو نفس الأساس الذي يقوم عليه الإكراه، ففي حالة عدم رفع العقاب يبقى الفعل معاقباً عليه لانعدام الإلجاء، وفي حالة الإباحة يباح الفعل لانتفاء علة التحريم، وفي حالة رفع العقاب لتحقق الإلجاء وانعدام الاختيار، وقد فصلنا القول في ذلك كله أثناء الكلام على الإكراه. * * * الفرع الثاني السكر 407 - الشرب والسكر: تحرم الشريعة الإسلامية شرب الخمر لذاته سواء أسكر أو لم يسكر، وتعتبر جريمة الشرب من الحدود ويعاقب عليها بالجلد ثمانين جلدة. وإجماع الفقهاء فيما عدا أبا حنيفة وأصحابه على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام سواء سمي خمراً أو كان له اسم آخر، وأن شرب القليل من أي مسكر معاقب عليه ولو لم يسكر، ولكن أبا حنيفة يفرق بين الخمر وغيرها من المسكرات، ويرى العقاب على شرب الخمر سواء أسكر أو مل يسكر، أما ما عدا الخمر من المسكرات فلا يرى العقاب على تناوله إلا إذا أدى شربه إلى السكر فعلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 والخمر في رأي أبي حنيفة هي عصير العنب النيئ (1) إذا غلا واشتد وقذف زبده (2) ، أو طبخ فذهب أقل من ثلثيه، وكذلك نقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ. أما عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه، ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ وإن لم يذهب ثلثاه، ونبيذ الحنطة والذرة والشعير وغيرها نقيعاً كان أو مطبوخاً - فذلك هو المسكر (3) لا يعاقب على مجرد شربه وإنما على السكر منه. والمخدرات على اختلاف أنواعها كالحشيش والداتورة وما أشبه لها حكم المسكر، ولكن لا يعاقب عليها بعقوبة الحد؛ لأنه ورد في الخمر والسكر، والحد عقوبة مغلظة لا تقرر بالقياس، والمتفق عليه أن عقوبة المخدرات هي التعزير. تعريف السكر: ويعرف السكر بأنه: غيبة العقل من تناول خمر أو ما يشبه الخمر (4) . ويعتبر الإنسان سكران إذا فقد عقله فلم يعد يعقل قليلاً ولا كثيراً، ولا يميز الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة. وهو رأي أبي حنيفة (5) ، ويرى محمد وأبو يوسف أن السكران هو الذي يغلب على كلامه الهذيان، وحجتهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ، فمن لم يعلم ما يقول فهو سكران، ورأيهما يتفق مع رأي باقي الأئمة (6) . 408 - السكر والمسئولية الجنائية: الرأي الراجح في كل من المذاهب   (1) بدائع الصنائع ج5 ص112. (2) عصير العنب النيئ خمر عند محمد وأبي يوسف، قذف بالزبد أو لم يقذف به. (3) المغني ج10 ص327. (4) يدخل تحت هذا التعريف المسكرات على رأي أبي حنيفة كما تدخل تحته كل أنواع المخدرات. (5) بدائع الصنائع ج5 ص118. (6) المغني ج10 ص235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 الأربعة (1) أن السكران لا يعاقب على ما يرتكب من الجرائم إذا تناول المادة المسكرة مكرهاً، أو تناول المسكر مختاراً وهو لا يعلم أنه مسكر، أو شرب دواء للتداوي فأسكره؛ لأنه ارتكب الجريمة وهو زائل العقل فيكون حكمه حكم المجنون أو النائم وما أشبه. ويلحق بالإكراه حالة الاضطرار، فمن شرب الخمر مثلاً وهو عالم بأنها خمر لدفع غصة فسكر منها ثم ارتكب جريمة أثناء سكره فإنه لا يعاقب عليها؛ لأنه مكره على تناولها. أما من يتناول المسكر مختاراً بغير عذر، أو يتناول دواء لغير حاجة فيسكر منه، فإنه مسئول عن كل جريمة يرتكبها أثناء سكره سواء ارتكبها عامداً أو مخطئاً، ويعاقب بعقوبتها لأنه أزال عقله بنفسه، وبسبب هو في ذاته جريمة فيتحمل العقوبة زجراً له، فضلا ً عن أن إسقاط العقوبة عنه يفضي إلى أن من أراد ارتكاب جريمة شرب الخمر وفعل ما أحب فلا يلزمه شيء. وفي كل من المذاهب الأربعة رأي آخر مرجوح (2) بل مهجور وهو أن السكران لا يسأل عن تصرفاته سواء تناول المسكر مختاراً أو مكرهاً أو غير عالم بأنه مسكر؛ لأن عقله كان زائلاً وقت إتيان الفعل فلم يكن مدركاً، والإدراك أساس المسئولية الجنائية فإذا فقد انعدمت المسئولية، ومصدر هذا الرأي عثمان رضي الله عنه، وهو أحد قولي الشافعي، وقد أخذ به قلة من الفقهاء في كل مذهب، ولكنه كما قلنا رأي مهجور. 409 - السكر والمسئولية المدنية: يسأل السكران مدنياً عن فعله ولو أعفي من العقاب لسكره، فالمسئولية المدنية لا ترتفع عن السكران بحال؛ ذلك أن الدماء والأموال معصومة أي محرمة طبقاً للقاعدة العامة في الشريعة، والأعذار   (1) المغني ج9 ص358، وج10 ص325 وما بعدها، مواهب الجليل ج6 ص317، تبصرة الحكام ج2 ص227، تحفة المحتاج ج4 ص118، المهذب ج2 ص82، 185، 204، البحر الرائق ج5 ص25، شرح فتح القدير ج4 ص178. (2) المراجع السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 الشريعة لا تبيح عصمة المحل، أي أن رفع العقوبة عن السكران بسبب عدم الإدراك لا يمنع من مسئوليته مدنياً عن تعويض الأضرار التي سببها للغير؛ لأن عدم الإدراك إذا صلح سبباً لرفع العقوبة فإنه لا يصلح سبباً لإهدار الدماء والأموال. 410 - الشريعة والقوانين: تتفق آراء شرح القوانين مع ما يراه الفقهاء في الشريعة، وينقسمون أيضاً قسمين: أقلية ترى ما يراه أصحاب الرأي المرجوح في الشريعة من أن السكران لا يعاقب في أي حال على ما يرتكبه من الجرائم، وأغلبية ترى ما يراه أصحاب الرأي الراجح في الشريعة من رفع العقاب عن السكران إذا تناول المسكر مكرهاً أو غير عالم بأنه مسكر ثم ارتكب الجريمة أثناء سكره، فإن تناول المسكر مختاراً فإنه يعاقب على أية جريمة يرتكبها أثناء سكره. ويتفق نص القانون المصري تمام الاتفاق مع الرأي الراجح في الشريعة الإسلامية، فهو لا يعاقب من ارتكب الفعل وهو فاقد الشعور لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أياً كان نوعها إذا أخذها قهراً أو على غير علم منه بها. * * * الفرع الثالث الجنون 411 - تمهيد: تعتبر الشريعة الإنسان مكلفاً أي مسئول مسئولية جنائية إذا كان مدركاً مختاراً، فإذا انعدم أحد هذين العنصرين ارتفع التكليف عن الإنسان، ومعنى الإدراك في المكلف أن يكون متمتعاً بقواه العقلية، فإن فقد عقله لعاهة أو أمر عارض أو جنون فهو فاقد الإدراك. والمرء قد يولد فاقداً لقواه العقلية وقد يولد متمتعاً بهذه القوى، وقد تنمو قواه العقلية مسايرة إلى نمو جسمه، وقد يعترضها ما يوقف نموها من مرض أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 عاهة فينمو الجسم إلى آخر أطوار نموه وتظل القوى العقلية باقية في أطوارها الأولى، وقد يبلغ الإنسان رشيداً متمتعاً بقواه العقلية ولكن يطرأ عليه مرض يذهب بقواه العقلية كلها أو بعضها، ففقدان القوى العقلية ليس له وقت ولا أوان. وفقدان القوى العقلية قد يكون تاماً ومستمراً ويسمونه جنوناً مطبقاً. وقد يكون تاماً وغير مستمر ويسمونه جنوناً متقطعاً. وقد يكون جزئياً فيفقد الإنسان قدرة الإدراك في موضوع بعينه، ولكنه يظل متمتعاً بالإدراك فيما عداه، وهذا ما يسمونه بالجنون الجزئي. وقد لا تفقد القوى العقلية تماماً، ولكنها تضعف ضعفاً غير عادي، فلا ينعدم الإدراك كلية، ولا يصل في قوته إلى درجة الإدراك العادي للأشخاص الراشدين، وهذا ما يسمونه بالعته أو البله. وهناك مظاهر أخرى لفقدان القوى العقلية اصطلح على تسميتها بأسماء معينة، ولكنها جميعاً تقوم على أساس واحد هو انعدام الإدراك في الإنسان، وحكم هذه الحالات جميعاً واحد على تعدد مظاهرها واختلاف مسمياتها، وهو أن المسئولية الجنائية تنعدم كلما انعدم الإدراك فإذا لم ينعدم فالمسئولية قائمة. 412 - تعريف الجنون: ونستطيع بعد ما سبق أن نعرف الجنون: بأنه زوال العقل أو اختلافه أو ضعفه، وهو تعريف يشمل الجنون والعته وغير ذلك من الحالات المرضية والنفسية التي تؤدي إلى إنعدام الإدراك، وسنبين فيما يلي حالات الجنون وما يلحق بها. 413 - الجنون المطبق: الجنون المطبق الذي لا يعقل صاحبه شيئاً أو هو الجنون الكلي المستمر، ويستوي أن يكون عارضاً للإنسان أو أن يكون مصاحباً له من يوم ولادته، ويسمى بالجنون المطبق إما لأنه يستوعب كل أوقات المجنون، وإما لكونه مجنوناً كلياً لا يفقه صاحبه شيئاً، ويعبر بعض الفقهاء عن المجنون جنوناً مطبقاً بالمجنون المغلوب، ولكن يرى البعض أن المجنون المغلوب هو من كان جنونه مستمراً سوء كان جنونه كلياً بحيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 لا يعقل شيئاً ما أو كان جنونه جزئياً بحيث يعقل بعض الأشياء دون البعض الآخر. 414 - الجنون المتقطع: هو الذي لا يعقل صاحبه شيئاً واكنه جنون غير مستمر، فهو يصيب الشخص تارة ويرتفع عنه أخرى، فإذا أصابه فعد عقله تماماً, وإذا ارتفع عنه عاد إليه عقله, فهو نفس الجنون المطبق لا يفترق عنه إلا في الاستمرار. فالجنون المتقطع يفقد صاحبه الإدراك في حالة وجوده فلا يكون مسئولاً جنائياً، فإذا انقشع عنه عاد له الإدراك وصار مسئولاً جنائياً عما يرتكبه من جرائم في حالة إفاقته، بعكس المجنون جنوناً مطبقاً، فإنه لا يسأل جنائياً؛ لأن جنونه تام ومستمر. وإذا أفاق صاحب الجنون المتقطع إفاقة جزئية، بمعنى أنه لا يدرك إدراكاً تاماً في حالة أو في حالات معينة، ولكنه يدرك إدراكاً تاماً فيما عدا ذلك، فحكمه في حالة الإفاقة الجزئية حكم صاحب الجنون الجزئي. وإذا أفاق صاحب الجنون المتقطع ولكنه كان في إفاقته ضعيف الإدراك بصفة عامة فحكمه في هذه الحالة حكم المعتوه. 415 - الجنون الجزئي: إذا لم يكن الجنون كلياً وكان قاصراً على ناحية أو أكثر من تفكير المجنون بحيث يفقده الإدراك في هذه الناحية أو هذه النواحي فقط مع بقائه متمتعاً بالإدراك في غيرها من النواحي، فهذا هو الجنون الجزئي. والمجنون جزئياً مسئول جنائياً فيما يدركه، وغير مسئول في النواحي التي ينعدم فيها إدراكه. وقد يكون الجنون الجزئي متقطعاً ينتاب المريض حيناً ويرتفع عنه حيناً آخر، فإذا ارتفع الجنون صار المريض مسئولاً جنائياً عما يرتكبه من جرائم في حالة إفاقته. وقد يكون الجنون جزئياً مستمراً، ويسمي البعض المجنون في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 هذه الحالة بالمجنون المغلوب؛ لأنهم يرون أن المجنون المغلوب هو من كان جنونه مستمراً سواء كان كلياً أو جزئياً، والتسمية على كل حال لا أهمية لها؛ لأن العبرة في انعدام المسئولية بفقد الإدراك لا بالتسمية، فالمجنون غير مسئول كلما انعدم إدراكه. 416 - العَتَه: يعرف الفقهاء المعتوه بأنه: من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير، سواء كان ذلك ناشئاً من أصل الخلقة أو لمرض طرأ عليه. ويفهم من هذا التعريف أن العته أقل درجات الجنون، ويمكن القول بأن الجنون يؤدي إلى زوال العقل أو اختلاله، أما العته فيؤدي إلى إضعافه ضعفاً تتفاوت درجاته، ولكن إدراك المعتوه أياً كان لا يصل إلى درجة الإدراك في الراشدين العاديين. وأكثر الفقهاء يسلمون أن العته نوع من الجنون وبأن درجات الإدراك تتفاوت في المعتوهين ولكنها لا تخرج عن حالة الصبي المميز، ولكن بعض الفقهاء يرون أن بعض المعتوهين يكونون من حيث الإدراك كالصبي الغير مميز وبعضهم كالصبي المميز، وأصحاب هذا الرأي لا يجعلون فرقاً بين الجنون والعته إذا كان المعتوه في أقل درجات التمييز، ولذلك فرقوا بين الجنون والعته بأن الأول يصحبه اضطراب وهيجان، والثاني يلازمه الهدوء ولكن حقيقتهما واحدة. وسواء صح هذا الرأي أو ذاك فهي مسميات لحقائق واقعة ومعبرة بالواقع لا بالمسمى؛ لأن فاقد الإدراك معفى من العقاب سواء سمي معتوهاً أو مجنوناً أو كان له اسم آخر. 417 - الصرع والهستيريا وما أشبه: هناك حالات عصبية تظهر على المرضى بها فيفقدون شعورهم أو اختيارهم كما يفقدون إدراكهم ويأتون بحركات وأعمال وأقوال لا يعونها ولا يدركون حقيقتها. وهذه الحالات المرضية لم يتعرض لها فقهاء الشريعة بصفة خاصة، ولعل السر في ذلك أن العلوم النفسية والطبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 لم تكن وصلت إلى ما هي عليه اليوم من التقدم، ولكن هذه الحالات على اختلافها يمكن استظهار حكمها بسهولة إذا طبقنا عليها قواعد الشريعة العامة. والمصاب بالصرع تأخذه حالات تشنجية بعد أن يفقد الإدراك والاختيار، وقد يرتكب وهو في هذه الحالة أعمالاً إجرامية دون أن يشعر بما حدث منه بعد إفاقته. والمصاب بالهيستريا تنتابه حركات تشنجية فإذا عاودته راح يهذي دون وعي، والمريض بالملاخوليا يتصور الأمور على غير حقيقتها ويدعوه هذا التصور المغاير للواقع إلى إتيان أمور لا مبرر لها. وهؤلاء المرضى وأمثالهم حكمهم حكم المجنون إذا كانوا وقت ارتكاب الحادث فاقدي الإدراك أو كان إدراكهم ضعيفاً في درجة إدراك المعتوه، ويأخذ هؤلاء المرضى حكم المكره إذا كانوا متمتعين بالإدراك ولكنهم فاقدي الاختيار فإن لم يفقدوا إدراكهم ولا اختيارهم فهم مسئولون جنائياً عن أعمالهم. 418 - تسلط الأفكار الخبيثة: ويلحق بالمجنون ما يسمونه في عصرنا الحاضر تسلط الأفكار الخبيثة، وهي حالة مرضية تنشأ عن ضعف الأعصاب أو الوراثة، ومظهرها وقوع الإنسان تحت سلطان فكرة معينة، والشعور القوي الذي لا يدفع بالرغبة في إتيان فعل معين استجابة للفكرة المتسلطة، فمن يعتقد أنه مضطهد، أو أن أناساً يريدون قتله أو تسميمه، فيشعر بالرغبة الجامحة في قتل من يتوهم أنه يريد قتله أو الانتقام منه، وقد يأتي المريض الفعل استجابة لميل غريزي جامح لا تحت تأثير فكرة متسلطة عليه. وحكم المرضى من هذا النوع إلحاقهم بالمجانين إذا كانوا يأتون الفعل وهم فاقدوا الإدراك أو كان إدراكهم من الضعف بحيث يساوي إدراك المعتوه, فإن لم يكونوا كذلك فهم مسئولون جنائياً. 419 - ازدواج الشخصية: هي حالة مرضية نادرة تصيب الإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 فيظهر في بعض الأحيان بغير مظهره العادي وتتغير أفكاره ومشاعره وقد تتغير ملامحه ويأتي أعمالاً ما كان يأتيها وهو في حالته العادية، ثم تزول الحالة الطارئة فلا يذكر شيئاً مما حدث له بعد أن يعود إلى حالته الطبيعية. وحكم هذه الحالة أنه يعتبر مجنوناً إذا لم يدرك ما يفعله؛ لأنه كان فاقداً عقله وقت ارتكاب الفعل. 420 - ضعف التمييز: هناك أشخاص يرتفع إدراكهم عن إدراك المجنون والمعتوه ولكنه ينقص عن إدراك الإنسان الكامل، وهم على ضعف إدراكهم سريعو الاندفاع ولكنهم حين يأتون الجريمة يأتونها وهم مميزون مدركون لأفعالهم، وهذا الإدراك الناقص نوع لا يعفي من العقاب طبقاً لقواعد الشريعة العامة، وهو كذلك لا يعفي من العقاب في القوانين الوضعية. ويرى بعض الشراح تخفيف العقوبة باعتبار الفاعل معذوراً، ولكن البعض الآخر يرى تشديد العقوبة لأن العقوبة الشديدة هي التي تردع أمثال هؤلاء وتصرفهم عن ارتكاب الجرائم. ولا تسمح قواعد الشريعة بالأخذ بفكرة التخفيف إلا في جرائم التعازير، أما جرائم الحدود والقصاص فلا يصح فيها تخفيف العقوبة ولا استبدال غيرها بها؛ لخطورة هذه الجرائم واتصالها الشديد بحياة الأشخاص وأمن الجماعة ونظامها. 421 - الصم البكم: الصم البكم مسئولون جنائياً عن جرائمهم كلما كانوا متمتعين بالإدراك والاختيار وقت ارتكابها، فإذا أثرت حالتهم على إدراكهم بحيث يمكن اعتبارهم مجانين أو معتوهين فلا مسئولية عليهم. ويرى أبو حنيفة وأصحابه درء الحدود عن الصم البكم والاكتفاء بتعزيرهم ولو أقروا بالجريمة؛ لأن الصم والبكم شبهة، ولأن إقرارهم يقوم على الإشارة وقد يقصد بالإشارة غير المعنى الذي فهم منها، ولأن الأصم الأبكم لو استطاع أن ينطق لدفع التهمة أو جرح الشهود. ويخالف مالك والشافعي وأحمد رأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 أبي حنيفة، ويأخذون بإقرار الأبكم ما لم يكن في الإشارة شبهة ولا يرون درء الحد عنه بالصمم والبكم. 422 - الحركة النومية: يأتي بعض الناس أفعالاً وهو نائم دون أن يشعر، ويغلب أن تكون الحركات التي يأتي بها النائم ترديداً للحركات التي اعتاد أن يأتيها في اليقظة، ولكن يحدث أن يأتي بحركات مخالفة لا علاقة لها بالحركات التي يأتيها وهو متيقظ. ويعللون حركة النائم من الناحية العلمية بأن ملكات الإنسان جميعاً لا تتأثر بنومه بل يهجع بعضها ويظل البعض متنبهاً بدرجات مختلفة, ويحدث عند من تنتابهم هذه الحالة أن تتنبه فيهم بعض الملكات بدرجة غير عادية فتؤدي وظائفها العادية دون أن يشعر النائم بذلك، فيتحرك أو يكتب أو يأتي أعمالاً أخرى، ثم تزول حالة التنبه الطارئة فيعود النائم إلى حالته الطبيعية ولا يشعر بعد اليقظة مما حدث منه أثناء النوم. والقاعدة العامة في الشريعة أن لا عقاب على النائم، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق"، وإذا كان الحديث قد جمع بين حالة النوم وحالة الجنون وجعل حكمهما واحداً إلا أن الفقهاء يلحقون حالة النوم بالإكراه ولا يلحقونها بالجنون، ولعل الحكمة في هذا هي أن النائم المتيقظ يتمتع بالإدراك وإنما يفقد فقط الاختيار، فهو يعمل ما يعمل دون أن يقصد عمله، وهو وقت العمل لا يفقد إدراكه بدليل أنه لا يأتي أعماله اعتباطاً ويميز بين الضار والنافع ولا يأتي أعمالاً تضر به. وشراح القانون الوضعي يتكلمون عن هذه الحالة إذا تكلموا عن الجنون، على أساس أن النائم يكون فاقد الإدراك والاختيار معاً، وأن ميوله هي التي تحرك عضلاته دون أن يرى ما يفعل ببصره أو بعقله. ويلوح لي أن إلحاق هذه الحالة بالإكراه أقرب للمنطق من إلحاقها بالجنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 حتى لو صح أن النائم يفقد إدراكه أيضاً؛ لأن المكره مع تمتعه بالإدراك والإرادة لا يعمل بعقله ولا بإرادته وإنما يعمل مدفوعاً بإرادة غيره وعقل غيره، وقد تحركه قوة مادية خارجية فلا يغني عنه عقله ولا إرادته شيئاً، والنائم المتيقظ أشبه شيء بالمكره فهو متمتع يالإدراك والاختيار ولكنهما لا يغنياه شيئاً وقت الحركة النومية. وليس ثمة فرق عملي بين الشريعة والقوانين الوضعية في هذه المسألة بالرغم مما ذكرنا؛ لأن الإكراه في الشريعة يرفع العقوبة وكذلك الجنون، وحكم الإكراه والجنون في القوانين الوضعية أنهما يرفعان أيضاً العقوبة، فسواء اعتبرنا النائم مكرهاً أو مجنوناً فهو غير معاقب على يأتيه من جرائم أثناء نومه. 423 - التنويم المغناطيسي: هو حالة من حالات النوم الصناعي يقع فيها شخص بتأثير يصبح النائم تحت تأثير المنوم يفعل كل ما يأمره بفعله سواء وقت النوم أو بعد اليقظة، وينفذ النائم عادة هذه الأوامر بشكل آلي فلا يشعر بما فعل تلبية للأمر الصادر إليه إذا أتى الفعل أثناء النوم، ولا يستطيع مقاومة إيحاء الآمر إذا أتى الفعل بعد اليقظة. ولم يعرف بعد بصفة قاطعة الكيفية التي يسيطر بها المنوم على النائم وإن كان البعض الأطباء يرى أن النائم يستطيع أن يقاوم الإيحاء الإجرامي. وإذا طبقنا قواعد الشريعة على هذه الحالة وجب أن نلحقها بحالة النوم الطبيعي، ومن ثم يكون النائم مكرهاً ويرتفع عنه العقاب للإكراه إذا ارتكب جريمة من الجرائم التي يرفع فيها الإكراه العقاب. والواقع أنه يصعب إلحاق التنويم المغناطيسي بالجنون؛ لن النوم الصناعي الذي يقع فيه النائم لا يسلبه الإدراك وإنما يسلبه فقط الاختيار. وآراء أغلب شراح القوانين تتفق مع الشريعة في اعتبار التنويم المغناطيسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 إكراهاً وإن كانوا يتكلمون عنه عادة بمناسبة الكلام على الجنون. هذا هو حكم التنويم المغناطيسي إذا كان النائم قد نام مرغماً أو قبل أن ينام وهو لا يفكر في ارتكاب الجريمة، أما إذا كان النائم يعلم أن المنوم يقصد من تنويمه أن يوحي إليه بارتكاب جريمة أو يشجعه على ارتكابها ثم قبل أن ينام فإن النائم في هذه الحالة يعتبر متعمداً ارتكاب الجريمة، وما كان التنويم إلا وسيلة من وسائل التي تساعده على ارتكابها، فهو مسئول عن فعله طبقاً لقواعد المسئولية العامة، وفي هذا تتفق الشريعة الإسلامية مع القوانين الوضعية تمام الاتفاق. 424 - هياج العواطف: إذا كان الإنسان متمتعاً بالإدراك والاختيار ثم ارتكب جريمة فهو مسئول عنها جنائياً ولو كان قد ارتكب الجريمة تحت تأثير عاطفة قوية، ويستوي أن تكون العاطفة شريفة أو دنيئة، فمن دفعه حب الانتقام أو شدة الكراهية لقتل شخص فهو مسئول عن قتله، ومن دفعه الحب الشديد لقتل إنسان ليخلصه من آلامه الشديدة فهو مسئول أيضاً عن قتله، فالعواطف القوية مهما بلغت قوتها لا أثر لها على المسئولية الجنائية، وإنما قد يكون لها في الشريعة أثر في العقوبة إذا كانت العقوبة تعزيراً، أما إذا كانت حداً فلا أثر للعاطفة على مسئولية ولا على العقوبة. والغضب الشديد أو الاستفزاز لا تعتبره الشريعة مبرراً لارتكاب الجريمة ولا مانعاً من المسئولية الجنائية، إنما قد يكون لهما أثر على العقوبة إذا كانت تعزيراً، فإن كانت العقوبة حداً فلا أثر للغضب أو الاستفزاز عليها. ولكن الخوف الشديد من الاعتداء قد يرفع المسئولية الجنائية إذا كان الإنسان في حالة دفاع شرعي أو في حالة إكراه. ويرى بعض الفقهاء إعفاء قاتل الزاني غير المحصن من العقوبة إذا قتل في حالة اتلبس على أساس أنه كان في حالة استفزاز وتهيج. ولكن الرأي الراجح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 أن علة القتل هي تغيير المنكر وأن من يغير المنكر يؤدي واجباً عليه فالفعل مباح له (1) . هذا هو أثر العواطف القوية على المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية، والقاعدة العامة في القوانين الوضعية أن العواطف مهما بلغت من القوة لا أثر لها على المسئولية الجنائية، ولكنها قد تصلح عذراً لتخفيف العقوبة إذا رأى القاضي ذلك. على أن بعض القوانين تجعل من حالة الاستفزاز عذراً قانونياً، كالقانون الفرنسي فإنه يجعل الاستفزاز عذراً قانونياً في جرائم القتل والضرب، وكالقانون المصري يجعل التلبس بالزنا عذراً للزوج الذي يقتل زوجته ومن يزني بها. 425 - حكم الجنون: يختلف حكم الجنون بحسب ما إذا كان معاصراً للجريمة أو لاحقاً لها. 426 - حكم الجنون المعاصر للجريمة: يترتب على الجنون المعاصر للجريمة رفع العقوبة عن الجاني لانعدام الإدراك فيه. فالجنون لا يبيح الفعل المحرم وإنما يرفع عقوبته عن الفاعل، وهذا الحكم متفق عليه بين فقهاء الشريعة، ولا تختلف الشريعة في هذا عن القوانين الوضعية الحديثة، فكلها على أن الجنون يمنع عقوبة الفاعل ولكنه لا يبيح الفعل، ونص القانون المصري صريح في هذا فهو يقضي بأن لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل إما لجنون أو عاهة في العقل (2) . مسئولية المجنون المدنية: وإعفاء المجنون ومن في حكمه من العقوبة الجنائية لا يعفيه من المسئولية المدنية عن فعله؛ لأن الأموال والدماء معصومة، ولأن   (1) تبصرة الحكام ج2 ص169، البحر الرائق ج5 ص40، 41، المغني ج10 ص353 وما بعدها. (2) المادة 62 من قانون العقوبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 الأعذار الشريعة لا تبيح عصمة المحل، فإذا كان الجاني له من الأعذار ما يمنع عنه العقوبة فإن هذه الأعذار لا تؤثر على حق الغير في تعويض الأضرار التي سببها له الجاني بفعله؛ لأن الفعل يظل محرماً على الفاعل، وإذا كان الجنون لا يجعل الجاني أهلاً للعقوبة فإنه لا ينفي عن الجاني أهليته لتملك الأموال والتصرف فيها، وما دامت هذه الأهلية متوفرة فيه فقد وجب أن يتحمل المسئولية المدنية وهي مسئولية مالية. مدى مسئولية المجنون المدنية: من المتفق عليه بين الفقهاء أن المجنون ضامن لأفعاله أي مسئول عنها مدنياً، فهو ملزم بتعويض ما ينشأ عن جريمته من ضرر تعويضاً كاملاً ما دام الضرر ناشئاً عن عمله. ومع تسليم الفقهاء بهذه القاعدة العامة فإنهم اختلفوا في مدى مسئولية المجنون المدنية في جرائم القتل والجرح, وأساس اختلافهم في هذه المسألة هو اختلافهم في تكييف جرائم المجنون، فمالك وأبو حنيفة وأحمد يرون أن عمد المجنون خطأ؛ لأنه لا يمكن أن يقصد الفعل قصداً صحيحاً، وإذا لم يكن فعله مقصوداً فهو ليس عمداً وإنما خطأ (1) . أما الشافعي فيرى عمد المجنون عمد لا خطأ، وأن الجنون يعفيه من العقوبة فقط ولا يؤثر على تكييف الفعل؛ لأنه يأتيه مريداً له وإن كان لا يدركه إدراكاً صحيحاً (2) . وللاختلاف على تكييف فعل المجنون أثره على التعويض الذي يلزم به المجنون؛ لأن الدية في جرائم العمد مغلظة ويحملها العامد في ماله الخاص، ولكن الدية في جرائم الخطأ مخففة وتحملها العاقلة مع الجاني أو عنه. ولما كان التعويض في جرائم القتل والجرح مقدراً بالدية فإنه يأخذ حكمها، ولذلك جعل الشافعي التعويض مال المجنون لما اعتبره عامداً؛ لأن المتعمد يحمل الدية في ماله،   (1) مواهب الجليل ج6 ص242، بدائع الصنائع ج7 ص236، المغني ج9 ص375. (2) الأم ج6 ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 أما بقية الأئمة فجعلوا التعويض على المجنون وعاقلته؛ لأنهم اعتبره مخطئاً لا عامداً ولو جعلوا التعويض كله في ماله مع اعتباره مخطئاً لكان مركز المجنون في جرائم القتل والجرح أسوأ من مركز العاقل المخطئ؛ لأن العاقل المخطئ لا يلزم إلا بالدية، تحملها معه العاقلة. 427 - مقارنة بين الشريعة والقانون: يختلف القانون المصري والقانون الفرنسي عن الشريعة في هذه المسألة، فكلاهما لا يجعل المجنون مسئولاً مدنياً عن جرائمه ولكنه يحمل المسئولية الشخص المكلف بملاحظة المجنون باعتبار أنه أهمل في ملاحظته، ويعللون عدم مسئولية المجنون مدنياً بأنه فاقد الشعور والاختيار وأن كل مسئولية تقتضي وجود خطأ ولا خطأ إذا لم تكن هناك إرادة. وليس للمسئول عن ملاحظة المجنون أن يرجع المجنون بما سببه له من المسئولية بفعله، ولو أن القاعدة العامة أن المسئول عن غيره له أن يرجع على هذا الغير (1) ، ويعللون هذا الحكم بأن الخطأ خطأ المسئول عن ملاحظة المجنون؛ لأنه مكلف بملاحظته والإشراف عليه وحمايته من أعماله الضارة. وهو تعليل فيهشئ من التعسف. ونصوص القانون المصري والفرنسي في المسئولية المدنية تقوم على نظرية التقليدية نظرية الخطأ La faute، ولكن هناك نظرية أخرى حديثة هي نظرية الخطر La theorie du risque تحاول أن تزحزح النظرية التقليدية عن مكانها، ومقتضى نظرية الخطر أن المجنون يسأل مدنياً عن تعويض الأضرار التي أحدثها من ماله الخاص، وقد طبق القانون الألماني والقانون السويسري نظرية الخطر، فالقانون الألماني يلزم المجنون بتعويض ما أحدثه من ضرر في حدود مقدرته على دفع التعويض، والقانون السويسري يبيح للقاضي أن يحكم على غير المسئول   (1) المسئولية المدنية لمصطفى مرعي ص153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 جنائياً تعويض الضرر الذي أحدثه تعويضاً كلياً أو جزئياً، بل أن القانونين الألماني والسويسري يذهبان إلى مسئولية المجنون جنائياً ومدنياً إذا كان الفعل الذي أتاه من الأفعال التي يعاقب فيها على الإهمال أو عدم التبصر، وكأن يكون جنونه ناشئاً عن عادات سيئة كتعاطي المسكرات أو ناشئاً عن فساد الأخلاق. وذلك لأنه يوجد في هذه الحالة خطأ أصلي يصح أن ينسب إلى الفاعل ويكفي لتبرير مسئوليته (1) . وظاهر مما سبق أن نظرية الخطر وهي أحدث النظريات تتجه اتجاه الشريعة في مسئولية المجنون مدنياً بل هي نفس نظرية الشريعة، وإذا كانت القوانين الوضعية لم تعرف نظرية الخطر إلا في القرن العشرين فقد عرفتها الشريعة من ثلاثة عشر قرناً وأكثر. 428 - حكم الجنون اللاحق للجريمة: الجنون اللاحق للجريمة إما أن يحدث قبل الحكم أو بعده: الجنون قبل الحكم: إذا حدث الجنون قبل الحكم فإنه لا يمنع المحاكمة ولا يوقفها عند الشافعية والحنابلة، وحجتهم أن التكليف لا يشترط إلا وقت ارتكاب الجريمة، وليس في رأيهم هذا ما يسيء إلى مركز المجنون؛ لأن محاكمة المجرمين في الشريعة محوطة بضمانات قوية. ولعل أصحاب هذا الرأي كانوا متأثرين في رأيهم بالمنطق والواقع أكثر من أي شئ آخر، فالمجرم قد ارتكب جريمته واستحق العقوبة عليها فإذا جن فإن جنونه لا يمنع من محاكمته على جريمته ما دام هناك من الوسائل ما يوصل إلى الحقيقة؛ لأن أثر الجنون ينحصر في إعجاز المتهم عن الدفاع عن نفسه، والقاعدة أن العجز عن الدفاع لا يوقف المحاكمة ولا يمنعها، فالأبكم ومن فقد النطق بعد ارتكاب الجريمة ومن لا يكاد يبين كل هؤلاء عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم ولا يمنع عجزهم من محاكمتهم، فليس إذن   (1) الموسوعة الجنائية ج3 ص629. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 ما يدعوا لتمييز المجنون على هؤلاء وإيقاف محاكمته بحجة أنه عاجز عن الدفاع عن نفسه؛ لأنهم مثله من حيث عجزهم عن الدفاع ولم يقل أحد بإيقاف محاكمتهم أو امتناعهم. أما المالكية والحنفية فيرون أن الجنون قبل الحكم يمنع المحاكمة ويوقفها حتى يزول الجنون. وأساس هذا الرأي أن شرط العقوبة التكليف، وأن هذا الشرط يجب توفره وقت المحاكمة وهذا يقتضي أن يكون الجاني مكلفاً وقت المحاكمة فإن لم يكن كذلك امتنعت محاكمته. ويتفق القانون المصري والقانون الفرنسي مع رأي المالكية والحنفية في إيقاف محاكمة المجنون، ولكن القانونيين يجعلان علة الإيقاف عجز المجنون عن الدفاع عن نفسه، وهذه العلة ظاهرة في نص المادة 247 من قانون تحقيق الجنايات المصري حيث جاء بها: "إذا كان المتهم غير قادر على الدفاع عن نفسه بسبب عاهة في عقله فلا يحاكم حتى يعود إليه من الرشد ما يكفي لدفاعه عن نفسه، وإذا اتضح عجزه عن الدفاع عن نفسه أمام المحكمة وجب إيقاف محاكمته على الوجه المتقدم". وعلة إيقاف المحاكمة في الشريعة عند القائلين بالإيقاف ليست عن عجز المجنون عن الدفاع وإنما هي عدم استيفاء شرط العقاب، ولعل هذا التعليل أدق منطقاً من تعليل الإيقاف بالعجز عن الدفاع؛ لأن القانون المصري والقانون الفرنسي لا يوقفان محاكمة الأخرس ولا الأصم ولا الأبكم ولا من فقد النطق بعد ارتكاب الجريمة مع أنهم عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم تماماً كالمجنون، فضلاً عن أن حالاتهم أكثر طروءاً في العمل من حالة المجنون. الجنون الطارئ بعد الحكم: إذا جن الجاني بعد الحكم عليه فيرى الشافعي وأحمد أن الجنون لا يوقف تنفيذ الحكم إلا إذا كانت الجريمة المحكوم فيها من جرائم الحدود وكان دليل الإثبات الوحيد الذي بني عليه الحكم هو الإقرار؛ لأن للمحكوم عليه في جرائم الحدود أن يرجع عن إقراره إلى وقت تنفيذ العقوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 وبعد البدء في التنفيذ. فإذا رجع في إقراره أوقف التنفيذ لاحتمال أن يكون عدوله عن إقراره صحيحاً، ولما كان الجنون يمنع المحكوم عليه من الرجوع في إقراره وكان من حقه أن يرجع في إقراره تعين إيقاف التنفيذ حتى يفيق المجنون. أما إذا كان الحكم قائماً على دليل آخر غير الإقرار فلا يوقف الرجوع عن الإقرار تنفيذ الحكم. وأساس هذا الرأي أن العقوبة عن جريمة ارتكابها مجرم مسئول وقت ارتكابها، وأن العبرة في الحكم بالعقوبة وتنفيذها إنما بحال المكلف وقت ارتكاب الجريمة لا قبل ذلك ولا بعده (1) . ويمكن تعليل هذا الرأي أيضاً بأن العقوبة شرعت للتأديب والزجر، فإذا تعطل جانب التأديب بجنون المحكوم عليه لأنه لا يشعر بالتأديب فلا ينبغي تعطيل جانب الزجر؛ لأن مصلحة الجماعة ظاهرة في تنفيذ العقوبة لزجر الغير. وفي مذهب مالك يرون أن الجنون يوقف تنفيذ الحكم، ويظل الحكم موقوفاً حتى يفيق المجنون، إلا إذا كانت العقوبة قصاصاً فإنها على رأي البعض تسقط باليأس من إفاقة المجنون وتحل محلها الدية، ولكن البعض الآخر يرى في حالة اليأس من إفاقة المجنون أن يسلم المجنون المحكوم عليه بالقصاص لأولياء الدم فإن شاءوا اقتصوا وإن شاءوا أخذوا الدية (2) . ويرى أبو حنيفة إيقاف تنفيذ العقوبة على المجنون إلا إذا كان الجنون قد طرأ بعد تسليم المجنون للتنفيذ عليه؛ لأن هذا يعتبر بدءاً في التنفيذ وإذا بدأ التنفيذ فلا يوقف للجنون. وإذا كانت العقوبة قصاصاً فجن الجاني بعد الحكم عليه وقبل تسليمه للتنفيذ عليه فإن القصاص ينقلب بالجنون دية استحساناً (3) . ويقوم القول بأن الجنون يوقف التنفيذ على أساسين: أولهما: أن شرط العقوبة   (1) تحفة المحتاج ج4 ص19، المغني ج9 ص377، الإقناع ج4 ص244. (2) مواهب الجليل ج6 ص232. (3) حاشية ابن عابدين ج5 ص470. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 تكليف المعاقب؛ أي صلاحيته لأن يكون مسئولاً مسئولية جنائية، والعقوبة لا تكون إلا بالقضاء أي بالحكم بها فوجب أن يتحقق شرط العقوبة وهو التكليف وقت المحاكمة والحكم. ثانيهما: أن الاستيفاء من تمام القضاء، أي أن تنفيذ المحكوم به يعتبر متمماً للتقاضي. وإذا كان من شرط المحاكمة أن يكون الجاني مكلفاً فيجب أن يكون كذلك وقت التنفيذ؛ لأن التنفيذ مكمل للمحاكمة، فإذا سلم الجاني للتنفيذ عليه فيعتبر أن التنفيذ قد تم بهذا التسليم. والقانون المصري والفرنسي يطبقان النظريتين الإسلاميتين معاً، حيث تقضي نصوص القانونينبمنع تنفيذ العقوبة على من جن بعد صدور حكم نهائي عليه إذا كانت العقوبة هي اإعدام أو عقوبة مقيدة للحرية، أما العقوبات المالية فتنفذ على ماله ولكنها لا تنفذ عليه بطريق الإكراه البدني. ومنع تنفيذ العقوبات البدنية تطبيق لنظرية مالك وأبي حنيفة، وإباحة تنفيذ العقوبات المالية تطبيق لنظرية الشافعي وأحمد. * * * الفرع الرابع صغر السن 429 - تمهيد: تعتبر الشريعة الإسلامية أول شريعة في العالم ميزت بين الصغار والكبار من حيث المسئولية الجنائية تمييزاً كاملاً، وأول شريعة وضعت لمسئولية الصغار قواعد لم تتطور ولم تتغير من يوم أن وضعت ولكنها بالرغم من مضي ثلاثة عشر قرناً عليها تعتبر أحدث القواعد التي تقوم عليها مسئولية الصغار في عصرنا الحاضر. ولقد بدأت القوانين الوضعية تأخذ ببعض المبادئ التي وضعتها الشريعة لمسئولية الصغار بعد الثورة الفرنسية، ثم أخذت تتطور باستمرار بتأثير تقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 العلوم الطبية والنفسية، ولكن القوانين الوضعية بالرغم من تطورها تطوراً عظيماً لم تأت بعد بجديد لم تعرفه الشريعة الإسلامية. ولا نستطيع أن نتصور مدى فضل الشريعة الإسلامية إلا إذا عرفنا ما كانت عليه حالة الصغار في القوانين القديمة التي كانت تعاصر الشريعة عند نزولها. وأهم هذه القوانين القديمة هو القانون الروماني أساس القوانين الأوربية الحديثة، فهذا القانون كان بحق أرقى القوانين الوضعية، ولكنه لم يميز بين مسئولية الصغار والكبار إلا إلى حد محدود، فقد كان يميز بين الطفل في سن السابعة وما بعدها ويجعل الصغير مسئولاً جنائياً إذا زاد سنه عن سبع سنوات، ولا يجعله مسئولاً إذا قل سنه عن سبع سنوات، إلا إذا كان قد ارتكب الجريمة بنية الإضرار بالغير ففي هذه الحالة يكون مسئولاً جنائياً عن عمله، وشتان بين هذا وبين ما جاءت به الشريعة الإسلامية. 430 - الصغر والمسئولية الجنائية: تقوم المسئولية الجنائية في الشريعة الإسلامية كما بينا من قبل على عنصرين أساسيين، هما الإدراك والاختيار، ولهذا تختلف أحكام الصغار باختلاف الأدوار التي يمر بها الإنسان من وقت ولادته إلى الوقت الذي يستكمل فيه ملكتي الإدراك والاختيار. والإنسان حين يولد يكون عاجزاً بطبيعته عن الإدراك والاختيار، ثم تبدأ ملكتا الإدراك والاختيار، ثم تبدأ ملكتا الإدراك والاختيار في التكوين شيئاً فشيئاً حتى يأتي على الإنسان وقت يستطيع فيهالإدراك إلى حد ما ولكن إدراكه يكون ضعيفاً وتظل ملكاته تنمو حتى يتكامل نموه العقلي. وعلى أساس هذا التدرج في تكوين الإدراك وضعت قواعد المسئولية الجنائية، ففي الوقت الذي ينعدم فيه الإدراك تنعدم المسئولية الجنائية، وفي الوقت الذي يكون فيه الإدراك ضعيفاً تكون المسئولية تأديبية لا جنائية، وفي الوقت الذي يتكامل فيه الإدراك يكون الإنسان مسئولاً جنائياً. ويتبين مما سبق أن المراحل التي يجتازها الإنسان من يوم ولادته حتى بلوغه سن الرشد ثلاث مراحل: الأولى: مرحلة انعدام الإدراك، ويسمى الإنسان فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 بالصبي غير المميز. الثانية: مرحلة الإدراك الضعيف، ويسمى الإنسان فيها بالصبي المميز. الثالثة: مرحلة الإدراك التام، ويسمى الإنسان فيها بالبالغ والراشد. 431 - المرحلة الأولى: انعدام الإدراك: تبدأ هذه المرحلة بولادة الصبي وتنتهي ببلوغه السابعة اتفاقاً، وفي هذه المرحلة يعتبر الإدراك منعدماً في الصبى ويسمى بالصبي غير المميز، والواقع أن التمييز ليس له سن معينة يظهر أو يتكامل بتمامها، فالتمييز قد يظهر في الصبى قبل بلوغ السابعة وقد يتأخر عنها تبعاً لاختلاف الأشخاص واختلاف بيئاتهم واستعدادهم الصحي والعقلي، ولكن الفقهاء حددوا مراحل التمييز أي الإدراك بالسنوات حتى يكون الحكم واحداً للجميع ناظرين في ذلك إلى الحالة الغالبة في الصغار، وقد كان هذا التحديد ضرورياً لمنع اضطراب الأحكام، ولأن جعل التمييز مشروطاً بسن معينة يمكن القاضي أن يعرف بسهولة إن كان الشرط تحقق أم لا؛ لأن هذا الشرط وصف محسوس يسهل ضبطه والتعرف عليه. ويعتبر الصبي غير مميز ما دام لم يبلغ سنه سبع سنوات ولو كان أكثر تمييزاً ممن بلغ هذه السن؛ لأن الحكم لغالب وليس للأفراد، وحكم الغالب أن التمييز يعتبر منعدماً قبل بلوغ سن السابعة، فإذا ارتكب الصغير أيه جريمة قبل بلوغه سن السابعة فلا يعاقب عليها جنائياً ولا تأديبياً. فهو لا يحد إذا ارتكب جريمة توجب الحد، ولا يقتص منه إذا قتل غيره أو جرحه ولا يعزر. ولكن إعفاءه من المسئولية الجنائية لا يعفيه من المسئولية المدنية عن كل جريمة يرتكبها، فهو مسئول في ماله الخاص عن تعويض أي ضرر يصيب به غيره في ماله أو نفسه، ولا يرفع عنه انعدام التمييز المسئولية المدنية كما يرفع المسئولية الجنائية؛ لأن القاعدة الأصلية في الشريعة الإسلامية أن المال والدماء معصومة؛ أي غير مباحة، وأن الأعذار الشرعية لا تنافي هذه العصمة؛ أي أن الأعذار لا تهدر الضمان ولا تسقطه ولو أسقطت العقوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 432 - المرحلة الثانية: الإدراك الضعيف: تبدأ هذه المرحلة ببلوغ الصبي السابعة من عمره وتنتهي بالبلوغ، ويحدد عامة الفقهاء سن البلوغ بخمسة عشر عاماً، فإذا بلغ الصبي هذه السن اعتبر بالغاً حكماً ولو كان لم يبلغ فعلاً. ويحدد أبو حنيفة شخصياً سن البلوغ بثمانية عشر عاماً، وفي قول بتسعة عشر عاماً للرجل وسبعة عشر عاماً للمرأة، والرأي المشهور في مذهب مالك يتفق مع رأي أبي حنيفة إذ يحدد أصحابه سن البلوغ بثمانية عشر عاماً، بل إن بعضهم يرى أن يكون تسعة عشر عاماً. وفي هذه المرحلة لا يسأل الصبي المميز عن جرائمه مسئولية جنائية، فلا يحد إذا سرق أو زنا مثلاً، ولا يقتص منه إذا قتل أو جرح، وإنما يسأل مسئولية تأديبية فيؤدب على ما يأتيه من جرائم، والتأديب وإن كان في ذاته عقوبة على الجريمة إلا أنه عقوبة تأديبية لا جنائية، ويترتب على اعتبار العقوبة تأديباً أن لا يعتبر الصبي عائداً مهما تكرر تأديبه، وأن لا يوقع عليه من عقوبات التعزير إلا ما يعتبر تأديباً كالتوبيخ والضرب. ويسأل الصبي المميز مدنياً عن أفعاله ولو أنه لا يعاقب عليها بعقوبة جنائية للأسباب التي ذكرناها من قبل عند الكلام على الصبي غير المميز. 433 - المرحلة الثالثة: مرحلة الإدراك التام: وتبدأ ببلوغ الصبي سن الرشد، أي بلوغه العام الخامس عشر من عمره على رأي عامة الفقهاء، أو ببلوغه العام الثامن عشر على رأي أبي حنيفة ومشهور مذهب مالك. وفي هذه المرحلة يكون الإنسان مسئولاً جنائياً عن جرائمه أياً كان نوعها، فيحد إذا زنا أو سرق، ويقتص منه إذا قتل أو جرح، ويعزر بكل أنواع التعازير. 434 - علة اختلاف الفقهاء في تحديد سن البلوغ: الأصل عند الفقهاء جميعاً في تحديد سن البلوغ قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاثة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 الصبي حتى يحتلم، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق"، ومعنى رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم هو جعل الاحتلام غاية لارتفاع الخطاب، والأصل أن الخطاب بالبلوغ، فدل الحديث على أن البلوغ يثبت بالاحتلام؛ لأن البلوغ والإدراك عبارة عن بلوغ المرء كمال الحال، وذلك بكمال القدرة والقوة على استعمال سائر الجوارح السليمة، وهذا يتحقق عن الكمال عند الاحتلام. وإذا كان البلوغ بالاحتلام فإن بلوغ الغلام يعرف بالاحتلام والإحبال والإنزال، وبلوغ الجارية يعرف بالحيض والاحتلام والحبل، ولما كانت هذه العلامات قد تتقدم وقد تتأخر فقد رئي أن تتحدد البلوغ بالسن، فحدده أغلب الفقهاء بخمسة عشر عاماً للغلام والجارية جميعاً، وحجتهم أن المؤثر في الحقيقة هو العقل وهو الأصل في المسئولية وبه قوام الأحكام، وإنما جعل الاحنلام حداً للبلوغ شرعاً لكون الاحتلام دليلاً على كمال العقل، والاحتلام لا يتأخر عادة عن خمس عشرة سنة، فإذا لم يحتلم الإنسان حتى هذه السن فذلك يرجع لآفة في خلقته، والآفة في الخلقة لا توجد آفة في العقل، فكان العقل دائماً بلا آفة ووجب اعتبار الشخص بالغاً تلزمه الأحكام. أما من يحددون البلوغ بثمانية عشر عاماً أو بتسعة عشر عاماً فحجتهم أن الشرع علق الحكم والخطاب والاحتلام فوجب بناء الحكم عليه، ولا يرتفع الحكم عنه ما لم يتيقن بعدمه ويقع اليأس عن وجوده، وإنما يقع اليأس بهذه المدة؛ لأن الاحتلام إلى هذه المدة متصور في الجملة فلا يجوز إزالة الحكم الثابت بالاحتلام عنه مع الاحتمال، أي أنه ما دام الاحتلام مرجواً وجب الانتظار ولا بأس بعد خمس عشرة سنة إلى ثماني عشرة أو تسع عشرة بل هو مرجو فلا يقطع الحكم الثابت بالاحتلام عنه مع رجاء وجوده، بخلاف ما بعد هذه المدة فإنه لا يحتمل وجوده بعدها فلا يجوز اعتباره في زمان اليأس عن وجوده (1) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص171، 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 ويتبين ما سبق أن الفريق الأول يرون أن علامات البلوغ تظهر عادة في سن الخمس عشرة فحددوا البلوغ في هذه السن التي يغلب فيها ظهور علاماته، أما الفريق الآخر فإنهم يرون أن علامات البلوغ يتأخر ظهورها عادة إلى سن الثماني عشرة أو التسع عشرة فوجب أن يحدد البلوغ بهذه السن التي يتأخر إليها ظهور علامات البلوغ، ويرى أبو حنيفة أن أصل الشريعة تجري على رأيه فحكم الحيض مثلاً لازم في حق الكبيرة ولو انقطع عنها الحيض ويجب الانتظار لمدة اليأس لاحتمال عود الحيض، والتفريق بين العنين وزوجته لا يجوز ما دام طمع الوصول إليها في فصول السنة المختلفة ثابتاً فإذا انقضت السنة وهو على حاله وقع اليأس وجاز الحكم بالتفريق، وكذلك أمر الله بدعاء الكفار إلى الإسلام حتى يقع اليأس من قبولهم فإذا لم يقع اليأس فلا يباح قتالهم. 435 - عقوبة الصبي غير المميز: عقوبة الصبي غير المميز هي كما قلنا عقوبة تأديبية خالصة وليست عقوبة جنائية؛ لأن الصبي ليس من أهل العقوبة. ولم تحدد الشريعة نوع العقوبات التأديبية التي يمكن توقيعها على الصبيان وتركت لولي الأمر أن يحددها على الوجه الذي يتراءى له، ومن المسلم به لدى الفقهاء أن التوبيخ والضرب من العقوبات التأديبية. وترك تحديد العقوبات التأديبية لولي الأمر يمكن من اختيار العقوبة الملائمة للصبي في كل زمان ومكان، فيجوز لولي الأمر أن يعاقب بالضرب أو التوبيخ، أو التسليم لولي الأمر أو لغيره، أو بوضع الصبي في إصلاحية أو في مدرسة، أو بوضعه تحت مراقبة خاصة، إلى غير ذلك من الوسائل التي تؤدي إلى تأديب الصبي وتهذيبه، وإبعاده عن الوسط الذي يعيش فيه. واعتبار العقوبة تأديبية لا جنائية يؤدي إلى عدم اعتبار الصبي بعد بلوغه عائداً بما عوقب به من قبل البلوغ، وهذا مما يساعده على سلوك الطريق السوي ويمهد لنسيان الماضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 436 - والقوانين الوضعية والصبيان: تأخذ القوانين الوضعية عامة بما تأخذ به الشريعة من حيث اختلاف مسئولية الأحداث باختلاف أعمارهم، والرأي الغالب في هذه القوانين إلى تقسيم الأحداث إلى أنواع بحسب السن، وأن الحدث يمر بثلاثة أدوار مميزة عن بعضها تمييزاً كافياً ولو أنه يصعب تحديد كل منها تحديداً دقيقاً. ففي الدور الأول يكون الطفل صغيراً ويفترض فيه عدم قدرته على فهم ماهية العمل الجنائي وعواقبه ومن ثم فلا مسئولية عليه إطلاقاً، وقد حدد القانون المصري هذا الدور بسبع سنوات، وكذلك الحال في إنجلترا وفي الهند. وفي إيطاليا يعتبر الحدث غير مسئول إذا قل سنه عن تسع سنوات. وقد أخذت بلاد كثيرة بهذه القاعدة أي اعتبار الطفل غير مسئول حتى يبلغ سناً معيناً. وفي الدور الثاني يستطيع الطفل أن يعلم بأن ما يفعله محظور ولكنه لم يبلغ من العلم والتجربة ما يكفي لفهم موقعه إيزاء القانون وتقدير نتائج أعماله حق التقدير، ولهذا فقد اجتمعت القوانين الوضعية على أن تعاقب الصغار في هذا الدور بعقوبات تتلاءم مع حالتهم، وهذه العقوبات إما عقوبات خاصة تتلاءم مع حالة الأحداث وإما العقوبات العادية مخففة. والنهاية القصوى للدور الثاني خمس عشرة سنة في مصر، وواثنتا عشرة سنة في الهند والسودان، وأربع عشرة في إنجلترا وإيطاليا، وست عشرة سنة في فرنسا. وفي الدور الثالث يكون الطفل قد بلغ من العمر ما يؤهله لفهم موقفه إزاء القانون ومن ثم يكون مسئولاً عن أعماله مسئولية تامة ويعاقب عليها بالعقوبات العادية, إلا أن بعض القوانين كالقانون المصري لا يعاقبه بالعقوبات المفرطة في الشدة وهي الإعدام والأشغال الشاقة, وهذا الامتياز مقرر لمن لم يبلغ سنهم سبع عشرة سنة، أما من بلغ هذا السن فيعاقب بكل العقوبات العادية (1) .   (1) راجع التعليقات على قانون العقوبات المصري، والموسوعة الجنائية ج1 ص272 وما بعدها، شرح قانون العقوبات لأحمد صفوت ص282 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 ويقسم القانون المصري الدور الثاني قسمين: فمن يزيد عمره على سبع سنوات ويقل عن اثنتي عشرة سنة كاملة لا يجوز الحكم عليه بالعقوبات العادية، وإنما يعاقب بعقوبات خاصة القصد منها إصلاحه وتأديبه وهي التوبيخ والإرسال إلى الإصلاحية أو التسليم لولي الأمر أو غيره، ومن بلغ سنه اثنتي عشرة سنة وقل عن خمس عشرة سنة يكون القاضي مخيراً بين أن يتخذ في شأنه وسيلة من وسائل الإصلاح والتأديب التي سلف ذكرها أو أن يحكم عليه بعقوبة مخففة من العقوبات العادية. وتجعل القوانين الوضعية الحدث مسئولاً مدنياً عن أفعاله كلما كان مسئولاً جنائياً ولو عوقب بغير العقوبات العادية، وكذلك هو مسئول مدنياً عن أفعاله ولو لم يكن مسئولاً جنائياً، إذ ليس ثمة تعارض بين إعفاءه من العقوبة لعدم بلوغه سناً معينة وبين الحكم عليه بتعويض الضرر الذي تسبب فيه بخطأه (1) . ويتبين مما سبق أن القواعد التي وضعتها الشريعة الإسلامية لمسئولية الأحداث من ثلاثة عشر قرناً هي نفس القواعد التي تقوم عليها مسئولية الأحداث في القوانين الوضعية الحديثة، كما يتبين أن في قواعد الشريعة من المرونة ما يؤهلها لأن تسبق كل القوانين، وما يساعدها على الأخذ بكل ما أظهرت التجارب أو العلوم من وسائل الإصلاح والتهذيب للأحداث بصفة خاصة وللجماعة بصفه عامة. * * *   (1) الموسوعة الجنائية ج3 ص630. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 الكتاب الثاني في العقوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 437 - منهج البحث: يقتضي البحث في العقوبة أن نتكلم على: 1 - العقوبة بصفة عامة والمبادئ التي تقوم عليها. 2 - أقسام العقوبة وما يدخل تحت كل قسم من عقوبات. 2 - تعدد العقوبات. 4 - استيفاء العقوبات. 5 - سقوط العقوبات. وسنخصص لكل موضوع من هذه المواضيع باباً خاصاً. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 الباب الأول العقوبة - مبادئ عامة 438 - العقوبة والغرض منها: العقوبة هي الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع. والمقصود من فرض عقوبة على عصيان أمر الشارع هو إصلاح حال البشر، وحمايتهم من المفاسد، واستنفاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة, وكفهم عن المعاصي، وبعثهم على الطاعة، ولم يرسل الله رسوله للناس ليسيطر عليهم أو ليكون عليهم جباراً، وإنما أرسله رحمة للعالمين، وذلك قوله تعالى: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] ، وقوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} [ق: 45] ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ، فالله أنزل شريعته للناس وبعث رسوله فيهم لتعليم الناس وإرشادهم، وقد فرض العقاب على مخالفة أمره لحمل الناس على ما يكرهون ما دام أنه يحقق مصالحهم، ولصرفهم عما يشتهون ما دام أنه يؤدي إلى فسادهم، فالعقاب مقرر لإصلاح الأفراد ولحماية الجماعة وصيانة نظامها، والله الذي شرع لنا هذه الأحكام وأمرنا بها لا تضره معصية عاصٍ ولو عصاه أهل الأرض جميعاً، ولا تنفعه طاعة مطيع ولو أطاعه أهل الأرض جميعاً (1) . 439 - الأصول التي تقوم عليها العقوبة: ولما كان الغرض من العقوبة هو إصلاح الأفراد وحماية الجماعة وصيانة نظامها فقد وجب أن تقوم العقوبة على أصول تحقق هذا الغرض ليؤدي العقوبة وظيفتها كما ينبغي، والأصول المحققة للغرض من العقوبة هي:   (1) راجع الفقرة 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 1 - أن تكون العقوبة بحيث تمنع الكافة من الجريمة قبل وقوعها، فإذا ما وقعت الجريمة كانت العقوبة بحيث تؤدب الجاني على جنايته وتزجر غيره من التشبه به وسلوك طريقه، وفي هذا يقول بعض الفقهاء عن العقوبات: "إنها موانع قبل الفعل زواجر بعده، أي العلم بشريعتها يمنع الإقدام على الفعل وإقاعها بعده يمنع العود إليه" (1) . 2 - أن حد العقوبة هو حاجة الجماعة ومصلحتها، فإذا اقتضت مصلحة الجماعة التشديد شددت العقوبة، وإذا اقتضت مصلحة الجماعة التخفيف خففت العقوبة؛ فلا يصح أن تزيد العقوبة أو تقل عن حاجة الجماعة (2) . 3 - إذا اقتضت حماية الجماعة من شر المجرم استئصاله من الجماعة أو حبس شره عنها وجب أن تكون العقوبة هي قتل المجرم أو حبسه عن الجماعة حتى يموت، ما لم يتب وينصلح حاله (3) . 4 - أن كل عقوبة تؤدي لصلاح الأفراد وحماية الجماعة هي عقوبة مشروعة، فلا ينبغي الاقتصار على عقوبات معينة دون غيرها (4) . 5 - أن تأديب المجرم ليس معناه الانتقام منه، وإنما استصلاحه، والعقوبات على اختلاف أنواعها تتفق - كما يقول بعض الفقهاء - في أنها "تأديب واستصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب" (5) . والعقوبات "إنما شرعت رحمة من الله تعالى بعباده فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا   (1) شرح فتح القدير ج4 ص112. (2) الأحكام السلطانية، ص206. شرح فتح القدير ج4 ص212، 215. تبصرة الحكام، ج2 ص260 وما بعدها. الإقناع، ج4 ص268 وما بعدها (3) الإقناع ج4 ص271، 272. حاشية ابن عابدين ج5 ص480 وج3 ص59، 260. اختيارات ابن تيمية ص178 وما بعدها. (4) المراجع السابقة. (5) الأحكام السلطانية ص205، 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض" (1) . ويلاحظ في التأديب أنه يختلف باختلاف الأشخاص، فتأديب أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاء والسفاهة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" (2) ، ولأن المقصود من التأديب الزجر عن الجريمة وأحوال الناس مختلفة فيه، فمنهم من ينزجر بالنصيحة، ومنهم من يحتاج إلى اللطمة وإلى الضرب، ومنهم من يحتاج إلى الحبس (3) . 440 - نظرية الشريعة في العقاب: يلاحظ أن الأصول التي تقوم عليها العقوبة في الشريعة ترجع إلى أصلين أساسيين أو مبدأين عامين، فبعضها يعني بمحاربة الجريمة ويهمل شخصية المجرم وبعضها يعني بشخصية المجرم ولا يهمل محاربة الجريمة. والأصول التي تعني بمحاربة الجريمة الغرض منها حماية الجماعة من الإجرام، أما الأصول التي تعني بشخص المجرم فالغرض منها إصلاحه. ولا جدال في أن بين المبدأين تضارباً ظاهراً؛ لأن حماية الجماعة من المجرم تقتضي إهمال شأن المجرم، كما أن العناية بشأن المجرم تؤدي إلى إهمال حماية الجماعة. وقد قامت نظرية العقوبة في الشريعة على هذين المبدأين المتضاربين، ولكن الشريعة جمعت بين المبدأين بطريقة تزيل تناقضهما الظاهر، وتسمح بحماية المجتمع من الإجرام في أكثر الأحوال، ذلك أن الشريعة أخذت بمبدأ حماية الجماعة على إطلاقه واستوجبت توفره في كل العقوبات المقررة للجرائم, فكل عقوبة يجب أن تكون بالقدر الذي يكفي لتأديب المجرم على جريمته تأديباً يمنعه من العودة إليها ويكفي لزجر غيره عن   (1) اختيارات ابن تيمية ص171. (2) الأحكم السلطانية ص206. (3) شرح فتح القدير ج4 ص121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 التفكير في مثلها، فإذا لم يكف التأديب شر المجرم عن الجماعة أو كانت حماية الجماعة تقتضي استئصال المجرم وجب استئصال المجرم أو حبسه حتى الموت. أما مبدأ العناية بشخص المجرم فقد أهملته الشريعة بصفة عامة في الجرائم التي تمس كيان المجتمع؛ لأن حماية الجماعة اقتضت بطبيعتها هذا الإهمال، والجرائم التي من هذا النوع قليلة ومحدودة بطبيعة الحال, وما عدا ذلك من الجرائم ينظر في عقوبته إلى شخصية المجرم، تستوجب الشريعة أن تكون شخصية الجاني وظروفه وأخلاقه وسيرته محل تقدير القاضي عند الحكم بالعقوبة. تقسيم الجرائم: ولقد نشأ عن الجمع بين المبدأين على هذه الصورة أن أصبح لكل مبدأ حيز ينطبق فيه ومدى ينتهي إليه، ولتقيم الشريعة معالم واضحة للحيز الذي ينطبق فيه كل مبدأ قسمت الجرائم قسمين: القسم الأول: الجرائم الماسة بكيان المجتمع: يدخل تحت هذا القسم كل القسم كل الجرائم التي تمس كيان المجتمع مساساً شديداً، وهي نوعان لكل منهما حكم مختلف. 1 - النوع الأول: والنوع الأول من الجرائم الماسة بكيان المجتمع يشمل جرائم الحدود التامة، وهي سبع جرائم: (1) الزنا ... ... (2) القذف ... ... (3) الشرب (4) السرقة ... ... (5) الحرابة ... ... (6) الردة (7) البغي وقد وضعت الشريعة لهذه الجرائم السبع عقوبات مقدرة ليس للقاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها أو يستبدل بها غيرها، فمن ارتكب جريمة منها أصابته العقوبة المقررة لها دون نظر إلى رأي المجني عليه أو إلى شخصية الجاني، وليس لولي الأمر أن يعفو عن الجريمة أو العقوبة بحال من الأحوال. وقد اتجهت الشريعة في جرائم الحدود إلى حماية الجماعة من الجريمة وأهملت شأن المجرم إهمالاً تاماً، فشددت العقوبة وجعلتها مقدرة، ولم تجعل للقاضي أو ولولي الأمر سلطاناً على العقوبة، وعلة التشديد أن هذه الجرائم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 الخطورة بمكان، وأن التساهل فيها يؤدي حتماً إلى تحلل الأخلاق وفساد المجتمع واضطراب نظامه وازدياد الجرائم، وهي نتائج ما ابتلى بها جماعة إلا تفرق شملها واختل نظامها وذهب ريحها، فالتشدد في هذه الجرائم قصد به الإبقاء على الأخلاق وحفظ الأمن والنظام، أو بتعبير آخر: قصد به مصلحة الجماعة، فلا عجب أن تهمل مصلحة الفرد في سبيل مصلحة الجماعة، بل العجب أن لا تضحي بمصلحة الفرد في هذا السبيل. ب - النوع الثاني: والنوع الثاني من الجرائم الماسة بكيان المجتمع يشمل جرائم القصاص والدية؛ وهي جرائم القتل والجرح سواء كانت عمداً أو خطأً، أو هي على وجه التحديد: (1) القتل العمد ... ... (2) القتل شبه العمد ... ... (3) الخطأ. (4) الجرح العمد ... ... (5) الجرح الخطأ. وقد وضعت الشريعة لهذه الجرائم عقوبتين هما: القصاص أو الديةفي حالة العمد والدية في حالة الخطأ، وحرمت على القاضي أن ينقص من هاتين العقوبتين أو يزيد فيهما أو يستبدل بهما غيرهما، كما حرمت على ولي الأمر أن يعفو عن الجريمة أو العقوبة، وعلى هذا فمن ارتكب جريمة من هذه الجرائم أصابته العقوبة المقررة لها دون نظر إلى ظروف الجاني وشخصيته. وإذا كانت الشريعة قد حرمت العفو على ولي الأمر فإنها قد أباحته للمجني عليه أو وليه، فإذا عفا المجني عليه أو وليه في العمد سقط القصاص وحلت محله الدية إذا كان العفو على الدية، فإذا كان العفو مجاناً سقطت الدية أيضاً. وفي جرائم الخطأ يسقط العفو الدية، ويترتب على سقوط القصاص في العمد والدية في الخطأ جواز معاقبة الجاني بعقوبة تعزيرية، والعقوبات التعزيرية ينظر فيها إلى شخص المجني عليه وظروفه. وظاهر مما سبق أن الشريعة تتجه أصلاً في جرائم القصاص والدية إلى حماية الجماعة من الجريمة وإهمال شأن المجرم، وأنها لا تعني بشخصية الجاني وظروفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 إلا إذا عفا المجني عليه أو وليه، وقد منحت الشريعة حق العفو للمجني عليه أو وليه، لأن الجريمة وإن كانت ماسة بكيان المجتمع إلا أنها تمس المجني عليه أكثر مما تمس المجتمع، بل إنها لا تمس المجتمع إلا عن طريق مساسها بالمجني عليه، فإذا عفا المجني عليه أو وليه لم يعد ما يدعو لإهمال شأن المجرم والتشدد في حماية الجماعة؛ لأن أثر الجيمة الخطر يزول بالعفو فتصبح الجريمة غير خطرة ولا تؤثر على كيان المجتمع. والواقع أن المجني عليه أو وليه لا يعفو إلا إذا صفح عن الجاني أو رأى في الدية فائدة مادية يهمه الاحتفاظ بها، فعله العفو هي إما الصفح أو الفائدة المادية التي تعود على المجني عليه وأوليائه، وكلاهما علة مشروعة تحلها الشريعة محل الاعتبار، لأن الصفح معناه القضاء على الخصومات والأحقاد، ولأن تفصيل الفائدة المادية على العقوبة البدنية معناه التسامح والصفح وإضعاف حدة الخصومات، ولا شك أن حق المجني عليه أو وليه أن يكون أول من تعود عليه الجريمة بالفائدة إذا أمكن ذلك بعد أن أصيب منها وتحمل من آلامها ما لم يتحمله غيره. القسم الثاني: الجرائم الأخرى: ويشمل هذا القسم كل الجرائم التي لا تدخل تحت القسم الأول. أو هو يشمل الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة بعقوبات غير مقدرة، فيدخل تحت هذا القسم كل الجرائم المعاقب عليها بعقوبة تعزيرية، وهي على ثلاثة أنواع: (1) جرائم التعازير الأصلية، أي كل جريمة ليست من جرائم الحدود ولا من جرائم القصاص والدية. (2) جرائم الحدود التي لا يعاقب عليها بعقوبة مقدرة، وهي جرائم الحدود غير التامة، وجرائم الحدود التي يدرأ فيها الحد. (3) جرائم القصاص والدية التي يعاقب عليها بعقوبة غير مقدرة، وهي الجرائم التي لا قصاص ولا دية فيها. والجرائم التي تدخل تحت هذا القسم ليست في خطورة جرائم القسم الأول، ولهذا كان لها حكم مختلف، ففي القسم الأول تقيد الشريعة القاضي بعقوبة معينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 مقدرة ليس له اختيار غيرها وليس له أن يزيد فيها أو ينقص منها، أما في القسم الثاني فتترك الشريعة الحرية للقاضي في اختيار العقوبة الملائمة من بين مجموعة من العقوبات، كما تترك له تقدير كمية العقوبة اللازمة وتقدير ظروف الجريمة وظروف المجرم، فإن رأى أن ظروف الجريمة وظروف المجرم لا تقتضي التخفيف عاقب المجرم بما تستحقه جريمته، وإن رأى ظروف الجاني تقتضي التخفيف عاقبه بالعقوبة الملائمة لشخصه وظروفه وسيرته وأخلاقه، وإن رأى أن ظروف الجريمة تقتضي التشديد وظروف الجاني تقتضي التخفيف توسط بين الأمرين فلم يغلظ العقوبة ولم يخففها. وفي هذا القسم تطبق الشريعة الأصول التي تقوم عليها نظرية العقوبة منفردة ومجتمعة، فإذا لم تكن ظروف الجاني تقتضي التخفيف روعي في تقدير العقوبة واختيار نوعها حماية الجماعة من الجريمة ولم يراعى فيها غير هذا الاعتبار، وإذا كانت ظروف الجاني تقتضي التخفيف روعي في تقدير العقوبة واختيار نوعها شخصية الجاني. وإذا كانت ظروف الجريمة تقتضي التشديد وظروف الجاني تقتضي التخفيف روعي بقدر الإمكان في اختيار العقوبة وتقدير كميتها أن تحمي الجماعة من الإجرام وأن تلائم شخصية المجرم. ورأى المجني عليه ليس له اعتبار لذاته في هذا القسم، وعفوه لا يسقط العقوبة، ولكن العفو ينظر إليه باعتباره ظرفاً قضائياً مخففاً للجاني، فإذا تصالح المجني عليه مع الجاني أو عفا عنه كان للقاضي أن يعتبر الصلح أو العفو ظرفاً مخففاً في صالح الجاني. والعلة في عدم إسقاط العقوبة التعزيرية بالعفو أن كل عقوبة فيها حقان: حق للمجني عليه وحق للجماعة، فإذا أسقط المجني عليه حقه بقى حق الجماعة، بعكس الحال في عقوبتي القصاص والدية فيما من حق المجني عليه أو وليه دون غيرهما، فإذا عفا أحدهما سقطت العقوبة وحل محلها التعزير على اعتبار أن التعزير حق الجماعة، ولهذا لا يظهر أثر العفو في عقوبات التعازير كما يظهر في القصاص والدية؛ لأن عقوبة التعزير فيها حق المجني عليه وحق الجماعة، فإذا أسقط حق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 المجني عليه بقى حق الجماعة، أما القصاص والدية فهما من حق المجني عليه وحده فإذا عفا أسقطهما العفو. العلة في اعتبار جرائم القسم الأول ماسة بكيان المجتمع: قلنا: إن الشريعة تشددت في جرائم القسم الأول واتجهت في اختيار العقوبة وتقديرها إلى حماية المجتمع من الإجرام وأهملت شخصية الجاني إهمالاً تاماً، إلا إذا عفا المجني عليه في جرائم القصاص والدية دون غيرها. وقلنا: إن الشريعة أرادت بذلك حماية المجتمع لأن جرائم القسم الأول بنوعيها تمس كيان المجتمع مساساً شديداً، وقد بقى أن نعرف كيف تمس هذه الجرائم كيان المجتمع، وذلك هو ما سنبينه الآن. فالجماعات مهما اختلفت على المبادئ أو اختلفت عليها العصور تشترك في أنظمة معينة تعيش عليها الجماعة ويقوم كيانها عليها، ولو بحثنا كل الأنظمة التي تقوم عليها الجماعات في كل أقطار الأرض لوجدنا كل الجماعات تشترك في أربعة أنظمة هي الدعائم التي يقوم عليها فعلاً كل مجتمع على وجه البسيطة، وهذه الأنظمة الأربعة هي: (1) نطام الأسرة. ... ... ... (2) نظام الملكية الفردية (3) النظام الاجتماعي للجماعة. ... (4) نظام الحكم في الجماعة. فوجود الرجل والمرأة وقدرتهما على التناسل وحاجة هذا النسل إلى من يعوله حتى يبلغ أشده؛ كل هذا اقتضى بطبيعته أن يستأثر كل رجل بامرأة معينة، وأن ينسب لنفسه من تلده من أبناء، وهكذا اقتضى وجود الرجل والمرأة وجود نظام الأسرة، وصار هذا النظام أساساً تقوم عليه كل جماعة؛ لأن الجماعة ليست إلا مجموعة من الأفراد، ولا يزال نظام الأسرة حتى في الدول الشيوعية عماد المجتمع وسيظل كذلك إلى ما شاء الله. وحاجة الإنسان الطبيعية الدائمة إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وأدوات السعي لهذه ولغيرها من المنافع إلى تملك هذه الأشياء والاستئثار بها دون غيره من الناس لنفسه أولاً ولنفسه ولأسرته بعد أن اقتضى الحال وجود نظام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 الأسرة، وهكذا وجد نظام الملكية الفردية كما وجد نظام الأسرة؛ أوجدتهما طبيعة الإنسان وطبيعة الأشياء، وسيظل كلاهما قائماً ما لم تتغير طبائع البشر وطبائع الأشياء ولن تتغير حتى تبدل الأرض غير الأرض والسموات. وإذا كانت المبادئ الإشتراكية والشيوعية تحبذ الملكية الجماعية وتؤثرها على الملكية الفردية فإن غلاة المعتنقين لهذه المبادئ لم يقولوا بإلغاء الملكية الفردية إلغاء مطلقاً؛ لأن هناك من الملكيات الفردية ما تقتضي الطبيعة وجوده والمحافظة عليه، فكل إنسان يجب أن يملك طعامه وكساءه ومسكنه وأداة عمله وإلا استحالت عليه الحياة. وقد اقتضى نظام الأسرة ونظام الملكية الفردية الاعتراف بشخصية الفرد وحريته وحقه في حماية نفسه وأسرته وملكه، ولكن ضعف الفرد وكثرة حاجاته وقلة وسائله وحاجاته إلى التعاون مع غيره كل ذلك دعا إلى تكوين الجماعة. وتكوين الجماعة يقتضي بطبيعته أن يكون للجماعة نظام اجتماعي تقوم الجماعة على مبادئه ويبين حقوق الأفراد وواجباتهم. والنظام الاجتماعي للجماعة يختلف باختلاف الجماعات، فالجماعات الإسلامية نظامها الاجتماعي يقوم على مبادئ الإسلام، والجماعات غير الإسلامية يقوم نظامها الاجتماعي على أساس الإشتراكية أو الشيوعية أو الرأسمالية أو غير ذلك من الأنظمة الاجتماعية. كذلك اقتضى تكوين الجماعة أن يقوم فيها نظام للحكم يصرف شئونها ويسهل على مصالحها ونظامها الاجتماعي ويوفر الأمن لها في الدخل والخارج. ونظام الحكم يختلف باختلاف البلاد، ففي بعض البلاد يكون الحكم جمهورياً وفي بعضها ملكياً إلى غير ذلك، وهكذا وجد نظام الحكم وكان وجوده نتيجة ضرورية لوجود الجماعة نفسها. هذه هي الأنظمة الأربعة التي يقوم عليها كيان المجتمع، كل مساس بها يمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 المجتمع في أصل وجوده ويهدم أهم مقوماته، ولذلك حرصت الشريعة الإسلامية على أن تحمي هذه النظم من كل اعتداء؛ لأن في حمايتها بقاء الجماعة وصلاحيتها للبقاء، ولأن كل تهاون في احتياطها وحمايتها يؤدي إلى انحلال الجماعة وسقوطها. وقد تقصت الشريعة الاعتداءات الخطيرة التي يمكن أن تمس هذه الأنظمة فوجدوتها تنحصر في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، وهي: الزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والحرابة، والردة، والبغي، والقتل والجرح في حالتي العمد والخطأ. فالزنا اعتداء على نظام الأسرة، ولو لم يعاقب عليه لكان لكل امرئ أن يشارك الآخر في أي امرأة شاء، وأن يدعي من شاء أو يتنصل ممن شاء من الأبناء؛ وأخيراً فإن إباحة الزنا معناها الاستغناء عن نظام الأسرة وهدم الدعامة الأولى من الدعائم التي تقوم عليها الجماعة. والسرقة اعتداء على نظام الملكية الفردية، ولو لم يعاقب عليها لكان لكل امرئ أن يشارك غيره وطعامه وشرابه وكسائه ومسكنه وأداة عمله، وكانت الغلبة آخر الأمر للأقوياء، وكان الجوع والعري والحرمان للضعفاء، فإباحة السرقة معناها الاستغناء عن نظام الملكية @الفردية، وعجز الأفراد عن الحصول على ضروريات الحياة، وسقوط الجماعة بعد سقوط أهم الدعامات التي قامت عليها. والردة اعتداء على النظام الاجتماعي للجماعة؛ لأن النظام الاجتماعي لكل جماعة إسلامية هو الإسلام، ولأن الردة معناها الكفر بالإسلام والخروج على مبادئه والتشكيك في صحته، ولا يمكن أن يستقيم أمر الجماعة إذا وضع نظامها الاجتماعي موضع التشكيك والطعن؛ لأن ذلك قد يؤدي في النهاية إلى هدم هذا النظام. والبغي اعتداء على نظام الحكم في الجماعة؛ لأن جريمة البغي تعني الخروج على الحكام ومعصيتهم، أو تعني طلب تغييرهم نظام الحكم نفسه، وإباحة مثل هذه الجريمة يؤدي إلى إشاعة الخلاف والاضطراب في صفوف الجماعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 ويقسمها شيعاً وأحزاباً تتقابل وتتناحر في سبيل الحكم، كما يؤدي إلى اختلاف الأمن والنظام وسقوط الجماعة وانحطاطها. وجرائم القتل والجرح اعتداء من ناحية على حياة الأفراد المكونين للجماعة، وهي من ناحية أخرى اعتداء على النظام الاجتماعي ونظام الحكم في الجماعة؛ لأن هذه الجرائم تمس حياة الأفراد وأبدانهم، والنظام الاجتماعي يقتضي حماية الأفراد وعصمة أنفسهم وأموالهم، كما أن نظام الحكم وجد لإقامة النظام الاجتماعي وتوفير الأمن للجماعة، فالتساهل في محاربة هذه الجرائم يؤدي إلى تحكم الأقوياء في الضعفاء، وصرف الأفراد عن العمل المنتج وانصرافهم إلى التنازع والتناحر، واستنباط الوسائل لحماية أرواحهم وأنفسهم، وهذا يؤدي بالتالي إلى تفكك الجماعة وانحلالها. وقد حرصت الشريعة على أن لا يصل الجماعة لهذه الحالة فقررت عقوبة القصاص في حالة العمد والدية في حالة الخطأ، وهي عقوبات رادعة قصد منها حماية الأفراد المكونين للجماعة، وبث الأمن بينهم، وتوفير الطمأنينة في نفوسهم. وجريمة القذف اعتداء على نظام الأسرة؛ لأن القذف في الشريعة قاصر على ما يمس الأعراض، ولأن القذف الماس بالأعراض هو تشكيك في صحة نظام الأسرة. فمن يقذف شخصاً فإنما ينسبه لغير أبيه وبالتالي لغير أسرته، وإذا ضعف الإيمان بنظام الأسرة فقد ضعف الإيمان بالجماعة تقوم على هذا النظام. وجريمة الشرب تؤدي إلى فقدان الشعور، وإذا فقد شارب الخمر شعوره فقد أصبح على استعداد لارتكاب السرقة والقذف والزنا وغير ذلك من الجرائم، فضلاً عن أن شرب الخمر يضيع المال ويفسد الصحة ويضعف النسل ويذهب العقل، والنظام الإسلامي يحرم شرب الخمر تحريماً قاطعاً، فإتيان هذه الجريمة اعتداء من كل وجه على الجماعة، وهدم للنظم التي تقوم عليها الجماعة. وجريمة الحرابة إن اقتصرت على السرقة فهي اعتداء على نظام الملكية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 الفردية، وإن صحبها القتل فهي أيضاً اعتداء على حياة الأفراد المكونين للجماعة، وإن اقتصرت على ترويع المجني عليه فهي اعتداء على أمن الجماعة، والاعتداء على حياة الأشخاص وأمنهم هو اعتداء على نظام الاجتماعي وعلى نظام الحكم؛ لأن كل جماعة ملزمة بحماية حياة الأفراد وتوفير الأمن لهم، لأن ذلك ضروري لبقاء الجماعة، فإذا لم تكن هذه الجماعة فمعنى ذلك تفكك الجماعة وانحلالها؛ لأن الأساس الأول لبقاء الجماعة وهو حماية أفرادها منعدم، ولا يحمي الأفراد ويمنع الاعتداء على حياتهم وأمنهم إلا تقرير العقوبة الرادعة على هذا الاعتداء. هذه هي الجرائم التي تمس كيان المجتمع مساساً مباشراً، عاقبت عليها الشريعة بعقوبات رادعة، وأهملت في تقدير العقوبة شخصية الجاني إبقاء للجماعة وحماية لها. وإذا قلنا إن هذه الجرائم تمس كيان الجماعة فليس معنى ذلك أن باقي الجرائم لا تمس الجماعة من قريب أو بعيد، إذ الواقع أن كل جريمة أياً كانت تمس الجماعة، ولكننا نستطيع أن نقول: إنه ليس في الجرائم كلها ما يمس الأسس التي يقوم عليها المجتمع مساساً مباشراً مثل الجرائم التي احتفظت لها الشريعة بهذه العقوبات، وإن بقية الجرائم إن مست مصالح المجتمع فإنها لا يمس الأنظمة التي تقوم عليها الجماعة، وإن مست هذه الأسس فإنها لا تمسها مساساً مباشراً وخطيراً، وهكذا كانت الشريعة منطقية وواقعية حين أهملت شخصية الجاني في الجرائم التي تمس كيان المجتمع وتتصل بالأسس التي يقوم عليها، وكانت الشريعة منطقية وواقعية حين ميزت بين هذه الجرائم من ناحية وبقية الجرائم من ناحية أخرى، لتفاوت الخطورة والآثار في النوعين. علة التفرقة في العقاب بين جرائم الحدود وبين جرائم القصاص والدية: وتعتبر الشريعة جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ماسة بكيان المجتمع وبالأسس التي يقوم عليها، وبالرغم من هذه التسوية فقد أبيح للمجني عليه أو وليه حق العفو عن العقوبة في جرائم القصاص والدية ولم تبح له أن يعفو في جرائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 الحدود، وعلة التفرقة أن جرائم الحدود يصيب ضررها المباشر الجماعة أكثر مما يصيب الأفراد، وأن جرائم القصاص والدية مع مساسها بكيان المجتمع يصيب ضررها المباشر الأفراد أكثر مما يصيب الجماعة، فالسرقة والحرابة والقذف والشرب والردة والبغي هي في ذاتها تهديد للجماعة واعتداء عل أمنها ونظامها أكثر مما هي تهديد واعتداء على الأفراد الذين تقع عليهم، فالفرد قد يسرق منه بعض ماله فلا يحزنه ما سرق منه بقدر ما يهدده هذا العمل ويخيفه على بقيه ماله وبقدر ما يخيف جيرانه ومعارفه وأهل بلده ويهدد أموالهم بخطر السرقة، ومثل ذلك يقال عن بقية جرائم الحدود, فضررها على الجماعة أشد من ضررها على الأفراد. أما جرائم القتل والجرح فهي تصيب الأفراد بأكثر مما يصيب الجماعة، وتعتبر إلى حد ما جرائم شخصية، بمعنى أن مرتكبها لا يقصد الاعتداء على كل شخص يلقاه إنما يقصد الاعتداء على شخص بعينه، فإذا لم يستطع الوصول إليه لم يعتد على غيره، ولهذا لا يهز الاعتداء الجماعة فإذا وقع لا يؤثر على أمنها تأثيراً شديداً، أما السارق مثلاً فإنه يطلب المال أنى وجده، فإن لم يستطع سرقة شخص بذاته سرق أي شخص آخر؛ لأنه يقصد المال وهو في يد كل الأفراد، وكذلك الزاني فإنه لا يطلب امرأة بعينها إنما يطلب المرأة أياً كانت، فإذا تعسرت عليه امرأة بحث عن غيرها. ولأن جرائم القصاص والدية تمس الفرد أكثر مما تمس الجماعة ترك للمجني عليه وأوليائه أن يختاروا بين القصاص والدية في حالة العمد، وجعلت الدية من حق المجني عليه كتعويض له عما أصابه من الجريمة، وترك له أن يعفو عن القصاص وعن الدية معاً. 441 - نظرية العقاب في القوانين الوضعية: كانت القوانين الوضعية حتى أواخر القرن الثامن عشر تنظر إلى المجرم نظرة تفيض عنفاً وقسوة، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 أساس العقوبات المبالغة في الإرهاب والانتقام والتشهير، وكان من العقوبات المقررة المعترف بها قانوناً: الحرق، والصلب، وتقطيع الأوصال، وصلم الآذان، وقطع الشفاه واللسان، والوشم بأداة محماة في النار، ولبس أطواق من الحديد، والنفي، والجلد، والحبس. ولم تكن العقوبات في غالب تتناسب مع أهمية الجرائم التي قررت لها، فبالرغم من قسوة بعض العقوبات التي ذكرناها وفظاعة بعضها كانت عقوبة الإعدام جزاء لكثير من الجرائم البسيطة، فمثلاً كان القانون الإنجليزي حتى آخر القرن الثامن عشر يعاقب على مائتي جريمة بعقوبة الإعدام، ومن هذه الجرائم سرقة أكثر من شلن من شخص ما أي ما يقابل خمسة قروش تقريباً في العملة المصرية، وكان لقانون الفرنسي يعاقب بالإعدام على مائتين وخمس عشرة جريمة معظمها جرائم بسيطة. وكما كان الإنسان الحي أهلاً للمسئولية والعقاب فكذلك كان الأموات، بل كذلك كان الحيوان والجماد، فكان القانون يجيز محاكمة الإنسان حياً ويجيز محاكمته ميتاً، ويجيز محاكمة الحيوان والجماد،، ويجيز توقيع العقوبة على الإنسان الحي الذي يحس ويتألم ويفكر ويعقل كما يجيز توقيع على جثث الأموات الذين فقدوا الإحساس بالألم وخرجوا من دنيا التفكير والتعقل، بل كان يجيز توقيع العقوبة على الحيوان الأبكم الذي لا يستطيع التفكير في جريمته والدفاع عن نفسه، ويجيز توقيعها على الجماد الذي لا يحس بالجريمة ولا يشعر بالمحاكمة ولا يتألم من العقوبة. وكان الأساس الذي تقوم عليه العقوبة هو الانتقام من المجرم وإرهاب غيره، وفكرة الانتقام والإرهاب هي التي سوغت تقرير العقوبات القاسية، وهي التي سوغت التمثيل بالمجرم وتشويه جسمه، بل هي التي سوغت محاكمة الأموات ومحاكمة الحيوانات والجماد، فالميت والجماد لن يشعر أحدهما بالمحاكمة ولن يحس بالعقوبة، والحيوان لا يشعر بالمحاكمة أو لا يفقه معناها وقد يحس بالعقوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 ويتألم منها ولكنها لن تردعه عن الفعل الذي حوكم من أجله؛ لأنه لا يعقل شيئاً من المحاكمة ولا يفهم سبب العقوبة، ولكن محاكمة الأموات والجمادات والحيوانات وإنزال العقوبات بالجميع تؤدي إلى إرهاب الناس أيما إرهاب وتمثل فكرة الانتقام خير تمثيل. وفي القرن الثامن عشر بدأ الفلاسفة وعلماء الاجتماع يعملون على هدم الأساس الذي تقوم عليه العقوبة ويحاولن إقامتها على أساس آخر، فأخذ "روسو" يبرز العقوبة بالعقد الاجتماعي ويرى أن الغرض منها هو حماية الجماعة من المجرم ومنعه من إيذاء غيره، وبرر "بكاريا" العقوبة بأنها حق الدفاع يتنازل عنه الأفراد للجماعة وأن الغرض منها تأديب المجرم وزجر غيره، وقد تأثر رجال الثورة الفرنسية بهذه الآراء فطبقوها في القانون الفرنسي الصادر في سنة 1791. ثم جاء "بنتام" فبرر العقوبة بمنفعتها للجماعة حيث تقوم بحمايتها واستوجب في العقوبة أن تكون كافية لتأديب الجاني وزجر غيره، ثم ظهر رأي "كانت" وهو يبرر العقوبة بالعدالة، ورأى البعض التوفيق بين مذهب المنفعة ومذهب العدالة فرأى أن لا تكون العقوبة أكثر مما تستدعيه الضرورة ولا أكثر مما تسمح به العدالة. وتمتاز النظريات السابقة بأنها تهمل شخصية المجرم وتنظر إلى الجريمة ومقدار جسامتها وأثرها على المجتمع، ولذلك لم تؤد إلى حل مشكلة العقاب حلاً يحسن السكوت عليه. وظهرت بعد ذلك النظرية العلمية أو النظرية الإيطالية، وهي تقوم على إهمال الجريمة إهمالاً تاماً والنظر إلى شخصية المجرم، فيرى أصحاب النظرية أن تكون العقوبة متناسبة مع عقلية المجرم وتكوينه وتاريخه ودرجة خطورته، فالمجرم المطبوع على الإجرام يبعد إبعاداً مؤبداً عن المجتمع أو يحكم عليه بالإعدام، ولو كانت جريمته بسيطة، والمجرم الذي اعتاد الإجرام يأخذ حكم المطبوع على الإجرام إذا تمكنت منه العادة، والمجرم الذي تجعل منه المصادفات والظروف مجرماً يعاقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 عقاباً هيناً ليناً ولو كانت جريمته خطيرة، والمجرم الذي يرتكب الجريمة تحت تأثير العاطفة لا ضرورة لعقابه. ولم تفلح النظرية العلمية في حل مشكلة العقوبة أيضاً؛ لأنها تنظر إلى المجرم وتهمل الجريمة، ولأنها تفرق بين المجرمين دون فارق ملحوظ أو محدود، ولأنها تترك بعض المجرمين دون عقاب بينما تأخذ غيرهم ممن ارتكبوا نفس الفعل بأشد العقاب. وقد وجد بعض علماء القانون أن النظريات القديمة أخفقت؛ لأنها تحتفل بالجريمة وتهمل شأن المجرم، وأن النظرية العلمية أخفقت لأنها تحتفل بالمجرم وتهمل الجريمة، فرأوا أن يدمجوا الفكرتين اللتين تقوم عليهما هذه النظريات ويقيموا عليهما نظرية جديدة بحيث يتمثل في العقوبة على كل جريمة فكرتان: فكرة التأديب والزجر، وفكرة شخصية المجرم، ولكن هذه النظرية المختلطة فشلت أكثر مما فشلت النظريات السابقة؛ لأنها تقوم على فكرتين تناقض إحداهما الأخرى في أكثر الأحوال، فالنظر في كل عقوبة إلى شخصية المجرم لا يحقق دائماً فكرة التأديب والزجر؛ أي حماية المجتمع وعلى الأخص في الجرائم الخطيرة التي تتمس الأمن والنظام والأخلاق، والأخذ بفكرة حماية المجتمع في كل عقوبة يمنع من الالتفات لشخصية المجرم في الجرائم الخطيرة والبسيطة على السواء. ويمكن القول بأن الاتجاه السائد اليوم لدى شراح القوانين الوضعية هو أن الغرض من العقوبة تأديب المجرم واستصلاحه ومعاونته على استعادة مكانته السابقة في الهيئة الاجتماعية. ومع أن هذا هو الاتجاه الأساسي فهناك اتجاه ثان يرى أصحابه أن تكون العقوبة أداة استئصال كلما كان المجرم غير قابل للإصلاح. وهناك اتجاه ثالث يرى أصحابه أن تكون العقوبة وسيلة لحماية المجتمع وإرهاب من تحدثه نفسه بارتكاب الجرائم، وقد أيد الاتحاد الدولي لقانون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 العقوبات هذا الاتجاه وأخذت به بعض البلاد الأوروبية ومنها ألمانيا. وهذه الاتجاهات جميعاً تقوم إما على النظر إلى الجريمة دون المجرم، وإما على النظر إلى المجرم دون الجريمة، وإما أنها تقوم على الجمع بين هاتين الفكرتين. هذه هي النظريات المختلفة عن العقوبة في عالم القوانين الوضعية، وظاهر من استعراضها أن شراح القوانين الوضعية يتجهون اتجاهات يناقض بعضها بعضاً، وقد منع تعدد النظريات من وضع أساس واحد ثابت للعقوبة في كل القوانين الوضعية؛ فاتخذت كل دولة لنفسها اتجاهاً خاصاً بحسب ما تراه متفقاً مع مصلحتها الخاصة أو بحسب الفكرة السائدة فيها. ولعل تعدد النظريات والاتجاهات هو الذي دعا اتحاد القانون الدولي لقانون العقوبات - الذي حلت محله الجمعية الدولية لقانون العقوبات - لأن يقرر وجوب الاسترشاد بما تظهره التجارب، وأن أحسن نظام جنائي هو الذي يؤدي عملاً إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة. وقد حاول واضعو القوانين أن يجمعوا بين هذه النظريات والاتجاهات المختلفة بقدر الإمكان، وأن يتغلبوا على ما وجه إليها من انتقادات بحلول عملية بحته، ويمكننا أن نتخذ القانون المصري مثالاً في هذا الباب لغيره من القوانين الوضعية الحديثة، كما يمكننا أن نلخص وجهات النظر التي أخذ بها القانون المصري فيما يلي: أولاً: أخذ القانون الجنائي المصري بالمبدأ القائل بأن الغرض من العقوبة حماية الجماعة، وجعل هذا المبدأ أصلاً وضعت على أساسه العقوبات لكل الجرائم بحيث تكفي العقوبة لتأديب المجرم على فعلته وزجر غيره عن التفكير في مثلها. ثانياً: وأخذ القانون الجنائي المصري بالنظرية العلمية إلى حد ما، فلم ينس شخصية المجرم في كل الجرائم تقريباً، فجعل لكل جريمة عقوبتين إحداهما أخف من الأخرى، وجعل لكل عقوبة حدين تختار العقوبة من بينهما، وأباح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 للقضاة في جرائم الجنايات أن تستبدلوا بالعقوبة أخرى، كما أباح لهم أن يوقفوا تنفيذ العقوبة إذا لم تزد العقوبة المحكوم بها عن حد معين هو الحبس لمدة سنة، ومعنى كل ذلك أن القانون اعترف بشخصية المجرم عند وضع العقوبة لكنه لم يلزم القضاة إلزاماً بمراعاة شخصية المجرم عند اختيار العقوبة وتقديرها، بل ترك لهم الحرية ينظرون إلى شخصية المجرم إذا رأوا ظروفه تدعو لذلك ويهملون شخصيته إذا كان هناك ما يدعو لإهمالها. ثالثاً: بعد أن أخذ المشرع المصري بالمبدأين السابقين رأى أخيراً أن من الخطر النظر إلى شخصية المجرم في كل الجرائم وعلى الأخص في الجرائم الهامة، فحرم على القضاة أن ينزلوا بالعقوبة عن حد معين في بعض الجرائم كان حرم عليهم إيقاف تنفيذ العقوبة، وقد أخذ بهذا المبدأ في قانون المخدرات الصادر في سنة 1928، وقانون الغش الصادر في سنة 1941، وقانون السلاح الصادر في سنة 1949، وكان المنطق يقضي بعد أن أخذ المشرع المصري بهذا المبدأ الأخير أن يعيد النظر في قانون العقوبات على هدى هذا المبدأ، فيحرم على القضاة أن ينظروا إلى شخصية المجرم في جرائم هي أخطر على الجماعة من جرائم الغش وإحراز المخدرات والأسلحة، ولكنه لم يفعل، فأدى هذا الاضطراب المنطقي إلى نتيجة تبعث على الرثاء، فبينما يمنع القانون التخفيف وإيقاف التنفيذ في جرائم الغش وإحراز المخدرات والأسلحة إذا به يبيح التخفيف وإيقاف التنفيذ في جرائم الخيانة العظمى واختلاس الأموال الأميرية والرشوة والقتل والسرقات والزنا والقذف, ولا شك أن كل واحدة من هذه الجرائم أخطر من كيان المجتمع وعلى أمنه ونظامه من الغش وإحراز المخدرات والأسلحة. هذا هو القانون الوضعي نظراً وعملاً فيما يتصل بالعقوبة، يرى أن تتمثل في العقوبة فكرة التأديب والزجر حماية للجماعة من الإجرام، ويرى أن لا تهمل في تقدير العقوبة شخصية المجرم، ويرى في بعض التشريعات الحديثة إهمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 شخصية المجرم في بعض الجرائم، والقانون واضح ومنطقي فيما يتعلق بالمبدأ الأول ولكنه بعيد عن المنطق والوضوح فيما يتعلق بالمبدأين الأخيرين حيث لم يصل بعد إلى تحديد المدى الذي يعمل فيه كل من المبدأين. 442 - بين الشريعة والقانون: يستطيع القارئ بعد استعراض نظرية العقوبة في الشريعة ونظرياتها المختلفة في القوانين الوضعية أن يقول بأن نظرية الشريعة تجمع بين كل النظريات الوضعية التي ظهرت ابتداء من القرن الثامن عشر، فالعقوبات في الشريعة إنما شرعت لمنفعة الجماعة ولإصلاح الأفراد ولحماية الجماعة من الجريمة وتمكينها من الدفاع عن نفسها ضد الإجرام، والعقوبات في الشريعة لا يصح أن تزيد عن حاجة الجماعة كما لا يصح أن تقل عن هذه الحاجة، فهي من هذه الوجهة إجراء تقتضيه العدالة والمصلحة معاً، وهذا هو ما رآه "روسو" و"بكاريا" و"بنتام" و"كانت" مجتمعين، والعقوبة في الشريعة يقصد منها استصلاح الجاني والرحمة به والإحسان إليه، فينبغي أن لا يهمل شأن المتهم في تقدير العقوبة، وهذا هو ما تتجه إليه النظرية العلمية. وإذا كانت نظرية الجريمة قد جمعت بين النظريات التي سادت في القوانين الوضعية من القرن الثامن عشر حتى الآن، فإن نظرية الشريعة قد تنزهت عن العيوب التي شابت النظريات الوضعية وسلمت من الانتقادات التي وجهت إليها. ولعله مما يدهش الكثيرين أن يعلموا أن للعقوبة في الشريعة الإسلامية نظرية علمية فنية تامة التكوين لا يأتيها النقد من بين يدها ولا من خلفها، وأن القانون بالرغم مما وصل إليه من تقدم إنما يسير في أثر الشريعة ويترسم خطاها، وأنه لم يصل بعد إلى ما وصلت إليه الشريعة، وأن النتائج التي وصل إليها القانون والاتجاهات التي يتجه نحوها تدل على أن تطوره في المستقبل القريب أو البعيد لن يخرج عن النطاق الذي رسمته الشريعة للعقوبة. ونستطيع أن نقول: إنه لا خلاف بين الشريعة والقوانين على المبادئ والأصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 التي تقوم عليها العقوبة، وإنما الخلاف في الكيفية التي تطبق بها هذه المبادئ والحدود التي تطبق فيها، فقد طبقت الشريعة كل المبادئ التي تعترف بها القوانين الوضعية ولكنها لم تجمع بينها في كل العقوبات ولم تسو بينها في كل الجرائم، بل جعلت لكل مبدأ منطقة يعمل فيها وحده أو مع غيره، وجعلت لهذه المناطق معالم بارزة واضحة لا يخطئها عقل ولا بصر، ومن ثم استطاعت الشريعة أن تخرج على الناس بنظرية منطقية عملية لا عيب فيها ولا مأخذ عليها. أما القوانين الوضعية فقد حاولت الجمع بين كل هذه المبادئ والتسوية بينها في كل الجرائم والعقوبات كما حاول ذلك شراح القوانين الوضعية، وكانت النتيجة أن أخفق واضعو القانون في إيجاد حلول عملية مقبولة كما أخفق الشراح في إيجاد نظرية علمية سليمة، وفي اليوم الذي تطبق فيه القوانين الوضعية المبادئ التي تقوم عليها العقوبة تطبيقاً سليماً متفقاً مع مصلحة الجماعة والأفراد، وملائماً لطبائع الأشياء، ستضطر أن تجعل لكل مبدأ منطقة يعمل فيها، وستهمل شخصية المجرم في الجرائم التي تمس كيان المجتمع, فتصل بذلك إلى ما سبقتها إليه الشريعة وتصبح متفقة معها تمام الاتفاق. ولا يفوتنا بعد هذا أن نذكر أن القانون الوضعي كان حتى آخر القرن الثامن عشر قانوناً وحشياً بعيداً عن أفق الإنسانية، فكان يحكم الأحياء والأموات والحيوان والجماد وينزل بالجميع عقوبات شتى قائمة على التمثيل والتشهير. كان القانون الوضعي كذلك حتى أخذ في القرن الثامن عشر بأول مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية فانقلب قانوناً إنسانياً بحتاً؛ إذ أصبحت العقوبة فيه قائمة على أساس التأديب والزجر بقصد حماية المجتمع، ولم تعد هناك حاجة للتمثيل والتشهير، ولم يعد منطق القانون يقبل محاكمة الأموات والحيوانات والجمادات؛ لأن التأديب لا ينفع فيهم فلا يجوز إذن عليهم، وهذا المبدأ الأول الذي لم يعرفه القانون إلا في القرن الثامن عشر عرفته الشريعة مع غيره من المبادئ من القرن السابع الميلادي، ولذلك تركزت المسئولية الجنائية من يوم نزول الشريعة في الإنسان الحي، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 يجعل غيره أهلاً لها، ولم يعرف عن الشريعة ما عرف عن القانون من محاكمة الأموات والحيوان والجماد، ولم يعرف عنها أنها تقبل التشهير والتمثيل، بل عرف عنها أنها تأباه أشد الإباء، فقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة ولو بالكلب العقور، ومن لا يرضى المثلة للحيوان فهو دون شك لا يرضاها لإنسان. ويكفي الشريعة الإسلامية فخراً بعد هذا أنها سبقت تفكير العالم بأحد عشر قرناً، وأن العالم يسير على آثارها من قرنين ولا تزال تسبق تفكيره بمراحل. 443 - شروط العقوبة: يشترط في كل عقوبة أن تتوفر فيها الشروط الآتية لتكون عقوبة مشروعة: أولاً: أن تكون العقوبة شرعية: وتعتبر العقوبة شرعية إذا كانت تستند إلى مصدر من مصادر الشريعة، كأن يكون مردها القرآن، أو السنة، أو الإجماع، أو صدر بها قانون من الهيئة المختصة، ويشترط في العقوبات التي يقررها أولو الأمر أن لا تكون منافية لنصوص الشريعة وإلا كانت باطلة. ويترتب على اشتراط شرعية العقوبة أنه لا يجوز للقاضي أن يوقع عقوبة من عنده ولو اعتقد أنها أفضل من العقوبات المنصوص عليها. ويظن البعض خطأ أن الشريعة تمنح القاضي سلطة تحكمية في العقاب، وهو ظن لا يتفق مع الواقع، وليس له مصدر إلا الجهل بأحكام الشريعة، فالعقوبات في الشريعة تقسم إلى حدود وقصاص وتعازير، فأما الحدود والقصاص فهي عقوبات مقدرة معينة ليس للقاضي حيالها من سلطان إلا أن يحكم بتطبيقها كلما كانت الجريمة ثابتة دون أن يستطيع تخفيفها أو تشديدها أو استبدال غيرها بها. فالسرقة مثلاً عقوبتها القطع وليس للقاضي إذا ثبتت الجريمة على الجاني أن يحكم عليه بغير القطع، إلا إذا كان هناك سبب شرعي يمنع من عقوبة القطع كسرقة الأب من الابن. والزنا من غير محصن فعقوبته الجلد مائة جلدة؛ فإذا ثبت الزنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 حكم القاضي بالجلد مائة جلدة، وليس له أن ينقص منها واحدة أو يزيد عليها واحدة، وليس له أن يستبدل بالجلد عقوبة أخرى. والقتل العمد عقوبته القصاص أي القتل, فإذا ثبتت الجريمة على الجاني كان على القاضي أن يحكم بالقصاص، وليس له أن يحكم بعقوبة أخرى إلا إذا كان هناك سبب شرعي يمنع من القصاص، فسلطة القاضي في الحدود والقصاص محدودة مقيدة. أما التعازير فسلطة القاضي فيها واسعة ولكنها ليست تحكمية، فهي واسعة لأن الشريعة تعاقب على جرائم التعازير بمجموعة من العقوبات تبدأ بأتفه العقوبات كالتوبيخ وتنتهي بأشدها كالحبس حتى الموت والقتل، وتترك الشريعة للقاضي أن يختار من بين هذه المجموعة العقوبات الملائمة للجريمة والمجرم، كأن تترك له أن يقدر كمية العقاب من بين حدي العقوبة الأدنى والأعلى، ولا شك أن إعطاء القاضي هذا السلطان المشروع الواسع يسهل عليه أن يضع الأمور في مواضعها, وأن يعاقب الجاني بالعقوبة التي تحمي الجماعة من الجريمة وتصلح الجاني وتؤدبه. وسلطة القاضي على سعتها ليست تحكمية لأنه لا يستطيع أن يحكم بعقوبة غير شرعية، ولا أن يعاقب الجاني بعقوبة لا تتلاءم مع جريمته، ولعل اتساع سلطة القاضي هو الذي دعا إلى الظن خطأ بأن سلطة القاضي في الشريعة سلطة تحكمية. وليس في الشريعة ما يوجب منح القضاة هذا السلطان الواسع، ومن ثم يجوز لولي الأمر أن يضيق هذا السلطان إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة؛ لأن المصلحة العامة هي التي سوغت منح القضاة هذا السلطان (1) . ثانياً: أن تكون العقوبة شخصية: ويشترط في العقوبة أن تكون شخصية تصيب الجاني ولا تتعداه إلى غيره، وهذا الشرط هو أحد الأصول التي تقوم   (1) راجع الفقرة 97 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 عليها الشريعة الإسلامية، وقد تكلمنا عن هذا الشرط بما فيه الكفاية بمناسبة الكلام على المسئولية (1) . ثالثاً: أن تكون العقوبة عامة: ويشترط في العقوبة أن تكون عامة تقع على كل الناس مهما اختلفت أقدارهم، وبحيث يتساوى أمامها الحاكم والمحكوم والغني والفقير والمتعلم والجاهل. والمساواة التامة في العقوبة لا توجد إلا إذا كانت العقوبة حداً أو قصاصاً؛ لأن العقوبة معينة ومقدرة، فكل شخص ارتكب الجريمة عوقب بها وتساوى مع غيره في نوع العقوبة وقدرها. أما إذا كانت العقوبة التعزير فالمساواة في نوع العقوبة غير مطلوبة، ولو اشترطت المساواة على هذا الوجه لأصبحت عقوبة التعزير حداً، وإنما المطلوب هو المساواة في أثر العقوبة على الجاني، والأثر المرجو للعقوبة هو الزجر والتأديب، وبعض الأشخاص يزجرهم التوبيخ، وبعضهم لا يزجرهم إلا الضرب أو الحبس، وعلى هذا تعتبر المساواة محققة إذا عوقب المشتركين في جريمة واحدة بعقوبات مختلفة تكفي كل منها لردع من وقعت عليه بحسب حاله وظروفه. * * *   (1) راجع الفقرتين 281، 472. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 الباب الثاني أقسام العقوبة 444 - تنقسم العقوبات بحسب الرابطة القائمة بينها إلى أربع أقسام: (1) العقوبات الأصلية: وهي العقوبات المقررة أصلاً للجريمة، كالقصاص للقتل، والرجم للزنا، والقطع للسرقة. (2) العقوبات البديلية: وهي العقوبات التي تحل محل عقوبة أصلية إذا امتنع تطبيق العقوبة الأصلية لسبب شرعي، ومثالها: الدية إذا درئ القصاص، والتعزير إذا درئ الحد والقصاص. والعقوبات البدلية هي عقوبات أصلية قبل أن تكون بدلية، وإنما تعتبر بدلاً لما هو أشد منها إذا امتنع تطبيق العقوبة الأشد، فالدية عقوبة أصلية في القتل شبه العمد ولكنها تعتبر عقوبة بديلة بالنسبة للقصاص، والتعزير عقوبة أصلية في جرائم التعازير ولكن يحكم به بدلاً من القصاص أو الحد إذا امتنع الحد أو القصاص لسبب شرعي. (3) العقوبات التبعية: وهي العقوبات التي تصيب الجاني بناء على الحكم بالعقوبة الأصلية ودون حاجة للحكم بالعقوبة التبعية، ومثلها: حرمان القاتل من الميراث، فالحرمان يترتب على الحكم على القاتل بعقوبة القتل ولا يشترط فيه صدور حكم بالحرمان. ومثلها أيضاً عدم أهلية القاذف للشهادة، فعدم الأهلية لا يشترط أن يصدر به حكم وإنما يكفي لانعدام الأهلية صدور الحكم بعقوبة القذف. (4) العقوبات التكميلية: وهي العقوبات التي تصيب الجاني بناء على الحكم بالعقوبة الأصلية بشرط أن يحكم بالعقوبة التكميلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 والعقوبات التكميلية تتفق مع العقوبات التبعية في أن كليهما مترتبة على حكم أصلي، ولكنهما يختلفان في أن العقوبة التبعية تقع دون حاجة لإصدار حكم خاص بها، أما العقوبات التكميلية فتستوجب صدور حكم بها، ومثل العقوبات التكميلية: تعليق يد السارق في رقبته بعد قطعها حتى يطلق سراحه، فإن تعليق اليد مترتب على القطع ولكنه لا يجوز إلا إذا حكم به. 445 - وتنقسم العقوبات من حيث سلطة القاضي في تقديرها إلى: (1) عقوبات ذات حد واحد: وهي التي لا يستطيع القاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها ولو كانت تقبل بطبيعتها الزيادة والنقصان كالتوبيخ والنصح وكالجلد المقرر حداً. (2) عقوبات ذات حدين: وهي التي لها حد أدنى وحد أعلى ويترك للقاضي أن يختار من بينهما القدر الذي يراه ملائماً كالحبس والجلد في التعازير. 446 - وتنقسم العقوبات من حيث وجوب الحكم بها إلى: (1) عقوبات مقدرة: وهي العقوبات التي عين الشارع نوعها وحدد مقدارها وأوجب على القاضي أن يوقعها دون أن ينقص منها أو يزيد فيها أو يستبدل بها غيرها، ويسمى هذا النوع من العقوبات بالعقوبات اللازمة؛ لأن ولي الأمر ليس له إسقاطها ولا العفو عنها. (2) عقوبات غير مقدرة: وهي العقوبات التي يترك للقاضي اختيار نوعها من بين مجموعة من العقوبات وتقدير حاكمها بحسب ما يراه من ظروف الجريمة وحال المجرم، وتسمى هذه العقوبات بالعقوبات المخيرة؛ لأن للقاضي أن يختار من بينها. 447 - وتنقسم العقوبات من حيث محلها إلى: (1) عقوبات بدنية: وهي العقوبات التي تقع على جسم الإنسان، كالقتل والجلد والحبس. (2) عقوبات نفسية: وهي العقوبات التي تقع على نفس الإنسان دون جسمه كالنصح والتوبيخ والتهديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 (3) عقوبات مالية: وهي العقوبات التي تصيب مال الشخص كالدية والغرامة والمصادرة. 448 - وتنقسم العقوبات بحسب الجرائم التي فرضت عليها إلى: (1) عقوبات الحدود: وهي العقوبات المقررة على جرائم الحدود. (2) عقوبات القصاص والدية: وهي العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية. (3) عقوبات الكفارات: وهي العقوبات المقررة لبعض جرائم القصاص والدية وبعض جرائم التعازير. (4) عقوبات التعازير: وهي العقوبات المقررة لجرائم التعازير. وهذا التقسيم هو أهم تقسيم للعقوبات، وسنتكلم عن كل قسم من هذه الأقسام في فصل خاص، ثم نتبع ذلك بفصلين آخرين نخصص أحدهما لبيان مدى صلاحية العقوبات الشرعية ونخصص الثاني لبيان العقوبات في القانون المصري ومدى صلاحيتها. * * * الفصل الأول العقوبات المقررة لجرائم الحدود 449 - الحدود: هي العقوبات المقررة على جرائم الحدود، وهي كما ذكرنا من قبل سبع جرائم: (1) الزنا. ... ... ... (2) القذف. ... ... ... (3) الشرب. (4) السرقة ... ... ... (5) الحرابة. ... ... ... (6) الردة. (7) البغي. وتسمى العقوبة المقررة لكل جريمة من هذه الجرائم حداً. والحد هو العقوبة المقررة حقاً لله تعالى، أو هو العقوبة المقررة لمصلحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 الجماعة, وحينما يقول الفقهاء أن العقوبة حق لله تعالى يعنون بذلك أنها لا تقبل الإسقاط من الأفراد ولا من الجماعات، وهم يعتبرون أن العقوبة حقاً لله كما استوجبتها المصلحة العامة وهي رفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة والسلامة لهم. وتمتاز العقوبات المقررة لجرائم الحدود بثلاث ميزات: أ - أن هذه العقوبات وضعت لتأديب الجاني وكفه هو وغيره عن الجريمة، وليس فيها مجال لوضع شخصية الجاني موضع الاعتبار عند توقيع العقوبة. ب - أن هذه العقوبات تعتبر ذات حد واحد وإن كان فيها ما هو بطبيعته ذو حدين؛ لأنها عقوبات مقدرة معينة، ولأنها عقوبات لازمة، فلا يستطيع القاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها، كما أنه يستطيع أن يستبدل بها غيرها. جـ - أن هذه العقوبات جميعاً وضعت على أساس محاربة الدوافع التي تدعو للجريمة بالدوافع التي تصرف عن الجريمة، أي أن هذه العقوبات وضعت على أسا متين من علم النفس. * * * المبحث الأول عقوبات الزنا 450 - عقاب الزاني: للزنا في الشريعة الإسلامية ثلاث عقوبات هي: (1) الجلد. ... ... ... (2) التغريب. ... ... ... (3) الرجم. والجلد والتغريب معاً هما عقوبة الزاني غير المحصن، أما الرجم فهو عقوبة الزاني المحصن، فإذا كان الزانيان غير محصنين جلدا وغربا، وإن كانا محصنين رجما، وإن كان أحدهما محصناً والثاني غير محصن رجم الأول وجلد الثاني وغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 451 - عقوبة الجلد: تعاقب الشريعة الزاني الذي لم يحصن بعقوبة الجلد، وللعقوبة حد واحد فقط ولو أنها بطبيعتها ذات حدين؛ لأن الشريعة عينت العقوبة وقدرتها فجعلتها مائة جلدة، وذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . وقد وضعت عقوبة الجلد على أساس محاربة الدوافع التي تدعو للجريمة بالدوافع التي تصرف عن الجريمة، وهذا هو الذي يهدينا إليه التأمل والتفكير في الجريمة وعقوبتها. فالدافع الذي يدعو الزاني للزنا هو اشتهاء اللذة والاستمتاع بالنشوة التي تصحبها، والدافع الوحيد الذي يصرف الإنسان عن اللذة هو الألم ولا يمكن أن يستمتع الإنسان بنشوة اللذة إذا تذوق مس العذاب، وأي شيء يحقق الألم ويذيق مس العذاب أكثر من الجلد مائة جلدة؟! فالشريعة حينما وضعت عقوبة الجلد للزنا لم تضعها اعتباطاً، وإنما وضعتها على أساس من طبيعة الإنسان وفهم لنفسيته وعقليته، والشريعة حينما قررت عقوبة الجلد للزنا دفعت العوامل النفسية التي تدعو للزنا بعوامل نفسية مضادة تصرف عن الزنا، فإذا تغلبت العوامل الداعية على العوامل الصارفة وارتكب الزاني جريمته مرة كان فيما يصيبه من ألم العقوبة وعذابها ما ينسيه اللذة ويحمله على عدم التفكير فيها. ... الجلد في القوانين الوضعية: ولقد كانت عقوبة الجلد من العقوبات التي يعترف بها قانون العقوبات المصري سنة 1937، وكانت وسيلة من وسائل تأديب الأحداث، ثم ألغاها المشرع المصري مقلداً في ذلك معظم القوانين الوضعية التي ألغت هذه العقوبة. وأغلب شراح القوانين اليوم يفكرون في العودة إلى تقرير عقوبة الجلد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 ويسعون في وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ. وقد اقترح فعلاً في فرنسا تقرير عقوبة الجلد على أعمال التعدي الشديد التي تقع على الأشخاص، وذكر تأييداً لهذا اقتراح أن العادات قد تطورت تطوراً مخيفاً، وأن طبقات العامة أصبحت تلجأ إلى القوة والعنف لحسم المنازعات، وأن الإجرام تغير مظهره عن ذي قبل فأصبح أكثر شدة وأعظم حدة، وأن لا وسيلة لتوطيد الأمن إلا بإعادة العقوبات البدنية وأفضلها عقوبة الجلد. ويعارض بعض شراح القوانين في تقرير عقوبة الجلد لسببين: أولهما: النفور من الألم البدني. وثانيهما: إنقاص الاحترام الواجب نحو شخص الإنسان. ولكن أصحاب الرأي المضاد يردون على هؤلاء بأن عقوبة الجلد تمتاز بأنها موجهة إلى حساسية الجاني المادية، وأن الخوف من ألم الجلد هو أول ما يخافه المجرمون فيجب الاستفادة من ذلك في إرهابهم، أما إنقاص الاحترام الإنساني ففكرة لا محل لها في العقاب ولا يصح أن يحتج بها لمن لا يوفر الاحترام لنفسه. والقائلون بعقوبة الجلد يرون أن تكون مقصورة على المجرمين الذين لا يتأثرون بغيرها من أنواع العقوبات، سواء كانوا أحداثاً أم بالغين. ومنهم من يرى تخصيص عقوبة الجلد لجرائم السكر، وجرائم هتك العرض، وجرائم النهب والسرقة، وكسر الأسوار، وإتلاف المزروعات، وقتل المواشي، وعلى العموم لكل الجرائم التي تدل على القسوة وعدم المبالاة. ويحتج هذا الفريق بأنه ما دام قد ثبت بشكل قاطع أن عقوبة الجلد تفوق غيرها من العقوبات في تأديب المسجونين وحفظ النظام بينهم وهم طائفة فاسدة، فيجب أن يكون الجلد عقوبة أساسية في القانون ووسيلة من وسائل التأديب والإصلاح لغير المسجونين. ويعارض "جارو" في عقوبة الجلد، لا لأنها عقوبة غير صالحة، ولكن لأنه يخشى من سوء الاستعمال عند تنفيذ العقوبة، ولأنه يخشى أن يؤدي الرجوع إلى الجلد إلى تباري المشرعين في تقرير العقوبات القاسية (1) .   (1) الموسوعة الجنائية ج5 ص53 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 وعقوبة الجلد وإن كانت ألغيت من أكثر القوانين الجنائية الوضعية إلا أنها لا تزال عقوبة معترفاً بها في قوانين بعض الدول، ففي إنجلترا يعتبر الجلد إحدى العقوبات الأساسية في القانون الجنائي، وفي الولايات المتحدة يعاقب المسجونون بالجلد, وفي قانوني الجيش والبوليس في مصر وإنجلترا لا يزال الجلد عقوبة أساسية, وكذلك الحال في كثير من الدول. وفي أثناء الحرب الأخيرة رجعت معظم بلاد العالم إلى عقوبة الجلد وطبقتها على المدنيين في جرائم التموين والتسعير وغيرها، وإن في اضطرار أكثر بلاد العالم إلى تطبيق عقوبة الجلد على المدنيين أثناء الحرب لشهادة قيمة لهذه العقوبة، واعترافاً من القائمين على القوانين الوضعية بأن عقوبة الحبس تعجز عن حمل الناس على طاعة القانون. والعالم حين يقرر عقوبة الجلد في القوانين العسكرية يعترف بأن هذه العقوبة ضرورية لحفظ النظام بين الجند وحملهم على طاعة القانون, ولكن المدنيين في أنحاء العالم اليوم أشد حاجة من الجند إلى هذه العقوبة بعد أن أصبحوا لا يحرصون على النظام ولا يعترفون بالطاعة للقوانين، وما أعجب منطق الناس يريدون الطاعة والنظام للجند ولا يستلزمونها للمدنيين, وكأن المدنيين ليسوا من الأمة أو ليسوا هم الذين يمدون الجيش بالجنود. وأي عيب في أن يدين أفراد الأمة جميعاً بالخضوع للنظام وبالطاعة للشرائع؟ هذه هي عقوبة الجلد, وهذا هو رأي العلماء والدول فيها، فمن كان يود أن ينتقد هذه العقوبة فقيل إن العالم كله مخطئ وإنه هو وحده المصيب، بل ليقل ما شاء فإنه لن يستطيع أن يقول إن التجربة أثبتت عدم الحاجة لهذه العقوبة. عقوبة الزنا في القوانين الوضعية: وتعاقب القوانين الوضعية على الزنا بالحبس وهو عقوبة لا يؤلم الزاني إيلاماً يحمله على هجر اللذة التي يتوقعها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 وراء الجريمة, ولا تثير فيه من العوامل النفسية المضادة ما يصرف العوامل النفسية الداعية إلى الجريمة أو يكبتها. وقد أدى عقوبة الحبس إلى إشاعة الفساد والفاحشة, وأكثر الناس الذين يستمسكون عن الزنا اليوم لا تصرفهم عنه العقوبة وإنما يمسكهم عنه الدين أو الأخلاق الفاصلة التي لم يعرفها أهل الأرض قاطبة إلا عن طريق الدين. وتمتاز الشريعة الإسلامية بأنها حين جعلت الجلد عقوبة للزنا قد حاربت الجريمة في النفس قبل أن تحاربها في الحس، وعالجتها بالعلاج الوحيد الذي لا ينفعها غيره, أما العقوبة التي قررها القانون فإنها لا تمس دواعي الجريمة في نفس المجرم ولا حسه إذ الحبس علاج إن صلح لأية جريمة أخرى فهو لا يصلح بحال لجريمة الزنا. 452 - عقوبة التغريب: وتعاقب الشريعة الزاني غير المحصن بالتغريب عاماً بعد جلده، والمصدر التشريعي لهذه العقوبة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام". وهذا الحديث غير متفق عليه بين الفقهاء، ولذلك اختلفوا حيال هذه العقوبة, فأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الحديث منسوخ أو غير مشهور، وإذا اعترفوا بالتغريب فإنما يعترفون به على أنه تعزير لا حد يجوز الحكم به إذا رآه الإمام (1) , ومالك يرى التغريب حداً واجباً على الرجل دون المرأة (2) , والشافعي وأحمد (3) يريان في التغريب حداً يجب على كل زان غير محصن (4) . ويرى القائلون بالغريب أن يغرب الزاني من بلده الذي زنى فيه إلى بلد   (1) شرح فتح القدير ج4 ص134 وما بعدها. (2) شرح الزرقاني ج8 ص83. (3) أسنى المطالب ج4 ص129، المغني ج10 ص135، 144. (4) يرى مالك أن التغريب على الرجل دون المرأة وعلى الحر دون العبد، ويجعل أحمد التغريب عقوبة على الأحرار فقط رجالاً ونساء. أما الشافعي فيجعله على الرجال والنساء والأحرار والعبيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 آخر داخل حدود دار الإسلام على أن لا تقل المسافة بين البلدين عن مسافة القصر. ويرى مالك أن يسجن الزاني في البلدة التي يغرب إليها (1) , ويرى الشافعي أن يراقب في البلدة التي يغرب إليها ولا يحبس إلا إذا خيف هربه ورجوعه إلى بلدته فيحبس (2) , ويرى أحمد أن لا يحبس المغرب (3) . والتغريب يعتبر عقوبة تكميلية بالنسبة لعقوبة الجلد، وله في نظرنا علتان: الأولى: التمهيد لنسيان الجريمة بأسرع ما يمكن, وهذا يقتضي إبعاد المجرم عم مسرح الجريمة, أما بقاؤه بين ظهراني الجماعة فإنه يحيي ذكرى الجريمة ويحول دون نسيانها بسهولة. الثانية: أن إبعاد المجرم عن مسرح الجريمة يجنبه مضايقات كثيرة لابد أن يلقاها إذا لم يبعد، وقد تصل هذه المضايقان إلى حد قطع الرزق وقد لا تزيد على حد المهانة والتحقير، فالإبعاد يهيئ للجاني أن يحيا من جديد حياة كريمة. وظاهر مما سبق أن التغريب وإن كان عقوبة إلا أنه شرع لمصلحة الجاني أولاً ولصالح الجماعة ثانياً، والمشاهد حتى في عصرنا الحالي الذي انعدم فيه الحياء أن كثيرين ممن تصيبهم معرة الزنا يهجرون موطن الجريمة مختارين لينأوا بأنفسهم عن الذلة والمهانة التي تصيبهم في هذا المكان. 453 - عقوبة الرجم: الرجم عقوبة الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة، ومعنى الرجم القتل رمياً بالحجارة. ولم يرد في القرآن شئ عن الرجم، ولذلك أنكر الخوارج عقوية الرجم، ومذهبهم يقوم على جلد المحصن وغير المحصن والتسوية بينهما في العقوبة، وفيما عدا الخوارج فالإجماع منعقد على إقرار عقوبة   (1) شرح الزرقاني ج8 ص83. (2) أسنى المطالب ج4 ص130. (3) المغني ج10 ص136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 الرجم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بها وأجمع أصحابه من بعده عليها. ومن الأحاديث المشهورة في هذا الباب: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثة: كفر بعد إيمان، وزناً بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس", وقد أثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر برجم ماعز والغامدية وصاحبة العسيف، فالرجم سنة فعلية وسنة قولية في وقت واحد. وقد وضعت عقوبة الرجم على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة الجلد للزاني غير المحصن, ولكن شددت عقوبة المحصن للإحصان؛ لأن الإحصان يصرف الشخص عادة عن التفكير في الزنا، فإن فكر فيه بعد ذلك فإنما يدل تفكيره فيه على قوة اشتهائه للذة المحرمة وشدة اندفاعه للاستمتاع بما يصحبها من نشوة, فوجب أن توضع له عقوبة فيها من قوة الألم وشدة العذاب ما فيها بحيث إذا فكر في هذه اللذة المحرمة وذكر معها العقوبة المقررة تغلب التفكير في الألم الذي يصيبه من العقوبة على التفكير في اللذة التي يصيبها من الجريمة. ويستكبر البعض منا اليوم عقوبة الرجم على الزاني المحصن، وهو قول يقولونه بأفواههم ولا يؤمن به قلوبهم، ولو أن أحد هؤلاء وجد امرأته أو ابنته تزني واستطاع أن يقتلها ومن يزني بها لما تأخر عن ذلك. والشريعة الإسلامية قد سارت في هذه المسألة كما سارت في كل أحكامها على أدق المقاييس وأعدلها، فالزاني المحصن هو قبل كل شيء مثل سيئ لغيره من الرجال والنساء المحصنين وليس للمثل السيئ في الشريعة حق البقاء, والشريعة بعد ذلك تقوم على الفضيلة المطلقة وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، وهي توجب على الإنسان أن يجاهد شهوته ولا يستجيب لها إلا من طريق الحلال وهو الزواج، وأوجبت عليه إذا بلغ الباءة أن يتزوج حتى لا يعرض نفسه للفتنة أو يحملها ما لا تطيق, فإذا لم يتزوج وغلبته على عقله وعزيمته الشهوات فعقابه أن يجلد مائة جلدة، وشفيعه في هذه العقوبة الخفيفة تأخيره في الزواج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 الذي أدى به إلى الجريمة. أما إذا تزوج فأحصن فقد حرصت الشريعة أن لا تجعل له بعد الإحصان سبيلاً إلى الجريمة. فلم تجعل الزواج أبدياً حتى لا يقع في الخطيئة أحد الزوجين إذا فسد ما بينهما، وأباحت للزوجة أن تجعل العصمة في يدها وقت الزواج، كما أباحت لها أن تطلب الطلاق للغيبة والمرض والضرر والإعسار، وأباحت للزوج الطلاق في كل وقت وأحلت له أن يتزوج أكثر من واحدة على أن يعدل بينهن، وبهذا فتحت الشريعة للمحصن كل أبواب الحلال وأغلقت دونه باب الحرام, فكان عدلاً وقد انقطعت الأسباب التي تدعو للجريمة من ناحية العقل والطبع أن تنقطع المعاذير التي تدعو إلى تخفيف العقاب، وأن يؤخذ المحصن بالعقوبة التي لا يصلح غيرها لمن استعصى على الإصلاح. ولو أن هؤلاء الذين يجزعون من قتل الزاني رجعوا إلى الواقع لاستقام لهم الأمر ولعملوا أن الشريعة الإسلامية حين أوجبت قتل الزاني المحصن لم تأت بشيء يخالف مألوف الناس، فنحن الآن تحت حكم القانون وهو يعاقب على الزنا بالحبس إذا كان أحد الزانيين محصناً، فإذا لم يكن أحدهما محصناً فلا عقاب ما لم يكن إكراه، هذا هو حكم القانون، فهل رضي الناس حكم القانون؟ إنهم لم يرضوه ولن يرضوه بل إنهم حين رفضوا حكم القانون القائم مرغمين أقبلوا على عقوبة الشريعة المعطلة مختارين، فهم يقتصون من الزاني محصناً وغير محصن بالقتل، وهم ينفذون القتل بوسائل لا يبلغ الرجم بعض ما يصاحبها من العذاب، فهم يغرقون الزاني ويحرقونه ويقطعون أوصاله ويهشمون عظامه ويمثلون به أبشع تمثيل, وأقلهم جرأة على القتل يكتفي بالسم يدسه لمن أوجب عليه زناه، ولو أحصينا جرائم القتل التي تقع بسبب الزنا لبلغت نصف جرائم القتل جميعاً، فإذا كان هذا هو الواقع فما الذي نخشاه من عقوبة الرجم؟ إن الأخذ بها لن يكون إلا اعترافاً بالواقع، والاعتراف بالواقع شجاعة وفضيلة، ولا أظننا بالرغم مما وصلنا إليه من تدهور نكره الإقرار بالحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 أو نخشى الاعتراف بالواقع المحسوس. ويخشى البعض أن يكون في عقوبة الرجم شئ من القسوة, ولمثل هؤلاء نقول: إن الرجم هو القتل لا غير, وإن قوانين العالم كل تبيح القتل عقوبة لبعض الجرائم، ولا فرق بين من يقتل شنقاً أو ضرباً بالفأس أو صعقاً بالكهرباء أو رجماً بالحجارة أو رمياً بالرصاص، فكل هؤلاء يقتل ولكن وسائل القتل هي التي فيها الاختلاف، ولا فرق في النتيجة بين الرمي بالحجارة والرمي بالرصاص، ومن كان يظن أن الموت في كل الأحوال فهو في ظنه على خطأ مبين؛ لأن الرصاص قد لا يصيب مقتلاً من القتيل فيتأخر موته؛ ولأن الحجارة قد تصيب المقتل وتسرع بالموت أكثر مما يسرع به الرصاص، فرماة الرصاص عددهم محدود وطلقاتهم معدودة، أما رماة الحجارة فعددهم غير محدود وعليهم أن يرموا الزاني حتى يموت، ومن استطاع أن يتصور مائة أو مئات يقذفون شخصاً في مقاتله بالأحجار استطاع أن يتصور أنه يموت بأسهل وأسرع مما يموت قتيل الرصاص. ولقد دلت التجارب على أن حبل المشنقة لا يزهق الروح في بعض الأحوال, وأنه لا يزهقها بالسرعة اللازمة في كثير من الأحوال، كما دلت التجارب على أن ضرب الفأس الواحدة قد لا يكفي لقطع الرقبة ليس هو أسهل الطرق للموت، كذلك فإن التسميم بالغاز أو الصعق بالكهرباء يبطئ بالموت أحياناً أكثر مما يبطئ به الشنق أو الرصاص. وأخيراً فإن التفكير في هذه المسألة بالذات تفكير لا يتفق مع طبيعة العقاب, فالموت إذا تجرد من الألم والعذاب كان من أتفه العقوبات، وأكثر الناس اليوم إذا اتجه تفكيرهم للموت فكروا فيما يصحبه من ألم وعذاب، فهم لا يخافون الموت في ذاته وإنما يخافون العذاب الذي يصحب الموت، وإذا كان العذاب لا قيمة له مع المحكوم عليه بالموت فإن قيمته يجب أن تظل محفوظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 للزجر والتخويف، وليس من مصلحة المجتمع في شئ أن يفهم أفراده أن العقوبة هينة لينة لا يؤلم ولا تدعو للخوف، وقد بلغت آية الزنا الغاية في إبراز هذا المعنى حيث جاء بها: {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّه} ، وحيث جاء بها: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ، ذلك أن الرأفة بالمجرمين تشجيع على الإجرام، والعذاب الذي يصحب العقوبة هو الذي يؤدب من أجرم ويزجر من لم يجرم. 454 - تعليق على عقوبات الزنا: هذه هي عقوبات الزنا في الشريعة الإسلامية, لم تجئ إرتجالاً ولم توضع اعتباطاً وإنما جاءت بعد فهم صحيح لتكوين الإنسان وعقليته، وتقدير دقيق لغرائزه وميوله وعواطفه، ووضعت لتحفظ مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فهي عقوبات علمية تشريعية؛ لأنها شرعت لمحاربة الجريمة، وهذه ميزة تمتاز بها العقوبات التي وضعتها الشريعة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية, ولا تكاد هذه الميزة توجد في عقوبة من العقوبات التي تطبقها القوانين الوضعية. ولا ريب في أن العقوبة التي تقوم على فهم نفسية المجرم هي العقوبة التي يكتب لها النجاح؛ لأنها تحارب الإجرام في نفس الفرد وتحفظ مصلحة الجماعة، ثم هي بعد ذلك أعدل العقوبات؛ لأنها لا تظلم المجرم ولا تهضمه ولا تحمله ما لا يطيق في سبيل الجماعة، وكيف تظلمه وقد بنيت على أساس قدرته واشتقت من طبيعته ونفسيته؟ وهي عادلة أيضاً بالنسبة للجماعة؛ لأن عدالتها بالنسبة للأفراد هي العدالة لمجموعهم، ولأنها تحفظ للمجتمع حقه ولا تضحي به في سبيل الأفراد، والعقوبة التي تحابي الأفراد على حساب الجماعة إنما تضيع مصلحة الفرد والجماعة معاً؛ لأنها تؤدي إلى ازدياد الجرائم واختلال الأمن ثم توهين النظام وانحلال المجتمع، وإذا دب الانحلال في مجتمع فقل على الأفراد وعلى المجتمع العفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 ولقد كان لعقوبات الزنا التي جاءت بها الشريعة أثرها في محاربة الجريمة في كل زمان ومكان، ونستطيع أن نلمس هذا الأثر في أي بلد يأخذ بأحكام الشريعة، ونستطيع أن نلمسه في الفرق بين ما كنا عليه من خمسين أو أربعين أو ثلاثين سنة أو أقل من ذلك وبين ما نحن عليه الآن, ولم تكن الشريعة تطبق قبل خمسين سنة ولكن أثرها قوي كان لا يزال باقياً متمثلاً في أخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا ثم أخذ يضعف ويتضاءل على مر الأيام. ونستطيع أن نلمس أثر الشريعة واضحاً في الفرق بين الشرق الإسلامي عامة وبين بلاد الغرب, بالرغم من أن بلاد الشرق كلها تقريباً قد أخذت بقوانين الغرب ونظمه ودرجت على أثره وراحت تتشبه به حتى فيما يتصل بالأعراض والأخلاق, فلا زال الشرق ينفر من جريمة الزنا ويستفظعها ويحقر مرتكبيها ويستقل كل عقوبة مهما عظمت عليها، بينما الغرب لا يحفل بهذه الجريمة ولا يهتم بالأخلاق والأعراض على العموم. والفرق بين الشرق والغرب هو الفرق بين الشريعة والقانون، كل قد ترك طابعه في الجماعة التي حكمها طويلاً, فعقوبة الشريعة العادلة الرادعة قد خلفت وراءها مجتمعاً صالحاً يقوم على الأخلاق الفاضلة, وعقوبة القانون الهينة على الأفراد المضيعة للجماعة قد تركت وراءها مجتمعاً فاسداً منحلاً تسيره الأهواء وتحكمه الشهوات. * * * المبحث الثاني عقوبة القذف 455 - الجلد وعدم الأهلية للشهادة: للقذف في الشريعة عقوبتان: إحداهما: أصلية وهي الجلد، والثانية: تبعية وهي عدم قبول شهادة القاذف. وعقوبة الجلد ولو أنها بطبيعتها ذات حدين إلا أن عقوبة الجلد للقاذف ذات حد واحد؛ لأن عدد الجلدات محدد، وليس للقاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها أو يستبدل بها غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 والأصل في عقوبتي القذف قول الله جل شأنه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] . ولا تعاقب الشريعة على القذف إلا إذا كان كذباً واختلافاً، فإن كان تقديراً للواقع فلا جريمة ولا عقوبة. والبواعث التي تدعو القاذف للافتراء والاختلاق كثيرة منها: الحسد والمنافسة والانتقام، ولكنها جميعاً تنتهي إلى غرض واحد يرمي إليه كل قاذف هو إيلام المقذوف وتحقيره. وقد وقعت عقوبة القذف في الشريعة على أساس محاربة هذا الغرض، فالقاذف يرمي إلى إيلام المقذوف إيلاماً نفسياً فكان جزاؤه الجلد ليؤلمه إيلاماً بدنياً؛ لأن الإيلام البدني هو الذي يقابل الإيلام النفسي؛ لأنه أشد منه وقعاً على النفس والحس معاً، إذ أن الإيلام النفسي هو بعض ما ينطوي عليه الإيلام البدني. والقاذف يرمي من وراء قذفه إلى تحقير المقذوف, وهذا التحقير فردي؛ لأن مصدره فرد واحد هو القاذف, فكان جزاؤها أن يحقر من الجماعة كلها وأن يكون هذا التحقير العام بعض العقوبة التي تصيبه فتسقط عدالته ولا تقبل له شهادة أبداً ويوصم وصمة أبدية بأنه من الفاسقين. وهكذا حاربت الشريعة الإسلامية الدوافع النفسية الداعية إلى الجريمة بالعوامل النفسية المضادة التي تستطيع وحدها التغلب على الدوافع الداعية للجريمة وصرف الإنسان عن الجريمة، فإذا فكر شخص أن يقذف آخر ليؤلم نفسه ويحقر شخصه ذكر العقوبة التي تؤلم النفس والبدن، وذكر التحقير الذي تفرضه عليه الجماعة، فصرفه ذلك عن الجريمة، وإن تغلبت العوامل الداعية إلى الجريمة مرة على العوامل الصارفة عنها فارتكب الجريمة, كان فيما يصيب بدنه ونفسه من ألم العقوبة وفيما يلحق شخصه من تحقير الجماعة ما يصرفه نهائياً عن العودة لارتكاب الجريمة بل ما يصرفه نهائياً عن التفكير فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 456 - عقوبة القذف في القوانين: وتعاقب القوانين على القذف بالحبس أو بالغرامة أو بهما معاً, وهي عقوبات غير رادعة، ولذلك ازدادت جرائم القذف والسب زيادة عظيمة، وأصبح الناس وعلى الأخص رجال الأحزاب يتبادلون القذف والسب كما لو كانوا يتقارضون المدح والثناء، كل يحاول تحقير الآخر وتشويهه بالحق أو بالباطل، وكل يريد أن يهدم أخاه ليخلوا له الجو ينطلق فيه, وسيظلون كذلك حتى يمزقوا أعراضهم ويقطعوا أرحامهم ويهدموا أنفسهم بأيديهم، ولكنهم سيتركون أسوأ مثل يحتذى لمن بعدهم. ولو أن أحكام الشريعة الإسلامية طبقت على هؤلاء بدلاً من القانون لما جرؤ أحدهم على أن يكذب على أخيه كذبة واحدة؛ لأنها تؤدي به إلى الجلد وتنتهي بإبعاده عن الحياة العامة, فلا قيادة ولا رئاسة ولا أمر ولا نهي، ذلك أن من كذب سقطت شهادته، ومن سقطت شهادته سقطت عدالته, ومن سقطت عدالته سقطت عنه قيادته ورئاسته، ولأن الأمر والنهي من حق المتيقن ولا يكون أبداً للفاسقين. وما تشكو منه مصر وتتألم له تشكو منه كل البلاد الديموقراطية, ويرى بعض المفكرين في هذا عارضاً محتملاً تقتضيه حياة الشورى؛ لأنها تقوم على اختلاف وجهات النظر وتعد الأحزاب واختلاف البرامج, ويراه البعض شراً مستطيراً ومرضا ًخطيراً من أمراض الديموقراطية لا ينقضي إلا بالقضاء عليها, وأصحاب الرأيين على خطأ فيما ذهبوا إليه؛ لأن الشورى لا تقتضي بطبيعتها خلق الجرائم ولا التشجيع على ارتكابها, ولو هدوا إلى الطيب من القول لقالوا إن هذا العارض المحتمل وهذا الشر المستطير كلاهما ناشئ عن انعدام العقوبة الرادعة التي تصد الناس عن اقتراف الجريمة. إن العالم كله يقوم على فكرة الثواب والعقاب, ولقد كان يسير على هذه الفكرة في روحانيتها القديمة الباقية، وهو يسير عليها الآن في ماديته الحديثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 العاتية، فقد كان عمر بن الخطاب يحكم بالعدل لا يبغي عرض الدنيا وإنما يبغي ثواب الآخرة, وكان يبتعد عن الظلم؛ لأنه يخشى اليوم الآخر، أما حكام اليوم فإنما يحكمون بالعدل إذا حكموا لينالوا ثناء الجماهير، ويبتعدون عن الظلم لأنهم يخشون فقدان مناصبهم. وكان العالم الورع قديماً يكتب ما يكتب لوجه الله وطمعاً فيما عنده ويدع ما يدع خشية من الله وخوفاً من غضبه، وأما العالم المطلع اليوم فيكتب ما يكتب لتروج كتاباته لدى الجماهير؛ ويدع ما يدع خوفاً من إعراض الجماهير وما يتبع الإعراض من الكساد والبوار. وكان العامل المتدين ما زال يعمل ليؤدي ما عليه من حق لرب العمل إرضاء لله ولا يقصر في عمله خشية غضب الله, أما العامل اليوم فإنما يجد في عمله انتظاراً للمكافأة العاجلة من رب العمل أو طلباً لزيادة الأجر, ويبتعد عن التقصير؛ لأنه يجر عليه الطرد والحرمان من العمل. هذه هي طبيعة الناس لن تتغير ولن تتبدل ولو تغيرت مظاهرها وتبدلت وسائلهم, وهي طبيعتهم إذا تقدموا وطبيعتهم إذا تأخروا, ويرجون الثواب ويحرصون على الوصول إليه, ويخشون العقاب ولا يرضونه لأنفسهم، فمن الحكمة أن تستغل طبيعة البشر في سياستهم وتوجههم، وقد استغلت الشريعة الإسلامية طبيعة البشر فأقامت أحكامها على أساس ما في خلائقهم الأصلية من رجاء وخوف, ومن قوة وضعف, فجاءت أحكاماً صالحة لكل مكان وزمان؛ لأن طبائع البشر واحدة في كل مكان؛ ولأنها لا تتغير بتغير الأزمان. وذلك هو السر في صلاحية الشريعة للقديم والحديث, وهو السر في صلاحيتها للمستقبل القريب والبعيد. * * * المبحث الثالث عقوبة الشرب 457 - عقوبة الجلد: تعاقب الشريعة على شرب الخمر بالجلد ثمانين جلدة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 وهي عقوبة ذات حد واحد؛ لأن القاضي لا يستطيع أن ينقص منها أو يزيد عليها أو يستبدل بها غيرها. ويرى الشافعي أن حد الشرب أربعين جلدة فقط على خلاف بقية الأئمة، وحجته أنه لم يثبت عن الرسول أنه ضرب في الخمر أكثر من أربعين, أما الأربعون الأخرى فليست من الحد عند الشافعي وإنما هي تعزير. ومصدر العقوبة التشريعي هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه", أما تحريم الخمر فمصدره القرآن, والرأي الراجح أن العقوبة لم يحدد مقدارها بثمانين جلدة إلا في عهد عمر بن الخطاب، حيث استشار أصحاب الرسول في حد شارب الخمر، فأفتى علي بن أبي طالب بأن يحد ثمانين جلدة؛ لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى, وإذا هذى افترى, وحد المفترى - أي القاذف - ثمانون جلدة, ووافق أصحاب الرسول على هذا الرأي. وإذن تحريم الخمر مصدره القرآن, والعقاب مصدره السنة, ومقدار الحد مصدره الإجماع. والدافع الذي يدفع شارب الخمر لشربها هو رغبته في أن يسنى آلامه النفسية، ويهرب من عذاب الحقائق إلى سعادة الأوهام التي تولدها نشوة الخمر. وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس شارب الخمر بعقوبة الجلد, فهو يريد أن يهرب من آلام النفس ولكن عقوبة الجلد ترده إلى ما هرب منه وتضاعف له الألم إذ تجمع له بين ألم النفس وألم البدن, وهو يريد أن يهرب من عذاب الحقائق إلى سعادة الأوهام وعقوبة الجلد تروه إلى العذاب الذي هرب منه وتجمع له بين عذاب الحقائق وعذاب العقوبة. فالشريعة بوضعها عقوبة الجلد لشارب الخمر قد وضعتها على أساس متين من علم النفس, وحاربت الدوافع النفسية التي تدعو للجريمة بالدوافع النفسية المضادة التي تصرف بطبيعتها عن الجريمة والتي لا يمكن أن يقوم غيرها من الدوافع النفسية مقامها, فإذا ما فكر الشخص في شرب الخمر لينسى آلام نفسه ذكر مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 الخمر العقوبة التي ترده إلى آلام النفس والبدن, وإذا ما فكر في شرب الخمر ليهرب من عذاب الحقائق ذكر مع الخمر أنه سوف يرد إلى عذاب الحقائق وعذاب العقوبة, وفي هذا ما يصرف الشخص غالباً عن ارتكاب الجريمة، فإذا لم يصرف عنها وارتكابها مرة كان فيما يصيبه من العقوبة هذه المرة ما يغلب العوامل النفسية الصارفة عن الجريمة على العوامل النفسية الداعية إليها إذا ما فكر في الجريمة مرة أخرى. 458 - الخمر طبياً واجتماعياً: ومن المسلم به من الناحيتين الطبية والاجتماعية في عصرنا الحاضر أن الخمر لا فائدة فيها وأن أضرارها لا تحصى, فهي تفسد العقل, وتفسد الصحة, وتؤدي إلى العقم أحياناً, وإلى ضعف النسل غالياً, كما تؤدي إلى ضياع المال, وضياع الكرامة, فكان المعقول بعد هذا أن تأتي دولة كمصر فتحرم الخمر مستندة إلى دستورها الذي يجعل دين الدولة الرسمي الإسلام, وإلى الإسلام الذي يحرم الخمر ويعاقب على شربها, وإلى النتائج السيئة التي تنتج عن شرب الخمر, ولكن مصر لم تفعل شيئاً من هذا وأباح قانونها الوضعي الخمر إباحة مطلقة فلم يعاقب على شربها أو إحرازها أو بيعها, وإذا كان قد عاقب شارب الخمر إذا سكر وتواجد في محل عام فالعقاب في هذه الحالة ليس على شرب الخمر والسكر وإنما على التواجد في محل عام بحالة سكر بيّن، ولم يتشدد القانون في عقاب هذه الحالة الوحيدة فجعل الجرائم مخالفة عقوبتها الغرامة التي لا تزيد على مائة قرش أو الحبس البسيط الذي لا يتجاوز أسبوعاً (1) . والعيب في هذا ليس على واضع القانون فهو رجل أوروبي غير مسلم ينقل عن القانون الفرنسي, ولكن العيب عيب الذين أقروا هذا القانون ورضوا به وطبقوه وهو باطل بطلاناً مطلقاً في كل ما يخالف الشريعة الإسلامية, والعيب عيب من أرادوا أن يجعلوا من مصر البلد الشرقي الإسلامي مقاطعة   (1) المادة 385 من قانون لعقوبات المصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 فرنسية ناسين أو متناسين الفروق العديدة بين الشرق والغرب متجاهلين الدين والتقاليد والبيئة وعامل الوراثة. 459 - العالم وتحريم الخمر: ولقد حرم الإسلام الخمر وعاقب على شربها من ثلاثة عشر قرناًُ, وانفرد بتحريمها والعقاب عليها طيلة هذه المدة, حتى جاء العالم في القرن العشرين يشهد للإسلام بأنه كان على حق في موقفه من الخمر وبأن غيره كان يعمه في الضلال, وقد حمل العالم على هذه الشهادة أن العلم أثبت أن الخمر حقيقة أم الخبائث كما قال عنها الإسلام, وأنها مفسدة للعقل والصحة والمال, وها هو العالم غير الإسلامي لا يكاد يخلو فيه بلد اليوم من جماعة تدعو إلى ترك الخمر ولهذه الجماعات مجلات ورسائل ومؤتمرات, ولقد كان أثر دعاية هذه الجماعات قوياً في الولايات المتحدة بأمريكا وفي الهند، وكان الرأي العام أسرع استجابة في هاتين الدولتين فسنت فيهما القوانين لتحريم الخمر تحريماً تاماً. في كثير من البلاد الأخرى سنت قوانين تحرم الخمر تحريماً جزئياً فمنع تناولها أو تقديمها في أوقات معينة، ولكن الكثير من القوانين التي حرمت الخمر لم تنجح في محاربة الخمر؛ لأن العقوبات التي فرضتها لم تكن عقوبات رادعة. وإذا كان الناس جميعاً قد آمنوا بأحقية الإسلام في تحريم الخمر فقد بقى عليهم أن يؤمنوا بالعقوبة التي فرضها الإسلام على شارب الخمر, ويوم يؤمنوا بهذا تنجح القوانين التي تسن لتحريم الخمر وتؤدي مهمتها خير أداء. * * * المبحث الرابع عقوبة السرقة 460 - عقوبة القطع: تعاقب الشريعة على السرقة بالقطع لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة: 38] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن لفظ أيديهما يدخل تحته اليد والرجل, فإذا سرق السارق أول مرة قطعت يده اليمنى, فإذا عاد للسرقة ثانية قطعت رجله اليسرى, وتقطع اليد من مفصل الكف, وتقطع الرجل من مفصل الكعب، وكان علي رضي الله عنه يقطعها من نصف القدم من معقد الشراك ليدع للسارق عقباً يمشي عليه (1) . وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال ويريد أن ينميه من طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله فيطمع في ثمرة عمل غيره، وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور أو ليرتاح من عناء الكد والعمل أو ليأمن على مستقبله, فالدافع الذي يدفع إلى السرقة يرجع إلى هذه الاعتبارات وهو زيادة الكسب أو زيادة الثراء، وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع؛ لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب إذ اليد والرجل كلاهما أداة عل أياً كان, ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء, وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور, ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل. فالشريعة الإسلامية بتقديرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة, فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارمة فلا يعود للجريمة مرة ثانية. ذلك هو أساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية, وإنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن، وإنه السر في نجاح عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية قديماً, وهو   (1) المغني ج10 ص264 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 السر الذي جعلها تنجح نجاحاً باهراً في الحجاز في عصرنا هذا فتحوله من بلد كله فساد واضطراب ونهب وسرقات إلى بلد كله نظام وسلام وأمن وأمان. لقد كان الحجاز قبل أن تطبق في الشريعة الإسلامية أخيراً أسوأ بلاد العالم أمناً, فكان المسافر إليه أو المقيم فيه لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل بل ساعة من نهار بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة, وكان معظم السكان لصوصاً وقطاعاً للطرق, فلما طبقت الشريعة أصبح الحجاز خير بلاد العالم كله أمناً, يأمن فيه المسافر والمقيم, وتترك فيه الأموال على الطريق حتى تأتي الشرطة فيحملونها إلى حيث يقيم صاحبها. 461 - عقوبة السرقة في القانون: وتجعل القوانين الحبس عقوبة للسرقة، وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم والسرقة على الخصوص, والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة؛ لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل والكسب إلا مدة الحبس, وما حاجته إلى الكسب في الحبس وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته من طريق الحلال والحرام على السواء, واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف فيأمنوا جانبه ويتعاونوا معه, فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد, وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئاً ولم تفته منفعة ذات بال. أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل, أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصاً كبيراً, ففرصة زيادة الكسب مقطوعة بضياعها على كل حال, ونقص الكسب على حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال, ولن يستطيع أن يخدع الناس, أو يحملها على الثقة به والتعاون معه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه, فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع, وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس, وفي طبيعة الناس كلهم لا السارق وحده أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة وأن لا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة. 462 - اعتراضات مردودة: وأعجب بعد ذلك ممن يقولون إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر, كأن الإنسانية والمدنية أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته, وأن نشجعه على لسير في غوايته, وأن نعيش في خوف واضطراب, وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص. ثم أعجب بعد ذلك مرة ثانية ممن يقولون إن عقوبة القطع لا يتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية, وكأن الإنسانية والمدنية أن ننكر العلم الحديث والمنطق الدقيق, وان ننسى طبائع البشر, ونتجاهل تجارب الأمم, وأن نلغي عقولنا ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا لنأخذ بما يقوله قائلة فلا يجد عليها دليلاً إلا التهويل والتضليل. وإذا كانت العقوبة الصالحة حقاً هي التي تتفق مع المدينة والإنسانية، فإن عقوبة الحبس متين من علم النفس وطبائع البشر وتجارب الأمم ومنطق العقول والأشياء, وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية, أما عقوبة الحبس فلا تقوم على أساس من العلم ولا التجربة ولا تتفق مع منطق العقول ولا طبائع الأشياء. إن أساس عقوبة القطع هو دراسة نفسية الإنسان وعقليته, فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد, وهي في الوقت ذاته صالحة للجماعة؛ لأنها تؤدي إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 تقليل الجرائم وتأمين المجتمع, وما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة فهي أفضل العقوبات وأعدلها. ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض الناس لتبرير عقوبة القطع؛ لأنهم يرونها - كما يقولون - عقوبة موسومة بالقسوة, وتلك هي حجتهم الأولى والأخيرة, وهي حجة داحضة, فإن اسم العقوبة مشتق من العقاب ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف, بل يكون لعباً أو عبثاً أو شيئاً قريباً من هذا, فالقسوة لابد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم. وبعد ذلك فإن القانون أيها السادة الرحماء يوجب الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة في بعض جرائم السرقة, ويوجب الحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة في بعض آخر, فكيف ترضى قلوبكم الرحيمة أن يوضع المحكوم عليه في السجن كما يوضع الحيوان في قفصه أو الميت في قبره طول هذه المدة محروماً من حريته بعيداً عن أهله وذويه، وأيهما أقسى: قطع يد المحكوم عليه وتركه بعد ذلك يتمتع بحريته ويعيش بين أهله وولده أم حبسه على هذا الوجه الذي يسلبه حريته وكرامته وإنسانيته ورجولته؟ والقانون أخيراً أيها الرحماء يبيح عقوبة الإعدام وهي تؤدي إلى إزهاق الروح وفناء الجسد، أما عقوبة القطع فهي تؤدي إلى فناء جزء من الجسد فقط, فمن رضي بعقوبة الإعدام وأنتم بها راضون وجب أن يرضى بعقوبة القطع؛ لأنها جزء من كل، ومن لم يستفظع عقوبة الإعدام فليس له أن يستفظع عقوبة القطع بأي حال. إن الشريعة الإسلامية حين قررت عقوبة القطع لم تكن قاسية, وهي الشريعة الوحيدة في العالم التي لا تعرف القسوة، وما يراه البعض قسوة إنما هو القوة والحسم اللذان تمتاز بهما الشريعة يتمثلان في العقوبة كما في العقيدة وفي العبادات وفي الحقوق وفي الواجبات, ولعل لفظ الرحمة ومشتقاته أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 الألفاظ وروداً في القرآن، وإن الشريعة لتلزم المسلم أن لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ولا يسكن ولا يعمل ولا يتعبد ولا ينام ولا يستيقظ حتى يذكر اسم الله الرحمن الرحيم, فإذا ذكرنا الرحمة وتأثر بها في قوله وفعله, والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الراحمون يرحمهم الرحمن"، ويقول: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء", فالرحمة أساس من أسس الشريعة الأولية, وشريعة هذا شأنها لا يمكن أن تعرف للقسوة سبيلاً. * * * المبحث الخامس عقوبة الحرابة 463 - عقوبة المحارب: فرضت الشريعة لجريمة الحرابة أربع عقوبات هي: (1) القتل. ... ... (2) القتل مع الصلب. ... ... (3) القطع. ... (4) النفي. ومصدر هذه العقوبات التشريعي هو القرآن، حيث يقول الله جل شأنه: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 32] . 464 - القتل: تجب هذه العقوبة على قاطع الطريق إذا قتل، وهي حد لا قصاص، فلا تسقط بعفو ولي المجني عليه. وقد وضعت العقوبة على أساس من العلم بطبيعة الإنسان البشرية، فالقاتل تدفعه إلى القتل غريزة تنازع البقاء بقتل غيره ليبقى هو، فإذا علم أنه حين يقتل غيره إنما يقتل نفسه أيضاً امتنع في الغالب عن القتل، فالشريعة بتقريرها عقوبة القتل دفعت العوامل النفسية الداعية للقتل بالعوامل النفسية الوحيدة المضادة التي يمكن أن تمنع من ارتكاب الجريمة بحيث إذا فكر الإنسان في قتل غيره ذكر أنه سيعاقب على فعله بالقتل فكان في ذلك ما يصرفه غالباً عن الجريمة. 465 - القتل مع الصلب: تجب هذه العقوبة على قاطع الطريق إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 قتل وأخذ المال، فهي عقوبة على القتل والسرقة معاً، أو هي عقوبة على جريمتين كلتاهما اقترنت بالأخرى أو ارتكبت إحداهما وهي القتل لتسهيل الأخرى وهي أخذ المال. والعقوبة حد لا قصاص، فلا تسقط بعفو ولي المجني عليه. وقد وضعت العقوبة على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة القتل، لكن لما كان الحصول على المال هنا يشجع بطبيعة الحال على ارتكاب الجريمة وجب أن تغلظ العقوبة بحيث إذا فكر الجاني في الجريمة وذكر العقوبة المغلظة وجد فيها ما يصرفه عن الجريمة المزدوجة. ويرى بعض الفقهاء تقديم الصلب على القتل، فيصلب الجاني حياً ثم يقتل وهو مصلوب، وحجة هذا الفريق أن الصلب عقوبة وإنما يعاقب الحي لا الميت. ويرى البعض الآخر تقديم القتل على الصلب فيقتل أولاً ثم يصلب، وحجتهم أن النص قدم القتل على الصلب في اللفظ فوجب أن يتقدمه في الفعل، وأن الصلب قبل القتل تعذيب للمحكوم عليه والشريعة تنهي عن التعذيب، وأن الصلب ليس عقوبة شرعت لردع القاتل ولو كان عقوبة ردع لجبه القتل طبقاً لقواعد الشريعة، وإنما هو عقوبة شرعت للزجر فالمقصود من الصلب اشتهار أمره فيرتدع بذلك غيره (1) ، والرأي الأول لمالك وأبي حنيفة، والرأي الثاني للشافعي وأحمد. والصلب مع القتل يقابل في عصرنا الحاضر القتل رمياً بالرصاص، حيث يشد المحكوم عليه إلى خشبة على شكل الصليب ثم يطلق عليه الرصاص. ولا يوافق الفقهاء على إبقاء المصلوب مدة طويلة، ويحدد بعضهم مدة الصلب بثلاثة أيام، ويحددها بعضهم ببدء تعفن الجثة فإذا بدأ التعفن أنزلت الجثة. ويرى البعض الاكتفاء بمجرد الصلب فيصلب بقدر ما يقع عليه اسم   (1) المغني ج10 ص308. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 الصلب. ويرى البعض أن يصلب بقدر ما يشهر أمره على أن تنزل الجثة قبل بدء التعفن (1) . وقد أحسنت الشريعة في التفريق بين عقاب القتل وحده والقتل المقترن بأخذ المال؛ لأن الجريمتين مختلفتان وكلتاهما لا تساوي الأخرى فوجب من ناحية المنطق والعقل أن تختلف عقوبة إحداهما عن الأخرى. وقد يقال: إنه لا فائدة لأي عقوبة أخرى مع عقوبة القتل خصوصاً وأن الصلب مع القتل ليس إلا القتل مصحوباً بالتهويل؛ فالصلب زيادة لا فائدة منها. والرد على ذلك من أهون الأمور: فلكل عقوبة غرضان: تأديب الجاني وزجر غيره، وإذا كان كل تأديب لغواً بعد عقوبة القتل فكل عقوبة أخرى مهما صغرت لها أثرها في الزجر إذا صحبت عقوبة القتل، والصلب حقيقة لا يؤثر على المحكوم عليه خصوصاً إذا كان الصلب بعد الموت، ولكن أثر الصلب على الجمهور شديد بل قد يكون هو الشيء الوحيد الذي يجعل لعقوبة القتل قيمتها بين الجمهور عامة وبين قطاع الطرق خاصة، فالصلب له أثره الذي لا ينكر في زجر الغير وكفه عن الجريمة. 466 - القطع: تجب هذه العقوبة على قاطع الطريق إذا أخذ المال ولم يقتل (2) . والمقصود بالقطع قطع يد المجرم اليمنى ورجله اليسرى دفعة واحدة؛ أي قطع يده ورجله من خلاف. وقد وضعت هذه العقوبة على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة السرقة. إلا أنه لما كانت الجريمة ترتكب عادة في الطرق وبعيداً عن العمران كان قاطع الطريق في أغلب الأمر على ثقة من النجاح وفي أمن من المطاردة، وهذا مما يقوي العوامل النفسية الداعية للجريمة ويرجحها على العوامل الصارفة   (1) المغني ج10 ص308. (2) راجع الفقرة 379. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 التي تبعثها في النفس عقوبة السرقة العادية، فوجب من أجل ذلك تغليظ العقوبة حتى تتعادل العوامل النفسية التي تصرف عن الجريمة مع العوامل النفسية التي تدعو إليها. وعقوبة قاطع الطريق هنا تساوي عقوبة السارق إذا سرق مرتين وهي عقوبة لا شك عادلة، لأن خطورة قاطع الطريق لا تقل خطورة عن ضعف خطورة السارق العادي، ولأن فرصة قاطع الطريق في النجاح والإفلات قد تزيد على ضعف فرصة السارق العادي. وإذا كانت الشريعة تضاعف العقوبة المقررة للسرقة العادية وتجعلها عقوبة لقاطع الطريق فإن القانون المصري يجعلها خمسة أمثال العقوبة المقررة للسرقة العادية على الأقل؛ لأنه يعاقب على السرقة المصحوبة بظروف بسيطة بالحبس لمدة ثلاث سنوات، ويعاقب على السرقة التي تقع في الطرقات العمومية بالأشغال الشاقة المؤبدة أو الأشغال الشاقة المؤقتة، وعقوبة الأشغال المؤقتة حدها خمسة عشر عاماً، فهي خمسة أمثال عقوبة الحبس من حيث عدد السنوات، وسنرى فيما بعد أن حوالي نصف المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة يعودون إلى ارتكاب الجرائم في ظرف سنة من تاريخ الإفراج عنهم، وأنهم يخرجون من السجن وهم أشد ميلاً للإجرام وأكثر حذقاً له، وأنهم يصبحون بعد خروجهم من السجن خطراً يهدد الأمن والنظام، ومن السهل أن يصدق كل إنسان هذا القول ويؤمن به، ولكن هل يستطيع أحد مهما بعد به الخيال أن يصدق أن رجلاً مقطوع اليد والرجل يصلح لارتكاب الجرائم، أو ينفعه شيئاً حذقه للإجرام، أو يستطيع أن يصبح خطراً على الأمن والنظام؟ 467 - النفي: تجب هذه العقوبة على قاطع الطريق إذا أخاف الناس ولم يأخذ مالاً ولم يقتل. وتعليل هذه العقوبة: أن قاطع الطريق الذي يخيف الناس ولا يأخذ منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 مالاً ولا يقتل منهم أحداً إنما يقصد الشهرة وبعد الصيت، فعوقب بالنفي وهو يؤدي إلى الخمول وانقطاع الذكر. وقد تكون العلة أنه بتخويف الناس نفى الأمن عن الطريق وهو بعض الأرض فعوقب بنفي الأمن عنه في كل الأرض. وسواء صحت هذه العلة أو تلك فالعوامل النفسية التي تدعو للجريمة في كل حال قد دفعتها الشريعة بالعوامل النفسية الوحيدة المضادة التي تصرف عن الجريمة، فهو إذا فكر في الجريمة لتجلب له الشهرة ذكر العقوبة فعلم أنها تجر عليه الخمول، وهو إذا فكر في الجريمة ليخيف الناس وينفي الأمن عنهم في بعض الأرض ذكر العقوبة فعلم أنه سينفي عنه الأمن في كل الأرض، وحينئذ ترجح في أغلب الأحوال العوامل النفسية الصارفة عن الجريمة على العوامل النفسية الداعية إليها، فأساس العقوبة هو العلم بطبيعة النفس البشرية. والرأي الراجح: أن النفي يكون من بلد إلى بلد داخل حدود دار الإسلام (1) ، على أن لاتقل المسافة بين البلدين عن مسافة القصر (2) ، وعلى أن يحبس الجاني في البلد الذي ينفى إليه، وليس للحبس أمد معين بل هو متوقف على ظهور توبة المحكوم عليه وصلاحه فإن ظهرت أطلق سراحه. وحجتهم في حبس المحكوم عليه أن العقوبة يجب أن يكون لها معنى؛ لأن نقل قاطع الطريق من بلد إلى آخر لا معنى له إذا بقى مطلق السراح، ولا يمنعه أن يفعل ما فعله من قبل، فلكي يكون للنفي معناه يجب أن يحبس (3) . وعقوبة النفي بالمعنى السابق تقابل عقوبة الإرسال إلى الإصلاحية التي عرفتها أخيراً القوانين الوضعية، تلك العقوبة التي تقوم على حبس المحكوم   (1) يرى بعض الفقهاء أن النفي هو إخراج المنفي من أرض الإسلام إلى أرض الحرب، وهو رأي مهمل. (2) مسافة القصر هي مسيرة يوم بالسير الوسط، كما يرى مالك والشافعي وأحمد، وهي مسيرة ثلاثة أيام كما يرى أبو حنيفة، وهي سبعة عشر ميلاً كما يرى البعض. (3) شرح الزرقاني ج8 ص110، بداية المجتهد ج2 ص381، أسنى المطالب ج4 ص145، المغني ج10 ص313. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 عليه في مكان خاص مدة غير محددة بشرط أن لا يحبس أكثر من مدة معينة، وهذه العقوبة تطبيق لنظرية العقوبة غير المحددة، وهي من أحدث نظريات العقاب في القوانين الوضعية. وإذا كانت القوانين الوضعية لم تعرف نظرية العقوبة غير المحدودة إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فإن الشريعة الإسلامية قد عرفت هذه النظرية وطبقتها من ثلاثة عشر قرناً، وتلكم عقوبة النفي على ذلك من الشاهدين. فمن كان يظن أن القوانين الوضعية حين أخذت بهذه النظرية قد جاءت بشيء جديد فليعلم أنها لم تجئ إلا بأقدم النظريات في الشريعة الإسلامية، ومن كان يظن أن عقوبات الشريعة ونظرياتها لا تصلح للعصر الحديث فلعله أن يستبين مما تقدم ومما سيجيء أن عقوبات الشريعة ونظرياتها هي ألزم الأشياء لهذا العصر الحديث. * * * المبحث السادس عقوبة الردة والبغي 468 - عقوبة الردة: للردة عقوبتان: عقوبة أصلية وهي القتل، وعقوبة تبعية وهي المصادرة. أ - القتل: تعاقب الشريعة المرتد بالقتل، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه". ومعني الردة: ترك الدين الإسلامي والخروج عليه بعد اعتناقه، فلا تكون الردة إلا من مسلم. وتعاقب الشريعة على الردة بالقتل؛ لأنها تقع ضد الدين الإسلامي وعليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 يقوم النظام الاجتماعي للجماعة، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام ومن ثم عوقب عليها بأشد العقوبات؛ استئصالاً للمجرم من المجتمع، وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية، ومنعاً للجريمة وزجراً عنها من ناحية أخرى. ولا شك أن عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن الجريمة ومهما كانت العوامل الدافعة إلى الجريمة فإن عقوبة القتل تولد غالباً في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة وما يكبت العوامل الدافعة إليها ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال. وأكثر الدول اليوم تحمي نظامها الاجتماعي بأشد العقوبات تفرضها على من يخرج على هذا النظام أو يحاول هدمه أو إضعافه، وأول العقوبات التي تفرضها القوانين الوضعية لحماية النظام الاجتماعي هي عقوبة الإعدام؛ أي القتل، فالقوانين الوضعية اليوم تعاقب على الإخلال بالنظام الاجتماعي بنفس العقوبة التي وضعتها الشريعة لحماية النظام الاجتماعي الإسلامي. ب - المصادرة: عقوبة الردة التبعية هي مصادرة مال المرتد ويختلف الفقهاء في مدى المصادرة، فمذهب مالك والشافعي والرأي الراجح في مذهب أحمد على أن المصادرة تشمل كل مال المرتد، ومذهب أبي حنيفة ويؤيده بعض الفقهاء في مذهب أحمد على أن مال المرتد الذي اكتسبه بعد الردة هو الذي يصادر، أما ماله الذي اكتسبه قبل الردة فهو من حق ورثته المسلمين، وهناك رواية عن أحمد بأن المال المكتسب بعد الردة لا يصادر إن كان للمرتد من يرثه من أهل دينه الذي أختاره، وهي رواية غير مشهورة (1) . 469 - عقوبة البغي: تعاقب الشريعة على البغي بالقتل، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ،   (1) المغني ج7 ص174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من أعطى إماماً صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر"، وقوله: "ستكون هنات وهنات، ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا بالسيف عنقه كائناً من كان". وجريمة البغي موجهة إلى نظام الحكم والقائمين بأمره، وقد تشددت فيها العقوبة؛ لأن التساهل فيها يؤدي إلى الفتن والاضطرابات وعدم الاستقرار، وهذا بدوره يؤدي إلى تأخر الجماعة وانحلالها. ولا شك أن عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن هذه الجريمة التي يدفع إليها الطمع وحب الاستعلاء. وكل الدول اليوم تعاقب على البغي بالإعدام، وهو نفس العقوبة المقررة للجريمة في الشريعة. * * * الفصل الثاني العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية 470 - عقوبات متعددة: جرائم القصاص والدية، وهي كما ذكرنا قبلاً: (1) القتل العمد ... ... (2) القتل شبه العمد (3) القتل الخطأ ... ... (4) الجرح العمد ... ... (5) الجرح الخطأ والعقوبات المقررة لهذا الجرائم هي: القصاص - الدية - الكفارة - الحرمان من الميراث - الحرمان من الوصية. وسنتكلم فيما يلي عن هذه العقوبات واحدة بعد أخرى. 471 - (أولاً) القصاص: جعلت الشريعة القصاص عقوبة للقتل العمد والجرح العمد, ومعنى القصاص أن يعاقب المجرم بمثل فعله، فيقتل كما قتل ويجرح كما جرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 ومصدر عقوبة القصاص هو القرآن والسنة, فالله جل شأنه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178، 179] , ويقول جل شأنه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] . وجاءت السنة مؤكدة لما جاء به القرآن, فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اعتبط مؤمناً بقتل فهو قود به, إلا أن يرضى ولي المقتول", ويقول: "من قتل له القتيل فأهله بين خيرتين، إن أحبوا فالقود, وإن أحبوا فالعقل؛ أي الدية". وليس في العالم كله قديمه وحديثه عقوبة تفضل عقوبة القصاص, فهي أعدل العقوبات, إذ لا يجازي المجرم إلا بمثل فعله, وهي أفضل العقوبات للأمن والنظام؛ لأن المجرم حينما يعلم أنه سيجزى بمثل فعله لا يرتكب الجريمة غالباً. والذي يدفع المجرم بصفة عامة للقتل والجرح هو تنازع البقاء وحب التغلب والاستعلاء، فإذا علم المجرم أنه لن يبقى بعد فريسته أبقى على نفسه بإبقائه على فريسته، وإذا علن انه إذا تغلب على المجني عليه اليوم فهو متغلب عليه غداً لم يتطلع إلى التغلب عليه عن طريق الجريمة, وأمامنا على ذلك الأمثلة العملية نراها كل يوم, فالرجل العصبي المزاج السريع إلى الشر تراه أهدأ ما يكون وأبعد عن الشر وطلب الشجار إذا رأى خصمه أقوى منه أو قدر أنه سيرد على الاعتداء بمثله. والرجل المسلح قد لا يثنيه شئ عن الاعتداء ولكنه يتراجع ويتردد إذا رأى خصمه مسلحاً مثله ويستطيع أن يرد على الاعتداء بالاعتداء. والمصارع والملاكم لا يتحدى أيهما شخصاً يعلم أنه أكثر منه قوة أو أمرنا أو جلداً, ولكنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 يتحدى بسهولة من يظنه أقل منه قوة وأضعف جلداً. تلك هي طبيعة البشر وضعت الشريعة على أساسها عقوبة القصاص, فكل دافع نفسي يدعو إلى الجريمة يواجه من عقوبة القصاص, فكل دافع نفسي يدعو إلى الجريمة يواجه من عقوبة القصاص دافعاً نفسياً مضاداً يصرف عن الجريمة، وذلك ما يتفق تمام الاتفاق مع علم النفس الحديث. والقوانين الوضعية الحديثة تعترف بعقوبة القصاص ولكنها تطبقها على جريمة القتل فقط, فتعاقب بالإعدام على القتل ولكنها لا تعاقب بالقصاص على الجراح, وتكتفي في عقاب الجارح بالغرامة والحبس أو بأحدهما. ولا شك في أن الشريعة الإسلامية حين سوت بين القتل والجراح في نوع العقوبة كانت طبيعية ومنطقية. أما القوانين الوضعية فقد باعدت بين نفسها وبين المنطق وطبائع الأشياء حين فرقت في نوع العقوبة بين هاتين الجريمتين, وذلك أن جريمتي القتل والجرح من نوع واحد وينبعثان عن دافع واحد، ولا يكون القتل قتلاً قبل أن يكون ضرباً أو جرحاً في أغلب الأحوال, وإنما ينتهي بعض الجروح أو الضربات بالوفاة, وينتهي البعض بالشفاء فتسمى هذه جراحاً كما تسمى تلك قتلاً, وما دام الجريمتان من نوع واحد فوجب أن تكون عقوبتهما من نوع واحد، وإذا كانت النتيجة في كل من الجريمتين تخالف الأخرى، فإن نتيجة العقوبة مخالفة أيضاً بنفس المقدار لا تزيد ولا تنقص، فالجريمتان نوعهما واحد وأصلهما الجرح, وعقوبتهما من نوع واحد وهو القصاص, وإحدى الجريمتين تنتهي بقتل المجني عليه وعقوبتها قتل المجرم, والجريمة الثانية تنتهي بجرح المجني عليه وعقوبتها جرح المجرم, وهذا هو منطق الشريعة الدقيق وفنها العميق الذي لم يصل إليه القانون بعد، والذي قد يصل إليه بعد حين طويل أو قصير ولكنه سيصل إليه دون شك؛ لأن الأساس الأول في الشرائع على العموم هو المنطق, وما دامت القوانين تعترف بعقوبة القصاص وتطبيقها على جريمة القتل, وما دام المنطق يقضي بأن تطبق هذه العقوبة على جريمة الجرح أيضاً, فلابد من أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 تخضع القوانين لهذا المنطق الذي أخذت بأسبابه واعترفت بمقدماته. وللمجني عليه ولوليه حق العفو عن عقوبة القصاص, فإذا عفا سقطت العقوبة. والعفو قد يكون مجاناً وقد يكون مقابل الدية, ولكن سقوط عقوبة القصاص بالعفو لا يمنع ولي الأمر من أن يعاقب المجرم بعقوبة تعزيرية مناسبة. والأصل في الشريعة أن المجني عليه ليس له في الجرائم عامة حق العفو عن العقوبة, ولكن هذا الحق أعطى استثناء للمجني عليه أو وليه في جرائم القصاص والدية دون غيرها من الجرائم؛ لأن هذه الجرائم تتصل اتصالاً وثيقاً بشخص المجني عليه, ولأنها تمس المجني عليه أكثر مما تمس أمن الجماعة ونظامها، ولم تخش الشريعة أن يمس حق المجني عليه في العفو الأمن العام والنظام؛ لأن جريمة القتل والجرح إذا كانت اعتداء خطيراً على أمن الفرد, فإنها ليست في هذه الخطورة بالنسبة لأمن الجماعة، فكل إنسان لا يخاف قاتل غيره أو ضارب ولا يخشى أن يعتدي عليه؛ لأنه يعرف أن القتل أو الجرح أو الضرب لا يكون إلا عن دافع شخصي, أما السارق مثلاً فيخافه كل فرد ويخشاه؛ لأنه يعلم أن السارق يطلب المال أنى وجده ولا يطلب مال شخص بعينه. وإذا فرض أن إعطاء حق العفو للمجني عليه أو وليه يؤثر على الأمن العام, فإن هذا التأثير لا يكون إلا إذا أسرف المجني عليه في استعمال هذا الحق, والإسراف بعيد الاحتمال؛ لأن اتصال الجريمة بشخص المجني عليه مما يدعوه للتشدد في استعمال حق العفو عنه، وإذن ففي اتصال الجريمة بشخص المجني عليه ضمان لعدم الإسراف في استعمال حق العفو, وبالتالي ضمان لعدم المساس بأمن الجماعة. ولقد كانت الشريعة عملية ومنطقية في منح حق العفو للمجني عليه أو وليه؛ لأن العقوبة فرضت أصلاً لمحاربة الجريمة ولكنها لا تمنع وقوع الجريمة في أغلب الأحوال, أما العفو فيؤدي إلى منع الجريمة في أغلب الأحوال، لأنه لا يكون إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 بعد الصلح والتراضي وصفاء النفوس وخلوها من كل ما يدعو إلى الجريمة والإجرام, فالعفو هنا يؤدي وظيفة العقوبة وينتهي إلى نهاية تعجز العقوبة عن الوصول إليها, وهذا هو الوجه العملي لتقرير حق العفو. أما من ناحية المنطق فقد قلنا إن جرائم القتل والجرح جرائم شخصية, فهي تصدر عن دوافع شخصية في نفس المجرم سببها شخصية المجني عليه, وهي تمس المجني عليه في حياته وبدنه أكثر مما تمس المجتمع في أمنه, فمن حق المجني عليه أن يكون لشخصيته اعتبار في توقيع العقوبة ما دامت الجريمة متصلة بشخصه هذا الاتصال. وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد اعترفت بحق المجني عليه في أن يعفو عن عقوبة بعض الجرائم, فإن القوانين الوضعية تعترف بنفس هذا المبدأ وإن كانت لا تطبقه على نفس الجرائم التي ينطبق عليها في الشريعة, ذلك أن من القوانين الوضعية ما يعترف بحق الزوج وهو المجني عليه في جريمة الزنا في أن يعفو عن عقوبة زوجته الزانية. فالشريعة إذن لم تأت بشيء غريب حين اعترفت للمجني عليه بحق العفو وإنما جاءت بمبدأ تعترف به اليوم أحدث القوانين, وتبقى الشريعة بعد ذلك متفوقة على القانون الوضعي تفوقاً ظاهراً في أنها أحسنت اختيار المنطقة التي يطبق فيها المبدأ؛ لأن تقرير حق العفو في جرائم القتل والجرح يؤدي إلى الوفاق والوئام، ويقضي على دواعي النفور وبواعث الانتقام، فتقل بذلك الجرائم وتخف حدة الإجرام، أما القانون فقد أساء اختيار المنطقة التي يطبق فيها المبدأ, لأن تقرير حق العفو ي جريمة الزنا يؤدي إلى شيوع الفاحشة وفساد الأخلاق, ويهدم نظام الأسرة وإن أريد به الوفاق الوقتي بين الزوجين, وإذا هدم نظام الأسرة فقد هدم الركن الركين الذي يقوم عليه المجتمع, وما وجد القانون لهدم الجماعة وإنما وجد للمحافظة عليها. وإذا كان القصاص هو عقوبة القتل العمد والجرح العمد فإن الحكم بالقصاص مقيد بإمكانه بتوفر شروطه، فإذا لم يكن ممكناً ولم تتوفر شروطه امتنع الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 به ووجب الحكم بالدية ولو لم يطلب المجني عليه أو وليه الحكم بها؛ لأن الدية عقوبة لا يتوقف الحكم بها على طلب الأفراد. وليس في الشريعة ما يمنع في حالة عدم إمكان الحكم بالقصاص من معاقبة الجاني بعقوبة تعزيرية مع الدية إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة. ومذهب مالك على إيجاب عقوبة التعزير كلما سقط القصاص أو امتنع الحكم به في حالة القتل والجرح (1) . والقصاص هو العقوبة الأصلية للقتل والجرح في حالة العمد، أما الدية أو التعزير فكلاهما عقوبة بدلية تحل محل القصاص عند امتناع القصاص أو سقوطه بالعفو. 472 - (ثانياً) : الدية: جعلت الشريعة الدية عقوبة أصلية للقتل والجرح في شبه العمد والخطأ، ومصدر هذه العقوبة القرآن وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -, فالله جل شأنه يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء: 92] , والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل". والدية مقدار معين من المال, وهي إن كانت عقوبة إلا أنها تدخل في مال المجني عليه ولا تدخل خزانة الدولة, وهي من هذه الناحية أشبه بالتعويض خصوصاً وأن مقدارها يختلف تبعاً لجسامة الإصابات ويختلف بحسب تعمد الجاني للجريمة وعدم تعمده لها. ومن الخطأ اعتبار الدية تعويضاً لهذا التشابه القوي بينها وبين التعويض, وإذ الدية عقوبة جنائية لا يتوقف الحكم بها على طلب الأفراد, وكذلك من   (1) مواهب الجليل ج6 ص268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 التجاوز اعتبارها عقوبة خالصة وهي مال خالص للمجني عليه, وأفضل ما يقال في الدية أنها عقوبة وتعويض معاً, فهي عقوبة لأنها مقررة جزاء للجريمة, وإذا عفا المجني عليه عنها جاز تعزير الجاني بعقوبة تعزيرية ملائمة, ولو لم تكن عقوبة لتوقف الحكم بها على طلب المجني عليه, ولما جاز عند العفو عنها أن تحل محلها عقوبة تعزيرية, وهي تعويض لأنها مال خالص للمجني عليه ولأنه لا يجوز الحكم بها إذا تنازل المجني عليه عنها. وعقوبة الدية ذات حد واحد فليس للقاضي أن ينقص منها شيئاً أو يزيد في مقدارها, وهي إن اختلفت في شبه العمد عنها في الخطأ واختلفت في الجراح بحسب نوع الجرح وجسامته فإن مقدارها ثابت لكل جريمة ولكل حالة, فدية الصغير كدية الكبير, ودية الضعيف كدية القوي، ودية الوضيع كدية الشريف، ودية المحكوم كدية الحاكم, ومن المتفق عليه أن دية المرأة على النصف من دية الرجل في القتل, أما في الجراح فأبو حنيفة والشافعي (1) يريان أن ما يجب للمرأة هو نصف ما يجب للرجل بصفة مطلقة, وبينما يرى مالك وأحمد (2) أن المرأة تساوي الرجل إلى ثلث الدية, فإن زاد الواجب على ثلث الدية فللمرأة نصف ما يجب للرجل (3) . وهناك خلاف على دية غير المسلمين, فالبعض يسوي بين دية المسلم وغير المسلم والبعض يفرق بينهما (4) . وقد فرقت الشريعة بين عقوبة القتل العمد وعقوبة القتل شبه العمد, فجعلتها في الأول القصاص وفي الثاني الدية المغلظة؛ لأن المجرم في القتل العمد يقصد قتل   (1) بدائع الصنائع ج7 ص312, نهاية المحتاج ج7 ص302. (2) شرح الدردير ج4 ص248، والمغني ج9 ص523. (3) هذه القاعدة مطلقة عند أحمد, أما مالك فيقيدها باتحاد الفعل واتحاد المحل, راجع شرح الدردير ج4 ص249، ومواهب الجليل ج6 ص264, 265. (4) بدائع الصنائع ج7 ص255, شرح الدردير ج4 ص238, المغني ج9 ص527, المهذب ج2 ص211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 المجني عليه أما في شبه العمد فالمجرم لا يقصد قتل المجني عليه, ووجود هذا الفرق بينهما في الفعل يمنع من التسوية بينهما في العقوبة, وفضلاً عن هذا فإنه لا يمكن تطبيق عقوبة القصاص على القتل شبه العمد؛ لأن القصاص يقتضي التماثل بين ما يفعله الجاني وما يفعل به، والجاني لم يقصد قتل المجني عليه, فإذا قتل الجاني بالمجني عليه فإن قاتل الجاني لابد أن يقصد قتله, وهنا ينعدم التماثل, فالعدالة والمنطق هما أساس التفريق بين عقوبة العمد وعقوبة شبه العمد. وفرقت الشريعة بين عقوبة العمد الخالص والخطأ, فجعلتها في حالة العمد القصاص وفي حالة الخطأ الدية المخففة، ناظرة في ذلك إلى أن الجاني في جرائم العمد يتعمد الجريمة ويفكر فيها ويتوسل ارتكابها بمختلف الوسائل ليحقق لنفسه أو لغيره مصلحة مادية أو معنوية، أما الجاني في جرائم الخطأ فإنه لا يتعمد الجريمة ولا يفكر فيها وليس ثمة ما يدفعه لارتكابها, وكل ما هنالك أن إهماله أو عدم احتياطه يؤدي إلى وقوع الفعل المكون للجريمة دون أن يتجه ذهن الجاني إلى هذا افعل بالذات، فالجريمة العمدية إذن تتكون من عنصرين: عنصر معنوي هو اتجاه المجرم النفسي للجريمة، وعنصر مادي هو الفعل المكون للجريمة، أما جريمة الخطأ فيتوفر فيها العنصر المادي فقط وينقصها العنصر المعنوي لتساوي الجريمة العمدية، والفرق بين نفسية الجاني المتعمد وبين نفسية الجاني المخطئ هو علة التفرقة في عقوبة الجريمتين, والفرق بين النفسيتين يساوي تماماً الفرق بين العقوبتين؛ لأن المجرم المتعمد إذا تجرد من العوامل النفسية التي دعت لارتكاب الجريمة أصبح مساوياً للمجرم المخطئ ولم يبقى إلا العنصر المادي للجريمة, ومن أجل ذلك سوت الشريعة بين عقوبة العمد في حالة العفو وبين عقوبة الخطأ وجعلتها الدية في الحالين, فكأن العفو ينصرف إلى العنصر المعنوي في الجريمة العمدية, فإذا كان العفو عن الدية انصرف إلى العنصر المادي في الجريمتين. ولم تعاقب الشريعة في حالة الخطأ بالقصاص؛ لانعدام الدوافع النفسية لدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 الجاني, ولأنه لم يتعمد الجريمة ولم يفكر فيها, ولكن لما كانت الجريمة سببها الإهمال وعدم الحرص, ولما كان يتسبب عنها في الغالب أضرار مالية للمجني عليه أو لورثته, فقد رأت الشريعة لهذين السببين أن تكون العقوبة في أعز ما يحرص عليه الإنسان بعد النفس وهو المال. فكان جزاء عدم الحرص هو الحرمان من المال الذي يتعب الناس أنفسهم في الحرص عليه, وكان جزاء الإضرار بما الآخرين هو الإضرار بالمال, ولا شك أن هذه العقوبة كافية لحمل المتهاون المهمل على أن يتمسك بأهداب الحرص واليقظة. ويتضح مما سبق أن الدية عقوبة مشتركة بين العمد الذي لا قصاص فيه وبين شبه العمد وبين الخطأ, ولكن مقدار الدية ليس واحداً في هذه الحالات الثلاث, فدية العمد وشبه العمد واحدة وهي الدية المغلظة, ودية الخطأ هي الدية المخففة. والأصل أن الدية بصفة عامة من الإبل, والتغليظ والتخفيف لا دخل له في العدد إنما يكون في أنواع الإبل وأسنانها. ولفظ الدية إذا أطلق يقصد منه الدية الكاملة وهي مائة من الإبل سواء كانت الدية مغلظة أو مخففة, أما ما هو أقل من الدية الكاملة فيطلق عليه لفظ الأرش, فيقال أرش اليد وأرش الرجل, على أن الكثيرين يستعملون لفظ الدية فيما يجب أن يستعمل فيه لفظ الأرش. والأرش على نوعين: أرش مقدر, وأرش غير مقدر, فالأول: هو ما حدد الشارع مقداره كأرش الأصبع واليد، والثاني: هو ما لم يرد فيه نص وترك للقاضي تقديره, ويسمى هذا النوع من الأرش حكومة أو حكومة العدل. من يحمل الدية: والقاعدة العامة أن دية العمد تجب في مال المجني عليه دون غيره سواء كانت الدية عن النفس أو ما دون النفس, إلا أن مالكاً يستثني من هذه القاعدة أرش الجراح التي يمتنع القصاص فيها خوف تلف الجاني ككسر الفخذ والجائفة, ويرى أن العاقلة تحمل مع الجاني ما بلغ ثلث دية الجاني أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 المجني عليه من هذه الجراح, بشرط أن لا تكون الجريمة قد ثبتت على الجاني بالاعتراف لأن العاقلة لا تحمل اعترافاً (1) . ولكن الفقهاء اختلفوا فيمن يحمل الدية إذا كان الجاني صغيراً أو مجنوناً, فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الدية الواجبة على الصغير والمجنون تحملها العاقلة ولو تعمد الفعل؛ لأنهم يرون أن عمد الصغير والمجنون خطأ لا عمد, وإذ لا يمكن أن يكون لهما قصد صحيح فألحق عمدهما بالخطأ (2) ، وفي مذهب الشافعي رأيان أحدهما وهو المرجوح يتفق مع الرأي السابق, والثاني هو الراجح (3) يرى أن عمد الصغير والمجنون عمد؛ لأنه يجوز تأديبهما على القتل العمد وإن كان لا يمكن القصاص منهما, فكان عمدهما عمداً كالبالغ العاقل, وعلى هذا تجب الدية في مالهما. ويختلف الفقهاء في حكم شبه العمد (4) والخطأ، فيرى مالك أن العاقلة تحمل ما يبلغ ثلث دية المجني عليه أو الجاني, فما كان دون الثلث فهو على الجاني وحده (5) . ويرى أحمد أن الجاني يحمل ما دون ثلث الدية الكاملة، فإن بلغ الثلث أو زاد عليه حملته العاقلة (6) . ويرى أبو حنيفة أن الجاني يحمل ما دون نصف عشر الدية الكاملة وما زاد على ذلك تحمله العاقلة (7) . ويرى الشافعي أن العاقلة تحمل الجميع ما قل أو كثر؛ لأن من ألزم بالكثير ألزم بالقليل من باب أولى (8) .   (1) شرح الدردير ج4 ص250، بدائع الصنائع ج7 ص255، المغني ج9 ص488, المهذب ج2 ص209. (2) شرح الدردير ج4 ص210، البحر الرائق ج8 ص341، المغني ج9 ص504. (3) المهذب ج2 ص210. (4) يلاحظ أن مالكاً لا يعترف بشبه العمد والفعل طبقاً لمشهور مذهبه؛ إما أن يكون عمداً أو خطأ ولا وسط بينهما. (5) مواهب الجليل ج6 ص265. (6) المغني ج9 ص505, 506. (7) بدائع الصنائع ج7 ص255. (8) المهذب ج2 ص227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 وإذا حملت العاقلة الدية فيرى مالك وأبو حنيفة أن يتحمل الجاني من الدية ما يحمله أحد أفراد العاقلة, أما الشافعي وأحمد فيريان أن لا يحمل الجاني شيئاً مع العاقلة. العاقلة: هي من يحمل العقل. والعقل هو الدية, وسميت عقلاً لأنها تعقل لسان ولي المقتول, وقيل: إنها سميت العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل. فالعقل على هذا هو المنع. وعاقلة القاتل هم عصباته, فلا يدخل في العاقلة الإخوة لأم ولا الزوج ولا سائر ذوي الأرحام. ويدخل في العصبة سائر العصبات مهما بعدوا؛ لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم كن وارث أقرب منهم، ولا يشترط أن يكونوا وارثين في الحال, بل متى كانوا يرثون، لولا الحجب عقلوا. ولا تكلف العاقلة من مال ما يجحف بها ويشق عليها؛ لأنه لزمها من غير جناية على سبيل المواساة للجاني والتخفيف عنه, فلا يخفف عن الجاني بما يشق على غيره ويجحف به, ولو كان الإجحاف مشروعاً كان الجاني ألحق به؛ لأنه موجب جنايته وجزاء فعله, فإن لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى. واختلف الفقهاء في مقدار ما يحمله كل فرد, فقال مالك وأحمد: يترك الأمر للحاكم يفرض على كل واحد ما يسهل عليه ولا يؤذيه. وفي مذهب مالك رأي بفرض دينار على كل شخص. وفي مذهب أحمد رأي آخر يفرض نصف مثقال على الموسر وربع مثقال على متوسط الحال, وهو مذهب الشافعي. ويرى أبو حنيفة أن لا يزيد ما يؤخذ من الفرد عن ثلاثة أو أربعة, كما يرى التسوية بين الغني ومتوسط الحال (1) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص256, المغني ج9 ص520, مواهب الجليل ج6 ص267، المهذب ج2 ص230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 وليس على الفقير ولا على المرأة ولا على الصبي ولا على زائل العقل شئ من الدية؛ لأن تحميل الفقير إجحاف به, ولأن المرأة والصبي والمجنون ليسوا من أهل النصرة, ولكن هؤلاء إذا كانوا جناة يعقل عنهم. وإذا لم يكن للجاني عاقلة أصلاً أو كانت له عاقلة فقيرة أو عددها صغير لا تتحمل كل الدية, فهناك رأيان: الأول: يرى أصحابه أن يقوم بيت المال مقام العاقلة، فإذ لم كن عاقلة أو كانت عاقلة ولكنها فقيرة أخذت الدية كلها من بيت المال. وهذا الرأي هو مذهب مالك والشافعي وظاهر مذهب أبو حنيفة ومذهب أحمد. الثاني: يرى أصحابه أن الدية تجب في مال القاتل؛ لأن الأصل أن القاتل هو المسئول عن الدية، وإنما حملتها العاقلة للتناصر والتخفيف, فإذا لم تكن عاقلة يرد الأمر لأصله. وهذا الرأي رواية عن أبي حنيفة لمحمد, ويقول به بعض الحنابلة (1) . علة تحميل العاقلة الدية: وتحمل الدية للعاقلة معناه أن آخرين غير الجاني يحملون وزر جريمته, وهو استثناء من القاعدة الشرعية العامة {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، إلا أن ظروف الجناة والمجني عليهم هي التي سوغت هذا الاستثناء وجعلت الأخذ به لازماً لتحقيق العدالة والمساواة, ولضمان الحصول على الحقوق, ويمكن تبرير هذا الاستثناء بالمبررات الآتية: 1 - لو أخذنا بالقاعدة العامة فتحمل كل مخطئ وزر عمله لكانت النتيجة أن تنفذ العقوبة على الأغنياء وهم قلة, ولامتنع تنفيذها على الفقراء وهم الكثرة، ويتبع هذا أن يحصل المجني عليه أو وليه على الدية كاملة إن كان الجاني غنياً, وعلى بعضها أن كان متوسط الحال, أما إذا كان الجاني فقيراً وهو كذلك في أغلب الأحوال فلا يحصل المجني عليه من الدية على شئ, وهكذا تنعدم العدالة   (1) مواهب الجليل ج6 ص266, بدائع الصنائع ج7 ص256, المغني ج9 ص254، المهذب ج2 ص228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 والمساواة بين الجناة كما تنعدم بين المجني عليهم, فكان ترك القاعدة العامة إلى هذا الاستثناء واجباً لتحقيق العدالة والمساواة. 2 - إن الدية وإن كانت عقوبة إلا أنها حق مالي للمجني عليه أو وليه, وقد روعي في تقديرها أن تكون تعويضاً عادلاً عن الجريمة، فلو أخذ بالقاعدة العامة وتحمل المتهم وحده الدية لما أمكن أن يصل معظم المجني عليهم إلى الدية التي يحكم بها؛ لأن مقدرا الدية أكبر عادة من ثروة الفرد، إذ الدية الكاملة مائة من الإبل تقدر بألف دينار, ولاشك أن ثروة الفرد الواحد في أغلب الأحوال أقل بكثير من مقدرا الدية الواحدة, فلو طبقنا القاعدة العامة وتحمل الجاني وحده وزر عمله لكان ذلك مانعاً من حصول المجني عليهم على حقوقهم, فكان ترك القاعدة إلى هذا الاستثناء هو الضمان الوحيد الذي يضمن وصول الحقوق المقررة إلى أربابها. ويلاحظ أن المجني عليهم في جرائم العمد لا يتعرضون لمثل هذه الحالة؛ لأن العقوبة الأصلية هي القصاص ولا تستبدل بها الدية إلا إذا عفا المجني عليه أو وليه عن القصاص, ولن يعفو أحدهم عن القصاص إلا إذا كان ضامناً الحصول على الدية، فإذا عفا أحدهما عن القصاص وقبل الدية ولم يكن مال الجاني كافياً لسداد الدية فذلك هو اختيار المجني عليه أو وليه، وليس لأحدهما أن يتضرر من هذا الوضع الذي وضع فيه نفسه. 3 - إن العاقلة تحمل الدية في جرائم الخطأ أو شبه العمد وهو ملحق بالخطأ, وأساس جرائم الخطأ هو الإهمال وعدم الاحتياط, وهذان سببهما سوء التوجيه وسوء التربية غالباً, والمسئول عن تربية الفرد وتوجيهه هم المتصلون به بصلة الدم، كما أن الفرد ينقل دائماً عن أسرته ويتشبه بأقاربه, فكأن الإهمال وعدم الاحتياط هو في الغالب ميراث الأسرة, ولما كانت الأسرة تأخذ عن البيئة والجماعة فيكون الإهمال وعدم الاحتياط في النهاية ميراث الجماعة، فوجب لهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 أن تتحمل أولاً عاقلة الجاني نتيجة خطئه, وأن تتحمل الجماعة أخيراً هذا الخطأ كما عجزت العاقلة عن حمله. ويمكننا أن نقول أيضاً: إن الإهمال وعدم الاحتياط هو نتيجة الشعور بالعزة والقوة, وإن هذا الشعور يتولد من الاتصال بالجماعة, فالمشاهد أن من لا أسرة له يكون أكثر احتياطاً ويقظة ممن له أسرة, وأن المنتمين للأقليات يكونون أكثر حرصاً من المنتمين للأكثريات. فوجب لهذا أن تتحمل العاقلة والجماعة نتيجة الخطأ ما دام أنهما هما المصدر الأول للإهمال وعدم الاحتياط. 4 - إن نظام الأسرة ونظام الجماعة يقوم كلاهما بطبيعته على التناصر والتعاون ومن واجب الفرد في كل أسرة أن يناصر باقي أفراد الأسرة ويتعاون معهم. وكذلك واجب الفرد في كل جماعة. وتحميل العاقلة أولاً والجماعة ثانياً نتيجة خطأ الجاني يحقق التعاون والتناصر تحقيقاً تاماً, بل أنه يجدده ويؤكده في كل وقت. فكلما وقعت جريمة من جرائم الخطأ اتصل الجاني بعاقلته واتصلت العاقلة بعضها ببعض وتعاونوا على جمع الدية وإخراجها من أموالهم. ولما كانت جرائم الخطأ تقع كل يوم فمعنى ذلك أن الاتصال والتعاون والتناصر بين الأفراد ثم الجماعة كل أولئك يظل متجدداً مستمراً. 5 - إن الحكم بالدية على الجاني وعلى عاقلته فيه تخفيف عن الجناة ورحمة بهم وليس فيه غبن وظلم لغيرهم؛ لأن الجاني الذي تحمل عنه العاقلة اليوم دية جريمته ملزم بأن يتحمل غداً بنصيب من الدية المقررة لجريمة غيره من أفراد العاقلة, وما دام كل إنسان معرضاً للخطأ فسيأتي اليوم الذي يكون فيه ما حمله فرد بعينه عن غيره مساوياً لما تحمله هذا الغير عنه. 6 - إن القاعدة الأساسية في الشريعة هي حياطة الدماء وصيانتها وعدم إهدارها، والدية مقررة بدلاً من الدم وصيانة له عن الإهدار, فلو تحمل كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 جان وحده بالدية التي تجب بجريمته وكان عاجزاً عن أدائها, لأهدر بذلك دم المجني عليه, فكان الخروج عن القاعدة العامة إلى الاستثناء واجباً حتى لا تذهب الدماء هدراً دون مقابل. هذه هي أهم المبررات التي دعت إلى الخروج على القاعدة العامة, ولعل هذا الاستثناء هو في الشريعة الإسلامية الاستثناء الوحيد لقاعدة "ألا تزر وازرة وزر أخرى"، أو لقاعدة تفريد العقاب كما تسميها النظريات القانونية الحديثة، وقد أخذت الشريعة بهذا الاستثناء لأنه يحقق الرحمة والمساواة والعدالة ويمنع إهدار الدماء ويضمن الحصول على الحقوق (1) . هل يمكن الأخذ بنظام العاقلة اليوم؟: نظام العقلة على ما فيه من عدالة وتسوية بين الجناة والمجني عليهم لا يمكن أن يقوم في عهدنا الحاضر, لأن أساسه وجود العاقلة, لا شك أن العاقلة ليس لها وجود اليوم إلا في النادر الذي لا حكم له, وإذا وجدت فإن عدد أفرادها قليل لا يتحمل أن تفرض عليه كل الدية, ولقد كان للعاقلة وجود طالما احتفظ الناس بأنسابهم وقراباتهم وانتموا إلى قبائلهم وأصولهم, أما الآن فلا شيء من هذا في أغلب البلاد والأقطار, وإذن فلا محيص من الأخذ بأحد الرأيين الذين أخذ بهما الفقهاء من قبل, فإما الرجوع على الجاني بكل الدية, وإما الرجوع على بيت المال. والرجوع على الجاني يؤدي إلى إهدار دماء أكثر المجني عليهم؛ لأن أكثر الجناة فقراء وهذا لا يتفق مع أغراض الشريعة التي تقوم على حفظ الدماء وحياطتها، كما أن الرجوع على الجاني يؤدي إلى انعدام العدالة والمساواة. والرجوع على بيت المال يرهق الخزانة العامة, ولكنه يحقق العدالة والمساواة، ويصون الدماء, ويحقق أغراض الشريعة, وإذن يجب أن لا يكون الخوف من إرهاق الخزنة مانعاً من العدالة والمساواة, وحائلاً دون تحقيق أغراض   (1) راجع الفقرة 281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 الشريعة, فالحكومة تستطيع أن تفرض ضريبة عامة تخصص دخلها لهذا النوع من التعويض, وتستطيع أن تخصص الغرامات التي يحكم بها على المتقاضين لهذا الغرض, وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعالة الفقراء والعاطلين فأولى أن تلزم نفسها بتعويض المجني عليهم وورثتهم المنكوبين. ولقد أخذت بعض الدول الأوروبية بهذه الفكرة كألمانيا وإيطاليا ويوغسلافيا، فأنشأت خزانة خاصة تسمى خزانة الغرامات, إيرادها المبالغ المتحصلة من الغرامات التي تحكم بها المحاكم, وخصص إيراد هذه الخزانة لتعويض المجني عليهم في الجرائم بشرط أن تكون أموال الجاني لا تكفي للتعويض (1) . وهذا الذي أخذت به بعض البلاد الأوروبية هو جزء من نظام العاقلة أخذت به هذه البلاد لتحقق بعض الأغراض التي ترمي الشريعة لتحقيقها, وإذا كان نظام العاقلة يقوم على هذا الوجه في البلاد الأوروبية فأولى بنا وهو نظامنا الأصيل أن نقيمه بيننا على الوجه الذي يحقق أغراض الشريعة ويلائم ظروفنا. 473 - (ثالثاً) : الكفارة: الأصل في الكفارة قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ} [النساء: 92] . والكفارة عقوبة أصلية وهي عتق رقبة مؤمنة, فمن لم يجدها أو يجد قيمتها يتصدق بها فعليه صيام شهرين متتابعين, فالصوم عقوبة بدلية لا تكون إلا إذا امتنع تنفيذ العقوبة الأصلية. وظاهر النص أن الكفارة شرعت في القتل الخطأ, ومن المتفق عليه أنها واجبة   (1) الموسوعة الجنائية ج5 ص124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 في القتل الخطأ, وكذلك القتل شبه العمد؛ لأنه يشبه الخطأ من وجه إذا الجاني لا يقصد قتل المجني عليه. ولكن الفقهاء اختلفوا في وجوب الكفارة في القتل العمد, فيرى الشافعي أنها تجب في القتل العمد؛ لأنها إذا وجبت في القتل الخطأ مع عدم المأثم فلأن يجب في العمد وقد تغلظ بالإثم أولى (1) ، ولأحمد رأي يتفق مع رأي الشافعي ولكن المشهور في المذهب أن لا كفارة في القتل العمد؛ لأن نص القتل العمد جاء خلواً من الكفارة (2) . ويرى أبو حنيفة أن لا كفارة في القتل العمد؛ لأن الكفارة من العقوبات المقدرة فلابد من النص عليها (3) . ولا يوجب مالك الكفارة في القتل العمد ولكنه يراها مندوباً إليها في العمد الذي لم يقتص فيه سواء كان عدم القصاص راجعاً لمانع شرعي أو للعفو (4) . ولا يفرق مالك والشافعي وأحمد في القتل الذي تجب فيه الكفارة بين أن يكون القتل مباشراً أو بالتسبب, ولكن أبا حنيفة يرى أن لا كفارة في القتل بالتسبب أياً كان نوعه, أي ولو كان خطأ (5) . على من تجب الكفارة؟: تجب الكفارة عند الشافي وأحمد على القاتل أياً كان بالغاً أو غير بالغ, عاقلاً أو مجنوناً, مسلماً أو غير مسلما (ً (6) . ويرى مالك أنها تجب على الصبي والبالغ والعاقل والمجنون ولكنها لا تجب إلا على مسلم؛ لأنها تعبدية (7) . ويرى أبو حنيفة أنها لا تجب إلا على بالغ مسلم؛ لأن الصبي والمجنون   (1) المهذب ج2 ص334. (2) المغني ج10 ص40. (3) البحر الرائق ج8 ص291. (4) مواهب الجليل ج6 ص268. (5) شرح الدردير ج4 ص254, البحر الرائق ج8 ص293, المغني ج10 ص37, المهذب ج2 ص234. (6) المغني ج10 ص38, نهاية المحتاج ج7 ص364, 365. (7) شرح الدردير ج4 ص254, مواهب الجليل ج6 ص286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 لا يخاطب كلاهما بالشرائع أصلاً؛ ولأن غير المسلم لا يلزم بما هو عبادة، والكفارة وإن كانت عقوبة إلا أنها في نفس الوقت عبادة (1) . وحجة الشافعي وأحمد أن الكفارة عقوبة مالية، والمجنون والصغير إن لم يسألا عن فعلهما من الناحية الجنائية فإنهما ضامنان له من الناحية المالية, وأما غير المسلم فهو ملزم بالكفارة لعموم النص. الصيام: والصيام عقوبة بدلية لعقوبة الكفارة الأصلية وهي العتق, ولا يجب الصيام إلا إذا لم يجد القاتل الرقبة أو قيمتها فاضلة عن حاجته, فإن وجدها فلا يجب الصيام عليه. 474 - (رابعاً) : الحرمان من الميراث: الحرمان من الميراث عقوبة تبعية تصيب القاتل تبعاً للحكم عليه بعقوبة القتل, والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس للقاتل شيء من الميراث"، وقوله: "ليس للقاتل ميراث بعد صاحب البقرة". وقد اختلف الفقهاء اختلافاً كبيراً في الحرمان من الميراث بحيث لا يتفق مذهبان في هذه المسألة. فمالك يرى أن القتل المانع من الميراث هو القتل العمد العدوان, سواء كان القتل مباشرة أو تسبباً, وسواء اقتص من القاتل أو درئ عن القصاص لسبب ما. أما القتل الخطأ فلا يحرم القاتل من الميراث وإنما يحرمه فقط من الدية التي وجبت بالقتل (2) . والرأي الراجح في المذهب الراجح يقضي بحرمان الصغير والمجنون من الميراث. وأبو حنيفة يرى حرمان القاتل من الميراث أياً كان نوع القتل, بشرط أن يكون القتل مباشرة لا تسبباً, وأن يكون عدواناً, وأن لا يكون من صغير أو مجنون (3) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص252. (2) شرح الدردير ج4 ص432، مواهب الجليل ج6 ص422. (3) البحر الرائق ج8 ص488، 500. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من فرق بين القتل المضمون وبين القتل غير المضمون، ورأى الحرمان من الميراث إذا كان القتل مضموناً؛ لأنه قتل بغير حق, أما القتل غير المضمون فلا يمنع من الميراث؛ لأنه قتل بحق. ومنهم من قال: إن كان متهماً باستعجال الميراث حرم من الميراث, كما في القتل الخطأ، وكما لو حكم على مورثه في جريمة الزنا على أساس البينة فإنه يحرم؛ لأنه متهم في قتله باستعجال الميراث, وإن لم يكن متهماً باستعجال الميراث فلا حرمان، كما لو حكم عليه في الزنا بإقراره. والرأي الراجح في المذهب غير هذين، وهو أن القاتل يحرم الإرث في كل حال سواء كان القتل عمداً أو شبه عمد أو خطأ، وسواء كان مباشرة أو تسبباً، وسواء كان القتل بحق أو بغير حق، وسواء كان القاتل بالغاً عاقلاً أو صغيراً أو مجنوناً. وأصحاب هذا الرأي يرون أن الحرمان من الميراث قصد به سد الذرائع ومنع الوارث من استعجال الميراث (1) . ويرى أحمد أن القتل المضمون هو القتل المانع من الإرث، أما غير المضمون فلا يمنع الميراث؛ كالقتل دفاعاً عن النفس والقتل قصاصاً. ويعللون حرمان الصبي والمجنون من الميراث في مذهب أحمد بأن ما فعله القصاص لقصور الأهلية لا يمنع من حرمان الجاني من الميراث, بل إن الاحتياط يقتضي المنع من الميراث صوناً للدماء (2) . 475 - الحرمان من الوصية: الحرمان من الوصية عقوبة تبعية, والأصل فيها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصية لقاتل"، وقوله: "ليس لقاتل شيء"، وذكر الشيء نكرة في محل النفي يعم الميراث والوصية جميعاً.   (1) المهذب ج2 ص26. (2) الإقناع ج3 ص123، مجلة القانون والاقتصاد س6 ص586. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 وقد اختلف الفقهاء في تفسير هذين النصين وتطبيقهما: ففي مذهب مالك يفرقون بين القتل العمد والقتل الخطأ, ويتفقون على أن القتل الخطأ لا يصلح سبباً للحرمان من الوصية, فالقاتل خطأ تصح الوصية له في المال ولو لم يكن المقتول عالماً بأنه هو قاتله, فإن علم بأنه قاتله وأوصى له صحت الوصية في المال وفي الدية. ولكنهم اختلفوا في القتل العمد، فرأى البعض أن الوصية لا تصح إذا كان المقتول لا يعلم أن الموصى له قاتله، فإن علم أنه قاتله وأوصى له بعد الجناية فالوصية تصح في المال ولا تصح في الدية؛ لأن الدية مال لم يجب إلا بالموت، وعلى هذا إذا كانت الوصية قبل الجريمة فإنها تبطل بارتكاب جريمة القتل العمد إلا إذا رأى المقتول البقاء على الوصية. ورأى البعض الآخر أن الوصية تصح للقاتل عمداً سواء علم الموصى بأنه قاتله أو لم يعلم، ويستوي عند أصحاب هذا الرأي أن تكون الوصية قبل القتل أو بعده فهي صحيحة في الحالين (1) . ويرى أبو حنيفة حرمان القاتل من الوصية أياً كان نوع القتل، بشرط أن يكون القتل مباشراً, وأن يكون عدواناً، وأن يكون من بالغ عاقل. ويرى أبو حنيفة أن الوصية تصح إذا أجازها الورثة، ويرى أبو يوسف أنها لا تصح ولو أجازها الورثة؛ لأن المانع من الوصية هو القتل لا مصلحة الورثة (2) . وفي مذهبي الشافعي وأحمد نظريتان: الأولى: يرى أصحابها أن الوصية لا تصح لقاتل, وأصحاب هذه النظرية ينقسمون بعد ذلك إلى فريقين: فريق يرى أن الوصية لا تصح ولو أجازها الورثة؛ لأن المانع من الوصية هو القتل لا مصلحة الورثة, فإجازة الورثة تكون هبة مبتدأة ينبغي أن تتوافر فيها شروط الهبة. وفريق يرى أن الوصية تصح بإجازة الورثة.   (1) مواهب الجليل ج6 ص386، شرح الدردير ج4 ص379. (2) بدائع الصنائع ج7 ص339, 340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 الثانية: يرى أصحابها أن الوصية للقاتل صحيحة في كل حال دون حاجة لإجازة الورثة (1) . * * * الفصل الثالث عقوبات الكفارات 476 - الكفارة: هي العقوبة المقررة على المعصية بقصد التكفير عن إتيانها. والكفارة في الأصل نوع من العبادة؛ لأنها عبارة عن عتق أو إطعام مساكين أو صوم، فإذا فرضت على عمل لا يعتبر معصية فهي عبادة خالصة كالإطعام بدلاً من الصوم لمن لا يطيق الصوم، وإذا فرضت على ما يعتبر معصية فهي عقوبة جنائية خالصة كالكفارة في القتل الخطأ، ولأن الكفارة دائرة بين العبادة والعقوبة نستطيع أن نسميها عقوبة تعبدية. والكفارات عقوبات مقدرة حدد الشارع أنواعها وبين مقاديرها، ومن أجل هذا فهي لا تجب إلا فيما أوجبها فيه الشارع بنص صريح. والجرائم التي يحكم فيها بالكفارة محدودة وهي: (1) إفساد الصيام. ... (2) إفساد الإحرام. ... (3) الحنث في اليمين. (4) الوطء في الحيض. (5) الوطء في الظهار. ... (6) القتل. والكفارة الواجبة في كل هذه الجرائم ليست واحدة وهي تختلف في نوعها ومقدارها وطريقة أدائها باختلاف الجريمة. وعقوبة الكفارة قد تصحبها عقوبة مقدرة أخرى كما هو الحال في القتل الخطأ، فعقوبته الدية والكفارة معاً وكلاهما عقوبة مقدرة، وقد تصحب الكفارة   (1) المهذب ج1 ص457، الإقناع ج3 ص59، شرح الكبير ج9ص424، 425. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 عقوبة غير مقدرة أي عقوبة تعزيرية كما هو الحال في الظهار (1) . والكفارات التي فرضتها الشريعة عقوبات جنائية وهي: العتق، والإطعام، والكسوة، والصيام. أولاً: العتق: المقصود عتق الرقبة؛ أي تحرير أحد الأرقاء، ويشترط في الرقيق المعتق شروط خاصة لا محل لذكرها هنا، كما يشترط لعتق الرقبة أن تكون فاضلة عن حاجة المعتق، فإن لم يجد الرقبة ووجد قيمتها فاضلة عن حاجته تصدق بقيمتها. واليوم وقد بطل الرق في العالم كله تقريباً يجب على من وجب عليه عتق رقبة أن يتصدق بقيمتها إن وجد قيمتها فاضلة عن حاجته. ثانياً: الإطعام: المقصود بالإطعام إطعام المساكين، وكفارة الإطعام تختلف باختلاف الجرائم، فقد تكون الكفارة إطعام عشرة مساكين كما في كفارة اليمين، وقد تكون إطعام ستين مسكيناً كما هو الحال في إفساد الصوم. ويجزئ في الإطعام أن يكون من أوسط ما يطعم المطعم أهله، وأن يكون مرة واحدة. ثالثاً: الكسوة: الكسوة لا تدخل في غير كفارة اليمين حيث لم ينص عليها إلا في كفارة اليمين، ولا يجزئ في الكفارة أقل من كسوة عشرة مساكين، لقوله تعالى: {} [المائدة: 89] . رابعاً: الصيام: والمقصود صيام الجاني، والصوم لا يكون عادة إلا في حالة العجز عن الكفارات الأخرى، وتختلف مدة الصيام باختلاف الجريمة التي يكفر عنها، فقد يكون ثلاثة أيام كما في كفارة اليمين، أو صوم شهرين كما في القتل الخطأ.   (1) تبصرة الحكام ج2 ص259، المقدمات لابن رشد ج2 ص151، أسنى المطالب ج4 ص162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 ومن المسلم به أن الصيام لا يجوز إلا في حق المسلم، أما غير المسلم فلا يطلب منه التكفير بالصيام؛ لأن الصوم عبادة لا يلزم بها غير المسلم. * * * الفصل الرابع عقوبات التعازير 477 - ماهية التعازير: التعزير هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، أي: هو عقوبة على جرائم لم تضع الشريعة لأيها عقوبة مقدرة. والتعازير هي مجموعة من العقوبات غير المقدرة، تبدأ بأتفه العقوبات كالنصح والإنذار، وتنتهي بأشد العقوبات كالحبس والجلد، بل قد تصل للقتل في الجرائم الخطيرة، ويترك للقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة للجريمة ولحال المجرم ونفسيته وسوابقه. ويعاقب بالتعزير على كل الجرائم فيما عدا جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فلها عقوباتها الخاصة، ولا يعاقب عليها باعتبار التعزير عقوبة أصلية وإنما باعتباره عقوبة بدلية تجب عند امتناع العقوبة الأصلية كعدم توفر شروط الحد، أو باعتباره عقوبة إضافة تضاف إلى العقوبة الأصلية كالتغريب في الزنا عند أبي حنيفة، وكإضافة التعزير للقصاص في الجراح عند مالك، وكإضافة أربعين جلدة على حد الخمر عند الشافعي. وقد جرى التشريع الجنائي الإسلامي على أن لا يفرض لكل جريمة من جرائم التعزير عقوبة معينة كما تفعل القوانين الوضعية؛ لأن تقييد القاضي بعقوبة معينة يمنع العقوبة أن تؤدي وظيفتها، ويجعل العقوبة غير عادلة في كثير من الأحوال؛ لأن ظروف الجرائم والمجرمين تختلف اختلافاً بيناً، وما قد يصلح مجرماً بعينه قد يفسد مجرماً آخر، وما يردع شخصاً عن جريمة قد لا يردع غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 ومن أجل هذا وضعت الشريعة لجرائم التعازير عقوبات متعددة مختلفة هي مجموعة كاملة من العقوبات تتسلسل من أتفه العقوبات إلى أشدها، وتركت للقاضي أن يختار من بينها العقوبة التي يراها كفيلة بتأديب الجاني واستصلاحه وبحماية الجماعة من الإجرام، وللقاضي أن يعاقب بعقوبة واحدة أو بأكثر منها، وله أن يخفف العقوبة أو يشدها إن كانت العقوبة ذات حدين، وله أن يوقف تنفيذ العقوبة إن رأى في ذلك ما يكفي لتأديب الجاني وردعه واستصلاحه. وليس ثمة خطر من إعطاء القاضي هذا السلطان الواسع في جرائم التعزير؛ لأنها ليست في الغالب جرائم خطيرة؛ ولأن التساهل فيها قد يصلح الجاني أكثر مما يفسده، أما الجرائم الخطيرة وهي جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فقد وضعت لها الشريعة عقوبات مقدرة، ولم تترك للقاضي أي سلطان عليها إلا بتطبيق العقوبة المقررة كلما ثبتت الجريمة على الجاني. وإذا كانت الشريعة قد عرفت عقوبات تعزيرية معينة فليس معنى ذلك أنها لا تقبل غيرها، بل إن الشريعة تتسع لكل عقوبة تصلح الجاني وتؤدبه وتحمي الجماعة من الإجرام، والقاعدة العامة في الشريعة أن كل عقوبة تؤدي إلى تأديب المجرم واستصلاحه وزجر غيره وحماية الجماعة من شر المجرم والجريمة هي عقوبة مشروعة. 478 - الفرق بين التعازير وغيرها من العقوبات: هناك فروق ظاهرة تميز التعازير عن العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، وأهم هذه الفروق ما يأتي: (1) العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية هي عقوبات مقدرة معينة، فهي عقوبات لازمة ليس للقاضي أن يستبدل بها غيرها، وليس له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 أن ينقص منها أو يزيد فيها ولو كانت بطبيعتها ذات حدين كالجلد؛ لأن تقديرها وتعيينها يجعلها في حكم العقوبة ذات الحد الواحد. أما التعازير فهي عقوبات غير مقدرة، فللقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة، وهي في الغالب ذات حدين وللقاضي أن ينزل بالعقوبة إلى حدها الأدنى أو يرتفع بها إلى الحد الأعلى، على أن من عقوبات التعازير ما هو ذو حد واحد كالتوبيخ والنصح، ولكن القاضي مع هذا غير مقيد بعقوبة بعينها إلا إذا كانت هي بالذات الملائمة للجريمة والمجرم. (2) العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية لا تقبل العفو ولا الإسقاط من ولي الأمر، أما التعازير فتقبل العفو من ولي الأمر سواء كانت الجريمة ماسة بالجماعة أو بالأفراد. (3) عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ينظر فيها إلى الجريمة ولا اعتبار فيها لشخصية المجرم، أما التعازير فينظر فيها إلى الجريمة وإلى شخص المجرم معاً. 479 - أنواع التعازير: التعازير على أنواع في الشريعة، وسنذكر فيما يلي أهم ما عرفته الشريعة من التعازير ووضع فعلاً موضع العمل، وعلينا أن لا ننسى أن مبادئ الشريعة لا تمنع من الأخذ بأية عقوبة أخرى تحقق أغراض الشريعة من العقاب. 480 - عقوبة القتل: الأصل في الشريعة أن التعزير للتأديب، وأنه يجوز من التعزير ما أمنت عاقبته غالباً (1) ، فينبغي أن لا تكون عقوبة التعزير مهلكة، ومن ثم فلا يجوز في التعزير قتل ولا قطع (2) .   (1) البحر الرائق ج5 ص44، شرح الزرقاني ج8 ص115، 116، أسنى المطالب ج4 ص161 وما بعدها. (2) المراجع السابقة، وتبصرة الحكام ج2 ص264، والإقناع ج4 ص269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 لكن الكثيرين من الفقهاء أجازوا استثناء هذه القاعدة العامة أن يعاقب بالقتل تعزيراً إذا اقتضت المصلحة العامة تقرير عقوبة القتل، أو كان فساد المجرم لا يزول إلا بقتله، كقتل الجاسوس والداعية إلى البدعة ومعتاد الجرائم الخطيرة (1) . وإذا كان القتل تعزيراً قد جاء استثناء من القاعدة فإنه لا يتوسع فيه ولا يترك أمره للقاضي ككل العقوبات التعزيرية، بل يجب أن يعين ولي الأمر الجرائم التي يجوز فيها الحكم بالقتل، وقد اجتهد الفقهاء في تعيين هذه الجرائم وتحديدها، ولم يبيحوا القتل إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك، بأن كان المجرم قد تكررت جرائمه ويئس من إصلاحه، أو كان استئصال المجرم ضرورياً لدفع فساده وحماية الجماعة منه. ويبيح الحنفيون عامة القتل تعزيراً ويسمونه القتل سياسة، ويرى بعض الحنابلة هذا الرأي وعلى الأخص ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ويأخذ بهذا الرأي قليل من المالكية (2) ، ولكن أكثر الجرائم التي يبيح فيها الحنفية القتل تعزيراً أو سياسةً يعاقب عليها حداً أو قصاصاً في المذاهب الأخرى، فما يظن توسعاً في مذهب الحنفية هذه الوجهة هو توسع ظاهري في أكثر الحالات، فمثلاً يبيح الحنفية القتل تعزيراً في جريمة القتل بالمثقل وفي جريمة اللواط، ولا يرون القتل قصاصاً في الحالة الأولى أو حداً في الحالة الثانية، بينما يرى مالك والشافعي وأحمد قتل القاتل بالمثقل قصاصاً وقتل اللائط والملوط به حداً، ويرى بعض الحنابلة والمالكية قتل الداعية إلى البدعة تعزيراً بينما يراه غيرهم مرتداً بدعوته للبدعة فيقتل حداً.   (1) حاشية ابن عابدين ج4 ص247، 248، الإقناع ج4 ص271، الطرق الحكمية لابن القيم ص106، الاختيارات لابن تيمية ص178، 179، مواهب الجليل ج3 ص357، البحر الرائق ج5 ص45، مجموعة الوسائل لابن تيمية، الحسبة، ص58. (2) لا يبيح الشافعيون ومعظم المالكيين القتل تعزيراً، ويفضلون أن يحبس الجاني المفسد الذي يستضر بجرائمه إلى غير أمد لكف شره عن الجماعة، ويؤيدهم في هذا الاتجاه بعض الحنابلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 والقتل تعزيراً بالشروط السابقة لا يمكن أن يكون إلا في جرائم تعزيرية محدودة العدد، وقد رأينا فيما سبق أن الشريعة جعلت القتل عقوبة في أربع جرائم من جرائم الحدود وهي: الزنا، والحرابة، والردة، والبغي. وجعلته عقوبة في جريمة واحدة من القصاص وهي القتل العمد، فإذا قدرنا أن الجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم أيضاً كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة لا تزيد على عشر جرائم عند من يجيزون القتل تعزيراً، وكان عددها لا يزيد على خمس جرائم عند من لا يبيحون القتل تعزيراً، وتلك ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها، فهي لا تسرف في عقوبة القتل ولا تفرضها دون مقتض، ونستطيع أن نحيط بمدى تفوق الشريعة في هذه الوجهة إذا علمنا أن القوانين الوضعية كانت إلى أواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد بحيث كان القانون الإنجليزي مثلاً يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام. ولقد حاولت بعض الدول الأوروبية في العهد الأخير أن تلغي عقوبة القتل ولكن حركة الإلغاء وقفت تحت تأثير النظرية الإيطالية التي ترى في عقوبة القتل وسيلة حسنة لاستئصال من لا يرجى صلاحهم من المجرمين، بل إن بعض البلاد التي ألغت عقوبة القتل فعلاً كإيطاليا وروسيا والنمسا عادت فقررت القتل عقوبة في قوانينها. وعقوبة القتل مقررة في كل الدول الكبرى كإنجلترا وألمانيا وفرنسا وأمريكا، وأهم ما يبرر به شراح القوانين عقوبة القتل هو أنها وسيلة صالحة لمقاومة الإجرام ولاستئصال المجرمين الخطرين على الجماعة، وهذه هي نفس المبررات التي قال بها فقهاء الشريعة. 481 - عقوبة الجلد: تعتبر عقوبة الجلد من العقوبات الأساسية في الشريعة، فهي عقوبة من العقوبات المقررة للحدود، وهي من العقوبات المقررة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 في جرائم التعازير، بل هي العقوبة المفضلة في جرائم التعازير الخطيرة. ولعل وجه تفضيلها على غيرها أنها أكثر العقوبات ردعاً للمجرمين الخطرين الذين طبعوا على الإجرام أو اعتادوه، وأنها ذات حدين فيمكن أن يجازى بها كل مجرم بالقدر الذي يلائم جريمته ويلائم شخصيته في آن واحد. وتمتاز عقوبة الجلد فوق ما تقدم بأن تنفيذها لا يثقل كاهل الدولة، ولا يعطل المحكوم عليه عن الإنتاج، ولا يعرض أهله ومن يعولهم للضياع أو الحرمان كما هو الحال في الحبس مثلاً، فالعقوبة تنفذ في الحال، والمجرم يذهب بعد التنفيذ مباشرة إلى حال سبيله، فلا يتعطل عن عمله ولا يشقى بعقابه أهله. وأهم ميزة لعقوبة الجلد أنها تحمي المحكوم عليه من شر المحابس وما تجره على المحبوسين من إفساد الأخلاق والصحة، واعتياد التعطل والنفور من العمل. الحد الأعلى للجلد: اختلف في الحد الأعلى للجلد، فمشهور مذهب مالك أن تعيين الحد الأعلى متروك لولي الأمر؛ لأن التعزير يكون بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة فيجتهد فيه ولي الأمر، وعلى هذا يجوز عند مالك أن يضرب المجرم أكثر من مائة جلدة ولو أن أشد الضرب في جرائم الحدود لا يزيد على مائة جلدة (1) . ويرى أبو حنيفة ومحمد أن الحد الأعلى للجلد في التعزير تسعة وثلاثون سوطاً، بينما يرى أبو يوسف أنه خمسة وسبعون سوطاً. وأساس هذا التحديد ما صح عندهم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين"، ويرجع الخلاف بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف إلى أن أبا حنيفة ومحمد رأيا أن لفظ الحدود ورد في الحديث منكراً، فقالا: إن المقصود به حد ما، والأربعون حد كامل للرقيق، فإذا نقصت سوطاً أصبح الحد   (1) تبصرة الحكام ج2 ص262، 263، مواهب الجليل ج6 ص219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 الأعلى للتعزير تسعة وثلاثين، أما أبو يوسف فصرف لفظ الحد إلى حد الأحرار وأقله ثمانون، وكان القياس أن يجعل الحد الأعلى تسعة وسبعين سوطاً ولكنه اقتفى أثر على بن أبي طالب حيث جعل الحد الأعلى للتعزير خمسة وسبعين سوطاً ينقص خمسة أسواط عن أدنى حدود الأحرار (1) . وفي مذهب الشافعي ثلاثة آراء: الأول يتفق مع رأي أبي حنيفة ومحمد, والثاني يتفق مع رأي أبو يوسف, والثالث يرى أصحابه أن يزيد الحد عن خمسة وسبعين (2) ولا يصل إلى مائة (3) بشرط أن تقاس كل جريمة بما يليق بها مما فيه حد؛ فينقص تعزير مقدمة الزنا عن حده وإن زاد على حد القذف, وينقص تعزير السب عن حد القذف, أي: أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية قدر الحد فيها, فلا يبلغ التعزير على النظر والمباشرة حد الزنا, ولا بالتعزير على الشتم دون قذف حد القذف. وفي مذهب أحمد آراء متعددة، منها ثلاثة آراء تتفق مع الآراء التي ذكرناها في مذهب الشافعي, وهناك رأيان مختلفان: أولهما: أن الجلد لا يصح أن يبلغ في كل جناية حداً مشروعاً في جنسها, ولكنه يصح أن يزيد على الحد في جناية من غير جنس الجناية المشروع فيها الحد, فمثلاً حد الزاني غير المحصن الجلد مائة جلدة وحد الزاني المحصن الرجم, فلا يصح أن يعاقب على الخلوة أو المباشرة أو التقبيل أو غير ذلك من مقدمات الزنا بالجلد مائة جلدة إذا كان الفاعل غير المحصن حتى لا يبلغ العقاب حداً في غير حد, ولكن يجوز إذا كان الفاعل محصناً أن يجلد مائة جلدة فأكثر؛ لأن حد الزاني المحصن هو الرجم والجلد أياً كان عدد   (1) شرح فتح القدير ج4 ص214، البحر الرائق ج5 ص51. (2) نهاية المحتاج ج8 ص201, الأحكام السلطانية ص206, أسنى المطالب ج4 ص162. (3) يرى فريق من الشافعية أن يزيد الجلد على مائة بشرط أن تكون الجريمة مما لم يرد في نوعها حد مقدر، راجع: مجموعة الرسائل لابن تيمية, الحسبة، ص57, الطرق الحكيمة ص106, ولم أجد لهذا الرأي أثراً فيما لدى من كتب الشافعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 الجلدات لا يبلغ حد الرجم، وثانيهما: أنه لا يصح أن يزاد في التعزير على عشرة أسواط بأي حال, وحجة القائلين بهذا الرأي الأخير ما رواه أبو يردة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حودو الله تعالى" (1) , وينسب بعض الفقهاء هذا الرأي للشافعية, ولكني لم أجد له أثراً فيما لديّ من كتب الشافعية, وحجة من نسبوه للشافعية قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، الحديث الذي بني عليه هذا الرأي صحيح (2) . ويرجع اختلاف المذاهب واختلاف فقهاء المذهب الواحد إلى حديثي الرسول - صلى الله عليه وسلم - اللذين ذكرناهما وهما قوله: "من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين"، وقوله: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله", فأما الحديث الأول فلا يرده من المذاهب الأربعة إلا مذهب مالك بحجة أنه منسوخ، وعندهم أنه لا حد لأكثر التعزير، وأن للإمام أن يزيد في التعزير على الحد إذا رأى المصلحة في ذلك مجانباً لهوى النفس, وأما الحديث الثاني فهو مردود إلا عند بعض الفقهاء في مذهب أحمد, ومن رده يرده لأنه منسوخ، أو لأنه مقصور على زمن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) . ومن أخذوا بالحديث الأول اختلفوا في تفسيره, ففسره البعض بأنه يمنع من أن تصل العقوبة في التعزير إلى العقوبة في أدنى الحدود, ونظر فريق منهم إلى البعيد فقال: إن الحد ينصف لهم, فأدنى الحدود حدودهم، وأدنى حد لهم هو أربعون جلدة.   (1) فتاوي ابن تيمية المجلد الرابع, الاخيتارات ص178, المغني ج15 ص347, الطرق الحكمية ص106, الإقناع ج4 ص270 وما بعدها. (2) شرح فتح القدير ج4 ص215, الطريق الحكمية ص106. (3) شرح فتح القدير ج4 ص215, تبصرة الحكام ج2 ص263. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 وفسر البعض الحديث بأنه يمنع من أن تصل العقوبة التعزيرية إلى عقوبة الحد على وجه العموم, أو أن تصل العقوبة التعزيرية على ما في جنسه الحد إلى عقوبة الحد, ويرى هؤلاء أن تقاس الجريمة بعضها على بعض, فما ماثل الشرب والقذف في موضوعه أو في خطورته لم يصل فيه التعزير إلى مائة جلدة. وفسر البعض الآخر الحديث بأنه يمنع من أن تصل العقوبة التعزيرية على جريمة في جنسها الحد إلى عقوبة الحد, فإن لم يكن في جنسها الحد جاز أن تصل إلى عقوبة الحد وإلى أكثر منها, فمثلاً لا يجوز عقاب من وجد في فراشه امرأة بالجلد مائة جلدة إذا لم يكن محصناً ما دام لم يطأها؛ لأن حد الزاني غير المحصن هو الجلد مائة جلدة, ولكن يجوز جلده مائة جلدة إذا كان محصناً ويجوز جلده أكثر من مائة؛ لأن حد الزاني المحصن الرجم. ويجوز جلد السارق أكثر من مائة جلدة؛ لأن حد السرقة هو القطع, وهكذا. وإذا لم يكن في جنس الجريمة حد مقرر جاز الوصول بالتعزير إلى الحد الذي يراه ولي الأمر (1) . فكأن الغرض من الحديث أن لا يعاقب على جريمة شرع في جنسها الحد بعقوبة الحد ما دامت شروط عقوبة الحد لم تتوفر حتى لا يسوى في العقاب بين الجريمة التامة والجريمة غير التامة, وبين الفعل الذي توفرت فيه شروط جريمة الحد والفعل الذي لم تتوفر فيه هذه الشروط. ولعل هذا الرأي الأخير هو أحسن الآراء من الوجهة العملية وأفضلها من الوجهة المنطقية. ويرى بعض الفقهاء أن يكون أقل الجلد ثلاث جلدات؛ لأن هذا القدر أقل ما يزجر، ولكن البعض لا يرى جعل حد أدنى للجلد؛ لأن أثر الزجر يختلف باختلاف الناس (2) .   (1) شرح فتح القدير ج4 ص214, نهاية المحتاج ج8 ص20, المغني ج10 ص347, الشرح الكبير ج10 ص354. (2) شرح فتح القدير ج4 ص215, المغني ج10 ص348, بدائع الصنائع ج7 ص94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 وليس في الشريعة ما يمنع من أن يكون الجلد عقوبة لأية جريمة من جرائم التعزير, وإن كان بعض الفقهاء يفضل أن يكون الجلد دون غيره عقوبة على الجرائم التي شرعت في جنسها الحدود, فيعاقب بالجلد على السرقات التي لا حد قيها, وعلى الزنا الذي لا حد فيه, وعلى القذف الذي لا حد فيه, وهكذا (1) . ويرى هؤلاء الفقهاء أن يعاقب بالجلد أو بغيره من عقوبات التعازير على الجرائم التي ليس في جنسها ما يوجب الحد, والقائلون بهذا ينظرون إلى أن عقوبة الجلد أشد تأديباً وأكثر ردعاً عن ارتكاب الجرائم الخطيرة، والمفروض أن الجرائم التي شرعت في جنسها الحدود هي أخطر الجرائم (2) . 482 - الحبس: الحبس في الشريعة على نوعين, حبس محدد المدة، وحبس غير محدد المدة. 483 - الحبس المحدد المدة: تعاقب الشريعة بالحبس المحدد المدة على جرائم التعزير العادية وتعاقب به المجرمين العاديين. ولقد ذكرنا أن الفقهاء يفضلون عقوبة الجلد على غيرها من العقوبات إذا كانت الجرائم خطيرة أو كان المجرمون خطرين أو ممن لا يردعهم إلا الجلد. وأقل مدة هذا النوع من الحبس يوم واحد, أما حده الأعلى فغير متفق عليه, فيرى البعض أن لا يزيد عن ستة أشهر, ويرى البعض أن لا يصل إلى سنة كاملة, والبعض الآخر يرى تقدير حده الأعلى لولي الأمر (3) . والذين يحددون مدة الحبس هم الشافعيون, ويشترطون أن لا يصل إلى سنة؛ لأنهم يقيسونه على التغريب في حد الزنا, والتغريب لا يزيد على عام, فوجب   (1) بدائع الصنائع ج7 ص64. (2) راجع الفقرة 98. (3) تبصرة الحكام ج2 ص284, شرح فتح القدير ج4 ص216, الأحكام السلطانية ص206, المغني ج10 ص348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 أن يقل الحبس عن عام حتى لا يعاقب بحد في غير حد. وظاهر المذاهب الأخرى أنها لا تقيس الحبس على التغريب. ويجوز أن يجمع بين الحبس والضرب إذا رُئي أن إحدى العقوبتين لا تكفي وحدها, ولكن الشافعيين يشترطون في هذه الحالة أن لا يوقع من إحدى العقوبتين إلا ما يعتبر مكملاً لما نقص من العقوبة الثانية, فإذا ضرب الجاني نصف الجلدات المقررة للتعزير حبس نصف المدة المقررة للحبس, وإذا ضرب ربع الجلدات حبس ثلاثة أرباع مدة الحبس, وهكذا. ولا يشترط الفقهاء الآخرون هذا الشرط فيجوز عندهم أن يضرب الجاني كل الجلدات المقررة للتعزير ثم يحبس بعد ذلك المدة التي تكفي لتأديبه وزجر غيره (1) . ويشترط في الحبس كما يشترط في غيره من العقوبات أن يؤدى غالباً إلى إصلاح الجاني وتأديبه, فإن غلب على الظن أنه لن يؤدب الجاني أو لن يصلحه امتنع الحكم به ووجب الحكم بعقوبة أخرى. وموقف الشريعة من عقوبة الحبس يختلف اختلافاً بينا عن موقف القوانين الوضعية، ذلك أن عقوبة الحبس في القاونين الوضعية هي عقوبة الأولى أو هي العقوبة الأساسية التي يعاقب بها في كل الجرائم تقريباً سواء كانت الجرائم خيرة أو بسيطة. أما في الشريعة الإسلامية فعقوبة الحبس ليست إلا عقوبة ثانوية لا يعاقب بها إلا على الجرائم البسيطة, وهي عقوبة اختيارية للقاضي أن يعاقب بها أو يتركها, وليس له أن يعاقب بها إلا إذا غلب على ظنه أنها مفيدة. ويترتب على هذا لفرق بين الشريعة والقوانين أن يقل إلى حد كبير عدد المحبوسين في البلاد التي تطبق الشريعة الإسلامية, وأن يزيد عددهم إلى غير حد في البلاد التي تطبق القوانين الوضعية.   (1) تبصرة الحكام ج2 ص284, شرح فتح القدير ج4 ص216, الأحكام السلطانية ص256, المغني ج10 ص348, أسنى المطالب ج4 ص192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 والواقع أن مشكلة السجن والمسجونين هي أول المشاكل التي تبرز أمام شراح القوانين الوضعية، فقد ترتب على جعل الحبس عقوبة أساسية في كل الجرائم تقريباً أن أزداد عدد المحكوم عليهم بالحبس وامتلأت بهم المحابس التي ضاقت بهم على سعتها, وأدى ذلك إلى أن السجون أصبحت مباءة للتآمر ومدرسة للإجرام بالرغم من أنها أنشئت للوقاية من الإجرام؛ لأن اجتماع المسجونين يسمح لهم بالتعارف والتآمر على ارتكاب الجرائم وتبادل المعلومات والاختبارات. كذلك ثبت من التجارب أن عقوبة السجن لا تردع من هم في حاجة إلى الردع, بينما تفسد الصالحين من المسجونين وتنزل بهم إلى مستوى الفاسدين. وقد حاول بعض المصلحين تخفيف عيوب الحبس فوضعوا أنظمة مختلفة لهذا الغرض ولكنها جميعاً لها عيوبها ومفاسدها, كما أنها تعجز عن القضاء على عيوب الحبس الأساسية, ومن ذلك نظام الفصل بين المسجونين ليلاً وجمعهم نهاراً مع إلزامهم بالصمت المطلق, ولكن هذا النظام يكلف نفقات باهظة ويقضي بتوقيع عقوبات صارمة ومستمرة على المسجونين لمنعهم من الاتصال والكلام. من ذلك نظام الانفراد نهاراً وليلاً, وهو نظام كثير النفقة قليل الإنتاج يؤدي بالمسجونين إلى البله والجنون ويؤدي ببعضهم إلى الانتحار. ومن ذلك النظام التدريجي أو النظام الأيرلندي وهو يبدأ بالحبس الانفرادي ثم يحبس المسجون بعد مدة منفرداً ليلاً وبالنهار يجتمع مع باقي المسجونين على أن لا يتكلم معهم, وهذا النظام يجمع بين عيوب النظامين السابقين. أما عقوبة الحبس في الشريعة فإنها لا تؤدي إلى مثل النتائج السابقة؛ لأنها لا توقع إلا في بعض الجرائم البسيطة وعلى المجرمين المبتدئين ولمدد قصيرة إذا رأى القاضي أنها تردع الجاني, ومن ثم يكون عدد المسجونين قليلاً, ومدة بقائهم في السجن قصيرة، وأخلاقهم غير فاسدة, وليس فيهم من مرن على الإجرام أو اعتاده. وهكذا تنتفي أسباب عيوب عقوبة الحبس القائمة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 القوانين الوضعية بتطبيق نصوص الشريعة الإسلامية. 484 - الحبس غير محدد المدة: من المتفق عليه أن الحبس غير المحدد المدة يعاقب به المجرمون الخطرون ومعتادو الإجرام, ومن اعتادوا ارتكاب جرائم القتل والضرب والسرقة، أو تكرر منهم ارتكاب الجرائم الخطيرة، ومن لا تردعهم العقوبات العادية، ويظل المجرم محبوساً حتى تظهر توبته وينصلح حاله فيطلق سراحه وإلا بقى محبوساً مكفوفاً شره عن الجماعة حتى يموت (1) . ومن المتفق عليه أن مدة الحبس لا تحدد مقدماً؛ لأنه حبس لا مدة له, بل هو حبس حتى الموت وينتهي بموت المحكوم عليه أو توبته قبل ذلك وانصلاح حاله. والحبس غير محدد المدة تطبيق لنظرية العقوبة غير المحددة التي عرفتها القوانين الوضعية في أواخر القرن التاسع عشر, فكأن الشريعة سبقت القوانين الوضعية لهذه النظرية بثلاثة عشر قرناً تقريباً, وأول من قال من شراح القوانين بهذه النظرية هم الشراح الإيطاليون حيث رأوا ضرورة عدم تحديد العقوبة، إذ للعقوبة في رأيهم وظيفتان: الاستئصال والإصلاح, فمن كان قابلاً من المجرمين للإصلاح كانت عقوبته مؤقتة، ومن كان غير قابل للإصلاح تؤبد عقوبته. وتعتبر العقوبة غير محددة المدة في عصرنا الحاضر من العناصر الجوهرية في تدبير الأمن measures de surete ومن أحدث العقوبات التي يعالج بها الإجرام على أساس من علمي النفس والاجتماع. وللقوانين الوضعية طرائق مختلفة في عدم تعيين المدة، فبعضهم يجعل عدم التعيين مطلقاً, فيصدر القاضي الحكم بالعقوبة دون أن يعين المدة, ولكن السلطة المشرفة على التنفيذ هي التي تحدد مدة العقوبة طبقاً لما يتبين لها من حال المحكوم   (1) حاشية ابن عابدين ج3 ص260, تبصرة الحكام ج2 ص264, نهاية المحتاج ج8 ص20, الإقناع ج4 ص272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 عليه, فقد تقصر المدة إن رأت إنصلاح حاله, وقد تبقيه في سجنه حتى الموت إذا لم يكن يرجى صلاحه, وقد أخذ القانون الفرنسي الصادر في 27/2/1885 بهذه الطريقة حيث نص على عقوبة النفي كعقوبة مؤبدة وخول السلطة الإدارية أن تخفضها إن رأت أن المحكوم عليه يستحق تخفيض العقوبة. وبعض القوانين يجعل عدم التعيين نسبياً؛ فيصدر القاضي الحكم محدداً مدة العقوبة مبيناً حدها الأدنى الذي لا يصح أن تقل عنه وحدها الأعلى الذي لا يصح أن تزيد عليه, ويترك بعد ذلك للسلطة التنفيذية أن تخلي سبيل المحكوم عليه إذا رأت أنه انصلح حاله بعد أن يستوفي الحد الأدنى من العقوبة, فإن لم ينصلح حاله بقى حتى يستوفي الحد الأعلى. وبعض التشريعات الوضعية يحدد الحد الأدنى للعقوبة ولا يحدد الحد الأقصى كالقانون الإيطالي الصادر في سنة 1930,وبعضها يحدد الحد الأقصى دون الأدنى كالقانون المصري, بالنسبة للمجرمين المعتادين على الإجرام وبالنسبة للمجرمين الأحداث. وقد أخذ القانون المصري بعد التعيين المطلق بالنسبة للمتهمين المعتوهين إذ أجاز للنيابة العمومية متى كان المتهم محبوساً احتياطياً أن تودعه أحد محلات المجاذيب (المادة 249 من قانون تحقيق الجنايات) . وبعض القوانين الأوروبية كالقانون البلجيكي والقانون الإيطالي تقضي بوضع المتهمين المصابين بالنورستانيا أو المدمنين على تعاطي المسكرات في محلات خاصة لمدة غير معينة. ويتبين مما سبق أن القوانين الوضعية بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر تأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية في العقوبة غير المعينة المدة, وأن بعض هذه القوانين تأخذ بنظرية الشريعة على إطلاقها فلا تحدد مدة العقوبة, وأن بعض القوانين يقيد مدة العقوبة بينما يجمع البعض الآخر بين الإطلاق والتقييد, وسواء أخذت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 القوانين بالنظرية مطلقة أو مقيدة فهي نظرية الشريعة الإسلامية, وما التقييد والإطلاق في الواقع إلا تنظيم لتطبيق النظرية. وليس بعد هذا من ينكر فضل الشريعة وسبقها في تقرير أفضل نظريات العقاب. 485 - التغريب والإبعاد: تكلمنا عن التغريب بمناسبة الكلام عن عقوبات الزنا, وقلنا إن أبا حنيفة يراه تعزيراً وبقية الأئمة يرونه حداً, فيما عدا جريمة الزنا فالتغريب يعتبر تعزيراً باتفاق. ويلجأ لعقوبة التغريب إذا تعددت أفعال المجرم إلى اجتذاب غيره إليها أو استضراره بها. ويرى بعض الفقهاء في مذهبي الشافعي وأحمد أن لا تصل مدة الإبعاد إلى سنة كاملة؛ لأن التغريب شرع في الزنا حداً ومدته عام فيجب أن لا تصل مدته في التعزير عاماً، تحقيقاً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين". ويرى أبو حنيفة أن مدة التغريب يصح أن تزيد على سنة؛ لأنه لا يعتبر التغريب حداً وإنما يعتبره تعزيراً. ويرى مالك أن من الممكن ريادة مدة التغريب عن سنة مع تسليمه بأن التغريب حد؛ لأنه يرى الحديث منسوخاً. ويظاهر مالكاً وأبا حنيفة بعض فقهاء مذهبي الشافعي وأحمد. والقائلون بأن مدة التغريب يصح أن تزيد على سنة لا يحددون مدة التغريب بل يرون التغريب عقوبة غير محدودة، ويتركون لولي الأمر أن يأذن للمغرب في العودة إذا صلح حاله وظهرت توبته. والمحكوم عليه بالغريب لا يحبس في مكان معين، ولكن يصح على رأي البعض أن يوضع تحت المراقبة وأن تقيد حريته ببعض القيود، ولكن ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 له اتفاقاً أن يعود إلى المحل الذي غرب عنه قبل انتهاء مدة التغريبعند من يحددون له مدة وقبل توبته والإذن له بالعودة عند من يحددون للغريب مدة. ولقد عاقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتغريب فأمر بإخراج المخنثين من المدينة, وكذلك فعل أصحابه من بعده, ومن ذلك أن عمر رضي الله عنه عاقب ضبيعاً بالضرب ونفاه إلى البصرة أو الكوفة وأمر بهجرته فكان لا يكلمه أحد حتى تاب, وكتب عامل البلد إلى عمر يخبره بتوبته فأذن للناس في كلامه. وكذلك نفى عمر نصر بن حجاج من المدينة. ويدعو كثير من شراح القوانين اليوم إلى عقوبة التغريب؛ لأنهم يؤمنون بأن الحبس لا يجدي في إصلاح المحكوم عليهم وإعدادهم لتبوء المركز الذي كان لهم في الجماعة قبل الجريمة, إذ يستحيل على المحكوم عليه بالحبس مهما تاب وأناب أن يستعيد مركزه في المكان الذي ارتكب فيه جريمته, ومن ثم يظل منبوذاً من الجمهور ويضطر اضطراراً إلى أن يسلك نفسه في زمرة المجرمين والمفسدين, ولكن الإبعاد يخلص الجماعة من هذه الفئة من ناحية ويسمح للمحكوم عليه من ناحية أخرى أن يستعيد مركزه في الهيئة الجديدة التي ينضم إليها. وقد أخذت الدول الأوروبية بنظرية التغريب وطبقتها في قوانينها, فإنجلترا مثلاً كانت تبعد المحكوم عليهم إلى أمريكا وإلى أستراليا, ثم اضطرت إلى العدول عن الإبعاد بعد اعتراض سكان المستعمرات. والقانون الفرنسي الصادر في سنة 1810 يجعل الإبعاد عقوبة تساعد على التخلص من السياسيين المناوئين للنظام القائم. كذلك جعل القانون الفرنسي من الإبعاد طريقة لتنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة في المستعمرات وجعل منه عقوبة تكميلية للمجرمين العائدين. والقانون الإيطالي يبيح لوزير العدل أن يأمر بتنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة أو السجن في إحدى المستعمرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 486 - الصلب: تكلمنا عن الصلب باعتباره حداً يعاقب بع على جريمة الحرابة، وقلنا إن بعض الفقهاء يرى صلب المحكوم عليه بعد قتله, وإن البعض الآخر يرى إن صلبه حياً ثم قتله وهو مصلوب. وقد كان تقرير الصلب حداً لجريمة قطع الطريق مما دعا الفقهاء للقول بأن الصلب ممكن أن يكون عقوبة تعزيرية. والصلب للتعزير لا يصحبه القتل طبعاً ولا يسبقه, وإنما صلب الإنسان حياً ولا يمنع عنه طعامه ولا شرابه, ولا يمنع من الوضوء للصلاة ولكنه يصلي إيماء, ويشترط الفقهاء في الصلب أن لا تزيد مدته على ثلاثة أيام. ومما يحتج به لمشروعية الصلب التعزيرية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزر رجلاً بالصلب على جبل يقال له أبو ناب. ويذكر الشافعيون والمالكيون الصلب إذا ما ذكروا عقوبات التعازير, ولكن الحنفية والحنابلة لا يصرحون بذكره, على أن هذا لا يعني أنهم لا يرون الصلب؛ لأن القاعدة العامة أن كل وسيلة تؤدي إلى إصلاح الجاني وتأديبه وحماية الجماعة من شره تعتبر عقوبة مشروعة (1) . وعقوبة الصلب على الوجه السابق هي عقوبة بدنية يقصد منها التأديب والتشهير معاً, وهي أشبه ما تكون بعقوبة التلاميذ حين يؤمرون بالوقوف وأيديهم مرفوعة إلى أعلى زمناً ما, أو حين يأمرون بأن يجثوا على ركبهم زمناً طويلاً أو قصيراً. ويجب أن لا يفوتنا أن عقوبات التعازير غير لازمة كعقوبات الحدود أو القصاص, وعلى هذا فالأمر في جعل الصلب عقوبة أو إهمالها متروك للهيئة التشريعية, فإن رأت أنها تصلح لبعض الجرائم أو لكلها أقرتها, وإن رأت أنها لا تصلح تركتها.   (1) الأحكام السلطانية ص206, تبصرة الحكام ج2 ص266. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 487 - عقوبة الوعظ وما دونها: يعتبر الوعظ عقوبة تعزيرية في الشريعة الإسلامية, ويجوز للقاضي أن يكتفي في عقاب الجاني بوعظه إذا رأى أن في الوعظ ما يكفي لإصلاحه وردعه. وقد نص القرآن صراحة على الوعظ في قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] . وفي الشريعة من العقوبات التعزيرية ما هو دون الوعظ, فالفقهاء يعتبرون أن مجرد إعلان الجاني بجريمته عقوبة تعزيرية, وفي إحضاره إلى مجلس القضاء عقوبة تعزيرية. ويجب أن لا ننسى أن مثل هذه العقوبات لا توقع إلا على من غلب على الظن أنها تصلحه وتزجره وتؤثر فيه. 488 - عقوبة الهجر: ومن العقوبات التعزيرية في الشريعة الهجر, وقد ورد به القرآن تعزيراً للمرأة في قوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] . وقد عاقب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهجر, فأمر بهجر الثلاثة الذين خلفوا عنه في غزوة تبوك وهم: كعب بن مالك, ومرارة بن ربيعة العامري, وهلال بن أمية, فهجروا خمسين يوماً لا يكلمهم أحد حتى نزل قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118] . وعاقب عمر رضي الله عنه ضبيعاً بالهجر مع الجلد والتغريب, فكان لا يكلمه أحد حتى تاب, وكتب عامل البلد الذ غرب إليه إلى عمر يخبره بتوبته فأذن للناس في كلامه. 489 - عقوبة التوبيخ: ومن العقوبات التعزيرية في الشريعة عقوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 التوبيخ, فإذا رأى القاضي أن التوبيخ يكفي لإصلاح الجاني وتأديبه اكتفى بتوبيخه. ولقد عزر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوبيخ, ومن ذلك ما رواه أبو ذر - رضي الله عنه - قال: ساببت رجلاً فعيرته بأمه, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية". وخاصم عبد الرحمن بن عوف عبد من عامة الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغضب عبد الرحمن وسب العبد قائلاً: يا ابن السوء. فغضب النبي أشد الغضب ورفع يده قائلاً: "ليس لابن بيضاء على ابن سوداء سلطان إلا بالحق" فاستخزى عبد الرحمن وخجل، ووضع خده على التراب ثم قال للعبد: طأ عليه حتى ترضي. 490 - عقوبة التهديد: والتهديد عقوبة تعزيرية في الشريعة بشرط أن لا يكون تهديداً كاذباً، وبشرط أن يرى القاضي أنه منتج وأنه يكفي لإصلاح الجاني وتأديبه، ومن التهديد أن ينذره القاضي بأنه إذا عاد فسيعاقبه بالجلد أو بالحبس أو سيعاقبه بأقصى العقوبة، ومن التهديد أن يحكم القاضي بالعقوبة ويوقف تنفيذها إلى مدة معينة. وقد عرفت القوانين الوضعية عقوبتي التوبيخ والتهديد، وأخذت بالتوبيخ القضائي كعقوبة للجرائم البسيطة وللمجرمين المبتدئين، وأخذت بالتهديد القضائي عقوبة لمن يرى القاضي أن التهديد كاف لزجرهم وإصلاحهم. وقد طبقت القوانين الوضعية عقوبة التهديد بطرق مختلفة، فبعضها يرى أن يحكم القاضي بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها لمدة معينة فإن عاد المجرم أمكن تنفيذ العقوبة الموقوفة، وبعضها يرى الاكتفاء بإنذار الجاني أن لا يعود لجريمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 وهذه الوسائل المختلفة التي تأخذ بها القوانين الوضعية ليست إلا تطبيقات للتهديد بالعقوبة، ويكفي أن نعرف أن القوانين الوضعية لم تأخذ بنظام التوبيخ والتهديد بالعقاب إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بينما عرفت الشريعة هذين النظامين وغيرهما من ثلاثة عشر قرناً وأكثر. 491 - التشهير: ومن عقوبات الشريعة التعزيرية التشهير، ويقصد بالتشهير: الإعلان عن جريمة المحكوم عليه. ويكون التشهير في الجرائم التي يعتمد فيها المجرم على ثقة الناس كشهادة الزور والغش. وكان التشهير يحدث قديماً بالمناداة على المجرم بذنبه في الأسواق والمحلات العامة حيث لم تكن هناك وسيلة أخرى، أما في عصرنا الحاضر فالتشهير ممكن بإعلان الحكم في الصحف أو لصقه في المحلات العامة. والقوانين الوضعية تأخذ بعقوبة التشهير، وقد أخذ بها القانون المصري في بعض الجرائم كالغش والبيع بأكثر من السعر الجبري. 492 - عقوبات أخرى: وليست العقوبات السابقة هي كل عقوبات التعزير في الشريعة الإسلامية؛ لأن التعازير ليست معينة وإنما ترك أمرها لأولي الأمر؛ أي الهيئة التشريعية، يختارون منها ما يرونه صالحاً لمحاربة الإجرام وإصلاح المجرمين وتأديبهم، ويتركون ما يرونه غير صالح، ولا يتقيدون في ذلك بقيود ما إلا بمراعاة الأسس العامة التي تقوم عليها نظرية العقاب. والعقوبات التي ذكرناها هي أهم العقوبات العامة التي يمكن أن تطبق في كل جريمة, وهناك عقوبات أخرى ليست عامة ولا تنطبق على كل الجرائم وأهمها: 1 - العزل من الوظيفة: وتطبق على الذين يتولون الوظائف العامة سواء كان أدراء الوظيفة بمقابل أو مجاناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 2 - الحرمان: ومعناه حرمان المجرم من بعض الحقوق المقررة له شرعاً, كالحرمان من تولي الوظائف, ومن أداء الشهادة، وكالحرمان من سلب القتيل, والرحمان من سهم الغنيمة, وكإسقاط النفقة للنشوز. 3 - المصادرة: ويدخل تحتها مصادرة أدوات الجريمة ومصادرة ما حرمت حيازته. 4 - الإزالة: ويدخل تحتها إزالة أثر الجريمة أو العمل المحرم, كهدم البناء المقام في الشارع العام, وإعدام أواني الخمر واللبن المغشوش. وهذه العقوبات جميعاً تعرفها القوانين الوضعية اليوم وتأخذ بها. 493 - عقوبة الغرامة: من المسلم به أن الشريعة عاقبت على بعض الجرائم التعزيرية بعقوبة الغرامة, من ذلك أنها تعاقب على سرقة الثمر المعلق بغرامة تساوي ثمن ما سرق مرتين فوق العقوبة التي تلائم السرقة, وذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ومن خرج بشئ فعليه غرامة مثليه والعقوبة", ومن ذلك عقوبة كاتم الضالة فإن عليه غرامتها ومثلها معها, ومن ذلك تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله (1) . ولكن الفقهاء بالرغم من هذا اختلفوا فيما إذا كان من الجائز جعل الغرامة عقوبة عامة يمكن الحكم بها في كل جريمة، فرأى البعض أن الغرامة المالية يصح أن تكون عقوبة تعزيرية عامة, ورأى البعض أنه لا يصح أن تكون الغرامة عقوبة عامة (2) . والذين يعترضون على الغرامة المالية يحتجون بأنها كانت مقررة على عهد   (1) إغاثة اللهفان ج1 ص331, أعلام الموقعين ج2 ص220. (2) المراجع السابقة, المغني ج10 ص348, الإقناع ج4 ص270, تبصرة الحكام ج2 ص261, شرح الزرقاني ج8 ص125, نهاية المحتاج ج8 ص20, أسنى المطالب ج4 ص162, شرح فتح القدير ج4 ص212, حاشية ابن عابدين ج3 ص246, مجموعة الرسائل, الحسبة ص59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 الرسول ونسخت, وأنها غير صالحة كوسيلة من وسائل محاربة الإجرام, وأنه يخشى أن يكون في إباحة الغرامة المالية ما يغري الحكام الظلمة بمصادرة أموال الناس بالباطل. وتشدد بعض من أجازوا الغرامة عقوبة عامة, فاشترطوا أن تكون الغرامة عقوبة تهديدية بحيث يحصل المال ويحبس المحكوم عليه حتى ينصلح حاله, فإن صلح حاله رد إليه ماله, وإن لم ينصلح حاله أنفق المال على جهة من جهات البر. ويمكن أن يؤيد الرأي المعارض في الغرامة المالية بأن جعل الغرامة عقوبة أساسية يؤدي إلى تمييز الأغنياء على الفقراء؛ لأن الغني يستطيع أن يدفع دائماً أما الفقير فلا يستطيع ذلك, ومن ثم فلا يمكن أن يعاقب بالغرامة وهي أخف بكثير من بعض العقوبات الأخرى. وفي عصرنا الحاضر حيث نظمت شئون الدولة وروقبت أموالها, وحيث تقرر الهيئة التشريعية الحد الأدنى والحد الأعلى للغرامة، وحيث ترك توقيع العقوبات للمحاكم, لم يعد هناك محل للخوف من مصادرة أموال الناس بالباطل, وبذلك يسقط أحد الاعتراضات التي اعترض بها على الغرامة. كذلك وجدت جرائم بسية يعاقب عليها بعقوبات مالية تافهة كالمخالفات بحيث يستطيع أكثر الناس دفع الغرامة، وبهذا يضعف أحد الاعتراضات الأخرى على الأقل في هذه الجرائم البسيطة. وعلى كل حال فإن الفقهاء الذين يرون جعل الغرامة عقوبة عامة يقررون أنها لا تصلح إلا في الجرائم البسيطة, ولم يحاولوا أن يضعوا للغرامة حداً أدنى أو حداً أعلى تاركين ذلك لولي الأمر. والقوانين الوضعية تجعل الغرامة عقوبة أساسية في معظم الجرائم, وتتوسل إلى تنفيذ العقوبة بوسيلتين: هي التنفيذ الجبري على أموال المحكوم عليه, فإن لم يكن له مال فالثانية وهي: الإكراه البدني, وهو يكون بتشغيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 المحكوم عليه في عمل حكومي إذا وجد هذا العمل أو بحبس المحكوم عليه مدة معينة, ومعنى هذا أن عقوبة الغرامة تنتهي بالحبس إذا كان المحكوم عليه فقيراً, مع أن القوانين الوضعية تعتبر عقوبة الحبس أشد من عقوبة الغرامة. وشراح القوانين الوضعية يعترفون بما لعقوبة الغرامة من عيوب كثيرة يحاولونإصلاحها, ويرون في عقوبة الغرامة بالرغم من عيوبها وسيلة من وسائل الحسنة للتخفيف أو الحد من مساوئ عقوبة الحبس, فهم يقبلون عقوبة الغرامة لا لمزاياها ولكن لأن مساوئها أقل من مساوئ عقوبة الحبس, وإذن فهم لا يحرصون على الأصلح وإنما يحرصون على اختيار أخف الضررين. ولا تبيح الشريعة الإسلامية حبس المحكوم عليه بمبلغ من المال إلا إذا كان المطالب بالمال قادراً عليه وممتنعاً عن دفعه كما هو الحال في دين النفقة. أما إذا كان المطالب بالمال قادراً عنه فلا يجوز حبسه مقابل المبلغ المحكوم به؛ لأن الحبس في الدين لم يشرع إلا لحمل المدين على الدفع فإذا كان عاجزاً عن الدفع امتنع الحبس لانعدام سببه. ولكن ليس في الشريعة ما يمنع من تشغيل المحكوم عليه في عمل حكومي لاستيفاء الغرامة المحكوم بها من أجره, ونظرية الشريعة في هذا سليمة من الوجهين التشريعية والمنطقية؛ لأن التنفيذ على المحكوم عليه بالشغل هو التنفيذ على ماله ما دام لا مورد له إلا عمله, ولا يكاد التنفيذ جبراً بالشغل يختلف شيئاً عن التنفيذ جبراً على المال, أما حبس المحكوم عليه مقابل الغرامة في حالة العجز عن الدفع فمعناه أن المحكوم عليه يحبس لفقره لا للحكم بالحبس, ومن ثم تكون عقوبة الحبس الحالة محل الغرامة عقوبة خاصة بالفقراء, ومن شروط العقوبة الأساسية أن تكون عامة وإلا كانت غيره مشروعة. وليس في الشريعة ما يدعو للحرص على عقوبة الغرامة وتعميمها في كل الجرائم التعزيرية أو معظمها؛ لأن الشريعة تجعل من عقوبة الحبس عقوبة ثانوية ولأن العقوبة الأساسية في معظم الجرائم هي الجلد، فانعدمت بذلك مساوئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 عقوبة الحبس، تلك المساوئ التي وجدت عقوبة الغرامة للتخفيف من حدتها في القوانين الوضعية. والأصل في الشريعة أن لجرائم التعزير مجموعة من العقوبات تختلف في بساطتها وشدتها، وللقاضي أن يعاقب الجاني بالعقوبة أو العقوبات التي يراها ملائمة للجريمة وللجاني، فإذا حرص بعض الفقهاء على أن يجعلوا من الغرامة عقوبة عامة فإنهم يقصدون من ذلك أن يدخلوا الغرامة في مجموعة عقوبات التعزير، فيكون للقاضي أن يعاقب بها كلما رآها ملائمة للجريمة والمجرم، فإذا لم تكن ملائمة فهو غير ملزم بالحكم بها في أي حال. * * * الفصل الخامس مدى صلاحية العقوبات الشرعية 494 - العقوبات الشرعية والإحصائيات: بينا فيما سبق أنواع العقوبات في الشريعة الإسلامية والمميزات التي تميز كل نوع عن النوع الآخر. وقلنا: إن الشريعة حرصت في عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص على تقرير عقوبة أو عقوبات خاصة لكل جريمة، وإنها نظرت في تقرير هذه العقوبات إلى الجريمة دون المجرم، وإنها حدت من سلطة القاضي تلقاء هذه العقوبات بحيث جعلته مسيراً لا مخيراً، فلا يستطيع أن ينقص من العقوبة أو يزيد عليها, ولا يستطيع أن يخفف العقوبة أو يغلظها؛ لأن العقوبات المقررة عقوبات مقدرة. كما حدت الشريعة من سلطان القاضي حدت من سلطان المشرع, فليس له أن يستبدل بعقوبة أخرى وليس له أن يعفو عن العقوبة أو يوقف تنفيذها وإن كان له أن يغلظ العقوبة المقرة بعقوبة تعزيرية أخرى, فليس له مثلاً أن يجعل عقوبة القذف خمسين جلدة ولكنه يستطيع أن يضيف إلى عقوبة الجلد المقررة للقذف عقوبة الغرامة أو الحبس, وأن يزيد عقوبة الجلد عن ثمانين جلدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 فتكون الزيادة عقوبة تعزيرية, وليس للشارع أن يستبدل بالقصاص عقوبة أخرى, أو ينقص الدية, ولكن له أن يضيف إلى القصاص أو الدية عقوبة الجلد أ, الحبس أو غير ذلك من العقوبات التعزيرية (1) . والجرائم التي اهتمت فيها الشريعة بالجريمة وأهملت الجاني هي جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية, وهي: (1) الزنا. ... ... ... (2) القذف. ... ... (3) الشرب. (4) السرقة ... ... ... (5) الحرابة. ... ... (6) البغي. (7) الردة. ... ... ... (8) القتل العمد. ... (9) القتل شبه العمد. (10) القتل الخطأ. ... ... (11) الجرح العمد. ... (12) الجرح الخطأ. فمجموع الجرائم التي اهتمت فيها الشريعة بالجريمة وأهملت شأن الجاني هو اثنتا عشرة جريمة، وما عدا ذلك من الجرائم فينظر فيها إلى الجريمة وإلى المجرم معاً. وقد لا يستطيع الإنسان لأول وهلة أن يفهم حكمة الشريعة الإسلامية من تشددها في هذه الجرائم الاثنتى عشرة وتساهلها في بقية الجرائم وهي تعد بالمئات، وقد يكون عجزه عن الفهم راجعاً إلى أنه ينظر إلى عدد هذه الجرائم الاثنتى عشرة ويقارنه بعدد الجرائم الباقية وهي مئات، والواقع أن النسبة بين عدد جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية وبين عدد الجرائم الأخرى هي نسبة ضئيلة جداً، ونستطيع أن نصل إلى هذه النسبة على وجه التقريب لو عددنا نصوص قانون العقوبات التي تكلمت عن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية وقارناها بعدد النصوص التي تكلمت عن الجرائم الأخرى. وظاهر من تتبع نصوص قانون العقوبات المصري أن المواد التي تتكلم عن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية لا تصل إلى خمسين مادة، بينما النصوص التي تتكلم عن الجنايات والجنح تبلغ ثلاثمائة مادة، وهناك قوانين خاصة تعاقب على جنح كثيرة، فلو فرضنا أن نصوصها لا تزيد على ثلاثمائة مادة أيضاً وهي في الواقع أكثر من ذلك بكثير كان عدد الجنايات والجنح داخلاً   (1) راجع الفقرة 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 تحت ستمائة مادة، وكانت النسبة بين عدد جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية وبين بقية الجرائم الأخرى 8} وهي نسبة لا شك في ضآلتها من الوجهة النظرية. ولكن المرء يستطيع في يسر وسهولة أن يصل إلى حكمة الشريعة في تشددها في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية إذا علم أن الجرائم لا تقع بنسبة واحدة، وأن أكثر الجرائم وقوعاً وتكراراً هي جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، وأن معظم الجرائم الباقية نادر الوقوع وأقلها هو الذي يتكرر ويكثر وقوعه، ولكنه على كل حال لا يصل إلى الدرجة التي تتكرر بها جرائم الحدود والقصاص. ونستطيع أن ندرك حكمة الشريعة على حقيقتها إذا رجعنا إلى الإحصائيات الجنائية، فإن هذه الإحصائيات تدل دلالة قاطعة على أن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية هي أكثر الجرائم وقوعاً في الحياة اليومية، وأن هذه الجرائم الاثنتى عشرة لو انقطع وقوعها لما عرف الناس الجريمة ولما شعروا بوقوع الجرائم، ونستطيع أن نتخذ الإحصائيات الجنائية المصرية دليلاً على ذلك، فقد بلغ عدد الجنايات 8175 جناية في سنة 1942 - 1943، منها 1752 جناية قتل عمد، 1119 جناية شروع في قتل، 989 جناية سرقة بإكراه وشروع فيها، 243 جناية هتك عرض وفسق، 326 جناية ضرب أفضى للموت، 1196 جناية ضرب نشأ عنه عاهة مستديمة، 634 جناية عود وكلها تقريباً سرقات، وهذه جميعاً من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ومجموعها 6270 جناية، ومعنى هذا أن جرائم الحدود والقصاص في الجنايات تقع بنسبة 76.6} من مجموع الجنايات. وبلغ عدد الجنح 297557 جنحة في سنة 1942 - 1943، منها 97320 جنحة سرقة، 14828 جنحة خطأ، 1182 جنحة قتل خطأ، 60223 جنحة ضرب، 405 جنحة هتك عرض، 1929 جنحة قذف وسب، 4695 جنحة تعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 ومقاومة، وهذه كلها من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ومجموعها 181762 جنحة، ومعنى هذا أن جرائم الحدود والقصاص في الجنح تقع بنسبة 61} من مجموع الجنح تقريباً. ولو رجعنا إلى ما قبل ذلك بعشر سنوات لوجدنا أن عدد الجنايات بلغ 6957جناية في سنة 1932 - 1933، منها 5496 جناية من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، فكأن نسبة هذه الجرائم الأخيرة إلى مجموع الجنايات في هذه السنة 79} . أما عدد الجنح فقد بلغ 155752 جنحة في سنة 1932 - 1933، من هذا العدد 92250 جنحة من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، فكأن نسبة جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية بالنسبة لمجموع الجنح 59} . وفي سنة 1922 - 1923 كان عدد الجنايات 7831 جناية منها 4782 جناية من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فتكون النسبة 61} من مجموع الجنايات، وفي هذه السنة بلغت الجنح 132611 جنحة منها 93990 جنحة من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، فتكون نسبة الجرائم الأخيرة 70.8} من مجموع جرائم الجنح. هذا هو منطق الإحصائيات الجنائية التي لا تكذب يقول في صراحة إن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية بلغ متوسطها في عشرين سنة 72.2} من مجموع الجنايات و63.3} من مجموع جرائم الجنح. وهكذا تبين لنا الإحصائيات بصفة قاطعة أن الشريعة حين احتفلت بجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية على قلة عدد هذه الجرائم إنما قصدت أن تقضي على أكثر الجرائم تكراراً وأشدها هولاً, أو قصدت أن تقضي على الإجرام قضاء مبرماً, والواقع أنا لو رفعنا من الإحصائيات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية لما بقى في الإحصائيات إلا الجنايات والجنح التافهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 أو الاعتبارية التي لا تخل بالأمن ولا تزعزع النظام ولا يؤذي الأخلاق والتي يكفي في ردع مرتكبيها عقوبات التعزير المختلفة. ونستطيع بعد هذا أن نقول: إن الإحصائيات تؤكد ما قلناه من قبل, وهو أن الشريعة وضعت عقوبات جرائم الحدود والقصاص لأغراض ثلاثة هي: حفظ الأمن, وتثبيت النظام, وصيانة الأخلاق, ولا شك أنه إذا سلم للأمة أمنها ونظامها وأخلاقها فقد سلم لها كل شئ, ولم يقف في طريق تقدمها ورقيها أي شئ. 495 - العقوبات الشريعة والتجارب: وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد وضعت عقوبتها لمحاربة الجريمة والإجرام فإن هذا وحده لا يكفي لإثبات صلاحية الشريعة وتفوقها على القوانين الوضعية, وإنما يجب أن يثبت بعد ذلك أن هذه العقوبات كافية للقضاء على الإجرام, إذ العبرة في هذا الأمر ليست بالوسائل أو الغايات, وإنما العبرة بكفاية الوسائل لإدراك ما وضعت له من غايات, والقوانين الوضعية نفسها قد قصدت محاربة الإجرام والجريمة ووضعت عقوبات معينة لهذا الغرض ولكنها فشلت في القضاء على الإجرام. والتجربة وحدها هي التي تبين قيمة الأنظمة الجنائية, ولا عبرة بالمنطق المزوق الذي يصح مرة ويخيب أخرى, ولست آتي بجديد حين أقول هذا, وإنما أكرر ما قاله علماء القوانين الوضعية مجتمعين في اتحاد القانون الدولي, وحيث قرروا أن أحسن نظام جنائي هو الذي يؤدي عملاً إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة, وأن التجارب هي وحدها الكفيلة بإبراز هذا النظام المنشود. ولقد أبرزت التجارب الحديثة أحسن الأنظمة الجنائية, وتبين أن هذا النظام المنشود هو الشريعة الإسلامية, وكانت التجارب التي امتحنت فيها عقوبات الشريعة على نوعين: كلية, جزئية. فأما التجربة الكلية فقد بدئ بها في مملكة الحجاز من حوالي عشرين عاماً, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 حيث طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقاً تاماً, ونجحت نجاحاً منقطع النظير في القضاء على الإجرام وحفظ الأمن والنظام, ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلاً في الحجاز بل كيف كان الحجاز مضرب الأمثال في كثرة الجرائم وشناعة الإجرام. فقد كان المسافر فيه كالمقيم لا يأمن على ماله ولا على نفسه في بدو أو حصر في نهار أو ليل, وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة لتأمين سلامته مورد الاعتداء عنهم, وما كانت هذه القوات الخاصة ولا القوات الحجازية بقادرة على إعادة الأمن وكبح جماح العصابات ومنعها من سلب الحجاز أو الرعايا الحجازيين وخطفهم والتمثيل بهم, وظل حماة الأمن في الحجاز عاجزين عن حماية الجمهور حتى طبقت الشريعة الإسلامية, فانقلبت الحال بين يوم وليلة, وساد الأمن بلاد الحجاز وانتشر الطمأنينة بين المقيمين والمسافرين, وانتهى عهد الخطف والنهب وقطع الطريق, وأصبحت الجرائم القديمة أخباراً تروى فلا يكاد يصدقها من لم يعاصرها أو يشهدها, وبعد أن كان الناس يسمعون أشنع أخبار الجرائم عن الحجاز أصبحوا يسمعون أعجب الأخبار عن استتباب الأمن والنظام, فهذا يفقد كيس نقوده في الطريق العام فلا يكاد يذهب إلى دار الشرطة ليبلغ حتى يجد كيسه كما فقد منه معروضاً للتعرف عليه, وهذا يترك عصاه في الطريق فتنقطع حركة المرور حتى تأتي الشرطة لرفع العصا من مكانها, وهذا يفقد أمتعته وييأس من ردها ولا يبلغ عنها ولكنه يجد الشرطة يبحثون عنه ليردوا إليه ما فقد منه, وبعد أن كان الأمن يعجز عن حفظه قوات عسكرية عظيمة من الداخل وقوات عسكرية كبيرة من الخارج أصبح الأمن محفوظاً بحفنة من الشرطة المحليين. تلك هي التجربة الكلية وكفى بها دليلاً على أن النظام الجنائي في الشريعة الإسلامية يؤدي عملياً إلى قطع دابر الجريمة, وأنه النظام الذي يبحث عنه ويتمناه اتحاد القانون الدولي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 أما التجربة الجزئية فقد قامت بها أولا إنجلترا وأمريكا ومصر وبعض الدول الأخرى, ثم قامت بها أخيراً كل دول العالم تقريباً وقد نجحت هذه التجربة الجزئية أيضاً نجاح منقطع النظير. وقد سمينا هذه التجربة بالتجربة الجزئية؛ لأنها جاءت قاصرة على عقوبة واحدة من عقوبات الشريعة وهي عقوبة الجلد, فإنجلترا تعترف بالجلد عقوبة أساسية في قوانينها الجنائية والعسكرية, ومصر تعترف بها في قوانينها العسكرية, وأمريكا وبعض الدول تجعل الجلد عقوبة أساسية في الجرائم التي يرتكبها المسجون, ثم جاءت الحرب الأخيرة فقررت كل الدول تقريباً عقوبة الجلد على جرائم التموين والتسعير وبعض الجرائم الأخرى الماسة بالنظام أو الأمن العام, وهذا اعتراف عام عالمي بأن عقوبة الجلد أفعل من أية عقوبة أخرى, وأنها الوحيدة التي تكفل حمل الجماهير على طاعة القانون وحفظ الناظم, وأن كل عقوبات القوانين الوضعية لا تغني عن عقوبة الجلد شيئاً في هذا الباب, وهذا الاعتراف العالمي هو في الوقت نفسه اعتراف بنجاح الشريعة الإسلامية في محاربة الجريمة؛ لأن عقوبة الجلد هي إحدى العقوبات الأساسية في الشريعة. 496 - العقوبات الشرعية وطبيعة الإنسان: هذه هي التجارب قاطعة في أن عقوبات الشريعة الإسلامية تؤدي عملاً إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة وأن أي نظام جنائي وضعي يعجز عن الوصول إلى بعض النتائج التي يصل إليها نظام الشريعة الجنائي, ولعل السر في نجاح الشريعة أن عقوباتها وضعت على أساس طبيعة الإنسان, ففي طبيعة الإنسان أن يخشى ويرجو, وهو لا يأتي أي عمل إلا بقد ما ينتظر من منافعه, ولا ينتهي عن عمل إلا بقد ما يخشى من مضاره, فالإنسان لا يلقي بنفسه من القطار وهو متحرك ولو كان له مصلحة في ذلكما دام يخشى أن يموت ولكنه لا يمتنع عن إلقاء نفسه من الترام أو من على ظهر دابته إذا كان له في ذلك مصلحة؛ لأنه يرجو الوصول إلى منفعته ولا يخشى من وراء عمله ضرراً ذا بال, والمرء قد يخاف ركوب الطائرة ولا يخاف ركوب السيارة, ويخشى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 يصعد الجبل شديد الانحدار ولا يخاف تسلق التل المنبسط, ويخشى أن يركب الفرس الجموح ولكنه يسعى إلى امتطاء المطية الذلول, والإنسان في هذا كله يقدر المنفعة والضرر ويوازن بينهما, فإن رجحت كفة المنفعة فهو مقدم عليها وإن رجحت كفة الضرر فهو محجم عنها, وطبيعة الإنسان تلازمه في الخير والشر, في الأعمال المباحة والأعمال المحرمة, فلا يرتكب الجريمة إلا لما ينتظره منها من منفعة, ولا ينتهي عن الجريمة إلا لما يخشاه من مضارها, كلما اشتدت العقوبة كلما ابتعد الناس عن الجريمة, وكما خفت العقوبة كلما ازداد إقالهم على الجريمة, وكلما نظرنا إلى الجريمة دون المجرم أيس المجرم فلم يطمع في استعمال الرأفة ونأى بجانبه عن الجريمة وسلك طريق الاستقامة, وقد استغلت الشريعة طبيعة الإنسان فوضعت على أساسها عقوبات الجرائم عامة وعقوبات جرائم الحدود والقصاص خاصة, ونظرت في الجرائم الأخيرة إلى الجريمة دون المجرم؛ لأن هذه الجرائم من الخطورة بمكان, ولأنها تمس كيان الجماعة ونظامها, فالتساهل فيها يؤدي إلى أسوء النتائج, والتشدد فيها يؤدي إلى قلة وقوع هذه الجرائم. ولدينا تجربة في القانون المصري تثبت أن إهمال شخصية المجرم في الجرائم الخطيرة يؤدي إلى أفضل النتائج, فقد رأى الشارع المصري أخيراً أن يهمل شخصية الجاني إلى حد ما في جرائم المخدرات فأصدر القانون رقم 21 لسنة 1928, وهو قانون يشدد عقوبة إحراز المخدرات ويضع حداً أدنى للعقوبة, كما يقضي بأن لا تقل العقوبة عن ضعف الحد الأدنى في حالي العود ويمنع إيقاف تنفيذ العقوبة, وقد ترتب على صدور هذا القانون أن قلت جرائم المخدرات قلة ظاهرة وصارت تقل سنة بعد أخرى, فقد كان عدد جرائم المخدرات 21113 جريمة في سنة 1926 - 1927 أي في السنة السابقة على صدور القانون, فأصبحت 11404 جريمة في سنة 1928 - 1929, وأصبحت 8599 جريمة في سنة 1929 - 1930 ونزلت إلى 1922 جريمة في السنة 1936 - 1937 كما نزلت إلى 1926 جريمة في سنة 1942 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 1943. وهذا الإحصاء المادي شاهد عدل على أن إهمال شخصية المجرم في الجرائم الخطيرة هو العامل الأول في محاربة الجريمة, وأن نظرية الشريعة الإسلامية في العقوبة هي النظرية المثلى, بل إن هذا الإحصاء في ذاته دليل قاطع على تجربة أخرى ناجحة لنظرية الشريعة في العقوبة. * * * الفصل السادس العقوبات في القانون المصري ومدى صلاحيتها 497 - أنواع العقوبات: تختلف أنواع العقوبات في القانون المصري باختلاف الجرائم, وقد قسم القانون المصري الجرائم ثلاثة أقسام, وجعل جسامة الجريمة أساس لهذا التقسيم, فأجسم الجرائم تدخل تحت القسم الأول وتسمى جنايات, وأقل جسامة تدخل تحت القسم الثاني وتسمى جنحاً, والجرائم التافهة تدخل تحت القسم الثالث وتسمى مخالفات. وجعل القانون لكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة عقوبات خاصة, فعقوبات الجنايات هي الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقته والسجن. وعقوبات الجنح هي الحبس والمراقبة والغرامة, وعقوبات المخالفات هي الحبس والغرامة, والفرق بين الحبس في الجنح وبينه في المخالفات أنه لا يزيد في المخالفات عن سبعة أيام وقد تصل في الجنح إل ثلاثة سنوات, والفرق بين الغرامة في الجنح وبينها في المخالفات أنها لا تزيد في المخالفات عن مائة قرش وتزيد عن ذلك في الجنح. وعقوبة الإعدام هي إزهاق روح المحكوم عليه, وتختلف قوانين البلاد المتمدينة في كيفية تنفيذ العقوبة, ففي بعض البلاد تنفذ بالشنق كما هو الحال في مصر, وفي بعضها تنفذ بقطع الرقبة بآلة حادة كما قي فرنسا, وبعضها ينفذ العقوبة بصعق المحكوم عليه بتيار كهربائي كما في الولايات المتحدة الأمريكية. وعقوبة الأشغال الشاقة سواء كانت مؤبدة أو مؤقتة هي وضع المحكوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 عليه في محبس مع تشغيله في أشق الأشغال التي تعنيها الحكومة (المادة 14 من قانون العقوبات) . وإذا كان المحكوم عليه امرأة أو رجلاً جاوز الستين من العمر استوفيت العقوبة في أحد السجون العمومية (المادة 15 عقوبات) والسجن العمومي هو السجن الذي يقع في دائر المديرية. أما عقوبة السجن فهي وضع المحكوم عليه في أحد السجون العمومية وتشغله داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعنيها الحكومة (المادة 16 عقوبات) . ولا يجوز أن تنقص عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن عن ثلاث سنوات كما لا يجوز أن يزيد على خمس عشر سنة إلا بنص (المادة 14, 16 عقوبات) . وعقوبة الحبس هي وضع المحكوم عليه في أحد السجون المركزية أو العمومية ولا تنقص عقوبة الحبس عن أربع وعشرين ساعة ولا تزيد على ثلاث سنوات إلا بنص, والحبس إما أن يكون مع الشغل أو بسيطاً, فإن كان مع الشغل اشتغل المحكوم عليه داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعينها الحكومة. ويمكن القول أن عقوبة الأشغال الشاقة مؤبدة أو مؤقتة وعقوبة السجن وعقوبة الحبس هي كلها في جوهرها هي عقوبات حبس يتفاوت في مدته أكثر مما يتفاوت في نوعه, أما اختلاف العمل الذي يزاوله المحكوم عليه من حيث مكان العمل أو قسوته فلا يغير من طبيعة الحبس شيئاً, وعلى هذا الأساس تكون العقوبات الجنائية التي يعترف بها القانون المصري هي الإعدام والحبس والمراقبة والغرامة. وكان القانون المصري يعترف بعقوبة الجلد ويخصصها للأحداث حتى سنة 1937، فلما عدل القانون في هذه السنة استبدلت هذه العقوبة بعقوبة التوبيخ. كذلك كان القانون المصري يعترف وقت وضعه بعقوبة النفي مؤبدة أو مؤقتة, فلما عدل سنة 1904 ألغيت هذه العقوبة بحجة أن سهولة المواصلات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 أضعفت من أثر العقوبة الملغاه, ولكن الرأي يتجه أخيراً إلى إعادة عقوبة النفي, بل لقد اضطرت الحكومة إلى فرض عقوبة النفي الإداري إلى الطور في بدأ الحرب الأخيرة في سنة 1940, كما فرضت الجلد عقوبة لمخالفة الأوامر العسكرية الخاصة بالتموين والتسعير, وظل الحال كذلك حتى انتهت الحرب. ومن العقوبات الأساسية في القانون المصري عقوبة الإرسال إلى الإصلاحية, وهي خاصة بمعتادي الإجرام والأحداث, وهذه العقوبة في جوهرها حبس وإن اختلف نظام الإصلاحيات عن نظام السجون. 498 - سلطة القاضي في تطبيق العقوبات: وقد نص القانون على كل جريمة وعلى العقوبة المقررة لها, وحين اختيرت العقوبة لكل جريمة روعي فيها أن تكون مناسبة للجريمة, وجعل الشارع لكل عقوبة عدا الإعدام والتوبيخ حدين: أحدهما يصعد بالعقوبة إلى أعلى درجاتها, والثاني: ينزل بها إلى أدنى هذه الدرجات, وفي أغلب الأحوال جعل الشارع لكل جريمة عقوبتين إحداهما أخف من الأخرى. وأعطى القانون للقاضي سلطة واسعة في تطبيق العقوبات التي قررت للجرائم؛ فترك للقاضي أن يختار العقوبة الملائم إذا كان هناك أكثر من عقوبة، وأن يختار من بين حديها الكمية التي يراها كافية لتأديب المجرم. ثم أعطى القانون بعد ذلك للقاضي الحق في أن يستبدل بالعقوبة أو بالعقوبتين المقررتين للجريمة عقوبة أخرى أخف منهما إذا اقتضت ظروف الجريمة الرأفة, وقصر استعمال هذا الحق على جرائم الجنايات دون غيرها, فللقاضي أن يستبدل بعقوبة الإعدام عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة. وله أن يستبدل بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن, وله أن يستبدل عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة السجن أو الحبس, وله أن يستبدل بعقوبة السجن الحبس (المادة 17 عقوبات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 وأعطى القانون أخيراً لقاضي الإحالة الحق في أن يحيل بعض الجنايات على محكمة الجنح لتحكم فيها لا بالعقوبات المقررة للجنايات وإنما بعقوبة الحبس فقط المقررة للجنح, وليس على قاضي الإحالة قيد في تجنيح الجنايات ما دامت مقترنة بعذر قانوني معين أو بظروف مخففة تبرر تطبيق عقوبة الجنحة, وما دامت عقوبة الفعل الأصلية ليست الإعدام أو الأشغال الشاقة المربدة. والنتيجة العملية للسلطة المعطاة لقاضي الإحالة هي استبدال عقوبة الحبس المقررة للجنح بعقوبتي الأشغال الشاقة المؤقتة والسجن في كل جناية تحال إلى محكمة الجنح, وهي نتيجة تتفق مع النتيجة التي تؤدي إليها المادة 17 عقوبات. وللقاضي بعد هذا كله أن يأمر بإيقاف تنفيذ العقوبة إذا كانت بالحبس لمدة لا تزيد على سنة إذا رأى من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى مخالفة القانون (المادة 55 عقوبات) . 499 - العلة في منح القاضي هذا السلطان: وقد اضطر واضعو القانون اضطراراً إلى إعطاء القاضي هذا السلطان الواسع؛ لأنهم رأوا العلماء يخفقون في وضع نظرية علمية للعقوبة ويعجزون عن التوفيق بين مختلف المبادئ التي يراد أن تقوم عليها هذه النظرية, فآثروا أن يحلوا هذه المشكلة المعقدة حلاً عملياً وتركوا للقاضي من بعد التسليم بهذه المبادئ وإقرار نصوص القانون لها أن يوفق هو بين هذه المبادئ المتعارضة, وأن يراعى مختلف الاعتبارات, فعليه أن يقدر خطورة الجريمة وأثرها في الجماعة, وعليه أن يقدر ظروف المتهم الشخصية, وظروفه التي أحاطت به وقت ارتكاب الجريمة, وصلحه مع المجني عليه وصلته به, فإن رأى أن ظروف الجريمة والجماعة تقتضي إهمال شخصية الجاني أهملها وشدد العقوبة. وإن رأى أن ظروف الجاني تقتضي الرأفة أخذ الجاني بالرأفة ما دامت الرأفة لا تضر بالجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 وكان الفروض أن ينجح القضاة فيما أخفق فيه العلماء؛ لأن القاضي يراد منه أن يعالج حالات فردية واحدة بعد واحدة غير متأثر إلا بظروف هذه الحالة وحدها, أما العلماء فيراد منهم أن يعالجوا كل الحالات مرة واحدة ويضعوا لها قواعد تنطبق عامة عليها وتحكمها جميعاً. كان هذا هو المفروض المقدور, فهل صح الفرض ونجح التقدير أم أخفق القضاة كما أخفق من قبلهم العلماء؟ إن مقياس النجاح في هذا الباب هو أثر العقوبة في علاج الجريمة وكبح جماح المجرمين, ونظرة واحدة إلى إحصائيات الجرائم سنة بعد أخرى تقطع بأن القضاة قد أخفقوا إخفاقاً لا يساويه إلا إخفاق من سبقهم من العلماء في معالجة نظرية العقوبة. 500 - لماذا أخفق القضاة في تطبيق نظرية العقوبة؟: والواقع أن الذين قدروا للقضاة النجاح أخطأوا التقدير الصحيح, ولو أنهم أحسنوا تقدير الأمور بعض الشيء لما وقعوا في هذا الخطأ الشنيع, لقد عرفوا أن العلماء قد عجزوا عن تكوين نظرية سليمة للعقوبة؛ لأنهم أرادوا أن يجمعوا بين مبادئ متعارضة ويجعلونها ماثلة في كل العقوبات, فكيف يتوقعون نجاح القضاة وهم يجبرونهم على أن يسلكوا نفس السبيل حين أباحوا لهم يراعوا كل هذه المبادئ في كل جريمة دون استثناء؟ وهل يستطيع القاضي أن يوفق في أي جريمة خطيرة بين خطورة الجرائم وبين ظروف الجاني المخففة إلا على حساب الجريمة بأن ينزل عن العقوبة التي تقتضيها خطورة الجريمة ليحكم بعقوبة تتلاءم مع ظروف الجاني بقدر الإمكان, وهذا الحكم الذي ينقذ الجاني من العقوبة المغلظة يضحي في الوقت نفسه بأمن الجماعة ونظامها, ويؤدي إلى نتيجة لا محيص عنها هي استخفاف المجرمين بالعقوبة وتهالكهم على الجريمة؛ فتزداد الجرائم ويختل الأمن, فالعقوبة التي وضعت لصلاح المجتمع يؤدي إلى إفساده إذا ما أسيء استعمالها, ولابد للقاضي أن يسيء استعمالها على الوجه الذي بينا بحكم الظروف القاهرة التي أحاطه بها القانون الوضعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 لقد رتب القانون تخفيف العقوبة على ظروف الجاني, فهل يصعب في أية جريمة مهما كانت خطورتها أن لا تجد لجانٍ عذراً مخففاً؟ فتارة الجاني شاب يافع وتارة هو متقدم في السن, وتارة دفعته للجريمة الغيرة على الشرف والعرض, وتارة استفز لارتكاب الجريمة, وتارة وقع تحت مؤثرات قوية, وتارة دفعته للجريمة عقيدته السياسية أو الوطنية, إلى غير ذلك من الأعذار التي لا تفرغ منها جعبة الجناة والمدافعين عنهم, وهل يستطيع القاضي أن يصم أذنيه فلا يسمع دفاعاً, ويغلق قلبه فلا يرحم ضعيفاً, ويوقف علقله فلا يفكر في ظروف المتهم ولا يقدرها, خصوصاً إذا أحكم ترتيبها وأحسن عرضها؟ صحيح أن القانون أجاز للقاضي أن يأخذ بظروف الرأفة ولم يلزمه بها, ولكن هذا الجواز بالنسبة للقاضي يساوي تماماً الإلزام بل هو عين الإلزام؛ لأن الاعتراف بالظروف المخففة وترتيب أثر قانوني لها هو بمثابة تقرير حق الجاني قبل القاضي أساسه هذه الظروف المخففة, فأي قاضٍ يستطيع أن ينكر على الجاني حقه, أو يستطيع أن لا يرتب على دفاعه إذا صح أثره؟ وإذا كان واضعو القانون قد غلب على ظنهم نجاح القضاة؛ لأنهم سيعالجون حالات فردية فذلك هو الظن المجرد, وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً, فالقاضي يعالج حقيقة حالات فرادى، ولكنه يعالجها على نفس الأساس الذي كان يعالج به العلماء نظرية العقوبة, فالعلماء ينظرون إلى الجريمة وإلى المجرم معاً, والقاضي ينظر إلى الجريمة والمجرم معاً, والعلماء لا يريدون أن يضحوا بأحد هذين الاعتبارين أحياناً في سبيل الاحتفاظ بالآخر, والقاضي يفعل مثلهم ولا يستطيع أن يضحي بأحد الاعتبارين ويستبقي الآخر, فيؤدي به موقفه إلى أن يضحي بهما معاً وبمصلحة الجماعة وأمنها في أغلب الأحوال. ولقد نسى من وضع هذا السلطان العظيم في يد القضاة أنهم بشر, وأم من طبيعة البشر التهرب من حمل المسئولية, وأن الإنسان إذا خير بين مسئوليات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 سارع إلى حمل أخفها كما يسارع إلى الابتعاد عن أثقلها, ولا يتعرض لحمل المسئوليات الثقيلة إلا كارهاً أو مضطراً حين يجد بداً من حملها أو لا يجد مخرجاً لتركها, فالقاضي يشعر عادة بثقل مسئوليته حين يفكر في الحكم بالإعدام وتنفر نفسه غالباً من مثل هذا الحكم ولا يقدم عليه ما دام يستطيع أن يستبدل الإعدام الأشغال الشاقة, وكذلك ينفر من الحكم بالأشغال الشاقة ويشعر بثقله على نفسه طالما كان في استطاعته أن يحكم بالسجن أو بالحبس, وقد يضايق القاضي أن يحكم على شخص ما لظروفه بالحبس مع النفاذ, ولكنه لا يرى غضاضة في الحكم عليه بالحبس مع إيقاف تنفيذ العقوبة, كذلك لا ينفر القاضي ولا يتردد أن يحكم بعقوبة ما أياً كان نوعها إذا لم يكن يستطيع أن يختار غيرها أو يستبدل بها أخف منها, وليس القاضي بدعاً في هذا, وإنما هي طبيعة الإنسان لا تتغير حتى يتغير تكوينه, فمن طلب منه أن يأتي بما ليس في طبيعته فقد طلب المحال وباء بالخسران والخزلان. 501 - فشل واضعي القانون في علاج مشكلة العقاب ومظاهره: ونستطيع أن نتبين مما سبق أن واضعي القانون قد أخفقوا ذريعاً حين أرادوا معالجة مشكلة العقاب علاجاً عملياً عن طريق القضاة, ويتمثل ذلك الإخفاق في مظهرين لكل منهما أهميته وأثره وهما: أولاً: تعطيل العقوبات الأصلية: ترتب على إعطاء القضاة السلطان التام في اختيار العقوبة واستبدال غيرها بها أن تعطلت العقوبات التي وضعت أصلاً للجرائم بحيث أصبحت في حكم الملغاة؛ لأن القاضي كما قلنا لا يلجأ إلى التشديد إذا سد أمامه باب التخفيف, ويندر أن يغلق دونه هذا الباب, ولا يطبق القاضي العقوبة الأصلية طالما استطاع أن يطبق العقوبة الاحتياطية, وهو لا يكاد يعجز عن ذلك في كل الأحوال. فعقوبة الإعدام وهي مقررة لحوالي عشرين جريمة يندر تطبيقها الآن, مع أن جريمة القتل - وهي إحدى الجرائم العشرين التي يعاقب عليها بالإعدام - تقع بمعدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 تسع جرائم يومياً؛ خمس منها جرائم تامة وأربع منها تقف عند الشروع. وفي سنة 1936 - 1937 كانت جرائم القتل والشروع فيه 3093 جريمة، وفي سنة 1938 - 1939 بلغت 3211 جريمة فهي على خطورتها تزداد عاماً بعد عام, وهذه الزيادة سبب يدعو إلى التشدد في تطبيق عقوبة الإعدام, وإن كانت خطورة الجريمة في ذاتها أدعى إلى هذا التشدد دون نظر إلى غير ذلك من العلل والأسباب. ولكن الإحصائيات - وا أسفاه - ترينا ما لا يراه العقل وتنتهي بنا إلى غير ما ينتهي إليه منطق الأشياء, ترينا أن جرائم القتل تزداد باسمرار والأحكام الرادعة تقل باستمرار, ففي سنة 1936 - 1937 (1) فصلت محاكم الجنائية بالإدانة في 148 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام, وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 22 شخصاً, ولكن محاكم الجنايات لم تحكم بالإعدام إلا على 17 شخصاً فقط واستبدلت للباقين بعقوبة الإعدام عقوبات أخرى, ومعنى ذلك أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 7.6} . وفي سنة 1937 - 1938 قضت محاكم الجنايات بالإدانة في 127 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 181 شخصاً حكم على ستة عشر شخصاً منهم بالإعدام واستبدلت للباقين عقوبة الإعدام عقوبات أخرى، ومعنى ذلك أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 8.8} . وفي سنة 1938 - 1939 قضت محاكم الجنايات بالإدانة في 150 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام, وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 206 شخصاً حكم على تسعة أشخاص فقط من هؤلاء بالإعدام واستبدلت للباقين عقوبات مخففة بعقوبة الإعدام, أي أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 3.4} . وفي سنة 1939 - 1940 قضت محاكم الجنايات   (1) هذا الإحصاء وما يليه مأخوذ من الإحصاء القضائي السنوي لوزارة العدل, وليس لنا فيه إ استخراج النسب المئوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 بالإدانة في 148 قضية قتل من الأنواع التي يجب فيها الحكم بالإعدام, وكان عدد المتهمين في هذه القضايا 195 شخصاً حكم على ستة منهم فقط بالإعدام واستبدلت بعقوبة الإعدام عقوبات مخففة للباقين, أي أن عقوبة الإعدام لم تطبق في القضايا التي يجب فيها إلا بنسبة 3.1} . فمتوسط نسبة الأحكام التي قضت بعقوبة الإعدام في هذه السنوات الأربع المتتالية هي 5.9} وضآلة هذه النسبة وتفاهتها ترجع إلى أنها تحدد أحكام الإعدام لا في جرائم القتل بصفة عامة, ولكن في جرائم التي يوجب فيها القانون الحكم بعقوبة الإعدام دون غيرها. لا يظن أحد أن نسبة أحكام الإعدام كانت مرتفعة في القديم، فإن الإحصائيات تدل على أن هذه النسبة كانت 5.7} في سنة 1926 - 1927, وأنها كانت في السنة التالية لها 2.9} , ويا لها من نسبة قمينة بأن تحيل النظام فساداً والأمن خوفاً!! ولعل واضع القانون لم يدر بخلده يوماً ما أن يصل إلى هذه النتيجة, ولو أنه توقعها لما سمح باستبدال العقوبات المخففة بالعقوبات المشددة. ولعل فيما سبق الدليل الكافي على أن عقوبة الإعدام معطلة, وأنها تكاد تكون حبراً على ورق يعترف بها القانون وينكرها الواقع. وما قيل عن عقوبة الإعدام يمكن أن يقال عن عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة, فإنها لا تكاد تطبق كعقوبة أصلية. وإنما تطبق بدلاً من عقوبة الإعدام. وإذا راجعنا إحصائية العقوبات الصادرة من محاكم الجنايات في سنة 1936 - 1937 نجد أن مجموع المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة 114 شخصاً؛ من هؤلاء تسعة عشر شخصاً حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية, أما الباقون فعقوبتهم مستبدلة بعقوبة الإعدام. وفي سنة 1938 - 1939 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 كان عدد المحكوم عليهم الأشغال الشاقة المؤبدة 114 شخصاً؛ من هؤلاء 33 شخصاً عقوبتهم أصلية والباقون عقوبتهم مستبدلة بالإعدام. وفي سنة 1939 - 1940 كان المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة 123 شخصاً؛ من هؤلاء 31 شخصاً عقوبتهم أصلية والباقون عقوبتهم مستبدلة بالإعدام. ولا تكاد محاكم الجنايات تحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية إلا في القتل الذي لم يقترن بظروف, وإلا في بعض جرائم الشروع في القتل المعاقب عليه بالإعدام, أما بقية الجنايات الأخرى فيندر أن يحكم فيها بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة, فمثلاً تدل الإحصائيات على أنه لم يحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة فيما بين سنة 1936 - 1937 وبين سنة 1939 - 1940 إلا من أجل القتل والشروع فيه, فيما عدا خمسة أشخاص حكم عليهم في كل هذه المدة لسرقات. ومن السهل أن نبين نسبة تطبيق عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية في جرائم القتل الذي لم يقترن بظروف, ففي سنة 1936 - 1937 كانت 7.8} , وفي سنة 1937 - 1938 كانت 15.7} , وفي سنة 1938 - 1939 كانت 8.9} , وفي سنة 1939 - 1940 كانت 12.9} , ومتوسط النسبة في السنوات الأربع هو 11.3} . ولكن من الصعب أن نبين النسبة في جرائم الشروع؛ لأن الإحصائيات تجمل عدد القضايا ولا تبين ما يجب فيه عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة وما لا يجب فيه. ولا نعتقد أنها تزيد على النسبة في جرائم القتل بل إنها قد تقل عنها كثيراً, ففي سنة 1936 - 1937 مثلاً حكم على 438 شخصاً في جرائم الشروع في القتل, ومن هؤلاء أربعة فقط حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبد'. أما النسبة في جرائم السرقة فهي تكاد تكون معدومة, ففي سنة 1936 - 1937 أدين 128 شخصاً, كان يجب أو يجوز طبقاً لنص القانون أن يحكم عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 بالأشغال الشاقة المؤبدة, ولكن لم يحكم على أحد منهم بهذه العقوبة. وفي سنة 1937 - 1938 أدين 124 شخصاً منهم أثنان فقط هما اللذان حكم عليهما بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة كقعوبة أصلية؛ أي بنسبة 1.6} . وفي سنة 1938 - 1939 عوقب 147 شخصاً منهم ثلاثة فقط هم الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة كعقوبة أصلية؛ أي بنسبة 2} . وفي سنة 1939 - 1940 عوقب 148 شخصاً لم يحكم على أحد منهم بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة. وإذن فالإحصائيات تدل على أن عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة تطبق في جرائم السرقة كعقوبة أصلية بنسبة متوسطها 0.9} فقط. وإذا كانت عقوبة الإعدام وعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة قد أصبحت كلتاهما معطلة لا تطبق على الجرائم التي فرضها لها القانون, فإن عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة وعقوبة السجن قد لقيت كلتاهما مثل هذا المصير؛ ذلك أن الجنايات المعاقب عليها بعقوبتي الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن تحال على محكمة الجنح للفصل فيها على أساس عقوبة الجنحة إذا كان للمتهم أعذار معينة أو ظروف مخففة, وهذه الجنايات التي تحال إلى محكمة الجنح قد تبلغ أحياناً نصف ما يحال على محاكم الجنايات, ومعنى هذا أن ثلث مجموع الجنايات تقريباً يعاقب عليه بعقوبة الحبس بينما عقوبته الأصلية الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن. والمفروض في القضايا التي تحال على محاكم الجنايات أنها نوعان: نوع عقوبته الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة، وقد تدعو ظروف المتهمين فيه إلى استعمال الرأفة وقد لا تدعو لذلك, ونوع عقوبته الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن, وظروف المتهمين فيه كما رأى قاضي الإحالة لا تدعو لاستعمال الرأفة, فكان المنطق يقضي بأن هذا النوع الثاني يحكم فيه على المتهمين بالعقوبات الأصلية, ولكن الواقع لا يتفق دائماً مع المنطق, فإن كثيراً من قضايا هذا النوع يحكم فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 بالحبس بدلاً من العقوبات الأصلية (1) ؛ لأن ظروف الرأفة تظهر دائماً أمام محكمة الموضوع وإن لم تظهر في كل أدوار التحقيق, ولأن المتهمين لا يعجزون عن إظهار أنفسهم في مظهر المستحق للرأفة. ونستطيع أن نصل إلى نسبة دقيقة في كل الجنايات إذا راجعنا العقوبات التي تصدر فيها سواء من محاكم الجنايات أو محاكم الجنح. ففي سنة 1936 - 1937 حكمت محكمة الجنايات بالعقوبة في 2482 جناية على 3063 شخصاً, ومن هؤلاء 941 شخصاً حكم عليهم بعقوبة الجنحة. وفي نفس العام حكمت محاكم الجنح في 1154 جناية على 1416 شخصاً بعقوبة الجنحة, فأصبح عدد المحكوم عليهم بعقوبة الجنحة 2122 شخصاً, والمحكوم عليهم بعقوبة الجنحة 2375 شخصاً، أي أن 52.6} من الجنايات حكم فيها بعقوبة الجنحة بدلاً من عقوبتها الأصلية. وفي سنة 1937 - 1938 حكمت محكمة الجنايات بالعقوبة في 2408 جناية على 2915 شخصاً منهم 832 حكم عليهم بعقوبة الجنحة. وفي نفس العام حكمت محكمة الجنح في 1045 جناية على 1362 شخصاً, فكان عدد المحكوم عليهم بعقوبة الجناية 2103 وعدد المحكوم عليهم بعقوبة الجنحة 2194 شخصاً, أي أن 51} من الجنايات حكم فيها بعقوبة الجنحة بدلاً من العقوبات الأصلية. وفي سنة 1938 - 1939 كانت النسبة 49.7} وفي سنة 1939 - 1940 كانت النسبة 49.6} . فمتوسط ما يحكم فيه سنوياً من الجنايات بعقوبة الجنحة 50.7} من مجموع كل الجنايات. وهكذا تنتهي عقوبات الجنايات هذه النهاية السيئة, فعقوبة الإعدام لا تطبق إلا على أقل من 6} من الجرائم التي جعلت عقوبة لها, وعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة لا تطبق في بعض الجرائم كعقوبة أصلية, فإذا طبقت في البعض   (1) أخذت هذه النسبة من كشف العقوبات التي حكمت بها محاكم الجنايات في سنة 1939- 1940 من مقارنة المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤقتة والسجن بعدد المحكوم عليهم بالحبس في كل الجنايات عدا جنايات القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 الباقي تراوحت نسبتها المئوية بين 11.1} . وعقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة والسجن لا تطبق إحداهما إلا على 35} من الجرائم المقررة لها باعتبار أن نصف الجرائم جنح, وأن 30} من الباقي يحكم فيه بعقوبة الجنحة. ومعنى ما سبق أن تطبيق العقوبات على الجرائم نزل بها درجة أو أكثر, فنزل بالإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة, ونزل بهذه إلى الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن, ونزل بكل من هاتين إلى عقوبة الحبس. ولعلنا بهذا الاستدلال قد أدركنا إلى أي حد تعطلت العقوبات الأصلية وأحطنا جيداً بمعنى هذا التعطيل. ثانياً: الميل إلى تخفيف العقوبات: قلنا: إن القانون جعل لكل عقوبة حدين يرتفع أحدهما بالعقوبة إلى نهاية التغليظ, وينزل بها الثاني إلى نهاية التخفيف, وقد خول القانون القضاة حق تقدير العقوبة من بين هذين الحدين, ولكنهم يميلون غالباً للتخفيف وينزلون في أكثر من الأحوال إلى حدها الأدنى؛ متأثرين في ذلك بمختلف العوامل التي سبق شرحها. ولست أسوق دليلاً على هذا القول إلا الإحصاءات الرسمية (1) . ففي سنة 1936 - 1937 حكم على 1165 شخصاً بالأشغال الشاقة المؤقتة فكانت نسبة المحكوم عليهم من هؤلاء بأدنى العقوبة وهي ثلاثة سنوات 33.2} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة 15.4} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمتوسط العقوبة 51.4} . وفي نفس السنة حكم بالسجن على 744 شخصاً فكانت نسبة من حكم عليهم بأدنى العقوبة وهي ثلاثة سنوات 58} , وكانت نسبة من حكم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة 1.8} , وكانت نسبة من حكم عليهم بمتوسط العقوبة 40.2} . وفي نفس السنة حكم على 40090 شخصاً بالحبس مع الشغل   (1) أخذت هذه الإحصاءات من تقارير مصلحة السجون السنوية, واستخرجت النسبة المئوية بمعرفتنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 , وكانت نسبة المحكوم عليهم بثلاثة أشهر فأقل 56.3} وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين ثلاثة أشهر وسنة واحدة 32.4} ,وكانت نسبة المحكوم عليهم بسنة فأكثر 11.3} . وفي نفس السنة حكم بالحبس البسيط على 23925 شخصاً, فكانت نسبة المحكوم عليهم بثلاثة أشهر فأقل 99.6} ونسبة المحكوم عليهم بأكثر من تسعين يوماً 0.4} . وفي سنة 1938 - 1939 كانت نسبة المحكوم عليهم بأدنى عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة إلى مجموع المحكوم عليهم 48.9} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وهمس عشرة سنة 13.4} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمتوسط العقوبة 37.7} . وفي نفس السنة كانت نسبة المحكوم عليهم بأدنى عقوبة السجن 69.3} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمدد تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة 1.6} , وكانت نسبة المحكوم عليهم بمتوسط العقوبة 29.1} , وفي نفس السنة كانت النسبة بين الحكوم عليهم بالحبس مع الشغل أو الحبس البسيط تكاد تعادل النسب التي بيناها عن سنة1936 - 1937. وهذا هو لسان الإحصاء الذي لا يكذب, وإنه لقاطع في أن المحاكم تنفر من التشديد, وإنها تميل بالعقوبة إلى التخفيف أكثر مما تميل بها إلى الاعتدال. ويجب أن لا ننسى بعد هذا أن العقوبة خففت قبل ذلك مرة أخرى حين استبدلت بالعقوبة الأصلية عقوبة أخرى, ومعنى ها أن المحاكم تخفف العقوبة مرتين: مرة عند اختيارها أو عند قبول الظروف المخففة, ومن عند تقديرها والنطق بها. 502 - علة تعطيل العقوبات وتخفيفها: رأينا فيما سبق كيف تعطلت العقوبات الأصلية وكيف تتجه المحاكم إلى تخفيف العقوبة بقدر الإمكان, ولهاتين الظاهرتين الخطيرتين علة واحدة هي أن القانون قد جعل العقوبة للزجر والتأدب, واعترف بأن لشخصية المجرم وظروفه أثراً على العقوبة, والقاضي ملزم حين يوقع العقوبة أن يراعي هذين المبدأين معاً في الجرائم الخطيرة والبسيطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 على السواء؛ لأن القانون لم يهمل شخصية المتهم في الجرائم الخطيرة الماسة بكيان الجماعة كما فعلت الشريعة، وكلا المبدأين مناقض للآخر, فتحقيق الزجر والتأديب يقتضي تشديد العقوبة, ومراعاة شخصية المتهم تقتضي تخفيف العقوبة, ولا يستطيع القاضي أن يفعل شيئاً لإزالة هذا التناقض إلا أن يوفق بين المبدأين بقدر الإمكان, ولكنه حين يفعل يتجه دائماً ناحية المتهم؛ لأنه هو الذي يكون ماثلاً أمامه بمادته ومعناه يسترحمه ويستعطفه ويعرض ظروفه ويبرر موقفه, أما مصلحة الجماعة فلا تكون وقت المحاكمة ممثلة في ذهن القاضي بالقوة التي تتمثل بها مصلحة المتهم, ولذلك لا تراعى بالقدر الذي يراعى به المتهم, وتكون النتيجة ما رأينا من تعطيل العقوبات وتخفيفها. 503 - هل نجحت العقوبات القانونية في محاربة الإجرام؟: شرعت العقوبات ولا تزال لمحاربة المجرمين والإجرام, وحين يراد تحريم فعل معين تقدر له العقوبات التي يرى أنها كفيلة بزجر الناس عن إتيان هذا الفعل المحرم, فإن أدت العقوبة بالناس إلى أن يمتنعوا عن الفعل المحرم فقد نجحت العقوبة وأدت الغرض منها, وإن لم يزدجر الناس عن الفعل المحرم حاول أولو الأمر أن يعاقبوا عليه بعقوبة أكثر ردعاً من العقوبة السابقة. فالمقياس الصحيح لنجاح عقوبة ما هو أثرها على المجرمين والجريمة, فإن نقص عدد المجرمين وقلت الجرائم فقد نجحت العقوبة, وإن زاد عدد المجرمين والجرائم فقد فشلت العقوبة, ووجب أن تستبدل بها عقوبة أخرى قمينة بأن تردع المجرمين وتصرفهم عن ارتكاب الجرائم. ولقد علمنا أن القانون المصري قرر عقوبات الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة والسجن والحبس والإرسال للإصلاحية, ونحب أن نعرف إلى أي مدى نجحت هذه العقوبات, وكيف كان أثرها على المجرمين والجريمة. وهذه العقوبات على تعددها هي عقوبتان: الإعدام, والحبس بوجه عام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 504 - الإعدام: فأما الإعدام فلا شك في أنه عقوبة رادعة, وقد قررت لأقل ما يمكن من الجرائم, ولا يكاد تقع في حياتنا اليومية جرائم يعاقب عليها بالإعدام إلا جرائم القتل, وقد بينا مستندين إلى الإحصاءات نسبة تطبيق عقوبة الإعدام في الجرائم الي يعاقب عليها وجوباً بالإعدام فإذا هي في المتوسط أقل من 6} , وهي نسبة ضئيلة تشجع على الإجرام ولا تردع عنه, والذين يتصلون بدور القضاء يعلمون أن القاتل اليوم لا يبالي أن يقتل ويعترف بجريمته, وإنما يبالي ويهتم بأن يركز دفاعه في طلب الرأفة ليفلت بجلده من عقوبة الإعدام وهو يصل غالباً إلى ما يتمناه. ولست أدري كيف نقبل أعذار القتلة والسفاحين وهم لا يقبلون عذراً من ضحاياهم؟ وكيف نرحمهم ولا يرحمون فرائسهم؟ وإذا كان القاتل لا يقتل وفي قلبه ذرة من الرحمة, ولا يقتل إلا بعد تفكير وتدبير وإصرار على القتل وترصد للمقتول, فليت شعري أية ظروف بعد هذا كله تحملنا على أن نعامله بالرأفة والرحمة؟ وإذا كان القانون نفسه قد فرق بين القتل بالتسميم, والقتل المسبوق بسبق إصرار وترصد أو المقترن بجريمة أخرى أو المقصود به تسهيل ارتكاب الجرائم, إذا كان القانون قد فرق بين هذه الأنواع وبين القتل الذي يقع دون ترتيب لوسائله أو تفكير سابق فيه, وجعل عقوبة الأنواع الأولى الإعدام وعقوبة النوع الثاني الأشغال الشاقة, فكيف سوينا بين المختلفين, ولم نفرق في العقوبة بين النوعين؟ وكيف طبقنا عقوبة الإعدام في حدود هذه النسبة الضيقة بحجة استعمال الرأفة؟ وهل أصبح المجرمون اليوم مستحقين للرأفة والرحمة بنسبة 94.1} في الجرائم التي لا تستحق أصلاً رأفة أو رحمة؟ إن جرائم القتل التي تقع كل عام تعادل 35} من مجموع الجنايات كلها, وهي تزداد عاماً بعد عام, ففي سنة 1935 - 1936 كان عدد جنايات القتل والشروع فيه 2857 وكان مجموع الجنايات 7976. وفي سنة 1936 - 1937 كان عدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 جنايات القتل والشروع فيه 3093 بينما كان مجموع الجنايات كلها 8618. وفي سنة 1937 - 1938 كان عدد جنايات القتل والشروع فيه 3319 جناية وكان مجموع الجنايات كلها 9232. ولعل هذه الزيادة المتجددة ترجع قبل كل شئ إلى استعمال الرأفة. فعيب عقوبة الإعدام إذن يرجع إلى تطبيقها لا إلى طبيعتها, وقد جاء هذا العيب من إباحة قبول الظروف المخففة في الجرائم المعاقب عليها بالإعدام أو على الأقل في جريمة القتل, أو حرم على القضاة أن يستبدلوا بعقوبة الإعدام عقوبة أخرى - لكان لعقوبة الإعدام أثرها الذي لابد منه في تقليل جرائم القتل, ولحل جانب خطير من مشكلة الإجرام. 505 - عقوبات الحبس وعيوبها: أما عقوبات الأشغال الشاقة بنوعها والسجن والحبس فهي كما قلنا من قبل ليست في جوهرها إلا عقوبة الحبس الذي يتفاوت في مدته أكثر مما يتفاوت في نوعه, وعقوبة الحبس هذه هي العقوبة الأساسية لمعظم الجرائم, يجازى بها المجرم الذي ارتكب جريمةته لأول مرة ويجازى بها المجرم العاتي الذي تخصص في الإجرام, ويجازى بها الرجال والنساء والشبان والشيب, ويجازى بها من ارتكب جريمة خطيرة ومن ارتكب جريمة تافهة, وتنفذ العقوبة على هؤلاء جميعاً بطريقة واحدة تقريباً, وقد أدى تطبيق هذه العقوبة على هذا الوجه إلى نتائج خطيرة ومشاكل دقيقة نبسطها فيما يلي: 1 - إرهاق خزانة الدولة وتعطيل الإنتاج: يوضع المحكوم عليهم بعقوبة الحبس على اختلاف أنواعها في محابس يقيمون بها حتى تنتهي مدة العقوبة, ولهذه المحابس أسماء مختلفة, وأقلها درجة: السجون المركزية, ويوضع بها المحكوم عليهم بالحبس ثلاثة أشهر فأقل. ويليها في الدرجة: السجون العمومية, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 ويوضع فيها المحكوم عليهم بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر والمحكوم عليهم بالسجن والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة من النساء أو الرجال المتقدمين في السن. ويلي السجون العمومية: الليمانات, ويوضع فيها المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة. وهناك إصلاحيات الرجال ويوضع فيها معتادو الإجرام, أما إصلاحيات الأحداث فهي للأطفال الذين تزيد أسنانهم على سبع سنوات. وقد بلغ عدد المحكوم عليهم بالحبس بمختلف أنواعه 127090 شخصاً في سنة 1938 - 1939, ولا يدخل في هذا العدد من حكم عليهم بالحبس من المحاكم المركزية. ويتزايد عدد المحكوم عليهم باستمرار سنة بعد أخرى, وقد بلغ متوسط المسجونين يومياً 25515 في سنة 1938 - 1939 بزيادة 5974 عن السنة السابقة. والمحكوم عليهم يكونون في الغالب من الأشخاص الأصحاء القادرين على العمل, فوضعهم في السجون هو تعطيل لقدراتهم على العمل وتضييع لمجهود كبير كان من الممكن أن يبذلوه فيستفيد منه المجتمع لو عوقبوا بعقوبة أخرى غير الحبس تكفي لتأديبهم وردع غيرهم. ولا شك أن هنا من العقوبات ما يمكن أن يؤدي وظيفة الزجر والردع, ويكون له أثره في محاربة الجريمة دون أن يؤدي إلى تعطيل مجهود المحكوم عليه, كالجلد مثلاً فإن تنفيذ هذه العقوبة ليس له أثر في الغالب على إنتاج المحكوم عليه وقيامه بعمله اليومي. ولقد حاولت مصلحة السجون أن تستغل قدرة المسجونين على العمل, ولكنها لم تستطع حتى الآن أن توجد عملاً إلا لعدد قليل من المسجونين, أما الباقون فيكادون يقضون حياتهم في السجون دون عمل؛ يأكلون ويتطببون ويلبسون على حساب الحكومة. وقد بلغت نفقات مصلحة السجون 862125ج في سنة 1938 - 1939 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 منها مبلغ 150000ج أثمان الخدمات التي يقوم بها المسجونون, فكأن ميزانية الدولة تتحمل 532125ج تنفق سنوياً على المسجونين, ولو أضيف إلى هذا المبلغ الضخم ما يخسره المجتمع كل عام من تعطل هؤلاء المسجونين عن الإنتاج على فرض أن كل مسجون ينتج سنوياً ما يساوي أربعة وعشرين جنيهاً لبلغت خسارة الأمة في سبيل عقوبة الحبس 2582285ج سنوياً. 2 - إفساد المسجونين: وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنوياً لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين, ولكنها في الواقع تؤدي بالصالح إلى الفساد فساداً على فساده, فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه, وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجرم العادي, كما يضم السجن أشخاصاً ليسوا مجرمين حقيقيين وإنما جعلهم القانون مجرمين اعتباراً؛ كالمحكوم عليهم في حمل الأسلحة, أو لعد زراعة نسبة معينة من القمح والشعير, وكالمحكوم عليهم في جرائم الخطأ والإهمال, واجتماع هؤلاء جميعاً في صعيد واحد يؤدي إلى تفشي عدوى الإجرام بينهم, فالمجرم الخبير بأساليب الإجرام يلقن ما يعلمه لمن هم أقل منه خبرة, والمتخصص في نوع من الجرائم لا يبخل بما يعلمه عن زملائه, ويجد المجرمون الحقيقيون في نفوس زملائهم السذج أيضاً خصبة يحسنون استغلالها دائماً, فلا يخرجون من السجن إلا وقد تشبعت نفوسهم إجراماً. ولقد دلت المشاهدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمة؛ كضبط قطعة سلاح معه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين, ويأنف أن يكون منهم, فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترفه بل صار يتباهى به, وكان هذا مما أدى بالقضاة إلى أن صاروا يشفقون من الحكم بالحبس في الجرائم الاعتبارية التي لا يتمثل فيها روح الإجرام الحقيقي, كما أنهم يوقفون تنفيذ العقوبة في الجرائم الحقيقية إذا كان المجرم مبتدئاً, لأنهم يخشون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 أن يدخل الجاني السجن بريئاً من الإجرام أو مبتدئاً فيه فيخرج من السجن مملوئاً بالإجرام متفقهاً في أساليبه. فالسجن الذي يقال عنه أنه إصلاح وتهذيب ليس كذلك في الواقع, وإنما هو معهد للإفساد وتلقين أساليب الإجرام. وقد شعرت الحكومة بوطأة هذه الحالة فهي تحاول أن تصلح من هذا العيب. ولكن أساس الإصلاح يدل على أنه لن يكون ناجعاً, إذ أنها تريد أن تقسم السجون على أساس نوع العقوبة وأسنان المحكوم عليهم, وهذا التقسيم سيبقي الحالة على ما هي عليه؛ لأنه يجمع بين ذوي العقوبة الواحدة في محبس واحد, وبعضهم قد يكون مبتدئاً لا يعلم كثيراً عن الإجرام والبعض من عتاة المجرمين, واختلاط هؤلاء من نفس العيب الذي يراد علاجه, أما جمع الشبان في محبس واحد والكهول في محبس واحد فلن يكون علاجاً؛ لأن الإحصائيات تدل على أن أكثر المجرمين من الشبان, ففي سنة 1938 - 1939 كان عدد المسجونين الشبان 5277 أي نسبة 62} من مجموع من دخلوا السجن, ومن هؤلاء 1505 شخصاً يتراوح سنهم بين 16, 20 سنة والباقون يتراوح عمرهم بين 22 - 30 سنة, فعدد المجرمين من الشبان أكثر من عددهم من بين الرجال والمسنين, ووجود الشبان المحكوم عليهم لأول مرة مع شبان من وي السوابق كفيل بأن يخلق الأولين بأخلاق الآخرين. 3 - انعدام قوة الردع: إن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة, ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين, فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقة - وهي أقصى أنواع الحبس - لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم, ولو كانت العقوبة رادعة لما عادوا لما عوقبوا عليه بهذه السرعة. وتدل الإحصائية رقم 44 من تقرير مصلحة السجون عن سنة 1938 - 1939 على أن 45} من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة عادوا إلى ارتكاب الجرائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 بعد الإفراج عنهم بمدد تتراوح بين خمسة عشر يوماً وسنة, بل إن هذه الإحصائية تدل على أن 43} من المحكوم عليهم بالإرسال لإصلاحية الرجال ما كادوا يخرجون من الإصلاحية حتى ارتكبوا جرائم أعادتهم إليها, وأنهم ارتكبوا جرائمهم في مدة تتراوح بين 21 يوماً وسنة من تاريخ خروجهم من الإصلاحية, والمفروض أن عقوبة الإرسال إلى الإصلاحية من أكثر العقوبات ردعاً, وأن المجرم لا يخرج منها إلا بعد أن تتوافر الأدلة على تركه الإجرام وميله إلى الاستقامة. وتلد الإحصائية رقم 47 من تقرير مصلحة السجون المشار إليه سابقاً على أن حوالي ثلث الموجودين في إصلاحية الرجال دخلوها للمرة الثانية والثالثة والرابعة. ومما يدل على أثر السجن بصفة عامة في نفوس المجرمين الإحصائية رقم 46 من تقرير مصلحة السجون لسنة 1938 - 1939, فهي تشير إلى أنصف من في الإصلاحية تقريباً لهم سوابق في الإجرام من خمس مرات إلى عشر, وأن حوالي الثلث لهم من عشر سوابق إلى خمس عشرة سابقة, وأن الباقين تتراوح سوابقهم بين خمس عشرة سابقة وأربعين سابقة, فلو أن السجن يردع المجرمين حقيقة لما عاد المجرم للإجرام خمس مرات وعشر مرات وأربعين مرة. وتلد الإحصائية رقم 43 من التقرير المشار إليه سابقاً على أن الذين يعودون لإصلاحية الرجال بعد خروجهم منها يزداد عددهم باستمرار, ففي سنة 1916 كانت نسبة العائدين إلى مجموع من في الإصلاحية 10.8} وفي سنة 1926 ارتفعت النسبة إلى 20.6} وفي سنة 1936 بلغت 38.7} . ومما يدل أيضاً على أن عقوبة الحبس ليس لها أثر على المجرمين ازدياد جرائم العود سنة بعد أخرى, فقد وصلت هذه الجرائم إلى 872 جناية في سنة 135 - 1936, ثم ارتفعت إلى 939 جناية في سنة 1936 - 1937, ثم بلغت 1023 جناية في السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 التي تليها, وجنايات العود هذه لا تقع إلا من المجرمين أرباب السوابق المتعددة. 4 - قتل الشعور المسئولية: وعقوبة الحبس غير أنها غير رادعة تؤدي إلى قتل الشعور بالمسئولية في نفس المجرمين وتحبب إليهم التعطل, فالكثير من المسجونين يقضون في السجن مدداً طويلة نوعاً ما ينعمون فيها بالتعطل من العمل ويكفون فيها مئونة أنفسهم من مطعم وملبس وعلاج, والمشاهد أن هؤلاء يكرهون أن يلقى بهم خارج السجن ليواجهوا حياة العمل والكد من جديد, وأنهم يموت فيهم كل شعور بالمسئولية نحو أسرهم بل نحو أنفسهم, فلا يكادون يخرجون من السجن حتى يعملوا للعودة إليه, ولا حباً في الجريمة ولا حرصاً عليها وإنما حباً في العودة إلى السجن وحرصاً على حياة البطالة. 5 - ازدياد سلطة المجرمين: ومن المجرمين من يغادر السجن ليعيش عالة على الجماعة, يستغل جريمته السابقة لإخافة الناس وإرهابهم وابتزاز أموالهم, ويعيش على هذا السلطان الموهوم وهذا المال المحرم دون أن يفكر في حياة العمل الشريف والكسب الحلال. ولقد أصبح سلطان هؤلاء المجرمين على السكان الآمنين يزاحم سلطان الحكومات بل أصبح المجرمون في الواقع أصحاب الكلمة النافذة والأمر المطاع. ومن الوقائع التي أعرفها ويعرفها غيري أن رجال الإدارة يستعينون بالمجرمين أيام الانتخابات العامة ليوجهوا الناخبين المتمسكين بحزبيتهم وجهات معينة بعد أن يعجزوا هم عن هذا التوجيه. وقد أدى هذا المركز الخطير الذي يحتله المجرمون إلى زيادة المجرمين الشبان الذين يتطلعون بدافع من طموحهم إلى نوال كل مركز ممتاز, كما أدى إلى قلب الموازين والأوضاع, فبعد أن كانت الجريمة عاراً وذلك في القديم أصبحت اليوم مدعاة للتباهي والتفاخر, وبعد أن كان المجرم يطرد ذليلاً مهاناً أصبح اليوم عزيز الجانب مسموع الكلمة نافذ السلطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 6 - انخفاض المستوى الصحي والأخلاقي: وتنفيذ عقوبة الحبس يقتضي وضع عدد كبير من الرجال الأصحاء الأقوياء في مكان واحد لمدد مختلفة يمنعون فيها من التمتع بحرياتهم ومن الاتصال بزوجاتهم, ولما كان عدد المحبوسين يزيد عاماً بعد عام والمحابس لا تزيد, فقد اضطر ولاة الأمور إلى حشرهم حشراً في غرف السجون كما يحشر السردين في علبته, وبحيث أصبحت السجون العمومية والليمانات تضم بين جدرانها عدداً يتراوح بين ثلاثة وأربعة أمثال العدد المقرر لها من الناحية الصحية (1) . أما السجون المركزية هي عادة لا تزيد على غرفتين صغيرتين ولا يقل العدد الذي تضمه في المتوسط عن ستين شخصاً, وبينما تتوافر الوسائل الصحية نوعاً ما في السجون العمومية فإنها تنعدم في السجون المركزية, فلا يوجد في كل السجون المركزية بالقطر المصري فراش للمساجين الذين يقضون مدة حبسهم جلوساً أو نياماً على الأسفلت, كما أن الأغطية في هذه السجون تكاد تكون منعدمة. وقد أدى ازدحام السجون وعدم توافر الوسائل الصحية بها وحرمان المسجونين من الاتصال بزوجاتهم إلى انتشار الأمراض السرية والجلدية والصدرية, وغيرها من الأمراض الخطيرة بين المسجونين, وتدل إحصائيات سنة 1939 (2) , وهي خاصة بالسجون العمومية والليمانات, على أن 3993 مسجوناً أصيبوا بنزلات شعبية, و369 بالتدرن الرئوي وأدران أخرى, و422 بالسيلان, 1160 بالزهري, و4128 بالجرب, و1534 بالقراع, 5333 بأمراض جلدية أخرى, 219 بقمل العانة, و8618 بخراجات ودمامل, 926 بالروماتيزم, بل لقد بلغت حالة الإصابات والأمراض بين المسجونين 74000 حالة في سنة 1939. وفي عدد هذه الحالات الضخم وفي أنواع الأمراض التي بيناها ما يقطع بانخفاض المستوى الصحي والأخلاقي بين المسجونين.   (1) الإحصائية رقم 1 من تقرير مصلحة السجون لسنة 1938- 1939. (2) الإحصائية رقم 20 من تقرير مصلحة السجون لسنة 1938- 1939. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 فالسجون إذن أداة لنشر الأمراض بين المسجونين, ولإفساد أخلاقهم وتضييع رجولتهم, ولا يقتصر شر السجون على هذا, بل إنها تؤدي إلى فساد الأخلاق في خارجها, لأن وضع الرجال في السجون معناه تعريض زوجات هؤلاء الرجال وبناتهم وأخواتهم إلى الحاجة وإلى الفتنة ووضعهن وجهاً لوجه أمام الشيطان. 7 - ازدياد الجرائم: وقد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها لمحاربة الجريمة, ولكن الإحصائيات التي لا تكذب تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعي النظر وتبعث على التفكير الطويل, فقد كان عدد الجنايات في سنة 1906 لا يزيد على 3586 جناية فإذا به في 1912 يبلغ 4008 جناية, ثم يصل في سنة 1918 - 1919 إلى 6779 جناية, وفي سنة 1926 - 1927 يصل إلى 8012 جناية. وفي سنة 1938 - 1939 يصل إلى 9286 جناية. أما الجنح فكان عددها في سنة 1906 لا يزيد على 32810, وفي سنة 1912 أصبح 93743, وفي سنة 1926 - 1927 بلغ عددها 167677 جنحة, وفي سنة 1938 - 1939 بلغ عدد الجنح 382828. وهكذا في ظرف أثنين وثلاثين عاماً بلغ عدد الجنايات ثلاثة أمثال ما كان عليه, وبلغ عدد الجنح أكثر من أحد عشر مثلاً. وقد يقال: إن عدد الجنح لا يمثل الزيادة الحقيقية؛ لأن الجنح المعاقب عليها يزيد عاماً بعد عام فتزداد تبعاً لذلك في مجموعها, وهو قول صحيح إلى حد ما, فلنترك العدد العام للجنح ولنأخذ جريمة السرقة مقياساً فهي أحرى أن تصل بنا إلى نسبة الزيادة الصحيحة, ففي سنة 1991 كان عدد جنح السرقة 9356, وفي سنة 1901 بلغ عدد الجنح 15993 جنحة, وفي سنة 1912 بلغ 23834 جنحة, وفي سنة 1916 بلغ 44110, وفي سنة 1926 بلغ 54326 جنحة, وفي سنة 1939 بلغ 65587 جنحة. ومعنى هذا أن عدد جنح السرقة زاد في ثمانية وأربعين عاماً سبعة أمثال ما كان عليه, وهي نسبة لا تبررها زيادة السكان ولا يقوم بها أي عذر مهما اختلفت المعازير, فالسكان لم يتضاعف عددهم مرة واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 فكيف تتضاعف الجنح سبع مرات والجنايات ثلاث مرات؟ والحالة الاقتصادية مهما قيل فيها لا يكون سبباً في ازدياد الجرائم ما دامت العقوبة رادعة, وليس أدل على صحة هذا القول من الحالة في المملكة الحجازية, فلا شك أن الحالة الاقتصادية والاجتماعية في مصر أفضل منها في الحجاز, ومع ذلك فقد قلت الجرائم في الحجاز وازدادت في مصر, وانتشر الأمن هناك واختل هنا. ولقد كان الحجاز في يوم ما مضرب الأمثال في اختلال الأمن والنظام والجرأة على ارتكاب الجرائم وترويع الآمنين والحجاج المسافرين وقطع الطرق عليهم لنهب مالهم ومتاعهم, ولعل الحالة الاقتصادية والاجتماعية في الحجاز الآن ليست خيراً منها يوم كان الفساد مستشرياً في الحجاز, والفرق بين الحجاز قديماً وحديثاً وهو نفس الفرق بين مصر والحجاز اليوم, هو وجود العقوبة الرادعة في الحجاز الآن وانعدام هذه العقوبة في مصر اليوم, فهذه العقوبة الرادعة هي التي وطدت الأمن في الحجاز وقضت على السلب والنهب وقطع الطريق وجعلت الأمن فيه مضرب الأمثال, فلا يسقط من مسافر شئ إلا وجده دار الشرطة, ولا يضيع لأحد شيء إلا رد إليه حيث كان ولو لم يبلغ بضياعه ما دام مع المال ما يدل على اسم صاحبه. فمن الخطأ إذن بعد قيام هذا المثل العلمي أن نحتج لزيادة الجرائم بالحالة الاجتماعية والاقتصادية أو بازدياد السكان؛ لأن الجريمة مرض علاجه العقوبة, فإذا نجح أولو الأمر في وصف العلاج الذي يوافق المرض انتهى المرض أو سكنت حدته على أقل الفروض, وإن لم يوفق أولو الأمر في وصف العلاج الناجع طال المرض وأعضل وعانى منه المجتمع أشد المعاناة. 506 - كيف نتخلص من عيوب الأنظمة الوضعية: تبينا فيما سبق النتائج السيئة للعقوبات التي فرضتها علينا الأنظمة الوضعية, فإذا هي تضييع للأموال والجهود وإفساد للنفوس والأخلاق والصحة, وليس بعد ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 إلا ازدياد الجرائم وجرأة المجرمين, والإخلال بالأمن وتوهين النظام, وذهاب هيبة الحكومة وسطوتها وفرض سلطان الأشقياء والمجرمين على السكان الآمنين, ولا خلاص من هذه النتائج المحزنة إلا بالتخلص من النظام كله, وإن في بعض هذه النتائج ما يكفي وحده لإلغاء هذا النظام. وإذا كان الناس لا يلغون أنظمتهم بسهولة ولو تيقنوا من فسادها إلا إذا وجدوا خيراً منها, فإن لدينا نظاماً هو خير الأنظمة التي عرفها البشر وأقدرها على حماية الجماعة ومكافحة الجريمة وإصلاح المجرم, ذلك هو النظام الإسلامي الذي أثبتت التجربة نجاحه في كفاح الجريمة والقضاء على الإجرام. وليست ميزة النظام الإسلامي الوحيدة في أن التجربة أثبتت نجاحه وصلاحيته, ولكنه يمتاز أيضاً بأن الأسس التي يقوم عليها كفيلة بأن تقضي على العيوب التي تصحب العقوبة الوضعية, كما هي كفيلة بأن توفر على العالم المجهودات العظيمة التي تبذل لتخفيف أضرار هذه العقوبات والأموال الكثيرة التي تنفق في سبيل تنفيذها. وأول عيوب النظام الوضعي أنه يؤدي إلى تعطيل العقوبات الأصلية وتخفيفها, وفي الشريعة ما يحول دون ذلك في الجرائم الخطيرة التي تمس كيان الجماعة, حيث تفرض الشريعة لهذه الجرائم عقوبات مقدرة معينة ليس للقاضي أن ينقص منها شيئاً أو يستبدل بها غيرها مهما كانت ظروف الجاني؛ لأن مصلحة الجماعة في هذه الجرائم الخطيرة توضع فوق كل مصلحة وتتغلب على كل اعتبار, أما الجرائم التي لا تمس كيان الجماعة فيجوز للقاضي فيها أن ينظر إلى شخصية الجاني ولو أدى ذلك لتخفيف العقاب ما دام يؤدي إلى إصلاح الجاني في الوقت نفسه (1) . والعيب الثاني للنظام الوضعي أنه يفرض في معظم الجرائم عقوبات لا تتنوع هي الحبس الذي يختلف شدة وضعفاً بحسب نوع الحبس, والذي يؤدي تنفيذه   (1) راجع الفقرتين 51, 440. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 إلى وضع عدد كبير من الرجال الأصحاء القادرين على العمل في المحبس والإنفاق عليهم دون أن يؤدوا عملاً مجدياً فتخسر الأمة من وجهين: تخسر المال الذي تنفقه على المحبوسين, وتخسر ما كان يمكن ينتجه هؤلاء لو لم يوضعوا في المحابس, ولكن هذه الخسائر تنتفي لو نفذ النظام الإسلامي؛ لأن الشريعة لا تعرف الحبس في جرائم الحدود والقصاص, وهي كما بينا تبلغ ثلثي (1) الجرائم عادة. كما أن الشريعة تفضل في التعازير عقوبة الجلد على عقوبة الحبس, ولا تفضل عقوبة الحبس إلا إذا كان حبساً غير محدود المدة حيث يبقى المجرم بعيداً عن الجماعة مكفوفاً شره وأذاه حتى يموت, ولا يحكم هذا النوع من الحبس إلا في الجرائم الخطيرة أو على المجرمين العائدين. وإذا فرض أن عقوبة الجلد تطبق في نصف الجرائم الباقية كان الباقي الأخير من الجرائم حوالي 15} من مجموع الجرائم يقسم بين عقوبات الحبس والغرامة والتغريب وغير ذلك من عقوبات التعازير المتعددة. والمفروض أن الجرائم التي يجلد فيها هي جرائم التعازير الخطيرة, فالجرائم التي تبقى أخيراً ليعاقب عليها بغير الجلد والحبس غير المحددة المدة هي جرائم تافهة في الغالب يكفي في عقابها النصح والتوبيخ والغرامة والحبس مع إيقاف التنفيذ, فتكون النتيجة أن لا يحبس فعلاً إلا في حوالي 5} من مجموع الجرائم, وهذه نتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بتطبيق نظرية الشريعة الإسلامية في العقاب. وإذا قلت الجرائم التي يحكم فيها بالحبس إلى هذا الحد فإن عدد المحبوسين يصبح قليلاً جداً, وبذلك تنحل مشكلة اختلاط المسجونين وما ينشأ عنها من فساد الأخلاق والصحة ونشر وسائل الإجرام, كما تقل جرائم العود التي لا يشجع عليها إلا وجود المحابس والاستخفاف بعقوبة الحبس. وإذا علمنا أن الجرائم القليلة التي يحكم فيها بالحبس حبساً محدد المدة هي   (1) راجع الفقرة 494. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 جرائم تافهة من مجرمين غير خطرين تأكد لدينا أن الحبس في هذه الجرائم سيكون لمدد قليلة ولن يؤدي إلى نشر عدوى الإجرام ولا إلى فساد الأخلاق, وحتى إذا وجدت هذه المساوئ فلن يكون لها أثر خطير على المجرمين وعلى الأمن العام لقلة عدد المسجونين وقلة خطورتهم؛ ولأن المجرم لا يضمن أن يعاقب مرة ثانية بعقوبة الحبس. أما المجرمون الخطرون فهؤلاء تقضي عليهم الشريعة بالحبس غير المحدد المدة مهما كان نوع الجريمة المنسوب إليهم؛ لأن ارتكاب الجاني لأية جريمة مهما كانت بسيطة معناه أنه لا يزال على استعداد لإجرام وأن العقوبات السابقة لم تردعه. ومن عيوب عقوبة الحبس في القوانين الوضعية أنه تقتل الشعور بالمسئولية في نفس المجرم, وتحبب إليه التعطل, وتزين له أن يعيش عالة على الناس يبتز أموالهم بالتهديد والتخويف. وفي عقوبة الشريعة علاج هذا كله, بل إن علاجه في عقوبة الجلد وحدها؛ إذ الجلد يحط من قدر المجرم في عين نفسه فلا يعود لجريمته, كما يحط من قدره في عيون الناس فلا يهابونه ولا يخافون سلطانه ولا يكبر المجرم في عيونهم حتى يزاحم بسلطانه سلطان الحكومات. ولو أننا تتبعنا ما ذكرناه من عيوب العقوبات الوضعية عيباً عيباً لوجدنا لكل عيب علاجه الناجع في تطبيق عقوبات الشريعة الإسلامية وتطبيق نظريتها في العقاب. هذه هي العقوبات الوضعية, وهذا هو أثرها في إفساد الأخلاق والأمن والنظام, وتلك هي عقوبات الشريعة الإسلامية, وذاك هو أثرها في إصلاح ما أفسدته القوانين الوضعية, ولن نجد بعد ذلك من يستطيع أن يفضل القانون الوضعي على الشريعة الإسلامية؛ فإن وجدته فاذكر قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 الباب الثالث تعدد العقوبات 507 - تعدد العقوبات وتعدد الجرائم: تتعدد العقوبات كلما تعددت الجرائم, وتتعدد الجرائم كلما ارتكب شخص جرائم متعددة قبل الحكم عليه نهائياً في واحدة منها, وهذا هو المعنى الفني للتعدد. وتعدد الجرائم إما صوري وإما حقيقي, فهو صوري إذا ارتكب الجاني فعلاً واحداً يدخل تحته صور شرعية مختلفة, ويحدث ذلك كلما انطبق على الفعل أكثر من نص واحد, كضرب الموظف أثناء تأدية وظيفته, فالفعل يمكن أن يكون ضرباً ويمكن أن يكون كل واحد منها جريمة مستقلة. الفرق بين تعدد العقوبات وبين العود: ويخلف تعدد العقوبات عن العود, ففي تعدد العقوبات يرتكب الجاني عدة جرائم قبل أن يحكم عليه في إحداها. أما في العود فيرتكب الجاني جريمته الثانية بعد أن يعاقب على جريمته الأولى. ويقضي المنطق بأن لا يعاقب المجرم في حالة تعدد الجرائم على كل جرائمه ولو أن ارتكابه لهذه الجرائم المتعددة يدل على ميوله الإجرامية؛ لأنه عندما عاد لارتكاب الجرائم لم يكن عوقب على أية جريمة سابقة وأخذ درساً عنها, فهو يختلف من هذه الوجهة عن العائد الذي سبق عقابه وأنذر بهذا العقاب أن يسلك سلوكاً مستقيماً. 508 - القوانين الوضعية والتعدد: عرفت القوانين الوضعية ثلاث طرق مختلفة في حالة تعدد الجرائم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 الأولى: طريقة الجمع: ويأخذ بهذه الطريقة القانون الإنجليزي, ومقتضاها أن يوقع على الجاني مجموع العقوبات المقررة لكل الجرائم التي ارتكبها. وعيب هذه الطريقة الإفراط في العقاب؛ لأن الجمع بين العقوبات قد يؤدي إلى أن تبلغ العقوبة حداً مفرطاً في الشدة, فالحبس - وهو عقوبة مؤقتة - إذا تعدد أصبح عقوبة مؤبدة، والغرامات إذا تعددت قد يؤدي إلى مصادرة تامة لأموال المحكوم عليه. الثانية: طريقة الجب: ومعنى الجب أن تقضي العقوبة الأشد على غيرها من العقوبات، فمقتضى هذه الطريقة أن لا يوقع على الجاني سوى أشد العقوبات المقررة للجرائم التي يرتكبها. وعيب هذه الطريقة التهاون والتفريط, فالشخص الذي يرتكب عشر جرائم مثلاً يعاقب بعقوبة الجريمة الأشد فقط دون غيرها من العقوبات, ومعنى هذا أن من يرتكب جريمة خطيرة يعاقب عليها بعقوبة شديدة يكون في حل من ارتكاب الجرائم الأبسط منها طالما أنه لم يعاقب على جريمته الخطيرة. الثالثة: الطريقة المختلطة: وقد عولجت عيوب الطريقتين السابقتين بهذه الطريقة الثالثة وتدعى بالمختلطة أو المتوسطة. وتعني بالجمع بين الطريقتين الأوليين أو بتقييد إطلاقهما. فهي تجيز الجمع بين العقوبات على أن لا يجاوز مجموعها حداً معيناً, وتعيين الحد الأقصى للعقوبة قصد منه منع الإفراط في العقاب, وهي تعالج طريقة الجب بتشديد العقوبة الواحدة التي يحكم بها. وقد جمعت أكثر التشريعات الوضعية الحديثة بين طريقة التعدد والجب مع تقييدهما. 509 - قانون العقوبات المصري: ويأخذ قانون العقوبات المصري بقاعدة تعدد العقوبات, حيث نصت المادة 33 منه على أن العقوبات المقيدة للحرية تتعدد إلا ما استثنى بنص المادتين 35, 36. والأولى منهما تنص على أن عقوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 الأشغال الشاقة تجب بمقدار مدتها كل عقوبة مقيدة للحرية محكوم بها لجريمة وقعت قبل الحكم بالأشغال الشاقة المذكورة. والثانية منهما تنص على أنه إذا ارتكب شخص جرائم متعددة قبل الحكم عليه من أجل واحدة منها وجب ألا تزيد مدة الأشغال الشاقة المؤقتة على عشرين سنة ولو في حالة تعدد العقوبات, وأن لا تزيد مدة السجن أو مدة السجن والحبس على عشرين سنة, وأن لا تزيد مدة الحبس وحده على ست سنوات. فالقانون المصري يأخذ بنظرية التعدد ولكنه يقيدها من ثلاثة وجوه: الأول: أن عقوبة الأشغال الشاقة تجب بمقدار مدتها كل عقوبة أخرى مقيدة للحرية محكوم بها لجريمة وقعت قبل الحكم بالأشغال الشاقة, فمن كان محكوماً عليه بالسجن عشر سنوات ثم حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات نفذت عليه عقوبة الأشغال الشاقة ونفذ عليه من عقوبة السجن خمس سنوات فقط, ومعنى هذا أن القانون المصري يأخذ بطريقة الجب ولكنه لا يأخذ بها على إطلاقها. الثاني: أن لا يزيد الحد الأعلى مهما تعددت العقوبات على عشرين سنة إذا كانت العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة, وأن لا يزيد مدة السجن أو مدة السجن والحبس معاً على عشرين سنة, وأن لا تزيد مدة الحبس على ست سنوات, ومعنى هذا أن القانون المصري يأخذ بطريقة الجمع بين العقوبات ولكنه لا يأخذ بها على إطلاقها. الثالث: في حالة التعدد الصوري تطبق عقوبة الصورة القانونية الأشد, وفي حالة التعدد الحقيقي تطبق العقوبة الأشد أيضاً بشرط أن تكون الجرائم ارتكبت لغرض واحد, وأن تكون مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة كما تنص على ذلك المادة 32 عقوبات, وهذا قيد على طريقة الجمع. ويلاحظ أن القوانين الوضعية لم تقيد نظرية تعدد العقوبات على الوجه السابق إلا في القرن الماضي, أما قبل ذلك فكانت العقوبات تتعدد بصفة مطلقة دون أي قيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 510 - الشريعة والتعدد: عرفت الشريعة من يوم وجودها نظرية تعدد العقوبات ولكنها لم تأخذ بها على إطلاقها, وإنما قيدتها بنظريتين أخريين, الأولى: هي نظرية التداخل, والثانية: هي نظرية الجب. نظرية التداخل: معنى التداخل هو أن الجرائم في حالة التعدد تتداخل عقوبتها بعضها في بعض بحيث يعاقب على جميع الجرائم بعقوبة واحدة, ولا ينفذ على الجاني إلا عقوبة واحدة كما لو كان قد ارتكب جريمة واحدة (1) . وتقوم نظرية التداخل على مبدأين: أولهما: أن الجرائم إذا تعددت وكانت من نوع واحد كسرقات متعددة أو زناً متعدد أو قذف متعدد فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عنها جميعاً عقوبة واحدة, فإذا ارتكب الجاني جريمة أخرى من نفس النوع بعد إقامة العقوبة عليه وجبت عليه عقوبة أخرى. والعبرة بتنفيذ العقوبة لا بالحكم بها. فكل جريمة وقعت قبل تنفيذ العقوبة تتداخل عقوبتها مع العقوبة التي لم يتم تنفيذها بعد. وتعتبر الجرائم على الرأي الراجح من نوع واحد ما دام موضوعها واحداً ولو اختلفت أركانها وعقوبتها. كالسرقة العادية والحرابة فكلتاهما سرقة وإن اختلفت أركانهما وعقوباتهما, وكالزنا من محصن والزنا من غير محصن فكلاهما زناً, وفي مثل هذه الحالات تكون العقوبة الأشد هي الواجبة. تعليل هذا المبدأ: وأساس هذا المبدأ أن العقوبة شرعت بقصد التأديب والزجر, وأن عقوبة واحدة تكفي لتحقيق هذين المعنيين فلا حاجة إذن لتعدد العقوبات ما دام المفروض أن عقوبة واحدة تكفي لإحداث أثرها وتمنع المجرم من ارتكاب الجريمة مرة أخرى, وإذا كان من المحتمل عقلاً أن يعود المجرم   (1) شرح فتح القدير ج4 ص208, شرح الزرقاني ج8 ص108, أسنى المطالب ج4 ص157, المغني ج10 ص197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 من ارتكاب الجريمة فإن هذا الاحتمال وحده لا يكفي ما دام لم يثبت قطعاً أن العقوبة لم تردعه, فإذا ثبت هذا بأن ارتكب جريمة فعوقب عليها ثم عادلها بعد ذلك فقد وجب أن يعاقب على جريمته الأخيرة؛ لأنه قد تبين وجه اليقين أن العقوبة الأولى لم تكن زاجرة ولا رادعة للجاني. ثانيهما: أن الجرائم إذا تعددت وكانت من أنواع مختلفة فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عن الجرائم جميعاً عقوبة واحدة, بشرط أن تكون العقوبات المقررة لهذه الجرائم قد وضعت لحماية مصلحة واحدة؛ أي لتحقيق غرض واحد, فمن أهان موظفاً وقاومه وتعدى عليه عوقب بعقوبة واحدة على هذه الجرائم الثلاث التي وضعت عقوباتها لغرض واحد هو حماية الموظف والوظيفة, ومن تناول ميتة ودماً ولحم خنزير عوقب على هذه الجرائم الثلاث بعقوبة واحدة؛ لأن عقوبتها جميعاً وضعت لغرض واحد هو حماية صحة الفرد والجماعة. والعبرة في التداخل بتنفيذ العقوبة لا بالحكم بها, فكل جريمة وقعت قبل تنفيذ العقوبة تتداخل عقوبتها مع العقوبة التي لم يتم تنفيذها. ويرون في مذهب مالك أن عقوبة الشرب وعقوبة تتداخلان فلا يعاقب على الجريمتين عند التعدد إلا بعقوبة واحدة, وحجتهم في ذلك أن الغرض من العقوبتين واحد؛ لأن من شرب هذى ومن هذى افترى, فعقوبة الشرب وضعت إذن لمنع الافتراء, ولكن المذاهب الأخرى تخالف مذهب مالك في هذا المثل بالذات؛ لأن عقوبة القذف قصد بها حماية الأغراض وعقوبة الشرب قصد بها حماية العقول فكلتاهما وضعت لغرض يخالف الغرض الذي وضعت له الأخرى. ويرى بعض المالكية أن التداخل بين عقوبة الشرب وعقوبة القذف يرجع إلى اتحاد مقدارهما, وهؤلاء يجعلون أساس التداخل اتحاد الموجب وليس اتحاد الغرض من العقوبة. ولكن ليس لهذا الرأي صدى في المذاهب الأخرى (1) .   (1) شرح الزرقاني ج8 ص108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 أما إذا كانت الجرائم المتعددة من أنواع مختلفة ولم يجمع بين عقوباتها غرض واحد كأن ارتكاب الجاني سرقة في المرة الأولى ثم زنا في الثانية وقذف في الثالثة, فإن العقوبات لا تتداخل في هذه الحالة وإنما تتعدد بتعدد الجرائم المختلفة. نظرية الجب: معنى الجب في الشريعة هو الاكتفاء بتنفيذ العقوبة التي يمتنع من تنفيذها تنفيذ العقوبات الأخرى, ولا ينطبق هذا المعنى إلا على عقوبة القتل, فإن تنفيذها يمنع بالضرورة من تنفيذ غيرها, ومن ثم فهي العقوبة الوحيدة التي تجب ما عداها. ولم يتفق الفقهاء على تقرير نظرية الجب, فمالك وأبو حنيفة وأحمد يقررونها ولكن الشافعي ينكرها, والذين اعترفوا بها يختلفون في مدى تطبيقها. فمالك يرى أن كل حد اجتمع مع القتل لله قصاص لأحد من الناس فإنه لا يقام مع القتل, والقتل يجب جميع ذلك إلا الفرية (أي القذف) فإن حد الفرية يقام عليه ثم يقتل, ولا يقام عليه مع القتل غير حد الفرية وحداها لئلا يقال لصاحبه: ما لك لم يضرب لك فلان حد الفرية؟ (1) . ويرى أحمد أنه إذا اجتمعت حدود الله تعالى وفيها قتل, مثل أن سرق وزنا وهو محصن, وشرب وقتل في المحاربة, استوفى القتل وسقط سائرها. فإذا اجتمعت الحدود حقوق الآدميين وفيها قتل استوفى حق الآدمي ودخلت حدود الله في القتل سواء كان القتل حداً أو قصاصاً, فمن قطع إصبع شخص وقذفه ثم شرب وسرق وزنا وقتل آخر فإن إصبعه تقطع قصاصاً ثم يحد للقذف ثم يقتل ويسقط ما عدا ذلك (2) . والأصل عند أبي حنيفة أنه إذا اجتمعت الحدود أن يقدم حق العبد في الاستيفاء على حق الله عز وجل - أي على حق الجماعة - لحاجة العبد إلى الانتفاع بحقه, فإذا   (1) المدونة ج16 ص12. (2) الإقناع ج4 ص248 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 لم يمكن استيفاء حقوق الله بعد ذلك تسقط ضرورة, أما إذا أمكن استيفاؤها فإن كان في إقامة شئ منها إسقاط البواقي يقام ذلك المسقط درءاً للبواقي لقوله عليه الصلاة والسلام: "ادرءوا الحدود ما استطعتم". فإذا قتل شخص آخر وزنا وهو غير محصن وشرب خمراً قتل قصاصاً وسقط حد الزنا والشرب. وإن زنا وهو محصن وقذف وسرق وشرب يبدأ بحد القذف لأنه متعلق بحق آدمي, ثم يرجم, ويسقط ما عدا ذلك من الحدود. وإذا اجتمع مع هذه الحدود قصاص في النفس بدئ بالقذف ثم قتل قصاصاً ويدرأ ما سوى ذلك, إلا أن المحكوم عليه يضمن في ماله السرقة في الحالين (1) . ورأي أبي حنيفة كما هو ظاهر يتفق مع رأي أحمد. أما الشافعي فلا يعترف كما قلنا بنظرية الجب, ويرى أن تنفذ العقوبات كلها واحدة بعد أخرى ما لم يتداخل بعضها في الآخر, على أن يبدأ أولاً بحق الآدميين فيما ليس فيه قتل. ثم بحق الله أي بحق الجماعة فيما لا نفس فيه أي لا قتل فيه, ثم يجئ القتل من بعد ذلك. فإذا اجتمعت مثلاً على رجل حدود: حد بكر في الزنا, وحد في القذف, وحد في سرقة, وحد في قطع طريق يقطع فيه أو يقتل, وقصاص في قتل رجل, فيحد أولاً في القذف, ثم يحبس حتى يبرأ فيحد في الزنا, ثم يحبس حتى يبرأ ثم تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى للسرقة وقطع الطريق, ثم يقتل بعد ذلك, فإذا مات في أحد الحدود سقطت بموته الحدود التي لله عز وجل وبقيت في ماله حقوق الآدميين كالدية والمال والمسروق. وهكذا يؤخر الشافعي القتل لأنه لا يسلم بنظرية الجب (2) . ويرى بعض الشافعية أن الجاني لو سرق سرقة عادية ثم قطع الطريق لم يقطع   (1) شرح فتح القدير ج4 ص208, بدائع الصنائع ج7 ص62. (2) المهذب ج2 ص305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 للسرقة العادية وقتل لقطع الطريق, وأنه إذا زنا قبل أن يحصن فجلد ثم زنا ثانية قبل أن يغرب كفاه تغريب واحد, وأنه إذا زنا غير محصن ثم زنا بعد إحصانه وقبل تنفيذ عقوبة الجلد دخل الجلد في الرجم, وأساس امتناع القطع والتغريب والجلد ليس الجب وإنما أساسه تطبيق نظرية التداخل, فالسرقة العادية من نوع قطع الطريق وإن كانت أقل درجة حتى ليسمى قطع الطريق بالسرقة الكبرى والسرقة العادية بالسرقة الصغرى, والتغريب عقوبة للزنا فإذا لم ينفذ في الزنا الأول أجرأ تغريب واحد عن الزنا مرتين, والجلد عقوبة الزاني غير المحصن فإذا زنا قبل أن يجلد أجزأه عقاب واحد هو عقاب الزنا المحصن (1) . 511 - مقارنة بين الشريعة والقانون: أساس القيود الموضوعة لنظرية التعدد في الشريعة هو نفس الأساس الذي تقوم عليه هذه القيود في القوانين الوضعية, فكلاهما يرى أن الجاني كان معذوراً عندما ارتكب جريمته الثانية لأنه لم يكن عوقب على الأولى, وكلاهما يرى أن تعدد العقوبات دون قيد يؤدي إلى النتائج يأباها العقل ومنطق التشريع. وبالرغم من هذا الاتفاق بين الشريعة والقانون فإن الشريعة جاءت أدق منطقاً من القوانين الوضعية في تطبيق نظرية التعدد وتقييد هذه النظرية, ونجد هذه الدقة متمثلة في تطبيق نظرية التداخل حيث لم تطبقها الشيعة على إطلاقها بل طبقتها فقط في حالة الجريمة الواحدة إذا تكرر وقوعها, وفي الجرائم المختلفة التي يجمع بين عقوباتها غرض واحد, ولم تطبقها فيما عدا ذلك من الجرائم, وعلة هذا أن لكل جريمة عقوبتها فإذا ارتكب الجاني جريمة وتكرر منه ارتكاب نفس الجريمة قبل أن يعاقب على ما ارتكبه سابقاً فمن المعقول أن يعتذر للجاني بأنه لم يعاقب على جريمته الأولى فلا معنى لتعدد العقوبة, أما إذا ارتكب الجاني جرائم مختلفة فإن عدم عقابه على إحداها لا يقوم له عذراً في ارتكاب الجريمة الثانية؛ لأن   (1) أسنى المطالب ج4 ص157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 كل جريمة محرمة لذاتها ولها عقوبة خاصة, وعقوبة الجريمة الواحدة لم توضع لمنع الجاني عن كل الجرائم وإنما وضعت لمنعه عن ارتكاب جريمة بالذات, وقد روعي في وضع كل عقوبة اعتبارات خاصة لا تتوفر في غيرها, فروعي مثلاً في تقرير عقوبة السرقة اعتبارات خاصة لمنع الجاني من السرقة, وروعي في عقوبتي الجلد والرجم اعتبارات خاصة لمنع الجاني من مقارفة الزنا, وهكذا. ومن ثم كانت عقوبة القذف لا تصلح عقوبة للسرقة ولا تجدي في الردع عنها, وكانت عقوبة السرقة لا تصلح عقوبة للقتل ولا تفيد في منع هذه الجريمة, وكان الواجب نتيجة لهذا المنطق أن تتعدد العقوبة في الجرائم المختلفة وأن يعاقب الجاني على كل نوع منها بعقوبته الخاصة. أما القوانين الوضعية فتخالف الشريعة في هذه النقطة وتجعل عدم العقاب في جريمة ما عذراً للجاني في ارتكاب أية جريمة أخرى سواء كانت الجريمتان من نوع واحد أو من نوعين مختلفين. ونظرية التداخل في الشريعة أوسع مدى منها في القانون الوضعي؛ لأن القانون لا يعرف التداخل إلا في حالة واحدة فقط هي ارتكاب الجاني عدة جرائم لغرض واحد وبشرط أن تكون هذه الجرائم مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة. والشراح يصفون هذه الحالة بأنها جب على أساس أن العقوبة الأشد هي التي توقع, ولكن الوصف الصحيح لها أنها تداخل؛ لأن كل الجرائم يعاقب عليها بعقوبة واحدة, والأصل أن الجب يكون بعد الحكم بالعقوبة, أما التداخل فيكون قبل الحكم بها وبعده, وحالة التداخل التي يسلم بها القانون تشبه إلى حد كبير المبدأ الثاني للتداخل في الشريعة. وإذا كانت القوانين الوضعية قد أخذت بنظرية التداخل على الوجه السابق فإنها تخالف الشريعة في الأساس الذي بنى عليه التداخل, فالقانون الوضعي يجعل أساس التداخل أن يرتكب الجاني جرائمه لغرض واحد, وأن تكون الجرائم مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة, أما الشريعة فتجعل أساس التداخل في هذه الحالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 أن تكون عقوبات الجرائم وضعت لغرض واحد, وهذا الفرق يمثل الروح التي تسيطر على كل تشريع، فالقانون يجعل نظرية التداخل خاضعة للغرض الذي يتوخاه الجاني من الجريمة, أما الشريعة فتجعل نظرية التداخل خاضعة للغرض الذي توخاه الشارع من التشريع, وهكذا نجد القانون الوضعي مضطرب المنطق متناقص الاتجاهات بينما نجد الشريعة سليمة المنطق موحدة الاتجاهات. ومن أوجه الخلاف بين الشريعة والقوانين الوضعية في هذا الباب أن القوانين جعلت حداً أعلى للعقوبات لا يصح أن تتعداه بحال مهما تعددت, ولم تضع الشريعة مثل هذه القاعدة, والضرورة وحدها هي التي أوجدت هذه القيد في القوانين الوضعية؛ لأن العقوبة الأساسية في القوانين هي الحبس بأنواعه المختلفة؛ من حبس بسيط إلى حبس مع الشغل إلى سجن إلى أشغال شاقة مؤقتة ومؤبدة, فلو لم يوضع حد أعلى لمدة العقوبة في حالة التعدد لاستحالت العقوبات المؤقتة عند التعدد إلى عقوبات مؤبدة وانتهى عمر المحكوم عليه قبل أن تنتهي العقوبة, أما في الشريعة الإسلامية فالعقوبات الأساسية هي القطع والجلد وهي عقوبات مؤقتة بطبيعتها ومهما تعددت فلن تستحيل إلى عقوبات أبدية, ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو لوضع حد أعلى للعقوبات عند التعدد. وإذا كانت الشريعة قد قررت عقوبة الحبس المؤقت في بعض الجرائم باعتبارها عقوبة تعزيرية فإنها مع هذا لم تكن في حاجة لوضع حد أقصى لعقوبة الحبس بعد أن قررت نظرية التداخل, إذ المجرم يتخصص عادة في ارتكاب جرائمه فلا يرتكب إلا جريمة واحدة أو جرائم متماثلة, فإذا ارتكب جريمة واحدة عدة مرات فهو لا يعاقب عنها إلا عقوبة واحدة طبقاً لنظرية التداخل, وإذا ارتكب جرائم متماثلة فلا يمكن أن تزيد هذه الجرائم على ثلاث أو أربع, فإذا عوقب عن كل واحدة منها بعقوبة خاصة فإن هذه العقوبات لا يشترط أن تكون جميعاً الحبس, وإذا فرض أنه حكم فيها بالحبس فإن مجموع العقوبات لن يصل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 حد غير معقول, خصوصاً إذا راعينا أن بعض الفقهاء يرون أن لا يصل الحد الأعلى لعقوبة الحبس إلى سنة كاملة, أو أن أولي الأمر يجعلون الحد الأعلى لعقوبة الحبس ثلاث سنوات غالباً, وفضلاً عن هذا فإن القاعدة الثانية من نظرية التداخل تعمل غالباً في هذه الحالة فتنزل بالعقوبة؛ لأن الجرائم المتماثلة توضع عقوباتها غالباً لحماية هدف واحد, وإذا كانت العقوبات موضوعة لغرض واحد تداخلت عقوبات الجرائم المتعددة. وإذا كانت الشريعة تتفق مع القانون في تقرير نظرية الجب فإنهما يختلفان في مدى تطبيقها. ففي الشريعة لا تطبق نظرية الجب إلا إذا اجتمعت عقوبة القتل مع عقوبات أخرى على التفصيل الذي سبق ذكره, أما في القانون فتطبق نظرية الجب في هذه الحالة وفي حالة اجتماع عقوبة الأشغال الشاقة مع عقوبة أخرى مقيدة للحرية حيث تجب عقوبة الأشغال الشاقة بمقدار مدتها كل عقوبة أخرى مقيدة للحرية, ولم تكن الشريعة في حاجة لتقرير هذه الحالة الخطيرة؛ لأن عقوبة الحبس كما قلنا ليست عقوبة أساسية في الشريعة من ناحية, ولأن مددها قصيرة من ناحية أخرى, ولأنه لا يمكن من وجه ثالث أن تستحيل إلى عقوبة مؤبدة للأسباب التي بسطناها سابقاً, ولأن الشريعة فضلاً عن ذلك كله لم تنوع الحبس أنواعاً متعددة مختلفة؛ فالحبس فيها كله من نوع واحد ودرجة واحدة ما دام محدد المدة. وإذا كانت الشريعة قد قررت نظرية الحبس غير المحدد المدة فإنها قد أخذت بها على إطلاقها وعلقت إخلاء سبيل المحكوم عليه على انصلاح حاله وتوبته توبة نصوحاً, فلم يكن هناك داع لتحديد مدة قصوى للحبس؛ لأن الإفراج يتم بالتوبة وصلاح حال المحكوم عليه لا بمضي مدة معينة عليه في الحبس, ويستوي بعد ذلك أن يتوب فيخلى سبيله أو يظل في محبسه حتى يموت؛ لأن الغرض من حبسه هو كف شره عن الجماعة فإذا انكف شره بالتوبة أخلي سبيله, وإذا لم يتب فالمحبس يكف شره حتى يأتيه الموت. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 الباب الرابع استيفاء العقوبات 512 - من له حق الاستيفاء: الأصل في الشريعة أن الجرائم تنقسم من حيث استيفاء عقوباتها إلى ثلاثة أقسام: جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، وجرائم التعازير، وأن من نسب إليه أية جريمة من هذه الأنواع حوكم عليها، فإن ثبت عليه أنه أتاها حكم عليه بالعقوبة المقررة لها، وإن لم يثبت عليه إتيانها حكم ببراءته مما نسب إليه، فإذا حكم عليه بالعقوبة استوفاها ولي الأمر إن كانت الجريمة من جرائم الحدود أو التعازير، أما إن كانت من جرائم القصاص فيجوز للمجني عليه أو وليه استيفاء عقوبة القصاص إذا توفرت شروط معينة. وفيما يلي تفصيل ذلك كله. 513 - الاستيفاء في جرائم الحدود: من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحد - أي العقوبات المقررة لجرائم الحدود - إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام، ولأن الحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب، فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه. وحضور الإمام ليس شرطاً في إقامة الحد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير حضوره لازماً فقال: "اغدُ يا أُنَيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، وأمر عليه السلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم، وأُتي بسارق فقال: "اذهبوا به فاقطعوه" (1) .   (1) الشرح الكبير ج10 ص121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 لكن إذن الإمام بإقامة الحد واجب، فما أُقيم حد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بإذنه، وما أقيم حد في عهد الخلفاء إلا بإذنهم، ومما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا قوله: "أربع إلى الولاة: الحدود، والصدقات، والجُمعات، والفيء" (1) . وإذا كانت القاعدة العامة أن إقامة الحد للإمام أو نائبه، إلا أنه لو أقامه غيره من الأفراد فإن مقيمه لا يُسأل عن إقامته إذا كان الحد متلفاً للنفس أو للطرف (2) ؛ أي إذا كان الحد قتلاً أو قطعاً، وإنما يسأل باعتباره مفتاتاً على السلطات العامة. أما إذا كان الحد غير متلف كالجلد في الزنا والقذف فإن مقيمه يسأل عن إقامته؛ أي أنه يسأل عن الضرب والجرح وما يتخلف عنهما. والفرق بين هاتين الحالتين أن الحد المتلف للنفس أو الطرف يزيل عصمة النفس وعصمة الطرف، وزوال العصمة عن النفس يبيح القتل، وزوال العصمة عن الطرف يبيح القطع، فيصير قتل النفس أو قطع العضو مباحاً ولا جريمة فيما هو مباح. أما الحد غير المتلف فلا يزيل عصمة النفس ولا عصمة الطرف قيبقى معصوماً من يرتكب جريمة عقوبتها حد غير متلف، وتعتبر إقامة الحد عليه جريمة ما لم تكن الإقامة ممن يملك تنفيذ العقوبة. 514 - الاستيفاء في جرائم التعازير: واستيفاء العقوبات المحكوم بها في جرائم التعازير من حق ولي الأمر أو نائبه أيضاً؛ لأن العقوبة شرعت لحماية الجماعة فهي من حقها فيترك استيفاؤها لنائب الجماعة، ولأن التعزير كالحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف. وليس لأحد غير الإمام أو نائبه إقامة عقوبة التعزير ولو كانت متلفة للنفس، فإن قتل أحد الأفراد شخصاً محكوماً عليه بالقتل تعزيراً فهو قاتل له ولو أن عقوبة القتل متلفة للنفس، والفرق بين عقوبة الحد المتلفة للنفس وعقوبة التعزير المتلفة للنفس أن   (1) المهذب ج2 ص287، شرح فتح القدير ج4 ص130. (2) الإقناع ج4 ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 عقوبة الحد لا يجوز العفو عنها وإسقاطها ولا تأخير تنفيذها؛ فهي عقوبة محتمة لا بد منها، أما عقوبة التعزير المتلفة فلولي الأمر العفو عنها، ولهذا فهي عقوبة غير لازمة لا تهدر عصمة المحكوم عليه، إذ من الجائز أن يصدر عنها عفو في اللحظة الأخيرة. 515 - الاستيفاء في جرائم القصاص: والأصل أن عقوبات جرائم القصاص كغيرها من العقوبات متروك إقامتها لأولي الأمر، لكن أُجيز استثناءً أن يُستَوفَى القصاص بمعرفة ولي الدم أو المجني عليه، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] . ومن المتفق عليه أن لولي المجني عليه حق استيفاء القصاص في القتل بشرط أن يكون الاستيفاء تحت إشراف السلطان؛ لأنه أمر يفتقر إلى الاجتهاد ويَحرُم فيه الحيف، ولأنه لا يؤمن الحيف من المقتص مع قصد التشفي، لكن إذا استوفاه في غير حضور السلطان وقع الموقع؛ أي وقع الفعل قصاصاً، وعزر المستوفي لافتياته على السلطان وفعله ما منع من فعله. وينظر السلطان في الولي؛ فإن كان يحسن الاستيفاء ويقدر عليه بالقوة والمعرفة اللازمة مكنه منه، وإن كان لا يحسن الاستيفاء أمَرَه أن يوكل غيره؛ لأنه عاجز عن استيفاء حقه. وليس ثمة ما يمنع أن يعين خبير لاستيفاء الحدود والقصاص يأخذ أجره من بيت المال؛ لأن هذا العمل من المصالح العامة، فإذا كان الولي لا يحسن القصاص وكل هذا الخبير. فإذا كان القصاص فيما دون النفس - أي فيما ليس قتلاً - فيرى أبو حنيفة أن للمجني عليه الحق في استيفاء العقوبة بنفسه إن كان خبيراً يحسن الاستيفاء، فإن لم يكن يحسنه وكل عنه من يحسنه. وما يراه أبو حنيفة هو وجه في مذهب أحمد (1) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص246، الشرح الكبير ج9 ص398، 399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 ويرى مالك والشافعي ورأيهما وجه في مذهب أحمد أن المجني عليه ليس له أن يستوفي عقوبة القصاص فيما دون النفس بأي حال سواء كان يحسن القصاص أو لا يحسنه؛ لأنه لا يؤمن مع قصد التشفي أن يحيف على المجني عليه أو يجني عليه بما لا يمكن تلافيه، وإنما يتولى القصاص فيما دون النفس من يحسنه من الخبراء، وعلى هذا يصح أن يكون المستوفي موظفاً لهذا الغرض (1) . 516 - كيفية استيفاء القصاص في النفس: لا يُستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف عند أبي حنيفة ورواية عن أحمد، سواء كان الجاني قتل بسيف أم بغير سيف، وسواء كان القتل نتيجة لحز الرقبة أم لسراية جرح أو نتيجة الخنق أو التغريق أو التحريق أو غير ذلك، وحجة القائلين بهذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قَوَدَ إلا بالسيف"، والقود هو القصاص، فمعنى الحديث منع استيفاء القصاص بغير السيف. وإذا كان الموت نتيجة قطع اتصلت به السراية فالقود بالسيف؛ لأنه تبين أن فعل الجاني وقع قتلاً من وقت وجوده فلا يقتص منه إلا بالقتل؛ لأنه لو قطع عضواً من الجاني ليحقق التماثل ثم عاد فحز الرقبة إذا لم يمت من القطع كان ذلك جمعاً بين القطع والحز، ولم يكن مجازاة بالمثل، ولا يعتبر حز الرقبة متمماً للقطع؛ لأن المتمم للشيء يكون من توابعه والحز قتل وهو أقوى من القطع فليس من توابعه. كذلك فإن القصاص في النفس مقصود منه إتلاف النفس فإذا أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز إتلاف أطرافه؛ لأن إتلافها يعتبر تعذيباً وليس استيفاء. وإذا أراد الولي أن يقتل بغير السيف لا يُمكَّن من ذلك، وإذا فعله عزر   (1) مواهب الجليل ج6 ص253- 254، المهذب ج2 ص197، الشرح الكبير ج9 ص399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 لافتياته، إلا أنه يعتبر مستوفياً لحقه من القصاص بأي طريق قتله سواء قتله بالعصا أو الحجر أو ألقاه من سطح أو رداه في بئر ونحو ذلك؛ لأن القتل حقه فإذا قتله استوفى حقه، إلا أنه يفتات إذا استوفاه بغير السيف؛ لأنه يستوفيه بطريق غير مشروع فيعزر على هذا الافتيات (1) . وعند مالك والشافعي وهو رواية عن أحمد (2) أن القاتل أهل لأن يُفعل به كما فعل؛ فإذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف، لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . فإن حرقه أو غرقه أو رماه بحجر أو رماه من شاهق أو ضربه بخشبة أو حبس عنه الطعام أو الشراب فمات، فللولي أن يقتص منه بمثل ذلك، لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126] ، ولأن القصاص قائم على المماثلة والمماثلة ممكنة فجاز أن يستوفي بها القصاص. وللولي أن يقتص بالسيف في هذه الأحوال؛ لأنه قد وجب له القتل والتعذيب، فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه وهو جائز له. وإن كان القتل بما هو محرم لنفسه كاللواط وسقي الخمر فالرأي الراجح أن يكون القصاص بالسيف. 517 - ما يشترط في آلة القصاص: وإذا أراد الولي أن يستوفي بنفسه فلا يكفي أن يكون خبيراً بالقصاص، بل يجب أن يستعمل فيه أداة صالحة له لا كالَّة مثلاً ولا مسممة لئلا يعذب المقتص منه، فإن فعل ذلك وجب عليه التعزير؛ لأن من شروط القصاص أن لا يعذب الجاني وأن تزهق روحه بأيسر ما يمكن (3) ، تحقيقاً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان   (1) بدائع الصنائع ج7 ص246، الشرح الكبير ج9 ص400 وما بعدها. (2) مواهب الجليل ج6 ص256، المهذب ج2 ص199، الشرح الكبير ج9 ص400. (3) المهذب ج2 ص198، الشرح الكبير ج9 ص397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته". 518 - هل يجوز الاستيفاء بما هو أسرع من السيف؟: الأصل في اختيار السيف أداة للقصاص أنه أسرع في القتل وأنه يزهق روح الجاني بأيسر ما يمكن من الألم والعذاب، فإذا وجدت أداة أخرى أسرع من السيف وأقل إيلاماً فلا مانع شرعاً من استعمالها، "فلا مانع شرعاً من استيفاء القصاص بالمقصلة والكرسي الكهربائي وغيرهما مما يفضي إلى الموت بسهولة وإسراع ولا يتخلف الموت عنه عادة ولا يترتب عليه تمثيل بالقاتل ولا مضاعفة تعذيبه، أما المقصلة فلأنها من قبيل السلاح المحدد، وأما الكرسي الكهربائي فلأنه لا يتخلف الموت عنه عادة مع زيادة السرعة وعدم التمثيل بالقاتل دون أن يترتب عليه مضاعفة التعذيب" (1) . 519 - هل يجوز للسلطان أن يستأثر اليوم باستيفاء القصاص؟: الرأي الراجح عند الفقهاء هو أن لا يترك للمجني عليه أو وليه أن يستوفي حق القصاص فيما دون النفس؛ لأن هذا النوع من القصاص يقتضي خبرة ودقة في المقتص ولا يؤمن فيه الحيف والتعذيب لو ترك للمجني عليه أو وليه (2) ، أما القصاص في النفس فقد ترك للولي استيفاؤه بشرط أن يحسنه وأن يستوفيه بآلة صالحة، فإذا لم يكن يحسنه وكل في الاستيفاء من يحسنه، فحق الولي في الاستيفاء مقيد بإحسان الاستيفاء وباستعمال الآلة الصالحة. ولقد كان الناس قديماً يحملون السلاح ويحسنون استعماله غالباً، أما اليوم فقل فيهم من يحسن استعمال السيف بصفة خاصة، وقل من يوجد لديه سيف صالح للاستعمال.   (1) من فتوى لجنة الفتوى بالأزهر. راجع القصاص ص208. (2) المغني ج9 ص412، المهذب ج2 ص197، مواهب الجليل ج6 ص253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 وإذا أضيف إلى هذا أن وسيلة الشنق والمقصلة والكرسي الكهربائي أسرع بالموت من السيف كما هو ثابت من التجربة، وأن المشنقة والمقصلة وما أشبه لا يمكن أن يحصل عليها الأفراد ولا يصلحون لاستعمالها وأنها في حيازة الدولة، إذا روعي هذا جميعه أمكن القول أن الضرورات اليوم تقضي بمنع ولي المجني عليه من استيفاء حقه على الطريقة القديمة وبترك الاستيفاء لمن تخصصهم الدولة لهذا الغرض من الخبراء، وللأولياء أن يأذنوا لهم بالتنفيذ إذا شاءوا القصاص وأن لا يأذنوا إذا رأوا العفو. 520 - استيفاء العقوبات عند التعدد: تخالف الشريعة القوانين الوضعية في طريقة استيفاء العقوبات عند التعدد، ويرجع هذا الاختلاف قبل كل شئ إلى طبيعة العقوبات في كلًّ. وإذا أخذنا القانون المصري مثلاً على القوانين الوضعية الحديثة فإنه يقضي بأن تنفذ العقوبات عند التعدد على حسب درجة جسامتها، فتنفذ الأشغال الشاقة أولاً، ثم ينفذ السجن ثانياً، ثم الحبس مع الشغل، ثم الحبس البسيط (مادة 34 عقوبات) . ولا يراعي في الترتيب صدور العقوبات. فإذا حُكم على إنسان بالأشغال الشاقة أثناء تنفيذ عقوبة السجن أو الحبس عليه أُوقف تنفيذ عقوبة السجن أو الحبس وبدئ في تنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة. وتنفذ العقوبات في القانون المصري على التوالي، فإذا انتهت إحداها نُفذت الأخرى، ولا يوقف تنفيذها أو يعطله أي اعتبار متعلق بالمحكوم عليه، فتنفذ سواء كان المحكوم عليه مريضاً أو صحيحاً، سقيماً أو قوياً. وقد أوحت طبيعة العقوبات القانونية بهذا النظام، فهي عقوبات يستغرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 تنفيذها زمناً طويلاً، فكان لا بد من ترتيب تنفيذها على هذا الوجه ما دامت عقوبة الأشغال الشاقة تجُب بمقدار مدتها كل عقوبة أخرى مقيدة للحرية محكوم بها عن جريمة وقعت قبل الحكم بالأشغال الشاقة، وما دام من المحتمل أن يصدر على المحكوم عليه حكم آخر بالأشغال الشاقة أثناء التنفيذ. أما النظام المتبع في الشريعة الإسلامية في حالة تعدد العقوبات فهو مختلف، ولكل مذهب من المذاهب الفقهية رأيه في هذه المسألة. فمالك يرى في حالة تعدد العقوبات أن يبدأ في التنفيذ بما هو لله؛ أي بما يمس حقوق الجماعة، ثم يقام بعد ذلك ما هو للناس؛ أي ما يمس حقوق الأفراد، وحجة مالك في هذا أن ما لله لا عفو فيه وما للآدميين قد يعفى عنه، فمن مصلحة المحكوم عليه تأخير ما يمس حقوق الأفراد. ويستوي عند مالك بعد ذلك البدء بالعقوبة الخفيفة والبدء بالعقوبة الأشد، ويرى أن يترك لولي الأمر البدء بأيهما. ويرى أبو حنيفة وأحمد تقديم ما يمس حقوق الأفراد على ما يمس حقوق الجماعة، على أن يبدأ فيما يمس حقوق الأفراد بالأخف فالأخف، ثم ينفذ بعد ذلك ما يمس حقوق الجماعة على أن يبدأ فيه ما يَجُب غيره. ويرى الشافعي أن تنفذ العقوبات كلها بحسب خفتها، فيقدم الأخف على الخفيف، ويقدم ما يمس حقوق الآدميين على ما يمس حقوق الجماعة، وهكذا حتى تنفذ العقوبات كلها، لأنه لا يعترف بالجب. ورأي فقهاء الشريعة في تقديم الأخف على الأشد رأي يخالف ما جاء به القانون المصري، ولكن يتفق مع طبيعة العقوبات الشرعية، فالعقوبات الأساسية في الشريعة هي القطع والجلد والقصاص، وهي عقوبات بدنية فاستيفاؤها يوجب البدء بأخفها حفظاً لسلامة المحكوم عليه واستبقاء لقوة احتماله ومقاومته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 ولا يقدم الأشد على الأخف إلا إذا كان الأشد يجب الأخف. وفي هذا تتفق الشريعة مع القانون. 521 - التنفيذ على المريض والضعيف والسكران: وفقهاء الشريعة متفقون على وجوب تأخير تنفيذ عقوبة القصاص وعقوبات الحدود وما يماثلها من عقوبات التعازير إذا كان المحكوم عليه مريضاً، أو كان الوقت لا يناسب تنفيذ العقوبة كأن كان برداً شديداً أو حراً شديداً، ولا يستثنون من ذلك إلا عقوبة القتل؛ لأنها عقوبة مهلكة؛ أي أن المقصود منها إهلاك المحكوم عليه، أما العقوبات الأخرى التي لا يقصد منها إهلاك المحكوم عليه فلا يصح أن تنفذ في ظروف تؤدي إلى الهلكة. ويرى بعض الفقهاء أن يؤخر تنفيذ الحد على الضعيف حتى يقوى، ولكن البعض الآخر لا يرى تأخير التنفيذ ويفضل أن ينفذ الحد بقدر الإمكان بحيث لا يضار المحكوم عليه بضعفه، فإن كانت العقوبة الجلد مثلاً جلد مرة أو مرتين بسوط متعدد الفروع أو بعثكال له شماريخ بعدد الأسواط أو نصفها. ويرى الفقهاء أن لا تنفذ العقوبة على السكران حتى يصحو من سكره (1) . 522 - التنفيذ على الحامل: عرفت الشريعة من يوم وجودها مبدأ عدم التنفيذ على الحامل، وحديث الغامدية قاطع في ذلك، فقد جاءت الرسول تعترف بالزنا وهي حامل فقال لها عليه الصلاة والسلام: "اذهبي حتى تضعي حملك"، ومثله حديث معاذ: "إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها"، والتنفيذ الممنوع على الحامل هو الذي يضر بالحمل وهو تنفيذ القَوَد والرجم والجلد. والفقهاء مجمعون على هذا المبدأ ولكنهم مختلفون بعض الشئ في مدى تطبيقه. فيرى الشافعي أن لا ينفذ على المرأة إذا ذكرت حملاً أو ريبة من حمل حتى تضع حملها أو يتبين أنها غير حامل ثم ينفذ عليها بعد الوضع، وإن لم يكن لولدها   (1) شرح فتح القدير ج3 ص185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 مرضع فيفضل الشافعي تركها أياماً حتى تجد لولدها مرضعاً في حالة القتل. ويرى أبو حنيفة فوق ما سبق أن لا ينفذ على الحامل حتى تشفى من النفاس ولو كانت العقوبة جلداً. ويرى مالك أن لا ينفذ على الحامل حتى تضع، ويعتبر النفاس مرضاً يوجب تأخير الجلد حتى ينتهي، وإن وجد لطفلها مرضع نفذ عليها القتل، وإن لم يصيبوا لطفلها من يرضعه لم يعجل عليها بالقتل. ويرى أحمد أنه إذا وجب القود أو الرجم على حامل أو حملت بعد وجوبه لم تقتل حتى تضع وتسقيه اللبن، ثم إن وجد له مرضعة راتبة قُتلت، ويستحب لولي القتل تأخيره للفطام، وإن لم يكن له من يرضعه تُركت حتى ترضعه حولين ثم تفطمه، كما يرى تأخير الجلد حتى تضع الحمل. 523 - التنفيذ على المجنون: سبق أن تكلمنا على هذا الموضوع بمناسبة الكلام على مسئولية المجنون، فليس ما يدعو لإعادة الكلام عن هذا الموضوع، ويكفي فيه مراجعة ما سبق (1) . 524 - علنية التنفيذ: الأصل في الشريعة أن يكون التنفيذ علنياً لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ؛ ولأن السنة جرت بهذا، ويستوي في ذلك القتل وغير القتل، وتتفق الشريعة في هذا مع كثير من القوانين الوضعية. ولقد كان القانون المصري يوجب العلانية في تنفيذ عقوبة الإعدام أخذاً عن القوانين الأوروبية، ثم عدل عن اشتراط العلانية، ولكن فرنسا لا تزال متمسكة بالعلانية. وتنفذ عقوبة القتل في الشريعة بالرجم إذا كانت عقوبة زان محصن، وتنفذ بقطع الرقبة إن لم تكن عقوبة زنا، على الرأي الراجح بين الفقهاء.   (1) راجع الفقرة 428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 والفقهاء مجمعون على أن يتم التنفيذ دون تعذيب أو تمثيل، فأداة القتل يجب أن تكون قاطعة، والجلاد يجب أن يكون خبيراً بعمله، والتنفيذ يجب أن يتم بطريقة واحدة لجميع الناس مهما اختلفت مراتبهم وجرائمهم. ولقد جاءت الشريعة بهذه المبادئ من يوم وجودها، ولكن القوانين الوضعية لم تعرفها إلا أخيراً، فقد كانت عقوبة القتل في القوانين الوضعية على درجات كعقوبة الحبس، وكان يصحبها أنواع مختلفة من التعذيب تختلف بحسب نوع الجريمة، فقاتل والده مثلاً كانت تقطع يده قبل القتل، وكان التنفيذ يختلف بحسب درجة الأشخاص، فالشريف يعدم بقطع رقبته بالسيف، والعامي يعدم شنقاً. ولما جاءت الثورة الفرنسية تغيرت هذه الأوضاع وصدر قانون في فرنسا يسوي بين المحكوم عليهم في التنفيذ ويجعل عقوبة القتل بإزهاق الروح فقط، وانتشر هذا المبدأ من فرنسا إلى غيرها من البلاد. ثم بدأت الأمم بعد ذلك تبحث عن الطريقة المثلى لإزهاق الروح دون تعذيب. فالمشرع الفرنسي اهتدى إلى طريقة قطع الرأس، والمصري والإنجليزي إلى طريقة الشنق، وفي إيطاليا يطلق الرصاص على المحكوم عليه بالقتل، وفي بعض الولايات المتحدة الأمريكية يصعق المحكوم عليه بالكهرباء. وتقضي الشريعة أن تسلم جثة القتيل لأهله بعد التنفيذ ليدفنوه كما يشاءون، لقوله عليه الصلاة والسلام: "افعلوا به كما تفعلون بموتاكم"، فيصح إذن أن يدفن القتيل باحتفال كما يدفن غيره، ولكن لولي الأمر إن شاء أن يمنع الاحتفال إن رأى أنه يؤدي إلى المساس بالأمن والنظام. والقانون المصري يقضي بتسليم الجثة لورثة القتيل على أن يكون الدفن بغير احتفال (المادة 262 من قانون تحقيق الجنايات) . كذلك يوجب القانون المصري إيقاف تنفيذ حكم القتل على الحامل إذا ظهرت أنها حبلى ولا ينفذ عليها إلا بعد الوضع (المادة 263 من قانون تحقيق الجنايات المصري) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 الباب الخامس العود 525 - ماهية العود: يطلق العود اليوم في اصطلاحنا القانوني على حالة الشخص الذي يرتكب جريمة بعد أخرى حكم فيها نهائياً، أي أن العود ينشأ عن تكرار وقوع الجرائم من شخص واحد بعد الحكم نهائياً عليه في إحداها أو بعضها. ويتميز العود عن تعدد الجرائم بأن المجرم في حالة التعدد يرتكب جريمته الأخيرة قبل أن يصدر عليه حكم في جريمة سابقة عليها، أما في العود فيكون المجرم حين ارتكب جريمته الأخيرة قد صدر عليه حكم أو أكثر. وعود المجرم للإجرام بعد الحكم عليه دليل على أن المجرم يصر على الإجرام، وعلى أن العقوبة الأولى لم تردعه، ومن ثم فقد كان من المعقول أن يتجه التفكير إلى تشديد العقوبة على العائد، ولقد كانت فكرة التشديد تلقى فيما مضى مقاومة من بعض شراح القوانين الوضعية، أما اليوم فليس ثمة من ينازع في مشروعية العقاب على العود. وشراح القوانين وإن كانوا يسلمون بالعقوبة على العود، إلا أنهم اختلفوا في تقرير المبادئ التي يقوم عليها العود، فالبعض يرى أن يكون العود خاصاً، بمعنى أن لا يعتبر المجرم عائداً إلا إذا كانت الجريمة الثانية من نوع الجريمة الأولى أو مماثلة لها، فإن لم تكن الجريمة الثانية كذلك فلا يعتبر المجرم عائداً. ويرى البعض أن يكون العود عاماً بحيث يعتبر المجرم عائداً إذا ارتكب جريمته الثانية، سواء كانت من نوع الأولى أو من نوع آخر مماثلة لها أو غير مماثلة. كذلك اختلف الشراح في مدة العود، فرأى البعض أن يكون العود مؤبداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 بحيث يعتبر المجرم عائداً مهما مضى من الزمن على جريمته الأولى، ورأى البعض أن يكون العود مؤقتاً بمعنى أنه إذا مضى وقت معين على الجريمة الأولى فلا يعتبر المجرم عائداً إذا ارتكب جريمته الثانية. وقد أخذ قانون العقوبات المصري بهذه المبادئ جميعاً؛ فأخذ بمبدأ العود العام في الفقرتين الأولى والثانية من المادة 49 من قانون العقوبات, وأخذ بمبدأ العود الخاص في الفقرة الثالثة من هذه المادة, وأخذ بنظام العود المؤبد في الفقرة الأولى من نفس المادة, وبنظام العود المؤقت في الفقرتين الثانية والثالثة من هذه المادة، مراعياً في كل ذلك نوع العقوبة ومدتها ونوع الجريمة. وإذا تكرر من المجرم ارتكاب الجرائم فلا يعتبره شراح القوانين الوضعية مجرد عائد بل يعتبرونه مجرماً معتاداً على الإجرام وعدواً خطراً للجماعة يجب استئصاله منها أو إبعاده عنها, وقد طبق القانون المصري هذه النظرية تطبيقاً محدوداً فجعل عقوبة معتاد الإجرام الإرسال لمحل تعينه الحكومة "إصلاحية الرجال" إلى أن يأمر وزير العدل الإفراج عنه بشرط أن لا يزيد مدة بقاء المجرم في المحل الخاص عن ست سنوات أو عشر بحسب الأحوال (المادتان 52, 53 عقوبات) . وفي إيطاليا يقضي قانون العقوبات الصادر في سنة 1930 بوضع معتادي الإجرام ومحترفيه في محل زراعي أو صناعي لمدة لا تقل عن سنتين للمعتادين وثلاث للمحترفين. وفي فرنسا ينص القانون الصادر في 27/ 5/ 1885 على نفي معتادي الإجرام إلى إحدى المستعمرات. وهكذا طبقت القوانين الوضعية النظرية تطبيقاً محدوداً ولم تأخذ بها على إطلاقها. هذه هي القواعد العامة التي يقوم عليها العود في القوانين الوضعية الحديثة, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 ويلاحظ أن القوانين الوضعية لم تعرف قواعد العود إلا أخيراً, وأن المبادئ التي وضعتها للعود والاعتياد على الإجرام تعتبر من أحدث المبادئ في هذه القوانين. 526 - الشريعة والعود: وقد يدهش القارئ أن يعلم أن هذه المبادئ المستحدثة في القوانين الوضعية هي نفس المبادئ التي وضعتها الشريعة الإسلامية للعود ولمعتادي الإجرام من ثلاثة عشر قرناً, بل قد يدهشه أن يعلم أن القوانين الوضعية على حداثتها لم تطبق بعد المبادئ الشرعية على إطلاقها. ومن المتفق عليه في الشريعة أن يعاقب المجرم بالعقوبة المقررة للجريمة, فإن عاد لها أمكن تشديد العقوبة, فإن اعتاد الإجرام استؤصل من الجماعة بقتله أو بكف شره عنها بتخليده في الحبس, واختيار إحدى العقوبتين متروك لولي الأمر بحسب ما يراه من ظروف الجريمة وأثرها على الجماعة. ومن الأمثلة على ذلك اللواطة لغير المحصن فالفاعل والمفعول به يعاقب كلاهما بالعقوبة المقررة للجريمة, فإن اعتاد الجريمة ولم تردعه العقوبة قتل لشناعة جريمته ولما تؤدي إليه من التقاليد وإفساد الأخلاق والتخنث. والسارق إذا اعتاد السرقة يعاقب على الاعتياد بتخليده في الحبس حتى يموت أو تظهر توبته. وقد أقرت الشريعة مبدأ العود على لإطلاقه, ولم يفرق الفقهاء بين العود العام والعود الخاص, كما أنهم لم يفرقوا بين العود الأبدي والعود المؤقت, ومن ثم يجوز أن يكون العود عاماً وخاصاً وأبدياً ومؤقتاً, والأمر في ذلك متروك لولي الأمر يضع من القواعد ما يراه محققاً للمصلحة العامة. هذه هي قواعد العود في الشريعة, وتلك قواعد العود في القوانين الوضعية, ولا فرق بينهما إلا أن الشريعة لم تطبق منذ زمن طويل فجهل الناس كل شئ عنها, أما القوانين الوضعية فتطبق باستمرار ويعرفها أكثر الناس معرفة جيدة. وقد يكفي الشريعة امتيازاً أن قواعدها التي وضعت منذ أكثر من ثلاثة عشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 قرناً تتفق تمام الاتفاق مع أحدث ما وصلت إليه القوانين الوضعية, ولكن الشريعة في الواقع تمتاز على القوانين الوضعية بأنها تعاقب معتادي الإجرام ومحترفيه فيه بالقتل وبالتخليد في السجن, وهما العقوبتان اللتان تصبو إليهما بصفة عامة نفوس شراح القوانين الوضعية, وعلى الأخص أصحاب نظريتي تدابير الأمن mesure de suete وغرق الاستئصال procede d' elemination, فهؤلاء يرون أن يستأصل معتاد الإجرام من الجماعة, أو أن يحبس حبساً غير محدد المدة بحيث يكف شره عن الجماعة, ولكن القوانين الوضعية لم تأخذ بهذه الآراء على إطراقها, واكتفت بالأخذ بنظرية الحبس غير المحدد المدة بعد أن وضعت على هذه النظرية من القيود ما يجعل الحبس في النهاية حبساً محدد المدة, كما بينا في الأمثلة التي ذكرناها عن القوانين المصري والإيطالي والفرنسي. وهكذا يتبين أن الشريعة الإسلامية قد سبقت القوانين الوضعية في تنظيم العود وتقرير قواعده, ولا يزال سابقة لهذه القوانين فيما يختص بتقرير تدابير الأمن وطرق الاستئصال وتطبيقها على الوجه الذي ينادي به شراح القوانين أنفسهم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 الباب السادس سقوط العقوبة 527 - أسباب سقوط العقوبة: تسقط العقوبات في الشريعة بأسباب مختلفة, ولكن ليس في هذه الأسباب ما يعتبر سبباً عاماً مسقطاً لكل عقوبة إنما تتفاوت الأسباب في أثرها على العقوبات, فبعضها يسقط معظم العقوبات, وبعضها مسقط لأقلها, وبعضها خاص بعقوبات دون الأخرى. والأسباب المسقطة للعقوبات هي: (1) موت الجاني ... (2) فوات محل القصاص ... ... (3) توبه الجاني. (4) الصلح ... ... (5) العفو ... ... ... (6) إرث القصاص؟. (7) التقادم. 528 - موت الجاني: تسقط العقوبات بموت الجاني إذا كانت بدينة أو متعلقة بشخص الجاني؛ لأن محل العقوبة هو الجاني ولا يتصور تنفيذها بعد انعدام محلها. أما إذا كانت العقوبة مالية كالدية والغرامة والمصادرة فلا تسقط بموت الجاني؛ لأن محل العقوبة مال الجاني لا شخصه ومن الممكن تنفيذ العقوبة على مال الجاني بعد موته. وقد اختلف الفقهاء فيما إذا كان سقوط عقوبة القصاص بموت الجاني يوجب الدية في ماله أو لا يوجبها, فرأى مالك وأبو حنيفة أن انعدام محل القصاص يترتب عليه سقوط عقوبة القصاص ولا يترتب عليه وجوب الدية في مال القاتل؛ لأن القصاص عندهما واجب والدية في رأيهما لا تجب بدلاً من القصاص إلا برضاء الجاني, فإذا مات الجاني سقط الواجب وهو القصاص ولم تجب الدية؛ لأن الجاني لم يوجبها على نفسه, ويستوي أن يكون الموت بآفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 سماوية أو بيد شخص آخر ما دام الموت بحق, فإذا مات الجاني بمرض أو قتل في قصاص لشخص آخر أو قتل لزناً أو رد', ففي كل هذه الحالات تسقط عقوبة القصاص ولا تجب الدية بدلاً منها. أما إذا قتل الجاني ظلماً فيرى مالك أن القصاص لأولياء المقتول الأول, فمن قتل رجلاً فعدا عليه أجنبي فقتله عمداً فدمه لأولياء المقتول الأول, ويقال لأولياء المقتول الثاني: ارضوا أولياء المقتول الأول وشأنكم بقاتل وليكم في القتل أو العفو, فإن لم يرضوهم فلأولياء المقتول الأول قتله أو العفو عنه, ولهم ذلك إن لم يرضوا بما بذلوا لهم من الدية أو أكثر منها, وإن قتل خطأ فديته لأولياء المقتول الأول (1) . ويسوي أبو حنيفة بين الموت بحق والموت بغير حق فكلاهما يسقط حق القصاص سقوطاً مطلقاً ولا يوجب الدية في مال الجاني ولا في مال غيره إذا جنى عليه (2) . ويرى الشافعي وأحمد أن فوات محل القصاص يسقط عقوبة القصاص في كل الأحوال سواء كان الموت بحق أو بغير حق, ولكنه يؤدي إلى وجوب الدية في مال الجاني؛ لأن الواجب بالقتل عندهما أحد شيئين غير عين القصاص والدية, فإذا تعذر أحدهما لفوات محله وجب الآخر, ولأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر (3) . ونستطيع أن نتبين مدى الخلاف بين الفقهاء في مثل الآتي: إذا قتل زيد علياً فإن لأولياء على حق القصاص على زيد, فإذا مرض زيد ومات سقط القصاص بموته ولا شئ لأوليائه طبقاً لرأي مالك وأبي حنيفة, ولأوليائه الدية في مال زيد طبقاً لرأي الشافعي وأحمد. فإذا كان موت زيد راجعاً إلى أن خالداً   (1) مواهب الجليل ج7 ص231. (2) بدائع الصنائع ج7 ص246. (3) المهذب ج2 ص201, الشرح الكبير ج9 ص714. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 قتله عمداً أو صدمه بسيارته خطأً فقتله فقد سقط حق القصاص ولا شئ لأولياء عليّ في رأي أبو حنيفة, أما طبقاً لرأي مالك فحق القصاص ينتقل إلى خالد ولأولياء عليّ أن يقتصوا منه في حالة العمد, وليس لأولياء زيد أن يقتصوا من خالد إلا إذا أرضوا أولياء علي, وفي حالة الخطأ يدفع خالد دية زيد لأولياء عليّ. وطبقاً لرأي الشافعي وأحمد يسقط القصاص بموت زيد ويكون لأولياء عليّ الدية في مال زيد. 529 - فوات محل القصاص: المقصود بالقصاص هنا القصاص فيما دون النفس. ومعنى فوات محل القصاص أن يذهب العضو المحل القصاص مع بقاء الجاني حياً, ففوات محل القصاص سبب مسقط لعقوبة القصاص دون النفس فقط. والأصل أن محل القصاص فيما دون النفس هو العضو المماثل لمحل الجناية, فإذا فات محل القصاص سقط القصاص؛ لأن محله انعدم ولا يتصور وجود الشيء مع انعدام محله. وإذا سقط القصاص بحق لم يجب للمجني عليه شئ عند مالك, لأن حق المجني عليه في القصاص عيني فإذا سقط القصاص فقد سقط حق المجني عليه, أما إذا فات محل القصاص بظلم فإن حق القصاص ينتقل إلى الظالم, على التفصيل الذي سبق بيانه في حالة موت القاتل (1) . وأبو حنيفة - وهو من القائلين بأن موجب العمد هو القصاص عيناً - يفرق بين ما إذا فات محل القصاص بآفة أو مرض أو ظلماً, وبين فواته بحق كتنفيذ عقوبة أو استيفاء قصاص. وفي الحالة الأولى يرى أن المجني عليه لا يجب له شئ بفوات محل القصاص, أما في الحالة الثانية فيرى أن المجني عليه تجب له الدية بدلاً من القصاص؛ لأن الجاني قضى بالطرف أو الجارحة التي فاتت حقاً مستحقاً عليه (2) .   (1) مواهب الجليل ج6 ص213, شرح الدردير ج2 ص213. (2) بدائع الصنائع ج7 ص246, 298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 ويرى الشافعي وأحمد أن للمجني عليه إذا ذهب محل القصاص أن يأخذ الدية أياً كان سبب ذهاب محل القصاص, لأن موجب العمد عندهما أحد شيئين غير عين القصاص والدية, فإذا ذهب محل القصاص تعينت الدية موجباً. 530 - توبة الجاني: من المتفق عليه في الشريعة أن التوبة تسقط عقوبة جريمة الحرابة المقررة جزاء على الأفعال التي تمس حقوق الجماعة, وذلك لقوله جل شأنه: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 34] , فالمحارب إذا تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبات المقرة على الأفعال الماسة بحقوق الجماعة, أما العقوبات المقررة على الأفعال الماسة بحقوق الأفراد فلا تسقطها التوبة. وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على أن التوبة تسقط العقوبة المقررة لجريمة الحرابة إذا حدثت التوبة قبل القدرة على المحارب فإنهم قد اختلفوا في أثر التوبة على ما عدا هذه الجريمة, ولهم في ذلك ثلاث نظريات ذكرناها بمناسبة الكلام على العدول عن الجريمة فلا داعي لتكرارها هنا (1) . 531 - الصلح: الصلح سبب من أسباب سقوط العقوبة, ولكنه لا يسقط إلا القصاص والدية أما ما عداهما فلا أثر للصلح عليها. ولا خلاف بين الفقهاء في أن القصاص يسقط بالصلح, ويصح أن يكون الصلح عن القصاص بأكثر من الدية وبقدرها وبأقل منها. والأصل في الصلح السنة والإجماع. فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل عمداً دفع إلى أولياء   (1) راجع الفقرة 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية, وما صولحوا عليه فهو لهم", وفي عهد معاوية قتل هدبة بن خشرم قتيلاً فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبي ذلك وقتله (1) . ولما كان القصاص ليس مالاً جاز الصلح عنه بما يمكن أن يتفق عليه الفريقان؛ لأنه صلح عما لا يجري فيه الربا فأشبه الصلح على العروض, فيصح أن يكون بدل الصلح قليلاً أو كثيراً من جنس الدية أو من خلاف جنسها, حالاً أو مؤجلاً. أما إذا كان الصلح على الدية وليس على القصاص فإنه لا يجوز أن يكون على أكثر مما تجب فيه الدية؛ لأن ذلك يعتبر رباً، فمثلاً لا يصلح الصلح على الدية مقابل مائة وعشرين من الإبل؛ لأن الدية مائة من الإبل فقط؛ ولأن الزيادة رياً. 532 - العفو: العفو سبب من أسباب سقوط العقوبة، وهو إما أن يكون من المجني عليه أو وليه, وإما أن يكون من ولي الأمر, ولكن العفو ليس على أي حال سبباً عاماً لإسقاط العقوبة, وإنما هو سبب خاص يسقط العقوبة في بعض الجرائم دون البعض الآخر, والقاعدة التي تحكم العفو أنه لا أثر له في جرائم الحدود, وأن له أثره فيما عدا ذلك على التفصيل الآتي: 533 - جرائم الحدود والعفو: ليس للعفو أي أثر على الجرائم التي تجب فيها عقوبات الحدود, وليس للعفو أثر على هذه العقوبات سواء كان العفو من المجني عليه أو من ولي الأمر. فالعقوبة في هذه الجرائم لازمة محتمة ويعبر الفقهاء عنها بأنها حق الله تعالى؛ لأن ما كان حقاً لله امتنع العفو فيه أو إسقاطه (2) .   (1) المغني ج9 ص477. (2) إذا عوقب على جريمة من جرائم الحدود بعقوبة تعزيرية مع عقوبة الحد جاز لولي الأمر أن يعفو عن العقوبة التعزيرية وحدها, وإذا امتنع الحد في جريمة من جرائم الحدود وعوقب عليها بالتعزير فليس لولي الأمر العفو عن العقوبة على الرأي الراجح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 وقد ترتب على عدم جواز العفو عن العقوبة أو إسقاطها اعتبار من وجب عليه حد مهلك مهدراً فيما وجب فيه الحد, فإن وجب الحد في نفسه أهدرت نفسه, وإن وجب في طرفه أهدر طرفه (1) . 534 - العفو في جرائم القصاص والدية: تجيز الشريعة للمجني عليه أو ولي دمه أن يعفو عن عقوبتي القصاص والدية (2) دون غيرهما من العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية، فليس له أن يعفو عن عقوبة الكفارة, ولا يؤثر عفوه على حق ولي الأمر في تعزير الجاني بعد العفو عنه. وليس لولي الأمر أن يعفو في جرائم القصاص والدية عن العقوبات المقدرة كالقصاص والكفارة, ولكن له أن يعفو عن أية عقوبة تعزيرية يعاقب بها الجاني, وله أن يعفو عن كل عقوبة أو بعضها. وحق المجني عليه أو وليه في العفو مقصور؛ كحق ولي الأمر على العفو عن العقوبة فقط, وليس لأيهما العفو عن الجريمة, فإذا عفا أحدهما عن الجريمة انصرف عفوه إلى العقوبة في الحدود التي بيناها, والعلة في منع العفو عن الجريمة أنه لو سمح للمجني عليه بالعفو عن الجريمة لما أمكن معاقبة الجاني, وفي هذا خطر شديد على الجماعة؛ لأن الجريمة تمس الجماعة وإن كانت أكثر مساساً بالمجني عليه, ولو سمح لولي الأمر بالعفو عن الجريمة لأمكن تعطيل حق المجني عليه في القصاص والدية. والأصل في حق المجني عليه أو وليه في العفو الكتاب والسنة, أما الكتاب فقد أقر هذا الحق في سياق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} حيث قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] , وفي سياق قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} حيث   (1) راجع الفقرة 375 وما بعدها. (2) المقصود من الدية معناه الأعم فتشمل الدية والأرش والحكومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 قال: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [المائدة: 45] . وأما السنة فإن أنس بن مالك قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه شئ من قصاص إلا أمر فيه بالعفو". والعفو عن القصاص عند الشافعي وأحمد هو التنازل عن القصاص مجاناً أو على الدية, فمن تنازل عن القصاص من القاتل مجاناً فهو عاف، ومن تنازل عن القصاص مقابل الدية فهو عاف (1) . والعفو عند مالك وأبي حنيفة هو إسقاط القصاص مجاناً, أما التنازل عن القصاص مقابل الدية فهو ليس عفواً وإنما هو صلح؛ لأن الجاني لا يلزم بالدية إلا إذا قبلها (2) . ويعتبر مالك وأبو حنيفة العفو عن القصاص على الدية صلحاً لا عفواً؛ لأن الواجب بالعمد عندهما هو القصاص عيناً؛ لأن الدية لا تجب عندهما إلا برضاء الجاني, وإذا كان إسقاط القصاص على الدية يقتضي رضاء الطرفين فهو صلح لا عفو. أما الشافعي وأحمد فيعتبران العفو عن القصاص على الدية عفواً لا صلحاً؛ لأن الواجب العمد عندهما أحد سيئين غير عين القصاص والدية، والخيار للمجني عليه أو وليه دون حاجة لرضاء الجاني, ولما كان القصاص أشد من الدية كان إسقاطه واختيار الدية إسقاطاً محضاً لا مقابل له وترك للأثر وأخذ الأقل, فهو عفو؛ لأنه إسقاط محض صادر من طرف واحد وغير متوقف على موافقة الطرف الآخر. وكما يجوز العفو عن القصاص يجوز العفو عن الدية, وسواء كانت الدية هي العقوبة الأصلية كما في القتل الخطأ أو كانت حالة محل القصاص. 535 - العفو في جرائم التعازير: من المتفق عليه بين الفقهاء أو لولي   (1) المهذب ج2 ص201, الشرح الكبير ج9 ص417. (2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص230, الزيلعي ج4 ص107, 108, البحر الرائق ج8 ص300, 301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 الأمر حق العفو كاملاً في جرائم التعازير, فله أن يعفو عن الجريمة وله أن يعفو عن العقوبة كلها أو بعضها, ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان لولي الأمر حق العفو في كل جرائم التعازير أو في بعضها دون البعض الآخر. فرأى البعض أن ليس لولي الأمر حق العفو في جرائم القصاص والحدود التامة التي امتنع فيها القصاص والحد, وأن هذه الجرائم يعاقب عليها بالعقوبات التعزيرية المناسبة ولا عفو فيها لا عن الجريمة ولا عن العقوبة. أما ما عداها من الجرائم فلولي الأمر فيها أن يعفو عن الجريمة وأن يعفو عن العقوبة إذا رأى المصلحة في ذلك بعد مجانبة هوى نفسه (1) . ورأي البعض أن لولي الأمر في كل الجرائم المعاقب عليها بالتعزير أن يعفو عن الجريمة وأن يعفو عن العقوبة إذا كان في ذلك مصلحة (2) . ورأي الفريق الأول أقرب إلى منطق الشريعة في جرائم الحدود وجرائم القصاص. وللمجني عليه في جرائم التعازير أن يعفو عما يمس شخصه كما في الضرب والشتم, ولكن عفوه لا يؤثر على حق الجماعة في تأديب الجاني وتقويمه, فإذا عفا المجني عليه انصرف عفوه إلى حقوقه الشخصية (3) . وإذا عفا ولي الأمر في جرائم التعازير عن الجريمة أو العقوبة فإن عفوه لا يؤثر بأي حال على حقوق المجني عليه (4) . وقد سبق أن تكلمنا عن العفو بمناسبة الكلام على بطلان القوانين المخالفة للشريعة وما قلناه هناك يكمل ما قيل هنا (5) . 536 - إرث القصاص: تسقط عقوبة القصاص إذا ورث القصاص من   (1) شرح فتح القدير ج4 ص121, 213, المغني ج10 ص349, أسنى المطالب ج4 ص162, 163, الأحكام السلطانية ص207، الإقناع ج4 ص270, مواهب الجليل ج6 ص320. (2) المراجع السابقة. (3) الأحكام السلطانية ص207, أسنى المطالب ج4 ص163. (4) المرجع السابقة, ومواهب الجليل ج6 ص320. (5) راجع الفقرة 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 ليس له أن يقتص من الجاني, كما تسقط العقوبة إذا ورث الجاني نفسه كل القصاص أو بعضه, فمثلاً إذا كان في ورثة المقتول ولد للقاتل فلا قصاص؛ لأن القصاص لا يتجزأ, وما دام لا يجب بالنسبة لولد القاتل لأن الولد لا يقتص من أبيه فهو لا يجب للباقين. وإذا قتل أحد ولدين أباه ثم مات غير القاتل ولا وارث فه إلا القاتل فقد ورث القاتل دم نفسه كله ووجب القصاص لنفسه على نفسه فيسقط القصاص. وكذلك الحكم لو ورث بعض القصاص فإن القصاص يسقط, ولمن بقى من المستحقين نصيبهم من الدية (1) . 537 - التقادم: التقادم المقصود هو مضي فترة معينة من الزمن على الحكم بالعقوبة دون أن تنفذ فيمتنع بمضي هذه الفترة تنفيذ العقوبة. والتقادم المسقط للعقوبة مختلف عليه, فأكثر الفقهاء لا يسلمون به, ومن يرونه مسقطاً للعقوبة لا يجعلونه سبباً عاماً مسقطاً لكل عقوبة, وآراء الفقهاء المختلفة يمكن ردها إلى نظريتين: النظرية الأولى: وهي تقوم على مذهب مالك والشافعي وأحمد, وتلخص في أن العقوبة لا تسقط مهما مضى عليها من الزمن دون تنفيذ, وأن الجريمة لا تسقط مهما مضى عليها من الزمن دون المحاكمة, وما لم تكن العقوبة من عقوبات التعازير وما لم تكن الجريمة من جرائم التعازير, فإن العقوبة أو الجريمة تسقط بالتقادم إذا رأى ذلك أولو الأمر تحقيقاً لمصلحة عامة. وأساس هذه النظرية أن قواعد الشريعة ونصوصها ليس فيها ما يدل على أن عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية تسقط بمضي مدة معينة, كذلك فإن ولي الأمر ليسله حق العفو عن هذه العقوبات أو إسقاطها بأي   (1) بدائع الصنائع ج7 ص251, شرح الدردير ج4 ص233, المهذب ج2 ص186, ج9 ص362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 حال, وإذا لم يكن هناك نص يجيز إسقاط العقوبة ولم يكن لولي الأمر إسقاطها فقد امتنع القول بالتقادم. أما العقوبات التعزيرية فتطبيق القواعد العامة عليها يقتضي القول بجواز سقوط العقوبة بالتقادم إذا رأى ولي الأمر ذلك تحقيقاً لمصلحة عامة؛ لأن لولي الأمر حق العفو عن الجريمة وحق العفو عن العقوبة في جرائم التعازير, وإذا كان لولي الأمر أن يعفو عن العقوبة فيسقطها فوراً فإن له أن يعلق سقوطها على مضي مدة معينة إن رأى أن في ذلك ما يحقق مصلحة عامة أو يدفع مضرة. النظرية الثانية: وقوامها مذهب أبي حنيفة, وأصحابها يتفقون مع أصحاب النظرية الأولى في القول بالتقادم في العقوبات التعزيرية وفي امتناع التقادم في العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية وفي جريمة القذف دون غيرها من جرائم الحدود, أما بقية جرائم الحدود فيرون أن عقوباتها تسقط بالتقادم. وأبو حنيفة وأصحابه على هذا الرأي عدا زفر فإنه لا يرى سقوط عقوبة الحد بالتقادم. على أن القائلين بسقوط عقوبة الحد بالتقادم من الحنفية يفرقون بين ما إذا كان دليل الجريمة شهادة الشهود أو الإقرار, فإن كان الدليل شهادة الشهود سقطت العقوبة بالتقادم, وإن كان الدليل الإقرار لم تسقط العقوبة بالتقادم (1) . والأصل في هذه التفرقة أن الحنفيين يشترطون لقبول الشهادة في جرائم الحدود أن لا تكون الجريمة قد تقادمت, ولا يستثنون من ذلك إلا جريمة القذف؛ لأن شكوى المجني عليه شرط لتحرك الدعوى العمومية فلا يستطيع الشاهد أن يشهد قبل الشكوى, أما ما عدا القذف من الجرائم فلكل إنسان أن يتقدم بالتبليغ عنها ولا يتوقف تحريك الدعوى العمومية فيها على تبليغ المجني عليه. ويستند الحنفية في قولهم بتقادم الجريمة إلى أن الشاهد مخير إذا شهد الجريمة   (1) يروى البعض سقوط حد الشرب بالتقادم ولو كان الدليل الإقرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 بين أن يؤدي الشهادة حسبة لله تعالى لقوله جل شأنه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وبين أن يتستر على الحادث لقوله عليه السلام: "من ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه في الآخرة", فإذا سكت الشاهد عن الجريمة حتى قدم العهد عليها دل ذلك على اختياره جهة الستر, فإذا شهد بعد ذلك فإن هذه الشهادة المتأخرة دليل على أن ضغينة ما هي التي حملته على الشهادة, ومثل هذا الشاهد المشكوك فيه لا تقبل شهادته. ويؤيد الحنفية رأيهم بما روى عن عمر من قوله: أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته - أي عند وقوعه - فإنما شهدوا عن ضغن ولا شهادة لهم. ويقولون: إنه لم ينقل أن أحداً من الصحابة أنكر على عمر هذا القول فيكون إجماعاً. ومن المستفاد من قول عمر أن الشهادة المتأخرة تورث التهمة ولا شهادة لمتهم على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" أي متهم. وإذا كانت الشهادة ترد أصلاً للمتهم فالمنطق أن لا ترد إذا انتفت التهمة, كما لو كان الشاهد تأخر لطول الطريق أو لمرض, ولكن لما كانت التهمة أمراً خفياً غير منضبط ومن الصعب التحقق منه في كل الأحوال فقد أقيم التقادم مقامها وأهمل شأن التهمة فلا ينظر إلى وجودها وعدمها, وعلى هذا ترد الشهادات بالتقادم ولو لم يكن هناك تهمة أو يأخذ على الشاهد. وبعد أن قال الحنفية بالتقادم في الجريمة كان من السهل أن يقولوا به في العقوبة؛ لأن القاعدة عندهم أن الإمضاء من القضاء؛ أي أن التنفيذ متمم للقضاء, فوجب أن يتوفر عند التنفيذ ما يتوفر عند الحكم, وإذا وجب عند الحكم أن لا تتقادم الجريمة فقد وجب أن لا يكون التقادم عند التنفيذ (1) . ولم يقدر أبو حنيفة للتقادم حداً وفوض الأمر فيه للقاضي يقدره طبقاً لظروف كل حالة؛ لأن اختلاف الأعذار يجعل التوقيت متعذراً. وقدره محمد بستة   (1) شرح فتح القدير ج4 ص161 وما بعدها, حاشية ابن عابدين ج3 ص218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 أشهر, وذكر عنه أنه قدره بشهر, وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف. ويترتب على هذا أن لولي الأمر أن يضع حداً للتقادم وأن يمنع قبول الدعوى بعد مضي مدة معينة إذا كان الدليل عليها هو الشهادة. وخلاصة رأي الحنفيين في سقوط العقوبة بالتقادم أن عقوبات التعازير تسقط بالتقادم أياً كان الدليل الذي بني عليه الحكم, وأن عقوبات الحدود فيما عدا القذف تسقط بالتقادم إذا كان دليل الجريمة فيها هو الشهادة, فإذا كان دليل الجريمة الإقرار فلا يسقط إلا حد شرب الخمر على رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (1) . تم الجزء الأول بعون الله تعالى * * *   (1) شرح فتح القدير ج4 ص162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 [مقدمة المؤلف] الحمد لله الذى علم الإنسان بعد جهل، وهداه بعد ضلال، وفقهه بعد غفلة، والصلاة والسلام على محمد رسول الله الذى أرسله ربه للناس كافة بشيرًا ونذيرًا وهاديًا ومعلمًا؛ ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحى من حى عن بيِّنة. وبعد؛ فهذه دراسات فى التشريع الجنائى الإسلامى مقارنة بالقوانين الوضعية، وفقنى الله فيها إلى إظهار محاسن الشريعة، وتفوقها على القوانين الوضعية، وسبقها إلى تقرير كل المبادئ الإنسانية والنظريات العلمية والاجتماعية التى لم يعرفها العالم ولم يهتد إليها العلماء إلا أخيرًا. وسيرى القارئ مصداق هذا القول بين دفتى هذا الكتاب، وأرجو أن لا ينتهى من قراءته إلا وقد أصبح يعتقد بما أعتقده، وهو أن الشريعة الإسلامية هى شريعة كل زمان ومكان. والحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله. {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى * وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25- 28] . * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 الباب الأول فى الجنايات 1 - معنى الجناية: الجناية لغة: اسم لما يجنيه المرء من شر وما اكتسبه، تسميه للمصدر من جنى عليه شرًا، وهو عام، إلا أنه خُصِّ بما يحرم من الأفعال، وأصله من جنى الثمر وهو أخذه من الشجرة. أما فى الاصطلاح الفقهى فالجناية: اسم لفعل محرم شرعًا سواء وقع الفعل فى نفس أو مال أو غير ذلك. لكن عرف الفقهاء جرى على إطلاق اسم الجناية على الأفعال الواقعة على نفس الإنسان أو أطرافه وهى القتل والجرح والضرب (1) . وأكثر الفقهاء يتكلمون عن القتل والجرح والضرب تحت عنوان الجنايات، متأثرين فى ذلك بما تعارفوا عليه من إطلاق اسم الجناية على هذه الأفعال (2) . ولكن بعض الفقهاء يتكلمون عن هذه الأفعال تحت عنوان الجراح (3) ناظرين إلى أن الجراحة هى أكثر طرق القتل والاعتداء على النفس والأطراف. كما أن بعض الفقهاء يؤثرون لفظ الدماء. (4) ويجعلونه عنوانًا لجرائم القتل والجرح   (1) البحر الرائق ج8 ص 286 , الزيلعى ج6 ص79. (2) المرجعان السابقان , وبدائع الصنائع ص 233 , الإقناع ج4 ص162 , البجيرمى على المنهج ج4 ص 129. (3) تحفة المحتاج ج4 ص1 , المغنى ج9 ص318 , الأم ج6 ص1. (4) الشرح الكبير للدردير ج4 ص210 , مواهب الجليل للحطاب ج6 ص230. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 والضرب، ناظرين فى ذلك إما إلى النتيجة الغالبة لهذه الجرائم وهى إراقة الدماء وإما إلى أن أحكام هذه الجرائم وضعت لحماية الدماء. 2 - أقسام الجناية: ويقسم الفقهاء الجناية (1) . على الآدمى إلى ثلاثة أقسام: 1 - جناية على النفس مطلقًا، ويدخل تحت هذا القسم الجرائم التى تهلك النفس أى القتل بمختلف أنواعه. 2 - جناية على ما دون النفس مطلقًا، ويدخل تحت هذا القسم الجرائم التى تمس جسم الأنسان ولا تمس نفسه وهى الضرب والجرح. 3 - جناية على ما هو نفس من وجه دون وجه. ويقصد من هذا التعبير الجناية على الجنين لأنه يعتبر نفسًا من وجه ولا يعتبر كذلك من وجهة آخر، فيعتبر نفس من وجه لأنه آدمى، ولا يعتبر كذلك لأنه لم ينفصل عن أمه. ويعبر عن هذه الجناية فى الاصطلاح القانون الوضعى بالإجهاض. 3 - جرائم القتل والضرب والجرح قد تقع عمدًا وقد تقع خطأ: ولكنها سواء كانت عمد أو خطًا ليست فى الواقع إلا صورًا قانونية مختلفة بفعل واحد يقع على جسم المجنى عليه، فالضرب بعصا قد لا يحدث أثرًا وقد يحدث شجه أو جرحًا، وقد يؤدى إلى موت المجنى عليه وقد يكون الضارب قاصدًا مجرد الاعتداء فيكون فعله ضربًا أو جرحًا متعمدًا وقد لا يقصد الاعتداء فيكون فعله ضربًا أو جرحًا خطأ. فإذا مات المجنى عليه كان الضرب قتلاً عمدًا إذا قصد الجانى القتل، وكان قتلاً شبه عمد أى ضربًا مفضيًا لموت إذا تعمد الجانى الاعتداء ولم يقصد القتل، وكان قتلاً خطأ إذا لم يقصد الاعتداء أصلاً. فالفارق بين هذه الصور المتعددة المختلفة هو نتيجة الفعل وقصد الجانى، وهذا التصوير لجرائم القتل والجرح والضرب متحد فى الشريعة والقوانين الوضعية.   (1) يلاحظ أن معنى الجناية فى الشريعة يتفق مع معنى الجريمة , فالفعل جناية ولو كان مخالفة أو جنحة أو أكثر جسامة منهما , ولفظ الجناية فى الشريعة مخالف لمعنى هذا اللفظ ن المصرى الذى يعتبر جناية كل فعل معاقب عليه بالإعدام أو الأشغال الشاقة أو السجن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وتتفق أحكام جرائم القتل والجرح والضرب فى الشريعة الإسلامية مع أحكامها فى القوانين الوضعية فيما يختص بأركان الجريمة وصورها والأفعال المختلفة المكونة لها. ولا تكاد الشريعة تختلف عن القوانين إلا فى نوع العقوبة التى يقررها كلاً منهما لهذه الجرائم. بل أن القوانين حين تتناول هذه الجرائم تتناولها على نفس طريقة الشريعة فتجمعها فى باب واحد، كما يتكلم عنها الشراح دفعة واحدة لشدة ما بينها من اتصال، وهو نفس ما فعله فقهاء الشريعة فى شرح هذه الجرائم. * * * الفصل الأول القتل 4 - تعريف القتل: يعرف القتل فى الشريعة كما يعرف فى القوانين الوضعية بأنه فعل من العباد تزول به الحياة (1) أى إنه إزهاق روح أدمى بفعل أدمى آخر. والقتل فى الشريعة أصلا على نوعين: قتل محرم، وهو كل قتل عدوانى، وقتل بحق، وهو قتل لا عدوان فيه كقتل القاتل والمرتد. وبعض الفقهاء يقسم القتل من حيث الحل والحرمة إلى خمسة أقسام: واجب: وهو قتل المرتد إذا لم يتب والحربى إذا يسلم أو يعط الأمان. محرم: وهو قتل المعصوم بغير حق. مكروه: وهو قتل الغازى قريبه الكافر إذا لم يسب الله ورسوله فإن سبهما لم يكره قتله. مندوب: وهو قتل الغازى قريبه الكافر إذا سب الله ورسوله. مباح: ومثله قتل المقتص وقتل الأسير، على أن قتل الأسير كما   (1) تكملة فتح القدير ج8 ص244. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 يرى البعض قد يكون واجبًا إذا ترتب على عدم قتله مفسده ومندوبًا إذا كان فيه مصلحه، بل يحتمل الوجوب مطلقًا إذا ظهرت المصلحة. (1) 5 - أقسام القتل: ويقسم الفقهاء القتل تقسيمات تختلف بحسب وجهة نظر كل منهم، ويمكننا أن نستعرض هذه التقسيمات المختلفة فيما يأتى: أولاً: التقسيم الثنائى: يقسم بعض الفقهاء القتل إلى قتل عمد، وقتل خطأ، ولا وسط بينهما، والقتل العمد عند هؤلاء هو كل فعل ارتكب بقصد العدوان إذا أدى إلى موت المجنى عليه سواء قصد الجانى القتل أو لم يقصده، وبشرط ألا يكون الفعل قد وقع على وجه اللعب أو مقصودًا به التأديب ممن له حق التأديب. والقتل الخطأ هو ما لم يكن عمدًا. (2) وهذا هو مشهور مذهب مالك. (3) ثانيًا: التقسيم الثلاثى: يقسم بعض الفقهاء القتل إلى ثلاثة أقسام (4) : (أ) عمد: وهو ما تعمد فيه الجانى الفعل المزهق قاصدًا إزهاق روح المجنى عليه. (ب) شبه عمد: وهو ما تعمد فيه الجانى الاعتداء على المجنى عليه دون أن بقصد قتله إذا مات المجنى عليه نتيجة للاعتداء ويسمى شراح القوانين الوضعية هذا النوع من القتل بالضرب المفضى إلى الموت. (جـ) قتل خطأ: ويكون فى حالات: أولها: إذا تعمد الجانب الفعل دون أن يقصد المجنى عليه، كمن يرمى غَرضًا فيصيب شخصًا. وتسمى هذه الحالة الخطأ فى الفعل. وثانيها: إذا تعمد الجانى الفعل وقصد المجنى عليه على ظن أن الفعل مباح بالنسبة للمجنى عليه ولكن تبين أن المجنى عليه معصوم، كمن يرمى من يظنه جنديًا من جنود الأعداء فإذا هو مسلم أو معاهد أو ذمى. وتسمى هذه الحالة الخطأ فى القصد. وثالثها: أن لا يقصد الجانى الفعل ولكنه يقع نتيجة لتقصيرة، كمن يتقلب وهو نائم على آخر فيقتله. ورابعها: أن   (1) نهاية المحتاج مع حاشية الشبراميلسى ج7 ص233. (2) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص240. (3) حجة مالك وغيره فى التقسيم الثنائى ستأتى فيما بعد. (4) نهاية المحتاج ج7 ص235 , المغنى ج9 ص30 , الإقناع ج4 ص163 , الزيلعى ج6 ص97. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 يتسبب الجانى فى الفعل، كمن يحفر حفرة فى الطريق فيسقط فيها أحد المارة ليلاً وتؤدى السقطة لوفاته. ثالثًا: التقسيم الرباعى: يقسم بعض الفقهاء القتل أربعة أقسام: (1) عمد. ... ... (2) شبع عمد. ... ... ... (3) خطأ. ... ... (4) ما جرى مجرى الخطأ (1) . والعمد وشبه العمد عند أصحاب هذا التقسيم لا يختلفان عما هما عليه فى التقسيم السابق، فالخلاف منحصر عندهم فى الخطأ لا غير. والخطأ (2) عند هؤلاء ما يكون فى نفس الفعل أو فى ظن الفاعل. فالأول: أن يقصد الفعل ولا يقصد الشخص كمن يرمى صيدًا فيصيب شخصًا. والثانى: أن يقصد من يظنه مباح القتل كحربى أو مرتد فإذا هو معصوم (3) . أما ما جرى مجرى الخطأ فنوعان: نوع هو فى معنى الخطأ من كل وجه، وهو أن يكون القتل على طريق المباشرة كأن ينقلب النائم على إنسان فيقتله، فهذا القتل فى معنى القتل الخطأ من كل وجه لوجوده عن غير قصد، ونوع هو فى معنى الخطأ من وجه واحد، وهو أن يكون القتل عن طريق التسبب كمن يحفر حفرة فى طريق ولا يتخذ الاحتياطات اللازمة لمنع المارة ليلاً من السقوط فيها فيسقط فيها شخص ويموت من سقطة (4) . وظاهر مما سبق أن هذا التقسيم لا يختلف عن سابقه فى شىء إلا فى أنه يقسم ما اعتبره التقسيم خطًا إلى قسمين: أحدهما: الخطأ، والثانى: ما جراه مجراه. رابعًا: التقسيم الخماسى: ويقسيم بعض الفقهاء القتل خمسة أقسام:   (1) بدائع الصنائع ج7 ص233 , الشرح الكبير ج9 ص319. (2) بدائع الصنائع ح7 ص234 , الشرح الكبير ج9 ص333. (3) الحربى: هو المنتمى إلى دولة محاربة , والمرتد: هو المسلم الذى ترك دينه , والمعصوم: هو من لا يحل قتله ولم يهدر دمه. (4) بدائع الصنائع ج7 ص271 , الشرح الكبير ج9 ص334. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 (1) عمد. ... ... (2) شبه عمد. ... ... (3) خطأ. (4) ما جرى مجرى الخطأ. ... ... (5) القتل بالتسبب. والفرق بين هذا التقسيم والتقسيم السابق أن أصحاب هذا التقسيم يفرقون بين الفعل المباشر والقتل بالتسبب ويجعلون الأخير قسمًا مستقلاً (1) . ويعزى التقسيم الخماسى إلى أبى بكر الرازى، فقد أداه منطقه إلى اختراع هذا التقسيم حيث رأى أن الخطأ على ضربين: أحدهما: خطأ فى الفعل كأن يقصد رمى طائر فيصيب شخصًا. والثانى: خطأ فى قصد كأن يقصد إصابة من يظنه حربيًا لأنه فى صفوفهم أو عليه لباسهم فيتبين أنه معصوم. وإذا كان هذا هو الخطأ فإنه لا ينطبق على فعل الساهى أو النائم لأن الفعل فى الخطأ مقصود إلا أن الخطأ يقع تارة فى الفعل وتارة فى القصد، وفعل الساهى والنائم غير مقصود أصلاً فليس هو إذن فى حيز الخطأ كما أنه ليس فى حيز العمد أو شبه العمد، ولما كان حكم فعل الساهى والنائم هو حكم الخطأ من حيث الجزاء فقد رأى أبو بكر الرازى إلحاقه بالخطأ باعتباره جاريًا مجراه. كذلك لاحظ هذا الفقيه أن الفقهاء يلحقون بحكم القتل ما ليس بقتل فى الحقيقة لا عمدًا ولا غير عمد، وذلك نحو فعل حافر البئر وواضع الحجر فى الطريق إذا عطب به إنسان وقال: إن هذا ليس بقاتل فى الحقيقة إذ له فعل فى قتل المجنى عليه لأن القاتل إما أن يكون مباشرًا من الجانى أو متولدًا عن فعله، وليس من واضع الحجر وحافر البئر فعل فى العاثر بالحجر والواقع فى البئر لا مباشرة ولا متولدًا، فلم يكن قاتلاً فى الحقيقة وإنما يمكن اعتباره قاتلاً بالتسبب (2) . هذه التقسيمات المختلفة للقتل وظاهر من استعراضها أن التقسيم الثنائى يختلف عن باقى التقاسيم فى أنه لا يتعرف بالقتل شبه العمد، وأن الخلاف بين التقسيمان فيما عدا ذلك خلاف ظاهرى أدى إليه منطق الترتيب والتبويب   (1) البحر الرائق ج8 ص287 , تكملة فتح القدير ج8 ص244. (2) أحكام القرأن لأبى بكر الرازى الجصاص ج2 ص223. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الدقيق. ولما كان التقسيم الثلاثى هو أشهر التقاسيم فسنجعله أساسًا لبحثنا دون غيره خصوصًا وأنه يتفق مع التقسيم الذى سار عليه قانون العقوبات المصرى وغيره من القوانين الوضعية، فقد قسم قانون العقوبات المصرى القتل إلى عمد، وخطأ، وضرب أفضى إلى موت، أى القتل شبه العمد. * * * المبحث الأول القتل العمد 6 - القتل العمد هو ما اقترن فيه الفعل المزهق للروح بنية قتل المجنى عليه: أى أن تعمد الفعل المزهق لا يكفى لاعتبار الجانى قاتلاً متعمدًا بل لابد من توفر قصد القتل لدى الجانى، فإذا لم يقصد الجانى القتل وإنما تعمد فقط مجرد الاعتداء فالفعل ليس قتلاً عمدًا ولو أدى لموت المجنى عليه، وإنما هو قتل شبه عمد كما يعبر عنه فقهاء الشريعة، وضرب أفضى إلى موت فى لغة شراح القوانين الوضعية. 7 - ويعتبر القتل العمد فى الشريعة من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم: وقد جاء القرأن والسنة بتحريمه وتعظيم شأنه وتحديد عقوبته. تحريم القتل من القرآن: قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّى القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء: 33] وقال: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] وقال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] ، وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] ، وقال جل شأنه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة 32] . عقوبة القتل من القرآن: قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] . وإذا كانت هذه الآية تذكر أن هذا الحكم كتب على من قبلنا فليس ذلك بشىء لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما يقم دليل على نسخه، فضلاً على أن القرآن جاء بنص صريح فى أنه مكتوب علينا، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِى القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178, 179] . تحريم القتل من السنة: روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس"، وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن قالوها فقد عاصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل"، وقال: "من قتل نفسه بشىء من الدنيا عُذَّب به يوم القيامة"، وقال: "من أعان قتل امرئ مسلم بشطر كلمة لقى الله مكتوبًا بين عينيه: آيس من رحمة الله"، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وقال: "قتل المؤمن يعدل عند الله زوال الدنيا"، وقال فى خطبة عرفات: "ألا أن دمائكم ونفوسكم محرمة عليكم كحرمة يومى هذا فى شهرى هذا فى مقامى هذا". عقوبة القتل من السنة: روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه وجد فى قائم سيفه: "إن أعدى الناس على الله غير قاتله، والضارب بغير ضاربه، ومن تولى غير مواليه فقد كفر بما أنزل على محمد"، وروى أنه قال: "من اعتبط مؤمنًا بقتل فهو قَوَد به إلا أن يرضى ولى المقتول، فمن حان دونه فعليه لعنة الله وغضبة، لا يقبل منه صرف ولا عدل"، وقال: "العمد قود"، وقال: "من قُتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا فالقود، وإن أحبوا فالعقل". * * * أركان جريمة القتل العمد 8 - أركان جريمة القتل فى الشريعة ثلاثة: أولها: أن يكون المجنى عليه آدميًّا حيًّا. ثانيها: أن يكون القتل نتيجة لفعل الجانى. ثالثها: أن يقصد الجانى إحداث الوفاة. وهذه الأركان هى نفس أركان جريمة القتل العمد فى قانون العقوبات المصرى وغيره من القوانين الوضعية. * * * الركن الأول: القتيل آدمى حي 9 - تقع جريمة القتل على النفس فهى بطبيعتها اعتداء على آدمى حى: ولذلك سماها الفقهاء بالجناية على النفس، فلتحقق وقوع الجريمة يجب أن يكون المجنى عليه آدميا وأن يكون على قيد الحياة وقت ارتكاب جريمة القتل, فمن أطلق مقذوفا ناريا على حيوان حى فقتلة فإنه لا يعتبر قاتلاً عمدًا وإن كان يعتبر متلفًا لحيوان، ومن شق بطن إنسان ميت أو فصل رأسه من جسمه بقصد قتله وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 لا يعلم أنه ميت فإنه لا يعد قاتلاً له لأن الموت لم ينشأ عن فعله ولأن الفعل كان بعد أن فارق الميت الحياة فاستحال قتله، أو بتعبير آخر: لا يعاقب الجانى على جريمة القتل العمد لاستحالة وقوعها ولكنه يعاقب لأنه استحل حرمة ميت. 10 - ومن المتفق عليه أن الميت هو من خرج فعلاً عن الحياة: فإذا قتل شخص مريضًا فى حالة النزع فهو قاتل له عمدًا؛ لأنه أخرجه بفعله عن الحياة. 11 - وإذا جنى شخصان على ثالث وكان فعل الأول يفضى إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة مثل شق البطن ومَزْق الأمعاء فإذا قطع الثانى رقبته فالقاتل هو الثانى لأنه فوَّت حياة مستقرة أو ما هو فى حكم الحياة، ويستدلون على ذلك بحادث عمر رضى الله عنه فإنه لما جرح دخل عليه الطبيب فسقاه لبنًا فخرج يصلد فعلم الطبيب أنه ميت فقال: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم وأوصى وجعل الخلافة إلى أهل الشورى، فقبل الصحابة عهده وأجمعوا على قبول وصاياه، وهكذا ما دامت الحياة باقية يعتبر الثانى مفوتًا لها ويكون هو القاتل كما لو قتل عليلاً لا يرجى له البُرْء (1) . 12 - أما إذا كان فعل الأول قد أخرج المجنى عليه من حكم الحياة كأن قطع حشوته أى قطع أمعاءه وانتزعها ثم جاء الثانى وذبحه، فقد اختلف الفقهاء فى حكم هذه الحالة: ففريق يرى أن القاتل هو الأول إذا صير المجنى عليه إلى حركة مذبوح لأنه هو الذى صيره بفعله لحالة الموت ومن ثَمَّ أعطى حكم الأموات مطلقًا والمفروض فيمن يصل لهذه الحالة أن يكون عاجزًا عن النطق فاقدًا الإدراك والاختيار وإذا نطق بكلام منتظم فنطقه حركة مضطر كطلب الماء (2) . ويرى الفريق الآخر أن القاتل هو الثانى لأن من قربت روحه من الزهوق   (1) البحر الرائق ج8 ص295 , نهاية المحتاج ج7 ص250 , 251 , مواهب الجليل للحطاب ج6 ص244 , الشرح الكبير ج9 ص338. (2) أصحاب هذا الرأى هم الحنفيون والشافعيون والحنابلة وبعض المالكيين , راجع المراجع السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 يعتبر فى حكم الحياة ما دام لم يسلم الروح، وهو يرث غيره وتصح الوصية له إذا مات الموصى قبله وإذا استطاع الكلام فأسلم اعتبر إسلامه وورثه أهله من المسلمين وهو على كل حال إما حى أو ميت ولا سبيل لغير هذين الاعتبارين، ولا يمكن القول بأنه ميت قبل أن يسلم الروح، فهو إذن حى على ما به من إصابات، فإذا فعل به أحد فعلاً عجل بموته فهو قاتل نفسًا عمدًا (1) . 13 - والجنين فى بطن أمه لا يعتبر آدميًّا حيًّا من كل وجه: ويعبر عنه فى الشريعة بأنه نفس من وجه، دون وجه فمن يعدم الجنين لا يعتبر قاتلاً له عمدًا، وإنما يعتبر مرتكبًا لجريمة قتل من نوع خاص، ويعاقب على فعله بعقوبة خاصة، وسنتكلم فيما بعد عن هذه الجريمة. ويتفق القانون المصرى مع الشريعة فى هذا الاتجاه فمن يعدم جنينًا فى بطن أمه لا يعاقب على فعله بالعقوبة المقررة لقتل العمد فى المادة 1/234 عقوبات، وإنما يعاقب بالمادة 260 عقوبات وما بعدها الواردة فى الباب الثالث من الكتاب الثالث والخاصة بإسقاط الحوامل. 14 - وليس لجنسية المجنى عليه أو دينه أو لونه أو سنه أو نوعه أو ضعفه أو صحته أى أثر على اعتباره مقتولاً عمدًا: فيستوى أن يكون القتيل أجنبيًا أو من رعايا دولة الجانى، ويستوى أن يكون متدينًا أو غير متدين يعتنق دين القاتل أو دينًا آخر، ويستوى أن يكون أبيض أو أسود، عربيًا أو أعجميًا، صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، ضعيفًا أو قويًّا، مريضًا أو صحيحًا، ويستوى أن يكون مرضه بسيطًا أو عضالاً يتوقع له الموت أو يرجى له الشفاء، فمن يقتل إنسانًا أيًّا كان فهو قاتل متعمد ولو كان طبيبا قصد أن يخلص القتيل من آلام مرضه المستعصى. 15 - ووجود جثة القتيل ليس شرطًا لاعتبار جريمة القتل واقعة، وليس   (1) من هذا الرأى أصحاب المذهب الظاهرى وبعض المالكيين , راجع مواهب الجليل للحطاب ح6 ص233 , 244 الشرح الكبير للدردير ج4 ص215 , المحلى لابن حزم ج10 ص518. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 شرطًا لقيام الدعوى، ما دامت الأدلة قائمة على حدوث واقعة القتل. 16 - ولا خلاف بين الشريعة وقانون العقوبات المصرى فيما سبق: ولا يشترط القانون المصرى لتوفر هذا الركن أكثر مما بسطناه. ولكن الشريعة الإسلامية تشترط فوق ما سبق أن يكون القتيل معصومًا؛ أى: غير مهدر الدم. 17 - والعصمة أساسها فى الشريعة الإسلام والأمان: ويدخل تحت الأمان عقد الجزية والموادعة والهدنة. وعلى هذا يعتبر معصومًا المسلم، والذمى، ومن بينه وبين المسلمين عهد أو هدنة، ومن دخل أرض الدولة بأمان ولو كان منتميًا لدولة محاربة ما دام الأمان قائمًا ويعتبر الإذن بالدخول أمانًا حتى تنتهى مدة الإذن. فهؤلاء جميعًا معصومون؛ أى لا تباح دمائهم ولا أموالهم، وإذا قُتل أحدهم كان قاتله مسئولاً عن قتله عمدًا إن تعمد قتله. وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد (1) . أما أبو حنيفة فيرى أن العصمة ليست بالإسلام وإنما يعصم المرء بعصمة الدار ومَنَعة الإسلام وبالأمان، فأهل دار الإسلام معصومون بوجودهم فى دار الإسلام وبمنعة الإسلام المستمدة من قوتهم وجماعتهم وأهل دار الحرب غير معصومين لأنهم محاربون، وإن كان فيهم مسلم فلا يعصمه إسلامه حيث لا منعة له ولا قوة (2) . والفرق بين رأى أبى حنيفة ورأى بقية الأئمة أن قتل المسلم فى دار الحرب لا عقاب عليه لأنه غير معصوم كما يرى أبو حنيفة، وعندهم يعاقب على قتله لأنه معصوم النفس محقون الدم بإسلامه فقط ولا عبره بوجوده فى دار الحرب. 18 - وإذا كان أساس العصمة الإسلام والأمان فإن العصمة تزول   (1) مواهب الجليل ج6 ص231, تحفة المحتاج ج4 ص10, المغنى ج10 ص476, 606 وما بعدها , الإقناع ج4 ص173 , المغنى ج9 ص335. (2) راجع: بدائع الصنائع ج7 ص252 , البحر الرائق ج8 ص327. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 بزوال الأساس الذى قامت عليه: فالمسلم يصبح مهدر الدم بردته وخروجه عن الإسلام، والمستأمن والمعاهد يصبح مهدر الدم بانتهاء أمانه ونقضه عهده، ولا عصمة أصلاً لرعايا الدولة المحاربة ويسمى الفرد منهم حربيًا اصطلاحًا والحربى مهدر الدم أصلاً إلا إذا استأمن فأمن فإنه يعصم عصمة موقوتة بمدة أمانه، وإلا إذا عقدت دولته عهدًا ينهى حالة الحرب مؤقتًا أو دخلت فى الذمة فإنه يصبح معصومًا بعقد الموادعة أو عقد الذمة. 19 - وكما تزول العصمة بالردة وبانتهاء الأمان فإنها تزول بارتكاب بعض الجرائم: وهى على وجه الحصر: الزنا من محصن، وقطع الطريق، والقتل العمد. كذلك تزول العصمة - على رأى أبى حنيفة (1) - بارتكاب جريمة البغى وهى الخروج على أنظمة الدولة وقوانينها والثورة على القائمين بالأمر فيها، ويسمى الثائرون بغاة. وسنفصل القول فيما يأتى عن كل جريمة من هذه الجرائم (2) . 20 - ويترتب على زوال العصمة أن يصبح الشخص مهدر الدم، أى مباح القتل: فإذا قتله آخر لا يعتبر قاتلاً لأن قتل المهدر لا يعتبر جريمة من حيث فعل القتل، إذ الفعل مباح، ولكن لما كان قتل المهدرين من شئون السلطات العامة وموكولاً إليها فإن قتل الأفراد لهم يعتبر اعتداء على السلطات العامة ومن ثم يعاب قاتل المهدر باعتباره مرتكبًا لجريمة الافتيات على السلطات العامة لا باعتباره قاتلاً. وهذا هو الراجح فى المذاهب الأربعة (3) .   (1) يرى أبو حنيفة وأصحابه أن البغاة غير معصومن , ويخالفه فى ذلك مالك والشافعى وأحمد , ويقولون إنهم معصومون إلا فى حالة الاشتباك مع أهل وهم الفريق الآخر من الأمة الذى خرج عليه البغاة. (2) يحسن بالقارئ أن يرجع إلى ما كتبناه عن هذا الموضوع فى الجء الأول من كتابنا حيث تكلمنا عنه بتوسع. (3) الأصل فى الشريعة الإسلامية أن من ارتكب جريمة حوكم عليها فإن ثبتت عليه حكم عليه= =بالعقوبة المقررة للجريمة وإن لم تثبت حكم ببراءته مما نسب إليه, وإذا حكم عليه بالعقوبة تولى تنفيذها ولى الأمر أو نائبه , ومن المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحد - أى العقوبات المقررة لجرائم الحدود - إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى أى حق الجماعة وجب تفويضه الى نائب الجماعة , ولأن الحد مفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فى استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولى الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواطة نائبه. ... وحضور الإمام ليس شرطاً فى إقامة الحد لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم ير حضوره لازماً فقال: "اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وأمر عليه السلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم , وأتى بسارق فقال: "اذهبوا به فاقطعوه". ... لكن إذن الإمام واجب فى إقامة الحد , فما أقيم حد فى عهد رسول الله إلا بإذنه وما أقيم حد فى عهد الخلفاء إلا بإذنهم (المذهب ج2 ص287) . ومما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع إلى الولاة: الحدود , والصقات , والجمعات , والفئ" (شرح فتح القدير ج4 ص130) . وإذا كانت القاعدة العامة إقامة الحد للإمام أو نائبه إلا أنه لو اقامة غيره من الافراد فإن مقيمه لا يسأل عن إقامته اذا كان الحد متلفاً للنفس أو للطرف؛ أى إذا كان الحد قتلاً أو قطعاً وإنما يسأل باعتباره مفتاتاً على السلطات العامة , أما إذا كان الحد غير متلف كالجلد فى الزنا والقذف فإن مقيمه يسأل عن إقامته أى أنه يسأل عن الضرب والجرح وما يخلف عنهما. والفرق بين الحالين أن الحد المتلف للنفس أو الطرف يزيل عصمة النفس وعصمة الطرف , وزوال العصمة عن النفس يبيح القتل وزوال العصمة عن الطرف يبيح القطع , فيصير قتل النفس أو قطع العضو مباحاً ولا جريمة فيما هو مباح. أما الحد غير المتلف فلا يزيل عصمة النفس ولا عصمة الطرف فيبقى معصوماً ومن يرتكب جريمة عقوبتها حد غير متلف , وتعتبر إقامة الحد عليه جريمة ما لم تكن الإقامة ممن يملك تنفيذ العقوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 21 - الحربى: هو من ينتمى لدولة محاربة، والإجماع على أنه مهدر الدم فلا يعاقب قاتله باعتباره قاتلاً عمدًا وإنما يعاقب لأنه أحل نفسه محل السلطة التنفيذية وافتات عليها بإتيانه عملاً مما اختصت نفسها به. ولا عقاب على قتل الحربى إطلاقًا إن قتل فى ميدان الحرب أو قتل دفاعًا عن النفس فى غير ميدان الحرب، وفى هذا يتفق حكم الشريعة الإسلامية مع القوانين الوضعية. أما إذا قتل الحربى فى ميدان الحرب لغير مقتضٍ كأن ضبط فى أرض الوطن أو استؤسر فقتله من ضبطه أو أسره أو قتله غيرهما فلا يؤاخذ القاتل طبقًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 للشريعة باعتباره قاتلاً؛ لأن الحربى مباح الدم أصلاً كما قلنا لحرابته فضبطه أو أسره لا يعصمه ولا يغير من صفته كحربى ومن ثم يبقى دمه مباحًا بعد الضبط أو الأسر، فمن قتله فقد قتل مباح الدم ولا مسئولية عن قتل مباح باعتبار فعل القتل، وإنما المسئولية تأتى من كون القاتل اعتدى على السلطة العامة التى يوكل إليها أمر من يضبط أو يؤسر من الحربيين، فمن هذه الوجهة يسأل القاتل ويعاقب لافتياته على السلطة العامة. هذا هو حكم الشريعة الإسلامية فى هذه الحالة، وهو يخالف حكم القوانين الوضعية التى تعتبر الفعل قتلاً عمدًا ويعاقب عليه على هذا الاعتبار، ولكن الذى يحدث عملاً أن المحاكم تقدر ظروف الجانى والمجنى عليه وتقضى على الجانى بعقوبة مخففة بقدر الإمكان، فالنتيجة العملية أن الشريعة تتفق مع القوانين الوضعية من وجهة تقرير عقوبة على فعل الجانى وأن الخلاف واقع فى تصوير الجريمة تصويرًا قانونيًا، فالقوانين تعطى للقضاة حق تحفيف العقوبة لظروف الجانى والجناية فإن الشريعة تجيز لولى الأمر أن يرتفع بعقوبة التعزير إلى القتل، وجريمة الاعتداء على السلطة العامة من جرائم التعازير فيستطيع أولياء الأمور إن شاءوا أن يشددوا عقوبتها فى بعض الحالات دون البعض الآخر. 22 - المرتد: هو المسلم الذى غير دينه، فلا يعتبر غير المسلم مرتدًا إذا غير دينه، ويعتبر المرتد مهدر الدم فى الشريعة (1) ، فإذا قتله شخص لا يعاقب باعتباره   (1) يعتبر المرتد مهدر الدم من وجهين: ... أولهما: أنه كان معصوماً بالإسلام فلما ارتد زالت عصمته فأصبح مهدراً , وأساس العصمة بالإسلام قوله عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فإن قالوها فقد عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل". ... ثانيهما: أن عقوبة المرتد فى الشريعة القتل حداً لا تعزيزاً لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان , وزناً بعد أحصان , وقتل نفس بغير نفس" ولقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" وعقوبة الحد فى الشريعة لا يجوز العفو عنها ولا تأخيرها فيعتبر الجانى مهدراً لوجوب تنفيذ العقوبة فإذا نفذها عليه أى شخص فقتله فقد قتل مهدراً بحد من حدود الله مباح القتل كما لو قتل زانياً محصناً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 قاتلاً عمدًا سواء قتله قبل الاستتابة (1) أم بعدها؛ لأن كل جناية على المرتد هدر ما دام باقيًا على ردته. والأصل أن قتل المرتد للسلطات العامة، فإن قتله أحد الأفراد دون إذن هذه السلطات فقد أساء وافتات عليها فيعاقب على هذا لا على فعل القتل فى ذاته. وعلى هذا الرأى فقهاء المذاهب الأربعة (2) إلا أن فى مذهب مالك رأيًا مخالفًا (3) يرى أصحابه أن المرتد غير معصوم ولكنهم يرون مع ذلك أن على قاتله التعزير ودية لبيت المال، وحجتهم أن المرتد يجب استتابته فهو بعد ردته كافر، فمن قتله فقد قتل كافرًا محرم القتل فتجب عليه ديته لبيت المال لأنه هو الذى يرث المرتد. فكأن أصحاب هذا الرأى يزيلون عصمة المرتد بالردة ويعصمونه بكفره، وهو تناقض ظاهر يكفى لهدم رأيهم ويمكن الرد عليهم بأنه لما كان مسلمًا عصمه الإسلام فلما كفر زالت عصمته، وأن الكفر لا يعصم صاحبه، ولكن الذى يعصمه الأمان من ذمة أو عهد أو غيرهما، والمرتد لا يدخل تحت واحد منها فلا يمكن اعتباره معصومًا بعد كفره. وتختلف القوانين الوضعية عن الشريعة الإسلامية فى أنها لا تعاقب على تغيير الدين، ويرجع الخلاف إلى الأساس الذى قام عليه كل منهما، فالقوانين الوضعية قامت على أساس لا دينى فاقتضى منطقها أن لا يعاقب على تغيير الدين، والشريعة الإسلامية أساسها الدين الإسلامى فاقتضت طبيعتها العقاب على تغيير الدين الذى أسست عليه. وقد جرى قانون العقوبات المصرى مجرى القوانين الوضعية التى أخذ عنها   (1) يشترط الفقهاء قبل الحكم بعقوبة القتل على المرتد أن يستتاب ويعرض عليه الإسلام من جديد , فإن لم يتب قتل حداً. (2) راجع: البحر الرائق ج5 ص125 , الإقناع ج4 ص301 , المهذب ج2 ص238 , مواهب الجليل ج6 ص233. (3) راجع: الشرح الكبير للدردير ج4 ص271. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 فلم ينص على عقاب المرتد، وعدم النص لا يعنى أن الردة مباحة ولا عقاب عليه لأن الردة جريمة معاقب عليها بالقتل حدًا طبقًا لنصوص الشريعة التى لا تزال قائمة ولا يمكن أن تلغى أو تنسخ بالقوانين الوضعية كما بينا ذلك فى الجزء الأول من هذا الكتاب عند الكلام على الركن الشرعى للجريمة، فمن يقتل الآن مرتدًا لا يعاقب على قتله لأنه أتى فعلاً طبقًا للشريعة واستعمل حقًا من الحقوق التى قررتها له الشريعة (1) . 23 - ارتكاب جريمة من جرائم الحدود عقوبتها القتل: إذا ارتكب شخص جريمة من جرائم الحدود المقدرة حقًا لله تعالى عقوبتهاِِ القتل أصبح مهدرًا وزالت عصمته بارتكابه هذه الجريمة؛ لأن محل الجريمة حد من حدود الله، والحدود فى الأصل واجبة التنفيذ فورًا ولا تحتمل التأخير أو التهاون، كما أنها لا تحتمل العفو أو إيقاف التنفيذ، وتزول العصمة من يوم ارتكاب الجريمة لا من يوم الحكم بعقوبتها؛ لأن أساس زوال العصمة هو إتيان الجريمة وليس الحكم بالعقوبة، فالزنا من محصن عقوبته الرجم أى القتل، فإذا أتاه شخص أصبح مهدرًا بمجرد ارتكاب الجريمة، فإذا قتله آخر فقد قتل شخصًا مباح القتل ولا يعاقب على جريمة القتل ما دام أنه يستطيع إثبات وقوع الزنا بالأدلة المقررة لإثبات الزنا، فإذا عجز اعتبر قاتلاً وعوقب بالعقوبة المقررة للقتل العمد، على أنه لا يعفى من العقاب إطلاقًا إذا أثبت الزنا لأنه يعتبر مفتاتًا على السلطات العامة التى اختصت نفسها بتنفذ العقوبات، فيمكن أن يعاقب بعقوبة الافتيات على السلطات العامة. ومثل الزنا من محصن جريمة قطع الطريق المعاقب عليها بالقتل أو القتل والصلب، فإن مرتكبها تزول عصمته بارتكابها ويصبح مهدر الدم، فمن قتله لا يعاقب على قتله وإنما يعاقب فقط على افتياته على السلطات العامة. وليس فى جرائم الحدود المقدرة حقًا لله ما يعاقب عليه بالقتل إلا الزنا من محصن   (1) راجع ما كتبناه عن اتعمال الحق وأداء الواجب فى الجزء الأول من هذا الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وقطع الطريق والردة وقد تكلمنا عن الردة فى الفقرة السابقة. 24 - ارتكاب جريمة القتل المعاقب عليها بالقصاص: يعتبر القتل قصاصًا حدًا من حدود الله ولكنه حد مقدر حقًا للأفراد وليس حقًا مقدرًا لله - أى للجماعة - ومن ثم فرقنا بينه وبين جرائم الحدود المقدرة حقًا لله كالزنا والردة وقطع الطريق. والقتل الذى يستوجب القصاص من القاتل يزيل عصمة القاتل ويجعله مهدرًا من وقت ارتكاب الجريمة إهدارًا نسبيًا مطلقًا، فهو مهدر فقط بالنسبة لأولياء القتيل ولكنه معصوم بالنسبة لغيرهم، فإذا قتله أحد ولاة دم القتيل فلا يعتبر قاتلاً عمدًا لأن لأولياء القتيل فى الشريعة حق استيفاء القصاص من القاتل إذا كان القتل ظلمًا وعدوانًا تحقيقًا لقوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] أما إذا قتله من ليس وليًّا للقتيل فإنه يعتبر قاتلاً عمدًا لأن القاتل الأول معصوم الدم بالنسبة للقاتل الثانى، وقد فصلنا الكلام فى هذا الموضوع فى الجزء الأول من هذا الكتاب بمناسبة الكلام على استعمال الحق وأداء الواجب. 25 - البغى: هو الثورة أو الدعوة إلى قلب الأنظمة من غير الطريق المشروع أو بالقوة، ويسمى الداعون له بغاة كما يسمى الفريق المؤيد للحالة القائمة أهل العدل. والبغاة أمرهم مختلف فيه، فيرى مالك والشافعى وأحمد (1) أنهم معصومون إلا فى حالة الحرب بينهم وبين أهل العدل، وفى حالة مهاجمتهم لأهل العدل، أو الاعتداء على أموالهم. ويرى أبو حنيفة (2) أن البغاة غير معصومين فى أى حال وأن دمهم يهدر وعصمتهم تزول بالبغى. وطبقًا لهذا الرأى لا يعاقب قاتل الباغى بعقوبة القتل العمد، وإنما يعاقب باعتباره مفتاتًا على السلطات العامة، هذا إذا قتله فى غير حرب، أما القتل فى حالة الحرب فلا يعتبر جريمة باتفاق الفقهاء وطبقًا لرأى مالك والشافعى وأحمد يعتبر قاتل الباغى   (1) مواهب الجليل ج6 ص278 , المهذب ج2 ص236 , الإقناع ج4 ص293. (2) البحر الرائق ج5 ص142 , البدائع ج7 ص236. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 قاتلاً عمدًا إذا قتله فى غير حرب أو حيال أى دفاع عن النفس. 26 - ولا يزيل العصمة ارتكاب أية جريمة أخرى معاقب عليها بالقتل ما دامت العقوبة لا تجب حدًا أو قصاصًا: لأن لولى الأمر فى غير جرائم الحدود والقصاص حق العفو عن الجريمة، وحق العفو عن العقوبة (1) ، ومن ثم كانت العقوبة غير لازمة حتمًا، وكل عقوبة غير محتمة لا تزيل العصمة ولا تهدر الجانى حتى ولو حكم بها لأن من الجائز أن يعفو ولى الأمر عن العقوبة فى اللحظة الأخيرة.   (1) ليس لولى الأمر حق العفو فى جرائم القصاص , ولكن لأولياء الدم حق العفو بمقابل أو بغير مثابل وبالرغم من تقرير هذا الحق لأولياء الدم واحتمال عفوهم حتى اللحظة الأخيرة فإن الجانى يعتبر مهدر الدم لأولياء الدم حتى يعفوا فإن عفوا أو عفا أحدهم عاد معصوم الدم كما كان قبل ارتكاب الجريمة. وقد يظن أن هناك تناقضاً بين حكم هذه الحالة وحكم الجرائم التى لولى الأمر حق العفو فيها , ففى جرائم القصاص يعتبر الجانى مهدر الدم من وقت ارتكاب الجريمة مع أن لولى الدم حق العفو , وفى الجرائم التى يملك ولى الأمر فيها حق العفو يعتبر الجانى معصوم الذنب الى وقت تنفيذ العقوبة. والواقع أنه لا تناقض أصلاً , لأن العقوبة من حق الجماعة لا من حق الأفراد , وولى الأمر يعتبر ممثل الجماعة , وقد اقتضت المصلحة العامة حرمان ممثل الجماعة من حق العفو فى جرائم القصاص , تحقيقاً لعدل والمساواة وحفظاً للدماء , كما اقتضت المصلحة العامة التعجيل فى تنفيذ العقوبة , فأصبحت عقوبة القصاص بهذا لازمة واجبة التنفيذ من وقت وقوع الجريمة , واقتضى هذا النظر اعتبار الجانى مهدراً , فاهدار دم الجانى فى جرائم القصاص اقتضته المصلحة العامة. أما العقوبات التى يجوز فيها عفو ولى الأمر , فإن تقرير العفو فيها استوجبته المصلحة العامة أيضاً , فوجب تحقيقاً لهذه المصلحة أن يعتبر الجانى معصوماً ما دام العفو مكناً؛ لأن العقوبة لا تعتبر لازمة ولا واجبة التنفيذ حتماً ما دام العفو محتملاً , فالأهدار فى جرائم القصاص استوجبته المصلحة العامة , والعصمة فى غيرها اقتضتها المصلحة العامة.. وليلاحظ فوق هذا أن ولى الأمر حين يعفو أنما يعفو عن حق الجماعة وهو حق عام , وأن ولى الدم حين يعفو عن حقه فى القصاص أنما يعفو عن حقه وهو حق خاص , ولا يمكن أن نرتب على العفو عن حقين مختلفين فى طبيعتهما نتائج واحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وتتفق القوانين الوضعية مع الشريعة فى هذه النقطة حيث تعتبر القوانين الجانى معصومًا ولو حكم عليه بالإعدام ولكنها تخالف الشريعة فى تعميم هذا الحكم بالنسبة لكل الجرائم. وأساس هذا الخلاف أن جرائم الحدود والقصاص فى الشريعة لا تقبل العفو ولا تحتمل الإمهال والتأخير فى تنفيذ العقوبة، فاقتضى هذا اعتبار مرتكب الجريمة المعاقب عليها بالقتل مهدرًا من يوم ارتكاب الجريمة؛ لأن من الواجب توقيع العقوبة عليه فورًا، ولأن العقوبة لازمة محتمة، أما القوانين الوضعية فتجيز العفو فى كل الجرائم ومن ثم كانت العقوبة فيها غير لازمة حتمًا كما هو الشأن فى الشريعة فى غير جرائم الحدود والقصاص، وقد اقتضى هذا المنطق اعتبار الجانى معصومًا حتى بعد صدور الحكم عليه بالإعدام لجواز العفو عنه. 27 - وقت العصمة: لمعرفة وقت العصمة أهمية كبرى، لأن تحديد مسئولية الجانى يتوقف على معرفة حال المجنى عليه، فإن كان معصومًا فالجانى مسئول عن قتله وإن كان مهدرًا فلا مسئولية. وقد اختلف فى تحديد وقت العصمة فأبو حنيفة يرى أن وقت العصمة هو وقت الفعل لا غير، فإن كان المجنى عليه معصومًا وقت الفعل فالجانى مسئول عن فعله وإلا فلا، فإذا جرح مسلمًا يقصد قتله ثم ارتد المجروح بعد الجرح ومات وهو مرتد فإن الجارح لا يسأل عن القتل، وإنما يسأل فقط عن الجرح الذى أحدثه فى معصوم، وحجته أن مسئولية الجانى لا يصبح قتلاً إلا بفوات حياة المقتول، وقد فاتت حياة المقتول فى وقت لم يكن فيه معصومًا فكان القتل هدرًا. ويرى أبو يوسف ومحمد أن وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت جميعًا، وحجتهما أن للفعل تعلقًا بالقاتل والمقتول لأنه - فعل القاتل وأثره - يظهر فى المقتول بفوات الحياة فلا بد من اعتبار العصمة فى الوقتين جميعًا. والظاهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 أنه لا فرق بين رأى أبى حنيفة ورأيهما إذا اعتبرنا حجة أبى حنيفة، لأنه استند فى حجته إلى وقت الموت ونفى مسئولية الجانى عن القتل على أساس أن المجنى عليه لم يكن معصومًا وقت أن أصبح الفعل قتلاً أى وقت موت المجنى عليه فكأنه بهذا ينظر إلى وقت الفعل ووقت الموت معًا، وهذا نفس ما يقول به أبو يوسف ومحمد. ويرى - زفر - أن وقت العصمة هو وقت الموت لا غير. ويختلف أبو حنيفة مع أبى يوسف ومحمد فى تحديد وقت العصمة عند الرمى فيرى أبو حنيفة أن وقت العصمة هو وقت الرمى لا وقت الإصابة، ويرى أبو يوسف ومحمد أن وقت العصمة هو وقت الإصابة لا وقت الرمى. وحجة أبى حنيفة أن مسئولية الجانى تترتب على فعله ولا فعل منه غير الرمى. ولا يدخل فى قدرته غيره فيصير قاتلاً به إذا كان المجنى عليه معصومًا عند الرمى، وحجة أبى يوسف ومحمد أن العبرة بوقت التلف وهو وقت الإصابة، فإن حصل التلف فى محل معصوم استحق الجانى العقوبة، وإن كان المحل غير معصوم وقت التلف فلا عقوبة، وعلى هذا لو رمى شخص آخر برصاصة فارتد المجنى عليه بعد الرمى وقبل أن يصاب فالجانى مسئول عند أبى حنيفة لأن المجنى عليه كان معصومًا وقت الرمى، وأما عندهما فهو غير مسئول لأن المجنى عليه لم يكن معصومًا وقت الإصابة (1) . ويرى أصحاب مالك والشافعى وأحمد أن وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت، ولكن الفقهاء فى المذاهب الثلاثة يختلفون فى تحديد وقت العصمة حالة الرمى، فيرى بعضهم أنه وقت الرمى، ويرى البعض الآخر أنه حالة الإصابة (2) .   (1) البحر الرائق ج8 ص326, بدائع الصنائع ج7 ص253. (2) مواهب الجليل ج6 ص244, المغنى ج9 ص342 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وقد وضح فقهاء المذهب الشافعى قاعدة لتغير حال المجنى عليه بين العصمة والإهدار فقالوا: "إن كل جرح وقع أوله غير مضمون لا ينقلب مضمونًا يتغير الحال فى الانتهاء وما ضمن فيهما يعتبر قدر الضمان فيه بالانتهاء", فإذا جرح شخصًا حربيًا أو مرتدًا ثم أسلم الحربى أو المرتد ومات من جرحه بعد إسلامه فلا مسئولية على الجارح؛ لأن الجرح وقع غير مضمون، أى وقع على مهدر، فلا جريمة فى فعله، وإذا جرح مسلمًا فارتد بعد الجرح ثم مات من جرحه فلا يسأل الجانى إلا عن الجرح والنفس هدر؛ لأن الفعل أصبح قتلاً أثناء الردة، وقتل المرتد لا عقوبة عليه، ولو قتله مباشرة بعد الردة لم يكن مسئولاً عن قتله، ويرى البعض أنه لا يسأل حتى عن الجرح من باب أولى ما دام غير مسئول عن النفس (1) . * * * الركن الثانى: القتل نتيجة لفعل الجاني 28 - فعل مميت من الجانى: يشترط لتحقق هذا الركن أن يحدث القتل بفعل الجانى، وأن يكون من شأن هذا الفعل إحداث الموت، فإن كان القتل نتيجة لفعل لا يمكن نسبته إلى الجانى أو لم يكن فعل الجانى ما يحدث الموت فلا يمكن اعتبار الجانى قاتلاً. 29 - نوع الفعل: ولا يشترط أن يكون الفعل من نوع معين لاعتباره قتلاً. فيصح أن يكون ضربًا أو جرحًا أو ذبحًا أو حرقًا أو خنقًا أو تسميمًا   (1) نهاية المحتاج ج7 ص264 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 أو غير ذلك، ويصح أن يقع الفعل من الجانى مرة واحدة، ويصح أن يقع على التوالى فى مدة طالت أو قصرت. 30 - أداة الفعل ووسيلته: ولما كان العرف قد خصص لكل آلة استعمالاً، ولكل فعل من الأفعال القاتلة أداة أو وسيلة تحدثه أو يحدث بها ولا يمكن أن يحدث الفعل القاتل بغيرها، ولما كانت الوسائل والأدوات القاتلة تختلف اختلافًا بينًا فى قوتها وضعفها وأوجه استعمالها وتأثيرها على الجسم وتأثر الجسم بها، فقد رأى أكثر الفقهاء أن يرتبوا على اختلاف طبائع هذه الوسائل وآثارها اختلاف أحكامها وشروطها. وسنبين فيما يلى آراء الفقهاء المختلفة. 31 - رأى مالك: ولا يشترط الإمام مالك شروطًا خاصة فى الفعل القاتل أو فى أداة القتل فعنده "أن كل ما تعمده الإنسان من ضربة بلطمة أو بلكزة أو ببندقية أو بحجر أو بقضيب أو بغير ذلك؛ كل هذا قتل عمد، إذا مات فيه المجنى عليه"، "وأن هناك أشياء يتعمد الإنسان فعلها مثل: الرجلين يصطرعان فيصرع أحدهما صاحبه، أو يتراميان بالشىء على وجه اللعب، أو يأخذ أحدهما برجل الآخر على حال اللعب، فيسقط فيموت من هذا كله، فهذا هو القتل الخطأ ولا يكون قتلاً عمدًا لأن الجانى تعمده على وجه اللعب، فإذا تعمده على وجه القتال والغضب فصرعه فمات أو أخذ برجله فسقط فمات، فهو قتل عمد" (1) . هذا هو نص المدونة، وظاهر منه أنه لا يشترط فى الفعل القاتل أو أداة القتل شروطًا خاصة، فاللطمة وهى لا تقتل غالبًا ولا كثيرًا تعتبر قتلاً عمدًا إذا مات منها المجنى عليه، وكذلك الضرب بالقضيب - أى العصا - والأخذ برجل المجنى   (1) راجع مدونة الإمام مالك ج16 ص108 , والعبارات التى وضعت بين قوسين هى نص المدونة مع تصرف اقتضاء ربط العبارات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 عليه ومصارعته وقذفه بحجر كبير أو صغير ولا يشترط لاعتبار كل هذا قتلاً عمدًا إلا أن يتعمد الجانى الفعل على وجه العدوان ولو لم يقصد القتل. ولكن بعض فقهاء المالكية بالرغم من ذلك يعرفون القتل العمد بأنه إتلاف النفس بآلة تقتل غالبًا أيا كان نوعها، أو بإصابة المقتل كعصر الأنثيين وشدة الضغط والخنق (1) . وظاهر من هذا التعريف أنهم يرون أن تكون آلة القتل مما يقتل غالبًا. ويرى البعض الآخر أن الفعل يعتبر قتلاً عمدًا سواء كانت أداة القتل مما يقتل غالبًا كالسيف أو مما لا يقتل غالبًا كالعصا وكل ما يشترطونه لاعتبار القتل عمدًا أن لا يكون الفعل قد وقع بقصد اللعب أو التأديب (2) . وهذا الرأى هو الذى يتفق مع ما يقول به مالك من تقسيم القتل إلى عمد وخطأ فقط؛ لأن الفعل إما أن يكون عمدًا أو خطأ ولا يمكن اعتبار القتل بآلة لا تقتل غالبًا كالعصا قتلاً خطأ مع تعمد الجانى الفعل وقصده القتل. 32 - رأى الشافعى وأحمد: ويشترط الإمامان الشافعى وأحمد أن يكون القتل مما يقتل غالبًا ولو كانت الأداة مثقلاً لا يجرح (3) ، فإن لم تكن الأداة قاتلة غالبًا فالقتل ليس عمدًا وإنما شبه عمد. وأدوات القتل على ثلاثة أنواع: نوع يقتل غالبًا بطبيعته كالسيف والسكين والرمح والإبرة المسممة والبندقية والمسدس وعمود الحديد والعصا الخفيفة، ونوع يقتل نادرًا بطبيعته كالإبرة غير المسممة واللطمة واللكزة. وما يقتل كثيرًا أو نادرًا بطبيعته قد يقتل غالبًا فى بعض الظروف؛ كمرض المجنى عليه أو صغره أو لوقوع الإصابة فى مقتل، ولمعرفة ما إذا كانت الأداة   (1) مواهب الجليل ج6 ص240. (2) الشرح الكبير للدردير ح4 ص215. (3) المثقل ما ليس له حد يجرح ولا سن يطعن كالعصا والحجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 من هذين النوعين تقتل غالبًا أم لا يجب أن لا ننظر إلى الأداة وحدها مجردة عن كل ظرف آخر، بل علينا أن نظر إلى الأداة وينظر معها إلى صورة الفعل وظروفه وإلى حال المجنى عليه وموقع الفعل من جسمه وأثر الفعل فيه. فإذا كانت الأداة تقتل غالبًا مع إدخال أحد هذه العناصر أو كلها فى الحساب فالفعل قتل عمد، وإذا كانت الأداة لا تقتل غالبًا مع النظر إلى أى عنصر من هذه العناصر فالفعل قتل شبه عمد، فمثلاً السوط أداة عدوان والعصا الخفيفة كذلك والضرب بأيهما لا يقتل غالبًا وإن قتل كثيرًا، ولكن تعدد الضربات وموالاتها يقتل غالبًا والضرب بأيهما فى الحر الشديد والبرد الشديد يقتل غالبًا، والضرب بهما فى مقتل كالبطن يقتل غالبًا وكذلك الضرب فى غير مقتل إذا أدى إلى الموت فى الحال، أو ترك آثارًا وآلامًا انتهت بالموت، وإذا كانت أداة القتل لا تقتل إلا نادرًا كالإبرة غير المسممة فإنها تعتبر مما يقتل غالبًا إذا بولغ فى إدخالها فى غير مقتل، أو إذا غرزت فى مقتل كالحلق والخصارة والمثانة أو فى مكان حساس أو إذا أدى غرزها إلى الموت فى الحال، والموت فى الحال مختلف فيه، فيرى البعض أنه قتل عمد، ويراه البعض أنه شبه عمد لأن المفروض أن الآلة لا تقتل غالبًا، وما دامت الإصابة فى غير مقتل وليس فى ظروف الفعل أو صورته أو حال المجنى عليه ما يجعل الفعل قاتلاً فى الغالب أو ترك آلامًا وآثارًا انتهت بالموت (1) . 33 - رأى أبى حنيفة: ويشترط الإمام أبو حنيفة فى أداة القتل أكثر مما يشترطه الإمامان الشافعى وأحمد، فهو يشترط مثلهما أن تكون أداة القتل   (1) راجع فى مذهب الشافعى: نهاية المحتاج ج7 ص238 وما بعدها , حاشية البجيرمى على المنهج ج4 ص130 وما بعدها , تحفة المحتاج ج4 ص3 وما بعدها , المهذب ج2 ص187 وما بعدها وراجع فى مذهب ابن حنبل: المغنى ج9 ص321 وما بعدها , الشرح الكبير ج9 ص320 وما بعدها , الإقناع ج4 ص163 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ما يقتل غالبًا، ويشترط أكثر منهما أن تكون الأداة مما يُعَدُّ للقتل، ولا يغنى عنده الشرط الأول عن الأخير، والآلة المعدة للقتل عنده هى كل آلة جارحة أو طاعنة ذات حد لها مَورْ فى الجسم، سواء كانت من الحديد أو النحاس أو الخشب أو غير ذلك كالسيف والسكين والرمح والإبرة وما أشبه ذلك أو ما يعمل عمل هذه الأشياء فى الجرح والطعن كالنار والزجاج والمروة والرمح الذى لا سنان له ونحو ذلك. وهناك رواية أخرى عن أبى حنيفة بأن الأداة المعدة للقتل هى ما كانت من الحديد ولو لم تكن جارحة أو طاعنة كالعمود وصنجة الميزان وظهر الفأس ويلحق بالحديد ما هو فى معناه كالرصاص والنحاس وغيرهما من المعادن. فعلى هذه الرواية العبرة بالحديد وما هو فى حكمه سواء جرح أو لم يجرح وعلى الرواية السابقة العبرة بالجارح أو الطاعن سواء كان من حديد أو غير حديد وهى الرواية الراجحة. فإذا كانت الآلة مما يقتل غالبًا، وكانت معدة للقتل كالسيف أو البندقية فالفعل قتل عمد فى رأى أبى حنيفة، أما إذا كانت الآلة مما يقتل غالبًا ولكنها ليست جارحة ولا طاعنة فالفعل قتل شبه عمد فى رأيه ولو كانت الآلة مدققة مكسرة كالخشبة الكبيرة والحجر الثقيل. والصور الآتية لا تعتبر فى رأى أبى حنيفة قتلاً عمدًا ولو كانت نية الضارب منصرفة لقتل وإنما هى فى رأيه قتل شبه عمد: 1 - أن يقصد الجانى القتل بعصًا صغيرة أو بحجر صغير أو بلطمة مما لا يقتل غالبًا وبشرط أن لا تتوالى الضربات وذلك لأن الأداة لا تقتل غالبًا، ولأنها غير معدة للقتل ولكن هذه الصورة تعتبر قتلاً عمدًا عند مالك دون شرط وتعتبر قتلاً عمدًا عند الشافعى وأحمد إذا كانت صورة الفعل أو ظرفه أو حال المجنى عليه أو موقع الإصابة وأثرها فى جسمه مما يجعل الأداة قاتلة غالبًا. 2 - أن يقصد الجانى القتل بما لا يقتل غالبًا مع موالاة الضربات حتى يموت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 المجنى عليه. فهذه الصورة لا تعتبر قتلاً عمدًا عند أبى حنيفة؛ لأن أداة القتل لا تقتل غالبًا، ولأنها غير معدة للقتل، أما عند مالك والشافعى وأحمد فهى قتل عمد، وقد اعتبرها مالك عمدًا لمجرد تعمد الفعل بقصد العدوان أما الشافعى وأحمد فقد اعتبرا هذه الصورة قتلاً عمدًا لأن موالاة الضرب حتى الموت تجعل أداة القتل قاتلة غالبًا، ويكفى عندهما كما قدمنا أن تكون الأداة قاتلة غالبًا ليكون الفعل قتلاً عمدًا. 3 - أن يقصد الجانى القتل بمثقل يقتل غالبًا أى بأداة ثقيلة ليست جارحة ولا طاعنة؛ كمدقة القصارين والحجر الكبير والعصا الغليظة وما أشبه وهذه الصورة أيضًا لا تعتبر عند أبى حنيفة قتلاً عمدًا لأن الأداة وإن كانت تقتل غالبًا إلا أنها ليست مما يعد للقتل. ولكن مالكًا والشافعى وأحمد يعتبرون هذه الصورة من صور القتل العمد ويأخذ أبو يوسف ومحمد من فقهاء مذهب أبى حنيفة رأى الأئمة الثلاثة فيعتبران هذه الصورة قتلاً عمدًا مخالفين رأى أبى حنيفة ورأيهما هو الراجح فى المذهب (1) . على أن موافقة أبى يوسف ومحمد للأئمة الثلاثة لا تعنى الآخذ برأى أحدهم وترك رأى صاحبهما أبى حنيفة فإنهما قد وافقا الأئمة الثلاثة على تمسكهما بقاعدة أبى حنيفة وهى اشتراط أن تكون الآلة مما يقتل غالبًا وأن تكون معدة للقتل، وكل ما فى الأمر أنهما اعتبرا المثقل أداة معدة للقتل على اعتبار أن المثقل يستعمل غالبًا فى القتل فأصبح بهذا الاستعمال أداة قاتلة، وما دام المثقل أداة تقتل غالبًا ومعدة للقتل فالقتل به قتل عمد على شرط أبى حنيفة وهكذا جاء اتفاقهما مع الأئمة الثلاثة نتيجة لمخالفة أبى حنيفة فى اعتبار المثقل أداة معدة للقتل لا نتيجه للأخذ برأى أحد من الأئمة الثلاثة. 34 - أساس الخلاف بين مالك والفقهاء الثلاثة: أساس الخلاف أن   (1) راجع: بدائع الصنائع ج7 ص233 , البحر الرائق ج8 ص287, الزيلعى ح6 ص98. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 مالكًا لا يعترف بالقتل شبه العمد، ويرى أنه ليس فى كتاب الله إلا العمد والخطأ فمن زاد قسمًا ثالثًا زاد على النص ذلك أن القرآن نص على القتل العمد والقتل الخطأ فقط ولم ينص على غيرهما فقال تعالى: {مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 92, 93] . والقتل العمد عند مالك هو: كل فعل تعمده الإنسان بقصد العدوان فأدى للموت أيًا كانت الآلة المستعملة فى القتل أما ما تعمده على وجه اللعب أو التأديب فهو قتل خطأ إذا لم يخرج الفعل عن حدود اللعب والتأديب المعروفة وكان بآلة اللعب والتأديب المعدة لهما، فإن خرج عن ذلك فهو قتل عمد. ومن طبيعة تقسيم القتل إلى عمد وخطأ أن يكتفى بتعمد الجانى الفعل على وجه العدوان دون النظر إلى الآلة المستعملة فى القتل، لأن اشتراط شروط فى الآلة كأن تكون قاتلة غالبًا أو معدة للقتل يقتضى أن تكون كل الأفعال المتعمدة التى تحصل بآلة لا تقتل غالبًا كالعصا الخفيفة والسوط فلا خطأ حتى مع تعدد الضرب وموالاته. كما يقتضى أن تكون الأفعال المتعمدة التى تحصل بما لم يعد للقتل كإسقاط حائط على إنسان أو إلقائه من شاهق أو ضربه بعصًا غليظة قتلاً خطأ وهذا ما لم يقل به أحد قط، فطبيعة تقسيم القتل إلى عمد وخطأ هى التى اقتضت من مالك أن لا يشترط فى الآلة القاتلة أى شرط وسواء كانت الآلة تقتل غالبًا أو تقتل كثيرًا أو نادرًا فالقتل عمدٌ ما دام الفعل عمدًا وبقصد العدوان. بل إن هذا التقسيم اقتضى أن لا يشترط حتى قصد القتل؛ لأن اشتراطه يخرج بكثير من حالات العمد ويجعلها خطأ، وهى ليست كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 35- أما بقية الأئمة فيرون أن القتل عمد وشبه عمد وخطأ: وحجتهم فى شبه العمد حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن فى قتيل السوط.." الحديث. فاقتضت منهم طبيعة هذا التقسيم أن يفرقوا بين نوعين من الأفعال المتعمدة هما: القتل العمد، والقتل شبه العمد، زقد استعانوا فى التفرقة بين هذين النوعين بمميز صالح للتمييز هو قصد القتل، فإذا قصد الجانى القتل فالفعل قتل عمد، وإذا لم يقصده فهو قتل شبه عمد، لكنهم وجدوا أن القصد أمر داخلى يتعلق بنية الجانى وقلما يطلع الآخرون عليه، وأن وجوده يكون دائمًا مشكوكًا فيه ما لم يدل عليه دليل خارجى فإذا وجد هذا الدليل الخارجى زال الشك ومن ثم رأوا أن قيام قصد القتل فى نية الجانى لا يكفى وحده لثبوته واشترطوا لاعتبار القصد ثابتًا أن يكون من ثبوته دائمًا عن طريق الوسيلة أو الآلة التى ارتكبت بها الجريمة لأنها تعبر عن نية الجانب وقصده من الجريمة، ولأنها هى الدليل الخارجى الظاهر على نية الجانى. ولما أرادوا تحديد هذا الدليل الخارجى اختلفوا: فرأى الشافعى وأحمد أن الدليل على قصد القتل هو استعمال آلة أو وسيلة تقتل غالبًا. ورأى أبو حنيفة أن الدليل الخارجى على قصد القتل هو استعمال آله أو وسيلة تقتل غالبًا على أن تكون الآلة والوسيلة مما يعد للقتل. 36- كيف يثبت قصد القتل؟: ويخلص مما سبق أن قصد القتل يثبت من وجهين: أولاً: عن طريق الآلة المستعملة فى الجريمة. ثانيًا: عن طريق الأدلة العادية كالاعتراف، وشهادة الشهود. ولكن لا يمكن أن يعتبر القصد ثابتًا بأى حال ما لم يثبت قصد القتل عن الطريق الأول، لأن كل إثبات يجئ عن الطريق الثانى يعتبر مشكوكًا فيه حتى يزول الشك بثبوت القصد عن طريق الآلة أو الوسيلة المستعملة فى القتل. واعتبار القصد الجنائى ثابتًا باستعمال آلة قاتلة ليس قرينة قاطعة ولا دليلاً غير قابل للنفى، فيجوز للجانى أن يثبت أنه لم يستعمل الآلة القاتلة بقصد القتل، فإذا استطاع إثبات دفاعه انتفى وجود قصد القتل واعتبر الفعل قتلاً شبه عمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 37 - أساس الخلاف بين الشافعى وأحمد وبين أبى حنيفة: أما الخلاف بين الشافعى وأحمد من جهة وبين أبى حنيفة من جهة أخرى فأساسه اختلاف وجهة النظر فى تحديد معنى القتل العمد، فأبو حنيفة يرى أن عقوبة القتل العمد عقوبة متناهية فى الشدة، وهذا يستدعى أن تكون جريمة العمد متناهية فى العمد، بحيث يكون القتل عمدًا محضًا لا شبهة فيه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العمد قود" فشرط العمد مطلقًا من كل قيد والعمد المطلق هو العمد الكامل من كل وجهة، أو هو العمد الذى لا شبهة فيه, فلا يعتبر العمد كاملاً مع قيام الشبهة ووجودها ذلك أن الفرق بين العمد وشبه العمد هو قصد القتل فقط، فيجب أن يكون القصد بحيث لا شبهة فيه, والشبهة لا تكون إذا كان القتل بآلة تقتل غالبًا ومعدة للقتل لأن استعمال هذه الآلة يظهر بجلاء قصد الجانى بحيث لا يدخله الاحتمال ولا الشبهة فما كان هكذا اعتبر العمد فيه كاملاً من كل وجه وكان قتلاً عمدًا، ولهذا اعتبر أبو حنيفة القتل بضربة أو ضربتين على قصد القتل قتلاً شبه عمد, ولم يعتبره قتلاً عمدًا لأن الضربة أو الضربتين مما لا يقصد به القتل عادة، بل يقصد به التأديب والتهذيب عادة فكان هذا الاعتبار شبهة فى القصد، والقتل العمد لا يعتبر موجودًا مع قيام الشبهة فى القصد، وكذلك اعتبر الموالاة فى الضرب بقصد القتل قتلاً شبه عمد إذا أدى الضرب للموت، لأنه يحتمل حصول القتل بضربة أو ضربتين على سبيل الاستقلال دون حاجة إلى الضربات الأخرى، والقتل بضربة أو ضربتين لا يكون عمدًا كما تبين مما سبق لاحتمال أن الضربة والضربتين قصد بها التأديب والتهذيب، والقاعدة عند أبى حنيفة أنه إذا جاء الاحتمال جاءت الشبهة وإذا جاءت الشبهة امتنع القول بتوفر قصد القتل وبالتالى بتوفر القتل العمد. أما فى المثقل: فيرى أبو حنيفة أن استعمال آلة تقتل غالبًا ولكنها غير معدة للقتل هو فى ذاته دليل على عدم القصد، لأن الأصل عنده أن كل فعل يحصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 بالآلة المعدة له، فإذا حدث بآلة لم تعد له احتمل أن الفاعل لم يقصد هذا الفعل بالذات، وهذا الاحتمال شبهة والشبهة تمنع القول بالقتل العمد. 38 - أما الشافعى وأحمد: فمن رأيهما أن الاكتفاء بأن تكون الآلة قاتلة غالبًا أيًا كان نوعها؛ لأنها إذا كانت كذلك فهى بذاتها دليل على توفر قصد القتل وانتفاء قصد التأديب والتهذيب فإذا انضم هذا إلى وجود قصد القتل فى نية الفاعل، كان العمد كاملاً لا شبهة فيه، ووجوب اعتبار الفعل قتلاً عمدًا. وعلى هذا الأساس اعتبرا الضربة والضربتين بعصًا خفيفة قتلاً عمدًا إذا كانت الآلة تقتل غالبًا لظروف المجنى عليه أو الفعل أو غير ذلك، كما أنهما اعتبرا الموالاة فى الضرب قتلاً عمدًا؛ لأن الموالاة تجعل الآلة قاتلة غالبًا واعتبرا الضرب بالمثقل قتلاً عمدًا لأنه يقتل غالبًا فكان اتعماله دليل القصد إلى القتل، فإذا انضم هذا إلى أصل القصد الكامن فى نية الجانى كان العمد كاملاً لا شبهة فيه. 39 - خلاف أبى يوسف ومحمد لأبى حنيفة: خالفاه فى المثقل واعتبرا القتل به قتلاً عمدًا، بينما اعتبر أبو حنيفة بالمثقل قتلاً شبه عمد كما بينا، وحجتهما أن الضرب بالمثقل مهلك غالبًا وأنه لا يستعمل فى الضرب إلا بقصد القتل، فجعله هذا الاستعمال أداة معدة للقتل ومن ثم كان استعماله باعتباره آلة تقتل غالبًا ومعدة للقتل دليلاً على قصد القتل كاستعمال السيف، ووجب اعتبار الفعل قتلاً عمدًا لانتفاء الشبهة فى القصد ولوجود العمد كاملاً (1) . 40 - بين الشريعة والقانون: لا تفترق آراء شراح القوانين كثيرًا عن آراء الفقهاء التى عرضناها فشراح القوانين يفرقون كما يفرق الفقهاء بين الفعل القاتل وسيلة القتل ويشترط الشراح عمومًا فى القتل الموقوف أو الخائب الأثر أن تكون الوسائل المستخدمة فيه مما يحدث الموت، لأن تخلف هذا الشرط يجعل الجريمة مستحيلة الوقوع بالوسيلة التى استخدمها الجانى.   (1) راجع: بدائع الصنائع ج7 ص234 , البحر الرائق ج8 ص288. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 41 - ويختلف الشراح فيما إذا كانت وسيلة القتل لا تحدث القتل غالبًا وكانت تحدثه فى الكثير أو النادر: كمن يلطم الآخر أو يلكزة أو يضربه بعصًا رفيعة أو يجرحه فى غير مقتل وهو قاصد قتله. فيرى البعض وهم أصحاب النظرية المستحيلة أن الفعل إذا لم يؤد للوفاة لا يعتبر شروعًا قى قتل عمد؛ لأن نية القتل عندهم لا تكفى وحدها لاعتبار القتل عمدًا بل يجب أن تكون أداة القتل من شأنها إحداث القتل؛ أى مما يقتل غالبًا لأن الجرح والضرب قد يقتل كثيرًا أو نادرًا وليس هذا الشأن اللطم واللكز والضرب الخفيف والجرح فى غير مقتل. وعلى هذا الأساس يعتبرون الضرب والجرح فى هذه الحالة ضربًا عاديًا. ويرى البعض الآخر أن مثل هذه الأفعال يصح أن تكون شروعًا فى قتل لأنها تؤدى غالبًا للموت إذا تكرر وقوعها أى مع موالاة الضرب والجرح أو تعدد الإصابات. ورأى الفريق الأول يتفق مع رأى أبى حنيفة فى الضرب البسيط وضرب الموالاة كما يتفق مع رأى أبى يوسف ومحمد فى الضرب بالمثقل، لأنهم ينظرون إلى طبيعة أداة القتل دون نظر إلى تعدد الفعل وظروفه وحال المجنى عليه وأثر الفعل فيه أما رأى الفريق الثانى فيتفق تمامًا مع رأى الشافعى وأحمد ومن باب أولى مع رأى مالك. ويلاحظ أن نفى الاتفاق فيما يختص بأداة القتل فقط لا فيما يختص بالمسئولية عن الفعل. 42 - أما إذا أعقب الضرب والجرح البسيط حدوث الموت: فعامة الشراح فى فرنسا على أن الفعل يعتبر ضربًا أفضى إلى الموت إذا أمكن القطع بأن الوفاة نشأت عن الضرب والجرح. أما إذا كان من المرجح أن مرض المجنى عليه السابق على الواقعة أو التالى لها وإهماله العلاج هو الذى سبب الموت، فلا يسأل الجانى إلا عن الضرب فقط دون الموت ولو أن المجنى عليه لم يمت إلا على أثر الضرب أو الجرح؛ لأن الموت فى نظر هؤلاء الشراح لم يكن نتيجة مباشرة لفعل الجاني؛ أى أن فعل الجانى لم يكن السبب المنتج، بل هو سبب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 عارض فقط، وهذا يتفق كل الاتفاق مع رأى أبى حنيفة فى القتل العمد عمومًا كما يتفق مع رأى أبى يوسف ومحمد فى مسألة المثقل (1) . 43 - الأفعال المتصلة بالقتل: والأفعال التى تتصل بالقتل لا تعدو فعلاً من ثلاثة فهى: إما مباشرة، وإما سبب، وإما شرط. والتمييز بين هذه الأفعال ضرورى للتمييز بين القاتل وغير القاتل (2) . 44 - المباشرة: يعرف الفقهاء المباشرة بأنها ما أثر فى التلف وحصله؛ أى ما جلب الموت بذاته دون واسطة وكان علة له؛ كالذبح بسكين فإن الذبح يجلب الموت بذاته وهو فى الوقت نفسه علة الموت، وكالخنق فإنه متلف بذاته للمجنى عليه وهو فى الوقت نفسه عله تلفه، أى: ما أتلف المجنى عليه وكان علة تلفه. 45 - ويعرفون السبب: بأنه ما أثر فى التلف ولم يحصله أى ما كان علة للموت ولكنه لم يحصله بذاته وإنما بواسطة كشهادة الزور على برىء بالقتل فإنها علة للحكم عليه بالإعدام ولكنها لا تجلب بذاتها الإعدام، وإنما الذى يجلبه فعل الجلاد الذى يتولى تنفيذ الحكم، وكذلك حفر بئر وتغطيتها فى طريق المجنى عليه بحيث يسقط فيه ويموت من سقطته. والسبب على ثلاثة أنواع: 1 - حسى: كالإكراه فإنه يولد فى المكره داعية القتل. 2 - شرعى: كشهادة الزور على القتل، فإنها تولد فى القاضى دواعى الحكم بالإعدام. 3 - ما يولد المباشرة توليدًا عرفيًا لا حسيًا ولا شرعيًا: كتقديم الطعام المسموم إلى الضيف وحفر بئر وتغطيتها فى طريق القتيل،   (1) راجع: أحمد بك أمين ص309 الموسوعة الجنائية ج5 ص685, 687. (2) راجع: نهاية المحتاج ج7 ص240, الوجيز للإمام الغزالى ج2 ص122 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 فإن حفر البئر علة للموت ولكن الحفر ليس هو الذى أمات المجنى عليه وإنما السقطة هى التى أماتت والسبب يشبه المباشرة من وجه فكلاهما علة للموت؛ فمعنى ذلك أن الفعل المباشر المؤدى للموت يتولد عن السبب. 46- الشرط: هو ما لا يؤثر فى التلف ولا يحصل بل يحصل التلف عنده بغيره ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه أى هو ما لا يكون علة للموت ولا يجلب الموت، أو هو كل فعل لم يتلف المجنى عليه، ولم يكن علة فى تلفه ولكن وجوده جعل فعلاً آخر متلفًا أو علة فى التلف ولولا وجوده ما كان لهذا الفعل الآخر ذلك التأثير. ومثل ذلك أن يلقى إنسان بآخر فى بئر حفره ثالث بغير غرض للقتل، فيموت الثانى، فإن ما أثر فى التلف وحصله هو الإلقاء لا حفر البئر ولكن الإلقاء ما كان يمكن أن يكون له الأثر الذى حدث لولا وجود البئر. 47 - المسئولية عن المباشرة والمتسبب والشرط: صاحب الشرط لا مسئولية عليه إطلاقًا لأن فعله ليس علة للموت ولم يؤد للموت لا بالذات ولا بالواسطة أما صاحب المباشرة وصاحب السبب فكلاهما مسئول عن فعله لأنه علة للموت وأدى إليه بالذات أو الواسطة، فيستوى بذلك لدى الفقهاء أن يكون القتل العمد مباشرة أو تسببًا إذ لا عبرة بالفرق الظاهر بين المباشرة والسبب وإذا كان فعل الجانى مباشرة سمى القتل قتلاً مباشرًا وإذا كان سببًا سمى القتل قتلاً بالتسبب. 48 - قدرة المجنى عليه على دفع أثر المباشرة والتسبب: ويدق الأمر فى تحديد المسئولية إذا كان المجنى عليه قادرًا على دفع أثر فعل الجانى، وقد وضع بعض الفقهاء القواعد الآتية بحكم هذه الحالة: 1 - إذا كان الفعل مهلكًا والدفع غير موثوق به كترك معالجة الجرح، اعتبر القاتل قاتلاً ولا عبرة بترك العلاج. 2 - إذا كان الفعل غير مهلك والدفع موثوق به كمن ألقى آخر فى ماء قليل فبقى مستلقيًا فيه حتى نام أو تصلبت أطرافه من البرد، فإن الفاعل لا يعتبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 قاتلاً إذ الموت نتيجة لبقاء المجنى عليه فى الماء وليس نتيجة إلقائه فيه. ويختلف الفقهاء فى تطبيق هذا المبدأ فالشافعية يرون أن من فُصد فلم يربط جرحه حتى مات لا يسأل من فصده عن القتل، والحنفية يرون أنه مسئول لأنه أحدث الجرح الذى أدى إلى الوفاة وأن الدفع لم يكن موثوقًا به (1) . 3 - إذا كان الفعل مهلكًا والدفع سهل كما لو أُلقى من يحسن السباحة فى ماء مُغرق فلم يسبح وترك نفسه يغرق، وكما أُلقى شخص فى نار قليلة يستطاع الخروج منها فبقى فيها حتى احترق، ففى هذه الحالة خلاف، فالبعض يرى أن الفاعل قاتل لأن الإلقاء فى الماء يدهش الملقَى عن السباحة فيغرق، ولأن أعصاب الملقى فى النار تشنج بإلقائه فى النار فتعسر عليه الحركة ولأن العادة ألا يستسلم الناس للموت، فيكون القتل نتيجة للإلقاء، ويرى البعض أن الفاعل لا يعتبر قاتلاً ما دام المجنى عليه كان يستطيع السباحة فلم يفعل والخروج من النار فبقى فيها مختارًا (2) . وأسباب الخلاف هو اختلاف وجهة النظر فى تصور حال المجنى عليه فلو علم قطعًا أنه بقى مختارًا فالملقى لا يعتبر قاتلاً بلا خوف ولو علم قطعًا أنه لم يكن مختارًا فى بقائه فالملقى قاتل دون خلاف. 49 - ولا يشترط الفقهاء أن يكون القتل العمد حاصلاً بيد الجانى مباشرة: فيستوى عندهم فى القتل العمد أن يكون مباشرة أو تسببًا فإذا ذبح الجانى المجنى عليه بسكين فهو قاتل عمدًا وإذا أعد الجانى وسائل الموت وهيأ أسبابه للمجنى عليه فهو قاتل عمدًا، ولو كان الموت معلقًا على ظرف معين أو على مشيئة المجنى عليه، فُيعَدُّ قاتلاً عمدًا من يحفر بئرًا فى طريق المجنى عليه ويسترها عن نظره أو جسرًا فى طريقه، ولو كان المرور فى الطرق معلقًا على ظرف خاص أو على مشيئة المجنى عليه، وهكذا فى غير ذلك من الصور ما دام الفعل يحدث الموت بذاته أو ما دام بين الفعل والموت رابطة السببية (3) .   (1) المغنى ج9 ص326. (2) الوجيز ج2 ص122 وما بعدها. (3) نهاية المحتاج ج7 ص240 , المغنى ج9 ص332 وما بعدها, مواهب الجليل ج6 ص241 , 242, بدائع الصنائع ج7 ص239. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 50 - رأى لأبى حنيفة: وأبو حنيفة كبقية الفقهاء لا يفرق بين القتل المباشر والقتل بالتسبب ويعتبر كليهما قتلاً عمدًا، ولكنه يجعل عقوبة القصاص للقتل المباشر ويدرؤها عن القاتل بالتسبب ويجعل بدلاً منها الدية، وحجته فى هذا أن عقوبة القتل العمد هى القصاص، ومعنى القصاص المماثلة، والقصاص فى ذاته قتل بطريق المباشرة، فيجب أن يكون الفعل المقتص عنه قتلاً بطريق المباشرة ما دام أساس عقوبة القصاص المماثلة فى الفعل، فمن حفر بئرًا ليسقط فيها آخر بقصد لا يقتص منه لأن الحفر سبب القتل ولكنه لم يؤد إليه مباشرةً، ومن شهد على آخر بأنه ارتكب جريمة عقوبتها القتل فحكم عليه بالقتل على أساس هذه الشهادة لا يقتص منه لأن الشهادة وإن كانت سبب الحكم بالإعدام إلا أنها لم تؤد إلى إعدام المشهود عليه مباشرة (1) . 51 - تعدد المباشرة والسبب: وإذا كان الجانى واحدًا كان فعله إما مباشرة أو تسببًا إذا كان فعلاً واحدًا فإذا تعددت أفعال الجانى أو تعدد الجناة تعددت تبعًا لذلك أفعال المباشرة والتسبب، وقد تكون الأفعال جميعها مباشرة، وقد تكون جميعها تسببًا، وقد يكون بعضها مباشرة وبعضها تسببًا. 52- اجتماع مباشرتين فأكثر: إذا تعددت أفعال الجانى المباشرة فسواء كانت كلها قاتلة إذا انفردت أو بعضها فقط هو القاتل، وسواء وقعت مجتمعة أو متعاقبة فالجانى مسئول عن القتل العمد ما دام فعله أو أفعاله من شأنها إحداث الموت وما دام أنها قد أدت إليه فعلاً. أما إذا كانت الأفعال المباشرة من أشخاص متعددين فالحكم يختلف بحسب ما إذا كانت قد وقعت منهم مجتمعين متمالئين أو وقعت منهم على التعاقب، وقبل الكلام على هاتين الحالتين يجب أن نعرف أولاً معنى التمالؤ. 53- التمالؤ: الأصل فى التمالؤ هو قضاء عمر رضى الله عنه، فقد كان   (1) بدائع الصنائع ج7 ص239. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 بمدينة صنعاء امرأة غاب عنها زوجها وترك فى حجرها ابنًا له من غيرها يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقلته، فأبى، فامتنعت عنه فطاوعها فاجتمع على قتل الغلام خليل المرأة ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثم قطعوه أعضاء وألقوا به فى بئر، ولما ظهر أمر الحادث وفشا بين الناس، أخذ أمير اليمن خليل المرأة فاعترف ثم اعترف الباقون، فكتب إلى عمر بن الخطاب بخبر ما حصل، فكتب إليه عمر أن اقتلهم جميعًا، وقال: "والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا". وروى على على أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلاً وعن ابن عباس قتل جماعة بواحد، ولم يعرف لهم فى عصرهم مخالف فكان قتل الجماعة بالواحد إجماعًا لأنه عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد عل الجماعة كعقوبة القذف للواحد على الجماعة، فضلاً عن أن القصاص لا يتبعض فلو سقط بالاشتراك لأدى ذلك إلى التسارع إلى القتل وضاعت حكمة الوضع والزجر. ومع أن الأئمة الأربعة يسلمون بأن الجماعة تقتل بالواحد إلا أنهم اختلفوا فى معنى التمالؤ، فأبو حنيفة يرى أن التمالؤ هو توافق إرادات الجناة على الفعل دون أن يكون بينهم اتفاق سابق، بحيث يجتمعون على ارتكاب الفعل فى فَوْر واحد دون سابقة من تدبير أو اتفاق، ويأخد بهذا الرأى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد كما هو الظاهر (1) . ولا يرتب أبو حنيفة على التمالؤ نتيجة ما، فإذا لم يكن فعل الجانى قاتلاً فلا أثر للتمالؤ عليه. ويرى مالك أن التمالؤ عنى الاتفاق السابق على ارتكاب الفعل والتعاون على ارتكابه، وأن التوافق على الاعتداء لا يعتبر تمالؤًا ويأخذ بهذا الرأى بعض فقهاء مذهب الشافعى ومذهب أحمد ولكنهم يخالفون مالكًا فى أنهم   (1) الزيلعى ج6 ص114, البحر الرائق ج8 ص310, المغنى ج9 ص366, الشرح الكبير ج9 ص335 وما بعدها , المهذب ج2 ص186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 لا يعتبرون متمالئًا إلا من اشترك فى ارتكاب الفعل بصفته فاعلاً له (1) . أما مالك فيعتبر متمالئًا كل من حضر الحادث وإن لم يباشر الفعل إلا أحدهم أو بعضهم، لكن بحيث إذا لم يباشره هذا لم يتركه الآخر فهو فيعتبر متمالئًا كل من حضر ولو كان ربيئة - أى رقيبًا - بشرط أن يكون مستعدًا لتنفيذ ما اتفقوا عليه (2) . 54 - القتل المباشر على الاجتماع: من المتفق عليه بين الفقهاء الأربعة أنه إذا قام جماعة بقتل شخص فى فور واحد بأن توافقت إرادتهم على القتل وقت الحادث فقط دون اتفاق سابق فإن كلاً منهم يعتبر قاتلاً عمدًا له إذا كان فعل كل منهم يمكن تميزه وكان على انفراده له دخل فى إحداث الموت؛ كأن جرحه كل منهم جرحًا أو جراحًا قاتلة لها دخل فى زهوق روحه ولا عبرة بالتفاوت بين الجناة فى عدد الجراح وفُحشْها، فإذا أحدث أحدهم جرحا والآخر عشرة، وإذا أحدث أحدهم جرحًا فاحشًا وأحدث الآخر جرحًا أقل فحشًا فكل منهم مسئول عن القتل العمد ما دام قد أحدث جرحًا له دخل فى إحداث الوفاة. وإذا كان فعل أحدهم لا دخل له فى الزهوق فلا يعتبر قاتلاً وإنما يسأل فقط عن الجرح أو الضرب، والعبرة بقول الخبراء فى كون الفعل له دخل فى الزهوق أم لا، فمن قرر الخبراء أن لفعله دخلاً فى الزهوق فهو قاتل عمدًا، ومن قرروا أن فعله لا دخل له فى الزهوق فهو جارح أو ضارب، وإذا لم تتميز أفعالهم فلم يعرف المزهق من غير المزهق فهم جارحون أو ضاربون ولا يسألون عن القتل لأن الجرح والضرب هو المتيقن منهم. وهذا هو رأى الأئمة ما عدا مالكًا، ويرى بعض فقهاء الحنفية مسئوليتهم جميعًا عن القتل إذا لم تتميز أفعالهم (3) .   (1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217, 218, نهاية المحتاج ج7 ص261, 263, تحفة المحتاج ج4 ص14,15 حاشية البيجرمى على المنهج ج4 ص140, الإقناع ج4 ص175. (2) نفس المراجع السابقة. (3) حاشية ابن عابدين ج3 ص490. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وإذا كان فِعل كل منهم منفردًا لا دخل له فى الزهوق ولكن أفعالهم مجتمعة أدت إليه، فيرى بعض الشافعية أن كلاً منهم يعتبر قاتلاً عمدًا. وقد أخذت محكمة النقض المصرية بهذا الرأى فى حكم لها قضت فيه بأنه متى كان الثابت أن كلاً من المتهمين قد ضرب القتيل وأن ضربته ساهمت فى إحداث الوفاة كان كل منهم مسئولاً عن الوفاة ولو لم يكن بينهم اتفاق سابق ولو كانت الضربة الحاصلة من أحدهم ليست بذاتها قاتلة، فإذا كان الثابت أن كلاً منهم قد قصد القتل كان مسئولاً أيضًا عن جناية القتل (1) . ولا يرى البعض ذلك وهو متفق مع مذهب أبى حنيفة وأحمد (2) . أما مالك فيرى أنه إذا لم تتميز الضربات أو تميزت سواء تساوت أو اختلفت ولكن لم يعلم عن مَنْ أحدثت ضربته الموت، فهم جميعًا قاتلون إذا ضربوه عمدًا عدوانًا، وفى المذهب يرى سقوط القصاص وإحلال الدية محلة إذا لم تتميز الضربات ولم يعلم من أيها مات، وهو رأى مرجوح (3) . هذا هو حكم القتل على الاجتماع عند القائلين بأن التمالؤ هو التوافق فهم يعتبرون القتل على الاجتماع مصحوبًا دائمًا بتوافق الإرادات أى التمالؤ. أما من يرون أن التمالؤ هو الاتفاق السابق وليس التوافق فيعطون الأحكام السابقة للجماعة غير المتمالئين فإن كانوا متمالئين على القتل فإنهم يسألون جميعًا عن القتل العمد، سواء كان فعل كل منهم له دخل فى الزهوق منفردًا أو مجتمعًا أو لا دخل له وسواء تميزت الأفعال أو لم تتميز ولو ضربوه بسياط أو عصًا خفيفة أو بأيديهم ولو كان ضرب كل منهم غير قاتل نحو أن يضربه كل   (1) نقض فى 7 نوفمبر 1938 , المحاماة س19 ص615. (2) نهاية المحتاج ح7 ص263 , الإقناع ج4 ص170. (3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217 , 218. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 منهم سوطًا أو نحو أن يضربوه على التوالى (1) . 55- القتل المباشر على التعاقب: المفروض فى القتل على التعاقب أنه ليس ثمة توافق ولا تمالؤ بين الفاعلين وأنهم يرتكبون الفعل منفردين على التعاقب لا مجتمعين كما هو الحال فى القتل على الاجتماع وحكم القتل على التعاقب أنه إذا قام أكثر من شخص بقتل واحد فإن كلاً منهم يعتبر قاتلاً له إذا كان فعل كل منهم يمكن تميزه وكان على انفراده له دخل فى إحداث الوفاة، وإذا جرحه أحدهم جرحًا وجرحه الآخر عشر جراحات فكلاهما مسئول عن قتله عمدًا ولا عبرة بكثرة الجراحات ما دام كل جرح له أثره فى إحداث الوفاة ولأن الإنسان قد يموت بجرح واحد ولا يموت بجراحات كثيرة. وإذا كان فعل أحدهم لا دخل له فى إحداث الوفاة، فإنه يسأل فقط عن الجرح أو الضرب ويسأل الباقون عن القتل، ويرجع فى هذا إلى قول الخبراء فى الطب. وإذا شفى من الجراح التى أحدثها أحدهم ومات من جراح الباقين كان كلّ مسئولاً عن نتيجة فعله فمن برئت جراحه التى أحدثها سئل عن الجراح، ومن لم تبرأ جراحه سئل عن القتل إذا كان لجراحه دخل فى الموت. فإذا اشترك ثلاثة فى قتل رجل، فقطع أحدهم يده والآخر رجله وأوضحه ثالث فمات، فكل من الثلاثة قاتل عمدًا فإن برئت جراحة أحدهم ومات من الجرحين الآخرين فمن برأ جرحه يعاقب باعتباره جارحًا ويعاقب الآخران باعتبارهما قاتلين (2) . وإذا قطع واحد يده من المعصم، وقطع الثانى نفس اليد من المرفق فمات،   (1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217 , 218 , نهاية المحتاج ج7 ص263 ,الإقناع ج4 ص170. (2) الشرح الكبير ج9 ص336. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 فإن برئت جراحة الأول قبل قطع الثانى فالأول جارح والثانى قاتل دون خلاف، وإن كان القطع الثانى قبل بُرءْ القطع الأول فيرى الشافعى وأحمد أن الاثنين قاتلان؛ لأن جرح كل منهما قاتل وحده والألم الحاصل بالجرح الأول انضم إلى الألم الحاصل بالجرح الثانى وتكامل به، فكان الموت مضافًا إليهما، ومن أصحاب هذا الرأى زفر. ويرى أبو حنيفة وباقى أصحابه أن القاتل هو الثانى (1) لأن السراية باعتبار الآلام المترادفة التى لا تتحملها النفس إلى أن يموت وقطع اليد من المرفق يمنع وصول الألم من القطع السابق إلى النفس فكان قطعًا للسراية فبقيت السراية مضافة إلى القطع الأخير. ويرى مالك أنه إذا كان القطع الثانى عقب القطع الأول فهما قاتلان وإن عاش بعد القطع الأول حتى أكل وشرب ثم مات عقب الثانى مباشرة فالقاتل هو الثانى وإن عاش بعدهما حتى أكل وشرب فللأولياء أن يقسموا على أيهما ويقتصوا منه (2) . وإن رماه أحدهما من شاهق فتلقاه آخر بالسيف فقدَّه أو ألقى عليه صخره فأطار آخرُ رأسهَ قبل أن تصل الصخرة فيرى أحمد أن القصاص على الثانى لأن الرمى سبب والقتل مباشرة، فقطعت المباشرة حكم السبب، ويرى الشافعى مثل هذا إن رماه من مكان يجوز أن يسلم منه، أو ألقى عليه صخرة يمكن أن يسلم منها أما إن كان عمل الأول لا تمكن السلامة فيه فالبعض يرى كليهما مسئولاً عن القتل لدخول المباشرة مع السبب، ويرى البعض أن الثانى هو القاتل والرأى الأخير هو المتفق مع القانون؛ لأنه يعتبر الأول شارعًا فى قتل والثانى قاتلاً ما لم يكن بينهما اتفاق أو توافق على القتل فكلاهما يعتبر قاتلاً، وإن ألقاه فى لُجة لا يمكن الخلاص منها فالتقمة حوت فالرامى قاتل لأنه ألقاه فى مهلكة يهلك بها دون واسطة يمكن إحالة الحكم عليه كما يرى البعض، ويرى البعض أن الهلاك ليس سببه فعل الرامى، فأما إن ألقاه فى ماء يسير فأكله سبع أو التقمه   (1) البدائع ج7 ص304. (2) الشرح الكبير ج7 ص377. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 حوت أو تمساح فهو شبه عمد لأن الذى فعله لا يقتل غالبًا (1) . وإذا لم تتميز أفعالهم فلم يُعرف صاحب الجرح أحدث الموت، أو كانت أفعالهم مفردة لا دخل لها فى الزهوق ولكنها أدت إليه مجتمعة فالحكم فى ذلك هو ما سبق فى القتل على الإجماع. وقد يطرأ على الفعل المباشر فعل مباشر آخر أقوى منه بحيث ينقطع بالفعل الثانى أثر الفعل الأول، وحكم هذه الحالة تقديم الفعل الأقوى واعتبار صاحبه هو القاتل، فلو جرح الأول رجلاً جرحًا مميتًا بقصد القتل فجاء صاحب الفعل الثانى وحز رقبته فالقاتل هو الثانى، أما لو ذبحه الأول فجاء الثانى وجسم المذبوح لا يزال ينتفض فقدهَّ نصفين فالقاتل هو الأول، أما الثانى فيعتبر معتديًا على حرمة ميت ويُعزَّر وإن شق الأول بطنه ومزق أحشاءه ولكن بقيت به حياة مستقرة فجاء الثانى وقطع رقبته فالثانى قاتل والأول جارح، أما إذا كان فعل الأول قد أخرج المجنى عليه من حكم الحياة فالأول هو القاتل على رأى والثانى هو القاتل على رأى آخر، ما دام المجنى عليه لم يسلم الروح فعلاً (2) . ويرى البعض أنهم جميعًا مسئولون عن القتل عمدًا إذا تعذر معرفة صاحب الجرح المثخن (3) . وإذا شق شخص بطن آخر ثم جاء ثانٍ فحز رقبته فالآخر هو القاتل أما الأول فجارح فقط، لأن الإنسان يعيش بعد شق البطن ولأن حياة المجنى عليه كانت مستقرة وقت حز الرقية هذا إذا كان الشق مما يحتمل معه أن يعيش بعده يومًا أو بعض يوم، فأما إذا كان لا يتوهم ذلك ولم تبق إلا غمرات الموت فالشاق هو القاتل والحاز لا يعتبر جارحًا بل معتديًا على حرمة ميت.   (1) الشرح الكبير ج9 ص340 , المهذب ج2 ص188. (2) راجع الفقرتين 11 ,12. (3) حاشية ابن عابدين ح3 ص490. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وهناك رأى آخر مضاد لهذا الرأى وقد بسطنا القول فى هذه المسألة فى الفقرتين الحادية عشرة والثانية عشرة. 56 - اجتماع سببين فأكثر: إذا تسبب اثنان أو أكثر فى إحداث أفعال قاتلة بإنسان "كأن حبسه واحد فى منزل قصد قتله جوعًا، وأطلق الثانى صنابير الغاز بقصد قتله خنقًا، وأشعل الثالث النار فى المنزل بقصد قتله حرقًا" فإن مسئولية الجناة تترتب طبقًا للقواعد التى سبق أن بيناها فى حالة تعدد المباشرة، سواء كانت الأفعال على الاجتماع أو التعاقب وسواء أكان هناك تمالؤ أم لم يكن، ولا يغير من الحكم أن الفعل هناك مباشر وهنا تسبب لأن التسبب لا يقتل بذاته وإنما يقتل بواسطة فعل مباشر آخر ينسب للفاعل باعتباره متسببًا فيه، فالمنسوب للمتسبب هو نفس الفعل الذى ينسب للقاتل مباشرة، ومن ثم لم يكن اختلاف الحكم. 57 - اجتماع مباشرة وسبب: إذا اجتمع فعل مباشر مع فعل متسبب فلا يخرج الأمر فى تحديد مسئولية المباشر والمتسبب عن حالة من ثلاث: أولاً: أن يغلب السبب المباشرة: ويتغلب السبب على المباشرة إذا لم تكن المباشرة عدوانًا وفى هذه الحالة تكون المسئولية على المتسبب دون المباشر. كقتل المحكوم عليه بالإعدام بناء على شهادة الزور، فهذه النتيجة مسلّم بها فى القانون المصرى إذ نصت المادة 295 عقوبات على أنه إذا ترتب على الشهادة المزورة الحكم بالإعدام ونفذ الحكم فعلاً عوقب شاهد الزور بعقوبة الإعدام. فإن قتل الجلاد له ليس عدوانًا، والجلاد هو المباشر للقتل أما المتسبب فى القتل فشهود الزور وما دامت المباشرة ليست عدوانًا فالمسئولية على المتسبب وحده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 ثانيًا: أن تغلب المباشرة السبب: وتتغلب المباشرة على السبب إذا قطعت عمله، كمن ألقى إنسانًا فى ماء بقصد إغراقه فخنقه آخر كان يسبح فى الماء، أو كمن ألقى إنسانًا من شاهق فتلقاه آخر قبل وصوله إلى الأرض فقطّ رقبته بسيف أو أطلق عليه عيارًا ناريًا فقتله قبل وصوله إلى الأرض، فالمسئول عن القتل هو المباشر وليس المتسبب ولكن الأخير يعزر على فعله. ثالثًا: أن يعتدل السبب والمباشرة: بأن يتساوى أثرهما فى الفعل، وفى هذه الحالة يكون المتسبب والمباشر مسئولين معًا عن القتل، كحالة الإكراه على القتل، فإن المكره وهو المتسبب هو الذى يحرك المباشر وهو المكرهَ ويحمله على ارتكاب الحادث ولولا الأول لما فعل الثانى شيئًا ولما حصل القتل (1) . وكذلك من يأمر ولده الصغير أو المعتوه بقتل آخر فيقتله طاعة لهذا الأمر فكلاهما يعتبر قاتلاً، ولو أن للصغير أو المعتوه حكمًا خاصًا من حيث العقوبة خلافًا لأبى حنيفة. 58- تسبب الجانى فى فعل قاتل مباشر من المجنى عليه: ويعتبر الجانى مسئولاً عن القتل العمد عن مالك (2) إذا تسبب فى الفعل القاتل، ولو كان الموت نتيجة مباشرة لفعل المجنى عليه. فلو أن إنسانًا طلب آخر قاصدًا قتله بسيف مجرد أو ما يخيف كرمح أو سكين فهرب منه فتبعه الجانى وتلف المجنى عليه فى هربه بأن سقط من شاهق أو انخسف به سقف أو خرّ فى مهواة أو سقط فتلف أو لقيه سبع فافترسه أو غرق فى ماء أو احترق بنار، فعلى كل هذه الصور يعتبر الطالب قاتلاً عمدًا ولو أن هرب المجنى عليه هو الذى أنتج الموت مباشرة. ويعتبر أحمد (3) الطالب مسئولاً عن القتل شبه العمد فى هذه الصور؛ لأن   (1) الوجيز ج2 ص122 وما بعدها , نهاية المحتاج ج7 2240 وما بعدها. (2) مواهب الجليل ج6 ص241. (3) المغنى ج9 ص577. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الفعل الذى حدث من الجانى لا يقتل غالبًا، وفى مذهب الشافعى (1) رأيان يفرقان بين المجنى عليه المميز، وغير المميز فإذا كان المجنى عليه غير مميز فالطالب يعتبر مسئولاً عن القتل شبه العمد، وإذا كان مميزًا فهناك رأيان: رأى أنه لا مسئولية على الطالب لأن المجنى عليه هو الذى أهلك نفسه بفعله، ورأى يرى مسئولية الطالب عن القتل شبه العمد، لأن المجنى عليه لم يقصد إهلاك نفسه وإنما ألجأه الطالب إلى الهرب المفضى للهلاك، وقد اعتبر القتل شبه عمد لأن وسيلة القتل ليست مما يقتل غالبًا. فالشافعى وأحمد فى هذا يحافظان على قاعدتهما، أما ملك فاعتبره عمدًا لأنه - كما مر - لا يعرف القتل شبه العمد، والفعل عنده إما عمد أو خطأ. ويمكن تفسير مسئولية الطالب مع أن الفعل المباشر من المجنى عليه بأن المباشرة لم تكن عدوانًا فيتغلب الفعل المتسبب. أما أبو حنيفة فلا يرى مسئولية الطالب؛ لأن المجنى عليه قُتل بفعل نفسه. ويتفق القانون المصرى والفرنسى مع ما يراه أبو حنيفة ويتفق القانون الألمانى والقانون الإنجليزى مع ما يراه باقى الأمة. 59- القتل بفعل غير مادى: ويتفق الفقهاء لأربعة على جواز حصول القتل بوسيلة معنوية لا مادية كمن شهر سيفًا فى وجه إنسان فمات رعبًا، ومن تغفل إنسانًا وصاح به قاصدًا قتله فمات مذعورًا أو سقط لفزعه من مرتفع ومات من سقطته ومن ألقى على إنسان حية فمات رعبًا، ومن دلّى إنسانًا من شاهق فمات من روعته قبل أن يضربه بسيف أو يُترك ليسقط على الأرض. وعند مالك (2) أن القتل فى هذه الأحوال عمد ما دام الجانى قد تعمد الفعل   (1) نهاية المحتاج ج7 ص332 , 333. (2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 على وجه العدوان ولم يقصد منه اللعب أو المزاح، فإن قصد اللعب أو المزاح فالقتل خطأ. ويرى أحمد (1) أن القتل فى هذه الأحوال شبه عمد؛ لأن الوسيلة لا تقتل غالبًا. وكذلك يرى أبو حنيفة (2) . وفى مذهب الشافعى (3) يفرقون بين من يميز وبين من لا يميز كالصبى والمعتوه والمجنون والنائم والموسوس والمصعوق والمذعور والضعيف، ويرون أن القتل شبه عمد فى حالة من يميز، وأنه قتل عمد فى حالة من لا يميز؛ لأن الوسيلة تقتل غالبًا فى حالة من لا يميز ولا تقتل غالبًا فى حالة المميز. وليس فى نص القانون المصرى أو القانون الفرنسى ما يمنع أن تكون وسيلة القتل فعلاً غير مادى. ولكن جمهور الشراح الفرنسيين ويتابعهم المصريون يرون أن لا عقاب على القتل بهذه الطريقة، وحجتهم أنه لا يمكن على وجه التحقيق اعتبار العوامل النفسية التى تنشأ عن فعل الجانى سببًا لموت المجنى عليه، وهذا الرأى منتقد لأنه مع تقدم العلم يمكن أن يثبت على وجه التحقيق أن الموت نشأ عن العوامل النفسية التى أحدثها فعل الجانى، ولأن هناك صورًا تكون حالة الجانى والمجنى عليه فيها من الظهور بمكان بحيث يكون من الظلم أن يفلت الجانى من العقاب، ومع ذلك فهناك من القوانين الوضعية ما يأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية فالقانون الإنجيلزى يعاقب عل القتل إذا كانت وسيلة القاتل لقتل فريسته معنوية لا مادية. 60 - تعدد الأسباب: ومن المتفق عليه بين الأئمة الأربعة (4) أن الجانى يعتبر مسئولاً   (1) المغنى ج9 ص578. (2) البحر الرائق ج8 ص294. (3) نهاية المحتاج ج7 ص330 , 331. (4) نهاية المحتاج ح7 ص238 , 223 , 263 وما بعدها , المغنى ج9 ص324 , 380 , 381 , 578, مواهب الجليل ج6 ص242 , شرح الدردير ج4 ص219 , البحر الرائق ج8 ص294 , 301 , بدائع الصنائع ج6 ص235 , حاشية ابن عابدين ج3 ص480 , 481 , 493. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 عن القتل العمد إذا كان فعله بسبب الموت، أو كان له على انفراده دخل فيه، ولو كان هناك أسباب أخرى اشتركت فى إحداث الموت سواء كانت هذه الأسباب راجعة لفعل المجنى عليه أو تقصيره أو لحالته أو لفعل غيره متعمد أو غير متعمدة، وسواء كانت رئيسية أم ثانوية، فإذا أحدث المجنى عليه بنفسه جراحًا وأساء المجنى عليه علاج نفسه أو أهمل العلاج أو سمح لطبيب بعلاج جرحه أو بإجراء عملية فأخطأ العلاج أو قصر فى العملية وساعد كل ذلك يظل مسئولاً عن القتل العمد ما دام فعله مهلكًا من شأنه إحداث الوفاة. وإذا كان المجنى عليه مريضًا أو ضعيفًا أو صغيرًا فيعتبر الجانى مسئولاً عن قتله عمدًا إذا ضرب المجنى عليه ضربًا أو جرحه لا يقتل الرجل الصحيح ما دام من شأن هذا الضرب أو الجرح أن يقتل الرجل المريض والضعيف والصغير، وإذا كان بالمجنى عليه إصابات قاتلة فأحدث به الجانب إصابة أخرى قاتلة فمات منها جميعًا، فالجانى مسئول عن القتل ولو أن القتل نتيجة مباشرة لكل هذه الإصابات، ويستوى أن تكون الإصابات التى بالمجنى عليه ناشئة عن فعله كما إذا جرح نفسه أو عن فعل غيره كإنسان ضربه أو حيوان نهشه. وإذا كان بالمجنى عليه إصابات سببها فعل مباح كالدفاع الشرعى مثلاً فأحدث به آخر إصابة أو إصابات أخرى عدوانًا يقصد قتله، فمات من جميع الإصابات فالجانى مسئول عن قتله عمدًا ولو أن بعض الإصابات التى أدت إلى القتل ناشئة عن فعل مباح. وإذا كان بالمجنى عليه إصابات غير متعمدة ثم أحدث به الجانى إصابات متعمدة فمات منها جميعًا فالجانى مسئول عن القتل العمد، ولو أن بعض الإصابات التى أدت إليه ناشئة عن خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 وإذا كانت بعض الإصابات أفحش من بعض فإن الجانى الذى أحدث أبسط الإصابات مسئول عن القتل العمد ما دامت إصابته مهلكة بذاتها ولها دخل فى القتل على انفرادها، كما أنه لا عبرة بعدد الإصابات التى أحدثها كل جان، فلو كان بشخص مائة إصابة أدت إلى قتله فالجانى الذى أحدث واحدة منها فقط مسئول عن القتل ما دام لإصابته دخل فى القتل على انفرادها، ولو كانت بقية الإصابات من فعل شخص واحد. ويؤخذ من اعتبارهم الجانى قاتلاً عمدًا فى حالة إهمال العلاج أو إساءته أو ضعف المجنى عليه ومرضه.. الخ أنهم عرفوا نظرية تساوى الأسباب التى لم تعرفها القوانين الوضعية إلا حديثًا. فكل فعل اشترك فى إحداث الموت بحيث لم يكن الموت ليحدث لولا وقوع هذا الفعل عتبر بذاته سببًا للموت ولو أنه لم يؤد للموت إلا لوجود أسباب أخري؛ لأن هذا السبب بالذات هو الذى جعل لهذه الأسباب الأخرى أثرًا على الوفاة. 61 - انقطاع فعل الجانى: ويسأل الجانى عن القتل العمد نتيجة لفعله، ما دام الفعل سببًا للقتل، إلا إذا انقطع فعل الجانى بفعل آخر تغلب عليه وقضى على أثره. فمن يجرح إنسانًا جرحًا قاتلاً يقصد قتله يعتبر قاتلاً له عمدًا إذا مات من الجرح، ولكن إذا جاء ثالث فقطع رقبة الجريح فهو القاتل والأول جارح لا قاتل؛ لأن فعل الثالث قطع فعله وقضى على أثره، كذلك تنتفى مسئولية الجانى عن القتل إذا انقطع أثر فعله، كأن يشفى جرحه قبل الموت أو إذا لم يكن لجرحه أثر على الموت. 62 - نظرية السببية فى الشريعة: ويمكننا أن نستخلص مما سبق أن الشريعة الإسلامية تشترط لمسئولية الجانى عن القتل أن يكون بين فعله وبين الموت رابطة السببية وهى الرباط الذى يربط الفعل الحاصل من الجانى بالنتيجة التى يسأل عنها، ولا يشترط أن يكون فعل الجانى هو السبب الوحيد فى إحداث الموت، بل يكفى أن يكون فعل الجانى سببًا فعالاً فى إحداثه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 ويستوى بعد ذلك أن يكون فعل الجانى هو الذى سبب الموت وحده أم أن الموت نشأ عن فعل الجانى بالذات، وعن أسباب أخرى تولدت عن هذا الفعل كتحرك مرض كامن لدى المجنى عليه، كما يستوى أن يكون الموت نشأ عن فعل الجانى وحده أو عن هذا الفعل وعن أسباب أخرى لا علاقة لها بفعل الجانى كالاعتداء الحاصل من شخص آخر. ولا يعتبر فعل الجانى سببًا للموت إذا انعدمت رابطة السببية بين الفعل وموت المجنى عليه، أو إذا كانت قائمة ثم انقطعت بعد ذلك بفعل من شخص آخر ينسب إليه الموت دون فعل الجانى الأول، أو إذا كان فى إمكان المجنى عليه أن يدفع أثر الفعل دون شك فامتنع عن دفعه دون أن يكون للجانى دخل فى امتناعه. والجانى مسئول عن نتيجة فعله، سواء كان الموت نتيجة مباشرة لفعله أو كان نتيجة غير مباشرة لهذا الفعل، سواء كان السبب قريبًا أم بعيدًا ما دام الفعل سببًا للنتيجة. لكن فقهاء الشريعة مع هذا لا يسمحون بتوالى الأسباب إلى غير حد؛ بل يقيدون هذا التوالى بالعرف، لأن السبب عندهم هو ما يولد المباشرة توليدًا عرفيًا فما اعتبره فهو ليس سببًا له ولو كان سببًا قريبًا. وقد سلك الفقهاء هذا المسلك لأنه أقرب إلى العدالة وألصق بطبائع الأشياء ولو أنهم اكتفوا فى تحديد رابطة السببية بالسبب المباشر - كما فعل شراح القانون الفرنسى- لأدى ذلك إلى خروج كثير من الأفعال التى يعتبرها هذا العقل والعرف قتلاً ولو أنهم بالغوا فأخذوا بكل سبب غير مباشر - كما فعل الشراح الألمان - لأدخلوا فى دائرة القتل أفعالاً كثيرة لا يعتبرها عرف الناس ولا منطقهم قتلاً. ومن أجل ذلك جاءت نظرية السببية فى الشريعة مرنة تتسع لكل ما يتسع له عرف الناس ومنطقهم عادلة لأنها تعتمد على شعور الناس بالعدالة وإحساسهم بها، بل إن تحديد كفاية السبب لتحقق النتيجة بالعرف ضمن للنظرية البقاء ما بقى الناس لأن الناس سواء تقدموا أو تأخروا؛ جهلوا أو علموا لهم عرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 يطمئنون إليه وعقول لا ترتاح إلا لما تراه عدلاً وهذه النظرية تتمشى مع عرفهم ونظرهم للعدالة فى كل وقت وفى كل ظرف. * * * مقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية 63 - النظرية الفرنسية: ونظرية فقهاء الشريعة فى تحديد رابطة السببية: وقد مضى عليها أكثر من ألف سنة تدل على أنهم كانوا أبعد نظرًا وأدق تقديرًا للأمور من شراح القانون الوضعى فى عصرنا الحاضر، فالشراح الفرنسيون حتى اليوم لا يقبلون إلا السبب المباشر؛ أى السبب الذى أنتج الفعل المؤدى للقتل بشرط أن لا يطرأ عليه سبب آخر يؤدى بذاته إلى حدوث النتيجة المتوقعة أو يساعد على حدوثها، فمثلاً إذا ضرب شخص آخر ضربة مميتة، وجاء ثالث قبل أن يموت فقطع رقبته فالثالث هو القاتل؛ لأن السبب الثانى حال بين السبب الأول ونتيجته وقطع عمله، ولأن السبب الثانى هو الذى أدى بذاته إلى القتل. وفى هذا يتفق القانون الفرنسى مع الشريعة. ولكن إذا ضرب الجانى شخصًا أو جرحه فأهمل المجنى عليه العلاج، أو أساء علاج نفسه أو كان مريضًا أو ضعيفًا؛ فساعد إهماله أو سوء علاجه أو مرضه أو ضعفه على الوفاة، فإن الضرب أو الجرح لا يعتبر فى نظر الشراح الفرنسيين سببًا مباشرًا للقتل، لأن هناك سببًا أو أسبابًا أخرى ساعدت على إحداث القتل وقد لا يحدث القتل لو لم تكن هذه الأسباب وفى هذا تخالف الشريعة القانون الفرنسى لأنها تأخذ بالرأى المضاد. 64 - نقد النظرية الفرنسية: ويطبق الشراح الفرنسيون نظريتهم هذه فى حالة القتل العمد فقط، ولا يرون باسًا من اعتبار السبب غير المباشر فى القتل الخطأ وفى هذه التفرقة وحدها ما يؤكد أن نظريتهم معيبة؛ لأنه إذا كان العدل يقتضى أن لا يقبل إلا السبب المباشر فمن الظلم أن يقبل السبب غير المباشر فى القتل الخطأ، وإذا كان العدل يقتضى أن يقبل السبب غير المباشر فى القتل الخطأ فمن الظلم أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 لا يقبل فى القتل العمد. أما فيما يختص بحالة تعدد الأسباب، فإن فعل الجانى هو السبب الفعال فى الموت، ولولاه لما كانت الأسباب الأخرى فعالة ففعل الجانى وسبب الموت أولاً وأخيرًا ومن العدل أن يسأل عن فعله ونتائج فعله. 65 - النظرية الألمانية: أما الشراح الألمان فيسلمون بالسبب المباشر وغير المباشر، ويرون أن السبب هو كل شرط من شروط نتيجة الفعل المزهق لنفس، لأنه هو الذى جعل الشروط الأخرى سلبية، والفعل عندهم يعتبر قتلاً ولو كان غير كاف وحده لإحداث الوفاة أو كانت الوفاة لم تحدث لولا أعمال أخرى اقترنت بهذا الفعل أو تلته، ومن ثم فهم يعتبرون الضارب والجارح مسئولاً عن القتل، ولو كان الضرب والجرح فى ذاته مهلكًا لولا ضعف المجنى ليه أو إهماله العلاج. 66 - النظرية الإنجليزية: كذلك يأخذ الإنجليز بالسبب المباشر وغير المباشر، معتبرون الجانى قاتلاً ولو لم يكن الموت نتيجة مباشرة لفعله بل أدت إليه أو ساعدت عليه عوامل أخرى، فإذا اعتدى شخص على آخر اعتداء شديدًا حمل المعتدى عليه أن يلقى بنفسه من نافذة أو شرفة ليخلص نفسه من هذا الاعتداء، فإن المعتدى يعتبر قاتلاً إذا مات المعتدى عليه من إلقاء نفسه، كذلك يعتبر الجارح قاتلاً ولو تبين أن المجنى عليه أساء علاج نفسه، أو رفض إجراء عملية كان من المرجح أن تؤدى إلى شفائه. 67- عيب النظرية الألمانية والإنجليزية: ونظرية الألمان تتفق مع النظرية الإنجليزية وهما أوسع مدى من النظرية الفرنسية، ويرى الكثير من الشراح أن النظرية الألمانية الإنجليزية أقرب إلى العدل من النظرية الفرنسية؛ لأن الأولى تفتح الباب واسعًا أمام القاضى ليقدر مسئولية من تسبب فى قتل غيره بطريقة غير مباشرة، ولا تسمح بإفلات قاتل من العقاب لأنه استطاع أن يصل إلى غرضه بطريق غير مباشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 ولكن النظرية الألمانية الإنجيلزية بالرغم من ذلك معيبة، وعيبها أنها تسلم بتوالى الأسباب غير المباشرة إلى غير حد يقف عنده هذا التوالى، وقد أدى بها هذا العيب إلى أن تخلق حلولاً يستسيغها العقل ولا تتفق مع العرف، فمثلاً يرى بعض الآخذين بهذه النظرية على إطلاقها أنه يعتبر متسببًا فى القتل من جرح غيره جرحًا غير ميت إذا استلزمت حالة الجرح نقله للمستشفى فاحترق المستشفى بمن فيه إذ لولا الجرح لما احترق المجنى عليه. 68 - والرأى المعتدل: الذى حاول به أصحابه أن يصلحوا هذا العيب يقوم على أساس أن يكون السبب كافيًا لتحقيق النتيجة، فإن كان كافيًا فالجانى قاتل، وإن لم يكن كافيًا فهو غير قاتل، فمثلا إذا ضرب الجانى سفَّانًا قاصدًا فأحدث به إصابات أعجزته عن إدارة حركة السفينة ثم غرقت به السفينة بعد ذلك بسبب اشتداد الأنواء دون أن يكون لعجز المجنى عليه أثر على غرقه، فإن الجانى لا يعتبر مسئولاً عن غرق المجنى عليه أما إذا كان غرق السفينة ناشئًا عن عجز المجنى عليه عن إدارة السفينة بسبب إصابته فيكون الجانى مسئولاً عن الغرق؛ لأن عجز المجنى عليه من الضرب كاف لتحقيق هذه النتيجة. 69 - وتقيد النظرية بكفاية السبب لتحقيق النتيجة معناه تقيدها بالعرف: لأن مقياس الكفاية ليس ماديًا، وإنما هو معنوى يرجع إلى ما تعارف عليه الناس وما تقبله عقولهم وترتاح إليه نفوسهم، وإذا كان العرف هو المقياس الذى تقاس به كفاية الأسباب لتحقيق النتيجة فى الشريعة الإسلامية، فمعنى ذلك أن نظرية السببية فى القوانين الوضعية تسير الآن فى نفس الطريق الذى رسمه فقهاء الشريعة الإسلامية من ألف سنة وأكثر، وأحكام المحاكم المصرية تتفق مع الشريعة الإسلامية فيما يختص بتحديد رابطة السببية واعتبار السبب غير المباشر وتعدد أسباب الوفاة وليس منشأ هذا الاتفاق أن المحاكم المصرية ترجع للفقه الإسلامى وإنما منشؤه أن المحاكم المصرية تفضل فى هذه المواضيع النظرية الألمانية الإنجليزية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 على النظرية الفرنسية، والنظرية المفضلة تتفق مع الشريعة الإسلامية؛ فمثلاً حكمت محكمة النقض المصرية فى قضية ضرب أفضى إلى موت بأنه "متى ثبت أن الضرب الذى وقع من المتهم هو السبب الأول المحرك لعوامل أخرى تعاونت وإن تنوعت على إحداث وفاة المجنى عليه سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر، فهو مسئول جنائيًا عن كافة النتائج التى ترتبت على فعله مأخوذًا فى ذلك بقصده الاحتمالى لأنه كان من واجبه أن يتوقع كل هذه النتائج الجائزة الحصول" (1) . وأصدرت محكمة جنايات أسيوط حكمًا فى قضية قتل أشارت فيه إلى الخلاف بين الشراح الفرنسيين من جهة وبين الألمان والإنجليز من جهة أخرى، فيما يتعلق بالسبب وتحديد معنى السببية وقالت: إنها تأخذ بنظرية الألمان والإنجليز لأنها أقرب إلى العدل وتفسح الطريق لمعاقبة من يتسبب فى قتل آخر بطريق غير مباشر متى كانت ظروف القتل تدل على أنه قصد ذلك (2) . وحكمت محكمة النقض فى قضية قتل بأن إذا طعن المتهم المجنى عليه بسكين متعمدًا قتله فأحدث به جرحًا فى تجويف الرئة نتجت عنه الوفاة يكون مرتكبًا لجناية القتل عمدًا، وإن تكن الوفاة قد حصلت بعد علاج ثمانية وخمسين يومًا بالمستشفى إذ من المبادئ المقررة أن الفاعل مسئول عن جميع نتائج فعله غير القانونى التى كان يمكنه أو كان واجبًا عليه أن يفترضها، وهذه المسئولية ليست متوقفة على إثبات أن المجنى عليه قد عولج أحسن علاج طبقًا للعلوم الحديثة (3) .   (1) نقض فى 21 مارس 1938 القضية رقم 996 سنة 8 ق. (2) محكمة جنايات أسيوط فى 28 مارس نة 1927 , المجموعة الرسمية سنة 1928 العدد 62. (3) نقض فى 22/11/1913 , شرائح 1 ص86. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 70 - القتل بالترك: وكما يجوز فى الشريعة الإسلامية أن يكون القتل بفعل مادى أو معنوى؛ أى بفعل إيجابى، فإنه يجوز أن يكون القتل بالسلب؛ أى بغير فعل إيجابى يصدر عن الجانى بحيث يمتنع الجانى عن عمل معين فيؤدى امتناعه إلى قتل المجنى عليه، فمن حبس إنسانًا ومنعه عن الطعام أو الشراب أو الدفء فى الليالى الباردة حتى مات جوعًا أو عطشًا أو بردًا فهو قاتل عمدًا إن قصد بالمنع قتله، وذلك ما يراه مالك (1) والشافعى (2) وأحمد (3) ، أما أبو حنيفة فلا يرى الفعل قتلاً لأن الهلاك حصل بالجوع والعطش والبرد لا بالحبس ولا صنع لأحد فى الجوع والعطش، ولكن أبا يوسف ومحمدًا يريان الفعل قتلاً عمدًا؛ لأنه لا بقاء لآدمى إلا بالأكل والشرب والدفْ فالمنع عند استيلاء الجوع والعطش والبرد عليه يكون إهلاكًا له (4) ولكنه قتل بالتسبب، ولا يقتص فى القتل بالتسبب عندهما وعند أبى حنيفة. والأم التى تمنع ولدها الرضاع قاصدة قتله تعتبر قاتلة عمدًا، ولو أنها لم تأت بعمل إيجابى (5) . ومن منع فضل مائة مسافرًا عالمًا بأنه لا يحل له منعه وأنه يموت إن لم يسقه اعتبر قاتلاً عمدًا له وإن لم يك قتله بيده (6) ، وهو رأى فى مذهب مالك ويرى البعض أنه قتل شبه عمد، وهو رأى فى مذهب أحمد (7) . وإذا حضرت نساء ولادة فقطعت إحداهن سُرَّة الوليد وامتنعت عن ربط   (1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص215. (2) نهاية المحتاج ج7 ص239. (3) المغنى ج9 ص328. (4) بدائع الصنائع ج7 ص234 , البحر الرائق ج8 ص295. (5) شرح الدرديرج4 ص215. (6) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص240. (7) المغنى ج9 ص581. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 الحبل السُّرى فمات بعد القطع بقليل فهى قاتلة له عمدًا، ومن الممكن القول باعتبار بقية الحاضرات قاتلات إذا لم يَريْنَ الربط، لأن المهلك تركُ الربط فالهلاك ينسب إليهن كلهن (1) . 71- والظاهر من تتبع أمثلة الفقهاء أن الممتنع لا يعتبر مسئولاً عن كل جريمة ترتبت على امتناعه، وأنه يسأل فقط حيث يجب عليه شرعًا أو عرفًا أن لا يمتنع ومع ذلك فهناك خلاف على ما يوجبه الشرع والعرف، ومن الطبيعى أن يكون هذا الخلاف ما دامت وجهات النظر مختلفة، فمثلاً يرى بعض الحنابلة أن من أمكنه إنجاء آدمى من هلكة كماء أو نار أو سبع فلم يفعل حتى هلك فلا مسئولية عليه (2) ، ويرى بعض الحنابلة مسئوليته (3) ، وأساس الاختلاف: هل الإنجاد واجب أو غير واجب؟. 72- مقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية: واتجاه فقهاء الشريعة فى القتل بالترك هو نفس الاتجاه الذى سار فيه أغلب شراح القوانين الوضعية أخيرًا، أما قبل ذلك فقد كانت المسألة محل خلاف شديد بين شراح القوانين. فكان بعضهم يرى أنه لا يمكن إحداث الجريمة بالترك، لأن الترك عدم ولا ينشأ عن العدم وجود، وكان البعض يرى أن الترك يصلح سببًا للجريمة كالفعل تمامًا، لأن كليهما يرجع إلى إرادة الإنسان وقد انتهت الأغلبية أخيرًا إلى التسليم بأن الترك يصلح سببًا للجريمة ولكنهم لم يأخذوا بالمبدأ على إطلاقه وقيدوه بأن يكون الشخص مكلفًا فى الأصل بالعمل وأن يكون الامتناع أو الترك مخالفة لهذا التكليف، ويستوى عندهم أن يكون مصدر التكليف بالعمل القانون أو الاتفاق ومن الأمثلة التى يضربها شراح القوانين على القتل بالترك: حبس   (1) الفتاوى الكبرى ص220 وما بعدها. (2) الإقناع ج4 ص205. (3) المغنى ج9 ص581. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 شخص دون حق ومنع الطعام عنه بقصد قتله، وامتناع الأم عمدًا عن إرضاع ولدها بقصد قتله. ويضربون مثلاً على الحالة التى لا مسئولية فيها: الامتناع عن إنقاذ مشرف على الغرق، أو إنسان أحاطت به النار أو أقدم سبع على افتراسه. والأمثلة فى الوجهين تكاد تكون نفس الأمثلة التى يضربها فقهاء الشريعة الإسلامية. ويلاحظ أن اشتراط شراح القوانين أن يكون العمل واجبًا بمقتضى القانون أو الاتفاق يساوى تمامًا ما يشترطه فقهاء الشريعة من أن يكون العمل واجبًا بمقتضى الشريعة أو العرف؛ لأن تعارف الناس على وجوب أمر يساوى الاتفاق على وجوبه (1) فكأن القوانين الوضيعة التى تعاقب على القتل بالترك تسير فى إثر الشريعة الإسلامية وإذا كانت الأغلبية فى فرنسا ترى العقاب على القتل بالترك فإن الأقلية وعلى رأسها "جارسون" ترى أن نصوص القانون الفرنسى - وهى تماثل نصوص القانون المصرى - لا تتسع للعقاب على القتل بالترك، وأنه إذا كان لابد من العقاب على هذه الجرائم فيتعين إصدار تشريع خاص يعاقب عليها. أما فى إنجلترا فالقانون الإنجليز لا يفرق بين ما إذا كانت الجريمة ارتكبت بفعل أو ترك، ويعاقب على الحالين فمن كان متكفلاً بطفل ومنع عنه الطعام حتى مات جوعًا يعاقب بعقوبة القتل العمد. وفى إيطاليا نص فى قانون العقوبات الإيطالى الصادر فى 19/10/1930 على أنه "إذا لم يمنع الإنسان حادثًا هو ملزم قانونًا بمنعه فإن عدم منعه هذا الحادث يساوى إحداثه" أى: أن القانون الإيطالى يعاقب عل القتل بالترك إذا كان العمل مما يوجبه القانون. وفى مصر تعاقب المحاكم المصرية على القتل بالترك، فقد حكمت محكمة النقض فى قضية تلخص وقائعها فى أن المتهم لعداء بينه وبين والد المجنى عليهما   (1) توجب الشريعة الوفاء بالعقود والاتفاقات , فمن كان عليه واجب طبقاً لاتفاق فهو واجب طبقاً للشريعة الإسلامية ما لم يكن مخالفاً لنصوص الشريعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 خطف طفليه ووضعهما فى زراعة قصب بعد أن أحدث بهما إصابات أعجزتهما عن الحركة ثم تركهما يموتان جوعًا، وقد مات أحدهما فعلاً وأسعف الآخر بعد العثور عليه، وظهر من تشريح جثة القتيل أن وفاته حصلت من الصدمة العصبية الناشئة عن الكسور والرضوض التى به مع ضعف الحيوية الناشئ عن عدم التغذية، وقد قالت المحكمة فى معرض بيان نية القتل: "إنه لا نزاع فى أن تعجيز شخص عن الحركة بضربه ضربًا مبرِّحًا وتركه فى مكان منعزل محرومًا من وسائل الحياة بنية القتل يعتبر قتلاً عمدًا حتى كانت الوفاة نتيجة مباشرة لتلك الأفعال" (1) . وهكذا يتبين أن الشريعة الإسلامية سبقت القوانين الوضعية فى تقرير عقوبة القتل بالترك بأكثر فى ألف سنة، وأن القواعد التى وضعتها هذه الحالة هى نفس القواعد التى أخذ بها القوانين أخيرًا. 73 - عصمة القاتل: ويشترط فى الفعل القاتل أن يكون صادرًا من معصوم حتى يمكن اعتباره مسئولاً عن الجريمة. فإن كان غير معصوم فإنه لا يسأل عن الفعل إذ يباح لغير المعصوم. ومعنى العصمة بالنسبة للقاتل يختلف عنه بالنسبة للمقتول، فالعصمة بالنسبة للمقتول هى أن لا يكون مهدر الدم سواء كان ملتزمًا أحكام الإسلام كالمرتد أو الزانى المحصن أم غير ملتزم لها كالحربى. أما العصمة بالنسبة للقاتل فهى التزام أحكام الإسلام سواء كان الملتزم مهدر الدم أو محقونة، فيعتبر المرتد والزانى المحصن والقاتل عمدًا معصومين إذا ارتكبوا القتل ولكن دمائهم مهدرة لأنهم ملتزمون بأحكام الإسلام وهو يحرم القتل كما يحرم غيره من الجرائم التى يؤدى ارتكابها إلى اهدار الدم، فإذا أهدر شخص دم نفسه بارتكاب جريمة فليس له أن يتخذ من ذلك سندًا لارتكاب أية جريمة بحجة أنه أصبح مهدر الدم.   (1) نقض فى 28 ديسمبر سنة 1936 قضية رقم 2105 سنة 6 ق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وإذا كانت العصمة بالنسبة للقاتل هى إلتزام أحكام الإسلام فإن كل قاتل معصوم إلا الحربى (1) فإنه لا يعتبر معصومًا حال حرابته، ومن ثم فهو غير مسئول عن الجرائم التى يرتكبها ولو أسلم بعد إرتكابها، لما تواتر من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من عدم عقابهم من أسلم على ما فعله فى حال حرابته، كما أنه لا يسأل عن جرائمه السابقة، ولو عقدت له ذمة أو أمان لقوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . واعتبر الحربى غير معصوم وعدم عقابه عن أى جريمة يرتكبها هو عين العدالة، لأن حالة الحرب القائمة بين دولته والدولة الإسلامية تقتضى أن يكون دم الحربى وماله هدرًا ومباحًا للمسلم، وأن يجعل مال المسلم ودمه هدرًا ومباحًا للحربى فالشريعة لا تميز المسلم عن الحربى وتبيح فى حالة الحرب لأحدهما ما تبيحه للآخر. وتعتبر الجزية والأمان والهدنة التزامًا بأحكام الإسلام ولو من بعض الوجوه، فإذا دخل الحربى فى عقد من هذه العقود اعتبر معصومًا وعوقب على كل جريمة يرتكبها بعد العقد. 74- كل ما سبق محله أن يكون من شأن فعل الجانى إحداث الوفاة وأن يحدثها فعلاً فإن لم يكن من شأن الفعل إحداث الوفاة أصلاً، كمن حاول قتل آخر بسلاح نارى غير معمر، فإنه يمكن القول بأن الفقهاء لا يرون العقاب على ذلك الفعل بدليل أنهم لم يتعرضوا له أصلاً فى باب القتل والجرح، وفى هذا يتفق فقهاء الشريعة على الأقل مع من يقولون من شراح القوانين الوضعية لنظرية الجريمة المستحيلة، وتعليل عدم العقاب فى القانون هو أن جريمة القتل لم تقع ولا عقاب   (1) راجع: الشرح الكبير للدردير ج4 ص210 , مواهب الجليل للحطاب ج6 ص230 , نهاية المحتاج ج7 ص250 , بدائع الصنائع ج7 ص236 , 237 , 252 , شرح فتح القدير ج4 ص349 , المغنى ج10 من 436 إلى 439 و448 و483. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 على جريمة لم تقع، وأن جريمة الشروع فى القتل لا يكفى لوقوعها أن يقصد الجانى القتل، بل يجب أن تكون الوسيلة التى استخدمت من شأنها إحداث القتل، وما دامت الوسيلة لا تحدث القتل أصلاً فلا تقع جريمة الشروع ولا عقاب على جريمة لم تقع أو أن الجريمة التامة وهى القتل يستحيل تنفيذها والشروع هو البدء فى التنفيذ فالجريمة التى يستحيل تنفيذها يستحيل بدء تنفيذها هذا هو التعليل القانونى لعدم العقاب ولى فى مبادئ الشريعة ما يمنع قبول مثل هذا التعليل. على أن فقهاء الشريعة إذا كانوا لم يذكروا شيئًا فى باب القتل عن عقاب من حاول جريمة مستحيلة فليس معنى ذلك أن العقاب غير جائز شرعًا لأن مبادئ الشريعة فى الواقع لا تمنع من العقاب على الشروع فى الجريمة المستحيلة إذا رأت السلطة التشريعية ذلك ما دام الفعل فى ذاته اعتداء، والتفسير الصحيح لسكوت الفقهاء هو أنهم فى باب القتل يتكلمون عن جريمة القتل والجرح المعاقب عليها بالقصاص والدية إذا ارتكبت فعلاً، فإذا حاول الجانى ارتكابها وأخفقت وسائله فى الوصول إلى النتيجة المنشودة فعوقبته التعزير وتقرير عقوبة التعزير وتقديرها متروك للسلطة التشريعية تحدده كما تشاء، فضلاً عن أنهم فى باب التعزير نصوا على أن التعزير جائز فى كل معصية ليس لها حد مقدر والشروع فى الجريمة المستحيلة معصية لم يرد فيها حد مقدر. 75 - وإذا كان من شأن الفعل أن يحدث الوفاة ولكنه لم يحدثها فعلاً فإما أن يكون ذلك راجعًا إلى أن الجانى لم يصب المجنى عليه أو لأنه أصابة وشفى من إصابته، فإذا كان الجانى حاول إصابة المجنى عليه وأخفق فى إصابته؛ كأن اطلق عليه مقذوفًا ناريًا أو رماه بسهم لم يصبه، أو ضربه بسيف فحاد عنه، فذلك هو ما يسمى بالشروع الخائب فى القوانين الوضعية. وعقوبته فى الشريعة الإسلامية التعزير؛ أى العقوبة التى تقدرها السلطات التشريعية لأن الفقهاء يرون التعزير فى الشتم وفى المواثبة. ومعنى المواثبة: محاولة الاعتداء البسيط فمن باب أولى أن يعزز من حاول الاعتداء الجسيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وإذا كان فقهاء الشريعة لم يضعوا نظرية منظمة عن الشروع فى الجرائم كما فعل شراح القوانين فليس معنى ذلك أن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين الجريمة التامة والشروع فيها، إذ الواقع أنها فرقت بين الجريمة التامة والشروع من وقت نزولها، حيث جعلت التعزير فى نوعين من الجرائم؛ فجعلته أولاً فى كل جريمة لم يشرع فيها حد وجعلته ثانيًا فى كل جريمة شرع فيها حد إذا كانت الجريمة لم تتم؛ لأن الحد شرع فقط للجريمة التامة فيبقى ما دون التمام لعقوبة التعزير. فمثلاً جريمة الزنا من جرائم الحدود وحدها الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن، وهى لا تتم إلا بالوطء، ومعناه دخول الحشفة أو قدرها فى الفرج، فإذا لم تتم الجريمة على هذا الوجه فلا رجم ولا جلد، وكانت العقوبة التعزير فيما دون الوطء؛ أى فيما دون تماما الجريمة. وجريمة السرقة حدها القطع، وهى لا تتم إلا بإخراج المال من حرزه، فإذا ضبط المتهم قبل إخراج المال من الحرز عُزِّر ولم يقطع؛ لأن القطع لا يكون إلا بتمام الجريمة وهى لم تتم. وكذلك جريمة القتل وحدها القصاص، ولا تتم إلا بفعل من الجانى يقع على المجنى عليه ويكون من شأنه إحداث الوفاة، فإذا بدأ المتهم جريمته وخاب أثرها لسبب لا دخل لإرادته فيه وجب التعزير. أما إذا أصيب المجنى عليه وشفى من إصابته فالفعل لا يعتبر فى الشريعة جريمة لم تتم، أو بتعبير آخر شروعًا فى قتل وإنما يعتبر جرحًا؛ لأن فعل الجانى كوّن جريمة تامة مستقلة هى جريمة الجرح، ولهذه الجريمة عقوبة خاصة فى حالة العمد هى القصاص كلما أمكن ذلك أو الدية فليس إذن ثمة ما يدعو لاعتبار الفعل جريمة لم تتم وتعزير الجانى عليه. وقد أخذ القانون المصرى كغيره من القوانين الوضعية بهذه الطريقة فى جرائم الضرب، فإذا لم ترك الضرب عاهة مستديمة أو لم يؤد لوفاة المجنى عليه، فلا يعتبر الجانى شارعًا فى إحداث عاهة أو ضرب مفض لموت وإنما يعتبر ضاربًا أو جارحًا؛ لأن القانون يعتبر الضرب والجرح جريمة مستقلة أدنى مرتبة من إحداث العاهة والضرب المفضى للموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 ولكن كلاً من القانون المصرى والفرنسى يختلف مع الشريعة فى حالة القتل العمد إذ يعتبر الجريمة التى لم تتم شروعًا فى قتل ولا يعتبرها جرحًا. فكأن هذين القانونين يؤاخذان الفاعل على فعله بحسب قصده من هذا الفعل، أما الشريعة فتؤاخذه على فعله طبقًا لنتيجة فعله، وليس لهذا الخلاف أهمية؛ لأنه فى تصوير الفعل القانونى والمهم أن كل تشريع يعاقب على الفعل بالعقوبة التى يراها مناسبة له. 76 - تطبيقات على الأفعال القاتلة: رأينا أن نورد أنواعًا مختلفة من الأفعال القاتلة ونبين آراء الفقهاء فيها تطبيقًا للقواعد التى سبق عرضها، فإن ذلك أحرى أن يثبت هذه القواعد فى ذهن القارئ ويساعد على فهم أسس الخلاف بين الآراء المختلفة. 77 - القتل بالمحدد: والمحدد هو كل آلة محددة جارحة أو طاعنة لها مَوْر فى البدن؛ أى تفرق أجزاء الجسم. ولا يشترط أن يكون المحدد من مادة معينة فيصح أن يكون من الحديد أو النحاس أو الرصاص أو الذهب أو الفضة أو الزجاج أو الخشب أو القصب أو العظم أو غير ذلك. ومثل المحدد: السكين والرمح والبندقية والمسلة والسهم والقنبلة والسيف. وحكم المحدد أن الجانى إذا أحدث به جرحًا كبيراُ فأدى إلى الموت فهو قتل عمد لا خلاف فيه بين الفقهاء. فاذا جرحه جرحا صغيرا كشرطة الحجام أو غرزة بإبرة أو شوكة فى غير مقتل فبقى خمنا - أى سقيمًا - حتى مات، أو مات فى الحال ففى المسألة رأيان عند الشافعى وأحمد: أولهما: ان القتل ليس عمدًا بل هو شبه عمدٍ، لأن الإبرة والشوكة والجرح لا تقتل غالبًا، ووسيلة القتل يجب أن تكون قاتلة غالبًا. ثانيهما: ان القتل عمد لأنه بمحدد، والمحدد لا تشترط فيه غلبة الظن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 فى حصول القتل، بعكس غير المحدد فلابد أن يكون قاتلاً غالبًا (1) . وفى مذهب أبى حنيفة (2) يرون القتل فى حالة الإبرة والشوكة شبه عمد لأن الآلة وإن كانت جارحة إلا أنها لم تُعَدَّ للقتل، فالإبرة مثلاً معدة للخياطة ولا يقصد بها القتل عادة. أما الحرح البسيط فى غير مقتل فهو قتل عمد إذا أدى للموت وكان من آلة قاتلة معدة للقتل. ويرى مالك أن الجرح والغرز قتل عمد سواء كان فى مقتل أو فى غير مقتل، ما دام الفاعل متعمدًا ولم يأت بالفعل على وجه اللعب أو التأديب (3) . وهكذا يتمسك كل بالشروط التى وضعها للآلة القاتلة. فالشافعيون والحنابلة يشترطون أن تقتل غالبًا بالرغم من أنها محدد، وإن كان بعضهم لا يرون هذا الشرط فى الآلة إذا كانت محددًا، والأحناف يشترطون أن تكون الآلة قاتلة ومعدة للقتل، أما مالك فلا يشترط شيئًا إلا أن يكون الفعل متعمدًا على وجه العدوان. 78 - القتل بالمثقل: والمثقل هو ما ليس له حد كالعصا والحجر. وآراء الفقهاء مختلفة فى المثقل. فمالك يرى كل قتل بالمثقل هو قتل عمد، سواء كان المثقل يقتل غالبًا أو لا يقتل غالبًا، ما دام الفعل متعمدًا على وجه العدوان لا على وجه اللعب والتأديب. ويرى الشافعى وأحمد أن الضرب بمثقل يقتل غالبًا هو قتل عمد إذا أدى للموت كالعصا الغليظة والحجر وعمود الحديد. ويلحق بالمثقل ما يعمل عمله كإلقاء حائط أو سقف والإلقاء من شاهق. ويعتبر أن القتل عمدًا أيضًا ولو كان الضرب بمثقل صغير كعصا خفيفة أو عصا صغير أو لكزة يد فى مقتل أو فى حال ضعف   (1) نهاية المحتاج ح7 ص238 , المغنى والشرح الكبير ج9 ص320 , 321 , الإقناع ج4 ص163. (2) البحر الرائق ج8 ص287 - 289. (3) الشرح الكبير للدردير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 المضروب لمرض أو صغر أو حر مفرط أو برد شديد ولو ضربه ضربة واحدة. وكذلك يعتبر قاتلاً عمدًا ولو لم يكن الضرب فى مقتل، ولو لم يكن المضروب ضعيفًا أو صغيرًا ... الخ، وذلك فى حالة تكرار الضرب؛ لأن تكرار الضرب وموالاته يقتل غالبًا. وهذا كله قائم على أساس القاعدة التى أخذ بها الشافعى وأحمد، وهى اشتراط أن تكون الآلة أو الوسيلة قاتلة غالبًا بذاتها أو لظروف الفعل ووقته وحال المجنى عليه وأثر الفعل فيه. أما أبو حنيفة فيرى القتل بالمثقل قتلاً شبه عمد أيًّا كان المثقل ثقيلاً أو خفيفًا؛ لأنه يشترط أن تكون الآلة قاتلة غالبًا وأن تكون معدة للقتل، والمثقل إذا قتل غالبًا فإنه لا يعد للقتل، ولا يستثنى أبو حنيفة من هذا إلا الحديد فى رواية ويلحق بالحديد ما هو فى معناه أى ما يستعمل استعماله كالنحاس والصُّفْر فهذه إذا استعملت فى القتل كان القتل عمدًا، ولو لم تكن محددة أو طاعنة أى ولو كانت مثقلاً كالعمود والملكمة والمطرقة والعصا الملبسة بالحديد. وقد استثنى أبو حنيفة الحديد لأنه يعمل عمل السلاح أو لأنه يعتبر سلاحًا بنفسه لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] ، فألحقه بالسلاح فى الحكم وجعل حكمه حكم المحدد وألحق ما فى معنى الحديد بالحديد فى الحكم (1) . ويشترط البعض فى الحديد أن يترك جرحًا ليكون القتل عمدًا. ولكن البعض الآخر يسوى فى الحكم بين الجراح والرضوض ويعتبر الفعل عمدًا فى الحالين (2) . ويرى أبو يوسف ومحمد أن القتل بالمثقل قتل عمد إذا كان المثقل يقتل غالبًا، واعتبر المثقل آلة معدة للقتل باستعماله فى القتل، فتوفر للمثقل شرطا أبى حنيفة، وهو أن يكون قاتلاً غالبًا وأن يكون معدًا للقتل، فإذا لم يكن المثقل قاتلاً   (1) نهاية المحتاج ج7 ص238 وما بعدها , المغنى والشرح الكبير ج9 ص320 , 321 وما بعدها. (2) الزيلعى ج6 ص98. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 غالبًا فالقتل شبه عمد ولو توالى الضرب (1) . وحجة أبى حنيفة فى المثقل قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن فى قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل"، وقد أخذ أبو حنيفة الحديث على إطلاقه وقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سمى هذا النوع من القتل عمد الخطأ وأوجب فيه الدية دون القصاص، فهو إذن ليس بعمد، وإنما شبه عمد، ولما كان السوط والعصا والحجر أدوات غير جارحة وكل منها مثقل، فكل مثقل له حكمها؛ أى أن الضرب به لا يكون إلا شبه عمد ولم يستثن من ذلك إلا الحديد الذى لا حد له، لأن الحديد آلة معدة للقتل بطبيعتها بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ولأن القتل بعمد الحديد معتاد. أما بقية الأئمة فقد فسروا الحديث على أن المقصود به المثقل الصغير كالعصا الرفيعة والسوط والحجر الصغير. وهذا أساس الاختلاف بين الأئمة فى حكم المثقل. 79 - الإلقاء فى مهلكة: كأن يجمع بينه وبين أسد فى زُبْية أو ينهشه كلب أو سبع أو حية أو يلسعه عقرب. يرى أحمد أن الجانى إذا جمع بين المجنى عليه وبين أسد أو نحوه فى مكان ضيق فقتله الأسد، فهو عمد إذا فعل به السبع فعلاً يقتل مثله، وإن فعل به السبع فعلاً أو فعله الآدمى لم يكن عمدًا فالفعل ليس قتلاً عمدًا، لأن السبع صار آلة للآدمى فكان فعله كفعله، وإن ألقاه مكتوفًا بين يدى أسد أو نمر فقتله فهو عمد، وكذلك إن جمع بينه وبين حية فى مكان ضيق فنهشته فقتله فهو عمد وكذلك لو لسعه عقرب من القواتل. وإن ألقاه فى أرض مسبعة أو ذات حيات فقتله فهو عمد إن كان الفعل يقتل غالبًا، وإلا فهو شبه عمد. وإن نهشته حية أو سبع فقتله فهو عمد، فإن كان مما لا يقتل غالبًا كثعبان الحجاز أو سبع صغير ففيه رأيان:   (1) البحر الرائق ج8 ص287 - 289. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 أحدهما: أنه عمد لأن الجرح لا يعتبر فيه غلبة حصول القتل، ولأن الثعبان والسبع من جنس ما يقتل غالبًا. وثانيهما: هو شبه عمد لأن الفعل لا يقتل غالبًا. وإن كتفه وألقاه فى أرض غير مسبعة فأكله سبع أو نهشته حية فمات فهو شبه عمد. وفى مذهب أحمد من يرى عدم مسئولية الجانى فى حالة الجمع بين المجنى عليه وأسد أو حية لأن الأسد والحية يهربان من الآدمى ولأن الفعل سبب غير ملجئ (1) . أما فى مذهب الشافعى فيفرقون بين الصبى والبالغ، ويرون أنه إذا وضع جان صبيًا فى مسبعة ولو زبُيْة أسد غاب عنها فأكله السبع فلا مسئولية على الجانى لأن الوضع ليس بإهلاك ولم يلجئ السبع إلى افتراسه. أما إذا ألقى الصبى على السبع وهو فى زبيته أو ألقى السبع عليه أو أغرى السبع به فهو قتل شبه عمد؛ لأن السبع يثبت فى المضيق وينفر بطبيعته من الآدمى فى المتسع ما لم يكن السبع ضاربًا يقتل غالبًا فهو عمد. وفى المذهب رأى بمسئولية الجانى كلما عجز المجنى عليه أن ينتقل من المحل المهلك، فإن عجز فالقتل شبه عمد، إلا إذا كان السبع ضاريًا لا يتأتى الهرب منه فهو عمد. فإن كان المجنى عليه يمكنه الانتقال من المحل المهلك فلم ينتقل أو وضع بغير مسبعة فاتفق أن سبعًا أكله أو كان المجنى عليه بالغًا فالفعل هدر لا مسئولية عنه (2) . وفى مذهب أبى حنيفة أن لاشىء على الجانى فى كل هذه الصور فى أى حالة، ولو قتله السبع أو نهشته الحية أو لسعته العقرب (3) . أما مالك فالفعل عنده فى كل حال قتل عمد، سواء كان الفعل يقتل غالبًا أم لا ما دام القصد منه العدوان المحض (4) .   (1) المغنى والشرح الكبير ج9 ص324 , 325. (2) نهاية المحتاج ج7 ص332 , وراجع ص248 أيضاً. (3) البحر الرائق ج8 ص294. (4) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وأساس الخلاف بين القائلين بالمسئولية ومن لا يقول بها هو اختلاف وجهة النظر فى طبيعة الحيوان وقدرة المجنى عليه على التخلص، فمن رأى أن الحيوانات تنفر من الإنسان وتهرب منه وأن المجنى عليه يستطيع أن يتجنب الحيوان، وأن وجود الإنسان ولو مكتوفًا أمام الحيوان ليس فيه ما يلجئ الحيوان لافتراسه أو نهشه أو لسعه - من رأى هذا فقد بنى على رأيه عدم المسئولية كما فعل أبو حنيفة. ومن رأى أن الصغير لا يستطيع أن ينجى نفسه كما يفعل الكبير، أو أن الحيوان لا ينفر منه كما ينفر من الكبير فقد رأى المسئولية فى حالة الصغير دون الكبير. ومن رأى أن الهلاك مصدره عجز المجنى عليه عن الابتعاد عن المحل المهلك، فقد جعل المسئولية فى حالة العجز كما فعل بعض الشافعية. ومن لم ير هذا ولا ذاك فقد حمل الجانى المسئولية إذا كان الفعل يقتل غالبًا على اعتبار أنه قتل عمد، فإن لم يكن يقتل غالبًا فهو شبه عمد كما يفعل أحمد. أما مالك فقد اعتبر الفعل مهلكًا ولم ينظر إلى غير هذا من الاعتبارات فإذا انتهى بإهلاك فالفعل قتل عمد. 80 - التغريق والتحريق: يتميز مذهب الشافعى وأحمد فى هذه المسألة، ومن رأيهما أن الجانى إذا ألقى المجنى عليه فى ماء أو نار لا يمكنه التخلص منها؛ إما لكثرة الماء والنار، أو لأنه مكتوف يعجز عن الخروج منها أو لأن الجانى منعه من الخروج، أو لكونه فى حفرة لا يقدر على الصعود منها، أو فى بئر عميقة، فإذا أدى الفعل إلى موت المجنى عليه فهو عمد، لأنه يقتل غالبًا. ولإن ألقاه فى ماء يسير يقدر على الخروج منه فلبث فيه مختارًا حتى مات فلا مسئولية على الفاعل؛ لأن الفعل لم يقتله وإنما قتله لبثه فى الماء وهو فعل نفسه فلا يسأل عنه غيره. وإن ألقاه فى نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو ألقاه فى طرف منها بحيث يمكنه الخروج منها بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا خلاف فى أن الفعل لا يعتبر قتلاً عمدًا؛ لأنه لا يقتل غالبًا ولكنهم اختلفوا فى تحديد المسئولية على الجانى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 فرأى البعض أنه لا يسأل عن القتل قياسًا على حالة الإلقاء فى مار يسير، وإنما يسأل فقط عن ما أصابت النار منه باعتباره جارحًا، ويرى البعض أن الجانى مسئول عن القتل شبه العمد لأن فعله أدى إلى الموت، ولأن للنار حرارة شديدة فربما أعجزته عن معرفة طريق الخلاص أو شنجت أعصابه فيعجز عن الخروج منها. وإن ألقاه فى لجة فالتقمة حوت ففى هذه المسألة رأيان: أولهما: يقول إنه قاتل لأنه ألقاه فى مهلكة فهلك فأشبه ما لو غرق فى الماء. والثانى: أن الهلاك كان نتيجة التقام الحوت له فأشبه ما لو قتله آدمى آخر حين ألقى فى الماء، فلا يسأل إلا عن إلقائه فى الماء فقط وهو فعل عقوبته التعزير. وإن ألقاه فى ماء يسير لا يهلك غالبًا فأكله سبع أو التقمه حوت أو تمساح فهو شبه عمد عند أصحاب الرأى الأول، وعليه التعزير عند أصحاب الرأى الثانى. وإن هلك غرقًا فهو شبه عمد باتفاق (1) . وإن كان المجنى عليه يحسن السباحة فألقى فى ماء مغرق وهو مكتوف أو زَمِنٌ أو ضعيف فالفعل قتل عمد إن مات، وإن منع من السباحة عارض بعد الإلقاء كريح أو موج فمات فشبه عمد، وإن كان العارض قبل الإلقاء فالفعل عمد لأن الإلقاء مهلك غالبًا. وإن كان يحسن السباحة فامتنع عنها مع إمكانها فهلك فيرى البعض أن لا مسئولية على الملقى لأنه هلك بامتناعه عن السباحة. ويرى البعض أن الفعل قتل شبه عمد لأن الإنسان لا يسلم نفسه للموت عادة، وقد يمنعه عن السباحة دهشة أو عارض باطن، ولما كان الفعل لا يهلك غالبًا ما دام يحسن السباحة فهو قتل شبه عمد (2) . ويفرق أبو حنيفة وأصحابة بين التحريق والتغريق؛ لأنهم يلحقون التحريق   (1) المغنى ج9 ص326 , نهاية المحتاج ج7 ص245. (2) نهاية المحتاج ج7 ص243 , 244. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 بالسلاح إذ يعمل عمله فيفرق أجزاء الجسم ومن ثم فالنار عندهم معدة للقتل، فإن كانت تقتل غالبًا فالفعل عمد، وإن كانت لا تهلك غالبًا فالفعل شبه عمد ويلحقون بالنار الماء المغلى والأشياء المصهورة والوضع فى فرن محمى، وعلى هذا الأساس يتفق رأى أبى حنيفة وأصحابه فى التحريق مع رأى الشافعى وأحمد. أما التغريق فهو شبه عمد دائمًا عند أبى حنيفة لأنه يلحقه بالمثقل وهو وإن قتل غالبًا ليس معدًا للقتل، ولكن أبا يوسف ومحمدًا يريان أنه معد للقتل إذا استعمل وسيلة له، وعلى هذا فإذا كان الماء قليلاً لا يقتل غالبًا وترجى منه النجاة فى الغالب وألقى فيه إنسان فمات فالفعل شبه عمد لا خلاف فيه فى مذهب أبى حنيفة، وإن كان الماء عظيمًا ولكن المجنى عليه يستطيع النجاة بالسباحة وكان يحسنها، وليس ثمة ما منعه منها بأن لم يكن مشدودًا ولا مثقلاً فمات منها فهو شبه عمد عندهم أيضًا، وإن كان بحيث لا يمكنه النجاة بالسباحة أو لا يحسن السباحة فهو شبه عمد عند أبى حنيفة - لما تقدم - وعمد عند أبى يوسف ومحمد وإن ألقاه فى بئر فالفعل شبه عمد عند أبى حنيفة وعمد عندهما إن كان موضعًا لا ترجى منه النجاة غالبًا، فإن كانت ترجى فهو شبه عمد (1) . أما مالك فالتحريق والتغريق عنده قتل دائمًا سواء كان الفعل مهلكًا غالبًا أم لا ما دام الفعل قد أدى للموت ولم يكن على وجه اللعب (2) . وأساس الخلاف بين الفقهاء هو اختلاف وجهة نظرهم فى شروط آلة القتل أو وسيلته وقد سبق أن شرحنا هذا الموضوع فى فقرة 32 وما بعدها. 81 - الخنق: المقصود من الخنق منع خروج النفس بأى وسيلة سواء شنق الجانى المجنى عليه بحبل أو خنقه بيديه أو بحبل أو غمه بوسادة أو بأى شىء وضعه على فيه وأنفه، فإن فعل به ذلك فى مدة يموت فى مثلها فهو قتل عمد وإن كانت مدة لا يموت فى مثلها فهو قتل شبه عمد.   (1) البحر الرائق ج8 ص294. (2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص215 , 216. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وإن خنقه وتركه متألمًا حتى مات فهو عمد. أما إن تنفس وصح بعد ذلك ثم مات فلا يسأل الجانى عن الموت لأنه لم يكن من الخنق. ويلحقون بالخنق عصر الخصيتين وحكمه حكم الخنق تمامًا فإن كان العصر شديدًا بحيث يقتل غالبًا فهو قتل عمد، وإن كان بحيث لا يقتل غالبًا فهو شبه عمد. هذا هو رأى الشافعى وأحمد فى الخنق (1) وظاهر أنهما يطبقان فى الخنق قاعدتهما التى وضعاها فى الوسيلة القاتلة أو أداة القتل، فإن كانت تقتل غالبًا اعتبر القتل عمدًا وإن لم تكن اعتبر شبه عمد. أما أبو حنيفة فيعتبر الخنق فى كل الأحوال قتلاً شبه عمد تطبيقًا لقاعدته الخاصة فى الوسيلة القاتلة وهى أن تقتل غالبًا وأن تكون معدة للقتل والخنق وإن قتل غالبًا ليس وسيلة معدة للقتل، ولكن أبا يوسف ومحمدًا يعتبران الخنق وسيلة معدة للقتل ومن ثم عندهما قتل عمد إذا قتل غالبًا وشبه عمد إذا لم يقتل غالبًا (2) . والخنق عند مالك عمد فى كل الأحوال ما دام قد وقع بقصد العدوان ولم يكن على وجه اللعب والمزاح (3) . 82 - الحبس ومنع الطعام والشراب: يعتبر الحبس مع منع الطعام والشراب قتلاً عمدًا عند الشافعى وأحمد إذا مات المحبوس فى مدة يموت فى مثلها غالبًا، وهذا يختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال، فإذا منع عنه الماء فى شدة الحر مات عطشًا فى الزمن القليل وإن كان الوقت باردًا أو معتدلاً لم يمت إلا فى الزمن الطويل، والكبير قد يتحمل عن الصغير والمتقشف قد يصبر أكثر من المرفه، فتراعى هذه الاعتبارات فإن مات فى مدة يموت فى مثلها   (1) الشرح الكبير مع المغنى ج9 ص326. (2) البحر الرائق ج8 ص294. (3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 غالبًا فالقتل عمد وإن مات فى مدة لا يموت فى مثلها غالبًا فهو شبه عمد (1) . ومثل المنع عن الطعام والشراب ما لو عزاه أو منعه عن الاستظلال حتى قتله البرد أو الحر. وإن كان به جوع أو عطش سابق على حبسه وعلم الحابس بذلك فالقتل عمد، إذ الغرض أن مجموع المدتين بلغ المدة القاتلة وإن لم يعلم ففى المسألة رأيان: أحدهما: أن القتل عمد؛ لأن الحبس أهلك المحبوس فهو كما لو ضرب المريض ضربًا يهلكه دون الصحيح وهو جاهل مرضه فإنه يسأل عن قتله. والرأى الثانى: يعتبر القتل شبه عمد لانتفاء قصد الإهلاك إذ الفاعل لم يأت بفعل مهلك؛ أى أن المدة التى حبس فيها المجنى عليه لا تملك عادة (2) . وأبو حنيفة لا يرى مسئولية الفاعل لأن الموت حصل بالجوع والعطش لا بالحبس والجانى لم يفعل إلا الحبس ولكن أبا يوسف ومحمدًا يعتبران الجانى قاتلاً شبه عمد (3) لأن الجانى منع بفعله الطعام والماء عن المجنى عليه ولا حياة له بغيرهما فهو الذى أهلكه بمنعه. ولكنهما لا يعتبران القتل عمدًا لأنهما لا يريان فى الحبس وسيلة معدة للموت، وإن كان فى ذاته وسيلة تقتل غالبًا. فهما فى رأيهما مقيدان بتوفر شرطى الوسيلة القاتلة، كما أن الشافعى وأحمد يصدران فى رأيهما عن هذه الوجهة. ويرى مالك الفعل فى كل حال قتلاً عمدًا ما دام أنه قد صدر على وجه العدوان (4) . 83 - القتل بسبب شرعى: ومثله شهادة الزور على رجل بقتل عمد   (1) المغنى ج9 ص328. (2) نهاية المحتاج ج7 ص240. (3) البحر الرائق ج8 ص395. (4) الشرح الكبير للدردير ج4 ص215. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 أو زنًا أو ردة، فحكم بقتله ثم يتضح كذب الشهود بعد تنفيذ الحكم، والأئمة جميعًا (1) يعتبرون الشاهد قاتلاً عمدًا، ولأن القتل بالتسبب وليس مباشرًا فإن ابا حنيفة لا يرى فيه القصاص، والقاعدة عنده أن القتل بالتسبب لا قصاص فيه إلا إذا كان السبب ملجئًا. والقاضى إذا حكم بالإعدام على شخص ظلمًا وهو عالم بذلك ومتعمد له اعتبر قاتلاً للمحكوم عليه عمدًا، وولى الدم إذا قتل المحكوم عليه بالقصاص ظلمًا وهو عالم أنه مظلوم يعتبر قاتلاً له عمدًا. 84 - القتل بوسيلة معنوية: يرى مالك أن القتل بطريق معنوى معاب عليه باعتباره قتلاً عمدًا. فمن ألقى على إنسان حية ولو كانت ميتة فمات فزعًا ورعبًا فهو قاتل له عمدًا، وإذا سلّ عليه سيفًا فمات فزعًا فهو قاتل له عمدًا (2) . ويرى أحمد أن الجانى إذا شهر سيفًا فى وجه إنسان أو دلاَّه من شاهق فمات من روعته أو صاح به صيحة شديدة فخر من سطح أو نحوه فمات، أو تغفل عاقلاً فصاح به فخر ميتًا - فإنه إن تعمد ذلك كله فهو قاتل قتلاً شبه عمد ولا يعتبر أحمد القتل عمدًا لأن وسيلة القتل لا تقتل غالبًا. وإذا بعث السلطان لامرأة ليحضرها إلى محل الحكم فأفزعها ذلك وأسقطت جنينًا ميتًا ضمنه، فإن ماتت المرأة من الإجهاض الذى ترتب على الفزع فالحادث قتل شبه عمد. وكذلك من استعدى السلطان على امرأة فأُحضرت إلى محل الحكم ففزعت وألقت جنينها أو ماتت من الفزع كان القاتل لها هو المستعدى ما لم تكن ظالمة له فلا يكون مسئولاً لأنها أحضرت بسبب ظلمها (3) .   (1) المغنى ج9 ص332 , نهاية المحتاج ج7 ص241 , بدائع الصنائع ج7 ص239. (2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217. (3) المغنى ج9 ص487 , 580. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 ويتفق مذهب الشافعى فى مجموعه مع مذهب أحمد، إلا أن الشافعية منقسمون فى هذه المسالة، فالبعض يفرق بين المميز وغير المميز، ويرون أن لا مسئولية على الفاعل إذا كان المجنى عليه مميزًا، لأن المميز لا يفزع عادة وإذا فزع فنادرًا ولا حكم للنادر. ويرى البعض الآخر أن لا فرق بين المميز وغير المميز وأن الفاعل مسئول عن فعله ما دام قد أدى للموت والفريقان يعتبران الفعل فى حالة المسئولية قتلاً شبه عمد، لأن الوسيلة لا تقتل غالبًا، ولكن القائلين بقصر العقوبة على حالة غير المميز بعضهم يعتبر الفعل قتلاً عمدًا وبعضهم يعتبره شبه عمد. وللشافعية رأى خاص فى حالة الإجهاض من الفزع. فهم يرون مسئولية السلطان عن الإجهاض وعن موت المرأة بسبب الإجهاض ولكن إذا ماتت المرأة من الفزع لا بسبب الإجهاض فلا مسئولية؛ وعلة ذلك على ما نظن أن الحاكم حين استدعاها كان يؤدى واجبًا عليه، أو يستعمل حقًا له قبلها وكذلك الشاكى كان يستعمل حقه (1) . ويرى أبو حنيفة أن من صاح على إنسان فجأة فمات من صيحته فهو قاتل له قتلاً شبه عمد (2) . 85 - التسمم: لا يخصص فقهاء الشريعة للتسمم فصلاً خاصًا مكتفين   (1) نهاية المحتاج ج7 ص330 - 332. (2) البحر الرائق ج8 ص294. يحمل الفقهاء مسئولية إجهاض المرأة إذا طلبها ففزعت وألقت حملها؛ اتباعاً لما فعل عمر رضى الله عنه , فقد طلب امرأة ففزعت وأخذها الطلق فألقت ولداً صاح صيحتين ومات فاستشار عمر اصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم: ليس عليك شئ إنما أنت وال ومؤدب. وصمت على. فقال عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا رايهم فقد أخطأ رايهم , وإن كانوا قالوا فى هواك فلم ينصحوا لك , إن ديته عليك لأنك أفزتها فألقته. فقال عمر: اقسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسكها على قومك. والفقهاء وإن اتفقوا على مسئولية السلطان فغنهم يختلفون فيمن يحمل الديه أهو السلطان نفسه وعاقلته أم بيت المال؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 بتطبيق القواعد العامة على هذا النوع من وسائل القتل كما يطبقونها على التغريق والتحريق، وهم يخالفون فى طريقتهم ما يسير عليه شراح القوانين فى مصر وفرنسا وغيرهما من تخصيص فصل للكلام على القتل بالسم. وعلة عدم التخصيص فى الشريعة هى أن عقوبة القتل العمد فى الشريعة واحدة مهما اختلفت وسائل القتل؛ وهى القصاص، فلم يكن ثمة ما يدعو للتخصيص. أما فى القانون المصرى والفرنسى مثلاً، فإن عقوبة القتل بالسم تختلف عن عقوبة القتل العادى، ومن ثم كان هناك ما يدعو للتخصيص. ويرى مالك أن القتل بالسم قتل عمد فى كل حال سواء كانت المادة سامة كثيرًا أو قليلاً، تقتل غالبًا أو كثيرًا أو نادرًا ما دام الجانى قد انتوى قتل المجنى عليه بهذه الوسيلة، وما دام المجنى عليه قد مات فعلاً. ويستوى عند مالك أن يقدم الجانى الطعام أو الشراب او اللباس المسموم بنفسه للمجنى عليه أو بواسطة آخر، أو يضعه فى طعامه أو شرابه أو لباسه دون أن يقدمه له (1) , فهو قاتل عمدًا له فى كل حال إلا إذا علم المجنى عليه بأن الطعام أو الشراب مسموم ثم تناوله مع علمه فهو القاتل لنفسه. ويرى أحمد أن الجانى إذا سقى المجنى عليه السم كرهًا أو خلطه بطعامه أو شرابه فأكله دون أن يعلم بأنه سم فالجانى مسئول عن القتل العمد إذا كان السم مما يقتل غالبًا. فإن كان السم مما لا يقتل مثله غالبًا فالقتل شبه عمد. وإن خلط السم بطعام نفسه فدخل إنسان منزله دون إذنه وأكله فلا مسئولية على الجاني؛ لأن الداخل هو الذى قتل نفسه بفعله وإذا دخل المجنى عليه المنزل بإذنه - أى بإذن الجانى - وأكل الطعام المسموم دون إذنه فالحكم ما سبق (2) . ويتفق الشافعى مع أحمد فى حالة الإكراه فإذا سقى الجانى المجنى عليه السم كرهًا عنه فهو قاتل عمدًا إذا كان السم يقتل غالبًا، فإن لم يكن يقتل   (1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217. (2) المغنى ج9 ص242. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 غالبًا فهو شبه عمد. وكذلك الحكم لو أكره إنسانًا على أن يشرب السم بشرط أن لا يعلم بأنه سم. ويختلف مذهب الشافعى عن مذهب أحمد فيما عدا ذلك، أى فى حالة تقديم الطعام المسموم للمجنى عليه أو وضع السم فى شرابه أو طعامه فيرون أن الطعام المسموم أو الشراب المسموم إذا قدم لضيف فإن كان الضيف صبيًا غير مميز أو مجنونًا أو أعجميًا يرى طاعة المضيف وكان السم مما يقتل غالبًا فالجانى قاتل عمدًا وإن لم يكن مما يقتل غالبًا فالقتل شبه عمد. أما إذا كان الضيف بالغًا عاقلاً فيرى البعض أن الجانى قاتل عمدًا إذا كان السم مما يقتل غالبًا، فإن لم يكن يقتل غالبًا فالقتل شبه عمد ويرى البعض الآخر أن القتل فى كل حال شبه عمد. ولعل حجتهم أن البالغ العاقل يستطيع أن يمتنع عن تناول المادة المسممة بعكس غير المميز فإنه يغرر به بسهولة ويصعب عليه الامتناع عن تناولها، والقدرة على الامتناع تجعل التسميم غير قاتل غالبًا فيكون القتل شبه عمد، ويرى البعض الثالث أن لا مسئولية على الجان لأنه تناول المادة المسممة بنفسه فقطع فعله فعل الجانى أى أن المباشرة اجتمعت مع السبب فتغلبت عليه. ويرد على ذلك بأن المباشرة لا تغلب السبب إلا إذا اضمحل معها، ولا يضمحل السبب إلا إذا علم المجنى عليه أن الطعام مسموم ثم تناوله ففى هذه الحالة تغلب المباشرة السبب ويقطع فعل المجنى عليه فعل الجانى. وإذا دس الجانى السم فى طعام المجنى عليه أو شرابه فأكله جاهلاً ومات فيرى الشافعيون فيه الآراء الثلاثة السابقة، ولا يفرقون بين المميز وغير المميز كما فى حالة تقديم الطعام أو الشراب المسموم إلى الضيف (1) . وأساس الخلاف بين الشافعى وأحمد هو اختلاف الرواة فى حديث اليهودية: قدمت شاة مسمومة للنبى - صلى الله عليه وسلم - فأكل منها هو وبشر بن البراء، وقد روى أنس بن مالك الحديث ولم يذكر أن النبى قتلها لما مات بِشْر، ورواه أبو سلمة   (1) نهاية المحتاج ج3 ص243. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 فذكر أن النبى أمر بها فقتلت لما مات بِشْر، وقد بنى الشافعى مذهبه على رواية أنس، وبنى أحمد مذهبه على رواية أبى سلمه، ومن هذا الطريق جاء اختلاف المذهبين فى تقديم الطعام المسموم أو دس السم فى طعام المجنى عليه. أما اختلاف الشافعية فيما بينهم فأساسه أخذ بعضهم برواية أبى سلمة وأخذ البعض برواية أنس بن مالك وجمع البعض الآخر بين الروايتين ومحاولة التوفيق بينهما. ولا يعتبر أبو حنيفة وأصحابه تقديم الطعام والشراب المسموم للمجنى عليه أو دسه فى طعامه وشرابه قتلاً عمدًا ولو أكله المجنى عليه او شربه جاهلاً بأنه مسموم، وعندهم أن المجنى عليه هو الذى قتل نفه بتناول المادة المسممة ولكن الجانى يعزر لأنه غرر بالمجنى عليه. أما إذا أَوْجَرَ الجانى المجنى عليه السم إيجارًا أو ناوله له وأكرهه على شربه حتى شرب فالفعل قتل شبه عمد عند أبى حنيفة سواء كان السم يقتل غالبًا أو لا يقتل غالبًا، فإن كان يقتل غالبًا فالفعل قتل عمد؛ لأن السم إذا كان يقتل غالبًا فهو باستعماله معدٌّ للقتل، وإن كان لا يقتل غالبًا فالفعل شبه عمد. * * * الركن الثالث: أن يقصد الجانى إحداث الوفاة 86 - يشترط لاعتبار القتل عمدًا عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد أن يقصد الجانى قتل المجنى عليه: فإن لم يتوفر هذا القصد فلا يعتبر الفعل قتلاً عمدًا ولو قصد الجانى الاعتداء على المجنى عليه؛ لأن نية العدوان المجردة عن قصد القتل لا تكفى لجعل الفعل قتلاً عمدًا. 87 - ولقصد القتل أهمية خاصة عند الأئمة الثلاثة: لأنه هو الذى يميز القتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 العمد عن القتل شبه العمد وعن القتل الخطأ، إذ الفعل الواحد يصلح أن يكون قتلاً عمدًا أو شبه عمد أو خطأ، والذى يميز هذه الأنواع الثلاثة من القتل أحدها عن الآخر هو قصد الجانى، فإن تعمد الجانى الفعل بقصد قتل المجنى عليه فهو قتل عمد، وإن تعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل فهو شبه عمد، وإن تعمد الفعل دون قصد عدوانى أو دون أن يقصد نتيجته فهو خطأ. 88 - ولا يشترط مالك لاعتبار الفعل قتلاً عمدًا أن يقصد الجانى قتل المجنى عليه: ويستوى عنده أن يقصد الجانى قتل المجنى عليه أو أن يتعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل ما دام أنه لم يتعمد الفعل على وجه اللعب أو التأديب، فالجانى فى كلا الحالتين قاتل عمدًا (1) . وهذا الرأى يتفق مع منطق مالك لأنه لا يعترف بالقتل شبه العمد، ولا يرى القتل إلا نوعين فقط عمدًا وخطأ فاقتضى منه ذلك أن يعتبر الجانى قاتلاً عمدًا بمجرد توفر قصد العدوان ولو أنه اشترط توفر نية القتل عند الجانى لترتب على هذا الشرط أن يدخل فى باب الخطأ كل ما يدخل فى باب شبه العمد عند الفقهاء الآخرين. 89 - وبعض كتب الفقه فى مذاهب الأئمة الثلاثة تشترط صراحة قصد القتل فى الجانى وبعضها لا يذكر شيئًا إطلاقًا عن قصد القتل: وقد يوهم هذا أن هناك خلافًا على اشتراط قصد القتل، والواقع أنه لا خلاف إطلاقًا فى اشتراط قصد القتل وإنما الخلاف جاء فى طريقه التعبير؛ فالأصل أن نية القتل شرط أساسى فى القتل العمد، ولما كانت هذه النية أمرًا باطنيًا متصلاً بالجانى كامنًا فى نفسه ومن الصعب الوقوف عليها فقد رأى الفقهاء أن يستدلوا على نية الجانى بمقياس ثابت يتصل بالجانى ويدل غالبًا على نيته ونفسيته؛ ذلك المقياس هو الآلة أو الوسيلة التى يستعملها فى القتل إذ الجانى فى الغالب يختار الآلة المناسبة لتنفيذ قصده من الفعل،   (1) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص240 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص215. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 فإن قصد القتل اختار الآلة الملائمة للفعل والتى تستعمل غالبًا كالسيف والبندقية والعصا الغليظة، وإن قصد الضرب دون القتل اختار الآلة الملائمة لقصده كالضرب بالقلم أو العصا الخفيفة أو السوط. فاستعمال الآلة القاتلة غالبًا هو المظهر الخارجى لنية الجانى، وهو الدليل المادى الذى لا يكذب فى الغالب، لأنه من صنع الجانى لا من صنع غيره، ومن ثم اشترط الفقهاء أن تكون الآلة أو الوسيلة قاتلة غالبًا لأن توفر هذه الصفة فيها دليل على أن الجانى قصد قتل المجنى عليه واستغنوا بهذا الشرط الدال على قصد القتل عن مدلول الشرط أى أنهم أقاموا الدليل مقام المدلول فلم يعد بعد هذا ما يدعو لاشتراط قصد القتل؛ لأن اشتراط أن تكون الآلة قاتلة غالبًا يغنى عن اشتراط القصد، ولهذا لا نجد فى كتب الفقه كتابًا يعرِّف القتل العمد أو شبه العمد فيذكر قصد القتل فى التعريف إلا نادرًا، وإنما يذكر القصد فى مناسبات أخرى، وأخصها بيان الفرق بين العمد وشبه العمد، وتعليل تسمية شبه العمد بهذا الاسم أنهم يصرحون بأن شبه العمد لا يشترط فيه قصد القتل، وأن هذا هو ما يميزه عن العمد، لأنهم يرون أن العمد هو ما قصد فيه الفعل والقتل، وأن شبه العمد ما قصد فيه الفعل دون القتل، ولذلك سمى الخطأ العمد أو عمد الخطأ؛ لأنه عمد فى الفعل خطأ فى القصد. ونستطيع أن نعرض عينة من أقوال الفقهاء فى هذا الموضوع: فمثلاً يعرَّف الزيلعى - وهى حنفى المذهب - القتل العمد فلا يذكر شيئًا عن قصد القتل، ولكنه يجتهد فى بيان أنه تعمد الفعل بما يقتل غالبًا من وسائل معدَّة للقتل فإذا عرف شبه العمد قال: إنه تعمد الضرب بما لا يقتل غالبًا، وأنه سمى بشبه العمد لأن فيه قصد الفعل لا القتل (1) . ويعرف صاحب بدائع الصنائع - وهو حنفى المذهب - القتل العمد فلا يذكر شيئًا - كما فعل الزيلعى - عن قصد القتل ولكنه حين يتكلم عن شرائط القصاص يقول: إن القاتل عمدًا يجب أن يكون متعمدًا القتل قاصدًا إياه (2) . ويعرف صاحب المهذب - وهو   (1) الزيلعى ج6 ص98 , 100. (2) بدائع الصنائع ج7 ص233 , 234. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 شافعى - القتل العمد بأنه قصد الإصابة بما يقتل غالبًا فيقتله، ثم يعرف شبه العمد بأنه قصد الإصابة بما لا يقتل غالبًا فيموت منه ويقول: إنه لا تجب فى شبه العمد بأنه قصد الإصابة بما لا يقتل غالبًا فيموت منه ويقول: إنه لا تجب فى شبه العمد عقوبة العمد لأن الجانى لم يقصد القتل (1) . ويعرف الماوردى - وهو شافعى - القتل العمد بأنه تعمد قتل النفس بما يقتل غالبًا. ويعرف شبه العمد بأن فاعله يكون عامدًا فى الفعل غير قاصد القتل (2) . ويعرف معظم فقهاء المذهب الشافعى العمد بأنه قصد الفعل وعين الشخص بما يقتل غالبًا، كما يعرفون شبه العمد بأنه قصد الفعل والشخص بما لا يقتل غالبًا (3) , ولكنهم حين يفرقون بين أفعال العمد وشبه العمد يميزون العمد بقصد الجانى إهلاك المجنى عليه مع أنهم لا يذكرون قصد القتل صراحة فى تعرف العمد أو شبه العمد. ويعرف صاحب المغنى - وهو حنبلى المذهب - القتل العمد فيقول ما خلاصته أنه الضرب بما يقتل غالبًا ولكنه حين يتكلم عن شبه العمد يقول عنه: إنه الضرب بما لا يقتل غالبًا ثم يشرح هذا فيقول: إن الضرب فى شبه العمد يكون إما لقصد العدوان عليه أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا واللكز وسائر ما لا يقتل غالبًا وهو شبه عمد لأنه قصد الفعل وأخطأ فى القتل (4) . ويعرف صاحب الشرح الكبير - وهو حنبلى المذهب - العمد وشبه العمد بمثل ما عرفهما به زميله السابق. وصاحب الإقناع - وهو حنبلى أيضًا - يشترط فى العمد القصد ويعرف العمد بقوله: "أن يقتل قصدًا بما يغلب على الظن موته به" ثم يعرف شبه العمد فيقول: أن يقصد الجناية إما لقصد العدوان عليه أو التأديب له فيسرف فيه بما لا يقتل غالبًا قصد قتله أو لم يقصده (5) . وظاهر مما سبق أن اشتراط قصد القتل هو المميز بين   (1) المهذب ج2 ص184 , 185. (2) الأحكام السلطانية ص219 , 220. (3) تحفة المحتاج ج4 ص2-4 , نهاية المحتاج ج7 ص235 , 240 , حاشية البجيرمى على المنهج ج4 ص129 , 131. (4) المغنى ج9 ص321 , 337. (5) الإقناع ج4 ص163 , 168. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 العمد وشبه العمد. وإذا كان صاحب الإقناع قد صرح باشتراط القصد فإنه مع ذلك لم يذكره فى تعريف العمد واكتفى باشتراط أن تكون الآلة قاتلة غالبًا كما أنه يلاحظ عليه أنه لم يفسر القصد أصلاً فى الحالة التى تكون فيه الآلة غير قاتلة غالبًا وهو منطق دقيق فقد رأى أنه إذا كانت الآلة القاتلة غالبًا دليلاً على توفر قصد القتل، فإنه يجب أن تكون الآلة التى لا تقتل غالبًا دليلاً على انتفاء قصد القتل ما دامت الآلة هى الدليل المادى على قصد الجانى. وعلى كل حال فإن هذا الذى يراه هو نفس ما يراه بقية الفقهاء ممن ذكرنا وممن لم نذكر ولو أنهم لم يصرحوا بهذا فى تعريف شبه العمد كما صرح صاحب الإقناع، ولكن المتتبع لأمثلتهم وتطبيقاتهم يجد أنهم يعتبرون الفعل شبه عمد إذا كانت الوسيلة غير قاتلة غالبًا، بغض النظر عما إذا كان الجانى قصد القتل أم لم يقصده ولعلهم لم يصرحوا بها فى التعريف كما لم يصرحوا باشتراط القصد فى العمد، ويكون إذن معنى قولهم إن القاتل فى شبه العمد لم يقصد الفعل أنه لم يقصده فرضًا أو حكمًا لا فعلا. ومن الأمثلة على ذلك أن الضربة أو الضربتين بالعصا وضرب الموالاة لا يعتبر قتلاً عمدًا، ولو قصد الجانى قتل المجنى عليه (1) فى رأى أبى حنيفة وأصحابه وأن القتل بطريق معنوى يعتبر قتلاً شبه عمد فى مذهب الشافعى وأحمد لأن الوسيلة لا تقتل غالبًا وأن الضرب بما لا يقتل غالبًا يعتبر قتلاً شبه عمد ولو قصد الجانى قتل المجنى عليه ما دام الضرب لم يكن متواليًا ولا على ضعيف أو صغير أو فى حر شديد أو فى برد شديد (2) . ومع أن الفقهاء قد جعلوا استعمال الآلة أو الوسيلة القاتلة غالبًا دليلاً على توفر القصد للقتل عند القاتل، وجعلوا استعمال الآلة أو الوسيلة التى لا تقتل غالبًا دليلاً على انتفاء قصد القتل عند القاتل إلا أنه يجب أن لا يفهم من هذا المساواة التامة فى الحالين، فهناك فرق دقيق لا يصح أن يغرب عن البال، وهو أن افتراض توفر قصد القتل عند من يستعمل آلة تقتل غالبًا هو فرض يقبل النفى فللجانى أن يثبت العكس أى أنه لم يقصد القتل؛ أما افتراض انعدام نية القتل عند من يستعمل آلة لا تقتل غالبًا فهو فرض لا يقبل النفى، فلا يجوز إثبات عكسه ولو اعترف الجانى نفسه بأنه قصد القتل، بل يكذب اعترافه كون الآلة غير قاتلة والملاحظ فى حالة قبول النفى وعدم قبوله هو مصلحة المتهم لا مصلحة غيره، وإن كانت مصلحة الجماعة روعيت فى حالة استعمال آلة تقتل غالبًا بافتراض أن نية القتل متوفرة فلا يجد الاتهام ضرورة لإثبات نية القتل ما دام المتهم لم يثبت أنه لم يقصد القتل، وأنه لم يستعمل الآلة القاتلة لها الغرض. 90 - وليس للبواعث التى دفعت الجانى لارتكاب جريمته أثر ما على مسئوليته ولا عقوبته فى الشريعة: فإذا ارتكب الفعل بقصد الإضرار بالمجنى عليه أو لباعث غير شريف فإن ذلك لا يزيد فى مسئوليته أو عقوبته شيئًا كما أن ارتكاب الفعل لباعث شريف لا يخفف مسئولية الجانى أو عقوبته شيئًا. 91 - رضاء المجنى عليه بالقتل: من القواعد الأصلية المسلم بها فى الشريعة أن رضاء المجنى عليه بالجريمة لا يجعلها مباحة إلا إذا كان الرضاء ركنًا من أركان الجريمة كالسرقة مثلاً فإن رضاء المجنى عليه بأخذ ماله يجعل الأخذ فعلاً مباحًا والرضاء ليس ركنًا فى جريمة القتل والضرب فتطبيق هذه القاعدة الأصلية الملم بها يقتضى أن لا يكون لرضاء المجنى عليه فى جريمة الضرب والقتل أثر ما على المسئولية الجنائية أو العقوبة، ولكن هناك قاعدة أخرى أصلية مسلم بها وهى أن للمجنى عليه وأوليائه حق العفو عن العقوبة فى جرائم القتل والضرب، فلهم أن يعفوا عن القصاص إلى الدية ولهم أن يعفوا عن الدية والقصاص معًا؛ فلا يبقى إلا تعزير الجانى إن رأت السلطة التشريعية ذلك.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص334 ظو البحر الرائق ج8 ص288 , 294 , 295. (2) نهاية المحتاج ح7 ص237 , 240 , 330 , 333 , المغنى ج9 320 - 338 ومن ص577 - 581. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وقد أدى وجود القاعدة الثانية إلى الاختلاف بين الفقهاء فى تطبيق القاعدة الأولى على جرائم القتل والضرب، كذلك تختلف آراء الفقهاء فى القتل عنها فى القتل والجرح. الرضاء بالقتل: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن الإذن بالقتل لا يبيح القتل؛ لأن عصمة النفس لا تباح إلا بما نص عليه الشرع والإذن بالقتل ليس منها، فكان الإذن عدمًا لا أثر له على الفعل فيبقى الفعل محرمًا معاقبًا عليه باعتباره قتلاً عمدًا. لكنهم اختلفوا فى العقوبة التى توقع على الجانى، فرأى أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد أن تكون العقوبة الدية ودرءوا عقوبة القصاص عن الجانى على أساس أن الإذن بالقتل شبهة وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ادرءوا الحدود بالشبهات" والقصاص معتبر حدًا فكل شبهة تقوم فى فعل مكون لجريمة عقوبتها القصاص يدرأ بها الحد عن الجانى، ورأى زفر أن الإذن لا يصلح أن يكون شبهة ومن ثم فهو لا يدرأ القصاص، فوجب أن يكون القصاص هو العقوبة (1) . والرأى الراجح فى مذهب مالك: أن الإذن بالقتل لا يبيح الفعل ولا يسقط العقوبة ولو أبرأ المجنى عليه الجانى من دمه مقدمًا لأنه ابرأه من حق لم يستحقه بعد، وعلى هذا يعتبر الجانى قتلاً عمدًا ولكن بعض أصحاب هذا الرأى يرون أن تكون العقوبة القصاص ويعاقب بالعقوبة المقررة له، ويرى البعض الآخر أن الإذن شبهة تدرأ القصاص ومن ثم يوجبون الدية، أما الرأى المرجوح فنسبه ابن عرفة لسحنون ومقتضاه: "أن الإذن بالقتل لا يبيح الفعل ولكنه يسقط العقوبة فلا قصاص ولا دية وإنما التعزير"، ولكن الرأى المعروف عن سحنون فى "كتاب العُتْبِِيَّة" أنه يرى عقاب القاتل وإن كان يدرأ القصاص عنه للشبهة (2) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص236. (2) مواهب الجليل للحطاب ج6 ص235 - 236 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص213. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وفى مذهب الشافعى رأيان: أولهما: أن الإذن فى القتل يسقط العقوبة ولا يبيح الفعل، ومن ثم فلا قصاص ولا دية. ثانيهما: أن الإذن فى القتل لا يبيح الفعل ولا يسقط العقوبة ولكنه شبهة تدرأ القصاص وتوجب الدية (1) . وبعض أصحاب هذا الرأى يرى القصاص لأن الإذن ليس شبهة. أما أحمد فيرى أن لا عقاب على الجانى لأن من حق المجنى عليه العفو عن العقوبة، والإذن بالقتل يساوى العفو عن العقوبة فى القتل (2) , وهذا يتفق مع الرأى الأول فى مذهب الشافعى. 92- الرضاء بالجرح: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن الإذن بالقطع والجرح يترتب عليه منع العقوبة لأن الأطراف عندهم يسلك بها مسلك الأموال وعصمة المال تثبت حقًا لصاحبه فكانت العقوبة على القطع والجرح محتملة السقوط بالإباحة والإذن، ولكنهم اختلفوا فيما إذا أدى الجرح أو القطع إلى الموت فأبو حنيفة يرى الفعل قتلاً عمدًا لأن الإذن كان عن الجرح أو القطع، فلما مات تبين أن الفعل وقع قتلاً لا جرحًا ولا قطعًا ومن ثم فعليه عقوبة القتل العمد، ولما كان الإذن يعتبر شبهة تدرأ القصاص فتعين أن تكون العقوبة الدية. أما أبو يوسف ومحمد فمن رأيهما أنه إذا أدى الجرح أو القطع لموت فلا شىء على الجانى إلا التعزير لأن العفو عن الجرح أو القطع عفو عما تولد منه وهو القتل (3) . وفى مذهب مالك أن الإذن بالجرح والقطع لا عبرة به إلا إذا استمر مُبرئًا له بعد الجرح والقطع، فإن لم يبرئه بعد الجرح والقطع فيه العقوبة المقررة وهى القصاص أو الدية، أما إذا استمر مبرئًا له تسقط العقوبة المقررة وهى القصاص والدية ويحل محلهما التعزير ما لم يؤد الجرح أو القطع إلى الموت فيعاقب الجانى   (1) نهاية المحتاج ج7 ص248. (2) الإقناع ج4 ص171. (3) بدائع الصنائع ج7 ص236 , 237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 بعقوبة القتل العمد (1) والإذن بالجرح أو القطع فى مذهب الشافعى يسقط العقاب عن الجانى ما لم تر الجماعة عقابه تعزيرا، فإذا أدى الجرح أو القطع إلى الموت؛ فمن فقهاء المذهب من يرى مسئولية الجانى عن القتل العمد ويدرأ القصاص لشبهة الإذن فتكون الدية هى العقوبة ومن فقهاء المذهب من يرى أن لا عقاب لأن الموت تولد من مأذون فيه (2) . والإذن بالجرح والقطع عند أحمد كالإذن بالقتل لا عقوبة عليه وإن كان الإذن لا يبيح الفعل؛ لأن له الحق فى إسقاط العقوبة، وقد أسقطها بإذنه. 93 - أسباب الخلاف بين الفقهاء فى الإذن بالقتل: أساس الاختلاف فى هذه المسألة أن للمجنى عليه وأوليائه العفو عن العقوبة فى القتل وهى القصاص أو الدية إذا حلت محل القصاص، فإذا عفوا سقطت العقوبة المقررة للقتل، ولم يبق إلا عقوبة التعزير إذا رأى أولياء الأمور تقريرها فى حالة العفو فمن قال بأن الإذن يمنع من العقاب اعتبر الإذن عفوًا مقدمًا ورتب عليه سقوط العقوبة، ومن قال بأن الإذن لا يمنع من العقاب رأى أن الإذن لا يعتبر عفوًا لأن العفو عن القتل يستدعى وجود القتل، فإذا جاء العفو قبل القتل فهو عفو غير صحيح لأنه لم يصادف محله، ومن جعل العقوبة الدية اعتبر الإذن شبهة تدرأ القصاص، ومن قال بالقصاص لم يجعل الإذن شبهة درائة للقصاص (3) . 94 - مقارنة بين الشريعة والقانون: يتفق مذهب مالك وأبى حنيفة ورأى الشافعى الذى يقول بالعقاب فى حالة الرضاء بالقتل أو الجرح الذى ينتهى بالموت مع القوانين الوضعية الحديثة، لأنها تعتبر القتل والجرح بالرغم من الرضاء أو الإذن جريمة وتعاقب عليها، وإذا كان بعض الفقهاء يرى أن تكون العقوبة القصاص، والبعض يرى أن تكون الدية فهذا ليس بذى أهمية، لأن استبدال الدية بالقصاص ليس إلا استبدال عقوبة مقررة شرعًا بعقوبة مقررة شرعًا. وهو يقابل فى القوانين الحديثة ما تقرره من الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة او المؤقتة عقوبة للقتل العمد مع ترك الحرية للقضاة فى اختيار إحدى العقوبتين وتقدير ظروف الجريمة والمجرم. ولا شك أن إذن المجنى عليه فى الجريمة وإن لم يكن له أثر على تكوين الجريمة إلا أنه مما يدعو القضاة إلى استعمال الرأفة وإذا لم يحملهم على تخفيف العقوبة إلى حدها الأدنى فإنه يمنعهم من رفعها إلى حدها الأعلى، فتكون النتيجة العملية فى القانون أن يعاقب الجانى المأذون له فى الفعل بعقوبة بسيطة الفرق بينها وبين الحد الأعلى المقرر أصلاً كالفرق بين القصاص والدية فى الشريعة. 95 - القصد المحدود وغير المحدود: لا يفرق الفقهاء فى مذهبى أبى حنيفة وأحمد بين القصد المحدود والقصد غير المحدود سواء فى تعريف أنواع القتل أو فى الأمثلة التى يضربونها لمختلف وسائل القتل، ومن ثم يمكن القول بأنه يستوى فى مذهبى أبى حنيفة وأحمد أن يكون القصد عند الجانى متجهًا إلى قتل إنسان بعينه أو إلى قتل إنسان غير معين فهو مسئول عن القتل العمد فى الحالين ما دام قد أتى الفعل بقصد القتل، فمن أطلق عيارًا ناريًا على شخص معين، ومن ألقى قنبلة على جماعة بقصد القتل دون أن يقصد شخصًا معينًا من الجماعة كلاهما قاتل عمدًا عند أبى حنيفة وأحمد. أما فى مذهب الشافعى (4) فيفرقون بين ما إذا قصد معينًا أو غير معين فإن قصد معينًا فالفعل قتل عمد، وإن قصد غير معين فالفعل قتل شبه عمد،   (1) الشرح الكبير للدردر ج4 ص213. (2) نهاية المحتاج ج7 ص248 , 296 , تحفة المحتاج ج4 ص30 , 31. (3) أما فى حالة الجرح أو الجرح المنتهى بالموت فاساس الخلاف انهم يعتبرون الإذن بالجرح عفواً مقدماً عن الجرح ويعتبرون هذا العفو صحيحاً ويرتبون عليه إسقاط العقوبة إلا مالك فغنه يرى الغذن السابق على الجرح باطلاً لأنه لم يصادف محله , ومن يرى عدم العقاب فى حالة الموت يرى الموت متولداً من الجرح وهو مأذون فيه وما تولد من معفو عنه أخذ حكمه أما من يرى العقاب فيرى أن الغذن كان عن جرح لا قتل فإذا ظهر أن الفعل قتل فهو غير مأذون فيه لكنه مع ذلك اعتبر الغذن الباطل شبهة تدرأ القصاص. (4) نهاية المحتاج ج7 ص235 وما بعدها , تحفة المحتاج ج4 ص322. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 ويعتبر المجنى عليه معينًا ولو قصد الجانى أن يصيب أى شخص من جماعته؛ لأن الجماعة تصبح كلها مقصودة فتصير معينة أفرادًا وجماعة. ويفرقون فى مذهب مالك أيضًا بين قصد شخص معين وبين قصد شخص غير معين، فإن قصد الجانى معينًا فالفعل قتل عمد، وإن قصد غير معين أيا كان فلا يعتبر القتل عمدًا وإنما يعتبر خطأ (1) . ويتفق مذهب أبى حنيفة وأحمد مع القانون المصرى اتفاقًا تامًا فالمادة 231 عقوبات تنص على أن الإصرار السابق هو القصد المصمم عليه قبل الفعل لارتكاب جنحة أو جناية غرض المصر منها إيذاء شخص معين أو أى شخص غير معين وجده أو صادفه سواء كان ذلك القصد معلقًا على حدوث أمر أو موقوفًا على شرط وتطبيقًا لهذا النص حكمت محكمة النقض بأنه إذا صوب شخص بندقية إلى جمع محتشد، وأطلق منها عيارًا ناريًا أو عدة أعيرة نارية أصاب بعضها شخصًا أو أكثر من هذا الجمع وقتله، عُدَّ القاتل مرتكبًا لجريمة القتل عمدًا لتوفر قصد القتل عنده (2) . أما مذهب الشافعى ومالك فظاهر أنهما يخالفان القانون. 96 - الخطأ فى الشخص والخطأ فى الشخصية: يراد بالخطأ فى الشخص أن يقصد الجانى قتل شخص معين فيصيب غيره، ويراد بالخطأ فى الشخصية أن يقصد الجانى قتل شخص على أنه زيد فيتبين أنه عمرو، والخطأ فى الشخص هو خطأ فى الفعل، فمن رمى صيدًا أو غرضًا أو آدميًا معينًا فأخطأه وأصاب شخصًا آخر فقد أخطأ فى فعله، أما الخطأ فى الشخصية فهو خطأ فى قصد الفاعل، فمن رمى شخصًا على أنه مرتد أو حربى فإذا هو معصوم أو رماه على أنه زيد فتبين أنه عمرو فقد أخطأ فى قصده. وللفقهاء نظريتان مختلفتان فى الخطأ فى الشخص والشخصية: الأولى لمالك   (1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص216 , مواهب الجليل ج6 ص240. (2) نقض فى 12 ديسمبر 1928 , محاماة 9 عدد 106. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وأصحابه، وتتلخص فى أنه إذا قصد الجانى شخصًا فأصاب غيره، أو قصد شخصًا على أنه زيد فتبين أنه بكر فإن الجانى يكون قاتلاً عمدًا فى الحالين، سواء قصد القتل أو قصد مجرد العدوان على وجه الغضب لا على وجه اللعب أو التأديب، وبعض فقهاء المذهب يرى أن الحالة الأولى ليست قتلاً عمدًا بل هى قتل خطأ (1) . ويرى بعض فقهاء المذهب الحنبلى أن الفعل المقصود أصلاً إذا كان محرمًا فإن الخطأ فى الفعل أو الظن لا يؤثر على مسئولية الجانى شيئًا لأنه قصد فعلاً محرمًا قتل به إنسانًا فهو إذن قاتل له عمدًا (2) أما إذا كان الفعل المقصود أصلاً غير محرم فإن الخطأ فى الفعل أو الظن يكون له أثره على مسئولية الجانى؛ لأنه قصد فعلاً مباحًا فإذا أخطأ فى فعله أو ظنه فهو قاتل خطأ لا عمدًا. والنظرية الثانية: يأخذ بها فقهاء مذهب أبى حنيفة ومذهب الشافعى والفريق الأخير من فقهاء مذهب أحمد، وهؤلاء جميعًا يرون أن من قصد قتل شخص فأخطأ فى فعله وأصاب غيره أو أخطأ فى ظنه وتبين أنه أصاب غير من قصده فإن الجانى يكون مسئولاً عن القتل الخطأ فقط سواء كان الفعل الذى قصده أصلاً مباحًا أو محرمًا (3) . 97 - مقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية: والرأى السائد فى القوانين الوضعية يتفق مع رأى أصحاب النظرية الأولى، إذ تأخذ القوانين الوضعية الجانى بقصده فما دام قد قصد القتل والضرب ونفذ قصده فيستوى بعد ذلك أن يكون أصاب من قصده أو أصاب غيره وقضاء المحاكم المصرية مستقر على أن من تعمد قتل إنسان فأصاب آخر فهو قاتل عمدًا لهذا الآخر (4) . 98 - القصد الاحتمالى: ولا شك أن الشريعة الإسلامية تعرف حق المعرفة   (1) مواهب الجليل ح6 ص240 , 243 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص215. (2) المغنى ج9 ص339. (3) بدائع الصنائع ج7 ص236 , نهاية المحتاج ح7 ص337 , الإقناع ج4 ص168 , المغنى ج9 ص339. (4) نقض فى 10 أكتوبر سنة 1929 , قضية 2085 سنة 46 قضائية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 القصد الاحتمالى وليس أدل على ذلك من جرائم الجرح والضرب، فالضارب يضرب وهو لا يقصد إلا مجرد الإيذاء أو التأديب ولا يتوقع أن يصيب المجنى عليه إلا بجرح بسيط أو كدمات خفيفة أو لا يتوقع أن يصيبه إلا بمجرد الإيلام، ولكن الجانى لا يسأل فقط عن النتائج التى توقعها وإنما يسأل أيضًا عن النتائج التى كان فى وسعه أن يتوقعها أو التى كان يجب عليه أن يتوقعها، فإذا أدى الضرب إلى قطع طرف أو فقد منفعة فهو مسئول عن ذلك، وإذا أدى لوفاة المجنى عليه فهو مسئول عن هذه الوفاة باعتبار الحادث قتلاً شبه عمد لا ضربًا. لكن ما هو رأى فقهاء الشريعة فى القصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد بالذات؟ ذلك القصد الذى عرفته محكمة النقض المصرية بأنه "نية ثانوية غير مؤكدة تختلج بها نفس الجانى الذى يتوقع أن قد يتعدى فعله الغرض المنوى عليه بالذات إلى غرض آخر لم ينتوه من قبل أصلاً فيمضى مع ذلك فى تنفيذ الفعل فيصيب به الغرض غير المقصود ومظنة وجود تلك النية هى استواء حصول هذه النتيجة وعدم حصولها لديه ذلك القصد الذى يقيمه الألمان مقام القصد الثابت فى جريمة القتل وغير القتل ويقولون: إنه يكون كلما تصور الفاعل النتيجة ممكنة الوقوع ثم يمضى بالرغم من ذلك فى فعلته مستهينًا بالنتيجة". ولا يسلم أبو حنيفة والشافعى وأحمد بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ويصرون على أن تتوجه نية الجانى للقتل، وأن يرتكب الفعل بقصد الوصول لهذا الغرض. ولعل حرصهم على ظهور نية القتل عند الجانى راجع إلى أنهم يقسمون القتل إلى عمد وشبه عمد وخطأ وفى العمد وشبه العمد يتعمد الجانى العدوان ولكن الذى يميز العمد عن شبه العمد هو أن الجانى يقصد القتل فى العمد فلو سلموا بالقصد الاحتمالى فى القتل العمد لانعدم الحد الفاصل بين القتل العمد والقتل شبه العمد. وقد سلم بعض فقهاء مذهب أحمد بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل فى موضعين فقط، واعتبروا الفاعل قاتلاً عمدًا أخذًا بقصده المحتمل: الأول: إذا أخطأ الجانى فى الفعل، كأن أراد أن يقتل زيدًا فلما رماه أخطأه وأصاب عمرًا بشرط أن يكون زيد معصومًا؛ أى غير مهدر الدم كأن يكون حربيًا أو مرتدًا، فإن كان مهدر الدم فالقتل خطأ لا عمد. الثانى: إذا كان الخطأ فى ظن الفاعل كأن يقصد قتل زيد فيقتل عمرًا على أنه زيد بشرط أن يكون معصومًا. أما مالك فمذهبه يتسع للقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ولما هو أكثر من القصد الاحتمالي؛ لأنه لا يعرف القتل شبه العمد، والقتل عنده نوعان فقط: عمد وخطأ، والعمد عنده لا يشمل فقط الفعل المقصود به القتل وإنما يشمل كل فعل قصد به مجرد العدوان ولو لم يقصد الفاعل القتل، ولما كان من المستبعد عقلاً أن تؤدى كل أفعال العدوان البسيطة إلى الموت، فمعنى ذلك أن مذهب مالك يتسع لأكثر من القصد الاحتمالى؛ لأنه يتسع لما يتصوره الفاعل ممكن الوقوع ولما يتصوره ممتنع الوقوع. 99- مقارنة: والنظرية الفرنسية تتفق مع نظرية الأئمة الثلاثة فالفرنسيون لا يرون الأخذ بالقصد الاحتمالى فى جريمة القتل العمد ولو أن القانون الفرنسى أخذ المتهم بقصده الاحتمالى فى جرائم الضرب والجرح وحجتهم أن الأخذ بنظرية القصد الاحتمالى فى القتل العمد يؤدى إلى اختلاط القتل العمد بالضرب المفضى إلى الموت وتجعل التمييز بينهما متعذرًا، أما مذهب مالك فيتفق مع النظرية الألمانية كما يتفق مع القانونين الإنجليزى والسودانى، وهما يعتبران القتل عمدًا إذا حصل الفعل بقصد تسبب الموت أو إذا علم الفاعل أو كان له داع أن يعلم أن الموت ربما يكون نتيجة الفعل المحتملة. ولكن بالرغم من هذا الاتفاق الظاهرى فإن مذهب مالك يظل أكثر اتساعًا من مذهب الألمان والقانونين الإنجليزى والسودانى، فمثلاً إذا لطم شخص آخر صحيحًا بقصد الاعتداء ودون أن يقصد القتل فمات من اللطمة فهو قاتل عمدًا عند الإمام مالك، ولا يعتبر قاتلاً طبقًا للنظرية الألمانية، لأن إمكان الموت من اللطمة بعيد التصور، كذلك لا يعتبر قاتلاً بحسب القانونين الألمانى والإنجليزى لأنه ليس فى ظروف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 المجنى عليه أو فى اللطمة ذاتها ما يدعو الجانى إلى العلم بأن اللطمة قد تؤدى للوفاة. 100 - إثبات القصد الجنائى: يشترط أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن يثبت قصد القتل ثبوتًا لا شك فيه، فإن كان هناك شك فى أن الجانى قصد القتل اعتبر الفعل قتلاً شبه عمد. ويستدل هؤلاء الفقهاء أصلاً على وجود قصد القتل بالآلة أو الوسيلة التى استعملها الجانى، فإن كانت قاتلة غالبًا فالقتل عمد، وإن كانت لا تقتل غالبًا فالقتل شبه عمد (1) , وكون الآلة قاتلة غالبًا ليس فى ذاته دليلاً يقبل النفى على قصد القتل وللجانى أن ينفى عن نفسه قصد القتل وأن يثبت أنه مع استعماله الآلة أو الوسيلة القاتلة غالبًا لم يكن يقصد القتل، فإن أثبت هذا اعتبر الفعل شبه عمد. وعلى هذا يمكن القول بأن استعمال الآلة القاتلة يعتبر فى ذاته دليلاً على قصد القتل يصح لهيئة الاتهام أن تكتفى به إذا لم يكن ثمة ما ينفيه ويصح لها أن تضيف إليه أدلة أخرى من ظروف الواقعة أو ظروف المتهم والمجنى عليه أو أقوال الشهود. وليس فى مذهب الإمام مالك ما يمنع من الاستدلال على قصد المتهم بالآلة المستعملة فى القتل أو بمحل الإصابة ولكن ليس من الضرورى فى المذهب إثبات قصد القتل لدى الجانى إذ يكفى أن يثبت أنه أتى الفعل بقصد العدوان وأنه لم يأت به على وجه اللعب أو التأديب. * * * المبحث الثاني القتل شبه العمد 101- ذكرنا أن القتل شبه العمد مختلف عليه بين الفقهاء: فمالك يرى أن القتل صنفان: عمد وخطأ فمن زاد عليهما فقد زاد على النص، ويحتج بأن القرآن لم ينص إلا على العمد والخطأ فقط حيث قال الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا   (1) راجع الفقرات من 31 - 38 والفقرة 87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 مُّتَعَمِّدًا} [النساء: 93] ، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئا} [النساء: 92] . أما أبو حنيفة والشافعى وأحمد فيقولون بالقتل شبه العمد ويرون أن القتل على ثلاثة أنواع: عمد وشبه عمد، وخطأ، ويحتجون بقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن فى قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل"، وبأن عمر وعليًا وعثمان وزيد بن ثابت وأبا موسى الأشعرى والمغيرة قالوا بالقتل شبه العمد ولا مخالف لهم من الصحابة، كما يحتجون بأن القصد مسألة تتعلق بنية الجانى، ولا يطلع على النيات إلا الله تعالى، وإنما الحكم يدار على الظاهر وليس أدل على النية وأكثر إظهارًا لها من الآلة المستعملة فى القتل، فمن قصد ضرب آخر بآلة تقتل غالبًا كان حكمه كحكم الغالب أى حكم من قصد القتل، ومن قصد الضرب بآلة لا تقتل غالبًا كان حكمه مترددًا بين العمد والخطأ ففعله يشبه العمد لأنه قصد ضربه ويشبه الخطأ لأنه ضرب بما لا يقتل غالبًا وما لا يقتل غالبًا يدل على أنه لم يقصد القتل (1) , ولذلك سمى هذا النوع من القتل بشبه العمد (2) ؛ لأنه يمثل القتل العمد فى كل شىء ولا يختلف عنه إلا فى قصد الجانى، والمفروض أن مرتكب القتل العمد يعتدى على المجنى عليه بقصد قتله، أما مرتكب القتل شبه العمد فيعتدى على المجنى عليه بقصد الاعتداء دون أن يفكر فى قتله (3) , فالفرق بين النوعين هو فى نية الجانى التى يستدل عليها بالآلة المستعملة فى الجريمة ومن ثَمَّ تشابه القتلان تشابهًا شديدًا دعا لتسمية أحدهما بالقتل شبه العمد إذا كان الثانى يسمى بالقتل العمد. 102 - يعرف الحنفيون شبه العمد بأنه: ما تعمدت ضربه بالعصا أو السوط أو الحجر أو اليد أو غير ذلك ما يفضى إلى الموت، فإن فى هذا الفعل معنيين: أولهما: معنى العمد باعتبار قصد الفاعل إلى الضرب، وثانيهما: معنى الخطأ   (1) يعبر أبو حنيفة عن هذه الفكرة بقوله: إن القتل بآلة غير معدة له دليل عدم القصد لأن تحصيل كل فعل بالآلة المعدة له فحصوله بغير ما أعد له دليل عدم القصد. (2) بداية المجتهد ج2 ص332 , 333.. (3) راجع الفقرة 89 من هذا الجزء لتفهم جيداً الفرق بين العمد وشبه العمد فى القصد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 باعتبار انعدام قصد الفاعل إلى القتل فهو يشبه العمد صورة من حيث أنه قصد الفعل (1) . ويعرفه الشافعيون بأنه: ما كان عمدًا فى الفعل خطأ فى القتل (2) ، أى كل فعل لم يقصد به القتل تولد منه القتل. ويعرفه بعضهم بأنه قصد الإصابة بما لا يقتل غالبًا فيموت منه، ولا تجب به عقوبة القتل العمد؛ لأن الجانى لم يقصد القتل (3) . ويعرفه أكثرهم بأنه قصد الفعل والشخص ولو كان غير معين بما لا يقتل غالبًا (4) . ويعرفه الحنابلة بأنه: قصد الجناية بما لا يقتل غالبًا فيقتل إما لقصد العدوان عليه أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير أو يلكزه بيده أو يلقيه فى ماء يسير أو يصيح بصبى أو معتوه على سطح فيسقطان أو يغتفل عاقلاً فيصيح به فيسقط؛ فهو شبه عمد إذا قتل لأنه قصد الضرب دون القتل، ويسمى خطأ العمد وعمد الخطأ لاجتماع العمد والخطأ فيه فإنه عمد الفعل وأخطأ فى القتل (5) . 103 - مقارنة: وظاهر مما سبق أنه يدخل تحت شبه العمد كل الأفعال التى يقصد منها الجانى العدوان، ولم يقصد بها القتل، ولكنها أدت إلى موت المجنى عليه. فالقتل شبه العمد فى الشريعة يقابل الضرب المفضى إلى الموت فى القوانين الوضعية، ولكن تعبير الشريعة بالقتل شبه العمد أصح منطقًا من تعبير القوانين الوضعية ذلك أن القتل شبه العمد يندرج تحته الموت الناشئ عن الضرب والجرح وإعطاء المواد السامة والضارة والتغريق والتحريق والتردية والخنق وكل ما يدخل تحت القتل العمد إذا انعدمت نية القتل عند الجانى وتوفر قصد الاعتداء، ولفظ القتل يدخل تحته كل ما يؤدى للموت، فاختيار فقهاء الشريعة لهذا اللفظ للدلالة على هذه الأنواع المختلفة من الاعتداء والإيذاء هو اختيار موفق لأنها تنتهى جميعًا بالموت، أما لفظ الضرب الذى عبرت به القوانين الوضعية فإذا دخل تحته الضرب باليد أو بأداة أخرى فإنه لا يمكن أن يندرج تحته غير ذلك من أنواع الإيذاء والاعتداء المختلفة الصور والوسائل كالتغريق والتحريق والتردية والخنق وشراح القانون المصرى يعترفون بقصور لفظ الضرب عن استيعاب المعنى الذى يندرج تحته قانونًا ويلاحظون على نصوص الضرب عمومًا قصور ألفاظها عن الإحاطة بما يندرج تحتها. * * * أركان القتل شبه العمد 104 - أركان القتل شبه العمد ثلاثة: أولها: أن يأتى الجانى فعلاً يؤدى لوفاة المجنى عليه. ثانيهما: أن يأتى الجانى الفعل بقصد العدوان. ثالثهما: أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية. الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه 105 - يشترط لتوفير هذا الركن أن يأتى الجانى فعلاً يؤدى لوفاة المجنى عليه: أيًّا كان هذا الفعل ضربًا أو جرحًا أو غير ذلك من أنواع التعدى والإيذاء مما لا يعتبر ضربًا ولا جرحًا كالتغريق والتحريق وإعطاء مواد ضارة أو سامة بغير قصد القتل. 106 - وليس من الضرورى فى الضرب والجرح أن يستعمل الجانى آلة معينة: فقد يكون بغير أداة كاللطم واللكم والعض والرفس، وقد يكون بأداة راضةَّ أو حادة أو واخزة كالعصا والسيف والفأس والبلطة والسكين والرمح والمسلة، وقد يرمى الجانى المجنى عليه بشىء كالحجر والسهم والرصاص وقد يغرى   (1) المبسوط ج6 ص64 , 65. (2) الوجيز ج2 ص125. (3) المهذب ج2 ص185. (4) نهاية المحتاج ج7 ص237. (5) الشرح الكبير ج9 ص331. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 به حيوانًا مفترسًا كالدب أو أليفًا كالكلب (1) . 107 - ويستوى أن يحدث الفعل أثرًا ماديًا فى جسم المجنى عليه أو أن يحدث به أثرًا نفسيًا يودى بحياته: فمن شهر على إنسان سيفًا أو صوب إليه بندقية فمات رعبًا قبل أن يضربه، ومن دلى إنسانًا من شاهق فمات رهبة ورعبًا، ومن أفزع امرأة حاملاً فألقت حملها من الرعب وماتت بسبب الإجهاض - يسأل عن القتل شبه العمد ولو أن فعله لم يحدث أثرًا ماديًا بجسم المجنى عليه (2) . ولا يتفق القانون المصرى والفرنسى مع الشريعة فى هذا ولكن الكثيرين من الشراح يرون أنه من القصور أن لا يعاقب هذان القانونان على مثل هذه الحالات، أما القانون الإنجليزى فيعاقب على مثلها فعلاً. 108 - وليس ثمة ما يمنع عند الشافعى وأحمد عن مسئولية الجانى عن القتل شبه العمد ولو لم يكن الموت نتيجة مباشرة لفعله: كمن طلب إنسانًا بسيف مجرد أو بندقية أو ما يخيف فهرب منه فتلف فى هربه كأن سقط من شاهق أو انخسف به سقف أو غرق فى ماء أو احترق بنار أو سقط فتلف أو خرَّ فى مهواة من بئر أو غيره - ففى كل هذه الأحوال يعتبر الطالب مرتكبًا لجريمة القتل شبه العمد ولو أن فعله ليس هو الذى أدى مباشرة للموت، على خلاف فى الإطلاق والتقييد بين الشافعى وأحمد سبق بيانه (3) . 109 - ويشترط فى المجنى عليه أن يكون معصومًا: فإن لم يكن معصومًا فلا يعتبر الفعل جريمة قتل وإنما يمكن اعتبار ما وقع اعتداء على   (1) يرى أبو حنيفة شخصياً أن من حرش كلباً أو غيره على آخر لا يكون متعمداً لأن للكلب اختياراً وإنما يكون مخطئاً فإذا قتله الكلب كان مسئولاً عن القتل الخطأ فقط. ويخالفه فى هذا أبو يوسف ومحمد ويريان الفعل قتلاً شبه عمد. (2) راجع الفقرتين 59 , 60 من هذا الجزء. (3) راجع الفقرة 67 من هذا الجزء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 السلطات العامة، وقد بينا معنى العصمة بمناسبة الكلام على القتل العمد (1) ، ولكنا لم نذكر من المهدرين إلا ما اقتضى الكلام عن القتل العمد ذكرهم فبقى منهم من لم نذكره وهم: السارق سرقة عقوبتها قطع اليد، والزانى غير المحصن، والقاذف، وشارب الخمر، فهؤلاء مهدرون فيما يختص بتنفيذ العقوبة عليهم؛ فمن قطع يد السارق لا يعاقب على قطعه ولكنه يعتبر معتديًا على السلطات العامة التى من اختصاصها قطع السارقين، ومن جلد الزانى غير المحصن أو القاذف أو شارب الخمر لا يعاقب على جريمة الضرب وإنما يعاقب على أنه افتات على السلطات العامة، وأتى بعمل اختصت به نفسها؛ والعلة فى إباحة هذه الأفعال أنها حدود لا يجوز العفو عنها، ولا التراخى فى تنفيذها، وهى واجبة على الجماعة، فكل فرد يعتبر مسئولاً عن تنفيذها، والأمر سهل إذا كان دم المجنى عليه مهدرًا إهدارًا كليًّا، ولكن إذا كان الإهدار جزئيًا لتنفيذ حد يقتل من الحدود التى ذكرناها الآن ثم مات المجنى عليه نتيجة لتنفيذ الحد من أحد الأفراد، فهل يعتبر الفعل قتلاً شبه عمد أم لا؟. قطع السارق: يعتبر السارق الذى سرق سرقة يجب فيها القطع غير معصوم بالنسبة للعضو الذى يجب قطعه، أما باقى أعضائه فمعصوم وكذلك نفسه (2) ، فإذا عدا إنسان على السارق فقطع يده أو رجله التى يجب قطعها فلا يعاقب على القطع، لأنه قطع عضوًا غير معصوم، ويستوى عند أحمد أن يكون القطع قبل الحكم بالسرقة أو بعده مادامت السرقة ثبتت على السارق، ولكن يشترط أن تكون الدعوى مقامة، فإن لم تكن الدعوى رفعت اعتبر القاطع قاطعًا عمدًا، وإذا شهد الشهود بالسرقة ولم يحكم القاضى بالقطع انتظارًا لتعديل الشهود فقطعه قاطع فلا عقوبة عليه إذا عُدِّلت الشهود - أى ثبتت عدالتهم وصلاحهم -   (1) راجع الفقرات من 17 إلى 27 من هذا الجزء. (2) نهاية المحتاج ج7 ص254. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 فإن لم تعدَّل الشهود فهو قاطع ليد معصومة عمدًا. ويرى الشافعى مثل ما يراه أحمد. أما مالك وأبو حنيفة فيشترطان أن يكون القطع بعد الحكم، فإن كان بعده فلا مسئولية على القاطع بسبب القطع، وإنما يؤاخذ على الافتيات على السلطات، أما إذا كان القطع قبل الحكم فهو مسئول عن القطع (1) . وإذا أدى القطع إلى الوفاة فلا يسأل القاطع عن موته إلا إذا كان مسئولاً عن قطعه، فإن كان مسئولاً عن القطع فهو مسئول عن قتله عمدًا، وإن لم يكن مسئولاً فلا مسئولية. والحجة فى عدم المسئولية: أن الموت تولد عن قطع واجب وأن إقامة الحدود واجبة ولا تحتمل التأخير، فالضرورة تقتضى التسامح فيما ينشا عن تنفيذ الحد حتى لا يتعطل تنفيذ الحدود. والفرق عند أبى حنيفة بين هذه الحالة وحالة القصاص، أن القصاص حق للمقتص وليس واجبًا عليه وهو مخير فى حقه إن شاء عفا وإن شاء اقتص، بل هو مندوب إلى العفو، واستعمال الحق مقيد بشرط السلامة. أما الواجب فلا يتقيد بشرط السلامة. ولا شك أن إقامة الحد واجب على كل فرد من الجماعة ولو أن الذى خصص لإقامته هو نائب الجماعة (2) . 110 - ويشترط أن يؤدى الفعل لوفاة المجنى عليه: ويستوى أن تكون الوفاة على أثر الفعل أو بعده بزمن طال هذا الزمن أو قصر فإذا لم يمت المجنى عليه من الفعل وشفى عوقب الجانى باعتباره ضاربًا أو جارحًا أو قاطعًا بحسب ما انتهت إليه حالة المجنى عليه، فإن فقد من المجنى عليه عضو أو زالت منفعته عوقب الجانى على هذه النتيجة، وتتفق القوانين الوضعية مع الشريعة فى هذا المبدأ فهى لا تعتبر الجانى شارعًا فى جريمة ضرب مفض إلى الموت إذا لم يؤد   (1) مواهب الجليل ج6 ص231 , البحر الرائق ج5 ص62. (2) بدائع الصنائع ج7 ص315 , البحر الرائق ج5 ص319. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 الضرب للموت، وإنما تعتبره محدثًا لعاهة أو ضاربًا بحسب ما تنتهى إليه حالة المجنى عليه. 111 - ويصح أن يصدر الفعل من الجانى مباشرة: كأن يضرب المجنى عليه بعصًا أو يرميه بحجر، ويصح أن يتسبب فى الفعل دون أن يباشره كأن يغرى به كلبًا فيعضه فيموت من العضة أو يضع له مزلقًا فى الطريق فيسقط فيه فيموت من سقطته، فالجانى مسئول عن القتل شبه العمد فى حالتى المباشرة والتسبب، ولا فرق عند أبى حنيفة فى القتل شبه العمد بين عقوبة القتل المباشر والقتل بالتسبب كما هو الحال فى القتل العمد. 112 - وتنطبق على القتل شبه العمد كل القواعد التى ذكرت فى باب القتل: عن المباشرة، والسبب، والشرط، والمسألة عنها، وتعدد المباشرة، والسبب، والتمالؤ، والقتل على الاجتماع، والقتل على التعاقب، واجتماع المباشرة مع السبب (1) . وقد تكلمنا عن هذه القواعد بما فيه الكفاية فلا داعى لإعادة الكلام عنها. ومن كان عليه قصاص متلف كقطع أصبع أو يد أو رجل أو أُذُن فهو غير معصوم بالنسبة لمستحق القصاص فى حدود ما يستحقه، فليس للمستحق أن يقطع غير العضو المماثل، فإن فعل فهو قاطع عمدًا، وإن قطع العضو المماثل فلا يسأل عن القطع وإنما يسأل عن افتياته على السلطات العامة وتعجله بالقصاص، أما لو كان القاطع أجنبيًا فهو مسئول عن القطع لأن المقطوع معصوم فى حقه. وإذا اقتص المستحق فى طرف، فسرى القصاص إلى النفس، ومات المقتص منه، فلا يسأل الوالى عن القتل شبه العمد، لأنه مات من فعل مباح (2) وهو تنفيذ العقوبة. وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد، أما أبو حنيفة فيرى أن المقتص مسئول عن القتل شبه العمد، وحجة الفريق الأول أن الموت   (1) راجع الفقرات من 43 - 57 من هذا الجزء. (2) المهذب ج2 ص200 , تحفة المحتاج ج4 ص28 , المغنى ج9 ص443. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 حدث بفعل مأذون فيه، ولا يعتبر جريمة فما تولد منه لا يعتبر جريمة، فإن ما تولد من المباح مباح. وحجة أبى حنيفة أن الفعل المأذون له فيه هو القطع وهو حقه، ولكنه استوفى أكثر من حقه وجاء بالقتل ففيه مسئولية (1) . 113 - ويشترط أن يكون الفعل الذى أتاه الجانى محرمًا عليه: فإن كان حقه أو من واجبه أن يأتى الفعل فأدى الفعل للموت فالمسئولية تختلف بحسب حدود الحق وباختلاف أصحاب الحق، كما تختلف بحسب اختلاف الشخص المحمل بالواجب، وسنفصل ذلك فيما يأتى فى: حق التأديب، حق التطيب، الألعاب الرياضية، حق القصاص، التعزير، قطع السارق، الجلد فى حد. * * * الركن الثانى: أن يتعمد الجانى الفعل 114 - يشترط أن تعمد الجانى إحداث الفعل المؤدى للوفاة دون أن يتعمد قتل المجنى عليه: وهذا هو المميز الوحيد بين جريمتى القتل العمد وشبه العمد، ففى الأول يتعمد الجانى إصابة المجنى عليه وفى الوقت ذاته يقصد من الإصابة قتله، وفى الثانى يتعمد إصابة المجنى عليه ولا يتعمد قتله، فالفاصل بين الجريمتين أصلاً هو قصد الجانى، فإن قصد القتل فالفعل قتل عمد وإن قصد مجرد العدوان ولم يقصد القتل فالفعل شبه عمد، ويستدل على نية الجانى قبل كل شىء بالآلة أو الوسيلة التى يستعملها فى القتل، فإن كانت الآلة تقتل غالبًا فالفعل قتل عمد ما لم يثبت الجانى أنه لم يقصد القتل، وإن كانت الآلة لا تقتل غالبًا فالفعل قتل شبه عمد ولو توجه قصد الجانى فعلاً للقتل؛ لأن القتل لا يكون إلا بالآلة الصالحة لإحداثه، فإن لم تكن الآلة صالحة لإحداثه كانت نية القتل   (1) بدائع الصنائع ج9 ص305. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 عبثًا (1) ، ويستدل على القصد بعد الآلة المستعملة بشهادة الشهود واعتراف الجانى، وتتميز جريمة القتل شبه العمد عن القتل الخطأ بقصد الفاعل أيضًا؛ ففى شبه العمد يأتى الفاعل الفعل لقصد العدوان دون أن يقصد القتل، أما فى القتل الخطأ فيأتى الفعل دون أن يقصد عدوانًا أو يقع عدوانًا أو يقع منه الفعل نتيجة لإهماله أو عدم احتياطه دون أن يقصد الفعل بالذات. 115 - القصد الاحتمالى: والجانى فى القتل شبه العمد مأخوذ بقصده الاحتمالى، فإن نيته لا تتجه لقتل المجنى عليه عند ارتكاب الحادث، وما كان يتوقع أن يؤدى الحادث للقتل، ولكنه يسأل عن القتل باعتباره نتيجة لعمله وكان فى وسعه أن يتوقعها أو كان يجب عليه أن يتوقعها (2) . 116 - القصد المحدود أو غير المحدود: ويستوى عند الفقهاء فى القتل شبه العمد أن يقصد الجانى شخصًا معينًا بالفعل الذى أدى لقتل، أو يقصد شخصًا غير معين أيًّا كان فالجانى مسئول فى الحالين عن فعله، ويعاقب عليه بعقوبة القتل شبه العمد إذا أدى لموت (3) . 117 - الخطأ فى الشخص والخطأ فى الشخصية: وإذا قصد الجانى شخصًا معينًا فأخطأه وأصاب غيره، كأن رماه بحجر فلم يصبه وأصاب الآخر، وقصد شخصًا على أنه زيد فتبين أنه عمرو فإن الجانى يسأل عن القتل الخطأ إذا توفى المجنى عليه ولا يسأل عن القتل شبه العمد. وهذا هو الرأى فى مذهب أبى حنيفة والشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، أما البعض الآخر فيرى أن الجانى يسأل عن القتل شبه العمد إذا كان الفعل الذى قصده محرمًا أما إذا كان غير محرم فيسأل عن القتل الخطأ (4) .   (1) راجع الفقرة 89 من هذا الجزء. (2) راجع الفقرة 98 من هذا الجزء. (3) راجع الفقرة 95 من هذا الجزء. (4) راجع الفقرة 96 من هذا الجزء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 118- رضاء المجنى عليه: وإذا كان المجنى عليه قد أذن بالفعل المؤدى للموت، فيرى أبو حنيفة مسئولية الجانى عن القتل شبه العمد؛ لأن الجانى أذن بالجرح ولم يأذن بالقتل فلما مات المجنى عليه تبين أن الفعل وقع قتلاً لا جرحًا ويخالفه أبو يوسف ومحمد فى هذا الرأى كما يخالفه الشافعى وأحمد ويرون أن لا مسئولية على الجانى. وقد تكلمنا عن هذا بتفصيل بمناسبة الكلام على القتل العمد (1) . ولا عبرة بالبواعث التى دفعت الجانى لارتكاب الفعل، فسواء كانت هذه البواعث شريفة أو وضيعة فلا أثر لها على الجريمة ولا أثر لها على العقوبة؛ لأن العقوبة حد لا يجوز تخفيفها ولا إيقافها ولا العفو عنها. * * * الركن الثالث: أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية 119 - يشترط أن يكون بين الفعل الذى ارتكبه الجانى وبين الموت رابطة السببية: أى: أن يكون الفعل علة مباشرة للموت أو أن يكون سببًا فى علة الموت، فإذا انعدمت رابطة السببية فلا يسأل الجانى عن موت المجنى عليه، وإنما يسأل باعتباره جارحًا أو ضاربًا. 120 - ويكفى أن يكون فعل الجانى هو السبب الأول فى إحداث الوفاة ولو تعاونت معه أسباب أخرى على إحداث الوفاة: كإهمال العلاج أو إساءة العلاج أو ضعف المجنى عليه أو مرضه أو غير ذلك. وقد تكلمنا على ذلك بما فيه الكفاية بمناسبة الكلام على القتل العمد، وما قلناه هناك ينطبق هنا مما   (1) راجع الفقرة 93 من هذا الجزء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 هو خاص بتعدد الأسباب وتواليها، وانقطاع آثارها، وتغلب بعضها على البعض الآخر (1) . 121 - والقضاء المصرى يتجه اتجاه الشريعة مخالفا بذلك النظرية الفرنسية: ومن المبادئ التى قررتها محكمة النقض المصرية: أنه لا يقبل من المتهم الاحتجاج بأن وفاة المجنى عليه الذى أصابته ضربة من الغير مطالبًا بأن يعمل كل احتياط لما عساه أن يحدث من هذه الضربة طالما أنه لم يعمل عملاً إيجابيًا ساءت به حالته (2) . وحكمت أيضًا محكمة النقض بأنه إذا كان سبب الوفاة هو التسمم الصديدى الناشىء من الإصابة مع الضعف الشيخوخى فلا يقبل من المتهم القول لعدم توفر رابطة السببية بين الضرب والوفاة، لأنه متى كان الضرب الذى وقع من المتهم هو السبب الأول المحرك للعوامل الأخرى المتنوعة التى تعلونت بطريق مباشر أو غير مباشر على إحداث النتيجة النهائية، فإن المتهم مسئول عن كافة النتائج التى ترتبت على فعله، ومأخوذ فى ذلك بقصده الاحتمالى ولو لم يكن يتوقع هذه النتائج لأنه كان يجب عليه قانونًا أن يتوقعها (3) . * * * المبحث الثالث القتل الخطأ 122- الأصل فى العقاب على القتل الخطأ: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ   (1) تراجع الفقرات من 68 إلى 73 من هذا الجزء. (2) نقض 15 مايو سنة 1930 , قضية رقم 1139 سنة 47 قضائية. (3) نقض 20 نوفمبر سنة 1933 قضية رقم 2058 سنة 3 قضائية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92] . 123- ويرى بعض الفقهاء أن الخطأ نوع واحد: ولكن بعضهم يقسمه إلى نوعين: 1 - قتل خطأ محض. 2 - قتل فى معنى القتل الخطأ. والخطأ المحض: هو ما قصد فيه الجانى الفعل دون الشخص، ولكنه أخطأ فى فعله أو فى ظنه. ومثل الخطأ فى الفعل أن يرمى صيدًا فيخطئه ويصيب آدميًا، والخطأ فى ظن الفاعل كمن يرمى شخصًا على ظن أنه مهدر الدم فإذا هو معصوم، وكمن يرمى ما يحبسه حيوانًا فيتبين أنه إنسان. أما ما هو فى معنى القتل الخطأ: فهو ما لا قصد فيه إلى الفعل ولا الشخص، أى أن الجانى لا يتعمد إتيان الفعل الذى يسبب الموت ولا يقصد المجنى عليه. وهذا النوع من القتل الخطأ قد يحدث من الجانى مباشرة وقد يحدث بالتسبب، والأول: كمن انقلب على نائم بجواره فقتله، أو سقط منه شىء كان يحمله على آخر فمات منه. والثانى: كمن حفر بئرًا فسقط فيها آخر فمات، وكمن ترك حائطه دون إصلاح فسقط على بعض المارة، أو كمن أراق ماء فى الطريق فانزلق به أحد المارة وسقط على الأرض فجرح جرحًا أودى بحياته. والفقهاء الذين لا يرون تقسيم الخطأ يدخلون تحته ما يدخله الآخرون تحت هذين القسمين، فالفرق بين الفريقين فى منطق الترتيب والتبويب لا غير. ولعل الذى دعا القائلين بالتقسيم إلى التقسيم الخطأ أنهم رأوا أن طبيعة الفعل فى الخطأ المحض تختلف عن طبيعته فيما يعتبر قتلاً فى معنى الخطأ، ففى الخطأ المحض يتعمد الجانى الفعل، أما فى النوع الثانى فلا يتعمده، وعلة تقسيم النوع الثانى إلى قتل مباشر وقتل بالتسبب: أن القتل المباشر فيه الكفارة دون القتل بالتسبب والكفارة عقوبة تعبدية أو هى دائرة بين العقوبة والعبادة وتخص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 المسلم دون غيره. 124 - وما جاء فى الشريعة عن الخطأ يتفق مع ما جاء فى القوانين الوضعية بعينه. وإذا كان شراح القوانين لا يقسمون الخطأ هذه التقاسيم ويكتفون بإدراجها كلها تحت لفظ الخطأ كما فعل بعض الفقهاء إلا أن ما تعتبره القوانين خطأ لا يخرج عن نوع من الأنواع التى ذكرها فقهاء الشريعة. 125 - والظاهر من تتبع أمثلة الفقهاء أن الجانى يكون مسئولاً كلما كان الفعل والترك نتيجة إهمال أو تقصير أو عدم احتياط وتحرز أو عدم تبصر أو مخالفة لأمر السلطات العامة أو الشريعة ومن ثَمَّ يكون أساس جرائم الخطأ فى الشريعة هو نفس الأساس الذى تقوم عليه هذه الجرائم فى القوانين الوضعية وبصفة خاصة القانونين المصرى والفرنسى وسنعرض فيما يأتى أمثلة مما يراه فقهاء الشريعة خطأ تأييدًا لما قلناه. 126 - ويسير الفقهاء عامة على قاعدتين (1) عامتين يحكمان مسئولية الجانى فى الخطأ وبتطبيقهما نستطيع أن نقول إن شخصًا ما أخطأ أو لم يخطئ. القاعدة الأولى: كل ما يلحق ضررًا بالغير يسأل عنه فاعله أو المتسبب فيه إذا كان يمكن التحرز منه، ويعتبر أنه تحرز إذا لم يهمل أو يقصر فى الاحتياط والتبصر، فإذا كان لا يمكنه التحرز منه إطلاقًا فلا مسئولية. القاعدة الثانية: إذا كان الفعل غير مأذون فيه (غير مباح) شرعًا وأتاه الفاعل دون ضرورة ملجئة فهو تعدٍّ من غير ضرورة وما تولد منه يسأل عنه الفاعل سواء كان مما يمكن التحرز عنه أو مما لا يمكن التحرز عنه. 127 - (1) من كان يمشى فى الطريق حاملاً خشبة فسقطت منه على إنسان فقتلته فهو مسئول عن قتله لأنه يستطيع أن يتحرز ويحتاط فلم يفعل، ولكن الغبار الذى يثيره رمى الإنسان فى الطريق إذا جاء فى عين إنسان فأتلفها لا يسأل عنه الماشى لأن إثارة الغبار عن المشى مما لا يمكن التحرز منه.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص271 , 272. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 (2) من سيرَّ دابة أو ساقها أو قادها فوطئت إنسانًا أو كدمته أو صدمته فهو مسئول عن ذلك كله لأنه مما يمكن التحرز عنه بحفظ الدابة وتنبيه الناس، أما نَفْحُ الدابة برجلها أو ذنبها فلا يمكن التحرز منه وكذلك بولها وروثها ولعابها، فلو نفحت الدابة برجلها أو ذنبها إنسانًا فأحدثت إصابة مات منها، ولو أتلف بولها أو روثها أو لعابها ملابس إنسان أو زٍلَقَ فيه فسقط وأصيب فلا مسئولية على الراكب أو السائق أو القائد لأن سبب الإصابة مما لا يمكن التحرز عنه، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "والرِّجل جُبار" أى: نفح الدابة برجلها جبار؛ أى لا مسئولية عنه. (3) ما تثيره الدابة بسيرها من الغبار والحصى الصغار لا ضمان فيه؛ أى لا مسئولية عنه لأنه لا يمكن التحرز فيه، أما إثارة الحصى الكبار ففيه المسئولية لأنها لا تثار إلا عند السير العنيف وهو مما يمكن التحرز منه. (4) إذا أوقفت الدابة فى الطريق العام فقتلت إنسانًا فمن أوقفها مسئول عن قتله سواء وطئت بيدها أو برجلها أو كدمت أو صدمت أو خبطت بيدها أو نفحت برجلها أو بذنبها وكذلك هو مسئول عما يعطب بروثها أو بولها أو لعابها، كل ذلك مضمون عليه سواء كان راكبًا لها أم لا، لأن وقوف الدابة فى الطريق العام ليس بمأذون فيه شرعًا إنما جعل الطريق للمرور فإذا كان الوقوف لا ضرورة فيه فهو تعد من غير ضرورة وما تولد منه يكون مضمونًا عليه سواء كان مما يمكن التحرز منه أم لا يمكن التحرز منه. (5) ومن ربط فى غير ملكه فهو مسئول عما أصابته من شىء بيدها أو رجلها وعما عطب بروثها أو بولها أو لعابها؛ لأنه متعد بالوقوف فى غير ملكه. (6) فإذا أوقفها فى ملكه فلا ضمان عليه إلا فيما وطئت بيدها أو رجلها وهو راكبها، وإذا كان الوقوف فى محل مخصص لذلك كموقف معد للحيوانات فى الشارع العام أو كموقف الحيوانات فى السوق العام فهو كما لو أوقف الدابة فى ملكه الخاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 (7) ولو نفرت الدابة أو انفلتت من صاحبها بالرغم منه فما أصابت فى نفارها وانفلاتها فلا مسئولية عنه لقوله عليه السلام: "العجماء جبار" أى البهيمة جرحها جبار ولأنه لا صنع له فى نفارها وانفلاتها ولم يكن فى إمكانه أن يتحرز عن فعلها. (8) من أحدث شيئًا فى الطريق كمن أخرج جناحًا أو شرفة، أو نصب ميزانًا، أو بنى دكانًا، أو وضع حجرًا أو خشبة أو متاعًا، فعثر بشىء من ذلك عاثر فوقع فمات، أو وقع على غيره فقتله، أو حدث به أو بغيره من العثرة والسقوط جناية من قتل أو غيره، أو صبَّ ماء فى الطريق فزلَقَ به إنسان، فهو مسئول عن ذلك كله وعما عطب من الدواب وتلف من الأموال؛ لأنه تسبب فى التلف بإحداث هذه الأشياء وهو متعد فى التسبب فكل ما تولد من التعدى يكون مضمونًا عليه، ولو كان التحرز منه غير ممكن. (9) إذا أشعل نارًا فى داره أو فى أرضه وكان من المتوقع أن يصل الشرر إلى دار غيره أو أرضه لهبوب الهواء قبل إشعال النار، فهو ضامن لما احترق فى دار جاره أو أرضه لعدم تبصره ولعدم احتياطه. (10) إذا سقى أرضه فأسرف حتى أضر السقى بأرض جاره، أو كان بأرضه شق فنزل الماء فى أرض جاره، فهو ضامن لعدم تبصره وعدم احتياطه وتقصيره. (11) إذا رش الطريق فجاوز المعتاد فى الرش فهو ضامن. (12) ولو تناهى فى الاحتياط والتبصر والتحرز فجرت حادثة لا توقع أو صاعقة فسقط بها شىء من ملكه كميزان أو شرفة وأتلف إنسانًا أو شيئًا فلا مسئولية ولا ضمان (1) . هذه هى بعض الأمثلة التى ضربها فقهاء الشريعة على الخطأ، وظاهر منها أن   (1) راجع فى هذا المثل والأمثلة السابقة: بدائع الصنائع ج7 ص271 - 286 , المغنى ج9 ص558 - 577 , نهاية المحتاج ج7 ص333 - 350 , مواهب الجليل ج6 ص241 - 243 ومن ص320 - 323. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 المسئولية تختلف فى حالة ما إذا كان الفعل مباحًا عنها فى حالة ما إذا لم يكن مباحًا، فإن كان الفعل مباحًا فالمسئولية أساسها التقصير الذى يرجع إلى الإهمال وعدم الاحتياط والتحرز أو عدم التقصير، أما إذا كان الفعل غير مباح فأساس المسئولية هو ارتكاب الفعل غير المباح ولو كان لم يحدث منه تقصير. وهذا الذى تقوم عليه المسئولية فى الخطأ فى الشريعة هو نفس ما يأخذ به القانون المصرى الناقل عن القانون الفرنسى، فهو ينص على المسئولية فى حالة التقصير بصوره المختلفة من عدم الاحتياط والإهمال وعدم الانتباه كما ينص على المسئولية فى حالة عدم مراعاة واتباع اللوائح، ولا يشترط التقصير فى الحالة الأخيرة (1) . * * * أركان القتل الخطأ 128 - للجناية على النفس خطأ ثلاثة أركان: أولها: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه. ثانيها: أن يقع الفعل خطأ من الجانى. ثالثها: أن يكون بين الخطأ ونتيجة الفعل رابطة السببية. الركن الأول: فعل يؤدى لوفاة المجنى عليه 129 - يشترط أن يقع بسبب الجانى أو منه فعل على المجنى عليه: سواء كان الجانى أراد الفعل وقصده، كما لو أراد أن يرمى صيدًا فأصاب إنسانًا، أو وقع الفعل نتيجة إهماله وعدم احتياطه دون أن يقصده كأن انقلب وهو نائم على طفل بجواره فقتله. 130 - ولا يشترط فى الفعل أن يكون من نوع معين: كالجرح مثلاً بل يصح أن يكون أى فعل مما يؤدى للموت؛ كالاصطدام بشخص أو بشىء وتزليق   (1) راجع المادتين 238 , 244 من قانون العقوبات المصرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الطريق وحفر بئر فيها وإسقاط ماء ساخن أو نار على المجنى عليه أو إسقاطه فى مار أو سقوط حائط عليه. 131- وكما يصح أن يكون الفعل مباشرًا يصح أن يكون بالتسبب: كمن ألقى ماء فى الطريق أو قشر موزًا أو بطيخًا فتزلق فيه آخر فسقط وأصيب فمات من إصابته ومن حفر بئرًا أو حفرة ولم يتخذ حولها مانعًا فسقط فيه إنسان فمات من سقطته. 132- ويجوز أن يكون الفعل إيجابيًا: كمن يلقى حجرًا من شرفته ليتخلص منه دون قصد إصابة أحد فيصيب أحدًا، ويجوز أن يكون الفعل تركًا كترك الكلب العاقر فى الطريق فيعقر إنسانًا ويحدث إصابات تميته، وكعدم إصلاح الحائط المائل أو المختل حتى يسقط على إنسان فيميته. 133- ويصح أن تكون وسيلة الموت مادية كما يصح أن تكون معنوية: فمن أثار رائحة كريهة أدت إلى إسقاط حامل وموتها، ومن صاح على حيوان صيحة مزعجة فمات منها إنسان رعبًا أو أزعجه فسقط من مرتفع ومات من سقطته - يعتبر قاتلاً خطأ فى كل هذه الحالات وأمثالها. 134- ويشترط أن يؤدى الفعل إلى الوفاة: ويستوى أن تكون الوفاة على أثر وقوع الحادث أو بعده طالت المدة أو قصرت فإن لم يمت المجنى عليه كان الفعل جناية خطأ على ما دون النفس. 135- وينطبق على القتل الخطأ كل القواعد التى ذكرت فى باب القتل العمد: عن المباشرة والسبب والشرط والمسئولية عنها وتعدد المباشرة والسبب واجتماعهما والقتل على التعاقب (1) . 136- وليكون الجانى مسئولاً عن فعله يجب أن يكون المجنى عليه   (1) راجع الفقرات من 43 إلى 56 من هذا الجزء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 معصومًا: وقد تكلمنا عن العصمة بمناسبة الكلام عن القتل العمد وفيما ذكر هناك الكفاية (1) . * * * الركن الثانى: الخطأ 137 - الخطأ هو الركن المميز لجرائم الخطأ على العموم: فإذا انعدم الخطأ فلا عقاب، ويعتبر الخطأ موجودًا كلما ترتب على فعل أو ترك نتائج لم يردها الجانى بطريق مباشر أو غير مباشر، سواء كان الجانى أراد الفعل أو الترك أم لم يرده ولكنه وقع فى الحالين نتيجة لعدم تحرزه أو لمخالفته أوامر السلطات العامة ونصوص الشريعة. 138 - ومن المسلم به أنه لا عقاب على عدم التحرز فى ذاته، أو مخالفة الأوامر والنصوص: فإن لم يكن شىء من هذا فلا عقاب إلا إذا تولد من عدم التحرز أو مخالفة الأوامر والنصوص ضرر، فإذا تولد الضرر فقد وجدت   (1) يعتبر الإمام مالك من القتل الخطأ الأفعال التى تقع من الجانى بقصد تأديب المجنى عليه أو بقصد اللعب إذا أدت للوفاة ولعله أخذ بهذا الرأى نتيجة لقوله: إن القتل إما عمد وإما خطأ فقط ولا وسط بينهما , ولرأيه فيما يختص بالأفعال التى يقصد بها التأديب يخالف آراء بقية الفقهاء الذين يقررون الفعل قتلاً شبه عمد , كما يخالف القانونين المصرى والفرنسى اللذين يقرران الفعل ضرباً أفضى إلى موت , وهو يتفق مع رأى بقية الفقهاء , أما فيما يختص بالأفعال التى ترتكب بقصد اللعب أو تنشأ عنه فرأى مالك فيها يتفق مع رأى بقية الفقهاء كما يتفق مع القوانين الوضعية. ... ويرى أبو حنيفة أن من الخطأ أن يغرى إنسان كلبه فيعقر آخر فيقتله وحجته أن الكلب لا يعقر مكرهاً ولكن يعقر مختاراً فلا يمكن أن ينسب لصاحب الكلب إلا أنه أهمل , ويخالفه أبو يوسف ومحمد ويعتبران الفعل قتلاً شبه عمد ورأيهما يتفق مع رأى الشافعى وأحمد أما مالك فيعتبر الفعل قتلاً عمداً. البدائع ج7 ص183 , مواهب الجليل ج6 ص240 , 241. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 المسئولية عن الخطأ، وإذا انعدم الضرر فلا مسئولية (1) . 139- ومقياس الخطأ فى الشريعة هو عدم التحرز: ويدخل تحته كل ما يمكن تصوره من تقصير فيدخل تحته الإهمال، وعدم الاحتياط، وعدم التبصر، والرعونة، والتفريط، وعدم الانتباه، وغير ذلك مما اختلف لفظه ولم يخرج معناه عن عدم التحرز. 140- ومخالفة الأوامر والنصوص يدخل تحتها نصوص الشريعة نفسها ونصوص القوانين واللوائح والأوامر التى تصدرها السلطات التشريعية: ومجرد المخالفة يعتبر خطأ فى ذاته وترتب عليه مسئولية المخالف سواء فيما يمكن التحرز فيه أو ما لا يمكنه أن يتحرز فيه، ولكن يشترط للمسئولية أن يكون هناك ضرر كما قدمناه. 141- ولا يشترط أن يكون الخطأ بالغًا حدًا معينًا من الجسامة: فيستوى أن يكون خطأ الجانى جسيمًا أو تافهًا، فهو مسئول جنائيًا لمجرد حصول الخطأ وعليه أن يتحمل نتيجة خطئه، وهى نتيجة لا تختلف باختلاف جسامة الخطأ أو تفاهته لأن عقوبة القتل الخطأ فى الشريعة ذات حد واحد ولا يجوز إنقاصها ولا إيقافها ولا العفو عنها من السلطات العامة. وينبنى على هذا أن المجنى عليه لا يستطيع أن يطالب بتعويض ما أصابه من ضرر إذا برأت المحكمة المختصة الجانى لأنه لم يحدث منه خطأ. * * * الركن الثالث: أن يكون بين الخطأ والموت رابطة السببية 142 - يشترط ليكون الجانى مسئولاً أن تكون الجناية قد وقعت   (1) بدائع الصنائع ج7 ص271 , 272. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 نتيجة لخطئه: بحيث يكون الخطأ هو العلة للموت، وبحيث يكون بين الخطأ والموت علاقة السبب بالمسبب فإذا انعدمت السببية فلا مسئولية على الجانى. 143 - ويسأل الجانى عن الموت ولو ساعد على إحداثه عوامل أخرى: كسوء العلاج واعتلال صحة المجنى عليه أو صغر سنه أو ضعف تكوينه كذلك يسأل عن الموت ولو اشترك فى الخطأ أكثر من شخص بغض النظر عن عدد الإصابات التى تسبب فيها كل، وفحش هذه الإصابة المنسوبة للجانى مهلكة بذاتها أو ساهمت فى إحداث الوفاة. وتعتبر رابطة السببية متوفرة سواء كان الموت نتيجة مباشرة للخطأ، كمن يعبث ببندقيته فتنطلق منه خطأ فتصيب المجنى عليه فتقتله أو كان الموت ليس نتيجة مباشرة للخطأ، كمن حفر بئرًا عدوانًا فجاء السيل ودحرج بجوارها حجرًا فعثر المجنى عليه بالحجر فسقط فى البئر فمات من سقطته. 144 - والجانى مسئول عن خطئه ولو توالت الأسباب وبعدت النتائج: ما دام العرف يعتبره مسئولاً عن هذه النتائج، وقد تكلمنا طويلاً عن رابطة السببية بمناسبة القتل العمد، وما قيل هناك يمكن أن يقال هنا. 145 - واشتراك شخص أو أشخاص فى الخطأ لا يعفى الجانى من مسئولية القتل العمد: ولكنه يخفف من العقوبة، إذ تقسم عليهم الدية بحسب عددهم لا بحسب عدد إصاباتهم فإذا اشترك ثلاثة فى قتل رابع خطأ فعليهم ديته أثلاثًا بغض النظر عن جسامة فعل كل منهم وعدد إصابته ما دام فعله قد ساهم فى إحداث الوفاة. 146 - وإذا اشترك المجنى عليه مع الجانى فى الخطأ: تخفف العقوبة بقدر نصيب المجنى عليه؛ لأنه اشترك فى الفعل، فأعان على نفسه، فمثلاً إذا اشترك أربعة فى حفر بئر فوقعت عليهم فمات أحدهم فعلى كل من الثلاثة الباقين ربع دية فقط، وإذا كان عشرة يرمون بالمنجنيق فرجع عليهم بخطئهم فأصاب أحدهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 فمات فعلى الباقين كل منهم تسع دية ويسقط عشر الدية مقابل اشتراك المجنى عليه فى الخطأ الذى أعلن به على نفسه وقد قضى على بن أبى طالب بمثل هذا فى قضية موضوعها: أن عشرة مدوا نخلة فسقطت على أحدهم فمات فقضى على الباقين كل بعشر الدية وأسقط عشرها لأن القتيل أعان على نفسه (1) . ولكن الفقهاء يختلفون فى حالة المصادمة فيرى بعضهم عقاب كل متصادم عقوبة كاملة عن فعله، ويرى البعض الآخر أن الموت حدث من فعلين فنصف العقوبة (2) . والرأى الثانى: يتفق مع ما تأخذ به المحاكم فى مصر وفرنسا، فإن اشترك المجنى عليه فى الخطأ لا يخليه من المسئولية الجنائية ولكنه يؤثر على التعويض ويدعو إلى تخفيف العقوبة. 147 - وتعتبر رابطة السببية قائمة: سواء كان الموت نتيجة مباشرة لفعل الجانى أو كان نتيجة مباشرة لفعل غيره من إنسان أو حيوان ما دام الجانى هو المتسبب فى الفعل، فمن يعبث ببندقيته فتنطلق منه خطأ فتصيب المجنى عليه فهو مسئول عن القتل إذا مات، ومن يكلف أجيرًا بحفر بئر فى طريق فسقط فيها أحد فمات من سقطته فالقاتل هو المالك ما دام الأجير لا يعلم أنها فى ملك الآخر، ومن قاد دابة فعقرت شخصًا فمات من العقر فالقاتل هو القائد. * * * المبحث الرابع عقوبات القتل العمد 148 - للقتل العمد فى الشريعة أكثر من عقوبة: منها ما هو أصلى، ومنها ما هو تبعى. والعقوبات الأصلية هى: 1 - القصاص. ... 2 - الدية. ... 3 - التعزير والكفارة على رأى. والعقوبات التبعية   (1) بدائع الصنائع ج7 ص278 , المغنى ج7 2559 , نهاية المحتاج ج7 ص350. (2) بدائع الصنائع ج7 ص273 , مواهب الجليل ج6 ص243 , نهاية المحتاج ج7 ص343. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 اثنتان: 1 - الحرمان من الميراث. ... ... 2 - الحرمان من الوصية. 149- القصاص: تجب عقوبة القصاص بارتكاب جريمة القتل العمد فى الشريعة. ومعنى القصاص المماثلة؛ أى مجازاة الجانى بمثل فعله وهو القتل. ويستوى لتوقيع هذه العقوبة أن يكون القتل مسبوقًا بإصرار أو ترصد أو غير مسبوق بشىء من ذلك، كما يستوى أن يصحب القتل جريمة أخرى أو لا يصحبه شىء فالعقوبة على القتل العمد هى القصاص فى كل حال؛ إلا فى حالة الحرابة، أى عندما يقترن القتل بسرقة فالعقوبة فى هذه الحالة هى القتل والصلب، ولكن العقوبة لا تقع على الجانى باعتباره قاتلاً متعمدًا بل باعتباره محاربًا أى قاطع طريق. 150 - وعقوبتا الدية والتعزير كلاهما بدل من عقوبة القصاص: فإذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب الشرعية التى تمنع القصاص حلت محله عقوبة الدية مضافًا إليها التعزير إن رأت ذلك الهيئة التشريعية وإذا امتنعت عقوبة الدية لسبب من الأسباب الشرعية حلت محلها عقوبة التعزير، فالفرق بينهما أن عقوبة التعزير تكون أحيانًا بدلاً من القصاص وتكون أحيانًا بدلاً من بدل القصاص أى بدلاً من عقوبة الدية التى هى فى الأصل بدل من عقوبة القصاص، أما عقوبة الدية فهى بدل من القصاص فقط. 151- ويترتب على اعتبار الدية بدلاً من القصاص نتيجتان: أولهما: أنه لا يجوز للقاضى أن يجمع بين العقوبتين جزاء عن فعل واحد، ولكن الجمع يجوز إذا تعددت الأفعال، فيجمع بينهما باعتبار القصاص عقوبة عن بعض الأفعال والدية عقوبة عن البعض الآخر، فمن قتل شخصًا عمدًا لا يصح أن يعاقب إلا بعقوبة القصاص، فإذا امتنع القصاص فالعقوبة الدية والتعزير أو الدية فقط، فإن امتنعت الدية فالعقوبة التعزير. ومن قتل شخصين جاز أن يعاقب على قتل أحدهما بالقصاص وعلى قتل ثانيهما بالدية والتعزير إذا امتنع القصاص، وبالتعزير فقط إذا امتنع القصاص والدية، فتكون نتيجة الحكم عليه أنه امتنع القصاص وبالتعزير فقط إذا امتنع القصاص والدية فتكون نتيجة الحكم عليه أنه عوقب بالقصاص والدية والتعزير. وخلاصة ما سبق: أنه لا يجوز الجمع بين عقوبة أصلية وعقوبة بدلية إذا كانت الأخيرة مقررة بدلاً من الأولى، أو بمعنى آخر: لا يجوز الجمع بين العقوبة الأصلية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وبدلها، ولكن يجوز الجمع بين بدلين، كما يجوز الجمع بين عقوبتين أصليتين، فمثلاً يجوز الجمع بين الدية والتعزير وكلاهما بدل من عقوبة القصاص، ويجوز الجمع بين القصاص والكفارة وكلاهما عقوبة أصلية، ولا جدال فى أنه يجوز الجمع بين العقوبات الأصلية والعقوبات التبعية حيث لا يوجد ما يمنع من ذلك عقلاً وشرعًا. 152 - ويترتب على أن القصاص أصل والدية والتعزير بدل أنه لا يجوز للقاضى أن يحكم بالعقوبة البدلية إلا إذا امتنع الحكم بالعقوبة الأصلية ولسبب من الأسباب الشرعية التى تمنع القصاص، فإذا لم يكن هناك مانع وجب الحكم بالعقوبة الأصلية. 153 - موانع القصاص: العقوبة الأصلية الأولى للقتل العمد هى القصاص فيحكم بهذه العقوبة على الجانى كلما توفرت أركان الجريمة، إلا إذا كان هناك سبب يمنع من الحكم بالقصاص. والأسباب التى تمنع الحكم بالقصاص ليس فيها سبب واحد متفق عليه فكلها مختلف فيه ولكن بعضها أخذ به معظم الفقهاء والبعض أخذ به أقلهم وسنذكرها جميعًا فيما يلى: 154 - أولاً: أن يكون القتيل جزءًا من القاتل: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد (1) أنه إذا كان القتيل جزءًا من القاتل امتنع الحكم بالقصاص ويكون القتيل جزءًا من القاتل إذا كان ولده فإذا قتل الأب ولده عمدًا فلا يعاقب على قتله بالقصاص؛ لقوله عليه السلام: "لا يقاد الوالد بولده"، ولقوله: "أنت ومالك لأبيك". والحديث الأول صريح فى منع القصاص، والحديث الثانى وإن لم يكن صريحًا فى منع القصاص إلا أن نصه يمنع منه لأن تمليك الأب ولده وإن لم تثبت فيه حقيقة الملكية تقوم شبهة فى درء القصاص إذ القاعدة فى الشريعة "درء الحدود بالشبهات" أما الولد فيقتص منه لوالده سواء كان أبًا أو أمًا إذا قتله طبقًا للنصوص العامة، لأن النص الخاص لم يخرج من حكم النصوص العامة إلا الوالد فقط، ويعللون هذه التفرقة فى الحكم بين الوالد والولد بأن الحاجة إلى الزجر والردع فى جانب   (1) بدائع الصنائع ج9 ص235 , المهذب ج2 ص186 , المغنى ج9 ص359 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 الولد أشهر منها فى جانب الوالد لأن الوالد يحب ولده لولده لا لنفسه دون أن ينتظر نفعًا منه إلا أن يحيى ذكره وهذا يقتضى الحرص على حياته، أما الولد فيحب والده لنفسه لا لوالده أى أنه يحبه لما يصل إليه من منفعة عن طريقه وهذا لا يقتضى الحرص على حياة والده لأن مال والده كله يؤول إليه بعد وفاته وحبه لنفسه يتعارض مع الحرص على حياة والده (1) . ويعلل البعض (2) التفرقة فى الحكم بأن الوالد كان سببًا فى إيجاد الولد فلا يصح أن يكون الولد سببًا فى إعدامه وهو تعليل يراه البعض بعيدًا عن الفقه؛ لأن إذا زنا بابنته يرجم فتكون سبب إعدامه مع أنه سبب وجودها. والحقيقة أن الابن والبنت ليسا سبب إعدام الأب وإنما ارتكاب الأب للجريمة فى كل حال كان سبب إعدامه (3) . ويدخل تحت لفظى الوالد والولد باتفاق الفقهاء الثلاثة كل والد وإن علا وكل ولد وإن سفل فيدخل تحت الوالد الجد أب الأب والجد أب الأم وإن علا (4) ، ويدخل تحت الولد ولد الولد وإن سفلوا. وحكم الأم هو حكم الأب، فإذا قتلت الأم ولدها فلا يقتص منها لأن النص جاء بلفظ الوالد وهى أحد الوالدين فاستوت فى الحكم مع الأب، فضلاً عن أنها أولى بالبر فكانت أولى بنفى القصاص عنها. ولأحمد رأى آخر غير معمول به، وهو قتل الأم بولدها ويعلل هذا الرأى بأن الأم لا ولاية لها على ولدها فتقتل به. ويرد على هذا الرأى بأن الولاية لا دخل لها فى منع القصاص بدليل أن الأب لا يقتص منه إذا قتل ولده الكبير مع أنه لا ولاية له على ولده (5) . والجدة كالأم فيما سبق سواء كانت من قَبل الأب أو من قبل الأم، فحكمها   (1) بدائع الصنائع ج9 ص235. (2) المغنى ج9 ص259 , البحر الرائق ج8 ص296. (3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبى ج2 ص250. (4) يرى الحسن بن حى أن الجد لا يدخل تحت لفظ الوالد. ويرد عليه بأن الحكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد ومن ثم كان الجد والداً. (5) المغنى ج9 ص361. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 حكم الجد. ويمتنع القصاص عن الوالد سواء كان مساويًا للولد فى الدين والحرية أو مخالفًا له فى ذلك؛ لأن انتفاء القصاص أساسه شرف الأبوة وهو موجود فى كل حال، فلو قتل الكافر ولده المسلم أو قتل الرقيق ولده الحر فلا قصاص لشرف الأبوة ومكانتها (1) . ولأحمد رأى آخر غير معمول به ملخصه: أن الابن لا يقتل بوالده لأنه مما لا تقبل شهادة له بحق النسب، فلا يقتل به كما لا يقتل الأب بولده حيث لا تقبل شهادة له. ورد هذا الرأى بأن النصوص العامة تقضى بأن يقتل كل منهما بالآخر لولا النص الخاص الذى جاء قاصرًا على الولد، وأن الوالد أعظم حرمة وحقًا على الابن من أى شخص أجنبى، فإذا كان الابن يقتل بالأجنبى فبالأب أولى، كذلك فإن الابن يحد بقذف الأب فيقتل به (2) . ويخالف مالك الفقهاء الثلاثة، ويرى قتل الوالد بولده كلما انتفت الشبهة فى أنه أراد تأديبه أو كلما ثبت ثبوتًا قاطعًا أنه أراد قتله، فلو أضجعه فذبحه أو شق بطنه أو قطع أعضاءه فقد تحقق أنه أراد قتله وانتفت شبهة أنه أراد من الفعل تأديبه ومن ثَمَّ يقتل به، أما إذا ضربه مؤدبًا أو حانقًا ولو بسيف أو حَذَفَه بحديدة أو ما أشبه فقتله فلا يقتص منه لأن شفقة الوالد على ولده وطبيعة حبه له تدعو دائمًا إلى الشك فى أنه قصد قتله، وهذا الشك يكفى لدرء الحد عنه (3) فلا يقتص منه، وإنما عليه دية مغلظة. والقتل - كما جاء فى المدونة - من العمد لا من الخطأ فهو فى حال القاتل لا تحمل العاقلة منه شيئًا (4) . والأصل أن الخطأ فيه دية مخففة لا دية مغلظة وأن الدية المغلظة هى العقوبة البدلية التى تحل محل القصاص، أى عقوبة العمد فهل اعتبر مالك   (1) المغنى ج9 ص361. (2) المغنى ج9 ص365. (3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص215 , المدونة ج16 ص106 - 108. (4) المدونة ج16 ص107 , 108. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 الفعل قتلاً عمدًا ودرأ القصاص للشبهة طبقًا لقوله عليه السلام: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" ومن ثم رأى القضاء بالدية المغلظة بدلاً من القصاص؟ أم أنه اعتبر الفعل قتلاً خطأ ورأى تغليظ الدية لشناعة الجريمة؟ الراجح أن الفعل يعتبر قتلاً عمدًا وأن القصاص درء للشبهة المتمكنة فى القصد كما سنبينه بعد، على أنه يمكن القول باعتبار الفعل خطأ ثم تغليظ الدية لشناعة الجريمة، والأم فى ذلك مثل الأب فى الحكم فى حالة تغليظ الدية، ومثل الوالد الجد ومثل الولد ولد الولد. وهناك رأى ثالث بأن مالكًا اعتبر الفعل قتلاً شبه عمد وأنه لم يسلم بالقتل شبه العمد إلا فى هذه الحالة، وهو رأى له سند فى المذهب وإنما جاء به أصحابه تعليلاً للحكم ولا شك أن أحد العقابين السابقين أجدر منه بالقبول واقرب إلى المبدأ الذى قام عليه المذهب. وبهذه المناسبة يحسن أن نفصل القول عن تطبيق قاعدة درء الحدود بالشبهات فى جريمة القتل، فمعنى هذه القاعدة أن كل شبهة قامت فى فعل الجانى أو قصده يترتب عليها درء الحد إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، ويعاقب الجانى بدلاً من عقوبة الحد بعقوبة تعزيرية ومن السهل تطبيق هذه القاعدة فى جرائم الحدود جميعًا على هذه الصورة ولكن تطبيق القاعدة فى جرائم القتل نادر مع وبهذه المناسبة يحسن أن نفصل القول عن تطبيق قاعدة درء الحدود بالشبهات فى جريمة القتل، فمعنى هذه القاعدة أن كل شبهة قامت فى فعل الجانى أو قصده يترتب عليها درء الحد إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، ويعاقب الجانى بدلاً من عقوبة الحد بعقوبة تعزيرية ومن السهل تطبيق هذه القاعدة فى جرائم الحدود جميعًا على هذه الصورة ولكن تطبيق القاعدة فى جرائم القتل نادر مع إمكانه فهى تقريبًا معطلة التطبيق وإن كانت فى الواقع تطبق معنًى لا صورة لأن القتل وهو فعل واحد قسم إلى أنواع مختلفة: عمد، وشبه عمد، وخطأ ففى العمد إذا قامت الشبهة فى الفعل فإنه لا يمكن درء الحد بالشبهة لأن الفعل بعد قيام الشبهة يكون قتلاً خطأ أو جرحًا وإذا قامت الشبهة فى القصد فإن الفعل يكون قتلاً شبه عمد، وهكذا يمنع تنوع القتل من تطبيق القاعدة وكذلك إذا كان الفعل قتلاً شبه عمد فقامت الشبهة فى الفعل أو القصد فإن الفعل يعتبر قتلاً خطأ أو جرحًا وإذا قامت الشبهة فى القتل الخطأ فإن الفعل يعتبر جرحًا خطأ فالشبهة فى القتل تحولّ نوع القتل إلى ما هو أدنى منه وتدرأ الحد الأعلى بالحد الأدنى فكأن القاعدة تطبق معنًى لا صورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وليس لتطبيق القاعدة مجال عند مالك لأنه يقسم القتل إلى نوعين فقط عمد وخطأ، لأن ما لا يعتبر عمدًا عنده يعتبر خطأ فإذا قامت الشبهة فى القصد أو الفعل اعتبر العمد قتلاً خطأ أو جرحًا. قتل الرجل بزوجته: ويقيس الليث بن سعد والزهرى الزوج على الأب. فالابن وماله ملك لأبيه طبقًا لحديث الرسول، والزوجة ملك للزوج بعقد النكاح فهى أشبه بالأمَة، فإذا منعت شبهة الملك القصاص هناك منعته كذلك هنا. ولكن جمهور الفقهاء لا يرون هذا الرأى وعلى الأخص فقهاء المذاهب الأربعة. فعندهم أن الزوجين شخصان متكافئان فيقتل كل منهما الآخر كالأجنبيين، وما يقال من أن الزوج يملك الزوجة غير صحيح، فهى حرة ولا يملك منها الزوج إلا متعة الاستمتاع فهى أشبه بالمستأجرة وفضلاً عن هذا فإن النكاح ينعقد لها عليه كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعًا سواها وتطالبه فى حق الوطء بما يطالبها ولكن له عليها فضل القوامة التى جعل الله عليها بما أنفق من ماله اى ما وجب عليه من صداق ونفقة، ولو أورث هذا شبهة لأورثها فى الجانبين لا فى جانب واحد. 155 - ثانيًا: يشترط مالك والشافعى وأحمد أن يكون المجنى عليه مكافئًا للجانى: فإن لم يكن مكافئًا امتنع الحكم بالقصاص ويعتبر المجنى عليه مكافئًا عندهم إذا لم يفضله الجانى بحرية أو إسلام فإذا تساويا فى الحرية والإسلام فهما متكافئان، ولا عبرة بعد ذلك بما بينهما من فروق أخرى؛ فلا يشترط التساوى فى كمال الذات، ولا سلامة الأعضاء ولا يشترط التساوى فى الشرف والفضائل فيقتل سليم الأطراف بمقطوعها، والصحيح بالمريض والأمثل، والكبير بالصغير، والقوى بالضعيف، والعالم بالجاهل، والعاقل بالمجنون، والأمير بالمأمور، والذكر بالأنثى ... الخ. ولا خلاف بين الفقهاء فى قتل الرجل والأنثى بالأنثى لقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 {الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة: 178] ، ولكنهم اختلفوا فى تفسير هذه الآية فمنهم من رأى أنها تعرضت لحكم النوع إذا قتل نوعه؛ ولكنها لم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل النوع الآخر، ومن ثم فقد اختلفوا فى ذلك إلى رأيين. الرأى الأول، وهو رواية عن على بن أبى طالب: يرى أصحاب هذا الرأى بأن الرجل يقتل بالمرأة ويُعطى أولياؤه نصف الدية. وحجة هذا الفريق أن النص لم يتعرض إلا لحكم النوع إذا قتل نوعه، وأن دية المرأة نصف دية الرجل، فإذا قتل بها بقى له بقية فيستوفى ممن قتله (1) ، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة. وإذا قتلت امرأة رجلاً فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها. ويقول القرطبى: إن أبا عمر علق على هذا الرأى بقوله: إذا كانت المرأة لا تكافئ الرجل ولا تدخل تحت قول النبى: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" فلم قتل الرجل بها وهى لا تكافئه؟ وكيف تؤخذ نصف الدية مع القتل وقد أجمع العلماء على أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن قبول الدية يحرم دم القاتل ويمنع القصاص؟ (2) . وأصحاب الرأى الثانى يرون أن الذكر يقتل بالأنثى كما تقتل الأنثى بالذكر. ومن هذا الرأى الأئمة الأربعة وحجتهم قوله تعالى: {الحُرُّ بِالْحُرِّ} وقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وأنه - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن بكتاب الفرائض والسنن وذكر فيه أن الرجل يقتل بالمرأة والرجل والمرأة شخصان يحد كل منهما بقذف الآخر، فيقتل كل منهما بالآخر كالرجلين، ولا يجب مع القصاص شئ لأنه قصاص واجب، فلا تجب معه الدية كسائر القصاص، واختلاف الديات لا عبرة به فى القصاص، بدليل أن الجماعة تقتل بالواحد، والنصرانى بالمجوسى مع اختلاف دينهما، والعبد بالعبد مع اختلاف قيمتهما.   (1) المغنى ج9 ص337 , 378. (2) القرطبى ج2 ص248. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 ومذهب الشيعة الزيدية أنه إذا قتلت امرأة رجلاً وجب أن تقتل المرأة بالرجل ولا يزيد شىء على قتلها، وإذا قتل الرجل المرأة قتل الرجل بها، ويستوفى ورثته - أى أولياء الدم - نصف دية، ولا يجب القصاص إلا بشرط التزامهم ذلك. ويشترط التكافؤ فى المجنى عليه لا فى الجانى، فإذا كان المجنى عليه لا يكافئ الجانى امتنع القصاص؛ كأن يكون القاتل مسلمًا والقتيل كافرًا، أو كان القاتل حرًا والقتيل عبدًا ولكن التكافؤ لا يشترط فى الجانى، فإن كان الجانى لا يكافئ المجنى عليه فإن هذا لا يمنع القصاص، لأن شرط التكافؤ وضع لمنع قتل الأعلى بالأدنى ولم يوضع لمنع قتل الأدنى بالأعلى، فإذا قتل الكافر مسلمًا أو العبد حرًا قُتل به على الرغم من انعدام التكافؤ بينهما؛ لأن النقص فى الجانى وليس فى المجنى عليه، والنقص هو الكفر والعبودية والزيادة هى الإسلام والحرية. أ - الحرية: يرى الأئمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد أن الحر لا يقتل بالعبد؛ لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من السنة أن لا يقتل حر بعبد" أو كما يروى عن ابن عباس: "لا يقتل حر بعبد" ويرون أن العبد منقوص بالرق فلا يكافئ الحر. والمكافأة بالحرية شرط عندهم فى المجنى عليه لا فى الجانى، فإذا كان المجنى عليه حرًا والجانى عبدًا اقتص من الجانى، وإذا كان المجنى عليه عبدًا والجانى حرًا لم يقتص من الجانى (1) . أما أبو حنيفة فيرى القصاص بين الأحرار والعبيد ولا يشترط التكافؤ فى الحرية للقصاص، ويستوى عنده أن يكون الحر هو القاتل للعبد أو العبد هو القاتل للحر، فالقصاص واجب الحكم به على الجانى فى الحالين. ولكن أبا حنيفة (2) يرى استثناء أن لا يقتل السيد بعبده فإذا كان القتيل مملوكًا للقاتل أو كان للقاتل فيه شبهة الملك، امتنع القصاص من القاتل؛ لقوله -   (1) مواهب الجليل ج6 ص236 وما بعدها , المهذب ج2 ص186 , المغنى ج9 ص248. (2) بدائع الصنائع ج7 ص235. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 صلى الله عليه وسلم -: "لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده" وعلة المنع أنه لو وجب القصاص لوجب للسيد ولا يمكن أن يكون القصاص له وعليه هذا إذا كان يملكه كله، فإن كان يملك بعه فلا يقتص منه؛ لأن القصاص عقوبة لا تتبعض فلا يمكن استيفاء بعضها دون بعض. وإذا كان له شبهة الملك فيه لا يقتص منه؛ لأن الشبهة فيما يقتص منه تلحق بالحقيقة درءًا للحد. أما إذا قتل العبد سيده فإنه يقتص منه؛ لأن معنى القصاص عام، ولم يستثن منه إلا قتل السيد لعبده. وظاهر مما سبق أن أبا حنيفة يتفق مع الأئمة الثلاثة فى قتل السيد لعبده ويختلف معهم فيما عدا ذلك. وهناك من يرى أن يقتص من السيد إذا قتل عبده فالنخعى وداود يريان قتل السيد بعبده؛ لما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه" (1) . هذه خلاصة آراء الفقهاء فى التكافؤ بين الحر والعبد رأينا الإتيان بها لإعطاء فكرة عن أحكام الشريعة فى هذه الناحية ونحن نعلم أن الرق قد أبطل اليوم، فلا سيد ولا مسود ولعل أول شريعة دعت إلى إبطال الرق وحثت عليه هى الشريعة الإسلامية. ب - الإسلام. قتل المسلم بغيره: يرى مالك والشافعى أن المسلم لا يقتل بكافر أيًا كان إذا قتله، لأن الكافر لا يكافئ المسلم ولكن الكافر يقتل بالمسلم إذا قتله لأنه قتل الأدنى بالأعلى ويرون تطبيق هذا الحكم على الذميين ولو أنهم يؤدون الجزية، وتجرى عليهم أحكام الإسلام. وحجتهم أن التكافؤ فى الإسلام شرط وجوب القصاص وأن الكفر نقصان فإذا وجد الكفر امتنعت المساواة ويمتنع وجوب القصاص لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يقتل مؤمن بكافر"   (1) المغنى ج9 ص349. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 ولأن فى عصمة الذمى شبهة العدم لثبوتها مع قيام المنافى وهو الكفر، والأصل فى الكفر أنه مبيح للدم، ولكن عقد الذمة منع الإباحة فبقاء الكفر يورث الشبهة والشبهة تدرأ الحد، وإذا كان المسلم لا يقتل بالمستأمن وهو كافر فكذلك الذمى (1) . ويرى أبو حنيفة أن المسلم يقتل بالذمى وأن الذمى يقتل بالمسلم؛ لأن النصوص التى جاءت بعقوبة القصاص عامة، فالله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِى القَتْلَى} [البقرة: 178] ويقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، ويقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] ، فهذه النصوص عامة لم تفصل بين قتيل وقتيل ونفس ونفس ومظلوم ومظلوم، فمن ادعى التخصيص والتقييد فهو يدعيه بلا دليل، ولقد قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] ، وتحقيق معنى الحياة فى قتل المسلم بالذمى أبلغ منه فى قتل المسلم بالمسلم؛ لأن العدواة الدينية تحمله على القتل خصوصًا عند الغضب فكانت الحاجة إلى الزاجر أمسّ وكان فرض القصاص أبلغ فى تحقيق معنى الحياة. ويخالف الإمام مالك زميله فيرى قتل المسلم بالذمى إذا قتله غيلة، والغيلة هى أن يخدعه غيره ليدخله موضعًا يأخذ ماله. والقتل الغيلة هو نوع من الحرابة عند مالك، ولا يعترف به الشافعى وأحمد وأبو حنيفة (2) ، فإن للقتل الغيلة حكمًا خاصًا فهو قتل فيه القصاص إن توفرت شروطه وإذا كان مالك يقيسه على الحرابة فإنهم لا يرون ذلك (3) . كذلك يحتجون بما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنه أقاد مؤمنًا بكافر وقال: "أنا أحق من وفَى بذمته" ويفسرون حديث: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد فى عهد" بأن المراد من "الكافر" المستأمن، وأن "ذو عهد" معطوف   (1) مواهب الجليل ج6 ص236 وما بعدها , المهذب ج2 ص185 , المغنى ج9 ص341 وما بعدها. (2) مواهب الجليل ج6 ص333. (3) الشرح الكبير ج9 ص383. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 على "مؤمن"، فمعنى الحديث: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد بكافر. ويردون على القول بأن فى عصمة الذمى شبهة العدم: بأن دم الذمى حرام لا يحتمل الإباحة بحال مع قيام الذمة، وأنه بمنزلة دم المسلم مع قيام الإسلام، وأن الكفر ليس مبيحًا على الإطلاق، وأن الكفر المبيح هو الكفر الباعث على الحرب، وكفر الذمى ليس بباعث على الحرب فلا يكون مبيحًا. كذلك فإن المساواة فى الدين ليست بشرط للقصاص، لأن الذمى إذا قتل ذميًا ثم اسلم القاتل فإنه يقتل به قصاصًا، كما يسلم به الجميع، ولا مساواة بينهما فى الدين وقد قال على رضى الله عنه: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا، وذلك بأن تكون معصومة بلا شبهة كعصمة دم المسلم وماله، ولهذا يُقطع المسلم بسرقة مال الذمى ولو كان فى عصمته شبهة لَماَ قُطع المسلم كما لا يقطع فى سرقة مال المستأمن، لأن المال تبع للنفس وأمر المال أهون من النفس فلما قطع بسرقته كان أولى أن يقتل بقتله لأن أمر النفس أعظم من المال (1) . ورأى أبى حنيفة يتفق مع القوانين الوضعية الحديثة، فهى لا تفرق فى العقوبة لاختلاف الدين، والقانون المصرى لا يفرق بين ذمى ومسلم فكلاهما يقتل بالآخر. قتل المسلم فى دار الحرب: يرى أبو حنيفة أنه إذا قتل ملم حربيًا اسلم وبقى فى دار الحرب، فلا قصاص على القاتل، لأنه وإن قتل مسلمًا إلا أن المقتول من أهل دار الحرب، فكونه من أهل دار الحرب يورث شبهة فى عصمته لأنه إذا لم يهاجر إلى دار الإسلام فهو مكثر سواد الكفار، ومن كثر سواد قوم منهم على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو وإن لم يكن منهم دينًا فهو منهم دارًا وهذا هو الذى أورثه الشبهة. ولو كانا مسلمين تاجرين أو أسيرين فى دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فلا قصاص أيضًا (2) للشبهة ولتعذر الاستيفاء.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص237 , البحر الرائق ج8 ص296. (2) بدائع الصنائع ج7 ص133 , 237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 أما الأئمة الثلاثة فيرون القصاص، سواء كان القتل فى دار الحرب أو دار الإسلام، وسواء هاجر القتيل أم لم هاجر (1) . قتل الكافر بغيره: وإذا قتل الذمى مسلمًا قتل به اتفاقًا لأنه فى رأى أبى حنيفة قتل داخل تحت النصوص العامة، وعند الأئمة الثلاثة يقتل به مع وجود التفاوت؛ لأنه تفاوت إلى النقصان ولا يمنع القصاص إلا التفاوت إلى زيادة ولا يعتبر قتل الذمى للحربى جريمة اتفاقًا؛ لأن الحربى مباح الدم على الإطلاق (2) . ولا يقتل الذمى بالمستأمن عند أبى حنيفة؛ لأن عصمة المستأمن ليست مطلقة بل هى مؤقتة إلى غاية مقامه فى دار الإسلام، إذ المستأمن أصلاً من أهل دار الحرب، وإنما دخل دار الإسلام لعارض على أن يعود إلى وطنه الأصلى فكانت فى عصمته شبهة العدم. ويرى أبو يوسف أنه يقتل به قصاصًا لقيام العصمة وقت القتل (3) . ويقتل المستأمن بالمستأمن عند أبى حنيفة قياسًا، ولا يقتل قياسًا لقيام المبيح (4) . ويرى مالك والشافعى وأحمد أن الكفار يقتلون بعضهم ببعض دون تفريق فالذمى يقتل بأى كتابى أو مجوسى أو مستأمن (5) ولو اختلفت ديانتهم. 156 - ثالثًا: إذا لم يباشر الجانى الجناية ولكنه عاون عليها أو حرض عليها: محل هذا الشرط أن يتعدد الجناة؛ لأن الجانى الواحد يباشر الجناية بنفسه سواء كان القتل مباشرة أو تسببًا، أما إذا تعدد الجناة فإن بعضهم قد يباشر الجناية بنفسه، وبعضهم قد يعين المباشرين وبعضهم قد يحرض على الجناية.   (1) المغنى ججج9 ص335. (2) المغنى ج9 ص347. (3) بدائع الصنائع ج7 ص236. (4) البحر الرائق ج8 ص296. (5) مواهب الجليل ج6 ص237 , الشرح الكبير ج4 ص214 , المغنى ج9 ص342. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 ومن المتفق عليه بين الفقهاء الأربعة أن تعدد الجناة لا يمنع من الحكم عليهم بالقصاص ما دام كل منهم قد باشر الجناية (1) ، وإذا كان القصاص يقتضى المماثلة فإن المماثلة شرط فى الفعل لا فى عدد الجناة والمجنى عليهم، وأحق ما يجعل فيه القصاص إذا قتل الجماعة الواحد لأن القتل لا يوجد عادة إلا على سبيل الاجتماع، فلو لم يجعل فيه القصاص لانسد باب القصاص، إذ كل من رام قتل غيره استعان بغيره يضمه إليه ليبطل القصاص عن نفسه، وفى هذا ما يفوت الغرض من فرض القصاص وهو الحياة ومنع القتل، قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] . وهناك رواية عن أحمد: بأن القصاص يسقط عن الجناة إذا تعددوا وتجب عليهم الدية. ويرى ابن الزبير وابن سيرين وآخرون: أن يقتل من القاتلين واحد ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية، وحجتهم فى عدم القصاص من الجمع أن كل واحد منهم مكافئ للجانى، فلا يستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد وأن الله تعالى قال: {الحُرُّ بِالْحُرِّ} ، و {النَّفْسَ بالنَّفْس} ومقتضاه أن لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة (2) . وإذا كان الفقهاء الأربعة قد اتفقوا على القصاص من الجماعة للفرد إذا باشروا القتل، فإنهم اختلفوا فى حالة الإعانة على القتل أو التحريض عليه، والمسائل المختلف عليها أربع: أولها: الإعانة فى حالة التمالؤ. ثانيها: إمساك القتيل للقاتل. ثالثها: الأمر بالقتل. رابعها: الإكراه على القتل. أولاً: الإعانة فى حالة التمالؤ: ذكرنا قبلاً أن التمالؤ عند أبى حنيفة هو التوافق. وأن باقى الأئمة يرون التوافق قتلاً على الاجتماع لا تمالؤ فيه، وأن التمالؤ عندهم هو الاتفاق السابق على ارتكاب جريمة القتل، والفرق بين الحالتين أن المباشرين فى حالة الاتفاق يعتبر   (1) راجع الفقرات من 52 إلى 54. (2) المغنى ج9 ص336 , 337. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 كل منهم قاتلاً، ولو كان فعله بالذات غير قاتل، ما دام الموت كان نتيجة أفعال الجميع أما فى حالة التوافق فلا يعتبر المباشر قاتلاً إلا بشروط بيناها عند الكلام على القتل على الاجتماع. ولا خلاف فى أن القاتل فى الحالتين يقتص منه ولو تعدد المباشرون سواء كان اجتماعهم على القتل نتيجة اتفاق سابق أو توافق غير منتظر. ولكن الخلاف فى حكم من اتفق ولم يحضر القتل، أو أعان عليه ولم يباشره فأبو حنيفة والشافعى وأحمد يرون القصاص من المباشر فقط، وتعزير من لم يباشر. ومالك يرى قتل من حضر ولم يباشر ومن أعان ولم يباشر، كأن كان ربيئة أو حارسًا للأبواب، أما من اتفق ولم يحضر فعليه التعزير فى الراجح. ويشترط فيمن حضر أو من أعان أن يكونوا بحيث لو استعان بهم أعانوا، أو إذا لم يباشره أحد المتماثلين باشره الآخر فشرط القصاص إذن أن يكون المتمالئ غير المباشر فى محل الحادث أو على مقربه منه، وليس من الضرورى أن يباشر القتل بنفسه (1) . وقد جاء فى فتاوى ابن تيمية (2) أمثلة على هذه الحالات المختلفة ففيها إذا اشترك جماعة فى قتل معصوم "أى محرم القتل" بحيث أنهم جميعًا لو باشروا قتله، وجب القود - أى القصاص - عليهم جميعًا، وإن كان بعضهم قد باشر وبعضهم قائم بحرس المباشر ويعاونه ففيها قولان: أحدهما: لا يجب القود إلا على المباشر، وهو قول أبى حنيفة والشافعى وأحمد، والثانى: يجب على الجميع وهو قول مالك. وجاء فى الفتاوى أيضًا: أنه إذا اشترك أولاد رجل مع أجنبى فى قتل والدهم جاز قتلهم جميعًا، فقتل المباشر باتفاق الأئمة، وأما الذين أعانوا بمثل إدخال الرجل إلى البيت ... الأبواب ونحو ذلك، ففى قتلهم قولان وقتلهم مذهب مالك   (1) مواهب الجليل ج6 ص242 , الشرح الكبير ج4 ص218 , القصاص ص127 وما بعدها , أحكام المرأة ص584 وما بعدها. (2) فتاوى ابن تيمة ج4 ص187 , 188 طبعة سنة 1329 هـ بمصر مطبعة كردستان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وغيره. وجاء فى الفتاوى أيضًا: إذا وعد رجل رجلاً آخر على قتل معصوم بمال معين فقتله وجب القتل على الموعود وأما الواعد فيجب أن يعاقب عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا وعند بعضهم يجب عليه القود. ثانيًا: إمساك القتيل للقاتل: إذا أمسك رجل آخر فجاء ثالث فقتله فلا مسئولية على الممسك إذا لم يمسكه بقصد القتل أو لم يكن يعلم أن القاتل سيقتله أما إذا أمسكه بقصد القتل فقتله الثالث فلا خلاف فى القصاص من الثالث أى مباشر القتل، ولكنهم اختلفوا فى الممسك على الوجه الذى سنبينه بعد. فمالك (1) يرى الممسك قصاصًا إذا أمسك القتيل لأجل القتل فقتله الطالب وهو يعلم أن الطالب سيقتله لأنه بإمساكه تسبب فى قتله ويشترط البعض أن يكون لولا الإمساك ما أدركه الطالب، ولا يشترط البعض هذا الشرط (2) . فإن أمسكه ليضربه الطالب ضربًا معتادًا أو لم يعلم أنه يقصد قتله لعدم رؤيته آلة القتل معه مثلاً، أو كان قتله لا يتوقف على الإمساك فعقاب الممسك هو التعزير وليس القصاص. ويلحق مالك بالممسك الدال على القتيل إذا ثبت أنه لولا دلالته ما قتل المدلول عليه (3) . ويرى أبو حنيفة (4) والشافعى (5) تعزير الممسك ولو أمسك المجنى عليه بقصد القتل وهو عالم بأنه سيقتل لأنه فعل الطالب مباشرة وفعل الممسك تسبب وقد تغلبت المباشرة على السبب وقطعت أثره كما أن السبب غير ملجئ. وفى مذهب أحمد (6) رأيان: أولهما: يرى القصاص من الممسك، لأنه لو لم   (1) الشرح الكبير ج4 ص217. (2) القصاص ص132. (3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص217. (4) البحر الرائق ج8 ص345. (5) نهاية المحتاج ج7 ص244. (6) الشرح الكبير ج9 ص235 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 يمسك القتيل ما قدر الطالب على قتله، فالقتل حاصل بفعلهما معًا فهما شريكان فيه وعليهما القصاص، وإذا كان فعل الطالب مباشرة وفعل الممسك تسببًا فإنهما قد تعادلا واشتركا فى إحداث الموت. وهذا الرأى يتفق مع مذهب مالك، وهو الرأى المرجوح فى مذهب أحمد. أما الرأى الثانى: فيرى أصحابه حبس الممسك حتى الموت، لما روى عن ابن عمر عن النبى عليه السلام قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذى قتل ويحبس الذى أمسك لأنه حبسه إلى الموت" ولأن عليًا رضى الله عنه قضى بقتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت. ويرى البعض أن مدة الحبس متروك تقديرها لولى الأمر، لأن الحبس نوع من التعزير وليس حدًا (1) . وإذا اعتبرنا الحبس تعزيرا لا حدًا، فإن الرأى الثانى فى مذهب أحمد يتفق مع مذهب أبى حنيفة والشافعى. ويفسر الفقهاء الإمساك بمعناه الأعم، فلا يقصرونه على الإمساك باليد؛ فيدخل تحته منع القتيل من مبارحة مكانه بأى وسيلة كانت حتى يتمكن منه القاتل، أو حبس القتيل فى مكان لا يستطيع الخروج منه، فإذا اتبع رجل آخر ليقتله فهرب منه فقابله ثالث فقطع رجله ثم أدركه الطالب فقتله فإن كان الثالث قطع رجله ليحبسه عن الهرب حتى يلحق به الطالب فحكمه حكم الممسك فيما يتعلق بالقتل لأنه حبسه بفعله على القتل، ثم هو مسئول بعد ذلك عن القطع عمدًا (2) . ثالثًا: الأمر بالقتل: يفرق الفقهاء بين الأمر بالقتل والإكراه على القتل ففى الأمر بالقتل لا يكون المأمور مكرهًا على إتيان الجريمة فيأتيها مختارًا وإذا كان قد أمر بإتيانها فإن الأمر ليس له أثر على اختياره، وقد يكون الأمر ذا سلطان على المأمور كالأب يأمر ولده الصغير، والحاكم يأمر من هو   (1) أحكام المرأة ص583 , مجلة القانون والاقتصاد , السنة السادسة. (2) الشرح الكبير ج9 ص344. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 تحت إمرته، وقد لا يكون له سلطان عليه، وفى هذه الحالة الأخيرة يكون الأمر مجرد تحريض على إتيان الجريمة، ولكل حالة من هذه الحالات حكمها. فإذا كان المأمور غير مميز كالصبى أو المجنون، فيرى مالك والشافعى وأحمد القصاص من الآمر، لأنه هو المتسبب فى القتل، وإن كان المأمور هو الذى باشره فما هو إلا آلة للآمر يحركها كيف شاء (1) ، ولا يرى أبو حنيفة القصاص من الآمر لأنه تسبب فى القتل ولم يباشره والتسبب عند أبى حنيفة لا قصاص فيه. وإذا كان المأمور بالغًا عاقلاً ولا سلطان للآمر عليه، فيرى مالك والشافعى وأحمد القصاص من المأمور، أما الآمر فعليه التعزير ويرى مالك القصاص من الآمر أيضًا إذا حضر القتل، وهذا يتفق مع رأيه فى التمالؤ فإذا لم يحضره فعليه التعزير، وينبغى أن يلحق بحضور القتل الإعانة عليه لأن المعين عند مالك يقتص منه (2) . وإذا كان المأمور بالغًا عاقلاً وكان للآمر سلطان عليه بحيث يخشى أن يقتله لو لم يطع الأمر، فيقتص من الآمر والمأمور معًا عند مالك لأن الأمر فى هذه الحالة يعتبر إكراهًا، فإن لم يكن المأمور يخشى القتل إذا لم يطع الأمر فالقصاص على المأمور وحده ويعزز الآمر إذا كان المأمور يعلم أن القتل بغير حق، فالقصاص على الآمر دون المأمور لأنه معذور فى طاعة الأمر، هذا إذا كان الأمر من حق الآمر كوال أو سلطان، فإن لم يكن من حقه فالقصاص على المأمور؛ لأن الطاعة لا تلتزمه ولأن الآمر ليس له الأمر بالقتل، بخلاف السلطان فله الأمر بالقتل وطاعته واجبة فى غير معصية (3) . ويتفق رأى أحمد فيما سبق مع رأى مالك تماما الاتفاق (4) ، ويتفق رأى الشافعى معهما كذلك إلا أنه فى المذهب رأيان فى المأمور فى حالة اعتبار الأمر   (1) الشرح الكبير للدردير ج9 ص324 , المهذب ج2 ص189 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص218. (2) نفس المراجع السابقة. (3) الشرح الكبير للدردير ج9 ص342 , المدونة ج16 ص43 , 44. (4) الشرح الكبير ج9 ص342 , 343. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 إكراهًا، أحدهما يرى أصحابه القصاص من الآمر دون المأمور، والثانى - وهو الأصح - يرى أصحابه القصاص منهما معًا (1) . وعند أبى حنيفة يقتص من الآمر فى حالة الإكراه فقط لأن المأمور كان معه كالآلة يحركها كيف يشاء فكأنه باشر القتل بنفسه، فإذا لم يكن الأمر إكراهًا فلا قصاص على الآمر لأنه لم يباشر القتل بنفسه أما المأمور فيقتص منه إذا لم يكن مكرهًا وكان الأمر صادرًا له ممن لا حق فيه، فإن كان صادرًا ممن يملكه فلا قصاص ولو كان المأمور يعلم أن الأمر غير محق لأن الأمر يكون شبهة تدرأ القصاص (2) . رابعًا: الإكراه على القتل: تكلمنا عن الإكراه فى الجزء الأول من هذا الكتاب ولا نرى ما يدعو لتكرار القول، ولكننا نلخص آراء الفقهاء فى نوع عقوبة كل من الحامل - أى المكره - والمباشر، وذلك ما نحن فى حاجة إليه فى هذا المقام. مذهب مالك وأحمد والرأى الصحيح فى مذهب الشافعى على أن القصاص واجب على المكره، والمكره معًا؛ لأن الحامل - أى المكره - تسبب فى القتل بمعنًى يفضى إليه غالبًا، ولأن المباشر - أى المكرَه - قتل المجنى عليه ظلمًا لاستبقاء نفسه فأشبه ما إذا اضطر للأكل فقتله ليأكله، والقول بأنه ملجأ غير صحيح لأنه يستطيع أن يمتنع عن القتل ولكنه لم يفعل إبقاء على نفسه (3) . وعند أبى حنيفة ومحمد أن القصاص يجب على الحامل دون المباشر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وعفو الشىء عفو عن موجبه، فظاهر الحديث يدل على أن الفعل المستكره عليه معفو عنه بالنسبة لمن باشره، ولأن الحامل هو القاتل معنًى وإن كان المباشر هو الذى قتل صورةً، إذ المباشر كان آلة للحامل يحركه كما يشاء (4) وهذا الرأى يتفق مع الرأى الضعيف   (1) المهذب ج2 ص189. (2) بدائع الصنائع ج7 ص236 , القصاص ص133 , 134 , أحكام المرأة ص582. (3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص216 , المغنى ج9 ص331 , المهذب ج2 ص189. (4) بدائع الصنائع ج7 ص180. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 فى مذهب الشافعى. ويرى زفر أن القصاص على المباشر فقط لأنه هو القاتل حقيقة حسًا ومشاهدة (1) . ويرى أبو يوسف أن لا قصاص على الحامل ولا على المباشر؛ لأن المكره مسبب للقتل ولا قصاص على متسبب، وإذا لم يجب القصاص على الحامل فأولى أن لا يجب على المباشر (2) . التفرقة بين الفاعل والشريك: ونخلص مما سبق أن الفقهاء يفرقون بين المباشر للجريمة ومن اتفق أو أعان أو حرض عليها، فالمباشر هو من ارتكب الجريمة وحده أو مع غيره أو أتى عملاً من الأعمال المكونة للجريمة، ومن المتفق عليه أن عقوبة المباشر هى القصاص، أما من اتفق أو أعان أو حرض، أى من اشترك فى الجريمة، فحكمهم ليس واحدًا، فمن اتفق أو حرض فجزاؤه التعزير عند الأئمة عدا مالكًا، أما من أعان فجزاؤه القصاص عند مالك والتعزير عند باقى الأئمة. والقانون المصرى يفرق بين عقوبة المشاركين فى القتل وعقوبة الفاعلين الأصليين، إذ تنص المادة (235) عقوبات على أن المشاركين فى القتل الذى يستوجب الحكم على فاعله بالإعدام يعاقبون بالإعدام أو بالأشغال الشاقة المؤبدة. أى أن القانون المصرى يخالف بين عقوبة الفاعل والشريك ولا يسوى بينهما، وهذه هى وجهة نظر الفقهاء فكأن نص القانون فى هذه المسألة تطبيق لنظرية فقهاء الشريعة، وإذا كان القانون قد أجاز الحكم بالإعدام فإن عقوبات التعزير من ضمنها عقوبة الإعدام. 157- هل يؤثر إعفاء أحد الفاعلين من القصاص على عقوبة الباقين؟: علمنا مما سبق أن تعدد القاتلين لا يمنع من الحكم عليهم بعقوبة القصاص جزاء على جريمة القتل العمد، ولكن يحدث أن يكون بين الفاعلين من لا يمكن نسبة القتل العمد إليه كمن يحدث بالمجنى عليه إصابة قاتلة خطًا أدت مع إصابات المتعمدين   (1) بدائع الصنائع ج7 ص179. (2) بدائع الصنائع ج7 ص179. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 إلى الوفاة، لذلك يحدث أن يكون بين الفاعلين من لا يمكن أن يعاقب بالقصاص طبقًا للقواعد كالصغير والمجنون فهل يؤثر إعفاء المخطئ والصغير والمجنون من عقوبة القصاص على مركز بقية الفاعلين فلا يقتص منهم أيضًا؟ ذلك ما سنفصله فيما يأتى: إن إعفاء أحد الفاعلين أو بعضهم من القصاص يرجع إلى حالتين لا ثالث لهما: الأولى: أن يكون الإعفاء راجعًا إلى صفة الفعل. الثانية: أن يكون الإعفاء راجعًا إلى صفة الفاعل. الحالة الأولى: امتناع القصاص لصفة فى الفعل: يمتنع القصاص عن الفاعل إذا لم يكن فعله موجبًا للقصاص كأن كان فعله قتلاً خطأ أو قتلاً شبه عمد، فإذا كان فعله هكذا قلنا إن القصاص امتنع عنه لصفة فى فعلة أو لعدم إيجاب الفعل للقصاص. وقد انقسم الفقهاء إزاء هذه الحالة قسمين: الأول يرى أن امتناع القصاص عن أحد الفاعلين لأن فعله لا يوجبه يستلزم منع القصاص عن بقية الفاعلين ولو كان فعلهم موجبًا للقصاص، كالعامد مع المخطئ فإن المخطئ لا يقتص منه أصلاً لأن فعله لا يوجب القصاص والعامد يقتص منه لأن فعله يوجب القصاص، ولكنهما إذا اشتركا معًا فى قتل امتنع القصاص عن العامد بامتناعه عن المخطئ لأنه من المحتمل أن يكون فعل المخطئ هو الذى أدى للقتل كما يحتمل أن يكون فعل العامد هو الذى أدى للقتل، وقيام هذا الاحتمال شبهة توجب درء الحد عن العامد تطبيقًا لقاعدة: ادرؤوا الحدود بالشبهات. وهذا الرأى هو مذهب أبى حنيفة والشافعى والرأى الراجح فى مذهبى مالك وأحمد (1) . والثانى يرى أن إعفاء أحد الفاعلين من عقوبة القصاص لأن فعله لا يوجبها لا يؤثر شيئًا على عقوبة القصاص التى يستحقها باقى الجناة بأفعالهم، وما دام أنهم   (1) بدائع الصنائع ج7 ص235 , نهاية المحتاج ج7 ص262 , مواهب الجليل ح6 ص243 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص28 , 219 , المغنى ج9 ص379 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 تشاركوا فى القتل عادين متعمدين فعليهم عقوبة القصاص؛ لأن كل إنسان يؤاخذ بفعله ولا أثر لفعل غيره عليه. وهذا هو الرأى المرجوح فى مذهبى مالك وأحمد. وقد اتفق الفريق الأول فى تطبيق القاعدة التى أقرها على العامد مع المخطئ فأجمع على عدم القصاص من شريك المخطئ ولو كان عامدًا، ولكنهم اختلفوا فيما عدا ذلك وأساس اختلافهم هو تطبيق القاعدة لا غير، فمنهم من رأى تطبيقها فى كل حالة لا يعاقب فيها أحد الشركاء وهؤلاء هم الحنفية أو بعض فقهاء المذاهب الأخرى، ومنهم من رأى تطبيقها فقط إذا كان فعل المعفى غير متعمد فإن كان متعمدًا فلا تنطبق القاعدة. ومن المسائل التى اختلفوا عليها شريك نفسه وشريك السبع، فأبو حنيفة يرى أن لا قصاص على الشريك لأنه شارك من لا يجب عليه القصاص فلا يلزمه القصاص كشريك المخطئ، ويرى هذا الرأى أيضًا بعض فقهاء المذاهب الثلاثة، أما البعض الآخر فيرى القصاص على الشريك لأنه شارك من فعله عمد. الحالة الثانية: امتناع القصاص لصفة فى الفاعل: تختلف هذه الحالة عن الحالة الأولى فى أن القصاص هنا يمتنع عن أحد القاتلين لصفة فيه لا لصفة فى الفعل، وهذه الصفة المتوفرة فى الفاعل يترتب عليها شرعًا أن لا يعاقب بالقصاص، ومثال ذلك اشتراك الأب فى قتل ولده مع أجنبى فإن الأب لا يقتص منه لقتل ولده لصفة الأبوة القائمة فيه. ومثاله أيضًا أن يقطع شخص يد آخر قصاصًا أو دفاعًا عن نفسه فيجئ ثالث ويجرح المقطوع جرحًا يؤدى مع القطع إلى موته، فإن المقتص أو الدافع لا قصاص عليهما لصفة القصاص والدفاع المتوفرة فيهما والتى يترتب عليها شرعًا امتناع القصاص منهما. وقد اختلف الفقهاء فى حكم هذه الحالة أيضًا: فأبو حنيفة يرى أن امتناع القصاص فى حق أحد الشركاء يترتب عليه منع القصاص فى حق الآخرين لاحتمال أن يكون القتل من فعل المعفى من القصاص وهذا الاحتمال شبهة تدرأ الحد عمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 يجب عليهم القصاص. ولأحمد رواية مرجوحة فى المذهب تتفق مع هذا الرأى. ومن هذا الرأى أيضًا بعض فقهاء مذهب مالك (1) . ويرى الشافعى وفريق من فقهاء مذهب مالك ومذهب أحمد (2) أن إعفاء أحد الشركاء من القصاص لا يمنع القصاص عن الآخرين؛ لأن القصاص امتنع عن الشريك لمعنًى يخصه ولا يتوفر فى باقى الشركاء فلا يتعدى إليهم ما دام أنه غير قائم فيهم. ولكن أصحاب هذا الرأى اختلفوا فى الصبى والمجنون، فبعضهم يرى أن شريك الصبى والمجنون لا يقتص منه والقائلون بهذا ينظرون إلى فعل الصبى والمجنون ويقولون إن من المتفق عليه بين أغلب الفقهاء أن عمد الصبى والمجنون خطأ فإذا كان فعلهما يوصف بأنه خطأ ولا قصاص فى الخطأ فشريكهما يأخذ حكم العامد مع المخطئ ولا يقتص منه. فهذا الفريق يغلب صفة الفعل على صفة الفاعل. والفريق الثانى يأخذ برأى الشافعى وهو أن عمد الصبى والمجنون عمد ويرى أن الإعفاء من القصاص أساسه صفة الفاعل وإذن فلا يستفيد منه الشريك. والفريق الثالث يرى أن العبرة بفعل الشريك فما دام أنه تعمد الفعل وجبت عليه عقوبة العامد دون النظر إلى فعل شريكه أو صفته (3) . 158- رابعًا: القتل بالتسبب: يرى أبو حنيفة دون غيره من الأئمة أن القتل بالتسبب لا وجب الحكم بالقصاص لأن القصاص قتل بطريق المباشرة فيجب أن يكون الفعل المقتص عنه قتل بطريق المباشرة ما دام أن أساس عقوبة القصاص المماثلة فى الفعل (4) ، ويوجب الدية بدلاً من القصاص. ولكن الأئمة الثلاثة لا يرون فرقًا بين القتل بالتسبب والقتل المباشر فكلاهما قتل يعاقب عليه بالقصاص، ورأيهم يتفق مع القانون المصرى وغيره من القوانين الوضعية.   (1) البحر الرائق ج2 ص301 , مواهب الجليل ج6 ص242 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص218 , 219. (2) نهاية المحتاج ج7 ص262 وما بعدها , المغنى ج9 ص373 وما بعدها , المهذب ج2 ص297. (3) المغنى ج9 ص379 وما بعدها. (4) بدائع الصنائع ج7 ص239. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 159- خامسًا: أن يكون الولى مجهولاً: إذا كان ولى القتيل مجهولاً لا يجب الحكم بالقصاص فى رأى أبى حنيفة؛ لأن وجوب القصاص وجوب للاستيفاء والاستيفاء من المجهول متعذر فتعذر الإيجاب له (1) . ويخالف فى ذلك باقى الأئمة. 160- سادسًا: أن لا يكون القتل فى دار الحرب: يرى أبو حنيفة أن لا قصاص من القاتل إذا كان القتل فى دار الحرب، وهو يفرق بين حالتين: حالة ما إذا كان القتيل من أهل دار الحرب ثم أسلم ولم يهاجر إلى دار الإسلام، وحالة ما إذا كان القتيل من دار الإسلام ولكنه دخل دار الحرب بإذن كالتاجر أو مضطرًا كالأسير، ففى الحالة الأولى لا عقاب على القاتل، وفى الحالة الثانية عليه الدية فى حالة التاجر ولا تجب عليه فى حالة الأسير، ويخالفه فى هذا محمد وأبو يوسف وأساس التفرقة بين الحالين أن العصمة فى الحالة الأولى محل شبهة لأن القتيل وإن كان مسلمًا فهو من أهل دار الحرب لقوله تعالى: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92] فكونه من أهل دار الحرب أورث شبهة فى عصمته، ولأنه إذا لم يهاجر إلينا مكثر سواد الكفار ومن كثر سواد قوم فهو منهم على لسان رسول الله، وهو وإن لم يكن منهم دينًا فهو منهم دارًا، والخلاصة إن إسلامه لا يعصمه لأن العصمة عند أبى حنيفة لا تكون بالإسلام فقط وإنما بالإسلام وبمنعة الدار. أما الحالة الثانية فليس فيها قصاص لأن الجريمة وقعت فى مكان لا ولاية للمسلمين عليه، والحدود يشترط للحكم بها عند أبى حنيفة القدرة على الاستيفاء وقت وقوع الجريمة (2) . أما مالك والشافعى وأحمد فيرون القصاص من القاتل سواء كان القتيل فى دار الإسلام أو فى دار الحرب، وسواء هاجر المقتول من دار الحرب أو لم يهاجر ما دام القاتل قد قتل وهو يعلم بإسلام القتيل لأنه قتل معصومًا بالإسلام ظلمًا (3) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص240. (2) بدائع الصنائع ج7 ص133 , 237. (3) الشرح الكبير ج9 ص382 , 383. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 161- مدى لزوم القصاص: وعقوبة القصاص لازمة إلا إذا رأى ولى القتيل العفو فإن عفا فلا قصاص. ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن لولى القتيل أن يقتص من القاتل أو يعفو عنه إما على الدية أو مجانًا، ولكنهم اختلفوا فى حالة ما إذا عفا الولى عن القصاص على أن يأخذ الدية، فرأى مالك وأبو حنيفة أن عفو الولى لا يلزم الجانى بالدية إلا إذا قبل أن يدفعها فى مقابل العفو، عنه ورأى الشافعى وأحمد أن عفو الولى عن القصاص إلى الدية ملزم للجانى ولو كان العفو بغير رضاه. وأساس الاختلاف أن مالكًا وأبا حنيفة يريان أن القصاص واجب عينًا بينما الشافعى وأحمد يريان أن القصاص ليس واجبًا عينًا وأن الواجب هو أحد الشيئين غير عين؛ إما القصاص وإما الدية وللولى خيار التعيين إن شاء استوفى القصاص وإن شاء أخذ الدية من غير توقف على رضاء القاتل وعلى اعتبار التعزير بدلاً من الدية. ويترتب على اعتبار الدية والتعزير بدلاً من القصاص نتيجتان: أولاهما: أنه لا يجوز للقاضى أن يجمع بين عقوبة وبدلها جزاء عن فعل واحد سواء كانت العقوبة المبدل بها عقوبة أصلية أو بدلاً من عقوبة أصلية لأن الجمع بين البدل والمبدل يتنافى مع طبيعة الاستبدال، ولكن يجوز الجمع بين عقوبتين بدليتين كما يجوز الجمع بين عقوبتين أصليتين فمن ارتكب جريمة قتل لا يجوز الحكم عليه بالقصاص والدية أو القصاص والتعزير؛ لأن الدية والتعزير كلاهما بدل من القصاص فلا يحكم بهما إلا إذا امتنع الحكم به، فإذا امتنع الحكم بالقصاص جاز الحكم بالدية والتعزير مجتمعين أو منفردين لأن كلاهما بدل من القصاص، كما يجوز الجمع بين القصاص وبين الكفارة وكلاهما عقوبة أصلية. ويجوز الجمع بين العقوبة البدلية والعقوبة الأصلية مع بقاء القاعدة سليمة وذلك إذا تعددت الأفعال ولم تكن العقوبة البدلية المحكوم بها بدلاً عن عقوبة أصلية محكوم بها، كمن قتل ثلاثة أشخاص فحكم عليه بالقصاص لقتل أحدهم، وبالدية لقتل الثانى لوجود مانع عن الحكم بالقصاص كأن كان القتيل ولد القاتل، وبالتعزير لقتل الثالث لامتناع الحكم بالقصاص والدية كأن عفا ولى القتيل عن القاتل عفوًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 مطلقًا، ففى هذه الحالة اجتمع القصاص مع الدية والتعزير والأول عقوبة أصلية وكل من الثانى والثالث عقوبة بدلية وقد جاز الجمع لأن العقوبات المحكوم بها ليس فيها عقوبة بدلاً من أخرى وإنما العقوبة البدلية تمثل عقوبة لم يحكم بها. 162- تعدد القتلى: وتظهر أهمية التفرقة بين هذين الرأيين المختلفين فى حالة تعدد القتلى إذا كان القاتل واحدًا. فمالك وأبو حنيفة يريان أن الواحد إذا قتل جماعة قتل بهم قصاصًا ولا يجب مع القتل شئ من المال، سواء كان الجانى قتلهم مرة واحدة أو قتلهم على التعاقب، وسواء كان الأولياء قد طلبوا كلهم قتله أو طلب بعضهم قتله وطلب بعضهم الدية، وإن بادر أحد الأولياء فقتل الجانى قبل إبداء الآخرين رأيهم فقد سقط حق الباقين فى القصاص ولا دية لهم، وهذا تطبيق دقيق للقول بأن القصاص يجب عينًا، لأن حق الجميع تعلق بالقصاص فإذا قتل الجانى فقد استوفوا حقهم كاملاً وليس لأحدهم أن يطالب بالدية، لأن تنازله عن القصاص لا قيمة له ما دام أحد الأولياء يريد القصاص، وإنما تجب الدية بدلاً من القصاص إذا امتنع القصاص، وهنا لا يمكن امتناعه ما دام أحد الأولياء يطلبه، لأن محل القصاص واحد بالنسبة للجميع (1) . ويرى الشافعى (2) أن حقوق الأولياء لا تتداخل، فإن قتل الجانى واحدًا بعد واحد اقتص منه للأول لأن له مزية بالسبق، وإن سقط حق الأول بالعفو اقتص للثانى، وإن سقط حق الثانى اقتص للثالث، وهكذا. وإذا اقتص من الجانى لواحد بعينه تعين حق الباقين فى الدية؛ لأن القصاص فاتهم بغير رضاهم فانتقل حقهم إلى الدية كما لو مات القاتل، وإن قتلهم دفعة واحدة أو أشكل الحال، أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة اقتص له؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فقدم بالقرعة، وإن عفا عمن خرجت له القرعة أعيدت القرعة للباقين لتساويهم،   (1) بدائع الصنائع ج7 ص239 , مواهب الجليل ج6 ص248. (2) المهذب ج2 ص195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وإن ثبت القصاص لواحد منهم بالسبق أو القرعة فبادر غيره واقتص صار مستوفيًا لحقه، وإن أساء فى التقدم على من هو أحق منه. واختلف فقهاء مذهب الشافعى فى المحارب الذى قتل جماعة فى المحاربة، فرأى البعض أن الحكم هو ما سبق، كما لو قتلهم فى غير المحاربة. ورأى البعض أنه يقتل بالجميع لأن القتيل فى المحاربة حق الله تعالى ولا يسقط بالعفو فتتداخل العقوبات، بعكس ما إذا كانت حقًا لآدميين فإنها لا تتداخل. ويتفق مذهب أحمد مع مذهب الشافعى ولا يختلف معه إلا فى أنه يجيز للأولياء أن يتفقوا على قتل القاتل، فإذا اتفق اثنان أو أكثر على قتله قتل وليس لهم غير ذلك، وإن أراد البعض القود والبعض الدية، قُتل لمن أراد القود وأُعطى الباقون الدية، وحجته فى ذلك أن محل القصاص وهو القاتل تعلقت به حقوق لا يتسع لها معًا، فإذا اكتفى المستحقون بمحل القصاص فيكتفى به. فأساس فكرته أنه ما دام المستحقون قد اكتفوا بالقصاص فقد تنازلوا عما عداه (1) . وإن قطع يد رجل ثم قتل آخر فسرى القطع إلى النفس - أى نفس المقطوع اليد - فمات فهو قاتل لهما، ويقتص منه أولاً عن قتله، لأن وجوب القتل عليه أسبق، إذ القطع لم يصح قتلاً إلا بالسراية وهى متأخرة عن قتل الآخر، لكن لما كان استيفاء القطع ممكنًا وكان فى القتل تفويت للقصاص من القطع، فيستوفى القطع قبل القتل، ولولى المقطوع نصف الدية عند الشافعى وأحمد، ولا شئ له عند مالك وأبى حنيفة، وإذا لم يسر القطع - أى قطع اليد - إلى النفس فيقتص للقطع أولاً، سواء تقدم القطع القتل أو تأخر عنه وهذا متفق عليه عند أحمد وأبى حنيفة والشافعى، ويرى مالك أن يقتل فى كل الأحوال ولا يقطع لأنه بالقتل يتلف الطرف فيسقط القصاص بتلف محله (2) ، وكذلك الحكم لو تأخر القطع عن القتل.   (1) المغنى ج9 ص405 - 408. (2) المغنى ج9 ص408 , شرح الدردير ج9 ص236 , المهذب ج2 ص195 , بدائع الصنائع ج7 ص303. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 وأساس الاختلاف فى هذا كله هو اختلافهم فى العقوبة الواجبة بالقتل العمد، فأبو حنيفة ومالك يريان - كما قلنا من قبل - أن الواجب هو القصاص عينًا وأن عفو ولى القتيل لا يلزم الجانى بالدية إلا إذا رضى الجانى بذلك، والشافعى وأحمد يريان أن الواجب بالقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية، ولولى القتيل أن يختار أى العقوبتين شاء دون حاجة لموافقة الجانى. * * * استيفاء القصاص فى القتل 163- مستحق القصاص: عند مالك: العاصبُ الذكَر، فلا دخل فيه لزوج، ولا لأخ لأم، ولا لجد لأم، ويقدم الابن فابن الابن، ثم يليهم الأقرب فالأقرب من العَصبَة والجد والاخوة سواء فى ولاية القصاص، ويعتبر كلاهما فى مرتبة الآخر. وأبناء الاخوة أقل مرتبة من الجد، لأنه بمنزلة أبيهم، والمراد بالجد الجد القريب فهو الذى يتساوى مع الاخوة فى الدرجة، أما الجد العالى فلا شأن له مع الاخوة كما أن بنى الاخوة لا شأن لهم مع الجد القريب (1) . ويستحق القصاص عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد الورثة الذين يرثون مال القتيل رجالاً ونساء، ولا يشترط لاستحقاقهم القصاص أن يرثوا شيئًا فعلاً، فمن قُتل وعليه دين محيط بتركته أو لم يترك شيئًا، فالقصاص لوارثيه الذين كان يحتمل أن يرثوه لو ترك شيئًا (2) . وعند مالك: ترث المرأة القصاص إذا توفرت فيها شروط ثلاثة: أولاً: أن تكون وارثة كبنت أو أخت. ثانيًا: أن لا يساويها عاصب فى الدرجة بأن لم يوجد أصلاً أو وُجد أنزلُ منها درجة كالعم مع البنت أو الأخت، وعلى هذا تخرج البنت مع الابن، والأخت مع الأخ فلا كلام لواحدة   (1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص227. (2) بدائع الصنائع ج7 ص242 , المهذب ج2 ص196 , الإقناع ج4 ص182. (و) فى مذهب الشافعى رأيان آخران: أحدهما أن القصاص للعصبة , والثانى لمن ورث بالنسب لا بالسبب , راجع: نهاية المحتاج ج7 ص284. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 منهما معه فى عفو ولا قود، بخلاف الأخت الشقيقة مع الأخ لأب، فلها الكلام معه، لأنه وإن ساواها فى الدرجة أنزل منها فى القوة. ثالثًا: أن تكون بحيث لو كان فى درجتها رجل ورث بالتعصيب، وعلى هذا تخرج الأخت للأم والزوجة والجدة للأم (1) . 164- هل يملك الوارث حق القصاص على سبيل الشركة أم على سبيل الكمال؟: إذا كان الوارث واحدًا فهو يملك القصاص على سبيل الكمال إذ لا شريك له فيه، أما إذا تعدد الورثة فهناك نظريتان: النظرية الأولى: ويقول بها مالك وأبو حنيفة، وهى قول لأحمد، وتقوم على أن القصاص حق كل وارث على سبيل الكمال لا على سبيل الشركة. وحجتهم أن المقصود من القصاص فى القتل هو التشفى، وأن الميت لا يتشفى ولكن الورثة هم الذين يتشفون فهو حقهم ابتداء، أى أن القتيل لا يثبت له حق القصاص، وأن القتيل لا يثبت له هذا الحق ما دام حيًا ولكنه يثبت بوفاته فإذا ثبت لم يكن القتيل أهلاً لتملك الحقوق، فيثبت الحق للورثة ابتداء، ويثبت لكل وارث على سبيل الكمال، كأن ليس معه غيره لأنه حق لا يتجزأ، والشركة فيما لا يتجزأ محال، إذ الشركة المعقولة هى أن يكون البعض لهذا والبعض لذاك كشريك الأرض والدار، ولكن ذلك محال فيما لا يتبعض، والأصل أن ما لا يتجزأ من الحقوق إذا ثبت لجماعة وقد وجد سبب ثبوته فى حق كل واحد منهم يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال كأن ليس معه غيره، كولاية النكاح (2) .   (1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص229. (2) الشرح الكبير لدردير ج4 ص227 , بدائع الصنائع ج7 ص242 , المغنى ج9 ص459. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 النظرية الثانية: ويقول بها الشافعى وأحمد، وأبو يوسف ومحمد من فقهاء المذهب الحنفى، وتقوم على أن القصاص حق كل وارث على سبيل الشركة. وحجتهم أن القصاص يجب بالجناية، وأنها وقعت على المقتول فكان ما يجب بها حقًا له، إلا أنه بالموت عجز عن استيفاء حقه بنفسه، فيقوم الورثة مقامه بطريق الإرث عنه ويكون القصاص مشتركًا بينهم (1) . وأهمية الخلاف تظهر إذا ورث القصاص كبير أو صغير. فطبقًا للنظرية الأولى يكون للكبير حق الاستيفاء دون حاجة لانتظار بلوغ الصغير؛ لأن القصاص حق كل وارث على سبيل الاستقلال فلا معنى لتوقف الاستيفاء على بلوغ الصغير. وطبقًا للنظرية الثانية ليس للكبير أن ينفرد بالقصاص وعليه أن ينتظر بلوغ الصغير؛ لأن حق القصاص مشترك بينهما، وليس لأحد الشريكين أن ينفرد بالتصرف فى حق مشترك دون رضاء شريكه. 165- وإذا لم يكن للقتيل ولى فمن المتفق عليه أن السلطان يتولى القصاص: لأن السلطان ولى من لا ولى له. ولكن أبا يوسف يرى أن السلطان ليس له أن يقتص إذا كان المقتول من أهل دار الإسلام، وله أن يأخذ الدية وحجته فى ذلك أن المقتول من أهل دار الإسلام لا يخلو عن ولى عادة إلا أنه لا يعرف، ولا ولاية للسلطان إلا إذا انعدم الولى الوارث، بخلاف الحربى إذا دخل دار الإسلام فأسلم لأن الظاهر أن لا ولى له فى دار الإسلام (2) . 166- من يلى الاستيفاء؟: يختلف الحكم فى هذه المسألة بحسب ما إذا كان مستحق القصاص واحدًا أو أكثر.   (1) المهذب ج2 ص196 , المغنى ج9 ص458 وما بعدها. (2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص228 , ج9 ص394 , بدائع الصنائع ج7 ص243 , 245 , المهذب ج2 ص196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 167- فإذا استحق القصاص واحد وكان كبيرًا فله أن يستوفيه إن شاء: لقوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّى القَتْلِ} [الإسراء: 33] ولوجود سبب الولاية فى حقه على الكمال، وهو وراثة القصاص دون مزاحم. أما إذا كان مستحق القصاص صغيرًا أو مجنونًا: فيرى الشافعى (1) وأحمد (2) انتظار بلوغ الصبى وإفاقة المجنون إلا أنه إذا كانت إفاقة المجنون ميئوسًا منها قام وليه مقامه (3) لأن القود للتشفى، ولا يحصل باستيفائه بمعرفة ولى الصبى أو المجنون ولا بمعرفة الحاكم. وفى مذهب أبى حنيفة (4) رأيان: أحدهما: يرى أصحابه ما يراه الشافعى وأحمد. وثانيهما: يرى أصحابه أن يقوم القاضى أو الحاكم بالاستيفاء دون حاجة لانتظار بلوغ الصبى أو إفاقة المجنون. ويرى مالك (5) أن لولى الصغير والمجنون ووصيهما الاستيفاء نيابة عنهما فلا حاجة لانتظار البلوغ أو الإفاقة. ويرى أبو حنيفة أن الأب والجد يستوفيان القصاص الواجب للصغير دون الوصى، لأن ولايتهما ولاية نظر ومصلحة. أما أبو يوسف فيرى الانتظار، ومالك يرى الاستيفاء للوصى والوالى. سلطة ولى الصغير والمجنون: ومن يعطى الولى حق الاستيفاء عن الصغير والمجنون يعطيه حق الصلح أو العفو عن القصاص على مال بشرط أن لا يقل عن الدية، وأن يكون أصلح من القصاص للصغير، أو على الأقل تتساوى مصلحة القصاص بمصلحة العفو، فإن صالح أو عفا على أقل من الدية كان للصغير بعد بلوغه الرجوع على القاتل بما نقص من الدية، ما لم يكن القاتل معسرًا وقت الصلح كما يرى مالك. وليس للولى أن يتنازل عن القصاص مجانًا، فإن فعل فتنازله باطل (6) .   (1) نهاية المحتاج ج7 ص285. (2) الإقناع ج4 ص181. (3) كما ورد ذلك فى حاشية الجزء السابع من نهاية المحتاج للشرامسلى. (4) بدائع الصنائع ج7 ص243. (5) مواهب الجليل ج6 ص252. (6) الشرح الكبير للدردير ج4 ص230 , مواهب الجليل ج6 ص252 , البحر الرائق ج8 ص299 , 300. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 ومن لا يعطى الولى حق الاستيفاء يعطى ولى المجنون حق العفو عن القصاص إلى الدية، بشرط أن يكون المجنون محتاجًا إلى النفقة، فإن لم يكن محتاجًا فالعفو باطل كما لو عفا على غير مال. أما الصبى فقد اختلفوا فى شأنه: فأجاز بعضهم أن يكون للولى حق العفو عن القصاص إلى الدية إذا كان محتاجًا إلى النفقة ولم يجز البعض الآخر ذلك للولى. وأساس التفرقة بين الصبى والمجنون أن بلوغ الصبى ينتظر بعد وقت معين ولكن إفاقة المجنون ليس لها وقت ينتظر (1) . وأبو حنيفة لا يعطى ولى الصغير والمعتوه حق العفو لأن العفو لا يكون إلا من صاحب الحق والحق للصغير والمعتوه وليس لهما، وإنما لهما ولاية استيفاء حق وهب للصغير، وولايتهما مقيدة بالنظر للصغير والعفو ضرر محض لأنه إسقاط حق أصلاً ورأيًا فلا يملكانه وإنما لهما حق الصلح على مال. وأبو حنيفة متأثر فى هذا بنظريته التى تقضى بأن حق الولى فى القصاص عينًا وأن العفو للدية يقتضى رضاء الجانى، ويظهر أن أبا حنيفة يرى أن العفو لا يكون عفوًا ما دام متوقفًا على رضاء الجانى وإنما يكون صلحًا ولذلك فهو لا يتكلم إلا عن العفو المطلق دون قيد. أما عند مالك فيعتبرون التنازل عن القصاص إلى الدية عفوًا ولو أن الأمر معلق على رضاء الجانى، ويعبر عنه هكذا ويعبر عنه أكثر الشراح بالصلح، ومن عبر عنه بالعفو عبر عنه أكثر من مرة بأنه صلح، مما يدعو إلى الاعتقاد بأن لفظ العفو تجاوز فى التعبير، وقد جاء هذا التعبير فى الشرح لا فى المتن مما يؤكد فكرة التجوز فى التعبير أو الخطأ (2) . هل يصح قصاص الصغير والمجنون؟: الأصل فى تأخير القصاص حتى يبلغ الصبى ويفيق المجنون، أن القصاص حق وأن استعماله يقتضى فى المستعمل الأهلية والصبى والمجنون كلاهما غير أهل لاستيفاء الحقوق، لكن إذا فرض أن الصبى أو المجنون وثب على القاتل فقتله فهل يعتبر كلاهما مستوفيًا لحقه   (1) الشرح الكبير ج9 ص380 , نهاية المحتاج ج7 ص284. (2) مواهب الجليل ج6 ص252. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 أم لا؟ (1) فصار كما لو أتلف وديعة له فلا مسئولية على المودع لديه. يرى البعض أنه بقتل القاتل صار مستوفيًا لحقه لأنه عين حقه وأتلفه بعمله. ويرى البعض أنه ليس من أهل الاستيفاء فلا يعتبر مستوفيًا لحقه وتجب له الدية فى مال الجانى الذى قتله ولأولياء الجانى الرجوع على عاقلة الصبى والمجنون بدية قتيلهم. أى أن أصحاب هذا الرأى يعتبرون فعل الصبى والمجنون جريمة قتل عمد يدرأ فيها القصاص للصغر والجنون (2) ، ولا شك أن الرأى الأول أقرب للعدالة والمنطق من الرأى الثانى. 168- تعدد مستحقى الاستيفاء: إذا تعدد مستحقو الاستيفاء: فإما أن يكون جميعهم كبارًا، وإما أن يكون فيهم صغير أو مجنون وإما أن يكونوا جميعًا حاضرين وإما أن يكون بعضهم غائبًا. 169- فإذا تعدد مستحقو الاستيفاء وكانوا جميعًا كبارًا حاضرين: فالأصل أن لكل منهم ولاية استيفاء القصاص حتى إذا قتله أحدهم صار القصاص مستوفًى للجميع؛ لأن القصاص إن كان حق الميت كما يرى أبو يوسف ومحمد، فكل واحد من الورثة خصم فى استيفاء حق الميت كما هو الحال فى المال، وإن كان القصاص حق الورثة ابتداء كما يرى مالك وأبو حنيفة، فكل من الورثة يملك حق القصاص على الكمال، هذا هو الأصل، إلا أن الفقهاء يشترطون اتفاق مستحقى القصاص عليه قبل الاستيفاء وحضورهم لاحتمال أن يعفو بعضهم، ولأن العفو يسقط حق الآخرين فى القصاص. فإذا بادر أحد المستحقين بقتل الجانى قبل اتفاقهم على القصاص، فمذهب مالك وأبى حنيفة أن القصاص صار مستوفى للجميع؛ لأن الأصل أن لكل من المستحقين ولاية استيفاء القصاص، وليس لباقى الورثة شئ من المال، لأن حقهم فى القصاص قد استوفاه أحدهم. وهذا تطبيق نظرية مالك وأبى حنيفة فى أن   (1) فى هذه النقطة فراغ يبدو أنه كلام لم يتم ولم يكتب. (2) الشرح الكبير ج9 ص385 , المهذب ج2 ص196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 القصاص يجب عينًا (1) ، إلا أن المقتص يعزَّر لافتياته على الإمام. أما الشافعى وأحمد فيريان أن المبادر بالقصاص ممنوع من قتل الجانى لأن بعض الجانى غير مستحق له، فإذا استوفى دون اتفاق فهو مستوفٍٍٍٍٍٍٍٍٍِِِِِِِِِِِ لحق غيره دون إذنه. والراجح أنه لا يجب القصاص عليه بفعله (2) لأنه يستحق القصاص على وجه الشركة، ولأن الجانى مستحق عليه القصاص، كما لا يجب الحد على أحد الشريكين فى وطء الجارية المشتركة لكنه يلزم - على رأى - بحق شركائه فى الدية، لأنه هو الذى أتلف محل حقهم ويلزم - على الرأى الآخر - لورثة الجانى بدية مورثهم إلا قَدْرَ حقه منها، على أن يكون لباقى مستحقى القصاص الرجوع بحقهم فى الدية على تركة الجانى. ولرأى الشافعى وأحمد تطبيق لنظريتهما فى أن القصاص يثبت للمورث ابتداء ثم ينتقل منه للورثة، كما هو تطبيق لنظريتهما فى أن الواجب بالقتل أحد شيئين غير عين القصاص والدية (3) . 170- وإذا تعدد مستحقو القصاص، وكانوا كبارًا وصغارًا، أو فيهم مجنون، أو بعضهم غائبًا: فيرى مالك وأبو حنيفة أن لا ينتظر البلوغ ولا إفاقة المجنون، وللعقلاء الكبار استيفاء القصاص لأن القصاص ثابت للورثة ابتداء فهو حق كل منهم على سبيل الكمال والاستقلال، لاستقلال سبب ثبوته فى حق كل مستحق، ولعدم قابليته للتجزئة، ويؤيدون رأيهم بأن عليًا رضى الله عنه أوصى الحسن بعد أن ضربه ابن ملجم فقال له: إن شئت فاقتله وإن شئت فاعف عنه، وإن تعفو خير لك فقتله الحسن، وكان فى ورثة على صغار، والاستدلال من وجهين: أحدهما: بقول علي؛ لأنه خيَّر الحسن فى القتل أو العفو   (1) بدائع الصنائع ج7 ص243 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص212 , البحر الرائق ج8 ص300 , 301. (2) فى مذهب الشافعى رأى مرجوح , ملخصه أن على المستحق القصاص إذا قتل الجانى قبل اتفاقه مع باقى المستحقين؛ لأنه اقتص فى أكثر من حقه , ولأن القصاص يجب بقتل بعض النفس إذا عرى عن الشبهة؛ فإذا اشترك شخصان فى قتل اقتص منهما لأن كلاً منهما قاتل لبعض النفس. (3) الشرح الكبير ج9 ص386 , 387 , المهذب ج2 ص197. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 مطلقًا فلم يقيده ببلوغ الصغار، والثانى: لأن الحسن قتل ولم ينتظر. وكل ذلك كان فى حضور الصحابة ولم ينكره أحد فيكون إجماعًا. ولكنهما يريان مع ذلك انتظار عودة الغائب لاحتمال عفوه، ولأنه قد يعفو دون أن يشعر الحاضر بعفوه، فإذا أجيز للحاضر أن يستوفى، استوفى حقًا قد سقط بعفو الغائب. ويفرقون فى مذهب أبى حنيفة بين احتمال العفو من الصغير والمجنون وبين احتمال العفو من الغائب، فإن احتمال العفو من الغائب الكبير ثابت أما احتمال عفو الصغير أو المجنون فميئوس منه حال استيفاء القصاص، لأنه ليس من أهل العفو. ويفرقون فى مذهب مالك بين الغيبة القريبة والغيبة البعيدة الميئوس منها؛ أى من عودة صاحبها ويرون الانتظار فى الغيبة القريبة دون البعيدة، وهذا هو الرأى الراجح وهناك رأى لا يفرق بين الغيبة القريبة والغيبة البعيدة (1) . أما الشافعى وأحمد ومعهما محمد وأبو يوسف فيريان أن ورثة القتيل إذا كانوا أكثر من واحد لم يجز لبعضهم استيفاء القود إلا بإذن الباقين، فإن كان فيهم صغير ينتظر بلوغه، أو مجنون تنتظر إفاقته، أو غائب ينتظر قدومه (2) ؛ لأن القصاص حق مشترك بينهم، فمن استوفى قبل اتفاق كل الشركاء فقد استوفى غير حقه وأبطل حق غيره ولأن القصاص أحد بدلى النفس، فإذا لم يجز انفراد أحد المستحقين بأحد البدلين وهو الدية لم يجز له أن ينفرد بالبدل الآخر وهو القصاص، ويستدلون على أن للصغير والمجنون حقهما فى القصاص بأربعة أمور: أحدهما: أنه لو كان منفردًا لاستحق القصاص، ولو نافاه الصغير مع غيره لنافاه منفردًا.   (1) مواهب الجليل ج6 ص250 , 251 , شرح الدردير ج4 ص288 , بدائع الصنائع ج7 ص243 , 244 , البحر الرائق ح8 ص300 , 301. (2) هناك رواية عن أحمد بأن للكبار العقلاء الاستيفاء دون انتظار الصغير والمجنون , ولكن هذه الرواية ليست المذهب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 الثانى: أنه لو بلغ لاستحق بلا خلاف، ولو لم يكن مستحقًا عند موت المورث لم يكن مستحقًا عند البلوغ. الثالث: لو سقط القصاص وآل الأمر للدية لاستحق، ولو لم يكن مستحقًا للقصاص لما استحق بدل القصاص وهو الدية. الرابع: لو مات الصغير لاستحق ورثته، ولو لم يكن حقًا لم يرثه كسائر ما لا يستحقه (1) . 171- هل يطلق سراح الجانى حتى يحضر الغائب أو يبلغ الصغير ويفيق المجنون؟: من المتفق عليه أن تأخر الاستيفاء لا يؤدى إلى إطلاق سراح الجانى، بل يحبس مهما تأخر الاستيفاء، فيحبس حتى يحضر الغائب أو يبلغ الصغير أو يفيق المجنون، وقد حبس معاوية بن أبى سفيان هدية بن خشرم فى قصاص حتى بلغ ابن القتيل - فى عصر الصحابة - فلم ينكر عليه ذلك، ويعللون بقاءه محبوسًا بأن فى تخليته تضييعًا للحق، لأنه لا يؤمن هربه ولأنه مستحق القتل وفيه تفويت نفسه ونفعه، فإذا تعذر تفويت نفسه جاز تفويت نفعه لإمكانه، ولا يقبل من القتيل أن يقدم كفيلاً ليخلى سبيله له، لأن الكفالة لا تصح فى العقوبات لأن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إذا تعذر إحضار المكفول ولا يمكن استيفاء القتل من غير القاتل (2) . 172- ومهما تعدد مستحقو القصاص فلن يستوفيه إلا أحدهم فقط يوكلونه عنهم: ويشترط أن يكون خبيرًا قادرًا على القصاص، فإن لم يكن فيهم من يحسن القصاص أو لم يتفقوا على واحد منهم، أناب الحاكم من يحسنه، وليس ثمة ما يمنع أن يكون موظفًا يتناول أجره من خزانة الحكومة. ويرى الشافعى   (1) الشرح الكبير ج9 ص392 , 393 , نهاية المحتاج ج7 ص284. (2) الشرح الكبير ج9 ص384 , 385 , مواهب الجليل ج6 ص250 , المهذب ج2 ص196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 الاقتراع بين مستحقى القصاص إذا كانوا جميعًا يحسنونه ولم يتفقوا فمن اختارته القرعة قام بالاستيفاء (1) . ويرى بعض الفقهاء فى مذهب مالك أن الحاكم مخير بين أن يستوفى بنفسه القصاص أو أن يسلمه لولى المقتول ليقتص منه، والأصل فى الشريعة أن لا يمكَّن إنسان من استيفاء حقه بنفسه، لأن استيفاء الحقوق متروك للحكام، ولكن جاز أن يستوفى الفرد حقه فى القتل بدليل خاص هو تسليم الرسول للقاتل المستحق (2) ولما كان من شروط الاستيفاء عدم الحيف وأن لا يُعذِّب المقتص القاتل وأن يحسن قتلته (3) ، فإن القصاص يجب أن يتم تحت إشراف السلطة التنفيذية وليس ثمة ما يمنع من أن تتولاه السلطة التنفيذية اليوم لضمان التنفيذ على الوجه المطلوب. 173- الأمن من التعدى إلى غير القاتل: يشترط فى الاستيفاء أن لا يتعدى إلى غير القاتل فإذا وجب القصاص على حامل قبل وجوبه أو حامل بعد وجوبه لم تقتل حتى تضع ولدها، وليس فى هذا اختلاف؛ لقوله تعالى: {فَلاَ يُسْرِف فِّى القَتْل} [الإسراء:33] وقتل الحامل إسراف، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا قتلت المرأة عمدًا لم تقتل حتى تضع ما فى بطنها إن كانت حاملاً وحتى تكفل ولدها، وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما فى بطنها وحتى تكفل ولدها"، ولقد قال الرسول للغامدية التى زنت: "ارجعى حتى تضعى ما فى بطنك" فلما وضعته قال لها "ارجعى حتى ترضعيه" وهذه القاعدة مسلم بها فى القصاص إطلاقًا سواء كان فى النفس أو الطرف أما فى النفس فلما سبق، وأما فى الطرف فلأننا منعنا الاستيفاء فيه خشية السراية إلى غير الجانب وتفويت نفس معصومة أولى وأحرى ولأن فى القصاص من لحامل قتلاً لغير الجانى وهو محرم إذ لا تزر وازرة وزر أخرى.   (1) نهاية المحتاج ج7 ص285. (2) الشرح الكبير للدردير ج9 ص230. (3) الشرح الكبير ج9 ص397 وما بعدها , نهاية لمحتاج ج7 ص286 , 287. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وإذا وضعت الحامل لم تقتل حتى تسقى ولدها اللِّبَأ، لأن الولد يتضرر لتركه ضررًا كبيرًا ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى يجئ أوان فطامه، وإن وجد له مرضعة راتبة جاز الاستيفاء من الأم، لأن الولد يستغنى عنها بلبن المرضعة، وكذلك إذا أمكن أن يسقى من لبن شاة أو نحوها، أو وجد له مرضعة غير راتبة أو نساء يتناوبن رضاعه، ولكن يستحب فى هذه الحالات أن يؤخر الولى القصاص لما على الولد من ضرر فى اختلاف اللبن وشرب لبن البهيمة. وإذا ادعت المرأة الحمل فلا يستوفى منها إلا بعد التحقق من خلوها من الحمل، وتعرض على أهل الخبرة فإن تبين حملها أو أشكل الأمر أُخرت حتى تضع أو حتى يتبين أمرها، وإن ثبت أنها غير حامل لم تؤخر، وإذا تبين الحمل أو أشكل الأمر فتحبس حتى تضع، ويستوى أن تكون حاملاً من زوج أو زنًا (1) ، وتأخير التنفيذ على الحامل هو المبدأ الذى تأخذ به القوانين الوضعية اليوم، فالقانون المصرى ينص فى المادة 263 على أنه "إذا أخبرت المحكوم عليها بالإعدام أنها حبلى يوقف تنفيذ الحكم، ومتى تحقق قولها لا ينفذ إلا بعد الوضع". 174- كيفية الاستيفاء: لا يستوفى القصاص إلا بالسيف عند أبى حنيفة، ورواية عن أحمد، سواء كان الجانى قتل بسيف أم بغير سيف، وسواء كان القتل نتيجة لحز الرقبة أم لسراية جراح، أو نتيجة الخنق أو التغريق أو التحريق، أو غير ذلك وحجة القائلين بهذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قود إلا بالسيف" والقود هو القصاص، والقصاص هو الاستيفاء، فمعنى الحديث نفى القصاص بغير السيف. وإذا كان الموت نتيجة قطع اتصلت به السراية، فالقود بالسيف؛ لأنه تبين أن فعل الجانى وقع قتلاً من وقت وجوده فلا يقتص منه إلا بالقتل؛ لأنه   (1) الشرح الكبير ج9 ص394 وما بعدها , نهاية المحتاج ج7 ص288 , 289 , مواهب الجليل ج6 ص253 , شرح فتح القدير ج4 ص130 , بدائع الصنائع ج7 ص59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 لو قطع عضوًا من الجانى لتحقق التماثل، ثم عاد فحز رقبته إذا لم يمت من القطع كان ذلك جمعًا بين القطع والحز، ولم يكن مجازاة بالمثل، ولا يعتبر حز الرقبة متممًا للقطع؛ لأن المتمم للشىء يكون من توابعه، والحز قتل وهو أقوى من القطع فليس من توابعه كذلك فإن القصاص فى النفس يقصد منه إتلاف النفس فإذا أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز إتلاف أطرافه، لأن إتلافها يعتبر تعذيبًا لا استيفاء. وعلى هذا فمن قطع يد إنسان فمات، أو أجافه جائفة أو أوضحه مُوضِحة فمات فليس له أن يقطعه أو يجيفه أو يوضحه ثم يقتله - طبقًا لرأى أبى حنيفة وأحد رأيى أحمد - وله فقط أن يقتله بالسيف. وإذا أراد الولى أن يقتص بغير السيف لا يمكَّن من ذلك، وإذا فعله عُزِّر لافتياته على السلطات العامة، إلا أنه يعتبر مستوفيًا لحقه فى القصاص بأى طريق قتله سواء قتله بالعصا أو الحجر أو ألقاه من سطح أو أرداه فى بئر أو ساق عليه دابة حتى مات، ونحو ذلك لأن القتل حقه، فإذا قتله فقد استوفى حقه إلا أنه يفتات إذا استوفى بغير السيف لاستيفائه بطريق غير مشروع فيعزر على هذا الافتيات (1) . وعند مالك والشافعى وهو رواية عن أحمد (2) : أن القاتل أهل لأن يفعل به كما فعل، فإذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ولأن السيف أوحى الآلات - أى أسرعها - فإذا قتل به واقتص بغيره أخذ فوق حقه لأن حقه فى القتل وقد قتل وعذب. فإن أحرقه أو غرقه أو رماه بحجر أو رماه من شاهق أو ضربه بخشب أو حبسه أو منعه الطعام والشراب فمات، فللولى أن يقتص بمثل ذلك لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ   (1) بدائع الصنائع ج7 ص302 , الشرح الكبير ج9 ص400 وما بعدها. (2) مواهب الجليل ج6 2256 , المهذب ج2 ص199 , الشرح الكبير ج9 ص400 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126] ولما رواه البراء عن الرسول عليه السلام قال: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه" ولأن القصاص موضوع على المماثلة والمماثلة ممكنة بهذه الأسباب فجاز أن يستوفى بها القصاص. وللولى أن يقتص بالسيف فى هذه الأحوال لأنه قد وجب له القتل والتعذيب فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه وهو جائز له. وإن قتله بما هو محرم كاللواط وسقى الخمر فيرى البعض أن يفعل به مثل فعله صورة بما هو غير محرم؛ فيفعل به فى اللواط مثل ما فعل بخشبة لتعذر مثل فعله حقيقة، ولسقى الماء بدلاً من الخمر حتى يموت، ويرى البعض أن يكون القصاص بالسيف كلما كان القتل بما هو محرم لنفسه، وإن ضرب رجلاً بالسيف فلم يمت كرر عليه الضرب بالسيف لأنه قتل مستحق وليس ها هنا ما هو أوحى من السيف فيقتل به. وإن قتله بمثقل أو رماه من شاهق أو منعه الطعام والشراب مدة ففعل به مثل ما فعل فلم يمت فيرى البعض أن يكرر عليه ذلك حتى يموت، ويرى البعض الآخر أنه يقتل بالسيف لأنه فعل مثل ما فعل وبقى إزهاق الروح فوجب بالسيف. وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص بأن قطع كفه وأوضح رأسه فمات فللولى أن يستوفى القصاص بما جنى فيقطع كفه ويُوضِِِح رأسه؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فإن مات فقد استوفى حقه وإن لم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضو آخر، ولا أن يوضح فى موضع آخر لأنه يصير قطع عضوين بعضو وإيضاح موضحين بموضحة. وإن جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص كالجائفة وقطع اليد من الساعد فمات منه، فيرى البعض أن يقتل بالسيف، ويخالف مالك الشافعى فى أنه يرى أن يكون القصاص بالسيف دائمًا كلما ثبت القتل بقسامة أو كان القتل بما يطول أمره كمنع الطعام والشراب، ولا يقتص فى الجائفة ولا فى قطع الساعد لأن كليهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 جناية لا يجب فيها القصاص فلا يستوفى بها القصاص كاللواط، ويرى البعض أن يقتص فى الجائفة وقطع اليد من الساعد لأنه جهة يجوز القتل بها فى غير القصاص لمجاز القتل بها فى القصاص كالقطع من المفصل وحز الرقبة، فإن اقتص بالجائفة وقطع الساعد فلم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يجاف جائفة أخرى ولا أن يقطع منه عضو آخر فيصير جائفتان وقطع عضوين بعضو. 175- حكم الفعلين: وإذا قطع طرف رَجُل كَيد أو رٍٍٍٍٍٍٍٍِِِِِِِجْل ثم قتله فإذا كان القتل بعد بُرء الإصابة الأولى فيرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن يقتص منه الولى بمثل ما فعل فيقطع طرفه ثم يقتله إن شاء وله أن يكتفى بقتله فقط. أما مالك فيرى أن الطرف يندرج فى القتل فليس للولى إلا القتل فقط. أما إذا كان القتل قبل برء الإصابة الأولى فيرى أبو حنيفة والشافعى وقولهما رواية عن أحمد أن للمستوفى أن يقطع الطرف ثم يقتل لأن حق المجنى عليه فى المثل والمثل هو القطع والقتل والاستيفاء بصفة المماثلة ممكن، فإذا قطع الولى طرفه ثم قتله كان مستوفيًا للمثل وكان الجزاء مثل الخيانة جزاء وفاقًا. ويرى مالك هذا الرأى بشرط أن يكون القطع قصد به التمثيل (1) ، ويرى أبو يوسف ومحمد وهو قول فى مذهب أحمد بأن الطرف يدخل فى النفس فللولى أن يقتل الجانى وليس له أن يقطع يده؛ لأن الجناية على ما دون النفس إذا لم يتصل بها البُرءْ لا حكم لها مع الجناية على النفس فى الشريعة بل يدخل ما دون النفس فى النفس، ويرى مالك هذا الرأى إذا لم يكن الجانى قصد من قطع الطرف التمثيل بالمجنى عليه (2) . 176- حضور المستحقين الاستيفاء: يرى أبو حنيفة أن مستحقى القصاص يجب أن يحضروا الاستيفاء ولا يكفى أن يحضر وكيل عنهم بل يجب   (1) بدائع الصنائع ج7 ص303 , المهذب ج2 ص195 , المغنى ج9 ص386 - 396 , مواهب الجليل ج6 ص256. (2) بدائع الصنائع ج7 ص303 , مواهب الجليل ج6 ص256. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 حضور الموكل بنفسه، ولا يجوز للوكيل استيفاء القصاص مع غيبة الموكل أو الموكلين لاحتمال أن الغائب قد عفا، ولأن فى اشتراط حضور الموكل رجاء العفو منه عند معاينة حلول العاقبة بالقاتل (1) ، ولا يشترط باقى الأئمة هذا الشرط وليس عندهم مانع من أن يتم الاستيفاء بمعرفة الوكيل فى غياب الموكلين. 177- تفقد آلة القتل: وإذا أراد الوالى الاستيفاء بنفسه فعلى السلطان أن يتفقد الآلة التى يستوفى بها، فإذا كانت كالَّة منعه الاستيفاء بها لئلا يعذب المقتول، وإن كانت مسمومة منعه الاستيفاء بها لأنها تفسد البدن، وإن عجل فاستوفى بآلة كالة أو مسمومة عُزِّر، فالولى الذى يستوفى يجب أن يكون خبيرًا بالاستيفاء، وأن تكون الآلة التى يستوفى بها صالحة للاستيفاء. وكل ذلك قصد منه أن لا يعذب الجانى وأن تزهق روحه بأيسر ما يمكن، وقد روى شداد بن أوس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة وليُحدَّ أحدكم شفرته وليُرحْ ذبيحته" (2) . 178- هل يجوز الاستيفاء بما هو أسرع من السيف؟: الأصل فى اختيار السيف أداة للقصاص أنه أسرع فى القتل، وأنه يزهق روح الجانى بأيسر ما يمكن من الألم والعذاب فإذا وجدت أداة أخرى أسرع من السيف واقل إيلامًا فلا مانع شرعًا من استعمالها فلا مانع من استيفاء القصاص بالمقصلة والكرسى الكهربائى وغيرهما مما يفضى إلى الموت بسهولة وإسراع، ولا يتخلف الموت عنه عادة، ولا يترتب عله تمثيل بالقاتل ولا مضاعفة تعذيبه، أما المقصلة فلأنها من قبيل السلاح المحدد، وأما الكرسى الكهربائى فلأنه لا يتخلف الموت عنه عادة مع زيادة السرعة وعدم التمثيل بالقاتل دون أن يترتب عليه مضاعفة التعذيب (3) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص243. (2) المهذب ج2 ص197 , الشرح الكبير ج9 ص397. (3) من فتوى للجنة الفتوى بالأزهر , راجع: القصاص ص208. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 179- هل يجوز للسلطان اليوم أن يستأثر باستيفاء القصاص؟: الرأى الراجح عند الفقهاء أن لا يترك الولى ليستوفى بنفسه القصاص فى الجراح (1) ؛ لأن القصاص فى الجراح يقتضى خبرة ودقة فوق ما يجب فيه من البعد عن الحيف والتعذيب ولما كانت الخبرة لا تتوفر فى معظم الأولياء فقد رأى الفقهاء أن يتولى القصاص خبراء يوكلهم الأولياء، ولا مانع من أن يأخذ هؤلاء الخبراء أجرهم من خزانة الدولة أما الاستيفاء فى القتل فقد ترك للولى إذا كان يحسن الاستيفاء وإذا استوفاه بآلة صالحة، فإذا لم يكن يحسنه، فحق الولى فى الاستيفاء بنفسه متوقف على إحسانه وعلى استعمال الآلة الصالحة. ولقد كان الناس قديمًا يحملون السلاح ويحسنون استعماله غالبًا، أما اليوم فيقل أن تجد من يحسن استعمال السيف، بل قد لا تجد فى القرية كلها سيفًا واحدًا صالحًا للاستعمال، فإذا أضيف إلى هذا أن وسيلة الشنق والمقصلة والكرسى الكهربائى أسرع بالموت من السيف كما هو ثابت من التجربة وأن المقصلة أو غيرها لا يمكن أن يحصل عليها الأفراد وأنها فى حيازة الدولة وإذا روعى هذا جميعه أمكن القول أن الضرورات اليوم تمنع من ترك الولى يستوفى حقه على الطريقة القديمة، وأنها تقضى بحرمان الأولياء من استيفاء القصاص بأنفسهم وترك الاستيفاء لمن تعينهم الدولة من الموظفين الخبيرين، وللأولياء أن يأذنوا لهم بالتنفيذ إذا شاءوا القصاص أو لا يأذنوا إذا رأوا العفو. * * * سقوط القصاص 180- تسقط عقوبة القصاص بأربعة أسباب هى: فوات محل القصاص - العفو - الصلح - إرث حق القصاص. 181- فوات محل القصاص: محل القصاص فى القتل هو نفس القاتل،   (1) المغنى ج9 ص412 , المهذب ج2 ص197 , مواهب الجليل ج6 ص253. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 فإذا فات محل القصاص أى انعدم محله بأن مات من عليه القصاص سقطت العقوبة لأن محلها انعدام، ولا يتصور تنفيذها بعد انعدام محلها. وقد اختلف الفقهاء فيما إذا كان سقوط القصاص بموت الجانب يوجب الدية فى ماله أم لا؟ فرأى مالك وأبو حنيفة أن انعدام محل القصاص يترتب عليه سقوط عقوبة القصاص، ولا يترتب عليه وجوب الدية فى مال القاتل، لأن القصاص واجب عينًا، والدية لا تجب إلا برضاء القاتل فإذا مات القاتل سقط الواجب وهو القصاص ولم تجب الدية لأن القاتل لم يوجبها على نفسه، ويستوى أن يكون الموت بآفة سماوية أو بيد شخص آخر ما دام أن الموت بحق، فإذا مات الجانى بمرض أو قتل فى قصاص بشخص آخر أو زنًا أو ردة، ففى كل هذه الحالات تسقط عقوبة القصاص ولا تجب بدلها الدية. أما إذا قتل ظلمًا، فيرى مالك أن القصاص لأولياء المقتول الأول، فمثلاً من قتل رجلاً فعدا عليه أجنبى فقتله عمدًا فدمه لأولياء المقتول الأول، ويقال لأولياء المقتول الثانى: أرضوا أولياء المقتول الأول وشأنكم بقاتل وليكم فى القتل أو العفو، فإن لم يرضوهم فلأولياء المقتول الأول قتله أو العفو عنه، ولهم ذلك إن لم يرضوا بما بذلوا لهم من الدية أو أكثر منها. وإن قُتل خطأ فديته لأولياء المقتول الأول (1) . ويسوى أبو حنيفة بين الموت بحق والموت بغير حق فكلاهما يسقط حق القصاص سقوطًا مطلقًا ولا يوجب الدية فى مال الجانى ولا فى مال غيره (2) إذا جنى عليه. ويرى الشافعى وأحمد أن فوات محل القصاص يسقط عقوبة القصاص فى كل الأحوال، سواء كان الموت بحق أو بغير حق، ولكنه يؤدى إلى وجوب الدية فى مال الجانى، لأن الواجب فى القتل أحد شيئين: عين القصاص أو الدية فإذا تعذر أحدهما لفوات محله وجب الآخر،   (1) مواهب الجليل ج6 ص231. (2) بدائع الصنائع ج7 ص246. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 ولأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر كذوات الأمثال (1) . ونستطيع أن نتبين مدى الخلاف بين الفقهاء فى المثل الآتى: إذا قتل محمد عليًا، فإن لأولياء محمد حق القصاص على علىٍّ، فإذا مرض على ومات سقط القصاص بموته ولا شئ لأوليائه طبقًا لرأى مالك وأبى حنيفة، ولأوليائه الدية فى مال علىٍّ طبقًا لرأى الشافعى وأحمد، فإذا كان موت علىٍّ سببه أن زيدًا أطلق عليه عيارًا ناريًا عمدًا فقتله أو صدمه بسيارته خطأ فقتله فقد سقط معه القصاص ولا شئ لأولياء محمد كما يرى أبو حنيفة، وطبقًا لرأى مالك ينتقل حق القصاص إلى زيد ويكون لأولياء محمد أن يقتصوا منه فى حالة العمد، وليس لأولياء علىٍّ أن يقتصوا من زيد إلا إذا أرضوا أولياء محمد، وفى حالة الخطأ يدفع زيد دية على لأولياء محمد. وطبقًا لرأى الشافعى وأحمد يسقط القصاص وتكون لأولياء محمد ديته فى مال على. 182- العفو: أجمع الفقهاء على جواز العفو عن القصاص، وأن العفو عنه أفضل من استيفائه. والأصل فى جواز العفو الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقد أقر العفو فى سياق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِى القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وفى سياق قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} إلى أن قال: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [المائدة: 45] . وأما السنة: فإن أنس بن مالك قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه شئ فى قصاص إلا أمر فيه بالعفو". 183- والعفو عن القصاص عند الشافعى وأحمد هو التنازل عن القصاص مجانًا أو عن الدية: فمن تنازل عن القصاص من القاتل مجانًا فهو عاف، ومن تنازل عن القصاص مقابل الدية فهو عاف، وإن كان مالك يرى أن العفو عن الدية يحتاج لنفاذه رضاء الجانى بدفع الدية، بخلاف الشافعى وأحمد اللذين يريان أن العفو عن الدية يعتبر نافذًا دون حاجة لرضاء الجانى (2) .   (1) المهذب ج2 ص201 , الشرح الكبير ج9 ص417. (2) الشرح الكبير للدردير ج4 ص230 , المهذب ج2 ص201 , الشرح الكبير ج9 ص413 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 والعفو عند مالك وأبى حنيفة هو إسقاط القصاص مجانًا أما التنازل عن القصاص مقابل الدية فهو ليس عفوًا عندهما، وإنما هو صلح (1) ؛ لأن تنازل الولى لا ينفذ إلا إذا قبل الجانى دفع الدية (2) . ويشترط مالك وأبو حنيفة أن يكون العفو عن القصاص من صاحب الحق؛ لأن العفو عنده إسقاط الحق وإسقاط الحق محال ممن ليس له حق، ويرتب على هذا أن العفو لا يصح من أجنبى لأنه ليس صاحب الحق ولا من الأب أو الجد فى قصاص وجب للصغير خاصة، لأن الحق للصغير وليس لهما وسلطتهما قاصرة على استيفاء الحقوق الواجبة للصغير، وولايتهما مقيدة بالنظر لمصالح الصغير، والعفو ضرر محض لأنه إسقاط الحق أصلاً ورأسًا فلا يملكانه، وكذلك لا يملك السلطان العفو فيما له ولاية الاستيفاء فيه (3) ولكن الأب والجد والسلطان يملكون الصلح. ولكن الشافعى وأحمد يجيزان أن يكون العفو من الأب والجد على مال كما بينا فى الفقرة 167 كما يجيزون للسلطان أن يعفو على مال ولكنهم لا يجيزون له العفو مجانًا. والفرق بين أبى حنيفة والشافعى وأحمد هو اختلاف فى تكييف التنازل عن القصاص على الدية، فأبو حنيفة يسميه صلحًا وباقى الأمة يسمونه عفوًا، وأبو حنيفة منطقى فى وجهة نظره لأنه يشترط رضاء الجانى بدفع الدية. فإذا كان التنازل معلقًا على رضاء الجانى بمقابل التنازل وهو الدية فالتنازل صلح لا عفو، والشافعى وأحمد يتبعان المنطق فى وجهة نظرهما لأن تنازل أولياء المجنى عليه عن القصاص على الدية لا يتوقف على رضاء الجانى إذ الواجب عندهما بالقتل   (1) الزيلعى ج6 ص107 - 108 , 113 , البحر الرائق ج8 ص301 , 302. (2) يسمى بعض الفقهاء فى مذهب مالك التنازل عن القصاص بمقابل عفواً , ويسميه بعضهم صلحاً وهؤلاء يتفق رايهم مع أبى حنيفة , راجع الفقرة 167. (3) راجع الفقرة 163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 العمد القصاص والدية وللولى أن يختار بينهما فإذا اختار القصاص فله أن يتنازل عنه إلى الدية، فالتنازل إذن إسقاط محض لا مقابل له وترك للأكثر وأخذ للأقل فهو عفو لأنه إسقاط محض. وفى مذهب مالك لا يرون بأسًا من اعتبار التنازل عن القصاص مقابل الدية عفوًا مع أنهم يعتبرون الواجب بالقتل العمد هو القصاص عينًا، ويوجبون رضاء الجانى إذا اختار الأولياء الدية ولكن بعضهم يعتبر هذا صلحًا لا عفوًا، ومن يعتبرونه عفوًا يفرقون بينه وبين الصلح بأن العفو يكون على الدية فقط أو اقل منها أما الصلح فيكون على أكثر من الدية ويكون على غير الدية ولا شك أن من يسمونه صلحًا أقرب إلى المنطق ممن يسمونه عفوًا (1) . 184- من يملك حق العفو؟: يملك حق العفو عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد من يملك حق القصاص (2) ، والقصاص عندهم حق لجميع الورثة من ذوى الأنساب والأسباب الرجال والنساء والصغار والكبار. فكل واحد منهم يملك العفو إذا كان بالغًا عاقلاً فإن لم يكن كذلك فلا يملك التصرف فيه وإن كان الحق ثابتًا لأنه من التصرفات الضارة والتى لا تجوز إلا للعاقل البالغ (3) . ويملك العفو عند مالك من يملك حق القصاص، وهو العاصب الذكر الأقرب درجة للمقتول والمرأة الوارثة التى لا يساويها عاصب فى الدرجة، والتى لو كان فى درجتها رجل ورث بالتعصيب (4) ، ويشترط مالك أيضًا فى العافى أن يكون بالغًا عاقلاً. 185- هل يملك العفو فرد عند تعدد المستحقين؟: إذا كان المستحق للقصاص واحدًا بالغًا عاقلاً رجلاً أو امرأة فهو يملك العفو وحده عند   (1) شرح الدردير ج4 ص230 , مواهب الجليل ح6 ص252. (2) راجع الفقرة 163. (3) بدائع الصنائع ج7 ص246 , المهذب ج2 ص201 , الشرح الكبير ح9 ص388. (4) راجع الفقرة 163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 أبى حنيفة والشافعى وأحمد وإذا عفا كان عفوه نافذًا وإذا تعدد المستحقون للقصاص فعفا أحدهم نفذ عفوه وأنتج أثره ولو لم يعف الباقون، وحجتهم أن القصاص حق مشترك بين المستحقين فإذا عفا أحدهم سقط بعفوه لأن القصاص لا يتجزأ بطبيعته إذ لا يمكن قتل بعض الجانى وإحياء بعضه وأن العفو أقرب للتقوى فهو أفضل من طلب القصاص، فمن عفا رجح عفوه على طلب القصاص ويستدلون على صحة رأيهم بما روى عن عمر من أنه أتى برجل قتل قتيلاً فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول، وهى أخت القاتل: قد عفوت عن حقى. فقال عمر: الله أكبر عتق القتيل. وفى رواية عن زيد قال: دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلاً فقتلها فقال بعض إخوتها: قد تصدَّقت، فقضى لسائرهم بالدية. وروى عن قتادة: أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلاً فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم، فقال عمر لابن مسعود: ما تقول: قال: إنه قد أُحرز من القتل. فضرب على كتفه وقال: كُنَيْفٌ مُلئ علمًا. وزوال الزوجية بالموت لا يمنع استحقاق القصاص ثم العفو، كما لم يمنع استحقاق الدية وسائر حقوق القتيل الموروثة عنه، سواء على رأى القائلين بأن القصاص يرثه الورثة ابتداء أو يرثونه عن القتيل. أما مالك فيرى أن المستحقين إذا كانوا رجالاً متساوين فى الدرجة فالعفو يملكه أى واحد منهم فإن كان فيهم من هو أعلى درجة فالعفو له دون غيره، وإن كان المستحقون نساء فالعفو لأعلاهن درجة كالبنت مع الأخت فالعفو للبنت دون الأخت ولو أن كليهما وارثة. هذا إذا كان القتل بغير قسامة فلا عفو إلا باجتماع النساء والعَصَبة. وإن كان المستحقون نساء وكلهم من درجة واحدة فعفت إحداهن فلا يعتبر العفو إلا إذا أقره الحاكم. وإذا كان المستحقون رجالاً ونساء أعلى درجة منهم وكان للرجال كلام لكونهم وارثين وثبت القتل ببينة أو إقرار أو قسامة أو كان الرجال وارثين ولكن ثبت القتل بقسامة فلا عفو إلا بإجماع الفريقين أو بإجماع بعض هؤلاء وبعض هؤلاء. أما إذا كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 الرجال مساوين للنساء فى الدرجة أو أعلى منهن فلا كلام للنساء معهم والاستيفاء للعاصب وحده (1) . 186- متى يعفو الولى؟: قد يكون العفو من الولى قبل الموت وقد يكون بعده، ولكل حالة حكمها الخاص. وقد يكون العفو من الولى المستحق الذى لا شريك له، وقد يكون من ولى له شركاء وقد يكون عن بعض الجناية دون البعض. 187- عفو الوالى بعد الموت: إذا استحق ولى الدم القصاص وحده فعفا بعد موت القتيل وكان ممن يملك العفو ترتب على عفوه أثر وسقط القصاص عن القاتل، سواء كان العفو مطلقًا غير مقيد أو كان العفو على الدية، وسواء قَبل الجانى دفع الدية أم لم يقبل، وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وأحمد، أما مالك فيرى أن حق القصاص لا يسقط إلا إذا قبل الجانى دفع الدية إذا كان العفو على الدية. وأساس الخلاف أن العفو على الدية يوجبها على الجانى عند الشافعى وأحمد فلا حاجة لرضاه، ولكن الدية لا تجب عند مالك وأبى حنيفة إلا برضاء الجانى (2) . وإذا عفا الولى عن الجانى ثم قتله بعد العفو عنه اعتبر الولى قاتلاً عمدًا باتفاق؛ لأن الجانى بالعفو عنه صار معصوم الدم (3) ، وإذا استحق قصاصًا على شخص فقطع يده ثم عفا عنه بعد ذلك فهو مسئول عن قطع اليد عند مالك وأبى حنيفة، ولا مسئولية عليه عند الشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد. وحجة الفريق الأول أن حق من له القصاص فى الفعل وهو القتل، لا فى المحل وهو النفس، وإن كان فى النفس فهو فى القتل لا فى القطع لأن حقه فى المثل ومثل القتل هو القتل، فإذا قطعها فقد استوفى ما ليس له بحق ويرى مالك القصاص ولكن أبا حنيفة برأه للشبهة. أما الفريق الآخر فحجته أن نفس القاتل صارت ملكًا لولى   (1) شرح الدردير ج4 ص232. (2) مواهب الجليل ج6 ص235 , بدائع الصنائع ج7 ص247. (3) بدائع الصنائع ج7 ص247 , الشرح الكبير ج9 ص391 , المهذب ج2 ص197 , نهاية المحتاج ج7 ص286. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 القتيل، والنفس اسم لجملة الأجزاء، فإذا قطع يده فقد استوفى حق نفسه وإذا كان قد عفا، فالعفو عن الباقى لا عما استوفاه. ومن المتفق عليه أنه إذا قطعه ثم قتله فلا شئ عليه إلا التعزير لتعذيبه القتيل (1) . وإن كان القصاص على أكثر من شخص واحد كأن القاتل رجلين فأكثر فإذا عفا الولى عنهما أو عنهم جميعًا سقط القصاص، وإن عفا عن أحدهم أو بعضهم سقط القصاص عن المعفو عنهم وبقى على الآخرين؛ لأن العافى استحق على كل منهم قصاصًا كاملاً والعفو عن أحدهم لا يستوجب العفو عن الآخرين. وإذا تعدد الأولياء فى قصاص مشترك فعفا أحدهم سقط القصاص عن القاتل؛ لأن سقوط نصيب العافى بالعفو يسقط نصيب الآخرين ضرورة لأن القصاص لا يتجزأ وهو قصاص واحد فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض، وينقلب نصيب الآخرين مالاً فيأخذون حصتهم من الدية ولا يأخذون الدية كاملة لأن للعافى نصيبًا فيها فيأخذون الباقى بعد خصم نصيب العافى، أما العافى فإنه يأخذ نصيبه إذا عفا على الدية ولا يأخذه إذا عفا مجانًا (2) . وإذا عفا أحدهم فقتله الآخر فإن لم يكن يعلم بالعفو أو علم به ولكنه لا يعرف بأن القصاص سقط فهو قاتل عمدًا عند أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد، ويدرأ عنه القصاص وعليه الدية فى ماله لأن للولى القاتل حق القصاص، وهذا يورث شبهة فى عصمة الجانى والحدود تدرأ بالشبهات ولكن زفر يرى أن عصمة الجانى عادت بالعفو فإذا قتله أحد الأولياء فقد قتل معصومًا فعليه القصاص. وفى مذهب الشافعى رأيان كلاهما يعتبره قاتلاً عمدًا، ولكن أصحاب الرأى الأول يدرؤون القصاص للشبهة وأصحاب الرأى الثانى يرون القصاص، ومذهب أحمد أن لا قصاص للشبهة.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص304 , مواهب الجليل ج6 ص235 , المهذب ج2 ص203. (2) بدائع الصنائع ج7 ص248 , مواهب الجليل ج6 ص254 , المهذب ج2 ص202 , الشرح الكبير ج9 ص390. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وإذا قتله وهو عالم بالعفو وبسقوط القصاص كان قاتلاً عمدًا دون شبهة ووجب عليه القصاص عند أبى حنيفة وأحمد وطبقًا لأحد الرأيين فى مذهب الشافعى، أما الرأى الآخر فيشترط للقصاص أن يكون عالمًا بالعفو وأن يحكم القاضى بسقوط القصاص، وإن لم يتوفر هذان الشرطان درئ القصاص للشبهة؛ لأن مالكًا يرى أن حق الولى لا يسقط فى القود بعفو الشريك، وهذا الخلاف يعتبر شبهة تدرأ القصاص (1) [تبحث هذه المسألة من كتب المالكية] . كل ما سبق إذا كان القصاص الواحد مشتركًا بين مستحقين متعددين فعفا أحدهم أو بعضهم عن نصيبه أما إذا وجب لكل من المستحقين قصاص كامل غير مشترك قَبل القاتل فإن الحكم يختلف، فلو قتل الجانى رجلين فعفا ولى أحدهما عن القاتل فإن عفوه لا يسقط حق ولى القتيل الآخر من القصاص من القاتل؛ لأن كل واحد من الوليين استحق على الجانى قصاصًا كاملاً مستقلاً عن القصاص الذى استحقه الآخر فإذا ما أسقط أحدهما حقه بقى حق الآخر، بخلاف القصاص المشترك فإن عفو أحد الشريكين فيه يسقط حق الشريك الآخر؛ لأن حق القصاص لا يتجزأ ومن المحال إسقاط بعضه وتنفيذ بعضه. 188- عفو الولى قبل الموت: إذا عفا الولى بعد الجرح وقبل الموت ففى صحة عفوه ونفاذه رأيان: أولهما: أن العفو غير صحيح لأنه عفا عما لم يجب له لأن القصاص لا يجب له إلا بعد وفاة موروثه ولأن العفو عن القتل يستدعى وجود القتل والفعل لا يصير قتلاً إلا بوفاة الموروث فالعفو لم يصادف محله. ثانيهما: أن العفو صحيح لأن الجرح متى اتصلت به السراية تبين أنه وقع قتلاً من يوم وجوده فكان العفو عن حق ثابت، وإذا فرض أن القتل لم يوجد من يوم الجرح فقد وجد سببه وهو الجرح المفضى إلى الموت، والسبب المفضى إلى الشئ يقام مقامه وعلى هذا يكون العفو صحيحًا (2) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص248 , المهذب ج2 ص197 , نهاية المحتاج ج7 ص286 , المغنى ج9 ص465 - 466. (2) بدائع الصنائع ج7 ص248 , الأم ج6 ص14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 189- العفو من المجنى عليه: وكلما يصح أن يكون العفو من ولى القتيل يصح أن يكون العفو من القتيل قبل موته، فإن عفا المجروح عن الجانى وبرأ من جراحه دون أن يسرى إلى أعضاء أخرى فالعفو صحيح؛ لأن القاعدة أن للمجنى عليه أن يعفو عن القصاص مجانًا وله أن يعفو عن الدية أيضًا. وإن عفا المجروح عن الجانى فسرى الجرح إلى عضو آخر كأن قطع إصبعه فعفا عنه، ثم سرى الجرح إلى اليد فأتلفها، فيرى أبو حنيفة أن العفو صحيح، سواء عن الجرح أو عن الجرح وما يحدث منه؛ لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها. أما الشافعى وأحمد فيفرقان بين ما إذا كان العفو شاملاً الجناية وما يحدث منها وفى هذه الحالة يصح العفو، وبين ما إذا كان العفو قاصرًا على الجرح فقط ففى هذه الحالة يكون الجانى مسئولاً عن السراية ولكن لا يقتص منه لأن القصاص فى الإصبع سقط بالعفو ولا يجب فى الكف لأنها تلفت بالسراية، فإذا كان العفو على الدية وجبت الدية فى اليد كلها، وإن كان العفو مجانًا وجبت الدية دون الأَرْش فيما تسرى إليه، والظاهر أن هذا الحكم عند مالك (1) . وإن عفا المجروح ثم سرى الجرح إلى النفس ومات، فيرى أبو حنيفة وأصحابه أن العفو إذا كان بلفظ الجناية أو الجراحة وما يحدث منها صح العفو ولا شئ على القاتل لأن لفظ الجناية يتناول القتل، وكذلك لفظ الجراحة وما يحدث منها، فكان ذلك عفوًا عن القتل، وأما إذا كان العفو بلفظ الجراحة فقط ولم يذكر ما يحدث منها، لم يصح العفو عند أبى حنيفة وكان الجانى مسئولاً عن القتل العمد، ولكن تجب الدية بدلاً من القصاص درءًا لشبهة العفو، وعند محمد وأبى يوسف العفو صحيح ولا شئ على القاتل، لأن العفو عن الجراحة يشمل الجراحة وما يتولد عنها من السراية، لأن السراية أثر   (1) بدائع الصنائع ج7 ص249 , المهذب ج2 ص212 , المغنى ج9 ص472 , شرح الدردير ج4 ص235 , مواهب الجليل ج5 ص86 , 87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 الجرح، والعفو عن الشئ عفو عن أثره. وحجة أبى حنيفة أن حق المجنى عليه فى موجب الجناية أى القصاص لا فى عين الجناية أى الجرح وعين الجناية، ومن لا يتصور بقاؤه فلا يتصور العفو عنه، فكان عفو المجنى عليه عفوًا عن موجب الجراحة وبالسراية تبين أن لا موجب بهذه الجراحة، وأن الواجب عند السراية هو موجب القتل أى القصاص، كذلك فإن الجرح غير القتل، فالعفو عن أحدهما ليس عفوًا عن الآخر (1) . ويقترب رأى الشافعى من رأى أبى حنيفة، فإن كان العفو عن الجناية وديتها وما يحدث منها فلا قصاص ولا دية، وإن كان عن الجناية فقط سقط القصاص ولم تسقط دية النفس، لأنه أبرأ فيها قبل الوجوب. أما سقوط القصاص فبالعفو بعد الوجوب ويسقط فى النفس لأنه لا يتبعض (2) . وفى مذهب أحمد رأيان: رأى يماثل رأى الشافعى ورأى يماثل أبى يوسف ومحمد (3) . أما إذا كان الجرح أو الجناية لا يجب فيه القصاص كجائفة أو قطع يد من الساعد، فإن العفو لا أثر له عند الشافعى وأحمد، لأن العفو عن القصاص فيما لا قصاص فيه فلم يصادف العفو محله، بخلاف ما إذا كان الجرح أو الجناية يجب فيه القصاص، فإن العفو يصادف محله فى الجرح، ويسقط القصاص فى النفس لأنه سقط فى الجرح، إذ القصاص لا يتبعض فإذا سقط فى البعض سقط فى الكل (4) . وعند مالك: إذا كان العفو عن الجرح وما ترامى إليه من عضو أو نفس فالعفو صحيح نافذ، وإن كان العفو عن الجرح دون بيان فهو محمول على أنه عفا عما وجب له فى الحال، ويسأل عن السراية للعضو والنفس، ويعتبر فى حالة السراية إلى النفس قاتلاً عمدًا ويقتص منه بقسامة فى حالة العمد (5) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص249. (2) المهذب ج2 ص202 , 203. (3) الشرح الكبير ج9 ص427 وما بعدها , المغنى ج9 ص475 وما بعدها. (4) المهذب ج2 ص203 , الشرح الكبير ج9 ص429 وما بعدها , المغنى ج9 ص475 وما بعدها. (5) مواهب الجليل ج6 ص255 , 256 وج5 ص86, 87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 فالفرق بين الشافعى وأحمد وبين مالك، أنه يجعل القصاص فى كل حال، ولكنهما يجعلانه فى حالة ما إذا كانت الجناية لا توجب القصاص، أى أن رأى مالك يتفق مع رأى أبى حنيفة ويخالفه فقط فى أنه لا يدرأ القصاص للشبهة، ولكن بعض الفقهاء المالكيين يفرق بين ما إذا كان الجرح يجب فيه القصاص أو لا يجب، ويجعل القصاص قاصرًا على الجناية التى لا يجب فيها القصاص. هل يعتبر عفو المجنى عليه وصية للقاتل؟: للفصل فى هذه المسألة أهمية كبرى لأن اعتبار العفو وصية يوجب أن يكون المعفو عنه فى ثلث التركة حيث لا تصح الوصية فى أكثر من ثلث التركة، فإن كان المعفو عنه فى ثلث التركة فالعفو نافذ إذا كان صحيحًا وتوفرت شروطه وإن كان المعفو عنه يزيد على ثلث التركة نفذ العفو فيما يساوى ثلث التركة فقط. وإذا اعتبرنا العفو وصية فهناك رأيان: رأى يقول بأن الوصية لا يجوز أن تكون لقاتل ورأى يرى الجواز، فإذا أخذ بالرأى الأول كان العفو لغوًا إلا فى الجرح الحاصل قبله، ومن رأى مالك وأبى حنيفة أن عفو المجنى عليه لا يعتبر وصية للقاتل لأن موجب العمد هو القصاص عينًا والعفو ينصب على إسقاط القصاص، والقصاص ليس مالاً يملك والوصية تمليك لما بعد الموت، فالعفو عن القصاص لا يمكن أن يكون وصية. ويرى أحمد أن العفو لا يعتبر وصية ولو عبر عنه العافى بلفظ العفو أو الوصية أو الغبراء أو غير ذلك، لأنه إذا كان الواجب فى العمد هو أحد شيئين: القصاص أو الدية، فإن العفو قبل تعيين أحدهما لا يعتبر عفوًا عن مال، أو بمعنى آخر تمليكًا لمال، ومن ثم فلا يعتبر وصية، أما إذا تعين الموجب بأن أبرأه المجنى عليه من الدية أو أوصى له بها، فالتعرف وصية لأنه تمليك المال لما بعد الموت، وقد اختلفوا فى المذهب فى صحة الوصية لقاتل، فرأى البعض أن الوصية لا تصح لقاتل ويترتب على هذا الرأى أن الجانى يلزم بدية النفس بعد خصم دية الجرح، لأن العفو عن الجرح صادف محله فكان إسقاطًا لا وصية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 ورأى البعض أن الوصية تصح للقاتل، ويترتب على هذا الرأى أن الدية تسقط إذا كانت تخرج من ثلث التركة، فإن كانت الدية أكثر من الثلث سقط منها بقدر ثلث التركة، ووجب الباقى على الجانى (1) . ومذهب الشافعى على أن العفو إذا جاء فى صيغة الوصية فهو وصية لقاتل، كأن يقول: أوصيت له بأرش هذه الجناية، فإذا جاء العفو بلفظ العفو أو الإبراء أو الإسقاط فيرى البعض أنه وصية أيضًا لأنه تبرع، ويرى البعض أنه ليس وصية لأنه إسقاط ناجز، والوصية معلقة بحالة الموت، والرأى الأخير هو الراجح، وكما اختلفوا فى حكم الوصية للقاتل هل هى صحيحة أم لا؟ فقال البعض إنها صحيحة وهو الرأى الراجح وقال البعض إنها غير صحيحة، ويترتب على هذا الخلاف فى صحة الوصية ما سبق أن بيناه (2) . * * * الصلح 190- لا خلاف بين الفقهاء فى جواز الصلح على القصاص وأن القصاص يسقط بالصلح: ويصح أن يكون الصلح عن القصاص بأكثر من الدية وبقدرها وبأقل منها، والأصل فيه السنة والإجماع، فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل عمدًا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية؛ ثلاثين حقَّة وثلاثين جَذَعة وأربعين خَلفة وما صولحوا عليه فهو لهم"، وفى عهد معاوية قتل هدبة بن خشرم قتيلاً (3) ، فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله. ولما كان القصاص ليس مالاً جاز الصلح عنه بما يمكن أن يتفق عليه الفريقان؛ لأنه صلح عما لا يجرى فيه الربا فأشبه الصلح على العروض، فيصح أن   (1) الشرح الكبير ج9 ص424 , 425 , الإقناع ج4 ص188. (2) تحفة المحتاج ج7 ص296 , 297 , المهذب ج2 ص203. (3) المغنى ج9 ص477. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 يكون بدل الصلح قليلاً أو أكثر من جنس الدية أو من خلاف جنسها، حالاً أو مؤجَّلاً، بخلاف ما إذا كان الصلح على الدية وليس على القصاص فإنه لا يجوز أن يكون على أكثر مما تجب فيه الدية لأن ذلك يعتبر ربًا، فمثلاً لا يصح الصلح على الدية مقابل مائة وعشرين من الإبل؛ لأن الدية مائة من الإبل ولأن الزيادة ربًا. 191- الفرق بين العفو والصلح: العفو هو إسقاط دون مقابل أما الصلح فهو إسقاط بمقابل، وقد ذكرنا أن مالكًا وأبا حنيفة يعتبران العفو عن القصاص على الدية صلحًا لا عفوًا لأن الواجب بالعمد عندهما هو القصاص عينًا والدية لا تجب إلا برضاء الجانى، فإسقاط القصاص على الدية يقتضى رضاء الطرفين فهو صلح لا عفو. أما الشافعى وأحمد فيعتبران العفو على الدية عفوًا لا صلحًا؛ لأن الواجب عندهما أحد شقى القصاص أو الدية والخيار للولى دون حاجة لرضاء الجانى، ومن ثم كان التصرف إسقاطًا من طرف واحد فهو عفو. 192- من يملك الصلح؟: يملك الصلح من يملك حق القصاص وحق العفو، وقد سبق أن بينا ذلك بمناسبة الكلام على العفو، ونزيد عليه هنا أن الشافعى وأحمد يجعلان العفو للسلطان لولى الصغير والجنون على الدية، أما مالك وأبو حنيفة فيجعلان لهم حق الصلح لا العفو لأن العفو عندهما إسقاط دون مقابل لما بينا، ويشترطان أن لا يكون الصلح على أقل من الدية، فإن صالح أحدهما على أقل من الدية صح الصلح ووجب باقى الدية فى ذمة لجانى، فإذا كان الجانى معسرًا وقت الصلح فيرى مالك عدم الرجوع عليه. 193- ويصح أن يكون الصلح من المجنى عليه ويصح أن يكون من الولى قبل الموت أو بعده: وحكم الصلح فى هذه الحالات جميعًا هو حكم العفو على الوفاق والخلاف الذى ذكرنا فى العفو. 194- وإذا صالح الولى القاتل على مال ثم قتله فهو قاتل له عمدًا: وقد مرت المسألة فى العفو. وإذا تعدد الأولياء والقصاص مشترك فصالح أحدهم سقط القصاص عن القاتل وانقلب نصيب الآخرين مالاً؛ لما ذكرنا فى العفو، وإذا قتله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 أحد الآخرين بعد عفو صاحبه؛ على التفصيل والخلاف والوفاق الذى ذكرنا فى العفو. وإذا تعدد الأولياء ولكل منهم قصاص كامل فصالح ولى أحد القتلة فللآخرين أن يستوفوا، ولو تعدد القاتلون فصالح الولى أحدهم كان له أن يقتص من الآخرين، وهكذا كل ما ذكر فى العفو ينطبق فى حالة الصلح. 195- وصلح المجنى عليه حكمه حكم عفوه: سواء سرى الجرح وانتهى بالبرء أو الموت على الوفاق والخلاف الذى ذكرنا فى العفو، لكن إذا اعتبر الصلح غير نافذ ولم يقره الأولياء فعليهم أن يردوا للجانى مقابل الصلح إذا كان القتيل قد تسلمه. * * * إرث حق القصاص 196- يسقط القصاص إذا ورثه من ليس له القصاص من القاتل، كما يسقط إذا ورثه القاتل كله أو بعضه: فإذا كان فى ورثة المقتول ولد للقاتل فلا قصاص لأن القصاص لا يتجزأ، وما دام لا يجب بالنسبة لولد القاتل لأن الولد لا يقتص من أبيه فهو لا يجب للباقين. وإذا قتل أحد ولدين أباه ثم مات غير القاتل ولا وارث له سوى القاتل فقد ورث القاتل دم نفسه كله ووجب القصاص لنفسه على نفسه فسقط القصاص. وكذلك الحكم لو ورث بعضه فإن القصاص يسقط ولمن بقى من المستحقين نصيبهم من الدية (1) . ومن الأمثلة التى يضربونها على سقوط القصاص بإرثه ما يأتى: إذا قتل أحد الأبوين صاحبه ولهما ولد لم يجب القصاص لأنه لو وجب لوجب لولده ولا يجب للولد قصاص على والده لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه فلأن لا يجب له بالجناية على غيره أولى، وسواء كان الولد ذكرًا أو أنثى أو كان للمقتول ولد سواه أو من يشاركه فى الميراث أو لم يكن؛ لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه ولا يمكن وجوبه لأنه إذا لم يثبت بعضه سقط كله لأنه   (1) بدائع الصنائع ج7 ص251 , شرح الدردير ج4 ص233 , المهذب ج2 ص186 , المغنى ج7 ص362 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 لا يتبعض وصار كما لو عفا بعض مستحقى القصاص عن نصيبه منها. إذا قتل رجل أخاه فورثه ابنه أو أحد يرث منه شيئًا من ميراثه لم يجب القصاص؛ لما ذكرنا. ولو قتل خال ابنه فورثت أم ابنه القصاص أو جزءًا منه ثم ماتت فورثها ابنها سقط القصاص، ولا عبرة بكون الابن لم يرث القصاص إلا بعد وقوع القتل إذ القاعدة أن ما منع مقارنًا أسقط طارئًا. ولو قتلت امرأة أخا زوجها فصار القصاص أو جزء منه لابنها سقط القصاص، سواء صار إليه ابتداء أو انتقل إليه من أبيه أو من غيره. ابنان قتل أحدهما أباه والآخر أمه، فإن كانت الزوجية قائمة حال قتل الأول فالقصاص على قاتل الأم دون قاتل الأب. لأن الأم ورثت جزءًا من دم لأب فلما قُتلت ورثها قاتل الأب فورث جزءًا من دم نفسه فسقط عنه القصاص وبقى له القصاص على أخيه (1) ، وإن لم تكن الزوجية قائمة وقت القتل فعلى كل من الولدين القصاص لأخيه لأنه ورث الذى قتله أخوه وحده دون قاتله، فإن بادر أحدهما فقتل صاحبه فقد استوفى حقه وسقط القصاص عنه، لأنه يرث أخاه لكونه قتلاً بحق، فلا يمنع الميراث إلا أن يكون للمقتول ابن أو ابن ابن يحجب القاتل فيكون له قتل عمه، فإذا لم يبدأ أحدهما الآخر بالقتل فقد اختلف أيهما يقتل أولاً، لأن القصاص من أحدهما يسقط القصاص عن الآخر إذا كان يرثه، ففى مذهب أحمد يرى البعض البدء بمن ارتكب جريمته أولاً، ويرى البعض الاقتراع بينهما والرأى الأخير مذهب الشافعى. واختلفوا فى مذهب أبى حنيفة فرأى زفر ترك الأمر للقاضى يبتدئ بأيهما شاء ورأى الحسن بن زياد بأن يوكل كل منهما وكيلاً لقتل الآخر فيقتلان فى وقت واحد فلا يرث أحدهما الآخر، وقال أبو يوسف بإسقاط القصاص عنهما معًا، وحجته فى ذلك   (1) هذا الحمل على مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد , أما على مذهب مالك فإن على كل ولد القصاص لأخيه كما هو فى السطر الثانى من المثال. وعلة الخلاف أن الزوجة لا تستحق عند مالك فهى لا ترث شيئاً من حق القصاص عند الأب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 تعذر استيفاء القصاص لأنه إذا استوفى أحدهما سقط القصاص عن الآخر، وليس أحدهما بالاستيفاء أولى من الآخر، وفى استيفاء أحد القصاصين إبقاء حق أحدهما وإسقاط حق الآخر، وهذا لا يجوز، والقول باستيفائهما بطريق التوكيل غير سديد، لأن الفعلين قلما يتفقان فى زمان بل يسبق أحدهما الأخر عادة وإذا اتفق الفعلان فإن أثر كل من الفعلين وهو فوات الحياة لا يمكن أن يتفق مع أثر الفعل الآخر، فإذا تخلف الفعل أو أثره فقد ورث من وقع عليه الفعل المخلف زميله وسقط عنه القصاص فكأنه قتل دون حق (1) . ويلاحظ أن مالكًا يفرق بين استحقاق القصاص ووارث حق القصاص، فمستحق القصاص هو العاصب الذكر والمرأة التى توفرت فيها شروط خاصة سبق بيانها (2) فإذا مات من يستحق القصاص ورثه ورثته الذين يرثون المال من غير خصوصية للقضية فيرثه البنات والأمهات ويكون لهن العفو والقصاص كما لو كانوا كلهم عصبة لأنهم ورثوه عمن كان ذلك له، ولا يستثنى من الورثة إلا الزوجين فإنهما وإن ورثا المال لا يرثان حق القصاص. ويرى أشهب أحد فقهاء مذهب مالك أن القصاص لا يسقط عن الجانى إذا ورث جزءًا من دم نفسه إلا إذا كان من بقى من المستحقين يستقل الواحد منهم بالعفو (3) ، أما إذا كان الباقون لا يستقل أحد منهم بالعفو ولابد فى العفو من إجماعهم عليه فلا يسقط القصاص عن الجانى الوارث لجزء من دمه كمن قتل أخاه شقيقه وترك المقتول بنتين وثلاثة إخوة أشقاء غير القاتل فمات أبوهم ولا وارث له إلا إخوته الثلاثة القاتل والأخوان الآخران فقد ورث القاتل قسطًا من نفسه ولا يسقط القصاص عنه حتى تعفو البنات والأخوان الباقيان أو البعض من كل (4) ؛ أى من هؤلاء وهؤلاء. * * *   (1) المغنى ج999 ص362 وما بعدها , بدائع الصنائع ج7 ص251. (2) راجع الفقرة 163. (3) راجع الفقرتين 184 , 185. (4) شرح الدردير ج4 ص233. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 الكفارة 197- الأصل فى الكفارة قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ} [النساء: 92] . 198- والكفارة عقوبة أصلية: وهى عتق رقبة مؤمنة فمن لم يجدها أو يجد قيمتها يتصدق بها فعليه صيام شهرين متتابعين، فالصوم عقوبة بدلية لا تكون إلا إذا امتنع تنفيذ العقوبة الأصلية. 199- وظاهر من النص أن الكفارة شرعت فى القتل الخطأ: ومن المتفق عليه أنها واجبة فى القتل الخطأ وكذلك فى القتل شبه العمد لأنه يشبه الخطأ من وجه ولكنهم اختلفوا فى وجوبها فى القتل العمد فرأى الشافعى أنها تجب فى العمد لأنها إذا وجبت فى قتل الخطأ مع عدم المأثم فلأن تجب فى العمد وشبه العمد وقد تغلظ بالإثم أولى. واستند إلى ما رواه واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبى - صلى الله عليه وسلم - بصاحب لنا قد أوجب بالقتل فقال: "اعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو فيها عضوًا منه من النار" (1) . ولأحمد رأى يتفق مع رأى الشافعى ولكن المشهور فى مذهبه أن لا كفارة فى القتل العمد، وحجة القائلين بأن لا كفارة فى العمد أن النص الخاص بالقتل جاء خلوًا من الكفارة وأن الله جعل جزاء القتل العمد القصاص من القاتل وجهنم خالدًا فيها ومفهوم هذا أن لا كفارة فى القتل العمد، ويستندون إلى أن سويد بن الصامت قتل رجلاً فى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأوجب عليه القود ولم يوجب كفارة.   (1) المهذب ج2 ص334. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وأن عمرو بن أمية الضمرى قتل رجلين فى عهد النبى - صلى الله عليه وسلم -، فوداهما ولم يوجب كفارة (1) . ويرى أبو حنيفة وأصحابه أن لا كفارة فى القتل العمد؛ لأن الكفارة دائرة بين العبادة والعقوبة فلابد من أن يكون سببها دائر بين الحظر والإباحة لتعلق العبادة بالمباح والقتل بالمحظور وقتل العمد كبيرة محضة فلا تناظر به الكفارة، ولأن الكفارة من العقوبات المقدرة فلا يجوز إثباتها بالقياس بل لابد من النص عليها (2) . ولا يوجب مالك الكفارة فى القتل العمد، ولكنه يراها مندوبًا إليها فى العمد الذى لم يقتص فيه سواء كان عدم القصاص راجعًا لمانع شرعى أو للعفو (3) . وسنذكر فيما يلى أحكام الكفارة مقارنة فى المذاهب مع ملاحظة الفرق بين من يجيزها فى القتل العمد ومن لا يجيزها. 200- على من تجب الكفارة؟: تجب الكفارة عند الشافعى وأحمد على القاتل أيًا كان بالغًا أو غير بالغ عاقلاً أو مجنونًا مسلمًا أو غير مسلم، لا يستثنى من ذلك إلا الحربى، فتجب على الذمى والمعاهد والمستأمن (4) . ويرى مالك أنها تجب على الصبى البالغ والعاقل والمجنون، ولكنها لا تجب إلا على مسلم لأنها عقوبة تعبدية (5) . ويرى أبو حنيفة أن الكفارة لا تجب إلا على مسلم بالغ، فهى لا تجب على الصبى والمجنون وغير المسلم، لأن الصبى والمجنون لا يخاطبان بالشرائع أصلاً، أى لا مسئولية عليهما، ولأن غير المسلم لا يلزم بما هو عبادة، والكفارة وإن   (1) المغنى ج10 ص40. (2) البحر الرائق ج8 ص291. (3) مواهب الجليل ج6 ص268. (4) المغنى ج10 ص38 , نهاية المحتاج ج7 ص364 , 365. (5) شرح الدردير ج4 ص254 , مواهب الجليل ج6 ص268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 كانت عقوبة إلا أنها فى الوقت نفسه عبادة. ويدر على أبى حنيفة بأن الكفارة عقوبة مالية، والمجنون والصغير وإن لم يسألا عن فعلهما من الناحية الجنائية فهما ضامنان له من الناحية المالية، وأما الكافر فيلزم بها لعموم النص. 201- تعدد الكفارة بتعدد الجناة: إذا تعدد الجناة فى قتل يوجب الكفارة لزم كل جان كفارة مستقلة، وعلى هذا أجمع الأئمة الأربعة؛ لأن الكفارة عن الفعل فلا تتبعض، وتكون كاملة فى حق كل واحد من المشتركين فى القتل كالقصاص يجب على كل مشترك فى القتل. وهناك رواية عن أحمد ورأى فى مذهب الشافعى بأن على الجميع كفارة واحدة، وهذا يتفق مع رأى أبى ثور والأوزاعى، وحجة أصحاب هذا الرأى أن النص أوجب فى القتل دية واحدة وكفارة واحدة، وإذا كان من المسلم به أن الدية لا تتعدد فكذلك يجب أن يكون شأن الكفارة (1) . 202- وكفارة القتل - كما قلنا - هى عتق رقبة مؤمنة: فإن لم يجدها القاتل فى ملكه فاضلة عن حاجته، أو يجد ثمنها فى ماله فاضلاً عن كفايته، فصيام شهرين متتابعين، فليس بشرط إذن أن تكون الكفارة عتق رقبة بالذات لأن قيمتها تقوم مقامها، وعلى هذا يمكن أن نقول: إن الكفارة بعد إلغاء الرق لا تكون بعتق رقبة، وإنما تكون بالتصدق بقيمة الرقبة إذا كان لدى القاتل ما يفيض عن حاجته، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وتقدير قيمة الرقبة يترك لأولياء الأمور. وإذا لم يستطع القاتل الصيام فيرى البعض أن الصيام يثبت فى ذمته حتى يستطيعه أو يستطيع قيمة الرقبة، ويرى البعض أن على القاتل إذا لم يستطع الصوم أن يطعم ستين مسكينًا قياسًا على ما جاء فى كفارة الظهار، ويعترض على هذا الرأى بأن الله ذكر العتق والصيام فقط فى القتل، وذكر العتق   (1) المغنى ج10 ص39 , 40 , المهذب ج2 ص234 , مواهب الجليل ج6 ص268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 والصيام والإطعام فى الظهار، ولو وجب الإطعام فى القتل لذكره كما ذكره فى حالة الظهار (1) . هل تجب الكفارة فى كل قتل؟: تجب الكفارة فى القتل المحرم فقط، أما القتل المباح فلا تجب فيه، كقتل قاطع الطريق والقتل للقصاص وقتل الحرب والقتل دفاعًا عن النفس، وتجب الكفارة سواء كان القتيل مسلمًا أو غير مسلم، ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، وسواء كان القتل فى دار الإسلام أو دار الحرب باتفاق. واختلف فى قتل النفس: فرأى الشافعى أن على قاتل نفسه الكفارة فى ماله لأن القتل محرم والنص عام يدخل تحت قتل النفس. وفى مذهب أحمد رأيان أحدهما: يرى ما يراه الشافعى، والثانى: يرى أن لا كفارة فى قتل النفس؛ لأن النص مقصود به قتل الغير بدليل قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] ، وقاتل نفسه لا تجب فيه دية كما أن عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأ، ولم يأمر النبى عليه السلام فيه بكفارة، ويرى مالك وأبو حنيفة أن لا كفارة فى قتل النفس (2) . القتل المباشر والقتل بالتسبب: وتجب الكفارة عند مالك والشافعى وأحمد سواء كان القتل مباشرًا أو تسببًا، ويرى أبو حنيفة أن لا كفارة فى القتل بالتسبب أيًا كان نوعه؛ أى ولو كان خطأ (3) . * * * العقوبات البدلية للقتل العمد 203- عقوبات القتل العمد البدلية ثلاثة: الدية، والتعزير، والصيام. والدية والتعزير بدل من القصاص والصيام بدل من الكفارة، وسنبين فيما يلى أحكام هذه العقوبات الثلاث واحدة بعد الأخرى.   (1) المغنى ج10 ص41 , المهذب ج2 ص234. (2) شرح الدردير ج4 ص254 , المغنى ج10 ص38 , 39 , نهاية المحتاج ج7 ص365 , 366 , بدائع الصنائع ج7 ص252. (3) البحر الرائق ج8 ص293 , المغنى ج10 ص33 , المهذب ج2 ص234. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 أولاُ: الدية: 204- الأصل فى وجوب الدية الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] . وأما السنة: فقد روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم كتابًا إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه: "وإن فى النفس مائة من الإبل". وأجمع أهل العلم على وجوب الدية فى الجملة. 205 - والدية فى القتل العمد ليست عقوبة أصلية: وإنما هى عقوبة بدلية قررت بدلاً من العقوبة الأصلية وهى القصاص، وتحل الدية محل القصاص كلما امتنع القصاص أو سقط بسبب من أسباب الامتناع أو السقوط بصفة عامة، مع مراعاة أن هناك حالات يسقط فيها القصاص ولا تحل محله الدية كحالة العفو مجانًا وكحالة موت الجانى عند مالك وأبى حنيفة، ولقد سبق أن بينا بتفصيل حالات سقوط القصاص، والآراء المختلفة فيها وما يحل محل القصاص. ولا تعتبر الدية فى حالة قتل الأب ولده عقوبة أصلية؛ لأن العقوبة الأصلية للقتل هى القصاص، وإنما استثنى الأب منها لقوله عليه السلام: " لا يقاد الوالد بولده "، والتعبير بلفظ يقاد دليل على أن القود هو الأصل ولكن صلة الأبوة تمنع منه فحلت الدية محلة. 206- الأجناس التى تجب فيها الدية: تجب الدية عند مالك وأبى حنيفة فى ثلاثة أجناس: الإبل، والذهب، والفضة (1) . ولا تجب الدية فيها كلها، وإنما فى واحد منها فإذا قضيت الدية من الإبل أو من الذهب أو من الفضة فالقضاء صحيح، لأن كل واحد من هذه الأجناس   (1) وحجتهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فى النفس المؤمنة مائة من الإبل " وأنه جعل دية كل ذى عهد على عهده ألف دينار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 يقوم مقام الآخر. ويرى أحمد ومعه أبو يوسف ومحمد أن الدية تجب فى ستة أجناس: الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحُلَل (1) . وكان الشافعى يرى قديمًا رأى مالك وأبى حنيفة ثم عدل عنه وقال: إن الدية تجب فى جنس واحد هو الإبل، وأساس رأى الشافعى الأخير أن الإبل هى الأصل فى الدية، وأن ما عدا الإبل من الذهب أو الفضة أو غيرها أبدال تزيد وتنقص بحسب زيادة قيمة الإبل ونقصها وليست هذه الأبدال أصولاً ثابتة كالإبل. وحجة الشافعى حديث الزهرى قال: "كانت الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة من الإبل، قيمة كل بعير أوقية، ثم غلت قيمة الإبل فصارت قيمة كل بعير أوقية ونصفًا ثم غلت فصارت قيمة كل بعير أوقيتين، فما زالت تغلو حتى جعلها عمر عشرة آلاف درهم أو أربعمائة دينار" ويستدل الشافعى على أن الأصل هو الإبل بأن التغليظ جاء فى الإبل لا فى غيرها فلو كان غيرها أصولاً لجاء فيها التغليظ أيضًا (2) . وباقى الفقهاء يسلمون بأن الإبل هى الأصل فى الدية، وأن تقدير الذهب والفضة وغيرها روعى فيه وقت التقدير قيمة الإبل، ولكنهم لا يعتبرون ما عدا الإبل أبدالاً عنها، ويرون أن الذهب والفضة أصبحت أصولاً، أو يرون أنها والدية جميعًا أبدال من التلف وهو القتيل فصفتها واحدة ولا يتميز جنس منها عن جنس. وأهمية اعتبار أحد هذه الأجناس أصلاً أو عدم اعتباره تظهر عند تسليم   (1) وحجتهم عمل عمر رضى الله عنه فإنه قضى بالدية من هذه الأجناس جميعاً حين كان الديات على العواقل , وروى عن عمرو بن شعيب أنه قام: خطيباً فقال: ألا إن الغبل قد غلت , فقوَّم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفاً , وعلى أهل البقر مائتى بقرة , وعلى أهل الشاء ألفى شاة , وعلى أهل الحلل مائتى حُلة. (2) نهاية المحتاج ج7 ص299 وما بعدها , المهذب ج2 ص209 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 الدية، فإذا اعتبرت الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحلل أصولاً لم يكن لولى الدم أن يمتنع عن تسلم أى شئ منها أحضره من عليه الدية، ويلزم الولى بأخذه دون أن يكون له المطالبة بغيره لأنها جميعًا أصول فى قضاء الواجب يجزى واحد منها، فالخيرة فيها لمن وجبت عليه الدية لا لمن وجبت له. أما إذا قيل إن الإبل هى الأصل خاصة فعلى القاتل تسليمها للولى سليمة من العيوب، وأيهما أراد العدول عنها إلى غيرها فللآخر منعه لأن الحق متعين فيها، وإذا أعوزت الإبل ولم توجد فعلى القاتل ثمنها مهما بلغت قيمة الإبل ولو زادت على ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم. وكان رأى الشافعى قديمًا كرأى مالك وأبى حنيفة يقضى فى حالة إعواز الإبل بدفع ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم لأنه كان يعتبر الإبل والذهب والفضة أصولاً كلها، وإذا قلت قيمة الإبل بحسب رأى الشافعى ولم تصل إلى ألف دينار فالولى ملزم بأخذها مهما قلت قيمتها لأن ما ضمن بنوع من المال وجبت قيمته كذوات الأمثال، ولأن حق الولى يتعين فى الإبل دون غيرها فليس له أن يطالب بأكثر منها (1) . 207 - مقدار الواجب من كل جنس: الواجب من الإبل هو مائة من الإبل، ومن الذهب ألف دينار والدينار مثقال من الذهب، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم طبقًا لرأى مالك وأحمد ورأى الشافعى القديم وعشرة آلاف درهم طبقًا لرأى أبى حنيفة، وأساس الخلاف أن الفريق الأول يجعل الدينار اثنى عشر درهمًا والفريق الثانى يجعله عشرة دراهم، ومن البقر مائتا بقرة ومن الغنم ألفان ومن الحلل مائتا حلة. ونلاحظ مما ذكرنا عن الاتفاق والاختلاف على تقدير هذه الأجناس. 208- على من تجب الدية فى القتل العمد: من المتفق عليه أن دية القتل العمد تجب فى مال القاتل فلا يحملها غيره عنه، وهذا يتفق مع مبادئ   (1) بدائع الصنائع ج7 ص355 , شرح الدردير ج4 ص250 , المغنى ح9 ص488 , المهذب ج2 ص209. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 الشريعة العامة التى تقضى بأن بدل التلف يجب على المتلف وأن أرش الجناية على الجانى، ويتفق مع قول الرسول عليه السلام: " لا يجنى جان إلا على نفسه " والواقع أن الجناية هى أثر فعل الجانى فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها. مقدار ما يلزم به القاتل عن التعدد: إذا تعدد الجناة ولم يكن قصاص فعليهم دية واحدة للقتيل تقسم عليهم بحسب عددهم ولا يلتزم كل منهم بدية مستقلة، وإذا عفى عن بعض الجناة على الدية واقتص من البعض الآخر فعلى المعفو عنهم كل منهم حصته فقط من الدية مقسمة على عدد رءوس القاتلين من اقُتص منه ومن عُفى عنه. وإذا نتج الموت من عدة أسباب كأن طعنه شخص عمدًا برمح وأصابه آخر خطأ وعقرته دابته بعد ذلك فمات من هذه الحالات الثلاثة، فعلى المتعمد ثلث الدية بغض النظر عن عدد ما أحدثه من إصابات، ولا يلتزم كل واحد من القاتلين بدية مستقلة حال العفو أو امتناع القصاص ولو أن عليهم القصاص جميعًا؛ ذلك لأن القصاص عقوبة على الفعل فيتعدد بتعدد الفاعلين، أما لدية فبدل المحل المتلف وهو واحد (1) . 209 - ولكن الفقهاء مع هذا اختلفوا فيمن يحمل دية القتيل إذا كان القاتل حدثًا صغيرًا أو مجنونًا فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الدية الواجبة على الصغير والمجنون تحملها العاقلة ولو تعمد الفعل لأنهم يرون أن عمد الصغير والمجنون خطأ لا عمدًا إذ لا يمكن أن يكون لهما قصد صحيح فألحق عمدهما بالخطأ. وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما يتفق مع رأى باقى الأئمة وهو المرجوح، والثانى: يرى أن عمد الصغير والمجنون عمد لأنه يجوز تأديبهما على القتل العمد وإن كان لا يمكن القصاص منهما فكان عمدهما عمدًا كالبالغ العاقل، وعلى هذا تجب الدية فى مالهما (2) .   (1) الشرح الكبير ج9 ص394 , 396. (2) البحر الرائق ج8 ص341 , شرح الدردير ج4 ص210 , المغنى ج9 ص506 , المهذب ج2 ص210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 210- أوصاف الإبل فى دية العمد: يرى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الدية فى القتل العمد مائة من الإبل، تقسم أربعًا: خمسًا وعشرين بنات مخاض، وخمسًا وعشرين بنات لبون، وخمسًا وعشرين حقَّة، وخمسًا وعشرين جَذَعة. ويرى الشافعى ومحمد بن الحسن من فقهاء مذهب أبى حنيفة ولأحمد رأى يتفق معهما أن دية العمد مائة من الإبل مثلثة، ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خَلفة فى بطونها أولادها، وحجة هؤلاء ما روى عمرو بن شعيب أن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية وهى ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم". وما رواه عبد الله بن عمرو من أن رسول الله قال: "ألا إن فى قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة فى بطونها أولادها". وما رواه عمرو بن شعيب من أن رجلاً يقال له قتادة حذف ابنه بالسيف فقتله فأخذ عمر منه الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خَلفة (1) ، والخلفة الحامل، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فى بطونها أولادها" تأكيد، وقلما تحمل إلا ثَنيَّية وهى التى لها خمس سنين ودخلت فى السادسة، وأى ناقة حملت فهى خلفة تجزئ فى الدية ولو لم تبلغ السن؛ لأن لفظ خلفه مطلق، ولو أسقطت قبل قبضها فعلى القاتل بدلها. 211- هل تغلظ الدية من العمد؟: يرى مالك تغليظ الدية من العمد فى حالة واحدة هى قتل الوالد لولده ففى هذه الحالة تغلظ الدية وتكون مثلثة بدلاً من كونها مربعة، ويلزم القاتل بمائة من الإبل ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة (2) فإن لم تكن إبل فالتغليظ من الذهب أو الفضة وذلك بأن ينظر قيمة الإبل متغلظة وقيمتها غير مغلظة والفرق بينهما ثم تضاف مثل نسبة   (1) شرح الدردير ج4 ص236 , 237 , بدائع الصنائع ج7 ص254 , المهذب ج2 ص209 , المغنى ج9 ص488 , 489. (2) شرح الدردير ج4 ص237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 هذا الفرق على الذهب أو الفضة، فمثلاً إذا كانت قيمة الدية من الإبل مخفضة ستمائة وقيمتها مغلظة ثمانمائة فالفرق بينهما يساوى ثلث المخفضة فيضاف على الذهب أو الورق ما يساوى ثلثه. ويرى أحمد أن الدية تغلظ فى العمد لأسباب ثلاثة هى: القتل فى الحرم، والقتل فى الشهور الحرم، وقتل المحرم. واختلفوا فى المذهب فى التغليظ لقتل ذى رحم محرم، وصفة التغليظ عند أحمد أن يضاف لكل واحد من أسباب التغليظ ثلث الدية فإذا اجتمعت الأسباب الثلاثة وجبت ديتان. ولا يرى الشافعى التغليظ فى العمد وإنما يراه فى الخطأ كما سنرى فيما بعد. وقد احتج عليه فقهاء مذهب أحمد بأنه إذا جاز التغليظ فى الخطأ فهو فى العمد أولى. والظاهر أن الشافعى لم ير التغليظ فى العمد لأنه جعل دية العمد مغلظة إذ جعلها مثلثة بينما جعلها أحمد مربعة (1) ، ولا يرى أبو حنيفة التغليظ فى العمد لأنه يرى دية العمد مغلظة بالنسبة لغيرها إذ هى مربعة بينما دية الخطأ مخمسة، ولأنها فى مال الجانى بينما دية الخطأ على العاقلة (2) . 212- وقت الدية فى العمد: يرى مالك والشافعى وأحمد أن الدية فى العمد تجب حالَّة غير مؤجَّلة، إلا إذا رضى ولى الدم بالتأجيل فيكون التأجيل مرجعه الاتفاق، وحجتهم أن الدية فى العمد بدل القصاص وهو حالٌّ فتكون مثله حالة، ولأن فى التأجيل تخفيفًا والعامد لا يستحق التخفيف (3) . ويرى أبو حنيفة أن دية العمد تجب مؤجلة لثلاث سنوات كما هو الأمر فى دية الخطأ ويكفى العامد تغليظًا بتثبيت الدية وجعلها فى ماله (4) . 213- هل تتساوى الديات لكل الأشخاص؟: تختلف الديات لسببين، أولهما: الجنس، وثانيهما: التكافؤ. والأول متفق عليه والثانى مختلف فيه، وفيما عدا   (1) المغنى ج9 ص499 وما بعدها , المهذب ج2 ص210. (2) بدائع الصنائع ج7 ص257. (3) شرح الدردير ج4 ص250 , المغنى ج9 ص489 , نهاية المحتاج ج7 ص300. (4) بدائع الصنائع ج7 ص257. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 هذين السببين فلا اختلاف. فدية الصغير كدية الكبير، ودية الضعيف كدية القوى، ودية المريض كدية الصحيح، ودية المتعلم كدية الجاهل، ودية الشريف كدية الوضيع. 214- الجنس: اتفق الفقهاء على أن دية المرأة فى القتل نصف دية الرجل أخذًا بما نسبه الرسول حيث كتب فى كتاب عمرو بن حزم: دية المرأة على النصف من دية الرجل. وقد أجمع الصحابة على هذا فيروى عن عمر وعلى وعثمان وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم أنهم قالوا: إن دية المرأة على النصف من دية الرجل، ولم ينقل أن أحدًا أنكر عليهم فيكون إجماعًا ولأن المرأة فى ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل فكذلك فى ديتها (1) . 215- التكافؤ: أساس التكافؤ عند من يقول به من فقهاء الشريعة الحرية والإسلام، فإذا تكافأ الأشخاص فقد تساوت دياتهم ولا عبرة بما بينهم من اختلافات طبيعية أو غير طبيعية، ولقد ألغى الرق من العالم فلا محل للكلام على الحرية ولكننا نستطيع أن نلخص رأى الفقهاء فى ذلك فنقول: إنهم كانوا يجعلون دية الرقيق قيمته التى يساويها وقت القتل، فإن كانت أكثر من دية حر فهى ديته وإن كانت أقل فهى ديته. أما الإسلام فلا يراه أبو حنيفة مانعًا من التكافؤ لأن أساس التكافؤ عنده الحرية فقط، ومن ثم فدية المسلم عنده تساوى دية غير المسلم سواء كان كتابيًا أو غير كتابى كالمجوسى وعابد الوثن أو الشمس، وحجة أبى حنيفة أن الله تعالى قال: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] فأطلق القول فى الدية فى جميع أنواع القتل من غير فصل فدل أن الواجب فى الكل على قدر واحد، كذلك فإن الرسول عليه السلام جعل دية كل ذى عهد فى عهده ألف دينار. وروى أن عمرو بن أمية الضمرى قتل منافقين فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   (1) بدائع الصنائع ج7 ص254 , المغنى ج9 ص531 , المهذب ج2 ص211 , شرح الدردير ج4 ص238. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 فيهما بدية حرين مسلمين. وعن الزهرى أنه قال: قضى أبو بكر وعمر فى دية الذمى بمثل دية المسلم. وروى عن ابن مسعود أنه قال: دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين. ثم إن وجوب كمال الدية أساسه كمال حال القتيل، فما رجع إلى أحكام الدنيا وهى الذكورة والحرية والعصمة وقد وجد كل هذا، أما الكفر فلا يؤثر فى أحكام الدنيا (1) . ويرى مالك والشافعى وأحمد أن دية الكتابى على النصف من دية المسلم، وأن دية نسائهم على النصف من دياتهم، وحجتهم ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله عليه السلام قال: "دية المعاهد نصف دية المسلم " وفى لفظ آخر: "عقل الكتابى نصف عقل المسلم " ويرى أحمد وحده أن المسلم إذا قتل ذميًا تضاعف عليه الدية فتكون دية الذمى دية كاملة، وحجته أن عثمان قضى بهذا فى رجل قتل رجلاً من أهل الذمة. ودية المجوس عند الأئمة الثلاثة ثمانمائة درهم ونساؤهم على النصف من دياتهم، وعبده الأوثان ومن لا كتاب له فيلحقون بالمجوسيين (2) ، وحجتهم أن بعض الصحابة قضى بهذا وأن المجوس ومن لا كتاب له أنقص مرتبة من الكتابى لنقصان دينه. ونظرية أبى حنيفة فى التسوية بين الأشخاص دون نظر إلى أديانهم متفق مع الاتجاهات الحديثة فى التشريعات الوضعية الحديثة، فهى تسوى بين الأشخاص ولو اختلفت أديانهم فى المسائل التى لا تبنى على الدين والمتعلقة بالدنيا. ثانيًا: التعزير: 216- يعتبر التعزير عقوبة بدلية فى القتل العمد: ويوجب مالك أن يعاقب القاتل تعزيرا كلما امتنع القصاص أو سقط عنه لسبب من الأسباب فيما عدا سقوطه بالموت طبعًا وسواء بقيت الدية أم سقطت هى الأخرى، ويرى أن   (1) بدائع الصنائع ج7 ص255. (2) شرح الدردير ج4 ص238 , المغنى ج9 ص527 وما بعدها , المهذب ج2 ص211. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 تكون العقوبة الحبس لمدة سنة والجلد مائة جلدة (1) . ولا يرى باقى الأئمة هذا ويقولون: إن هذا حق الله تعالى أى حق للجماعة بعد سقوط القصاص وهى تأديب للقاتل يرجع نفعه للناس كافة. ونقل ابن رشد عن أبى ثور أن القاتل إذا كان معروفًا بالشر وسقط القصاص عنه بسبب عفو ولى الدم فإن الإمام يؤدبه على قدر ما يرى. والأئمة الثلاثة لا يوجبون عقوبة معينة على القاتل إذا سقط القصاص أو عفى عنه ولكن ليس عندهم ما يمنع من عقاب القاتل عقوبة تعزيرية بالقدر الذى تراه الهيئة التشريعية صالحًا لتأديبه وزجر غيره. ويلاحظ الفرق الظاهر بين عقوبة التعزير التى تحل محل القصاص وبين عقوبة التعزير على جرائم الشروع فى القتل الخائبة، فالعقوبة فى الحالة الأولى بدلية وفى الحالة الثانية أصلية. كذلك هناك فرق بين عقوبة التعزير التى توقع على الشركاء وبين العقوبة فى الحالة الأولى، فعقوبة الشركاء أصلية لأن الشريعة لا تعاقب الشركاء بالقصاص ولا الدية وإنما تعاقبهم بالتعزير عدا ما يراه مالك فى حالة الاشتراك بالمساعدة، أما عقوبة التعزير فى الحالة الأولى فهى بدلية ولو أنها واقعة على الفاعل الأصلى. وليس فى الشريعة ما يمنع أن تكون عقوبة التعزير فى جريمة القتل الإعدام أو الحبس مدى الحياة. ثالثًا: الصيام: 217- الصيام عقوبة بدلية لعقوبة الكفارة الأصلية وهى العتق: ولا يجب الصيام إلا إذا لم يجد القاتل الرقبة أو قيمتها فاضلة عن حاجته، فإن وجدها فلا يجب الصيام عليه وإن لم يجد وجب عليه الصيام. 218- ومدة الصوم شهران ويشترط فى الصيام أن يكون متتابعًا: فإذا كان متفرقًا لم يجزئ وتحتسب المدة بالأهلَّة إذا صام من أول الشهر ولو   (1) مواهب الجليل ج6 ص268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 كان أحد الشهرين ناقصًا، فإذا صام من وسط الشهر تحتسب المدة بالأيام باعتبار الشهر ثلاثين يومًا (1) . 219- وإذا لم يستطع الصوم لمرض أو كبر: فيرى مالك وأبو حنيفة وبعض فقهاء مذهبى الشافعى وأحمد أن الصوم يثبت فى ذمته وليس عليه شئ آخر بدلاً من الصوم. ويرى بعض فقهاء مذهبى الشافعى وأحمد أن عليه إطعام ستين مسكينًا قياسًا على كفارة الظهار، فقد نُص فيها على العتق وعلى الصيام ثم الإطعام عند العجز عن العتق والصيام (2) . 220- ولا يجب الصيام أصلاً إلا على بالغ عاقل (3) : وترتب على هذا أن الصيام يجب تأخيره لحين البلوغ أو الإفاقة عند من يقول بأن الكفارة واجبة على الصبى والمجنون. * * * العقوبات التبعية للقتل العمد 221- العقوبات التبعية للقتل عقوبتان: الأولى: الحرمان من الميراث، الثانية: الحرمان من الوصية. أولاً: الحرمان من الميراث 222- الأصل فى ذلك قوله عليه السلام: "ليس للقاتل شئ من الميراث، وليس للقاتل ميراث بعد كصاحب البقرة". وقد اختلف الفقهاء فى تطبيق النص اختلافًا كبيرًا بحيث لا يتفق مذهبان فى هذه المسالة.   (1) مواهب الجليل ج4 ص127 , مجمع الأنهر ج1 ص426 , المهذب ج2 ص129 , الإقناع ج4 ص92. (2) شرح الدردير ج4 ص254 , البحر الرائق ج8 ص329 , المهذب ج2 ص234 , المغنى ج10 ص41. (3) مجمع الأنهر ج1 ص224 , مواهب الجليل ج2 ص395 , المهذب ج1 ص189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 223- فالإمام مالك يرى أن القتل المانع من الميراث هو القتل العمد، سواء كان القتل مباشرة أو تسببًا وسواء اقتص من القاتل أو درئ عنه القصاص بسبب ما. ويلاحظ أن القتل العمد عند مالك يشمل شبه العمد أيضًا لأنه يقسم القتل إلى عمد وخطأ. أما القتل الخطأ عند مالك فلا يحرم القاتل من ميراث المقتول وإنما يحرمه فقط من الدية التى وجبت بالقتل. واختلف فى مذهب مالك فى الصغير والمجنون إذا قتلا عمدًا هل يمنعان من الميراث أم لا؟ فرأى البعض أن لا يمنعا من الميراث لأن عمدهما كخطئهما، ولرأى البعض حرمانهما من الميراث، وهو الراجح فى المذهب. وإذا كان القتل عمدًا ولكنه غير عدوان فلا يحرم من الميراث كالقتل دفاعًا عن النفس، فمن قتل ولده دفاعًا عن نفسه يرث ولده، والحاكم الذى ينفذ القصاص أو الحد على ولده يرثه (1) . 224- ويرى أبو حنيفة: أن القتل العمد، والقتل شبه العمد، والقتل الخطأ وما جرى مجرى الخطأ - كل هذه الأنواع من القتل تحرم القاتل من الميراث بشروط: أولها: أن يكون القتل مباشرًا فإن كان القتل بالتسبب فلا حرمان من الميراث ولو كان القتل عمدًا. وثانيها: أن يكون القاتل بالغًا عاقلاً، فإن كان صغيرًا أو مجنونًا فلا حرمان. وثالثها: أن يكون القتل فى العمد وشبه العمد عدوانًا فإن كان بحق كالقتل دفاعًا عن النفس فلا يكون القتل مانعًا من الميراث (2) . 225- واختلف أصحاب الشافعى: فمنهم من فرق بين القتل المضمون وبين القتل غير المضمون ورأى الحرمان من الميراث إذا كان القتل مضمونًا لأنه   (1) شرح الدردير ج4 ص432 , مواهب الجليل ج6 ص422. (2) البحر الرائق ج8 ص488 - 500. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 قتل بغير حق، أما القتل غير المضمون فلا يمنع من الميراث لأنه قتل بحق. ومنهم من قال: إن كان متهمًا باستعجال الميراث حرم من الميراث كما فى القتل الخطأ وكما لو حكم حاكم فى الزنا على أساس البينة على مورثه فإنه يحرم لأنه متهم فى قتله لاستعجال الميراث، وإن لم يكن متهمًا باستعجال الميراث فلا حرمان لو حكم عليه فى الزنا بإقراره. والرأى الراجح فى المذهب غير هذين: وهو أن القاتل يحرم من الإرث فى كل حال سواء كان القتل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ وسواء كان مباشرة أو تسببًا، وسواء كان القتل بحق أو بغير حق، وساء كان القاتل بالغًا عاقلاً أو صغيرًا مجنونًا، وأصحاب هذا الرأى يرون أن الحرمان من الميراث قصد به سد الذرائع ومنع المورث من استعجال الميراث (1) . 226- ويرى أحمد أن القتل المضمون هو القتل المانع من الإرث، سواء كان عمدًا أو شبه عمد أو خطأ وسواء كان مباشرة أو تسببًا، وسواء كان من صغير أو مجنون أو من بالغ عاقل، أما القتل غير المضمون فلا يمنع من الميراث كالقتل دفاعًا عن النفس والقتل قصاصًا. ويعللون حرمان الصبى والمجنون من الميراث مع أن كليهما ليس أهلاً بأن ما فعله أحدهما هو فعل محرم لكنه لم يعاقب عليه عقوبة الحد لقصور أهليته، وامتناع القصاص لقصور الأهلية لا يمنع من حرمان الميراث، بل إن الاحتياط يقتضى المنع من الميراث صونًا للدماء (2) . * * * ثانيًا: الحرمان من الوصية 227- الأصل فى الحرمان من الوصية قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصية لقاتل"، "ليس لقاتل شئ" وذكره "الشئ" نكرة فى محل النفى يعم الميراث والوصية جميعًا.   (1) المهذب ج2 ص26. (2) الغقناع ج3 ص123 , أحكام المرأة ص586 وما بعدها , مجلة القانون والاقتصاد - السنة السادسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وقد اختلف الفقهاء فى تفسير هذين النصين وتطبيقهما: 228- ففى مذهب مالك يفرقون بين القتل العمد والخطأ كما فرقوا فى الميراث، ويتفقون على أن القتل الخطأ لا يصلح سببًا للحرمان من الوصية، فالقاتل خطأ تصح الوصية له فى المال ولو لم يكن المقتول عالمًا بأنه هو قاتله، فإن علم بأنه قاتله وأوصى له صحت الوصية فى المال وفى الدية. ولكنهم اختلفوا فى القتل العمد. فرأى بعضهم أن الوصية لا تصح إذا كان المقتول لا يعلم أن الموصى له قاتله، فإن علم بأنه قاتله وأوصى له بعد الجناية فالوصية تصح فى المال ولا تصح فى الدية، لأن الدية مال لم يجب إلا بالموت. وعلى هذا إذا كانت الوصية قبل الجريمة فإنها تبطل بارتكاب جريمة العمد إلا رأى المقتول البقاء على الوصية. ويرى البعض الآخر أن الوصية تصح للقاتل عمدًا سواء علم الوصى بأنه قاتله أو لم يعلم، ويستوى عند أصحاب هذا الرأى أن تكون الوصية قبل القتل أو بعده فهى صحيحة فى الحالين (1) . 229- ويرى أبو حنيفة حرمان القاتل من الوصية فى القتل العمد العدوانى وشبه العمد العدوانى والخطأ وما جرى مجرى الخطأ بشرط أن يكون القتل مباشرًا لا قتلاً بالتسبب وأن يكون القاتل بالغًا عاقلاً، فإن كان القتل بالتسبب أو كان الإبل صغيرًا أو مجنونًا أو كان القتل ليس عدوانًا فلا يحرم من الوصية (2) ويرى أبو حنيفة ومحمد أن الوصية تصح إذا أجازها الورثة، ويرى أبو يوسف أنها لا تصح للقاتل ولو أجازها الورثة؛ لأن المانع من الوصية هو القتل لا مصلحة الورثة والقتل لا ينعدم بإجازة الورثة. 230- وفى مذهب الشافعى وأحمد نظريتان: أما الأولى: فيرى أصحابها أن الوصية لا تصح لقاتل، وأصحاب هذه النظرية ينقسمون بعد ذلك   (1) مواهب الجليل ج6 ص368 , شرح الدردير ج4 ص379. (2) بدائع الصنائع ج7 ص339 , 340. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 إلى فريقين: فريق يرى أن الوصية لا تصح ولو أجازها الورثة لأن المانع من الوصية هو القتل لا مصلحة الورثة فإجازة الورثة تكون هبة مبتدئة ينبغى أن تتوفر فيها شروط الهبة، وفريق آخر يرى أن الوصية تصح بإجازة الورثة. والنظرية الثانية: يرى أصحابها أن الوصية صحيحة فى كل حال للقاتل دون حاجة لإجازة الورثة. * * * عقوبات القتل شبه العمد 231- العقوبات على القتل شبه العمد منها ما هو أصلى: وهو الدية والكفارة، ومنها ما هو بدل: وهو التعزير والصيام، ومنها ما هو تبعى: وهو الحرمان من الميراث والحرمان من الوصية. * * * العقوبات الأصلية أولاً: الدية: 232- الدية: هى العقوبة الأصلية الأساسية للقتل شبه العمد، والأصل فيها قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن فى قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل". وتعتبر الدية فى شبه العمد عقوبة أصلية لأنها ليست بدلاً من عقوبة أخرى، ولأنها العقوبة الأساسية لهذا النوع من القتل، ولكن الدية فى القتل العمد تعتبر عقوبة بدلية لا أصلية لأنها بدل من عقوبة القصاص وهى العقوبة الأصلية للقتل العمد. 233- الأجناس التى تجب فيها دية القتل شبه العمد: تجب دية القتل شبه العمد فى نفس الأجناس التى تجب فيها الدية فى القتل العمد. فهى عند الشافعى تجب فى الإبل وحدها، وعند مالك وأبى حنيفة تجب فى ثلاثة أجناس هى: الإبل والذهب والفضة، وعند أحمد وأبى يوسف ومحمد تجب فى ستة أجناس هى: الإبل والذهب والفضة والشعير والغنم والحلل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وقد بينا أسباب هذا الخلاف وسند كل فريق وأهمية هذا الخلاف، وما قلناه عن هذا كله فى دية القتل العمد يغنى عن إعادته هنا (1) . 234- مقدار الواجب من كل جنس: المقدار الواجب من كل جنس فى دية شبه العمد هو نفس المقدار الواجب فى دية القتل العمد، وقد سبق أن ذكرنا ما فيه الكفاية بمناسبة الكلام عن دية القتل العمد (2) . 235- هل تتساوى الديات لكل الأشخاص؟: تختلف الديات لسببين؛ أولهما: الجنس، وثانيهما: التكافؤ، والأول متفق عليه والثانى مختلف فيه، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع بما فيه الكفاية فى الفقرة (212) وما قيل هناك هو ما يمكن أن يقال هنا. 236- أوصاف الإبل فى دية شبه العمد: هى نفس أوصافها فى دية العمد على الخلاف والوفاق إلى سبق ذكره هناك، مع ملاحظة أن شبه العمد يدخل فى العمد عند مالك إلا ما كان على وجه العب أو التأديب لأن القتل عنده إما عمد وإما خطأ. 237- هل تغلظ الدية فى شبه العمد؟: لا يرى التغليظ فى شبه العمد إلا أحمد للأسباب التى بيناها عند الكلام على التغليظ فى دية العمد، وصفة التغليظ وكيفيته هناك هى صفته وكيفيته هنا. ومن يقول من المالكية بشبه العمد يرى أن الدية تغلظ فى شبه العمد وهو ضرب المؤدب والأب ولده والأم والأجداد وفعل الطبيب والخاتن وهو كل من جاز فعله شرعًا، وقيل: اللطمة والوكزة والرمية والحجر والضرب بعصاة متعمدًا فهذا شبه العمد وتكون فيه دية مغلظة على الجانى وليست على العاقلة (3) ، والرأى المشهور فى مذهب مالك أنه لا يعرف شبه العمد.   (1) راجع الفقرة 206. (2) راجع الفقرة 207. (3) مواهب الجليل ج6 ص226 , شرح الدردير ج4 ص237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 238- على من تجب دية شبه العمد؟: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد وهم القائلون بالقتل شبه العمد أن دية شبه العمد تجب على العاقلة وليست فى مال الجانى، ويخالفهم فى هذا ابن سيرين والزهرى والحارث العكلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور وأبو بكر الأصم، ويرون أن دية القتل شبه العمد على القاتل فى ماله لأنها موجب فعله الذى تعمده فلا تحمله عنه العاقلة كما هو الحال فى العمد المحض، وهذا هو مقتضى مذهب مالك، لأن شبه العمد عنده فى حكم العمد، وهو يجعل الدية فى العمد فى مال القاتل، فكأن ما يعتبر شبه عمد عند مالك إذا وجبت فيه الدية وجبت فى مال القاتل لا فى مال العاقلة (1) . وحجة القائلين بتحميل الدية العاقلة ما رواه أبو هريرة قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلها وما فى بطنها، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على عاقلتها" أى على عاقلة الجانية. ويقولون إن القتل العمد يختلف عن القتل شبه العمد، ففى الأول يقصد الجانى الفعل ويقصد القتل فغلظ على الجانى من كل وجه أما فى الثانى فيقصد الجانى الفعل ولا يقصد القتل، فغلظ عليه من وجه حيث جعلت عليه الدية مغلظة كما هو الحال فى دية العمد، وخففت عليه من وجه لأنه لا يقصد القتل وجعلت الدية على العاقلة كما هو الحال فى القتل الخطأ. هل تجب الدية على الجانى ابتداء أم على العاقلة؟: اختلفوا فى التصوير القانونى لتحميل الدية، ففى مذهب الشافعى وأحمد أنها تجب على العقلة ابتداء ولا تجب على الجانى لأنه لا يطالب بها غيرهم ولا يعتبر تحملهم ورضاهم بها، فهم ملزمون رضوا أم لم يرضوا ولا تجب على غيرهم، والأرجح فى المذهب أنها تجب ابتداء على الجانى لأنه هو الذى ارتكب الجناية ثم تنتقل منه إلى العاقلة تخفيفًا عنه ومناصرة له، ولأن حفظ القاتل فى الواقع واجب على عاقلته فإذا لم يحفظوه فقد فرطوا، وهذا التفريط يقتضى منهم أن يتحملوا بعض نتائج ذنبه، خصوصًا وأن القاتل يقتل بظهر عشيرته فكانوا كالمشاركين له فى القتل وعلى هذا الرأى أبو حنيفة ومالك (2) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص255 , المغنى ج9 ص491 , المهذب ج2 ص209. (2) بدائع الصنائع ج7 ص255 , نهاية المحتاج ج7 ص350 , المغنى ج9 ص525 , 526. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وتظهر نتيجة الفرق بين الرأيين إذا لم يكن للجانى عاقلة، أو كان له ولكنها لا تستطع حمل الدية فإن أخذنا بالرأى الأول وجب ألا يرجع على الجانى بالدية، وإن أخذنا بالرأى الثانى وجب أن يرجع عليه بها؛ لأنه هو الجانى المسئول عن الدية أصلاً (1) . 239- متى تؤدى دية شبه العمد؟: من المتفق علبه الأئمة الثلاثة أن دية شبه العمد ليست حالَّة وأنها تجب مؤجلة فى ثلاث سنوات فيؤدى فى آخر كل حول ثلثها ويعتبر بدء السنة عند الشافعى وأحمد من اليوم الذى تجب فيه الدية وهو يوم الموت ويرى أبو حنيفة أن السنة تبدأ من يوم الحكم بالدية لا من يوم الموت. وهذا هو ما يراه مالك فى دية الخطأ (2) . وإذا كان الواجب دية واحدة فإنها تقسم فى ثلاث سنين فى كل سنة ثلثها، فإذا كان الواجب على شخص واحد أكثر من دية كأن قتل شخصين مثلاً فعليه لكل واحد منهما ثلث الدية فى كل سنة؛ لأن لكل واحد منهما دية مستقلة فيستحق ثلثها كما لو انفرد حقه، ولو وجبت الدية على عواقل كثيرة فإذا قتل عشرة مثلاً شخصًا وجبت الدية على عواقلهم وقُسط نصيب كل عاقلة على ثلاث سنوات. وفى الدية الناقصة كدية المرأة وجهان: أحدهما: أنها تقسم على ثلاث سنين لأنها بدل النفس فأشبهت الدية الكاملة فتأخذ حكمها، وثانيهما: الدية الناقصة يجب فيها فى العام الأول قدر ثلث الدية الكاملة وباقيها فى العام الثانى. والوجة الأول يقول به بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد (3) والثانى مذهب أبى حنيفة ويقول به بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد. ويرى مالك التأجيل على ثلاث سنوات فى الدية الكاملة، أما الدية الناقصة ففيها آراء مختلفة؛ منها أنها حالَّة ومنها أنها تؤجلَّ على أن ما يدفع لا يقل عن ثلث الدية الكاملة (4) .   (1) الإقناع ج4 ص234. (2) مواهب الجليل ج6 ص267. (3) بدائع الصنائع ج7 ص255 , 256 , المغنى ج9 ص492 , 494 , المهذب ج2 ص228. (4) مواهب الجليل ج6 ص267. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وإذا وجبت الدية بالصلح فهى حالَّة فى مال الجانى ما لم يكن هناك شرط بتأجيلها، وإذا وجبت بإقرار الجانى فيرى أبو حنيفة أنها تجب مؤجلة، ويرى أحمد أنها تجب حالة وهو رأى الشافعى ومالك (1) . 240- هل تحمل العاقلة كل الدية فى القتل شبه العمد؟: يرى أحمد أن العاقلة لا تحمل ما دون ثلث الدية الكاملة فإن بلغ الثلث أو زاد عليها حملته العاقلة، وحجته ما روى عن عمر أنه قضى فى الدية أن لا يحمل منه شئ حتى تبلغ عقل المأمومة (عقل المأمومة ثلث الدية) ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجانى لأنه موجب جنايته وبدل متلفه، فكان عليه كسائر الجنايات والمتلفات، وإنما خولف فى القلق فصاعدًا تخفيفًا عن الجانى لكونه كثيرًا يجحف به (2) . ويرى أبو حنيفة أن العاقلة لا تحمل ما دون نصف عشر الدية الكاملة ويحمله الجانى، فإن بلغ نصف عشر الدية حملته العاقلة، وحجته ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تعقل العاقلة عمدًا - إلى قوله - ولا ما دون أَرْش المُوضحة" (أرش الموضحة نصف عشر الدية الكاملة) (3) . ويرى الشافعى أن العاقلة تحمل الجميع ما قل أو كثر من الدية؛ لأن ما ألزم بالكثير ألزم بالقليل من باب أولى (4) . ويرى مالك أن الدية إذا بلغت ثلث دية المجنى عليه أو الجانى حملتها العاقلة فإذا كانت دون الثلث فهى على الجانى وحده (5) ، وفى المذهب رأى بأن العاقلة لا تحمل إلا ما زاد على الثلث، ومقتضى هذا الرأى أن الثلث يحمله الجانى وينظر فى هذا إلى مصلحة الجانى فإن كانت ديته أقل اعتبرت دون دية المجنى عليه، فلو جنى مسلم على مجوسية ما يبلغ ثلث ديتها أو ثلث ديته حملته عاقلته، ولو جنى   (1) بدائع الصنائع ج7 ص256 , 257 , المغنى ج9 ص504 - 506. (2) المغنى ج9 ص505 , 506. (3) بدائع الصنائع ج7 ص255. (4) المهذب ج2 ص228. (5) مواهب الجليل ج6 ص265. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 مجوسى أو مجوسية على مسلم ما يبلغ ثلث دية الجانى حملته العاقلة ولو كان أقل من ثلث دية المجنى عليه، ويجعل مالك وأحمد ما لا تحمله العاقلة حالاً لا مؤجلاً، أما أبو حنيفة فالديات كلها مؤجلة عنده (1) . وإذا حملت العاقلة الدية فيرى أبو حنيفة ومالك أن يتحمل الجانى من الدية ما يحمله أفراد العاقلة، أما الشافعى وأحمد فيريان أن لا يحمل الجانى شيئًا. ويرى مالك أن يتحمل الجانى مع العاقلة. وتظهر أهمية هذه الآراء المختلفة إذا ما أخذنا بالرأى القائل بأن الديات تتفاوت بحسب الدين، فإن دية المجوسى وعابد الوثن أقل من ثلث الدية فلا تحملها عنه العاقلة. فإن دية المجوسى وعابد الوثن اقل من ثلث الدية فلا تحملها عنه العاقلة. طبقًا لرأى أحمد، وهى أكثر من نصف العشر لأنها 1/15 من الدية فتحملها العاقلة طبقًا لرأى أبى حنيفة والمرأة المجوسية ديتها تبلغ 1/30 فلا تحملها العاقلة فى رأى أبى حنيفة، وأحمد ولكن تحملها طبقًا لرأى الشافعى، والكتابية ديتها 1/4 الدية الكاملة فلا تحملها العاقلة طبقًا لرأى أحمد وتحملها طبقًا لرأى أبى حنيفة والشافعى. 241- هل تتحمل العاقلة الديات عن الإمام والحاكم؟: من المتفق عليه أن ما يجب على الإمام والحاكم فى عير الحكم والاجتهاد فهو على العاقلة إذا كان مما تحمله العاقلة، أما ما وجب عليه بسبب الحكم والاجتهاد ففيه نظريتان فى مذهب الشافعى وأحمد: الأولى: أنه على عاقلته؛ لما روى عن عمر رضى الله تعالى عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء فأجهضت جنينها، فقال عمر لعلى: عزمت عليك لا تبرح حتى تقتسمها - أى الدية - على قومك. ولأن الحاكم جان فكان خطؤه على عاقلته كغيره. الثانية: أنه فى بيت المال؛ لأن الخطأ يكثر فى أحكامه واجتهاده فإيجاب العقل على عاقلته مجحف بهم، ولأنه نائب عن الله تعالى فى أحكامه وأفعاله فكان   (1) بدائع الصنائع ج7 ص257 , المغنى ج9 ص494 , مواهب الجليل ج6 ص265. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 أرش جنياته فى مال الله. وأبو حنيفة من القائلين بالوجه الثانى (1) ومالك من القائلين بالوجه الأول. 242- العاقلة: العاقلة من يحمل العقل، وسميت عقلاً وهى الدية لأنها تعقل لسان ولى المقتول، وقيل: إنها سميت العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل، والعقل هو المنع. ولا خلاف فى أن العاقلة هم العصبات وأن غيرهم كالإخوة لأم وسائر ذوى الأرحام والزوج ليسوا من العاقلة. ومذهب الشافعى أن الأب والجد والابن وابن الابن لا يدخلون فى العاقلة، وهو رأى أحمد، وحجته ما رواه أبو هريرة عن الرسول عليه السلام قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله لى الله عليه وسلم فقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ". وفى رواية " ثم ماتت القاتلة فجعل النبى ميراثها لبنيها والعقل على العصبة " ولأن مال ولده ووالده كماله، ولهذا لم تقبل شهادتهما له. والدية جعلت على العاقلة إبقاء على القاتل وتخفيفًا له فلو جعلناها على الأب والابن أجحفنا به لأن مالهما كماله (2) . ومذهب مالك وأبى حنيفة وهو رأى لأحمد: أن الأباء والأبناء من العاقلة؛ لأن العقل أساسه التناصر وهم من أهله، ولأن العصبة فى تحمل العقل كَهُمْ فى الميراث فى تقديم الأقرب فالأقرب وآباؤه أقرب الناس إليه فكانوا أولى بتحمل عقله، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قضى - كما روى عمرو بن شعيب - بأن عقل المرأة بين عصبتها [من كانوا لا يرثون شيئًا إلا ما فضل عن ورثتها] وإن قتلت فعقلها بين ورثتها (3) . ويدخل فى العاقلة سائر العصبات مهما بعدوا لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم   (1) المغنى ج9 ص510 , المهذب ج2 ص277 , لمدونة ج16 ص83. (2) المهذب ج2 ص228 , المغنى ح9 ص515. (3) مواهب الجليل ج6 ص266 , بدائع الصنائع ج7 ص256 , المغنى ج9 ص515. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 يكن وارث أقرب منهم، ولا يشترط أن يكونوا وارثين فى المال بل متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا. وقد كان العقل قبل خلافة عمر رضى الله عنه بالتعصيب فلما وضع الديوان جعل العقل على أهل ديوان القاتل، وهم المقاتلة من الرجال البالغين ومن ثم يرى أبو حنيفة أن عاقلة الشخص أهل ديوانه ولكنه يقول: إن العاقلة هى العصبة إذا لم يوجد الديوان، واليوم لا ديوان فالعاقلة دون شك هم العصبة، ويرى مالك أن العاقلة هى العصبة ولكنه يجعل أهل الديوان مع العصبة ويبدأ بهم فى تقسيم الدية، أما الشافعى وأحمد فلا يريان أهل الديوان من العصبة. ويشترك فى العقل الحاضر والغائب من العصبة طبقًا لرأى أبى حنيفة وأحمد؛ لأن الغائبين استووا مع الحاضرين فى التعصيب والإرث فاستووا فى تحمل العقل كالحاضرين، ولأنه معنى تعلق بالتعصيب فاستوى فيه الحاضر والغائب، ويرى مالك أن يخص العقل بالحاضر فقط لأن التحمل أساسه التناصر وهو بين الحاضر، وبعض الفقهاء فى مذهب الشافعى يأخذون بالرأى الأول والبعض يأخذون بالرأى الثانى (1) . وتقسم الدية على العاقلة مع مراعاة الأقرب فالأقرب ولا يُحمل العقل إلا من يعرف نسبه من القاتل أو يعلم أنه من قوم يدخلون كلهم فى العقل، ومن لا يعرف منه ذلك لا يحمل وإن كان من قبيلته فلو كان القاتل قرشيًا لا يلزم قريشًا كلهم التحمل فإن قريشًا وإن كانوا كلهم يرجعون لأب واحد إلا أن قبائلهم تفرقت وصار كل قوم ينتسبون لأب يتميزون به، فيعقل عنهم من يشاركهم فى نسبهم إلى الأب الأدنى (2) . ولا تُكلَّف العاقلة من المال ما يجحف بها ويشق عليها لأنه لزمها من غير جناية على سبيل المواساة للجانى والتخفيف عنه فلا يخفف عن الجانى بما يشق على غيره ويجحف به، ولو كان الإجحاف مشروعًا كان الجانى أحق به لأنه موجب جنايته وجزاء فعله، فإن لم يشرع فى حقه ففى حق غيره أولى.   (1) البحر الرائق ج8 ص400 , مواهب الجليل ج6 ص267 , المغنى ج9 ص518 , المهذب ج2 ص230. (2) المغنى ج9 ص519. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 واختلف الفقهاء فى مقدار ما يحمله كل فرد فقال مالك وأحمد: يترك الأمر للحاكم يفرض على كل واحد ما يسهل عليه ولا يؤذيه، وفى مذهب مالك رأى يفرض ربع دينار على كل شخص، وفى مذهب أحمد رأى آخر يفرض نصف مثقال على الموسر وربع مثقال على متوسط الحال، وهو مذهب الشافعى ويرى أبو حنيفة أن لا يزيد ما يؤخذ من الفرد عن ثلاثة دراهم أو أربعة، كما يرى التسوية بين الغنى والمتوسط (1) ، والقائلون بنصف دينار وربعه اختلفوا، فبعضهم يرى هذا القدر هو الواجب فى السنوات الثلاث، والبعض يراه الواجب سنويًا. والمفروض أن الدية تقسم على ثلاث سنوات، فالمبلغ المقدر على كل فرد هو أقصى القسط السنوى ويجب عليه فى آخر السنة، ومن مات أو افتقر أو جن قبل الحول لم يلزمه شئ من الدية؛ لأن تحميل الفقير إجحاف ولأن المرأة والصبى والمجنون ليسوا من أهل النصرة، ولكن هؤلاء إذا كانوا جناة يعقل عنهم. وإذا لم يكن للجانى عاقلة أصلاً، أو كان له عاقلة فقيرة، أو عددها صغير لا تحمل كل الدية، فهناك نظريتان: الأولى: يرى أصحابها أن يقوم بيت المال مقام العاقلة، فإذا لم يكن عاقلة أو كانت فقيرة أخذت الدية من بيت المال، وإن كانت عاقلة لا تحمل كل الدية أخذ باقيها من بيت المال، ويرى بعض أصحاب هذا الرأى أن ما يجب على بيت المال يدفع فورًا، لأن التأجيل للعاقلة قصد به التخفيف ولا حاجة للتخفيف إذا قام مقامها بيت المال، ويرى البعض أن الواجب يقسط على ثلاث سنوات على حسب المستحق على العاقلة، وأصحاب هذه النظرية مالك والشافعى، وهى ظاهر مذهب أبى حنيفة والراجح فى مذهب أحمد. الثانية: ويرى أصحابها أن الدية تجب على مال القاتل لا على بيت المال، لأن الأصل أن القاتل هو المسئول عن الدية، وإنما حملتها العاقلة للتناصر والتخفيف، فإذا لم تكن عاقلة يرد الأمر لأصله كذلك فإن فى بيت المال حقوقًا   (1) بدائع الصنائع ج7 ص256 , المغنى ج9 ص520 , مواهب الجليل ج6 ص267 , المهذب ج2 ص230. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 للنساء والصبيان والمجانين والفقراء وهؤلاء لا عقل عليهم فلا يجوز صرف ما يستحقونه فيما لا يجب عليهم وهذه النظرية رواية عن أبى حنيفة لمحمد ورأى فى مذهب أحمد (1) . وإذا لم يمكن الأخذ من بيت المال، فيرى القائلون بأن الدية تجب ابتداء على العاقلة، وهم بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد، بأن الدية تسقط كلها إذا لم تكن عاقلة أو يسقط منها ما لم تحمله العاقلة إذا كان عددها صغيرًا، أما القائلون بأنها تجب على الجانى ابتداء فيرون إلزام الجانى بها أو بما بقى منها. وإذا أخذنا بالرأى القائل بأن الغنى يدفع نصف دينار سنويًا والمتوسط يدفع ربع دينار، وافترضنا أن الفقراء ضعف عدد الأغنياء ومتوسطى الحال وأن متوسطى الحال ضعف الأغنياء وأن النساء والصبيان ضعف عدد الرجال، فإنه يجب ألا يقل عدد أفراد العائلة عن تسعة آلاف نفس، وإذا طبقنا هذا على ما يقول به أو حنيفة من تحمل الشخص أربعة دراهم، وجب أن يصل أفراد العاقلة إلى عشرة آلاف نفس. وفى مذهب مالك يرى بعضهم أن أقل ما توزع عليهم الدية سبعمائة شخص، ويرى البعض أن أقلهم ألف، وإذا أخذنا بالفروض السابقة وصل عدد أفراد العاقلة إلى عشرة آلاف نفس. 243- أهمية نظام العاقلة: بينا فى الجزء الأول أهمية نظام العاقلة وتحملها الدية ودللنا على أنه نظام عادل وإن كان يلوح فى ظاهر الأمر أنه يحمل الإنسان وزر غيره، وقلنا إننا لو أخذنا بالقاعدة العامة فيحمل كل مخطئ وزره لكانت النتيجة أن تنفذ العقوبة على الأغنياء وهم قلة ولامتنع تنفيذها على الفقراء وهم الكثرة، ويتبع هذا أن يحصل أولياء المجنى عليه أو هو نفسه على الدية كاملة إذا كان الجانى غنيًا وعلى بعضها إذا كان متوسط الحال، أما إذا كان الجانى فقيرًا   (1) مواهب الجليل ج7 ص266 , بدائع الصنائع ج7 ص256 , المغنى ج9 ص524 , المهذب ج2 ص228. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 وهو كذلك فى أغلب الأحوال فلا يحصل المجنى عليه من الدية على شئ، وهكذا تنعدم المساواة والعدالة بين المتهمين كما تنعدم بين المجنى عليهم. وقلنا إن هذا النظام قصد به أن يحصل المجنى عليهم على حقهم كاملاً وأنه يحقق العدالة والمساواة على جميع الوجوه، وقلنا أكثر من ذلك فليراجعه من شاء. لكن هذا النظام على ما فيه من عدالة وتسوية بين المتهمين والمجنى عليهم لا يمكن أن يقوم فى عهدنا الحاضر لأن أساسه وجود العاقلة، ولا شك أن العاقلة ليس لها وجود الآن إلا فى النادر الذى لا حكم له وإذا وجدت فإن عدد أفرادها قليل لا تتحمل أن يفرض عليها كل الدية، ولقد كان للعاقلة وجود طالما احتفظ الناس بأنسابهم وقراباتهم وانتموا إلى قبائلهم وأصولهم، أما الآن فلا شئ من هذا بحيث يندر أن تجد شخصًا يعرف جده الثالث، وإذن فلا محيص من الأخذ بأحد الرأيين اللذين أخذ بهما الفقهاء من قبل، إما الرجوع على المجنى عليه بكل الدية، وإما الرجوع على بيت المال، والرجوع على المجنى عليه يؤدى إلى إهدار دماء أكثر المجنى عليهم لأن أكثر المتهمين فقراء وهذا لا يتفق مع أغراض الشريعة التى تقوم على حفظ الدماء وحياطتها وعدم إهدارها، والرجوع إلى بيت المال يرهق الخزانة العامة، ولكنه يحقق المساواة والعدالة ويحقق أغراض الشيعة والخوف من إرهاق الخزانة لا يجب أن يقف حائلاً دون تحقيق المساواة والعدالة ولا يصح أن يحول دون تحقيق أغراض الشريعة، فالحكومة تستطيع أن تدبر أمرها بفرض ضريبة عامة يخصص دخلها لهذا النوع من التعويض، ونستطيع أن نفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض، وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعانة الفقراء أو العاطلين، فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين، ولقد سبقتنا بعض البلاد الأوروبية إلى هذا العمل، فأنشأت صندوقًا لتعويض المجنى عليهم فى الجرائم إيراده المبالغ المتحصلة من الغرامات التى تحكم بها المحاكم، وهذا هو بالذات ما قصدته الشريعة الإسلامية من نظام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 العاقلة، فنظام العاقلة يقوم اليوم فى (بعض) (1) وهى من البلاد الأوروبية، فأولى بنا وهو نظامنا أن نقيمه بيننا على الوجه الذى يتلاءم مع ظروفنا وحالاتنا. ثانيًا: الكفارة: 244- تجب الكفارة عقوبة أصلية على القتل شبه العمد مع الدية: وقد سبق أن تكلمنا على الكفارة بمناسبة الكلام على عقوبة القتل العمد، وما قلناه هناك يغنى الاطلاع عليه عن إعادته هنا. * * * العقوبات البدلية 245- العقوبات البدلية فى القتل شبه العمد هى: أولاً: التعزير بدلاً من الدية. ثانيًا: الصيام بدلاً من الكفارة وهى عتق الرقبة أو التصدق بقيمتها. وقد استوفينا الكلام على التعزير والصيام بمناسبة عقوبات القتل العمد وما قلناه هناك يغنى عن إعادته هنا. العقوبات التبعية 246- العقوبات التبعية فى القتل شبه العمد هى: أولاً: الحرمان من الميراث. ثانيًا: الحرمان من الوصية. وقد استوفينا الكلام عليهما فى باب القتل العمد ومن ثم فليس ما يدعم لتكرار القول هنا. عقوبات القتل الخطأ 247- عقوبات القتل الخطأ منها ما هو أصلى وهو الدية والكفارة، ومنها هو ما بدل وهو التعزير والصيام، ومنها ما هو تبعى وهو الحرمان من الميراث والحرمان من الوصية.   (1) هكذا فى الأصل ونظن أنها اسم بلد لم يتحقق من اسمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 العقوبات الاصلية أولاً: الدية: 248- هى عقوبة أصلية وليست بدلاً من عقوبة أخرى: لأن عقوبة الخطأ روعى فى تقديرها انعدام قصد الجانى فاكتفى بتقدير الدية عليه، ومقدارها هو نفس مقدار الدية فى العمد وشبه العمد أى مائة من الإبل. 249- وتجب دية القتل الخطأ مخمسة أى تؤخذ أخماسًا: عشرون بنات مخاض، وعشرون بنو مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون حقَّة، وعشرون جَذَعة، وهذه الأوصاف متفق عليها بين الأئمة الأربعة، ودليلهم ما روى عبد الله بن مسعود قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فى دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بنو مخاض" (1) . 250- ودية الخطأ على العاقلة دون خلاف طبقًا لقضاء الرسول عليه السلام، وعلة فرضها على العاقلة أن جنايات الخطأ تكثر ودية الآدمى كثيرة فإيجابها على الجانى فى ماله مجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفًا عنه إذ انعدام القصد عذر له فى فعله يشفع فى التخفيف عنه. 251- ولا خلاف فى أنها مؤجلة فى ثلاث سنين: وأساس التأجيل فى الدية هو قضاء الصحابة، فقد قضى عمر وعلى بجعل الدية فى القتل الخطأ على العاقلة فى ثلاث سنين، ولا مخالف لهما من الصحابة فاتبعهم فى ذلك أهل العلم، وعلة التأجيل أنه مال يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالاً كالزكاة. وما لا تحمله العاقلة يجب حالاً عند مالك والشافعى وأحمد ولكن أبا حنيفة يرى التأجيل فيما يجب على العاقلة وما يجب على الجانى.   (1) المغنى ج9 ص495 , المهذب ج2 ص209 , بدائع الصنائع ج7 ص254 , شرح الدردير ج4 ص236. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 252- وإذا كانت العاقلة تحمل الدية وهى عقوبة أصلية أساسية فهل تحمل أيضًا الكفارة وهى عقوبة مالية أصلية أخف بكثير من الدية؟. يرى الفقهاء أن الكفارة فى مال الجانى وحده ولا تحمل العاقلة عنه شيئًا ولا بيت المال، ولكن فى مذهب الشافعى رأى بأن بيت المال يتحملها عن الجانى (1) . 253- ولا يرى مالك وأبو حنيفة التغليظ فى دية الخطأ، أما الشافعى وأحمد فيريان التغليظ، ولكن بينهما فرقًا هو أن أحمد يرى أن التغليظ فى العمد وشبه العمد والخطأ أما الشافعى فيرى التغليظ فى الخطأ، ولعل الشافعى لم ير التغليظ فى العمد وشبه العمد لأنه يوجب الدية فيهما مثلثة، أما أحمد فيوجبها مربعة، فكأن دية العمد وشبة العمد مغلظة بطبيعتها عند الشافعى ويوجب أحمد التغليظ للقتل فى الحرم، وللقتل فى الشهور الحرم، والقتل المحرم. واختلف فى المذهب فى التغليظ لقتل ذى الرحم المحرم فيرى البعض التغليظ لقتله ولا يرى البعض التغليظ. ويجوز عند أحمد أن يجمع بين أكثر من سبب من أسباب التغليظ وتغلظ الدية لكل سبب بأن يزاد عليها مقدار الثلث ومن ثم تصل الدية إلى ديتين إذا كان القتل فى الحرم والشهور الحرم شخصًا محرمًا (2) ، أما الشافعى فيرى التغليظ بالقتل فى الحرم وفى الشهور الحرم وبقتل ذى الرحم المحرم، واختلفوا فى المذهب فى القتل فى الحرم المدنى فرأى البعض أن القتل فيه سبب للتغليظ، ورأى البعض أن القتل فيه ليس سببًا للتغليظ وهو الرأى الراجح فى المذهب، وصفة التغليظ عند الشافعى هو إيجاب دية العمد بدلاً من دية الخطأ، فإن قتل ذا رحم محرم مثلاً فعليه ثلاثون حقَّة وثلاثون جَذَعّة وأربعون خَلَفة. 254- ولا تحمل العالقة دية القتل العمد: سواء درئ القصاص للشبهة أو وجبت الدية بالعفو أو الصلح، وهذا متفق عليه بين الأئمة؛ لأن العاقلة حملت فى الخطأ وشبه العمد لانعدام القصد إلى القتل ولعذر الجانى، أما العامد فلا عذر له   (1) المغنى ج9 ص498. (2) المغنى ج9 ص499 وما بعدها , المهذب ج2 ص209 , 210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 فى جريمته ومن ثم لا يستحق تخفيفًا ولا معاونة. 255- وإذا جنى الرجل على نفسه خطأ ففيه روايتان: الأولى: على عاقلته الدية لورثته إذا قتل نفسه. والقائلون بهذا الرأى بعض فقهاء مذهب أحمد، وحجتهم: "أن رجلاً ساق حمارًا فضربه بعصا كانت معه فطارت منها شظية ففقأت عينه فجعل عمر ديته على عاقلته وقال: هى يد من أيدى المسلمين"، ويحتجون بأنها ليست إلا جناية خطأ كأى جناية خطأ ديتها على العاقلة. ويترتب على هذا الرأى أنه إذا كانت العاقلة هم بعض الورثة لم يجب شئ عليهم لأنه لا يجب للإنسان شىء على نفسه، هذا إذا كان ما يجب عليهم من الدية يماثل نصيبه فى الميراث فإن كان أكثر سقط عنه ما يقابل نصيبه وعليه ما زاد، وإن كان نصيبه من الدية أقل من نصيبه فى الميراث فله ما بقى. والرواية الثانية: يرى أصحابها أن الجناية هدر، وهذا ما يراه مالك وأبو حنيفة والشافعى وهو رأى فى مذهب أحمد وحجتهم: أولاً: بارز عامر بن الأكوع مرحبًا يوم خبير فرجع سيفه على نفسه فمات ولم يعلم أن النبى قضى فيه بدية ولا غيرها ولو وجبت لبينه النى عليه السلام. ثانيًا: أن وجوب الدية على العاقلة قصد منه مواساة الجانى والتخفيف عنه والجانى هنا هو نفس المجنى عليه فليس إذن ما يدعو للإعانة والمواساة. وحكم شبه العمد هو حكم الخطأ فى هذه المسألة (1) . ثانيًا: الكفارة: 256- تكلمنا على الكفارة بمناسبة الكلام على القتل العمد، وفيما قلناه كفاية. العقوبات البدلية 257- هى الصيام فقط: وقد تكلمنا عليه من قبل، وليس ثمة تعزير باتفاق الفقهاء فى الخطأ اكتفاء بالعقوبتين الأصليتين وهما الدية والكفارة   (1) المغنى ج9 ص209 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 وبالعقوبات التبعية، على أنه ليس فى الشريعة ما منع أن يقدر الشارع عقوبة تعزيرية فى حالة العفو عن الدية إذا رأى ذلك فى صالح الجماعة. العقوبات التبعية 258- هى الحرمان من الميراث والحرمان من الوصية: وقد فصلنا الكلام عليهما من قبل بمناسبة الكلام على عقوبة القتل العمد، وفيما قلناه هناك ما يغنى عن إعادته هنا. * * * الفصل الثاني الجناية على ما دون النفس 259- يعبر فقهاء الشريعة بالجناية على ما دون النفس عن كل أذى يقع على جسم الإنسان من غيره فلا يودى بحياته، وهو تعبير دقيق يتسع لكل أنوع الاعتداء والإيذاء التى يمكن تصورها؛ فيدخل فيه الجرح والضرب والدفع والجذب والعصر والضغط وقص الشعر ونتفه وغير ذلك. ويعبر قانون العقوبات المصرى عن نفس المعنى بالجرح والضرب فقط، وهو تعبير ناقص لا يتسع لغير الجرح والضرب من أنوع الإيذاء مما حمل المحاكم المصرية على التوسع فى تأويل هذا التعبير بما يجعله متفقًا مع اتجاه الشريعة، فحكمت محكمة النقض بأن عبارة الضرب والجرح تشمل كل فعل يقع على الجسم ويكون له تأثير ظاهرى أو باطنى، فمن يضغط على عنق إنسان أو يجذبه فيوقعه على الأرض يعد مرتكبًا لجريمة الضرب عمدًا. 260- الجنايات على ما دون النفس إما عمد أو خطأ: فالعمد هو ما تعمد فيه الجانى الفعل بقصد العدوان كمن قذف أحدًا بحجر بقصد إصابته. والخطأ هو ما تعمد فيه الجانى الفعل دون قصد العدوان كمن ألقى حجرًا من نافذة ليتخلص منه فأصاب أحد المارة، أو ما وقع فيه الفعل نتجة تقصير الجانى دون قصد منه كمن انقلب على نائم بجواره فكسر ضلوعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 والعمد وإن كان يختلف عن الخطأ فى ماهية الفعل وعقوبته إلا أنهما يتفقان فى كثير من الأحكام، ومن ثم جرى الفقهاء على الجمع بينهما عند شرح أحكامهما فيتكلمون عنهما دفعة واحدة. وإذا كان شراح القوانين يفرقون بين جرائم العمد والخطأ على أساس نوع الجريمة، ويتكلمون عن كل على حدة فإن فقهاء الشريعة يجعلون أساس الفرق هو محل الجريمة هل هو النفس أو ما دونها؛ لأن ما يقع على النفس يتحد فى كثير من أحكامه على اختلاف أنواعه كما بينا فيما سبق، والجرائم التى تقع على ما دون النفس تتحد فى كثير من أحكامها كما سنبين فيما بعد. ثم يفرقون بعد ذلك على أساس نوع الجريمة بين مختلف الجرائم التى تقع على ما دون النفس. 261- ويقسم الفقهاء الجناية على ما دون النفس سواء كانت الجناية عمدًا أو خطأ خمسة أقسام، ناظرين فى هذا التقسيم إلى نتيجة فعل الجاني؛ لأن الجانى فى الجناية على ما دون النفس يؤخذ بنتيجة فعله ولو لم يقصد هذه النتيجة بغض النظر عما إذا كانت الجناية عمدًا أو خطأ، وهذه الأقسام هى: أولاً: إبانة الأطراف أو ما يجرى مجرى الأطراف، ثانيًا: إذهاب معانى الأطراف مع بقاء أعيانها، ثالثًا: الشجاج، رابعًا: الجراح، خامسًا: ما لا يدخل تحت الأقسام الأربعة السابقة. 262- القسم الأول: إبانة الأطراف وما يجرى مجراها: ويقصد من إبانة الأطراف قطعها وقطع ما يجرى مجراها، ويدخل تحت هذا القسم: قطع اليد والرجل والإصبع والظفر والأنف والذكر والأنثيين والأذن والشفة وفقء العين وقطع الأشفار والأجفان وقلع الأسنان وكسرها وحلق أو نتف شعر الرأس واللحية والحاجبين والشارب. 263- القسم الثانى: إذهاب معانى الأطراف مع بقاء أعيانها: ويقصد من ذلك تفويت منفعة العضو مع بقائه قائمًا فإذا ذهب العضو ذاته فالفعل من القسم الأول، ويدخل تحت هذا القسم: تفويت السمع والبصر والشم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 والذوق والكلام والجماع والإيلاد والبطش والمشى، ويدخل تحته أيضًا: تغير لون السن إلى السواد والحمرة والخضرة ونحوها، كما يدخل إذهاب العقل وغيره. 264- القسم الثالث: الشجاج: يقصد بالشجاج جراح الرأس والوجه خاصة. أما جراح الجسم فيما عدا الرأس والوجه فتسمى جراحًا، وتسمية جراح الجسم بالشجاج غلظ؛ لأن العرب تفصل بين الشجة وبين مطلق الجراحة، فتسمى ما كان فى الرأس والوجه شجه، وتسمى ما كان فى سائر البدن جراحة. ويرى أبو حنيفة أن الشجاج لا تكون إلا فى الرأس والوجه فى مواضع العظم مثل الجبهة والوجنتين والصدغين والذقن دون الخدود، وباقى الأئمة يرون ما كان فى الرأس والوجه مطلقًا شجة. 265- والشجاج عند أبى حنيفة إحدى عشرة شجة (1) : 1- الخارصة: وهى التى تخرص الجلد أى تشقه ولا يظهر منها الدم. 2- الدامعة: وهى التى يظهر منها الدم ولا يسيل كالدمع فى العين. 3- الدامية: وهى التى يسيل منها الدم. 4- الباضعة: وهى التى تبضع اللحم أى تقطعه. 5- المتلاحمة: وهى التى تذهب فى اللحم أكثر مما تذهب الباضعة. ويرى محمد أن المتلاحمة قبل الباضعة وعرفها بأنها التى يتلاحم فيها الدم ويسود. 6- السمحاق: وهى التى تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة بين اللحم والعظم، واسم الجلدة السمحاق فسميت بها الشجة. 7- الموضحة: وهى التى تقطع الجلدة المسماة السمحاق وتُوضِح العظم أى تظهره ولو بقدر مغرز الإبرة. 8- الهاشمة: وهى التى تهشم العظم أى تكسرة.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص296. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 9- المنقلة: وهى التى تنقل العظم بعد كسرة أى تحوله عن مكانه. 10- الآمَّة: وهى التى تصل إلى أم الدماغ، وهى جلدة تحت العظم وفوق الدماغ أى المخ. 11- الدامغة: وهى التى تخرق تلك الجلدة وتصل إلى الدماغ. 266- ويرى مالك أن الشجاج عشرة فقط: ويسمى الأول دامية، والثانية خارصة، والثالثة سمحاقًا, والسادسة ملطاة, ويحذف مالك الثامنة وهى الهاشمة ويرى أنها تكون فى جراح البدن لا فى الرأس والوجه، ويتفق فيما عدا ذلك مع أبى حنيفة (1) . 267- ويرى الشافعى وأحمد أن الشجاج عشرة فقط: وهما يحذفان الثانية عند أبى حنيفة وهى الدامعة ويعترفان بالعشرة الباقية، ويسمى أحمد الدامية بهذا الاسم أو بالبازلة، ويسمى الشافعى وأحمد العاشرة بالمأمومة أو بالآمَّة (2) . 268- القسم الرابع: الجراح: ويقصد بالجراح ما كان فى سائر البدن عدا الرأس والوجه. والجراح نوعان: جائفة، وغير جائفة. فالجائفة: هى التى تصل إلى التجويف الصدرى والبطنى سواء كانت الجراحة فى الصدر أو البطن أو الظهر أو الجبين أو بين الأنثيين أو الدبر أو الحلق. وغير الجائفة: ما لم تكن كذلك؛ أى التى لا تصل إلى الجوف (3) . 269- القسم الخامس: ما لا يدخل تحت الأقسام السابقة: ويدخل تحت هذا القسم كل اعتداء أو إيذاء لا يؤدى إلى إبانة طرف أو ذهاب معناه ولا يؤدى إلى شجة أو جرح، فيدخل تحته كل اعتداء لا يترك أثرًا أو ترك أثرًا لا يعتبر جرحًا ولا شجة.   (1) شرح الدردير ج4 ص222 , 223. (2) المهذب ج2 ص212 , الشرج الكبير ج9 ص619 وما بعدها. (3) بدائع الصنائع ج7 ص296 , المهذب ج2 ص214 , الشرح الكبير ج9 ص628 , شرح الدردير ج4 ص248. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 الجناية على ما دون النفس عمدًا 270- الجناية على ما دون النفس عمدًا هى أن يتعمد الجانى ارتكاب فعل يمس جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته وأركان الجريمة اثنان: الأول: فعل يقع على جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته. الثانى: أن يكون الفعل متعمدًا. الركن الأول: فعل يقع على جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامته: 271- يشترط لوقوع الجريمة أن يرتكب الجانى فعلاً يسمى جسم المجنى عليه أو يؤثر على سلامة هذا الجسم بأى حال، ولا يشترط أن يكون الفعل ضربًا أو جرحًا بل يكفى أن يكون أى فعل من أفعال الأذى أو العدوان على اختلاف أنواعها كالضرب والجرح والخنق والجذب والدفع والضغط والعصر. 272- وليس من الضرورى أن يستعمل الجانى أداة معينة للإيذاء والعض وحلق الشعر ونتفه ولوى الذراع وغير ذلك، فقد يستعمل يده أو رجله أو أسنانه وقد يستعمل عصًا أو سكينًا أو سيفًا أو بندقية أو مادة مضرة أو سامة، لأن ما دون النفس لا يقصد إتلافه بآلة دون أخرى فتستوى فيه كل الآلات. وفى مذهب أحمد رأى يرى أن ما دون النفس فيه عمد وشبه عمد، ويفرق بينهما بأن فى الأول القصاص وفى الثانى الدية (1) , ويفرقون بين العمد وشبه العمد بأن الأول هو قصد الضرب بما يفضى إلى النتيجة غالبًا، والثانى هو قصد الضرب بما لا يفضى إلى النتيجة غالبًا مثل أن يضربه بحصاة لا يُوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القصاص لأنه شبه عمد (2) . ويظهر أنه هو الرأى الراجح فى المذهب، أما الرأى الآخر فيرى أن الجراح كلها عمد دون تفرقة وأن فيها القصاص لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] .   (1) الإقناع ج4 ص189. (2) الشرح الكبير ج9 ص428 , المغنى ج9 ص410. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 أما أبو حنيفة فلا يفرق بين العمد وشبه العمد إلا فى النفس، ويكفى عنده تعمد الفعل فيما دون النفس (1) ، وليس ما يمنع عند مالك والشافعى وأحمد أن يكون الجانى مسئولاً عن الجناية ولو لم تكن الجناية مباشرة لفعله، كمن طلب إنسانًا بسيف مجرد فهرب منه فخر به سقف فأصيب بجرح أو كسر؛ لأنه هو الذى ألجأ المجنى عليه للهرب بفعله. ويرى الشافعى أن العمد فيما دون النفس إما أن يكون عمدًا محضًا أو شبه عمد، فالعمد المحض هو ما أدى إلى نتيجة الفعل غالبًا، أما شبه العمد فهو ما لم يؤد إلى نتيجة الفعل غالبًا؛ كمن لطم إنسانًا على رأسه فورمت ثم انشقت حتى وضحت فهذه شبه عمد لأن الغالب أن اللطمة لا تؤدى لإيضاح، ولو رماه بحصاة فورمت ثم أوضحت فهى شبه عمد لأن الغالب أن الرمى بالحصاة لا يؤدى للإيضاح (2) . ومع أنهم وضعوا هذه القاعدة إلا أنهم يختلفون فى طبيعة تطبيقها، وهذا الخلاف مرجعه التقدير. فمثلاً ابن رشد يضرب مثلاً على شبه العمد للطمة التى تفقأ العين لأن اللطمة لا تفقأ العين غالبًا (3) بينما يرى الشافعى أن اللطمة التى تفقأ العين عمد محض لأن اللطم يؤدى غالبًا لفقأ العين (4) . 273- ويستوى أن يكون الفعل مباشرًا أو بالتسبب، فالضرب باليد وشد حبل رفيع فى طريق المجنى عليه ليتعثر فيه كلاهما يكون الجريمة. 274- ويصح أن يكون الفعل ماديًا كالضرب والجرح، ويصح أن يكون معنويًا كمن أذعر رجلاً فأصيب بشلل أو ذهب عقله أو سقط فجرح. ونص القانون المصرى كما ذكرنا من قبل لا يتسع للأفعال المعنوية، أما فى فرنسا فيعاقبون على الفعل المعنوى فيما دون النفس؛ لأن القانون الفرنسى يجعل فى حكم الضرب أنواع التعدى والإيذاء الأخرى بينما القانون المصرى لم يذكر إلا عبارة الضرب والجرح.   (1) نهاية المحتاج ج7 ص267 , البحر الرائق ج8 ص287 , بدائع الصنائع ج7 ص233 , الأم ج6 ص45. (2) الأم ج6 ص46. (3) بداية المجتهد ج2 ص341. (4) الأم ج6 ص45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 275- ويشترط أن يكون المجنى عليه معصومًا: فإن لم يكن كذلك فالفعل مباح ولا يعتبر جريمة، وقد تكلمنا عن العصمة بمناسبة الكلام على القتل وما قلناه هناك يغنى عن الإعادة هنا. 276- ويشترط ألا يؤدى الفعل لوفاة: فإذا أدى للوفاة فهو جناية على النفس قد تكون قتلاً عمدًا إذا ثبت أن الجانى تعمد الفعل وقصد القتل، وقد تكون قتلاً شبه عمد إذا ثبت أن الجانى تعمد الفعل ولم يقصد القتل. الركن الثانى: أن يكون الفعل متعمدًا: 277- لكى يكون الفعل جريمة عمدية يجب أن يصدر عن إرادة الجانى وأن يرتكب بقصد العدوان، فإن لم يرد الجانى الفعل أو أراده ولم يقصد العدوان فالفعل غير متعمد وإنما خطأ. 278- ويؤخذ الجانى بقصده المحتمل: فيسأل عن نتيجة الفعل الذى أتاه لا عما قصده وقت إحداث الفعل، فإن ترتب على الفعل ذهاب عضو أو إبطال منفعته أو إحداث موضحة أو جائفة أو اقل من ذلك، سئل عن نتيجة فعله ولو لم يكن يقصد إحداث هذه النتيجة بالذات وقت إتيان الفعل. 279- ويسأل الجانى عن قصده غير المحدود: فمن ألقى حجرًا على جماعة بقصد إصابة أحدهم سئل عن نتيجة عمله سواء كان يعرف أفراد هذه الجماعة أو لا يعرفهم. وقد سبق أن تكلمنا عن الخطأ فى الشخص والخطأ فى الشخصية، كما تكلمنا عن الإذن فى الجرح واستعمال الحق وأداء الواجب، وما قلناه ينطبق هنا. 280- ويستوى فى الجريمة على ما دون النفس أن يتعمد الجانى الفعل دون أن يقصد القتل، أو أن يتعمد الفعل بقصد القتل ما دام الفعل لم يؤد للموت؛ لأن الشريعة لا تعاقب على الشروع فى القتل إذا كان الشروع يكوَّن جريمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 تامة على ما دون النفس أيًا كانت نتيجة هذه الجريمة جرحًا أو شجة أو جائفة أو إتلافًا لعضو أو ذهاب معناه، وقد عللنا هذا الحكم بمناسبة الكلام على القتل العمد. * * * الجناية على ما دون النفس خطأ 281- سبق أن بينا تعريف الخطأ وأنواعه بمناسبة الكلام على القتل الخطأ كما بينا أركان جريمة القتل الخطأ، وما قيل هناك ينطبق بحذافيره هنا، ولا فرق إلا أن الفعل إذا أدى للوفاة فهو جناية على النفس أى قتل خطأ، وإذا لم يؤد للوفاة فهو جناية على ما دون النفس، ومن ثم لا داعى للكلام هنا عن الجريمة وأركانها لأنه تكرار لما قيل هناك. 282- فرق هام: ويجب أن نلاحظ أن الشريعة جعلت العقوبة للجناية على ما دون النفس فى حالة الخطأ متمشية مع نتيجة الفعل كما هو الحال فى العمد، فعقوبة من أتلف عضوًا أو أذهب منفعته أشد من عقوبة الجرح الذى شفى دون أن يتخلف عنه عاهة، وعقوبة من أذهب بصر إنسان أشد من عقوبة من أذهب نصف بصره وهكذا. والشريعة تتفوق على القانونين المصرى والفرنسى فى هذا لأنهما يسويان فى العقوبة مهما اختلفت نتائج الفعل، وبعض شراح القانونين ينتقدون على المشرع أنه سوى بين عقوبة الإصابات المختلفة مع اختلاف نتائجها دون مبرر لهذه التسوية. عقوبة الجناية على ما دون النفس عقوبة الجناية على ما دون النفس تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عقوبة الجناية على ما دون النفس عمدًا، وعقوبة الجناية على ما دون النفس شبه عمد، وعقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ. العقوبة الأصلية للجناية على ما دون النفس عمدًا هى القصاص، وعند مالك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 الدية مع القصاص (1) , فإذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب التى سنبينها فيما بعد حلت محله عقوبتان بدليتان الأولى الدية أو الأَرْش والثانية التعزير، ويلاحظ الفرق بين عقوبات الجناية عمدًا على النفس والجناية عمدًا على ما دون النفس، ففى النفس يعاقب بالكفارة عقوبة أصلية وبالصيام عقوبة بدلية وبالحرمان من الميراث والوصية عقوبة تبعية، أما هنا فلا يعاقب بهذه العقوبات لأنها قاصرة على القتل ومتعلقة به. أولاً: القصاص 283- القصاص: هو العقوبة الأصلية للجناية على ما دون النفس عمدًا، أما الدية والتعزير فهما عقوبتان بدليتان تحلان محل القصاص، ويترتب على اعتبار القصاص أصلاً والدية والتعزير بدلاً أنه لا يجوز الجمع بين العقوبة الأصلية وبين عقوبة أخرى بدلاً منها لأن الجمع بين البدل والمستبدل ينافيان طبيعة الاستبدال، ويترتب على ذلك أيضًا أنه لا يجوز الحكم بالعقوبة البدلية إلا إذا امتنع الحكم بالعقوبة الأصلية. وهناك نظريتان للجمع بين القصاص والدية، الأولى: يرى أصحابها أن القصاص يجمع مع الدية إذا لم يكن القصاص ممكنًا إلا فى بعض الجرح فيقتص مما يمكن القصاص فيه، وما لا يمكن القصاص فيه تحل العقوبة البدلية فيه محل القصاص، وعلى هذا تجمع الدية مع القصاص عقوبة لجرح واحد، وهذه النظرية يقول بها الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد. أما النظرية الثانية: فتقوم على أنه لا يمكن الجمع بين العقوبة الأصلية والعقوبة البدلية فى جرح واحد، فإن اقتص فى بعض الجرح سقط حقه فى الباقى ولا شئ له وهو بالخيار إن شاء اقتص ولا شئ له وإن شاء أخذ الدية، وهذه نظرية مالك وأبى حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد.   (1) شرح الدردير ج4 ص224 , مواهب الجليل ج6 ص247. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 ويمتنع الحكم بالعقوبة الأصلية إذا امتنع القصاص أو سقط لسبب من الأسباب التى نذكرها بعد، وهذه الأسباب بعضها عام وبعضها خاص بما دون النفس. * * * أسباب امتناع القصاص العامة 284- أولاً: إذا كان القتيل جزءًا من القاتل: إذا كان القتيل جزءًا من القاتل امتنع الحكم بالقصاص، ويكون القتيل جزءًا من القاتل إذا كان ولده، فإذا جرح الأب ولده أو قطعه أو شجة فلا قصاص لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقاد الوالد بولده" أما الولد فيقتص منه لوالده طبقًا للنصوص العامة، ويدخل تحت لفظى الوالد والولد كل والد وإن علا، وكل ولد وإن سفل، وحكم الأم هو حكم الأب لأنها أحد الوالدين، والجدة كالأم سواء كانت من قبَل الأب أو الأم. ويرى مالك القصاص من الأب فى القتل إذا لم يكن شك فى قصد القتل، ولكنه لا يرى القصاص من الأب فى غير القتل ويرى تغليظ الدية عليه، والتغليظ عند مالك هو تثليث الدية (1) . وعلى هذا فليس ثمة خلاف بين الأئمة الأربعة فى امتناع القصاص من الوالد لولده إذا جنى عليه فيما دون النفس، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع بتوسع عند الكلام على القتل العمد. 285- ثانيًا: انعدام التكافؤ: إذا انعدم التكافؤ بين المجنى عليه والجانى فلا قصاص وينظر إلى التكافؤ من ناحية المجنى عليه وحده لا من ناحية الجانى. وفى مذهب مالك هذا شرط التكافؤ فى النفس أما فيما دون النفس فهو يشترط التكافؤ من الوجهين، فعنده لو قطع كافر أو عبد يد مسلم لم يكن له أن يقتص منهما ولو قطعهما فليس لهما أن يقتصا منه (2) . فإن كان المجنى عليه مكافئًا للجانى أو خيرًا منه وجب القصاص وإن كان لا يكافئه امتنع القصاص، ولا يشترط فى الجانى أن يكافئ المجنى عليه لأن شرط   (1) مواهب الجليل ج6 ص256. (2) مواهب الجليل ج6 ص245 , شرح الدردير ج4 ص222. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 التكافؤ وضع لمنع قتل الأعلى بالأدنى ولم يوضع لمنع قتل الأدنى بالأعلى. وأساس التكافؤ عند مالك والشافعى وأحمد: الحرية والإسلام، وأساس التكافؤ عند أبى حنيفة: الحرية والجنس، وسنتكلم فيما يلى عن هذه الأسس الثلاثة: 1- الحرية: يرى مالك والشافعى وأحمد أن الحر لا يقتص منه إذا جرح العبد لأن العبد منقوص بالرق وهذا هو نفس رأيهم فى القتل، ويرى مالك أن لا يقتص من العبد للحر (1) . ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص من الأحرار والعبيد فيما دون النفس ولا قصاص فيما بين العبيد أنفسهم، وهو يخرج بهذا عن رأيه الذى التزمه فى القتل وهو القصاص من الحر للعبد ومن العبد للعبد، وعلة خروجه على هذا الرأى أنه يرى ما دون النفس خلق لوقاية النفس ولما كانت قيمة العبد تختلف عن دية الحر وقيمة العبد تختلف عن غيره من العبيد فلا يمكن أن تتماثل أطراف الأحرار مع العبيد ولا أطراف عبد مع عبد آخر ومن ثم امتنع القصاص بينهم، وهذا الرأى يتفق مع رأى أحمد (2) . 2- الإسلام: سبق أن تكلمنا على هذا الموضوع بما فيه كفاية بمناسبة الكلام على القتل فليراجع، ونلخص ما قلناه بأن مالكًا والشافعى وأحمد يرون أن الكافر لا يكافئ المسلم، والقاعدة عندهم أن لا قصاص من مسلم إذا قتل ذميًا. أما أبو حنيفة فيرى أن الكافر يكافئ المسلم ما دام معصوم الدم وليس فى عصمته شبهة كالمستأمن مثلاً، ومن ثم فهو يوجب القصاص من كليهما للآخر. وهم يسيرون على هذه القاعدة فيما دون النفس إلا أن مالكًا خرج عليها   (1) المغنى ج9 ص348 - 351 , بدائع الصنائع ج7 ص310 , المهذب ج3 ص225 , 226. (2) الشرح الكبير ج9 ص326. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 ورأى ألا قصاص بين المسلم والكافر بصفة مطلقة فيما دون النفس، فإذا جرح أحدهما الآخر فلا قصاص لانعدام التكافؤ، ولو أنه يقرر أن المسلم خير من الكافر لأن القصاص فيما دون النفس يقتضى المساواة بين الطرفين ولا مساواة (1) . 3- الجنس: القاعدة عند الأئمة الأربعة أن الأنثى يقتص منها للذكر والذكر يقتص منه للأنثى، وهذا فى القتل أى فى النفس، وقد طبق مالك والشافعى وأحمد هذه القاعدة أيضًا فيما دون النفس (2) ، وحجتهم أن من يجرى بينهم القصاص فى النفس يجرى بينهم فى الأطراف، أما أبو حنيفة فيخالف هذه القاعدة ولا يطبقها فيما دون النفس لأنه يسير على قاعدة أخرى فيما دون النفس هى اعتبار أن ما دون النفس كالأموال، وبتطبيق هذه القاعدة لا يجعل المرأة مماثلة للرجل لأن دية المرأة على النصف من دية الرجل ودية طرفها لا تماثل دية طرف الرجل، وإذا انعدمت المساواة بين أرشيهما امتنع القصاص فى طرفيهما سواء كان الجانى هو الذكر أو الأنثى (3) . التماثل فى العدد: يشترط أبو حنيفة التماثل فى العدد بين المجنى عليه والجانى، فجب أن يكون الجانى واحدًا ليقتص منه فإن كان الجناة أكثر من واحد فلا قصاص إذا تعاونوا على ارتكاب فعل واحد كأن قطعوا يد رجل أو إصبعه أو أذهبوا سمعه أو بصره أو قلعوا له سنًا أو نحو ذلك من الجوارح التى يجب على الواحد فيها القصاص لو انفرد بالفعل، وعليهم دية الجارحة مقسمة عليهم بالتساوى، أما إذا ارتكب كل منهم منفردًا فعلاً يجب فيه القصاص فعلى كل منهم القصاص فيما فعله. وحجة أبى حنيفة أن المماثلة فيما دون النفس شرط أساسى للقصاص ولا مماثلة بين جارحة وجوارح، كيد واحدة وأيدٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ لا فى الذات ولا فى المنفعة ولا فى الفعل. أما فى الذات فلا شك فيه لأنه لا مماثلة بين العدد والفرد من حيث الذات،   (1) مواهب الجليل ج6 ص245 , وراجع الفقرة 153 وما بعدها. (2) المغنى ج9 ص378 , مواهب الجليل ج6 ص245 , المهذب ج3 ص190. (3) بدائع الصنائع ج7 ص310 , وراجع الفقرة 153 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وإذا كانت الصحيحة لا تقطع بالشلاء لفوات المماثلة من حيث الوصف مع التساوى فى الذات فأولى أن يمتنع القصاص لفوات المماثلة فى الذات. وأما فى المنفعة فلأن منفعة اليدين أكثر من منفعة يد واحدة ومن المنافع ما لا يتأتى إلا باليدين كالكتابة والخياطة. وأما فى الفعل فلأن الموجود من كل واحد قطع بعض اليد والجزاء قطع كل اليد من كل منهم وقطع اليد أكثر من قطع بعضها (1) . ويفرق أبو حنيفة بين النفس وما دونها بأن الفعل فيما دون النفس يتجزأ لأنه قطع بعض الجارحة وترك البعض موجودًا، بخلاف النفس فإن إزهاقها لا يتجزأ، ورأى أبى حنيفة وجه فى مذهب أحمد. ويرى مالك والشافعى وأحمد القصاص من الجماعة للواحد، وحجتهم أن شاهدين شهدا عند على رضى الله عنه وعلى رجل بالسرقة فقطع علىٌّ يده، ثم جاءا بآخر فقالا هذا هو السارق وأخطأنا فى الأول فرد شهادتهما على الثانى وغرمهما دية الأول وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما. فأخبر أن القصاص على كل واحد منهما لو تعمدا قطع يد واحد، ولأنه أحد نوعى القصاص فتؤخذ الجماعة بالواحد كالأنفس. ويرى الشافعى وأحمد أنه يجب للقصاص من الجماعة بالواحد أن يكون اشتراك الجماعة فى الطرف على وجه لا يتميز فيه أحدهما عن الآخر؛ إما بأن يشهدوا عليه بما يوجب قطعه ثم يرجعوا عن شهادتهم، أو يكرهوا إنسانًا على قطع طرف فيجب قطع المكرهين كلهم والمكَره، أو يتعاونوا فى إلقاء حجر على المجنى عليه فتقطع طرفه أو يقطعوا يدًا ويقلعوا عينًا بضربه واحدة أو يضعوا حديدة على مفصل ويتحاملوا عليها جميعًا حتى يقطع الطرف، فإن قطع كل واحد منهم من جانب أو قطع أحدهم بعض المفصل وأتم غيره أو ضرب كل واحد ضربة أو وضعوا منشارًا مثلاً على مفصله ثم مر كل واحد عليه   (1) بدائع الصنائع ج9 ص299. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 مرة حتى بانت اليد فلا قصاص فيه؛ لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ولم يشارك فى قطع جميعها، وإن كان فعل كل واحد منهم يمكن الاقتصاص فيه بمفرده اقتص منه (1) . أما مالك ففرق بين حالة التمالؤ وعدم التمالؤ، فإن تمالئوا اقتص من كل منهم بقدر ما أحدثوا بالمجنى عليه سواء تميزت أفعال كل منهم أم لم تتميز، فإذا قلعوا عينه وقطعوا رجله ويده قلع لكل عينه وقطعت يده ورجله، أما إذا لم يكن تمالؤ فإن تميزت أفعالهم أخذ كل منهم بفعله، وإن لم تتميز أفعالهم فعليهم القصاص كما لو تمالؤوا، وهناك من يرى ألا قصاص عليهم وعليهم الدية (2) . ولا يشترط الشافعى وأحمد التمالؤ فيما دون النفس ويكفى التوافق للقصاص من الجميع. 286- ثالثًا: أن يكون الفعل شبه عمد: يرى الشافعى وأحمد أن الجناية على ما دون النفس قد تكون عمدًا وقد تكون شبه عمد، فهى عمد إذا كان الفعل متعمدًا أو كان يؤدى غالبًا إلى النتيجة التى انتهى إليها، كمن ضرب غيره بسكين فقطع إصبعه أو بعصًا فكسر ذراعه أو أحدث برأسه تربنة. وهى شبه عمد إذا كان الفعل متعمدًا ولكنه لا يؤدى غالبًا إلى النتيجة التى انتهى إليها، كمن لطم آخر ففقأ عينه أو رماه بحصاة فأحدثت ورمًا انتهى بموضحة. ويرتبان على تقسيم الجناية على ما دون النفس إلى عمد وشبه عمد أن القصاص يجب فى العمد فقط أما شبه العمد فيجب فيه الدية، وهما يسيران فى هذا التقسيم وفى ترتيب العقوبة على ما سارا عليه فى الجناية على النفس (3) . أما مالك وأبو حنيفة فيريان أن الجناية على ما دون النفس لا تكون إلا عمدًا لأن مالك لا يعترف بشبه العمد والفعل عنده إما عمد أو خطأ، ولأن أبا حنيفة يرى أن ما دون النفس لا يقصد إتلافه بآلة دون أخرى فاستوت فيه   (1) المغنى ج9 ص370 وما بعدها , المهذب ج2 ص190. (2) شرح الدردير ج4 ص222. (3) الشرح الكبير ج9 ص428 , الأم ج6 ص6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 الآلات للدلالة على القصد، فكان الفعل عمدًا فى كل حال أى أن ما دون النفس لا يقصد إلا مجرد الاعتداء عليه، والاعتداء ممكن بأى آلة بعكس القتل فلا يكون إلا بآلة مخصوصة، ومن ثم كان توفر قصد الاعتداء كافيًا لاعتبار الفعل عمدًا فيما دون النفس ولم يكن هناك محل لاعتبار شبه العمد (1) , ويترتب على رأى مالك وأبى حنيفة أن الجناية على ما دون النفس يجب فيها القصاص فى كل حال ما دام الجانى قد تعمد الفعل. 287- رابعًا: أن يكون الفعل تسببًا: يرى أبو حنيفة دون غيره من الأئمة أن الجناية على ما دون النفس بالتسبب لا توجب القصاص لأن القصاص فعل مباشر فيجب أن يكون الفعل المقتص عنه على طريق المباشرة؛ لأن أساس عقوبة القصاص هو المماثلة بين الفعلين، ويوجب أبو حنيفة الدية بدلاً من القصاص ولكن الأئمة الثلاثة لا يرون فرقًا بين الجناية بالتسبب والجناية المباشرة ويوجبون القصاص على الجانى فى الحالين. 288- خامسًا: أن تكون الجناية قد وقعت فى دار الحرب: يرى أبو حنيفة دون غيره من الأئمة أن لا قصاص من الجانى إذا كانت الجناية قد وقعت فى دار الحرب. ويرى بقية الأئمة القصاص سواء كانت الجناية فى دار الحرب أو دار الإسلام، وقد سبق أن تكلمنا على هذه المسألة وفيما ذكرناه غنى عن الإعادة (2) . 289- سادسًا: عدم إمكان الاستيفاء: يمتنع القصاص إذا لم يكن الاستيفاء ممكنًا لأن القصاص قائم على التماثل واستيفاء المثل بدون مكان استيفائه ممتنع، فيمتنع الاستيفاء ضرورة، فمثلاً إذا كان المجنى عليه مقطوع المفصل الأعلى من إبهام اليد اليمنى وجاء الجانى فقطع المفصل الثانى لنفس الإصبع فلا يمكن أن يقتص من الجانى إذا كان إبهام يده اليمنى سليمًا لأن القصاص يؤدى إلى قطع مفصلين والمقطوع مفصل واحد فينعدم التماثل. وكذلك لو أجاف الجانى المجنى عليه أو شجه آمةَّ أو دامغة فالقصاص لا يمكن فى هذه الحالات؛ لأنه لا يمكن إجافة الجانى أو شجه على وجه التماثل التام (3) , ومن ثم يتعذر القصاص بتعذر استيفائه، وينتقل   (1) بدائع الصنائع ج9 ص297. (2) راجع الفقرة 160. (3) بدائع الصنائع ج9 ص297. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 حق المجنى عليه إلى بدل القصاص وهو الدية. 290- أسباب امتناع القصاص الخاصة بما دون النفس: أسباب امتنع القصاص الخاصة بما دون النفس هى: أولاً: عدم إمكان الاستيفاء بلا حيف. ثانيًا: عدم المماثلة فى المحل. ثالثًا: عدم الاستواء فى الصحة والكمال. وهذه الأسباب ترجع كلها إلى أساس واحد هو التماثل، فالقصاص يقتضى بطبيعته التماثل من كل وجه، التماثل فى الفعل والتماثل فى المحل والتماثل فى المنفعة. 291- أولاً: عدم إمكان الاستيفاء بلا حيف: يشترط للقصاص أن يكون الاستيفاء ممكنًا بلا حيف، ولا يكون الاستيفاء ممكنًا بلا حيف من الأطراف إلا إذا كان القطع من مفصل، أو كان له حد ينتهى إليه، كمارن الأنف وهو ما لان منه، فإن كان القطع من غير مفصل أو لم يكن له حد ينتهى إليه كالقطع من قصبة الأنف أو من نصف الساعد أو من نصف الساق، فالفقهاء فى ذلك على رأيين، أولهما: يرى أنه لا قصاص ما دام القطع من غير مفصل وليس له حد ينتهى إليه لتعذر الاستيفاء. وعلى هذا الرأى أبو حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد، الرأى الثانى: يرى أصحابه أن يقتص من أول مفصل داخل فى محل الجناية وله حكومة فى الباقى حيث لا يمكن القصاص على وجه المماثلة من غير المفصل، فمن قطع ذراعه من نصف العضد كان له أن يقتص من المرفق ويأخذ حكومة عن نصف العضد، ومن قطع ذراعه من نصف الساعد كان له أن يقتص من الكوع ويأخذ حكومة عن نصف الساعد. وعلى هذا الرأى الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، ولكن بعض الفقهاء فى مذهب أحمد يرون أن المجنى عليه يستحق حكومة عن الزائد والبعض يرى أنه لا يستحق شيئًا (1) , تطبيقًا للمبدأ القائل بأنه لا يجمع فى فعل واحد بين قصاص ودية، أما مالك فيرى القصاص ولو كان القطع   (1) بدائع الصنائع ج9 ص298 , الشرح الكطبير ج9 ص348 , المهذب ج2 ص192 , 193 , الشرح الكبير للدردير ج4 ص329. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 من غير مفصل إذا كان ذلك ممكنًا ولا خوف منه، فإن لم يكن كذلك فلا قصاص ولو رضى الجانى بالقطع من مفصل داخل فى الجناية، ومن المتفق عليه بين أبى حنيفة والشافعى وأحمد ألا قصاص فى كسر العظام لأن التماثل غير ممكن، والأمن من الحيف غير محقق. ولكن مالكًا يرى القصاص إذا قرر الخبراء أنه ممكن ولا خوف منه على حياة المقتص منه (1) . وإذا اصطحب الكسر بشجة كالهاشمة والمنقلة أو جرح من جراح الجسد فيرى الشافعى القصاص من الموضحة لأنها داخلة فى الجناية ويمكن القصاص فيها وله أرش الباقى حيث تعذر فيه القصاص، فانتقل إلى البدل، وهذا هو مذهب أحمد، إلا أن بعضهم يرى أن له أرش الباقى، والبعض يرى أن ليس له مع القصاص شئ لأنه جرح واحد فلا يجمع فيه بين القصاص والدية، ويرى مالك القصاص من الجرح والعظم معًا فى جراح الجسد لا فى شجاج الرأس إن كان ممكنًا وإلا فلا، ويرى مالك أيضًا أن لا قصاص فى الشجاج فيما فوق الموضحة ولو بقدر الموضحة ولكن فى الجسد إذا كان جرح مصحوب بكسر فلا مانع فى القصاص، إذ كان ذلك ممكنًا فى الجميع وإلا فلا، أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص أصلاً. ومن المتفق عليه أن لا قصاص فيما فوق الموضحة من الشجاج لأن الاستيفاء دون حيف غير ممكن، أما ما دون الموضحة فيرى مالك القصاص فيه لأنه يرى الاستيفاء ممكنًا دون حيف، بأن يقاس طول الجرح وعمقه ويقتص بمثله، وهو ظاهر مذهب أبى حنيفة إن كان القصاص من الموضحة والسمحاق والباضعة والدامية، وهو رواية عن محمد، ورواية أخرى ألا قصاص فيما قبل الموضحة وهو رأى الشافعى وأحمد، وحجتهما أن ما دون الموضحة ليس له حد ينتهى إليه؛ لأن الموضحة تنتهى إلى العظم، أما ما دونها فليس كذلك، والقول بإمكان قياس عمق الجرح يؤدى إلى الاقتصاص من الباضعة أو السمحاق موضحة إذا   (1) الشرح الكبير للدردير ج4 ص244 , المدونة ج16 ص122 , 123. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 كان اللحم أى لحم الشاج خفيفًا، أو الاقتصاص من السمحاق متلاحمة أو باضعة إذا كان لحم الشاج أخف من لحم المشجوج (1) . وأساس اختلاف الفقهاء فى جميع ما سبق هو اختلاف التقدير، أما قاعدتهم جميعًا فواحدة فمن رأى أن الاستيفاء ممكن فى حالة دون حيف قال به ومن رآه لا يمكن بغير حيف منع منه. 292- ثانيًا: عدم المماثلة فى الموضع: يشترط للقصاص التماثل فى الموضع أى فى حمل الجناية، فلا يؤخذ شئ إلا بمثله ولا يقتص من عضو إلا لما يقابله، فلا تؤخذ اليد إلا باليد لأن غير اليد ليس من جنسها، فهو ليس مثلاً لها إذ التجانس شرط للمماثلة ولا تؤخذ الرجل إلا بالرجل والإصبع إلا بالإصبع والعين إلا بالعين والأنف إلا بالأنف ولا يؤخذ الإبهام إلا بالإبهام ولا السبابة إلا بالسبابة ولا الوسطى إلا بالوسطى ولا البنصر إلا بالبنصر ولا الخنصر إلا بالخنصر لأن منافع الأصابع مختلفة فكانت كالأجناس المختلفة، ولا تؤخذ اليد اليمنى إلا باليد اليمنى ولا اليسرى إلا باليسرى لأن لليمين فضلاً على اليسار ولذلك سميت يمينًا، وكذلك الرجل، وكذلك أصابع اليدين والرجلين لا تؤخذ اليمنى منها إلا باليمنى ولا اليسرى إلا باليسرى، وكذلك الأعين كما قلنا وكذلك الأسنان لا تؤخذ الثنية إلا بالثنية ولا الناب إلا بالناب ولا الضرس إلا بالضرس لاختلاف منافعها فإن بعضها قواطع وبعضها طواحن وبعضها ضواحك، واختلاف المنفعة بين الشيئين يلحقهما بجنسين مختلفين ولا مماثلة عند اختلاف الجنس، وكذلك لا يؤخذ الأعلى منها بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لتفاوت المنفعة بين الأعلى والأسفل (2) . 293- ثالثًا: المساواة فى الصحة: يشترط للقصاص أن يتساوى العضوان فى الصحة والكمال فلا تؤخذ مثلاً عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد يد صحيحة   (1) الشرح الكبير ج9 ص461 , 462 , بدائع الصنائع ج9 ص309 , مواهب الجليل ج6 ص246 , المهذب ج2 ص190. (2) بدائع الصنائع ج9 ص297 , الشرح الكبير ج9 ص442 , المهذب ج2 ص190 وما بعدها , مواهب الجليل ج6 ص246. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 بيد شلاء ولا رجل صحيحة برجل شلاء لأن المقتص يأخذ فوق حقه؛ أما إذا أراد المجنى عليه أن يأخذ الشلاء بالصحيحة فله أن يقتص لأنه يأخذ دون حقه وليس له مع القصاص أرش مقابل نقص الشلل لأن الشلاء كالصحيحة فى الخلقة، وإنما تنقص عنها فى الصفة والتماثل لا يشترط فى الصفات، ويحتاط الشافعى وأحمد فى أخذ الشلاء بالصحيحة فيشترطان أن يقرر أهل الخبرة أن قطع العضو الأشل لا يؤثر على حياة المقتص منه لأن الشلل علة وللعلل تأثيرها على الأبدان. أما مالك فيرى أن لا تؤخذ الصحيحة بالشلاء، كما يرى أن لا تؤخذ الشلاء بالصحيحة ولو رضى المجنى عليه بها، إلا إذا كان العضو الأشل فيه نفع للجانى فإن لم يكن فيه نفع فلا قصاص. ويرى مالك والشافعى وأحمد القصاص بين الأشلين للمساواة، ويرى بعض فقهاء مذهب الشافعى أن لا قصاص لأن الشلل علة والعلل يختلف تأثيرها على الأجسام. أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص بين الأشلين لأنه يشترط التماثل فى الأرش لأنه يسلك بالأطراف مسلك الأموال والشلل يؤثر على كل عضو تاثيرًا مختلفًا فلا تصبح قيمتها واحدة، ومن ثم امتنع القصاص لعدم المساواة (1) , ويرى زفر القصاص عند تساوى الشلل. ولا يؤخذ الكامل بالناقص فمثلاً لا تؤخذ يد ولا رجل كاملة الأصابع بيد أو رجل تنقص إصبعًا أو أكثر لانعدام المساوة، وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وأحمد، ولكن يجوز أخذ الناقص بالكامل، فتؤخذ اليد أو الرجل الناقصة إصبعًا أو أكثر باليد أو الرجل الصحيحة، وليس للمقتص عند أبى حنيفة رأى فى مذهب أحمد، وله عند الشافعى ورأى فى مذهب أحمد أرش ما نقص لأنه وجد بعض حقه فاقتص فيه، وعدم بعضه فانتقل القصاص فيه إلى البدل وهو الأرش، أما مالك فيرى قطع اليد أو الرجل الناقصة إصبعًا واحدًا بالكاملة   (1) مواهب الجليل ج6 ص246 , البحر الرائق ج8 ص306 , 308 , بدائع الصنائع ج9 ص203 , المهذب ج2 ص193 , الشرح الكبير ج9 ص458 , 488. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 بلا غرم على الجانى ولا خيار للمجنى عليه فى نقص الإصبع، وله أن يختار بين القصاص وبين الدية إن كان النقص إصبعين فأكثر، أما الإصبع وبعض الآخر فلا خيار فيه للمجنى عليه لأنه نقص يسير لا يمنع المماثلة، ومن ثم فيتعين قطع الناقصة بالكاملة، أما إذا نقصت يد المجنى عليه أو رجله إصبعًا فالقود على الجانى الكامل الأصابع، ولا يغرم المجنى عليه الناقص الأصابع أرش الإصبع الزائد، ولا قصاص إن نقصت يد المجنى عليه أكثر من إصبع إذا كانت يد الجانى كاملة الأصابع (1) . ولا تؤخذ يد ذات أظافر بيد لا أظافر لها، لكن تؤخذ اليد ذات الأظافر الصحيحة باليد ذات الأظافر المسودة أو المخضرة؛ لأن هذا الوصف لا يوجب نقصًا فى المنفعة ولأن الصحيح يؤخذ بالسقيم (2) . وإذا قطع يد رجل وفيها إصبع زائدة وفى يد الجانى مثلها، فلا قصاص عند أبى حنيفة لأن الإصبع الزائدة نقص وعيب، ويرى أبو يوسف القصاص للتماثل والمساواة، وهو رأى الشافعى وأحمد ويتفق مع رأى مالك. ويرى أبو حنيفة أن مقطوع الإبهام إذا قطع يد مقطوع الإبهام فلا قصاص لأن قطع الإبهام توهين للكف، ويسقط تقدير الأرش، فلا يعرف إلا بالحَزْر والظن، فتنعدم المماثلة وعند بقية الفقهاء القصاص واجب للتماثل (3) . * * * كيف طبق الفقهاء شروط القصاص الخاصة؟ أولاً: فى إبانة الأطراف وما يجرى مجراها 294- الجفن: يؤخذ الجفن بالجفن عند الشافعى وأحمد لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل فوجب فيه القصاص، ويؤخذ جفن البصير بجفن الضرير، وجفن الضرير بجفن البصير، لأنهما متساويان فى السلامة من النقص وعدم الإبصار ليس نقصًا فى الجفن ذاته   (1) بدائع الصنائع ج9 ص298 , الشرح الكبير ج9 ص448 , 449 , المهذب ج8 ص193 , مواهب الجليل ج6 ص249 , شرح الدردير ج4 ص226 , البحر الرائق ج8 ص308. (2) البحر الرائق ج8 ص308 , المواهب ج6 ص242. (3) بدائع الصنائع ج7 ص303 , المهذب ج2 ص194. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وإنما هو نقص فى غيره (1) , أما عند مالك وأبى حنيفة فلا قصاص فى جفون العين لأنه لا يمكن استيفاء المثل تمامًا من دون حيف (2) . 295- الأنف: يؤخذ الأنف بالأنف عند مالك والشافعى وأحمد، لقوله تعالى: {وَالأَنفَ بِالأَنفِ} [المائدة:45] ولا يجب القصاص فى الأنف إلا فى المارن، وهو ما لان منه لأنه ينتهى إلى مفصل، ويؤخذ الكبير بالصغير، والأقنى بالأفطس، والأشم بالأخشم الذى لا يشم؛ لأنهما متساويان فى السلامة من النقص وعدم الشم نقص فى غيره ويؤخذ البعض بالبعض، وهو أن يقدر ما قطعه بالجزء كالنصف والثلث ثم يقتص بالنصف والثلث من مارن الجانى ولا يؤخذ قدره بالمساحة لأن أنف الجانى قد يكون صغيرًا وأنف المجنى عليه كبيرًا، فإذا اعتبرت المماثلة بالمساحة أدى ذلك إلى قطع جميع المارن بالبعض. ويؤخذ المنخر بالمنخر، والحاجز بين المنخرين بالحاجز، لأنه لا يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل، ولا يؤخذ مارن صحيح بمارن سقط بعضه بالجذام، ولكن يؤخذ المارن الصحيح بالمارن المريض بالجذام ما دام لم يسقط منه شئ، وإن قطع من سقط بعض مارنه مارنًا صحيحًا للمجنى عليه أن يقتص من الموجود، وينتقل فى الباقى إلى البدل عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد وليس له شئ غير القصاص عند مالك وبعض فقهاء مذهب أحمد، وإن قطع الأنف من أصله اقتص من المارن لأنه داخل فى الجناية ويمكن القصاص فيه كما يرى الشافعى وأحمد، وينتقل فى الباقى إلى الحكومة لأنه لا يمكن القصاص فى الباقى لأنه عظم فانتقل فيه إلى البدل، كما يرى الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد وليس له شئ مع القصاص على ما يرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد، أما مالك فيرى القصاص من العظام كلما كان ذلك ممكنًا فإن لم يكن ممكنًا فلا قصاص (3) ,   (1) المهذب ج2 ص191 , الشرح الكبير ج9 ص436. (2) مواهب الجليل ج6 ص247 , بدائع الصنائع ج7 ص308. (3) المدونة ج16 ص123 , مواهب الجليل ج6 ص227 , 228. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 أما أبو حنيفة فيرى القصاص فى الأنف إذا أخذ كل المارن، لأن له حدًا ينتهى إليه وهو ما لان منه، أما إذا قطع بعضه أو كان القطع من قصبة الأنف فلا قصاص لتعذر استيفاء المثل فى البعض، ولأنه لا قصاص من العظم، وإن كان أنف القاطع أصغر خُيِّر المقطوع أنفه الكبير إن شاء قطع وإن شاء أخذ الدية وكذلك إذا كان قاطع الأنف أخشم لا يجد الريح أو أخرم الأنف أو بأنفه نقصان من شئ أصابه فإن المقطوع مخير بين القطع وبين أخذ دية أنفه (1) . العين: تؤخذ العين بالعين عند الفقهاء الأربعة لقوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45] ولأنها تنتهى إلى مفصل فجرى القصاص فيها، وتؤخذ العين السليمة بالضعيفة خلقة أو من كبر، فتؤخذ عين الشاب بعين الشيخ المريضة، وعين الكبير بعين الصغير والأعمش، ولا تؤخذ الصحيحة بالغائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه، وتؤخذ الغائمة بالصحيحة لأنها دون حقه ولا أرش، لأن التفاوت فى الصفة. ويستثنى أبو حنيفة من القصاص ما لو كانت عين المجنى عليه فيها بياض ولكن يبصر بها، وكذلك عين الجانى، فإنه لا قصاص فيهما (2) . وإذا قلع الأعور عين صحيح فلا قود عليه وعليه دية كاملة عند أحمد، وحجته أن عمر وعثمان قضيا بهذا ولم يكن لهما مخالف فى عصرهما فصار إجماعًا. أما مالك فيرى تخيير المجنى عليه فإن شاء اقتص وإن شاء أخذ دية كاملة، ويرى أبو حنيفة والشافعى أن للمجنى عليه القصاص ولا شئ عليه، وإن عفا فله نصف الدية فقط. أما مالك فجعل له الدية كاملة، لأن عين الأعور هى كل بصره أى تساوى عينيين. ولو قلع الأعور عين مثله ففيه القصاص دون خلاف لتساويهما من كل وجه إذا كانت العين مثل العين فى كونها يمينًا أو يسارًا وإن عفا على الدية فله جميعها، لأنه ذهب بجميع بصره فأشبه ما لو قلع عين صحيح.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص306 , حاشية الطهطاوى ج4 ص268. (2) حاشية الطهطاوى ج4 ص268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وإن قلع الأعور عين صحيح فالرأى الراجح فى مذهب أحمد: إن شاء اقتص ولا شئ له سوى ذلك لأنه قد أخذ جميع بصره، فإن اختار الدية فله دية واحدة، والرأى المرجوح يرى أن له ديتين، إحداهما: للعين التى تقابل عينه، والدية الثانية: لأجل العين الثانية. وعند مالك: للمجنى عليه القصاص ونصف الدية. وإن قلع صحيح العينين عين أعور فله القصاص من مثلها ويأخذ نصف الدية لأن الجانى ذهب بجميع بصره وأذهب الضوء الذى بدله دية كاملة، وقد تعذر استيفاء جميع الضوء إذ لا تؤخذ عينان بعين واحدة، ولا أخذ يمنى بيسرى فوجب الرجوع ببدل نصف الضوء، ويرى البعض أن ليس له إلا القصاص من غير زيادة أو العفو على الدية؛ لأن الزيادة هنا غير مثمرة فلم يكن لها بدل. ويرى مالك أن الصحيح إذا فقأ عين الأعور فللأخير أن يقتص أو يأخذ دية كاملة لا نصف دية (1) . 296- الأذن: وتؤخذ الأذن بالأذن عند الأئمة الأربعة لقوله تعالى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة:45] ولأنه يمكن القصاص لانتهائه إلى حد فاصل. وتؤخذ أذن السميع بأذن الأصم، وأذن الأصم بأذن السميع، لأنهما متساويان فى السلامة من النقص، وعدم السمع نقص فى غير صوان الأذن، ويؤخذ بعض الأذن ببعضها ويراعى فى تقدير المقطوع نسبته إلى الباقى فيقدر بالجزء ولا يقدر بالمساحة؛ كما ذكر فى حالة الأنف. ويؤخذ الصحيح بالمثقوب والمثقوب بالصحيح، لأن المثقوب ليس بنقص، وإنما تثقب الأذن للزينة، ولا يؤخذ صحيح بمشقوق لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ المشقوق بالصحيح وله من الدية ما يقابل النقص عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، وليس له شئ عند باقى الفقهاء (2) .   (1) مواهب الجليل ج6 ص249 , المغنى ج9 ص430 - 432 , المهذب ج2 ص191 , حاشية الطهطاوى ج4 ص268. (2) مواهب الجليل ج6 ص22246 , المدونة ج16 ص113 , المهذب ج2 ص191 , الشرح الكبير ج9 ص430 , البحر الرائق ج8 ص303. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 297- الشفتان: وتؤخذ الشفة بالشفة، وهو ما بين جلد الذقن والخدين علوًا وسفلاً لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ولأنه ينتهى إلى حد معلوم والقصاص فيه ممكن، وهذا هو رأى الأئمة الأربعة، وفى مذهب الشافعى من يرى أن لا قصاص فى الشفتين لأنه قطع لحم لا ينتهى إلى عظم، وهو رأى مرجوح، وفى مذهب أبى حنيفة يرون القصاص فى الكل، ولا يرون القصاص فى الجزء لعدم إمكان القصاص بدون حيف (1) . 298- اللسان: ويؤخذ اللسان عن مالك والشافعى وأحمد لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن له حدًا ينتهى إليه، فاقتص فيه، ولا يؤخذ لسان الناطق بلسان الأخرس لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ لسان الأخرس بلسان الناطق لأنه يأخذ بعض حقه، ولا يرى مالك القصاص فى هذه إلا إذا كان فى اللسان منفعة للجانى كما هو الحال فى اليد الشلاء، وإن قطع نصف اللسان أو ثلثه أو ربعه اقتص من لسان الجانى فى مثل ذلك القدر، وفى مذهب الشافعى رأى يرى عدم القصاص فى البعض لأنه لا يؤمن أن يتجاوز القدر المستحق ولكنه رأى مرجوح، والمذهب أن ما يمكن القصاص فى كله يمكن القصاص فى بعضه (2) , أما أبو حنيفة فيرى أن لا قصاص فى اللسان كله أو بعضه إذ القاعدة عنده أن ما يتبعض وينبسط لا يمكن استيفاء القصاص فيه بصفة المماثلة، ولكن أبا يوسف يرى القصاص فى كل اللسان إن استوعب قطعًا، إذ يمكن القصاص على وجه المماثلة بالاستيعاب (3) .   (1) مواهب الجليل ج6 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص308 , المهذب ج2 ص192 , الشرح الكبير ج9 ص436. (2) مواهب الجليل ج6 ص246 , المهذب ج2 ص192 , الشرح الكبير ج9 ص436. (3) بدائع الصنائع ج7 ص308. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 299- السن بالسن: ويؤخذ السن بالسن لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] ولأنه محدود فى نفسه يمكن القصاص فيه دون حيف، ولا يؤخذ سن صحيح بسن مكسور لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويأخذ المكسور بالصحيح، ولا شئ له عند مالك وأبى حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد، وله مقابل ما نقص من المكسور عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد؛ ولا قصاص فى قلع السن الزائد لتعذر المثل، وإن كان له سن زائد فى غير موضع المقلوع لم يؤخذ به، ويرى الشافعى القصاص فى السن الزائد إذا كان له مماثل وكذلك أحمد، ولا يرى ذلك أبو حنيفة. ولا يقتص إلا من سن قد سقطت رواضعه ثم نبتت بعد ذلك، وإلا فلا قصاص، حيث إنها تعود بحكم العادة كما كانت قبل السقوط أو الكسر (1) . 300- اليد: وتؤخذ اليد باليد والرجل بالرجل والأصابع بالأصابع والأنامل بالأنامل بقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ، ولأن لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف فوجب القصاص. وإذا كان القطع من مفصل الكوع أو المرفق فله القصاص باتفاق الفقهاء، أما إذا كان القطع من غير مفصل كالقطع من الكف أو الساعد أو العضد، فمالك يرى القصاص إذا أمكن ولم يخفف منه وإلا فلا قصاص وأبو حنيفة وأحمد والشافعى لا يرون القصاص لأن محل القطع عظم، لكن يجوز عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد أن يقتص المجنى عليه من أول مفصل داخل فى الجناية، ولا يجيز هذا أبو حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد ولا يجيزه مالك حتى لو اتفق عليه الطرفان، ومن أجازه من فقهاء أحمد اختلفوا، فبعضهم يرى أن للمجنى   (1) مواهب الجليل ج6 ص249 , 261 , المهذب ج2 ص192 , الشرح الكبير ج9 ص434 , البحر الرائق ج8 ص304 , 305. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 عليه أرش الباقى، وبعضهم يرى أن لا شئ له مع القصاص ومذهب الشافعى أن له أرش الباقى. وقياسًا على ما سبق يكون الحكم فى الأعضاء ذات المفاصل وهى الأصابع والرجلين ولا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة الأصابع، فإن قطع من له خمس أصابع كف من له أربع أصابع، أو قطع من له ست أصابع كف من له خمس أصابع، لم يكن للمجنى عليه أن يقتص منه عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد لأنه يأخذ أكثر من حقه، لكن الشافعى يجيز هو وبعض فقهاء مذهب أحمد أن يأخذ من أصابع الجانى ما يقابل الأصابع المقطوعة لأنها داخلة فى الجناية ويمكن استيفاء القصاص فيها، ولا يرى ذلك أبو حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد، أما مالك فيجيز القصاص بين اليد الكاملة واليد الناقصة إذا كان النقص فى الجانى أو المجنى عليه إصبعًا واحدة أيًا كانت، ولا مقابل للإصبع الزائدة فإن زاد النقص عن إصبع واحدة فلا قصاص ولا يجيز مالك ما يجيزه الشافعى من أخذ الأصابع دون الكف. وتؤخذ يد ناقصة الأصابع بيد كاملة الأصابع، فإن قطع من له أربع أصابع كف من له خمس أصابع، أو قطع من له خمس أصابع كف من له ست أصابع، فللمجنى عليه أن يقتص من الكف، وليس له شئ عند أبى حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد؛ وله دية الإصبع الخامس والحكومة فى الإصبع السادس عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد لأنه وجد بعض حقه وعدم الباقى، فأخذ الموجود وانتقل فى المعدوم إلى البدل، أما الفريق الآخر فحجته أنه لا يجوز الجمع بين قصاص ودية فى عضو واحد. ورأى مالك تؤخذ الناقصة بالكاملة إذا كان النقص إصبعًا واحدًا ولا مقابل للناقص، فإن كان النقص أكثر من إصبع خُيِّر المجنى عليه بين القصاص والدية، فإن اقتص فلا شئ له. ولا يؤخذ أصلى بزائد، فإن قطع من له خمس أصابع أصلية كف من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة لم يكن للمجنى عليه أن يقتص من الكف لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويجيز الشافعى وبعض فقهاء أحمد القصاص من الأصابع الأصلية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 على ما ذكرنا آنفًا، ومذهب مالك يجيز القصاص؛ لأن نقص إصبع واحدة لا يمنع من القصاص. ويجوز أخذ الزائد بالأصلى، فإن قطع من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية، فللمجنى عليه - عند الشافعى - أن يقتص من الكف لأنه دون حقه، ولا شئ له لنقصان إصبع أصلية، لأن الإصبع الزائدة تقوم مقامها، إذ أنها مثلها فى الخلقة. وفى مذهب أحمد رأى يرى أن لا قصاص لاختلاف الزائدة عن الأصلية، ورأى يرى القصاص إذا كانت الزائدة فى محل الأصلية، ورأى يرى القصاص مطلقًا لأن الزائدة لا عبرة بها. ويظهر أن أبا حنيفة يجيز أخذ الزائد بالأصلى لأنه يعتبر الزيادة نقصًا، والقاعدة عنده أن الناقص يؤخذ بالكامل (1) . والقاعدة عند مالك: أنه لا يؤخذ الكامل بالناقص ويؤخذ الناقص بالكامل، إلا إذا رضى المجنى عليه أن يأخذه دون مقابل النقص حتى لا يجمع بين قصاص ودية. فمثلاً إذا قطع صاحب اليد السليمة أقطع الكف لم يقتص للأقطع من يد السليم حيث لا يؤخذ كامل بناقص، لكن إذا قطع أقطع الكف يد غيره من المرفق فللمجنى عليه القصاص بأن يقطع اليد الناقصة من المرفق وله أن يختار الدية، فإذا قطع اليد الناقصة فلا شئ له (2) . ولا يجيز مالك لمن قطع من مفصل أن يقطع الجانى من مفصل أدنى منه داخل فى الجناية ولو رضى الجانى والمجنى عليه، لكن إذا وقع القصاص على هذا الشكل فقد أجزأ ولا يعاد لو طلب المجنى عليه استيفاء الباقي (3) .   (1) مواهب الجليل ج6 ص249 , بدائع الصنائع ج7 ص298 , 303 , المهذب ج2 ص192 , 194 , الشرح الكبير ج6 ص437 , 499 , 450 , 455 , 456 , وفى شرح الدردير يجوز أخذ الزائد بالزائد. (2) شرح الدردير ج4 ص225. (3) المرجع السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 ويقتص من الإصبع الزائد فى الإصبع الزائد المماثل - كما جاء فى شرح الدردير - إذا تساويا فى المحل، ولا يرى ذلك أبو حنيفة؛ لأن الزائد فى معنى المزلزل، ولا قصاص عنده فى مزلزل، حتى أنه يرى أن لا قصاص بين يدين فى كل منهما إصبع زائدة، ولكن أبا يوسف يرى القصاص فى هذه الحالة للمساواة بين اليدين. 301- الإليتان: وتؤخذ الإليتان بالإليتين وهما الناتئتان بين الظهر والفخد، وهو رأى مالك، ويأخذ به بعض فقهاء مذهب الشافعى وأحمد، وحجتهم قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ولأن الإليتين ينتهيان إلى حد فاصل، فوجب فيهما القصاص كأى عضو له مفصل، أما البعض الآخر فيرى أن لا قصاص لأن الإليتين لحم متصل بلحم وليس له حد فاصل يؤمن معه الحيف، وهو رأى أبى حنيفة (1) . 302- ويؤخذ الذكر بالذكر: لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهى إلى حد فاصل يمكن الفصل فيه من غير حيف عند مالك والشافعى وأحمد. ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الذكر لأنه ينقبض وينبسط فلا يمكن القصاص على وجه المماثلة، ولكن أبا يوسف يرى القصاص إذا استوعبت الذكر كله لأن له حدًا ينتهى إليه. ويؤخذ بعضه ببعضه عند مالك وأحمد، وفى مذهب الشافعى رأيان أرجحهما أخذ البعض بالبعض، وعند أبى حنيفة تؤخذ الحشفة بالحشفة ولا قصاص فى بعضها ولا فى بعض الذكر غيرها. ويؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصى لأنه كذكر الفحل فى الجماع وعدم الإنزال لمعنى فى غيره، ويقطع الأغلف بالمختون؛ لأنه يزيد على المختون بجلدة تستحق إزالتها بالختان، ولا يؤخذ صحيح بأشل؛ لأن الأشل ناقص بالشلل فلا يؤخذ به كامل (2) .   (1) مواهب الجليل ج6 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص298 , 299 , المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص439. (2) مواهب الجليل ج6 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص308 , المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص439. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 303- وتؤخذ الأنثيان بالأنثيين: لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهى إلى حد فاصل يمكن القصاص فيه؛ فإن قطع أحد الأنثيين وقال أهل الخبرة يمكن أخذها من غير إتلاف الأخرى اقتص منه حتى لا تؤخذ أنثيان بواحدة، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد والظاهر من مذهب مالك، أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص فى الأنثيين حيث لا حد لهما ينتهيان إليه فيهما (1) . 304- الشفران: قياس مذهب مالك أن فى الشفُّرْين القصاص، وقياس مذهب أبى حنيفة أن لا قصاص فيهما، وفى مذهب الشافعى وأحمد رأيان: أحدهما: يقول بالقصاص، والثانى: يرى أن لا قصاص، وحجة الأول أن لهما حدًا ينتهيان إليه، وحجة الثانى أن الشفرين لحم وليس لهما حد ينتهيان إليه (2) . ثانيًا: فى إذهاب معانى الأطراف 305- المفروض فى تفويت منفعة الأطراف بقاء أعيانها: فإن ذهب المعنى مع الطرف دخل الفعل تحت إبانة الأطراف، لأن معنى الطرف يكون تابعًا للطرف فى هذه الحالة. والأصل أنه لا قصاص فى تفويت منفعة معانى الأطراف لعدم إمكان الاستيفاء، ولكن معظم الفقهاء لا يرون مانعًا من محاولة القصاص فإن أمكن الاستيفاء فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإن لم يتمكن ألزم الجانى بالدية. وهم يفرقون بين ما إذا كان الفعل يجب فيه القصاص أو لا يجب فيه القصاص، فإن كان فيه القصاص استوفى القصاص فى الفعل المادى، فإن ذهبت المعانى المماثلة فقد انتهى الإشكال، وإن لم تذهب عمل على إذهابها بطريقة إن أمكن،   (1) مواهب الجليل ج666 ص247 , بدائع الصنائع ج7 ص309 , المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص440. (2) المهذب ج2 ص194 , الشرح الكبير ج9 ص440. ويرى مالك وأحمد والشافعى القصاص فى الأظفار , ويرى أبو حنيفة القصاص فى حلمة الثدى دون الثدى , وعند مالك وأبى حنيفة: لا قصاص فى شعر الرأس والحاجبين والشارب واللحية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 فإن لم يكن ذلك فى الإمكان فقد امتنع القصاص لعدم إمكانه ووجبت الدية محله. وإذا كان الفعل لا يجب فيه القصاص عمل على إذهاب المعانى بطريقة علمية إن أمكن ذلك، فإن ذهبت المعانى فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإلا وجب عليه الدية بدلاً من القصاص، وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد (1) , أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص فى الفعل ولا فى ذهاب المعنى، ولو كان الفعل أصلاً يمكن القصاص فيه كالموضحة التى تذهب البصر، لأن القصاص على وجه المماثلة غير ممكن، إذ الفعل الذى يراد القصاص فيه جرح مذهب لمعنى طرف، وإحداث مثل هذا الجرح على وجه التماثل غير ممكن، ويرى أبو يوسف ومحمد القصاص فى الفعل إذا كان مما يجب فيه القصاص وفى المعنى الدية، وهناك رواية عن محمد عن ابن سماعة أن فى الفعل والمعنى القصاص معًا إذا كان القصاص من المعنى ممكنًا كالإبصار، أما إذا كان القصاص من المعنى غير ممكن فلا قصاص إلا فى الفعل، ويرى بعض أصحاب الشافعى أن لا قصاص فى السراية أصلاً، وهو رأى مرجوح وليس هو المذهب (2) . ويضربون مثلاً لتطبيق القواعد السابقة فى حالة وجوب القصاص فى الفعل: رجل ضرب آخر فشجه مُوضحة ذهب معها سمعه أو بصره أو شمه، فللمجنى عليه عند مالك والشافعى وأحمد أن يقتص من الموضحة، فإن ذهب معها السمع أو البصر أو الشم فقد أخذ حقه، وإن لم يذهب عولج بما يذهب بصره أو سمعه أو شمه دون جناية على العين أو الأذن أو الأنف، فإن كان إذهاب المعانى يقتضى الجناية على هذه الأعضاء لم يجز إذهاب المعانى. ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الموضحة ولا فى غيرها، ويرى محمد وأبو يوسف القصاص فى الموضحة   (1) شرح الدردير ج4 ص224 , 225 , المهذب ج2 ص199 , 200 , الشرح الكبير ج9 ص241 , 242. (2) بدائع الصنائع ج7 ص307 , الشرح الكبير ج9 ص442. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 فقط، وهو رأى محمد عن ابن سماعة، ويرى بعض فقهاء مذهب الشافعى القصاص المباشر من الموضحة ومن العين، ولا يرى القصاص المباشر من السمع والشم لأنه غير ممكن. ويضربون مثلاً فى حالة عدم القصاص: شجة وفوق الموضحة، لا قصاص فيها من الجرح، وإنما تبقى فقط محاولة إذهاب المعنى، على أن الشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد يرون أن يقتص موضحة فقط فى هذه الحالة. * * * ثالثًا: القصاص فى الشجاج 306- لا خلاف بين الفقهاء الأربعة على أن الموضحة من الشجاج فيها القصاص لإمكان الاستيفاء على وجه المماثلة إذ لها حد تنتهى إليه السكين وهو العظم، ولا خلاف بينهم أيضًا فى أنه لا قصاص فيما بعد الموضحة لتعذر الاستيفاء على وجه المماثلة؛ لأن الهامشة تهشم العظم، والمنقلة تنقله من مكانه بعد هشمه، والآمَّة لا يؤمن معها أن تصل السكين إلى المخ، وكذلك الدامغة. أما ما قبل الموضحة من الشجاج فمختلف فيه. فمالك يرى القصاص فيها جميعًا لإمكان القصاص (1) , وأبو حنيفة يرى طبقًا لرواية الحسن أنه لا قصاص فى الشجاج إلا فى الموضحة والسمحاق إن أمكن القصاص فى السمحاق، بينما ذكر محمد فى الأصل أن القصاص واجب فى الموضحة والسمحاق والباضعة والدامية، لأن استيفاء المثل ممكن بقياس الجراحة طولاً وعمقًا (2) . ومذهب الشافعى وأحمد على أنه لا قصاص فى غير الموضحة من الشجاج، لأن ما فوق الموضحة يتعذر فيه الاستيفاء على وجه المماثلة، لكنهما يريان أن للمجنى عليه الحق فى أن يقتص، وهى بعض حقه، لأن ما فوق الموضحة يزيد عليها فإذا اقتص موضحة فقط فقد أخذ بعض حقه، ويرى الشافعى أن للمجنى عليه مع ذلك أن يأخذ الفرق بين دية الموضحة ودية تلك الشجة، لأن تعذر   (1) مواهب الجليل ج6 ص246. (2) بدائع الصنائع ج7 ص309. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 القصاص على سبيل المماثلة ينقل حقة إلى البدل فيما لم يقتص منه، ويرى بعض فقهاء مذهب أحمد هذا الرأى، ويرى البعض الآخر أن لا شئ له مع القصاص حتى لا يجتمع القصاص والدية فى عضو واحد. أما ما قبل الموضحة من الشجاج فيرى الشافعى وأحمد أن لا قصاص فيها لأنها جراحات لا تنتهى إلى عظم فليس لها حد معلوم تؤمن معه الزيادة، ولا عبرة عندهما بقياس عمق الجرح، لأن الأخذ بهذه الفكرة يؤدى إلى أن يقتص من الباضعة والسمحاق موضحة ومن الباضعة سمحاقًا، لأنه قد يكون لحم المشجوج كثيرًا، بحيث يكون عمق باضعته كعمق موضحة الشاج أو سمحاقه، ولأننا لم نعتبر فى الموضحة عمقها فكذلك يجب أن يكون الحال فى غيرها (1) . * * * رابعًا: القصاص فى الجراح 307- اختلف الفقهاء اختلافًا بينًا فى الجراح، فمالك يرى القصاص فى كل جراح الجسد ولو كانت منقلة أو هاشمة، أى ولو كانت مصحوبة بكسر فى العظام، لأنه يرى القصاص ممكنًا على وجه المماثلة، ولا يمنع القصاص إلا إذا عظم الخطر منه كما فى عظام الصدر والعنق والصلب والفخذ فإذا لم يكن هناك خطر أصلاً أو كان خطر لم يعظم فالقصاص واجب (2) , ولا قصاص فى الجائفة. ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الجراح أصلاً، سواء كانت جائفة أو غير جائفة حيث لا يمكن الاستيفاء فيها على وجه المماثلة، لكن إذا أدى الجرح للموت وجب فيه القصاص إن كان الجانى متعمدًا القتل لأن الجراحة تصبح بالسراية نفسًا (3) . ويرى الشافعى وأحمد القصاص فى جراح الجسد إذا كان الجرح فى معنى   (1) المهذب ج2 ص190 , الشرح الكبير ج9 ص460 , 463. (2) مواهب الجليل ج6 ص246. (3) بدائع الصنائع ج7 ص310. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 الموضحة أى إذا كان الجرح ينتهى إلى عظم كجروح الساعد والعضد والساق والفخد، فهذه يمكن المماثلة فيها فيجب فيها القصاص. ولكن بعض أصحاب الشافعى لا يرون القصاص فى جراح الجسد أيا كانت، وهو رأى مرجوح، وحجتهم أن موضحة الرأس لها أرش مقدر، أما جراح الجسد فلا، ورد عليهم بأن الأساس فى القصاص ليس الأرش وإنما قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] (1) . وأساس اختلاف الفقهاء هو اختلاف التقدير، فمن رأى القصاص ممكنًا على وجه المماثلة فى معظم الجراح كمالك قال به، ومن رآه غير ممكن أصلاً كأبى حنيفة قال لا قصاص، ومن رآه ممكنًا فى الإيضاح فقط كالشافعى ومالك قال بالقصاص فيما أوضح العظم من الجراح فقط. القصاص فى القسم الخامس 308- إذا لم يذهب الاعتداء بطرف أو بمعناه ولم يحدث شجة ولا جرحًا فلا قصاص طبقًا لرأى أغلب الفقهاء. فاللطمة والوكزة والوجأة وضربة السوط والعصا لا قصاص فيها إذا لم تترك أثرًا (2) . ويستثنى مالك السوط، ويرى القصاص فى ضربة السوط ولو لم يحدث جرحًا أو شجة، ولكنه لا يرى القصاص فى اللطمة وضربة العصا إلا إذا تركت جرحًا أو شجة (3) ، ويرى شمس الدين بن قيم الجوزية - من فقهاء الحنابلة - القصاص فى اللطمة والضربة، لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل:126] فأمر بالمماثلة فى العقوبة والقصاص، فالواجب أن يفعل بالمعتدى كما فعل فإن لم يمكن كان الواجب ما هو الأقرب والأمثل، وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كل وجه، ولا ريب أن اللطمة باللطمة والضربة بالضربة أقرب إلى المماثلة المأمور بها   (1) المهذب ج2 ص190 , الشرح الكبير ج9 ص460. (2) بدائع الصنائع ج7 ص399. (3) مواهب الجليل ج6 ص246 , 247 , المدونة ج16 ص239 , الإقناع ج4 ص190. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 حسًا وشرعًا من التعزير بغير جنس اعتدائه وقدره وحقيقته. وقد استدل على صحة رأيه بأن أحمد بن حنبل قال بالقصاص من اللطمة والضربة، وأن أبا بكر وعثمان وعليًا وخالد ابن الوليد أقادوا من لطمة، وأن عمر بن عبد العزيز أقاد رجلاً صفعه آخر حتى سلح (1) . ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى وأحمد القصاص من اللطمة إذا ذهبت بضوء العين (2) , ولكنهم لا يرون القصاص فى اللطمة وحدها. استيفاء القصاص 309- مستحق القصاص: مستحق القصاص فيما دون النفس هو المجنى عليه دون غيره وله أن يستوفى القصاص إذا كان بالغًا عاقلاً، فإن لم يكن كذلك فيرى مالك وأبو حنيفة أن يقوم مقامه فى الاستيفاء الولى أو الوصي (3) , وهذا الرأى يأخذ به بعض الفقهاء فى مذهب أحمد. ويرى الشافعى وأغلب الفقهاء فى مذهب أحمد أن الولى والوصى ليس لهما أن يستوفيا قصاصًا استحق للصغير أو المجنون، لأن القصاص للتشفى ولا يتوفر هذا المعنى فى قصاص الولى والوصى فينتظر بلوغ الصغير وإفاقة المجنون (4) . ويعطى مالك للولى والوصى والقيم حق الاستيفاء فى النفس وفيما دونها، ويعطى أبو حنيفة للولى حق الاستيفاء فى النفس، وللولى والوصى والقَّيم حق الاستيفاء فيما دون النفس، ويعلل ذلك بأن تصرف الوصى لا يصدر عن كمال النظر والمصلحة فى حق الصغير لقصور فى الشفقة الباعثة عليه بخلاف الأب والجد ولذا لا يلى استيفاء القصاص فى النفس، أما ما دون النفس فيسلك بهما مسلك   (1) أعلام الموقعين ج2 ص2 وما بعدها. (2) المهذب ج2 ص199 , المغنى ج9 ص428. (3) بدائع الصنائع ج7 ص244 , مواهب الجليل ج6 ص252. (4) الشرح الكبير ج9 ص383 , 384 , المهذب ج2 ص196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 الأموال، وللوصى ولاية استيفاء المال، فأخيرُ له أن يستوفى القصاص فيما دون النفس، لأنه فى حكم استيفاء المال (1) . 310- هل يحبس الجانى إذا أخر القصاص؟: ومن يرى تأخير القصاص حتى البلوغ أو إفاقة المجنون لا يرى حبس الجانى حتى البلوغ أو الإفاقة ما دامت الجناية على ما دون النفس، بل يطلق سراح الجانى، أما إذا كانت الجناية على النفس فيحبس الجانى، ويترتب على هذا أنه لو أطلق سراح الجانى ثم مات المجنى عليه بالسراية تعين حبس الجانى؛ لأن الجناية أصبحت نفسًا (2) . 311- مدى سلطة الولى والوصى: تتأثر سلطة الولى والوصى طبقًا لاختلاف وجهة نظر الفقهاء فى عينية القصاص، فمن رأى أن القصاص واجب عينًا وأن الدية لا تجب بتنازل المجنى عليه عن القصاص على الدية وإنما تجب برضاء المجنى عليه - من رأى هذا كمالك وأبى حنيفة منعا الولى والوصى من العفو؛ لأن العفو لا يكون إلا من صاحب الحق، والحق للصغير والمعتوه وليس لهما، وإنما لهما ولاية استيفاء حق وجب للصغير وولايتهما مقيدة بالنظر للصغير، والعفو ضرر محض، لأنه إسقاط دون مقابل، وإنما يجوز للولى والوصى الصلح على القصاص مقابل مال بشرط أن لا يقل عن الدية أو الأرش، فإن صالحا على أقل من ذلك كان للصغير والمجنون الرجوع على الجانى بما نقص من الدية أو الأرش، ويقيد مالك الرجوع على الجانى بأن لا يكون معسرًا وقت الاتفاق، وإذا رجع المجنى عليه على الجانى لم يكن للجانى أن يرجع على الولى أو الوصى بما رجع عليه به المجنى عليه (3) .   (1) شرح الدردير ج4 ص229 , 230 , بدائع الصنائع ج7 ص244. (2) الشرح الكبير ج9 ص385 , نهاية المحتاج ج7 ص284 , 288 , شرح الدردير ج4 ص220 , البحر الرائق ج8 ص299 , 300. (3) نفس المراجع السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 والشافعى وأحمد لا يريان أن للولى حق الاستيفاء ولا يجعلان للوصى أو القيم دخلاً فى هذا الحق، ولكنهما يعطيان الولى حق العفو عن القصاص إلى الدية، ولا يعطيانه حق العفو مجانًا، ولولى المجنون أن يعفو على المال عند البعض بالشرط السابق، وليس له العفو عند البعض لأن نفقته فى بيت المال (1) 312- هل يصح قصاص الصغير والمجنون؟: العلة فى منع الصغير والمجنون من الاستيفاء قبل البلوغ والإفاقة أن القصاص حق، وأن استعماله يقتضى الأهلية فيمن يستعمله، فإذا وثب الصغير أو المجنون بالجانى ففعلا به مثل ما فعل بهما، كأن كان الجانى قطع يد الصغير فقطع الصغير يده، فيرى البعض أنه يصير مستوفيًا لحقه لأن عين حقه أتلفه، فأشبه ما لو كانت له وديعة عند رجل فأتلفها، فإن المودع لديه لا يسأل عن الوديعة. ويرى البعض أن لا يعتبر مستوفيًا لحقه لأنه ليس من أهل الاستيفاء، ويعتبر جانيًا على الجانى، وعلى الأخير أن يؤدى للصغير أرش يده ويرجع على عاقلة الصغير بأرش يده هو لأن عمد الصغير خطأ (2) . 313- من يلى الاستيفاء؟: لا يستوفى القصاص فيما دون النفس إلا بحضرة السلطان وتحت إشرافه، لأن القصاص فيما دون النفس يحتاج إلى الاجتهاد ويسهل فيه الحيف ولا يؤمن أن يحيف المقتص، فوجب أن يكون تحت إشراف السلطان. ومذهب أبى حنيفة، وهو وجه فى مذهب أحمد، جواز الاستيفاء من المجنى عليه فيستوفى المجنى عليه لنفسه إن كان خبيرًا يحسن الاستيفاء، فإن لم يكن يحسنه وكل عنه من يحسنه، لأن القصاص حق له فكان له استيفاؤه بنفسه إذا أمكنه كسائر الحقوق، والمقصود من القصاص التشفى، وتمكين المجنى عليه من القصاص أبلغ فى التشفى، ولكن لما كان استعمال الحق يحتاج إلى خبرة خاصة   (1) نهاية المحتاج ج8 ص284 , المهذب ج2 ص250 , الشرح الكبير ج9 ص385. (2) الشرح الكبير ج9 ص386 , المهذب ج2 ص196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 فإن المجنى عليه لا يمكَّن منه إلا إذا توفرت فيه هذه الخبرة، فإن لم تتوفر وكَّل عنه خبيرًا بالقصاص، والقائلون بهذا الرأى فى مذهب أحمد لا يرون مانعًا من تعيين رجل بأجر من بيت المال يكون خبيرًا بالقصاص، مهمته أن يستوفى نيابة عن المجنى عليه من الدين لا يحسنون الاستيفاء (1) . ويرى مالك والشافعى - ورأيهما وجه فى مذهب أحمد - أن المجنى عليه ليس له أن يستوفى فيما دون النفس بأى حال، سواء كان يحسن القصاص أو لا يحسنه؛ لأنه لا يؤمن مع قصد التشفى أن يحيف على الجانى أو يجنى عليه بما لا يمكن تلافيه، وإنما يتولى القصاص فى النفس من يُحْسنُهُ من الخبراء، ويقول مالك فى ذلك: "أحب إلى أن يولّى الإمام على الجراح رجلين عدلين، فإن لم يجد إلا واحدًا فأرى ذلك مجزئًا إن كان عدلاً" وعلى هذا يصح أن يكون المستوفى موظفًا مخصصًا بمهمة القصاص فيما دون النفس (2) . كيفية الاستيفاء فى الشجاج والجراح: ذكرنا أن الاستيفاء فى الشجاج والجراح يكون بالمساحة، فيراعى طول الجراح وعرضها عند الشافعى وأحمد ولا يراعى العمق، أما مالك وأبو حنيفة فيراعون العمق فوق مراعاة الطول والعرض. والفرق بينهما وبين الشافعى وأحمد: أن الأولين يقولان بالقصاص من الشجاج قبل الموضحة كلها أو بعضها، أما الأخيران فيقولان بالقصاص من الموضحة فقط، ولما كانت الموضحة هى التى توضح العظم أى تظهره، فليس هناك ما يدعو لقياس العمق، لأن حد الجراحة هو إيضاح العظم أى إظهاره، أما ما قبل الموضحة فليس له حد معين فى عمقه، فاشترط قياس عمق الجرح لتحقق التماثل بين فعل الجانى والمقتص. والقاعدة عند الشافعى وأحمد اعتبار كل العضو.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص246 , الشرح الكبير ج9 ص398 , 399. (2) مواهب الجليل ج6 ص253 , 254 , المهذب ج2 ص197 , الشرح الكبير ج9 ص399. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 ولا يتقيد الشافعى وأحمد عند الاستيفاء بمكان الشجة والجراحة من العضو المصاب ما دام هذا المكان فى عضو الجانى لا يتسع للقصاص، ويعتبران عضو الجانى كله أعلاه وأسفله ووجهه وظهره محلاً للقصاص حتى تستوفى الجراحة المماثلة طولاً وعرضًا، ولكنهما يشترطان أن يبدأ من حيث بدأ الجانى إذا كانت الجراحة لا تأخذ كل العضو، وأن لا ينتقل القصاص من عضو إلى عضو آخر، فإذا لم يتسع عضو الجانى كله لمثل الجراحة التى بعضو المجنى عليه اكتفى بما اتسع له عضو الجانى فقط. وهذا لا يظهر إلا إذا كان عضو الجانى أصغر من عضو المجنى عليه أما إذا كانت مثله فالاستيفاء فى نفس المحل. فمثلاً إذا كانت رأس الشاج أصغر من رأس المشجوج، وكانت الموضحة فى مقدم الرأس أو فى مؤخره أو قزعته وأمكن أن يستوفى قدرها فى موضعها من رأس الشاج لم يستوف فى غيرها. وإن كان قدرها يزيد على مثل موضعها من رأس الشاج استوفى بقدرها وإن جاوز الموضع الذى شجه فى مثله لأن الجميع رأس، فإن كانت فى مقدم الرأس فلم يتسع لها مقدم الرأس استوفى بقية الشجة فى جانب الرأس. وإن كان قدرها يزيد على كل رأس الجانى لم يجز أن ينزل إلى الوجه والقفا لأنه قصاص فى غير العضو الذى جنى عله وهو الرأس. وإن أوضح الجانى كل رأس المجنى عليه، ورأس الجانى أكبر من رأس المجنى عليه، بدأ المجنى عليه بالقصاص من أى جانب شاء؛ لأن الرأس جميعها محل للجناية، وإن أراد أن يستوفى بعض حقه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره، فهناك رأيان: رأى يقول بعدم جوازه لأنه يأخذ موضحين بموضحة، ورأى يقول بالجواز ما دام لا يجاوز قدر الجناية وموضعها وهو الرأس، إلا أن يقول أهل الخبرة إن فى ذلك زيادة ضرر أو شين. أما إذا كان رأس الجانى هو الأكبر فللمجنى عليه أن يستوفى مثل شجته فى مكانها. وهذا هو رأى الشافعى وأحمد (1) .   (1) المهذب ج2 ص190 , المغنى ج9 ص414 وما بعدها , مواهب الجليل ج6 ص246 , شرح الدردير ج4 ص223. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 أما أبو حنيفة فالقاعدة عنده أن الاستيفاء بحسب طول الشجة وعرضها ما أمكن بشرط أن لا يؤدى القصاص إلى إحداث شين الجانى أكثر من شين المجنى عليه، فإذا أخذت الشجة ما بين قرنى المشجوج وكانت تزيد على ما بين قرنى الشاج لصغر رأسه فليس للمشجوج أن يزيد على ما بين قرنى الشاج وله أن يأخذ الأرش إن شاء، وكذلك لو كانت الشجة لا تستوعب ما بين قرنى المشجوج فله أن يقتصها غير مستوعبة وإن شاء الأرش (1) . كيفية القصاص فى الجراح: لا قصاص فى الجراح عند أبى حنيفة. ويرى أحمد والشافعى القصاص فيما أوضح العظام، أما مالك فيرى القصاص فى كل الجراح ما أمكن القصاص ما لم تكن مخوفة. والقاعدة التى أخذ بها مالك والشافعى وأحمد فى الشجاج هى قاعدتهم فى الجراح. كيفية القصاص فى الأطراف: القاعدة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد أن لا قصاص إلا من المفصل فى الأطراف، أما مالك فيجيز القصاص من غير مفصل لأنه يجيز القصاص من العظام. فإذا كان القطع من غير مفصل فلا قصاص إلا عند مالك، لكن الشافعى وأحمد لا يريان مانعًا من القصاص من أول مفصل داخل فى الجناية، ولا يرى ذلك أبو حنيفة. 314- كيفية الاستيفاء: لا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف، ولا يستوفى بآلة يخشى منها الزيادة ولو كانت هى الآلة المستعملة فى الجريمة، ولا يقاس الاستيفاء فى الجراح بالاستيفاء فى القتل لأن القتل اشترط فى استيفائه السيف، لأن السيف آلة القتل، وليس ثمة شئ يخشى التعدى إليه، فيجب أن يستوفى ما دون السيف بالآلة الملائمة للقصاص، ويتوقى ما يخشى منه الزيادة إلى محل لا يجوز استيفاؤه، ولقد   (1) بدائع الصنائع ج7 ص311. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 منعنا القصاص كلية فيما تخشى الزيادة فى استيفائه، فلأن يمنع الآلة التى يخشى منها الزيادة أولى، فإن كان الجرح موضحة أو ما أشبهها فيقتص بالموسى أو بحديدة ماضية معدة لذلك، ولا يستوفى إلا من له علم كما قدمنا كالجراّح ومن فى حكمه، وإن كان على موضع الجراحة شعر حلق، ثم تقاس الشجة بخشبة أو بخيط ويعلم طولها، ويقاس مثلها فى رأس الشاج وتعلم بخط بسواد أو بغيره، ثم تؤخذ حديدة عرضها عرض الشجة فيضعها فى أول المكان المعلم بالسواد ثم يجرها إلى آخره، وإن كان الفعل قطعًا من مفصل قطع الجراح مفصل الجانى بأرفق وأسهل ما يقدر عليه. وهكذا يراعى فى الاستيفاء أن يكون بما يؤمن معه الحيف والتعذيب، وأن يكون بآلة ماضية معدة للاستيفاء، وأن يكون الاستيفاء من خبير يأتى به على أرفق وجه وأسهله (1) . وكل ذلك إنما هو تطبيق لشرط التماثل وأخذًا بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، ولُيحدَّ أحدكم شفْرتَه وليُرحْ ذبيحتَه". ولا يقتص من الجانى فى حر شديد ولا برد شديد، حتى لا يكون للقصاص أثر على الجسم غير عادى، ولا يقتص من الجانى وهو مريض حتى يشفى من مرضه، ويعتبر النفاس مرضًا حتى تنتهى أيامه، وإذا وجب الحد على ضعيف الجسم يخاف عليه من الموت سقط الحد ووجبت عليه الدية (2) . ولا قصاص فيما دون النفس على حامل حتى تضع حملها ولو كان الحمل بعد الجناية (3) .   (1) مواهب الجليل ج6 ص254 , بدائع الصنائع ج7 ص309 , المهذب ج2 ص199 , المغنى ج9 ص412 (2) مواهب الجليل ج6 ص235. (3) المغنى ج9 ص449. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 315- الاستيفاء عند تعدد المستحقين: إذا تعدد المستحقون وكان محل حق كل منهم غير محل الآخر فلكل منهم أن يستوفى حقه فى أى وقت يشاء، حيث لا يتوقف استيفاء حقه على استيفاء الآخرين. أما إذا تعدد المستحقون لمحل واحد كأن قطع رجل يمنى رجلين، فإن محل القصاص للمجنى عليهما هو يمين الجانى. وحكم هذه الحالة عند مالك: أنه إذا حضر المجنى عليهما معًا أو حضر أحدهما وتغيب الآخر فإن يد الجانى تقطع وليس لهما شئ غير ذلك، وهذا تطبيق لنظريته، فإن القصاص واجب عينا، وإن حقهما تعلق بقطع يد الجانى، فإذا قطعت فقد انتهى حقهما (1) . وتقول نظرية مالك: إنه إذا استحق أكثر من واحد القصاص من عضو اقتص من العضو ولو طلب أحدهم القصاص فقط ويسقط حق الباقين. وإذا استحق أكثر من واحد القصاص فى عضو واحد واختلفت حقوقهم بأن استحق أحدهم كل العضو واستحق بعضهم بعض العضو، كأن قطع لواحد السبابة اليمنى، وللثانى أصابعه، وللثالث يده من المعصم، وللرابع يده من المرفق، فكل هؤلاء يستحقون فى يد المرفق، فتقطع اليد من المرفق لهم جميعًا، ولا شئ لهم ما لم يكن الجانى قصد المثلة بهم فيقتص للأول فى السبابة، ثم تقطع بقية أصابعه، ثم تقطع اليد من المرفق. ويرى أبو حنيفة أنهما إذا حضرا جميعًا فلهما أن يقطعا يمين الجانى ويأخذا منه دية يديهما نصفين لأنهما استويا فى سبب الاستحقاق، وقد وجب قطع اليد فى حق كل واحد منهما، فيستحق كل منهما قطع يده، ولا يحصل من كل منهما فى يد واحدة إلا قطع بعضها، فلم يستوف كل واحد مهما بالقطع إلا بعض حقه فيستوفى الباقى من الأرش. وهذا الرأى تطبيق لنظرية أبى حنيفة فى وجوب القصاص عينًا، تلك   (1) شرح الدردير ج4 ص225 , مواهب الجليل ج6 ص248. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 النظرية التى قيدها فى حالة زوال محل القصاص بحق فيما دون النفس (1) . وتقول نظرية أبى حنيفة: إنه إذا تجمعت حقوق فى عضو وجب استيفاء حق كل واحد بالقدر الممكن، بغض النظر عن أسبقية الاستحقاق فإذا وجد مع ذلك حق أحد المستحقين ناقصًا خُيِّر بين القصاص والدية ولا شئ له إذا اقتص، وإذا لم يتمكن أحد المستحقين من القصاص فله الدية. أما الشافعى فيرى أنه إذا قطع أكثر من واحد فيقتص منه للأول وللباقين الدية، وإن سقط حق الأول بعفو أو صلح مثلاً اقتص للثانى، وهكذا إذا اقتص الواحد بعينه تعين حق الباقين فى الدية، لأن القود فاتهم بغير رضاهم. وإذا قطعهم دفعة واحدة أو أشكل الحال فلم يعرف من قطع الأول أقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة اقتص له وتعين حق الباقين فى الدية (2) . وحجة الشافعى أن الجانى إذا قطعت يده لأحد المستحقين صارت حقًا له، ولا يمكن أن تكون مع ذلك حقًا لغيره فوجبت الدية للغير، والشافعى يطبق هنا نظريته فى القتل. أما أحمد فيطبق أيضًا نظريته فى القتل ويرى أن المجنى عليهم إذا اتفقوا على قطع الجانى قطع لهم جميعًا، ولا شئ لهم فوق ذلك، لأن حقهم فى القطع وقد رضوا به فإن أراد أحدهم القود وأراد الباقون الدية قطع لمن أراد القود وتعين حق الباقين فى الدية (3) . وأساس نظرية الشافعى وأحمد أنه: إذا تجمعت حقوق فى طرف واحد استوفى الحقوق كلها بالقدر الممكن بشرط تقديم الأسبق فى الاستحقاق، وإذا وجد حق أحد المستحقين ناقصًا خير بين القصاص والدية، ولا شئ له إذا اقتص عند بعض فقهاء مذهب أحمد، وله أرش الناقص عند الشافعى وبعض الفقهاء،   (1) المغنى ج9 ص449. (2) المهذب ج2 ص195. (3) الشرح الكبير ج9 ص413 , المغنى ج9 ص449. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وإذا لم يتمكن أحد المستحقين مع ذلك من القصاص فله الدية. وإذا بادر أحدهم فقطعه فقد استوفى حقه ولا شئ للآخرين عند مالك، ولهم الدية عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد. 316- هل يمكن قطع أطراف الجانى قصاصًا؟: إذا استحقت كل أطراف الجانى قصاصًا اقتص منه فى جميعها بعكس ما عليه فى تنفيذ الحدود، فإذا قطع الجانى يدى رجل ورجليه قُطعت يداه ورجلاه لأنه المثل، ولأن استيفاء المثل ممكن. ولو قطع يمين رجل ويسار آخر قطعت يمينه لصاحب اليمين وقطعت يساره لصاحب اليسار؛ لأن هذا يحقق المماثلة. وهكذا يقطع من الجانى طرف بعد طرف كلما استحق ولم يكن ثمة مانع يمنع القصاص (1) . 317- إذا قطع إصبع شخص من المفصل من اليد اليمنى مثلاً ثم قطع اليمنى لشخص آخر - فيرى مالك أن تقطع اليد اليمنى فقط ولا يقطع الإصبع إلا إذا كان الجانى قد قصد المثلة فيقطع الإصبع ثم تقطع بعد ذلك اليد، وفى الحالين لا شئ للمجنى عليهما، لأن حقهما معلق بالقصاص دون غيره وقد اقتص من الجانى (2) . ويرى أبو حنيفة أنهما إذا جاءا يطلبان القصاص مجتمعين يقتص أولاً فى الإصبع لأننا لو بدأنا بالقصاص فى اليد أبطلنا حق صاحب الإصبع فى القصاص، ولو بدئ بالإصبع لم يبطل حق صاحب اليد فى القصاص، لأنه يمكن من استيفائه مع النقصان ويخير صاحب اليد بين القصاص والدية، لأن الكف صارت معيبة بقطع الإصبع فوجد حقه ناقصًا فيثبت له الخيار كالأشل إذا قطع يد الصحيح. وإذا جاءا متفرقين فإن جاء صاحب الإصبع أولاً اقتص له حتى إذا جاء صاحب اليد خير على الوجه السابق، أما إذا جاء صاحب اليد أولاً اقتص له، لأن حقه ثابت فى اليد ولا يجوز منعه من استيفاء حقه لحق غائب يحتمل أن يحضر ويطالب ويحتمل أن لا يحضر ولا يطالب، فإن جاء   (1) بدائع الصنائع ج7 ص300. (2) المواهب ج6 ص256 , شرح الدردير ج4 ص236. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 صاحب الإصبع بعد ذلك أخذ الأرش لتعذر استيفاء القصاص (1) . ويرى الشافعى وأحمد أنهما إذا حضرا معًا قدم فى القصاص صاحب الأسبقية فى الاستحقاق، فإن كان قطع الإصبع أسبق قطعت إصبعه قصاصًا، وخير صاحب اليد بين العفو إلى الدية وبين القصاص وأخذ دية الإصبع لأنه وجد بعض حقه، فكان له استيفاء الموجود وأخذ بدل المفقود. ويرى بعض فقهاء مذهب أحمد أن له القصاص فقط وليس له دية الإصبع كما هو مذهب أبى حنيفة؛ لأنه لا يجمع فى عضو واحد بين قصاص ودية، وإن كان قطع اليد سابقًا على قطع الإصبع قطعت يمينه قصاصًا ولصاحب الإصبع أرشها (2) . ويقاس على ما سبق ما لو قطع إصبع رجل من مفصل ثم قطع إصبع آخر من مفصلين ثم قطع إصبع ثالث كلها. وذلك كله فى إصبع واحدة كالسبابة مثلاً. فعند مالك تقطع السبابة لهم جميعًا ولا شئ لهم إلا إذا كان الجانى قد قصد المثلة بهم فيقطع المفصل الأول للأول، والمفصل الثانى للثانى، والمفصل الثالث للثالث. وعند أبى حنيفة إن جاءوا جميعًا يقطع المفصل الأعلى لصاحب المفصل الأعلى، ثم يخير صاحب المفصلين، إن شاء استوفى حقه قصاصًا من المفصل الأوسط ولا شئ له من الأرش، وإن شاء أخذ ثلثى دية إصبعه كاملة من مال القاطع. ويسلك أبو حنيفة هذه الطريقة لأن حق كل واحد من المجنى عليهم فى مثل ما قطع منه، فيجب إيفاء حقوقهم بقدر الإمكان وذلك فى البداية بما لا يسقط حق بعضهم، فالبداية بقطع المفصل الأعلى لا تسقط حق الآخرين فى القصاص أصلاً لإمكان استيفاء حقيهما من النقصان، ولكن البداية بالقصاص لصاحب الإصبع تسقط حق صاحب المفصل وصاحب المفصلين. أما إذا جاءوا متفرقين فإن جاء صاحب الإصبع أولاً قطعت له الإصبع، فإذا جاء الآخران فلهما أرش ما قطع منهما، وإن جاء صاحب المفصلين أولاً يقطع له المفصلان، ولصاحب المفصل الأعلى   (1) بدائع الصنائع ج7 ص300 , 301. (2) المهذب ج2 ص195 , 196 , الشرح الكبير ج9 ص412. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 الأرش، ولصاحب الإصبع الخيار بين أن يقتص من المفصل الباقى ولا شئ له، وإن شاء أخذ دية الإصبع. وإذا جاء صاحب المفصل أولاً فهو كما لو جاءوا معًا (1) . أما الشافعى وأحمد فعندهما يقتص أولاً لمن جنى عليه أولاً، فإن كان صاحب الإصبع هو الذى جنى عليه أولاً اقتص له وللآخرين الأرش فيما قطع منهما، وإن قطع صاحب المفصلين أولاً اقتص له ولصاحب المفصل أرش ما قطع منه، وخُيِّر صاحب الإصبع بين أن يقتص فى المفصل الباقى ويأخذ أرش مفصليه عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد أو يقتص فقط ولا شئ كما يرى بعض فقهاء مذهب أحمد وبين أن يأخذ دية إصبعه كاملة. وإذا قطع صاحب المفصل أولاً اقتص له، فإذا كان صاحب الإصبع هو الثانى خُير على الوجه السابق، فإن اقتص تعين حق صاحب المفصلين فى الدية، وإن أخذ الدية ولم يقتص خير صاحب المفصلين بين أن يقتص من مفصل واحد على الوجه السابق وما فيه من خلاف وبين أخذ الدية، وإن كان صاحب المفصلين هو الثانى فى القطع خير بين القصاص والدية ثم خير بعده صاحب الإصبع (2) . ويقاس على ما سبق قطع اليد اليمنى لشخص من المعصم وقطع نفس اليد لآخر من المرفق. 318- تكرر أفعال الجانى: وإذا قطع المفصل الأعلى من سبابة رجل ثم عاد فقطع المفصل الثانى منها، فيرى مالك القصاص من المفصل الثانى إلا إذا كان الجانى يقصد المثلة فيقطع المفصلان واحدًا بعد واحد (3) . ويرى أبو حنيفة القصاص فى المفصل الأول ولا قصاص عنده فى المفصل الثانى وعليه أرشه، وكذلك الحكم عنده لو قطع إصبع رجل ثم قطع كفه بعد ذلك، أو لو قطع الكف ثم قطع الساعد، فعليه القصاص فيما قطعه أولاً فقط،   (1) بدائع الصنائع ج7 ص301. (2) المغنى ج9 ص457 , 458 , المهذب ج2 ص196. (3) الشرح الكبير للدردير ج4 ص236 , بدائع الصنائع ج7 ص301. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وحجة أبى حنيفة أنه حين القطع الأول كان هناك تماثل بين المجنى عليه والجانى، أما فى القطع الثانى فلم يكن التماثل متحققًا لأن المجنى عليه كان مقطوعًا والجانى سليمًا. ولكن محمدًا وأبا يوسف يفرقان بين ما إذا كان القطع الثانى قبل بُرء الأول أو بعد البرء، فإن كان قبل البرء فالفعلان جناية واحدة والقصاص من القطع الثانى، وإن كانت بعد البرء فهما جنايتان متفرقتان ويجب القصاص فى الأولى دون الثانية (1) . والقياس عند الشافعى وأحمد يؤدى إلى مثل رأى أبى يوسف ومحمد، أما إذا كان القطع الثانى بعد القصاص من قطع المفصل الأول، فالمماثلة متوفرة والقصاص فى الثانى لا خلاف فيه. وإذا قطع غيره المفصل الأعلى، ثم جاء الجانى فقطع المفصل الثانى، فلا قصاص فى المفصل الثانى اتفاقًا لانعدام المساواة بين إصبع القاطع الثانى والمقطوع (2) . وإذا قطع الجانى نصف المفصل الأعلى ثم عاد فقطع النصف الثانى لهذا المفصل فإن كان القطع الثانى بعد برء الأول، فهما جنايتان مستقلتان، ولا قصاص فيهما عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد حيث لا قصاص عندهم فى غير مفصل، أما عند مالك فعليه القصاص فى الجنايتين لأن القصاص فى العظام عنده واجب إذا كان ممكنًا وغير مخوف، وإذا كان القطع الثانى قبل برء الأول فعند مالك القصاص من القطع الثانى فقط ما لم يكن الجانى قد قصد المثلة فيقتص من القطعين. وعند أبى حنيفة أيضًا يقتص من القطع الثاني؛ لأن الفعلين يعتبران جناية واحدة، والقطع الثانى من مفصل. وليس فى مذهب الشافعى وأحمد ما يخالف رأى أبى حنيفة (3) . وإذا قطع من رجل يمينه من المفصل فاقتص منه ثم إن أحدهما بعد ذلك   (1) بدائع الصنائع ج7 ص301. (2) بدائع الصنائع ج7 ص301. (3) بدائع الصنائع ج7 ص302. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 قطع من الآخر الذراع من المرفق، فلا يرى أبو حنيفة القصاص، لأن القصاص فيما دون النفس عنده يقتضى المساواة فى الأرش، لأنه يسلك بما دون النفس مسلك الأموال، وفى هذه الحالة لا يعرف التساوى، لأن الذراع ليس له أرش مقدر. ويخالفه أبو يوسف وزفر ويقولان بالقصاص؛ للتساوى والمماثلة ولأن القطع من مفصل (1) . وعند مالك والشافعى وأحمد القياس يقتضى القصاص، لأنهم لا يسلكون بالأطراف مسلك الأموال، ولا يشترطون التساوى فى الأرش. 319- التداخل: معنى التداخل هو أن يدخل قصاص تحت آخر ويعتبر منفذًا بتنفيذ هذا الآخر. فلو قطع الجانى يد رجل ثم قتله، فيرى مالك أن القصاص فى الطرف يدخل فى القصاص فى النفس، فلا يقتص فى الطرف اكتفاء بالقصاص فى النفس، إلا إذا كان الجانى قد قطع بقصد المثلة ففى هذه الحالة فقط يقتص من الطرف قبل القصاص من النفس (2) . ويرى أبو حنيفة والشافعى أن اليد لا تدخل فى النفس سواء كان القتل بعد البرء القطع أو قبله، ولولى الخيار إن شاء قطع يده ثم قتله وإن شاء اكتفى بالقتل. ويرى أبو يوسف ومحمد أن اليد تدخل فى النفس إذا كان القطع قبل البرء؛ لأن الجناية على ما دون النفس إذا لم يتصل بها البرء لا حكم لها مع الجناية على النفس، بل يدخل ما دون النفس فى النفس، أما إذا برئ القطع قبل القتل فلا تدخل اليد فى النفس لأن حكمها استقر قبل القتل (3) . وفى مذهب أحمد اتفاق على أن القطع إذا برئ قبل القتل فلا يدخل ما دون النفس فى النفس، أما إذا كان القتل قبل برء القطع فقد اختلفوا، ففريق يرى   (1) نفس المرجع السابق. (2) شرح الدردير ج4 ص236. (3) بدائع الصنائع ج7 ص303 , المهذب ج2 ص195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 دخول ما دون النفس فى النفس، وفريق يرى أنه لا يدخل. وإن قطع يد رجل وقتل آخر، فعند مالك يندرج الطرف فى النفس، فيقتل فقط ولا تقطع يده. وعند أبى حنيفة والشافعى وأحمد تقطع يده أولاً سواء تقدم القطع أو تأخر لأن تقديم القتل يسقط من المقطوع، وإذا تقدم القطع لم يسقط حق المقتول. والقاعدة أنه إذا أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص لم يجز إسقاط أحدهما (1) . وإذا كان أحد الفعلين عمدًا والثانى خطأ فلا تداخل، واعتبر كلا منهما بحكمه، سواء كان الثانى بعد برء الأول أو قبله، لأنهما جنايتان مختلفتان، فلا يحتملان التداخل، ويعطى لكل جناية حكمها، ففى العمد القصاص، وفى الخطأ الدية (2) . أما إذا كان الفعلان خطأ أو شبه عمد، فيفرق الفقهاء بين ما إذا كان القتل بعد برء القطع أم قبله، ويدخلون الأطراف فى النفس إذا كان القتل قبل البرء، ولا يدخلون الأطراف فى النفس إذا كان القتل بعد البرء، فمن قطع يد شخص ثم قتله قبل البرء أُلزم بدية واحدة، ومن قطع شخصًا ثم قتله بعد برء القطع ألزم بأرش اليد ودية النفس، ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى أن الطرف لا يدخل فى النفس سواء كان القتل بعد البرء أو قبله، لأن الجناية على الطرف انقطعت سرايتها بالقتل، فلا يسقط ضمانها كما لو اندملت. ولكنه رأى مرجوح فى المذهب (3) . وإذا تعدد الجناة فقطع أحدهم يده مثلاً والثانى رجله ثم قتله ثالث، فلا يدخل ما دون النفس فى النفس كيفما كان بعد البرء أو قبله، لأن التداخل أساسه أن يكون الفاعل واحدًا.   (1) المغنى ج9 ص396 , وتراجع ص386. (2) بدائع الصنائع ج7 ص303. (3) شرح الدردير ج4 ص6 , المغنى ج9 ص387 , المهذب ج2 ص225. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 320- السراية: السراية هى أثر الجرح فى النفس أو فى عضو آخر، فإن لم يؤثر الجرح على النفس أو عضو آخر غير محله فلا سراية، وإذا سرى الجرح إلى النفس قيل إن هناك سراية النفس، وهو ما نسميه إفضاء للموت. وإذا سرى إلى عضو آخر قيل إن الجرح سرى إلى عضو آخر، والسراية إما أن تكون من فعل مأذون فيه أو مباح أو من فعل محرم. 321- السراية إلى النفس من فعل محرم: إذا جنى على ما دون النفس فسرى إلى النفس فهو قاتل متعمد عليه القصاص إن كان متعمدًا القتل، لأنه لما سرى بطل حكم ما دون النفس وتبين أن الفعل وقع قتلاً من حين وجوده، وإذا لم يكن متعمدًا القتل فلا قصاص؛ لأن الفعل قتل شبه عمد، ولا قصاص فى شبه العمد. 322- السراية إلى النفس من فعل مباح أو مأذون فيه: هناك أفعال مأذون فيها وأفعال مباحة، فلو أتى الإنسان فعلاً من هذه الأفعال فسرى إلى النفس، فالحكم يختلف بحسب ما إذا كان المأذون فيه أو المباح النفس أو ما دونها، فإن كانت النفس مباحة كالمهدر دمه أو مأذونًا فى إتلافها كالمحكوم عليه بالقتل قصاصًا فلا عقوبة على الجرح إذا سرى إلى النفس ولا عقوبة عليه من باب أولى إذا لم يسر للنفس، وهذا مسلم به من الجميع، إلا أنهم اختلفوا فى حالة ما إذا استحق شخص قتلاً قصاصًا على آخر، فقطع يده ثم عفا عنه بعد ذلك، فرأى مالك وأبى حنيفة أن العافى مسئول عن قطع اليد، ورأى الشافعى وأحمد ومعهما أبو يوسف ومحمد أن لا مسئولية عليه، وقد بينا أدلة الفريقين من قبل فى العفو عن النفس. أما إذا كان المباح أو المأذون فيه هو ما دون النفس، كقطع يد السارق أو قطع عضو من الجانى قصاصًا أو تأديب الزوجة والابن والتلميذ، فقد اختلف نظر الفقهاء فى مسئولية الجانى، وسنبين فيما يأتى تفصيل ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 تكلمنا فيما سبق على استعمال الحق وأداء الواجب فلا يفيد القول فيه، وبقى بعد ذلك أن نتكلم على سراية القود. 323- سراية القود: إذا اقتص شخص من طرف الجانى فسرى القصاص إلى نفس الجانى ومات فلا مسئولية على المقتص عند مالك والشافعى وأحمد، لأن السراية من فعل مأذون فيه ولا عقوبة عليه وما تولد عن المأذون فيه يعتبر مأذونًا فيه ضمنًا فلا عقاب عليه، وبذلك قضى عمر وعلى رضى الله عنهما، فعندهما أن من مات من حد أو قصاص لا دية له. وشأن القصاص شأن الحد فى السرقة، فإنه قطع مستحق مقدر، فإذا لم تضمن سرايته فى السرقة فلا تضمين فى القصاص. ويرى أبو حنيفة أن من قطع طرف آخر قصاصًا فمات من ذلك ضمن ديته لأنه استوفى غير حقه إذ حقه القطع، وهو قد أتى بالقتل، لأن القتل اسم لفعل يؤثر فى فوات الحياة عادة وقد وجد، وكأن القياس أنه يجب القصاص، إلا أنه سقط للشبهة الناشئة عن استحقاق الطرف فدرئ القصاص ووجبت الدية. ويرى أبو حنيفة أن الأمر فى إقامة حد السرقة لا يختلف عن هذه الحالة إلا أن الضرورة إلى عدم إيجاب الضمان على الإمام؛ لأن إقامة الحد واجب عليه، والتحرز عن السراية ليس فى وسعه، فلو أوجب عليه الضمان لامتنع الأئمة عن إقامة الحدود، وفى تعطيل الحدود إخلال بالنظام العام، أما القطع قصاصًا فليس بواجب على مستحق القصاص دائمًا لأنه حقه وهو حر بالخيار فيه، إن شاء قطع وإن شاء عفا، والأولى به العفو لأن الله قد ندب إليه، فليس ثمة ضرورة توجب إسقاط الضمان. ويرى أبو يوسف ومحمد أن لا ضمان على المقتص (1) . 324- السراية إلى ما دون النفس: إذا كان الفعل مباحًا أو مأذونًا فيه فسرى إلى ما دون النفس، كأن قطع إصبعًا قصاصًا فشُلَّت اليد، أو ضرب زوجته   (1) الشرح الكبير ج9 ص473 , بدائع الصنائع ج7 ص305 , المهذب ج2 ص202. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 على ذراعها فأتلفه، فالحكم هو ما ذكر فى السراية إلى النفس على الاختلاف والوفاق الذى ذكر من قبل. أما إذا كان الفعل غير مباح ولا مأذون فيه، فيفرق بين ما إذا كانت السراية لمعنًى أو لعضو. 325- السراية لمعنى: إذا كان الاعتداء على طرف فسرى إلى طرف آخر فأذهب معناه مع بقاء الطرف الآخر سليمًا، فالحكم يختلف بحسب ما إذا كان فعل الجانى يجوز فيه القصاص أو لا يجوز. فإذا كان يجوز فيه القصاص كما لو شجه مُوضحة فأذهب بصره، فيرى مالك والشافعى وأحمد (1) أن يقتص من الشجة فإن ذهب البصر بالقصاص من الشجة فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإن لم يذهب عولج علميًا بما يزيل الإبصار دون جناية على الحدقة، فإن لم يزل الإبصار مع ذلك ففيه الدية. ويرى أبو حنيفة أن لا قصاص فى الشجة ولا فى البصر وفيهما الأرش، ويرى محمد وأبو يوسف القصاص فى الموضحة والدية فى الإبصار. وهناك رواية أخرى عن محمد عن ابن سماعة فى نوادره بأن القصاص يجب فى الفعل والمعنى كلما أمكن القصاص فى المعنى فإن لم يكن القصاص فى المعنى ممكنًا اقتص من الفعل فقط وفى المعنى الدية، وحجته أن السراية تولدت من جناية يقتص فيها إلى عضو يمكن فيه القصاص، فوجب القصاص كما إذا سرى إلى النفس، أما حجة أبى يوسف فى عدم القصاص من المعنى بأن تلف المعنى حدث من طريق التسبب ولى بالسراية، لأن الشجة تبقى بعد ذهاب البصر، وحدوث السراية يوجب تغيير الجناية، كالقطع إذا سرى إلى النفس فإنه لا يبقى قطعًا بل يعتبر قتلاً، وهنا الشجة لم تتغير فدل ذلك على أن ذهاب البر ليس من طريق السراية بل من طريق التسبب، والجناية بالتسبب لا توجب القصاص (2) .   (1) مواهب الجليل ج6 ص248 , نهاية المحتاج ج7 ص272 , المغنى ج9 ص430. (2) بدائع الصنائع ج7 ص307. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 أما إذا كان ذهاب المعنى بإصابة لا قصاص فيها فيقتص من المعنى دون الفعل بطريقة علمية لأنه لا قصاص فى الفعل، فإن زال فقد أخذ المجنى عليه حقه، وإلا أخذ أرش الفعل والمعنى. وهذا رأى مالك والشافعى وأحمد. أما أبو حنيفة وأصحابه فلا يرون القصاص اتفاقًا ما دام الفعل لا يقتص منه. 326- السراية لعضو: يختلف الحكم فى السراية لعضو بحسب ما إذا كانت الجناية مما يقتص فيه أو مما لا يقتص فيه، فإن كانت الجناية مما لا يقتص فيه فلا قصاص فى الجناية ولا فى سرايتها وفيهما الدية أو الأرش باتفاق. وإن كانت الجناية مما يقتص فيه فقد اختلف الفقهاء فى ذلك، فيرى مالك والشافعى أن القصاص فى الجناية فقط لا فيما سرت إليه، فإن أدى القصاص إلى مثل ما أدت إليه الجناية فقد استوفى المجنى عليه حقه، وإن لم يحصل فى الجانى مثل ما حصل فى المجنى عله فدية ما سرت إليه الجناية فى مال الجانى، فمثلاً إذا قطع إصبع رجل فتآكل منه الكف وجب القصاص فى الإصبع فقط لأنه أتلفه بجناية عمد ولا يجب فى الكف لأنه يباشره بالإتلاف (1) . ويرى أحمد القصاص فيما سرت إليه الجناية كلما كانت السراية إلى ما يمكن مباشرته بالإتلاف على وجه المماثلة مثل أن يقطع إصبعًا فتتآكل أخرى وتسقط أو تتآكل الكف وتسقط فالإصبع الأخرى التى سرت إليها الجناية والكف التى سرت إليها الجناية كلاهما يمكن مباشرته بالإتلاف فيقتص فيهما لذلك. وحجة أحمد فى ذلك أن ما وجب فيه القود بالجناية يجب بالسراية كما هو الحال فى النفس حيث يقتص من النفس فى حالة السراية إليها إذا كان الفعل الأصلى الجرح أو القطع مما يجب فيه القصاص، فإذا سرت الجناية إلى ما لا يمكن مباشرته بالإتلاف على وجه المماثلة فالقصاص فى الجناية دون السراية، كمن قطع إصبعًا فشُلَّت الكف أو شل بجواره إصبع آخر فالشلل لا يمكن مباشرته بالإتلاف على وجه المماثلة   (1) المهذب ج2 ص14 , مواهب الجليل ج6 ص248 , شرح الدردير ج4 ص225. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 فامتنع فيه القصاص ووجبت الدية فيما حدث فيه الشلل (1) . أما أبو حنيفة فالقاعدة عنده أن الجناية إذا حصلت فى عضو فسرت إلى عضو آخر والعضو الآخر لا قصاص فيه فلا قصاص فى العضو الأول أيضًا، فإذا قطع إصبعًا من يد رجل فشلت الكف فلا قصاص فيهما وعليه دية اليد؛ لأن الموجود من القاطع قطع مثل للكف ولا يمكن الإتيان بمثله على وجه المماثلة فيمتنع القصاص (2) . وفضلاً عن هذا فإن الجناية واحدة فلا يجوز أن يجب بها ضمانان مختلفان، هما القصاص والمال، خصوصًا عند اتحاد المحل لأن الكف مع الإصبع بمنزلة عضو واحد. وكذلك الحكم لو قطع مفصلاً من إصبع فشل ما بقى أو شلت الكف، فإن قال المقطوع أنا أقطع المفصل وأترك الباقى فليس له ذلك لأن الجناية وقعت غير موجبة القصاص من الأصل؛ لأن القطع جاء قطعًا مشلاً للكف والاستيفاء على وجه المماثلة غير ممكن فيمتنع القصاص. ومثل ذلك ما لو شجه فقتله فليس له أن يقتص منها موضحة ويترك الباقى [هذا جائز عند الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد] . ويتفق أبو حنيفة فيما سبق مع أصحابه إلا أنهم اختلفوا فى الحالات التى يمكن القول فيها بأن المحل متعدد لا متحد. فمثلاً إذا قطع إصبعًا فشلت إلى جنبها أخرى، فأبو حنيفة لا يرى القصاص تطبيقًا للقاعدة التى سلفت، ولأنه يرى أن المحل متحد. أما أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن فيرون القصاص فى الأولى والأرش فى الثانية؛ لأن المحل متعدد والفعل يتعدد بتعدد المحل حكمًا وإن كان متحدًا حقيقة لتعدد أثره وهنا تعدد الأثر فيجعل فعلين ويفرد كل واحد منهما بحكمه، ففى الأول القصاص وفى الثانية الدية.   (1) الشرح الكبير ج9 ص470 وما بعدها. (2) بدائع الصنائع ج7 ص306 , 307. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 وإذا قطع إصبعًا فسقطت إلى جنبها أخرى فلا قصاص عند أبى حنيفة، وعند أبى يوسف ومحمد القصاص فى الأولى أى فيما قطع والدية فيما سقط. بل إن محمدًا يرى - من رواية ابن سماعة - القصاص من الاثنين، لأن القاعدة عند محمد طبقًا لهذه الرواية أن الجراحة التى فيها القصاص إذا تولد عنها ما يمكن فيه القصاص وجب القصاص فيها جميعًا، وهنا يمكن القصاص من محل السراية المتولد من الجناية. وإذا قطع إصبعًا عمدًا فسقطت معه الكف من المفصل فلا قصاص عند أبى حنيفة؛ لأن اسيفاء المثل وهو القطع المسقط للكف متعذر ولأن الكف مع الإصبع عضو واحد فكانت الجناية واحدة حقيقة وحكمًا وقد تعلق بها ضمان المال فلا يتعلق بها القصاص لأنه لا يجتمع ضمانان مختلفان بجناية واحدة. ويرى محمد القصاص للأسباب التى سبق بيانها. ويرى أبو يوسف القصاص فتقطع يده من المفصل، والفرق بين هذه الحالة والحالة السابقة عند أبى يوسف أن الإصبع جزء من الكف والسراية تتحقق من الجزء إلى محله كما تتحقق من اليد للنفس والإصبعان عضوان مفردان ليس أحدهما جزء الآخر فلا تتحقق السراية من أحدهما للآخر، فوجب القصاص من الأولى دون الثانية (1) . * * * سقوط القصاص 327- يسقط القصاص فيما دون النفس لثلاثة أسباب هى: فوات محل القصاص - العفو - الصلح. 328- فوات محل القصاص: محل القصاص فيما دون النفس هو العضو المماثل لمحل الجناية، فإذا فات محل القصاص لأى سبب كمرض أو آفة أو باعتداء أو نتيجة استيفاء حق أو عقوبة سقط القصاص؛ لأن محله انعدام ولا يتصور وجود الشئ مع انعدام محله. وإذا سقط القصاص لم يجب للمجنى عليه شئ عند مالك أيًا كان سبب السقوط؛ لأن حق المجنى عليه فى القصاص عينًا فإذا سقط القصاص فقد   (1) بدائع الصنائع ج7 ص307. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 سقط حق المجنى عليه. وهذا تطبيق دقيق لنظرية مالك من أن موجب العمد هو القصاص عينًا وللمجنى عليه عند مالك إذا ذهبت الجارحة ظلمًا أن يقتص من قاطعها ظلمًا لأن حقه فى القصاص ينتقل من المقطوع ظلمًا إلى قاطعه (1) . وأما أبو حنيفة - وهو من القائلين بأن موجب العمد هو القصاص عينًا - فيفرق بين ما إذا فات محل القصاص بآفة أو مرض أو ظلمًا، وبين فواته بحق تنفيذ عقوبة أو استيفاء قصاص، وفى الحالة الأولى لا يجب للمجنى عليه شئ، أما فى الحالة الثانية فيجب له الدية بدلاً من القصاص لأن الجانى قضى بالطرف أو الجارحة التى فاتت حقًا مستحقًا عليه فصار كأنه قائم وتعذر استيفاء القصاص لعذر الخطأ أو غيره (2) . وعند الشافعى وأحمد للمجنى عليه إذا ذهب محل القصاص أن يأخذ الدية أيًا كان سبب ذهاب محل القصاص؛ لأن موجب العمد أحد شيئين غير عين القصاص فإذا ذهب محل القصاص تعينت الدية موجبًا. 329- العفو: العفو عن القصاص عند الشافعى وأحمد هو التنازل عن القصاص مجانًا أو على الدية، وهو فى الحالين إسقاط من جانب المجنى عليه لا يحتاج إلى رضاء الجانى، ويعتبر المتنازل عن القصاص مجانًا عافيًا والمتنازل عن القصاص على الدية عافيًا أيضًا؛ لأن لكليهما يسقط حقًا دون مقابل ممن أسقط له الحق، وهذا تطبيق لنظرية الشافعى وأحمد فى أن موجب العمد هو أحد شيئين: القصاص أو الدية، فمن تنازل عن القصاص مجانًا فقد تنازل عن حق له، ومن تنازل عن القصاص دون الدية فقد تنازل عن حق وتمسك بحق. والعفو عند مالك وأبى حنيفة هو إسقاط القصاص مجانًا، أما التنازل على الدية فليس عفوًا عندهما، وإنما هو صلح لأنه يتوقف بحسب نظريتهما على رضاء الجانى بدفع الدية؛ لأنهما يريان أن الواجب هو القصاص عينًا.   (1) شرح الدردير ج4 ص213. (2) بدائع الصنائع ج7 ص246 , 298. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 330- من يملك العفو؟: يملك حق العفو المجنى عليه البالغ العاقل، فإذا لم يكن بالغًا أو عاقلاً ملكه وليه عند الشافعى وأحمد، أما عند مالك وأبى حنيفة فلا يملكه الولى ولا الوصى، وإنما يملكان حق الصلح فقط، وسلطة الولى عند الشافعى مقيدة بأن يعفو على الدية بشروط تكلمنا عنها سابقًا. أما المجنى عليه البالغ العاقل فله أن يعفو مجانًا أو يعفو على الدية. 331- وإذا عفا المجنى عليه عن القصاص، أو عفا وليه على الدية عند الشافعى وأحمد فقد سقط القصاص بالعفو إذا برأ المجنى عليه من جراحة دون أن تسرى إلى عضو آخر، فإن سرت إلى عضو آخر كأن قطع إصبعه فعفا عنه ثم سرى الجرح إلى اليد فأتلفها، فيرى أبو حنيفة أن العفو صحيح سواء عن الجرح أو الجرح وما يحدث منه؛ لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها، أما الشافعى وأحمد فيفرقان بين ما إذا كان العفو شاملاً للجناية وما يحدث منها وفى هذه الحالة يصح العفو، وبين ما إذا كان العفو قاصرًا على الجرح فقط، ففى هذه الحالة يكون الجانى مسئولاً عن السراية، ولكن لا يقتص منه لأن القصاص فى الإصبع سقط بالعفو، ولا يجب فى الكف لأنها تلفت بالسراية مما يمتنع القصاص فيه، فإن كان العفو على الدية وجبت الدية فى اليد كلها، وإن كان العفو مجانًا وجبت الدية أو الأرش فيما سرت الجناية إليه فقط. والظاهر أن هذا هو الحكم عند مالك (1) . * * * الصلح 332- يجوز للمجنى عليه ولوليه ووصيه - إن كان غير بالغ أو غير عاقل - الصلح على القصاص بمقابل قد يساوى الدية وقد يزيد عليها، وليس للولى أو الوصى أن يصالح على أقل من الدية فإن صالح على أقل منها صح الصلح وسقط   (1) بدائع الصنائع ج7 ص246 , المهذب ج2 ص212 , المغنى ج9 ص472 , مواهب الجليل ج5 ص86 , 87 , شرح الدردير ج4 ص235. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 القصاص، ولكن للمجنى عليه أن يرجع على الجانى بما نقص عن الدية، ويشترط مالك للرجوع أن يكون الجانى معسرًا وقت الصلح. وقد تكلمنا عن الصلح والفرق بينه وبين العفو ومن يملكه وشروطه وفصلنا الكلام فى هذا كله بمناسبة الكلام على الصلح على القصاص فى القتل العمد، وما قلناه هناك ينطبق هنا فليراجع. * * * العقوبات الأصلية الثانية التعزير 333 - يرى مالك أن يعزر الجانى على ما دون النفس عمدًا سواء اقتص منه أم لم يقتص لدرء القصاص أو للعفو أو الصلح، على أن يراعى فى التعزير أن يختلف بحسب الأحوال، فمن اقتص منه عُزِّز بعقوبة مناسبة يراعى فى تقديرها أنه عوقب بعقوبة القصاص، ومن لم يقتص منه يعزر تعزيرًا شديدًا يردعه عن ارتكاب جريمته فى المستقبل. ويقرر مالك أنه يجب التعزير مع القصاص للردع والزجر ولتناهى الناس عن ارتكاب الجريمة، وأن الجانى إذا كان اقتص منه بمثل ما فعل فى المجنى عليه إلا أن هذا لا يمنع من تعزيره لأنه ظالم والظالم أحق أن يحمل عليه. ويرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن لا تعزير مع القصاص؛ لأن الله قال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] ، فجعل العقوبة القصاص دون غيره فمن فرض غيرها فقد زاد على النص. وهذا ما يراه بعض الفقهاء فى مذهب مالك (1) . ويلوح أن الرأى الأخير أقرب إلى المنطق لأنه إذا كانت عقوبة القصاص تعجز عن ردع الجانى فلا شك أن عقوبة التعزير أعجز عن ردعه وتهذيبه. 334- وإذا كان الأئمة الثلاثة لا يوافقون على جعل التعزير عقوبة أصلية فليس عندهم ما يمنع من جعل التعزير عقوبة بدلية فى حالة سقوط القصاص أو   (1) مواهب الجليل ج6 ص247 , شرح الدردير ج4 ص324. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 امتناعه لسبب من الأسباب إذا رأى أولياء الأمر ذلك، فيقضى بالتعزير سواء حلت الدية محل القصاص أو عفى عن الدية. أما تقدير عقوبة التعزير وبيان نوعها فهذا متروك للسلطة التشريعية المختصة تختار نوع العقوبة وقدرها، أو تترك للقاضى يختار العقوبة من بين العقوبات التعزيرية المحددة، أو التى تحددها له. * * * العقوبات البدلية أولاً: الدية 335- الدية: هى العقوبة البدلية الأولى لعقوبة القصاص، فإذا امتنع القصاص لسبب من أسباب الامتناع أو سقط لسبب من أسباب السقوط وجبت الدية ما لم يعف الجانى عنها أيضًا. 336- والدية كعقوبة لما دون النفس تكون عقوبة بدلية إذا حلت محل القصاص وهو عقوبة الجناية على ما دون النفس عمدًا. وتكون الدية عقوبة أصلية إذا كانت الجناية شبه عمد لا عمدًا محضًا. وقد بينا من قبل أن الشافعى وأحمد يقولان بشبه العمد فيما دون النفس. 337- والدية سواء أكانت عقوبة أصلية أو تبعية يقصد منها - إذا أطلقت - الدية الكاملة وهى مائة من الإبل، أما ما هو أقل من الدية الكاملة فيطلق عليه لفظ الأرْش، على أن الكثيرين يستعملون لفظ الدية فيما يجب أن يستعمل فيه لفظ الأرش. 338- والأرش على نوعين: أرش مقدر وأرش غير مقدر، فالأول هو ما حدد الشارع مقداره كأرش اليد والرجل، والثانى هو ما لم يرد فيه نص وترك للقاضى تقديره، ويسمى هذا النوع من الأرش حكومة. 339- وتجب الدية بتفويت مصلحة الجنس على الكمال: كإتلاف اليدين، ففى إتلافهما تفويت لمنفعة الجنس على الكمال، أما الأرش فيجب فى تفويت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 بعض منفعة الجنس دون بعضها الآخر كإتلاف يد واحدة أو إصبع واحدة، ففى اليد الأرش وفى الإصبع الأرش. 340- ما تجب فيه الدية الكاملة: تجب الدية الكاملة بتفويت منفعة الجنس وتفويت الجمال على الكمال، وهى تفوت بإبانة كل الأعضاء التى من جنس واحد أو بإذهاب معانيها مع بقاء صورتها، والأعضاء التى تجب فيها الدية أربعة أنواع: نوع لا نظير له فى البدن، ونوع فى البدن منه اثنان، ونوع فى البدن منه أربعة، ونوع فى البدن منه عشرة. وقد اختلف الفقهاء فى تحديد الأعضاء التى تدخل تحت هذه الأنواع ولكنه اختلاف محدود، وسنذكر ما تفق عليه وما اختلف فيه، وسنبين فيما بعد وجوه الاختلاف. النوع الأول: ما لا نظير له فى البدن ويدخل تحته الأعضاء الآتية: الأنف، اللسان، الذكر، الصلب، مسلك البول، مسلك الغائط، الجلد، شعر الرأس، شعر اللحية. النوع الثانى: الأعضاء النى فى البدن منها اثنان وهى: اليدان، الرجلان، العينان، الأذنان، الشفتان، الحاجبان، الثديان، الأنثيان، الشفران، الإليتان، اللحيان. النوع الثالث: ما فى البدن منه أربعه وهو: أشفار العينين - أى منابت الأهداب - الأهداب نفسها وهى الأشعار. النوع الرابع: ما فى البدن منه عشرة وهو: أصابع اليدين - أصابع الرجلين. 341- والمعانى تجب فى ذهابها الدية الكاملة، ومثلها: العقل والبصر والشم والسمع والذوق والجماع والإيلاد والمشى والبطش والكلام، وسنتكلم عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 المعانى بعد الكلام عن الأعضاء؛ فنستوفى الكلام عن إبانة الأعضاء ثم نتكلم عن إذهاب المعانى. 342- الأنف: تجب الدية فى مارن الأنف وهو ما لان من الأنف، لما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فى الأنف إذا أوعب مارنه جدعًا الدية" ولأنه عضو فيه جمال ظاهر ومنفعة كاملة، والأخشم كالأشم فى وجوب الدية لأن عدم الشم نقص فى خير الأنف فلا يؤثر فى دية الأنف. وقطع جزء من الأنف فيه من الدية بقدره فإن قطع نصف الأنف أو ثلثه فعليه نصف الدية أو ثلثها. وإن قطع المارن وقصبة الأنف فيرى الشافعى ورأيه وجه فى مذهب أحمد أن على الجانى الدية فى المارن وحكومة فى القبضة، ويرى مالك وأبو حنيفة ورأيهما وجه فى مذهب أحمد أن على الجانى الدية فقط لأن المارن والقصبة عضو واحد إلا إذا قطع المارن فبرئ ثم قطع بعد البرء القصبة ففيها حينئذ حكومة (1) . 343- اللسان: تجب الدية فى اللسان لقوله عليه السلام فى كتاب عمرو بن حزم: "وفى اللسان الدية"، ولأن فيه جمالاً ومنفعة. والدية تجب فى اللسان الناطق فإن جنى على لسانه فخرس وجبت عليه الدية كاملة ولو بقى اللسان لأنه أتلف المنفعة المقصودة، وإن قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه وجبت من الدية بقدر ما ذهب من الكلام فإن ذهب بنصف الكلام وجب نصفها وإن ذهب أقل من ذلك أو أكثر وجب بقدره، وإن ذهب نطق بعض الحروف وجب له ما يقابلها من الدية. وفى لسان الأخرس حكومة عند مالك وأبى حنيفة، أما الشافعى فيفرق بين ما إذا كانت الجناية أذهبت ذوق الأخرس أم لم تذهبه، فإن كانت أذهبته ففى اللسان الدية، وإن كانت لم تذهبه ففى اللسان حكومة، وفى مذهب أحمد   (1) المهذب ج2 ص216 , المغنى ج9 ص599 , مواهب الجليل ج6 ص261 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 312. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 من يرى أن الدية لا تجب فى لسان الأخرس إطلاقًا، ومنهم من يفرق بين ما إذا كانت الجناية أذهبت الذوق أم لا، فإن لم يكن الذوق أذهب فرأى يرى حكومة ورأى يرى ثلث الدية (1) . وفى لسان الطفل الذى لم ينطق بعدُ الدية عند مالك والشافعى وأحمد، ولكن أبا حنيفة يرى فيه حكومة. 344- الذكر: تجب فى الذكر الدية لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الذكر الدية" ولأنه عضو لا نظير له فى البدن فى الجمال والمنفعة فكملت فيه الدية كالأنف واللسان. وفى شلل الذكر دية لأن الشلل يذهب بنفعه، وتجب الدية فى ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب، وفى قطع الحشفة وحدها الدية، لأن منفعة الذكر تكمل بالحشفة كما تكمل منفعة الكف بالأصابع، وفى قطع بعض الحشفة بعض الدية بنسبة ما قطع إلى الحشفة على رأى، ونسبة ما قطع إلى كل الذكر على رأى آخر، وفى ذكر الخصى والعنين الدية عند الشافعى، وهو وجه فى مذهب مالك، ومذهب أحمد: العضو سليم فى نفسه والمانع من الجماع راجع لغيره، ويرى أبو حنيفة أن فى ذكر الخصى والعنين حكومة لأن العبرة عنده بالقدرة على الإيلاج، وهذا وجه فى مذهب مالك، أما الوجه الثانى فى مذهب أحمد لا يرى فى ذكر العنين والخصى حكومة وإنما يرى فى كل منهما ثلث الدية (2) , وفى عسيب الذكر - أى الذكر دون الحشفة - الحكومة بإجماع. 345- الصلب: وتجب فى الصلب الدية، لما روى الزهرى عن سعيد بن المسيب أنه قال: "قضت السنة أن فى الصلب الدية، وفى اللسان الدية، وفى الذكر الدية، وفى الأنثيين الدية"، ولأنه أبطل عليه منفعة مقصودة. وإذا   (1) مواهب الجليل ج6 ص262 , البحر الرائق ج8 ص330 , المهذب ج2 ص117 وما بعدها , المغنى ح9 ص604 وما بعدها. (2) مواهب الجليل ج6 ص261 , 263 , البحر الرائق ج8 ص330 , المهذب ج2 ص222 , المغنى ج9 ص627. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 كسر الصلب فلم ينجز الكسر ففيه الدية على رأى فى مذهب أحمد، وعلى الرأى الآخر الذى يتفق مع آراء باقى الفقهاء فيه حكومة ما دام لا يعطل منفعة المشى أو الجماع فإن ذهبت بالكسر منفعة المشى والجماع ففيه الدية. وإن أحدَوْدَب الظهر ولم تذهب منفعة ما ففيه حكومة، وإن ذهب المشى والجماع معًا ففريق يرى فيهما دية واحدة وفريق يرى فيهما ديتين (1) . 346- مسلك البول ومسلك الغائط: إذا أتلف مسلك البول فلم يعد يستمسك البول أو أتلف مسلك الغائط فلم يعد يستمسك الغائط؛ ففى كل واحد منهما الدية لأن كل واحد من هذين المحلين عضو فيه منفعة كبيرة وليست فى البدن مثله، فوجب فى تفويت منفعته دية كاملة كسائر الأعضاء التى لا نظير لها فى البدن، فإن نفع المثانة حبس البول وحبس البطن الغائط منفعة مثلها؛ والنفع بهما كثير والضرر بغيرهما عظيم، فكان فى كل واحد منهما الدية كالسمع والبصر، وإن فاتت المنفعتان بجناية واحدة وجب على الجانى ديتان كما لو ذهب سمعه وبصره بجناية واحدة، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، ولكن فى مذهب مالك رأيًا بأن فى كل من المسلكين حكومة (2) . 347- الجلد: يرى الشافعى أن الدية تجب فى الجلد إن سلخ جميعه، ويندر أن يعيش إنسان يسلخ كل جلده، ويرى مالك أن الدية تجب فى الجلد إذا فعل الجانى فعلاً جزمه أو برصه أو سوده، ولا يشترط أن يعم التجزيم أو التبريص أو التسويد كل الجلد، كذلك يوجب مالك الدية فى جلد الرأس.   (1) مواهب الجليل ج6 ص261 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , المهذب ج2 ص222 , المغنى ج9 ص626. (2) مواهب الجليل ج6 ص263 , شرح الدردير ج4 ص246 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , المهذب ج2 ص223 , المغنى ج9 ص633. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 أما أبو حنيفة وأحمد فلا يوجبان الدية فى الجلد إطلاقًا ويريان الحكومة فى هذه الحالات (1) . 348- شعر الرأس وشعر اللحية والحاجبين: يرى أبو حنيفة أن الدية تجب فى إزالة شعر الرأس للرجل والمرأة وفى إزالة اللحية سواء كان ذلك بطريق الضرب فسقط الشعر، أو بطريق الحلق أو النتف، ويشترط ألا ينبت الشعر، وحجته أن الشعر للرجال والنساء جمال وفى إزالته وعدم إنباته تفويت للمنفعة على الكمال، وفى اللحية وحدها الدية، وفى شعر الرأس الدية، وما عدا ذلك من الشعور كشعر الشارب والحاجبين ففيه حكومة. ويرى أحمد ما يراه أبو حنيفة، ولكنه يزيد عليه أنه يجعل الدية أيضًا فى شعر الحاجبين، ويشترط كأبى حنيفة عدم الإنبات (2) . أما مالك والشافعى فلا يجب عندهما فى إتلاف الشعور إلا الحكومة؛ لأنه إتلاف جمال دون منفعة، والدية لا تجب إلا فى ما كان له منفعة (3) . 349- اليدان: تجب الدية فى اليدين لما روى معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى اليدين الدية" ويجب فى إحدى اليدين نصف الدية لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم حين أمره على نجران: "فى اليد خمسون من الإبل" واختلفوا فى معنى اليد، فرأى البعض أن لفظ اليد يطلق على كل الذراع إلى المنكب، ورأى البعض أنه يطلق على الكف فقط، وترتب على هذا الخلاف أنهم اختلفوا فى قطع اليد من بعد مفصل الكف كالقطع من نصف الذراع أو من المرفق أو من العضد أو من المنكب، فمن رأى أن اليد هى الكف قال فى اليد نصف الدية وفيما زاد عن الكف حكومة، وقال بهذا أغلب الفقهاء فى مذهب   (1) شرح الدردير ج4 ص242 , نهاية المحتاج ج7 ص314. (2) المغنى ج9 ص597. (3) بدائع الصنائع ج7 ص312 , البحر الرائق ج8 ص331 , المهذب ج2 ص224 , المغنى ج9 ص597 , مواهب الجليل ج6 ص247 , شرح الدردير ج4 ص642. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 الشافعى وبعض فقهاء مذهب أحمد، وقال به أبو حنيفة ومحمد. ومن رأى أن اليد اسم للجميع حتى المنكب قال بأن فى الكف وما زاد علها نصف الدية؛ لأن ما زاد على الكف كله معتبر يدًا، وقد أخذ بهذا الرأى مالك ومعظم الفقهاء فى مذهب أحمد وبعض فقهاء مذهب الشافعى وأبو يوسف من فقهاء مذهب أبى حنيفة. ومن المتفق عليه عند الجميع أن الحكومة فى قطع الساعد الذى لا كف فيه، والخلاف منحصر فى حالة قطعهما معًا. ويجب فى كل إصبع عشر الدية، لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن بأن فى كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، ولا يفضل إصبع على إصبع لما روى عمرو بن شعيب عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأصابع كلها سواء عشر عشر من الإبل" ولأنه جنس ذو عدد تجب الدية فيه فتقسم على أعداده، وفى كل أنملة من غير الإبهام ثلث دية الإصبع، وفى كل أنملة من الإبهام نصف دية الإصبع لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع قسمت دية الإصبع على عدد أنامله. وإن جنى على يد فشلت أو على إصبع فشلت أو على أنملة فشلت وجب بشللها ما يجب فى قطعها؛ لأن المقصود بها هو المنفعة فوجب فى إتلاف منفعتها ما وجب فى إتلافها. وإن قطع يدًا شلاَّء أو إصبعًا شلاء أو أنملة شلاء وجبت فيها الحكومة؛ لأنه إتلاف جمال من غير منفعة (1) ، وفى مذهب أحمد رأى بأن فيها ثلث الدية. 350- الرجلان: يجب فى الرجلين الدية لما رواه معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فى الرجلين الدية" وفى أحد الرجلين نصف الدية لما رواه عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى الرجل نصف الدية" وفى الرجل نفس الخلاف الذى فى اليد، فالبعض يرى أن لفظ الرجل يشمل القدم حتى نهاية الفخذ،   (1) البحر الرائق ج8 ص332 - 336 , المهذب ج2 ص221 , المغنى ج9 ص620 , شرح الدردير ج4 ص242 , 246 , 247. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 والبعض يرى أنه يطلق على القدم فقط، وترتب على هذا الخلاف نفس ما ذكرناه فى اليدين. ويجب فى كل إصبع من أصابع الرجلين عشر الدية، ويجب فى كل أنملة غير الإبهام ثلث دية الإصبع، وفى كل دية من الإبهام نصف دية الإصبع، لما ذكر فى اليد. وتجب الدية فى قدم الأعرج ويد الأعْسَم إن كانتا سليمتين لأن العرج إنما يكون من قصر إحدى الساقين وذلك ليس بنقص فى القدم، والعَسَم لقصر العضد أو الذراع أو اعوجاج الرسغ وذلك ليس ينقص فى الكف، فلا يمنع هذا كمال الدية فى القدم والكف (1) . 351- العينان: تجب الدية فى العينين؛ لقوله عليه السلام من كتاب كتبه لعمرو بن حزم: "فى العين خمسون من الإبل" فأوجب فى كل عين خمسين فدل عل أنه يجب فى العينين مائة. وعين الأعور فيها نصف الدية عند أبى حنيفة والشافعى، وفيها الدية كاملة عند مالك وأحمد. وتجب الدية بقلع العينين وبفقئهما، كما تجب بذهاب الإبصار مع بقاء العينين قائمتين. 352- الأذنان: تجب الدية فى الأذنين وفى أحدهما نصف الدية؛ لما روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الأذن خمسون من الإبل" فأوجب فى الأذن خمسين فدل على أنه يجب فى الأذنين الدية كاملة وهى مائة من الإبل، ولأن فى الأذنين جمالاً ظاهرًا ومنفعة مقصودة وهى أنها تجمع الصوت. وإن قطع بعضها من نصف أو ربع أو ثلث وجب فيه الدية بقسطه؛ لأن ما وجبت الدية فى كله وجبت فى بعضه بقسطه كالأصابع. وفى قطع الأذنين الدية ولو بقى السمع سليمًا، وهذا ما يراه أبو حنيفة والشافعى وأحمد وبعض فقهاء مذهب مالك، وحجتهم أن الأذنين فيهما منفعة   (1) بدائع الصنائع ج7 ص311 , 314 , المهذب ج2 ص221 , المغنى ج9 ص630 , شرح الدردير ج4 ص242 , 246 , 247 , البدائع ج7 ص214 , البحر الرائق ج8 ص331 , المهذب ج2 ص215 , المغنى ج9 ص585 , شرح الدردير ج4 ص242. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 مقصودة هى أنها تجمع الصوت، ولكن بعض فقهاء مذهب مالك يرى فى قطع الأذنين مع بقاء السمع سليمًا حكومة؛ لأن الأذنين فى رأيهم ليس فيها منفعة وإنما فيها جمال فقط وليس فى الجمال إلا الحكومة (1) . 353- الشفتان: تجب الدية فى الشفتين؛ لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الشفتين الدية"، ولأن فيهما جمالاً ظاهرًا ومنافع كثيرة، ويجب فى إحداهما نصف الدية لأن كل شفتين وجب فيهما الدية وجب فى إحداهما نصف الدية كالعينين والأذنين، وإن قطع بعض الشفة وجب فيه من الدية بقدره. فإن جنى عليهما فشلتا وجبت فيهما الدية لأنه أبطل منفعتهما، وإن تقلصتا شيئًا مع بقاء منفعتهما ففيهما حكومة (2) . 354- الحاجبان: يرى أبو حنيفة وأحمد أن فى الحاجبين الدية وفى أحدهما نصف الدية إذا أزيل الشعر بحيث لا ينبت. ويرى مالك والشافعى أن فى إزالة شعر الحاجبين الحكومة فقط لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فلا تجب فيه الدية. أما أبو حنيفة وأحمد فيريان أنه جمال مقصود لذاته والمنفعة ثابتة له ففيه الدية (3) . 355- الثديان والحلمتان: تجب الدية فى ثديى المرأة لأن فيهما جمالاً ومنفعة وتجب فى إحداهما نصف الدية، وتجب الدية أيضًا كاملة فى الحلمتين إذا قطعتا دون الثديين وفى إحداهما نصف الدية؛ لأن فى الحلمتين منفعة الثديين. ويشترط مالك لوجوب الدية فى الحلمتين أن ينقطع اللبن أو يفسد، فإن لم يتوفر هذا الشرط ففى الحلمتين حكومة، أما باقى الأئمة فلا يشترطون هذا الشرط ويرون الدية فى الحلمتين مطلقًا.   (1) مواهب الجليل ج6 ص261 , بدائع الصنائع ج7 ص314 , المهذب ج2 ص216 , المغنى ج9 ص593. (2) شرح الدردير ج4 ص242 , بدائع الصنائع ج7 ص214 , المهذب ج2 ص217 , المغنى ج9 ص603. (3) بدائع الصنائع ج7 ص311 , المغنى ج9 ص597 , المهذب ج2 ص224 , المواهب ج6 ص247. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 أما ثديا الرجل فليس فيهما إلا الحكومة عند مالك والشافعى لأن فى ذهابهما ذهاب جمال من غير منفعة. وفى مذهب الشافعى من يرى فى ثديى الرجل وحلمتيه الدية، ولكن هذا الرأى ليس المذهب، ولكنه يتفق مع مذهب أحمد فهو يرى أن فى ثديى الرجل وحلمتيه الدية، وحجته أن ما وجب فيه الدية من المرأة وجب فيه من الرجل، ولأنهما عضوان يحصل بهما الجمال وليس فى البدن غيرهما. ويرى أبو حنيفة أن فى ثديى الرجل وحلمتيه حكومة، وقد بنى رأيه على أن ثديى الرجل وحلمتيه ليس فيهما جمال ولا منفعة (1) . 356- الأنثيان: تجب الدية فى الأنثيين لما روى أن فى كتاب الرسول لعمرو بن حزم: " وفى البيضتين الدية " ولأن فيهما جمالاً ومنفعة فإن النسل يكون بهما وهما وكاء المشى، وفى كل واحدة منهما نصف الدية لأن وجوب الدية فى شيئين يوجب نصفها فى أحدهما. وإن أشل الأنثيين فعليه الدية كاملة حيث أذهب منفعتهما، فإن قطعهما لم تجب فيهما إلا دية واحدة، ويرى أبو حنيفة ومن يقول من فقهاء مذهبى مالك وأحمد بأن ذكر الخصى والعنين فيه حكومة، ويرى هؤلاء جميعًا أنه إذا قطع الأنثيان مع الذكر مرة واحدة ففيهما ديتان، دية للأنثيين ودية للذكر، وكذلك الحكم لو قطع الذكر قبل الأنثيين، أما إذا قطع الأنثييان قبل الذكر ففى الأنثيين الدية وفى الذكر حكومة لأنه يصبح بعد قطع الأنثيين ذكر خصى وذكر الخصى فيه حكومة، أما القائلون بأن ذكر الخصى والعنين فيه الدية وهم الشافعية وبعض فقهاء مذهبى مالك وأحمد فيوجبون فى قطع الذكر والأنثيين ديتان سواء قطعت الأنثيين قبل الذكر أم بعده (2) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص311 , 323 , شرح الدردير ج4 ص243 , المهذب ج2 ص223 , المغنى ج9 ص623. (2) المغنى ج9 ص628 , 629 , المهذب ج2 ص223 , بدائع الصنائع ج7 ص324 , مواهب الجليل ج6 ص261. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 357- الشفران: الشُّفْران أو الإسْكَتان هما اللحم المحيط بالفرج من جانبيه إحاطة الشفتين بالفم، وفى الشفرين دية كاملة إذا قطعا حتى ظهر العظم، وفى أحدهما نصفها؛ لأن فيهما جمالاً ومنفعة فى المباشرة وليس فى البدن غيرهما من نوعهما (1) ، فإن جنى عليهما حتى أشلهما ففيهما الدية لأنه أزال المنفعة كما لو أنه قطعهما. 358- الإليتان: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن الدية تجب فى الإليتين، وأن نصف الدية يجب فى الإلية الواحدة؛ لأنهما عضوان من جنس واحد ليس فى البدن نظيرهما، ولأن فيهما جمالاً ظاهرًا ومنفعة كاملة. والإليتان هما ما علا وأشرف من الظهر عن استواء الفخذين، وفيهما الدية إذا أخذتا إلى العظم الذى تحتهما، وفى ذهاب بعضهما بقدره؛ لأن ما وجبت الدية فيه كله وجب فى بعضه بقدره، فإن جهل مقدار البعض وجبت فيه حكومة لأنه نقص تعذر تقديره. ويرى بعض فقهاء مذهب مالك أن فى الإليتين حكومة فقط سواء أخذتا إلى العظم الذى تحتهما أو ذهب بعضهما (2) ، ويرى البعض الآخر أن فيهما الدية. 359- اللحيان: يرى الشافعى وأحمد أن فى اللحين الدية، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلي؛ لأن فيهما نفعًا وجمالاً وليس فى البدن مثلهما فكانت فيهما الدية كسائر ما فى البدن منه شيئان فى أحدهما نصف الدية، وإن قلنا بما عليهما من الأسنان وجبت ديتهما ودية الأسنان ولم تدخل دية الأسنان فى ديتهما (3) . 360- أشفار العينين: تجب الدية فى أشفار العينين أى جفونهما عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد لأن فيهما جمالاً ظاهرًا ونفعًا كاملاً وهى أربعة ليس   (1) المغنى ج9 ص639 , المهذب ج2 ص223 , البحر الرائق ج8 ص307 , مواهب الجليل ج6 ص261. (2) المغنى ج9 ص625 , المهذب ج2 ص222 , البحر الرائق ج8 ص307 , المدونة ج16 ص113 , مواهب الجليل ج6 ص262. (3) المغنى ج9 ص619 , المهذب ج2 ص220. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 مثلها فى البدن فتجب ربع الدية فى كل واحد منها، ويرى مالك أن فى الأشفار الاجتهاد أى الحكومة لأنه لم يرد نص (1) بأن فيها شيئًا مقدرًا والتقدير لابد من نص ولا يثبت بالقياس كما يرى بقية الأئمة. 361- أهداب العينين: يرى أبو حنيفة وأحمد أن فى أهداب العينين الأربعة الدية كاملة لأن فيها جمالاً ظاهرًا ونفعًا كاملاً، وفى ربع كل واحد منها الدية، لكن إذا قطعت الأهداب مع الأجفان ففيها كلها دية واحدة؛ لأن الأهداب تابعة للأجفان كحلمة الثدى مع الثدى والأصابع مع الكف. ويرى مالك والشافعى أن فى الأهداب حكومة لأنها جمال لا منفعة فيه، وإذا قطعت الأهداب مع الأجفان ففى مذهب الشافعى رأيان: رأى يرى أن لا شئ فى الأهداب لأنها شعر نابت فى العضو المتلف وهو الجفنين، ورأى يرى أن فى الجفنين الدية وفى الهدب الحكومة لأن فيه جمالاً (2) . 362- أصابع اليدين وأصابع الرجلين: تكلمنا عن أصابع اليدين والرجلين مع اليدين والرجلين فلا داعى لتكرار الكلام عنهما وفيما ذكر هناك الكفاية. 363- الأسنان: يجب فى كل سن خمس من الإبل؛ لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى السن خمس من الإبل"، ولما رواه عمرو بن شعيب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فى الأسنان خمس خمس" ويستوى السن بالناب والناب بالضرس فأرشها سواء؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء". ويجب الضمان فى سن من ثغر وهو الذى أبدل أسنانه وبلغ حدًا إذا قلعت   (1) المغنى ج9 ص592 , المهذب ج2 ص215 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 324 , مواهب الجليل ج6 ص247. (2) مواهب الجليل ج6 ص247 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 344 , المهذب ج2 ص219 , المغنى ج9 ص593. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 سنه لم يعد بدلها، فأما سن الصبى الذى لم يثغر فلا يجب بقلعها فى الحال شئ لأن العادة عود سنه، فإن مضت مدة ييأس من عودها وجب أرشها وإذا عادت لم يجب فيها أرش، ولكن إن عادت قصيرة أو مشوهة ففيها حكومة، وإن عادت خارجة عن صف الأسنان بحيث لا ينتفع بها ففيها الدية، وإن كان ينتفع بها ففيها حكومة. وإن قلع سن من أثغر وجبت ديتها فى الحال فإن عادت لم تجب الدية وعليه ردها وإن كان قد أخذها، وهذا رأى أبى حنيفة وأحمد، ويرى مالك أنه لا يرد شيئًا لأن العادة أنها لا تعود فإن عادت فهى هبة مجردة وفى مذهب الشافعى يأخذ البعض برأى مالك والبعض بالرأى المضاد. وتجب دية السن فيما ظهر من اللثة لأن ذلك هو المسمى سنًا وما فى اللثة يسمى سنْخًا، فإذا كسر السن ثم جاء آخر فقلع السِّنْخ ففى السن أرشها وفى السنخ ححومة كما لو قطع إنسان أصابع رجل ثم قطع آخر كفه، وإن قلعت السن بسنخها لم يجب فيها أكثر من الأرش، وإن كسر بعض السن ففيه من أرشه بقدر ما كسر. وإن قلع سنًا مضطربة لكسر أو مرض وكانت منافعها باقية من المضغ وضغط العام وجب أرشها، وكذلك إذا ذهب بعض منافعها وبقى بعضها فى رأى أحمد، أما مذهب الشافعى ففيه رأيان: رأى يرى الأرش، ورأى يرى أن مقدار النقص يجهل قدره فيكون فيها الحكومة، أما إذا ذهبت منافعها كلها ففيها حكومة أو ثلث ديتها على رأى فى مذهب أحمد. وإن قلع سنًا فيها داء أو أَكلَة فإن لم يذهب شئ من أجزائها ففيها دية السن الصحيحة لأنها كاليد المريضة، وإن سقط من أجزائها شئ سقط من أرشها بقدر الذاهب ووجب الباقى. وإن جنى عليه فتغير لون السن إلى السواد أو الخضرة أو الحمرة أو الصفرة ففى مذهب مالك فيها الأرش إن كان التغير إلى الخضرة والحمرة والصفرة يساوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 التغير إلى السواد وإلا فحكومة، ومذهب أبى حنيفة فيها الأرش إذا كانت الصفرة بمنزلة السواد، وعند الشافعى يجب فيها حكومة فى جميع الحالات فى رأى، وفى رأى تجب الدية فى السواد إذا زالت المنفعة وإلا فحكومة، وهذا أحد الرأيين فى مذهب أحمد، والرأى الثانى: فى التسويد الدية (1) . وإذا جنى على أسنانه كلها دفعة واحدة ففيها مائة وستون من الإبل بحساب كل سن خمس من الإبل، وهذا رأى مالك وأبى حنيفة وأحمد، ولو أن هذا المقدار يزيد عن دية كاملة؛ لأن النص جعل أرش كل سن خمسًا من الإبل. وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما: يأخذ بما يراه الأئمة الثلاثة وهو الرأى الراجح، وحجته أن ما ضمن على انفراد لا ينقص ضمانه بانضمام غيره إليه، وثانيهما: أنه لا يجب فى الأسنان كلها إذا قلعت دفعة واحدة إلا دية واحدة لأنه جنس ذو عدد فلا يضمن بأكثر من دية كأصابع اليدين. إذهاب المعاني 364- القاعدة أن العضو إذا ذهب بمنفعته لم تجب فيه إلا دية واحدة: كالعينين إذا قلعتا فذهب ضوءهما لم تجب فيهما إلا دية واحدة هى دية العينين لأن الضوء فيهما وهما محله. ومثل ذلك سائر الأعضاء إذا ذهبت بنفعها لم يجب فيها إلا دية واحدة وهى دية العضو لا المنفعة؛ لأن نفعها فيها فدخلت ديته وديتها، ولأن منافعها تابعة لها تذهب بذهابها فوجبت دية العضو دون المنفعة. أما إذا بقى العضو وذهبت منفعته فتجب الدية فى المنفعة الذاهبة، فمن ضرب إنسانًا على رأسه فأذهب بصره أو سمعه وجبت عليه دية البصر أو السمع. والمنافع كثيرة منها ما هو حاسة كالسمع والبصر والشم والذوق واللمس، ومنها ما هو معنى كالمشى والبطش والعقل والنطق. وقد اختلف الفقهاء فى تحديد المعانى التى تجب فيها الدية كما سنبين لنا فيما بعد.   (1) مواهب الجليل ج6 ص263 , بدائع الصنائع ج7 ص310 , المهذب ج2 ص219 , المغنى ج9 ص611. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 365- (1) السمع: فى السمع الدية لما روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "فى السمع الدية" ولما روى عن أبى قلابة أن رجلاً رمى آخر بحجر فى رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه، فقضى عمر رضى الله عنه بأربع ديات والرجل حى. وإن أذهب السمع فى إحدى الأذنين وجبت نصف الدية، وإن قطع الأذنين فذهب السمع وجب عليه ديتان لأن السمع فى غير الأذن فلا تدخل دية أحدهما فى الآخر، إلا أن بعض فقهاء مذهب مالك يرون فى السمع دية وفى الأذنين حكومة لأنهم يرون من الأصل أن الأذنين ليس فيهما إلا الحكومة (1) . 366- (2) البصر: وفى البصر الدية لأنه منفعة العينين، وكل عضوين وجبت الدية بذهابهما وجبت بإذهاب نفعهما، وفى ذهاب إبصار العين الواحدة نصف الدية، وليس فى إذهاب العينين بنفعهما أكثر من دية واحدة كاليدين لأن العينين هما محل البصر (2) . 367- (3) الشم: وفى الشم الدية لقوله عليه السلام فى كتاب عمرو بن حزم: "فى المشام الدية" وإن قطع أنفه فذهب شمه فعليه ديتان لأن الشم فى غير الأنف فلا تدخل دية أحدهما فى الآخر كالسمع مع الأذن والبصر مع أجفان العين والنطق مع الشفتين (3) ، وإن جنى عليه فذهب الشم من أحد المنخرين وجب فيه نصف الدية كما تجب فى إذهاب البصر من أحد العينين والسمع من أحد الأذنيين. 368- (4) الذوق: يرى مالك وأبو حنيفة أن فى الذوق الدية، وفى مذهب أحمد رأيان أحدهما: يرى فى الذوق الدية، والثانى لا يرى فيه الدية، وتجب الدية إذا ذهبت   (1) المغنى ج9 ص595 , المهذب ج2 ص216 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 وما بعدها , شرح الدردير ج4 ص241 , 243. (2) الشرح الكبير ج9 ص593 , المهذب ج2 ص215 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 وما بعدها. (3) المغنى ج9 ص599 , 602 , المهذب ج2 ص217 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 حاسة الذوق تمامًا فإن ذهب بعضها دون بعض وجب من الدية بقدر ما ذهب فقط (1) . 369- (5) الكلام: تجب الدية فى الكلام، فإذا جنى عليه فخرس وجبت الدية كاملة وإن فقد بعض الكلام دون بعض وجب من الدية بقدر ما نقص (2) ، وإذا قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه ففيها جميعًا دية واحدة؛ لأن دية الكلام والذوق تدخل فى دية اللسان، أما إذا جنى عليه فأذهب كلامه وذوقه مع بقاء اللسان ففيهما ديتان، مع مراعاة ما ذكرنا من الخلاف عند الكلام على الذوق. 370- (6) العقل: تجب الدية فى ذهاب العقل لما روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى العقل الدية" ولما كان العقل من أكبر المعانى قدرًا وأعظم أثرًا من جميع الحواس، وبه يتميز الإنسان من البهيمة ويعرف به حقائق المعلومات ويهتدى به إلى مصالحه ويتقى ما يضره ويدخل فى التكليف، فقد رأى بعض الفقهاء أن يعطى العقل حكم النفس كأبى حنيفة وأصحابه والشافعى فى رأيه القديم. وإن ذهب العقل بجناية لا توجب أرشًا كاللطمة أو التخويف ونحوها ففيه الدية لا غير، وإن أذهبه بجناية لها أرش مقدر كالموضحة أو قطع عضو وجبت الدية وأرش الجرح أو الطرف عند مالك والشافعى طبقًا لرأيه الجديد وهو المذهب وكذلك عند أحمد، أما أبو حنيفة فيرى كما يرى الشافعى قديمًا والرأى الأخير فى مذهب مالك أن يدخل أرش الجرح أو الطرف فى دية العقل، لأن الواجب فى العقل دية النفس، والعقل يقوم مقام النفس من حيث المعنى، لأن جميع منافع النفس تتعلق به فكان تفويته تفويت النفس معنى، ولا شك أنه إذا أدت الشجة أو قطع الطرف إلى الموت دخلت الشجة والطرف فى دية النفس، فهكذا تدخل فى دية العقل، على أن زفر والحسن بن زياد لا يريان التداخل. وإن جنى   (1) الشرح الكبير ج9 ص593 , المهذب ج2 ص219 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243. (2) المغنى ج9 ص604 وما بعدها , الشرح الكبير ج9 ص594 , 604 , المهذب ج2 ص218 , 219 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 عليه فأذهب عقله وشمه وبصره وكلامه وجب أربع ديات مع أرش الجرح، مع مراعاة الخلاف السابق فى مذهب أبى حنيفة، ومع مراعاة أن أبا حنيفة ومحمد يقولان بالتداخل مع العقل فقط دون غيره من المعانى، أما أبو يوسف فيقول بالتداخل مع كل المعانى الباطنة كالعقل والشم والكلام والجماع والذوق، أما البصر فلا لأنه معنى ظاهر، ومن القضايا المشهورة فى عهد عمر أن رجلاً رمى آخر بحجر فأذهب عقله وسمعه وبصره وكلامه، فقضى عليه عمر بأربع ديات وهو حى، لكن إذا مات المجنى عليه من الجناية لم تجب إلا دية واحدة، لأن ديات المنافع كلها تدخل فى دية النفس كديات الأعضاء (1) . 371- المشى والجماع: إذا ذهب المشى أو القدرة على الجماع ففى كل منهما الدية كاملة، والمعروف أن الصلب يؤثر على هذين المعنيين، فإذا كسر صلبه وأبطل جماعه فعليه ديتان لا دية واحدة كما هو رأى مالك حيث لا يرى اندراج دية الصلب فيه، وقياسًا على هذا إذا أبطل صلبه فأبطل جماعه ومشيه وجبت عليه ثلاث ديات، فإذا لم يبطل صلبه فعليه ديتان، وعلة عدم الاندراج أن الصلب ليس هو محل المنفعة فعضو المشى الأقدام وعضو الجماع الذكر. وفى مذهب الشافعى وأحمد رأيان: رأى يرى أن فى ذهاب المشى والجماع ديتان لأنهما منفعتان مختلفتان، ورأى يرى أن فيهما دية واحدة لأنهما منفعة عضو واحد كما لو قطع لسانه فذهب نطقه وذوقه، وقياس مذهب أبى حنيفة أن يكون فيهما دية واحدة (2) . 372- الصعر: وتجب الدية فى الصًّعَر، وهو أن يضربه مثلاً فيصير   (1) الشرح الكبير ج9 ص594 وما بعدها , المهذب ج8 ص217 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , 317 , شرح الدردير ج4 ص241 , 243. (2) الشرح الكبير ج9 ص596 , 597 , 605 , المهذب ج2 ص222 , بدائع الصنائع ج7 ص311 , شرح الدردير ج4 ص243. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 الوجه إلى جانب، وأصل الصعر داء يأخذ البعير فيلتوى منه عنقه، قال تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18] أى: لا تعرض عنهم بوجهك تكبرًا كإمالة وجه البعير الذى به الصعر، فمن جنى على إنسان جناية تعوج عنقه حتى صار وجهه فى جانب، فيرى أبو حنيفة وأحمد أن فيه الدية، ويرى الشافعى فى الصعر الحكومة لأنه إذهاب جمال من غير منفعة، وهو قياس مذهب مالك (1) . 373- معان أخرى: يرى أبو حنيفة الدية فى البطش والإيلاد، وظاهر مذهبه أن كل معنى يفوت تجب فيه الدية (2) . أما عند مالك فيحدد بعض الشراح المعانى بعشر وهى: العقل - والسمع - والبصر - والشم - والنطق - والصوت - والذوق - وقوة الجماع والنسل - وتغيير لون الجلد ببرص أو تسويد أو تجذيم - والقيام والجلوس (3) . ولكن بعض الشراح لا يرى مانعًا من القياس على هذه العشر ويضيف إليها اللمس، ويرى أحمد أن فى تسويد الوجه الدية (4) ، وفى ذهاب القدرة على الأكل الدية (5) ، بينما يرى الشافعى فى تسويد الوجه حكومة جريًا على قاعدته التى لا توجب الدية إلا فى زوال منفعة. ويرى الشافعى وجوب الدية فى إبطال الكلام وفى إبطال الصوت وفى إبطال قوة المضغ وفى إبطال قوة الإمناء وقوة الحبل والإحبال وإذهاب لذة الجماع ولذة الطعام (6) . والظاهر من مذهب الشافعى وأحمد أن المعانى التى تجب فيها الدية ليست   (1) الشرح الكبير ج9 ص598. (2) بدائع الصنائع ج7 ص296 , 311. (3) مواهب الجليل ج6 ص260 , شرح الدردير ج4 ص241. (4) الشرح الكبير ج9 ص596. (5) نهاية المحتاج ج7 ص321 , 323. (6) نهاية المحتاج ج7 ص321 , 323. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 محددة على وجه التعيين، فما ذكر فى الكتب أمثلة على المعانى التى تذهب وفيها الدية. 374- ويجب أن نلاحظ فى هذا المقام الفرق الظاهر بين اتجاه مالك والشافعى من ناحية فى تعيين المعانى التى تجب فيها الدية وبين اتجاه أبى حنيفة وأحمد، فالأولان لا يجعلان فى المعنى دية إلا إذا كان فى فوات المعنى فوات منفعة، أما الأخيران فيجعلان فى المعنى دية إذا كان فى فوات المعنى فوات الجمال ولو لم يكن قد فاتت به منفعة. 375- ما يجب فى فوات بعض المعنى: القاعدة عند الفقهاء أنه إذا فات المعنى كله وجبت فيه الدية، فإن فات بعضه وجب فيه بعض الدية بنسبة ما فات، هذا إذا كان التبعض معروفًا كذهاب الإبصار من عين دون أخرى، أو كذهاب السمع من أذن دون أخرى، أو كان الذاهب ممكن التقدير، أما إذا كان الغائب لا يمكن معرفة قدره فيرى الشافعى وأحمد أن فيه حكومة، وهذا هو قياس مذهب أبى حنيفة، أما مالك فيرى أن يقابل النقص بما يناسبه من الدية فى كل حال، وفى حالة تعذر التقدير الدقيق يقدر الناقص بأدنى ما يمكن وأكثر ما يمكن، وفى العمد يلزم المتعمد بالأكثر لأنه ظالم، والظالم أحق بأن يحمل عليه، وفى الخطأ يلزم المخطئ بأقل ما يمكن (1) . ما يجب فيه أرش مقدر 376- يجب الأرش المقدر فى الأطراف وفى الشجاج والجراح: الأطراف التى لها أرش مقدر: شمل كلامنا عما تجب فيه الدية من الأطراف الكلام عن الأطراف التى يجب فيها أرش مقدر، ففى كل اثنين من البدن فيهما كمال الدية وفى أحدهما نصف الدية، وهذا هو الأرش المقدر، كاليدين والرجلين والعينين والأذنين والأنثيين والثديين، فأرش اليد المقدر نصف دية   (1) شرح الدردير ج4 ص243 , المهذب ج2 ص215 - 217 , 219 , المغنى ج9 ص596 , 599, الشرح الكبير ج9 ص599 , 602. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 العينين معًا، وأرش الرجل نصف دية الرجلين معًا، وأرش العين الواحدة هو نصف دية العينين، وهكذا. ولكن مالكًا وأحمد يخالفان باقى الفقهاء فى عين الأعور. وفى أصابع اليدين والرجلين فى كل إصبع عشر الدية، وما كان من الأصابع فيه ثلاث مفاصل ففى كل مفصل ثلث أرش الإصبع، وما كان فيه مفصلان ففى كل واحد منهما نصف الأرش، وما وجبت الدية فى أربعة منه ففى الواحد منه ربع دية وهذا هو أرشه المقدر، ففى أشفار العينين الدية، وفى ثلاثة منها ثلاثة أرباع الدية، وفى الاثنين نصفها، وفى الواحد ربع الدية، وهذا هو أرشه المقدر. وفى كل سن - كما عرفنا - خمس من الإبل، وهذا هو الأرش المقدر للسن. وهكذا نستطيع أن نعرف الأطراف التى فيها أرش مقدر إذا رجعنا للأطراف التى فيها الدية الكاملة والتى لها نظائر فى البدن، أما الأطراف التى لا نظائر لها فى البدن ففيها الدية الكاملة وحدها، والأرش المقدر يجب أن يكون أقل من الدية. * * * أرش الشجاج 377- عرفنا مما سبق عدد الشجاج وأسماءها وأن مكانها الرأس والوجه، وبقى أن نعرف إن كان لهذه الشجاج أرش مقدر أم لا. ومن المتفق عليه أن ما قبل الموضحة من الشجاج ليس له أرش مقدر سواء على رأى القائلين بأنها خمسة أو القائلين بأنها ستة، وهناك رواية عن أحمد بأن فى الدامية بعيرًا وفى الباضعة بعيرين وفى المتلاحمة ثلاثة وفى السمحاق أربعة، وحجته أن زيد بن ثابت قضى بهذا، ولكن هذا الرأى ليس المذهب (1) . أما ما يجب فيه أرش مقدر من الشجاج فهو الموضحة وما بعدها؛ أى الهاشمة والمنقلة والآمةَّ والدامغة.   (1) الشرح الكبير ج9 ص619 , شرح الدردير ج4 ص240 , بدائع الصنائع ج7 ص316 , المهذب ج2 ص212. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 378- الموضحة: يجب فى الموضحة خمس من الإبل لما روى من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "وفى الموضحة خمس من الإبل" ولما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبى عليه السلام أنه قال: "فى المواضح خمس خمس". ويجب الأرش فى كل موضحة، فى الصغيرة والكبيرة، وفى البارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة يقع على الجميع. وأرش موضحة الوجه والرأس سواء عند الأئمة الأربعة. ولكن لأحمد رأى مخالف يرى فيه أن يكون أرش موضحة الوجه مضاعفًا لأن شينها أكثر ولأنها ظاهرة ولا يسترها الشعر كما هو الحال فى موضحة الرأس (1) . ولا يجب مع الأرش شىء آخر عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد ولو برئت الموضحة على شين، والمشهور عند مالك أنه إذا برئت على شين موضحة الوجه أو الرأس أُخذ من الجانى حكومة مقابل الشين، وهذه الحكومة علاوة على الأرش (2) . ولا يجب الأرش إلا فى موضحة الرأس والوجه، أما موضحة الجسد فليس فيها شئ مقدر وإنما فيها الحكومة، وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز وجب عليه أرش موضحتين. وإن أزال الحاجز بينهما قبل البرء فهما موضحة واحدة عليه أرشها، فإن اندملتا ثم أزال الحاجز فعليه أرش ثلاث مواضح؛ لأنه استقر عليه أرش الأولين بالاندمال، ثم لزمته الثالثة. وإن اندملت إحداهما وزال الحاجز بفعله أو بسراية لأخرى، فعليه أرش موضحتين، أما إذا زال الحاجز بفعل المجنى عليه أو بفعل أجنبى فعلى الأول أرش موضحتين، وعلى الأجنبى أرش موضحة؛ لأن فعل كل لا ينبنى على فعل الآخر، فانفرد كل بحكم جنايته، وهذا هو مذهب الشافعى وأحمد. وإذا شجه فى رأسه شجه بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة، لم يلزمه   (1) الشرح الكبير ج9 ص621. (2) شرح الدردير ج4 ص241. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 أكثر من أرش موضحة؛ لأنه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من ذلك فلأن لا يلزمه فى الإيضاح فى البعض أكثر من ذلك أولى (1) . 379 - الهاشمة: ويجب فى الهاشمة - وهى التى توضح العظم - عشر من الإبل، ولم يعرف عن النبى - صلى الله عليه وسلم - تقدير فيها، وإنما هو مروى عن زيد بن ثابت. والهاشمة فى الرأس والوجه والرأس خاصة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد. أما مالك فلا يعرف الهاشمة إلا فى جراح البدن، ويضع بدلاً منها - أى الهاشمة - المنقلة فى الوجه والرأس (2) . ولو ضرب رأسه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح ففى مذهب أحمد والشافعى رأيان: أولهما يوجب الحكومة لأنه كسر عظم من غير إيضاح، والثانى يوجب خمسًا من الإبل لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عشر من الإبل وقد وجد الهشم ففيه خمس من الإبل (3) . 380 - المنقلة: وتجب فى المنقلة خمس عشرة من الإبل لما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فى كتاب عمرو بن حزم: "فى المنقلة خمس عشرة من الإبل" والمنقلة زائدة على الهاشمة فهى التى تكسر العظام وتزيلها عن مواضعها فيحتاج إلى نقل العظم ليلتئم. 381- الآمة: وتسمى الآمَّة والمأمومة، وهى الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ، وأرشها ثلث الدية لقوله عليه السلام فى كتاب عمرو بن حزم: "وفى المأمومة ثلث الدية"، ولما روى عكرمة بن خالد أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قضى فى المأمومة بثلث الدية.   (1) الشرح الكبير ج9 ص623 وما بعدها , المهذب ج2 ص212 , 213 , شرح الدردير ج4 ص240 , 241. (2) شرح الدردير ج4 ص223 , الشرح الكبير ج9 ص625 , 626 , المهذب ج2 ص213 , بدائع الصنائع ج7 ص316. (3) المهذب ج2 ص213 , الشرح الكبير ج9 ص625 , 626. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 382- الدامغة: ويوجب الفقهاء فى الدامغة ثلث الدية، ويرى بعض فقهاء مذهبى الشافعى وأحمد أنه يجب فيهما ثلث الدية لمساواتها بالآمة وحكومة فيما زاد عنها لأنها تزيد عنها خرق جلدة الدماغ ولا يهتم الفقهاء كثيرًا بالدامغة لأنها تؤدى غالبًا للموت (1) . * * * أرش الجراح 383- الجراح كما علمنا على نوعين: جائفة وغير جائفة، فأما غير الجائفة فهى الجراحات التى لا تصل إلى جوف، والواجب فيها الحكومة، فإن أوضح عظمًا فى غير الرأس والوجه أو هشمه أو نقله وجب فيه الحكومة لأنها لا تشارك نظائرها من الشجاج التى فى الرأس والوجه فى الاسم ولا تساويها فى الشين والخوف على المجنى عليه منها ولذلك لم تساوها فى تقدير الأرش. أما الجائفة وهى التى تصل إلى الجوف من البطن أو الظهر أو الصدر أو الورك فالواجب فيها ثلث الدية لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى كتاب عمرو بن حزم: "فى الجائفة ثلث الدية". وإن خرقه من جانب فخرج من جانب آخر فهما جائفتان عند مالك وأبى حنيفة وأحمد، أما فى مذهب الشافعى فاختلفوا فى الثقب الحاصل من الداخل إلى الخارج فاعتبره بعضهم جائفة وهو الرأى الراجح فى المذهب لأنها جراحة نافذة للموت وتساوى الآتية من الخارج ومن ثم أوجبوا فيها أرش الجائفة، أما حجة الرأى المضاد فأوجبوا فى الجراحة الثانية حكومة، لأن الجائفة عندهم ما تصل من الخارج إلى الداخل (2) . * * *   (1) الشرح الكبير ج9 ص627 , 628 , وباقى المراجع كما هى. (2) شرح الدردير ج4 ص240 , 241 , بدائع الصنائع ج7 ص318 , 319 , المهذب ج2 ص214 , الشرح الكبير ج9 ص629. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 هل تتساوى الديات لكل الأشخاص الأنثى ثم بعدها التكافؤ 384- دية الأنثى فيما دون النفس: يرى أبو حنيفة والشافعى أن دية المرأة على النصف من دية الرجل نفسًا وجرحًا وأطرافًا (1) ، فأرش إصبع الرجل عشرة من الإبل وأرش إصبع المرأة خمس من الإبل، وأرش الهاشمة فى الرجل عشر من الإبل وفى المرأة خمس، وأرش الجائفة فى الرجل ثلث ديته وأرش الجائفة فى المرأة ثلث ديتها، وهى على النصف من دية الرجل. أما مالك وأحمد فعندهما أن أرش جراح المرأة يساوى أرش جراح الرجل إلى ثلث الدية فإن جاوز الأرش ثلث الدية فللمرأة نصف ما يجب للرجل، فمثلاً إذا قطع لامرأة ثلاث أصابع أخذت أرشها ثلاثين من الإبل كما يأخذ الرجل لأن الأرش لم يجاوز ثلث الدية، فإذا كان المقطوع أربع أصابع أخذت أرشها عشرين من الإبل لأن أرش الأصابع الأربع أربعون من الإبل، وهذا القدر يزيد على ثلث الدية فتأخذ النصف فقط (2) ، وهذه القاعدة مطلقة غير مقيدة بقيد عند أحمد، أما مالك فيقيدها بقيدين: أولهما: اتحاد الفعل أو ما فى حكمه، ويقصد باتحاد الفعل الضربة الواحدة ولو أصابت أكثر من محل، كما لو ضرب الجانى المجنى عليها ضربة واحدة فأصابت يديها معًا أو يدها ورجلها، ويقصد بما فى حكم اتحاد الفعل تعدد الضربات فى فور واحد سواء أصابت محلاً واحدًا أم أكثر، فإذا اتحد الفعل أو كان فى حكم المتحد فإن للمجنى عليها أرش إصابتها كاملاً، وإذا لم يزد مجموعة على ثلث الدية فإن زاد فلها النصف فقط، ولا ينظر إلى كل إصابة وحدها فمثلاً لو ضربها ضربة واحدة أو ضربتين فى فور واحد فأصاب إصبعين من كل يد فمجموع أرش الاصابع الأربع أربعون من الإبل، وهذا المجموع يزيد على ثلث الدية فيكون المستحق لها النصف فقط، ولو ضربها فأصاب أربعة أصابع من يد واحدة فالحكم هو نفس ما سبق.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص312 , نهاية المحتاج ج7 ص303. (2) شرح الدردير ج4 ص48. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 والقيد الثانى: هو اتحاد المحل، ويراعى هذا القيد سواء اتحد الفعل أو لم يتحد الفعل، فمثلاً إذا ضربها فأصاب من يدها اليمنى ثلاث أصابع فدية الأصابع الثلاث ثلاثون من الإبل وهى لا تبلغ ثلث الدية فتستحقها كلها، فلو ضربها هو أو غيره مرة ثانية فأصاب إصبعًا أخرى من نفس اليد فأرشها خمس من الإبل لأن مجموع أرش هذه الإصبع مع أرش الثلاث المقطوعة سابقًا يزيد على ثلث الدية. وكذلك الحكم لو أصابت من المرة الثانية هذه الإصبع وإصبعين من اليد الأخرى فإنه يأخذ خمسًا من الإبل فى الإصبع الرابعة من اليد اليمنى وعشرين فى الإصبعين المقطوعين من اليسرى لأنه قطع بضربته ثلاث أصابع أرشها لا يبلغ ثلث الدية فتستحق عن كل إصبع عشرة من الإبل؛ لكن لما كان الإصبع الرابع من اليد اليمنى تطبق فيه قاعدة اتحاد المحل فلا تستحق فيه إلا خمسًا من الإبل، وتراعى قاعدة اتحاد المحل على الرأى الراجح فى الأصابع فقط ولا تراعى فى الأسنان ولا فى المواضح والمناقل، وتراعى قاعدة اتحاد الفعل وما فى حكمه فى كل الأحوال فلو شجت المرأة منقلتين فى فور واحد فأرشهما ثلاثون من الإبل لأن مجموع أرشهما لا يبلغ ثلث الدية، ولو شجت أربع مناقل فى فور واحد أو بضربة واحدة فمجموع أرشها ستون من الإبل وهو يزيد على ثلث الدية فيكون لها النصف من دية الرجل وهو ثلاثون من دية الإبل، فإذا أصيبت بعد شفائها بمنقلة أخرى أو منقلتين أخذت أرشهما كاملاً لأنه لا يبلغ ثلث الدية ولأن قاعدة اتحاد المحل لا تراعى فى المناقل (1) . 385- الأرش غير المقدر أو الحكومة: يجب الأرش غير المقدر فى الجنايات الواقعة على ما دون النفس مما لا قصاص فيها وليس لها أرش مقدر، ويسمى الأرش غير المقدر فى اصطلاح الفقهاء حكومة أو حكومة العدل. ومعنى الحكومة عند الأئمة الأربعة: أن تقدر قيمة المجنى عليه باعتباره عبدًا قبل الجرح ثم تقدر قيمته بعد الجرح والبُرْء منه ثم تعرف نسبة النقص فى القيمة   (1) شرح الدردير ج4 ص249 , مواهب الجليل ج6 ص264 , 265. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 ثم يؤخذ من الدية بنسبة هذا النقص، فذلك هو ما يستحقه المجنى عليه، ولكن يشترط أن لا تبلغ الحكومة أرش جرح مقدر. فمثلاً إذا كان الجرح مما قبل الموضحة كالسمحاق فلا يجوز أن يبلغ أرش الموضحة، وحكى عن مالك أنه ما تخرجه الحكومة كائنًا ما كان لأنها جراحة لا مقدر فيها فوجب فيها ما نقص كما لو كانت فى سائر البدن. ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى أن يكون التقدير بالنسبة للعضو الذى حدثت به الإصابة لا بالنسبة لنفس، أى أنه علم نسبة النقص قدر النقص على أساس دية العضو الذى أصيب لا على أساس دية النفس، فإن كان النقص هو العشر مثلاً والجناية على اليد فالحكومة عشر دية اليد لا عشر دية النفس، وإن كانت الجناية على إصبع فالحكومة عشر دية الإصبع. وحجة هؤلاء أن اعتبار دية النفس قد يؤدى إلى أن تزيد الحكومة على دية الطرف الذى حدثت به الجناية. وطريقة التقدير على أساس فرض المجنى عليه عبدًا لا تصلح اليوم لأن الرقيق أبطل من العالم فلا يمكن معرفة القيم المختلفة. ولقد علمنا أن بعض الفقهاء فى مذهب أحمد والشافعى يرون أن ما قبل الموضحة إذا أمكن معرفة قدره من الموضحة وجب فيها على قدر ذلك من أرش الموضحة، ولعل هذه الطريقة يمكن استخدامها الآن فى تقدير الحكومة؛ فيقدر كل ما فيه حكومة على أساس ما فوقه مما له أرش مقدر. ويشترط الفقهاء فى تقدير الحكومة أن يكون التقدير بمعرفة ذوى عدل من الفنيين فيأخذ القاضى بقولهما، وأن يكون التقدير بعد البرء لا قبله، ويصح أن يجتهد القاضى فى التقدير. ومن المتفق عليه أن الحكومة تجب إذا شفى الجرح على شين، فإذا شفى على غير شين فقد اختلفوا، فيرى أحمد والشافعى أن الحكومة تجب ولو شفى الجرح على غير شين، ويرى مالك التعزير فقط، ويرى أبو يوسف أن فيها حكومة الألم، ويرى محمد أن فيها أجرة الطبيب (1) .   (1) شرح الدردير ج4 ص239 , 240 , بدائع الصنائع ج7 ص324 , المهذب ج2 ص224 , 225, الشرح الكبير ج9 ص637 , نهاية المحتاج ج7 ص327 , الإقناع ج4 ص223. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 وحين يقول بعض الفقهاء إن الجروح إذا برئت على غير شين ليس فيها شئ فمعنى ذلك أن ليس فيها مال، أما التعزير فواجب فيها طبقًا للقواعد العامة؛ لأن الجناية اعتداء، وكل اعتداء ليس فيه حد مقدر فيه التعزير. وكل جناية لم تترك أثرًا إطلاقًا كاللطمة واللكم والضرب بمثقل لا يترك أثرًا ولا يلون الجسم ليس فيها ضمان وإنما فيها التعزير. 386- مقدار الدية فيما دون النفس عمدًا هو مقدار الدية فى النفس عمدًا: مائة من الإبل، وهى مربعة على ما يرى مالك وأبو حنيفة وأحمد، ومثلثة على ما يرى الشافعى ومحمد بن الحسن كما ذكرنا قبلاً. وإذا كان المستحق أقل من دية كاملة روعيت النسبة فى أوصاف الإبل، فمثلاً إذا كان الأرش عشرة من الإبل كان أرباعًا أو أثلاثًا على حسب الرأيين المختلفين اللذين ذكرناهما. 387- الأجناس التى تجب فيها الدية: هى نفس الأجناس التى سبق الكلام عليها فى العمد فى النفس. 388- تغليظ الدية: يرى بعض فقهاء مذهب أحمد أن الدية تغلظ فى العمد وفى الخطأ وفى النفس وما دون النفس، ويرى البعض أنها لا تغلظ إلا فى القتل الخطأ فقط وأنها لا تغلظ فيما دون النفس (1) . ويرى مالك أنها تغلظ فيما دون النفس فى العمد فى حالة واحدة وهى جنايات الوالد على ولده، وكيفية لتغليظ عنده تثليث الدية (2) ، أما أبو حنيفة والشافعى فلا يريان التغليظ فيما دون النفس، ولكن الشافعى يرى التغليظ فى الخطأ فيما دون النفس كما هو الحال فى النفس، كما ورد ذلك فى الجزء السابع من نهاية المحتاج.   (1) المغنى ج9 ص500 , الإقناع ج7 ص215. (2) شرح الدردير ج4 ص37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 389- من يحمل الدية فى العمد؟: يحمل الدية فى العمد الجانى فى كل الأحوال باتفاق الفقهاء، ولكن مالكًا يستثنى فى حالة العمد أرش الجراح التى لا يمكن القصاص فيها خوف تلف الجانى كالجائفة والآمة وكسر العمد، ويرى أن العاقلة تحمل مع الجانى ما يبلغ ثلث دية الجانى والمجنى عليه من هذه الجراح بشرط أن لا تكون الجناية قد تثبتت على الجانى بالاعتراف لأن العاقلة لا تحمل اعترافًا (1) . 390- هل تجب الدية حالة؟: تجب الدية حالَّة فى العمد عند مالك والشافعى وأحمد، وتجب مؤجلة إلى ثلاث عند أبى حنيفة وما يحمله مالك للعاقلة من العمد يجب مؤجلاً إذا زاد على ثلث دية المجنى عليه أو الجانى (2) ، والمعتبر فى التأجيل أن الدية الكاملة تؤجل فى ثلاث سنوات، فلا يقل القسط عن ثلث الدية، وما زاد عن الثلث يدفع فى السنة الثانية، فإن كان الواجب أكثر من الثلثين دفع ما زاد عن الثلثين فى السنة الثالثة. 391- التداخل فى الديات: تكلمنا فيما سبق عن التداخل بمناسبة الكلام على ديات الأطراف والمعانى، ونرى أنه من الأفضل أن تجمع أحكام التداخل فى مكان ليكون ذلك أعوان على فهمها. تداخل ديات الأطراف: لا تتداخل دية طرف فى طرف، وإنما تتداخل دية بعض الطرف فى دية بعضه الآخر إذا كانت دية البعض هى دية الكل، أو كانت دية الكل تشمل دية البعض. فاليد طرف فيها دية واحدة إذا قطعت الكف مع الأصابع، وإذا قطعت الأصابع وحدها ففيها الدية، فإذا قطعت الكف بعد ذلك ففيها حكومة لأن ديتها   (1) شرح الدردير ج4 ص250 , بدائع الصنائع ج7 ص255 , المغنى ج9 ص488 , المهذب ج2 ص209. (2) شرح الدردير ج4 ص250. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 دخلت فى دية الأصابع ومثل اليد الرجل، والأجفان فيها الدية، والأهداب فيها الدية أيضًا على رأى، فإذا قطع الأجفان مع الهدب ففيهما دية واحدة لأنهما عضو واحد، وإذا قطعت الأهداب ففيها الدية فإذا قطعت الأجفان بعدها ففيها حكومة لأن ديتها دخلت فى دية الأهداب. وفى الثدى الدية، وفى حلمة الثدى الدية، وإذا قطع الثدى والحلمة معًا ففيهما دية واحدة لأن العضو واحد، فإذا قطعت الحلمة وحدها فيها الدية، وإذا قطع الثدى بعد ذلك ففيه حكومة لأن ديته دخلت فى دية الحلمتين. وفى الذكر الدية، وفى الحشفة الدية، فإذا قطع الذكر كله ففيه دية واحدة، وإذا قطعت الحشفة وحدها فلا دية للباقى، لأن ديته تدخل فى دية الحشفة. وفى الأنملة ثلث دية الإصبع إلا الإبهام فنصفه، وفى الظفر خمس دية الإصبع عند أحمد، فلو قطعت الأنملة من الظفر فأرش الأنملة هو الواجب، لأن أرش الظفر دخل فى أرش الأنملة. تداخل ديات المعانى: لا تتداخل دية معنى فى معنى آخر ولو كان محلهما واحدًا، فكل معنى مستقل له دية مستقلة لا تدخل فى معنى غيره، وإنما تتداخل ديات المعانى فى ديات محلها من الأطراف، فإذا كان الطرف محلاً لمعنى فزال المعنى وحده وبقى الطرف وجبت الدية فى المعنى، وإذا زال الطرف مع المعنى دخلت دية المعنى فى دية الطرف ووجبت دية واحدة، فالعين محل الإبصار فإذا فقئت العين فزال الإبصار وجبت دية واحدة لزوال الطرف وهو العين ومعناه وهو الإبصار، وإذا بقيت العين قائمة وزال الإبصار وجبت دية واحدة للمعنى. تداخل أروش الجراح والشجاج: لا تدخل أروش الجراح والشجاج بعضها فى بعض إلا إذا اتصل بعضها ببعض قبل الاندمال بفعل الجانى أو بالسراية، فمن أوضح آخر موضحتين أو أجافه جائفتين بينهما حاجز ثم خرق الحاجز أو ذهب الحاجز بالسراية فعليه أرش موضحة واحدة وجائفة واحدة، فإذا زال الحاجز بفعل غير الجانى وبغير السراية فعليه أرش موضحتين وجائفتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 تداخل ما دون النفس فى النفس: وهناك بعد ذلك تداخل أعم، وهو تداخل ديات ما دون النفس فى دية النفس، ولكن لا تدخل دية ما دون النفس فى النفس إلا إذا كانت الأفعال كلها من نوع واحد كأن كانت كلها عمدًا أو خطأ أو شبه عمد، وكانت الجناية على النفس قبل برء الجنايات على ما دون النفس؛ فإذا توفر هذان الشرطان دخل ما دون النفس فى النفس ووجبت دية واحدة فقط. أما إذا برئ بعض ما دون النفس قبل الجناية على النفس فلا يدخل فى النفس إلا ما لم يندمل، وتجب ديات ما برئ قبل الجناية على النفس، ودية النفس. والفرق بين هذه الحالة والحالة السابقة أن ما برئ قبل النفس استقر حكمه وثبت فى ذمة الجانى، فإن قتل عمدًا والجنايات على الأطراف خطأ وجبت ديات الأطراف ودية النفس، وكذلك لو كان القتل خطأ والجنايات الأخرى عمدًا ولو كان الجانى واحدًا وهذا هو الرأى الراجح (1) . * * * العقوبات البدلية الثانية التعزير 392- تكلمنا عن التعزير كعقوبة بدلية للقصاص فى حالة الجناية على النفس، وما قلناه هناك ينطبق مع مراجعة ما كتبناه عن التعزير كعقوبة أصلية. عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ 393- عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ هى الدية أو الأرش: وهى العقوبة الأصلية الوحيدة وليس ثمة من عقوبة بدلية لازمة للدية، ولكن إذا شاءت الهيئة التشريعية أن تجعل لهذه الجناية عقوبة تعزيرية أصلية أو بدلية فليس فى نصوص الشريعة ما يمنع هذا. وإذا كان مالك يوجب التعزير فى العمد ولا يوجبه   (1) بدائع الصنائع ج7 ص303 , نهاية المحتاج ج7 ص324 , المغنى ج9 ص386 , 396. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 فى الخطأ فليس معنى ذلك أنه يمنع من التعزير فى الخطأ وإنما معناه أنه رأى عقوبة التعزير واجبة فى العمد للردع ولم يرها كذلك فى حالة الخطأ. والدية يقصد منها الدية الكاملة، والأرش يقصد به ما هو أقل من الدية، والأرش مقدر وغير مقدر، وقد تكلمنا عن هذه المعانى جميعها بمناسبة الكلام على الدية فى العمد، ولا فرق بين ما قيل هناك وما يمكن أن يقال هنا. 394- ومقادير الدية وما تجب فيه كاملة وناقصة وما تجب فيه الحكومة كل ذلك قد تكلمنا عنه بمناسبة الكلام على الجناية على ما دون النفس عمدًا، والواقع أنه لا فرق بين عقوبة الدية فى العمد والخطأ من حيث الوجوب وما تجب فيه، والأجناس التى تجب فيها الدية، وغير ذلك من المواضع التى تكلمنا فيها بمناسبة الكلام على الدية، ونستطيع أن نحصر الفرق بين الديات فى الخطأ وبينها فى العمد فيما يأتى: 1- من يحمل الدية؟: يحملها فى العمد الجانى كما ذكرنا إلا ما استثناه مالك، ويحملها فى الخطأ باتفاق العاقلة، ويرى الشافعى وأحمد أن الجانى لا يحمل مع العاقلة شيئًا، ويرى أبو حنيفة ومالك أنه يحمل معها، والمقدار الذى تحمله العاقلة يختلف بحسب آراء الفقهاء لما ذكرنا فى القتل الخطأ. 2- أوصاف الإبل: الدية فى الخطأ تجب مخمسة باتفاق الفقهاء. 3- التغليظ فى الخطأ: يرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد كما يرى الشافعى التغليظ فيما دون النفس ولكن الظاهر (1) أن المذهب هو عدم التغليظ ولا يرى أحد من الأئمة الآخرين التغليظ فى الخطأ فيما دون النفس. 4- تأجيل الدية: تجب دية الخطأ مؤجلة فى ثلاث سنين إذا كانت كاملة. * * *   (1) المغنى ج9 ص500 , الإقناع ج4 ص215 , نهاية المحتاج ج7 ص301. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 الفصل الثالث الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه أى الجناية على الجنين أو الإجهاض 395- يعبر الحنفية عن هذه الجناية بالجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه؛ لأن الجنين يعتبر نفسًا من وجه، ولا يعتبر كذلك من وجه آخر، فيعتبر نفسًا من وجه لأنه آدمى، ولا يعتبر كذلك لأنه لم ينفصل عن أمه، ويعللون ذلك بأن الجنين ما دام مختبئًا فى بطن أمه فليس له ذمة صالحة أو كاملة ولا يعتبر أهلاً لوجوب الحق عليه لكونه فى حكم جزء من الأم، لكنه لما كان منفردًا بالحياة فهو نفس وله ذمة وباعتبار هذا الوجه يكون أهلاً بوجوب الحق له من إرث ونسب ووصية ... إلخ (1) . ولذلك اعتبر نفسًا من وجه إذا نظرنا إلى أنه أهل لوجوب الحق له، ولم يعتبر كذلك من وجه آخر إذا نظرنا إلى أنه ليس أهلاً لوجوب الحق عليه وصار نفسًا من كل وجه؛ فإذا انقلب على مال إنسان فأتلفه ضمنه، وإذا زوجه وليه لزمه مهر امرأته فى ماله. 396- ويعبر المالكية والشافعية والحنابلة عن هذه الجناية بالجناية على الجنسين، ولكن اختلاف الفقهاء فى التعبير عن الجناية ليس له أية أهمية لأن ما يقصده هؤلاء من تعبيرهم هو ما يقصده الآخرون بالذات، ومحل الجناية عندهم جميعًا هو إجهاض الحامل والاعتداء على حياة الجنين، أو هو كل ما يؤدى إلى انفصال الجنين عن أمه (2) .   (1) البحر الرائق ج8 ص389. (2) أسنى المطالب ج4 ص89 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517 , شرح الزرقانى ج8 ص33 , الإقناع ج4 ص209. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 397- ما يجهض الحامل: تقع هذه الجناية كلما وجد ما يوجب انفصال الجنين عن أمه، وقد ينفصل الجنين حيًا وقد ينفصل ميتًا، وتعتبر الجناية تامة بحدوث الانفصال بغض النظر عن حياة الجنين أو موته، وإن كان لكل حالة عقوبتها الخاصة؛ إذ العقوبة فى هذه الجناية تختلف باختلاف نتائج الفعل كما سنبين ذلك عند الكلام على العقوبة. ولا يشترط فى الفعل المكون للجناية أن يكون من نوع خاص، فيصح أن يكون عملاً ويصح أن يكون قولاً، ويصح أن يكون الفعل ماديًا ويصح أن يكون معنويًا. ومن الأمثلة على الفعل المادى: الضرب، والجرح، والضغط على البطن، وتناول دواء أو مواد تؤدى للإجهاض، وإدخال مواد غريبة فى الرحم، أو حَمل حمْل ثقيل (1) . 398- ومن الأمثلة على الأقوال والأفعال المعنوية: التهديد، والإفزاع، والترويع كتخويف الحامل بالضرب أو القتل، والصياح عليها فجأة، وطلب ذى شوكة لها أو لغيرها أو دخول ذى شوكة عليها (2) . ومن الوقائع المشهورة فى هذا الباب أن عمر رضى الله عنه بعث إلى امرأة كان يدخل عليها فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر، فبينما هى فى الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولدًا فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - فأشار بعهم أن ليس عليك شئ، إنما أنت والِ ومؤدب، وصمت على فأقبل عليه عمر فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا فى هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته، فقال عمر: أقسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك (3) .   (1) حاشية ابن عابدين ج5 ص516 , 519. (2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج5 ص31 , حاشية ابن عابدين ج5 ص516 , 519 , نهاية المحتاج ج7 ص360 , المغنى ج9 ص552 , 557 , الإقناع ج3 ص209. (3) المغنى ج9 ص579. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 ومن الأمثلة على الأفعال المعنوية: تجويع المرأة أو صيامها، فلو صامت فأدى الصوم إلى الإجهاض كانت مسئولة عن الجناية، ومثل ذلك شم ريح ضار بالحامل (1) . ويرى بعض الفقهاء أن من يشتم امرأة شتمًا مؤلمًا يسأل جنائيًا إذا أدى شتمه إلى إجهاض المرأة (2) . ويصح أن يقع الفعل المكون للجناية من الأب أو الأم أو من غيرهما، وأيًا كان الجانى فهو مسئول عن جنايته ولا أثر لصفته على العقوبة المقررة للجريمة. 399- انفصال الجنين: ولا تعتبر الجناية على الجنين قائمة ما لم ينفصل الجنين عن أمه، فمن ضرب امرأة على بطنها أو أعطاها دواء فأزال ما ببطنها من انتفاخ أو أسكن حركة كانت تشعر بها فى بطنها لا يعتبر أنه جنى على الجنين لأن حكم الولد لا يثبت إلا بخروجه ولأن الحركة يجوز أن تكون لريح فى البطن سكنت، فهناك شك فى وجود أو موت الجنين، ولا يجب العقاب بالشك، وهذا هو رأى الفقهاء الأربعة وأساسه عدم اليقين من وجود الجنين أو موته (3) . ولكن الزهرى يرى أن على الجانى العقوبة لأن الظاهر أنه قتل الجنين. والرأى الذى يجب العمل به اليوم بعد تقدم الوسائل الطبية أنه إذا أمكن طبيًا القطع بوجود الجنين وموته بفعل الجانى فإن العقوبة تجب على الجانى، وهذا الرأى لا يخالف فى شئ رأى الأئمة الأربعة لأنهم منعوا العقاب للشك، فإذا زال الشك وأمكن القطع وجبت العقوبة، ولا يكفى انفصال الجنين لمسئولية الجانى بل يجب أن يثبت أن الانفصال جاء نتيجة لفعل الجانى، وأن علاقة السببية قائمة بين فعل الجانى وانفصال الجنين.   (1) نهاية المحتاج ج7 ص360 , شرح الزرقانى ج8 ص31. (2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص31. (3) المغنى ج9 ص538 , أسنى المطالب ج4 ص89 , شرح الزرقانى ج8 ص33 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 400- والجنين هو كل ما طرحته المرأة مما يعلم أنه ولد: ويرى مالك مسئولية الجانى عن كل ما ألقته المرأة مما يعلم أنه حمل سواء كان تام الخلقة أو كان مضغة أو علقة أو دمًا. ويرى أشهب من فقهاء المالكية أن لا مسئولية عن طرح الدم، وإنما المسئولية عن طرح العلقة والمضغة، بينما يرى ابن القاسم المالكى أيضًا مسئولية الجانى عن الدم المجتمع الذى إذا صب عليه الماء الحار لا يذوب، لا الدم المجتمع الذى إذا صب عليه الماء الحار يذوب لأن هذا لا شئ فيه (1) . 401- ويرى أبو حنيفة والشافعى مسئولية الجانى عما تطرحه المرأة إذا استبان بعض خلقه، فإذا ألقت مضغة لم يتبين فيها شئ من خلقه فشهد ثقات بأنه مبدأ خلق آدمى لو بقى لتصور فالجانى مسئول أيضًا (2) . 402- ويرى الحنابلة مسئولية الجانى إن أسقطت المرأة ما فيه صورة آدمى، فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمى فلا مسئولية حيث لا دليل على أنه جنين، وإذا ألقت مضغة فشهد ثقات أن فيه صورة خفية كان الجانى مسئولاً جنائيًا. وإن شهدوا أنه مبدأ خلق آدمى لو بقى لتصور ففيه وجهان: أصحهما: لا مسئولية عنه لأنه لم يتصور فهو فى حكم العلقة ولأن الأصل البراءة فلا مسئولية بالشك، والثانى: يسأل لأنه مبتدأ خلق آدمى أشبه ما لو تصور (3) . والجنين قد ينفصل عن أمه حيًا وقد ينفصل ميتًا، وللتفرقة بين الحالتين أهمية كبرى لأن العقوبة تختلف باختلاف الحالين. وتثبت الحياة للجنين بكل ما يدل على الحياة من الاستهلال - أى الصياح - والرضاع والتنفس والعطاس وغير ذلك، ومجرد الحركة لا يعتبر دليلاً قاطعًا على الحياة لأن الحركة قد تكون من اختلاج الجسم إثر خروجه من ضيق فوجب أن تكون الحركة بحيث تقطع بحياة الجنين، أو أن يكون هناك دليل آخر على الحياة (4) .   (1) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص31 , بداية المجتهد ج2 ص348. (2) حاشية ابن عابدين ج5 ص519 , نهاية المحتاج ج7 ص362. (3) المغنى ج9 ص539. (4) شرح الزرقانى ج8 ص33 , أسنى المطالب ج4 ص89 , حاشية ابن عابدين ج5 ص537. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 403- ويشترط الحنابلة لاعتبار الجنين منفصلاً حيًا أن تكون الحياة مستقرة فيه، فلا يكون فى حالة نزع أو فى الرمق الأخير، وأن يكون سقوطه أو انفصاله لوقت يعيش لمثله أى أن يكون لستة أشهر فصاعدًا، فإن كان لدون ذلك اعتبر أنه انفصل ميتًا ولو انفصل والحياة فيه لأنها حياة لا يتصور بقاؤها، ولأن الجنين لا يعيش غالبًا إذا انفصل لأقل من ستة أشهر وبهذا الرأى قال المزنى من أصحاب الشافعى (1) . 404- ويعتبر المالكية والحنفية والشافعى الجنين منفصلاً حيًا عن أمه ولو انفصل لأقل من ستة أشهر ما دام قد انفصل وفيه الحياة، ولا يعتبرونه منفصلاً ميتًا إلا إذا انفصل فاقد الحياة. وإذا علمت حياته قبل تمام الانفصال كما لو خرج رأسه فصرخ مرارًا ثم تم انفصاله ميتًا فيعتبر أنه انفصل ميتًا لا حيًا لأن العبرة بحالة الجنين عند تمام الانفصال (2) . 405- ويشترط مالك وأبو حنيفة لمسئولية الجانى عن قتل الجنين أن يكون انفصال الجنين قد حدث فى حياة الأم، فإن انفصل عنها بعد وفاتها فلا يسأل الجانى عن قتله إذا انفصل ميتًا لأن موت الأم سبب ظاهر لموته إذ حياته بحياتها وتنفسه بتنفسها فتحقق موته بموتها فضلاً عن أنه يجرى مجرى أعضائها وموتها يسقط حكم أعضائها، وعلى هذا فمن المشكوك فيه أن تكون وفاة الجنين نتيجة لفعل الجانى، ولا ضمان ولا عقاب بالشك. أما إذا انفصل الجنين حيًا بعد موت الأم فالجانى مسئول عن قتله وعليه ديته إذا مات بفعله، فإن لم يمت فعليه التعزير، وإذا انفصل بعضه ميتًا فى حياتها ثم انفصل كله بعد موتها فحكمه حكم انفصاله كله ميتًا بعد موتها (3) . 406- ويرى الشافعى وأحمد مسئولية الجانى سواء انفصل الجنين بعد   (1) المغنى ج9 ص550 , 552. (2) نهاية المحتاج ج7 ص361. (3) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33 , حاشية ابن عابدين ج5 ص518. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وفاة الأم أو فى حياتها، وسواء انفصل حيًا أو ميتًا؛ لأن الجنين تلف بجناية الجانى وعلم ذلك بخروجه فوجبت المسئولية كما لو سقط فى حياتها، ولأنه لو سقط حيًا ضمنه فكذلك إذا سقط ميتًا، وليس صحيحًا أن حكمه حكم أعضاء الأم لأنه لو كان كذلك لكان إذا سقط ميتًا ثم ماتت لم يضمنه كأعضائها، وفضلاً عن ذلك فهو آدمى موروث فلا يدخل فى ضمان أمه، وكذلك الحكم لو انفصل بعضه من بطن أمه وخرج باقية أو لم يخرج حيث تيقن وجود الجنين أولاً وتيقن قتله ثانيًا (1) . 407- ونستطيع أن نقول بعد تقدم الوسائل الطبية أن الرأى الذى يجب العمل به هو مسئولية الجانى إذا تبين بصفة قاطعن أن الانفصال ناشئ عن فعل الجانى سواء انفصل الجنين فى حياة أمه أو بعد وفاتها، وسواء انفصل كله أو بعضه. وهذا الرأى يتفق مع كل المذاهب لأن الذين يمنعون المسئولية يمنعونها للشك وعدم التيقن فإذا زال الشك بالوسائل الطبية الحديثة وجبت المسئولية. 408- قصد الجانى: مذهب مالك على أن الجناية على الجنين قد تكون عمدية وقد تكون خطأ، فهى عمدية إذا تعمد الجانى الفعل، وهى غير عمدية إذا أخطأ الجانى بالفعل. ويتفق مذهب مالك مع الرأى المرجوح فى مذهب الشافعى (2) . 409- والقائلون بأن الجناية عمدية يختلفون فى وجوب القصاص من الفاعل إذا انفصل الجنين حيًا ثم مات بسبب الجناية، فبعض المالكية يوجب القصاص والبعض يوجب الدية، وأصحاب الرأى الراجح فى المذهب يوجبون القصاص إذا كان الفعل فى الغالب مؤديًا لنتيجة كالضرب على الظهر والبطن، ويوجبون الدية إذا لم يكن الفعل مؤديًا لنتيجة غالبًا كالضرب على اليد والرجل (3) .   (1) المغنى ج9 ص538 , أسنى المطالب ج4 ص90. (2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33 , بداية المجتهد ج2 ص438 , نهاية المحتاج ج7 ص363. (3) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص33. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 410- وأصحاب الرأى الراجح فى مذهب الشافعى يرون مع الحنفية والحنابلة أن الجناية على الجنين لا تكون عمدًا محضًا وإنما هى شبه عمد أو خطأ، فهى شبه عمد إذا تعمد الجانى الفعل وهى خطأ إذا أخطأ به. ولا تعتبر الجناية عمدية حال تعمد العمل لأن العمد المحض بعيد التصور لتوقفه على العلم بوجود الجنين وبحياته، كما يتوقف على قد قتله وهو بعيد التصور (1) . ويحتج هذا الفريق لرأيه بما روى عن جابر بن عبد الله أن النبى - صلى الله عليه وسلم - جعل فى الجنين غُرَّة على عاقلة الضارب، والعاقلة لا تحمل العمد، فلو اعتبر الرسول العمد فى هذه الجناية لَماَ جعل الغرة على العاقلة. 411- وتظهر أهمية التفرقة بين العمد وغير العمد فى حالة انفصال الجنين حيًا، حيث يرى بعض القائلين بعمدية الجناية القصاص من الجانى بينما العقاب على غير العمد هو الدية، أما فى حالة انفصال الجنين ميتًا فلا فرق بين العمد وغير العمد فى نوع العقوبة؛ لأن العقوبة متفق عليها فى كل الأحوال وهى الغرة، وإنما يظهر الفرق فى صفة العقوبة حيث تغلظ الغرة فى حالة العمد وشبه العمد ولا تغلظ فى حالة الخطأ (2) ، كذلك يظهر الفرق فى تحمل العقوبة حيث تكون فى مال الجانى وحده فى حالة العمد، وتكون فى ماله أو مال العاقلة وحدها فى حالتى شبه العمد والخطأ، على حسب التفصيل الذى ذكرناه عند الكلام على تحمل الديات (3) . 412- العقوبة المقررة للجناية على الجنين: تختلف العقوبة المقررة للجناية على الجنين باختلاف نتائج فعل الجانى، وهذه النتائج لا تخرج عن خمس: الأولى: أن ينفصل الجنين عن أمه ميتًا، الثانية: أن ينفصل الجنين عن أمه حيًا ثم يموت بسبب الفعل، الثالثة: أن ينفصل الجنين عن أمه حيًا ثم يموت أو يعيش بسبب آخر غير الفعل، الرابعة: أن لا ينفصل الجنين عن أمه   (1) حاشية ابن عابدين ج5 ص619 , البحر الرائق ج8 ص389 , 390 , المغنى ج9 ص544 , نهاية المحتاج ج7 ص363. (2) أسنى المطالب ج4 ص94. (3) راجع الفقرة 389. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 أو ينفصل بعد وفاتها، الخامسة: أن يترتب عل الفعل إيذاء الأم أو إصابتها بإصابات تشفى منها أو تؤدى لموتها. وسنتكلم عن هذه النتائج واحدة بعد أخرى والعقوبات المقررة لها. 413- أولاً: انفصال الجنين عن أمه ميتًا: إذا انفصل الجنين عن أمه ميتًا فعقوبة الجانى هى دية الجنين، ودية الجنين غرة عبدًا أو أمَة قيمتها خمس من الإبل. والأصل فى الغرة ما روى عن عمرو رضى الله عنه أنه استشار الناس فى إمْلاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبى - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغُرَّة عبد أو أمة، فقال: لتأتين بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما فى بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقضى الرسول أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولها ومن معهم " (1) . والغرة فى اللغة الخيار، وسمى العبد والأمة غرة لأنهما من أنفس الأموال. ويشترط الفقهاء فى العبد أو الأمة شروطًا خاصًا لم نر داعيًا لذكرها بعد أن أبطل الرق فى العالم، وبعد أن أجمع الفقهاء على تقدير الغرة بخمس من الإبل. 414- وتجب الغرة فى الجنين الذكر وفى الجنين الأنثى: ولا فرق فى قيمة ما يجب لكل منهما، ويقدر الفقهاء دية الجنين الذكر بنصف عشر الدية الكاملة، ودية الجنين الأنثى بعشر دية الأم، ولما كانت دية المرأة نصف دية الرجل فالنتيجة أن دية الجنين الأنثى تساوى نصف عشر الدية الكاملة (2) . وتجب الغرة فى حالتى العمد والخطأ معًا، ولا فرق بين الحالتين إلا أن دية الجنين تغلظ فى حالة العمد وتخفف فى حالة الخطأ (3) ، وإلا أنها حالَّة فى مال الجانى   (1) المغنى ج9 ص535. (2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص32 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517 , أسنى المطالب ج4 ص94 , المغنى ج9 ص541. (3) أسنى المطالب ج4 ص94. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 المتعمد لا تحمل العاقلة منها شيئًا، أما فى حالة الخطأ ويلحق بها شبه العمد فتحمل العاقلة الدية وحدها أو مع الجانى على حسب الآراء المختلفة التى فصلناها عند الكلام على الدية فى القتل. والغرة تورث على الجنين على فرائض الله، وفى مذهب مالك رأى مرجوح بأنها للأم دون غيرها وهو مذهب الليث، ومن المتفق عليه أن القاتل لا يرث شيئًا من الغرة إذ لا ميراث للقاتل (1) . وتتعدد الغرة بتعدد الأجنة، فلو ألقت الحامل جنينين حيين فعلى الجانى غرتان، وإذا ألقت ثلاثة فعلية ثلاثة، وهكذا (2) . وإذا ماتت الأم بعد وجوب الغرة فلا تدخل الغرة فى دية الأم بل تجب الغرة للجنين والدية للأم (3) . 415- ثانيًا: انفصال الجنين عن أمه حيًا وموته بسبب الفعل: إذا انفصل الجنين عن أمه حيًا ومات بسبب فعل الجانى فالعقوبة القصاص عند من يراه من القائلين بوجود العمد، أو هى الدية الكاملة عند غيرهم من القائلين بأن الفعل عمد أو القائلين بأنه شبه عمد، وكذلك العقوبة الدية باتفاق فى حال الخطأ، والفرق بين دية العمد وشبه العمد والخطأ ليس فى عدد الإبل وإنما فى صفاتها، أو هو الفرق بين التغليظ والتخفيف، كما أن دية العمد تكون فى مال الجانى وتكون حالَّة دائمًا، بينما دية شبه العمد والخطأ ليست حالة وتحمله العاقلة وحدها أو مع الجاني؛ على حسب مختلف الآراء. والدية الكاملة للجنين يختلف مقدارها باختلاف نوع الجنين، فدية الذكر دية رجل ودية الأنثى دية امرأة؛ أى نصف دية الرجل.   (1) المغنى ج9 ص542 , أسنى المطالب ج4 ص93 , حاشية ابن عابدين ج5 ص518 , شرح الزرقانى ج8 ص33 , بداية المجتهد ج2 ص348. (2) أسنى المطالب ج4 ص90 , المغنى ج9 ص543 , حاشية ابن عابدين ج5 ص517 , شرح الزرقانى ج8 ص33. (3) نفس المراجع السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 وتتعدد الديات بتعدد الأجنة، فلو ألقت المرأة جنينين ذكرين أو ثلاثة كان على الجانى ثلاث ديات كاملة. وإذا ماتت الأم بسبب الجناية فلا تدخل دية الجنين فى ديتها، ولا تدخل ديتها فى ديات الأجنة ولو تعددت. 416- ثالثًا: انفصال الجنين حيًا ولم يمت: إذا انفصل الجنين حيًا وعاش أو مات بسبب آخر غير الجناية كأن قتله آخر أو امتنعت الأم عن إرضاعه حتى مات فعقوبة الجناية على الجنين هى التعزير لا غير؛ لأن موت الجنين حدث بسبب غير فعله، أما العقوبة على قتل الجنين بعد انفصاله فهى عقوبة القتل العادى لأن الجريمة ليست إلا إزهاق روح إنسان حى. والعقوبة التعزيرية التى توقع على الجانى يقدرها القاضى ويعينها من بين مجموعة العقوبات التعزيرية ما لم يكن ولى الأمر قد عين هذه العقوبة وقدرها. 417- رابعًا: انفصال الجنين بعد وفاة الأم أو عدم انفصاله: إذا لم يترتب على الجناية انفصال الجنين أو ماتت الأم قبل انفصاله أو انفصل عنها بعد وفاتها فالعقوبة على الجناية فى هذه الحالات جميعًا هى التعزير ما دام لم يقم دليل قاطع على أن الجناية أدت لموت الجنين أو انفصاله وأن موت الأم لا دخل له فى ذلك (1) . 418- خامسًا: أن يترتب على الجناية إيذاء الأم أو جرحها أو موتها: إذا ترتب على الجناية إيذاء الأم أو جرحها أو قطع طرف من أطرافها أو موتها فعلى الجانى عقوبة هذه الأفعال بغض النظر عن العقوبات المقررة للجناية على الجنين؛ لأن العقوبات الأخيرة خاصة بالجنين وليست خاصة بما يصيب أمه، فإذا أعطى رجل امرأة دواء بقصد إجهاضها فماتت بعد أن انفصل ولدها ميتًا فعليه دية المرأة باعتبار أنه قتلها قتلاً شبه عمد وعليه غرة دية الجنين، وإذا ماتت بسبب الفعل بعد انفصال ولدها حيًا فعلى الجانى ديتان: دية المرأة ودية الجنين.   (1) راجع ما كتبناه عن انفصال الجنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وإذا ضرب شخص امرأة بالسيف فى بطنها قاصدًا قتلها فاسقط منها جنينين أحدهما أصابه السيف فنزل ميتًا والثانى نزل حيًا ثم مات وماتت المرأة؛ فعلى الجانى القصاص فى قتل المرأة وعليه دية كاملة للجنين الذى نزل حيًا، وغرة للجنين الذى نزل ميتًا، وإذا ضربها فقطع ذراعها فألقت ولدها ميتًا فعليه القصاص فيما فعل بالمرأة وعليه غرة دية الجنين. وإذا ضربها ضربًا لم يترك أثرًا فأجهضت جنينًا انفصل عنها ميتًا فعليه التعزير فى ضرب المرأة وعليه غرة دية الجنين. 419- الكفارة: وهناك عقوبة أخرى للجناية على الجنين هى عقوبة الكفارة (1) ، ويعاقب الجانى بها كلما ألقت الأم جنينها سواء ألقته حيًا أو ميتًا، وسواء كان الجانى هو الأم أو أجنبى عنها، وإن ألقت الأم أجنة ففى كل جنين كفارة، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد (2) . وإذا اشترك جماعة فى الجناية فألقت المرأة جنينًا فديته عليهم بالحصص وعلى كل منهم كفارة. ويجعل مالك الكفارة مندوبًا إليها فى الجناية على الجنين وليست واجبة (3) . أما أبو حنيفة فيفرق بين انفصال الجنين ميتًا وانفصاله حيًا ويوجب الكفارة فى الحال الثانية دون الأولى (4) . * * *   (1) راجع ما كتب عن الكفارة فهو متمم لما يقال هنا. (2) أسنى المطالب ج4 ص95 , المغنى ج9 ص556 وما بعدها. (3) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص39. (4) حاشية ابن عابدين ج5 ص518 , 519. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 إثبات الجناية على النفس وعلى ما دونها وعلى الجنين 420- اختلف الفقهاء فى تحديد الأدلة التى تثبت عن طريقها الجناية على النفس وعلى ما دونها وعلى الجنين، فرأى جمهور الفقهاء أن هذه الجنايات لا تثبت إلا عن طرق ثلاث هى: (1) الإقرار. ... ... (2) الشهادة. ... ... (3) القسامة. ورأى بعض الفقهاء أنها تثبت أيضًا عن طريق قرائن الأحوال، وعلى هذا تكون طرق إثبات هذه الجناية أربع طرق هى: (1) الإقرار. ... (2) الشهادة. ... (3) القسامة. ... (4) قرائن الأحوال. وسنتكلم عن هذه الطرق واحدة بعد أخرى. الإقرار 421- الإقرار لغة: هو الإثبات، من قر الشئ يقر قرارًا إذا ثبت. وشرعًا: الإخبار عن حق أو الاعتراف به. والأصل فى الإقرار: الكتاب، والسنة، والإجماع. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء: 135] ، وفسرت شهادة المرء على نفسه بالإقرار وقوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الحَقُّ} إلى قوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] أى: فليقر بالحق، وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة:102] ، وقوله: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ، إلى آيات أخرى. وأما السنة: فما روى أن ماعزًا أقر بالزنا فرجمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الغامدية، وفى قضية العسيف قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اغْدُ يا أُنَيْس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على صحة الإقرار لأنه إخبار ينفى التهمة والريبة عن المقر، ولأن العاقل لا يكذب على نفسه كذبًا يضر بها، ولهذا كان الإقرار أكد من الشهادة وكان حجة فى حق المقر يوجب عليه الحد والقصاص والتعزير كما يوجب عليه الحقوق المالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 422- والإقرار على قوته حجة قاصرة على نفس المقر لا تتعداه إلى غير كما يرى جمهور الفقهاء، فإذا اعترف بكر بأنه قتل زيدًا وأن عليًا شاركه جريمة القتل، فإن هذا الاعتراف يكون حجة قاصرة على بكر فقط ما دام على ينكره، فإذا سلم به على فإنه يؤاخذ لا باعتراف بكر وإنما باعترافه هو، وعلى هذا جرت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أبو داود عن سهل بن معد أن رجلاً جاء الرسول فأقر عنده أنه زنا بامرأة سماها له، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها (1) . ولكن الإقرار يمكن أن يتعدى إلى غير المقدر عند من يرون الإثبات بقرائن الأحوال، إذا أمكن اعتبار إقرار المقر قرينة على غير المقر. 423- ويشترط فى الإقرار المثبت للجناية أن يكون مبينًا مفصلاً قاطعًا فى ارتكاب الجانى الجناية، أما الاعتراف المجمل الذى يمكن أن يفسر على أكثر من وجه فلا تثبت به الجناية، فمن أقر مثلاً بقتل شخص لا يمكن اعتباره مسئولاً جنائيًا إذا فصل اعترافه عن كيفية القتل وأداته، فقد يكون المعترف طلب من القتيل أن يؤدى عملاً أو يذهب إلى مكان معين فقتل فيه، فاعتقد أنه تسبب فى قتله واعترف بالقتل على هذا الأساس، ويجب أن يبين إن كان القتل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ؛ لأن لكل نوع من أنواع القتل أركانًا وعقوبات خاصة، ويجب أن يبين ظروف التل وسببه فقد يكون القتل وقع استعمالاً لحق أو أداء لواجب ولا مسئولية فى مثل هذه الحالة، فالإقرار الذى يؤخذ به الجانى هو الإقرار المفصل المثبت لارتكاب الجريمة ثبوتًا لا شك فيه. 424- والأصل فى الاستفصال والتبين هو سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءه ماعز يعترف بالزنا ويكرر اعترافه، فسأل - صلى الله عليه وسلم - هل به جنون أو هو   (1) فتح القدير ج4 ص158 , المغنى ج10 ص168. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 شارب خمر وأمر من يشم رائحته، وجعل يستفسر عن الزنا فقال له: "لعلك قبلت أو غمزت" وفى رواية: "هل صاحبتها؟ قال: نعم، قال: فهل باشرتها؟ قال: نعم قال: هل جامعتها؟ قال: نعم" وفى حديث ابن عباس: "أنكتها؟ قال: نعم، قال: دخل ذلك منك فى ذلك منها؟ قال نعم. قال: كما يغيب المرود فى المُكْحُلة والرشاء فى البئر؟: نعم قال: تدرى ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حرامًا ما يأتى الرجل من امرأته حلالاً. قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرنى، فأمر به فرجم". فدل جميع ذلك على أنه يجب الاستفصال والتبين (1) . ويشترط بعد تفصيل الإقرار أن يكون الإقرار صحيحًا، ولا يكون كذلك إلا إذا صدر من عاقل مختار. 425- إقرار زائل العقل: إذا أقر بجريمة من فقد عقله لأى سبب كشرب دواء أو شرب مسكر أو نوم أو إغماء أو جنون، فإن إقراره لا يعتبر إقرارًا صحيحًا ولا يؤاخذ به ولكن لو أعاد المقر إقراره بعد زوال حالة الإغماء أو النوم وبعد زوال أثر السكر أو أثر الدواء وبعد زوال الجنون، فإنه يؤاخذ بإقراره الجديد لأنه صدر صحيحًا (2) . ويتفق أبو حنيفة والشافعى مع مالك وأحمد فيما سبق إلا فى شرب الدواء والمسكر، فيرى أبو حنيفة أن إقرار السكران بطريق محظور هو إقرار صحيح، وأن السكران يؤخذ بإقراره إذا أقر وهو سكران إلا فى الحدود الخالصة حقًا لله، والقتل ليس منها، وكذلك الجناية على ما دون النفس وعلى الجنين (3) ؛ لأن عقوبتها القصاص أو الدية وهى من حقوق الأفراد. أما إذا كان السكر   (1) سبل السلام ج4 ص 7 , 8. (2) المغنى ج5 ص271 وما بعدها وج10 ص170 , 171 , مواهب الجليل ج4 ص43. (3) حاشية الطهطاوى ج3 ص328 , 346 , حاشية ابن عابدين ج4 ص621. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 بطريق غير محظور فلا يؤخذ السكران بإقراره فى كل الأحوال إلا إذا أعاد الإقرار بعد زوال سكره. ويرى الشافعى أن من شرب دواء مزيلاً للعقل بغير حاجة ومن شرب مسكرًا عالمًا بأنه مسكر يؤخذ بإقراره فى كل الأحوال، لأنه شرب ما يعلم أنه يزيل عقله فوجب أن يتحمل نتيجة عمله تغليظًا عليه لينزجر (1) ، فإذا دعت الحاجة لشرب الدواء المزيل للعقل أو شرب المسكر وهو يعلم أنه مسكر، فإنه لا يؤخذ بإقراره إلا إذا أقر ثانية بعد زوال سكره. 426- ومن المتفق عليه أن المسكر لا يشترط فيه أن يكون خمرًا، فيصح أن يكون أى مادة مسكرة أو مخدرة ما دامت تؤدى إلى غيبة العقل، ولهذا يعرف الفقهاء السكر بأنه غيبة العقل من تناول الخمر أو ما يشبه الخمر. ويعتبر الإنسان سكران إذا فقد عقله فلم يعد يعقل قليلاً ولا كثيرًا ولا يميز الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، وهذا هو رأى أبى حنيفة (2) ، ويرى محمد وأبو يوسف أن السكران هو الذى يغلب على كلامه الهذيان وحجتهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، فمن لم يعلم ما يقول فهو سكران وهذا الرأى يتفق مع الرأى الراجح فى كل من المذهب المالكى والشافعى والحنبلى (3) . 427- إقرار المكرَه: قبل أن نعرف حكم إقرار المكره ينبغى أن نعرف شيئًا عن الإكراه. تعريف الإكراه: يعرف الإكراه بأنه فعل يفعله الإنسان بغيره   (1) أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص283 , 284. (2) بدائع الصنائع ج5 ص118. (3) المغنى ج10 ص335 , أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص284. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 فيزول رضاه أو يفسد اختياره (1) . ويعرف بأنه ما يفعل بالإنسان مما يضر أو يؤلمه (2) . ويرى البعض أن حد الإكراه هو أن يهدد المكرَه قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقاب يُؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أُكره عليه وغلبت على ظنه أنه يفعل به ما هدد به إذا امتنع مما أكرهه عليه (3) . والإكراه فى الشريعة على نوعين: نوع يعدم الرضاء ويفسد الاختيار، وهو ما خفيف فيه تلف النفس، ويسمى إكراهًا تامًا أو إكراهًا ملجئًا. ونوع يعدم الرضاء أو يفسده ولكنه لا يؤثر على الاختيار، وهو ما لا يخاف فيه التلف عادة كالحبس والقيد والضرب الذى لا يخشى منه التلف ويسمى إكراهًا ناقصًا أو إكراهًا غير ملجئ (4) . والإكراه التام يؤثر فيما يقتضى الرضاء والاختيار معًا كارتكاب الجرائم، فمن أكره على جريمة قتل مثلاً ينبغى أن يكون الإكراه الواقع عليه بحيث يعدم رضاه ويفسد اختياره، أما الإكراه الناقص فلا يؤثر إلا على التصرفات التى تحتاج إلى الرضاء كالإقرار والبيع والإجارة وما أشبه. 428- ويرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد - ورأيهم مرجوح - أن الإكراه يقتضى شيئًا من العذاب مثل الضرب والخنق وعصر الساق وما أشبه وأن التوعد بالعذاب لا يكون إكراهًا. ويستدلون على ذلك بقصة عمار بن ياسر حين أخذه الكفار فأرادوه على الشرك بالله فأبى عليهم فلما غطوه فى الماء حتى كادت روحه تزهق أجابهم إلى ما طلبوا، فانتهى إليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يبكى فجعل يسمح الدموع من عينيه ويقول: "أخذك المشركون فغطوك فى الماء وأمروك   (1) البحر الرائق ج8 ص79. (2) مواهب الجليل ج4 ص45. (3) أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص282. (4) البحر الرائق ج8 ص80. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 أن تشرك بالله ففعلت، فإن أخذوك مرة أخرى فافعل ذلك بهم" ويستدلون بما قاله عمر رضى الله عنه: ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أجعته أو ضربته أو أوثقته فهؤلاء يرون أن الإكراه يستلزم فعلاً ماديًا يقع على المكرَه فيحمله على إتيان ما أكره عليه، فإن لم يكن الإكراه ماديًا وسابقًا على الفعل الذى يأتيه المكرَه فلا يعتبر الفاعل مكرهًا فى رأيهم (1) . 429- ويرى أصحاب الرأى الراجح فى مذهب أحمد ما يراه مالك وأبو حنيفة والشافعى من أن الوعيد بمفرده إكراه، وأن الإكراه لا يكون غالبًا إلا بالوعيد بالتعذيب أو بالقتل أو بالضرب أو بغير ذلك، أما ما مضى من العقوبة فإنه لا يندفع بفعل ما أكره عليه، ولا يخشى منه شيئًا بعد وقوعه، إنما الخشية والخوف مما يهدد به، فإذا وقع الفعل المهدد به انتهت الخشية وذهب الخوف، فالذى يندفع إذن بإتيان الفعل المكرَه عليه وهو ما يتوعد به من العقوبة أو التعذيب لا ما وقع منها فعلاً (2) . وعلى هذا فالإكراه يصح أن يكون ماديًا ويصح أن يكون معنويًا، والإكراه المادى هو ما كان التهديد والوعيد فيه واقعًا، أما الإكراه المعنوى فهو ما كان الوعيد والتهديد فيه منتظر الوقوع. شروط الإكراه: يشترط لوجود الإكراه توفر الشروط الآتية، فإن لم تتوفر فلا يعتبر الإكراه قائمًا ولا يعتبر المقر مكرهًا: 430- أولاً: أن يكون الوعيد مما يستضر به بحيث يعدم الرضاء أو يفسده: كالضرب والحبس والقيد والتجويع، فإذا لم يكن لتنفيذ الوعيد أثر على الرضاء انتفى وجود الإكراه، وتقدير الوعيد الذى يستضر به مسألة موضوعية تختلف باختلاف الأشخاص والأسباب المكره عليها، فقد يكون الشئ إكراهًا   (1) المغنى ج8 ص260 , الشرح الكبير ج8 ص243. (2) المغنى ج8 ص261 , البحر الرائق ج8 ص80 , أسنى المطالب ج3 ص282 , 283 , مواهب الجليل ج3 ص45 , 46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 فى حق شخص دون آخر وفى سبب دون آخر، فبعض الأشخاص قد لا يتضرر من الضرب عدة أسواط، والبعض قد يتضرر من ضربة سوط واحد، بل قد يتضرر من صفعة أو فرك أذن، والبعض قد يرحب بمكثه فى السجن أمدًا طويلاً والبعض قد يضره ضررًا كبيرًا بقاؤه فى السجن ليلة واحدة. ويعتبر الوعيد إكراهًا إذا وجه لنفس المكره، وهذا متفق عليه، فإذا وجه لغيره فهناك اختلاف؛ فيرى المالكية أن الوعيد إكراه ولو وقع على أجنبى (1) . ويرى بعض الحنفية أن الوعيد ليس إكراهًا إذا وقع على غير المكره، ولكن بعضهم يرى أنه إكراه إذا وقع على الولد أو الوالد أو على ذى رحم محرم، وهذا يتفق مع رأى الشافعية (2) ، ويرى الحنابلة أن الوعيد إكراه إذا وقع على الابن أو الأب (3) . وليس من الضرورى أن يكون الإكراه بالوعيد بالإيذاء المادى، بل يكفى لوجود الإكراه الوعيد بالمنع من استعمال الحقوق، فمن يمنع زوجته من زيارة أهلها إلا إذا أقرت بجريمة، ومن يمنع ابنته من الزفاف أو الذهاب إلى دار الزوجية إلا إذا اعترفت بجريمة فإنه يحملها على الإقرار كرهًا (4) . كذلك من يمنع عن آخر طعامه أو شرابه حتى يقر بجريمة فإنه يعتبر مكرهًا فى إقراره. وأمر صاحب السلطان يعتبر فى ذاته إكراهًا دون حاجة إلى اقترانه بالوعيد أو التهديد، وأمر غيره إكراهًا إلا إذا كان المأمور يعلم أنه إن لم يطع وقعت عليه وسائل الإكراه (5) . وأمر الزوج لزوجته فى حكم أمر السلطان إن كانت تخشى الأذى إذا لم   (1) مواهب الجليل ج4 ص45. (2) حاشية ابن عابدين ج5 ص110 , أسنى المطالب وحاشية الشهاب ج3 ص283. (3) الإقناع ج4 ص4. (4) حاشية ابن عابدين ج5 ص120. (5) حاشية ابن عابدين ج5 ص112. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 تطعه فإن أطاعته وهى لا تخشى أذى إذا لم تطعه فلا يعتبر الأمر إكراهًا (1) . والوعيد بإتلاف المال إكراه عند مالك والشافعى إذا لم يكن المال يسيرًا، فإن كان المال يسيرًا فلا إكراه. وتقدير ما إذا كان المال يسيرًا أو غير يسير يرجع فيه إلى الشخص نفسه ومقدار ثروته، فقد يكون المال يسيرًا بالنسبة لشخص وغير يسير بالنسبة لآخر (2) . والأصل فى مذهب أبى حنيفة أن الوعيد بإتلاف المال ليس إكراهًا ولو كان إتلاف المال يلحق ضررًا جسيمًا بصاحبه؛ لأن محل الإكراه الأشخاص لا الأموال. ولكن بعض فقهاء الحنفية يرون الوعيد بإتلاف المال إكراهًا، وأصحاب هذا الرأى يختلفون فيما بينهم، فيشترط بعضهم أن يكون الوعيد بإتلاف كل المال ليكون إكراهًا، والبعض لا يشترط إتلاف كل المال ويكفى لاعتبار الإكراه قائمًا أن يكون الوعيد بإتلاف جزء من المال يستضر بإتلافه (3) . ويجب أن يكون الوعيد بفعل محذور أى غير مشروع، فإن كان الفعل المهدد به مشروعًا فلا يعتبر الإكراه قائمًا، فمن كان محكومًا عليه بالجلد أو الحبس فهدد بتنفيذ العقوبة عليه إن لم يرتكب جريمة فارتكبها فعليه عقوبتها ولا يعتبر أنه كان فى حالة إكراه لأن الفعل الذى هدد به مشروع (4) . 431- ثانيًا: أن يكون الوعيد بأمر حال يوشك أن يقع إن لم يستجب المكره: فإن كان الوعيد بأمر غير حالًّ فليس ثمة إكراه لأن المكرَه لديه من الوقت ما يسمح له بحماية نفسه فيلجأ للسلطات العامة أو يهرب من المكره،   (1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120. (2) مواهب الجليل ج4 ص45 , أسنى المطالب ج3 ص283 , الإقناع ج4 ص4. (3) البحر الرائق ج8 ص82 , بدائع الصنائع ج7 ص176 وما بعدها , حاشية ابن عابدين ج5 ص110 , 121. (4) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , أسنى المطلب ج3 ص282 , المغنى ج8 ص260. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 ولأنه ليس فى الوعيد غير الحال ما يحمله على المسارعة بتلبية طلب المكره ويرجع فى تقدير ما إذا كان الوعيد حالاً أو غير حالًّ إلى ظروف المكره وإلى ظنه الغالب المبنى على أسباب معقولة، ويعتبر الوعيد حالاً كلما عجز المكره عن الهرب والمقاومة والاستغاثة بغيره إلى غير ذلك من أنواع الدفع (1) . وإذا كان الوعيد بأمر آجل فإنه لا يعتبر إكراهًا كقوله: لأضربنك غدًا إن لم تقر بكذا أو تفعل كذا. ولكن الأذرعى من فقهاء الشافعية يرى أن فى النفس من هذه المسالة شيئًا وأنه إذا غلب على ظن المقر إيقاع ما هدد به لو لم يفعل فإنه يعتبر مكرهًا ولاسيما إذا عرف أن من عادة المهدد إيقاع ذلك الوعيد (2) . 432- ثالثًا: أن يكون المكره قادرًا على تحقيق وعيده: لأن الإكراه لا يتحقق إلا بالقدرة فإن لم يكن المكره قادرًا على فعل ما هدد به فلا إكراه، ولا يشترط فى المكره أن يكون ذا سلطان كحاكم أو موظف؛ لأن العبرة بالقدرة على الفعل المهدد به لا بصفة المكره (3) . 433- رابعًا: أن يغلب على ظن المكرهَ أنه إذا لم يجب إلى ما دعى إليه تحقق ما أوعد به: فإن كان يعتقد أن المكره غير جاد فيما أوعد به أو كان يستطيع أن يتفادى الوعيد بأى طريقة كانت ثم أتى الفعل بعد ذلك فإنه لا يعتبر مكرهًا، ويجب أن يكون ظن المكره مبنيًا على أسباب معقولة (4) . 432- حكم إقرار المكرَه: وإذا توفر الإكراه على الوجه السابق وأقر المكره على نفسه بجريمة فإن إقراره يكون باطلاً ولا يؤخذ به لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتى   (1) أسنى المطالب ج3 ص282 , المغنى ج8 ص261 , حاشية ابن عابدين ج5 ص109. (2) أسنى المطالب وحاشية الشهاب الرملى ج3 ص283. (3) حاشية ابن عابدين ج5 ص109 , المغنى ج8 ص261 , أسنى المطالب ج3 ص282. (4) أسنى المطالب ج3 ص282 , المغنى ج8 ص261 , حاشية ابن عابدين ج5 ص109. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ولأنه قول أكره عليه بغير حق، والأصل أن العاقل لا يتهم بقصد الإضرار بنفسه، فإذا أقر مختارًا قُبل إقراره لانتفاء التهمة ولوجود الداعى إلى الصدق، ولكن إذا اُكره الشخص على الإقرار فأقر فإنه يغلب على الظن أنه قصد بإقراره دفع ضرر الإكراه فانتفى ظن الصدق فلم يقبل إقراره، فإذا أقر بقتل أو قطع أو سرقة أو غير ذلك تحت تأثير الإكراه لم يجب عليه بإقراره عقاب (1) لاحتمال كذب الإقرار ومما يؤثر فى هذا الباب قول عمر رضى الله عنه: "ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أجعته أو ضربته أو أوثقته" أو على حسب ما يرويه البعض: "ليس الرجل على نفسه بأمين إن جوَّعت أو خوَّفت أو أوثقت"، ومما يؤثر عن شريح أنه كان يقول: "القيد كره، والسجن كره، والوعيد والضرب كره" (2) ، ويؤثر عن ابن شهاب أنه قال فى رجل اعترف بعد جلده: ليس عليه حد (3) . وإذا أقر فى حال الإكراه بغير ما أكره مثل أن يكره على الإقرار بجريمة ما فيقر بأخرى فإقراره فيما يتعلق بهذه الجريمة الأخرى صحيح لأنه أقر بما لم يكره عليه فصح كما لو أقر به ابتداء دون إكراه (4) . أما إقراره بالجريمة التى أكره على الإقرار بها فهو إقرار باطل لا يؤخذ به، إلا أن يقر ثانية بالجريمة بعد إخلاء سبيله وهو مختار غير مكره فإنه يؤخذ بإقراره الجديد (5) . 435- والإقرار الصادر تحت تأثير الإكراه باطل ولو قامت الدلائل على صحته، كأن يرشد السارق عن المسروقات أو القاتل عن جثة القتيل، فإذا   (1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , البحر الرائءق ج8 ص80 , المغنى ج10 ص172 , ج5 ص272 , 373 , أسنى المطالب ج2 ص290 وما بعدها , مواهب الجليل ج4 ص44 , 45. (2) المبسوط للسرسخى ج9 ص185. (3) المغنى ج10 ص172. (4) المغنى ج5 ص273. (5) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , بدائع الصنائع ج7 ص189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 استمر على إقراره بعد أن أصبح فى أمن من الإكراه اعتبر استمراره إقرارًا جديدًا، وهذا متفق عليه إلا من القائلين فى مذهب مالك بصحة إقرار المكره، وما يؤثر فى هذا الباب أن الحسن بن زياد الفقيه الحنفى قال بجواز ضرب السارق حتى يقر، ضربًا لا يقطع اللحم ولا يبين العظم، وأفتى مرة بهذا ثم ندم وأتبع السائل إلى باب الأمير فوجده قد ضرب السارق حتى أقر بالمال المسروق وجاء به، ومع ذلك فقد خرج المحسن بن زياد وهو يقول: ما رأيت جورًا أشبه بالحق من هذا (1) . 436- ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى أنه إذا ضرب ليقر فهذا إكراه، أما إذا ضرب ليصدق فى القضية فأقر حال الضرب أو بعده فإقراره صحيح ولا يعتبر مكرهًا، لأن المكره من أكره على شئ واحد وهو هنا إنما ضرب ليصدق ولا ينحصر الصدق فى الإقرار، ولكن أصحاب هذا الرأى يكرهون مع هذا أن يلزم المقر بإقراره إلا بعد أن يراجع ويقر ثانيًا من غير أن يضرب أو يهدد. ويؤخذ على أصحاب هذا الرأى تمسكهم بالإقرار الثانى مع أن هذا الإقرار الثانى فيه نظر إذا غلبت على ظنه أنه إذا أنكر أعيد ضربه، والرأى الراجح فى المذهب هو عدم قبول الإقرارين لأنهما صادران من مكره (2) . 437- ومن ادعى الإكراه لا تقبل دعواه لمجرد ادعائه؛ لأن الأصل عدم الإكراه، إلا أن تكون هناك قرينة على صحة الادعاء، كالقيد والحبس والقبض والوضع تحت الحراسة، فى مثل هذه الحالات تقبل دعوى الإكراه ولمن يدعيه أن يثبته، ويستوى فى هذه الحال أن يكون القبض والحبس والقيد بحق أو بغير حق، كحالة الحبس الاحتياطى، وكحالة القبض بغير حق (3) .   (1) المبسوط للسرخسى ج9 ص180. (2) أسنى المطالب ج2 ص290 , 291. (3) أسنى المطالب ج2 ص299 , المغنى ج5 ص273. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وإذا أكره حاكم أو قاض شخصًا ليقر بجريمة عقوبتها القتل أو القطع كالقتل والسرقة فأقر بها وقتل أو قطعت يده اقتص ممن أكرهه (1) . 438- رجوع المقر عن إقراره: وإذا كان الإقرار صادرًا من غير إكراه فعدل عنه المقر، قُبل منه الرجوع عن إقراره فيما كان حقًا لله تعالى يدرأ بالشبهات ويحتاط لإسقاطه، فأما حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى التى لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات فلا يقبل منه الرجوع عن إقراره بها، وهذه القاعدة متفق عليها، فإذا أقر بزنا ثم عدل عن إقراره لم يؤخذ بإقراره لأن الزنا متعلق بحقوق الله تعالى التى تدرأ بالشبهات ويحتاط لإسقاطها، أما إذا أقر بقتل أو جرح أو قطع أو إسقاط جنين، فإنه يؤاخذ بإقراره ولو عدل عنه لأن الجنايات الواقعة على النفس وما دونها وعلى الجنين كلها متعلقة بحقوق الآدميين ولو أن بعضها يعاقب عليه بالقصاص، ولو أن القصاص مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات (2) . لكن إذا ثبت أن الإقرار مكذوب فلا يؤاخذ المقر بإقراره سواء عدل عنه أو لم يعدل، وسواء كان متعلقًا بحقوق الله تعالى أو بحقوق الآدميين. وعدول المقر عن إقراره لا أثر له أيًا كان نوع الجريمة التى أقر بها ما دامت الجريمة ثابتة قَبل المقر بغير الإقرار، كأن تكون ثابتة بشهادة الشهود. * * * الشهادة 439- الشهادة هى الطريق المعتاد لإثبات الجرائم: وأغلب الجرائم تثبت عن طريق الشهادة وأقلها يثبت بغير الشهادة من طرق الإثبات، ولهذا كان للشهادة كطريق من طرق الإثبات أهمية كبرى فى إثبات الجرائم. والأصل فى الشهادة الكتاب والسنة: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ   (1) حاشية ابن عابدين ج5 ص120 , بدائع الصنائع ج7 ص189 , 190. (2) شرح الزرقانى ج8 ص107 , بدتئع الصنائع ج7 ص232 , 233 , حاشية الطهطاوى ج3 ص346 , أسنى المطالب ج4 ص150 , المغنى ج2 ص288. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق:2] ، وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] . وأما السنة: فما روى وائل بن حجر قال: "جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم -، فقال الحضرمى: يا رسول الله هذا غلبنى على أرض لى، فقال الكندى: هى أرضى وفى يدى فليس له فيها حق، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - للحضرمى: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه" (1) . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته" (2) . ويفرق الفقهاء فى إثبات القتل والجراح بين الجرائم التى توجب عقوبة بدنية كالقصاص أو الجلد والحبس أو غيرهما من العقوبات البدنية التعزيرية وبين الجرائم التى توجب عقوبة مالية كالدية والغرامة. 440- الجرائم التى توجب عقوبة بدنية: العقوبة البدنية إما أن تكون القصاص وإما أن تكون عقوبة تعزيرية. إثبات الجرائم الموجبة للقصاص: يشترط الفقهاء فى إثبات الجرائم الموجبة للقصاص بالشهادة أن يشهد بالجريمة رجلان عدلان، ولا يقبل الفقهاء فى إثبات هذا النوع من الجرائم شهادة رجل وامرأتين ولا شهادة شاهد ويمين المجنى عليه، وذلك لأن القصاص إراقة دم عقوبة على جناية فيحتاط له لدرئه باشتراط الشاهدين العدلين كالحدود، وهذا هو رأى جمهور الفقهاء (3) . ويرى الأوزاعى والزهرى أن الجريمة التى توجب القصاص تثبت بما تثبت به الأموال، فيكفى فى إثباتها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ويؤيد الشوكانى هذا الرأى (4) .   (1) المغنى ج12 ص2. (2) نيل الأوطار ج6 ص310. (3) مواهب الجليل ج6 ص275 , حاشية الطهطاوى ج3 ص220 , أسنى المطالب ج4 ص105 , المغنى ج7 ص41. (4) نيل الأوطار ج6 ص311. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 441- ومن يشترط الشاهدين فيما يوجب القصاص لا يفرق بين القصاص فى النفس والقصاص فيما دون النفس، ويوجب فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص مطلقًا شهادة رجلين عدلين، إلا مالكًا فإنه لا يوجب شهادة العدلين إلا فى القصاص فى النفس فقط، أما إذا كان القصاص فيما دون النفس فيجيز مالك إثبات الجريمة الموجبة للقصاص بشاهد واحد ويمين المجنى عليه، ولا يقيس مالك الجراح بالأموال وإنما هو مبدأ أخذ به لأنه استحسنه، وقد سئل ابن القاسم فى هذا فقيل له: لم قال مالك ذلك فى جراح العمد وليست بمال؟ قال: قد كلمت مالكًا فى ذلك فقال: إنه شئ استحسناه، وما سمعت فيه شئيًا (1) . ويرى بعض الفقهاء فى مذهب مالك جواز شهادة المرأتين ويمين المدعى فى جراح العمد، ولا يرى البعض ذلك (2) . والشاهدان اللذان تثبت بشهادتهما الجريمة الموجبة للقصاص ليس أحدهما المجنى عليه، فإذا كان شاهد واحد والمجنى عليه لم يكمل نصاب الشهادة لأن المجنى عليه يعتبر مدعيًا لا شاهدًا وأقواله تصلح لَوْثًا أى قرينة ولكنها لا تقوم مقام الشهادة. أما فى حالة إثبات الجريمة الموجبة للقصاص فيما دون النفس بشاهد ويمين المجنى عليه تبعًا لرأى مالك فإن الجريمة تثبت بشهادة الشاهد الواحد ولا يعتبر المجنى عليه شاهدًا ثانيًا ولو أنه يؤدى اليمين لأنه لا يسأل كشاهد، وإنما يحلف اليمين على صحة شهادة الشاهد، فاليمين مقصود بها تقوية شهادة الشاهد. وهناك من الفقهاء من لا يشترط نصابًا معينًا فى الشهود فيكفى عنده لإثبات الجريمة الموجبة للقصاص أن يشهد بها شاهد واحد إذا رجح القاضى صدق شهادته (3) ، والذين يشترطون شهادة رجلين فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص   (1) مواهب الجليل ج6 ص275 , شرح الزرقانى ج8 ص59. (2) تبصرة الحكام ج1 ص241. (3) الطرق الحكمية ص66 - 78 , طرق الإثبات الشرعية ص181. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 لا يجيزون إثبات الجريمة بأقل من ذلك ولو عفا المجنى عليه أو وليه عن القصاص إلى الدية وهى مال، وما يوجب المال يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبشهادة رجل ويمين المدعي؛ على التفصيل الذى سنذكره فيما بعد، وحجتهم أن الواجب بالجناية أصلاً هو القصاص لا الدية وإنما وجبت الدية بالعفو أو الصلح والعفو والصلح كلاهما حق ثابت للمجنى عليه أو وليه، أما طريقة الإثبات فليست من حقه بل هى حق الجماعة، وهذا لا يؤدى العفو أو الصلح فى العمد إلى جواز الإثبات بما يثبت به المال، وفضلاً عن ذلك فإنه يجب أن يثبت للمجنى عليه حق القصاص قبل كل شئ حتى يثبت له العفو أو الصلح عن هذا الحق (1) . 442- الجرائم التى توجب تعزيرا بدنيًا: إذا أوجبت الجريمة التعزير البدنى مع القصاص فيشترط فى إثباتها ما يشترط فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص، وقد بينا ما يشترطه الفقهاء على اختلاف وجهات نظرهم. أما إذا أوجبت الجريمة التعزير البدنى دون القصاص فيرى الشافعى وأحمد أن الجريمة لا تثبت إلا بما تثبت به الجريمة الموجبة للقصاص أى بشهادة رجلين عدلين؛ لأن العقوبات البدنية خطيرة فيجب الاحتياط فيها بقدر الإمكان فلا تثبت بما تثبت به الأموال من شهادة رجل وامرأتين وشهادة رجل ويمين المجنى عليه (2) . 443- والأصل عند مالك أن العقوبات البدنية لا تكون إلا بشهادة رجلين ولكنه أجاز فى إثبات الجريمة الموجبة للقصاص فيما دون النفس أن تثبت بشهادة رجل واحد ويمين المجنى عليه، وأوجب على الجانى فى الوقت نفسه عقوبة التعزير مع عقوبة القصاص (3) . ومعنى هذا أن عقوبة التعزير البدنية تثبت والجريمة الموجبة لها بشاهد ويمين المدعى، ويمكن القول بأن القصاص أشد من التعزير فإذا تبتت الجريمة الموجبة   (1) أسنى المطالب ج4 ص105 , المغنى ج10 ص42. (2) أسنى المطالب ج4 ص360 , الإقناع ج4 ص445. (3) مواهب الجليل ج6 ص247. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 للقصاص بشاهد ويمين فأولى أن تثبت بذلك الجريمة الموجبة للتعزير. كما يمكن القول بأنه إذا ثبتت الجريمة الموجبة للتعزير البدنى فى الجراح بشاهد ويمين فإن كل جريمة أخرى موجبة للتعزير البدنى يصح أن تثبت بشاهد ويمين قياسًا على هذا. ويرى بعض المالكية التعزير فى بعض الجرائم بشهادة شاهد واحد دون يمين (1) . 444- والأصل فى مذهب أبى حنيفة أن العقوبات البدنية لا تثبت بأقل من شاهدين عدلين ولكنهم يجيزون فى التعزير أن يكون أحد الشاهدين هو المجنى عليه ويقبلون فيه شهادة رجل وامرأتين على خلاف بين أبى حنيفة وصاحبيه، بل يرون أنه يكفى للتعزير شهادة شاهد وأحد عدل (2) ، أو شهادة المدعى وحده مع نكول الجانى عن اليمين (3) ، والنكول ليس إلا قرينة تقوى شهادة المجنى عليه الذى لا يعتبر فى الأصل شاهدًا تبعًا لقواعد الشريعة كذلك يجيزون إثبات جرائم التعزير بالشهادة على الشهادة بل يكتفون فى التعزير بعلم القاضى (4) . 445- إثبات الجرائم الموجبة لعقوبة مالية: تثبت الجرائم التى توجب عقوبة مالية كالدية أو الغرامة بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شهادة رجل واحد ويمين المدعى، وكل ما شرع فيه اليمين والشاهد يثبت بشهادة الشاهد ونكول المدعى عليه (5) ، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد، وحجتهما أنها شهادة عكس ما يقصد به المال والمال يثبت على هذا الوجه فوجب أن تقبل هذه الشهادة فى كل قتل أو جرح موجب للمال كما يقبل فى البيع والإجازة، ولا تقاس الشهادة فى الجناية الموجبة للمال بالشهادة فى الجناية الموجبة للقصاص؛ لأن القصاص عقوبة يحتاط لإسقاطها ودرئها فاحتيط فى الشهادة على أسبابها (6) .   (1) تبصرة الحكام ج1 ص260 , 261. (2) حاشية ابن عابدين ج3 ص258 , 259. (3) شرح فتح القدير ج3 ص213. (4) حاشية ابن عابدين ج3 ص258 , 260. (5) المغنى ج12 ص12. (6) المغنى ج10 ص42 , أسنى المطالب ج4 ص105 , الإقناع ج4 ص246. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 ويرى بعض الحنابلة أن الجناية سواء أوجبت القصاص أو غير القصاص لا تثبت بشهادة رجل وامرأتين ولا بشهادة رجل واحد ويمين المدعى، وإنما تثبت بشهادة رجلين كما يثبت القصاص والحدود، فلا معنى للتفرقة بين جنايتين ومن نوع تقعان على آدمى (1) . ويرى المالكيون أن الجرائم التى توجب عقوبة مالية تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شهادة رجل واحد ويمين المدعى أو شهادة امرأتين ويمين المدعى (2) . 446- ويختلف رأى الشافعى وأحمد عن رأى مالك فى أن مالكًا يجيز شهادة المرأتين واليمين ولا يجيزها الشافعى وأحمد. وحجة مالك أن المرأتين أقيمتا مقام الرجل فى الأموال فيقاما مقامه فيما يوجب المال من الجرائم. وحجة الشافعى وأحمد أن البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل كما لو شهد أربع نسوة، وأن شهادة المرأتين ضعيفة فقويت بشهادة الرجل معهما، واليمين ضعيفة فلو شهدت المرأتان مع اليمين لضم ضعيف إلى ضعيف (3) . 447- ويرى أبو حنيفة وأصحابه أن ما يوجب المال يثبت بشهادة رجلين أو بشهادة رجل وامرأتين ولا يثبت بشاهد ويمين ولا بامرأتين ويمين (4) ، وحجتهم أن الله تعالى قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] فمن زاد على ذلك فقد زاد على النص والزيادة فى النص نسخ، ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "البينة على المدعى واليمين على من أنكر" فحصر اليمين فى جانب المدعى عليه كما حصر البينة فى جانب المدعى. ويرد على الحنفيين بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشاهد الواحد واليمين وأن الزيادة فى النص ليست نسخًا وإنما هى تعزير له، وأن الحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه وأن الآية واردة فى شهادة التحمل لا فى شهادة الأداء ولذا قال تعالى:   (1) المغنى ج10 ص42 , المغنى ج12 ص9. (2) تبصرة الحكام ج1 ص241. (3) المغنى ج12 ص13. (4) حاشية ابن عابدين ج4 ص515 , 516 , حاشية الطهطاوى ج3 ص221. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] فالنزاع فى الأداء لا فى التحمل. والحديث الذى يتمسك به الحنفية ضعيف وليس هو للحصر، بدليل أن اليمين تشرع فى حق المودع إذا ادعى رد الوديعة وتلفها، وفى حق الأمناء لظهور خياناتهم، وفى حق الملاعن، وفى القسامة وغير ذلك (1) . ولقد شرعت اليمين من جانب المدعى عليه حيث لم يترجح جانب المدعى بشئ إلا مجرد الادعاء، ففى هذه الحالة يكون جانب المدعى عليه أولى باليمين لقوته بأصل براءة الذمة فكان هو أقوى المتداعين باستصحاب هذا الأصل، فإذا ترجع جانب المدعى بلَوْث أو نكول أو شهادة شاهد كان أولى باليمين لقوة جانبه بذلك، فاليمين مشروعة إذن فى جانب أقوى المتداعين (2) . ويلاحظ أن الجرائم التى توجب عقوبة تعزيرية مالية تثبت عند الحنفية بما تثبت به الجرائم التى توجب عقوبة تعزيرية بدنية، فلا فرق فى إثبات الجرائم التعزيرية ولو تنوعت عقوباتها واختلفت. ويلاحظ أيضًا أن الحنفيين يتشددون فى إثبات الجرائم الموجبة للحدود والقصاص والعقوبات المالية غير التعزيرية بينما يتساهلون فى إثبات الجرائم الموجبة لعقوبة تعزيرية، بل إنهم يتساهلون فى إثبات هذا النوع من الجرائم أكثر مما يتساهلون فى إثبات العقود المالية المحضة، ولعل مرجع ذلك التساهل إلى أن الجرائم التعزيرية هى أكثر الجرائم وقوعًا والعقوبات التعزيرية هى أكثر العقوبات تطبيقًا، فوجب التساهل فى إثبات هذه الجرائم حرصًا على مصلحة الجماعة وصيانة لنظامها. 448- ويرى ابن القيم أن الجرائم الموجبة للعقوبات المالية تثبت بشهادة شاهد واحد دون يمين كلما وثق به القاضى (3) . ويجيز الفقهاء عامة شهادة الرجل الواحد أو المرأة الواحدة للضرورة ويقبلون مثل   (1) المغنى ج12 ص10 , 11. (2) الطرق الحكمية ص66 , 75. (3) الطرق الحكيمة ص66 , 88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 هذه الشهادة فى إثبات نفس الجريمة كشهادة المعلم على الجرائم التى تقع بين الصبيان وكشهادة المرأة على جريمة وقعت فى حمام ويقبلون شهادة الرجل الواحد والمرأة الواحدة كذلك فى إثبات أثر الجريمة ونتائجها كشهادة الطبيب أو الداية على أن الضرب أحدث جرحًا داخليًا بالرحم، وكشهادة الطبيب بأن الضرب أو الجرح نشأ عنه فقد منفعة عضو من الأعضاء. ويقبل الفقهاء شهادة الرجل الواحد والمرأة الواحدة للضرورة سواء كانت الجريمة مما يوجب عقوبة بدنية كالقصاص أو عقوبة مالية كالدية (1) . 449- ولا تثبت الجريمة بالشهادة إلا مع زوال الشبهة وانتفاء الشك: فيجب أن تكون الشهادة مثبتة للجريمة بصفة قاطعة، فإذا لم تكن كذلك بطلت الشهادة ما لم يكن بعض الشهادة متيقنًا ففى هذه الحالة يثبت القدر المتيقن، فمن شهد بأنه رأى جماعة يضربون شخصًا قطع ذراعه أثناء الحادث ولم يشهد بمن قطع الذراع فلا يثبت قطع الذراع ضد أحدهم ولكن يثبت الضرب عليهم لأنه القدر المتيقن أى المقطوع به فى أقوال الشاهد. ومما يؤثر فى هذا الباب أن شريحًا شهد عنده رجل بالقتل فقال: أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه فمات، فقال له شريح: فمات منه؟ فأعاد الرجل قوله الأول فقال له شريح: قم فلا شهادة لك (2) . القسامة 450- معنى القسامة: القسامة معناها لغة: القَسَم أى اليمين، وهى تعنى أيضًا الوسامة، فيقال: فلان قسيم أى وسيم، ويذهب أهل اللغة إلى أنها القوم الذين يحلفون سُمُّوا باسم المصدر، كما يقال: رجل رضًى ورجل عَدْل. ومعنى القسامة فى اصطلاح الفقهاء: الأيمان المكررة فى دعوى القتل، يقسم   (1) تبصرة الحكام ج1 ص258 , 262 , حاشية الطهطاوى ج3 ص221 , 235 , أسنى المطالب ج4 ص360 , 363 , المغنى ج10 ص15 , 18. (2) المغنى ج10 ص43 , أسنى المطالب ج4 ص105. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 بها أولياء القتيل لإثبات القتل على المتهم، أو يقسم بها المتهم على نفى القتل عنه (1) . مصدر القسامة التشريعى: كانت القسامة طريقًا من طرق الإثبات فى الجاهلية فأقرها الإسلام، فقد روى أحمد ومسلم والنسائى عن أبى سلمة بن عبر الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه أقر القسامة على ما كانت عليه فى الجاهلية. وعن سهل بن أبى حَثْمَة قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومُحيِّصة بن مسعود إلى خيبر وهى يومئذ صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط فى دمه قتيلاً فدفنه ثم قدم إلى المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومُحيِّصة وحوُيِّصة ابنا مسعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: كَبِّرْ كَبِّرْ، وهو أحدث القوم فسكت، فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد شيئًا ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبى - صلى الله عليه وسلم - من عنده" رواه الجماعة. وفى رواية متفق عليها: "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته. فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم. قالوا: يا رسول الله قوم كفار ... " وذكر الحديث بنحوه، وهو حجة لمن قال: لا يقسمون على أكثر من واحد، وفى لفظ لأحمد: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا ثم نسلمه". وفى رواية متفق عليها: "فقال لهم: تأتون بالبنية على من قتله. فقالوا ما لنا من بينة. قال: فيحلفون. قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة" (2) . وروى الإمام أحمد عن   (1) بدائع الصنائع ج7 ص286 , أسنى المطالب ج4 ص98 , المغنى ج10 ص2 , طرق الغثبات الشرعية ص484 , نيل الأوطار ج6 ص311. (2) نيل الأوطار ج6 ص311 , 312. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 أبى سعيد الخدرى قال: وجُد قتيل بين قريتين فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - فذرع بينهما فوُجد إلى أحدهما أقرب فألقاه إلى أقربهما؛ أى حملهم ديته. وكذلك روى عن عمر رضى الله عنه فى قتيل وُجد بين وازعة وأرحب وكتب إليه عامله بذلك، فكتب إليه عمر أن قس بين القريتين فأيهما كان أقرب فألزمهم، فوجد القتيل إلى وازعة أقرب فأُلزموا القسامة والدية (1) . وأخرج عبد الرزاق وابن أبى شيبة والبيهقى عن الشعبى أن قتيلاً وُجد بين وادعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم عمر خمسين يمينًا كل رجل ما قتلته ولا علمت له قاتلاً ثم أغرمهم الدية، فقالوا: يا أمير المؤمنين لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا، فقال عمر: كذلك الحق. وأخرج نحوه الدارقطنى والبيهقى عن سعيد بن المسيب، وفيه أن عمر قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم (2) . وفى رواية أخرى أنهم قالوا: أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال عمر: أما أيمانكم فلحقن دمائكم وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم (3) . وأخرج البخارى والنسائى عن ابن عباس أن أول قسامة كانت فى الجاهلية فى بنى هاشم، كان رجل من بنى هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه فى إبله، فمر به رجل من بنى هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثنى بعقال أشد به عروة جوالقى لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالاً فشد به عروة جوالقة فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرًا واحدًا، فقال الذى استأجره: ما بال هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؟ فحذفه بعصًا كان فيه أجله، فمر به رجل من أهل اليمين فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهده وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عنى رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: فإذا شهدت فناد يا قريش، فإذا أجابوك فناد ى آل بنى هاشم، فإن أجابوك فسل عن أبى   (1) بدائع الصنائع ج7 ص292 , طرق الغثبات الشرعية ص448. (2) نيل الأوطار ج6 ص214. (3) بدائع الصنائع ج7 ص291. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 طالب فأخبره أن فلانًا قتلنى فى عقال، ومات المستأجر، فلما قدم الذى استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه ووليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك. فمكث حينًا ثم إن الرجل الذى أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم فقال: يا قريش، قالوا: هذه قريش، قال: يا آل بنى هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرنى فلان أن أبلغك رسالة أن فلانًا قتله فى عقال. فأتاه أبو طالب فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدى مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه فأخبرهم فقالوا نحلف، فأتته امرأة من بنى هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه فقالت: يا أبا طالب أحب أن تجير ابنى هذا برجل من الخمسين ولا تصير يمينه حيث تصير الأيمان، ففعل فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مائة من الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران، هذان البعيران فاقبلهما منى ولا تصير يمينى حيث تصير الأيمان، فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا. قال ابن عباس: فوالذى نفسى بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف (1) . 451- اختلاف الفقهاء فى شرعية القسامة: وبالرغم من النصوص السابقة فإن الفقهاء اختلفوا فى القسامة، فرأى الجمهور أن يعتبر القسامة كطريق من طرق الإثبات فى جريمة القتل وعلى الأخص فقهاء المذاهب الأربعة والمذهب الظاهرى والمذهب الشيعى، وأنكر بعض الفقهاء القسامة ومنهم سالم بن عبد الله وأبو قلابة وعمر بن عبد العزيز وابن علّية ويرى هؤلاء أنه لا يجوز الحكم بمقتضى القسامة لأنها مخالفة لأصول التشريع الإسلامى، إذ الأصل فى الشريعة أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعًا أو شاهد حسًا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتيل بل قد   (1) نيل الأوطار ج6 ص312 , 313 , طرق الإثبات الشرعية ص478. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 يكونون فى بلد والقتيل فى بلد آخر (1) ومن حجتهم أن الأيمان ليس لها تأثير فى إشاطة الدماء وأن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولا يرى أصحاب هذا الرأى فى الأحاديث التى يستند إليها القائلون بالقسامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم بالقسامة وإنما كانت القسامة حكمًا جاهليًا فتلطف لهم رسول الله ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام، ولذلك قال لهم: أتحلفون خمسين يمينًا - أعنى لولاة الدم وهم الأنصار - قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: فيحلف لكم اليهود، قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هى السنة، وإذا كانت هذه الآثار غير نص فى القسامة بالقسامة والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى (2) . ويرد الفريق الآخر على هذه الحجج بأن القسامة سنة مقررة بنفسها مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة، وأنه يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وكانوا بالمدينة والقتيل بخيبر ولأن للإنسان أن يحلف على غالب ظنه كما أن من اشترى من إنسان شيئًا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه لأن الظاهر أنه ملك الذى باعه، وكذلك   (1) لذلك روى البخارى عن أبى قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوماً للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه , فقال: ما تقولون فى القسامة؟ فأضب القوم , وقالوا: نقول إن القسامة القود بها حق , قد اقاد بها الخلفاء , فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونَصيَنَى للناس , فقلت: يا أمير المؤمنين عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد أرأيت لو أن خمسين رجلاً شهدوا عندك على رجل أنه زنا بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا , قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلاً شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟ قال: لا. وفى بعض الروايات: = =قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أقدت بشهاتهم؟ قال: فكتب عمر بن عبد العزيز فى القسامة أنهم إن أقاموا شاهدى عدل أن فلاناً فأقده ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا (بداية المجتهد ج2 ص357 , طرق الإثبات الشرعية ص490) .. (2) بداية المجتهد ج2 ص358. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 إذا وجد شيئًا بخطه أو بخط أبيه جاز أن يحلف ولو أنه لا يعلمه أو لا يذكره، وكذلك إذا باع شيئًا لم يعلم فيه عيبًا فادعى عليه المشترى أنه معيب وأراد رده كان له أن يحلف أنه باعه بريئًا من العيب، ولكن الحالف على كل حال لا يحلف إلا بعد الإثبات وغلبه ظن يقارب اليقين (1) . 452- وليس ثمة ما يمنع من أن تكون الأيمان سبيلاً لإشاطة الدماء - أى إهدارها - ما دامت الأيمان تؤدى إلى إثبات الجريمة على الجانى لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته" وفى رواية مسلم: "يسلم إليكم" وفى لفظ: "وتستحقون دم صاحبكم" وأراد دم القاتل لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين. وإذا كانت القسامة طريق الإثبات العمد فقد وجب بها القصاص وهو عقوبة العامد كالبينة سواء بسواء، وقد روى الأثرم بإسناده عن عامر الأحوال أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة فى الطائف، وهذا نص ولأن الشارع جعل القول قول المدعى مع يمينه احتياطًا للدم فإن لم يجب القود سقط هذا المعنى (2) . على أن أغلب القائلين بالقسامة لا يرون أن القسامة تؤدى للقصاص بل يرون أنها توجب الدية فقط، فالقسامة على رأى هؤلاء لا تؤدى لإشاطة الدماء. 453- وأما أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر فإن بعض القائلين بالقسامة لا يخرجون على هذا الأصل كالحنفيين، فإنهم يرون اليمين دائمًا فى جانب المنكر حتى فى القسامة فيحلفون المدعى عليه، وأما القائلين بتحليف المدعى فالقاعدة عندهم أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعين، فأى الخصمين ترجح جانبه جعلت اليمين من جهته، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه عرض القسامة أولاً على المدعين فلما أبوا جعلها فى جانب المدعى عليهم، وقد جعلت فى جانب المدعين لأن جانبهم ترجح باللوث (3) ، واليمين تكون   (1) الشرح الكبير ج10 ص5. (2) الشرح الكبير ج10 ص39 , 40. (3) أعلام الموقعين ج1 ص118 , الشرح الكبير ج10 ص28 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 فى جانب المدعى عليه إذا لم يترجح المدعى بشئ غير الدعوى، فيكون جانب المدعى عليه أولى باليمين لقوله بأصل براءة الذمة فكان هو أقوى المتداعين باستصحاب الأصل فكانت اليمين من جهته، فإذا ترجح المدعى بلوث أو بنكول أو شاهد كان أولى باليمين لقوة جانبه بذلك، فاليمين مشروعة فى جانب أقوى المتداعين فأيهما قوى جانبه شرعت اليمين فى حقه (1) . وفضلاً عما سبق فإن حديث البينة على من ادعى واليمين على من أنكر روى عن ابن عبد البر بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بالصيغة الآتية: "البينة على المدعى واليمين على من أنكر إلا فى القسامة" فاستثنى الحديث القسامة وهذا الاستثناء زيادة فى الحديث يتعين العمل بها لأن الزيادة من الثقة مقبولة (2) . 454- لماذا شرعت القسامة؟: الأصل فى القسامة أنها شرعت لحفظ الدماء وصيانتها، فالشريعة الإسلامية تحرص أشد الحرص على حفظ الدماء وصيانتها وعدم إهدارها، ولما كان القتل يكثر بينما تقل الشهادة عليه لأن القاتل يتحرى بالقتل مواضع الخلوات جعلت القسامة حتى لا يفلت المجرمون من العقاب وحتى تحفظ الدماء وتصان (3) . ولقد كان من حرص الشريعة على حياطة الدماء ما دعا أحمد إلى القول بأن من مات من زحام الجمعة أو فى الطواف فديته فى بيت المال وبمثل هذا قال إسحاق، وقال به عمر وعلي؛ فإن سعيدًا يروى عن إبراهيم أن رجلاً قتل فى زحام الناس بعرفة، فجاء أهله إلى عمر فقال: بينتكم على من قتله، فقال على: يا أمير المؤمنين لا يُطَلُّ دم امرئ مسلم، إن علمتَ قاتله وإلا فأعطه ديته من بيت المال. وقال الحسن والزهرى فيمن مات من الزحام: ديته على من حضر لأن قتله حصل منهم (4) .   (1) الطرق الحكيمة ص74. (2) الشرح الكبير ج10 ص31. (3) بداية المجتهد ج2 ص358. (4) المغنى ج10 ص9 , 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 ولعل فى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى قرر القسامة ما يؤيد هذا النظر، ففى رواية متفق عليها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "تأتون بالبينة على من قتله؟ فقالوا: ما لنا من بينة قال: فتحلفون؟ قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُطَلَّ دمه فوداه بمائه من إبل الصدقة" (1) ، وهذا ما جعل الحنابلة يرون أنه إذا لم يحلف المدعون ولم يرضوا يمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال، وما جعلهم يرون إلزام المدعى عليه الدية إذا نكل عن الحلف. 455- والقسامة عند أبى حنيفة شرعت فوق ما سبق لعلاج التقصير فى النصرة وحفظ الموضع الذى وجد فيه القتيل ممن وجب عليه النصرة والحفظ لأن إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ مع القدرة على الحفظ صار مقصرًا بترك الحفظ الواجب فيؤاخذ بالتقصير، زجرًا عن ذلك وحملاً على تحصيل الواجب وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية؛ لأنه أولى بالحفظ فكان التقصير منه أبلغ. ولهذا يرى أبو حنيفة أن القتيل إذا وجد فى موضع اختص به واحد أو جمعة إما بالملك أو باليد ويتهمون أنهم قتلوه فعليهم شرعًا القسامة دفعًا للتهمة، والدية لوجود القتيل بين أظهرهم (2) . 456- هل شرعت القسامة للإثبات أم لنفى؟: يرى مالك والشافعى وأحمد أن القسامة شرعت لإثبات الجريمة ضد الجانى كلما انعدمت أدلة الإثبات الأخرى أو لم تكن كافية بذاتها لإثبات الجريمة على الجانى، فإذا لم يكن مثلاً إلا شاهد واحد على القاتل أو لم يكن هناك شهود ولكن وجدت قرينة على أن القتل حصل من المتهم كان لولاة القتيل أن يثبتوا الجريمة على المتهم بطريق القسامة (3) . ويرى أبو حنيفة أن القسامة دليلاً مثبتًا للفعل المحرم وإنما هى دليل   (1) نيل الأوطار ج6 ص312. (2) بدائع الصنائع ج7 ص290. (3) شرح الزرقانى ج8 ص59 , نهاية المحتاج ج7 ص376 , المغنى ج10 ص7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 نفى لأهل المحلة التى وجد فيها القتيل؛ لأن المدعين - طبقًا لرأيه - لا يحلفون وإنما يحلف أهل المحلة بالله ما قتلوه ليدرءوا عن أنفسهم القصاص، وفى الوقت ذاته تجب عليهم الدية لوجود القتيل بين أظهرهم ويأخذ أبو حنيفة بهذا الرأى لأنه يرى أن البينة دائمًا على من ادعى واليمين على من أنكر، فإذا لم يعترف أحد أهل المحلة بالقتل وأنكروا كانت عليهم القسامة لأنهم مدعى عليهم وهم يدفعون بالقسامة التهمة الموجهة إليهم فتكون القسامة دليل نفى لهم (1) . 457- الجرائم التى تجوز فيها القسامة: من المتفق عليه أن القسامة لا تكون إلا فى جريمة القتل فقط، فلا قسامة فى جرح ولا فى قطع عضو أو فقد منفعة ولا قسامة فى ضرب أو إيذاء أو اعتداء أيًا كان نوعه ما لم يؤد للموت، ويستوى أن يكون القتل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ، ففى كل قتل أيًا كان نوعه القاسمة (2) . متى تكون القسامة؟: لا محل للقسامة عند أبى حنيفة إلا إذا كان القاتل مجهولاً، فإن كان معلومًا فلا قسامة ويتبع فى إثبات الجريمة ونفيها طرق الإثبات العادية (3) . 458- أما مالك والشافعى وأحمد فمحل القسامة عندهم أن يكون القاتل معينًا وأن يكون هناك لَوْث، فإن كان القاتل مجهولاً فلا قسامة عند الأئمة الثلاثة، ولكن الغزالى وهو من الفقهاء الشافعيين يرى أن لا بأس من أن يكون القاتل مجهولاً بين معينين فإن حكمه حكم المعين كما إذا اتهم ولى القتيل عشرة وقال: القاتل أحدهم (4) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص289 , 291. (2) شرح الزرقانى ج8 ص50 , بدائع الصنائع ج7 ص286 , نهاية المحتاج ج7 ص372 , الشرح الكبير ج10 ص3. (3) بدائع الصنائع ج7 ص288. (4) شرح الزرقانى ج8 ص50 , أسنى المطالب ج4 ص99 , نهاية المحتاج ج7 ص368 , المغنى ج10 ص4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 واللوث عند مالك والشافعى هو أمر ينشأ عن غلبة الظن بصدق المدعى (1) ، أو هو قرينة توقع فى القلب صدق المدعى (2) ، كوجود جثة القتيل فى محلة أعدائه، أو تفرق جماعة عن قتيل، أو رؤية المتهم على رأس القتيل ومعه سكين، وقول واحد ممن تقبل شهادته لوث. وهناك خلاف بين المالكية والشافعية على ما يعتبر لوثًا، فالمالكية يعتبرون ادعاء المجنى عليه على المتهم قبل وفاته لوثًا ولا يعتبره الشافعيون كذلك، والإشاعة المتواترة لوث عند الشافعيين وليست كذلك عند المالكيين (3) . واللوث عند أحمد على الرواية المرجوحة هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين أهل العدل وما بين الشرطة واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغْنٌ يغلب على الظن أنه قتله. واللوث على الرواية الراجحة هو ما يغلب على الظن صدق المدعى كالعداوة المذكورة سابقًا، وكأن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثًا فى حق كل واحد منهم، وكأن يزدحم الناس فى مضيق فيوجد فيهم قتيل، وكأن يوجد قتيل ولا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله، وهذا الرأى الثانى موافق لما يراه مالك والشافعى (4) ، وتعدد اللوث لا يمنع من القسامة كما لو قال المجنى عليه قبل موته قتلنى فلان، وكان هناك شاهد عدل يشهد بأنه رأى المتهم يقتل المجنى عليه فالقسامة واجبة مع تعدد اللوث ولا ينفى تعدد اللوث عنها إلا عند من يأخذون بالقرائن ويرونها كافية وحدها لإثبات الجريمة (5) ، وإذا وجد قتيل ولم يكن لوث فلا قسامة عند مالك والشافعى وأحمد وإن عين أولياء القاتل، والدعوى فى هذه الحالة كسائر الدعاوى إن كانت بينة   (1) شرح الزرقانى ج8 ص50. (2) أسنى المطالب ج4 ص98. (3) نهاية المحتاج ج7 ص69 , 371 , شرح الزرقانى ج8 ص50 , 55. (4) المغنى ج10 ص7 , 12. (5) شرح الزرقانى ج8 ص94. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 حكم للمدعين بها وإن كان إقرار حكم به وإلا فالقول قول المنكر، وهذا يخالف مذهب أبى حنيفة الذى يرى القسامة بوجود الجثة وبها أثر القتل. 459- وإذا أدعى أولياء القتيل القتل ولم توجد الجثة فى محل المدعى عليهم ولم تكن عداوة ولا لوث فلا قسامة عند الجميع. ويرى البعض فى هذه الحالة أن لا يحلف المدعى عليه. وحجة القائلين بهذا أن الدعوى لا يقضى فيها بالنكول فلا يستحلف فيها كالحدود، ويرى البعض أنه يستحلف والقائلون بهذا يحتجون بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" ويرون أن النص يوجب اليمين لعمومه وأن النص صريح فى انطباقه على دعوى القتل حيث يقول: "لادعى قوم دماء رجال وأموالهم" وادعاء الدماء هو ادعاء القتل. والقائلون بهذا يختلفون، فبعضهم يرى أن يحلف المدعى عليه يمنًا واحدة وهو الرأى الراجح، والبعض يرى أن يحلف خمسين يمينًا وهو الرأى المرجوح. فإن نكل المدعى عليه عن اليمين فيرى البعض أنه لا يجب عليه شئ بنكوله، ويرى البعض أن النكول لا يجب به غير الدية، ويرى البعض أن ترد اليمين على المدعى إذا نكل المدعى عليه فتكون قسامة ويحلف المدعون خمسين يمينًا؛ لأن النكول يعتبر لوثًا فى هذه الحالة فتتوفر شروط القسامة (1) . 460- وظاهر مما سبق أن القسامة تكون عند مالك والشافعى إذا علم القاتل وانعدمت البينة المثبتة للقتل وكان لوث، فإن كانت بينة تثبت القتل أو كان إقرار فلا قسامة، ومعنى هذا أن القسامة عندهم دليل خاص مثبت للقتل إذا انعدم دليله الأصيل. ويختص مالك بنوع من القسامة يوجبه مع توفر الدليل على القتل، وذلك فى حالة ما إذا أصيب المجنى عليه فى جريمة القتل فلم يمت فى الحال واستمر وقتًا ما يأكل ويشرب ويتكلم ثم مات بعدها فتجب القسامة على أولياء القتيل يحلفون   (1) المغنى ج 10 ص3 , 7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 بالله أن القتيل مات من إصابته. وهذا النوع من القسامة ليس إلا دليلاً من نوع خاص على أن الوفاة نشأت عن الإصابة، وليس له معنى فى عصرنا الحاضر بعد أن أصبح الأطباء قادرين على تعيين سبب الوفاة. أما القسامة عند أبى حنيفة فلا تكون إلا إذا وجدت جثة القتيل فى محلة وكان القاتل مجهولاً، وهى ليست دليلاً على القتل وإنما هى دليل نفى لأهل المحلة التى وجد فيها القتيل، فهم يحلفون بالله ما قتلوه ليدرءوا عن أنفسهم القصاص، وتجب عليهم الدية فى الوقت ذاته لوجود القتيل بين أظهرهم. والقسامة عند ابن حزم تجب متى وجد قتيل لا يعرف من قتله أينما وجد فادعى ولاة الدم على رجل وحلف منهم خمسون رجلاً خمسين يمينًا، فإن هم حلفوا على العمد فالقود، وإن حلفوا على الخطأ فالدية، وليس يحلف عنده أقل من خمسين رجلاً (1) . فالقسامة عند ابن حزم تجمع بين مذهب أبى حنيفة ومذهب مالك والشافعى وأحمد، فيأخذ من مذهب أبى حنيفة سبب وجوب القسامة، ويأخذ من مذهب الأئمة الثلاثة كيفية القسامة. 461- والقسامة عند أبى حنيفة أشبه ما تكون بما تفعله جيوش الاحتلال فى البلاد المحتلة فى عصرنا الحاضر فى حالة الاعتداء على رجال الجيش المحتل وفى حالة الثورات إذ تفرض غرامة على كل قرية قتل فيها جندى لم يعلن قاتله أو ارتكبت فيها جريمة هامة لم يعلم مرتكبها، وتحصل الغرامة من جميع سكان القرية على السواء. والواقع أن القسامة عند أبى حنيفة تعتبر بحق وسيلة طيبة لإظهار الفاعلين فى حوادث القتل؛ لأن أهل القرية إذا علموا أنهم سيلزمون دية القتيل الذى لا يظهر قاتله اجتهدوا فى منع المشبوهين من الإقامة بين ظهرانيهم وأخذوا على أيدى سفهائهم ومجرميهم، كما أن كل من كان لديه معلومات عن القتل سابقة أو   (1) بداية المجتهد ج2 ص360. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 لاحقة لن يتأخر فى الغالب عن تبليغها للجهات المختصة، بل إنهم قد يحملون القاتل على أن يقدم نفسه ويعترف بجرمه. 462- كيفية القسامة: القسامة عند مالك والشافعى وأحمد على أولياء القتيل، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "يحلف خمسون رجلاً منكم وتستحقون دم صاحبكم"، وعلى هذا أن يحلف أولياء القتيل ابتداء خمسين يمينًا. ويستحب أن يستظهر فى ألفاظ اليمين فى القسامة تأكيدًا فيقول الحالف: والله الذى لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فإن اقتصر على لفظ والله كفى، ويصح أن يقول والله أو بالله وتالله وكل ما زاد على هذا تأكيدًا، ويشترط فى اليمين أن تكون على البت وأن تكون قاطعة فى ارتكاب المتهم الجريمة بنفسه أو بالاشتراك مع غيره، وعلى الحالف أن يبين ما إذا كان الجانى تعمد الفعل أم لم يتعمد فيقول مثلاً: "والله إن فلان ابن فلان قتل فلانًا منفردًا بقتله ما شركه غيره" وإن كانا اثنين قال: "منفردين بقتله ما شركهما غيرهما" ثم يقول: عمدًا أو خطأ. فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ. ويشترط فى يمين المدعى عليه ما يشترط فى يمين المدعى من البت والقطع ببراءته فيقول مثلاً: والله ما قتلته ولا شاركت فى قتله ولا فعلت سببًا مات منه ولا كان سببًا فى موته ولا معينًا على موته. فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا أيمان المدعى عليهم برئ المتهمون وكانت دية القتيل فى بيت المال على رأى أحمد، وهو رأى لا يأخذ به بقية الأئمة. وإن نكل المدعى عليهم عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا على رأى فى مذهب أحمد ولم يحبسوا على الرأى الآخر، وحبسوا لمدة سنة على رأى مالك، فإن لم يحلفوا عززوا. أما الشافعى فيرى أن ترد الأيمان على المدعين فإن لم يحلفوا فلا شئ على المدعى عليهم وإن حلفوا وجبت العقوبة على المدعى عليهم (1) .   (1) شرح الزرقانى ج8 ص55 , 59 , نهاية المحتاج ج7 ص373 , الشرح الكبير ج10 ص40 , 47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 أما أبو حنيفة فيرى أن القسامة على أهل المحلة ابتداء فإن حلفوا وجبت عليهم الدية. وعنده أن الحلف لحقن دماء الحالفين لأن حفظ المحلة عليهم ونفع ولاية التصرف فى المحلة عائد عليهم وهم المتهمون فى القتل فكانت القسامة والدية عليهم (1) . ويحلف خمسون رجلاً من أهل المحلة: والله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً، وإذا امتنع المدعى عليهم من الحلف حُبسوا حتى يحلفوا ولكن امتناعهم لا يسقط عنهم الدية (2) . 463- من يدخل القسامة؟: يدخل القسامة على رأى الشافعى كل الورثة سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ فتدخل الزوجة والبنت كما يدخل الابن والزوج، وتوزع الأيمان عليهم بحسب نصيبهم من الإرث. ويجبر الكسر؛ لأن اليمين الواحدة لا تتبعض فلو حلف تسعة وأربعون حلف كلٌّ يمينًا، وفى قول: يحلف كل من الورثة خمسين يمينًا؛ لأن العدد يعتبر كيمين واحدة، فإذا ردت اليمين على المدعى عليهم حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا كاملة (3) . 464- وفى مذهب أحمد روايتان: أولاهما: أن الأيمان تختص بالورثة دون غيرهم وبالرجال دون النساء، فعلى هذه الرواية تقسم الأيمان بين الورثة من الرجال سواء كانوا من ذوى الفروض أو العصبات كل على قدر إرثه إن كانوا جماعة وإن كانوا واحدًا حلفها وحده، فإن انقسمت الأيمان فى حالة التعدد من غير كسر مثل أن يرث المقتول ابنان أو أخ وزوج حلف كل منهما خمسًا وعشرين يمينًا، وإن كان فيها كسر جبر عليهم مثل زوج وابن، يحلف الزوج ثلاثة عشر يمينًا والابن ثمانية وثلاثين يمينًا؛ لأن تكميل الخمسين واجب لا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم لها عن البعض الآخر فوجب تكميل اليمين المنكسرة فى حق كل واحد منهم، وهناك من يرى أن يحلف كل وارث   (1) بدائع الصنائع ج7 ص291. (2) بدائع الصنائع ج7 ص289. (3) نهاية المحتاج ج7 ص379. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 خمسين يمينًا سواء تساووا فى الميراث أو اختلفوا فيه؛ لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة فى سائر الدعاوى (1) . ثانيتهما: أن يحلف من العصبة خمسون رجلاً كل واحد يمينًا، وهو قول لمالك، وعلى هذا يحلف الوارثون من العصبة فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبة الأقرب منهم فالأقرب (2) . 465- ويفرق مالك بين حالة الخطأ وحالة العمد، ففى الخطأ يحلف أيمان القسامة من يرث القتيل وإن كان واحدًا ولو أخًا لأم أو امرأة، وإذا تعدد الورثة حلف كل وارث على قدر إرثه، فإن كان وارث واحد حلف الأيمان كلها وتجبر اليمين عند الكسر على أكثر كسرها، ولو كان صاحب الكسر الأكبر أقل نصيبًا فى الميراث كابن وبنت، على الابن ثلاثة وثلاثون يمينًا وثلث، وعلى البنت ستة عشر يمينًا وثلثان، فتحلف البنت سبعة عشر يمينًا والابن ثلاثة وثلاثين. أما فى العمد فلا يحلف إلا العصبة، ولا يحلف فى العمد أقل من رجلين من العصبة، ويستوى أن يكون العاصب وارثًا أم غير وارث، ولا تحلف النساء فى العمد، وللولى إن كان واحدًا أن يستعين بعاصبه هو ولو لم يكن عاصبًا للقتيل، كامرأة مقتولة ليس لها عصبة غير ابنها وله إخوة من أبيه فله أن يستعين بهم (3) . 466- ويرى أبو حنيفة أن القسامة لا تجب إلا على الرجال، فلا تجب على صبى ولا مجنون ولو وجد القتيل فى ملك أحدهما؛ لأن القسامة يمين وهما ليسا من أهل اليمين؛ ولأن القسامة تجب على من هو من أهل النصرة وهما ليسا من أهل النصرة، فلا تجب القسامة عليهما وتجب على عاقلتهما إذا وجد القتيل فى ملكهما. وهناك خلاف فى هذا المذهب على ما إذا كانا يدخلان فى الدية مع العاقلة، فيرى   (1) الشرح الكبير ج10 ص32 , 33. (2) الشرح الكبير ج10 ص40 , 41. (3) شرح الزرقانى ج8 ص56 , 57. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 البعض دخولهما لأنهما مؤخذان بالضمان المالى لأفعالهما وهو الرأى الراجح، أما إذا وجد القتيل فى ملك غيرهما فمن المتفق عليه أنهما لا يدخلان فى الدية مع العاقلة. ولا تدخل المرأة فى القسامة والدية فى قتيل وجد فى غير ملكها لأن وجوبها بطريق النصرة وهى ليست من أهلها وإن وجد فى دارها أو فى قرية لها لا تكون بها غيرها فعليها القسامة فتستحلف ويكرر عليها الأيمان على الرأى الراجح (1) . ما يجب بالقسامة: تجب الدية بالقسامة فى الخطأ وشبه العمد، وهذا متفق عليه. 467- أما فى العمد فيرى مالك أن القصاص يجب بالقسامة إذا كان المتهم واحدًا، فإذا تعدد المتهمون وجب القصاص بالقسامة على واحد فقط يعينه أولياء القتيل ويحلفون أنه مات من ضربه أو جرحه. ويرى ابن رشد أنه يجوز أن يقتص بالقسامة من أكثر من واحد إذا اختلفت الأفعال التى أدت للقتل، كمن يمسك شخصًا لآخر ثم يقول له اضربه اقتله فيفعل ذلك، فإنهما يقتلان معًا بالقسامة لأن الموت كان نتيجة لفعليهما معًا، ولأن فعل كل منهما يخالف فعل الآخر، أما إذا اتحد الفعل المؤدى للموت فلا يقتص إلا من واحد (2) . 468- ورأى الشافعى القديم جواز القصاص بالقسامة فى العمد، ولكن رأيه الآخر أنه لا تجب بالقسامة إلا الدية سواء كان الفعل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ. والرأى الأول قائم على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تستحقون دم صاحبكم". والرأى الثانى قائم على قوله: "إما أن يدوا صاحبكم، أو يؤذنوا بحرب من الله ورسوله" وقد فسرت عبارة "دم صاحبكم" بـ "بدل دم صاحبكم" جمعًا بين الدليلين (3) . ويرى أبو حنيفة أنه لا يجب بعد القسامة إلا الدية فى العمد وغير العمد؛ لأن القسامة جعلت لحقن دماء المدعى عليهم.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص294 , 295. (2) شرح الزرقانى ج8 ص59. (3) نهاية المحتاج ج7 ص375. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 ويرى أحمد أن يقتص بالقسامة فى العمد ما لم يمنع مانع شرعى من القصاص (1) . 469- شروط القسامة: لا تجب القسامة إلا إذا توفرت الشروط الآتية: أولاً: أن يثبت أن الموت نتيجة القتل، فإن كان مات حتف أنفه أو تساوى احتمال موته حتف أنفه بموته قتيلاً فلا قسامة. ثانيًا: أن يكون لَوْث، طبقًا لما يراه مالك والشافعى وأحمد، وقد بينا معنى اللوث، فإن لم يكن لوث فلا قسامة. أما أبو حنيفة فلا يشترط إلا أن توجد الجثة فى محلة وبها أثر القتل، فإن لم توجد الجثة على هذا الوجه فلا قسامة وإذا أصيب القتيل بجرح فى محلة فحمل إلى أهله فمات من تلك الجراحة وجبت القسامة والدية عند أبى حنيفة ولا يراهما أبو يوسف بحجة أنه أصيب فى المحلة ولم يمت فيها ولا قسامة فيما دون النفس. ويرد عليه بأن القتيل مات من الجراحة فكأن الجراحة وقعت قتلاً من وقت حدوثها. ويشترط الحنفيون أن يوجد من القتيل أكثر بدنه، فإن وجد ففيه القسامة والدية لأن للأكثر حكم الكل فيسمى قتيلاً، أما إذا وجد عضو من أعضائه فلا قسامة فيه ولا دية، وإن وجد النصف الذى فيه الرأس ففيه القسامة والدية وإن وجد الرأس وحده فلا قسامه ولا دية. ولا يشترط بقية الأئمة هذه الشروط، فالقسامة واجبة سواء وجد كل الجثة أو وجد بعضها (2) . ثالثًا: أن لا يعلم القاتل عند أبى حنيفة فإن علم فلا قسامة. أما عند مالك والشافعى وأحمد فيشترط للقسامة تعين القاتل، فإذا لم يعين فلا قسامة. رابعًا: أن يتقدم أولياء القتيل بدعواهم أى باتهامهم لأن الدعوى لا تسمح على غير معين عند مالك والشافعى وأحمد ولأن القسامة يمين مقصود به دفع التهمة عند أبى حنيفة ولا تجب اليمين قبل الدعوى والاتهام (3) .   (1) الشرح الكبير ج10 ص39. (2) بدائع الصنائع ج7 ص288. (3) شرح الزرقانى ج8 ص50 , نهاية المحتاج ج7 ص369 , الغقناع ج4 ص240 , بدائع الصنائع ج7 ص288. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 خامسًا: أن لا يكون هناك ادعاء متناقض، كأن يكون الأولياء قد ادعوا على شخص أنه انفرد بالقتل ثم عادوا فادعوا على آخر بأنه هو القاتل، أو كأن يدعى بعض الأولياء أن شخصًا هو القاتل ويبرئه البعض الآخر من القتل أو يدعوه على غيره، فإذا وجد مثل هذا التناقض امتنعت القسامة ويشترط فى التناقض المانع من القسامة أن يكون بحيث ينفى الاتهام عن المتهم. سادسًا: أن ينكر المدعى عليهم القتل فإذا اعترفوا به فلا قسامة. سابعًا: ويشترط أبو حنيفة المطالبة بالقسامة لأن اليمين حق المدعى وحق المدعى يوفى بطلبه، ولذا كان الاختيار فى حال القسامة لأولياء القتيل لأن الأيمان حقهم فلهم أن يختاروا من يتهمونه ويستحلفون صالحى العشيرة الذين يعلمون أنهم لا يحلفون كذبًا، وإذا طولب من عليه القسامة باليمين فنكل عنها حبس حتى يحلف أو يقر لأن اليمين حق مقصود لنفسه وليست وسيلة للدية إذ الدية مفروضة مع اليمين ويرى أبو يوسف أن لا يحبس الناكل ويحكم بالدية (1) . ثامنًا: ويشترط أبو حنيفة أيضًا أن يكون الموضع الذى وجدت فيه الجثة ملكًا لأحد وفى يد أحد، فإن لم يكن ملكًا لأحد ولا فى يد أحد فلا قسامة ولا دية. وإذا وجدت الجثة فى مكان عام التصرف فيه للعامة لا لجماعة محصورين لا تجب القسامة وتجب الدية من بيت المال. 470- وإذا وجد القتيل فى فلاة لا يملكها أحد فلا قسامة ولا دية إذا كانت بحيث لا يسمع الصوت فى القرى والأمصار القريبة، فإذا كانت بحيث يسمع الصوت وجبت القسامة والدية على أقرب المواضع إلى الجثة، وإذا كان المكان قريبًا من عدة قرى وجبت القسامة والدية على أقرب القرى إليه، وإن كان قريبًا من المصر فعلى أقرب أحياء المصر الدية والقسامة، وهذا هو قضاء عمر بن الخطاب.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص289. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 ولا قسامة فى قتيل وجد فى المسجد الجامع ولا فى الشوارع أو الجسور أو الطرق العامة؛ لأنها محلات عامة بمعنى الكلمة، وتجب الدية فى بيت المال. ولا قسامة فى قتيل وجد فى سوق عامة إلا إذا كان السوق ملكًا لفرد أو أفراد أو مستأجرًا لهم. واختلف فى قتيل السجن، فرأى البعض القسامة على المسجونين ولم يرها البعض الآخر (1) . * * * القرائن 471- عرفت الشريعة الإسلامية القرائن من يوم وجودها، وبنى الكثير من أحكام الشريعة على أساس القرائن، من ذلك أن القسامة تقوم على أساس القرينة سواء وجد لوث أم لم يوجد فأساس القسامة عند من لا يشترطون اللوث وجود القتيل فى محلة المتهمين؛ لأن وجود الجثة فى المحلة قرينة على أن القتل حدث من سكانها، وأساس القسامة عند من يشترطون اللوث أن وجود اللوث قرينة على أن المتهم هو القاتل، فرؤية شخص على مقربة من الجثة ملوث بالدماء لوث وهذا اللوث قرينة على أن هذا الشخص هو القاتل. ومن ذلك النكول عند من يرى أن النكول يؤدى إلى إثبات الجريمة، فإن ثبوت الجريمة عن طريق النكول إثبات بالقرينة إذ النكول ليس إلا قرينة على أن الاتهام الموجه للمتهم صحيح (2) . ومن ذلك إثبات الزنا بالحمل فإن الحمل قرينة على الوطء المحرم المعتبر زنا (3) . ومن ذلك إثبات شرب الخمر بانبعاث رائحتها من فم المتهم، فإن ثبوت الجريمة أساسه القرينة المستفادة من انبعاث رائحة الخمر من فم المتهم والتى تفيد أنه شرب الخمر (4) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص289 , 290. (2) نهاية المحتاج ج7 ص 376، المغنى ج10 ص 6، شرح الزرقانى ج8 ص107، طرق الإثبات الشرعية ص 438 وما بعدها. (3) شرح الزرقانى ج8 ص 81، المغنى ج10ص 192. (4) المغنى ج10 ص322، شرح الزرقانى ج8 ص 113، الطرق الحكمية ص6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 ومن ذلك ثبوت السرقة على من يوجد فى حيازته المال المسروق، وأساس الثبوت هنا هو القرينة المستفادة من وجود المال فى حيازة المتهم والتى تدل غالبًا على أنه هو الذى سرقه (1) . ومن ذلك جواز دفع اللقطة لمن يصفها بمميزاتها، وكذلك الوديعة والمسروقات، ما دام صاحب اللقطة أو الوديعة أو المال المسروق مجهولًا، وأساس هذا الحكم القرينة المستفادة من بيان صفات ومميزات الشىء والتى تدل على أن من وصفه هو صاحبه (2) . وليس يخلو مذهب فقهى من المذاهب الإسلامية من الاعتماد على القرائن فى استنباط الأحكام الفرعية، كما أن كثيرًا من الأحكام الأساسية أقامتها الشريعة على أساس القرائن، كقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الولد للفراش"، فإن قيام الزوجية جعل دليلًا لإثبات الدعاوى الجنائية والمدنية ولهم فى ذلك آثار مشهورة (3) . وبالرغم من إقامة كثير من أحكام الشريعة على القرائن واتجاه القضاء من وقت نزول الشريعة إلى الأخذ بالقرائن، فإن جمهور الفقهاء لا يسلم باعتبار القرائن دليلًا. عامًا من أدلة الإثبات فى الجرائم اللهم إلا فيما نص عليه بنص خاص كالقسامة، ولعل عذرهم فى ذلك أن القرائن فى أغلب الأحوال قرائن غير قاطعة وأنها تحمل أكثر من وجه، فإذا اعتمد عليها كدليل لإثبات الجريمة فقد اعتمد على دليل مشكوك فيه لا يمكن التسليم مقدمًا بصحته. أما أقلية الفقهاء فيرون الأخذ بالقرائن فى إثبات الجرائم مع الاعتدال، ومن   (1) الطرق الحكمية ص 6. (2) طرق الإثبات الشرعية ص 518. (3) طرق الإثبات الشرعية ص 63 - 66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 هؤلاء ابن القيم فإنه يرى أن الحاكم إذا أهمل الحكم بالقرائن أضاع حقًا كثيرًا وأقام باطلًا كبيرًا، وأنه إن توسع وجعل معوله عليها دون الأوضاع الشرعية وقع فى أنواع من الظلم والفساد (1) . * * * النكول عن اليمين وردها 472 - اختلف الفقهاء فى اعتبار النكول عن اليمين طريقًا من طرق الإثبات، فرأى بعضهم أن المدعى إذا لم يقم بينة على ما ادعاه ولم يقر المدعى عليه كان على المدعى عليه أ، يحلف على نفى المدعى به، فإن نكل عن الحلف قضى للمدعى بما يدعيه بنكول المدعى عليه، وهذا هو رأى أبى حنيفة والمشهور من مذهب أحمد. ورأى البعض أن نكول المدعى عليه لا يكفى وحده لثبوت المدعى به، بل ترد اليمين على المدعى فإن حلف اليمين المردودة قضى له بما يدعيه، وهذا هو مذهب مالك والشافعى، وقد صوبه أحمد فقال: ما هو ببعيد يحلف ويستحق، وعلى هذا لا تكون الدعوى ثابتة بالنكول وإنما باليمين المردودة (2) . 473 - واختلف الفقهاء بعد ذلك فيما إذا كان يمكن الحكم بالنكول واليمين المردودة فى الجرائم، فرأى مالك أنه لا يجوز الحكم باليمين المردودة فى الجرائم سواء كانت حدودًا أو قصاصًا أو تعازير، وسواء أوجبت عقوبة بدنية أو عقوبة مالية، وعلى هذا فإذا لم تكن بينة ونكل المتهم عن الحلف فلا ترد اليمين على المدعى لأن حلفها ليس له أثر (3) . 474 - ويرى الشافعى: أنه يحكم باليمين المردودة فى الجرائم المتعلقة بحقوق الآدميين كالقتل والضرب والشتم، سواء كانت العقوبة قصاصًا أو دية أو تعزيرًا، وكذلك فى جرائم التعازير المتعلقة بالأمور العامة كطرح الحجارة فى الطريق   (1) الطرق الحكمية ص 3، 4.. (2) المغنى ج12 ص124، الطرق الحكمية ص 84 وما بعدها، طرق الإثبات الشرعية ص 438، 459 أسنى المطالب ج4 ص 404 وما بعدها، تبصرة الحكام ج1 ص 169.. (3) تبصرة الحكام ج1 ص 174 وما بعدها.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وإفساد الآبار، أما فى جرائم الحدود فالقاعدة ألا يحكم فيها باليمين المردودة إلا فى بعض الحالات الاستثنائية (1) . 475 - ويرى أبو حنيفة وصاحباه: القضاء بالنكول ولكنهم اختلفوا فى تفسير النكول، فقال أبو حنيفة: إنه بذل من جهة المدعى عليه، وقال الصاحبان: إنه قرار، وقد أدى هذا الخلاف إلى اختلافهم فى بعض المسائل، ويمكن تلخيص رأى الأحناف فيما يختص بالقضاء بالنكول فى الجرائم فيما يأتى: 1 - فى جرائم الحدود واللعان لا يستحلف المنكر اتفاقًا: إما على قوله فلان البذل لا يصح فى شئ منها، وإما على قولهما فلان النكول إقرار فيه شبهة لأنه هو فى نفسه سكوت أو تصريح بالامتناع عن اليمين والحدود تدرأ بالشبهات، واللعان فى معنى الحد لأنه قائم مقام حد القذف فى حق الزوج وقائم مقام حد الزنا فى حق المرأة. 2 - فىجرائم القصاص والدية: إذا كانت الجريمة توجب المال صح التحليف فيها والحكم بالنكول اتفاقًا، لأن الأموال يصح فيها البذل من جهة، وتثبت بالإقرار مطلقًا من جهة أخرى. أما إذا كانت الجريمة مما يوجب القصاص استحلف المدعى عليه باتفاق غير انه إذا نكل عن اليمين لزمه القصاص على قول أبى حنيفة لأنه بذل، وبذل ما دون النفس جائز كما تقدم. وأما على قولهما فلا قصاص بل يلزمه الأرش لأن النكول عندهما إقرار فيه شبهة. 476 - وإذا كان النكول عن اليمين فى الجناية على النفس حبس حتى يحلف أو يقر على قول أبى حنيفة لتعذر القضاء بالنكول، إذ النفس لا يصح فيها البذل. وعلى قولهما يحكم عليه بالدية بنكوله لأن النكول إقرار فيه شبهة (2) . 3 - فى جرائم التعازير: يصح طبقًا لرأى الصاحبين الحكم فيها بالنكول   (1) أسنى المطالب ج4 ص 403، 406 ونفس المرجع ص 104، المغنى ج 10 ص 7. (2) طرق الإثبات الشرعية ص 438، 443.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 لأن النكول إقرار لا شبهة فيه فى التعازير إذ الإقرار فيها لا يجوز العدول عنه، ويصح طبقًا لرأى أبى حنيفة الحكم فى هذه الجرائم بالنكول إذا أوجبت عقوبة مالية لأن المال مما يصح بذله، أما إذا أوجبت عقوبة بدنية فلا يصح الحكم بالنكول، وهذا هو قياس رأى أبى حنيفة وصاحبيه. وفى مذهب أحمد رأيان: أولهما: أنه لا يقضى بالنكول إلا فى المال، فأما غير المال وما لا يقصد به المال فلا يقضى فيه بالنكول (1) . ومقتضى هذا الرأى لا يحكم بالنكول فى جرائم الحدود ولا فى جرائم التعازير التى توجب المال، ويحكم فى جرائم القصاص والدية بالنكول على أن تكون العقوبة مالية. والرأى الثانى: يرى الحكم بالقصاص على الناكل إذا كان القصاص فيما دون النفس (2) . * * * الباب الثانى فى الحدود مسائل عامة عن الحدود 477 - تعريف الحد: الحد لغة: هو المنع، واصطلاحًا: هو العقوبة المقدرة حقًا لله تعالى (3) . ويطلق لفظ الحد عادة على جرائم الحدود وعلى عقوباتها، فيقال: ارتكب الجانى حدًا ويقال: عقوبته حد، وإذا أطلق لفظ الحد على الجريمة فإنما يقصد تعريف الجريمة بعقوبتها، أى بأنها جريمة ذات عقوبة مقدرة شرعًا، فتسمية الجريمة بالحد تسمية مجازية. ويرى بعض الفقهاء أن الحد هو العقوبة المقدرة شرعًا (4) .   (1) المغنى ج 12ص 126.. (2) نفس المراجع السابقة، والإقناع ج4 ص 453. (3) شرح فتح القدير ج4 ص 113، شرح الزرقانى ج8 ص 115، الإقناع ج 4 ص 244، شرح الأزهار ج4 ص 333، المحلى لابن حزم ج 11 ص 118.. (4) شرح فتح القدير ج4 ص113. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 ويدخل تحت الحد بهذا المعنى جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية؛ لأن عقوباتها جميعًا مقدرة شرعًا. والمشهور هو تخصيص لفظ الحد لجرائم الحدود وعقوباتها دون غيرها (1) . وتعريف عقوبة الحد بأنها العقوبة المقدرة حقًا لله تعالى يؤدى إلى هذا التخصيص، وبهذا العريف تخرج العقوبات المقررة لجرائم القصاص والدية، لأن هذه العقوبات وإن كانت مقدرة شرعًا إلا أنها مقررة حقًا للأفراد، كذلك تخرج عقوبات جرائم التعازير لأنها جميعًا عقوبات غير مقدرة. ومعنى أن العقوبة مقدرة أن الشارع عين نوعها وحدد مقدارها ولم يترك اختيارها أو تقديرها لولى الأمر أو القاضى. ومعنى أن العقوبة مقررة حقًا لله تعالى أنها مقررة لصالح الجماعة وحماية نظامها، والفقهاء حينما ينسبون العقوبة لله جل شأنه ويقولون إنها حق لله يعنون بذلك أنها لا تقبل الإسقاط لا من الأفراد ولا من الجماعة. وتعتبر العقوبة حقًا لله تعالى كلما استوجبتها المصلحة العامة، وهى دفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة لهم، فكل جريمة يرجع فسادها إلى العامة وتعود منفعة عقوبتها إليهم تعتبر العقوبة المقررة عليها حقًا لله، تأكيدًا لتحصيل المنفعة ودفع المضرة والفساد، لأن اعتبار العقوبة لله يؤدى إلى عدم إسقاطها بإسقاط الأفراد والجماعة لها (2) . 478 - الحد والجناية: ويعبر بعض الفقهاء عن جريمة الحد بلفظ الجناية، ويكتبون عن جرائم الحدود تحت عنوان الجنايات (3) . والجناية لغة: اسم لما يجنيه المرء من شر وما اكتسبه. وفى الاصطلاح الفقهى: اسم لفعل محرم شرعًا. ولفظ الجناية مرادف اصطلاحًا للفظ الجريمة، ولما كانت الحدود جرائم فقد صح أن   (1) نفس المرجع السابق.. (2) شرح فتح القدير ج4 ص112، 113، بدائع الصنائع ج7 ص 56. (3) المحلى لابن حزم ج11 ص118، 373. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 تسمى بالجنايات، ولا يغير من ذلك أن عقوباتها مقدرة؛ لأن تسمية الجريمة بالحد إنما هى تسمية مجازية، كما قلنا من قبل. ويبقى بعد ذلك أن نعرف أنه إذا كان كل حد جناية، فإن كل جناية ليست حدًا؛ لأن من الجنايات جرائم التعازير وعقوباتها غير مقدرة، وإذا لم تكن عقوبة الجريمة مقدرة فالجريمة ليست حدًا بل إنها لا تكون حدًا إلا إذا كانت عقوبتها مقررة حقًا لله تعالى على الرأى المشهور. 479 - جرائم الحدود: جرائم الحدود سبع وهى: (1) الزنا. (2) القذف. (3) الشرب. (4) السرقة. (5) الحرابة أو المحاربة. (6) البغى (7) الردة. وهذا ما يراه جمهور الفقهاء، ولكن ابن حزم يخرج البغى من جرائم الحدود ويدخل جريمة جحد العارية (1) . وسنخصص لكل جريمة من هذه الجرائم كتابًا، أما جريمة جحد العارية فسنتناولها أثناء الكلام على جريمة السرقة، إذ أن ما يعتبره ابن حزم جحدًا للعارية يعتبره جمهور الفقهاء سرقة. * * *   (1) المغنى ج 10ص 140، المهذب ج ص 198، شرح فتح القدير ج4 ص 137. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 الكتاب الأول الزنا تمهيد: 480 - الزنا فى الشريعة والقانون: تختلف جريمة الزنا فى الشريعة الإسلامية عنها فى القوانين الوضعية، فالشريعة الإسلامية تعتبر كل وطء محرم زنًا وتعاقب عليه سواء حدث من متزوج أو غير متزوج، أما القوانين الوضعية فلا تعتبر كل وطء محرم زنًا، وأغلبها يعاقب بصفة خاصة على الزنا الحاصل من الزوجين فقط كالقانون المصرى والقانون الفرنسى، ولا تعتبر ما عدا ذلك زنًا وإنما تعتبره وقاعًا أو هتك عرض. ولا يعاقب القانون المصرى على الوقاع إلا فى حالة الاغتصاب، فإن كان بالتراضى فلا عقاب عليه ما لم يكن الرضا معيبًا. ويعتبر القانون المصرى الرضا معيبًا إذا لم يبلغ المفعول به ثمانية عشر عامًا كاملة - ولو وقت الجريمة بناء على طلبه هو - فإن بلغها اعتبر رضاه صحيحًا، والعقوبة فى حالة الرضا العيب بسيطة لأن الفعل يعتبر جنحة. ويدخل اللواط فى هتك العرض طبقًا لقانون العقوبات المصرى سواء لاط الفاعل بامرأة وبرجل. ويعاقب القانون المصرى الرجل والمرأة معًا فى حالة الزنا، أما فى الوقاع وهتك العرض فلا يعاقب القانون إلا طرفًا واحدًا هو الفاعل سواء أتى المفعول به فى القبل أو فى الدبر، وعلة ذلك أن القانون يبيح الفعل طالما كان مصحوبًا برضاء المفعول به، فإن كان رضاه منعدمًا أو معيبًا اعتبر مجنيًا عليه لا جانيًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 481 - أساس عقوبة الزنا فى الشريعة والقانون: وتعاقب الشريعة الإسلامية على الزنا باعتباره ماسًا بكيان الجماعة وسلامتها، إذ أنه اعتداء شديد على نظام الأسرة، والأسرة هى الأساس الذى تقوم عليه الجماعة، ولأن فى إباحة الزنا إشاعة للفاحشة وهذا يؤدى إلى هدم الأسرة ثم إلى فساد المجتمع وانحلاله، والشريعة تحرص أشد الحرص على بقاء الجماعة متماسكة قوية. أما العقوبة فى القوانين الوضعية فأساسها أن الزنا من الأمور الشخصية التى تمس علاقات الأفراد ولا تمس صالح الجماعة، فى معنى للعقوبة عليه ما دام عن تراضٍ إلا إذا كان أحد الطرفين زوجًا ففى هذه الحالة يعاقب على الفعل صيانة لحرمة الزوجية. 482 - الواقع يشهد للشريعة: ولعل ما حدث فى أوربا والبلاد الغربية عامة يؤيد نظرية الشريعة، فقد تحللت الجماعات الأوربية وتصدعت وحدتهم وذهب ريحها وما لذلك من سبب إلا شيوع الفاحشة والفساد الخلقى والإباحية التى لا تعرف حدًا تنتهى إليه، وما أشاع الفاحشة وأفسد الأخلاق ونشر الإباحية إلا إباحة الزنا وترك الأفراد لشهواتهم واعتبار الزنا من الأمور الشخصية التى لا تمس صالح الجماعة. ولعل أشد ما تواجهه البلاد غير الإسلامية اليوم من أزمات اجتماعيه وسياسية يرجع إلى إباحة الزنا، فقد قل النسل فى بعض الدول قلة ظاهرة تنذر بفناء هذه الدول أو توقف نموها، وترجع قلة النسل أولا وأخيرًا إلى امتناع الكثيرين عن الزواج، وإلى العقم الذى انتشر بين الأزواج. ولا يمتنع الرجل عن الزواج إلا لأنه يستطيع أن ينال من المرأة ما يشاء فى غير حاجة إلى الزواج، ولأنه لا يثق فى أن المرأة ستكون له وحده بعد الزواج، وقد اعتاد أن يجدها مشاعًا بينه وبين الغير قبل الزواج. والمرأة التى كانت أمنيتها الأولى الزواج، ووظيفتها التى خلقت من أجلها إدارة البيت وتربية الأولاد، هذه المرأة أصبحت فى كثير من الأحوال تنفر من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 الزواج ولا ترضى أن تستأسر لرجل تنال ما عنده، بينما هى تستطيع أن تنال ما عند عشرات الرجال دون أن تثقل نفسها بالقيود والأغلال. وقد أدى شيوع الزنا إلى مقاومة الحمل من جهة وانتشار الأمراض السرية من جهة أخرى، وإذا كانت مقاومة الحمل تؤدى فى كثير من الأحوال إلى عقم النساء، فإن انتشار الأمراض السرية يؤدى فى الغالب إلى عقم الرجال والنساء على السواء. وكانت المرأة تعيش فى كنف الرجل فى ظل الزواج، فلما أضرب الرجال عن الزواج كان لابد للمرأة من أن تعيش، فاضطرت إلى مزاحمة الرجل فى ميدان العمل لتنال قوتها، فأدى هذا إلى تفشى البطالة وشيوع المبادئ الهدامة وألقى بشعوب أوربا فى بحر لجى يزخر بالفوضى والاضطراب. ويستطيع الإنسان أن يرتب على هذه المفاسد الاجتماعية نتائجها الخطيرة دون أن يخطئ الحساب، ولو تدبر هذه النتائج القائلون بأن الزنا علاقة شخصية لعلموا أن الزنا من أخطر الجرائم الاجتماعية، وأن مصلحة الجماعة تقتضى تحريمه فى كل الصور، والمعاقبة عليه أشد العقاب، وعلى هذا الأساس حرمت الشريعة الإسلامية الزنا لتتجنب الوصول إلى تلك النتائج المخيفة، وقررت أشد العقوبات للزناة حتى أنها اعتبرت من يزنى بعد إحصانه غير صالح للبقاء لأنه مثل سئ وليس للمثل السئ فى الشريعة حق البقاء. ولقد كانت البلاد الإسلامية على العموم أكثر البلاد إقبالا على الزواج وبعدًا عن الإباحية، ولكن إباحة الزنا فيها على الطريقة الأوربية نقل إليها نفس الأمراض التى يشكو منها المجتمع الأوربى، فقد أصبح الرجال يعرضون عن الزواج لأنهم ينالون حاجتهم من المرأة دون زواج، وبدأت المرأة لا تهتم بالاتصال بالرجل كزوج لأنها تستطيع أن تتصل به كما تشاء من غير طريق الزواج، وقد صحب الإعراض عن الزواج قلة النسل والعقم وتفشى الأمراض السرية، وبدأ النساء يتطلعن إلى مساواتهن بالرجال، ويزاحمنهم فى شتى الأعمال، وانحط مستوى الأخلاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 والآداب العامة، وغاض الحياء من الوجوه والنفوس، ولا علاج لهذا كله إلا بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكامها ونبذ القوانين الوضعية والمبادئ الواهية التى تقوم عليها. * * * الفصل الأول أركان جريمة الزنا 483 - تعريف الزنا: يعرف الزنا عند المالكيين بأنه: وطء مكلف فرج آدمى لا ملك له فيه باتفاق تعمدًا (1) . ويعرفه الحنفيون بأنه: وطء الرجل المرأة فى القبل فى غير الملك وشبهه الملك (2) . ويعرفه الشافعيون بأنه: إيلاج الذكر بفرج محرم لعينه خال من الشبهة مشتهًى طبعا (3) . ويعرفه الحنابلة بأنه: فعل الفاحشة فى قبل أو دبر (4) . ويعرفه الظاهريون بأنه: وطء من لا يحل النظر إلى مجردها مع العلم بالتحريم أو هو وطء محرمة العين (5) . ويعرفه الزيديون بأنه: إيلاج فرج فى فرج حى محرم قبل أو دبر بلا شبهة (6) . 484 - أركان جريمة الزنا: ظاهر مما سبق أن الفقهاء يختلفون فى تعريف الزنا، ولكنهم مع هذا الاختلاف يتفقون فى أن الزنا هو الوطء المحرم المتعمد، ومؤدى هذا أنهم متفقون على أن لجريمة الزنا ركنين: أولهما: الوطء المحرم، وثانيهما: تعمد الوطء؛ أو القصد الجنائى.   (1) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج 8 ص 74، 75، مواهب الجليل ج6 ص 290، حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج4 ص313. (2) شرح فتح القدير ج4 ص 138، الزيلعى ج3 ص163، البحر الرائق ج5 ص 3، بدائع الصنائع ج7 ص 33.. (3) نهاية المحتاج ج7 ص402، أسنى المطالب ج4 ص 125، المهذب ج2 ص 283، شرح البجيرمى على المنهج ج4 ص 209. (4) الإقناع ج4 ص250، المغنى والشرح الكبير ج10 ص151. (5) المحلى لابن حزم ج11 ص 229، 256. (6) شرح الأزهار ج4 ص336. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وسنتناول أثناء الكلام على هذين الركنين وجوه الخلاف بين الفقهاء. الركن الأول: الوطء المحرم 485 - الوطء المعتبر زنا: هو الوطء فى الفرج، بحيث يكون الذكر فى الفرج كالميل فى المكحلة والرشاء فى البئر، ويكفى لاعتبار الوطء زنا أن تغيب الحشفة على الأقل فى الفرج أو مثلها إن لم يكن للذكر حشفة، ولا يشترط على الرأى الراجح أن يكون الذكر منتشرًا. وإدخال الحشفة أو قدرها يعتبر زنا ولو دخل الذكر فى هواء الفرج ولم يمس جدره، كما أنه يعتبر زنا سواء حدث إنزال أم لم يحدث. ويعتبر الوطء زنا ولو كان هناك حائل بين الذكر والفرج مادام هذا الحائل خفيفًا لا يمنع الحس واللذة (1) . والقاعدة أن الوطء المحرم المعتبر زنا هو الذى يحدث فى غير ملك، فكل وطء من هذا القبيل زنا عقوبته الحد ما لم يكن هناك مانع شرعى من هذه العقوبة. أما إذا حدث الوطء أثناء قيام الملك فلا يعتبر الفعل زنا ولو كان الوطء محرمًا، لأن التحريم فى هذه الحالة عارض، فوطء الرجل زوجته الحائض أو النفساء أو الصائمة أو المحرمة أو التى ظاهر منها أو آلى منها - كل ذلك محرم ولكنه لا يعتبر زنا (2) .   (1) راجع فى كل ما سبق: شرح الزرقانى ج8 ص 74، شرح فتح القدير ج4 ص 115، حاشية ابن عابدين ج 3 ص194، أسنى المطالب ج 4 ص 125، نهاية المحتاج ج7 ص 402، المغنى والشرح الكبير ج10 ص 151، الإقناع ج 4 ص 253، المحلى ج11 ص 229، 391، شرح الأزهار ج4 ص336. (2) شرح الزرقانى ج8 ص 79، شرح فتح القدير ج4 ص 140، حاشية اين عابدين ج3 ص 294، أسنى المطالب ج5 ص126، نهاية المحتاج ج7 ص 101 المغنى والشرح الكبير ج10 ص 151، بدائع الصنائع ج7 ص 35، المحلى ج 11 ص255، 256، شرح الأزهار ج4 ص336. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 وإذا لم يكن الوطء على الصفة السابقة فلا يعتبر زنا يعاقب عليه شرعًا بالحد وإنما يعتبر معصية يعاقب عليها بعقوبة تعزيرية ملائمة (1) ، ولو كانت المعصية فى ذاتها مقدمة من مقدمات الزنا كالمفاخذة؛ أى الإيلاج بين الفخذين، وكالمباشرة خارج الفرج، كذلك يعزر على كل ما يعتبر معصية ولو لم يكن وطئًا فى ذاته كالقبلة والعناق والخلوة بالمرأة الأجنبية والنوم معها فى فراش واحد؛ لأن هذه جميعًا أفعال محرمة كما أنها من مقدمات الزنا (2) . والأصل فى الشريعة الإسلامية أن من حرمت مباشرته فى الفرج لاعتباره زانيًا أو لائطًا حرمت مباشرته فيما دون الفرج باعتباره عاصيًا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجهم حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ اْلعَادُونَ} (المؤمنون:5 - 7) . وتحرم الشريعة الخلوة بامرأة غير محرم، وذلك لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخلون أحدكم بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان" (3) ، فإذا حرمت الخلوة بها فلأن تحرم المباشرة أولى. ومن القواعد الأصولية فى الشريعة: قاعدة أن ما أدى للحرام فهو حرام، فإن فعل الجانى ما لا يوجب الحد فعقوبته التعزير سواء كان ما فعله وطئًا لم تتم شروطه كالإيلاج بين الفخذين أو فى الفم، أو كان ما فعله ليس وطئًا كالخلوة بالمرأة الأجنبية، وكالعناق والقبلة والنوم معها فى فراش واحد، لأن هذه جميعًا أفعال محرمة فضلا عن أنها من مقدمات الزنا وتؤدى إليه.   (1) راجع ما كتبناه عن المعاصى والحدود والتعازير فى الجزء الأول من التشريع الجنائى الإسلامى ص 67 وما بعدها وص 111 وما بعدها. (2) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج 4 ص313، شرح فتح القدير ج4 ص 150، أسنى المطالب ج4 ص125، الأحكام السلطانية للماوردى ص 206، الإقناع ج 4 ص253، المغنى والشرح الكبير ج 10 ص163، شرح الأزهار ج4 ص336، المحلى ج 11 ص229. (3) رواه أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وإذا استطعنا بتطبيق القواعد السابقة أن نعرف الأفعال المحرمة فمن السهل أن نعرف بعد ذلك ما يعتبر منها وطئًا وما يعتبر من هذا الوطء زنا. ويلاحظ أن الشريعة إذا كانت تفرق بين الوطء وما دونه وتعاقب على الأول بعقوبة الحد وعلى الثانى بعقوبة تعزيرية، فإن الشريعة مع هذا تعتبر الفعل فى الحالتين جريمة تامة، ولا تعتبر الوطء جريمة تامة وما دون الوطء شروعًا فى الجريمة كما هو الحال فى القوانين الوضعية (1) . 486 - الوطء فى الدبر: يستوى عند مالك والشافعى وأحمد والشيعة والزيدية أن يكون الوطء المحرم فى قبل أو دبر من أنثى أو رجل، ويشاركهم فى هذا الرأى محمد وأبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة (2) ، وحجتهم فى التسوية أن الوطء فى الدبر مشارك للزنا فى المعنى الذى يستدعى الحد وهو الوطء المحرم، فهو داخل تحت الزنا دلالة، فضلا عن أن القرآن سوى بينهما فقال جل شأنه والخطاب موجه لقوم لوط: {إِنَكُمْ لَتَأْتُونُ الْفَاحَشَةَ} [العنكبوت: 28] وقال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِجَالَ شَهْوَةً مّنَ دُونِ الّنِسَاءِ} [الأعراف: 81] وقال {وَاللاَّتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسّاَئِكُمْ} [النساء: 15] وقال: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوُهمَا} [النساء: 16] فجعل الوطء فى الدبر فاحشة، والوطء فى القبل فاحشة، فسمى أحدهما بما سمى به الآخر. روى أبو موسى الأشعرى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان" (3) .   (1) فصلنا الكلام على هذه الملاحظة فى الجزء الاول من التشريع الجنائى الإسلامى ص 296 - 300. (2) شرح الزرقانى ج8 ص 75، أسنى المطالب ج4 ص 126، المغنى ج 10ص 160، شرح الأزهار ج4 ص336، بدائع الصنائع ج 7 ص34شرح الزرقانى ج8 ص 75، أسنى المطالب ج4 ص 126، المغنى ج 10ص 160، شرح الأزهار ج4 ص336، بدائع الصنائع ج 7 ص34. (3) أخرجه البيهقى وفى إسناده محمد بن عبد الرحمن، وقال لا أعرفه، والحديث منكر بهذا الإسناد ورواه أبوالفتح الأزدى فى الضعفاء، والطبرانى فى الكبير من وجه آخر وفيه المفضل البجلى وهو مجهول، وأخرجه أبو داود الطيالسى فى مسنده عنه. يراجع فى كل ما سبق: نيل الأوطار ج7ص 30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 ويرى أبو حنيفة أن الوطء فى الدبر لا يعتبر زنا سواء أكان الموطوء ذكرًا أم أنثى، وحجته أن الإتيان فى القبل يسمى زنا والإتيان فى الدبر يسمى لواطًا، واختلاف الأسامى دليل على اختلاف المعانى، ولو كان اللواط زنا ما اختلف أصحاب الرسول فى شأنه، فضلا عن أن الزنا يؤدى إلى اشتباه الأنساب وتضييع الأولاد وليس الأمر كذلك فى اللواط، كما أن العقوبة تشرع دائمًا لما يغلب وجوده والزنا وحده هو الغالب لأن الشهوة المركبة فى الرجل والمرأة تدعو إ ليه، أما اللواط فليس فى طبيعة المحل ما يدعو إليه (1) . أما الظاهريون فلا يرون اللواط زنا وإنما يرونه معصية فيها التعزير، وحجتهم أن اللواط غير الزنا وأنه لم يرد نص ولا أثر صحيح يعطى اللواط حكم الزنا (2) . 487 - وطء الزوجة فى دبرها: ومن المتفق عليه أن إتيان الزوجة فى دبرها لا يعاقب عليه بعقوبة الحد؛ لأن الزوجة محل للوطء ولأن الرجل يملك وطء زوجته. ولكن الفقهاء اختلفوا فى تكييف الفعل، فيرى أحمد وأبو يوسف ومحمد صاحبًا أبى حنيفة أن الفعل زنًا يعاقب عليه أصلا بعقوبة الحد، ولكن هذه العقوبة تدرأ لشبهة الملك وللاختلاف فى حلية الفعل (3) . ومن ثم يعاقب على الفعل بعقوبة تعزيرية.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص43، شرح فتح القدير ج4 ص150. (2) المحلى ج11 ص380، 385. (3) يعتبر الفقهاء القائلون بالشبه أن الاختلاف على حل الفعل وحرمته يعتبر بذاته شبهة تدرأ الحد ويرجع الخلاف فى الحكم إلى اختلافهم فى تفسير قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222) نساؤكم حرث لكن فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين " [البقرة: 222، 223] فقد روى عن ابن عمر وعن الشافعى، وقيل إن الشافعى قال بذلك فى القديم، وبعض أصحاب مالك لا يرون عنه هذه الرواية، وقد أفتى متأخرو أصحابه بالتحريم، أما جمهور الفقهاء فيرون تحريم إتيان الزوجة فى الدبر مستدلين بنص القرآن وما ورد فى التحريم من أحاديث ضعيفة يقوى بعضها بعضًا، يراجع: نيل الأوطار ج6ص120 وما بعدها، المحلى ج69، 70. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 ويرى المالكيون والشافعيون والشيعة الزيدية أن الفعل لا يعتبر زنًا لأن الزوجة محل لوطء الزوج وللزوج أن يستمتع بها، ولكن المالكين والزيديين يرون أن الفعل مع ذلك محرم ويعاقب عليه بعقوبة تعزيرية، أما الشافعيون فلا يرون التعزير على الفعل إلا عند العودة له بعد نهى الحاكم عنه، فالجريمة عندهم جريمة اعتياد ولا تقع إلا بعد النهى عنها، فإذا لم يكن النهى فلا عقاب لأن الفعل قبل النهى مختلف فى إباحته، على أن بعضهم يرى العقوبة على تكرار الفعل ولا يصرح باشتراط النهى عن الفعل، ومعنى ذلك أن الفعل عندهم محرم لا شك فى تحريمه، فلا حاجة لأن ينهى عنه الحاكم. ويرى أبو حنيفة أن الفعل لا يعتبر زنًا للأسباب التى سبق بيانها، ولكنه معصية يعاقب عليها بالتعزير. وكذلك الأمر عند الظاهرين، فهم لا يعتبرون الإتيان فى الدبر بصفة عامة زنًا ولكنهم يرونه معصية يعزر عليها (1) . 488 - وطء الأموات: ووطء المرأة الأجنبية الميتة لا يعتبر زنًا عند أبى حنيفة، وكذلك استدخال المرأة ذكر الأجنبى الميت فى فرجها، وهذا القول رأى فى مذهب الشافعى وأحمد. والقائلون بذلك يوجبون التعزير فى الفعل، وحجتهم أن الوطء فى الميتة ومن الميت كلا وطء لأن عضو الميت مستهلك، ولأنه عمل تعافه النفس ولا يشتهى عادة، فلا حاجة إلى الزجر عن الفعل، والحد إنما يجب للزجر وعلى هذا الرأى الشيعة الزيدية (2) . والرأى الثانى فى مذهبى الشافعى وأحمد يقوم على أن الفعل يعتبر زنًا يجب فيه الحد إذا لم يكن بين زوجين لأنه وطء محرم بل هو أعظم من الزنا وأكثر   (1) يراجع فى كل ما سبق: مواهب الجليل ج6 ص291، شرح فتح القدير ج4 ص150، نهاية المحتاج ج7 ص404، أسنى المطالب ج4 ص126، المغنى ج 10ص 162، المحلى ج11 ص380 وج 10 ص 69، شرح الأزهار ج4 ص336. (2) شرح فتح القدير ج4 ص152، نهاية المحتاج ج7 ص405، المغنى ج10 ص152، شرح الأزهار ج4 ص336. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 إثمًا، حيث انضم إلى الفاحشة هتك حرمة الميت (1) . وأصول الظاهريين تقتضى أن يكون رأيهم متفقًا مع هذا الرأى. ويرى مالك أن من أتى ميتة فى قبلها أو دبرها حال كونها غير زوج له فإنه يعتبر زانيًا ويعاقب بعقوبة الزنا لالتذاذه بذلك الفعل، بخلاف من وطأ زوجته الميتة فإنه لا حد عليه، وبخلاف إدخال المرأة ذكر ميت غير زوج فى فرجها فإنها تعزر ولا تحد فيما يظهر لعدم اللذة (2) . 489 - وطء البهائم: ووطء البهائم والحيوانات على العموم لا يعتبر زنًا عند مالك وأبى حنيفة ولكنه معصية فيها التعزير، وفى حكمة أن تمكن المرأة من نفسها حيوانًا كقرد مثلا، ولا يرون الفعل زنا لأن اعتباره كذلك يوجب فيه عقوبة الحد وهى مشروعه للزجر وإنما يحتاج للزجر فيما طريقه منفتح سالك، وهذا ليس كذلك لأنه لا يرغب فيه العقلاء ولا السفهاء وإن اتفق لبعضهم ذلك لغلبة الشبق، فالفعل إذن لا يفتقر إلى الزاجر لزجر الطبع عنه (3) . وللشافعى وأحمد رأيان أرجحهما يتفق مع رأى أبى حنيفة ومالك، والرأى الثانى يعتبر الفعل زنًاَ ولكنه يعاقب عليه بالقتل فى كل الأحوال، وسند هذا الرأى ما وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" وهو حديث لا يصححه الكثيرون (4) . وبعض الشافعيين يعتبر الفعل زنًا قياسًا على إتيان الرجل والمرأة ويجعلون عقوبة المحصن الرجم وعقوبة غير المحصن الجلد والتغريب (5) . وهذا الذى يراه بعض الشافعيين هو الرأى الراجح فى مذهب الشيعة الزيدية وإن كان بعضهم يرى ما يراه مالك وأبو حنيفة (6) .   (1) نهاية المحتاج ج7 ص405، المغنى ج10ص 152. (2) شرح الزرقانى ج8 ص76. (3) شرح الزرقانى ج8 ص78، شرح فتح القدير ج4 ص152. (4) المغنى ج10 ص 163، نهاية المحتاج ج7 ص405، أسنى المطالب ج4 ص126. (5) نهاية المحتاج ج8 ص405. (6) شرح الأزهار ج4 ص336. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 والشافعيون والحنابلة يرون أن المرأة التى تمكن من نفسها حيوانًا عليها ما على واطئ البهيمة (1) . على أن بعض الشافعيين يصرحون بأن ليس على المرأة إلا التعزير (2) . ويرى الحنابلة فى كل الأحوال قتل البهيمة المأتية سواء عزر الواطئ أو قتل، ومن يرى من الشافعيين قتل الواطئ يرى أيضًا قتل البهيمة، أما الزيديون فيكرهون لحمها وشرب لبنها ولا يرون قتلها (3) . ويرى الظاهريون أن واطئ البهيمة ليس زانيًا، لأن فعله ليس زنًا، ولم يرد نص بإلحاقه بالزنا، ولكن لما كان وطء البهيمة محرمًا أصلا ففاعل ذلك فاعل منكر مرتكب معصية عقوبتها التعزير وليس فى فعله ما يبيح قتل البهيمة أو ذبحها (4) . 490 - وطء الصغير والمجنون امرأة أجنبية: لا حد على الصغير أو المجنون فى وطء المرأة الأجنبية لعدم أهليتها، إذ الصغير لا يؤخذ بالحد إلا بعد بلوغه، والمجنون لا يؤخذ به إلا فى حال إفاقته؛ على أن الصغير يعزر على الفعل إن كان مميزًا. وقد اختلف فى حكم المرأة التى يطؤها الصبى أو المجنون، فرأى أبو حنيفة أن المرأة التى يطؤها الصبى أو المجنون لا حد عليها ولو كانت مطاوعة وإنما عليها التعزير، وحجته أن الحد يجب على المرأة ليس لأنها زانية فإن فعل الزنا لا يتحقق منها إذ هى موطوءة وليست بواطئة، وتسميتها فى القرآن زانية مجاز لا حقيقة إنما يجب عليها الحد لكونها مزنيًا بها، ولما كان فعل الصبى والمجنون لا يعتبر زنًا عند أبى حنيفة فلا تكون مزنيًا بها (5) .   (1) الإقناع ج4 ص253، أسنى المطالب ج4 ص126. (2) أسنى المطالب ج4 ص126، نهاية المحتاج ج7 ص404. (3) أسنى المطالب ج4 ص125، المغنى ج10 ص164، شرح الأزهار ج4 ص336، 337. (4) المحلى ج11 ص386 - 388. (5) شرح فتح القدير ج4 ص156، بدائع الصنائع ج7 ص34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 ويرى مالك رأى أبى حنيفة فى حالة ما إذا كان الواطئ صبيًا، ولكنه يرى حد المرأة إذا طاوعت المجنون، وحجته فى هذه التفرقة أن المرأة تنال لذة من المجنون ولا تنال من الصبى (1) . أما الشافعى فيرى أن تُحَدَّ المرأة فى الحالتين ولو لم يعاقب الصبى والمجنون، لأن العقاب امتنع عن الصبى والمجنون لمعنى يخصه هو، فليس للمرأة - وقد ارتكبت الجريمة - أن تستفيد من ظروف شريكها الخاصة، وعلى هذا الرأى الظاهريون والزيديون (2) . ويرى زفر من أصحاب أبى حنيفة رأى الشافعى، وهو رواية عن أبى يوسف وحجتهما أن كلًا من الزانى والزانية مؤاخذ بفعله، وقد فعلت المرأة ما هى به زانية لأن حقيقة زناها انقضاء شهوتها بآلته وقد وجد ذلك (3) . وفى مذهب أحمد رأيان أرجحهما يتفق مع مذهب الشافعى، والثانى يفرق - كمذهب مالك - بين ما إذا كان الواطئ صبيًا أو مجنونًا، ويرى أصحاب هذا الرأى الثانى أن تحد المرأة إذا طاوعت المجنون ولا تحد إذا وطئها صبى لم يبلغ سنة عشر سنوات، فإذا بلغ هذه السن حدت. ويؤخذ على هذا الرأى أنه قائم على تحديد السن، والتحديد إنما يكون بالتوقيف أى بنص، ولا توقيف فى هذا الأمر (4) . 491 - وطء العاقل البالغ صغيرة أو مجنونة: واختلف أيضًا فى وطء العاقل البالغ لصغيرة أو مجنونة، فيرى مالك أن الواطئ يُحدُّ لإتيان المجنونة الكبيرة، ويحد كذلك لإتيان الصغيرة مجنونة أو غير مجنونة كلما أمكنه وطؤها ولو كان الوطء غير ممكن لغيره، فإذا لم يكن وطء الصغيرة ممكنًا للواطئ فلا حد وإنما يعزر على الفعل (5) .   (1) شرح الزرقانى ج8 ص78. (2) أسنى المطالب ج4 ص128، المحلى ج11 ص146، شرح الأزهار ج4 ص338. (3) شرح فتح القدير ج4 ص156. (4) المغنى ج10 ص152. (5) شرح الزرقانى ج8 ص76. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 ويرى أبو حنيفة وأصحابه أن العاقل البالغ إذا زنا بمجنونة أو صغيرة يجامع مثلها وجب عليه الحد لأن فعله زنًا، ولأن العذر من جانبها لا يوجب سقوط الحد من جانبه (1) . ويختلف مذهب مالك عن مذهب أبى حنيفة فى أن مالكًا يجعل الحد منوطًا بإمكان الجانى وطء الصغيرة ولو أن مثلها لا يجامع، أو لو كان الوطء غير ممكن لغيره، بينما يجعله أبو حنيفة منوطًا بصلاحية الصغيرة للجماع بصفة عامة. ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع مذهب أبى حنيفة فى هذه الناحية (2) . ويرى الشافعيون حد العاقل البالغ إذا زنًا بمجنونة أو صغيرة مادام الوطء قد حدث فعلًا ولا يقيدون العقوبة بأى قيد (3) . وعلى هذا مذهب الظاهريين (4) . وفى مذهب أحمد رأيان يتفق أحدهما مع مذهب الشافعى، أما الثانى فيخالفه فى حالة وطء الصغيرة مجنونة أو غير مجنونة، ويفرق أصحاب هذا الرأى بين ما إذا كانت الصغيرة يمكن وطؤها أو لا يمكن، فإن كان الوطء ممكنًا فهو زنًا يوجب الحد لأنها كالكبيرة فى ذلك، وإن كانت الصغيرة لا تصلح للوطء فلا حد على من وطئها وإنما عليه التعزير، وبعض أصحاب هذا الرأى يحدد سن الصغيرة التى لا تصلح للوطء بتسع سنوات؛ وحجته أن الصغيرة لا تشتهى فى هذه السن وأن وطأها يشبه ما لو أدخل إصبعه فى فرجها (5) . والقائلون بحد المرأة إذا وطئها صبى أو مجنون وبحد الرجل إذا وطئ مجنونة أو صبية يتفق رأيهم مع نص المادة (39) من قانون العقوبات المصرى، وهى تقضى بأن الظروف الخاصة بأحد الفاعلين لا يتعدى أثرها إلى غيره منهم. على أن القائلين بالرأى المضاد لا يخالفون هذا المبدأ لذاته، ولكنهم يطبقون   (1) شرح فتح القدير ج4 ص156. (2) شرح الأزهار ج2 ص338. (3) أسنى المطالب ج2 ص128. (4) المحلى ج10 ص471، ج11 ص256. (5) المغنى ج10 ص152. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 قاعدة درء الحدود والشبهات، إذ يرون أن الجريمة لا تقع إلا من اثنين بطبيعة الحال ولا يمكن أن تتم إلا باجتماعهما، ويرون فى إعفاء أحدهما من العقوبة شبهة فى حق الآخر تدعو إلى درء الحد عنه والاكتفاء بتعزيره. 492 - الوطء بشبهة: لا يصحح الظاهرين ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "ادرءوا الحدود بالشبهات" (1) . ولذلك فهم يرون أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة ولا أن تقام بشبهة وإنما هو الحق الله تعالى ولا مزيد، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" (2) . وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة (3) . لقول الله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة: 229] . أما باقى الفقهاء فيصححون حديث: "ادرءوا الحدود بالشبهات" وهم متفقون على أن الوطء بشبهة لا حد فيه، ولكنهم اختلفوا فيما يعتبر شبهة، وأساس الخلاف فى اعتبار الشبهة هو الاختلاف فى التقدير، فيرى البعض أن حالة معينة تعتبر شبهة، ويرى البعض أنها لا تعتبر كذلك.   (1) حديث "ادرءوا الحدود بالشبهات" روى عن على مرفوعًا وفيه المختار بن نافع، قال عنه البخارى إنه منكر الحديث، وأصح ما جاء فيه حديث سفيان الثورى عن عاصم عن أبى وائل عن عبد الله بن مسعود قال: "ادرءوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم"، وروى عن عقبة بن عامر ومعاذ أيضًا موقوفًا وروى منقطعًا وموقوفًا على عمر، ورواه ابن حزم فى كتاب الإيصال عن عمر موقوفًا عليه، وروى من طرق آخر أثبتها مؤلف نيل الأوطار ج7 ص19، ويعضد ذلك الحديث المروى عن أبى هريرة: "ادرءوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا" رواه ابن ماجه، والحديث المروى عن عائشة: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة" رواه الترمذى والحاكم والبيهقى. (2) رواه البخارى ومسلم وغيرهما. (3) المحلى ج11 ص153. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 والشبهة هى ما يشبه الثابت وليس بثابت، وقد اهتم الحنفيون والشافعيون بتقسيم الشبهة وتنويعها بينما لم يهتم غيرهم من الفقهاء بهذا الأمر، واكتفوا بإيراد ما يعتبر شبهة وعلة اعتباره شبهة، على أن الشبهات عند الجميع لا يمكن حصرها لأن أساسها فى الغالب الوقائع وهى لا تحصر. ويقسم الشافعيون الشبهة ثلاثة أقسام (1) . الأول: شبهة فى المحل: كوطء الزوجة الحائض أو الصائمة أو إتيان الزوجة فى دبرها؛ فالشبهة هنا قائمة فى محل الفعل المحرم؛ لأن المحل مملوك للزوج ومن حقه أن يباشر الزوجة، وإذا لم يكن له أن يباشرها وهى حائض أو صائمة أو أن يأتيها فى الدبر، إلا أن ملك الزوج للمحل وحقه عليه يورث شبهة، وقيام هذه الشبهة يقتضى درء الحد، سواء اعتقد الفاعل بحل الفعل أو بحرمته؛ لأن أساس الشبهة ليس الاعتقاد والظن وإنما أساسها محل الفعل وتسلط الفاعل شرعًا عليه. الثانى: شبهة فى الفاعل: كمن يطأ امرأة زُفَّت إليه على أنها زوجته ثم تبين أنها ليست زوجته، وأساس الشبهة ظن الفاعل واعتقاده بحيث يأتى الفعل وهو يعتقد أنه لا يأتى محرمًا، فقيام هذا الظن عند الفاعل يورث شبهة يترتب عليها درء الحد، أما إذا أتى الفاعل وهو عالم بأنه محرم فلا شبهة. الثالث: شبهة فى الجهة أو الطريق: ويقصد من هذا التعبير الاشتباه فى حل الفعل وحرمته، وأساس هذه الشبهة الاختلاف بين الفقهاء على الفعل، فكل ما اختلفوا على حله أو جوازه كان الاختلاف فيه شبهة يدرأ بها الحد، فمثلا يجيز أبو حنيفة النكاح بلا ولى، ويجيز مالك النكاح بلا شهود، ويجيز ابن عباس نكاح المتعة، ولا يجيز جمهور الفقهاء هذه الأنكحة، ونتيجة هذا الخلاف أن لا حد على الوطء فى تلك الأنكحة المختلف عليها، لأن الخلاف يقوم شبهة تدرأ الحد   (1) أسنى المطالب ج4 ص126. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 ولو كان الفاعل يعتقد بحرمة الفعل؛ لأن هذا الاعتقاد فى ذاته ليس له أثر مادام الفقهاء مختلفين على الحل والحرمة. ويقسم الحنفيون الشبهة قسمين: الأول: الشبهة فى الفعل (1) : يسمونها شبهة اشتباه، وشبهة مشابهة. وهى شبهة وفى حق من أشتبه عليه الفعل دون من لم يشتبه عليه. وتثبيت هذه الشبهة فى حق من اشتبه عليه الحل والحرمة، ولم يكن ثمة دليل سمعى يقيد الحل بل ظن غير الدليل دليلًا، كمن يطأ زوجته المطلقة ثلاثًا أو بائنًا على مال فى عدتها، وتعليل ذلك أن النكاح إذا كان قد زال فى حق الحل أصلًا لوجود المبطل لحل المحلية وهو الطلاق، فإن النكاح قد بقى فى حق الفراش والحرمة على الأزواج فقط، ومثل هذا الوطء حرام فهو زنًا يوجب الحد، إلا إذا ادعى الواطئ الاشتباه وظن الحل، لأنه بنى ظنه على نوع دليل وهو بقاء النكاح فى حق الفراش وحرمة الأزواج فظن أنه بقى فى حق الحل أيضاص، وهذا وإن لم يصلح دليلًا على الحقيقة لكنه لما ظنه دليلًا اعتبر فى حقه درءًا لما يندرئ بالشبهات. ويشترط لقيام الشبهة فى الفعل أن لا يكون هناك دليل على التحريم أصلا، وأن يعتقد الجانى الحل، فإذا كان هناك دليل على التحريم، أو لم يكن الاعتقاد بالحل ثابتا فلا شبهة أصلا، وإذا ثبت أن الجانى كان يعلم بحرمة الفعل وجب عليه الحد (2) . الثانى: الشبهة فى المحل: ويسمونها الشبهة الحكمية، أو شبهة الملك. وتقوم   (1) يحصر الحنفيون شبهة الفعل فى جريمة الزنا فى ثمانية مواضع، منها وطء المطلقة ثلاثًا فى العدة أو بائنًا على مال وكذا المختلعة، أما بقية المواضع فخاصة بالجوارى ولا محل للتعرض لها بعد إبطال الرق. ... وبقية الفقهاء يخالفون الحنفيين فى ذلك ولا يرون شبهة فى هذه المواضع الثمانية، ومن ثم فهم لا يعترفون بشبهة الفعل فى جريمة الزنا. راجع: شرح الزرقانى ج8 ص77، مواهب الجليل ج6 ص292، أسنى المطالب ح4 ص127، المغنى ج10 ص154. (2) شرح فتح القدير ج4 ص140، 144، بدائع الصنائع ج7 ص36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 هذه الشبهة على الاشتباه فى حكم الشرع بحل المحل، فيشترط فى هذه الشبهة أن تكون ناشئة عن حكم من أحكام الشريعة، وهى تتحقق بقيام دليل شرعى ينفى الحرمة، ولا عبرة بظن الفاعل، فيستوى أن يعتقد الفاعل الحل أو يعلم الحرمة، لأن الشبهة ثابتة بقيام الدليل الشرعى لا بالعلم وعدمه. ويحصر الحنفيون شبهة المحل فى جريمة الزنا فى ستة مواضع أحدها وطء المطلقة طلاقًا بائنًا بالكنايات مجتهد فيه لاختلاف الصحابة رضى الله عنهم، والمعروف عن عمر أنه كان يقول فى الكنايات إنها رواجع، والطلاق الرجعى لا يزيل الملك، فاختلافهم أورث شبهة (1) . والشافعيون والحنابلة من رأى الحنفيين فى وطء المطلقة بائنًا بالكنايات، أما المالكيون فيرى بعضهم الرأى السابق، بينما يرى البعض الآخر أن لا شبهة فى هذا الوطء (2) . قسم ثالث: ويرى أبو حنيفة أن الشبهة تثبت أيضًا بالعقد ولو كان العقد متفقًا على تحريمه وكان الفاعل عالمًا بالتحريم وبالاتفاق عليه كما هو الحال فى نكاح المحارم. فالشبهة إذن على رأى أبى حنيفة ثلاثة أنواع: شبهة فى الفعل، وشبهة فى المحل، وشبهة فى العقد. ولكن أصحاب أبى حنيفة لا يقولون بشبهة العقد، وهم فى ذلك متفقون مع ما يراه جمهور الفقهاء (3) .   (1) نفس المرجعين السابقين. (2) مواهب الجليل ج6 ص292، أسنى المطالب ج4 ص127، المغنى ج10 ص154، الإقناع ج4 ص254. (3) شرح فتح القدير ج4 ص143. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 493 - وطء المحارم: ووطء المحارم زنًا يجب فيه الحد، فإذا تزوج شخص ذات محرم منه فالنكاح باطل اتفاقًا، فإن وطئها فعليه الحد فى قول مالك والشافعى وأحمد والظاهريين والزيديين، وفى قول أبى يوسف، ومحمد من أصحاب أبى حنيفة. ولكن أبا حنيفة نفسه يرى أن من تزوج امرأة لا يحل له نكاحها كأمه أو ابنته أو عمته أو خالته فوطئها لم يجب عليه الحد ولو اعترف بأنه يعلم بأنها محرمة عليه، وإنما يعاقب على فعله بعقوبة تعزيرية. ويسقط أبو حنيفة الحد فى هذه الحالة للشبهة، وبيان الشبهة أنه قد وجدت صورة المبيح وهو عقد النكاح الذى هو سبب للإباحة، فإذا لم يثبت حكمه وهو الإباحة بقيت صورته شبهة دارئة للحد الذى يندرئ بالشبهات. ويُرد على أبى حنيفة بأن الوطء حدث فى فرج مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك، والواطئ من أهل الحد عالم بالتحريم فلا عذر له ويلزمه الحد أما العقد فهو باطل ولا أثر له مطلقًا فهو كأن لم يوجد وصورة المبيح إنما تكون شبهة إذا كانت صحيحة (1) . 494 - الوطء فى نكاح باطل: وكل نكاح مجمع على بطلانه - كنكاح خامسة أو متزوجة أو معتدة أو نكاح المطلقة ثلاثًا قبل أن تنكح زوجًا آخر - إذا وطئ فيه فهو زنًا موجب للحد، ولا عبرة بوجود العقد ولا أثر له، وبذلك قال مالك والشافعى وأحمد والظاهريون والزيديون، وهو ما قال به أبو يوسف ومحمد صاحبًا أبى حنيفة (2) .   (1) يراجع فى كل ما سبق: شرح الزرقانى ج8 ص76، شرح فتح القدير ج4 ص147، أسنى المطالب ج4 ص127، المغنى ج10 ص152، المحلى ج11 ص256، شرح الأزهار ج4 ص348. (2) شرح الزرقانى ج8 ص76، 77، شرح فتح القدير ج4 ص143، 144، أسنى المطالب ج4 ص127، المغنى ج10 ص154، المحلى ج11 ص246، 248، شرح الأزهار ج4 ص348. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 ولكن أبا حنيفة يرى أن وجود العقد شبهة تدرأ الحد، ومن ثم فعقوبة الوطء عنده هى التعزير (1) . 495 - الوطء فى نكاح مختلف عليه: لا يجب الحد فى النكاح مختلف على صحته، كنكاح المتعة والشغار والتحليل والنكاح بلا ولى أو شهود ونكاح الأخت فى عدة أختها البائن ونكاح الخامسة فى عدة الرابعة البائن، لأن الاختلاف بين الفقهاء على صحة النكاح يعتبر شبهة فى الوطء والحدود تدرأ بالشبهات، إلا عند الظاهريين ولذلك فهم يرون الحد فى كل وطء قام على نكاح باطل أو فاسد (2) . 496 - الوطء بالإكراه: من المتفق عليه أنه لا حد على مكرهة على زنًا لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمَ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّمَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ولقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عفى لأمتى عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (3) . ولأن الإكراه يعتبر شبهة عند القائلين بالشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. ومن المتفق عليه أنه لا فرق بين الإكراه بالإلجاء وهو أن يغلبها على نفسها، وبين الإكراه بالتهديد، فقد استكرهت امرأة على عهد الرسول فدرأ عنها الحد (4) . وأتى عمر بإماء من إماء الإمارة استكرههن غلمان من غلمان الإمارة فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء، كما جاءته امرأة استسقت راعيًا فأبى أن يسقيها إلا   (1) شرح فتح القدير ج4 ص143، 148. (2) . شرح الزرقانى ج8 ص75، شرح فتح القدير ج4 ص148، أسنى المطالب ج4 ص126، المغنى ج10 ص155، المحلى ج11 ص249، شرح الأزهار ج4 ص348. (3) المحلى ج7 ص334. (4) رواه الترمذى، وراجع التاج ج3 ص36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 أن تمكنه من نفسها ففعلت، فقال لعلى: ما ترى فيها؟ قال: إنها مضطرة، فأعطاها شيئًا وتركها. وإذا أُكره الرجل على الزنا فعليه الحد، وهو الرأى المرجوح فى مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية، وحجة أصحاب هذا الرأى أن المرأة تكره لأن وظيفتها التمكين أما الرجل فلا يكره ما دام ينتشر، لأن الانتشار دليل الطواعية، ومقتضى هذا الرأى أنه إذا لم يكن انتشار وثبت الإكراه فلا حد. والرأى الراجح فى هذه المذاهب جميعًا أنه لا حد على الرجل إذا أُكره لأن الإكراه يتساوى أمامه الرجل والمرأة، فإذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه، ولأن الانتشار قد يكون طبعًا وهو دليل على الفحولية أكثر مما هو دليل على الطواعية، ولأن القول بأن التخويف ينافى الانتشار غير صحيح، لأن المكره يخوف عند ترك الفعل لا عند إتيانه والفعل فى ذاته لا يخاف منه، وفضلا عن ذلك فإن الإكراه شبهة والحدود تدرأ عندهم بالشبهات (1) ويرى الظاهرين أنه لا حد على مكرهة أو مكره، فلو أمسكت امرأة حتى زُنى بها، أو أُمسك رجل فأُدخل إحليله فى فرج امرأة فلا شىء عليه ولا عليها سواء انتشر أو لم ينتشر، أمنى أو لم يمن، أنزلت هى أم لم تنزل، لأنهما لم يفعلا شيئًا أصلا، الانتشار والإمناء فعل الطبيعة الذى خلقه الله تعالى فى المرء أحب أم كره لا اختيار له فى ذلك (2) . وإذا مكنت المرأة مكرها من نفسها دون أن يقع عليها إكراه فعليها الحد دونه، لأن فعلها زنًا، ولأنها ليست مكرهة، ولا عبرة بإعفاء الرجل من العقاب   (1) شرح الزرقانى ج8 ص80، شرح فتح القدير ج4 ص157، 166، أسنى المطالب ج4 ص127، المهذب ج2 ص284، المغنى ج10 ص158، شرح الأزهار ج4 ص348. (2) المحلى ج8 ص331. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 فإنه أعفى لإكراهه على الفعل، وليس لها أن تستفيد من ظرف الرجل وهو ظرف خاص به، وهذا مسلم به فى جميع المذاهب. 497 - الخطأ فى الوطء: الخطأ إما خطأ فى وطء مباح، وإما خطأ فى وطء محرم. فالخطأ فى الوطء المباح لا عقوبة عليه لانعدام القصد، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ثم هو بعد ذلك شبهة تدرأ الحد عند القائلين بالشبهة، فمن زفت إليه غير زوجته وقيل هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد عليه باتفاق، وكذلك الحكم إذا لم يقل له هذه زوجتك، أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته فوطئها، أو دعا زوجته فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها، لا حد عليه فى كل ذلك عند مالك والشافعى وأحمد والظاهريين والزيديين، وحجتهم أنه وطء اعتقد الفاعل إباحته بما يعذر مثله فيه، وأنه أشبه بوطء من زفت إليه غير زوجته. ولكن أبا حنيفة يرى الحد على من وجد امرأة فى فراشه فوطئها، لأن المسقط هو شبهة الحل، ولا شبهة هنا أصلا سوى أن وجدها على فراشه ومجرد وجود امرأة على فراشه لا يكون دليل الحل ليستند الظن إليه؛ هذا لأنه قد ينام على الفراش غير الزوجة من صديقاتها وقريباتها، فلم يستند الظن إلى ما يصلح دليل حل، وكذلك الحكم إذا كان أعمى، إلا إذا دعاها فأجابته أجنبية وقالت أنا زوجتك، وهذا إذا لم تطل الصحبة وتشابهت النغمات ولم يستطع التمييز. أما الخطأ فى الوطء المحرم فلا يعفى مع العقوبة وليس شبهة باتفاق، فمن دعا محرمة عليه فأجابته غيرها فوطئها يظنها المدعوة فعلية الحد، فإن دعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 محرمة عليه فأجابته زوجته فوطئها يظنها الأجنبية التى دعاها فلا حد عليه، لانتفاء حرمة الفرج لعينة، وإن أثم باعتبار ظنه (1) . 498 - الرضاء بالوطء: الرضاء بالوطء لا يعتبر شبهة باتفاق، فمن وطئ امرأة أجنبية أباحت نفسها له فهو زان، ولو كان ذلك بإذن وليها أو زوجها، لأن الزنا لا يستباح بالبذل والإباحة، وليس لأحد أن يحل ما حرم الله، فإن أحلت امرأة نفسها فإحلالها نفسها باطل وفعلها زنًا محض. ولو أن امرأة دلست نفسها أو غيرها لأجنبى فوطئها يظن أنها امرأته فلا حد على الرجل والمرأة الموطوءة زانية، أما المدلسة فلا تعتبر زانية وعليها التعزير (2) . 499 - الزواج اللاحق: والزواج اللاحق بالمزنى بها يعتبر شبهة تدرأ الحد فى رواية أبى يوسف عن أبى حنيفة، فمن زنا بامرأة ثم تزوجها لا يحد طبقًا لهذه الرواية لأن المرأة تصير مملوكة للزوج بالنكاح فى حق الاستمتاع فحصل الاستيفاء من محل مملوك فيصير شبهة تدرأ الحد. وفى رواية الحسن ومحمد أن الزواج العارض بعد الزنا لا يعتبر شبهة، لأن الوطء وقع زنًا محضًا لمصادفته محلا غير مملوك للواطئ، ولأن الزواج ليس له أثر رجعى فلا يمتد أثره لوقت الوطء. والرواية الأخيرة تتفق مع ما يراه جمهور الفقهاء، فهم يرون أن من زنًا بامرأة ثم تزوجها فلا أثر لزواجه على الجريمة التى ارتكبها ولا على العقوبة المقررة لها؛ لأن الحد قد وجب بالزنا السابق فلا يسقطه اللاحق (3) .   (1) شرح الزرقانى ج8 ص78، شرح فتح القدير ج4 ص147، نهاية المحتاج ج7 ص404، المغنى ج10 ص155، المحلى ج11 ص246، شرح الأزهار ج4 ص348. (2) شرح الزرقانى ج8 ص80، نهاية المحتاج ج7 ص406، المغنى ج10 ص156، المحلى ج11 ص246. (3) بدائع الصنائع ج7 ص62، شرح فتح القدير ج4 ص159، المغنى ج10 ص194، المحلى ج11 ص252. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 500 - وطء من وجب عليها القصاص: ومن وجب له القصاص على امرأة فوطئها وجب عليه الحد، ولا يعتبر استحقاقه القصاص عليها شبهة تدرأ الحد، لأن حق القصاص إذا أباح له قتلها فإنه لا يبيح له فرجها أو الاستمتاع بها (1) . 501 - المساحقة: وتسمى السحق والتدالك، وهى إتيان المرأة المرأة، والفعل متفق على تحريمه لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7] ولما كانت المرأة لا تحل لملك يمينها وكان منها ذا محرم، فإذا أباحت المرأة فرجها لغير زوجها من امرأة أو رجل فهى لم تحفظه وهى من العادين. ويروى عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فىهذا الباب قوله: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفض الرجل إلى الرجل فى ثوب واحد، ولا تفض المرأة إلى المرأة فى الثوب الواحد" (2) . وهذا النص صحيح فى تحريم السحاق لأنه إفضاء المرأة إلى المرأة. ويستدل البعض بما رواه أبو موسى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان" (3) . ومن المتفق عليه أن لا حد فى الفعل وأن عقوبته التعزير لأنه معصية لا حد فيها، وإذا كان حديث أبى موسى - على فرض صحته - قد وصف الفعل بأنه زنًا فإن ذلك لا يلحقه بالزنا المعاقب عليه بالحد، لأن السحاق مباشرة دون إيلاج   (1) المغنى ج10 ص195. (2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذى، وراجع: نيل الأوطار ج6 ص16. (3) نيل الأوطار ج7 ص30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 والزنا المعاقب عليه بالحد يقتضى الإيلاج، فكان السحاق مما يجب فيه التعزير لا الحد كما لو باشر الرجل والمرأة دون الفرج أى دون إيلاج (1) . 502 - الاستمناء: واستمناء الرجل بيد امرأة أجنبية لا يعتبر زنًا، وكذلك إدخال الرجل الأجنبى إصبعه فى فرج امرأة، ولكن كلا الفعلين معصية فيه التعزير على الرجل والمرأة سواء حدث إنزال أو لم يحدث. أما استمناء الرجل بيده - ويسمى بالخضخضة وجلد عميرة - فمختلف فيه فالمالكيون والشافعيون يحرمونه مستدلين على ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون5: 7] ، فالرجل المسلم مطالب بحفظ فرجه إلا على اثنين زوجه وملك يمينه، فإن التمس لفرجه منكحًا سوى زوجته وملك يمينه فهو من العادين؛ أى المجاوزين ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم، وعلى هذا مذهب الزيدين. ويحرم الحنفيون الاستمناء إذا كان لاستجلاب الشهوة، إما إذا غلبت الشهوة الرجل ولم يكن له زوجة ولا أمة فاستمنى بقصد تسكينها فالرجاء أنه لا وبال عليه، ويجب الاستمناء عندهم إذا خيف الوقوع فى الزنا بدونه. والحنابلة لا يرون شيئًا على من استمنى بيده خوفًا من الزنا أو خوفًا على بدنه أى صحته إذا لم يكن له زوجة أو أمة ولم يقدر على الزواج وإلا حرم الاستمناء. ويرى ابن حزم أن الاستمناء مكروه ولا إثم فيه لأن مس الرجل ذكره بشماله مباح بإجماع الأمة كلها، فإذا هو مباح فليس هنالك زيادة على المباح   (1) شرح الزرقانى ج8 ص78، شرح فتح القدير ج4 ص150، نهاية المحتاج ج7 ص404، المهذب ج2 ص286، المغنى ج10 ص162، المحلى ج11 ص390، شرح الأزهار ج4 ص336. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 إلا التعمد لنزول المنى فليس ذلك حرامًا أصلا لقول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، وليس هذا ما فصل لنا تحريمه فهو حلال لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] . ويقول ابن حزم: إنه يكره الاستمناء لأنه ليس من مكارم الأخلاق ولا من الفضائل. وروى لنا أن الناس تكلموا فى الاستمناء فكرهته طائفة وأباحته أخرى، وممن كرهه ابن عمر وعطاء وممن أباحه ابن عباس والحسن وبعض كبار التابعين، وقال الحسن: كانوا يفعلونه فى المغازى، وقال مجاهد: كان من مضى يأمرون شبابهم بالاستمناء يستعفون بذلك. وما قيل فى استمناء الرجل يقال عن المرأة إذا عرضت فرجها شيئًا دون أن تدخله حتى ينزل أو مست فرجها بشمالها حتى ينزل، والحكم فى ذلك هو حكم الاستمناء فى المذاهب المختلفة (1) . 503 - العجز عن ادعاء الشبهة: يرى أبو حنيفة أن عجز الجانى عن ادعاء الشبهة يعتبر بذاته شبهة دارئة للحد، فالزانى الأخرس والزانية لا يحدان ولو ثبت الزنا ضدهما بشهادة الشهود، لأنهما يعجزان عن ادعاء الشبهة، ومن المحتمل أن يدعياها لو استطاعا النطق، وكذلك الشأن فى المجنون الذى زنا حال إفاقته، بل يذهب أبو حنيفة إلى أن الأخرس لا يحد بإقراره إذا أقر كتابة أو إشارة، لأن الإقرار المعتبر عنده هو الإقرار بالخطاب والعبارة دون الكتابة والإشارة، فلو كتب الأخرس الإقرار فى كتاب أو أشار إشارة معلومة فإنه لا حد عليه، لأن الشرع   (1) راجع فى كل ما سبق: حاشية ابن عابدين [ج7 ص215] ، شرح فتح القدير [ج4 ص150] ، أسنى المطالب [ج4 ص125] ، المهذب [ج2 ص286] ، الأحكام السلطانية للماوردى [ص206] ، الإقناع [ج4 ص271] ، المحلى [ج11 ص293] ، شرح الأزهار [ج4 ص336 = =وج2 ص197] . وراجع أيضًا: تفسير ابن كثير [ج3 ص239] ، تفسير المحيط لأبى حيان [ج6 ص397] ، تفسير الآلوسى [ج5 ص486] ، تفسير روح البيان [ج4 ص61] ، تفسير القرطبى [ج12 ص105] ، تفسير الطبرى [ج18 ص6] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 علق وجوب الحد على البيان المتناهى، والبيان لا يتناهى إلا بالصريح وهو الخطاب والعبارة، ولا يتناهى بالكتابة والإشارة (1) . ويرى الزيديون ما يراه أبو حنيفة من أن الخرس والجنون شبهة تدرأ الحد، ولكنهم يرون أن إقرار الأخرس صحيح إذا فهمت إشارته أو كان إقراره كتابة (2) . وعند المالكين والشافعيين والحنابلة أن عجز الجانى عن ادعاء الشبهة لا يعتبر شبهة، ويقولون بحد الأخرس والمجنون إذا ثبت الزنا بالبينة، كذلك يقبلون إقرار الأخرس بالكتابة وإقراره بالإشارة كلما أمكن فهم إشارته دون شك فيها (3) . ويرى الظاهريون أنه إذا كانت البينة فلا معنى للإنكار ولا للإقرار (4) . وهم فوق هذا لا يعترفون بالشبهة ولا يرون درء الحدود بالشبهات، ومقتضى هذين المبدأين أن عجز الجانى عن ادعاء الشبهة لا أثر له على الحد. 504 - إنكار أحد الزانيين: يرى أبو حنيفة أن إنكار أحد الزانيين يعتبر شبهة إذا أقر الآخر ولم يكن دليل غير الإقرار، فلا يعاقب المنكر لأنه لا دليل عليه إلا إقرار المتهم الآخر والإقرار حجة قاصرة على المقر. ولا يحد المقر لأننا صدقنا المنكر فى إنكاره فصار المقر محكومًا بكذبه، وتعليل ذلك أن الحد انتفى فى حق المنكر بدليل موجب للنفى عنه فأورث شبهة الانتفاء فى حق المقر، إذ الزنا فعل واحد لا يقع إلا من شخصين فإن تمكنت فيه الشبهة نفذت إلى طرفيه، وهذا لأن المقر بالزنا ما أقر بالزنا مطلقًا وإنما أقر بالزنا مع آخر منكر فإذا درأ الشرع عن هذا الآخر عين ما أقر به المقر فيندرئ الفعل عن المقر ضرورة. ولكن أبا يوسف ومحمدًا يريان ما يراه مالك والشافعى وأحمد والزيديون   (1) بدائع الصنائع [ج7 ص50] ، شرح فتح القدير [ج4 ص117] . (2) شرح الأزهار [ج4 ص159، 350] . (3) نهاية المحتاج [ج7 ص410] ، تبصرة الحكام [ج2 ص71] ، المغنى [ج10 ص171] . (4) المحلى [ج8 ص250] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 من أن المقر يحد بإقراره، ولا يؤثر على عقوبته إنكار الطرف الآخر، لأن الإقرار حجة فى حق المقر، وعدم ثبوت الزنا فى حق المنكر لا يورث شبهة العدم فى حق المقر. أما الظاهريون فعندهم أن إنكار أحد الزانيين لا يؤثر على عقوبة المقر، لأنهم لا يسقطون الحد بالشبهة، ولأن القعدة عندهم أن من أقر إقرارًا تامًا بحق فى مال أو دم أو بشرة، وكان عاقلاً بالغًا غير مكره ولم يصل إقراره بما يفسده، فقد لزمه إقراره ولا رجوع له بعد ذلك، فإن رجع لم ينتفع برجوعه، وقد لزمه ما أقر به على نفسه من دم أو حد أو مال (1) . 505 - ادعاء أحد الطرفين الزوجية: وإذا أقر أحد الطرفين بالزنا فادعى الطرف الآخر الزوجية، فيرى أبو حنيفة وأحمد أن لا يحد منهما لأن دعوى النكاح تحتمل الصدق، وبتقدير صدق مدعى النكاح منهما يكون ادعاء النكاح شبهة، ويسقط الحد لاحتمال صدق دعوى النكاح. ويرى مالك والشافعى حد المقر ما لم يثبت قيام الزوجية، وأصول الظاهرين والزيديين تقتضى الأخذ بهذا الرأى (2) . وإذا ضبط شخص يطأ امرأة فادعى الرجل والمرأة الزوجية فالقول قولهما على ما يرى جمهور الفقهاء ما لم يشهد الشهود بزناهما، إلا أن مالكًا يوجب عليهما أن يثبتا الزوجية. فإذا شهد الشهود بزناهما فلا يسقط ادعاء الزوجية الحد إلا إذا أقاما البينة   (1) تبصرة الحكام [ج2 ص38] ، شرح فتح القدير [ج4 ص120، 158] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص168] ، المحلى [ج8 ص520 وج11 ص153] ، شرح الأزهار [ج4 ص348] . (2) شرح فتح القدير [ج4 ص158] ، المغنى [ج10 ص158] ، المرفقة [ج16 ص3، 41] ، أسنى المطالب <4 ص134] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 على النكاح؛ لأن الشهادة بالزنا تنفى كونهما زوجين فلا تبطل بمجرد قولهما، ويرى البعض إسقاط الحد إذا لم يعلم كونها أجنبية عنه لأن ما ادعياه محتمل فيكون ذلك شبهة (1) . ويرى ابن حزم التفريق بين ما إذا كانا غريبين أو معروفين، فإن كانا غريبين أو لا يعرفان فلا شئ عليهما، ولا يعرض لهما ولو قامت البينة على الوطء، ولا يكلفان إقامة البينة على النكاح. وإن كانت المرأة معروفة ومعروف أن لا زوج لها فإن أمكن ما يقول الواطئ فلا شئ عليهما، لأن أصل دمائهما وأبشارهما على التحريم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" (2) ، فلا يجوز إباحة ما حرم الله إلا بتعيين لا شك فيه، وإن كان كذبهما متيقنًا فالحد واجب عليهما (3) . 506 - بقاء البكارة: وعدم زوال البكارة يعتبر شبهة فى حق المشهود عليها بالزنا عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية، فإذا شهد أربعة على امرأة بالزنا، وشهد ثقات من النساء بأنها عذراء، فلا حد عليها للشبهة ولا حد على الشهود. ولكن مالكًا يرى الحد على المرأة، لأن المثبت مقدم عنده عن النافى، ولأن من المحتمل أن يحصل الوطء دون أن يترتب عليه إزالة البكارة، ولزفر صاحب أبى حنيفة رأى مماثل، هو أيضًا رأى الظاهريين، ولكن ابن حزم الظاهرى يرى أن الحكم يختلف بحسب ما يقرر النساء على صفة عذرتها، فإن قلن إنها عذرة يبطلها إيلاج الحشفة ولابد وأنه صفاق عند باب الفرج فقد أيقنا بكذب الشهود وأنهم وهموا، فلا يحل إنفاذ الحكم بشهادتهم، وإن قلن إنها عذرة واغلة فى داخل الفرج لا يبطلها إيلاج الحشفة فقد أمكن صدق الشهود إذ   (1) شرح الزرقانى [ج8 ص58] ، المغنى [ج10 ص162] . (2) رواه البخارى ومسلم وغيرهما. (3) المحلى [ج11 ص242، 244] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 بإيلاج الحشفة يجب الحد فيقام الحد عليها، لأنه لم نتيقن كذب الشهود ولا وهمهم (1) . وسواء سقط الحد بالشبهة أو باليقين من أن الإيلاج يزيل البكارة فإنه يبقى بعد ذلك أن الفعل الذى شهد عليه الشهود معصية يجب فيها التعزير. الركن الثانى: تعمد الوطء 507 - يشترط فى جريمة الزنا أن يتوفر لدى الزانى أو الزانية نية العمد أو القصد الجنائى: ويعتبر القصد الجنائى متوفرًا إذا ارتكب الزانى الفعل وهو عالم أنه يطأ امرأة محرمة عليه، أو إذا مكنت الزانية من نفسها وهى تعلم أن من يطأها محرم عليها. فإن أتى أحدهما الفعل متعمدًا وهو لا يعلم بالتحريم فلا حد عليه، كمن زُفَّت إليه غير زوجته فوطئها على أنها زوجته، أو كمن زفت إلى غير زوجها فمكنته من نفسها معتقدة أنه زوجها، وكمن وجد فى فراشه امرأة فوطئها معتقدًا أنه زوجها، وكمن تزوجت ولها زوج آخر كتمته عن زوجها الأخير فلا مسئولية على الزوج الأخير ما دام لا يعلم بالزواج الأول، وكمن مكنت مطلقها طلاقًا بائنًا من نفسها وهى لا تعلم أنه طلقها. ويشترط أن يعاصر القصد الجنائى إتيان الفعل المحرم، فمن قصد أن يزنى بامرأة ثم تصادف أن وجدها فى فراشه فأتاها على أنها امرأته لا يعتبر زانيًا لانعدام القصد الجنائى وقت الفعل، كذلك لو قصد إتيان امرأة أجنبية فأخطأها وأتى امرأته فإنه لا يعتبر زانيًا ولو كان يعتقد أنه يأتى الأجنبية لأن الوطء الذى حدث غير محرم. والأصل فى الشريعة الإسلامية أنه لا يحتج فى دار الإسلام بجهل الأحكام (2) ،   (1) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، حاشية ابن عابدين [ج3 ص220] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص189] ، المحلى [ج11 ص263] ، شرح الأزهار [ج4 ص350] . (2) راجع مبحث "أثر الجهل على المسئولية" فى الجزء الأول من كتاب التشريع الجنائى [ص373] وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 فلا يقبل من أحد أن يحتج بجهل تحريم الزنا، وبالتالى انعدم القصد الجنائى، ولكن الفقهاء يبيحون استثناء الاحتجاج بجهل الأحكام بمن لم تيسر له ظروفه أن يجهل التحريم، أو كمجنون أفاق وزنا قبل أن يعلم بتحريم الزنا، ففى هاتين الحالتين وأمثالهما يكون الجهل بالأحكام علة لانعدام القصد الجنائى (1) . وإذا ادعى الجانى الجهل بفساد نوع من أنواع النكاح أو ببطلانه مما يعتبر الوطء فيه زنًا، فيرى البعض أن لا يقبل احتجاجه بجهل الحكم، لأن فتح هذا الباب يؤدى إلى إسقاط الحد، ولأن المفروض فى كل فرد أن يعلم ما حرم عليه. ويرى البعض قبول الاحتجاج لأن معرفة الحكم تحتاج لفقه وتخفى على غير أهل العلم، وأصحاب هذا الرأى الأخير يجعلون الجهل بالحكم شبهة تدرأ الحد عن الجانى ولا تعفيه من عقوبة التعزير، ومما يؤثر من قضاء الصحابة فى هذا الباب أن امرأة تزوجت فى عدتها على عهد عمر رضى الله عنه، فلما عرض عليه الأمر قال: هل علمتما؟ فقالا: لا. فقال: لو علمتما لرجمتكما، فجلدهما أسواطًا ثم فرق بينهما. وأتت امرأة إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه فقالت: إن زوجى زنا بجاريتى. فقال الزوج: صدقت هى ومالها لى حل، فدرأ علىٌّ عن الرجل الحد بادعاء الجهالة (2) . ويلاحظ أن هناك فرقًا بين قبول الاحتجاج بجهل تحريم الزنا وقبول الاحتجاج بجهل فساد النكاح أو بطلانه، فقبول الاحتجاج الأول يؤدى إلى إعفاء الجانى من العقوبة على أساس انعدام قصده الجنائى، وقبول الاحتجاج الثانى عند من يقبله لا يعدم القصد الجنائى وإنما يقوم الاحتجاج شبهة تؤدى إلى درء الحد ولا تمنع من عقوبة التعزير. * * *   (1) شرح الزرقانى [ج8 ص78] ، شرح فتح القدير [ج4 ص116] ، المهذب [ج2 ص384] ، المغنى [ج10 ص156] ، المحلى [ج11 ص178] ، شرح الأزهار [ج4 ص348] . (2) شرح فتح القدير [ج4 ص147] ، المهذب [ج2 ص285] ، المغنى [ج10 ص156] ، المحلى [ج11 ص188] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 الفصل الثانى عقوبة الزنا 508 - التطور التشريعى لعقوبة الزنا: كانت عقوبة الزنا فى صدر الإسلام الحبس فى البيوت، والإيذاء بالتعيير أو الضرب، والأصل فى ذلك قوله تعالى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 15، 16] . وقد اختلف الفقهاء فى تفسير هذين النصين، فرأى لبعض أن النص الأول جاء بحكم النساء فقط وليس فيه حكم الرجال، وأن النص الثانى عطف على النص الأول عطفًا متصلاً بقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} ، فكان هذا حكمًا زائدًا للرجال مضافًا إلى ما قبله من حكم النساء، وعلى هذا فحكم النساء الزوانى كان الحبس فى البيوت حتى يَمُتْنَ أو يجعل الله لهن سبيلاً بحكم آخر، وحكم الرجال الزناة كان الأذى (1) . ورأى البعض أن النص الأول مبين لعقوبة الثيب، وأن النص يبين عقوبة البكر، وحجتهم أن المراد بقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: من الآية15] الثيب؛ لأن قوله من نسائكم إضافة زوجية كقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] ، ولا فائدة نعلمها فى إضافته ههنا إلا اعتبار الثيوبة، كذلك فإن النصين قد جاءا بعقوبتين إحداهما أغلظ من الأخرى فكانت الأغلظ للثيب والأخرى للأبكار كالرجم والجلد (2) .   (1) المحلى [ج11 ص229 [وما بعدها. (2) المغنى [ج10 ص119] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وهناك فريق ثالث رأى أن النص الثانى وهو قوله: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: من الآية16] ناسخ لقوله تعالى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: من الآية15] ، والقائلون بهذا الرأى يحملون قوله عز وجل: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} على أن المراد به الزانى والزانية (1) . ومن المتفق عليه أن هذين النصين نسخا بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2، 3] ، وبقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والشيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" (2) . وقد استقر الحكم بعد ذلك على جلد غير المحصن وتغريبه مع خلاف فى التغريب، وعلى رجم المحصن دون جلده مع خلاف فى الجلد، وسنتعرض لهذه الخلافات فيما بعد. وعقوبة الرجم مسلَّم بها من جميع المسلمين، ولا ينكرها إلا طائفة الأزارقة من الخوارج، لأنهم لا يقبلون الأخبار إذا لم تكن فى حد التواتر، على أن الرجم ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقول والفعل. فأما قوله فهو: أ - ما ذكرنا: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً ... . إلخ". ب - ما رواه أبو هريرة وزيد بن خالد قالا: "إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لى بكتاب الله، وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل، قال: إن ابنى كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته وإنى أخبرت أن على ابنى الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبرونى أن على ابنى جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله   (1) المحلى [ج11 ص229] . (2) رواه مسلم وأبو داود والترمذى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 - صلى الله عليه وسلم -: والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغْدُ يا أُنَيَسْ - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت بأمرها فأمرها فأمر بها رسول اله - صلى الله عليه وسلم - فرُجمت" (1) . جـ - ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والمفارق لدينه التارك للجماعة" (2) . وأما فعله: فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - برجم ماعز والغامدية، كما أمر برجم يهوديين زنيا، وذلك كله ثابت مما روى عنه - صلى الله عليه وسلم -: أ - فقد روى أبو هريرة قال: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فى المسجد فناده فقال: يا رسول إنى زنيت، فأعرض عنه حتى ردد أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا به فارجموه. قال ابن شهاب: فأخبرنى من سمع من جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة فرجمناه" (3) . ب - وروى سليمان بن بريدة عن أبيه، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرنى، فقال: "ويحك ارجعى فاستغفرى الله وتوبى إليه، فقالت: أراك تريد أن تردَّنى كما رددت ماعز بن مالك، قال: وما ذاك؟ قالت: إنها حبلى من الزنا، قال: أنت؟ قالت: نعم، فقال لها: حتى تضعى ما فى بطنك، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعت الغامدية؟ فقال: إذن لا ترجمها وتدع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلىَّ رضاعه يا نبى الله، قال: فرجمها" (4) .   (1) رواه الجماعة. (2) رواه الجماعة. (3) متفق عليه. (4) رواه مسلم والدار قطنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 جـ - وروى ابن عمر أن اليهود أتوا النبى - صلى الله عليه وسلم - برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال: "ما تجدون فى كتابكم؟ فقالوا: نسخم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بالتوراة، وجاءوا بقارئ لهم، فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هى تلوح، فقال- أو قالوا -: يا محمد فيها الرجم، ولكننا كنا نتكاتمه فيما بيننا، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما، قال: فلقد رأيته يجنأ عليها يقيها الحجارة بنفسه" (1) . وإذا كان الشارع قد فرق فى العقوبة بين المحصن وغير المحصن، فذلك لأن المحصن إذا زنا بعد أن توفرت موانع الزنا لديه كان زناه فى غاية القبح، ووجب أن تكون عقوبته فى غاية الشدة. ونلخص مما سبق أن عقوبة الزنا نوعان: (1) عقوبة البكر. ... ... ... (2) عقوبة المحصن. * * * المبحث الأول عقوبة البكر 509 - عقاب البكر الزانى: إذا زنا البكر سواء كان رجلاً أو امرأة عوقب بعقوبتين: أولاهما الجلد، والثانية التغريب، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (2) . ويلاحظ أن الشريعة تفرق بين عقوبة الأحرار وعقوبة الأرقاء فى الزنا، فتخفف عقوبة الرقيق وتشدد عقوبة الحر، مراعية فى ذلك ظروف كل منهما، ولكننا لن نتعرض هنا إلا للعقوبة المقررة للأحرار ناظرين فى ذلك إلى أن الرق ألغى فى كل أنحاء العالم، وأن لا حاجة تدعو إلى بيان عقوبة الرقيق. 510 - أولا: عقوبة الجلد: إذا زنا البكر عوقب بالجلد مائة جلدة   (1) متفق عليه. (2) رواه مسلم وأبو داود والترمذى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (1) . وعقوبة الجلد حد، أى عقوبة مقدرة، فليس للقاضى أن ينقص منها أو يزيد فيها لأى سبب من الأسباب أو ظرف من الظروف، وليس له أن يوقف تنفيذها أو أن يستبدل بها غيرها، كما أن ولى الأمر لا يملك شيئًا من ذلك، ولا يملك شيئًا من ذلك، ولا يملك العفو عنها كلها أو بعضها. وسنتكلم عن طريقة الجلد وشروطه عند الكلام على تنفيذ العقوبة. 511 - ثانيًا: التغريب: إذا زنا البكر جلد مائة جلدة وغرب عامًا، والتغريب هو العقوبة الثانية للزانى، ولكن الفقهاء يختلفون فى وجوبها. فأبو حنيفة وأصحابه يرون أن التغريب ليس واجبًا، ولكنهم يجيزون للإمام أن يجمع بين الجلد والتغريب إن رأى فى ذلك مصلحة، فعقوبة التغريب عندهم ليست حدًا كالجلد وإنما هى عقوبة تعزيرية، ومن هذا الرأى الشيعة الزيدية (2) . ويرى مالك والشافعى وأحمد وجوب الجمع بين الجلد والتغريب، ويعتبرون التغريب حدًا كالجلد، وحجتهم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"، وما روى عن عمر وعلىَّ أنهما جلدا وغربَّا ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة فصار عملهما إجماعًا (3) . ومن يرى هذا الرأى الظاهريون فإنهم يرون التغريب حدًا بتصريح النص (4) . 512 - تغريب المرأة: ويرى مالك أن التغريب جعل للرجل دون المرأة، لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة ولأن الأمر لا يخلو إن غُرِّبت أن تُغرَّب ومعها مَحرَم   (1) رواه مسلم وأبو داود والترمذى. (2) بدائع الصنائع [ج7 ص39] ، شرح فتح القدير [ج4 ص134، 136] ، شرح الأزهار [ج4 ص341] . (3) شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، المهذب [ج2 ص284] ، المغنى [ج10 ص133] . (4) المحلى [ج11 ص183، 188] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 أو أن تغرب دون محرم، والأصل أنه لا يجوز أن تغرب دون محرم، لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذى محرم"، ولأن تغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور، وتضييع لها، وإن غربت بمحرم أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفى من لا ذنب له، وإن كُلِّفت بحمل أجرته ففى ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد به الشرع، وبما لا يمكن أن يحدث مثله للرجل. ولهذا يخصص المالكيون الخبر الوارد فى التغريب، ويجعلونه فى حق الرجل دون المرأة، إذ يلزم من العمل بعمومه مخالفة مفهومه على أنه ليس على الزانى أكثر من العقوبة المذكورة فيه، ووجوب التغريب على المرأة يلزم منه الزيادة على ذلك، وفضلاً عما سبق فإن العمل بعموم النص يؤدى إلى فوات حكمته؛ لأن الحد وجب زجرًا عن الزنا، وفى تغريبها إغراء به وتمكين منه (1) . ويرى الشافعى وأحمد والظاهريون أن التغريب عقوبة واجبة على كل من الرجل والمرأة (2) . 513 - ماهية التغريب: اختلف الفقهاء فى ماهية التغريب، فقال مالك وأبو حنيفة إن التغريب معناه الحبس، فيحبس المغرَّب فى البلد الذى يغرب إليه مدة لا تزيد على سنة، فالتغريب عند المالكيين والحنفيين معناه الحبس فى بلد غير البلد الذى وقعت فيه الجريمة، ومن هذا الرأى الزيديون (3) . ويرى الشافعى وأحمد أن التغريب معناه النفى من البلد الذى حدث فيه الزنا إلى بلد آخر، على أن يراقب المغرَّب بحيث بالمراقبة فى البلد الذى غرب إليه، ولا يحبس فيه، فالتغريب عند الشفعيين والحنابلة هو الوضع تحت المراقبة   (1) شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، المغنى [ج10 ص133] . (2) أسنى المطالب [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص134] ، المحلى [ج11 ص332] . (3) شرح الزرقانى [ج8 ص83] ، شرح فتح القدير [ج4 ص270] ، حاشية ابن عابدين [ج3 ص203] ، شرح الأزهار [ج4 ص341] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 فى بلد آخر (1) . ومن هذا الرأى الظاهريون (2) . ويشترط بعض الفقهاء فى التغريب أن يكون لمسافة لا تقل عن مسافة القصر (3) . ويرى البعض أن يكون النفى من عمل الحاكم إلى عمل غيره دون التقيد بمسافة معينة، فلو نفى إلى قرية تبعد عن محل الحادث ميلاً لكفى، كما يجوز أن ينفى من مصر إلى مصر لأن النفى ورد مطلقًا فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم (4) . والمقصود من المراقبة أن يمنع الزانى من العودة إلى بلدة قبل انتهاء المدة، أو إلى ما دون مسافة القصر على رأى البعض، ويرى البعض أن المراقبة مقصود بها إلزام المغرَّب بالإقامة فى البلد المغرب إليه، فلا يُمكَّن من الضرب فى الأرض (5) . وإذا كانت القاعدة عند الشافعيين أن التغريب معناه النفى إلا أنهم يجيزون حبس المغرَّب إذا خيف رجوعه إلى البلد الذى غرب منه (6) . ويرى الشافعيون إعادة تغريب المغرب إذا رجع إلى البلد الذى غرب منه، على أن تستأنف المدة من جديد ليتوالى الإيحاش وحتى لا تفرق السنة (7) . أما الحنابلة فيرون إعادة التغريب فى حالة الرجوع على أن يبنى على مدة التغريب السابقة بحيث يعاد تغريبه ليكمل ما بقى من الحول لا ليبدأ حولاً جديدًا (8) . وإذا زنا المغرَّب فى البلد الذى غرب إليه جلد، وغرب إلى بلد آخر، ودخلت المدة الباقية من التغريب الأول فى مدة التغريب الثانية لتجانس الحدين. وهذا متفق عليه فى مذهب مالك والشافعى وأحمد، ولكن الظاهريين يرون أن   (1) أسنى المطالب [ج4 ص130] ، المغنى [ج10 ص136] . (2) المحلى [ج11 ص182] . (3) مسافة القصر مختلف عليها، مذهب مالك والشافعى وأحمد وآخرون إلى أن الصلاة تقصر فى أربعة برد وذلك مسيرة يوم بالسير الوسط، وقال أبو حنيفة والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ثلاث أيام، وقال الظاهريون: إن المسافة ميل فأكثر. بداية المجتهد [ج1 ص131] ، المحلى [ج5 ص1] وما بعدها. (4) أسنى المطالب [ج4 ص130] ، المهذب [ج2 ص288] ، المغنى [ج10 ص136] . (5) أسنى المطالب [ج4 ص130] . (6) أسنى المطالب [ج4 ص130] : (7) أسنى المطالب [ج4 ص130] . (8) الإقناع [ج4 ص252] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 تستتم مدة التغريب الأولى ثم تبدأ فى الثانية (1) ؛ لأن القاعدة عندهم أن ما وجب من حد لا يجزئ عنه حد آخر. وإذا زنا الغريب غُرِّب إلى غير بلده، وإذا زنا فى البلد الذى غرب إليه غرب إلى بلد آخر غير الذى غرب منه، ويرى بعض المالكيين أن سجن الغريب فى البلدة التى زنا فيها يعتبر تغريبًا له، ولكن الشافعيين والحنابلة يشترطون أن يُغرَّب عنها (2) . * * * المبحث الثانى عقوبة المحصن 514 - تشديد عقوبة المحصن: فرقت الشريعة بين المحصن والبكر فى عقوبة الزنا، وخففت عقوبة البكر وشددت عقوبة المحصن، وجعلت عقوبة البكر الجلد والتغريب وعقوبة المحصن الجلد والرجم، ومعنى الرجم القتل رميًا بالحجارة وما أشبهه. وعلة التخفيف على البكر هى علة التشديد على المحصن، فالشريعة الإسلامية تقوم على الفضيلة وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، وتوجب على الإنسان أن يجاهد شهوته ولا يستجيب لها إلا من طريق الحلا وهو الزواج، كما توجب عليه إذا بلغ الباءة أن يتزوج حتى لا يعرض نفسه للفتنة أو يحملها ما لا تطيق، فإذا لم يتزوج وغلبته على عقله وعزيمته الشهوة فعقابه أن يجلد مائة جلدة ويُغرَّب سنة، وشفيعه فى هذه العقوبة الخفيفة تأخيره فى الزواج الذى أدى به إلى الجريمة. أما إذا تزوج فأحصن ثم أتى الجريمة فعقوبته الجلد والرجم، لأن الإحصان يسد الباب على الجريمة، ولأن الشريعة لم تجعل له بعد الإحصان سبيلاً إلى الجريمة، فلم تجعل الزواج أبديًا حتى لا يقع   (1) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، أسنى المطالب [ج4 ص130] ، الإقناع [ج4 ص252] ، المحلى [ج11 ص134] . (2) نفس المراجع السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 فى الخطيئة أحد الزوجين إذا فسد ما بينهما، وأباحت للزوجة أن تجعل العصمة فى يدها وقت الزواج، كما أباحت لها أن تطلب الطلاق للغيبة والمرض والضرر والإعسار، وأباحت للزوج الطلاق فى كل وقت، وأحلت له أن يتزوج أكثر من واحدة على أن يعدل بينهن، وبهذا فتحت الشريعة للمحصن أبواب الحلال، وأغلقت دونه باب الحرام، فكان عدلاً وقد انقطعت الأسباب التى تدعو للجريمة من ناحية العقل والطبع أن تنقطع المعاذير التى تدعو لتخفيف العقاب، وأن يؤخذ المحصن بعقوبة الاستئصال التى لا يصلح غيرها لمن استعصى على الإصلاح. 515 - الرجم: فأما الرجم فعقوبة معترف بها من جميع الفقهاء إلا طائفة الأزارقة من الخوارج لأنهم لا يقبلون الأخبار إذا لم تكن فى حد التواتر، وعندهم أن عقوبة المحصن وغير المحصن هى الجلد مستندين لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . والرجم هو قتل الزانى رميًا بالحجارة وما أشبهها. والأصل فى الرجم كما بينا (1) هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فالرجم إذن سنة قولية وسنة فعلية فى وقت واحد. 516 - الجلد: والجلد هى العقوبة الثانية للزانى المحصن طبقًا للنصوص: "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" (2) . لكن الفقهاء يختلفون على ما إذا كانت عقوبة المحصن هى الرجم وحده، أو هى الرجم والجلد معًا. وحجة القائلين بالجلد مع الرجم أن القرآن جعل الجلد عقوبة أساسية للزنا، وذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، ثم جاءت السنة بالرجم فى حق الثيب، والتغريب فى حق البكر، فوجب الجمع   (1) تراجع الفقرة [508] وما كتبناه عن التطور التشريعى لعقوبة الزنا. (2) رواه مسلم وأبو داود والترمذى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 بينهما، وقد فعل ذلك على بن أبى طالب حيث جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحديث الرسول صريح فى الجمع بين الجلد والرجم: "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة"، وهذا الصريح الثابت بيقين لا يترك إلا بمثله، وإذا كان نص الحديث قد جعل للبكر عقوبتين الجلد والتغريب، وجعل للمحصن عقوبتين الجلد والرجم، وقد سلمنا بعقوبتى البكر، فقد وجب التسليم بعقوبتى الثيب، فيجلد أولاً ثم يرجم ثانيًا، وبهذا الرأى قال بعض الفقهاء، منهم الحسن وإسحاق وابن منذر، وعليه مذهب الظاهريين والشيعة الزيدية، وهو رواية فى مذهب أحمد (1) . وحجة القائلين بأن العقوبة هى الرجم دون الجلد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا والغامدية ورجم يهوديين، ولم يرد عنه أنه جلد واحدًا منهم، وأن الرسول فى حادث العسيف قال: "اغْدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا اعترفت فارجمها" (2) ، ولم يأمر بجلدها، وكان هذا آخر الأمرين من رسول الله فوجب تقديمه. هذا من جهة النصوص. أما من جهة المعنى فإن القاعدة العامة أن الحد الأصغر ينطوى فى الحد الأكبر؛ لأن الحد إنما وضع لزجر، ولا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم. وأصحاب هذا الرأى هم جمهور الفقهاء. هم يسلمون بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم يعتبون الجلد منسوخًا أو داخلاً فى الرجم، ومن أصحاب هذا الرأى مالك وأبو حنيفة والشافعى، وهو رواية عن أحمد (3) . وهناك رأى ثالث يرى أصحابه أن الثيب إن كان شيخًا جُلد ورُجم، وإن كان شيبًا رُجم ولم يجلد؛ لما روى عن أبى ذر قال: "الشيخان يجلدان ويرجمان، والثيبان يرجمان، والبكران يجلدان وينفيان" (4) ، وعن أبى بن كعب ومسروق مثل   (1) بداية المجتهد [ج2 ص363] ، المغنى [ج10 ص124] ، المحلى [ج11 ص233] وما بعدها، شرح الأزهار [ج4 ص2244] . (2) رواه الجماعة. (3) بداية المجتهد [ج2 ص363] ، شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص133] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، المغنى [ج10 ص125] . (4) المحلى [ج11 ص234] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 هذا (1) . ولعل أساس هذا الرأى أن زنا الشيخ مذموم، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" (2) . 517 - حالات مختلفة على عقوبتها: وهناك حالات بعينها مختلف على العقوبة الواجبة فيها، ويرجع هذا إما إلى الاختلاف على تكييف هذه الحالات، وإما إلى الاختلاف على النصوص التى تحكمها، وسنتكلم على هذه الحالات فيما يلى: 518 - حالة اللواط: يترتب على اعتبار اللواط زنًا أن يعاقب عليه بعقوبة الزنا، ولكن القائلين باعتبار اللواط زنًا اختلفوا فى عقوبته: فقال مالك: إن عقوبة اللواط الرجم مطلقًا سواء الفاعل والمفعول به محصنين أو غير محصنين (3) . وفى مذهب الشافعى وأحمد ثلاثة آراء (4) : أولها: أن اللواط حكمه حكم الزنا، فيعاقب اللائط والملوط به بعقوبة الزنا، فمن كان محصنًا رجم ومن لم يكن محصنًا جُلد وغُرِّب. وحجة أصحاب هذا الرأى ما رواه أبو موسى الأشعرى عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" (5) ؛ ولأنه حد يوجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب. ثانيها: أن اللائط هو الذى يرجم أما الملوط به فلا يرجم وإنما يُجلد ويُغرَّب فى كل الأحوال، سواء كان ذكرًا أو أنثى محصنًا أو غير محصن؛ لأن الإحصان   (1) المحلى [ج11 ص234] . (2) رواه مسلم والنسائى. (3) شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، مواهب الجليل [ج6 ص296] . (4) نهاية المحتاج [ج7 ص403، 404] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] ، المهذب [ج2 ص285] ، المغنى [ج10 ص161] ، الإقناع [ج4 ص253] . (5) أخرجه البيهقى وأبو داود والطيالسى، وراجع: نيل الأوطار [ج7 ص30] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 جعل للقُبُل وهو يؤتى فى الدُبر ولا يتصور فى الدبر إحصان. وعلى هذا فالملوط به إذا اعتبر فعله زنًا فهو زنًا من غير محصن ما دام الإحصان لم يجعل للدبر. ثالثها: أن عقوبة اللائط والملوط به القتل فى كل حال، أى سواء كان محصنًا أو غير محصن. وفى قتله رأيان: رأى يرى القتل رجمًا. ورأى يرى القتل بالسيف. وحجة القائلين بالقتل ما رواه ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (1) ، وقد كان إطلاق القتل فى الحديث حجة لمن قال بأن القتل يكون بالسيف فى كل حال. وفسر آخرون القتل بالرجم لأنه وطء يجب به الحد، فكان القتل بالرجم كما هو الحال فى الزنا. ويرى أبو حنيفة أن اللواط ليس زنًا فلا يعاقب عليه بعقوبة الزنا وإنما يعاقب عليه بعقوبة تعزيرية، ولا مانع عند أبى حنيفة من أن يحبس حتى يموت أو يتوب، وإذا اعتاد اللواط يقتل سياسة لا حدًا، أما أبو يوسف ومحمد فيريان اللواط زنًا يعاقب عليه بعقوبة الزنا فيجلد من لم يحصن ويرجم المحصن (2) . وفى مذهب الشيعة الزيدية رأيان: أحدهما أن حكم اللواط هو حكم الزنا، فيرجم المحصن، ويجلد من لم يحصن. والثانى أن يقتل الفاعل والمفعول به فى كل حال (3) . أما الظاهريون فيرون اللواط شيئًا آخر غير الزنا، فهو معصية يُعزَّر عليها (4) . 519 - حالة وطء المحارم: يرى جمهور الفقهاء أن من وطئ محرمًا عوقب بعقوبة الزانى فيرجم المحصن ويجلد غير المحصن ويغرب. ولكن بعضهم يرى - وهو رأى لأحمد - (5) أن من وطئ ذات محرم حده القتل فى كل حال؛   (1) رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه والبيهقى. (2) شرح فتح القدير [ج4 ص150] ، بدائع الصنائع [ج7 ص24] . (3) شرح الأزهار [ج4 ص336] . (4) المحلى [ج11 ص285] . (5) المغنى [ج10 ص153] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 لما رواه البراء قال: "لقيت عمى ومعه الراية فقلت: إلى أين تريد؟ قال: بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل ينكح امرأة أبيه من بعده أن اضرب عنقه وآخذ ماله" (1) ، ولما رواه الجورجانى وابن ماجه بإسنادهما عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وقع على ذات محرم فاقتلوه" (2) . ويرى الظاهريون أن من وقع على امرأة أبيه بعقد أو بغير عقد فإنه يقتل محصنًا كان أو غير محصن، وبخمس ماله، وساء كانت أمه أو غير أمه، دخل بها أبوه أو لم يدخل. وأما من وقع على غير امرأة أبيه من سائر ذوات محارمه بصهر أو رضاع فهو زان وعليه حد الزنا فقط (3) ، وعلة ذلك أن امرأة الأب ورد فيها نص صريح هو حديث البراء، أما من عداها من المحارم فلم يصح فى شأنهن نص خاص، فمن وقع على واحدة منهن كان زانيًا طبقًا للنصوص العامة. 520 - حالة وطء البهائم: لا يعتبر وطء البهائم والحيوانات على العموم زنًا عند مالك وأبى حنيفة والظاهريين، وإنما هو معصية فيها التعزير. وكذلك الحكم فى تمكين المرأة حيوانًا من نفسها. وعلى هذا الرأى الراجح فى مذهب الشافعى وأحمد (4) . أما الرأى المرجوح فى مذهب الشافعى وأحمد فيرى أصحابه أن الفعل يعتبر زنًا ولكنه يعاقب عليه بالقتل فى كل الأحوال (5) ، لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوه البهيمة" (6) . وبعض الشافعيين يعتبر الفعل زنًا قياسًا على إتيان الرجل المرأة، ويجعلون   (1) رواه الخمسة، راجع: نيل الأوطار [ج7 ص28] . (2) راجع: نيل الأوطار [ج7 ص31] . (3) المحلى [ج11 ص256] . (4) شرح الزرقانى [ج8 ص78] ، شرح فتح القدير [ج4 ص152] ، المحلى [ج11 ص386، 388] . (5) المغنى [ج10 ص163] ، نهاية المحتاج [ج7 ص405] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] . (6) رواه أحمد وأبو داود والترمذى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 عقوبة المحصن الرجم وعقوبة غير المحصن الجلد والتغريب (1) . وهذا الذى يراه بعض الشافعيين هو الرأى الراجح فى مذهب الشيعة الزيدية، وإن كان بعضهم يرى ما يراه مالك وأبو حنيفة (2) . ويرى الشافعيون والحنابلة أن المرأة التى تمكِّن من نفسها حيوانًا عليها ما على واطئ البهيمة (3) ، وإن كان بعض الشافعيين يصرحون بأنه ليس على المرأة إلا التعزير (4) . * * * المبحث الثالث الإحصان 521 - الإحصان شرط الرجم: رأينا فيما سبق أن الشريعة الإسلامية تفرق فى العقوبة بين المحصن وغير المحصن، وتعاقب الأول بالرجم دون الثانى، ومعنى هذا أن الشريعة تجعل الإحصان شرطًا للرجم، فإذا انعدم الإحصان امتنع الرجم. وإذا كان الإحصان شرطًا فى الرجم، فإن الإحصان فى نفس الوقت مجموعة شروط تكون هيئة واحدة أو مجموعة أجزاء لعلة واحدة، وكل واحد من هذه المجموعة يعتبر بذاته شرطًا أو علة لوجوب الرجم. 522 - معنى الإحصان: الإحصان لغة معناه: الدخول فى الحصن أو المنع، قال تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] ، ويقال: أحصن إذا دخل فى الحصن. وللإحصان فى القرآن أكثر من معنى، فقد جاء بمعنى التزويج فى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] ، وجاء بمعنى الحرية فى   (1) نهاية المحتاج [ج7 ص405] . (2) شرح الأزهار [ج4 ص336] . (3) الإقناع [ج4 ص253] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] . (4) نهاية المحتاج [ج4 ص404] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] ، وجاء بمعنى العفة فى قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] ، وقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} [المائدة: 5] ، وجاء بمعنى الإسلام والزواج فى قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25] ، وجاء بمعنى الحرية والبلوغ والعفة فى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . 523 - أنواع الإحصان: الإحصان فى الجرائم على نوعين: إحصان الرجم، وإحصان القذف، وسنتكلم هنا على إحصان الرجم، أما إحصان القذف فمحل الكلام عليه جريمة القذف. وإحصان الرجم شرعًا: هو عبارة عن اجتماع صفات اعتبرها الشارع لوجوب الرجم، أو هو مجموعة من الشروط إذا توفرت فى الزانى كان عقابه الرجم بدلاً من الجلد. 524 - شروط الإحصان: اتفق الفقهاء على بعض شروط الإحصان فى جريمة الزنا، واختلفوا على البعض الآخر، وسنبين فيما يلى شروط الإحصان سواء منها ما اتفق عليه وما اختلف فيه: أولاً: الوطء فىنكاح صحيح: يشترط لقيام الإحصان أن يكون وطء فى نكاح صحيح، وأن يكون الوطء فى القُبُل لقوله عليه السلام: "والثيب بالثيب الجلد والرجم"، والثيابة تحصل بالوطء فى القبل (1) .   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص131] ، بدائع الصنائع [ج7 ص37] ، المغنى [10 ص126] ، بداية المجتهد [ج2 ص364] ، شرح الأزهار [ج4 ص342] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 ولا خلاف فى أن عقد النكاح الخالى من الوطء لا يحصل به إحصان، ولو حصلت فيه خلوة صحيحة (1) أو وطء فيما دون الفرج، أو وطء فى الدبر، لأن كل هذا لا تعتبر به المرأة ثيبًا ولا تخرج عن حد الأبكار الذين حدهم جلد مائة وتغريب عام. والوطء الذى يؤدى إلى الثيابة هو الإيلاج فى القبل على وجه يوجب الغسل، أو هو تغييب الحشفة أو مثلها فى القبل سواء أنزل أو لم ينزل، ولا يكفى مثل هذا الوطء وحده لوجود الإحصان بل يجب أن يكون الوطء فى نكاح؛ لأن النكاح هو الإحصان لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] يعنى المتزوجات، فإن كان الوطء فى غير نكاح كالزنا ووطء الشبهة فلا يصير به الواطئ محصنًا دون خلاف. ويشترط فى النكاح أن يكون صحيحًا، فإن كان فاسدًا فإن الوطء فيه لا يحصن كما يرى جمهور الفقهاء (2) . ويشترط إذا كان الوطء فى نكاح صحيح أن لا يكون وطئًا محرمًا كالوطء فى الحيض أو الإحرام، فإن الوطء الذى يحرمه الشارع لا يحصن ولو كان فى نكاح صحيح (3) . ثانيًا: البلوغ والعقل: وهما شرطا الأهلية للعقوبة، كما أنهما لازمان فى كل جريمة، ويجب توفرهما فى المحصن وغير المحصن وقت ارتكاب الجريمة طبقًا للقواعد العامة، إلا أنهما اشترطا أيضًا فى الإحصان لأن اشتراطهما وقت ارتكاب الجريمة لا يغنى عن اشتراطهما فى الإحصان، فيشترط إذن أن يكون   (1) يرى الهادى من فقهاء الزيدية اعتبار الإحصان بالخلوة، ولكنهم يتأولون رأيه ويقولون إنه أراد الخلوة مع الدخول. شرح الأزهار [ج4 ص342] . (2) المغنى [ج10 ص126 [، الإقناع [ج4 ص350] ، المهذب [ج2 ص283] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص130، 133] ، شرح الأزهار [ج4 ص343] . (3) أسنى المطالب [ج4 ص128] ، شرح الزرقانى [ج8 ص82] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 الوطء الذى يحصن حاصلاً من بالغ عاقل، فإذا حصل الوطء من صبى أو مجنون ثم بلغ وعقل بعد الوطء لم يكن بالوطء السابق محصنًا، وإذا زنا عوقب على أنه غير محصن (1) . على أن بعض أصحاب الشافعى يرون - ورأيهم هو المرجوح فى المذهب - أن الواطئ يصير محصنًا بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون، فلو بلغ أو أفاق فزنا رجم دون حاجة إلى حصول وطء جديد بعد البلوغ والإفاقة، وحجتهم أن الوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون وطء مباح، فيجب أن يثبت به الإحصان؛ لأنه إذا صح النكاح قبل البلوغ فإن الوطء يصح تبعًا له. ويرد على ذلك بأن الرجم عقوبة الثيب ولو اعتبرت الثيوبة حاصلة بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون لوجب رجم الصغير والمجنون، وهذا ما لا يقول به أحد، كذلك فإن هناك فرقًا بين الإحصان والإحلال، وكل إحلال لا يترتب عليه إحصان، كما أن الإحصان شرط عقوبة الرجم، ولو كان الإحلال يقوم مقام الإحصان لما كان ثمة ما يدعو لاشتراط الإحصان (2) . ثالثًا: وجود الكمال فى الطرفين حال الوطء: أو بتعبير آخر: ينبغى أن تتوفر شروط الإحصان فى الواطئ والموطوءة حال الوطء الذى يترتب عليه الإحصان، فيطأ مثلاً الرجل العاقل امرأة عاقلة، فإذا لم تتوفر هذه الشروط فى أحدهما فهما معًا غير محصنين. فإذا كان الجانى متزوجًا ودخل بزوجته فى نكاح صحيح ولكنها مجنونة أو صغيرة، فالجانى غير محصن ولو كان هو نفسه بالغًا عاقلاً، هذا هو رأى أبى حنيفة وأحمد (3) . ولكن مالكًا لا يشترط توفر شروط الإحصان فى الزوجين لإحصانهما معًا،   (1) شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص130، 131] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، المغنى [ج10 ص128] ، شرح الأزهار [ج4 ص343] . (2) المهذب [ج2 ص283] ، المغنى [ج10 ص128] . (3) شرح فتح القدير [ج4 ص130، 133] ، المغنى [ج11 ص128] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 وعنده أنه يكفى أن تتوفر شروط الإحصان فى أحد الزوجين ليكون محصنًا بغض النظر عما إذا كان الزوج الآخر تتوفر فيه هذه الشروط أم لا، فشرط تحصين الذكر عنده أن تتوفر فيه شروط الإحصان مع إطاقة موطوءته له ولو كانت صغيرة أو مجنونة، وتتحصن الأنثى عند مالك بتوفر الإحصان فيها وببلوغ واطئها ولو كان مجنونًا (1) . وفى مذهب الشافعى رأيان أحدهما يتفق مع رأى أبى حنيفة وأحمد، وثانيهما يتفق مع مذهب مالك (2) . وفى مذهب الشيعة الزيدية نفس الرأيين، ثم رأى ثالث يرى أن المجنون لا يحصن العاقل بأى حال (3) ، وإن أحصن البالغ من لم يبلغ. والذين يشترطون اجتماع شروط الإحصان فى الزوجين يعللون ذلك بأن اجتماع هذه الصفات فى الزوجين يشعر بكمال حالهما وبكمال اقتضاء الشهوة من الجانبين، ويرون أن تخلف أحد هذه الشروط أو بعضها يشعر بالنقص، فاقتضاء الشهوة من المجنونة والصغيرة قاصر ولا يبلغ بالرجل حد الكمال، والمحصن لا تغلظ له العقوبة إلا على أساس أنه فى حال الكمال تغنيه عن التفكير فى الحرام (4) . رابعًا: الإسلام: ويجعل أبو حنيفة ومالك الإسلام شرطًا من شروط الإحصان، وحجتهما حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما استشاره حذيفة فى زواج كتابية: "دعها فإنها لا تحصنك". ولكن الشافعى وأحمد لا يريان الإسلام شرطًا من شروط الإحصان، ويوافقهما أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة، وحجتهم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - رجم يهوديين، ولو كان الإسلام شرطًا فى الإحصان لما رجمهما، فضلاً عن أن الأديان عامة تحرم الزنا كما يحرمه   (1) شرح الزرقانى [ج8 ص82] . (2) المهذب [ج2 ص283] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] . (3) شرح الأزهار [ج4 ص343، 344] . (4) شرح فتح القدير [ج4 ص131] ، المغنى [ج10 ص128] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 الإسلام. ويتفق المذهب الظاهرى مع مذهب الشافعى وأحمد فى هذه الوجهة، أما المذهب الزيدى ففيه الرأيان وأرجحهما ما يقول به الشافعى وأحمد (1) . ويترتب على هذا الخلاف أن المسلم المتزوج من كتابية إذا زنا لا يرجم فى رأى أبى حنيفة لأنه لا يعتبر محصنًا، إذ الكتابية لا تحصن المسلم، وكان يحب أن يكون هذا هو الحكم عند مالك لولا أنه لا يشترط الكمال فى الزوجين، ومن ثم فإن الكتابية فى رأيه تحصن المسلم، فإذا زنا المسلم المتزوج من كتابية رجم عند مالك، كما يرجم عند الشافعى وأحمد والظاهريين وبعض الزيديين؛ لأن هؤلاء لا يعتبرون الإسلام شرطًا من شروط الإحصان. 525 - زنا المحصن بغير محصن: بينا فيما سبق شروط الإحصان ما اتفق عليه منها وما اختلف فيه، وإذا كان بعض الفقهاء يوجب توفر هذه الشروط فى كل من الزوجين لاعتبار أحدهما محصنًا، فإن الفقهاء جميعًا لا يشترطون إحصان كل من الزانيين لوجوب الرجم على أحدهما، ويرون رجم من توفرت فيه شروط الإحصان من الزانيين، فإذا كان أحد الزانيين محصنًا والثانى غير محصن رجم المحصن وجلد غير المحصن. * * *   (1) شرح الزرقانى [ج8 ص82] ، شرح فتح القدير [ج4 ص133] ، أسنى المطالب [ج4 ص128] ، المغنى [ج10 ص129] ، المحلى [ج11 ص158] ، شرح الأزهار [ج4 ص344] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 الفصل الثالث الأدلة على الزنا 526 - الأدلة المثبتة للزنا: لا يثبت جريمة الزنا المعاقب عليها بالحد إلا بأدلة خاصة هى: (1) الشهادة. ... ... (2) الإقرار ... ... (3) القرائن ... (4) اللعان. وسنتكلم عن هذه الأدلة واحدًا بعد الآخر، مع ملاحظة أن الإثبات بالقرائن مختلف عليه. المبحث الأول الشهادة 527 - عدد شهود الزنا: من المتفق عليه أن الزنا لا يثبت إلا بشهادة أربعة شهود، وهذا إجماع لا خلاف فيه بين أهل العلم، لقوله تعالى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، وقوله: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] . ولقد جاءت السنة مؤكدة لنصوص القرآن، ومن ذلك أن سعد بن عبادة قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت لو وجدت مع امرأى رجلاً أمهله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 حتى آتى بأربعة شهداء؟ فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: نعم"، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لهلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سحماء: "البينة وإلا حد فى ظهرك" (1) ، وروى عنه أنه قال: "أربعة شهداء وإلا فحد فى ظهرك" (2) . وليس لكل إنسان أن يشهد فتقبل شهادته، وإنما الشاهد الذى تقبل شهادته هو من توفرت فيه شروط معينة، بعضها عام يجب توفره فى كل شهادة، وبعضها خاص يجب توفره فى الشهادة على الزنا. 528 - الشروط العامة للشهادة: للشهادة شروط عامة يجب أن تتوفر فى كل شهادة أيًا كان موضوعها، وهذه الشروط هى: 529 - أولا: البلوغ: يشترط فى الشهد أن يكون بالغًا، فإذا لم يكن كذلك فلا تقبل شهادته، ولو كان فى حالة تمكنه من أن يعى الشهادة ويؤديها، ولو كان حاله حال أهل العدالة، وذلك لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، والصبى ليس من الرجال، وليس ممن ترضى شهادته، ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" (3) ، ولأن الصبى لا يؤتمن على حفظ أمواله فأولى أن لا يؤتمن على حفظ حقوق غيره، وإذا كانت شهادة الصبى لا تقبل فى الأموال فلأن لا تقبل فى الجرائم أولى وفيها عقوبة متلفة للنفس أو للعضو (4) . وإذا كانت القاعدة العامة فى الشريعة أن لا تقبل شهادة من هو دون البلوغ   (1) رواه الجماعة إلا مسلمًا والنسائى. (2) رواه النسائى. (3) أخرجه ابن ماجه وابن حبان والدارقطنى والطبرانى والحاكم فى المستدرك، وراجع: نيل الأوطار [ج6 ص160] . (4) مواهب الجليل [ج6 ص150] ، شرح فتح القدير [ج4 ص169] ، حاشية ابن عابدين [ج4 ص513، 525] ، المهذب [ج2 ص342] ، الإقناع [ج4 ص436] ، المحلى [ج9 ص420] ، شرح الأزهار [ج4 ص192، 193] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 فإن مالكًا يرى استثناءً من هذه القاعدة قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض فى الدماء بشروط خاصة أهمها: أن يكون الشاهد مميزًا؛ أى ممن يعقل الشهادة، وأن لا يحضر الحادث كبير. وقد أجاز مالك شهادة الصبيان فى هذه الحالة للضرورة (1) . وما يراه مالك هو رواية مذهب أحمد، حيث يرى قبول شهادة الصبيان فى الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحالة التى تجارحوا عليها؛ لأن الظاهر صدقهم وضبطهم، فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم لاحتمال أن يُلقَّنوا. وروى عن أحمد رواية ثالثة تتلخص فى أن شهادة الصبى تقبل إن كان ابن عشر، ولكن البعض يخصص هذه الرواية بغير الحدود والقصاص (2) . وفى مذهب الزيدية رأى مرجوح يرى أصحابه جواز شهادة الصبيان بعضهم على بعض فى الشجاج ما لم يتفرقوا، ويتأول بعضهم هذا الرأى فيقول: إن الشهادة تقبل للتأديب لا للحكم (3) . 530 - ثانيًا: العقل: يشترط فى الشاهد أن يكون عاقلاً. والعاقل من عرف الواجب عقلاً، والضرورى وغيره، والممكن والممتنع، وما يضره وما ينفعه غالبًا، فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه، ولكن تقبل الشهادة ممن يجن أحيانًا فى حالة إفاقته إذا كان يفيق إفاقة يعقل معها الشهادة، ولا تقبل شهادة المجنون لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" كما أن شهادة المجنون لا تقبل للمعنى المانع من قبول شهادة الصبى (4) .   (1) مواهب الجليل [ج6 ص177] . (2) المغنى [ج12 ص27] . (3) شرح الأزهار [ج4 ص193] . (4) مواهب الجليل [ج6 ص150] ، المهذب [ج2 ص342] ، أسنى المطالب [ج4 ص339] ، الإقناع [ج4 ص439] ، شرح فتح القدير [ج4 ص169] ، البحر الرائق [ج7 ص85] ، المحلى [ج9 ص429] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 531 - ثالثًا: الحفظ: يشترط فى الشاهد أن يكون قادرًا على حفظ الشهادة، وفهم ما وقع بصره عليه، مأمونًا على ما يقول، فإن كان مغفلاً لم تقبل شهادته. ويلحق بالغفلة كثرة الغلط والنسيان، ولكن تقبل الشهادة ممن يقل منه الغلط، لأن أحدًا لا ينفك من الغلط. والعلة فى عدم قبول شهادة المغفل - ولو كان عدلاً - أنه لا يؤمن على ما يقول ولا تمنع عدالته من أن يغتفل، فيشهد على الرجل مثلاً ولا يعرفه يتسمى له بغير اسمه، كما أنه يخشى عليه أن يُلقَّن فيأخذ بما أُلقى إليه. لكن إذا لم يكن فى الشهادة ما يدعو إلى التلبيس تقبل شهادة المغفل نحو قوله: رأيت هذا الشخص قتل هذا الشخص، أو رأيت فلانًا يطأ فلانة (1) . على أن أبا يوسف صاحب أبى حنيفة يؤثر عنه أنه كان يجيز شهادة المغفل ولا يجيز تعديله، لأن التعديل يحتاج إلى الرأى والتدبير، والمغفل لا يستقصى فى ذلك، بينما كان محمد يرد شهادة الصوام القوام المغفل ويقول: إنه شر من الفاسق فى الشهادة (2) . والزيديون يردون شهادة من غلب عليه السهو النسيان، فإن تساوى ضبطه ونسيانه فالأكثرون لا يصححون شهادته، والأقلون يجعلونها موضع اجتهاد (3) . 532 - رابعًا: الكلام: يشترط فى الشاهد أن يكون قادرًا على الكلام، فإن كان أخرس فقد اختلف فى قبول شهادته: ففى مذهب مالك يقبلون شهادة الأخرس إذا عرفت إشارته، وفى مذهب أحمد لا يقبلون شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته، إلا إذا كان يستطيع الكتابة فأدى الشهادة بخطه،   (1) مواهب الجليل [ج6 ص154] ، المهذب [ج2 ص342] ، أسنى المطالب [ج4 ص353] ، الإقناع [ج4 ص437] . (2) البحر الرائق [ج7 ص85] . (3) شرح الأزهار [ج4 ص197] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 وفى مذهب أبى حنيفة لا يقبلون شهادة الأخرس سواء كانت بالإشارة أو بالكتابة، وفى مذهب الشافعى خلاف على قبول شهادة الأخرس، منهم من قال: تقبل لأن إشارته كعبارة الناطق فى نكاحه وطلاقه، فكذلك فى الشهادة، ومنهم من قال: لا تقبل لأن إشارته أقيمت مقام العبارة فى موضع الضرورة، وقد قبلت فى النكاح والطلاق للضرورة لأنهما لا يستفادان إلا من جهته، ولا ضرورة تدعو لقبول إشارته فى الشهادة لأنها تصح من غيره بالنطق، ومن ثم لا تجوز إشارته، وفى مذهب الزيدية رأيان: أحدهما أن شهادة الأخرس لا تصح إطلاقًا، والثانى أنها تصح (1) . 533 - خامسًا: الرؤية: يشترط فى الشاهد أن يرى ما يشهد به، فإن كان الشاهد أعمى فقد اختلف فى قبول شهادته، فالحنفيون لا يقبلون شهادة الأعمى؛ لأن أداء الشهادة يحتاج إلى أن يشير الشاهد إلى المشهود له والمشهود عليه، ولأن الأعمى لا يميز إلا بالنغمة وفى تمييزه شبهة، وهم لا يقبلون شهادة من كان أعمى وقت أداء الشهادة ولو كان بصيرًا وقت تحمل الشهادة، بل إنهم يردون شهادة البصير الذى عمى بعد أداء الشهادة وقبل القضاء؛ لأنهم يشترطون الأهلية فى الشاهد وقت القضاء لتكون شهادته حجة. والأصل فى مذهب أبى حنيفة أن شهادة الأعمى لا تقبل سواء فيما كان طريقه الرؤية، وما كان طريقه السماع والشهرة والتسامع. ولكن أبا يوسف يجيز شهادة الأعمى فيما طريقه السماع مطلقًا، ويجيزها فيما طريقه الرؤية إذا كان بصيرًا وقت التحمل أعمى عند الأداء، إذا كان يعرف الخصوم بأسمائهم وأنسابهم. ويرى زفر أن شهادة الأعمى تجوز فقط فى غير الحدود والقصاص فيما يجرى فيه التسامع كالنسب والموت، وهذا القول رواية عن أبى حنيفة (2) .   (1) مواهب الجليل [ج6 ص154] ، الإقناع [ج4 ص436] ، البحر الرائق [ج7 ص85] ، المهذب [ج2 ص342] ، شرح الأزهار [ج4 ص192] . (2) البحر الرائق وحاشية منحة الخالق [ج7 ص84، 85] ، طرق الإثبات الشرعية [ص409، 410] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 ويقبل المالكيون شهادة الأعمى فى الأقوال ولو كان قد تحملها بعد العمى، ما دام فطنًا لا تشتبه عليه الأصوات ويتيقن المشهود له والمشهود عليه، فإن شك فى شئ من ذلك لم تجز شهادته، أما شهادة الأعمى فى المرئيات فلا تقبل إلا أن يكون تحملها بصيرًا ثم عمى وهو يتيقن عين المشهود له أو يعرفه باسمه ونسبه (1) . ويجيز الشافعيون شهادة الأعمى فيما يثبت بالاستفاضة كالنسب والموت؛ لأن طريق العلم به السماع، والأعمى كالبصير فى السماع، ولا يجيزون أن يكون شاهدًا فى الأفعال كالقتل والغصب؛ لأن طريق العلم بها البصر، ولا شاهدًا فى الأموال كالبيع والإقرار والنكاح والطلاق إذا كان المشهود عليه خارجًا عن يده؛ لأن شهادته ستقوم على العلم بالصوت وحده، والصوت يشبه الصوت، فأما إذا كان المشهود عليه فى يده كرجل أقرَّ ويدُ الأعمى على رأسه فشهد وهو فى يده لم يفارقه فتقبل الشهادة الشهادة لأنها عن علم ويقين. وإذا تحمل الشهادة وهو بصير قبلت شهادته إذا كان الخصوم معروفين له بالاسم والنسب، أو إذا كان المشهود عليه فى يده لم يفارقه بعد العمى. ويرى بعض فقهاء المذهب قبول شهادة الأعمى مطلقًا فى الأقوال إذا عرف الصوت (2) . وفى مذهب أحمد يجيزون شهادة الأعمى كلما تيقن الصوت، أى أنهم يجيزون شهادته فى الأقوال مطلقًا. أما فى الأفعال فيجيزون شهادته فى كل ما تحمله قبل العمى إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه (3) . ومذهب الزيديين لا يكاد يختلف عن مذهب الشافعى، فالقاعدة عندهم أن شهادة الأعمى لا تصح فيما يفتقر إلى الرؤية عند الأداء، فإذا شهد بما يحتاج إلى المعاينة عند أداء الشهادة لا تقبل شهادته إلا أن يكون المشهود عليه فى يده من   (1) مواهب الجليل [ج6 ص154] . (2) المهذب [ج2 ص353] ، أسنى المطالب [ج4 ص361] . (3) المغنى [ج12 ص61، 62] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 قبل ذهاب بصره؛ كثوب متنازع عليه، فإذا لم تكن المعاينة لازمة عند الأداء قبلت شهادة الأعمى فيما يثبت بطريق الاستفاضة كالنسب والنكاح، فإن كان مما لا يثبت بطريق الاستفاضة قبلت شهادته فقط فيما تحمله قبل ذهاب بصره، لأن الشهادة على الصوت وحده لا تصح، على أن البعض يرى قبول الشهادة كلما عرف الأعمى الصوت على وجه اليقين (1) . أما الظاهريون فيقبلون شهادة الأعمى مطلقًا فى الأقوال والأفعال، وفيما تحمله قبل العمى وفيما تحمله بعده، ويردون على من يقولون إن الأصوات تشتبه بأن الصور أيضًا تشتبه، وما يجوز لمبصر أو أعمى أن يشهد إلا بما يوقن ولا يشك فيه، وأن الأعمى لو لم يقطع بصحة اليقين على من يكلمه لما حل له أن يطأ امرأته إذ لعلها أجنبية، ولا يعطى أحدًا دينًا عليه إذ لعله غيره، ولا أن يبيع من أحد ولا أن يشترى، وأن الله جل شأنه أمر بقبول البينة ولم يشترط أعمى من مبصر، وما كان ربك نسيًا (2) . 534 - سادسًا: العدالة: لا خلاف فى اشتراط العدالة فى سائر الشهادات، فيجب أن يكون الشاهد عدلاً لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، ولقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، فأمر جل شأنه بقبول شهادة العدل وبالتوقف فى نبأ الفاسق، والشهادة نبأ. وقد روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذى غَمَر (3) على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع (4) لأهل البيت" (5) .   (1) شرح الأزهار [ج4 ص199، 200] . (2) المحلى [ج9 ص433] . (3) الغمر: الحقد والإجنة. (4) القانع: هو التابع الذى ينفق عليه أهل البيت. (5) رواه أحمد وأبو داود والترمذى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 وفى رواية أخرى: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زانٍ ولا زانية ولا ذى غمر على أخيه" (1) . ويفسر بعض الفقهاء الخيانة بحيث تشمل جميع ما افترض الله تعالى على العباد القيام به أو اجتنابه من صغير ذلك وكبيره، ولا يخصها بأمانات الناس، ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] . والعدالة كما يعرفها المالكيون هى المحافظة الدينية على اجتناب الكبائر وتوقى الصغائر وأداء الأمانة وحسن المعاملة، وليست العدالة أن يمحص الإنسان الطاعة حتى لا تشوبها معصية إذ ذلك متعذر لا يقدر عليه إلا الأولياء والصديقون، لكن من كانت الطاعة أكثر حاله وأغلبها عليه، وهو مجتنب للكبائر محافظ على ترك الصغائر، فهو العدل (2) . ويعرف الحنفيون العدالة بأنها الاستقامة على أمر الإسلام، واعتدال العقل ومعارضة الهوى، وليس لكمالها حد يدرك، فيكتفى لقبولها بأدنى حدودها وهو رجحان جهة الدين والعقل على الهوى والشهوة، وعندهم ان العدل هو من لم يطعن عليه فى بطن ولا فرج، وهو من يكون مجتنبًا للكبائر غير مصر على الصغائر، ومن يكون صلاحه أكثر من فساده، وصوابه أكثر من خطئه، ومن تكون مروءته ظاهرة (3) . ويعرف الشافعيون العدالة بأنها اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر، فمن تجنب الكبائر والصغائر فهو عدل، ومن تجنب الكبائر وارتكب الصغائر وكان ذلك نادرًا من أفعاله لم يفسق ولم ترد شهادته؛ لأنه لا يوجد من يمحص الطاعة ولا يخلطها بمعصية، وإن كان ذلك غالبًا فى أفعاله فسق ورُدت شهادته؛   (1) رواه أبو داود. (2) مواهب الجليل [ج6 ص150] . (3) البحر الرائق [ج7 ص104] ، حاشية ابن عابدين [ج4 ص225] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 لأنه من استجاز الإكثار من الصغائر استجاز أن يشهد بالزور، فالحكم معلق على الغالب من أفعاله (1) . ويعرف الحنابلة العدالة بأنها استواء أحوال الشخص فى دينه واعتدال أقواله وأفعاله، ويعتبر لها شيئان: أولهما: الصلاح فى الدين وهو من وجه أداء الفرائض بسننها الراتبة، فلا تقبل الشهادة ممن داوم على تركها لفسقه، ومن وجه آخر اجتناب المحرم فلا يرتكب كبيرة ولا يدمن على صغيرة. وثانيهما: استعمال المروءة؛ وهو الإتيان بما يجمِّله ويزيِّنه، وترك ما يدنِّسه ويَشينه (2) . ويلاحظ أن فقهاء المذاهب السابقة يلحقون المروءة بشرط العدالة، لأن ترك المروءة يدل على عدم المحافظة وهى لازم العدالة. والمروءة عند المالكيين هى المحافظة على فعل ما تَرْكُه مباح يوجب الذم عرفًا، كترك الملئ الانتعال فى بلد يستقبح فيه مشى مثله حافيًا، وعلى ترك ما فِعْلُه مباح يوجب ذمه عرفًا؛ كالأكل فى السوق، وفى حانوت الطباخ لغير الغريب. ولا يراد بالمروءة نظافة الثوب وفراهة المركوب وجودة الآلة وحسن الشارة، بل المراد التصون، والسمت الحسن، وحفظ اللسان، وتجنب المجون والسخف، والارتفاع عن كل خلق ردئ يرى أن من تخلق به لا يحافظ معه على دينه وإن لم يكن فى نفسه حرمة (3) . والمروءة عند الحنفيين أن لا يأتى الإنسان بما يعتذر منه مما يبخسه عن مرتبته عند أهل الفضل، وقيل: السمت الحسن وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون والارتفاع عن كل خلق دنئ. والمروءة عند محمد هى الدين والصلاح (4) . والمروءة عند الشافعيين هى الإنسانية، وهى مشتقة من المرء. وعندهم أن من ترك الإنسانية لم يؤمن أن يشهد الزور؛ لأن من لا يستحى من الناس فى   (1) المهذب [ج2 ص343] ، أسنى المطالب [ج4 ص339] . (2) الإقناع [ج4 ص437] ، المغنى [ج12 ص32] . (3) مواهب الجليل [ج6 ص152] . (4) البحر الرائق [ج7 ص100] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 ترك المروءة لم يبال بما يصنع (1) . ويستدلون على ذلك بما روى أبو مسعود البدرى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت". والمروءة عند الحنابلة هى تمسك الإنسان بما يجمله ويزينه وترك ما يشينه، أو هى اجتناب الأمور الدنيئة المزرية بالإنسان من فعل أو قول أو عمل (2) . والعدل فى المذهب الزيدى هو ما كان منزهًا عن محظورات دينه. فالعدالة عندهم إذن هى التنزه عن المحظورات الدينية (3) ، ويعرفها بعضهم بأنها ملازمة التقوى والمروءة. والعدل عند الظاهريين هو من لم تعرف له كبيرة ولا مجاهرة بصغيرة. والكبيرة هى ما سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبيرة أو ما جاء فيه الوعيد، والصغيرة ما لم يأت فيه وعيد. وهم لا يشترطون المروءة لتحقق العدالة ويرون الاكتفاء بالطاعة واجتناب المعصية؛ لأنه إذا كانت المروءة من الطاعة فالطاعة تغنى عنها، وإن لم تكن من الطاعة فلا يجوز اشتراطها فى أمور الديانة إذ لم يأت بذلك قرآن ولا سنة (4) . واختلف الفقهاء فى ثبوت العدالة، فرأى أبو حنيفة والظاهريون أن العدالة تفترض فى الشاهد حتى يثبت جرحه، بمعنى أنه إذا لم يجرح المشهود عليه الشاهد قبلت الشهادة دون أن يكون على القاضى أن يتحرى عن عدالة الشاهد، وحجة أبى حنيفة ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الناس عدول بعضهم على بعض إلا محدودًا فى قذف"، وما جاء فى كتاب عمر رضى الله عنه إلى أبى موسى: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا فى حد، أو ظنينًا فى ولاء أو قرابة"، وحجة الظاهريين أن فاعل الكبيرة فاسق وأن من عداه عدل؛ لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ   (1) المهذب [ج2 ص343] . (2) المغنى [ج12 ص33] ، الإقناع [ج4 ص437] . (3) شرح الأزهار [ج4 ص194] ، البحر الزخار [ج5 ص50] . (4) المحلى [ج9 ص393، 395] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] ، وما كفره الله وأسقطه لا محل لأحد أن يذم به صاحبه ولا أن يصفه به (1) . ويرى المالكيون والشافعيون والحنابلة والزيديون، ومعهم أبو يوسف ومحمد من فقهاء المذهب الحنفى، أن يتحرى القاضى عن عدالة الشهود ولو لم يجرحهم المشهود عليه؛ لأن القضاء قائم على شهادة العدل فوجب أن يتأكد القاضى من توفر صفة العدالة فى الشاهد ليقبل شهادته (2) . 535 - سابعًا: الإسلام: يشترط فى الشاهد أن يكون مسلمًا، فلا تقبل شهادة غير المسلم سواء كانت الشهادة على مسلم أو غير مسلم. وهذا هو الأصل الذى يسلم به جميع الفقهاء، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، ولكن هذا الأصل المتفق عليه له استثناءات مختلف عليها: الاستثناء الأول: شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض: يرى الحنفيون قبول شهادة الذميين على مثلهم والحربين على مثلهم، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض، ولأنهم من أهل الولاية على أنفسهم وأولادهم فيكونون من أهل الشهادة على جنسهم (3) . ويرى الزيديون قبول شهادة غير المسلم على ملته دون غيرهم من الملل، فلا تجوز شهادة اليهود على النصارى ولا شهادة النصارى على اليهود (4) . ويرى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قبول شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض   (1) البحر الرائق [ج7 ص69] ، المحلى [ج9 ص393] . (2) مواهب الجليل [ج6 ص150] ، أسنى المطالب [ج4 ص312] ، الإقناع [ج4 ص400] ، البحر الرائق [ج7 ص69] ، المحلى [ج9 ص393، 394] . (3) البحر الرائق [ج7 ص102، 104] . (4) شرح الأزهار [ج4 ص193] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 تحقيقًا للمصلحة العامة وتحقيقًا للعدالة، وهما بذلك يرجحان رواية ضعيفة عن أحمد بجواز قبول الشهادة (1) . ولا يقبل المالكيون والشافعيون شهادة غير المسلمين، هذا يتفق مع الرواية المشهورة فى مذهب أحمد - وهى الرواية المعمل بها - كما يتفق مع المذهب الظاهرى (2) . الاستثناء الثانى: شهادة غير المسلمين على المسلمين فى الوصية حال السفر: يرى الحنابلة أنه إذا شهد بوصية المسافر الذى مات فى سفره شهود من غير المسلمين قبلت شهادتهم إذا لم يوجد غيرهم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْت} [المائدة: 106] . ويتفق رأى الظاهريين مع رأى الحنابلة فى قبول شهادة غير المسلم إذا لم يوجد غيرهم. أما المالكيون والحنفيون والشافعيون والزيديون فلا يقبلون شهادة غير المسلم فى هذه الحالة، وحجتهم أن من لا تقبل شهادته على غير الوصية لا تقبل فى الوصية كالفاسق، ولأن الفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى. واختلفوا فى تأويل الآية، فمنهم من حملها على التحمل دون الأداء، ومنهم من قال: المراد بقوله {مِنْ غَيْرِكُمْ} أى من غير عشيرتكم، ومنهم من قال: معنى الشهادة فى الآية هو اليمين (3) . الاستثناء الثالث: شهادة غير المسلم على المسلم عند الضرورة: يرى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قبول شهادة غير المسلم على المسلم فى كل   (1) الطرق الحكمية [ص157، 163] . (2) مواهب الجليل [ج6 ص150] ، أسنى المطالب [ج4 ص339] ، المغنى [ج12 ص53] ، المحلى [ج9 ص406] . (3) المغنى [ج12 ص51] ، مواهب الجليل [ج6 ص150] ، أسنى المطالب [ج4 ص339] ، المحلى [ج9 ص406] ، الطرق الحكمية [ص163، 171] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 ضرورة حضرًا وسفرًا فى كل شئ عُدم فيه المسلمون، قياسًا على قبول شهادتهم فى الوصية، لأن شهادتهم قبلت فى الوصية للضرورة فتقبل فى كل ضرورة. وفى مذهب أحمد رواية بقبول شهادة السبى بعضهم لبعض فى النسب إذا ادعى أحدهم أن الآخر أخوه، وهذا للضرورة. ويجيز مالك شهادة الطبيب غير المسلم حتى على المسلم للحاجة استثناء واحدًا فى مذهبه، أما بقية الفقهاء فلا يقبلون شهادة غير المسلم (1) . 536 - انتفاء موانع الشهادة: يشترط فى الشاهد أن لا يقوم به مانع يمنع شرعًا من قبول شهادته، والموانع التى تمنع من قبول الشهادة هى: أ - القرابة: تمنع القرابة من قبول الشهادة عند مالك: من ذلك أنه لا يقبل شهادة الأبوين لأولادهما، ولا شهادة الأولاد لأبويهم، ولا يقبل شهادة الزوجين أحدهما للآخر (2) . ويمنع أبو حنيفة من قبول شهادة الأصل لفرعه، والفرع لأصله، وأحد الزوجين للآخر (3) . وفى مذهب الشافعى: لا تقبل شهادة الوالدين للأولاد وإن سفلوا، ولا شهادة الأولاد للوالدين وإن علوا، على أن بعض فقهاء المذهب يرى قبولها. أما شهادة أحد الزوجين للآخر فلا مانع منها عند الشافعيين (4) . وفى مذهب أحمد: لا تقبل شهادة عمودى النسب بعضهم لبعض من والد وإن علا ولو من جهة الأم، وولد وإن سفل من ولد البنين والبنات. كذلك لا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه (5) . وحجة من يمنع الشهادة للقرابة ما رواه ابن عمر عن رسول الله - صلى الله   (1) نفس المراجع السابقة، والمغنى [ج12 ص54] ، الطرق الحكمية [ص159، 171، 174] . (2) مواهب الجليل [ج6 ص154] . (3) البحر الرائق [ج7 ص87، 89] . (4) المهذب [ج2 ص347] . (5) الإقناع [ج4 ص421] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 عليه وسلم - أنه قال: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذى حِنَة"، والظنين المتهم، والقريب متهم بمحاباة قريبه. ويرى الظاهريون والزيديون أن القرابة لا تمنع من قبول الشهادة ما دام الشاهد عدلاً، فكل عدل مقبول لكل أحد وعليه (1) . ب - العداوة: وجمهور الفقهاء لا يقبلون شهادة العدو على عدوه إذا كانت العداوة من الشاهد والمشهود عليه فى أمر الدنيا كالأموال والمواريث والتجارة ونحوها. أما إذا كانت غضبًا لله لفسقه وجراءته على الله لغير ذلك لم تسقط. ولذلك تجوز شهادة المسلم على غير المسلم لأن عداوة الدين عامة، والمعتبر فى عدم قبول الشهادة العداوة الخاصة، وعلى هذا مذهب مالك والشافعى وأحمد والمذهب الزيدى (2) . وفى مذهب أبى حنيفة يرى المتأخرون أن شهادة العدو لا تقبل على عدوه إن كانت العداوة دنيوية؛ لأن المعاداة لأجل الدنيا حرام، فمن عادى لأجل الدنيا لا يؤمن منه التقول على عدوه. أما إذا كانت العداوة لأجل الدين فإنها لا تمنع من قبول الشهادة؛ لأنها تدل على كمال دين الشاهد وعدالته، وهذا لأن المعاداة قد تكون واجبة كأن رأى فيه منكرًا ولم ينته بنهيه. أما المتقدمون من فقهاء المذهب فيرون أن العداوة بسبب الدنيا لا تمنع من الشهادة ما لم يفسق الشاهد بسببها أو يجلب منفعة أو يدفع بها عن نفسه مضرة. ويرى أبو حنيفة نفسه أن شهادة العدو على عدوه تقبل إن كان عدلاً، ولكن المتأخرين خالفوا رأيه لما رواه أبو داود مرفوعًأ: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زانٍ ولا زانية ولا ذى غَمَر على أخيه". والغمر هو الحقد (3) .   (1) المحلى [ج9 ص415] ، شرح الأزهار [ج4 ص198، 199] . (2) مواهب الجليل [ج6 ص159] ، أسنى المطالب [ج4 ص252] ، المهذب [ج4 ص252] ، المهذب [ج2 ص348] ، المغنى [ج12 ص55] ، شرح الأزهار [ج4 ص197] . (3) البحر الرائق [ج7 ص93، 94] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 ويرى الظاهريون أن الحكم يتعلق بنفس الشاهد، فإن كانت عداوته للمشهود له تخرجه إلى ما لا يحل فهى جرحة فيه ترد شهادته لكل أحد وفى كل شئ، وإن كانت العداوة لا تخرج الشاهد إلى ما لا يحل فهو عدل مقبول الشهادة. ويرد الظاهريون الحديث السابق من كل طرقه، لأن فى رواته مجهولين أو لأنه مرسل، ويحتجون بقوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، ويرون أن الله أمرنا بالعدل على أعدائنا فصح أن من حكم بالعدل على عدوه أو صديقه أو لهما أو شهد وهو عدل على عدوه أو صديقه أو لهما فشهادته مقبولة وحكمه نافذ (1) . جـ - التهمة: وهى أن يكون بين الشاهد والمشهود له ما يبعث على الظن بأن الشاهد يحابى المشهود له بشهادته، أو أن يكون للشاهد مصلحة تعود عليه من أداء الشهادة، ويدخل تحت التهمة القريب لقريبه والعدو على عدوه، ولكنا رأينا أن نخص القرابة والعداوة بالكلام على حدة لما لهما من أهمية خاصة. والشهادات التى يتهم فيها الشاهد كثيرة، من ذلك شهادة الشريك لشريكه، وشهادة الأجير لمن يستأجره، وشهادة الخادم لمخدومه، وشهادة السائل، وشهادة الوكيل لموكله، وشهادة من يدفع بالشهادة عن نفسه ضررًا أو يجر لنفسه نفعًا. والأصل فى عدم قبول الشهادة للتهمة قوله تعالى: {وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] ، وما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تجوز شهادة ظنين"، وأنه قال: "لا تجوز شهادة ذى الظنة ولا ذى الحِنَة"، والظنة: التهمة، والحنة: العداوة. والفقهاء لم يتفقوا على كل الحالات التى ترد فيها الشهادة للتهمة، فبعضهم يرد الشهادات فى كل الحالات التى سبق ذكرها، وبعضهم يردها فى حالات دون حالات، أو من وجه دون وجه، ومنشأ ذلك اختلاف وجهات النظر عند التطبيق. ويمكن القول بأن جمهور الفقهاء فى مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعى   (1) المحلى [ج9 ص412، 420] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 وأحمد وزيد لا يقبلون الشهادة للتهمة على اختلاف بينهم فى التطبيق. أما الطاهريون فلا يرون الشهادة للتهمة، ويرون قبول الشهادة ما دام الشاهد عدلاً (1) . 537 - الشروط الخاصة للشهادة على الزنا: يشترط أن تتوفر فى شاهد الزنا - بعد الشروط العامة التى ذكرناها - شروط خاصة هى: أولاً: الذكورة: يشترط جمهور الفقهاء فى شهود الزنا أن يكونوا رجالاً كلهم، ولا يقبلون فى الزنا شهادة النساء، ذلك أن النصوص قاطعة فى أن عدد الشهود لا يقل عن أربعة (2) ، وأن شهادة الرجل تعادل شهادة امرأتين: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] ، وإذا كان لفظ الأربعة اسم لعدد الشهود فإن ذلك يقتضى الاكتفاء بشهادة أربعة، ولا شك فى أن الأربعة إذا كان بعضهم نساء لا يكتفى بهم إذ أن أقل ما يجزئ فى هذه الحالة خمسة على فرض أن فيهم امرأة واحدة، وهذا مخالف للنص، كذلك فإن فى شهادة النساء شبهة لتطرق الضلال إليهن والقاعدة عند جمهور الفقهاء أن الحدود تدرأ بالشبهات. ومذاهب الفقهاء الأربعة (3) تقوم على اشتراط الذكورة فى الشاهد، وكذلك مذهب الشيعة الزيدية (4) ، على أن اشتراط الذكورة إذا كان له محل فى شهادة الإثبات فلا محل لاشتراطه فى شهادة النفى، ومن ثم يجوز أن يكون شهود النفى من النساء.   (1) المحلى [ج9 ص412، 420] ، مواهب الجليل [ج6 ص154، 177] ، البحر الرائق [ج7 ص86، 107] ، أسنى المطالب [ج4 ص349] ، المغنى [ج12 ص49، 60] ، شرح الأزهار [ج4 ص195، 199] . (2) راجع الفقرة [51] . (3) مواهب الجليل [ج6 ص180] ، شرح فتح القدير [ج4 ص114] ، المهذب [ج2 ص350] ، المغنى [ج10 ص175] . (4) شرح الأزهار [ج4 ص185، 186] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وقد روى عن عطاء وحماد أنهما قبلا شهادة ثلاثة رجال وامرأتين فى الزنا (1) . ويرى ابن حزم أنه يجوز أن يقبل فى الزنا امرأتان مسلمتان عدلتان مكان كل رجل، فيكون الشهود ثلاثة رجال وامرأتين، أو رجلين وأربع نسوة، أو رجلاً واحدًا وست نسوة، أو ثمانى نسوة فقط لا رجال معهم (2) . هل يصح أن يكون الزوج شاهدًا؟: لا يجيز مالك والشافعى وأحمد أن يكون الزوج أحد الشهود على زوجته الزانية، لأن الزوج يقذف الزوجة بالزنا، أو لأنه متهم بدعواه أن الزوجة خائنة (3) . ويرى أبو حنيفة أن يكون الزوج أحد الشهود الأربعة، وأنه غير متهم فى شهادته لأن التهمة ما توجب جر نفع، والزوج ملحق على نفسه بهذه الشهادة لحوق العار وخلو الفراش خصوصًا إذا كان له منها أولاد صغار (4) . وعلى هذا مذهب الزيديين (5) . ويفرق ابن حزم بين ما إذا جاء الزوج قاذفًا وبين مجيئه شاهدًا، فإن جاء الزوج قاذفًا فلابد من أربعة شهود سواه وإلا حُدَّ أو يلاعن، فإن لم يكن قاذفًا لكن جاء شاهدًا فإن كان عدلاً ومعه ثلاثة عدول فهى شهادة تامة وعلى المشهود عليها حد الزنا (6) . ثانيًا: الأصالة: ويشترط أبو حنيفة الأصالة فى الشهود، أى أن يكونوا شهدوا الحادث بأنفسهم، فلا تقبل عنده شهادة الشاهد على الشاهد (7) أى الشهادة السماعية، كما أنه لا يقبل كتاب القاضى إلى القاضى، أى أنه لا يقبل شهادة شهود الإثبات أمام قاضٍ غير القاضى الذى ينظر الدعوى ويفصل فيها إذا شهدوا كلهم   (1) المغنى [ج10 ص175] . (2) المحلى [ج9 ص395] . (3) المدونة [ج16 ص8] ، المهذب [ج2 ص384] ، الإقناع [ج4 ص442] . (4) شرح فتح القدير [ج4 ص114] . (5) شرح الأزهار [ج4 ص337] . (6) المحلى [ج11 ص261، 263] . (7) تسمى شهادة الشاهد السماعية، وتسمى أيضًا بالإرعاء، لأن الأصيل يسترعى السامع ليسمع شهادته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 أو بعضهم أمام الأول فأرسل شهادتهم إلى الأخير، لأن كتاب القاضى يعتبر بذاته شهادة على شهادة. والعلة فى منع الشهادة على الشهادة قيام الشبهة فى صحة الشهادة المنقولة، ذلك أن الاحتياط واجب فى الحدود، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، فلا تقبل الشهادة للشبهة فى صحتها. ويرتب أبو حنيفة على عدم قبول شهادة الفروع (1) أنه إذا جاء الأصول بعد رد شهادة الفروع فشهدوا بأنهم عاينوا الحادث وذكروا نفس ما شهد به الفروع من الزنا، فلا تقبل شهادة الأصول أيضًا لأن شهادتهم قد ردها الشرع من وجه برد شهادة الفروع فى عين الحادثة التى شهد بها الأصول إذا هم قائمون مقامهم فيصار ذلك شبهة فى درء الحد عن المشهود عليه بالزنا (2) . والأصل عند أبى حنيفة هو قبول الشهادة على الشهادة، ولكنه لا يقبلها استثناء فى الحدود والقصاص (3) . والأصل عند الشافعى أن الشهادة تجوز فى حقوق الآدميين وفيما لا يسقط بالشبهة من حقوق الله تعالى؛ لأن الحاجة تدعو لذلك عند تعذر شهادة الأصل بالموت والمرض والغيبة، أما الحدود المقررة حقًا خالصًا لله تعالى وهى حد الزنا وحد السرقة وقطع الطريق وشرب الخمر ففيها يقولان: أحدهما أنه يجوز فيها الشهادة على الشهادة لأنه حق يثبت بالشهادة فجاز أن يثبت بالشهادة على الشهادة كحقوق الآدميين. والثانى: أنه لا يجوز لأن حدود الله تعالى مبنية على الدرء والإسقاط فلا يثب إلا بما يؤكدها ويوثقها، والشهادة على الشهادة فيها من الشبهة ما يمنع من التأكيد والتوثيق، وهذا هو الرأى الراجح فى المذهب (4) ،   (1) تسمى شهادة من عاين الحادث شهادة الأصول، وتسمى شهادة الناقلين عن الأصول شهادة الفروع. (2) شرح فتح القدير [ج4 ص171] . (3) حاشية ابن عابدين [ج4 ص544] . (4) المهذب [ج2 ص355] ، أسنى المطالب [ج4 ص377] ، نهاية المحتاج [ج8 ص151] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 والقاعدة عند الشافعى أن ما يثبت بالشهادة على الشهادة يثبت بكتاب القاضى إلى القاضى، وما لا يثبت بالشهادة على الشهادة الذى كتب له الشهادة فكان حكمه حكم الشهادة على الشهادة (1) . ويرى أحمد أن الشهادة على الشهادة لا تقبل إلا فى حق يقبل فيه كتاب القاضى إلى القاضى، وترد فيما يرد فيه (2) ، ولا يقبل كتاب القاضى عند أحمد فى حد الله تعالى كالزنا، ويقبل فى كل حق آدمى من المال وما يقصد به المال كالدية والقصاص والقذف، ويعللون التسوية بين كتاب القاضى والشهادة على الشهادة بأن كتاب القاضى ليس إلا شهادة على شهادة (3) . ولا يقبل الزيديون الشهادة على الشهادة فى الزنا، لأن القاعدة عندهم أن الشهادة على الشهادة (أو الإرعاء) تجوز فى جميع الحقوق إلا الحد والقصاص (4) . ولا يشترط مالك الأصالة فى الشهود، فتجوز عنده الشهادة على الشهادة فى الحدود وغير الحدود، كما يقبل كتاب القاضى إلى القاضى فى الحدود وغير الحدود. ويشترط فى مذهب مالك أن ينقل عن كل شاهد أصيل شاهدان، ويجوز أن ينقل الشاهدان عن شاهد واحد أو عن أكثر من شاهد، ولكن لا يجوز بحال أن ينقل شاهد واحد عن شاهد أصيل ولو مع يمين المدعى، ويشترط فى الشاهدين الناقلين أن لا يكون أحدهما شاهدًا أصيلاً، كأن يشهد شخص على معاينة الجريمة، ويشهد مع غيره على شهادة آخر عاين الجريمة (5) . وفى الزنا يجوز أن يشهد أربعة على شهادة أربعة أو يشهد كل اثنين على شهادة واحد أو شهادة اثنين، أو يشهد ثلاثة على شهادة ثلاثة ويشهد اثنان على شهادة الرابع،   (1) المهذب [ج2 ص355] . (2) الإقناع [ج4 ص447] . (3) الإقناع [ج4 ص406] . (4) شرح الأزهار [ج4 ص186، 205] . (5) شرح الزرقانى [ج7 ص195] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 أما إذا شهد اثنان أو ثلاثة على شهادة الأربعة فلا تقبل الشهادة، لأنهم يوجبون أن لا يكون عدد الشهود السماعيين أقل من عدد الشهود الأصليين (1) . وإذا شهد اثنان على شهادة ثلاثة وشهد اثنان على شهادة الرابع لم تصح الشهادة، لأنه لا يصح أن يكون عدد الشهود السماعيين أقل من عدد الأصليين، وكذلك الحكم لو أدى الرابع الشهادة بنفسه أو نقل ثلاثة وواحد عن كل الأربعة إذ الرابع لم ينقل عنه اثنان (2) . ويجوز عند مالك أن تجتمع شهادة النقل بشهادة الأصل ويلفق منهما شهادة واحدة فى الزنا وغيره، كأن يشهد اثنان على رؤية الزنا وينقل اثنان عن كل واحد من الاثنين الآخرين، أو يشهد ثلاثة بالرؤية وينقل اثنان عن كل واحد من الاثنين الآخرين، أو يشهد ثلاثة بالرؤية وينقل اثنان عن الرابع، فتتم الشهادة فى هاتين الصورتين وتعتبر شهادة مقبولة، لكن إذا نقل اثنان عن ثلاثة وشهد الرابع بنفسه فلا تقبل الشهادة لأن النقل غير صحيح إذ الاثنان لا ينقلان عن ثلاثة (3) . وعند الظاهريين تقبل الشهادة على الشهادة فى كل شئ ويقبل فى ذلك واحد على واحد؛ لأن الله تعالى أمرنا بقبول شهادة العدول، والشهادة على الشهادة شهادة عدول فقبولها واجب، ولا فرق بين واحد وبين اثنين فى تبيين الحق خصوصًا وأن ما ينقله شاهد السماع خبر والخبر يؤخذ من الواحد الثقة (4) . والقاعدة عند جمهور الفقهاء (5) أن الشهادة على الشهادة لا يجوز الحكم بها إلا عند تعذر حضور الشهود الأصلاء، كأن يموت الشاهد الأصيل، أو يمرض   (1) مواهب الجليل [ج6 ص198، 199] . (2) شرح الزرقانى [ج7 ص195، 196] . (3) شرح الزرقانى [ج7 ص196] . (4) المحلى [ج9 ص438] وما بعدها. (5) يرى أبو يوسف ومحمد بن الحسن قبول الشهادة على شهادة الحاضر فى المصر وإن كان صحيحًا، ويرى مثل ذلك ابن حزم، وحجته أنه لم يجد لمن منع من قبول الشهادة على شهادة الحاضر حجة أصلاً لا من قرآن ولا من سنة ولا من قول أحد السلف ولا قياس ولا معقول، المحلى [ج9 ص438، 439] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 مرضًا يمنعه من الانتقال، أو أن يكون غائبًا، أو مجهول المكان، فإذا كان حضور الأصيل ممكنًا لم تقبل الشهادة على الشهادة، لأن شهادة الأصل أقوى لكونها مثبتة لنفس الحق أما الشهادة على الشهادة فتثبت شهادة الشاهد الأصيل (1) . ورأى أبى حنيفة والشافعى وأحمد فى كتاب القاضى إلى القاضى يتفق مع قاعدة القانون المصرى فى المسائل الجنائية، إذ يوجب أن يسمع الشهود القاضى الذى يحكم فى القضية. أما رأى مالك والظاهريين فيتفق مع قاعدة القانون المصرى فى المسائل المدنية، إذ يجيز فى المسائل المدنية أن يسمع الشهود قاض غير الذى يحكم فى القضية ثم يرسل بالشهادة مكتوبة إلى زميله الذى ينظر موضوع القضية. ثالثًا: أن لا يتقادم الحد: يشترط أبو حنيفة لقبول الشهادة أن لا يكون حادث الزنا قد تقادم، والأصل فى مذهب أبى حنيفة، أن شهادة الشهود بحد متقادم لا تقبل إلا فى حد القذف خاصة، وعلة التفرقة بين القذف وغيره من الحدود أن الشاهد لا يستطيع أن يتقدم بشهادته فى القذف إلا بعد رفع الدعوى، ولا يحرك الدعوى إلا المقذوف، فإذا تأخر الشاهد حتى رفعت الدعوى فلا تهمة، أما بقية الحدود فيجوز لشاهد فيها أن يتقدم لشهادته دون حاجة لشكوى من المجنى عليه. ويحتج الحنفيون لفكرة التقادم بأن الشاهد طبقًا لقواعد الشريعة مخير إذا شهد الحادث بين أداء الشهادة حسبة لله تعالى لقوله جل شأنه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، وبين أن يتستر على الحادث لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه فى الآخرة"، فإذا سكت الشاهد عن الحادث حتى قدم عليه العهد دل بذلك على اختيار جهة الستر، فإذا شهد بعد ذلك فهو دليل على أن الضغينة هى التى حملته على الشاهدة، ومثل هذا لا تقبل شهادته للتهمة   (1) مواهب الجليل [ج6 ص198] ، المهذب [ج2 ص355] ، الإقناع [ج4 ص447] ، حاشية ابن عابدين [ج4 ص544] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 والضغينة، وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا عن ذغن ولا شهادة لهم. ولم ينقل أن أحدًا أنكر عليه هذا القول فيكون إجماعًا، والمستفاد من قول عمر أن الشهادة المتأخرة تورث التهمة ولا شهادة لمتهم طبقًا لقواعد الشريعة العامة (1) . ومع أن أبا حنيفة يقول بالتقادم على الوجه السابق، فإنه يرد الشهادة المتقادمة، ويقبل الإقرار بما سوى الشرب. ويؤيده فى هذا أبو يوسف ولكن محمد بن الحسن يرى رد الشهادة المتقادمة ويقبل الإقرار مطلقًا حتى بالشرب القديم (2) . ويستخلص مما سبق أن الحنفيين لا يجعلون للتقادم أثرًا على الجريمة، فالجريمة قائمة مهما تقادم عليها العهد، ومن الواجب أن يعاقب مرتكبها، ولكنهم يجعلون للتقادم أثرًا على الشهادة بحيث إذا تأخرت الشهادة عن الوقت المناسب ردت للتهمة، ورد الشهادة يؤثر من طريق غير مباشر على الجريمة إذ لا يعاقب الجانى عليها لانعدام الأدلة. وهناك رأى آخر نقل عن ابن أبى ليلى وخلاصته: أن لا تقبل الشهادة ولا الإقرار أيضًا إذا تقادما (3) . ولا يمنع التقادم عند أبى حنيفة من قول الشهادة إلا إذا كان تأخر الشاهد بشهادته لغير عذر ظاهر، فإن كان التأخر فى الشهادة لعذر ظاهر قبلت الشهادة، كبعد المسافة عن محل القاضى أو كمرض الشاهد أو غير ذلك من الموانع الحسية (4) . ولم يقدر أبو حنيفة للتقادم حدًا، وفوض الأمر للقاضى يقدره طبقًا   (1) بدائع الصنائع [ج7 ص46] ، شرح فتح القدير [ج4 ص162] . (2) شرح فتح القدير [ج4 ص162] . (3) شرح فتح القدير [ج4 ص162] . (4) شرح فتح القدير [ج4 ص165] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 لظروف كل حالة؛ لأن اختلاف الأعذار يجعل التوقيت متعذرًا، ولكن بعض فقهاء المذهب قدروا التقادم بشهر وقدره البعض الآخر بستة أشهر (1) . أما مالك والشافعى وأصحابهما ومعهم الزيديون والظاهريون فلا يعترفون بالتقادم ويقبلون الشهادة المتأخرة والإقرار بجريمة قديمة ولا يردونهما لقدمهما (2) . وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما يتفق مع رأى أبى حنيفة، والثانى يتفق مع رأى مالك والشافعى، وهو الرأى المعمول به فى المذهب (3) . رابعًا: أن تكون الشهادة فى مجلس واحد: يشترط عند مالك وأبى حنيفة وأحمد أن يتقدم شهود الزنا بشهادتهم فى مجلس قضائى واحد، وليس من الضرورى عند أحمد أن يأتى الشهود مجتمعين، فيصح أن يأتوا متفرقين ما دام مجلس القضاء منعقدًا، فإذا انقضى المجلس فلا تقبل شهادة المتأخر منهم، واعتبر من أدى الشهادة قاذفًا ما دام أن عددهم أقل من أربعة، أما مالك وأبو حنيفة فيشترطان تجمع الشهود عند بدء الشهادة، فإن جاءوا متفرقين يشهدون واحدًا بعد الآخر لا تقبل شهادتهم ويحدون وإن كثروا، فالشرط إذن اجتماعهم فى مجلس واحد وقت أداء الشهادة، أما إذا جاء بعضهم فجلس فى أماكن الشهود فلما بدأت المحكمة سماع الشهود لم يكن عددهم متكاملاً فلما سئل أحدهم جاء الثانى ولما سئل الثانى حضر الثالث وهكذا، فإن شهادتهم لا تقبل ويعتبرون قذفة (4) . ولا يشترط الشافعيون والزيديون والظاهريون هذا الشرط، ويستوى عندهم أن يأتى الشهود متفرقين أو مجتمعين، وأن تؤدى الشهادة فى مجلس واحد أو أكثر   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص165] . (2) المغنى [ج10 ص187] ، المحلى [ج11 ص144] ، شرح الأزهار [ج4 ص339] . (3) المغنى [ج10 ص187] . (4) مواهب الجليل [ج6 ص179 [، شرح الزرقانى [ج7 ص176 وج8 ص81] ، شرح فتح القدير [ج4 ص120] ، بدائع الصنائع [ج7 ص48] ، المغنى [ج10 ص178، 179] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 من مجلس، وحجتهم أن الله تعالى قال: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] فذكر الشهود ولم يذكر المجلس، وقال: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] ، ولأن كل شهادة مقبولة تقبل إن تقبل إن اتفقت ولو تفرقت فى مجلس كسائر الشهادات (1) . ويحتج أصحاب الرأى المضاد بعمل عمر رضى الله عنه، فقد شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة وهم أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد ولم يشهد زياد فحد عمر الثلاثة، ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع فى مجلس آخر، ولأنه لو شهد ثلاثة فحدهم ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم. وأما الآية فإنها لم تتعرض لشروط ولهذا لم تذكر العدالة وصفة الزنا مثلاً، ولأن قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] لا يخلو من أن يكون مطلقًا فى الزمان كله أو مقيدًا، ولا يصح أن يكون مطلقًا لأنه يمنع من جواز جلدهم، لأنه ما من زمن ألا يجوز أن يأتى فيه بأربعة شهداء أو يكلمهم إن كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به، وإذا ثبت أنه مقيد فأولى ما قيد به المجلس لأن المجلس كله بمنزلة الحال الواحدة (2) . خامسًا: أن يكون عدد الشهود أربعة: إذا شهد على الزنا أقل من أربعة شهود لم تقبل شهادتهم وحدوا حد القذف عند مالك وأبى حنيفة والزيديين (3) ؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . والرأى الراجح فى مذهب الشافعى ومذهب أحمد يتفق مع رأى مالك وأبى حنيفة، أما الرأى المرجوح فيرى أصحابه أن لا يحد الشهود إذا نقص عددهم   (1) المغنى [ج10 ص187] ، المهذب [ج2 ص350] ، شرح الأزهار [ج4 ص337] ، المحلى [ج11 ص259] . (2) المغنى [ج10 ص178] . (3) شرح فتح القدير [ج4 ص170] ، شرح الزرقانى ج7 ص197] ، المغنى [ج10 ص179] ، شرح الأزهار [ج4 ص338] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 عن أربعة ما دام أنهم قد جاءوا مجئ الشهود؛ أى تقدموا لأداء الشهادة حسبة له تعالى، ولم يكن ثمة ما يدفعهم للشهادة غير ذلك، ولأن الشهادة على الزنا أمر جائز والجائز لا عقاب عليه، ولأن إيجاب العقاب يؤدى إلى الامتناع عن الشهادة خشية أن يتوقف أحد الشهود عن الشهادة (1) . ويرى الظاهريون أن الشاهد بالزنا لا يحد أصلاً سواء كان معه غيره أم لم يكن إذ الحد شرع للقاذف الرامى ولم يشرع لشهداء أو البينة، وقد فرق القرآن والسنة بين الشهد من البينة وبين القاذف الرامى فلا يحل البتة أن يكون لأحدهما حكم الآخر (2) . ويرد أصحاب الرأى المخالف بأن الثابت من قضاء عمر أنه حد الشهود الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة حينما لم يكمل الرابع الشهادة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد. وإذا تبين أن الشهود الأربعة ليس لكلهم أو لبعضهم أهلية الشهادة كأن كان أحدهم فاسقًا أو محدودًا فى قذف، فيرى مالك سقوط الشهادة وأن على الشهود جميعًا الحد؛ لأنها شهادة لم تكمل، هذا إذا تبين انعدام الأهلية قبل الحكم، أما إذا كان ذلك بعد الحكم فلا حد على واحد منهم؛ لأن الشهادة تمت باجتهاد القاضى (3) . ويرى أبى حنيفة (4) حد الشهود سواء تبين انعدام الأهلية قبل الحكم أو بعد الحكم وقبل التنفيذ، أما إذا كان العلم بانعدام الأهلية بعد التنفيذ فإن كان الحد جلدًا فكذلك يحد الشهود ولا يضمنون أرش الضرب فى قول أبى حنيفة، وعند محمد وأبى يوسف يجب الأرش فى بين المال. وإن كان الحد رجمًا فلا يحد الشهود لأنه تبين أن كلامهم وقع قذفًا، ومن قذف حيًا ثم مات   (1) المهذب [ج2 ص350] ، المغنى [ج10 ص179] . (2) المحلى [ج11 ص260] . (3) شرح الزرقانى [ج7 ص198] . (4) بدائع الصنائع [ج7 ص48] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 المقذوف سقط الحد وتكون الدية فى بيت المال إذ يعتبر الخطأ حاصلاً من القاضى، وخطأ القاضى فى بيت المال، لأنه عامل لعامة المسلمين وبيت المال مالهم. ويفرقون فى مذهب أبى حنيفة بين الشهود باعتبار أهليتهم للتحمل والأداء، فمنهم من هو أهل للتحمل والأداء على وجه القصور كالفساق لتهمة الكذب، ومنهم من هو أهل للتحمل والأداء على وجه كالصبيان والمجانين والكفار، ومنهم من هو أهل للتحمل دون الأداء كالمحدودين فى قذف العميان، والنوع الأول يحكم بشهادته وتثبت الحقوق بها، والثانى يجب التوقف فى شهادته حتى يظهر صدقه، والثالث لا شهادة له أصلاً، والرابع تصح شهادته متحملاً ولا تقبل منه مؤديًا. ويرتبون على هذه التفرقة أن من فقد أهلية التحمل أو الأداء أو هما معًا يعتبر قاذفًا بشهادته، فإذا شهد أربعة عميان أو كفار أو محدودون فى قذف حدوا القذف، وإذا شهد أربعة بالزنا أحدهم أعمى أو كافر أو محدود فى قذف وجب على الأربعة حد القذف، الأول لانعدام أهليته والثلاثة لأن الشاهدة لم تكمل، أما إذا شهد بالزنا أربعة فساق فإن الحد يسقط عن المشهود عليه لعدم الثبوت وعن الشهود لثبوت شبهة الثبوت إذ أنهم أهل للشهادة على وجه القصور، وكذلك الحال إذا شهد أربعة أحدهم فاسق (1) . وعند الشافعى أنه إذا شهد أربعة بالزنا فرد الحاكم شهادة أحدهم فإن كان الرد بسبب ظاهر بأن كان أحدهم عبدًا أو كافرًا أو متظاهرًا بالفسق كان الأمر كما لو لم يتم العدد، لأن وجود هذا الشاهد كعدمه فلا يكمل العدد، وإن كان الرد بسبب خفى كالفسق الباطن ففيه وجهان: أن حكمه حكم ما لو نقص العدد لأن عدم العدالة كعدم الوجود، والوجه الثانى: أنهم لا يحدون قولاً واحدًا؛ لأنه إذا كان الرد بسبب باطن لم يكن من جهتهم تفريط فى الشهادة فهم معذورون   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص169، 170] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 فلا حد عليهم، وإن كان الرد بسبب ظاهر كانوا مفرطين فوجب الحد عليهم (1) . وفى مذهب أحمد ثلاث روايات إن كان الشهود غير مرضيين كلهم أو أحدهم، الأولى: عليهم الحد لأنها شهادة لم تكمل فوجب الحد على الشهود كما لو كانوا ثلاثة، والثانية: لا حد عليهم لأنهم جاءوا أربعة شهداء فدخلوا فى عموم الآية لأن عددهم كمل ورد الشهادة لمعنى غير تفريطهم، فأشبه ما لو شهد أربعة مستورون ولم تثبت عدالتهم أو فسقهم، والثالثة: إذا كانوا فساقًا فلا حد عليهم وإن لم يكونوا كذلك وكانوا غير مرضى الشهادة كالكفار والعميان فعليهم الحد (2) . ويلاحظ بهذه المناسبة ما سبق أن قلناه من أن فى مذهب الشافعى وأحمد رأيًا يرى أصحابه أن لا يُحد الشهود إذا نقض عددهم ما دام أنهم قد جاءوا مجئ الشهود. ومذهب الزيديين على أنه إذا كمل عدد الشهود سقط حد القذف عنهم ولو لم تكمل عدالتهم، لكن إذا لم يكونوا عدولاً لم يحد المقذوف، وكذلك لو كان أحد الشهود غير أهل للشهادة كالأعمى والمجنون، فإن الحد يسقط عن الشهود وعن المقذوف (3) ، ومعنى ما سبق أن الشهود لا يحدون إلا فى حالة واحدة هى أن لا يكمل عددهم أربعة. أما الظاهريون فقد رأينا من قبل أنهم لا يرون حد الشاهد سواء كان وحده أو كان معه غيره، ذلك أن الحد جعل للقاذف لا للشاهد. ومن المتفق عليه أن شاهد السماع لا حد عليه إذا لم تقبل شهادته أو لم يكمل عدد الشهود؛ لأن شهادته لا تعتبر قذفًا إذ أنه ينقل عن غيره والمفروض أنه حسن النية (4) ، فإذا شهد ثلاثة بأنهم رأوا الزنا وشهد الرابع بأنه سمع من آخر بأنه رأى الزنا لم تكمل الشهادة وحُدَّ شهود الرؤية عند من يرى حد الشهود إذا لم   (1) المهذب [ج2 ص350] . (2) المغنى [ج10 ص181] . (3) شرح الأزهار [ج4 ص354، 355] . (4) بدائع الصنائع [ج7 ص48] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 تكمل الشهادة (1) ، ولم يحد شاهد السماع. أما إذا شهد اثنان بالسماع وشهد ثلاثة بالرؤية فتقبل الشهادة وتعتبر كاملة عند مالك والظاهريين، ولا تقبل عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والزيديين، ويحد الشهود الثلاثة عند أبى حنيفة والزيديين وعلى الرأى الراجح فى مذهبى الشافعى وأحمد. وتقبل شهادة الشهود ولو اعترفوا بأنهم تعمدوا النظر إلى فرج المرأة ولا تبطل شهادتهم بذلك لأن أداء الشهادة فى الزنا يقتضى النظر إلى عين الفرج فيكون النظر مباحًا للشهود بقصد إقامة الشهادة، كما يباح للطبيب بقصد علاج المرض (2) . وإذا رجع الشهود عن الشهادة أو واحد منهم، فيرى مالك أن يحد الشهود الراجعون عن شهادتهم حد القذف إذا كان الرجوع بعد الحكم سواء كان قبل الاستيفاء أو بعده، أما إذا كان الرجوع قبل الحكم فيحد جميع الشهود ولو كان الرجوع من أحدهم فقط لأن الشهادة لم تكمل (3) . والأصل عند مالك أن الرجوع عن الشهادة قبل الحكم يسقط الشهادة لاعتراف الشهود بأنهم كانوا على وهم أو شك أو كانوا غير عدلين. أما إذا كان الرجوع بعد الحكم وقبل الاستيفاء فالشهادة لا تسقط، ولكن ينقض الحكم إذا تبين كذب الشهادة، كأن يتبين أن المتهم بالزنا مجبوب أو يظهر الشخص المدعى بقتله، وإذا كان الرجوع بعد الحكم وبعد الاستيفاء فلا تسقط الشهادة، ولا ينقض الحكم ولكن يعاقب الشهود (4) .   (1) يحد الشهود فى هذه الحالة طبقًا لمذهب مالك وأبى حنيفة وزيد وعلى الرأى الراجح فى مذهب الشافعى ومذهب أحمد، ولكنهم لا يحدون طبقًا لمذهب الظاهريين لأنهم يجيزون شهادة السماع ويجيزون أن ينقل الواحد عن واحد. (2) شرح فتح القدير [ج4 ص176] ، المهذب [ج2ص352] ، المغنى [ج10 ص177] ، شرح الزرقانى [ج7 ص177] ، مواهب الجليل [ج6 ص179] ، شرح الأزهار [ج4 ص388] . (3) شرح الزرقانى [ج7 ص197] . (4) شرح الزرقانى [ج7 ص196] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 ويرى أبو حنيفة أنه إذا شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم، فإذا رجع أحدهم بعد الإمضاء فعليه ربع الدية وعليه حد القذف، ويرى زفر أن لا يحد، فإذا لم يحد المشهود عليه بالزنا حتى يرجع أحدهم - أى أن الرجوع يكون بعد القضاء وقبل الإمضاء - فإن الشهود يحدون جميعًا، وقال محمد وزفر: يحد الراجع وحده لأن الشهادة تأكدت بالقضاء، وإذا رجع واحد منهم قبل القضاء حدوا جميعًا، وقال زفر: يحد الراجع وحده (1) . والقاعدة عند الشافعى أنه إذا شهد الشهود بحق ثم رجعوا عن الشهادة لم يخل إما أن يكون قبل الحكم أو بعد الحكم وقبل الاستيفاء، أو بعد الحكم وبعد الاستيفاء، فإن كان قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم لأنه يحتمل أن يكونوا صادقين فى الشهادة كاذبين فى الرجوع، ويحتمل أن يكونوا صادقين فى الرجوع كاذبين فى الشهادة، ولا حكم مع الشك، فإن رجعوا بعد الحكم وقبل الاستيفاء فإن كان فى حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء لأن هذه الحقوق تسقط بالشبهة، والرجوع شبهة ظاهرة، وإن رجعوا بعد الحكم والاستيفاء لم ينقض الحكم. ويترتب على هذه القواعد أنه إذا شهد أربعة بالزنا فرجع واحد منهم قبل أن يحكم بشهادتهم لزم الراجع حد القذف، وفى فقهاء المذهب من لا يرى حده لأنه أضاف الزنا للمشهود عليه بلفظ الشهادة دون قصد القذف وهو رأى مرجوح، وأما الثلاثة فلا حد عليهم قولاً واحدًا لأنه ليس من جهتهم تفريط ولأنهم شهدوا والعدد تام ورجوع الراجع لا يمكنهم الاحتراز منه، فإن رجعوا كلهم وقالوا تعمدنا الشهادة وجب عليهم الحد. أما إذا رجعوا كلهم أو بعضهم بعد الحكم وقبل التنفيذ حد الراجع دون من لم يرجع. وإذا كان الرجوع بعد الحكم وبعد التنفيذ فكذلك الحكم، إلا إذا كانت العقوبة الرجم فعلى الشهود القود إذا تعمدوا فى شهادتهم ما يوجب القتل، وعليهم الضمان فى حالة الخطأ (2) .   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص172] . (2) المهذب [ج2 ص350، 358] ، المغنى [ج10 ص182] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وعند أحمد: إذا رجع الشهود عن الشهادة أو واحد منهم فعلى جميعهم الحد فى أصح الروايتين، وهذا يتفق مع مذهب أبى حنيفة، والثانية: يحد الثلاثة دون الراجع لأنه إذا رجع قبل الحد فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم فيسقط عنه الحد، ولأن فى درء الحد عنه تمكينًا له من الرجوع الذى تحصل به مصلحة المشهود عليه، وفى إيجاب الحد عليه زجر له عن الرجوع خوفًا من الحد (1) . والمذهب الزيدى على أن رجوع الشهود قبل الحكم يبطل الشهادة، وكذلك الحال فى الرجوع بعد الحكم وقبل التنفيذ (2) ، ولذلك يحد الشهود حد القذف إذا رجعوا قبل تنفيذ الحكم، ويجب عليهم الأرش أو القصاص إذا كان الرجوع بعد تنفيذ الحكم (3) . والقاعدة عند الظاهريين أن رجوع الشاهد عن شهادته قبل الحكم مبطل للشهادة وأن رجوعه عنها بعد الحكم مؤدٍّ لفسخ الحكم (4) ، وقد رأينا فيما سبق أنهم لا يرون حد الشاهد بالزنا أصلاً سواء كان معه غيره أو لم يكن (5) ، ويترتب على ذلك أنه إذا رجع أحد الشهود أو كلهم فلا حد على أحد منهم لأن الحد على القاذف لا على الشاهد. وتقبل الشهادة على الخصى والعنين لتصور حصول الزنا منهما ولإمكان انتشار الآلة، بخلاف المجبوب فلا تقبل الشهادة عليه إذ لا يتصور منه الوطء. وإذا شهد الشهود بحصول الزنا فدفعت المرأة بأنها عذراء عرضت على امرأة أو أكثر فإذا شهدن بأنها كذلك درئ الحد عنها، وتكفى شهادة امرأة واحدة إذا لم يوجد غيرها وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد، لأن شهادة المرأة الواحدة مقبولة عندهما فيما لا يطلع عليه الرجال، وعلى هذا المذهب الزيدى   (1) المغنى [ج10 ص182] . (2) شرح الأزهار [ج4 ص215] . (3) شرح الأزهار [ج4 ص222، 348] . (4) المحلى [ج9 ص429] . (5) المحلى [ج11 ص260] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 أيضًا (1) ، وأساس درء الحد احتمال كذب شهود الإثبات أو وهمهم، واعتبار ذلك شبهة والحدود تدرأ بالشبهات. ويشترط الشافعى شهادة أربع نسوة، فإذا شهدن بأنها بكر لم يجب عليها الحد، لأنه يحتمل أن تكون البكارة أصلية لم تزل، ويحتمل أن تكون عائدة لأن البكارة تعود إذا لم يبالغ فى الجماع، فلا يجب الحد مع الاحتمال، ولا يجب الحد أيضًا على الشهود؛ لأنه إذا درئ الحد عنها لجواز أن تكون البكارة أصلية والشهود كاذبون وجب أن يدرأ الحد عن الشهود لجواز أن تكون البكارة عائدة وهم صادقون (2) . ويشترط ابن حزم شهادة أربع نسوة لدرء الحد (3) ، ولكنه لا يكتفى بأن يقرر النساء أنها عذراء ويوجب أن يصفن عذريتها، فإن قلن إنها عذرة يبطلها إيلاج الحشفه ولابد وأنه صفاق عند باب الفرج فقد أيقنا بكذب الشهود وأنهم وهموا فلا يحل إنفاذ الحكم بشهادتهم، وإن قلن إنها عذرة واغلة فى داخل الفرج لا يبطلها إيلاج الحشفة فقد أمكن صدق الشهود، إذ بإيلاج الحشفة يجب الحد، فيقام الحد عليها حينئذ لأنه لم يتيقن كذب الشهود ولا وهمهم (4) . ولا يدرأ ابن حزم الحد بالشبهة لأن المذهب الظاهرى لا يعترف بالشبهة كما قدمنا. ورأى ابن حزم فى قبول شهادة النساء فى حالة ادعاء البكارة مخالف لفقهاء المذهب الظاهرى الذين يرون إهمال شهادة النفى والأخذ بشهادة الإثبات (5) . أما مالك فلا يدرأ الحد ولو شهد أربع نسوة بأن المتهمة بالزنا عذراء، وحجته أن شهود الإثبات عاينوا الزنا، وأن الإيلاج ممكن مع بقاء البكارة، كما أن المثبت مقدم على النافى (6) .   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص169] ، المغنى [ج10 ص189] ، شرح الأزهار [ج4 ص350] . (2) المهذب [ج2 ص351] . (3) المحلى [ج9 ص395، 405] . (4) المحلى [ج11 ص263، 264] . (5) المحلى [ج11 ص263] . (6) شرح الزرقانى [ج8 ص81] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 شهود الإحصان: يرى مالك والشافعى وأحمد أنه يكفى فى إثبات الإحصان شهادة رجلين، لأنه حالة فى الشخص لا علاقة لها بواقعة الزنا، فلا يشترط أن يشهد بالإحصان أربعة رجال كما هو الحال فى الزنا (1) . وفى مذهب أبى حنيفة يكفى أيضًا رجلان لإثبات الإحصان، ولكن فقهاء المذهب يرون أن الإحصان يثبت برجلين أو برجل وامرأتين، عدا زفر فيشترط أن يثبت برجلين (2) . والمذهب الزيدى على أنه يكفى فى إثبات الإحصان عدلان ولو رجل وامرأتان (3) . أما المذهب الظاهرى فلا يفرق فيه الفقهاء بين إثبات الزنا وإثبات الإحصان، وعدم التفرقة معناه أن الزنا والإحصان معًا يثبتان بأربعة شهود (4) . وكل زنًا أوجب الحد لا يقبل فيه أقل من أربعة شهود باتفاق العلماء لتناول النص له: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، ويدخل فى ذلك اللواط ووطء المرأة فى دبرها ووطء البهائم عند من يعطى هذه الأفعال حكم الزنا، أما من يعتبرها جرائم تعزيرية فيكتفى فى إثباتها بما يثبت به التعزير، وهو يثبت بشاهدين كما يرى البعض (5) ، ويثبت برجل وامرأتين، وبأربع نسوة، وبرجل واحد أو امرأتين مع يمين الطالب، كما يثبت النكول والإقرار (6) . ويرى بعض الفقهاء فى مذهب الشافعى ومذهب أحمد أن كل وطء لا يوجب الحد ويوجب التعزير لا يثبت إلا بأربعة شهود؛ لأنه فاحشة ولأنه الإيلاج فى فرج   (1) شرح الزرقانى [ج7 ص197] ، المهذب [ج2 ص359] ، الإقناع [ج4 ص451] . (2) شرح فتح القدير [ج4 ص176] . (3) شرح الأزهار [ج4 ص343] . (4) المحلى [ج9 ص395] . (5) المهذب [ج2 ص350] ، المغنى [ج10 ص190، 191] . (6) المحلى [ج9 ص396] ، بدائع الصنائع [ج7 ص65] ، حاشية ابن عابدين [ج4 ص515] وما بعدها، مواهب الجليل [ج6 ص180] وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 محرم، فإن لم يكن الفعل وطئًا كالمباشرة دون الفرج ونحوها ثبت بشاهدين (1) . سادسًا: أن يقتنع القاضى بشهادة الشهود: ولا يستلزم أداء الشهود للشهادة أن يحد المتهم بالزنا ما لم يقتنع القاضى بصحة الشهادة، فإذا اختلف الشهود فى وصف الفعل أو فى زمانه أو مكانه اختلافًا ينبئ بكذبهم أو كذب بعضهم رفضت شهادتهم، وهناك خلاف على حد الشهود فى هذه الحالة بين من يرون الشهود إذا لم تكمل الشهادة أو لم تقبل، فيرى البعض حدهم لأنهم شهدوا على وقائع مختلفة ليس على واقعة منها أربعة شهود فهم قذفة، ويرى البعض أن لا يحدوا وقد أدوا الشهادة، ويرى البعض أن يترك الأمر للقاضى ليقدر كل حالة بظروفها ولاحتمال أن تكون شبهة تدرأ الحد عن الشهود. ويحاول الفقهاء فى كتبهم أن يأتوا على أهم وجوه الاختلاف بين الشهود: من ذلك أن يشهد اثنان أنه زنا بها فى هذا البيت، ويشهد اثنان أنه زنى بها فى بيت آخر، أو أن يشهد اثنان بأنه زنا بها فى بلد غير البلد الذى شهد صاحباهما، أو أن يختلفوا على اليوم أو الشهر أو السنة التى وقع فيها الزنا، فإن كان هذا الخلاف فالجميع قذفة عند مالك وعند بعض فقهاء مذهب الشافعى وأحمد وعند زفر من فقهاء المذهب الحنفى، بينما يرى أبة حنيفة وبعض فقهاء مذهب الشافعى وأحمد أن لا حد على الشهود لأنهم كملوا أربعة (2) . ويرى ابن الماجشون من فقهاء المالكية أن شهادة الشهود تصح ولو اختلفوا إذا كان الخلاف فيما لو لم يذكروه تمت شهادتهم ولم يلزم الحاكم أن يسألهم عنه (3) . وإذا شهد اثنان أنه زنا بها فى زاوية بيت، وشهد اثنان أنه زنا بها فى زاوية أخرى منه وكانت الزاويتان متباعدتين فالقول فيهما كالقول فى البيتين، وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم وحُدَّ المشهود عليه فى رأى أبى حنيفة وأحمد،   (1) المهذب [ج2 ص350] ، المغنى [ج10 ص190، 191] . (2) مواهب الجليل [ج6 ص179] ، شرح فتح القدير [ج4 ص164] ، المهذب [ج2 ص357] ، المغنى [ج10 ص183] . (3) مواهب الجليل [ج6 ص179] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وعند الشافعى ومالك وزفر لا حد على المشهود عليه لأن الشهادة لم تكمل (1) . وإن شهد اثنان بأنه زنا بها مكرهة، وشهد اثنان بأنه زنا بها مطاوعة، فلا حد عليها إجماعًا لأن الشهادة لم تكمل على فعل موجب لحد المرأة، أما الرجل فقد اختلفوا فيه، فرأى البعض أن لا حد عليه لأن البينة لم تكمل على فعل واحد؛ فإن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة، ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين، ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين، وذلك يمنع من قبول الشهادة أو يكون شبهة فى درء الحد، ولا يخرج المر على أن يكون قول واحد منهما مكذبًا للآخر، ولا يصح هذا إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة فى أحدهما ومكرهة فى الآخر، وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد، ولأن شاهدى المطاوعة قاذفان لها ولم تكمل البينة فلا تقبل شهادتهما على غيرها، وهذا هو رأى مالك وأبى حنيفة وأحد الوجهين فى مذهبى الشافعى وأحمد. ورأى البعض أن الحد واجب على الرجل لأن الشهادة كملت على وجود الزنا منه بعد أن أجمع الشهود على أنه أتى الفعل، واختلاف الشهود إنما هو فى فعل المرأة لا فى فعل الرجل، فلا يمنع هذا الاختلاف من كمال الشهادة عليه، وهذا هو رأى أبى يوسف ومحمد من فقهاء الحنفية ووجه فى مذهبى الشافعى وأحمد. أما الشهود ففيهم ثلاثة أوجه: أحدها: لا حد عليهم وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم. وثانيها: عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنا ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد كما لو لم يكمل عددهم. وثالثها: يجب الحد على شاهدى المطاوعة لأنهما قذفا المرأة بالزنا ولم تكمل شهادتهما عليها، أما شاهدا الإكراه فلا يجب الحد عليهما لأنهما لم يقذفا المرأة وقد كملت شهادتهما على الرجل وإنما انتفى عنه الحد للشبهة (2) .   (1) مواهب الجليل [ج6 ص179] ، شرح فتح القدير [ج4 ص167] ، المهذب [ج2 ص357] ، المغنى [ج10 ص183] . (2) يراجع فى كل ما سبق: مواهب الجليل [ج6 ص179] ، شرح فتح القدير [ج4 ص166] ، المهذب [ج2 ص357] ، المغنى [ج10 ص185] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 ويرى الزيديون أن الاختلاف لا أهمية له إلا إذا كان على حقيقة الفعل وهو الإيلاج أو مكان الفعل أو وقته أو كيفيته من اضطجاع أو قيام أو غير ذلك، فإن اتفقت شهادة الشهود على ذلك لزم الحد، وإن اختلف فى شئ منه أو أجملوا ولم يفصلوا لم تصح شهادتهم ولا حد عليهم لكمال البينة (1) . والقاعدة عند الظاهريين أن ما لا تتم الشهادة إلا به فإن الاختلاف فيه مفسد للشهادة، وعندهم أن الشهادة تتم فى الزنا إذا كانت على حصول الزنا من رجل بامرأة أجنبية عنه، وكان الشهود على يقين من ذلك، فإذا اختلف الشهود بعدها فى المكان أو فى الزمان أو فى وصف المزنى بها فلا عبرة باختلافهم، لأن ذكر ذلك والسكوت عنه سواء، ومن ثمَّ تكون الشهادة تامة والحد واجب مع الاختلاف فى هذه المسائل (2) . ومن المتفق عليه أن الشهادة على الزنا لا تستلزم قيام دعوى سابقة على الشهادة فيجوز أن يتقدم الشهود بالشهادة دون قيام دعوى الزنا ويترتب على تقدمهم بالشهادة قيام الدعوى، ويحتج الفقهاء فى هذا الوجه بقضية أبى بكرة حيث شهد هو وأصحابه على المغيرة من غير تقدم دعوى، وبقضية الجارود حيث شهد هو وآخر على قدامة بن مظعون بشرب الخمر ولم يتقدمه دعوى. والعلة فى عدم اشتراط قيام الدعوى فى الزنا أن الحد فى الزنا حق الله تعالى فلا تفتقر الشهادة به إلى قيام الدعوى، لأن الدعوى فى سائر الحقوق إنما تكون من المستحق، وهذا لا حق فيه لأحد من الآدميين فيدعيه، ولو توقفت الشهادة على قيام الدعوى لما أقيمت الشهادة ولا الدعوى (3) . ويشترط لصحة الشهادة ولتكون مقنعة للقاضى أن تكون مبنية لماهية الزنا وكيفيته ومتى كان وأين وقع وبمن زنا، وعلى القاضى أن يستفصل الشهود فى هذا كله ليصل إلى حقيقة الأمر.   (1) شرح الأزهار [ج4 ص338] . (2) المحلى [ج11 ص147] . (3) المغنى [ج10 ص188] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 فأما عن ماهية الزنا فلأن الزنا اسم يقع على أنواع لا توجب الحد، فقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه"، ولا شك أن الحد لا يجب إلا بوطء الفرج بحيث يكون الذكر فى الفرج كالميل فى المُكْحُلة. وأما عن الكيفية فلاحتمال أن يريد الشهود بالزنا الجماع فيما دون الفرج، لأن ذلك يسمى جماعًا حقيقة أو مجازًا ولكنه لا يوجب الحد. وأما عن الزمان فلاحتمال أن يشهد بعض الشهود على واقعة غير التى يشهد عليها البعض الآخر، ولاحتمال أن يشهد الشهود بزنا متقادم، والتقادم على رأى أبى حنيفة يمنع من قبول الشهادة كما قدمنا، ولاحتمال أن يشهدوا على زنًا وقع منه وهو صغير. وأما عن المكان فلاحتمال أن يكون الزنا الذى يشهد به البعض وقع فى بلد غير البلد الذى يشهد البعض الآخر بحصول الزنا فيه، أو لاحتمال أن يكون الزنا وقع فى دار الحرب أو البغى ومثل هذا الزنا لا يعاقب عليه فى رأى أبى حنيفة. وأما عن المزنى بها فلاحتمال أن تكون الموطوءة ممن لا يجب الحد بوطئها، وإذا كان أبو حنيفة يشترط لقبول الشهادة أن يعرف الشهود الرجل والمرأة، فإن غيره لا يشترط ذلك ويترك لمن ادعى حل الوطء أن يقيم البينة عليه. وإذا أنكر المتهم الإحصان وشهد به الشهود فعليهم أن يبينوا شروطه، وعلى القاضى أن يستفصل منهم ذلك لاحتمال أنهم يجهلون ماهية الإحصان. وعلى القاضى أن يستفصل كل مسقطات الحد كما عليه أن يستفصل كل ما يثبته، وأن يتحرى عدالة الشهود وصحة عقولهم وأبصارهم وانتفاء العداوة بينهم وبين المشهود عليه، وغير ذلك مما ترد به الشهادة، حتى يأتى حكمه صحيحًا غير مشوب بعيب (1) .   (1) يراجع فى كل ما سبق: شرح الزرقانى [ج7 ص177] ، شرح فتح القدير [ج4 ص115، 165] ، المهذب [ج2 ص354] ، الإقناع [ج4 ص433] ، شرح الأزهار [ج4 ص351] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 علم القاضى: وإذا شهد القاضى حادث الزنا وقت وقوعه فليس له أن يقضى بعلمه على ما يراه جمهور الفقهاء، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وهو أحد قولى الشافعى وعليه أكثر الشافعيين، وحجتهم قوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، وقوله: {فَإِذْا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] ، ولأن القاضى كغيره من الأفراد لا يجوز له أن يتكلم بما شهده ما لم تكن لديه البينة الكاملة، ولو رمى القاضى زانيًا بما شهده منه وهو لا يملك على ما يقول البينة الكاملة لكان قاذفًا يلزمه حد القذف، وإذا كان قد حرم على القاضى النطق بما يعلم فأول أن يحرم عليه العمل به. ويستدلون أيضًا بما روى عن أبى بكر رضى الله عنه من قوله: "لو رأيت رجلاً على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندى". وعندهم أن القاضى إذا كان قد شهد الحادث ومعه ثلاثة غيره فله أن يتنحى عن القضاء ويشهد، فإذا لم يتنح عن القضاء فليس له أن يعتبر علمه متممًا لشهادة الثلاثة (1) . أما الرأى الثانى فى مذهب الشافعى فيقوم على جواز أن يحكم القاضى بعلمه، وسند هذا الرأى ما رواه أبو سعيد الخدرى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنع أحدكم هيبته الناس أن يقول فى حق إذا رآه أو علمه أو سمعه"، ويقول أصحاب هذا الرأى: إنه إذا جاز للقاضى أن يحكم بما شهد به الشهود وهو من قولهم على ظن، فلأن يجوز أن يحكم بما سمعه أو رآه وهو على علم أولى (2) . والمذهب الزيدى لا يجيز للقاضى أن يحكم بعلمه فى الحدود إلا فى حد القذف ويجيز له أن يحكم بعلمه فيما عدا ذلك، فيحكم بعلمه فى القذف والقصاص والأموال سواء علم ذلك قبل قضائه أو بعده، ويحتجون لذلك بقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ   (1) شرح الزرقانى [ج7 ص150] ، بدائع الصنائع [ج7 ص52] ، المغنى [ج10 ص191] ، المهذب [ج2 ص320] . (2) المهذب [ج2 ص320] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، ويرون أن علم القاضى ابلغ من الشهادة وأن من حكم بعلمه فقد حكم بما أراه الله (1) . أما الظاهريون فيرون أنه فرض على القاضى أن يقضى بعلمه فى الدماء والقصاص والأموال والفروج والحدود، سواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته، وأقوى ما حكم بعلمه لأنه يقين الحق ثم بالإقرار ثم بالبينة، وحجتهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه.."، فصح أن القاضى عليه أن يقوم بالقسط، وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره، وصح أن فرضنا على القاضى أن يغير كل منكر علمه بيده وأن يعطى كل ذى حق حقه وإلا فهو ظالم (2) . * * * المبحث الثانى الإقرار 538 - يثبت الزنا أيضًا بالإقرار الزانى: ويشترط أبو حنيفة وأحمد أن يقر الزانى بالزنا أربع مرات قياسًا على اشتراط الشهود الأربعة، ولما رواه أبو هريرة فقال: أتى رجل من الأسلميين (وهو ماعز) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فى المسجد فقال: يا رسول الله إنى زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه فقال: يا رسول إنى زنيت، فأعرض عنه، حتى قال ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبك جنون؟ "، قال: لا، قال: "أحصنت؟ "، قال: نعم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا به فارجموه". ولو وجب الحد بالإقرار مرة واحدة لم يعرض عنه رسول الله لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله. وروى نعيم بن هزال هذا الحديث وفيه: "حتى قالها أربع مرات، فقال له رسول الله: "إنك قلتها أربع مرات فبمن؟ قال: بفلانة" رواه أبو داود، وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هى الموجبة. وروى أبو برزة الأسلمى أن أبا بكر الصديق قال لهذا المقر عند النبى - صلى الله   (1) شرح الأزهار [ج4 ص320] . (2) المحلى [ج9 ص427] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 عليه وسلم -: إن أقررت أربعًا رجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا دليل من وجهين: أحدهما: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أقره على هذا ولم ينكره فكان بمنزلة قوله لأنه لا يقر على الخطأ. والثانى: أن أبا بكر قد علم أن هذا من حكم النبى - صلى الله عليه وسلم - ولولا ذلك لما تجاسر على قوله بين يديه، وعلى هذا يجب أن يتعدد الإقرار وأن يكون أربع مرات فإن قل عنها فلا يعتبر (1) . أما مالك والشافعى فمن رأيهما الاكتفاء بالإقرار مرة واحدة؛ لأن الإقرار إخبار والخبر لا يزيد بالتكرار، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فعلق الرجم على مجرد الاعتراف والظاهر الاكتفاء بأقل ما يصدق عليه اللفظ وهو المرة الواحدة، أما إعراض الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ماعز حتى أقر أربع مرات فراجع إلى أن الرسول استنكر عقله، ولذا أرسل لقومه مرتين يسألهم عن عقله حتى أخبروه بصحته فأمر برجمه (2) . ويشترط أبو حنيفة أن تكون الأقارير الأربعة فى مجالس مختلفة للمقر نفسه ولو حدثت فى مجلس واحد للقاضى (3) . ويستوى عند أحمد أن تكون الأقارير الأربعة فى مجلس واحد أو مجالس متفرقة، فإذا أقر أربع مرات فى مجلس واحد أو فى مجالس متفرقة فالإقرار صحيح (4) . ويشترط لقبول الإقرار أن يكون مفصلاً مبينًا لحقيقة الفعل بحيث تزول كل شبهة فى الإقرار خصوصًا وأن الزنا يعبر به عما لا يوجب الحد كالوطء خارج الفرج، والأصل فى الاستفصال والتبين هو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءه ماعز يعترف بالزنا ويكرر اعترافه فسأل - صلى الله عليه وسلم - هل به جنون   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص117] ، المغنى [ج10 ص165] . (2) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، أسنى المطالب [ج4 ص131] . (3) شرح فتح القدير [ج4 ص118] . (4) المغنى [ج10 ص167] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 أو هو شارب خمر وأمر من يشم رائحته، وجعل يستفسره عن الزنا فقال له: "لعلك قبلت أو غمزت؟ "، وفى رواية أخرى: "هل ضاجعتها؟ " قال: نعم، قال: "فهل باشرتها؟ " قال: نعم، قال: "هل جامعتها؟ " قال: نعم، وفى حديث ابن عباس: "أنكتها؟ " لا يُكَنِّى، قال: نعم، قال: دخل ذلك منك فى ذلك منها؟ قال: نعم، قال: وكما يغيب المرود فى المكحلة والرشاء فى البئر؟ قال: نعم، قال: أتدرى ما الزنا؟ قال: نعم أتيت منها حرامًا ما يأتى الرجل من امرأته حلالاً. قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرنى، فأمر به فرجم. فدل ذلك كله على أنه يجب فى الإقرار أن يكون مفصلاً مبينًا لحقيقة الفعل المقر به (1) . ويترتب على هذا أن الزانى إذا أقر فلا يؤخذ إقراره قضية مسلمة، وعلى القاضى لكى يتحقق من صحة إقراره أن يتحقق أولاً من صحة عقله كما فعل الرسول مع ماعز، قال: "أبك خبل أم بك جنون؟ " وبعث لقومه يسألهم عن حاله، فغذا عرف القاضى أن الزانى صحيح العقل سأله عن ماهية الزنا وكيفيته ومكانه وعن المزنى بها وعن زمان الزنا، فإذا بين ذلك كله على وجه يجعله مسئولاً جنائيًا سأله أمحصن هو أم لا، فإن اعترف بالإحصان سأله عن ماهيته. وسؤال المقر عن زمان الزنا ليس المقصود منه النظر إلى القادم وإنما احتمال أن يكون الزنا وقع قبل البلوغ، والإقرار على قوته حجة قاصرة على نفس المقر لا تتعداه إلى غيره، فمن أقر بأنه زنا بإمرأة أخذ باعترافه أما المرأة فإن أنكرت فلا مسئولية عليها، وإن اعترفت أيضًا أُخذت باعترافها لا باعتراف الرجل، وعلى هذا جرت سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أبو داود عن سهل بن سعد أن رجلاً جاء الرسول فأقر عنده أنه زنا بامرأة سماها له، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها (2) .   (1) سبل السلام [ج4 ص7، 8] ، المغنى [ج10 ص167] ، أسنى المطالب [ج4 ص131] ، شرح فتح القدير [ج4 ص115] . (2) شرح فتح القدير [ج4 ص120، 158] ، المغنى [ج10 ص168] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المهذب [ج2 ص285] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 ولا يشترط حضور شريك المقر فى الزنا فى مجلس الإقرار كما لا يشترط ذلك فى الشهادة، فلو أقر شخص بأنه زنا بامرأة غائبة أقيم عليه الحد. ويصح الإقرار بالزنا ولو جهل المقر شخصية شريكه فى الزنا لأنه بنى إقراره على حقيقة الحال، وإذا أقر الرجل أنه زنا بامرأة فكذبته فهو مأخوذ بإقراره وعليه الحد دونها، كما يرى مالك والشافعى وأحمد (1) ؛ لأن الإقرار حجة فى حق المقر وعدم ثبوت الزنا فى حق غير المقر لا يورث شبهة ما فى حق المقر. ولكن أبا حنيفة يرى أن لا يحد الرجل المقر لأن الحد انتفى فى حق المنكر بدليل موجب للنفى عنه فأورث شبهة الانتفاء فى حق المقر؛ لأن الزنا فعل واحد يتم بهما فإن تمكنت فيه شبهة تعدت إلى طرفيه، وهذا لأنه ما أقر بالزنا مطلقًا إنما أقر بالزنا بفلانة وقد درأ الشرع عن فلانة وهو عين ما أقر به فيندرئ عنه ضرورة، بخلاف ما لو أطلق فقال زنيت، فإنه وإن احتمل كذبه لكن لا موجب شرعى يدفعه، وبخلاف ما لو كانت غائبة لأن الزنا لم ينتف فى حقها بدليل يوجب النفى وهو الإنكار. ويتفق رأى أبى يوسف ومحمد مع رأى الأئمة الثلاثة (2) . ويشترط بعد تفصيل الإقرار أن يكون الإقرار صحيحًا، ولا يكون كذلك إلا إذا صدر عن عاقل مختار، فيجب أن يكون المقر عاقلاً مختارًا لأن المكره والمجنون لا حكم لكلامهما والقلم مرفوع عنهما، وقد روى عن على رضى الله عنه أنه قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبى حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل"، وروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". 539 - إقرار زائل العقل: ينقل ما كتب عن ذلك فى القتل ويضاف إليه: وإن كان يجن مرة ويفيق مرة أخرى فأقر فى إفاقته أنه زنا وهو مفيق فعليه الحد   (1) أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص168] . (2) شرح فتح القدير [ج4 ص158] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 دون خلاف لأن الزنا الموجب للحد وقع منه فى حال تكليفه والقلم غير مرفوع عنه وإقراره وجد فى حال يعتبر فيها كلامه، فإن أقر فى إفاقته ولم يضف الزنا إلى حال الإفاقة لم يجب الحد؛ لأنه يحتمل أن الزنا وقع فى حال الجنون ولا يجب الحد مع الاحتمال (1) . 540 - إقرار النائم: والنائم مرفوع عنه القلم، فلو زنا بنائمة أو استدخلت امرأة ذكر نائم أو وجد منه الزنا حال نومه، فلا حد عليه؛ لأن القلم مرفوع عنه، ولو أقر فى حال نومه لم يلتفت لإقراره لأن كلامه غير معتبر ولا يدل على صحة مدلولة (2) . ويشترط أبو حنيفة فى المقر أن يكون قادرًا على النطق لأن الإقرار عنده يجب أن يكون بالخطاب والعبارة لا بالكتاب والإشارة، وعنده أن الأخرس لو أقر فى كتاب وأشار إلى صحة صدوره منه إشارة معلومة لم يقبل إقراره لأن الشريعة علقت الحد على البيان المتناهى والبيان لا يتناهى إلا بالصريح والإشارة والكتابة بمنزلة الكناية، ولكن الأئمة الثلاثة يقبلون إقرار الأخرس إذا فهمت إشارته (3) . ومن المتفق عليه أن البصر لا يعتبر شرطًا فى الإقرار، فإقرار الأعمى بالزنا صحيح، ولا يقبل الإقرار ممن لا يتصور وقوع الفعل منه كالمجبوب إذ لا يمكن أن يقع منه الفعل لانعدام الآلة، ويقبل إقرار الخصى والعنين لتصور الزنا منهما إذ لا يشترط لتحقق الوطء أكثر من دخول الحشفة فى الفرج ولو بغير انتشار (4) . 541 - أثر التقادم على الإقرار: لا أثر للتقادم على الإقرار بالزنا عند من يقول بالتقادم؛ لأن أثر التقادم على الشهادة بنى على تمكن التهمة والضغينة، أما الإقرار فلا تهمة فيه لأن المرء لا يُتهم فيما يقر به على نفسه (5) .   (1) المغنى [ج10 ص170] . (2) المغنى [ج10 ص170] . (3) شرح فتح القدير [ج4 ص117] ، بدائع الصنائع [ج7 ص49] ، المغنى [ج10 ص171] ، أسنى المطالب [ج4 ص131] . (4) المغنى [ج10 ص171] ، بدائع الصنائع [ج7 ص50] . (5) شرح فتح القدير [ج4 ص161] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 542 - التحايل على الإقرار: ولا يصح للقاضى أن يحتال للحصول على الإقرار، وليس له أن يشجع المقر على الإقرار، ولا بأس من أن يظهر الكراهة للإقرار كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع ماعز حيث أعرض عنه عند إقراره، وقد كان عمر رضى الله عنه يقول: "اضربوا المعترفين" أى بالزنا (1) . ويشترط أبو حنيفة أن يكون الإقرار فى مجلس القضاء فإن أقر فى غير مجلس القاضى فلا تقبل الشهادة على هذا الإقرار؛ لأنه إما أن يقر وإما أن ينكر، فإن أقر كانت الشهادة لغوًا وكان الحكم للإقرار لا للشهادة، وإن أنكر اعتبر إنكاره رجوعًا عن الإنكار والرجوع عن الإقرار صحيح فى الحدود الخالصة حقًا لله كحد الزنا (2) . ولا يشترط مالك والشافعى وأحمد أن يكون الإقرار فى مجلس القضاء، فيجوز أن يكون من المقر فى مجلس القضاء ويجوز أن يحصل فى غير مجلس القضاء ويشهد به الشهود فى مجلس القضاء، ولكنهم اختلفوا فى الشهادة بالإقرار، فرأى مالك أن الشهادة على الإقرار تقبل فإذا أنكر حصول الإقرار اعتبر إنكاره رجوعًا (3) . ويرى الشافعى قبول الشهادة على الإقرار، فإن أنكر حصول الإقرار منه لم يقبل إنكاره ولا يعتبر عدولاً عن الإقرار لأنه تكذيب للشهود والقاضى. أما إن أكذب نفسه فى إقراره فإن تكذيبه يعتبر رجوعًا عن الإقرار (4) . ورأى أحمد قبول الشهادة بالإقرار بشرط أن يشهد بالإقرار أربعة، فإن أنكر أو صدقهم دون أربع مرات فلا حد عليه؛ لأن إنكاره يعتبر رجوعًا، ولأن تصديقهم لا يكفى فيه مرة واحدة لأن الإقرار عند أحمد يشترط فيه أن يكون أربع مرات (5) . ويلاحظ أن الإقرار يثبت عند مالك والشافعى بشهادة شاهدين فقط.   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص121] ، المغنى [ج10 ص188] ، المهذب [ج2 ص364] . (2) بدائع الصنائع [ج7 ص50] . (3) شرح الزرقانى [8 ص81] . (4) أسنى المطالب [ج4 ص132] . (5) الإقناع [ج4 ص255] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 543 - الإقرار فى مجلس القضاء: وإذا أقر الزانى بالزنا ثم رجع عن إقراره سقط عنه الحد؛ لأنه يحتمل أن يكون صادقًا فى الرجوع وهو الإنكار، ويحتمل أن يكون كاذبًا فيه، فإن كان صادقًا فى الإنكار فهو كاذب فى الإقرار، وإن كان كاذبًا فى الإنكار فهو صادق فى الإقرار، وهذا الاحتمال يورث شبهة فى الحد والحدود تدرأ بالشبهات. وقد روى أن ماعزًا لما أقر بالزنا بين يدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقنه الرجوع، فقال عليه الصلاة والسلام: لعلك قبلتها لعلك مسستها. وكذلك قال عليه الصلاة والسلام لامرأة متهمة بالسرقة: أسرقت؟ قولى لا، ما أخالك سرقت. وليس ذلك إلا تلقينًا للرجوع عن الإقرار، ولو لم يكن الحد محتمل السقوط بالرجوع ما كان للتلقين معنى، وتلك هى السنة للإمام والقاضى إذا أقر عنده أحد بشئ من أسباب الحدود الخالصة أن يعرض له بالرجوع. 544 - الرجوع عن الإقرار: ويصح الرجوع عن الإقرار قبل القضاء وبعد القضاء، ويصح قبل الإمضاء وأثناء الإمضاء، فإذا رجع أثناء الإمضاء أوقف تنفيذ العقوبة، والرجوع عن الإقرار قد يكون دلالة كهرب المرجوم أثناء الرجم أو الجلد، فإذا هرب لم يؤخذ ثانية للتنفيذ لأن الهرب دلالة الرجوع، والأصل فى ذلك أنه لما هرب ماعز تبعوه حتى قتلوه ولما ذكر ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "هلا تركتموه"، وهذا دليل على أن الهرب دليل الرجوع وأن الرجوع مسقط للحد، ويعتبر مالك وأبو حنيفة وأحمد مجرد الهرب وقت التنفيذ رجوعًا دون حاجة إلى التصريح بالرجوع، أما الشافعية فيرون أن الهرب ذاته ليس رجوعًا ولكنه يقتضى الكف عنه لاحتمال أنه قصد الرجوع، فإذا كف فرجع سقط الحد وإذا لم يرجع تحتم تنفيذ الحد (1) . وكما يصح الرجوع عن الإقرار بالزنا يصح الرجوع عن الإقرار بالإحصان، فإذا أقر شخص بأنه زنا وهو محصن فله أن يرجع عن إقراره بالزنا وله أن يثبت   (1) شرح الزرقانى [ج8 ص81] ، بدائع الصنائع [ج7 ص61] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، المغنى [ج10 ص173، 195] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 على الإقرار بالزنا ويعدل عن الإقرار بالإحصان، فإذا فعل سقط حد الرجم ووجب حد الجلد (1) . وإذا اجتمعت الشهادة مع الإقرار فمذهب أبى حنيفة على أن الشهادة تبطل باعتراف المشهود عليه قبل القضاء اتفاقًا، أما إذا كان الإقرار بعد القضاء بالحد على أساس الشهادة فيرى أبو يوسف سقوط العقوبة لأن الإمضاء فى الحدود من القضاء ولأن شرط الشهادة هو عدم الإقرار، أما محمد فلا يسقط العقوبة فى هذه الحالة (2) . وترتب على ما سبق أن من يثبت عليه الزنا بشهادة الشهود ثم أقر فحكم عليه بالعقوبة يسقط عنه الحد إذا رجع عن الإقرار سواء كان رجوعه صريحًا أم دلالة. ويرى مالك وأحمد أن الزانى إذا تمت عليه البينة وأقر على نفسه إقرارًا صحيحًا ثم رجع عن إقراره لم يسقط عنه الحد برجوعه لأنه ثابت من وجه آخر بشهادة الشهود (3) . وفى مذهب الشافعى يرون أنه إذا ثبت الحد بالبينة ثم أقر المشهود عليه بعد ذلك عدل عن إقراره، فإن عدوله لا يسقط الحد الثابت بالبينة وإلا كان الإقرار ذريعة لإسقاط العقوبات. أما إذا أقر بالزنا أولاً ثم قامت بينة بزناه فرجع عن إقراره فهناك آراء مختلفة، فالبعض يرى أن الرجوع لا يسقط الحد لبقاء حجة البينة كما لو شهد عليه ثمانية مثلاً فردت شهادة أربعة، والبعض يرى سقوط الحد بالرجوع لأنه لا أثر للبينة مع الإقرار وقد بطل الإقرار بالرجوع، والبعض يرى أن العبرة بالدليل الذى استند عليه الحكم. فإن كان الحكم قد استند إلى البينة والإقرار معًا أو على البينة وحدها فإن الرجوع لا يسقط الحد، أما إذا استند الحكم على الإقرار، وحده فإن الرجوع يسقط الحد. ويرى البعض أنه عند اجتماع الإقرار مع الشهادة يجب   (1) بدائع الصنائع [ج7 ص61] . (2) شرح فتح القدير [ج4 ص124] . (3) الإقناع [ج4 ص256] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 أن يسند الحكم على الشهادة فيما يتعلق بحقوق الله لأن البينة أقوى من الإقرار، أما فيما يتعلق بحقوق الآدميين فيجب أن يستند الحكم على الإقرار لأنه أقوى من الشهادة ولأن الإقرار فى حقوق الآدميين لا يؤثر على الرجوع. ويرى البعض أن الحكم يستند فى الحالين إلى الإقرار والشهادة معًا (1) . وإذا سمع القاضى الإقرار فى غير مجلس القضاء فليس له أن يقضى على أساس ما سمع (2) . وهذا هو مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد، أما الشافعى ففى مذهبه رأيان أرجحهما يرى أن لا يقضى القاضى على أساس ما رآه أو علمه أو سمعه، والثانى يرى أصحابه أن يقضى القاضى بما رآه أو سمعه أو علمه (3) . القرائن 545 - القرائن: القرينة المعتبرة فى الزنا هى ظهور الحمل فى امرأة غير متزوجة أو لا يعرف لها زوج، ويلحق بغير المتزوجة من تزوجت بصبى لم يبلغ الحلم أو بمجبوب، ومن تزوجت بالغًا فولدت لأقل من ستة أشهر. والأصل فى اعتبار قرينة الحمل دليلاً على الزنا قول أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - وفعلهم: فعمر رضى الله عنه يقول: الرجم واجب على كل من زنا من الرجال والنساء إذا كان محصنًا إذا أقامت بينة أو كان الحبل أو الاعتراف. وروى عن عثمان رضى الله عنه أنه أُتى بامرأة ولدت لستة أشهر كاملة فرأى عثمان أن ترجم، فقال علىّ: ليس لك عليها سيبل قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] . وروى عن على رضى الله عنه أنه قال: يا أيها الناس إن الزنا زنيان: زنا سر وزنا علانية، فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمى، وزنا   (1) أسنى المطالب [ج4 ص132] . (2) بدائع الصنائع [ج7 ص52] ، شرح الزرقانى [ج8 ص84] . (3) المهذب [ج2 ص320] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 العلانية أن يظهر الحبل والاعتراف. هذا هو قول الصحابة ولم يظهر لهم مخالف فى عصرهم فيكون إجماعًا. والحمل ليس قرينة قاطعة على الزنا بل هو قرينة تقبل الدليل العكسى، فيجوز إثبات أن الحمل حدث من غير زنًا، ويجب درء الحد عن الحامل كلما قامت شبهة فى حصول الزنا أو حصوله طوعًا، فإذا كان هناك مثلاً احتمال بأن الحمل كان نتيجة وطء بإكراه أو بخطأ وجب درء الحد، وإذا كان هناك احتمال بأن الحمل حدث دون إيلاج لبقاء البكارة امتنع الحد، إذ قد تحمل المرأة من غير إيلاج بأن يدخل ماء الرجل فى فرجها إما بفعلها أو بفعل غيرها أو نتيجة وطء خارج الفرج. ويرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أنه إذا لم يكن دليل على الزنا غير الحمل فادعت المرأة أنها أُكرهت أو وُطئت بشبهة فلا حد عليها، فإذا لم تدع إكراهًا ولا وطًأ بشبهة فلا حد عليها أيضًا ما لم تعترف بالزنا؛ لأن الحد أصلاً لا يجب إلا ببينة أو بإقرار (1) . 546 - اللعان: أما مالك فيرى أن ظهور الحمل فى غير المتزوجة يوجب عليها الحد دون حاجة لإقرار منها، وأن ادعاءها الإكراه والوطء بشبهة لا يكفى وحده لدرء الحد عنها بل عليها أن تقيم دليلاً أو قرينة على صحة دفاعها، كأن تثبت أنها بلغت عمن أكرها، أو أن أناسًا شهدوها متعلقة به تستغيث عقب الإكراه، أو أنهم شهدوها تستغيث والدماء تلوث ملابسها بعد أن أزيلت بكارتها (2) . تنفيذ العقوبة 547 - مقدار الحد: إذا ثبت الزنا دون شبهة وجب على القاضى أن يحكم بعقوبة الحد وهى رجم المحصن وجلد غير المحصن مائة جلدة وتغريبه.   (1) المغنى [ج10 ص192] ، شرح الزرقانى [ج8 ص81] . (2) المغنى [ج10 ص192] ، أسنى المطالب [ج4 ص126] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 مقارنة بين الشريعة والقانون عن الأدلة على الزنا 548 - التكييف الشرعى لحد الزنا: يكيف الفقهاء حد الزنا بأنه حق لله تعالى، والأصل عندهم أن الحد يعتبر حقًا لله تعالى إذا استوجبته المصلحة العامة وهى دفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة والسلامة لهم. وكل جناية ذات حد يرجع فسادها إلى العامة ومنفعة عقوبتها تعود عليهم فتعتبر العقوبة المقررة عليها حقًا لله تعالى، تأكيدًا لتحقيق النفع ودفع المضرة وحتى لا تسقط العقوبة بإسقاط الأفراد لها. وتمتاز عقوبة الحد عن غيرها من العقوبات بأنها لا تقبل عفوًا ولا صلحًا ولا إبراء ولا تخفيضًا ولا استبدالً. هذا هو تكييف الفقهاء للحد، وهو تكييف ليس بعيدًا عن نظرة شراح القوانين الوضعية للعقوبة، فهم يعتبرونها حق الجماعة لأن المصلحة العامة تستوجبها. وقد يظن أن الاختلاف واقع فى الأساس لا فى المعانى، ولكن الواقع أن الخلاف فيهما معًا، فالحد يختلف عن العقوبة فى القوانين الوضعية بأنه لا يقبل العفو ولا الاستبدال والعقوبة فى القوانين الوضعية تقبلهما، ولعل اعتبار الحد حقًا لله هو الذى منع قبول العفو والاستبدال؛ لأن الأفراد والجماعة ليس لهم العفو عما هو حق الله وليس لهم تبديل ما أمر به الله، ولو كان الحد حق الجماعة لأمكن أن يعفو عنه ممثل الجماعة أو يستبدل به غيره. على أن الشريعة نوعًا من العقوبات التقديرية شرع للمصلحة العامة ويعتبر حق الجماعة، ولممثل الجماعة أن يعفو عنه وأن يستبدل به غيره من عقوبات التعازير، وهذا النوع من العقوبة هو الذى يتفق تمام الاتفاق فى التكيف مع العقوبات المقررة فى القوانين الوضعية. 549 - تعدد العقوبات: وإذا تعددت العقوبات المحكوم بها على الجانى نفذت جميعًا ما لم تتداخل أو يجبُّ بعضها البعض الآخر. التداخل: معنى التداخل هو أن الجرائم فى حالة التعدد تتداخل عقوباتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 بعضها فى بعض بحيث يعاقب على جميع الجرائم بعقوبة واحدة ولا ينفذ على الجانى إلا عقوبة واحدة كما لو كان قد ارتكب جريمة واحدة. ويحدث التداخل فى حالتين: الأولى: إذا كانت الجرائم جميعها من نوع واحد كالزنا المتعدد والسرقات المتعددة والشرب المتعدد، ففى هذه الحالة تتداخل العقوبات المتعددة ويجزى عنها جميعًا عقوبة واحدة، فإذا ارتكب الجانى جريمة أخرى من نفس النوع بعد إقامة العقوبة عليه وجبت لهذه الجريمة الأخرى عقوبة ثانية، أما إذا ارتكب أى جريمة أخرى من نفس النوع قبل تنفيذ العقوبة عليه فإن عقوبة الجريمة الجديدة تتداخل مع عقوبات الجرائم السابقة ما دامت جميعًا من نوع واحد، والعبرة فى التداخل بتنفيذ العقوبة لا الحكم بها فالعقوبات تتداخل ما دامت لم تنفذ ولو تعددت الأحكام الصادرة بها، أى أن صدور الحكم بعقوبة ما لا يمنع من تداخلها فى عقوبة أخرى. ويحدث التداخل ما دامت الجرائم من نوع واحد ولو اختلف أركانها وعقوباتها كالزنا من محصن تتداخل عقوبته مع عقوبة الزنا من غير محصن لأن الجريمتين من نوع واحد، ولا عبرة باختلاف الأركان ونوع العقوبة ولكن فى مثل هذه الحالة تكون العقوبة الأشد هى الواجبة، فمن زنا وهو بكر ثم زنا وهو محصن عوقب على الجريمتين بعقوبة واحدة هى عقوبة الرجم. الثانية: إن الجرائم إذا تعددت وكانت من أنواع مختلفة فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عن الجرائم جميعًا عقوبة واحدة بشرط أن تكون العقوبات المقررة لهذه الجرائم قد وضعت لحماية مصلحة واحدة أى لتحقيق غرض واحد كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، فهذه الجرائم قد حرمت لحماية مصلحة الأفراد فإذا أكل شخص ميتة ثم شرب دمًا ثم أكل لحم الخنزير تداخلت عقوبات هذه الجرائم الثلاث وأجزأ عنها عقوبة واحدة. الجبُّ: معنى الجب فى الشريعة هو الاكتفاء بتنفيذ العقوبة التى يمتنع مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 تنفيذها تنفيذ العقوبات الأخرى، ولا ينطبق هذا المعنى إلا على عقوبة القتل فإن تنفيذها يمنع بالضرورة من تنفيذ غيرها، ومن ثم فهى فى الشريعة العقوبة الوحيدة التى تجب ما عداها، وهناك خلاف على نظرية الجب ومداها، وقد فصلنا القول عن تعدد العقوبات والتداخل والجب فى القسم العام ونكتفى هنا بما ذكرنا (1) . 550 - من الذى يقيم الحد؟: من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام، ولأن الحد يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فى استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولى الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه. وحضور الإمام ليس شرطًا فى إقامة الحد لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم ير حضوره لازمًا فقال: "اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، وأمر عليه السلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم، وأُتى بسارق فقال: "اذهبوا به فاقطعوه". لكن إذن الإمام بإقامة الحد واجب، فما أقيم حد على عهد رسول الله إلا بإذنه، وما أقيم حد على عهد الخلفاء إلا بإذنهم، ومما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى هذا قوله: "أربع إلى الولاة: الحدود والصدقات والجمعات والفئ". والإذن بإقامة الحد إما أن يكون إذنًا مؤقتًا يصدر بمناسبة كل حالة، وإما أن يكون إذنًا دائمًا يصدر إلى النواب والحكام بإقامة الحد على المحكوم عليهم بحد (2) . وهناك خلاف بين أبى حنيفة من ناحية ومالك والشافعى وأحمد من ناحية أخرى على ما إذا كان للسيد أن يقيم الحد على عبيده، ولم نر داعيًا للتعرض لهذا المبحث بعد أن ألغى الرقيق فى العالم.   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص208] ، شرح الزرقانى [ج8 ص108] ، المغنى [ج10 ص197] ، الإقناع [ج4 ص249] ، أسنى المطالب [ج4 ص157] . (2) المغنى [ج10 ص146] وما بعدها، شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المهذب [ج2 ص287] ، أسنى المطالب [ج4 ص132] ، شرح الزرقانى [ج8 ص84] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 551 - علانية التنفيذ: يجب أن يقام الحد علانيةً، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ، وتتوفر العلانية دائمًا كلما كان الحد رجمًا إذ المفروض أن عدد الرماة غير محدود وأنه يجب أن يكون من الكثرة بحيث يقضى على المرجوم بسرعة، أما فى الجلد فيكفى فى إقامة الحد شخص واحد. ولذلك اختلف فى عدد من يحضر الجلد ففسر البعض كلمة طائفة بأنها شخص واحد ومقيم الحد، وقال البعض إنها شخصان غير مقيم الحد، وقال البعض إنها أربعة، وقال البعض: إنها عشرة (1) . 552 - كيفية التنفيذ فى الرجم: إذا كان المرجوم رجلاً أقيم قائمًا ولم يوثق بشئ ولم يحفر له ولم يمسك أو يربط سواء ثبت الزنا عليه ببينة أو إقرار؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يحفر لماعز ولا للجهنية ولا لليهوديين، قال أبو سعيد: "لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجم ماعز خرجنا إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكنه قام لنا". وإذا هرب المرجوم وكان مقرًا لم يتبع وأوقف التنفيذ، أما إذا كان مشهودًا عليه اُّتبع ورُجم حتى يموت، لكن إذا لم يصبر المرجوم المشهود عليه ولم يمكن إقامة الحد إلا بربطه رُبط، أما إذا كان المرجوم امرأة فيجيز أبو حنيفة والشافعى الحفر لها إلى صدرها لأن ذلك أستر لها، ويأخذ بذلك بعض الفقهاء فى مذهب أحمد، ولكن الرأى الراجح فى مذهب أحمد هو عدم الحفر، وهو مذهب مالك. ويرى أبو حنيفة جواز الحفر للمرأة فى كل حال، أما الشافعية والحنابلة القائلون بالحفر فيرون الحفر فى حالة ما إذا كان الحد ثابتًا بالبينة فقط فإن كان ثابتًا بالإقرار فلا حفر؛ لأن ذلك يعطلها عن الهرب، والهرب كما قلنا يعتبر رجوعًا عن الإقرار والرجوع عن الإقرار مسقط للحد. وإذا رُجمت المرأة دون حفر شدت عليها ثيابها لكى لا تنكشف ولأن ذلك أستر لها (2) .   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص137] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] . (2) شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص137] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 والسنة أن يحاط بالمرجوم فيرمى من جميع الجوانب، ويرى البعض أن يُصَفَّ الرماة ثلاثة صفوف كصفوف الصلاة كلما رجمه صف تنحوا. وحجة ما قاله علىٌّ حين رجم شراحة الهمزانية حيث أحاط الناس بها وأخذوا الحجارة، فقال لهم: ليس هكذا الرجم إذن يصيب بعضكم بعضًا، صُفوا كصف الصلاة صفًا خلف صف (1) . ويشترط أبو حنيفة عند ثبوت الزنا بشهادة الشهود أن يبدأ الشهود بالرجم ثم الإمام أو نائبه ثم الناس بحيث لو امتنع الشهود عن البدء سقط الحد عن المشهود عليه، ولكن امتناع الشهود لا يترتب عليه حدهم لأن امتناعهم ليس صريحًا فى رجوعهم عن الشهادة (2) . ولا يشترط الشافعى وأحمد بداءة الشهود ولكنهما يريان ذلك سنة مستحبة، وهو رواية عن أبى يوسف من أصحاب أبى حنيفة حيث يرى أن البداءة مستحبة لا مستحقة (3) ، ولكنهما لا يوجبان حضور الشهود والإمام ولا يرتبان على التخلف عن الحضور نتيجة ما. أما مالك فلا يعرف بداءة الشهود والإمام ولا يعتبرها سنة مستحبة؛ لأن الحديث الوارد فيها لم يصح عنده (4) . وحجة أبى حنيفة ما روى عن علىّ لما أراد أن يرجم شراحة الهمزانية حيث قال: "الرجم رجمان: رجم سر ورجم علانية، فرجم العلانية أن يشهد على المرأة ما فى بطنها وتعترف بذلك فيبدأ فيه الإمام ثم الناس، ورجم السر أن يشهد أربعة فيبدأ فيه الإمام ثم الناس، ورجم السر أن يشهد أربعة فيبدأ الشهود ثم الإمام ثم الناس". وقد تم هذا فى محضر من الصحابة فلم ينكر عليه أحد فيكون إجماعًا. كما أن فى الأمر ببداية الشهود احتيال لدرء الحد؛   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص129] ، المغنى [ج10 ص123] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] . (2) شرح فتح القدير [ج4 ص122] . (3) شرح فتح القدير [ج4 ص123] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] ، المغنى [ج10 ص124، 138] . (4) شرح الزرقانى [ج8 ص83] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 لأن الشاهد قد يجترئ على الشهادة الكاذبة ولكنه لا يجرؤ على القتل إذا علم أنه شهد كاذبًا (1) . ويرتب أبو حنيفة على رأيه أن الشهود إذا امتنعوا من البداءة أو غابوا فلم يحضروا اليوم المحدد للتنفيذ أو ماتوا قبل يوم التنفيذ فإن ذلك يؤدى إلى امتناع التنفيذ، ولكن محمدًا من أصحاب أبى حنيفة يرى أنه إذا تعذرت البداية من الشهود نفذ الحد كأن كانوا مرضى أو مقطوعى الأيدى (2) . ويشترط أبو حنيفة أن تبقى للشهود أهلية أداء الشهادة عند التنفيذ فلو بطلت الأهلية بفسق أو ردة أو جنون أو عمى أو خرس أو بحد للقذف فلا يقام الحد على المشهود عليه، وحجة أبى حنيفة أن طروء أسباب الجرح على الشهادة وقت التنفيذ بمثابة طروئها وقت القضاء وأسباب الجرح عند القضاء تبطل الشهادة، ولا يرى الأئمة الثلاثة هذا الشرط والعبرة عندهم بالأهلية وقت القضاء لا بعده، ورأيهم يتفق مع قواعد القوانين الجنائية الوضعية، ويظهر أن ابا حنيفة قصد من رأيه درء الحد تطبيقًا للحديث المشهور: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، ولكن لا يمكن العمل برأيه الآن ما دام التنفيذ ليس من اختصاص الهيئة القضائية، على أن بعض شراح القوانين الوضعية يرون جعل التنفيذ مكملاً للقضاء وهذا يتفق مع نظرية أبى حنيفة (3) . ويقام حد الرجم فى أى وقت فى الصيف وفى الشتاء وفى الصحة والمرض لأنه حد مهلك فلا معنى للتحرز من الهلاك: ولكنه لا يقام على الحامل حتى تضع لأن إقامته تؤدى إلى هلاك الولد والحكم لم يصدر ضده، وسنتكلم عن التنفيذ على الحامل فيما بعد. ويستحسن لكل راجم أن يتعمد مقتلاً وأن يتقى الوجه، كما يستحسن أن يكون وقف الرامى من المرجوم بحيث لا يبعد عنه فيخطئه، وجميع بدن المرجوم للرجم، ويختار أن يتقى الوجه لأن الرجم حد مهلك فكلما أسرع بالمحكوم عليه إلى الهلاك كان أولى.   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص122، 123] . (2) نفس المراجع السابقة. (3) شرح فتح القدير [ج4 ص123] ، المغنى [ج10 ص187] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 ولا يقام الحد فى المساجد اتفاقًا، ويستحسن أن يقام فى كل مكان متسع بعيدًا عن المساكن حتى لا يؤدى التنفيذ إلى إصابة أحد غير المرجوم. ويرمى المرجوم بحجارة معتدلة الحجم وما يقوم مقام الحجارة كالمدر والخزف، ففى خبر ماعز أنه رمى بالعظام والمدر والخزف، ولا يرمى المرجوم بالحصيات الخفيفة حتى لا يطول تعذيبه، ولا يرمى بالصخرات الكبيرة لئلا تدمغه فيفوت به التنكيل المقصود، والمختار أن تكون ملء الكف. وليس هناك عدد محدد للحجارة التى يرمى بها المرجوم فقد تصيب الحجارة مقاتله فيموت سريعًا بعد أن يرمى بعدد قليل من الحجارة، وقد لا تصيب الأحجار مقتلاً إلا بعد وقت فيحتاج الأمر إلى قذفه بعدد كبير من الحجارة، والمقصود من الرجم القتل فيرجم المحكوم عليه حتى يقتل ولا يقوم مقام الرجم أى فعل آخر يؤدى للموت كقطع الرقبة بالسيف أو كشنق المرجوم، وإذا هلك المرجوم سلمت جثته لأهله ولهم أن يصنعوا بها ما يصنع بسائر الموتى فيغسلونه ويكفنونه ويصلون عليه ويدفنونه، وبهذا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد رجم ماعز حيث سئل عما يصنع بجثته فقال: "اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم". 553 - كيفية التنفيذ فى الجلد: يضرب المحكوم عليه بسوط ضربًا متوسطًا مائة ضربة، ويشترط أن لا يكون السوط يابسًا لئلا يجرح أو يبرح، وأن لا يكون به عقد فى طرفه الذى يصيب الجسم لأنها تؤدى إلى ما يؤدى يبس السوط (1) . ويشترط أن لا يكون للسوط أكثر من ذنب واحد فإذا لم يكن لذلك احتسبت الضربة ضربات بعدد ما للسوط من أذناب، فإن كان للسوط ذنبان احتسبت الضربة ضربتين، وإن كان ثلاثة احتسبت الضربة ثلاث ضربات، وهكذا (2) . ويرى مالك وأبو حنيفة أن تنزع عن الرجل المحدود ثيابه إلا ما يستر عورته (3) . ويرى الشافعى وأحمد أن لا يجرد المجلود من ثيابه وأن يترك عليه   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص126] ، الإقناع [ج4 ص245] . (2) شرح فتح القدير [ج4 ص126] . (3) شرح فتح القدير [ج4 ص126] ، شرح الزرقانى [ج8 ص114] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 القميص والقميصان، أما إن كان عليه فروة أو ملابس شتوية أو جبة محشوة نزعت (1) . ويرى مالك ضربه قاعدًا ولا يمسك المرجوم ولا يربط وقت الضرب، إلا إذا امتنع فلم يقف أو لم يصبر على الوقوف أو الجلوس فلا بأس فى هذه الحالة بربطه أو إمساكه (2) . ويضرب الرجل قائمًا غير ممدود عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد. أما المرأة فتضرب وهى جالسة لأنه أستر لها. ولا يجمع الضرب فى عضو واحد لأنه يفضى إلى تلف ذلك العضو أو تمزيق جلده وهو غير جائز، بل يفرق الضرب على سائر الأعضاء إلا الوجه والفرج، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اتق وجهه ومذاكيره"، وإلا الرأس لتخوف التلف والهلاك، وهذا هو رأى أبى حنيفة وأحمد، وإن كان أبو يوسف يرى ضرب الرأس ضربة واحدة، وفى مذهب أحمد يرون اتقاء البطن أيضًا والمواضع الأخرى القاتلة، وهو ما يقول به بعض فقهاء الحنفية (3) . ويرى بعض الشافعية رأى أبى حنيفة وأحمد، ولكن البعض يرى مع مالك أن يكون الضرب فى الظهر فقط (4) ، ورأيهما يتفق مع المعمول به فى مصر فى تنفيذ الأحكام التى تصدر بالجلد على رجال الجيش والبوليس فإن الضرب قاصر على الظهر فقط. وحد الجلد فى الزنا أشد الحدود ضربًا لقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] ، وتفسر الرأفة بتخفيف الضرب، ولكن الفقهاء يشترطون أن يكون الضرب بين بين فلا هو بالمبرح ولا بالخفيف، وليس للجلاد أن يمد يده بالسوط بعد الضرب لأن مد السوط فى الضرب بمنزلة ضربة أخرى، وعليه أن يرفع السوط لأعلى بعد أن يمس جسم المحدود دون أن يسحب، وليس للجلاد أن يرفع يده إلى ما فوق رأسه   (1) المهذب [ج2 ص287] ، الإقناع [ج4 ص246] . (2) شرح فتح القدير [ج4 ص128] ، الإقناع [ج4 ص245] ، المهذب [ج2 ص287] . (3) شرح فتح القدير [ج4 ص126، 127] ، الإقناع [ج4 ص246] . (4) المهذب [ج2 ص288] ، شرح الزرقانى [ج8 ص114] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 ولا يبدى إبطه فى رفع يده لأن الضرب يكون شديدًا فى هذه الحالة يخشى منه الهلاك وتمزيق الجلد (1) . ويشترط فى إقامة حد الجلد أن لا يؤدى إلى هلاك المحدود لأنه حد زاجر لا حد مهلك، فلا يقام فى الحر الشديد ولا البرد الشديد إذا خشى الهلاك، ولا يقام على المريض حتى يبرأ ولا على النفساء حتى ينقضى نفاسها ولا على الحامل حتى تضع. وهذا ما يراه مالك وأبو حنيفة والشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد. ولكن البعض الآخر يرى أن يؤخر للحمل فقط وأن لا يؤخر الجلد لمرض أو لحر أو لبرد، ولكنه يقام بسوط يؤمن معه التلف فإن خشى من السوط أقيم بأطراف الثياب وما أشبه مما يتحمله المحدود. وعلى هذا فلا خلاف بين الرأيين لأن كليهما ينظر إلى عدم هلاك المحدود وأن يكون التنفيذ بحيث يحتمله (2) . 554 - التنفيذ على الحامل: من المتفق عليه أن الحد لا يقام على حامل حتى تضع سواء كان الحمل من زنًا أو غيره، والأصل فى ذلك حديث الغامدية فقد روى أن امرأة من بنى غامد جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرة بالزنا وهى حامل وقالت إنها حبلى من الزنا، فقال لها: "ارجعى حتى تضعى ما فى بطنك"، فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعت الغامدية، فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعت الغامدية، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه"، فقام رجل من الأنصار فقال: إلىَّ رضاعه يا نبى الله، فرجمها. وقد جرى صحابة الرسول من بعده على هذا، فيروى أن امرأة زنت فى أيام عمر رضى الله عنه فهمَّ عمر برجمها وهى حامل، فقال له معاذ: إن كان لك سبيل عليها فليس لك سبيل على حملها، فقال: عجز النساء أن يلدن مثلك، ولم يرجمها. وروى عن على رضى الله عنه أنه قال مثل هذا. والعلة فى عدم إقامة الحد على الحامل أن فى إقامة الحد عليها فى حال حملها   (1) شرح فتح القدير [ج4 ص128] ، الإقناع [ج4 ص246] ، المهذب [ج2 ص288] . (2) شرح الزرقانى [ج8 ص84] ، شرح فتح القدير [ج4 ص137] ، أسنى المطالب [ج4 ص133] ، الإقناع [ج4 ص246] ، المغنى [ج10 ص140، 141] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 اتلافًا لمعصوم وهو الحمل ولا سبيل إليه، وإذا كانت هى غير معصومة من إقامة الحد فإن من القواعد الأساسية أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وألا تصيب العقوبة غير الجانى والعقوبة التى تصيب الحامل تتعدى إلى حملها، وسواء كان الحد رجمًا أو جلدًا فإنه لا ينفذ على الحامل حتى تضع حملها لأنه لا يؤمن تلف الولد من سراية الجلد وربما سرى الجلد إلى نفس الأم فيفوت الولد بفواتها. وإذا وضعت الأم حملها فإن كان الحد رجمًا لم ترجم حتى تسقيه اللِّبَأ، ثم إن كان له من يرضعه أو يتكفل برضاعه رجمت وإلا تركت حتى تفطمه (1) . وإذا وضعت الأم حملها وكان الحد جلدًا فيرى مالك وأبو حنيفة والشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد أن لا يقام عليها الحد حتى تشفى من نفاسها وتصبح قوية يؤمن تلفها إن أقيم عليها الحد، ويرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد إقامة الحد فى الحال بسوط يؤمن معه التلف فإن خيف عليها من السوط أقيم بالعثكول - يعنى شمراخ النخل - وأطراف الثياب. وحجة هذا الفريق الآخر أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أمر بضرب المريض الذى زنى فقال: "خذوا مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة". أما حجة القائلين بتأخير الحد ما روى عن على رضى الله عنه أنه قال: إن أمَة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرنى أن أجلدها فإذا هى حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها, فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد" (2) . وإذا لم يكن الحمل ظاهرًا فلا يؤخر الحد ولو كان من المحتمل أن تكون حملت من الزنا؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - رجم اليهودية والجهينية ولم يسأل عن استبرائهما، وقال لأنيس: أذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمهما، ولم يأمره بسؤالها عن استبرائهما، ورجم علىٌ شراحة ولم يستبرئها. وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وأحمد، فإذا ادعت المرأة الحمل فيرى أحمد وبعض الشافعية قبول قولها وحبسها حتى يتبين   (1) المغنى [ج10 ص138] ، المهذب [ج2 ص198] ، شرح فتح القدير [ج4 ص137] . (2) المغنى ج 10ص 140، المهذب ج ص 198، شرح فتح القدير ج4 ص 137. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 أمرها دون حاجة إلى التحقيق من صحة ادعائها لأن الحمل الحديث وما يدل عليه من الدم وغيره يتعذر إقامة البينة عليه فيقبل قولها فيه (1) . ويرى بعض الشافعية وأبو حنيفة أن لا يقبل ادعاء المرأة إلا بعد استطلاع من له خبرة من النساء فيقررن أن ادعاءها صحيح وإلا نفذ عليها الحد (2) . ويرى مالك أن يؤخر تنفيذ الحد سواء كان جلدًا أو رجمًا على الزانية المتزوجة إذا مكث ماء الزنا ببطنها أربعين يومًا ولو كان الزوج قد استبرأها، وتؤخر أيضًا إذا لم يستبرئها الزوج ولو لم يمض على الزنا أربعون يومًا، وتؤخر المرأة فى الحالين لحيضة؛ أى حتى تحيض مرة واحدة إن أمكن حملها خشية أن يكون بها حمل ويقوم مقام الحيضة. فمن لم تحض بعد مرور ثلاثة أشهر لم تحض فيها بحيث لا يظهر عليها الحمل فإن ظهر عليها الحمل أٌخرت حتى تضع. أما غير المتزوجة فلا يؤخر تنفيذ الحد عليها إن لم تمض على ماء الزنا أربعون يومًا فى بطنها أو مضى عليه هذه المدة ولم يكن فى الإمكان حملها، فإن كان الحمل ممكنًا أُخر تنفيذ الحد عليها لحيضة، على التفصيل السابق (3) . الواجب هو الجلد فالحكم يختلف باختلاف ما إذا كان المريض يرجى شفاؤه أو لا يرجى شفاؤه. المريض الذى يرجى شفاؤه: إذا كان المريض يرجى شفاؤه فيرى مالك وأبو حنيفة والشافعى وبعض الفقهاء فى مذهب أحمد أن لا يجلد حتى يشفى من مرضه؛ لأن إقامة الحد حال المرض قد يؤدى لتلف المريض، وحجتهم ما روى من حديث على حين كٌلف بجلد أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فوجدها حديثة عهد   (1) المهذب ج ص198، المغنى ج 10ص 114، الإقناع ج4 ص 247. (2) المهذب ج ص198، شرح فتح القدير ج4 ص 137. (3) شرح الزرقانى ج8 ص 84. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 بنفاس فخشى إن جلدها أن يقتلها، فعاد إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "يا على أفرغت" قال: أتيتها ودمها يسيل، فقال: "دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد" (1) . ويرى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد أن الحد يقام ولا يؤخر لأن الحد واجب فلا يؤخر ما أوجبه الله بغير حجة، ويحتج هذا الفريق بأن عمر رضى الله عنه أقام الحد على قدامة بن مظعون فى مرضه ولم يؤخره، وأنتشر ذلك فى الصحابة فلم ينكروه فكان إجماعًا (2) (6) ، ويعتبر الفقهاء النفاس مرضًا. المريض الذى لا يرجى شفاؤه: يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن المريض الذى لا يرجى شفاؤه من مرضه يقام عليه الحد فى الحال ولا يؤخر، ولكنهم يشترطون أن يقام الحد بسوط يؤمن معه التلف كالقضيب الصغير وشمراخ النخل، فإن خيف عليه من ذلك جمع ضغث فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة بمائة شمراخ لأنه زنا، ولأن المريض الميؤوس من شفائه إما أن يترك لمرضه فلا ينفذ عليه الحد أو ينفذ عليه كاملا فيفضى ذلك إلى موته فتعين التوسط فى الأمر وجلده جلدة واحدة بمائة شمراخ، وليس ثمة ما يمنع من أن تقوم الضربة الواحدة بمائة شمراخ مقابل المائة ضربة كما قال الله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا َ تَحْنَثْ} [النور:44] ، فهذا أولى من ترك أو قتل المريض بما لا يوجب القتل (3) . ولكن مالكًا لا يأخذ بهذا الرأى ويرى ضرب المريض الذى لا يرجى شفاؤه مائة جلدة، ولا يرى فى ضربه بالعِثْكال إلا جلدة واحدة. * * *   (1) شرح فتح القديرج4 ص 137، أسنى المطالب ج4ص 133، ج10 ص 141. (2) المغنى ج10ص 141. (3) المغنى ج10ص 142، شرح فتح القدير ج4 ص 137، أسنى المطالب ج4 ص 134. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 موانع التنفيذ 556 - يمتنع التنفيذ إذا جد ما يسقط الحد بعد الحكم به: ومسقطات الحد هى: أولا: يسقط الحد برجوع المقر عن إقراره إذا كان الزنا ثابتًا بالإقرار سواء كان الإقرار صريحًا أو ضمنيًا، وقد سبق أن فصلنا الكلام على الرجوع ومتى يسقط الحد. ثانيًا: عدول الشهود: ويسقط الحد بعدول الشهود عن شهاداتهم قبل التنفيذ كلهم أو بعضهم ما دام عدد الشهود الباقين على شهادتهم أقل من أربعة. ثالثًا: تكذيب أحد الزانيين للآخر: أو ادعاؤه النكاح إذا كان الزنا ثابتًا بإقرار أحدهما، وهو مذهب أبى حنيفة، أما الأئمة الثلاثة فيرون أن التكذيب لا يسقط الحد وأن ادعاء النكاح لا يسقطه إلا إذا أقام الدليل على وجود النكاح. رابعًا: بطلان أهلية شهادة الشهود قبل التنفيذ وبعد الحكم، وهو مذهب أبى حنيفة ولا يوافقه عليه الأئمة الثلاثة. خامسًا: موت الشهود قبل الرجم خاصة، وهو مذهب أبى حنيفة أيضًا ولا يأخذ به الأئمة الثلاثة. سادسًا: زواج الزانى من المزنى بها، والقائل بهذا هو أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة، وحجته أن النكاح يورث شبهة تدرأ الحد لأنه يعطى الزوج حق الملك والاستمتاع، ولكن فقهاء المذهب لا يوافقونه على هذا الرأى لأن الفعل وقع زنًا وكان سابقًا على الزواج (1) . * * *   (1) بدائع الصنائع ج7 ص 62. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 الكتاب الثانى القذف تمهيد: 557 - تعريف القذف: القذف فى الشريعة الإسلامية نوعان: قذف يحد عليه القاذف، وقذف يعاقب عليه بالتعزير. فأما ما يحد فيه القاذف فهو رمى المحصن بالزنا أو نفى نسبه، وأما ما فيه التعزير فهو الرمى بغير الزنا ونفى النسب سواء كان من رمى محصنًا أو غير محصن، ويلحق بهذا النوع السب والشتم ففيهما التعزير أيضًا. والكلام هنا مقصود به جريمة القذف المعاقب عليها بالحد وأن الكلام على هذا النوع من القذف يشمل القذف والسب الذى يجب فيه التعزير. وقد سكت الفقهاء عن بيان الفروق بين القذف بنوعيه وبين السب والشتم، ولكن الظاهر من تتبع أقوالهم وأمثلتهم فى أبواب الزنا والقذف والتعزير أنهم يعتبرون القول قذفًا كلما ً رمى القاذف المجنى عليه بواقعة تحتمل التصديق والتكذيب ويمكن إثباتها بطبيعتها كالرمى بالزنا والرشوة، ويعتبرون القول سبًا إذا كان مارمى به المجنى عليه ظاهر الكذب ولا يقبل الإثبات بداهة؛ كمن قال لآخر: يا كلب يا حمار، أو قال لبصير: يا أعمى، فرمى الإنسان بأنه كلب أو حمار ورمى البصير بأنه أعمى هو قول ظاهر الكذب ولا يقبل بداهة إثبات صحته. 558 - قاعدة الشريعة فى إثبات القذف والسب: القاعدة فى الشريعة أن من رمى إنسانًا بواقعة أو صفة محرمة ما، وجب عليه أن يثبت صحة ما رماه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 به، فإن عجز عن إثباته أو امتنع وجبت عليه العقوبة، أما من سب إنسانًا أو شتمه فعليه العقوبة وليس له الحق فى إثبات صحة ما قال؛ لأن ما قاله ظاهر الكذب ولا يمكن إثباته بطبيعة الحال، أما من رمى شخصًا بما ليس معصية فلا يعفيه صحة القذف من العقاب لأنه بالرغم من صحة قوله قد آذى المقذوف والإيذاء محرم فى الشريعة، ولأن ما قذف به لا تحرمه الشريعة ولا تؤاخذ عليه فلا يصح أن يعزز به. 559 - بين الشريعة والقانون: يختلف قانون العقوبات المصرى عن الشريعة من هذه الوجهة كل الاختلاف، فالقاعدة فيه أن ليس لمن قذف إنسانًا بشىء أن يثبت صحة ما قذفه به وعليه العقوبة ولو كان الظاهر أن ما قاله صدق لا شك فيه، والأساس الذى يقوم عليه القانون المصرى هو حماية حياة الأفراد الخاصة وهو نفس الأساس الذى تقوم عليه القوانين الأوروبية؛ لأن مصدرها جميعًا واحد هو القانون الرومانى، فالقانون الوضعى يقوم فى جرائم القول على قاعدة النفاق والرياء ويعاقب الصادق والكاذب على السواء، والمبدأ الأساسى فى هذا القانون أنه لا يجوز أن يقذف امرؤ آخر أو يسبه أو يعيبه فإن فعل عوقب سواء كان صادقًاَ فيما قال أو مختلقًا لما قال. وإذا كان هذا المبدأ يحمى البرآء من ألسنة الكاذبين الملفقين فإنه يحمى الملوثين والمجرمين والفاسقين من ألسنة الصادقين، وإذا كان هذا المبدأ قد عنى بحماية حياة الأفراد الخاصة فإنه قد أدى إلى إفساد الأفراد والجماعة على السواء؛ لأن القانون حين يعاقب على الصدق لا يمنع الصادق من قول الحق فقط وإنما يدفعه إلى الكذب ويشجعه على النفاق والرياء، كما أن القانون لا يصلح الفرد المعوج السيرة بحمايته وإنما يشجعه بهذه الحماية على الإمعان فى الفساد بل إنه ليغرى كثيرًا من الصالحين بسلوك طريق الفساد ما دام أنهم قد أمنوا من التشنيع والانتقاد، وهكذا تفسد الجماعة وتهدر الأخلاق الفاضلة لأن القانون يحمى من لا يستحق الحماية على الإطلاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 بهذا المبدأ الذى قام عليه القانون ينعدم الفرق بين الخبيث والطيب والمسىء والمحسن وينعدم الحد بين الرذيلة والفضيلة، وبهذا المبدأ انحط المستوى الأخلاقى بين الشعوب فالطيب لا يستطيع أن ينتقد الخبيث، والخبيث سادر فى غيه ذاهب إلى نهاية طوره لأنه لا يخشى رقيبًا ولا حسيبًا من الجماهير. ولا يستطيع امرؤ طبقًا لهذا المبدأ القانونى أن يسمى الأسماء بمسمياتها وأن يصف الموصوفات بأوصافها، ولا يستطيع أن يقول للمفترى يا كاذب، فإن قالها فقد باء بالعقوبة وباء الزانى والسارق والكاذب - فوق حماية القانون - بالتعويض المالى على ما نسب إليهم من قول هو عين الحق والصدق. ذلكم هو مبدأ القانون فى جرائم القول: يحرم على الناس أن يقولوا الحق، وأن يتناهوا عن المنكر، وأن يحطوا من قدر المسئ ليرفعوا من قدر المحسن والإحسان. وقد شعر واضعو القانون المصرى بخطورة هذا المبدأ على الشعب إذا طبق على إطلاقه فاستثنوا منه حالات أربع هى: 1 - حالة الطعن فى أعمال موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية أو مكلف بخدمة عامة: فإن الطاعن لا يعاقب على طعنه إذا حصل بسلامة نية وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة بشرط أن يثبت الطاعن حقيقة كل فعل أسنده إلى المقذوف (1) . وقد تقرر هذا الاستثناء بإسقاط الموظف والنائب والمكلف بخدمة عامة إذ أن أعمالهم معرضة للانتقاد فيدعوهم ذلك إلى الإحسان ما استطاعوا. 2 - حالة دعوة الأمة إلى الانتخاب: فإن نص المادة 68 من قانون الانتخاب يبيح الأقوال الصادقة عن سلوك المرشح وأخلاقه أثناء المعركة الانتخابية بالرغم من تحريم قانون العقوبات لهذه الأقوال فى الأوقات العادية، وقد جعلت هذه الإباحة ليستطيع كل مرشح وكل ناخب أن يقول ما يعرف عن سلوك   (1) المادة رقم 302 من قانون العقوبات المصرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 المرشح وأخلاقه دون خوف من العقاب ليسهل على الناخبين أن يميزوا بين المرشحين ويختاروا من يصلح للنيابة عنهم بعد أن يسمعوا عنه كل ما يتعلق بسلوكه وأخلاقه. 3 - حالة انعقاد البرلمان: فإن أعضاءه لا يؤخذون على ما يبدون من الأفكار والآراء فى المجلسين طبقًا لنص المادة 109 من الدستور، وقد وضع هذا النص لتمكين نواب الأمة من أن يقولوا ما يشاءون دون تحرج أو خوف من المحاكمة والعقاب. ويلاحظ أن هذه الحالة تختلف عن الحالتين السابقتين فى أن القاذف فى الحالتين السابقتين لا ينجو من العقاب إلا إذا كان صادقًا فيما قال، أما عضو البرلمان فلا يحاكم ولا يعاقب سواء كان صادقًا فيما قال أو مختلقًا لما قال. 4 - حالة المحاكمة والتقاضى: فالمادة 309 من قانون العقوبات تنص على الإعفاء من العقاب على القذف والسب الذى يحدث من الخصوم أو وكلائهم فى دفاعهم الشفوى أو الكتابى أمام المحاكم ولا يترتب عليه إلا المقاضاة المدنية أو المحاكمة التأديبية. ويلاحظ أن القاذف والساب لا يعاقب جنائيًا على قذفه أو سبه سواء كان صادقًا أو كاذبًا فيما قال. هذا هو مبدأ القانون المصرى فى جرائم القول، وهو نفس المبدأ الذى تأخذ به القوانين الوضعية بصفة عامة، وهى مستثنيات المبدأ فى مصر، وهى لا تكاد تختلف كثيرًا عما فى معظم القوانين الوضعية. والعيب الفنى فى نصوص القانون المصرى هو التناقض الظاهر وانعدام الانسجام، فبينما المبدأ الأساسى يقوم على حماية الحياة الخاصة للأفراد إذ بالاستثناءات تقوم على إباحة الحياة الخاصة والعامة. وبينما المبدأ الأساسى هو تحريم القول الصادق والكاذب على السواء إذ ببعض الاستثناءات تبيح القول الصادق فقط، وبعضها يبيح القول الصادق والقول الكاذب معًا، وليس بعد هذا تناقض ولا اضطراب. والعيب الخلقى الاجتماعى أن القانون حين قرر حماية الحياة الخاصة للأفراد قد قضى بإفساد الحياة العامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 للجماعة؛ لأن الأفراد هم الذين يكونون الجماعة وإذا صلحوا صلحت الجماعة، ولا يمكن أن يتصور وجود جماعة صالحة أفرادها فاسدون، ولا شك أن حماية حياة الأفراد الخاصة تؤدى إلى إفساد أخلاقهم وهدم الوازع الأدبى فى نفوسهم فإنما يحاول إقامة بيت من لبنات تالفة غير متماسكة، فلا يكاد ينتهى من بنائه حتى يخر عليه من السقف أو ينقض من القواعد. أما المبدأ الأساسى للجرائم القولية فى الشريعة فأساسه تحريم الكذب والافتراء وإباحة الصدق فى كل الأحوال، ولذلك فلا عقاب فى الشريعة على من يقول الحق، ولا مؤاخذة على من يسمى الأشياء بمسمياتها والموصوفات بأوصافها، ولا عقاب على من يقول للزانى يا زانى إذا أثبت أنه زانٍ، ولا عقاب على من يقول للسارق إنك سارق إذا أثبت أنه سارق، ولا عقاب على من يقول للكاذب إنك كاذب إذ لم يَعْدُ قول الحق. وليس لهذا المبدأ استثناءات، فكل إنسان يستطيع أن يطعن فى أعمال الموظفين العموميين والنواب والمكلفين بخدمات عامة وينسب إليهم عيوبهم ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وله أن يتعدى أعمالهم العامة إلى أعمالهم وحياتهم الخاصة ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وليس لهم أن يتضرروا من عيوبهم ولا من الصفات القائمة فى أعمالهم أو أشخاصهم. ولم تحم الشريعة الإسلامية الحياة الخاصة للموظفين العموميين ومن فى حكمهم كما تفعل القوانين الوضعية، لأن الشريعة لا تحمى النفاق والرياء والكذب، ولأن الشخص الذى لا يستطيع أن يسير سيرة حسنة فى حياته الخاصة ليس أهلًا فى نظر الشريعة لأن يتولى شيئًا من أمور الناس فى حياتهم العامة. وكل إنسان فى وقت الانتخابات وفى غير الانتخابات يستطيع طبقًا للشريعة أن يقول للمحسن هذا محسن وللمسىء هذا مسىء ما دام يستطيع أن يثبت إساءة المسىء، وكل إنسان سواء كان عضوًا فى البرلمان أو فى أى هيئة أخرى أو كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 عاطلًا من عضوية الهيئات على الإطلاق له الحق فى أن ينسب ما يشاء إلى من شاء ما دام يستطيع أن يثبت ما ينسبه إلى هؤلاء، فليس فى الشريعة - كما فى القانون - ما يدعو إلى تحليل الصدق فى وقت الانتخابات وتحريمه فى غير ذلك من الأوقات؛ لأن الشريعة توجب الصدق على الدوام ولا تحرمه فى أى ظرف من الظروف أو زمن من الأزمان. وليس فى الشريعة - كما فى القانون - ما يدعو إلى تحليل الصدق والكذب معًا لأعضاء البرلمان والمتقاضين؛ لأن ذلك يجعل الصدق والكذب بمنزلة سواء، والشريعة توجب الصدق كل الوجوب وتحرم الكذب كل التحريم فلا تجمع فى حكم واحد بين المتناقضين، ولأن أعضاء البرلمان هم أهل الرأى والشورى فإذا أُحل لهم الكذب وأمنوا العقوبة عليه كانوا أقرب إلى مظنة الوقوع فيه، وما قيمة الرأى والمشورة من قوم يظن فيهم أنهم لا يصدقون فى كل الأحوال ولأن الشريعة الإسلامية تقوم على المساواة، وفى تميز أعضاء البرلمان والمتقاضين خروج على مبدأ المساواة. هذه هى الشريعة الإسلامية تقوم على حماية الحياة العامة من الغش والرياء وحماية الأفراد من مسايرة الأهواء، وترى الصدق فضيلة تستحق التشجيع لا العقاب، وترى أن الفرد الفاسد أحق بأن يتحمل وزر عمله وأن لا يتضرر من نتائجه، ومن ثَمَّ أباحت إثبات القذف، فإن استطاع القاذف إثبات ما قال فلا عقاب عليه، وليس للمقذوف أن يتضرر من القذف لأنه نتيجة عمله هو لا عمل القاذف، فإن عجز القاذف عن الإثبات فهو ظالم يستحق العقوبة، ويجب أن نلاحظ أن فى إيقاع العقوبة على القاذف بعد إباحة إثبات القذف له وعجزه عن الإثبات دليلًا قاطعًا على عدم صحة القذف، أما إيقاع العقوبة على القاذف مع منعه من إثبات القذف كما هو الحال فى القانون فإنه لا يبرئ مما يقذف به , ولا يقطع بكذب القاذف. ومن هذا يتبين أن نظرية الشريعة أكرم وأفضل للمجنى عليه والجانى من نظرية القانون الوضعى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وإذا كان القاذف لا يعاقب على القذف إذا أثبت صحته فليس معنى ذلك إهدار المقذوف طول حياته بحيث يقذف ولا يعاقب قاذفه، وإنما للمقذوف أن يستعيد عصمته بتوبته وصلاحه، فإن تاب وصلح حاله عوقب قاذفه عقوبة تعزيرية إذا كان يعلم بتوبة المقذوف وانصلاح حاله وكان يقصد من القذف إيذاءه (1) . بل إن قاذف أى شخص بمعصية يعزر على القذف ما دام المقذوف قد عوقب من قبل على معصيته لأن القذف كان لمجرد الإيذاء (2) . 560 - النصوص الواردة فى القذف: الأصل فى تحريم القذف الكتاب والسنة: فأما الكتاب فقول الله تعالى: {واَلَّذِينَ يَرمْوُنَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُنَ الْمُحْصَنَاتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] . وأما السنة: فقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله , والسحر، وقتل النفس التى حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". * * * المبحث الأول أركان جريمة القذف 561 - ذكرنا أن القذف الذى يجب به الحد هو رمى المحصن بالزنا أو نفى النسب عنه. وظاهر من هذا التعريف أن أركان جريمة القذف التى يجب بها الحد ثلاثة: 1 - الرمى بالزنا أو نفى النسب. ... 2 - أن يكون المقذوف محصنًا. 3 - القصد الجنائى.   (1) شرح فتح القدير ج4 ص 204. (2) مواهب الجليل ج6 ص 300، 301. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 الركن الأول: الرمى بالزنا أو نفى النسب: 562 - يتوفر هذا الركن كلما رمى الجانى المجنى عليه بالزنا أو نفى نسبه مع عجزه عن إثبات ما رماه به. والرمى بالزنا قد يكون نفيًا لنسب المجنى عليه وقد لا يكون، فمن قال لشخص يا ابن الزنا فقد نفى نسبه ورمى أنه بالزنا، ومن قال لشخص يا زانى فقد رماه بالزنا ولم ينف نسبه. فالرمى بالزنا يكون نفيًا لنسب المجنى عليه إذا تعدى القذف لأمه، أما نفى النسب فيقتضى دائمًا رمى أم المقذوف أو أحد أمهاته بالزنا. فمن نسب شخصًا إلى غير أبيه أو إلى غير جده فقد نسب الزنا لأم هذا الشخص أو جدته (1) . وإذا كان القذف بغير الزنا أو نفى النسب فلا حد فيه، كالقذف بالكفر أو السرقة الزندقية أو شرب الخمر أو أكل الربا أو خيانة الأمانة إلى غير ذلك، ويعاقب على فعل هذا القذف بالتعزير، وكذلك يعزر على القذف بالزنا ونفى النسب إذا لم تستوف شروط الحد. ويعزر أيضًا على كل قذف لا ينسب فيه للمقذوف معصية ولو كانت وقائع القذف صحيحة، إذا كان القذف مما يؤلم المقذوف ويؤذى شعوره، كأن ينسب للمقذوف أنه عنين أو عقيم أو مجنون أو مريض بالشلل أو السل، أو أنه أسود اللون أو بشع الخلقة، أو أنه من أسرة وضيعة. والعبرة فى تحديد الإيلام والإيذاء بما جرى عليه العرف أى بما تعارف عليه الناس. ويعاقب القاذف فى هذه الحالة بالذات سواء صح ما نسب للمقذوف أو لم يصح؛ لأنه إذا صح ما نسبه للمقذوف فإنه ليس فيه ما يشين ولا ما تحرمه الشريعة،   (1) شرح فتح القدير ج4 ص 190، 193، شرح الزرقانى ج8 ص 85، 86، المغنى ج10 ص 210، 215، المهذب ج2 ص 289، 291. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 فالقذف ليس إلا إيذاء للمقذوف وإيلام له دون مبرر. وإذا لم يصح ما نسبه للمقذوف فإنه وإن لم يكن فيه ما يشين أو ما تحرمه الشريعة إلا أنه افتراء يؤلم المفترى عليه ويؤذيه والشريعة تعتبر الإيذاء دون مبرر شرعى جريمة يعاقب عليها. والفرق بين هذه الحالة والحالات السابقة التى يعفى فيها من العقاب أن القاذف يؤذى المقذوف ويؤلمه فى كل الأحوال ولكنه يعفى من العقاب فى الأحوال السابقة لأن للإيذاء مبررًا شرعيًا وهو إتيان المقذوف ما تحرمه الشريعة، أما فى الحالة الأخيرة فليس هناك مبرر شرعى للإيذاء. والرمى باللواط عند مالك والشافعى وأحمد حكمه حكم الرمى بالزنا؛ لأنهم يعتبرون اللواط زنًا واللائط زانيًا سواء كان فاعلا أو مفعولا به، امرأة أو رجلا، فإذا ثبت أن القاذف أراد من القذف أن المقذوف يعمل عمل قوم لوط فعليه الحد. أما أبو حنيفة فلا يرى حد القاذف باللواط ويرى تعزيره لأنه لا يعتبر اللواط زنًا ومن ثم لا يعتبر الرمى باللواط رميًا بالزنا (1) . وإذا نسب القاذف للمقذوف أنه لوطى وادعى أنه أراد أن المقذوف من قوم لوط فلا عبرة بادعائه ويجب حد القذف عند مالك ويحده أيضًا الشافعى إلا إذا أراد أنه على دين قوم لوط. أما أحمد فاختلفت عنه الرواية، فروى عنه أنه يوجب الحد على القاذف إذا قال للمقذوف: يا لوطى وروى عنه أنه فرق بين ما إذا قال القاذف: أردت أن دينه دين لوط، وفى هذه لا حد عليه، وبين ما إذا قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط، وفى هذه عليه الحد. ووجه الإعفاء من الحد أن القاذف فسر كلامه بما لا يوجب الحد فاعتبر التفسير متصلًا بالقذف، والقاعدة أن مثل هذا التفسير لو اتصل بعبارة القذف من وقت القذف لم يجب الحد، أما الرواية الثالثة فيرى أحمد أن القاذف إذا كان فى غضب فهو أهل لأن يقام عليه الحد لأن الغضب قرينة تدل على   (1) شرح الزرقانى ج8 ص 87، المهذب ج2 ص 290، المغنى ج10 ص 209، شرح فتح القدير ج4 ص 150، 190. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 إرادة القذف بخلاف حال الرضا. والراجح فى المذهب هو الرواية الأولى؛ لأن كلمة لوطى لا يفهم منها الآن إلا القذف بعمل قوم لوط فكانت صريحة فى اللواط صراحة لفظ الزانى فى الدلالة على الزنا ولأن قوم لوط لم يبق منهم باقية فلا يحتمل أن ينسب إليهم أحد (1) . ومن قذف إنسانًا بإتيان بهيمة فعلية الحد عند من يعتبر إتيان البهيمة فى حكم الزنا، وهذا ما يراه بعض الشافعية والحنابلة، ولا حد عليه ولكن يعزر عند من لا يعتبرون إتيان البهائم زنًا وهم مالك وأبو حنيفة وأكثر الشافعية والحنابلة (2) . والقاعدة العامة عند الفقهاء أن كل ما يوجب حد الزنا على فاعلة يوجب حد القذف على القاذف به، وكل ما لا يجب حد الزنا بفعله لا يجب الحد على القاذف به، فمن قذف إنسانًا بالمباشرة دون الفرج أو بالوطء بالشبهة فلا حد عليه وإنما عليه التعزير لأنه لم يقذفه بما فيه حد الزنا، ومن قذف امرأة بالمساحقة أو بالوطء مستكرهة فلا حد عليه التعزير لأنه قذفها بما ليس فيه حد الزنا (3) . هذه هى القاعدة العامة عند الفقهاء ومتفق عليها ولكنهم يختلفون فى تطبيقها لاختلافهم فيما يوجب حد الزنا. ويرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد أن الوالد وإن علا إذا قذف ولده وإن نزل لم يجب عليه الحد سواء كان القاذف رجلا أو امرأة؛ لأن عقوبة القذف وإن كانت حدًا إلا أنها متعلقة بحقوق الأفراد، ولأن القذف حق لا تستوفى عقوبته إلا بالمطالبة فهو أشبه بالقصاص، ولأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يجب للابن على أبيه كالقصاص، وإذا كان من المسلم به أن الابن لا يقتص من الأب ولا يقطع فى سرقة   (1) نفس المرجع السابق. (2) شرح الزرقانى ج8 ص 78، شرح فتح القدير ج4 ص 152، نهاية المحتاج ج7 ص 405، أسنى المطالب ج4 ص 126، المغنى ج10 ص 163، 210. (3) المغنى ج10 ص 210، شرح الزرقانى ج8 ص 86، شرح فتح القدير ج4 ص 193، المهذب ج2 ص 289. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 ماله فأولى أن لا يحد فى قذفه. ويرتب أصحاب هذا الرأى على ما يقولون أن الوالد لو قال لولده من زوجته المتوفاه يا ابن الزانية لم يكن للولد أن يرفع على والده الدعوى، لكن إذا كان لها ابن آخر من غيره استطاع أن يرفع دعوى القذف لأن حد القذف يثبت لكل من المستحقين على الانفراد، ويترتب على هذا الرأى أيضًا أنه لو قذف الزوج زوجته فى حياتها فرفعت دعوى القذف ثم ماتت قبل الحكم فيها ولم يكن لها ورثة غير أولادها م الزوج القاذف فإن الدعوى تسقط حتى عند من لا يسقطون الدعوى بالوفاة؛ لأن ورثة المتوفاة أولاد القاذف وليس لهم أن يطالبوه بحد القذف "الدعوى تسقط دائمًا عند أبى حنيفة بالوفاة وليس للورثة أن يحلوا محل المقذوف لأن حق القذف ليس من الحقوق المالية التى تورث" (1) . وفى مذهب مالك رأيان: أحدهما يتفق مع الرأى السابق، وثانيهما: للابن أن يطالب أباه بحد القذف لأن نص القذف عام فينطبق على الأب كما ينطبق على غيره، ولأن العقوبة حد والحد حق الله فلا يمنع من إقامتها قرابة الولادة، ولكن القائلين بهذا الرأى يسلمون بأن الابن يفسق بمطالبته بحد أبيه، أى أن عدالة الابن تسقط لمباشرته سبب عقوبة أبيه لأن الله تعالى يقول: {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] ، ويقول: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] (2) . ولا يشترط فى القذف أن يكون بلغة معينة فيصح أن يكون باللغة العربية ويصح أن يكون بغيرها من اللغات، ويشترط فى القذف أن يكون صريحًا وصريح القذف ما لا يحتمل غيره فإن احتمل غيره فهو كناية أو تعريض. فمن قال يا زانى أو أنت زان، فقد جاء بقذف صريح. وإن قال: أبوك زان أو أمك زانية أو يا ابن الزانى أو يا ابن الزانية، فهو قذف صريح للأم والأب. وإن قال: يا ابن الزنا أو يا ولد الزنا كان قذفًا صريحًا أيضًا لأن معناه أنك مخلوق من ماء الزنا. أما   (1) شرح فتح القدير ج4 ص 197، المهذب ج2 ص 290، المغنى ج10 ص208. (2) شرح فتح القدير ج4 ص 197، المغنى ج10 ص 208، شرح الزرقانى ج8 ص 87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 إن قال: ما أنا بزان وليست أمى بزانية، أو قال: يا ابن منزلة الركبان أو ذات الراية، أو قال لامرأة: فضحت زوجك وجعلت له قرونًا أو أفسدت فراشه ونكست رأسه، فذلك هو التعريض أو الكناية. ولا خلاف فى أن القذف الصريح معاقب عليه بعقوبة الحد، أما القذف القائم على التعريض والكناية فمختلف على عقوبته، فيرى أبو حنيفة - وما يراه رواية فى مذهب أحمد - أن لا حد على القذف بالتعريض أو الكناية وإنما فيه التعزير، وحجة أصحاب هذا الرأى ما روى أن رجلًا قال للنبى - صلى الله عليه وسلم -: إن امرأتى ولدت غلامًا أسود؛ يعرض بنفيه، فلم يعاقبه الرسول على ذلك القول، وأن الله تعالى فرق بين التعريض بالخطبة والتصريح بها فأباح التعريض بها فى العدة وحرم التصريح فقال جل شأنه: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فىِ أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا} [البقرة: 235] فإذا كان الشرع قد فرق بين التعريض والتصريح فيما يعزر عليه فأولى أن يفرق بينهما من أن يعاقب عليه بعقوبة الحد التى تدرأ بالشبهات، وفضلًا عن ذلك فإن التعريض والكناية يحتمل غيره والاحتمال شبهة والحدود تدرأ بالشبهات (1) (19) . والأصل عند الشافعى أن لا حد إلا فى القذف الصريح ولكنه يوجب الحد من القذف بالتعريض والكناية إذا ثبت أن القاذف نوى بما قال القذف لأن الكناية مع النية بمنزلة الصريح، أما إذا لم ينو بما قاله من تعريض أو كناية القذف لم يجب الحد سواء كان ذلك فى حال الخصومة أو غيرها لأنه يحتمل القذف وغيره فلم يجعل قذفًا من غير نية (2) . ويرى مالك الحد فى القذف بالتعريض أو الكناية إذا فهم منه القذف أو دلت القرائن على أن القاذف قصد القذف، ولكنه يستثنى من ذلك الأب فإذا   (1) شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 213. (2) المهذب ج2 ص 290. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 عرض الأب بولده أو قذفه بالكناية فلا حد عليه لبعده عن التهمة فى قذف ولده أما إذا صرح فعليه الحد. ويعتبر مالك الخصام من القرائن على القذف، فمن قال فى خصام لآخر ما أنا بزان فكأنه قال يا زانى، أو قال: أما أنا فلست بلائط فكأنه قال يا لائط، أو قال: أما أنا فأبى معروف فكأنه قال: أبوك ليس بمعروف (1) . وهناك رواية أخرى عن أحمد بأن القاذف تعريضًا أو كناية عليه الحد، وحجة أصحاب هذا الرأى أن النص عام فى عقاب القاذف فإذا ثبت القذف فقد وجب الحد سواء كان القذف صريحًا أو تعريضًا أو كناية، وأن هذا هو قضاء عمر فقد شاور عمر الصحابة فيمن قال لصاحبه: ما أبى بزان ولا أمى بزانية، قد مدح أباه وأمه، فقال عمر: قد عرض بصاحبه وجلده الحد. ومن المشهور عن عمر أنه كان يجلد الحد فى التعريض، وأنه قضاء عثمان. وروى الأثرم أن عثمان جلد رجلًا قال لآخر يا ابن شامة الوذر يعرض له بزنا أمه والوذر قدر اللحم يعرض به بقذف الرجال، ولأن الأصل أن الكناية مع القرينة الصادقة إلى أحد محتملاتها كالصريح الذى لا يحتمل إلا ذلك المعنى. ويرد هذا الفريق على القائلين بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقب على التعريض بأن العقاب فى القذف معلق على الشكوى من المقذوف، وأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقب من عرض بزوجته لأنها لم تتقدم بالشكوى (2) . ولا يشترط لعقوبة الحد أن يتلفظ القاذف بعبارات القذف بل يكفى لعقابه أن يصادق عليها، فمن قال لآخر: أمك زانية، فقال ثالث صدقت، كان كلاهما قاذفًا وإذا قال رجل لآخر: أشهد أنك زان أو أنك تنسب لغير أبيك، فقال ثالث: وأنا أشهد بمثل ما شهدت به، كان الأول والثالث قاذفين وعليهما الحد (3) . ولا يبقى القاذف من عقوبة الحد إن كان قذفه جاء ردًا لقذف وجهه إليه   (1) شرح الزرقانى ج8 ص 87، مواهب الجليل ج6 ص 301. (2) شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 213. (3) شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 215. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 المقذوف فمن قال لآخر: يا زانى، فقال له الآخر: لا بل أنت، فإنهما يحدان ولا يسقط الحد بتبادل القذف ولا بتكافؤ السيئات (1) . ولكن القاذف يعفى من الحد إذا صدقه المقذوف، فمن قال لأجنبية عنه: أنت زانية، فقالت: بك زنيت، فلا حد عليه وعليها حدان، حد الزنا لاعترافها به وحد القذف لقذفها الرجل بالزنا. أما إذا صدر هذا القول من الرجل لزوجته فلا حد على أحدهما: لا حد على الرجل لأنها صدقته، ولا حد عليها لأنه يجوز أن تكون زانية حقيقية ولأنه يجوز أن تكون قصدت نفى الزنا، كما يقول الرجل لغيره سرقت، فيقول معك سرقت ويريد أنى لم أسرق كما لم تسرق، ولأنه يجوز أن يكون معناه: ما وطئنى غيرك، فإن كان ذلك زنًا فقد زنيت، فهذه الاحتمالات معناها الشبهة فى مؤدى قولها ولا حد مع شبهة (2) . وإذا استعمل القاذف أفعل التفضيل فى القذف فقال مثلا: أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس، فعليه الحد عن مالك وأحمد (3) . أما فى مذهب أبى حنيفة فيرى البعض الحد ولا يراه البعض الآخر، وحجتهم أن أفعل يستعمل فىالترجيح للعلم فكأنه قال: أنت أعلم منى بالزنا، وحجة الفريق الأول أن استعمال أفعل التفضيل قذف لأن معناه أن فلانًا زان وأنت أزنى منه وأنه فى الناس زناة وأنت أزنى منهم (4) . ويرى الشافعى أنه إذا قال لغيره: أنت أزنى من فلان أو أنت أزنى الناس، لم يكن قذفًا من غير نية؛ لأن لفظة أفعل لا تستعمل إلا فى أمر يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما فيه بمزية، وما ثبت أن فلانًا زان ولا أن الناس زناة فيكون هو أزنى منهم، وإن قال:   (1) شرح فتح القدير ج4 ص 201، نهاية المحتاج ج7 ص 417. (2) شرح فتح القدير ج4 ص 202، المهذب ج2 ص 290، شرح الزرقانى ج8 ص 91، المغنى ج10. (3) شرح الزرقانى ج8 ص 91، المغنى ج10ص 216 (4) شرح فتح القدير ج4 ص 191، 211. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 فلان زان وأنت أزنى منه أو أنت أزنى زناة الناس، فهو قذف لأنه أثبت زنا غيره ثم جعله أزنى منه (1) . وإذا قال القاذف لشخص: أنت أزنى من فلان، فهو قاذف لهذا الشخص، ولكن هل يكون قاذفًا لفلان أيضًا؟ فيه وجهان: أولهما: يكون قاذفًا للمخاطب خاصة لأن لفظة أفعل للتفضيل فيقتضى اشتراك الاثنين فى اصل الفعل وتفضيل أحدهما على الآخر فيه، ثانيهما: قاذفًا للمخاطب خاصة لأن لفظة أفعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل كقول الله تعالى: {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى} [يونس: 35] ، وقال تعالى: {فَأَىُّ الْفَرِيقَيْن أَحَقُّ بِالأَمْنِ} [الأنعام: 81] . وقوله على لسان لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] أى من أدبار الرجال ولا طهارة فى أدبار الرجل. ويلاحظ أن الشافعى يشترط لاعتبار القول قذفًا أن يريد القائل القذف، وأن بعض الفقهاء فى مذهب أبى حنيفة لا يعتبرون ذلك قذفًا كما ذكرنا فى الفقرة السابقة (2) . وإذا استعمل القاذف فى القذف ألفاظًا مشتركة تفيد الزنا وتفيد غيره كقوله: زنأت فى الجبل؛ بالهمزة، فيرى بعض أن العبرة بما يفهمه عامة الناس من العبارة وأنه قذف لأن عامة الناس لا يفهمون من العبارة إلا أنها قذف، وقال البعض إنه قذف إذا كان القاذف عاميًا وكان المعنى العامى يستعمل فى القذف لأنه لا يريد به إلا القذف وإن كان من أهل العلم باللغة فهو ليس قذفًا (3) . استعمال صيغة المبالغة أو صيغة الترخيم لا ينفى وجوب الحد على القاذف، فمن قال لرجل: يا زانية، أو قال لامرأة: يا زانى، فهو قذف صريح، ذلك هو رأى مالك والشافعى وأحمد (4) .   (1) المهذب ج2 ص 290، 291. (2) المغنى ج10ص 216. (3) المغنى ج10ص 216، شرح فتح القدير ج 4 ص200 , المهذب ج10 ص 291. (4) مواهب الجليل ج6 ص 304، المهذب ج2 ص 291 المغنى ج10 ص 217. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 ويرى أبو حنيفة وأصحابه حد القاذف لو قال لامرأة يا زانى؛ لأن الترخيم شائع ولا يمكن أن يفهم من هذا اللفظ إلا الرمى بالزنا، أما إذا استعمل القاذف صيغة المبالغة فقال للرجل يا زانية، فلا حد عليه عند أبى حنيفة وأبى يوسف وإنما عليه التعزير لأنه رماه بما يستحيل منه إذ الزانية هى المرأة وهى محل للوطء والرجل ليس محلًا له، ويرى محمد من أصحاب أبى حنيفة حد القاذف بصيغة المبالغة لأن التاء فى الزانية أضيفت للمبالغة وليست للتأنيث (1) . وإذا رمى القاذف رجلا بالزنا وعيَّن المزنى بها كأن قال: زنيت بفلانة، فهو قاذف للرجل والمرأة معًا، أو قال له يا زانى ابن الزانى وكان الأب موجودًا فهو قاذف للأب وابنه، أو قال لامرأة يا زانية بنت الزانية فهو قاذف للمرأتين (2) . ويشترط فى القذف أن يكون المقذوف معلومًا فإن كان مجهولا فلا حد على القاذف، فمن قال لجماعة: ليس فيكم زان إلا واحد، أو قال لرجلين: أحدكما زان، لم يحد لأن المقذوف مجهول وما جعل الحد إلا لدفع العار عن المقذوف (3) . ويجب أن يكون القذف مطلقًا عن الشرط والإضافة إلى وقت معين، فإن كان كذلك فلا حد عليه فيه؛ لأن ذكر الشرط والوقت يمنع وقوعه قذفًا للحال، فمن قال لآخر: إن دخلت هذه الدار فأنت زان فدخلها فلا يعتبر قاذفًا. ومن قال لآخرين: من قال عنى كذا وكذا فهو زان فقال رجل أنا قلت ذلك؛ فلا حد، ومن قال لغيره: أنت زان أو ابن الزانية غدًا أو رأس الشهر، فجاء الغد أو رأس الشهر فلا حد عليه (4) . ولا يعتبر نقل القذف قذفا من الناقل إذا نقله للمقذوف كلف بذلك أم لم يكلف به، بشرط أن يثبت أنه ناقل وأن تكون الصيغة دالة على أنه مكلف   (1) شرح فتح القدير ج4 ص 191. (2) المغنى ج10ص 216، المهذب ج2 ص 293، بدائع الصنائع ج7 ص 42. (3) المغنى ج10ص 216، المهذب ج2 ص 293، بدائع الصنائع ج7 ص 42. (4) بدائع الصنائع ج7 ص 46، المغنى ج10 ص 225. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 بالنقل أو أنه يروى عن غيره، فمن قال لآخر: اذهب إلى فلان فقل له يا زانى، فذهب الآخر وقال ذلك للمقذوف، فلا حد عليه، أما إذا اقتصر على عبارة القذف فقط فهو قاذف. ويرى كل من أبى حنيفة والشافعى وأحمد أن الناقل لا يعتبر قاذفًا إذا كذبه المنقول عنه حيث لم يثبت أنه ناقل (1) . وإذا رمى القاذف بالزنا خصيًا أو مجبوبًا أو مريضًا فعليه الحد عند أحمد، وحجته أن نص القذف عام ينطبق على كل قذف وكل مقذوف فيستوى أن يكون المقذوف قادرًا على الوطء أو عاجزًا عنه، لأن إمكان الوطء أمر خفى لا يعلمه الكثير من الناس فلا ينتفى العار عند من لم يعلمه بدون الحد، ويرى مالك وأبو حنيفة والشافعى أن لا حد على قاذف أحد هؤلاء ما دامت الواقعة المقذوف بها تالية للعجز عن الوطء لأن العار منتف عن المقذوف بدون الحد للعلم بكذب القاذف والحد إنما يجب لنفى العار، ولكن امتناع الحد لا يمنع من تعزير القاذف لأنه آذى المقذوف (2) . ويشترط أبو حنيفة لحد القاذف أن يكون القذف فى دار الإسلام فإن كان القذف فى دار الحرب أو فى دار البغى فلا حد على القاذف؛ لأنه لا ولاية للإمام على دار الحرب ولا على دار البغى وقت القذف (3) . ولكن الأئمة الثلاثة يرون حد القاذف على قذفه ولو وقع فى دار الحرب أو دار البغى ما دام أنه يلتزم أحكام الإسلام. ومن نفى شخصًا عن أبيه كأن قال له لست لأبيك فإنه يحد باتفاق، ولكن أبا حنيفة يشترط أن تكون أم المنفى نسبه حرة مسلمة لأن القذف فى الحقيقة قذف للأم، ويفرق بين ما إذا كان النفى فى حالة الغضب فيوجد الحد وبين ما إذا   (1) بدائع الصنائع ج7 ص 44، المهذب ج2 ص 293، المغنى ج10 ص 216. (2) شرح الزرقانى ج8 ص 86، شرح فتح القدير ج4 ص 191، المغنى ج10 ص 203. (3) بدائع الصنائع ج7 ص 45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 كان النفى فى غير حالة الغضب فلا يوجد الحد، لاحتمال أن يكون المراد بالنفى غير حقيقة كأن يكون المقصود المعايبة على عدم التشبه بالأب فى محاسن أخلاقه، وعلى هذا يتوقف الحد وعدمه على القرينة، وهذا يتفق مع رأى بعض الشافعية، أما البعض الآخر فهم يرون مع مالك وأحمد الحد سواء نفى النسب فى غضب أو غيره، ويرى أبو حنيفة أيضًا أن من نفى نسب شخص عن جده فقال لست ابن فلان لجده، فلا حد عليه لأنه صادق فى كلامه، لأن الإنسان ليس ابن جده. وكذلك إذا نسب شخصًا لعمه أو خاله أو زوج أمه لا يحد لأن كلًا منهم يسمى أبًا، فالعم يسمى أبًا لقوله تعالى: {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعيِلَ وإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] وإسماعيل كان عمًا له، والخال أب، ولأن زوج الأم أب للتربية (1) . ولكن مالكًا يرى الحد فى كل هذه الحالات (2) . ولا يشترط الشافعى وأحمد هذا الشرط، ويحد القاذف عندهما ولو لم تكن الأم حرة أو مسلمة، وقد توقف مالك فى حالة ما إذا كانت الأم كافرة أو أمَة، ورأى ابن القاسم أن يحد من ينفى النسب ولو كانت المكافرة أو أمة (3) ، أما من ينفى شخصًا عن أمه فلا حد عليه بالإجماع لأنه لم يقذف أحدًا بالزنا (4) ، ومن نفى شخصًا عن قبيلته فعليه الحد عند مالك وأحمد ولا حد عليه عند أبى حنيفة (5) ، وفى مذهب الشافعى قولان، ومن نفى شخصًا عن جنسه بأن قال له: أنت نبطى أو رومى أو لست عربيًا فعليه الحد عند مالك ولا حد عليه عند أبى حنيفة، وفى مذهب الشافعى وأحمد قولان: أحدهما: عليه الحد لأنه أراد نفى نسبه لأن الله تعالى علق الحد على الرمى بالزنا، والثانى: لا حد عليه لأنه يحتمل غير القذف احتمالاً كثيرًا (6) ، أما إذا كان المنفى جنسه غير عربى فلا حد عليه.   (1) شرح فتح القدير ج4 ص 194، 200. (2) مواهب الجليل ج6 ص 300، 301. (3) المغنى ج10 ص 215، المهذب ج2 ص 291، شرح فتح القدير ج4 ص 193، مواهب الجليل ج6 ص 298. (4) شرح فتح القدير ج4 ص 194. (5) شرح فتح القدير ج4 ص 199، الغنى ج10 ص215.. (6) شرح الزرقانى ج8 ص88، 89 المهذب ج2 ص291، المغنى ج10 ص 215. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 وإذا قذف الملاعنة أجنبى فعليه الحد عند مالك والشافعى وأحمد (1) ، ويفرق أبو حنيفة بين من لاعنت بولد ومن لاعنت بغير ولد، فمن قذف امرأة لاعنت بغير ولد فعليه الحد، أما من قذف ملاعنة بولد فلا حد عليه سواء كان الولد حيًا أو ميتًا وقت القذف (2) . ومن قذف شخصًا بالزنا فحد لقذفه ثم قذفه ثانية بذلك الزنا فلا يحد بالقذف الثانى وإنما عليه التعزير عند الشافعى وأحمد؛ لأن نفى العار عن المقذوف وتكذيب القاذف قد تم بالحد الأول، ولأن أبا بكر شهد على المغيرة بالزنا فجلده عمر رضى الله عنه، ثم أعاد القذف فأراد أن يجلده ثانية فقال له علىٌّ: إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبك، فترك عمر رضى الله عنه جلده. ومعنى عبارة علىٍّ أنك إن أردت أن تجلده ثانية فقد جعلت شهادته شهادتين وإذا كانت شهادته شهادتين فقد كمل عدد شهود الزنا على المغيرة فوجب عليه الرجم لأن أبا بكر ومن معه حدوا لنقص عدد الشهود واحدًا (3) ، اما مالك فيرى أن يحد مرة ثانية إذا كرر قذفه بعد تنفيذ الحد الأول (4) . الركن الثانى: إحصان المقذوف: 563 - يشترط فى المقذوف أن يكون محصنًا رجلًا كان أو امرأة: والأصل فى شرط الإحصان قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصنَاَتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِناَتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْياَ واَلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] والمقصود   (1) شرح الزرقانى ج8 ص87، المغنى ج10 ص225، المهذب ج2 ص 293. (2) شرح فتح القدير ج4 ص 203. (3) المغنى ج10 ص 234، المهذب ج2 ص 293. (4) شرح الزرقانى ج8 ص88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 بالإحصان فى الآية الأولى العفة عن الزنا على رأى (1) ، والحرية على رأى (2) ومعنى الإحصان فى الآية الثانية: الحرية، فالمحصنات معناها الحرائر والغافلات معناها العفائف والمؤمنات معناه المسلمات، وقد استدل الفقهاء من النصين على أن الإيمان - أى الإسلام - والحرية والعفة عن الزنا شروط فى الإحصان. وقد ورد لفظ المحصنات فى القرآن بمعانٍ متعددة، فوردت بمعنى العفائف على حسب ما بينا، وجاءت بمعنى المتزوجات فى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْماَنُكُمْ} [النساء: 24] وقوله: {مُحْصَنَاتُ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] وجاءت بمعنى الحرائر فى قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطْعِ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنِكحَ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتاَبَ مِنَ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وقوله {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، وجاءت بمعنى الإسلام فى قوله تعالى: {فَإذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] . ويعتبر الشخص محصنًا إذا كان بالغًا عاقلا حرًا مسلمًا عفيفًا عن الزنا، والبلوغ والعقل شرطان عامان يجب توفرهما فى الجانى فى كل جريمة ولا يجب توفرهما أصلًا فى المجنى عليه، ولكن الفقهاء يشترطون البلوغ والعقل أيضًا فى المقذوف وهو المجنى عليه لإعتباره محصنًا يعاقب على قذفه بالحد، وعلة اشتراط البلوغ والعقل فى المقذوف أنه يرمى بالزنا وهو جريمة لا تقع إلا من بالغ عاقل ولأن زنا الصبى والمجنون لا يجب فيه الحد ولكن الفقهاء مع هذا يختلفون فى شرط البلوغ، فيرى أحمد فى رواية أن البلوغ شرط فى الإحصان لأنه أحد شرطى التكليف فأشبه العقل ولأن زنا الصبى لا يوجب حدًا فلا يجب الحد بالقذف به، ويرى أحمد فى رواية أخرى أن البلوغ ليس شرطًا فى الإحصان مادام المقذوف الواقعة التى قذف فيها فيستطيع الوطء إن كان ذكرًا ويطيق الوطء إن كان أنثى، فعلى هذه الرواية يجب أن يكون المقذوف كبيرًا يجامع مثله ولو لم يكن   (1) المغنى ج10 ص 201. (2) بدائع الصنائع ج7 ص 401. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 بالغًا، ويحددون السن الأدنى للغلام بعشر سنوات وللجارية بتسع (1) . ولا يشترط مالك البلوغ فى الأنثى ولكنه يشترطه فى الغلام، ويعتبر الصبية محصنة إذا كانت تطيق الوطء أو كان مثلها يوطأ ولو لم تبلغ فعلا (2) ؛ لأن الحد جعل لنفى العار ومثل هذه الصبية يلحقها العار. أما أبو حنيفة والشافعى فيشترطان البلوغ من المقذوف ذكرًا كان أم أنثى (3) . ومن المتفق عليه أن يكون المقذوف مسلمًا رجلا كان أو امرأة، ولكنهم اختلفوا فى حالة نفى النسب إذا كانت أم المنفى نسبة رقيقًا أو غير مسلمة؛ لأن نفى النسب عن ولدها المسلم ليس إلا رميًا لها بالزنا، فاشترط أبو حنيفة فى حالة نفى النسب أن تكون الأم مسلمة وأن تكون حرة فإن لم تكن كذلك فلا حد على القاذف (4) . وفى مذهب مالك لا يشترط فى أم المنفى نسبة أن تكون مسلمة أو حرة ويجب عندهم الحد على القاذف ولو كانت أم النفى نسبه كافرة أو أمة (5) وهو رأى ابن القاسم، أما مالك فقد توقف فى هذه المسألة، ورأى الشافعى وأحمد يتفق مع ما قال به ابن القاسم فى مذهب مالك (6) . ومعنى العفة عن الزنا عند أبى حنيفة أن لا يكون المقذوف وطئ فى عمره وطئًا حرامًا فى غير ملك ولا نكاح فاسد فسادًا مجمعًا عليه، فإن كان قد فعل شيئًا من هذا سقطت عفته سواء كان الوطء زنًا موجبًا للحد أم لا. وإن كان وطئ وطئًا حرامًا ولكنه فى ملك أوفى نكاح صحيح أو فى نكاح فاسد فسادًا غير مجمع عليه فلا تسقط عفته، فإذا وطئ مثلًا امرأة زفت إليه غير امرأته سقطت عفته للوطء الحرام فى غير ملك ولا نكاح ولكنه لا يحد   (1) المغنى ج10 ص 202. (2) مواهب الجليل ج6 ص 298، 300. (3) المهذب ج2 ص 289، شرح فتح القدير ج4 ص 192. (4) شرح فتح القدير ج4 ص 193. (5) مواهب الجليل ج6 ص300. (6) المغنى ج10 ص 215. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 على الزنا لقيام دليل ظاهر استباح به الفعل، أما إذا وطئ زوجته النفساء أو الحائض أو الصائمة أو المحرمة أو التى ظاهر منها لم تسقط عفته لقيام النكاح حقيقة ولو أن الوطء فى ذاته محرم (1) . والعفة عند مالك هى سلامة المقذوف من فعل الزنا قبل قذفه وبعده ومن ثبوت حده عليه لأن ثبوت الحد يستلزم فعل الزنا (2) . وعلى هذا يشترط فى المقذوف لاعتباره عفيفًا أن لا يكون قد وطئ وطئًا يوجب حد الزنا وأن لا يكون قد ثبت عليه حد الزنا، فإن كان قد فعل شيئًا من هذا أو ثبت عليه حد الزنا فهو غير عفيف. وإن كان قد وطئ وطئًا محرمًا لا حد فيه فهو عفيف. ومعنى العفة عند الشافعى هى سلامة المقذوف قبل القذف وبعده عن فعل ما يوجب حد الزنا عليه فإن أتى ما يوجب حد الزنا فهو غير عفيف. أما إن وطئ فى غير ملك وطئًا محرمًا لا يجب به الحد كمن وطئ امرأة ظنها زوجته أو وطئ فى نكاح مختلف فى صحته ففيه وجهان: أحدهما: أنه وطء محرم لم يصادف ملكًا فيسقط العفة والإحصان كالزنا، وثانيهما: أنه وطء لا يجب به الحد فلا يسقط العفة والإحصان كما لو وطئ زوجته وهى حائض (3) . ولا يشترط أحمد العفة المطلقة كما يشترطها أبو حنيفة، ولا العفة الفعلية عن الزنا كما يشترطها مالك والشافعى، وإنما يكتفى بالعفة الظاهرة عن الزنا فمن لم يثبت عليه الزنا ببينة أو إقرار ومن لم يحد للزنا فهو عفيف وإن كان تائبًا من زنًا أو ملاعنة (4) . ويرى مالك وأبو حنيفة والشافعى أن يكون الإحصان متوفرًا قبل القذف وبعده حتى تنفذ العقوبة، فمن قذف محصنًا فلا حد عليه إذا ارتكب المحصن قبل تنفيذ الحكم ما يجعله مثلًا غير عفيف وإنما على القاذف التعزير. ولكن أحمد   (1) بدائع الصنائع ج7 ص42. (2) مواهب الجليل ج6 ص 300. (3) المهذب ج2 ص 290. (4) الإقناع ج4 ص260. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 يرى عليه الحد لأن الإحصان لا يشترط إلا وقت القذف ولا يشترط بعده (1) . وحجة الأئمة الثلاثة أن شروط الإحصان تعتبر إلى حالة إقامة الحد بدليل أنه لو أرتد أو جن لم يقم عليه الحد ولأن وجود الزنا منه يقوى قول القاذف ويدل على تقدم هذا الفعل منه. أما أحمد فيرى أن الحد قد وجب وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شروط الوجوب وأن القول باستدامة الشروط قول غير صحيح لأن هذه الشروط للوجوب فيعتبر وجودها إلى حين الوجوب فقط. أما إذا جن من وجب له الحد فإن الحد لا يسقط وإنما يتأخر استيفاؤه لتعذر المطالبة فأشبه ما لو غاب من له الحد، وإن ارتد من له الحد لم يملك المطالبة لأن حقوقه وأمواله تزول أو تكون موقوفة (2) . وإذا تخلف شرط من شروط الإحصان فى المقذوف فلا حد على القاذف وإنما عليه التعزير إذا عجز عن إثبات القذف، فمن قذف مجنونًا أو كافرًا أو رفيقًا فعليه التعزير. * * * الركن الثالث القصد الجنائى 564 - يعتبر القصد الجنائى متوفرًا كلما رمى القاذف المجنى عليه بالزنا أو نفى نسبه وهو يعلم أن ما رماه به غير صحيح. ويعتبر عالمًا بعدم صحة ما رماه به ما دام قد عجز عن إثبات صحته، ويعتبر العجز عن صحة القذف قرينة لا تقبل الدليل على علمه بعدم صحة القذف، فليس له أن يدعى أنه بنى اعتقاده على صحة القذف على أسباب مقبولة لأنه كان يجب عليه قبل أن يقذف المجنى عليه أن يكون الدليل المثبت للقذف حاضرًا فى يده، وهذا هو ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سحماء: "ايت   (1) مواهب الجليل ج6 ص 300، المغنى ج10 ص 219، شرح فتح القدير ج4 ص 204 وما بعدها. (2) شرح فتح القدير ج4 ص 199، بدائع الصنائع ج7 ص 292. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فحد فى ظهرك" مع أن هلال شهد واقعة الزنا بنفسه ولم يخلصه من الحد إلا نزول حكم اللعان، وهذا هو ما يدل عليه نص القرآن الصريح فى قوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعةِ شُهدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُلْئِكَ عِندَ الله هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] . ولعل هذا هو الذى جعل جمهور الفقهاء يقولون بحد شهود الزنا باعتبارهم قذفة إذا كانوا أقل من أربعة، وإذا كان البعض لا يرى حدهم فإنه لا يرى حدهم إذا جاءوا مجئ الشهود أى إذا تقدموا للشهادة حسبة لله دون دافع شخصى، فأما إن جاءوا مجئ القذفة فلا خلاف فى حدهم. ولا يشترط بعدما تقدم أن يقصد القاذف الإضرار بالمجنى عليه، ولا عبرة بالبواعث التى حملته على القذف. هل تشترط العلانية فى القذف؟ 565 - لا تشترط الشريعة الإسلامية العلانية فى القذف كما تشترطها القوانين الوضعية، ومن ثم تعاقب الشريعة القاذف سواء قذف المجنى عليه فى محل عام أو محل خاص على مشهد من الناس أو فيما بينهما فقط. وأساس عدم اهتمام الشريعة بالعلانية أنها تزن كرامة الإنسان بميزان واحد وترى أن قيمة الإنسان لا تتغير بتغير الظروف، فقيمته أمام نفسه تساوى قيمته أمام الناس، وحرصه على كرامته فى السر يجب أن لا يقل عن حرصه على كرامته فى العلانية، والشريعة توجب على المرء أن يكون سره كعلنه وتعيب أناسًا بأنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم، وقاعدتها الأساسية تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق، وتدعو الناس أن يذروا ظاهر الإثم وباطنه ولهذا فهى لا تميز بين جريمة ارتكبت فى السر وأخرى فى العلانية لأن الجريمة فى الشريعة محرمة لذاتها لا لظروفها، فمن ارتكب جريمة فى السر لم يشهدها أحد عوقب عليها كما لو ارتكبها علانية على ملأ من الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 أما القوانين الوضعية فلها شأن آخر إذ تميز بين أفعال القذف التى ارتكبت علنًا وأفعال القذف التى ارتكبت فى غير علانية، وتعاقب على الأولى دون الثانية، فهى تعاقب إذا عاقبت لأن القذف فى الغالب سمعه فريق من الناس، ولا تعاقب فى غير العلانية لأن القذف لم يصل إلى أسماع الكثيرين من الناس. وهكذا تزن القوانين كرامة الإنسان بميزانين وتجعل له قيمتين، فتحافظ على كرامته وقيمته إذا مست وانتقصت قيمته أمام الناس، وتهدر كرامته وقيمته إذا مست وانتقصت دون أن يشتهر ذلك بين الناس. وهكذا تفرض القوانين الوضعية على الناس حياة الرياء والنفاق وتصرفهم عن الجوهر وتغريهم وتجعل منهم أشخاصًا لا كرامة لهم ولا عزة فيهم، وتعلمهم أن يستحلوا لأنفسهم ما يشاءون فى الخفاء وأن يتظاهروا بالبراءة والطهارة، وأن لا يغضبوا لكرامتهم ولا يثوروا إذا مست فى الخفاء وأن يتظاهروا بالغضب إذا مست فى علانية. والمبدأ الذى أخذت به القوانين الوضعية فى العلانية متمم لمبدأ عدم جواز إثبات القذف، وكلاهما أساسه فرض حياة الرياء والنفاق على الناس لأن معنى عدم جواز الإثبات هو أن يعاقب الصادق والكاذب على السواء وأن لا يستطيع إنسان أن يقول الحق ويصف الناس والأشياء وصف حق إلا إذا عرض نفسه للعقاب، فإذا لم يرد أن يكون عرضة للعقاب وجب عليه أن يعيش كاذبًا لا يقول الحق ولا يعرف الصراحة. ومبدأ الشريعة فى عدم اشتراط العلانية متمم لمبدأ جواز إثبات القذف، كلاهما أساسه فرض الحياة الفاضلة على الجمهور وأخذه بالاستقامة والاعتزاز بالكرامة، وشتان بين توجيه الشريعة وتوجيه القانون، فالشريعة تعاقب على الجريمة لذاتها لا لظروفها، بينما القانون يعاقب على ظروف الجريمة ولا يهتم بذات الجريمة. والشريعة لا تحمى الفاسقين المفسدين من ألسنة الصادقين المصلحين بينما تحمى البرآء الغافلين من ألسنة الكاذبين المدعين. أما القانون فيتكفل بحماية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 الفاسقين المفسدين ولو تبين فسقهم، ويعاقب الصادقين المصلحين ولو ثبت صدقهم وصلاحهم، ثم هو بعد ذلك لا يسمح للبرآء الغافلين أن يبرئوا أنفسهم مما ادعاه عليهم الكاذبون، لأن عقاب القاذف دون أن يسمح له بإثبات قذفه يؤدى إلى منع المقذوف من إثبات براءته فيعاقب القاذف لمجرد القذف سواء كان صحيحًا أم كاذبًا، ويبقى المقذوف البرئ وقد لصقت به الفرية لا يستطيع منها فكاكًا ولا خلاصًا. * * * المبحث الثانى دعوى القذف 566 - يشترط فى إقامة دعوى القذف مخاصمة المقذوف، أى أن يتقدم المقذوف بشكواه، فإذا قدمت الشكوى من غيره لم يجزأن تقام الدعوى على أساس شكوى الغير؛ كذلك لو تقدم الشهود بشهادتهم حسبة لله لم تقبل منهم الشهادة لأن الشهادة لا تقبل قبل قيام الدعوى، والدعوى لا تقوم إلا بشكوى المقذوف. ومن المسلم به بين الفقهاء أن القذف حد من حدود الله، والقاعدة العامة فى الشريعة أن خصومة المجنى عليه ليست شرطًا فى إقامة دعوى متعلقة بحد من الحدود، ولكنهم يستثنون من هذه القاعدة العامة حد القذف ويوجبون فى إقامة دعوى القذف خصومة المجنى عليه ناظرين إلى أن الجريمة وإن كانت حدًا إلا أنها تمس المقذوف مساسًا شديدًا وتتصل بسمعته وعرضه اتصالًا وثيقًا، ولأن للقاذف حق إثبات قذفه فلو أثبته أصبح المقذوف مسئولًا عن جريمة الزنا كلما رمى بهذه الجريمة ووجبت عليه عقوبتها، ولهذه النتائج الخطيرة كان من الحكمة أن يعلق رفع دعوى القذف على شكوى المقذوف. 567 - من يملك الخصومة؟ يملك المقذوف وحده حق الخصومة فى دعوى القذف إن كان حيًا، فلا تقبل الخصومة من غيره مهما كانت صلته بالمقذوف ولو كان فى القذف مساس به، اللهم إلا إذا كان القذف يعتبر قذفًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 مباشرًا له، فإذا قذف شخص بأنه زنا بامرأة معينة اعتبر الرجل والمرأة مقذوفين وكان لكل منهما حق الخصومة فى دعوى القذف، ولكن ليس لغيرهما أن يحرك الدعوى فليس لزوج المرأة أو ولدها أو أحد أبويها أن يحرك دعوى القذف ولو أن القذف يمسه لأن القذف لم يمسه إلا عن طريق الرأة المقذوفة وهى صاحبة الحق فى الخصومة، وليس لأبناء الرجل أو أبويه أو زوجته حق الخصومة فى دعوى القذف لنفس السبب. وإذا حرك المقذوف دعوى القذف ثم مات قبل الفصل فى الدعوى سقطت الدعوى بموته فى رأى أبى حنيفة؛ لأن حق الخصومة فى دعوى القذف حق مجرد ليس مالا ولا بمنزلته فلا يورث (1) . ولكن مالكًا والشافعى وأحمد يرون أن حق الخصومة يورث فيحل الورثة فى الدعوى محل المقذوف، فإذا لم يكن للمقذوف وارث سقطت الدعوى. وفى مذهب مالك يرون فى حالة موت المقذوف دون وارث أن للمقذوف أن يوصى بشخص بأن يقوم مقامه فى الدعوى، فإذا أوصى على هذا الوجه حل الوصى محله فى الدعوى ولم تسقط الدعوى بموت المقذوف (2) . وإذا مات المقذوف بعد القذف وقبل الشكوى سقط حق المخاصمة ولم يكن لورثة المقذوف أو عصابته أن يخاصموا القاذف إلا إذا كان المقذوف قد مات وهو لا يعلم بالقذف (3) ؛ لأن سكوته عن الشكوى يعنى أنه لا يريدها أو أنه عفا عن القاذف. وإذا كان المقذوف ميتًا فجمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة يبيحون رفع الدعوى على القاذف بناء على شكوى ممن يملك حق المخاصمة فإذا لم يكن هناك من يملك هذا الحق امتنع رفع الدعوى إلا عند الشافعى كما قدمنا. ولكنهم اختلفوا فيمن يملك حق المخاصمة فى هذه الحالة، فرأى مالك أن أصول المقذوف وفروعه   (1) المدونة ج16 ص 20. (2) مواهب الجليل ج6 ص 305. (3) المدونة ج16 ص 20، مواهب الجليل ج 6 ص 305. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 الذكور يملكون حق المخاصمة وأن أجداد المقذوف لأمه يملكون هذا الحق، فإن لم يكن أحد من هؤلاء كان حق المخاصمة للعصبة وللبنات والأخوات والجدات (1) . ويرى أبو حنيفة أن الخصومة يملكها ولد المقذوف الميت ذكرًا كان أم أنثى وابن ابنه وبنت ابنه وإن سفلوا، ووالده وإن علا. ويرى أبو حنيفة وأبو يوسف أن أولاد البنات يملكون الخصومة أيضًا ولا يرى محمد ذلك (2) . ويرى الشافعى أن حق الخصومة يملكه كل وارث، وفى مذهب الشافعى رأى أن الخصومة لجميع الورثة إلا من يرث بالزوجية، ورأى آخر أن الخصومة للعصبات دون غيرهم (3) . ويعلل الفقهاء إعطاء الورثة حق المخاصمة فى قذف الميت بأن معنى القذف هو إلحاق العار بالمقذوف والميت ليس محلا لإلحاق العار به فلم يكن معنى القذف راجعًا إليه بل إلى أهله الأحياء الذين يلحقهم العار بقذف الميت، ولما كان أهل الميت يتصلون به بصلة الجزئية وكان قذف الإنسان قذفًا لأجزائه فكأن القذف واقعٌ على أهل الميت من حيث المعنى، ولذلك تثبت لهم حق الخصومة لدفع العار عن أنفسهم. أما إذا كان المقذوف حيًا وقت القذف فقد أضيف إليه القذف وقت أن كان محلًا قابلًا للقذف صورة ومعنى فلحق العار به وانعقد القذف موجبًا حق الخصومة له خاصة (4) . ويرجع اختلاف الفقهاء على من يملك حق المخاصمة إلى الاختلاف فى تقدير من يلحقهم عار القذف، فالبعض رأى أنه يلحق كل الورثة، والبعض رأى أنه يلحق الورثة إلا من يرث بالزوجية، والبعض رأى أنه لا يلحق إلا العصبات، والبعض رأى أنه لا يلحق إلا من يعتبر القذف نفيًا لنسبه.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص 55، شرح فتح القدير ج4 ص 194. (2) المهذب ج 2 ص 292. (3) بدائع الصنائع ج7 ص 55، الشرح الكبير ج 10 ص 230. (4) مواهب الجليل ج 6 ص 305، المهذب ج2 ص 292، شرح فتح القدير ج 4 ص 195، المغنى ج10 ص 209. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 ولكن الفقهاء مع هذا متفقون على أن من له حق المخاصمة يستطيع أن يخاصم دون توقف على غيره ممن له نفس الحق ولو كان هذا الغير أقرب درجة للميت؛ أى أن الأبعد درجة من الميت يستطيع أن يخاصم ولو لم يخاصم الأقرب (1) . وإذا كان الفقهاء يعللون المخاصمة بأنها لدفع العار عن المخاصم من أصول الميت أو فروعه أو ورثته أو عصباته وكان للأبعد أن يخاصم مع وجود الأقرب فمعنى ذلك أن الدعوى قصد منها حماية الأحياء لا حماية الميت ودفع العار عنهم لا عنه خصوصًا وأن القذف يتعدى دائمًا المقذوف إلى غيره؛ إذ القذف فى الشريعة معناه رمى المقذوف بالزنا أو نفى النسب عنه فالمقذوف إذا رمى بالزنا تعداه القذف إلى غيره. ومن رمى امرأة بالزنا تعداها القذف على أقل تقدير إلى أولادها، والمقذوف إذا قذف بما ينفى نسبه تعداه القذف إلى أصوله وفروعه وورثته. 568 - بين الشريعة والقانون: الرأى السائد فى القوانين الوضعية اليوم أن القوانين توضع لحماية الأحياء دون الأموات، ومن ثم فقذف الميت لا عقاب عليه إلا إذا تعدى أثر القذف إلى الأحياء من ورثة المقذوف أو ذوى قرباه فلا مانع إذن من المحاكمة والعقاب. وبعض القوانين لا يعلق رفع الدعوى على شكوى المقذوف أو ورثته كما هو الحال فى القانون المصرى، ولكن بعض القوانين يشترط لرفع الدعوى شكوى المقذوف كما هو الحال فى القانون الفرنسى، فإذا مات المجنى عليه سقط بموته حق الشكوى، إلا إذا قصد من القذف المساس بكرامة أسرة المقذوف وذويه الأحياء فيحق لهم حينئذ أن يرفعوا الشكوى باسمهم. واتجاه القوانين الوضعية فى قذف الأموات لا يكاد يختلف عن اتجاه الشريعة. فدعوى القذف فى الشريعة تمس دائمًا أسرة المقذوف وأهله، فإذا   (1) شرح فتح القدير ج4 ص 198. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 أجازت الشريعة للورثة رفع الدعوى دون قيد فإن هذا يساوى تمامًا ما أجازته القوانين الوضعية للورثه من رفع الدعوى فى حالة مساس القذف بهم؛ لأن القوانين لا تقصر القذف على نسبة الزنا ونفى النسب كما هو الحال فى الشريعة، وإنما تعتبر القوانين قاذفًا كل من أسند لغيره واقعة توجب احتقاره، ومن المسلم به أن كثيرًا مما يعتبر قذفًا فى القوانين لا يمس ورثة المقذوف أو أهله الأحياء، أما نسبة الزنا للمقذوف ونفى النسب عنه فلا شك أنه يمسهم، ومن ثم يمكن القول أن القوانين تجيز دائمًا دون قيد لورثة المقذوف وأهله الأحياء أن يرفعوا الدعوى فى هاتين الحالتين على القاذف. أما تعليق الدعوى على شكوى المقذوف فقد رأينا بعض القوانين كالقانون الفرنسى يتفق مع الشريعة فى هذا المبدأ، وأن قوانين أخرى منها القانون المصرى لا تعلق رفع الدعوى على شكوى القاذف. 569 - هل حد القذف حق لله أم حق للعبيد؟: يقسم الفقهاء الحقوق التى تنشأ عن الجرائم إلى نوعين: حقوق لله تعالى وحقوق للآدميين، ويعتبرون الحق لله كلما كان خالصًا لله أو كان حق الله فيه غالبًا، ويعتبرون الحق للعبد كلما كان خالصًا للعبد أو كان حق العبد غالبًا فيه. وتنشأ حقوق الله عن الجرائم التى تمس مصالح الجماعة ونظامها، وأما حقوق الآدميين فتنشأ عن الجرائم التى تمس الأفراد وحقوقهم. وحين ينسب الفقهاء الحق لله يعنون بذلك أن الحق لا يقبل الإسقاط من الأفراد ولا من الجماعة، وتعتبر العقوبة فى الشريعة حقًا لله تعالى كلما استوجبتها المصلحة العامة وهى دفع الفساد عن الناس وتحقيق الصيانة والسلامة لهم، فكل جريمة يرجع فسادها للعامة وتعود منفعة عقوبتها عليهم تعتبر العقوبة عليها حقًا لله تأكيدًا لتحصيل المنفعة ودفع المضرة والفساد، لأن اعتبار العقوبة حقًا لله يؤدى إلى عدم إسقاطها بإسقاط الجماعة والأفراد لها. ومع أن الفقهاء يقسمون الحقوق إلى حقوق لله وحقوق للأفراد إلا أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 الكثيرين منهم يرون بحق أن كل ما يمس حق الجماعة الخالص أو حق الأفراد الخالص يعتبر حقًا لله تعالى لأن كل حكم شرعى إنما شرع ليمتثل ويتبع، ومن حق الله على عباده أن يمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه ويعملوا بشريعته، فكل حكم إذن فيه حق لله من هذه الوجهة، وإذا قيل إن حكمًا ما يرتب حقًا مجردًا للفرد فإن هذا القول لا يعتبر صحيحًا على إطلاقه وإنما يصح إذا غلبنا حق العبيد فى الأمور الدنيوية، كذلك فإن ما يعتبر حقًا خالصًا لله يمس دون شك مصالح الأفراد لأن الشريعة إنما وضعت لتحقيق مصالح الأفراد. وقد ينشأ الحقان معًا عن الجريمة الواحدة كما هو الحال فى جريمة السرقة، فإنه ينشأ عنها حق لله تعالى؛ أى حق للجماعة فى عقاب الجانى، وحق للمجنى عليه فى استرداد ماله المسروق أو أخذ مقابله. وقد ينشأ عن الجريمة حق واحد فقط كما هو الحال فى جريمة الردة فإنه لا ينشأ عنها إلا حق واحد هو حق الجماعة فى عقاب الجانى. والأصل فى الشريعة أن فرض العقوبة واستيفاءها حق لله تعالى ولكن استيفاء بعض العقوبات جعلت استثناءً حقًا للأفراد وهى عقوبات جرائم الاعتداء على حياتهم وأجسامهم أى القتل والجرح والضرب، فقد جعلت الشريعة استيفاء عقوبة القصاص وعقوبة الدية حقًا للأفراد ولهم أن يتمسكوا بها أو يتنازلوا عنها، فإذا تنازلوا عنها كان للجماعة أن تعاقب الجانى بالعقوبة الملائمة لظروف الجريمة والمجرم، وعلى هذا فإن جعل استيفاء بعض العقوبات من حق الأفراد لا يسلب الجماعة حقها فى فرض عقوبات أخرى على هذه الجرائم ولا يمنع من تنفيذ هذه العقوبات الأخرى. ومن المتفق عليه أن جريمة القذف فيها حقان: حق لله تعالى وحق للمقذوف ولكن الفقهاء يختلفون على أى الحقين هو الأقوى، فأبو حنيفة يغلب حق الله على حق العبد ويجعل الجريمة متعلقة بحق الله تعالى، وبعض الحنفية يرى أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 حق القذف متعلق بحقوق الأدميين وحقوق الله وأن الحق الغالب فيه هو حق الآدميين (1) . والشافعى وأحمد يغلبان حق العبد على حق الله ويجعلان الجريمة متعلقة بحقوق الآدميين. ومالك يغلب حق العبد قبل الشكوى ويغلب حق الله تعالى بعد الشكوى، فالجريمة عنده متعلقة بحقوق الآدميين قبل الشكوى ومتعلقة بحقوق الله تعالى بعد الشكوى. ويغلب الشافعى وأحمد حق العبد لأن العبد فى حاجة إلى حقه أكثر من حاجة الجماعة إلى حقها، ويغلب أبو حنيفة حق الجماعة على حق العبد لأن ذلك يؤدى إلىحفظ حق الجماعة وحق العبد معًا بينما تغليب حق العبد يؤدى إلى إهدار حق الجماعة (2) . ولأن ولى الأمر يعتبر نائبًا عن الأفراد ونائبًا عن الجماعة فيستطيع أن يقوم على حق الجماعة وحق الفرد إذا غلب حقه لا يمثل إلا نفسه فلا يستطيع أن يرعى حق الجماعة، أما مالك فيغلب حق العبد قبل الشكوى باعتبار أن حق الجماعة لا يبدأ فى الظهور إلا بعد الشكوى فإذا لم تكن شكوى فلا حق إلا حق الآدمى، أما بعد الشكوى فيوجد حق الجماعة، وإذا وجد حق الجماعة تغلب على حقوق الآدميين (3) . 570 - ويترتب على الاختلاف فى تغليب أحد الحقين على الأخر نتائج كثيرة أهمها: 1 - أن تغليب حق الآدميين على حقوق الله يؤدى إلى القول بأن الحقوق الناشئة للمقذوف عن جريمة القذف تورث لأن الإرث يجرى فى حقوق العباد، بينما القائلون بتغليب حق الله على حق الآدمى لا يرون الإرث فى حق المخاصمة،   (1) شرح فتح القدير ج4 ص 198. (2) مواهب الجليل ج6 ص 305. (3) شرح فتح القدير ج4 ص 198. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 إذ الحد وإن كان والآدمى يرث الآدمى فيما كان مالا أو متصلا بالمال وحق المخاصمة ليس شيئًا من هذا. 2 - العفو: فمن غلب حق الله على حق الآدميين كأبى حنيفة رأى أن المقذوف ليس له أن يعفو عن القاذف بعد ثبوت الجريمة عليه، فإن عفا كان عفوه باطلا، لأن الحد حق من حقوق الله فليس للفرد أو الجماعة إسقاطه ولا يسقط بالعفو كسائر الحدود. ومن غلب حق العبد على حق الله كالشافعى وأحمد رأى المقذوف له أن يعفو عن القاذف إلى وقت إقامة الحد، فإن عفا عنه سقط الحد، على إنه إذا تعدد المقذوفين وكانت الجريمة محكومًا فيها بحد واحد فيشترط لسقوط الحد أن يكون العفو من جميع المقذوفين، فإذا عفا البعض دون البعض وجب الحد لمن لم يعف ولم يسقط بعفو من عفا (1) . ولمالك آراء متعددة فى العفو أولها: أن العفو يصح إلى ما قبل التبليغ فإذا لم يعف المقذوف وبلغ عن الحادث فلا عفو بعدها. وثانيها: أن العفو يصح إلى ما قبل سماع الشهود، فإن أدى الشهود شهادتهم فلا عفو بعدها. وثالثها: أن العفو جائز قبل التبليغ وبعده كلما قصد المقذوف من العفو أن يستر على نفسه (2) . والقائلون بالعفو يجيزون أن يكون العفو صريحًا أو ضمنيًا، ويرتبون على العفو قبل التبليغ عدم جواز رفع الدعوى لسقوط حق المقذوف فى الشكوى بالعفو. * * *   (1) المغنى ج10 ص 204، المهذب ج2 ص 292. (2) المدونة ج 16 ص 16، مواهب الجليل ج 6 ص 305. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 المبحث الثالث الأدلة على القذف يثبت القذف بالطرق الآتية: 571 - أولا شهادة الشهود: ويشترط فى شهود القذف ما يشترط فى شهود الزنا من البلوغ والعقل والحفظ والقدرة على الكلام والعدالة والإسلام وانعدام القرابة وانعدام العداوة وانعدام التهمة. كذلك يشترط فى شهود القذف الذكورة والأصالة، وقد تكلمنا عن هذه الشروط جميعًا بمناسبة الكلام على الشهادة فى الزنا. عدد الشهود: فيما يختص بإثبات التهمة يكفى لإثبات واقعة القذف على القاذف شهادة شاهدين فقط. أما فيما يختص بنفى التهمة فللمتهم بالقذف أن يتبع إحدى الطرق الآتية: الأولى: أن ينكر واقعة القذف ثم يستشهد على عدم حصول القذف بمن شاء من الرجال والنساء دون التقيد بعدد معين. الثانية: أن يدعى أن المقذوف اعترف بصحة القذف، ويكفى لتأييد هذا الدفاع شهادة رجلين أو رجل وامرأتين (1) . الثالثة: أن يعترف بالقذف ويبدى استعداده لإثبات صحة القذف، وفى هذه الحالة يجب عليه أن يستشهد على صحة الواقعة المقذوف بها أربعة شهود يشترط فيهم ما يشترط فى شهود إثبات جريمة الزنا على أن لا يكون القاذف أحدهم لأنه لا يعتبر شاهدًا. الرابعة: إذا كان زوجًا فاعترف بالقذف فله أن يلاعن الزوجة، ويرى أبو حنيفة أن للقاذف أن يثبت صحة القذف بأربعة شهود غيره، فإن شهدوا بصحة القذف فلا يحد المقذوف حد الزنا إذا كانت الشهادة على زنًا متقادم (2) .   (1) شرح فتح القدير ج4 ص210. (2) شرح فتح القدير ج4 ص210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 لأن الأصل عنده أن الشهادة لا تقبل عند التقادم ولكنها قبلت هنا لإسقاط الحد عن القاذف وليس لإيجاب الحد على المقذوف. ويخالف أبا حنيفة فى هذا الأئمة الثلاثة ويرون حد المقذوف حد الزنا إذا ثبت الزنا عليه ولو كان متقادمًا لأنهم لا يعترفون بالتقادم "إلا على رأى لأحمد كما ذكرناه". ويرى أبو حنيفة أن لا أثر للتقادم على القذف لأن الدعوى فى القذف شرط فلا يمكن التقدم بالشهادة حسبة ولا تقبل مثل هذه الشهادة قبل الدعوى، وما دامت الدعوى تأخرت لأسباب خاصة بالمقذوف فليس من هذا ما يدعو إلى اتهام الشهود وليس فيه ما يفيد معنى الضغينة والتهمة كما هو الحال فى الزنا والشرب مثلًا، إذ الدعوى فى هاتين الجريمتين ليست شرطًا (1) . 572 - ثانيًا: الإقرار: يثبت القذف بإقرار القاذف أنه قذف المجنى عليه، ولا يشترط العدد فى الإقرار فيكتفى أن يقر مرة واحدة فى مجلس القضاء (2) . ويرى أبو حنيفة جواز الشهادة على الإقرار فى القذف إذا حدث فى غير مجلس القضاء؛ لأن إنكار الإقرار بالقذف لا قيمة له ولا يعتبر رجوعًا عن الإقرار (3) ، ولأن الرجوع عن الإقرار فى القذف لا أثر له على الحد لأن حد القذف حق العبد من وجه، وحق العبد لا يحتمل السقوط بالرجوع بعد ثبوته كما هوالحال فى القصاص (4) . ولا يقبل الرجوع عند أحمد (5) .   (1) شرح فتح القدير ج4 ص 161، بدائع الصنائع ج 7 ص 46. (2) شرح فتح القدير ج4 ص210. (3) بدائع الصنائع ج 7 ص 50. (4) بدائع الصنائع ج 7 ص 50. (5) بدائع الصنائع ج 7 ص 61. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 ويصح الإقرار فى القذف ولو مع السكر كما هو الحال فى الخصومة المالية؛ لأن للعبد حقًا فى القذف (1) . ومن المتفق عليه فى مذهب أبى حنيفة أن للقاضى أن يقضى بعلمه فى القذف على أن يكون العلم فى زمان القضاء ومكانه، ولكنهم اختلفوا على جواز القضاء بعلمه إذا كان العلم فى غير زمان القضاء أو مكانه (2) . 573 - ثالثًا: اليمين: يثبت القذف عند الشافعى باليمين إذا لم يكن لدى المقذوف دليل آخر فله أن يستحلف القاذف فإن نكل القاذف ثبت القذف فى حقه بالنكول. ويرى الشافعى أيضًا أن يستحلف القاذف المقذوف إذا لم يكن لدى القاذف بينة على صحة القذف، فإن نكل المقذوف عن اليمين اعتبر القذف صحيحًا ودرئ الحد عن القاذف، ولا يرى الشافعى الاستحلاف فى شئ من الحدود إلا فى القذف فقط لأنه حق العبد ولأن الرجوع عن الإقرار فى القذف باطل ولأن النكول عن اليمين بمثابة الإقرار. أما فى الحدود الأخرى فلا يرى الاستحلاف فيها لأنها حق الله من ناحية ولأن الرجوع عن الإقرار فيها صحيح (3) . وفى مذهب أبى حنيفة يرى بعضهم الاستحلاف ولا يراه البعض الآخر، فمن قال بالاستحلاف اعتبر ما فى القذف من حق العبد، على أن القائلين بالاستحلاف اختلفوا فمنهم من رأى القضاء بالحد بالنكول، ومنهم من رأى القضاء بالتعزير عند النكول بدلًا من الحد، ومن قال بعدم الحلف اعتبر حق الله سبحانه وتعالى وأنه هو الحق الغالب فألحقه بسائر حقوق الله تعالى الخالصة وهى لا تقضى بها باليمين ولا بالنكول (4) . ولا يرى مالك وأحمد جواز الإثبات باليمين فى القذف فليس للقاذف أو   (1) الإقناع ج4 ص 259. (2) بدائع الصنائع ج7 ص 52. (3) أسنى المطالب ج4 ص 402، 404. (4) بدائع الصنائع ج 7 ص 52. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 المقذوف أن يستحلف الآخر (1) . ولأحمد رأى قديم بجواز القضاء بالنكول فى القذف، ولكن المذهب أنه لا يقضى بالنكول فى غير المال وما يقصد به المال (2) . * * * المبحث الرابع عقوبة القذف 574 - للقذف عقوبتان: الأولى أصلية وهى الجلد والثانية تبعية وهى عدم قبول الشهادة والأصل فى العقوبتين قوله تعالى: {وَالَّذيِنَ يَرْمُنَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةُ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحيمٌ} [النور: 4، 5] . عقوبة الجلد: عقوبة الجلد مقدارها ثمانون جلدة، وهى لا تقبل استبدالا ولا إنقاصًا، ليس لولى الأمر حق العفو عن العقوبة، أما المقذوف فله الحق فى العفو عنها على رأى البعض وليس له العفو على رأى البعض الآخر، كما بينا من قبل. عدم قبول الشهادة: من المتفق عليه أن القاذف يجب عليه مع الحد سقوط شهادته لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} . وقد اختلفوا فى سقوط الشهادة مع التوبة، فرأى أبو حنيفة أن شهادة القاذف تسقط وإن تاب، ورأى مالك والشافعى وأحمد أن القاذف تقبل شهادته إن تاب، وأساس اختلافهم فى هذه المسألة هو اختلافهم فى تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} ، فمن رأى أن الاستثناء يعود إلى أقرب مذكور فى قوله تعالى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} قال: التوبة ترفع الفسق ولا تؤثر على عدم قبول   (1) شرح الزرقانى ج 8 ص 91، تبصرة الحكام ج 1ص 174، الإقناع ج4 ص259. (2) المغنى ج12 ص 126. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 الشهادة، ومن رأى أن الاستثناء يعود إلى الجملة السابقة كلها ويتناول الأمرين جميعًا قال: التوبة ترفع الفسق وتمنع من رد الشهادة. ويرى أبو حنيفة ومالك أن شهادة القاذف لا تسقط إلا بالحد. أما الشافعى وأحمد فيسقطان شهادة القاذف بثبوت المعصية عليه؛ أى بعجزه عن إثبات صحة القذف ولو لم يحد (1) . 575 - تعدد العقوبات: إذا تعددت العقوبات، فإما أن تكون كلها عن جرائم قذف، وإما أن تكون عن جرائم قذف وجرائم أخرى، وفى الحالتين تتداخل العقوبات على الوجه الآتى: 576 - تداخل عقوبات القذف: اختلف فى تداخل عقوبات القذف، فرأى مالك وأبو حنيفة أن عقوبات القذف تتداخل إلى وقت تنفيذها، فمن قذف غير مرة فحد فهو لذلك كله، سواء قذف فردًا واحدًا أو أفرادًا، وسواء كان القذف بكلمة أو بكلمات فى يوم واحد أو أيام مختلفة، وسواء اتحدت عبارات القذف أم اختلفت، طلب بعضهم الحد أم كلهم، فإذا أقيم الحد فقذف أحدًا بعد ذلك حُد له من جديد. وإذا كان مالك وأبو حنيفة قد اتفقا فى هذا فإنهما اختلفا فيما إذا قذف أحدًا أثناء تنفيذ العقوبة، فرأى مالك أن القذف إذا كان بعد تنفيذ أكثر الحد كمل الحد الأول ووجب للقذف الثانى حد كامل، وإن كان بعد تنفيذ أقل الحد وجب للقذف الجديد حد جديد إلا بقدر ما استوفى من الحد الأول. وظاهر مما سبق أن مالك لا يرى التداخل بعد بدء التنفيذ إذا كان قد نفذ أكثر الحد ويرى التداخل بقدر ما بقى من الحد إذا كان قد نفذ أقله. أما أبو حنيفة فيرى التداخل ما دام لم يتم التنفيذ ولو كان الباقى من الحد سوط واحد فلو ضرب   (1) شرح فتح القدير ج4 ص 206، شرح الزرقانى ج7 ص 165، بداية المجتهد ج2 ص 370، المهذب ج2 ص 348، المغنى ج12 ص 74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 القاذف تسعة وسبعين سوطًا ثم قذف قذفًا لا يضرب إلا ذلك السوط الواحد للتداخل (1) . ويرى الشافعى أنه إذا قذف شخصًا واحدًا عدة مرات قبل أن يحد فإن العقوبات تتداخل ويجرى عنها جميعًا حد واحد إذا كان القذف بزنًا واحد، وكذلك الحكم على الرأى الراجح ولو قذفه كل مرة بزنًا آخر لأن العقوبات كلها من جنس واحد لمستحق واحد فتتداخل كما لو زنا ثم زنا، أما الرأى المرجوح فيرى أصحابه تعدد الحد بتعدد وقائع القذف لأن القذف من حقوق الآدميين ولا تداخل فيها. إذا قذف جماعة فوجه لكل واحد منهم القذف على انفراد وجب لكل واحد منهم حد ولا تداخل مهما تعددت الحدود، وإن قذفهم بكلمة واحدة فيه قولان، قال فى القديم: يجب حد واحد لأن كلمة القذف واحدة فوجب حد واحد كما لو قذف امرأة واحدة. وقال فى الجديد: يجب لكل واحد منهم حد لأنه الحق العار بقذف كل واحد منهم فلزمه لكل واحد منهم حد كما لو انفرد بقذف كل واحد منهم، وهذا هو الرأى المعمول به فى المذهب. وإذا كانت كلمة عبارة القذف تعتبر قذفًا لشخصين كما لو قذف زوجته برجل ولم يلاعن، فيرى البعض أن على القاذف حدين لأنه قذف شخصين، ويرى البعض أن على القاذف حدًا واحدًا لأن القذف بزنًا واحد. أما إذا كان عبارة القذف تعتبر قذفًا لشخصين وكان القذف بأكثر من زنًا واحد فلا خلاف فى أن على القاذف حدين، كما لو قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية. وإن وجب عليه حد لاثنين فإن وجب لأحدهما قبل الآخر وتشاحنا قُدِّم السابق منهما لأن حقه أسبق، وإن وجب عليه لهما فى حالة واحدة بأن قذفهما معًا وتشاحنا أقرع بينهما.   (1) شرح الزرقانى ج8 ص 88، 92، شرح فتح القدير ج4 ص 208، حاشية ابن عابدين ج3 ص 243. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وإن وجب حدان فحد لأحدهما لم يحد للآخر حتى يبرأ ظهره من الحد الأول؛ لأن الموالاة بين الحدين تؤدى إلى التلف (1) . ويرى أحمد أنه إذا قذف رجل شخصًا مرات فم يحد فحد واحد سواء قذفه بزنًا واحد أو بزينات، وإذا قذف جماعة بكلمات فلكل واحد منهم حد ولا تتداخل الحدود فى هذه الحالة مهما تعددت لأنها من حقوق الآدميين. وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم، وهناك رواية عن أحمد أنه يلزمه لكل واحد منهم حد كامل، وإذا طلبوا الحد جملة حد لهم، فإن طلبه أحدهم أقيم الحد لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل فأيهم طالب به استوفاه وسقط باستيفائه فلم يكن لغيره أن يطالب به، وإن أسقطه أحدهم كان لغيره أن يطالب به ويستوفيه. وروى عن أحمد رواية أخرى: أنهم إذا طلبوه دفعة واحدة فحد واحد، وكذلك إن طلبوه واحدًا بعد واحد إلا أنه لم ينفذ حتى طلبه الكل فحد واحد، وإن طلبه واحد فأقيم له ثم طلبه آخر أقيم له، وكذلك جميعهم لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه وقع أستيفاؤه بجميعهم، وإذا طلبه واحد منفردًا كان استيفاؤه له وحده فلا يسقط حق الباقين بغير استيفائهم أو إسقاطهم. وإذا قال لرجل يا ابن الزانيين فهو قاذف لهما بكلمة واحدة فإن كانا ميتين ثبت الحق لولدهما ولم يجب إلا حد واحد. وإن قال يا زانى ابن الزانى فهو قذف لهما بكلمتين فإن كان أبوه حيًا فلكل واحد منهما حد، وكذلك لو قال يا زانى ابن الزانية وكانت أمه على قيد الحياة وإن كانت ميتة فالقذفان جميعًا له، وإن قال زنيت بفلانة فهو قذف لهما بكلمة واحدة (2) . 577 - هل تتداخل عقوبة القذف مع عقوبات الجرائم الأخرى؟: يرى مالك أن حد القذف يتداخل مع حد الشرب لاتحاد الموجب أى أن   (1) المهذب ج2ص292. (2) المغنى ج10 ص 331، 334. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 موجب كل من الحدين ثمانون جلدة فإذا أقيم عليه أحدهما سقط عنه الآخر، ولو لم يقصد عند إقامته الحد إلا واحدًا فقط ثم ثبت أنه شرب أو قذف فإنه يكفى بما ضرب له عما ثبت، وكذلك الحكم لو سرق لأول مرة وقطع يمين آخر فإن الحدين يتداخلان لاتحاد الموجب (1) . ولا يرى الأئمة الثلاثة ما يراه مالك من التداخل بين حد القذف وحد الشرب وفيما عدا ما سبق فإن من المتفق عليه أن حد القذف لا يتداخل مع أية عقوبة أخرى ولو كانت القتل؛ سواء كان القتل حقًا لله كرجم الزانى المحصن أو حقًا للعبد كالقصاص، فحد القذف ينفذ مع القتيل ومع غيره ويقدم على القتل لأن فيه حق الآدمى وحقوق الآدميين لا يتسامح فيها كما يرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد، ولأن حد القذف جُعل لدفع العار فلا يجبه القتل لئلا يقال للمقذوف: ما لك لم يُضرب لك فلان حد الفرية (2) ؟! كيفية تنفيذ العقوبة: راجع ما كتب عن الجلد فى الزنا وما كتب خاصة عن القذف. 578 - مسقطات العقوبة: 1 - رجوع الشهود عن شهادتهم. 2 - تصديق المقذوف للقاذف. 3 - تكذيب المجنى عليه لشهوده. وهذا عند أبى حنيفة خاصة، ويرى مالك أنه إذا كذب شهوده قبل سماعهم لم تسمع شهادتهم، فإذا كذبهم بعد الشهادة لم يلتفت لقوله. 4 - بطلان أهلية الشهود قبل التنفيذ، وهو شرط خاص بأبى حنيفة لأن القاعدة عنده أن الإمضاء من القضاء. * * *   (1) شرح الزرقانى ج8 ص 108. (2) المدونة ج16 ص 12، شرح الزرقانى ج8 ص 108، شرح فتح القدير ج4 ص 209، بدائع الصنائع ج7 ص 63، المهذب ج2 ص 305، المغنى ج10 ص 321 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 الكتاب الثالث الشرب 579 - حرمت الشريعة الإسلامية الخمر تحريمًا قاطعًا لأنها تعتبر الخمر أم الخبائث وتراها مضيعة للنفس والعقل والصحة والمال. وقد حرصت الشريعة على أن تبين للناس من أول يوم أن منافع الخمر مهما يقال فى منافعها ضئيلة لا تتعادل مع أضرارها الجسيمة، وذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِماَ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُماَ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِماَ} [البقرة: 219] . ولقد حرمت الشريعة الإسلامية الخمر من ثلاثة عشر قرنًا، ووضع التحريم موضع التنفيذ من يوم نزول النصوص المحرمة، وظل العالم الإسلامى يحرم الخمر حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين حيث بدأت البلاد الإسلامية تطبق القوانين الوضعية وتعطل الشريعة الإسلامية، فأصبحت الخمر مباحة لشاربيها كما هو الحال فى مصر ولا عقاب علىشربها أو السكر منها اللهم إلا إذا وجد شاربها فى حالة سكر بِّين فى محل عام، فإن كان السكر بينًا وكان السكر فى محل خاص فلا عقاب عليه؛ أى أن العقوبة التى يقررها القانون المصرى ليست على شرب الخمر ولا على السكر وإنما على وجود السكران فى محل عام. وفى الوقت الذى يستبيح فيه المسلمون الخمر بالرغم من تحريم الإسلام لها تنتشر الدعوة إلى تحريم الخمر فى كل البلاد غير الإسلامية، فلا تجد بلدًا ليس فيه جماعة أو جماعات تدعو إلى تحريم الخمر وتبين بكل الوسائل أضرارها العظيمة التى تعود على شاربيها بصفة خاصة وعلى الشعوب بصفة عامة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 وقد اندفعت هذه الجماعات إلى المناداة بتحريم الخمر بعد ما أثبته العلم من أن شرب الخمر مضر بالصحة وأنه يضعف الجسم والعقل بصفة عامة ويؤدى إلى قلة النسل وانحطاطه من الناحيتين الجسمانية والعقلية، وكذلك ثبت أن شرب الخمر يؤدى إلى ضعف الإنتاج، وهذا الذى أثبته العلم الحديث يؤيد مطلقًا نظرية الشريعة الإسلامية. وقد ترتب على الدعوة القوية لتحريم الخمر أن ابتدأت الدول غير إسلامية تضع فكرة تحريم الخمر موضع تنفيذ من القرن الحالى. فالولايات المتحدة الأمريكية أصدرت من عدة سنين قانونًا يحرم الخمر تحريمًا تامًا. وقد أصدرت الهند من سنتين قانونًا مماثلا. وهاتان هما الدولتان الكبيرتان اللتان حرمتا الخمر، أما أكثر الدول فقد استجابت للدعوة استجابة جزئية فحرمت تقديم الخمر وتناولها فى المحلات العامة فى أوقات معينة من النهار أو أيام معينة من العام، كما حرمت تقديمها أو بيعها لمن لم يبلغوا سنًا معينة. ونستطيع أن نقول بعد ذلك إن العالم غير الإسلامى أصبح اليوم مهيئًا لفكرة تحريم الخمر بعد أن ثبت علميًا أنها تضر بالشعوب ضررًا بليغًا، وأن الدعوة إلى التحريم تأخذ طريقها ويشتد ساعدها كل يوم وتجد من العلماء والمصلحين كل تعضيد، وأن اليوم الذى تحرم فيه كل الدول الخمر تحريما ً قاطعًا لم يعد بعيدًا، وأن العالم غير الإسلامى قد بدأ يأخذ بنظرية الشريعة الإسلامية ويسير على أثرها فسجل على نفسه بذلك أنه استجاب للحق بعد أن ظل يدعى إليه ثلاثة عشر قرنًا فلا يستجيب. ولقد كان هذا حريًا أن يدفع البلاد الإسلامية إلى المسارعة بتحريم الخمر وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ولكن المسلمين لا يزالون يغطون فى نومهم، عاجزين عن الشعور بما حولهم، بل عاجزين عن الشعور بأنفسهم، وسيأتى قريبًا اليوم الذى يصبح فيه تحريم الخمر عامًا فى كل الدول فتتم معجزة الشريعة الإسلامية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 ويتحقق ما نادت به من ثلاثة عشر قرنًا على أيدى أناس لا ينتمون للإسلام ولا يعرفون من حقائقه شيئًا. 580 - النصوص الخاصة بالخمر: الأصل فى التحريم القرآن والسنة، على أن نصوص القرآن لم تحرم الخمر دفعة واحدة بل جاء التحريم تدريجيًا، وأول نصوص التحريم قوله تعالى: {ياَ أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ثم جاء القرآن بعد ذلك بتأثيم شاربها فى قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْر وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نًَّفْعِهِماَ} [البقرة: 219] ثم نزل التحريم القاطع فى قوله تعالى: {ياَ أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِرِ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوُه} [المائدة: 90] . أما السنة: فيقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" عن ابن عمر، وقوله: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" عن جابر، وعن عائشة قوله: "كل مسكر حرام وما أسكر منه الغرف فملء الكف منه حرام"، وعن عبد الله بن عمر: "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه". وقوله: "من شرب الخمر فاجلدوه". 581 - معنى الشرب عند الفقهاء: اختلف الفقهاء فى تحديد معنى الشرب، فهو عند مالك والشافعى وأحمد: شرب المسكر سواء سمى خمرًا أم لم يسم خمرًا، وسواء كان عصيرًا للعنب أو لأى مادة أخرى كالبلح والزبيب والقمح والشعير والأرز، وسواء أسكر قليله أو أسكر كثيره (1) . أما أبو حنيفة: فالشرب عنده قاصر على شرب الخمر فقط، سواء كان ما شرب كثيرًا أو قليلا والخمر عنده اسم لما يأتى: ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد. وعند أبى يوسف ومحمد: ماء العنب إذا غلا واشتد فقد صار خمرًا قذف بالزبد أو لم يقذف به. ماء العنب إذا طبخ فذهب أقل من ثلثيه وصار مسكرًا. نقيع البلح والزبيب   (1) شرح الزرقانى ج8 ص 112، أسنى المطالب ج4 ص 158، المغنى ج10 ص326. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 إذا غلا واشتد وقذف بالزبد على رأى أبى حنيفة أو إذا غلا واشتد ولو لم يقذف بالزبد على رأى أبى يوسف ومحمد، ويستوى أن يكون البلح رطبًا أو بُسْرًا أو تمرًا. وما عدا هذه الأنواع الثلاثة لا يعتبر خمرًا عند أبى حنيفة، فعصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه، ونقيع البلح والزبيب إذا طبخ وإن لم يذهب ثلثاه، ونبيذ الحنطة والذرة والشعير وغير ذلك من المواد نقيعًا كان أو مطبوخًا؛ كل ذلك لا يعتبر خمرًا وشربه حلال إلا ما بلغ السكر، فإن أسكر فلا يعاقب على شربه وإنما يعاقب على السكر منه. وحجة أبى حنيفة فى هذا الرأى ما روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه أشار إلى النخلة والكرمة وقال: "الخمر من هاتين الشجرتين"، وما روى عنه من قوله: "حرمت الخمرة لعينها، والمسكر من كل شراب" (1) . فأبو حنيفة إذن يفرق بين الخمر والمسكر ويحرم شرب الخمر قليلًا كان أو كثيرًا أما ما عدا الخمر من المواد المسكرة فيسميه مسكرًا لا خمرًا، والمسكر عنده لا يعاقب على شربه كالخمر وإنما يعاقب على السُّكر منه؛ لأن المسكر ليس حرامًا فى ذاته وإنما الحرام هو الكمية الأخيرة منه التى تؤدى للسكر، فلو شرب شخص ثلاثة أقداح ولم يسكر ثم شرب الرابع فسكر فالمحرم هو القدح الرابع. ولقد أدت التفرقة بين الخمر والمسكر إلى أن يفرق أبو حنيفة بين عقوبة الشرب وعقوبة السكر، وأن يقول بأن الحد حدان: حد الشرب وهو قاصر على شرب الخمر سواء سكر الشارب أم لم يسكر، قلَّ ما شربه أو كَثُر. وحد السكر فلا عقاب عليه. أما باقى الأئمة فلحد عندهم واحد هو حد الشرب. ويجب على كل من شرب مسكرًا سواء سمى خمرًا أو سمى باسم آخر، وسواء سكر الشارب أم لم يسكر ما دام أن الكثير من الشراب يسكر؛ لأن القاعدة عندهم أن ما أسكر كثيره فقليلة حرام. ورأى الأئمة الثلاثة هو الرأى المتبع فى العالم الإسلامى، إلا أننا رأينا أن   (1) بدائع الصنائع ج5 ص112 وما بعدها، المغنى ج10 ص327. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 نتكلم على حد الشرب وحد السكر معًا ببيان رأى الحنفيين، ولأن بعض الفقهاء يرى حد غير المسلم إذا سكر (1) ، فكان الكلام على حد السكر واجبًا من هذين الوجهين، على أن البعض الآخر يرى تعزير الذمى على السكر (2) . والقاعدة عند فقهاء الشريعة أن الخمر مباح لغير المسلمين ما دام دينهم لا يحرمها تطبيقًا لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أمرنا بتركهم وما يدينون" ولكن لما كان السكر مما تحرمه الأديان جميعًا فقد رأى بعض الفقهاء حد غير المسلم على السكر ورأى البعض تعزيره، ولا خلاف فى أن غير المسلم يعزر على التظاهر بالشرب ولو لم يسكر ولو أن الشرب مباح له. على أنه ليس فى قواعد الشريعة ما يمنع من تطبيق حد الشرب على غير المسلمين إذا تبين أن السماح لهم بشرب الخمر يؤدى إلى الفساد الاجتماعى، ولا شك أن عدم تحريم الشرب عليهم يؤدى هذا إلى الفساد؛ لأن السماح لهم بالشرب يقتضى وجود الخمر فى البلاد ويشجع المسلمين على شرب الخمر، وهذا وحده يؤدى إلى هدم قواعد التحريم. وإذا كانت الدول المسيحية والبوذية تحرم الخمر على رعاياهم مسيحيين وبوذيين ومسلمين فأولى بالدول الإسلامية أن تحرم الخمر على رعاياها أيًا كانت ديانتهم ومذاهبهم. * * *   (1) بدائع الصنائع ج5 ص113. (2) شرح الزرقانى ج8 ص 112. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 المبحث الأول أركان الجريمة لجريمة الشرب ركنان: الأول الشرب الثانى: القصد الجنائى. الركن الأول: الشرب 582 - يتوفر هذا الركن عند مالك والشافعى وأحمد كلما شرب الجانى شيئًا مسكرًا، ولا عبرة باسم المشروب ولا بالمادة التى استخرج منها، فيستوى أن يكون المشروب مستخرجًا من العنب أو البلح أو القمح أو الشعير أو القصب أو التفاح أو أى مادة أخرى، كذلك لا عبرة بقوة الإسكار فى المشروب فما أسكر كثيره فقليلة حرام ولو كان لا يؤدى فعلا للإسكار، فإذا كان المشروب لا يسكر منه الإنسان عادة إلا إذا شرب عشرة أقداح أو أكثر، فالقدح الواحد محرم ولو أنه لا يسكر فعلًا وبعض القدح محرم كذلك فيتوفر ركن الشرب بشرب القليل أو الكثير مادام الكثير من المشروب يؤدى إلى الإسكار، فإذا كان الكثير من الشراب لا يؤدى للسكر فهو غير محرم (1) . ولا يتوفر ركن الشرب عند أبى حنيفة إلا إذا كان المشروب خمرًا، وقد علمنا فيما سبق معنى الخمر عنده، فإن لم يكن المشروب خمرًا لم يتوفر ركن الشرب ولو كان الشرب مسكرًا ولو أدى للسكر فعلا (2) .   (1) شرح الزرقانى ج8 ص112، أسنى المطالب ج4 ص 158، المغنى ج10 ص 328. (2) بدائع الصنائع ج5 ص 112، 118 شرح فتح القدير ج4 ص 181 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 ومن المتفق عليه أنه لا يشترط لتوفر ركن الشرب أن يؤدى الشرب للسكر، فيكفى لقيام الجريمة مجرد الشرب ولو كان من المستحيل أن تؤدى الكمية التى شربت للسكر لأن الشرب محرم لعينه (1) . ولا عقاب إذا لم يكن المشروب مسكرًا أصلا ولو شرب على أنه مسكر، وإن كان الشارب يأثم فيما بينه وبين ربه. ويشترط أن تكون المادة المسكرة مشروبًا، فإن لم تكن كذلك فلا حد فيها وإنما فيها التعزير كالحشيش والداتورة (2) . ويحد على الشرب ولو أن المادة المسكرة دخلت الفم أو الجوف على غير هيئة الشراب، فخلط المسكر بالطعام أو عجنه به (3) . وتعتبر المادة المسكرة ولو خلطت بماء ما دامت مميزاتها محفوظة من رائحة ولون وطعم وتأثير، فإن خلطت بماء حتى زالت كل مميزاتها زوالا تامًا فلا يعتبر الخليط مسكرًا وإنما هو ماء عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد (4) . والراجح فى مذهب مالك تحريم المخلوط ولو استهلك فيه المسكر (5) . ويكفى لاعتبار الجانى شاربًا أن يصل المشروب إلى حلقة ومن باب أولى إلى جوفه، فإن لم يصل المشروب إلى الحلق كأن تمضيض به ثم مجه فلا يعتبر شاربًا (6) . ويشترط المالكية والحنيفة أن تصل الخمر إلى الجوف عن طريق الفم، فإن وصلت عن غير هذا الطريق كالأنف أو الشرج مثلًا درئ الحد للشبهة، على أن   (1) بدائع الصنائع ج5 ص 112، شرح الزرقانى ج8 ص 113، أسنى المطالب ج4 ص 158، المغنى ج10 ص 328. (2) شرح الزرقانى ج8 ص112، 114، حاشية ابن عابدين ج3 ص 224، نهاية المحتاج ج8 ص 12. (3) الإقناع ج4 ص 267، المغنى ج10 ص 330. (4) الإقناع ج4 ص 267، المغنى ج10 ص 330. (5) المغنى ج10 ص 330. (6) أسنى المطالب ج4 ص159، حاشية ابن عابدين ج3 ص 328، 329 نهاية المحتاج ج8 ص 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 درء الحد لا يمنع من التعزير (1) . وفى مذهب الشافعى ثلاثة آراء أحدها كرأى المالكى، والثانى: يحد ولو لم تصل الخمر للجوف عن طريق الفم كما لو استعط أو احتقن، والثالث: يحد فى السعوط دون الحقنة (2) . وفى مذهب أحمد رأيان: أن ما وصل عن طريق الحلق فيه الحد كالشرب والاستعاط، وما وصل عن طريق الشرج فلا حد فيه. والرأى الثانى يوجب الحد فى الحالين (3) . ويعتبر شاربًا من شرب الخمر أو المسكر لدفع العطش وهو يستطيع استعمال الماء، وكن من يشرب مضطرًا لدفع غصته لا حد عليه للاضطرار لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وكذلك حكم من أكره على الشرب سواء كان الإكراه ماديًا أو أدبيًا لقول النبى عليه الصلاة والسلام: "عفى لأمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، واختلف فيمن شرب لدفع عطش مهلك، فمذهب أبى حنيفة وهو يتفق مع الرأى الراجح فى مذهب مالك والشافعى أن لا حد على الشارب (4) . أما أحمد فيفرق بين ما إذا شربها الشارب صرفًا أو ممزوجة بشىء يسير لا يروى من العطش، ففى هذه الحالة على الشارب الحد، أما إذا شربها ممزوجة بما يروى من العطش أبيح الشرب لدفع الضرورة (5) . وفى التداوى بالخمر خلاف، فالرأى الراجح فى مذهب مالك والشافعى أن التداوى بالخمر فيه الحد إذا شربها المريض، أما إذا استعملها لطلاء جسمه فلا حد؛ لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تداوى بالخمر فلا شفاه الله"،   (1) أسنى المطالب ج4 ص159، المغنى ج10 ص 329، شرح الزرقانى ج8 ص 114. (2) بدائع الصنائع ج5 ص 113، أسنى المطالب ج4 ص159، الإقناع ج4 ص 267. (3) شرح الزرقانى ج8 ص 114. (4) الإقناع ج4 ص 267، المغنى ج10 ص332، شرح الزرقانى ج8 ص 112. (5) شرح الزرقانى ج8 ص 112، بدائع الصنائع ج7 ص 40. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 "إن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها" (1) . ويرى أبو حنيفة إباحة الشرب للتداوى، أما أحمد فيحرمه ويرى فى الشرب للتداوى الحد (2) . السكر 583 - لا وجود لحد السكر إلا إذا كان الشرب مباحًا، والسكر هو المحرم كما هو الحال عند غير المسلمين أو كما يقول أبو حنيفة وأصحابه فى غير الخمر، فإن كان الشرب غير مباح فالحد حد الشرب لا حد السكر ولو أدى الشرب إلى السكر فعلا. فالسكر إذا درجة تأتى بعد الشرب وهى نتيجة له، ولذلك يجب أن تتوفر فى جريمة السكر أركان جريمة الشرب وأن يؤدى الشرب بعد ذلك إلى السكر، فإن لم يؤد للسكر فلا حد على الشرب ولا على السكر ولو قصد الجانى أن يشرب ليسكر. ويحد الجانى على السكر إذا شرب المادة المسكرة وهو عالم بأن كثيرها مسكر ولو شرب منها قليلا ما دام أن الشرب قد أدى فعلا للسكر، ويحد كذلك ولو لم يقصد من الشرب السكر ما دام قد سكر وذلك أخذًا بقصده الاحتمالى إذ كان عليه أن يتوقع أن الشرب ربما أدى للسكر (3) . واختلف فى بيان السكر المستوجب للحد، فرأى أبو حنيفة أن السكران هو من فقد عقله فلم يعد يعقل قليلًا لا وكثيرًا ولا يميز الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة (4) . ويرى أبو يوسف ومحمد أن السكران هو الذى يغلب على كلامه الهذيان وحجتهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاة َ وأَنتُمْ سُكَاَرَى حَتَّى تََعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فمن لم يعلم ما يقول فهو سكران، ورأيهما يتفق مع رأى بقية الأئمة (5) . * * *   (1) نهاية المحتاج ج8 ص 11. (2) المغنى ج 10ص 329. (3) شرح فتح القدير ج4 ص 183. (4) بدائع الصنائع ج5 ص118. (5) المغنى ج10 ص335. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 الركن الثانى: القصد الجنائى 584 - يتوفر القصد الجنائى عند الفاعل كلما أقدم على الشرب عالمًا أنه يشرب خمرًا أو مسكرًا، فإن شرب المادة المسكرة وهو لا يعلم أن كثيرها مسكر فلا حد عليه ولو سكر فعلا. كذلك لا حد إذا شرب مادة مسكرة وهو يظنها مادة أخرى لا تسكر، ولا عقاب على الفاعل فى هذه الحالة ولو تبين أن الشرب كان نتيجة لخطأ جسيم أو لعدم الاحتياط؛ لأن الجريمة عمدية فيشترط فيها تعمد الفعل. ويعتبر القصد الجنائى غير متوفر إذا كان الجانى يجهل تحريم الشرب، ولو كان يعلم أن المشروب مسكر، ولكن لا يقبل الجهل ممن نشأ فى بلاد المسلمين لأن نشأته بينهم تجعل العلم بالتحريم مفروضًا فيه، أما من نشأ فى بلاد غير إسلامية فيقبل منه الادعاء بالجهل إذا ثبت أنه يجهل حقيقة تحريم الشرب، ويرى مالك جواز الاحتجاج بجهل العقوبة (1) . ويقبل الادعاء بجهل التحريم لكن لا يقبل منه الادعاء بجهل العقوبة (2) . عقوبة الشرب 585 - يعاقب على الشرب بالجلد ثمانين جلدة عند مالك وأبى حنيفة، وهو رواية عن أحمد. ويرى الشافعى وقوله رواية أخرى عن أحمد أن الحد أربعون جلدة فقط، ولكن لا بأس عنده من ضرب المحدود ثمانين جلدة إذا رأى الإمام ذلك، فيكون الحد أربعين وما زاد عليه تعزير. ويعاقب على السكر عند أبى حنيفة بنفس عقوبة الشرب فالحد عنده مقرر للسكر والشرب معًا.   (1) شرح الزرقانى ج8 ص 113. (2) بدائع الصنائع ج7 ص 40، شرح فتح القدير ج4 ص 183، نهاية المحتاج ج8 ص 10، شرح الزرقانى ج8 ص 113، المغنى ج10 ص 331، الإقناع ج4 ص 267. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 سبب اختلاف الفقهاء فى مقدار الحد أن القرآن لم يحدد العقوبة وأن الروايات لا تقطع بإجماع الصحابة على رأى فى حد الخمر، فالقرآن وإن كان قد حرم الخمر فإنه لم يعين لها حدًا، كما أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يعين للخمر حدًا فكان يضرب فيها القليل والكثير ولكنه لم يزد عن أربعين، وجاء أبو بكر وضرب فى الخمر أربعين، وروى عن أبى بكر أنه سأل أصحاب الرسول كم بلغ ضربه لشرب الخمر، فقدوره بأربعين وروى عن أبى سعيد الخدرى وعن على أن النبى - صلى الله عليه وسلم - ضرب فى الخمر أربعين. فلما جاء زمن عمر رضى الله عنه تحير أمر الناس على شرب الخمر، فاستشار عمر الصحابة فى حد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبى عبيدة بالشام. وروى أن عليًا رضى الله عنه قال فى المشورة: نرى أن نجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هَذَى، وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون. وقد روى عن معاوية بن حصين بن المنذر الرقاش أنه قال: شهدت عثمان رضى الله عنه وقد أُتى بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أنه رآه يشرب الخمر وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلى: أقم عليه الحد، فقال على لعبد الله ابن جعفر: أقم عليه الحد فأخذ السوط وجلده، وعلىُّ يعد إلى أن بلغ أربعين قال حسبك، جلد النبى - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة وهذا أحب إلىَّ. وكذلك روى عن على ٍّ رضى الله عنه أنه قال: ما كنت لأقيم حدًا على أحد فيموت فأجد فى نفسى منه شيئًا إلا صاحب الخمر ولو مات وديته؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه لنا. فمن رأى من الفقهاء أن حد الخمر ثمانون اعتبر أن الصحابة أجمعوا على هذا, والإجماع مصدر من المصادر التشريعية, ومن رأى أن الحد أربعون احتج بما فعله على من جلد الوليد بن عقبة أربعين جلدة, وقوله: جلد النبى أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إلى. ويرى أصحاب هذا الرأى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 أن فعل النبى - صلى الله عليه وسلم - حجة لا يجوز تركه بفعل غيره، وأن الإجماع لا ينعقد على ما يخالف فعل النبى وأبى بكر وعلى، ويحملون الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز إذا رآه الإمام (1) . والأصل فى الحدود أنها لا تقبل عفواً ولا صلحاً ولا إسقاطاً إذا كانت من حقوق الله الخالصة، ولما كان حد الشرب من حقوق الله الخالصة فليس للأفراد أو الجماعة إسقاطه أو العفو عنه، على أننا إذا اعتبرنا رأى الشافعى فى أن الحد أربعون جلدة فقط وأن مازاد على ذلك تعزير فإنه يجوز لولى الأمر أن يعفو عن العقوبة المعتبرة تعزيراً كلها أو بعضها؛ لأن الشريعة تجعل لولى الأمر أن يعفو عن العقوبة فى جرائم التعزير، أما الجزء المعتبر حداً فلا يمكن إسقاطه ولا العفو عنه. ومن المتفق عليه أن العقوبة لا تنفذ على السكران حتى يفيق؛ لأن العقوبة جعلت للتأديب والزجر، والسكران لا يشعر تماماً بما يحدث له (2) . ويرى البعض أنه إذا جلد قبل الإفاقة أجزأ واعتد به، ويرى البعض أن يعاد الحد ولا يقيد بالتنفيذ الحادث وقت السكر، ويفرق البعض بين ما إذا كان عنده ميز أم لا، فإن كان عنده ميز وقت الجلد ولو كان قبل صحوه، وأما إن كان طافحاً أعيد عليه الحد، وإن لم يحس فى أوله وأحس فى أثنائه حسب له من أول إحساسه بالضرب (3) . 586- التداخل: إذا تعددت جرائم الشرب والسكر قبل تنفيذ الحكم فى إحداها تداخلت عقوبات هذه الجرائم، سواء حكم بها أولم يحكم بها ما دامت   (1) المغنى ج10 ص329، شرح فتح القدير ج4 ص185، أسنى المطالب ج4 ص160، شرح الزرقانى ج8 ص113. (2) شرح فتح القدير ج4 ص158، شرح الزرقانى ج8 ص113، أسنى المطالب ج4 ص160، المغنى ج10 ص335. (3) شرح الزرقانى ج8 ص113، أسنى المطالب ج4 ص160. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 كلها قد وقعت قبل تنفيذ إحدى العقوبات واكتفى فيها بتنفيذ عقوبة واحدة، فإذا وقعت جريمة أخرى بعد تنفيذ العقوبة وجبت لها عقوبة خاصة. والتداخل يكون من ثلاثة وجوه: أولاً: تتداخل عقوبات الشرب كما تتداخل عقوبات السكر المتعدد إلى الوقت الذى تنفذ فيه إحداها. ثانياً: تتداخل عقوبة السكر مع عقوبة الشرب، فلو سكر ذمى ثم أسلم قبل تنفيذ العقوبة وشرب تداخل حد السكر مع حد الشرب، وكذلك الحال عند الحنفية فإن حد السكر يتداخل مع حد الشرب، فلو سكر شخص ثم شرب قبل تنفيذ عقوبة السكر اكتفى بتنفيذ عقوبة واحدة. ثالثاً: يتداخل حد الشرب مع حد القتل سواء كان القتل من حدود الله أو حقاً لآدمى، كما لو شرب وزنا وهو محصن أو شرب وقتل شخصاً، فلا تنفذ إلا عقوبة القتل التى تجب عقوبة الشرب؛ لأن كل عقوبة يقصد بها التأديب والزجر ولا حاجة مع القتل للزجر ولا فائدة فى تنفيذ ما دون القتل، وإذا انعدمت الفائدة التى شرع الحد من أجلها أصبح تنفيذه غير مشروع. وهذا هو رأى مالك وأبى حنيفة وأحمد (1) . أما الشافعى فيرى أن عقوبة القتل لا تجب ما دونها ويجب تنفيذ العقوبات كلها، فمثلاً إذا شرب شخص وسرق وزنا وهو محصن جلد للشرب وقطع للسرقة ثم قتل بعد ذلك (2) . ولا يتداخل حد الشرب عند أبى حنيفة وأحمد مع أى عقوبة أخرى إلا مع عقوبة القتل، ولكن مالكاً يرى أن حد الشرب يتداخل مع القذف لأن موجبهما واحد، والقاعدة عنده: تتداخل الحدود كلما اتحدت موجباتها (3) . 587- كيفية تنفيذ الجلد: ينفذ الجلد على الوجه الذى سبق ذكره فى تنفيذ الجلد فى الزنا، ويرى البعض أن المحدود فى الخمر لا يجرد من ملابسه لأن   (1) شرح الزرقانى ج8 ص108، شرح فتح القدير ج4 ص209، بدائع الصنائع ج7 ص63، المغنى ج10 ص321 وما بعدها. (2) أسنى المطالب ج4 ص157. (3) شرح الزرقانى ج8 ص108. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 حد الخمر من أخف الحدود فوجب إبقاء ملابسه عليه إظهاراً لتتخفيف، ولكن الرأى الراجح هو أن لا فرق فى التنفيذ بين حد الخمر وغيره وأن الشارع أظهر التخفيف فى نقصان عدد الجلدات (1) . ويرى البعض أنه إذا اجتمعت حدود لله من أجناس مختلفة أخر حد الشرب عنها جميعا لأنه ثابت بما لا يتلى (2) . وهو رأى أبى حنيفة، ولكن البعض يرى تقديم حد الشرب على غيره على أنه إذا تأخر فليس للتأخير أثر ما ووقع الموقع (3) ، وهذا هو رأى الشافعى وأحمد لأنهما يريان تقديم الأخف على الخفيف، أما مالك فيستوى عنده أن يقدم الأخف أو الأشد ولولى الأمر أن يبدأ بأيهما أراد (4) . * * * المبحث الثاني الأدلة على الشرب 588- أولاً: شهادة الشهود: يثبت الشرب والسكر بشهادة الشهود ويشترط أن لا يقل عدد الشهود على رجلين تتوفر فيهما شروط الشهادة التى سبق ذكرها بمناسبة الكلام عن الزنا. ويشترط أبو حنيفة وأبو يوسف أن تكون الرائحة قائمة وقت الشهادة أى رائحة الخمر أو السكر, فالشهادة عندهما مقيدة بوجود الرائحة ولا يشترط أن توجد الرائحة فعلاً وقت التحقيق ويكقى أن يشهد بها الشاهدان, فيجوز أن يشهد الشاهدان بالشرب أو السكر فيشم المحقق رائحة الخمر أو المسكر, ويجوز أن يشهد الشهود على الشرب أو على السكر وعلى وجود الرائحة وقت أخذ الجاني, أما محمد فلا يشترط وجود الرائحة مع الشهادة بالشرب أو السكر, وحجة أبى   (1) شرح فتح القدير ج4 ص186. (2) شرح فتح القدير ج4 ص209. (3) الإقناع ج4 ص248، أسنى المطالب ج4 ص157. (4) المدونة ج16 ص48. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 حنيفة وأبى يوسف أن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة وأن ابن مسعود كان يشترط الرائحة ولا إجماع إلا برأيه (1) . ويشترط أبو حنيفة وأصحابه لقبول الشهادة عدم التقادم أى مضى زمن على وقوع الجريمة, وقد تكلمنا عن التقادم على الكلام على الزنا, ولكن أبا حنيفة وأبا يوسف يجعلان مدة التقادم فى الشرب والسكر مقدرة بزوال الرائحة، فإذا سكت الشهود عن الحادث حتى زالت الرائحة فقد تقادمت الشهادة وامتنع قبولها. ولكن محمداً يقدر مدة التقادم بشهر (2) . "على أنه من المسلم به لدى الجميع أنه لا تقادم إذا أخذ الشهود الجانى وريحها توجد فيه أو سكران من غيرها وريح ذلك الشراب يوجد منه وذهبوا به إلى الإمام فى مكان بعيد فانقطع الريح قبل أن ينتهوا به؛ لأن التأخير ليس أساسه سكوت الشهود على الجريمة وإنما يرجع لبعد المسافة فلا تهمة فى هذا التأخير. ومما يؤثر فى ذلك أن قوماً شهدوا عند عثمان على عقبة بشرب الخمر وكان بالكوفة فحمل إلى المدينة فأقام عليه الحد, ولا شك أن الرائحة قد زالت عندما وصل الشهود إلى المدينة ولكن التقادم لم يعتبر لأن التأخير كان بعذر وهو بعد المسافة عن الإمام" (3) . ولا يسلم بقية الأئمة بنظرية أبى حنيفة فى عدم قبول الشهادة بالتقادم, وإن كان هناك رأى لأحمد يتفق مع رأى أبا حنيفة ولكنه غير معمول به فى المذهب, وقد سبق أن بينا ذلك عند الكلام عن الزنا. 589- ثانياً: الإقرار: تثبت الجريمة بإقرار الجاني, ويكفى فى الإقرار مرة واحدة فى المذاهب الأربعة, وإن كان أبو يوسف يرى أن كل إقرار يسقط بالرجوع بعدد الإقرار فيه كعدد الشهود (4) . ويسرى على   (1) شرح فتح القدير ج4 ص178 وما بعدها. (2) شرح فتح القدير ج4 ص164, 165. (3) شرح فتح القدير ج4 ص181. (4) بدائع الصنائع ج7 ص50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 الإقرار هنا ما يسرى على الإقرار فى الزنا. وإذا أقر الجانى وهو سكران فحكم إقراره [يراجع ما كتب فى القتل عن إقرار السكران] . ويشترط أبو حنيفة وأبو يوسف أن لا يكون الإقرار قد تقادم, فإذا كان قد تقادم لم يقبل من المقر, وحد التقادم عندهما هو ذهاب الرائحة, فمن أقر بشرب الخمر أو السكر بعد ذهاب الرائحة لم يقبل إقراره, ولكن محمداً لا يرى بطلان الإقرار بالتقادم لأن عدم القبول للتقادم سببه التهمة والإنسان لا يتهم على نفسه فإذا أقر أخذ بإقراره مهما مضى على الحادث (1) . 590- الرائحة: يرى مالك أن الرائحة وحدها تعتبر دليلاً على الشبر ولو لم يشهد أحد برؤية الجانى وهو يشرب, فإن شهد شخصان بقيام الرائحة فى فم الشارب أو شهد أحدهما برؤيته يشرب وشهد الثانى بأنه شم من فيه رائحة الخمر فعلى الجانى الحد, وهذا الرأى رواية عن أحمد. ولكن أبا حنيفة والشافعى ورأيهما الرواية الراجحة لأحمد يريان أن الرائحة لا تعتبر وحدها دليلاً على الشرب, ويرى أبو حنيفة كما قدمنا أن الرائحة يجب أن يثبت وجودها مع الشهادة بالشرب, وهو يخالف فى هذا الشافعى وأحمد, والقائلون بالحد بالرائحة يحتجون بأن ابن مسعود جلد رجلاً وجد فيه رائحة الخمر, وبما روى عن عمر أنه قال: إنى وجد من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلا, فقال عمر: إنى سائل عنه فإن كان مسكراً جلدته, ويحتجون بأن الرائحة تدل على الشرب فجرى مجرى الإقرار. أما الذين لا يقبلون الرائحة دليلاً فيرون أن الرائحة يجوز أن تكون من غير الشرب فيحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء فلما صارت فى فيه مجها, أو أكل نبتاً أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر, وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد لأن الحد يدرأ بالشبهات (2) . 591- السكر: يعتبر أبو حنيفة وجود الشخص فى حالة سكر دليلاً   (1) شرح فتح القدير ج4 ص180, 181. (2) المغنى ج10 ص332, شرح الزرقانى ج8 ص113, نهاية المحتاج ج8 ص14, شرح قتح القدير ج4 ص184. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 على أنه سكر من غير الخمر, فإذا شهد اثنان على شخص بأنهما وجداه فى حالة سكر ووجدت فيه رائحة المسكر عند هذا الشخص أو شهد الشاهدان بأنهما اشتما رائحة المسكر وجب عليه حد السكر (1) . ولا يرى الشافعى فى السكر دليلاً على الشرب لاحتمال أنه احتقن أو استعط أو أنه شربها لعذر من غلط أو إكراه (2) , ورأى الشافعى رواية فى مذهب أحمد (3) . وإذا كان مالك يرى الحد لمجرد الرائحة كما يراه أحمد فى أحد رأييه فإن الحد يجب عندهما لوجود الشخص فى حالة سكر من باب أولى؛ لأن السكر لا يكون إلا بعد الشرب (4) . 592- القىء: لا يعتبر القىء وحده دليلاً عند أبى حنيفة لكن إذا ثبت من القىء وجود رائحة الخمر وكان الجانى أخذ فى حالة سكر أو شهد عليه شاهدان بالشرب فإن الجريمة تثبت عليه؛ لأن أبا حنيفة كما ذكرنا يشترط مع الشرب ومع السكر الرائحة (5) . أما الشافعى فلا يرى القىء دليلاً على الشرب لما سبق ذكره, وهذا رأى لأحمد. أما مالك وهو يوجب الحد بالرائحة كما يوجبه أحمد فى أحد رأييه فيجب أن يكون القىء عندهما دليلاً يثبت به الحد من باب أولى لأنه لا يتقيأ إلا بعد الشرب. ومن يثبت الحد بالقىء فإنه يحتج بما حدث فى محاكمة قدامة والوليد بن عقبة فقد شهد علقمة الخفى على قدامة فقال: أشهد أنى رأيته يتقيؤها فقال عمر: من قاءها فقد شربها وضربه الحد. أما ما حدث فى محاكمة الوليد بن عقبة فقد شهد عليه رجلان فشهد أحدهما أنه رآه يشربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها, فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها, وكان ذلك كله بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد فكان إجماعاً (6) , أما من   (1) شرح فتح القدير ج4 ص178 وما بعدها. (2) نهاية المحتاج ج8 ص14. (3) المغنى ج10 ص332. (4) المغنى ج10 ص332. (5) شرح فتح القدير ج4 ص178, 184. (6) المغنى ج10 ص332. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 لا يرى القىء دليلاً على الشرب فيرى أن هذا من عمر وعثمان اجتهاد وليس فيه إجماع (1) . 593- هل يقضى القاضى بعلمه؟: وليس للقاضى أن يقضى بعلمه فى الشرب والسكر ولو عاين الحادث بنفسه أو أقر له به الجانى ما دام ذلك فى غير مجلس القضاء. 594- امتناع التنفيذ: يمتنع التنفيذ كلما سقطت العقوبة, وهى تسقط بما يأتى: 1- الرجوع عن الإقرار إذا لم يكن دليل إلا هو. 2- رجوع الشهود عن شهادتهم إذا لم يكن دليل إلا الشهادة. 3- بطلان أهلية الشهود للشهادة بعد الحكم وقبل التنفيذ, وهو شرط أبى حنيفة خاصة. * * *   (1) نهاية المحتاج ج8 ص14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 الكتاب الرابع السرقة 595- أنواع السرقة: السرقة فى الشريعة الإسلامية نوعان: (1) سرقة عقوبتها حد. ... ... (2) سرقة عقوبتها التعزير. والسرقة المعاقب عليها بالحد نوعان: أ - سرقة صغرى ... ب - سرقة كبرى. فأما السرقة الصغرى فهى أخذ مال الغير خفية أى على سبيل الاستخفاء (1) . أما السرقة الكبرى فهى أخذ مال الغير على سبيل المغالبة, وتسمى السرقة الكبرى حرابة. وسنفصل القول فيها فيما بعد. والفرق بين السرقة الصغرى والسرقة الكبرى هو أن السرقة الصغرى يؤخذ فيها المال دون علم المجنى عليه ودون رضاه, ولابد لوجود السرقة الصغرى من توفر هذين الشرطين معاً فإذا لم يتوفر أحدهما فلا يعتبر الفعل سرقة صغرى, فمن سرق من دار متاعاً على مشهد من صاحب الدار دون استعمال القوى والمغالبة لا يعتبر فعله سرقة صغرى وإنما يعتبر فعله اختلاساً, ومن خطف مالاً من آخر لا يعتبر فعله سرقة صغرى وإنما يعتبر فعله خطفاً أو نهباً, والاختلاس والغصب والنهب كلها صور من صور السرقة ولكن لا حد فيها, ومن أخذ متاعاً من دار برضاء صاحبها وفى غير حضوره لا يعتبر سارقاً. أما السرقة الكبرى فيأخذ فيها المال بعلم المجنى عليه   (1) حاشية ابن عابدين ج3 ص265, بدائع الصنائع ج7 ص65, شرح فتح القدير ج4 ص219, الروض النضير ج4 ص228, نهاية المحتاج ج7 ص418, أسنى المطالب ج14 ص137, المغنى ج10 ص239, كشاف القناع ج4 ص77, المحلى ج11 ص337, مواهب الجليل ج6 ص305. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 ولكن بغير رضاه وعلى سبيل المغالبة. فإن لم تكن مغالبة فالفعل اختلاس أو غصب أو نهب ما دام الرضاء غير متوافر. 596- السرقة المعاقب عليها بالتعزير: هى نوعان: أولهما: يدخل فيه كل سرقة ذات حد لم تتوفر شروط الحد فيها أو درأ فيها الحد للشبهة كأخذ مال الابن وأخذ المال المشترك, ويستوى أن تكون السرقة فى الأصل صغرى أو كبرى. وثانيهما: هو أخذ مال الغير دون استخفاء؛ أى بعلم المجنى عليه وبدون رضاه وبغير مغالبة, ويدخل تحت هذا النوع الاختلاس والغصب والنهب, مثل أن يأخذ السارق ملابس آخر خلعها ووضعها بجواره ثم يهرب بها على مرأى من المجنى عليه, ومثل أن يخطف شخص من آخر ورقة مالية كان يمسكها بين أصابعه. وهذا النوع من السرقة لا حد فيه أى لا قطع فيه لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع على نباش ولا منتهب ولا خائن", ولا تخرج السرقات فى الشريعة الإسلامية عن هذه الأنواع الأربعة, ويطلق الفقهاء عادة لفظ السرقة دون تمييز على السرقة الصغرى, وإذا تكلموا على السرقة وأحكامها فإنما يقصدون السرقة الصغرى بينما يسمون السرقة الكبرى الحرابة أو قطع الطريق, أما ما عدا ذلك من نهب وغصب واختلاس فيطلقون عليه لفظ الاختلاس بصفة عامة. والسبب الذى دعا الفقهاء إلى إطلاق لفظ السرقة على السرقة الصغرى دون تمييز أن عقوبتها قطع اليد, وأن أكثر السرقات تقع على سبيل الاستخفاء أى تقع سرقة صغرى. والقاعدة العامة التى يسير عليها الفقهاء أنهم يعنون عناية تامة بالجرائم المعاقب عليها بحد أو قصاص, فيبينون أركانها وشروطها ويفصلون أحكامها ولا يتركون صغيرة ولا كبيرة إلا بينوا حكمها. أما الجرائم المعاقب عليها بالتعزير فلا يعنون بها تلك العناية ولا يتعرضون إلا للمهم منها, وما يتعرضون له يكتفون ببيان أحكامه مجملة, وإن كانوا قد عنوا بالتعازير عامة فيما يختص بأنواع العقوبات وحد كل عقوبة وسلطة القاضى وولى الأمر. ولعل عذر الفقهاء فى أخذهم بهذه الطريقة أن أكثر جرائم التعزير يترك لأولى الأمر تحديد الأفعال المكونة لها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 والعقوبات التى تقع على مرتكبيها, وأن هذه الجرائم يختلف النظر إليها باختلاف البلدان ونوع الحكومات, فكان من المعقول أن لا يهتم بتفصيل أحكام الجرائم التعزيرية كما تفصل أحكام الجرائم الثابتة وهى جرائم الحدود والقصاص, خصوصاً وأن فكرة تجميع الأحكام التشريعية والأفعال المحرمة فى مجامع تنشر على الناس لم تكن ظهرت بعد. ويجب أن نلاحظ أن الفقهاء حين يتكلمون على السرقة الصغرى يتناول كلامهم بالضرورة السرقة المعاقب عليها بالتعزير بنوعيها, إذ النوع الأول ليس إلا سرقة فيها الحد تخلف فيها شرط من شروط الحد, ولأن النوع الثانى وهو ما يطلق عليه الاختلاس ولا يختلف عن السرقة الصغرى إلا فى بعض الشروط التى يجب توفرها فى السرقة دون الاختلاس, فكان الكلام على السرقة شاملاً للاختلاس فكل سرقة صغرى إذا انتفت بعض شروطها تصبح اختلاساً. ويمكننا أن نحصر أوجه الخلاف بين السرقة الصغرى والاختلاس فيما يأتى: 1- عقوبة السرقة القطع وعقوبة الاختلاس التعزير. 2- الركن المادى فى السرقة الأخذ على سبيل الاستخفاء, وفى الاختلاس الأخذ دون استخفاء. 3- يشترط فى السرقة أن سكون المسروق فى حرز ولا يشترط ذلك فى الاختلاس. 4- يشترط فى السرقة أن يبلغ المسروق نصاباً معيناً ولا يشترط ذلك فى الاختلاس. ونستطيع بعد معرفة الفرق بين السرقة والاختلاس أن نقول بأن أحكام الاختلاس فى الشريعة تكاد تكون نفس أحكام القانون المصرى فى السرقات المعتبرة جنحاً, وإذا كان ثمة فرق بين الشريعة والقانون فى بعض الحالات كما فى حالة اعتبار القانون للاختلاس الحاصل على متعهد النقل سرقة وعدم اعتباره خيانة أمانة كما هو الحال فى الشريعة فإن القانون يجب اتباعه فى هذه الحالة لأن الجريمة من الجرائم التعزيرية وهى محرمة اعتبرت فى تكييفها سرقة أو خيانة أمانة, ولولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 الأمر سلطة كبرى فى تحديد عقوبات الجرائم التعزيرية فإذا عاقب عليها بعقوبة السرقة فإن أمره يجب أن يطاع. وإذا قارنا الشريعة الإسلامية بالقانون المصرى فيما يختص بالسرقات وجدنا أن الشريعة تعاقب على نفس الأفعال التى يعاقب عليها القانون باعتبارها سرقة, فالشريعة تعاقب على أخذ المال خفية (السرقة الصغرى) , وعلى أخذه مغالبة أى بإكراه وتهديد فى طرق العامة وغيرها (السرقة الكبرى أو الحرابة) , وعلى أخذه بغير استخفاء وبغير مغالبة (الاختلاس) , وكذلك القانون يعاقب على اختلاس المال سواء كان الاختلاس بعلم المجنى عليه أو بغير علمه, أى سواء أخذ خفية أو غير خفية, ما دام ذلك دون رضاه وبغير إكراه, ويعتبر القانون الأفعال التى من هذا النوع جنحاً, كذلك يعاقب القانون على الاختلاس مغالبة أى بإكراه أو تهديد فى الطرق العمومية وغيرها وتعتبر الأفعال التى من هذا النوع جنايات. ولقد كانت القوانين الوضعية تعاقب حتى الثورة الفرنسية على اختلاس منفعة الشىء على اختلاس حق حيازته, على اعتبار أن اختلاس المنفعة واختلاس الحيازة سرقة, كذلك كانت هذه القوانين تخلط بين السرقة والتبديد والغصب وتعتبرها جميعاً سرقة متأثرة فى ذلك بأحكام القانون الرومانى الذى أخذت عنه, أما الشريعة الإسلامية فإنها على قدمها وقد وجدت من أكثر من ثلاثة عشر قرناً لم تخلط بين سرقة الشىء والانتفاع به أو استرداد حيازته, ولم تخلط بين السرقة وبين الجرائم الأخرى الواقعة على الأموال كالغصب والتبديد. وسنرى عندما نستعرض الأفعال المكونة لجريمة السرقة على وجه التفصيل أنها لا تختلف شيئاً عما وصلت إليه أرقى القوانين الوضعية الحديثة, ولست أريد من هذا أن أبين للناس مدى دقة فقه الشريعة وصفاته وإنما أريد أن أبين للناس أن القانون الوضعى حين يتطور مرة بعد مرة إنما يسير فى أثر الشريعة ويأخذ بمبادئها. وحين يقال إنه وصل إلى الكمال يكون قد أوشك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 أن يبلغ فقط بعض ما بلغته الشريعة, وأن اليوم الذى تأخذ فيه القوانين الوضعية عن الشريعة قد أصبح قريباً جداً وأقرب مما يظن أكثر الناس. * * * المبحث الأول أركان السرقة 597- عرفنا السرقة فيما سبق بأنها أخذ مال الغير خفية. وظاهر من هذا التعريف أن أركان السرقة أربعة: (1) الأخذ خفية. ... ... ... (2) أن يكون المأخوذ مالاً. (3) أن يكون المال مملوكاً للغير. ... ... (4) القصد الجنائى. الركن الأول: الأخذ خفية 598- معنى الأخذ خفية: هو أن يأخذ الشىء دون علم المجنى عليه ودون رضاه, كمن يسرق أمتعة شخص من داره فى غيبته أو أثناء نومه, أو من يسرق حاصلات من جرن فى غيبة صاحبها أو أثناء نومه, فإن كان الأخذ فى حضور المجنى عليه ودون مغالبة فالفعل اختلاس لا سرقة, وإن كان الأخذ دون علم المجنى عليه ولكن برضاه فالفعل لا يعتبر جريمة. ويجب فى الأخذ أن يكون تاماً, فلا يكفى لتكون الجريمة أن تصل يد الجانى للشىء المسروق بل لابد أن يكون الأخذ بحيث تتوفر فيه ثلاثة شروط: أولها: أن يخرج السارق الشىء المسروق من حرزه المعد لحفظه. ثانيهما: أن يخرج الشىء المسروق من حيازة المجنى عليه. ثالثها: أن يدخل الشىء المسروق فى حيازة السارق. فإذا لم يتوفر أحد هذه الشروط اعتبر الأخذ غير تام, وكانت عقوبته التعزير لا القطع. فمن تسور داراً ليسرق منها فضبط قبل أن يصل إلى شىء مما فى الدار أو ضبط وهو يجمع المتاع, ومن دخل زريبة ليسرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 منها دابة ففك قيدها أو اعتلى ظهرها ثم ضبط قبل أن يخرج بها, ومن دخل جرناً ليسرق منه قمحاً فى غرارة مثلاً فضبط وهو يملأ الغرارة أو ضبط بعد ملئها وهو يحاول أن يحملها أو ضبط بعد أن حملها وقبل أن يخرج بها من الجرن- فكل هؤلاء لا يعتبر أحدهما آخذاً خفية لأن ما أتاه من الأفعال لم يخرج الشىء المراد سرقته من حرزه أى المحل المعد لحفظه وما دام المال لم يخرج من حرزه فهو لم يخرج من حيازة المجنى عليه ولم يدخل فى حيازة الجاني (1) . ويترتب على اشتراط الأخذ التام أن لا يقطع فى سرقة لم تتم, فكل ما نعتبره اليوم شروعاً فى سرقة يعاقب عليه بالتعزير ولا يعاقب عليه بالقطع. ولكن أصحاب المذهب الظاهرى يوجبون القطع فى الشروع كلما وضع السارق يده على الشىء المسروق ولو لم يخرج به من حرزه, فمن أخذ وهو يجمع المتاع من منزل المجنى عليه وقبل أن يحمله ويخرج به أو أخذ وهو يحمله وقبل أن يخرج به قطع ما دام قد بدأ فعل السرقة؛ لأن ما وقع منه يجعله سارقاً وأن الظاهريين لا يشترطون الحرز فى السرقة, ولهذا فهم يعتبرون الأخذ تاماً بمجرد تناول الشىء المسروق بقصد سرقته ولو لم يخرج الشىء من حيازة المجنى عليه ويدخل فى حيازة الجانى حيازة فعليه ونهائية (2) , وإن كانوا يفرقون بين السرقة والاختلاس ويرون القطع فى السرقة دون الاختلاس. وعبارة الأخذ خفية فى الشريعة يقابلها الاختلاس فى القوانين الوضعية, ويشترط ليكون الاختلاس تاماً فى القانونين المصرى والفرنسى أن يخرج الشىء من حيازة المجنى عليه وأن يدخل فى حيازة الجاني, ومعنى هذا أن الشريعة   (1) المغنى ج10 ص249, المهذب ج2 ص295, 297, كشاف القناع ج4 ص79, نهاية المحتاج, أسنى المطالب ج4 ص138, 141 وما بعدها, شرح فتح القدير ج4 ص240, 241, بدائع الصنائع ج7 ص65, شرح الزرقانى ج8 ص98, المدونة ج16ص72, شرح الأزهار ج4 ص367. (2) المحلى ج11 ص319, 337. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 تشترط زيادة على ما تشترطه القوانين الوضعية أن يخرج السارق الشىء المسروق من حرزه, وهذه الزيادة شرط لابد من توفره فى كل سرقة معاقب عليها بالقطع عند أصحاب المذاهب الأربعة والشيعة الزيدية, أما الظاهريون فلا يشترطون الإخراج من الحرز كما قدمنا بل أنهم لا يشترطون للقطع إخراج الشىء من حيازة المجنى عليه وإدخاله فى حيازة الجاني, ويكتفون بأن يتناول الجانى الشىء بقصد سرقته لاعتباره آخذاً له خفية ومستحقاً لعقوبة القطع. وتتفق المذاهب الأربعة والشيعة عدا مذهب الظاهريين, وتتفق الشريعة مع القانون المصرى والفرنسى إذا كانت السرقة واقعة على مال غير محرز. فهذه السرقة لا قطع فيها وعقوبتها التعزير, ويكفى فيها لاعتبار الأخذ تاماً أن يخرج الشىء المسروق من حيازة المجنى عليه ويدخل فى حيازة السارق, فمثلاً إذا سرق الجانى دابة المجنى عليه أثناء سيرها فى الطريق دون حارس فإن مجرد ركوبه للدابة يعتبر أخذاً تاماً لها لأنه يدخلها فى حيازة الجانى ويخرجها من حيازة المجنى عليه. وتتفق الشريعة أيضاً مع القانون المصرى والفرنسى إذا كان الفعل الحاصل من الجانى مما يعتبر فى الشريعة اختلاساً فإن الاختلاس عقوبته التعزير لا القطع, ويكفى فى حالة الاختلاس لاعتبار الفعل تاماً أن يخرج الشىء المختلس من حيازة المجنى عليه ويدخل فى حيازة المختلس, فمن خالس المجنى عليه وخطف من يده ورقة مالية أو أخذ ثوبه من جواره فإن الاختلاس يعتبر تاماً بمجرد دخول الورقة المالية أو الثوب فى حيازة المختلس ولو لم يبرح محل الاختلاس. وإخراج الشىء المسروق من حرزه يتبعه دائماً إخراج هذا الشىء من حيازة المجنى عليه, فمن سرق من زريبة أو منزل أو دكان يعتبر أنه أخرج المسروق من حيازة المجنى عليه بمجرد إخراج المسروقات من الزريبة أو المنزل أو الدكان, وكذلك من يسرق من جيب إنسان يعتبر أنه أخرج المسروقات من حيازة المجنى عليه بمجرد إخراج المسروقات من الجيب؛ لأن الجانى فى هذه الأحوال جميعاً يزيل عن المسروقات يد المجنى عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وإخراج الشىء المسروق من حيازة المجنى عليه لا يتوقف دائماً على خروج السارق به من الحرز, فقد يخرج المسروق من حيازة المجنى عليه مع بقاء الجانى فى الحرز ومع عدم خروج المسروق من الحرز, ومثال ذلك أن يبتلع السارق المسروقات فى الحرز إذا كانت مما لا يفسد بالابتلاع كجواهر أو نقود ابتلعها السارق داخل الحرز, ففى هذه الحالات وأشباهها تدخل المسروقات فى حيازة السارق وتخرج من حيازة المجنى عليه قبل أن يخرج السارق من الحرز وقبل أن يعتبر الأخذ تاماً لأنه لا يتم إلا بالخروج من الحرز (1) . أما إذا كان الشىء الذى ابتلع فى الحرز مما يفسد بالابتلاع كاللبن أو الحلوى وما أشبهه فالفعل لا يعتبر سرقة فى الشريعة وإنما هو إتلاف, والقاعدة فى الشريعة أن كل ما استهلك فى محل الحادث فهو متلف أو مسروق, سواء استهلك بواسطة أكله أو شربه أو تمزيقه أو تحريفه إلى غير ذلك (2) . ويرى أبو حنيفة أن إخراج الشىء المسروق من حرزه ومن حيازة المجنى عليه لا يستتبعه حتماً دخوله فى حيازة الجاني, ومثل ذلك أن يأخذ السارق متاعاً ويلقى به إلى خارج المنزل ثم يخرج ليأخذه فيجد أن غيره عثر عليه وأخذه, أو أن يسرق اللص دابة حتى يخرجها من الزريبة فإذا خرجت تلقاها لص آخر فأخذها. ففى هاتين الحالتين وأمثالهما يرى أبو حنيفة أن المسروق لم يدخل فى حيازة السارق لأنه لا يدخل فى حيازة السارق إلا إذا خرج من حيازة المجنى عليه ويد الآخر تظل قائمة على الشىء حتى يخرج من حرزه, فبالإخراج تزول يد المالك (3) . فإذا أخرج اللص الشىء من الحرز زالت عنه يد المالك فإذا عثر عليه لص   (1) المغنى ج10 ص216, شرح الأزهار ج4 ص364, المهذب ج2 ص297, كشاف القناع ج2 ص79, 80, مواهب الجليل ج6 ص318. (2) نفس المراجع السابقة. (3) شرح فتح القدير ج4 ص241. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 آخر فأخذه فقد اعترضت يد اللص الأخير يد اللص الأول الذى أخرج المسروق, ولم يدخل المسروق فى حيازة السارق وإنما دخل فى حيازة اللص الثاني, ويسمى أبو حنيفة هذه النظرية بنظرية اليد المعترضة, ويترتب عليها عدم قطع يد السارق ولو أنه أخرج المسروق من الحرز, ويرى أن العقوبة هى التعزير (1) . وإذا ألقى السارق بالمسروق خارج الحرز ثم ضبط قبل أن يخرج ليأخذه فلا يعتبر أن المسروق دخل فى حيازته لأن يده لم تكن ثابتة عليه وقت إخراجه ولو بقى الشىء فى خارج الحرز لم يأخذه أحد حتى ضبط السارق (2) , أما إذا رمى بالشىء خارج الحرز ثم خرج فأخذه فعليه القطع. ولكن زفر يرى أن لا يقطع السارق فى هذه الحالة, وحجته أن الأخذ من الحرز لا يتم إلا بالإخراج منه, والرمى ليس بإخراج, والأخذ من الخارج ليس أخذاً من الحرز. ورد عليه بأن المال بإلقائه فى الخارج أصبح فى حكم يد السارق وإن كانت يده غير ثابتة عليه, فإذا خرج فأخذه فقد ثبتت يده عليه وأن الرمى ليس إلا الأخذ من الحرز (3) , ولكن مالكاً والشافعى وأحمد يرون أن المسروق يدخل فى حيازة السارق حكماً بمجرد خروجه من حيازة المجنى عليه ولو لم يضع السارق يده عليه وضعاً مادياً، وإذن فاليد المعترضة لا يحتاز المسروق إلا بعد دخوله فى حيازة السارق (4) . ومن ثم تتم شروط الأخذ خفية، وعلى هذا مذهب الشيعة الزيدية (5) ، فهم يرون أنه يكفى لقطع السارق أن يخرج المسروق بأى وسيلة وأن يكون الإخراج بفعله حملاً أو رمياً أو جراً أو إكراهاً أو تدليساً سواء أخذه بعد إخراجه أو تركه أو أخذه، غيره ويعتبر الأخذ تاماً عندهم بالإخراج ولو رد الجانى المسروق لحرزه بعد إخراجه.   (1) نفس المراجع السابقة. (2) بدائع الصنائع ج7 ص65. (3) بدائع الصنائع ج7 ص65. (4) المهذب ج2 ص297، أسنى المطالب ج4 ص138، مواهب الجليل ج6 ص308، المغنى ج10 ص259، المدونة ج16 ص71. (5) شرح الأزهار ج4 ص367. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 والأخذ خفية على نوعين: فهو إما أن يكون أخذاً مباشراً، وإما أن يكون أخذاً بالتسبب. فأما الأخذ المباشر فهو أن يتولى السارق أخذ المتاع وإخراجه من الحرز بنفسه، أو أن يؤدى فعله مباشرة إلى إخراجه كأن يدخل الحرز فيحمل المسروق أو يلقى به إلى خارج الحرز، أو أن يدخل يده فى الحرز فيأخذ المسروق أو يلتقطه بِمحْجَن، أو أن يبطر جيباً فيسقط منه المال، أو ينقب حرزاً فيه طعام أو حب فينثال منه إلى الخارج، إلا أن بعض الفقهاء يجعل لهذه القاعدة استثناءات سنتحدث عنها فيما بعد، وإذا حمل السارق المسروق إلى خارج الحرز، أو ألقى بالمسروق إلى خارج الحرز، أو أدى فعله المباشر إلى إخراج المسروق من الحرز، فإن شروط الأخذ خفية تكون تامة ويقطع السارق بسرقته (1) . أما إذا ضبط قبل أن يخرج المسروق من الحرز أو قبل أن يؤدى فعله إلى إخراجه فلا قطع عليه إلا فى رأى الظاهريين وحدهم؛ لأنهم يعتبرون السرقة تامة بمجرد تناول الجانى للشىء المسروق ولأنهم لا يعتبرون الحرز. وعند باقى الفقهاء على الجانى التعزير ولا قطع عليه لأن شروط الأخذ خفية لن تتم، وقد سبق الكلام على هذه النقطة. وإذا ضبط السارق بعد إلقاء المتاع المسروق خارج الحرز وقبل أن يخرج من الحرز لأخذه، فيرى أبو حنيفة أن الأخذ لم يتم لأن المسروق وإن كان قد أخرج من الحرز ومن حيازة المجنى عليه إلا أنه لم يدخل فى حيازة السارق الفعلية أو لأن يد السارق لم تثبت على المسروق فلا يعتبر فى حيازته (2) فعلاً، وإن كان الحنفية يعتبرون الشىء فى حيازة السارق حكماً بإلقائه ما لم تكن هناك يد معترضة؛ أى شخص يضع يده على الشىء (3) ، وهم متفقون على قطع السارق فيما ألقاه خارج الحرز ثم خرج فأخذه، ولا يخالفهم فى هذا إلا زفر، وقد بينا من قبل سبب خلافه.   (1) المهذب ج2 ص297، شرح الأزهار ج4 ص367، المغنى ج10 ص259، فتح القدير ج4 ص241، سرح الزرقانى ج8 ص97. (2) بدائع الصنائع ج7 ص65. (3) شرح فتح القدير ج4 ص244. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 ويرى بقية الأئمة ومعهم الشيعة الزيدية أن الشىء المسروق يدخل فى حيازة السارق حكماً بمجرد إلقائه إلى خارج الحرز وأن الحيازة الحكمية تكفى لاعتبار الأخذ تاماً كالحيازة الفعلية سواء بسواء، فإذا ألقى السارق بالمسروق خارج الحرز فقد تمت السرقة سواء خرج السارق فأخذه أو وجد أن غيره قد استولى عليه، وسواء ضبط السارق قبل خروجه من الحرز أم لم يضبط. إلا أن الإمام مالكاً تردد فى اعتبار السرقة تامة فى حالة ضبط السارق داخل الحرز بعد إلقاء المسروقات فى خارجه، ولكن المذهب على اعتبار السرقة تامة (1) ، وإذا أخرج السارق المتاع المسروق من بعض الدار إلى ساحتها فلا يعتبر الأخذ تاماً لأن الدار جميعها حرز واحد ولأن المتاع لم يخرج بعد من الحرز. ولا يخالف فى هذا إلا الظاهريون؛ لأنهم يعتبرون السرقة تامة بمجرد تناول السارق للشىء المسروق ولو لم يبرح مكانه. أما إذا كانت الدار مكونة من بيوت أو غرف مستقلة يعتبر كل منها مسكناً مستقلاً فالأخذ من أحد البيوت أو الغرف يعتبر تاماً إذا أخرج السارق المتاع المسروق إلى ساحة الدار المشتركة أو ضبط فيها ومعه المسروقات؛ لأن كل بيت أو غرفة حرز مستقل وليس له علاقة بساحة الدار، فإذا أخرج السارق المسروقات إلى ساحة الدار فقد أخرج المسروق من حرزه (2) . وإذا استهلك الجانى الشىء أو أتلفه داخل الحرز فهو متلف للشىء لا سارق له، فأما إذا خرج بشىء منه بعد إتلافه فهو سارق لما خرج به إذا بلغ نصاباً، وتقدر قيمة المسروق بما خرج به لا بما أتلفه، وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد (3) ،   (1) المدونة ج16 ص71، شرح الزرقانى ج8 ص98، المهذب ج2 ص297، المغنى ج10 ص259، شرح الأزهار ج4 ص367. (2) نهاية المحتاج ج8 ص439، المغنى ج10 ص260، المهذب ج2 ص297، كشاف القناع ج4 ص80، بدائع الصنائع ج7 ص66، شرح فتح القدير ج4 ص243، شرح الزرقانى ج8 ص100، مواهب الجليل ج6 ص308. (3) المغنى ج10 ص261، المهذب ج2 ص297، أسنى المطالب ج4 ص138، مواهب الجليل ج6 ص308، شرح الزرقانى ج8 ص99. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وبهذا الرأى تأخذ الشيعة الزيدية (1) . وهذا ما يراه أبو حنيفة ومحمد إلا أن أبا يوسف يرى أن من أتلف الشىء داخل الحرز ثم خرج بالمتلف وقيمته نصاباً فإنه لا يقطع لأنه بالإتلاف ضمن قيمة الشىء والمضمونات تملك عند أداء الضمان أو اختياره من وقت الأخذ، فلو ضمن السارق قيمة المسروق لملكه من وقت الأخذ فلو قطع لقطع فى ملك نفسه (2) . وإذا ابتلع الجانى المسروق داخل الحرز فيفرقون بين ما يفسد بالابتلاع كالطعام والشراب وما لا يفسد به كالجواهر والنقود، فأما ما يفسد بالابتلاع فلا يعتبر ابتلاعه أخذاً أى سرقة وإنما يعتبر إتلافاً ويعاقب عليه بعقوبة التعزير، وأما ما لا يفسد بالابتلاع ففيه آراء: أولها: الابتلاع يعتبر استهلاكاً للشىء فهو إتلاف لا سرقة، وتظهر وجاهة هذا الرأى فى حالة ما إذا لم يخرج الشىء من جوف الجانى وبقى به. وثانيهما: أن الابتلاع يعتبر أخذاً كما لو خرج الشىء فى وعاء، وتظهر وجاهة هذا الرأى فى حالة خروج المسروق من جوف الجانى، وعلى هذا الرأى المالكية وبعض الشافعية (3) . وثالثهما: يفرق بين خروج المسروق بعد ابتلاعه وعدم خروجه فإن خرج فالفعل سرقة وإن لم يخرج فالفعل إتلاف (4) . ورابعها: وهو للحنابلة، فبعضهم يعتبر الفعل إتلافاً فى كل حال، وبعضهم يعتبره سرقه إذا خرج الشىء الذى بلع فإذا لم يخرج فهو إتلاف (5) . وإذا استهلك الجانى أو ابتلع بعض الشىء ثم خرج ببعضه الباقى فهو متلف لما استهلك أو ابتلع إن كان يفسد بالابتلاع وسارق لما خرج به من الحرز إذا تمت فيه شروط الأخذ خفية، مع مراعاة وجود الخلاف والآراء المختلفة التى سبق   (1) شرح الأزهار ج4 ص364. (2) شرح فتح القدير ج4 ص264، بدائع الصنائع ج7 ص70، 71، 84. (3) شرح الزرقانى ج8 ص99. (4) أسنى المطالب ج4 ص184، المهذب ج2 ص297. (5) المغنى ج10 ص261. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 عرضها، وإذا كان للإخراج من الحرز أهمية فى بيان الأخذ التام من غيره فإن له أهمية قصوى فى حالة تعدد الجناة؛ لأن القاعدة فى الشريعة أن عقوبة القطع على من أخرج الشىء المسروق من حرزه فقط أما من لم يخرجه فعليه التعزير. 599- نظرية الهتك المتكامل: وإذا كان السارق واحداً فنقب الحرز كما لو كان منزلاً مثلاً وأدخل يده فى الثقب وأخذ المتاع أو مد قصبة أو محجناً فأخذه به، فيرى أبو حنيفة أن الأخذ لم يتم لأن السارق لم يدخل الحرز وهتك الحرز هتكاً متكاملاً شرط لتكامل الجناية ولا يتصور تكامل الهتك فيما يمكن الدخول منه إلا بالدخول فعلاً، أما مثل الصندوق والغرارة فلا يمكن الدخول فيهما فالأخذ التام منهما باليد دون دخول يعتبر هتكاً متكاملاً، وتسمى هذه النظرية بنظرية الهتك المتكامل (1) ، ولكن الأئمة الثلاثة ومعهم أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة والشيعة الزيدية يرون الأخذ تاماً سواء دخل السارق الحرز أو لم يدخله؛ لأن ركن السرقة الأخذ من الحرز وليس دخول الحرز، فكلما أمكن الأخذ من الحرز دون دخوله فهو أخذ تام (2) . 600- تعدد الجناة: وإذا اشترك فى السرقة اثنان فدخل أحدهما الحرز وبقى الثانى فى خارجه وناول الداخل للخارج المسروق من وراء الجدار أو من فتحة الباب أو من نقب فى الحائط، فيرى أبو حنيفة أن الأخذ غير تام بالنسبة للداخل والخارج معاً؛ فأما بالنسبة للداخل فلأنه وإن كان قد أخرج المتاع بفعله من الحرز ومن حيازة المجنى عليه إلا أن المتاع لم يدخل فى حيازة الداخل وإنما دخل فى حيازة زميله الذى كان فى الخارج ومن ثم فالأخذ غير تام بالنسبة للداخل. ورأى أبى حنيفة فى هذه المسألة تطبيق لنظرية اليد المعترضة التى سبق   (1) بدائع الصنائع ج7 ص66. (2) المهذب ج2 ص297، أسنى المطالب ج4 ص147، المغنى ج10 ص259، كشاف القناع ج4 ص80، مواهب الجليل ج6 ص310، شرح فتح القدير ج4 ص245، شرح الأزهار ج4 ص367، 368. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 بيانها، أما بالنسبة للخارج فإن المسروق قد دخل فى حيازته فإنه لم يخرج المسروق من حرزه ومن حيازة المجنى عليه، ومن ثم كانت شروط الأخذ غير تامة بالنسبة له. ويتفق الأئمة الثلاثة والشيعة الزيدية وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبى حنيفة على اعتبار الأخذ تاماً بالنسبة للداخل، ويرون أن المتاع المسروق يدخل فى حيازة الداخل الذى أقام زميله الخارج مقامه بتسليم المسروقات إليه، ولكنهم إذا خالفوا رأى أبى حنيفة بالنسبة للداخل فإنهم يرون رأيه بالنسبة للخارج (1) . والمفروض فى المسألة السابقة أن الداخل أخرج يده بالمسروقات إلى خارج الحرز فناولها زميله الخارج، أما إذا أدخل الخارج يده فى الحرز فأخذ المتاع المسروق من يد زميله الموجود داخل الحرز، فيرى أبو حنيفة أن الأخذ لا يعتبر تاماً بالنسبة لأيهما، فأما الخارج فلأنه لم يدخل الحرز فيهتكه هتكاً متكاملاً، وهذا تطبيق لنظرية الهتك المتكامل، وأما الداخل فلأنه لم يخرج المسروق من الحرز ولكن الأئمة الثلاثة والشيعة الزيدية وأبا يوسف صاحب أبى حنيفة يرون أن الأخذ يعتبر تاماً بالنسبة للخارج لأنه أخرج المتاع المسروق من الحرز ومن حيازة المجنى عليه وأدخله فى حيازة نفسه، ولأن ركن السرقة هو الأخذ وقد أخذ المسروق وليس ركن السرقة الدخول فى الحرز، أما بالنسبة للداخل فيتفق رأى هؤلاء الفقهاء مع رأى أبى حنيفة (2) . وإذا وضع الداخل المسروقات فى وسط الثقب فمد الخارج يده لأخذها بحيث اجتمعت أيديهما فى الثقب بموضع لم يخرجه الداخل من الحرز ولم يخرجه الخارج من الحرز فتعاونا معاً على إخراجه وأخرجاه من الحرز فالأخذ تام   (1) بدائع الصنائع ج7 ص65، شرح فتح القدير ج4 ص243، المهذب ج2 ص297، أسنى المطالب ج4 ص147، مواهب الجليل ج6 ص310، شرح الزرقانى ج8 ص104، كشاف القناع ج4 ص80، المغنى ج10 ص299، شرح الأزهار ج4 ص368. (2) نفس المراجع السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 بالنسبة لكليهما فى رأى مالك (1) ، وهو كذلك عند أحمد وأبى يوسف من فقهاء الحنفية (2) ، ولكن الشافعى يرى أن الأخذ لا يعتبر تاماً بالنسبة للداخل والخارج معاً؛ لأن الداخل لم يخرجه من تمام الحرز ولأن الخارج لم يأخذه من داخل الحرز (3) . أما عند أبى حنيفة فلا يعتبر أحدهما آخذاً؛ لأن الخارج لم يدخل الحرز ويهتكه هتكاً متكاملاً ولأن الداخل لم يخرجه من الحرز، وعلى فرض أنه أخرجه فإن يداً أخرى اعترضت يده. وإن دخل أحدهما إلى الدار فربط المسروقات بحبل وكان طرف الحبل مع آخر فى الخارج فجر المسروقات حتى أخرجها من الحرز، فالأخذ تام بالنسبة للخارج عند الشافعى وأحمد وأبى يوسف والشيعة الزيدية وليس تاماً بالنسبة للداخل. أما عند أبى حنيفة فالأخذ ليس تاماً أيضاً بالنسبة للخارج تطبيقاً لنظرية الهتك المتكامل (4) . وإذا دخلا معاً فى الحرز فصعد أحدهما إلى سطح المنزل وجمع الثانى المتاع المسروق فربطه بحبل فجره على السطح وألقى به إلى الخارج, فالأخذ تام بالنسبة لكليهما عند مالك وأبى حنيفة وأحمد وليس تاماً عند الشافعى إلا بالنسبة لمن ألقى به إلى الخارج (5) , فأما الشافعى فيرى أن الأخذ تام لمن أخرج المسروق أما من لم يخرجه فلا يعتبر الأخذ تاماً له, وهو يسير فى هذا على القاعدة العامة, أما من اعتبروا الرابط مخرجاً للمتاع فإنهم يعتبرونه كذلك على أسس مختلفة, فمالك يعتبره مخرجاً لأن فعل الربط جاء مصاحباً للإخراج وهو يعتبر الشخصين مخرجين كلما تصاحب فعلاهما الإخراج, وأبو حنيفة وأحمد   (1) المدونة ج16 ص73. (2) كشاف القناع ج4 ص80، شرح فتح القدير ج4 ص243. (3) أسنى المطالب ج4 ص146. (4) نفس المراجع السابقة. (5) المدونة ج16 ص73, كشاف القناع ج4 ص80, المغنى ج10 ص298, شرح فتح القدير ج4 ص244, 245, أسنى المطالب ج4 ص138. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 يعتبران من يدخل الحرز مخرجاً للمسروق ولو لم يحمل من المسروق شيئاً ما دام شريكه أو شركاؤه قد احتملوه (1) . وسنتكلم على هذه القاعدة بتوسع عند الكلام على الإعانة, وتأخذ الشيعة الزيدية بهذه القاعدة (2) على أن فيهم من يأخذ برأى الشافعى. وإذا بطل الحرز قبل إخراج المسروقات منه فلا تتم شروط الأخذ خفية لأن شروط الإخراج من الحرز تنعدم وتكون السرقة سرقة مال غير محرز ولا قطع فيها وإنما فيها التعزير, ومثل ذلك أن يؤذن للسارق بدخول الحرز لأن الإذن يبطل الحرز فى حق المأذون له, وكذلك الحارس على الشىء المسروق فى حالة ما إذا كان المال محرزاً بحارس. أما إذا بطل الحرز بعد إخراج المسروقات فإن ذلك لا يؤثر على السرقة التى تمت بتمام شروط الأخذ خفية. وسنتكلم على ما يبطل الحرز عند الكلام عن الحرز. ويبطل الحرز عند الشافعى وأحمد والشيعة الزيدية بفتح الباب والثقب ولكنه لا يبطل بهما عبد مالك وأبى حنيفة, فإذا ثقب شخص حرزاً أو فتح بابه ولم يسرق شيئاً فجاء آخر ودخل الحرز وسرق منه متاعاً فلا قطع على أحدهما عند الشافعى وأحمد والشيعة الزيدية؛ لأن الأول لم يأخذ شيئاً فلا يسأل عن السرقة وإنما يسأل عن إتلاف الحائط, ولأن الثانى أخذ المتاع من غير حرز والسرقة من غير حرز لا قطع فيها. أما مالك وأبو حنيفة فيريان أن الأخذ تام بالنسبة للثانى الذى دخل الحرز وأخذ المتاع لأن الثقب لم يخرج المكان عن كونه حرزاً (3) . ويرتب الحنابلة على القول بأن الثقب يبطل الحرز أن الجانى لو ثقب فى ليلة ولم يأخذ شيئاً فعلم المالك بهتك الحرز وأهمله ثم جاء الناقب فى ليلة تالية قبل إعادة الحرز فسرق ما فى المنزل أو جاء فى نفس الليلة من إحداث الثقب فسرق فإن الأخذ لا يعتبر تاماً لأن السرقة من غير حرز. وكذلك الشأن عند الحنابلة   (1) شرح فتح القدير ج4 ص244, المغنى ج10 ص247, 298, كشاف القناع ج4 ص80. (2) شرح الأزهار ج4 ص366. (3) شرح الأزهار ج7 ص370, المغنى ج10 ص299, أسنى المطالب ج4 ص147, شرح الزرقانى ج8 ص109, شرح فتح القدير ج4 ص243 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 فى حالة الإخراج على دفعات فإذا نقب الجانى الحرز فأخرج ما دون النصاب ثم دخل فأخرج ما يتم به النصاب, فإن كان ذلك فى وقتين متباعدين أو ليلتين لم يجب القطع لأن كل واحدة منهما سرقة مفردة والأولى دون النصاب هو والثانية, وكذلك إن كانا فى ليلة واحدة وبينهما مدة طويلة, أما إذا تقاربا فهما سرقة واحدة لبناء الفعلين أحدهما على الآخر, وإذا بنى فعل أحد الشريكين على فعل شريكه فبناء فعل الواحد بعضه على بعض أولى (1) . أما إذا علم المالك بهتك الحرز وأهمله فكل أخذ يعتبر مستقلاً مهما تقاربت المدة بين الأخذين, والأخذ بعد العلم أخذ من غير حرز (2) . ويلاحظ أن الحرز لا يبطل بالنسبة لمحدث النقب إلا بعلم المالك أو باستشهار هتكه, أما بالنسبة للغير فيبطل فى الحال. ويرتب الشافعية على القول بأن النقب يبطل الحرز بأن الجانى لو نقب فى ليلة وسرق فى أخرى كان أخذه تاماً موجباً للقطع, إلا إذا كان النقب ظاهراً يراه الطارقون والمارة أو علم المالك به بعد الحرز (3) . أما الشأن عندهم فى حالة الإخراج على دفعات فلم يتفقوا عليه. فإذا نقب شخص حرزاً ثم أخرج منه نصاباً على دفعات, فبعضهم يرى الأخذ تاماً ولو أن الإخراج على دفعات لأن بعض فعله ينبنى على البعض الآخر. والبعض يرى أن ما أخذه بعد الدفعة الأولى لا يعتبر أخذاً تاماً لأنه أخذ من حرز مهتوك. والبعض يرى أن ما أخذ قبل اشتهار هتك الحرز أو علم المالك بع يعتبر أخذاً تاماً, وما أخذ بعده لا يعتبر كذلك (4) . ويتفق رأى الشيعة الزيدية مع ما يراه الحنابلة (5) . ويلاحظ أن الحرز يبطل فى الحال بالنسبة للغير أما بالنسبة للناقب فلا يبطل   (1) المغنى ج10 ص262. (2) كشاف القناع ج4 ص81. (3) أسنى المطالب ج4 ص147. (4) المهذب ج2 ص295, أسنى المطالب ج4 ص138, نهاية المحتاج ج6 ص420. (5) شرح الأزهار ج4 ص368. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 إلا على الوجه الذى سبق بيانه وطبقاً للآراء المختلفة التى عرضناها, فلو نقب شخص حرزاً فجاء آخر وسرق ما فى داخل الحرز فلا يعتبر أخذه تاماً لأنه أخذ من غير حرز. أما الإخراج على دفعات عند مالك وهو لا يرى بطلان الحرز بالنقب ولا فتح الباب فحكمه أن العبرة بقصد الجاني, فإن قصد الجانى ابتداء أخذ المسروق ولكنه أخرجه على دفعات فالأفعال كلها سرقة واحدة, ويستدل على قصد الجانى بإقراره أو القرائن سواء كان يستطيع أن يخرج المسروق كله مرة واحدة ولكنه لم يخرج أو كان لا يستطيع أن يخرج إلا على دفعات, أما إذا قصد الأخذ فى كل دفعة قصداً مستقلاً فكل دفعة تعتبر سرقة مستقلة فإن أخرج فيها نصاباً قطع وإلا لم يقطع (1) . أما أبو حنيفة فيرى فى حالة الإخراج على دفعات اعتبار كل دفعة وحدها, فإن بلغ النصاب وحدها استحق المخرج القطع وإلا فلا, ولو أن المخرج قصد أن لا يخرج فى كل مرة نصاباً تحايلاً منه (2) . والإخراج من الأحراز يختلف باختلاف نوع الحرز, فإذا كان الحرز حرزاً بالمكان كالمنزل أو الدكان فيجب أن يخرج السارق بالسرقة من جميع الحرز حتى يعتبر الأخذ تاماً, فمن سرق متاعاً من منزل يجب أن يخرج به إلى الخارج من المنزل, فإن نقله من غرفة إلى أخرى فلا يعتبر الأخذ تاماً ما لم تكن الغرفة التى نقل إليها المتاع المسروق حرزاً مستقلاً عن الغرفة التى كان فيها, وإذا نقله إلى ساحة المنزل فلا يعتبر الأخذ تاماً إلا إذا كان المنزل مكوناً من مساكن مختلفة والساحة مشتركة للجميع ففى هذه الحالة يعتبر الأخذ تاماً. أما إذا كان الحرز حرزاً بالحافظ فإنه يكفى لاعتبار الأخذ تاماً أن يفصل بالمسروق عن مكانه أو ينفصل به عن الحارس, فالنشال يعتبر أخذه تاماً بمجرد أخذه النقود من جيب المجنى عليه وبمجرد شق الجيب وسقوط النقود منه ولو على الأرض. 601- التعاون على الإخراج: الأصل أنه لا يقطع فى السرقة إلا   (1) شرح الزرقانى ج8 ص96. (2) بدائع الصنائع ج7 ص77, 78. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 الشخص الذى يخرج المسروق من الحرز سواء حمله إلى خارج الحرز أو رماه إلى الخارج, ولكن الكثيرين من الفقهاء جروا على قطع كل من تعاونوا على إخراج المسروق وإن كان بعضهم لم يحمل بالذات شيئاً؛ لأن الحمل والإخراج يعتبر حاصلاً منهم معنى لا مادة. وفى اصطلاح هؤلاء الفقهاء أن المعين على إخراج المسروق هو من يعين السارق على إخراج الشىء المسروق من الحرز سواء كانت الإعانة مادية أو معنوية, وهم يلحقون المعين على السرقة بمن يباشر السرقة ويعطونه حكمه لأن السارق وحده غالباً وإنما يتعاون مع غيره, فلو جعل القطع على المباشر وحده لانفتح باب السرقة وانسد باب القطع (1) . والفقهاء الذين يلحقون المعين بالمباشر متفقون على أن القطع على من يعين فقط فى إخراج الشىء المسروق من الحرز لأنه يعتبر مخرجاً له, فإن كان العون فى غير ذلك كاشتراك فى النقب أو كسر الباب أو فتحه بمفتاح مصطنع أو مساعدة على تسلق الحائط للدخول فى الحرز أو مساعدة فى حمل المسروقات بعد إخراجها من الحرز لم يقطع المعين على كل ذلك وأشباهه, فلو اتفق اثنان مثلاً على سرقة منزل وتعاونا على نقب الحائط ثم دخل أحدهما وبقى الآخر فى الخارج يرقب الطريق وأخرج الداخل المسروقات من الحرز مرة بعد أخرى دون أن يستعين بزميله وبعد إخراجها تعاونا على حملها, فالقطع على الداخل وحده وعلى الخارج التعزير؛ لأنه لا يعتبر معيناً على الإخراج ما دام لم يتعاون مع المباشر فى إخراج الشىء المسروق من الحرز. ومع أن الفقهاء يتفقون على ما سبق إلا أنهم اختلفوا فى الأفعال التى تعتبر إعانة بحيث لا يتفق مذهب مع آخر فى تحديد هذه الأفعال, وسنستعرض فيما يلى آراء المذاهب المختلفة فيمن يعتبر معيناً على إخراج المسروق. فمالك يرى أن المعين على الإخراج قد تحدث منه الإعانة وهو فى خارج   (1) بدائع الصنائع ج7 ص66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 الحرز وقد تحدث منه الإعانة وهو فى داخل الحرز. فأما الإعانة من خارج الحرز فمثله أن يضع الدخل المتاع المسروق فى وسط النقب ويمد الخارج يده لأخذه فتجتمع أيديهما فى النقب بموضع لم يخرجه الداخل من الحرز ولم يخرجه الخارج من الحرز وإنما هو بين, فإذا تناول الخارج المتاع على هذا الوجه فهو معين على إخراجه لأن فعل كل منهما لم يستقل بإخراج المسروق ولأن فعل كل منهما جاء مصاحباً لفعل الآخر. ومثل ذلك أن يربط الداخل المتاع بحبل يجره من فى الخارج فإذا فعل فهو معين على الإخراج. فالقاعدة إذن عند مالك أن الخارج يعتبر معيناً على الإخراج إذا كان فعل الداخل لا يجعله مستقلاً بالإخراج وإذا تصاحب فعلاهما فى حال الإخراج (1) . أما الإعانة من داخل الحرز فتكون بالتعاون فى حمل المسروق إلى خارج الحرز أو بالتعاون فى حمله على أحد السارقين أو بعضهم أو فى حمله على دابة وبشرط أن يكون هذا التعاون ضرورياً, كأن يكون المسروق ثقيلاً فلا يستطيع إخراجه إلا كثيرون أو لا يستطيع حمله شخص واحد إلا أن يضعه عليه اثنان أو ثلاثة أو أكثر, فإذا كان المسروق خفيفاً فحمله واحد فخرج به وهم معه أو أعانوه على حمله وهو يستطيع حمله دون إعانة كالثوب والصرة فلا إعانة لأن التعاون على الإخراج ليس ضرورياً ولا قطع إلا على من حمل المسروق فأخرجه. وإذا اقتضى إخراج المسروق التعاون فى حمله لإخراجه فالحاملون جميعاً مباشرون للسرقة ما دام أنهم قد حملوه حتى أخرجوه من الحرز, فإذا حملوه فوضعوه على شخص منهم أو على دابة فالمباشر هو مخرج والباقون معينون, وفى هاتين الحالتين يكفى لقطع المباشرين والمعينين أن تبلغ قيمة المسروق نصاباً واحداًً. وإذا اشترك كثيرون فى إخراج المسروقات من الحرز ولم تكن هناك ضرورة للتعاون وإنما أخرج كل منهم شيئاً يحمله وهم شركاء فى كل ما أخرجوه فالمخرجون جميعاً مباشرون ولا يقطع منهم إلا من بلغت قيمة ما أخرجه نصاباً,   (1) المدونة ج16 ص73, شرح الزرقانى ج8 ص106. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 ويعزر من أخرج دون النصاب. ولا يعتبر معيناً عند مالك من يدخل الحرز أو يبقى فى خارجه دون أن يأتى عملاً مادياً يشترك به فى إخراج المسروقات على الوجه الذى سبق بيانه, فمن وقف داخل الحرز ليحمى حامل المسروقات, أو ليمنع السكان من الحركة أو الاستغاثة, أو ليرشد اللصوص على مكان النقود, فإنه لا يعتبر مباشراً ولا معيناً ولا قطع عليه وإنما عليه التعزير (1) . ويشترط أبو حنيفة لاعتبار الشخص معيناً أن يدخل الحرز, فإن لم يدخل الحرز فلا يعتبر معيناً ولو ساعد فعله على إخراج المسروقات من الحرز. ورأيه هذا تطبيق آخر لنظريته فى هتك الحرز هتكاً متكاملاً. والمعين فى مذهب أبى حنيفة هو من دخل الحرز مطلقاً, سواء أتى عملاً مادياً عاون به على إخراج المسروقات كأن وضعها على ظهر آخر فأخرجها الآخر, أو أتى عملاً معنوياً يساعد على إخراج المسروقات من الحرز كوقوفه للحراسة أو لمنع الغوث أو للإشراف على نقل المسروقات من الحرز, ويعتبر مجرد وجوده داخل الحرز إعانة معنوية على إخراج المسروقات من الحرز ولو كانت الحالة لا تقتضى وجود المعين (2) . على أن الإعانة لا يجب فيها القطع فى مذهب أبى حنيفة إلا إذا خص كل مباشر وكل معين نصاب, فإذا كانت قيمة ما أخرج لا تكفى ليصيب كل منهم نصاباً فلا قطع وإنما التعزير (3) . وإذا اشترك جماعة فى سرقة فخرج كل منهم ببعض المسروقات وبعضهم يحمل ما قيمته نصاباً فأكثر وبعضهم يحمل أقل من نصاب فعليهم القطع جميعاً إذا كانت قيمة المسروقات فى مجموعها تكفى لأن يصيب كل منهم نصاباً (4) . وفى هذا يختلف مذهب مالك عن مذهب أبى حنيفة.   (1) المدونة ج16 ص68, 69, شرح الزرقانى ج8 ص96. (2) شرح فتح القدير ج4 ص244, بدائع الصنائع ج7 ص66. (3) بدائع الصنائع ج7 ص78, شرح فتح القدير ج4 ص225. (4) نفس المراجع السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 أما مذهب أحمد فيتفق أولاً مع مذهب مالك فى أن الإعانة قد تحدث من شخص خارج الحرز وقد تحدث ممن فى داخله, وكذلك يتفق المذهبان فى تحديد الإعانة من الخارج ولكنهما يختلفان فى الإعانة ممن فى الداخل. ويتفق مذهب أحمد مع مذهب أبى حنيفة فى الإعانة من الداخل فيعتبر معيناً عند أحمد كل من يدخل الحرز, سواء أتى عملاً مادياً كإعانة غيره على حلم المسروقات أو أتى عملاً معنوياً تمنع الغوث أو لم يأت عملاً ما. وفى مذهب أحمد يقطع المباشر والمعين إذا بلغت قيمة ما أخرج نصاباً واحداً, وإذا اشترك جماعة فى السرقة فليس من الضرورى أن يبلغ ما حمله كل منهم نصاباً بل يكفى أن يبلغ كل ما أخرجوه من الحرز نصاباً واحداً لا غير ليقطعوا به هم ومن أعانوهم على الإخراج, سواء من الداخل أو من الخارج. وفى هذا يخالف مذهب أحمد مذهبى مالك وأبى حنيفة (1) . أما فى مذهب الشافعى فلا يعترفون بالإعانة من خارج الحرز ولا بالإعانة من داخله, والمعين فى كل الأحوال عليه التعزير ولا قطع عليه, ويقطع الشافعى المشتركين فى السرقة بشرطين: أولهما: أن يشترك السارق فى إخراج المسروق من الحرز كأن يكون شيئاً ثقيلاً فيتعاون السارقون عل حمله لخارج الحرز أو أشياء متعددة فيحمل كل منهما شيئاً, فمن أخرج منهم شيئاً خارج الحرز فهو سارق. ثانيهما: أن يختص كل من السارقين نصاباً إذا وزعت عليهم قيمة كل ما أخرجوه بغض النظر عما أخرجه كل منهم, فقد يخرج أحدهم نصاباً أو أكثر وقد يخرج أقل من نصاب (2) . وإذا لم يشترك السارقون وكان كل منهم مستقلاً فى فعله وقصده عن الآخر فالعبرة بما يخرجه كلٌّ. فمن أخرج نصاباً قطع إذا توفرت الشروط الأخرى, ومن   (1) المغنى ج10 ص295, 296, كشاف القناع ج4 ص79. (2) المهذب ج2 ص249, 297, نهاية المحتاج ج7 ص421. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 أخرج أقل من نصاب لم يقطع (1) , ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع مذهب مالك فهم يرون قطع المعين من الخارج أو من الداخل بنفس الشروط وعلى الكيفية التى يراها المالكيون (2) . هذا هو حكم الإعانة على الإخراج فى مختلف المذاهب الإسلامية, وظاهر منه أن المعين على الإخراج يعتبر فاعلاً أصلياً للسرقة ويعاقب بالقطع كمباشر السرقة, أما الشريك بالاتفاق أو التحريض أو المساعدة كما نعرفه فى القوانين الوضعية فلا قطع عليه وعليه التعزير ما دام أنه لا يعين على إخراج المسروق من الحرز, والشريك على أحد هذه الوجوه يسمى فى الشريعة الإسلامية الشريك بالتسبب أما الفاعل الأصلى المشترك مع غيره فيسمى الشريك المباشر. 602- الأخذ بالتسبب: معناه أن لا يباشر السارق إخراج المسروقات من الحرز بنفسه وإنما يؤدى فعله بطريق غير مباشر إلى إخراج المسروقات, مثل أن يضع المسروق على ظهر دابة ويسوقها فتخرج منه من الحرز, أو يلقى بالمسروق فى ماء جار إلى خارج المنزل فيخرجه التيار, أو يرميه فى ماء راكد ثم يفتح مجرى الماء, أو يعرض المسروق لريح هابة فتطير المسروق إلى الخارج, أو يربطه على طائر ويطيره فيخرج المسروق, أو يأمر صغيراً أو معتوهاً بإخراج المسروق فيخرجه, أو أن يستتبع سَخْلَ شاة أو فصيل ناقة أو غيرها مثل أن يشترى الأم والسخل على ملك الغير فى حرز فيأتى بالأم إلى مكان السخل ويريه أمه حتى يتبعها, وكذلك العكس نحو أن يأتى فى مكان أمه وهى فى حرز مالكها حتى يستتبع الأم سخلها بأن يبعثه عليها حتى تتبعه, أو أشار لشاة فى الحرز بالعلف حتى خرجت إليه فأخذها (3) . والأخذ بالتسبب كالأخذ المباشر عقوبته القطع بشرط أن تتم شروط   (1) أسنى المطالب ج4 ص138, نهاية المحتاج ج7 ص421. (2) شرح الأزهار ج4 ص366, 368. (3) كشاف القناع ج4 ص80, نهاية المحتاج ج7 ص437, أسنى المطالب ج4 ص148, شرح الأزهار ج4 ص367, مواهب الجليل ج6 ص308, شرح فتح القدير ج4 ص243. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 الأخذ فيخرج المسروق من حرزه ومن حيازة المجنى عليه ويدخل فى حيازة الجاني, ويراعى فى الأخذ بالتسبب ما سبق ذكره من وجوه الخلاف بين الفقهاء وعلى الأخص نظرية أبى حنيفة فى هتك الحرز هتكاً متكاملاً ونظريته فى المعترض, فمثلاً فى حالة استتباع السخل أو تفصيل يرى أبو حنيفة أن الأخذ غير تام لأن الجانى لم يهتك الحرز هتكاً متكاملاً, ويخالفه أبو يوسف فى هذا ويرى كما يرى فقهاء المذاهب الأخرى بأن الأخذ تام. وفى حالة وضع المسروق فى ماء جار وعثور آخر عليه وأخذه, برى أبو حنيفة أن الأخذ غير تام لأن يداً اعترضت يد السارق. ويشترط فى الأخذ خفية أن يفعل الحيازة كاملة دون حق من المجنى عليه للجانى أى أن ينقل الحيازة بعنصريها المادى والمعنوى عنصر التبعة وعنصر الملك, فإن نقل أحد العنصرين دون الآخر ولو بغير حق فلا يعتبر الفعل سرقة, فالمعير الذى يأخذ متاعه خفية عن المستعير, والمؤجر الذى يأخذ متاعه خفية عن المستأجر, والأصيل الذى يأخذ متاعه خفية عن الوكيل, والمودع الذى يأخذ متاعه خفية عن المودع لديه, والراهن الذى يأخذ المرهون خفية عن المرتهن, والمشترى الذى يأخذ المبيع خفية عن البائع ولو أن ميعاد لتسليم لم يحل بعد, والمستأجر أو المرتهن أو المودع لديه أو المستعير الذى يأخذ الشىء المؤجر أو المرهون أو المودع أو المعار فى خفية عن المالك, والمشترى الذى يأخذ المبيع قبل تسليم الثمن أو فى زمن الخيار, والموهوب له الذى يأخذ ما وهب له خفية -كل هؤلاء لا يعتبر أحدهم آخذاً خفيه لأن أخذه لا ينقل إلا أحد عنصرى الحيازة فقط (1) . ويشترط فى المسروق أن يكون مما هو خالص لغيره أى ليس للسارق فيه ملك ولا حق بل المستحق له غيره. ويشترط فى الأخذ خفية أن يكون الشىء   (1) بدائع الصنائع ج7 ص70, مواهب الجليل ج6 ص307, شرح الزرقانى ج8 ص97, أسنى= =المطالب ج4 ص138, كشاف القناع ج4 ص77, 79, المغنى ج10 ص277, شرح الأزهار ج4 ص365. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 المسروق فى يد المجنى عليه أو أى شخص آخر يقوم مقامه كالمستأجر والمستعير كما يشترط أن لا يكون فى يد الجانى ولا تحت سلطانه, فإذا كان الشىء فى يد الجانى أو تحت سلطانه من قبل فلا يعتبر الفعل السرقة تقتضى الأخذ خفية والأخذ خفية لا يكون إلا من يد المجنى عليه أو من يمثله, ولا يعتبر الجانى آخذاً خفية إذا كان يمثل المجنى عليه فى حيازة الشىء أو كان المجنى عليه قد مكنه من الشىء ومنحه سلطة عليه, وعلى هذا لا يعتبر الوكيل سارقاً لأنه يمثل المجنى عليه, ولا يعتبر الخادم سارقاً مما وضع فى يده أو أمكن منه ومنح سلطة عليه. وما يشترط فى الشريعة من أن ينقل الآخذ الحيازة كاملة بعنصريها المادى والمعنوى هو نفس النظرية التى قال بها جارسون لتحديد الأفعال التى تعتبر سرقة. فهو يفرق بين الحيازة الكاملة التى تشمل الركن المادى والركن المعنوى للحيازة وهى حيازة المالك, وبين الحيازة المؤقتة التى تشمل الركن المادى فقط كحيازة المستأجر والمرتهن والمستعير, كما يفرق بين هذين الفرعين من الحيازة وبين اليد المعارضة التى لا تمنح صاحبها أى حق أو سلطة على شىء. ويعرف جارسون الاختلاس وهو الفعل المادى المكون للسرقة بأنه الاستيلاء على حيازة الشىء الكاملة, أو هو اعتيال الحيازة ركنيها المادى والمعنوى. فالنظرية التى وصل إليها الفقه والقضاء أخيراً وتولى تنظيمها وشرحها جارسون هى نظرية الفقه الإسلامى. 603- التسليم ينفى الأخذ خفية: واضح من كل ما سبق أن التسليم يمنع من القول بأن الشىء أخذ خفية لأن الأخذ يقتضى أن يؤخذ الشىء من يد المجنى عليه أو من يمثله دون علمه ودون رضاه معاً, والتسليم يجعل المجنى عليه عالماً بأخذ الشىء سواء توفر الرضاء أو انعدم, ويستوى أن يكون المجنى عليه راضياً بالتسليم أو مكرهاً عليه, فالفعل فى الحالين ليس سرقة. وإن كان من الممكن أن يكون الفعل حرابة فى حالة الإكراه إذا توفرت بقية أركان جريمة الحرابة؛ لأن جريمة الحرابة لا يشترط فيها الأخذ خفية وإنما يكون الأخذ فيها مغالبة, ويمنع التسليم من توفر ركن الأخذ خفية سواء نقل التسليم الحيازة كاملة أو ناقصة أو ترتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 عليه تمكين الجانى من الشىء أو منحه سلطة عليه كحالة الطباخ مثلاً تسلم إليه أدوات المطبخ لاستعمالها. ويسوى أن يكون التسليم ناشئاً عن خطأ أو عن غش أو قصد به مجرد تمكين الجانى من الاطلاع على الشىء المسروق أو التفرج عليه أو فحصه. ففى هذه الحالات جميعاً يمنع التسليم من اعتبار الشىء مأخوذاً خفية لأن الأخذ خفية يجب أن يكون بغير علم المجنى عليه وبغير رضاه معاً, وإذا كان لم يمكن اعتبار الشىء الذى سلم للجانى للفحص والتفرج والاطلاع مسروقاً طبقاً للشريعة فإن هذا الشىء يمكن اعتباره مختلساًَ طبقاً للشريعة. والاختلاس كما قلنا نوع من السرقة لا يشترط فيه العلم ويشترط فيه عدم الرضاء فقط وعقوبته التعزير لا القطع. والاختلاس فى الشريعة يتفق فى شروطه وأحكامه مع شروط وأحكام جريمة السرقة فى قانونى العقوبات المصرى والفرنسى. ولا يعتبر الفعل سرقة إذا تسلم الجانى المبيع على أن يدفع ثمنه فوراً فأخذه وهرب, أو إذا تسلم ورقة مالية أو قطعة نقود كبيرة ليصرفها نقوداً صغيرة فأخذها وهرب, والمانع من اعتبار الفعل سرقة هو التسليم لأن فى التسليم علم المجنى عليه بالفعل والعلم يمنع من تكون ركن الأخذ خفية, وإذا كان الفعل لا يعتبر سرقة فمن الممكن أن يعتبر اختلاساً طبقاً لقواعد الشريعة. وإذا كان التسليم ممن لا شعور له أو اختيار, كسكران أو مجنون أو طفل غير مميز, فإنه يمنع أيضاً من تكون ركن الأخذ خفية لأن فقد الشعور والاختيار إذا كان يمنع من حصول التسليم اختياراً فإنه لا يمنع غالباً من العلم بحصول التسليم, وإذا توفر العلم بالأخذ انعدم أحد أركان السرقة وهو الأخذ خفية, وحتى إذا أمكن القول بأن علم الصغير والمجنون والسكران غير معتبر فإن هذا العلم غير المعتبر يكون شبهة تدرأ الحد فلا يقطع الجانى ويكتفى فى عقابه بالتعزير. وتمكين الجانى من الشىء أو السماح له بدخول محل المسروق فى حكم تسليم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 الشىء المسروق إلى الجاني, فالسرقة التى تقع من العمال أو الخدم والنزلاء وما أشبه لا قطع فيها إذا كانت السرقة واقعة على شىء فى المحل الذى يعمل فيه الخادم أو العامل أو يدخله النزيل أو فى المحلات المصرح لهم بدخولها؛ لأن الإذن للعامل والخادم والنزيل بدخول المحل يبطل الحرز فيكون الأخذ أخذاً من غير حرز ومن ثم لا تتم شروط الأخذ خفية وتكون السرقة سرقة مال غير محرز, ولا قطع فى سرقة المال غير المحرز وإنما فيها التعزير, وسنعود للكلام على هذه النقطة بتوسع بمناسبة الكلام عن الحرز. وإذا أخذ المكلف بنقل الأشياء بعض ما كُلِّف بنقله فعمله لا يعتبر سرقة فى الشريعة الإسلامية وإنما يعتبر تبديداً لأنه تسلم الشىء بمقتضى عقد من عقود الأمانة, وإذا فرض أنه تسلمه بغير عقد فإن التسليم فى ذاته يمنع من تكون ركن الأخذ خفية لأن التسليم يقتضى العلم بالأخذ وشرط الأخذ خفية أن يتم دون علم ورضاء المجنى عليه, فالعقوبة إذن على أى فرض هى عقوبة التعزير وكل جريمة عقوبتها التعزير فى الشريعة الإسلامية يصح للهيئة التشريعية أن تجعلها فى حكم جريمة أخرى إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة, فيصح اعتبار الاختلاس الحاصل عن محترفى النقل فى حكم السرقة وإن كانت القواعد العامة تجعله تبديداً. ومن هذا يتبين أنه لا اختلاف بين الشريعة والقانون المصرى فى هذه النقطة؛ لأن القواعد القانونية العامة ذاتها تجعل الجريمة تبديداً ولكن المشرع أعطاها حكم السرقة أو اعتبر الفعل سرقة تشديداً على محترفى النقل ولم يعتبر التسليم الحاصل للجانى مع أن التسليم يمنع من تكون ركن الاختلاس طبقاً للقانون, والاختلاس فى القانون يقابل الأخذ خفية فى الشريعة كما يقابل الاختلاس فى الشريعة أيضاً. ويشترط ليكون الأخذ تاماً يقطع فيه أن يكون فى عام المجاعة وزمن القحط لأن الضرورة تبيح التنازل من مال الغير بقدر الحاجة فإذا سرق المحتاج ما يأكله فلا قطع عليه لأنه كالمضطر, وقد روى عن مكحول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطع فى مجاعة مضطر", ويشترط فى الآخذ أن لا يجد ما يشتريه أو لا يجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 ما يشترى به وأن لا يأخذ أكثر من حاجته (1) . فأما الواجد لما يأكله أو الواجد لما يشترى به وما يشتريه فعليه القطع وإن كان بالثمن الغالى. والقاعدة فى الشريعة أن للمضطر أن يأخذ ما يقيم حياته من غيره إذا لم يكن فى حاجة إليه, وإن احتاج الأمر إلى قتال قاتله عليه, فإن قتل المضطر فقاتله مسئول جنائياً عن قتله ولا يعتبر فى حالة دفاع, وإن قتله المضطر فهو هدر لأنه ظالم بقتاله المضطر فأشبه القاتل. ولكن ليس للمضطر أن يسرق شيئاً أو أن يقاتل على شىء كلما استطاع أن يأخذه بشراء أو استرضاء مهما تغالى صاحب الشىء فى الثمن لأن المضطر لا يلزمه شرعاً إلا ثمن المثل (2) . ويشترط أبو حنيفة ليكون الأخذ تاماً يقطع فيه أن يكون الأخذ فى دار العدل, فلا قطع عنده على من سرق فى دار الحرب أو دار البغى ولو كان المجنى عليه والجانى من أهل دار العدل؛ لأن السرقة تقع فى مكان لا ولاية للإمام عليه والقضاء بالعقوبة يقتضى الولاية على مكان الجريمة ومن ثم لا تعتبر السرقة فى دار الحرب أو دار البغى سبباً لوجوب القطع (3) . هذا ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع مذهب أبى حنيفة فى هذه المسألة (4) . أما المذهب الظاهرى فيتفق مع مذهب الأئمة الثلاثة (5) , ومذهب أبى حنيفة يخالف المذاهب الأخرى فى هذه الناحية حيث يرى بقية الفقهاء قطع السارق على السرقة فى دار الحرب أو دار البغي (6) , ويرى أبو حنيفة ومحمد أن لا يقطع المستأمن   (1) المهذب ج2 ص299, كشاف القناع ج4 ص83, المغنى ج10 ص288, المحلى ج11 ص343, شرح فتح القدير ج4 ص229. (2) المغنى ج11 ص80, أسنى المطالب ج1 ص572, مواهب الجليل ج3 ص243, حاشية ابن عابدين ج5 ص296. (3) بدائع الصنائع ج7 ص80. (4) شرح الأزهار ج4 ص334, 552. (5) المحلى ج11 ص360 وما بعدها. (6) مواهب الجليل ج3 ص355, 365, المدونة ج16 ص91, المهذب ج2 ص358, المغنى ج10 ص439, 537، يراجع التشريع الجنائى ج1 ص243, 251. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 فى سرقة مال المسلم أو الذمى لأنه أخذه على اعتقاد الإباحة ولأنه لم يلتزم أحكام الإسلام, وعند أبى يوسف يقطع (1) , ويرى مالك قطع المستأمن وكل معاهد (2) , وحجته أن حد القطع لله (3) , وفى مذهب الشافعى وأحمد ثلاثة آراء أحدها وهو المرجوح يتفق مع رأى أبى حنيفة, والثانى وهو الراجح يتفق مع رأى مالك (4) , والثالث بأنه إذا اشترط قطعه للسرقة قطع لأنه يصبح ملتزماًً بالأحكام, على أن القائلين بعدم قطع المستأمن يسلمون بأنه لا قطع فى سرقة ماله (5) . * * * الركن الثانى: أن يكون المأخوذ مالا ً 604- يجب أن يكون الشىء المسروق مالاً, ولا محل للسرقة فى الوقت الحاضر إلا المال, أما قبل لإبطال الرق فكان العبيد والإماء فى الشريعة محلاً للسرقة باعتبارهم مالاً من وجه يمكن التصرف فيه ككل مال, وإن كانوا من وجه آخر آدميين, وهكذا كان الشأن فى القوانين الوضعية أيضاً. أما بعد إبطال الرق فلا يمكن أن يكون الإنسان محلاً للسرقة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد, وهذا رأى فى مذهب الشيعة الزيدية, أما مالك والظاهريون فيرون أن الطفل غير المميز محل للسرقة ولو كان حراً وعلى من يأخذه عقوبة القطع كسارق المال, وهذا رأى آخر فى مذهب الشيعة الزيدية, ومع أن هؤلاء يعترفون بأن السرقة لا تقع إلا على المال فإنهم يستثنون الطفل غير المميز ويجعلون   (1) بدائع الصنائع ج7 ص71. (2) المدونة ج16 ص75. (3) مواهب الجليل ج 6 ص 312. (4) المغنى ج 10 ص 276, كشاف القناع ج 4 ص 85, نهاية المحتاج ج 7 ص 440. (5) نهاية المحتاج ج7 ص440, أسنى المطالب ج4 ص150. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 خطفه فى حكم سرقة المال (1) . 605- ويشترط فى المال المسروق شروط يجب توافرها جميعاً ليقطع فيه السارق, وهذه الشروط هى: (1) أن يكون مالاً منقولاً. ... ... (2) أن يكون مالاً متقوماً. (3) أن يكون مالاً محرزاً. ... ... (4) أن يبلغ المال نصاباً. 606- أولاً: أن يكون مالاً منقولاً: يجب أن تقع السرقة على مال منقول لأن السرقة تقتضى نقل الشىء وإخراجه من حرزه ونقله من حيازة المجنى عليه إلى حيازة الجانى وهذا لا يمكن إلا فى المنقولات فهى بطبيعتها التى يمكن نقلها من مكان إلى آخر. ويعتبر المال المسروق منقولاً كلما كان قابلاً للنقل، فليس من الضرورى أن يكون المال منقولاً بطبيعته بل يكفى أن يصير منقولاً بفعل الجانى أو بفعل غيره, فمن استل أخشاباً من سقف منزل أو هدم حائطاً وأخذ من أنقاضه فهو سارق لمنقول ولو أن المنزل يعتبر عقاراً؛ لأن سل الأخشاب وهدم الحائط يجعل الأخشاب والأنقاض منقولة والأرض عقار بطبيعتها فمن أخذ منها تراباً أو أحجاراً أو أخذ من جوفها فحماً أو معادن أو ما أشبه يعتبر سارقاً لمنقول (2) . ويشترط أن يكون المنقول مادياً كالنقود والأخشاب, ويستوى أن يكون المنقول صلباً كالحديد أو سائلاً كالماء أو غازياً كغاز الاستصباح, أما الأموال المعنوية فلا يمكن أن تكون محلاً للسرقة لأنها حقوق مجردة وليست قابلة بطبيعتها للنقل من مكان لآخر سواء كانت حقوقاً شخصية أو عينية, ولا شك   (1) شرح الزرقانى ج8 ص94, 103, المحلى ج11, ص337, شرح الأزهار ج4 ص369, بدائع الصنائع ج7 ص67, أسنى المطالب ج4 ص147, نهاية المحتاج ج7 ص438, المغنى ج10 ص245. (2) أسنى المطالب ج4 ص147, كشاف القناع ج4 ص83, شرح الزرقانى ج8 ص102, بدائع الصنائع ج7 ص68, 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 أن الأوراق المثبتة لهذه الحقوق المعنوية تعتبر فى ذاتها منقولاً ومن ثم يمكن سرقتها, وتقع السرقة فى هذه الحالة على الأوراق لا على ما تضمنه من حقوق. وليس فى الشريعة ما يمنع من أن يكون القوى الطبيعية والأشياء المباحة أصلاً محلاً للسرقة كالضوء والحرارة والبرودة والماء والهواء, والعبرة فى ذلك كله وأشباهه بإمكان احتياز الشىء والتسلط عليه, فكل من استطاع أن يحتاز شيئاً من هذه الأشياء المباحة الأصل يصبح مالكاً لها وإن كان احتياز هذه الأشياء وأمثالها والتسلط عليها يجعلها منقولاً يعاقب على سرقته ما يعاقب على سرقة أى منقول آخر, وعلى هذا فليس ثمة ما يمنع من اعتبار الكهرباء محلاً للسرقة لأن احتيازها والتسلط عليها ونقلها من مكان إلى آخر فى حيز الإمكان. 607- ثانياً: أن يكون مالاً متقوماً: بصفة مطلقة, فإن كانت قيمته نسبية فلا قطع فى سرقته والعقوبة عليه التعزير, فالخمر ولحم الخنزير مثلاً لا قيمة لهما عند المسلم ولكن لهما قيمتهما عند غير المسلم ومن ثم كانت قيمتهما نسبية لا مطلقة, وهذا النقص فى القيمة هو الذى منع من القطع لأنه شبهة ووجه الشبهة عدم المالية أو عدم التقوم, والحدود تدرأ بالشبهات, ويستوى أن يكون صاحب المال مسلماً أو غير مسلم وأن يكون السارق مسلماً أو غير مسلم؛ لأن العبرة ليست بالمالك أو السارق وإنما العبرة بتقوم المال أو عدم تقومه (1) . وتعبير المال المتقوم هو ما يعبر به الحنفية. أما الأئمة الثلاثة فيعبرون عن هذا المعنى بعبارة المال المحترم, ويشترط الزيدية أن يكون المال مما يجوز تملكه, والظاهريون يعبرون بمثل هذا التعبير فيقولون: مال له قيمة ومال لا قيمة له (2) , وكل هذه العبارات تؤدى معنى واحداً.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص69, نهاية المحتاج ج7 ص421, أسنى المطالب ج4 ص139, شرح الزرقانى ج8 ص97, المغنى ج10 ص282, كشاف القناع ج4 ص77, شرح الأزهار ج4 ص365. (2) المحلى ج11 ص334. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 ويشترط أبو حنيفة فوق شرط التقوم أن يكون الشىء المسروق مما يتموله الناس ويعدونه مالاً يضنون به, لأن ذلك يشعر بعزته وخطره عندهم, فإن كان مما لا يتموله الناس فهو تافه وحقير, وحجته فى ذلك حديث عائشة رضى الله عنها: "لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله فى الشىء التافه" (1) . ويجعل أبو حنيفة التفاهة شبهة فى المال تدرأ الحد عن سارقه وتوجب التعزير بدلاً من القطع. ويترتب على رأيه هذا أن لا قطع فى التبن والحشيش والقصب والحطب وأشباهها, لأن الناس لا يتمولون هذه الأشياء عادة ولا يضنون بها لعدم عزتها وقلة خطرها ويعدون الضن بها من باب الخساسة فهذا مصدر تفاهتها, كذلك لا قطع عند أبى حنيفة فى سرقة التراب والطين والحصى واللبن والفخار وما شابهها لتفاهتها (2) . ويعتمد أبو حنيفة على عرف الناس وعاداتهم فى بيان الشىء التافه من الشىء غير التافه, على أنه يسلم بأن الشىء التافه قد يصبح للصناعة ذا قيمة كالقصب يصنع منه النشاب, فإذا أخرجت الصناعة الشىء التافه عن تفاهته كان القطع واجباً فى سرقته (3) . ولكن أبا يوسف من فقهاء مذهب أبى حنيفة يرى القطع فى كل مال محرز تبلغ قيمته نصاباً إلا التراب والسرجين, وفى رواية أخرى عنه: إلا فى الماء والتراب والطين والحصى والمعازف؛ لأن السارق يسرق مالاً متقوماً من حرز لا شبهة فيه. ودليل المالية والتقوم هو أولاً جواز بيع المال وشرائه, وهو ثانياً وجوب ضمان القيمة على غاصب المال, فكل ما جاز بيعه وشراؤه ووجب على غاصبه ضمانه فهو مال متقوم يقطع فيه إذا سرق من حرزه (4) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص67. (2) بدائع الصنائع ج7 ص67, 68, شرح فتح القدير ج4 ص226. (3) شرح فتح القدير ج4 ص232, بدائع الصنائع ج7 ص68. (4) شرح فتح القدير ج4 ص227. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 ويرى أبو حنيفة ومعه محمد من فقهاء المذهب أن كل ما يوجد جنسه تافهاً ومباحاً فلا قطع فيه, لأن كل ما كان كذلك فلا عز له ولا خطر ولا يتموله الناس. ولكن غيرهما من فقهاء المذهب يرون الاعتماد على التفاهة دون الإباحة لأن الذهب والفضة واللآلئ والجواهر مباحة الجنس ولا شك أن فيها القطع (1) . ويرى أبو حنيفة أن لا قطع فى سرقة ميتة أو جلدها لانعدام المالية؛ أى لأنها لا تعتبر مالاً, ولا فى سرقة كلب لاختلاف العلماء فى ماليته, ولا فى أدوات الملاهى من طبل ودف ومزمار ونحوها لأن هذه الأشياء مما لا يتموله الناس عادة أو لأن فى ماليتها قصوراً لكراهة الاشتغال بها (2) . وعند أبى حنيفة أن لا قطع فى سرقة طير ولا صيد وحشاً كان أو غيره, ولا فيما علم من الجوارح كالبازى والصقر لأن الطيور والوحوش مباحة الأصل ولا يتم إحرازها فى الناس عادة ولأنها تأتى عن طريق الاصطياد وهو مباح, فضلاً عن أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصيد لمن أخذه" يورث شبهة والقطع يندرئ بالشبهة, كذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطع فى الطير" (3) . كذلك يرى أبو حنيفة أن لا قطع فيما لا يحتمل الادخار ويتسارع إليه الفساد ولا يبقى من سنة إلى سنة. فلا قطع عنده فى سرقة الطعام الرطب والبقول والفواكه الرطبة واللحم والخبز والرياحين وما أشبه, ولا قطع فى سرقة شطرنج ذهب أو فضة أو صليب أو صنم لأنه يتأول أن السارق يأخذها لكسرها, أما الدراهم التى عليها تماثيل فيقطع فيها لأنها لا تعتبر عادة فلا تأويل له فى الأخذ للمنع من العبادة (4) ؛ لأن ما لا يحتمل الادخار يقل خطره عند الناس فيعتبر تافهاً. ولا قطع عند   (1) شرح فتح القدير ج4 ص226, بدائع الصنائع ج7 ص69. (2) شرح فتح القدير ج4 ص232, بدائع الصنائع ج7 ص67. (3) بدائع الصنائع ج7 ص68, شرح فتح القدير ج4 ص227, 232. (4) بدائع الصنائع ج7 ص72, شرح فتح القدير ج4 ص230, 231. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 أبى حنيفة فى سرقة المصحف وكتب الأحاديث واللغة والشعر لأنها تدخر للقراءة لا للتمول ويقصد منها الوقوف على ما يتعلق به مصلحة الدين والدنيا والعمل به، لكن أبا يوسف يرى القطع فى هذه جميعاً كلما بلغت نصاباً لأن الناس يدخرونها ويعدونها من نفائس الأموال، أما دفاتر الحساب والدفاتر البيضاء فلا خلاف فى المذهب على أن فيها القطع إذا بلغت نصاباً لأن المقصود فيها هو الورق الأبيض (1) . ويرى أبو حنيفة أن لا قطع فى سرقة ما يتبع ما لا قطع فيه كالحلية على المصحف تبلغ نصاباً، وكسرقة آنية فيها خمر وقيمة الآنية تزيد على النصاب، ولكن أبا يوسف يخالفه ويرى القطع، وهو مذهب مالك والشافعي (2) . ولكن أبا يوسف من فقهاء المذهب يخالف أبا حنيفة ويرى القطع فيما لا يحتمل الادخار ويتسارع إليه الفساد؛ لأن السرقة وقعت على مال متقوم فى حرز لا شبهة فيه، ودليل المالية والتقوم هو جواز البيع والشراء فى المال ووجوب ضمان القيمة على غاصبه ومتلفه (3) . ويطبق أبو حنيفة المبدأ السابق تطبيقاً واسعاً فيرى أن سرقة الثمار المعلقة فى أشجارها أو نخيلها لا قطع فيها ولو كانت محرزة بحائط أو بحافظ لأن الثمر ما دام فى شجره يتسارع إليه الفساد. فإذا قطع الثمر ووضع فى جرن ثم سرق بعد ذلك فإن كان قد استحكم جفافه ففيه القطع لأنه صار قابلاً للادخار ولا يتسارع إليه الفساد بالجفاف، وإن لم يكن استحكم جفافه فلا قطع فيه لأنه مما يتسارع إليه الفساد ولا يقبل الادخار بحالته الراهنة، ويستعين أبو حنيفة فى تأييد رأيه بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع فى ثمر ولا كَثَر حتى يؤويه الجرين، فإذا آواه فبلغ ثمن المجن ففيه القطع".   (1) بدائع الصنائع ج7 ص68. (2) شرح فتح القدير ج4 ص229، 231. (3) بدائع الصنائع ج7 ص69، شرح فتح القدير ج4 ص227. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 والمحصولات الزراعية كالقمح والشعير والذرة هى بمنزلة الثمر المعلق عند أبى حنيفة فلا قطع فيها حتى يؤويها الجرين ويستحكم جفافها، وهذا يتفق مع ما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب بغية من ذى حاجة غير متخذ خفية فلا شىء عليه، ومن أخرج بشىء منه فعليه غرامة مثله، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" (1) . والفاكهة اليابسة التى تبقى من سنة إلى سنة فيها القطع عند أبى حنيفة، فإن لم تكن تبقى من سنة إلى سنة فلا قطع فيها لأنها تعتبر مما لا يقبل الادخار ويتسارع إليه الفساد. ولا يقطع أبو حنيفة فى السمك طرياً كان أو مالحاً، لأن الطرى يتسارع إليه الفساد والمالح مال تافه مباح الأصل، ولا يقطع كذلك فى اللبن لأنه يتسارع إليه الفساد ولكنه يقطع فى الخل لأنه لا يتسارع إليه الفساد، ويقطع فى الذهب والفضة والجواهر واللآلئ وفى الحبوب الجافة كلها وفى الطيب والعود والمسك وما أشبه، ويقطع فى الكتان والصوف وما أشبه، كما يقطع فى الحديد والنحاس والرصاص وما أشبه، سواء كانت آنية أو مادة خاماً. وهكذا نستطيع أن نتبين أن أبا حنيفة يعول فى عدم القطع على شيئين: أولهما: التفاهة وعدم المالية، ويعتبر الشىء تافهاً عند أبى حنيفة إذا كان مما لا يتموله الناس كالميتة، أو كان مما لا يضن به الناس لعدم عزته وقلة خطره عندهم كالتبن والحطب، أو كان مما يتسارع إليه الفساد ولا يحتمل الادخار من سنة إلى سنة. ثانيهما: عدم التقوم فكلما كان المال متقوماً بصفة مطلقة وغير تافه ففيه القطع، فإذا لم يكن متقوماً فلا قطع فيه كالخمر والخنزير فلا قطع فيهما لعدم التقوم (2) . ويلاحظ أن إباحة الجنس فى ذاتها لا تمنع من القطع إذا لم يكن المال تافهاً كالذهب والفضة فكلاهما مباح الأصل ولكنه لما لم يكن تافهاً وجب فيه القطع،   (1) شرح فتح القدير ج4 ص227، 228، بدائع الصنائع ج7 ص69. (2) بدائع الصنائع ج7 ص69، 70. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 أما إذا كان المال تافهاً كالسمك والملح فلا قطع فيه لتفاهته. فالعبرة فى القطع وعدمه بالتفاهة وليست بإباحة الجنس، وهذا هو الرأى الراجح فى مذهب أبى حنيفة (1) . ولا يرى فقهاء المذاهب الأخرى رأى أبى حنيفة فى أن التفاهة تمنع من القطع، والقاعدة العامة عندهم أن كل ما يمكن تملكه ويجوز بيعه وأخذ العوض عنه يجب القطع فى سرقته (2) . ولكنهم اختلفوا فى تطبيق هذه القاعدة وسنبين فيما يلى حدود هذا الاختلاف. فمالك يرى القطع فى كل مال أياً كان ولو كان محقراً فى نظر الناس كالماء والحطب ونحو ذلك مما أصله مباح للناس لأنه متمول يجوز تملكه ويجوز بيعه وأخذ العوض عنه، ويستوى بعد ذلك أن يكون مباحاً للناس أو غير مباح ما دام المجنى عليه قد حازه فى حوزه الخاص كما يستوى أن يكون معرضاً للفساد أو غير معرض (3) . ويرى مالك القطع فى سرقة الجوارح طيوراً أو سباعاً إذا بلغت قيمة أحدها النصاب ولو كانت لا تبلغ هذه القيمة إلا لتعليمها الصيد لأن تعليم الصيد منفعة شرعية فإذا لم تكن معلمة فالقطع إذا بلغت قيمة لحم الطير وريشه النصاب، وإذا بلغت قيمة جلد السبع النصاب، ولا تراعى قيمة لحم السبع لكراهته أو للقول بحرمته، وعلى هذا فسارق جلد السبع يقطع، وسارق لحمه فقط لا يقطع (4) . ويرى القطع فى جلد الميتة سواء كانت الميتة مما يؤكل أو لا يؤكل، ولكن بعد الدبغ وبشرط أن يزيد الدباغ فى قيمة الجلد نصاباً وإلا فلا قطع (5) . ولا يرى مالك القطع فى الطيور المحببة كالبلبل والببغاء وأشباههما إلا إذا كان لحمها وريشها يساوى نصاباً، فإن كانت لا تساوى النصاب إلا لإجابتها فلا قطع لأن الإجابة ليست منفعة شرعية (6) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص69، شرح فتح القدير ج4 ص226. (2) بداية المجتهد ج2 ص367. (3) شرح الزرقانى ج8 ص95. (4) شرح الزرقانى ج8 ص95. (5) شرح الزرقانى ج8 ص95. (6) شرح الزرقانى ج8 ص96. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 ولا قطع عند مالك فى مال غير محترم كالخمر ولحم الخنزير ولو سرقها ذمى مهما بلغت قيمتها، وكأدوات الملاهى فلا قطع فيها إلا إذا بلغت قيمتها نصاباً بعد كسرها (1) . ولا قطع فى سرقة الكلب معلماً أو غير معلم مهما بلغت قيمته لحرمة ثمنه. ولا قطع فى الثمر المعلق عند مالك ولا فى الزرع قبل حصده فإذا جد الثمر وحصد الزرع فلا قطع فى السرقة إلا إذا وضع فى الجرين على رأى أو كدس أكواماً بعد حصده حتى يصير كالشىء الواحد. وإذا كانت الثمار فى بستان عليه حائط وله غلق فسرق منها وهى لا تزال معلقة فى الشجر ففيها القطع على رأى ولا قطع فيها على رأى آخر، والقائلون بالقطع يحتجون بأن الثمار أصبحت فى حرز، وإذا كانت الشجرة المثمرة فى داخل الدار فالسرقة من ثمرها المعلق بلا خلاف لأن السرقة من حرز (2) . وإذا سرق ما ليس فيه قطع حالة كونه متصلاً بما فيه القطع اعتبرت قيمة ما فيه القطع، فإذا بلغ نصاباً قطع السارق، كسرقة الخمر فى إناء من الذهب، فالخمر لا قطع فيه ولكن إناء الذهب فيه القطع إذا بلغت قيمته بدون الخمر نصاباً (3) . ويقطع مالك فى سرقة المصحف لأنه مال مملوك ويجوز بيعه (4) . أما الشافعى فمذهبه لا يكاد يختلف شيئاً عن مذهب مالك إذ يرى القطع فى كل مال ولو كان محقراً كالحطب والحشيش والتراب، أو مباح الأصل كالصيد والطير والماء، أو معرضاً للتلف كالطعام والثمار والفاكهة. ويرى القطع فى المصحف والكتب العلمية والأدبية النافعة المباحة فإذا لم تكن مباحة قُوِّم ورقها وجلدها فإن بلغا نصاباً قطع به السارق (5) . ولا يقطع الشافعى فى مال غير محترم؛ أى غير متقوم، كالخمر والخنزير والكلب   (1) شرح الزرقانى ج8 ص97. (2) شرح الزرقانى ج8 ص105. (3) شرح الزرقانى ج8 ص97. (4) المدونة ج16 ص77. (5) أسنى المطالب ج4 ص141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 وجلد الميتة قبل دبغه (1) . ولا يقطع الشافعى فى الثمر المعلق حتى يؤويه الجرين فإذا آواه الجرين ففيه القطع. ويقطع الشافعى فى آلات اللهو وفى آنية الذهب والفضة إذا بلغت قيمة المسروق نصاباً بعد كسره أو إفساده (2) . وإذا سرق السارق ما لا قطع فيه متصلاً بما فيه قطع اعتبرت قيمة ما فيه القطع دون ما لا قطع فيه (3) . والقاعدة فى مذهب أحمد أن القطع واجب فى كل مال بغض النظر عما إذا كان تافهاً أو مباح الأصل أو معرضاً للتلف، ولكنهم يستثنون من هذه القاعدة: 1- الماء: فسرقة الماء لا قطع فيه لأنه مما لا يتمول عادة؛ أى أنه لا يباع ولا يشترى فى العادة. 2- الكلأ والملح: وفيهما خلاف، فبعض فقهاء المذهب يرون القطع فيهما لأنهما مما يتمول عادة، والبعض لا يرى القطع فيهما لأنهما مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه. 3- الثلج: ويرى البعض القطع فيه لأنه يتمول عادة، ويرى البعض أنه لا قطع فيه لأنه ماء جامد قيأخذ حكم الماء. 4- التراب: وحكمه أنه إذا كانت تقل الرغبات فيه كالذى يعد للتطين والبناء فلا قطع فيه لأنه لا يتمول، وإن كان مما له قيمة كثيرة كالطين الأرضى الذى يعد للدواء أو الغسل أو الصبغ احتمل وجهين: أحدهما: لا قطع فيه لأنه من جنس ما لا يتمول فأشبه الماء، والثانى: فيه القطع لأنه يتمول عادة ويحمل إلى البلدان للتجارة فأشبه العود الهندى، ولكن ما يصنع من التراب كاللبن والفخار ففيه القطع لأنه يتمول عادة. 5- السرجين: لا قطع فيه لأنه إن كان نجساً فلا قيمة له وإن كان طاهراً   (1) أسنى المطالب ج4 ص139، نهاية المحتاج ج7 ص421. (2) أسنى المطالب ج4 ص139، نهاية المحتاج ج7 ص421. (3) أسنى المطالب ج4 ص139، نهاية المحتاج ج7 ص421. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 فلا يتمول عادة ولا تكثر الرغبات فيه (1) . ويقطع الشافعى ومالك فى السرجين الطاهر وفى كل الأشياء السابقة، أما أبو حنيفة فلا يقطع فى شىء منها. 6- المصحف: يرى البعض أن لا قطع فى سرقته وهو قول أبى حنيفة لأن المقصود منه ما فيه من كلام الله وهو مما لا يجوز أخذ العوض عنه، ويرى البعض وجوب القطع لأنه مال متقوم وهو رأى مالك والشافعى. وإذا كان المصحف محلى بحلية تبلغ نصاباً وحدها، فبعض من لا يرى القطع بسرقة المصحف لا يقطع فى الحلية لأنها تابعة لما لا يقطع فى سرقته، وبعضهم يرى القطع لأنه سرق نصاباً من الحلى فوجب قطعه كما لو سرقه منفرداً، ولا خلاف فى مذهب أحمد على القطع فى سرقة كتب الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية (2) . 7- الثمر والكَثَر: فلا قطع فى الثمار المعلقة ولا فى سرقة الكَثَر وهو جمار النخل لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع فى ثمر ولا فى كَثَر"، وإذا أحيط البستان بسور فلا قطع فيما سرق منه لكن إذا كانت نخلة أو شجرة فى دار محرزة فسرق من ثمارها نصاباً ففيه القطع لأنها سرقة من حرز (3) . 8- سرقة المحرم وأدوات اللهو: لا قطع فى سرقة محرم كالخمر والخنزير والميتة ونحوها سواء كان السارق مسلماً أو ذمياً، وأما آلات اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة فلا قطع فيها وإن بلغت قيمتها بعد كسرها نصاباً لأنها آلة للمعصية بالإجماع فلا يقطع فى سرقتها كالخمر ولأن له حقاً فى أخذها لكسرها فكان ذلك شبهة تمنع القطع، فإن كانت عليه حلية تبلغ نصاباً فلا قطع فيها على رأى وفيها القطع على رأى آخر. وإذا سرق صليباً من ذهب أو فضة فلا قطع فيه على رأى وهو متفق مع ما يراه أبو حنيفة، وفيه القطع على رأى آخر وهو مذهب مالك والشافعى، والمفروض أن تكون قيمة الصليب بعد كسرها نصاباً فإن كانت أقل من   (1) المغنى ج10 ص247. (2) المغنى ج10 ص249. (3) المغنى ج10 ص262، 263. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 النصاب فلا خلاف فى المذهب على عدم القطع. وإن سرق آنية من الذهب أو الفضة قيمتها نصاب بعد الكسر ففيها القطع، وإذا اتصل ما لا قطع فيه بما فيه القطع ففى المذهب رأيان: الأول: لا قطع فيها ولو بلغ نصاباً وحده لأنه تابع لما لا قطع فيه وهو مذهب أبى حنيفة، والرأى الثانى: فيه القطع إذا بلغ نصاباً وحده وهو مذهب مالك والشافعي (1) . ومذهب الشيعة الزيدية قريب من مذهب مالك والشافعى، فعندهم أن المال المسروق يعاقب عليه بالقطع إذا كان مما يجوز للمجنى عليه تملكه فى الحال، فإذا لم يكن يجوز له أن يتملكه كالخمر والخنزير والكلب والميتة وغيرها فلا قطع فيه إذا سرقه من مسلم، أما إذا سرقه من ذمى فلا قطع إذا سرقه من بلد ليس للذمى سكناه، فإذا سرقه من بلد لهم سكناه فهناك خلاف فى القطع (2) . ويرى الزيديون أن لا قطع فى سرقة النابت أو فى أخذه من منبته، ولا فرق بين أن يكون شجراً أو زرعاً (3) . ومذهب الظاهريين على القطع فى سرقة المال أياً كان سواء كان تافهاً أو مباح الأصل أو معرضاً للتلف، وهم يرون القطع فى سرقة كل ثمر وكل كَثَر معلقاً كان فى شجره أو مجزوزاً أو فى جرين أو فى غير جرين، ويرون القطع فى كل طعام كان مما يفسد أو لا يفسد، ويرون القطع فى الزرع إذا أخذ من فدانه أو هو بأندره (4) . ويرى الظاهريون القطع فى سرقة الطير كلما كان مملوكاً للمجنى عليه، وفى سرقة الصيد كلما تملكه المجنى عليه (5) .   (1) المغنى ج10 ص283، 284، كشاف القناع ج4 ص78. (2) شرح الأزهار ج4 ص365، 366. (3) شرح الأزهار ج4 ص369. (4) المحلى ج11 ص332. (5) المحلى ج11 ص333، 343. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 ويرون القطع على من سرق مصحفاً أو كتباً من كتب العلوم (1) . ويرون القطع على من سرق صليباً أو فضة أو ذهباً ومن سرق دراهم فيها صور وأصنام إذا بلغت قيمتها نصاباً بعد الكسر (2) . ولكن الظاهريين لا يرون القطع فى سرقة الخمر والخنزير وأما الميتة فيقطعون فيها لأن جلدها باق على ملك صاحبها يدبغه فينتفع به ويبيعه (3) ، وظاهر من هذا أن الظاهريين يرون ما يراه مالك والشافعى من قطع السارق إذا سرق ما يجب فيه القطع متصلاً بما لا يجب فيه القطع. 608- ثالثاً: أن يكون المال محرزاً: يشترط جميع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى أن يكون المال محرزاً لوجوب القطع فى سرقته، ولا يخالفهم فى ذلك إلا الظاهريون وطائفة من أهل الحديث حيث يرون القطع على السارق إذا سرق نصاباً ولو من غير حرز وأن اشتراط الحرز باطل بيقين لا شك فيه وشرع لما يأذن الله تعالى به (4) . والأصل فى اشتراط الحرز عند من يشترطه ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رافع ابن خديج أنه قال: "لا قطع فى ثمر ولا كَثَر" رواه الخمسة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب منه بغية من ذى حاجة غير متخذ خفية فلا شىء عليه، ومن خرج بشىء فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" رواه النسائى وأبو داود، وفى رواية قال: سمعت رجلاً من مزينة يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجزية التى توجد فى مراتعها، قال: "فيها ثمنها مرتين وضرب نكال، وما أخذ من عطفه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" قال: يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها فى أكمامها؟ قال: "من أخذ بفيه ولم يتخذ خبنةً فليس عليه شىء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ   (1) المحلى ج11 ص337. (2) المحلى ج11 ص338. (3) المحلى ج11 ص335. (4) المحلى ج11 ص337، بداية المجتهد ج2 ص375. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 من ذلك ثمن المجن" رواه أحمد والنسائى، ولابن ماجه معناه وزاد النسائى فى آخره: "وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال" (1) . ويرى جمهور الفقهاء أن رسول الله منع القطع فى الثمر المعلق وحريسة الجبل حتى إذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن, وأنه عليه السلام علق القطع بإيواء المراح والجرين؛ والمراح حرز الإبل والبقر والغنم, والجرين حرز الثمر, فدل ذلك على أن الحرز شرط فى القطع, وفوق هذا فإن ركن السرقة هو الأخذ على سبيل الاستخفاء والأخذ من غير حرز لا يحتاج إلى استخفاء فلا يتحقق ركن السرقة, كذلك فإن القطع وجب لصيانة الأموال على أربابها قطعاً لأطماع السراق عن أموال الناس, والأطماع إنما تميل إلى ما له خطر فى القلوب وغير المحرز لا خطر له فى القلوب عادة فلا تميل الأطماع إليه فلا حاجة إلى صيانته بالقطع (2) . 609- ومن المتفق عليه أن الحرز نوعان: 1- حرز بالمكان أو حرز بنفسه: وهو عند مالك, أما عند أبى حنيفة فحرز المكان هو كل بقعة معدة للأحراز ممنوعة الدخول فيها إلا بإذن كالدور والحوانيت والخيم والفساطيط وزرائب المواشى والأغنام, ويشترط أبو حنيفة فى الحرز بالمكان أن يكون مكاناً مبنياً سواء كان بابه مغلقاً أم مفتوحاً وسواء كان له باب أم لا, لأن البناء يقصد به الأحراز كيفما كان (3) . ولا يشترط مالك أن يكون المرابط والزرائب والجرون والمراح مبنية أو مسورة بل تعتبر حرزاً بمجرد إعداد المكان لحفظ المال أو الاعتياد على حفظ   (1) نيل الأوطار ج7 ص39. (2) بدائع الصنائع ج7 ص73, أسنى المطالب ج4 ص141, المغنى ج10 ص249, شرح الزرقانى ج8 ص98. (3) بدائع الصنائع ج7 ص73, شرح فتح القدير ج4 ص240, 241, 246. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 المال فيه دون حاجة لإحاطة المكان فيه ببناء أو سور أو ما أشبه (1) . أما عند الشافعى وأحمد فالحرز بالمكان هو كل مكان مغلق معد لحفظ المال داخل العمران كالبيوت والدكاكين والحظائر (2) . فحرز المكان لا يكون كذلك عندهما إلا إذا توفرت فيه شروط, أولها: أن يكون فى العمران, فإن كان المكان خارج عمارة البلدة أو القرية أو منفصلاً عن مبانيها ولو ببستان فهو ليس حرزاً بالمكان. الثانى: أن يكون مغلقاً فإذا كان بابه مفتوحاً أو ليس له باب أو كان بحائطه نقب أو تهدم جزء منه فهو ليس حرزاً, ولا يشترط أن يكون المكان مبنياً بالحجارة أو اللبن بل يكفى أن يكون بحالة تتفق مع التعارف عليه وما جرت به العادة فالمسكن يبنى من الحجارة أو الطين أو الخشب والحظيرة قد تبنى من الطين أو الخشب أو القصب أو الحطب (3) . والحرز بالمكان عند الشيعة الزيدية هو كل مكان محصن كالبيت والمربد والمراح بحيث يمنع الخارج من الدخول وإن لم يمنع الداخل من الخروج, ويكفى لاعتبار المكان محصناً أن يكون عليه جدار أو خيام أو زرب أو قصب أو بيت شعر, ويجوز أن يكون حوله خندق على رأى ويجب أن يكون له باب, فإذا كان كذلك فهو حرز بنفسه, فإذا لم يكن عليه باب فلا يكون حرزاً إلا بحارس (4) . 2- حرز بالحافظ أو حرز بغيره: هو عند أبى حنيفة كل مكان غير معد للإحراز يدخل إليه بلا إذن ولا يمنع منه كالمساجد والطرق, وحكمه حكم الصحراء إن لم يكن هناك حافظ أى أنه لا يعتبر حرزاً, فإن كان هناك حافظ فهو حرز, ولهذا سمى حرزاً بغيره حيث تتوقف صيرورته حرزاً على وجود غيره وهو الحافظ (5) .   (1) شرح الزرقانى ج8 ص98, 100, المدونة ج16 ص79, بداية المجتهد ج2 ص375. (2) المغنى ج10 ص250 وما بعدها, كشاف القناع ج4 ص81, أسنى المطالب ج4 ص141. (3) أسنى المطالب ج4 ص141, 142, المغنى ج10 ص249, 252, كشاف القناع ج4 ص81, 82. (4) شرح الأزهار ج4 ص370. (5) بدائع الصنائع ج7 ص73. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 فمن تعطلت سيارته فى الطريق العام فتركها بلا حافظ عندها فهى فى غير حرز, وإن ترك عندها ما يحفظها فهى فى مكان محرز بالحافظ. والمسجد ليس مكاناً معداً لحفظ المال ولا يتوقف الدخول فيه على إذن ما فلا يعتبر حرزاً بنفسه إلا فيما يتعلق بالأشياء اللازمة له كالحصر والقناديل وما أشبه, فمن دخل للصلاة ومعه متاع فوضعه بجواره فإن المتاع يكون محرزاً بالحافظ فإذا تركه فى المسجد فسرق فلا قطع فيه لأن المسجد ليس حرزاً بنفسه ولأن الحافظ لم يكن موجوداً وقت السرقة فلم يكن المتاع محرزاً, أما إذا سرق المتاع فى حالة وجود الحافظ فالقطع واجب فى السرقة إذا توفرت أركانها. ومن الأمثلة على ذلك حادثة صفوان فقد كان نائماً فى المسجد يتوسد رداءه فسرقه سارق فقطع الرسول يده. أما مالك والشافعى وأحمد فيرون أن الحرز بالحافظ هو كل مكان محرز بالحافظ سواء كان معداً لإحراز المال كالبيوت أو غير معد لحفظ المال كالمساجد والطرق والصحراء (1) . ويرى أبو حنيفة أن ما يعتبر حرزاً بنفسه لا يشترط فيه وجود الحافظ لصيرورته حرزاً ولو وجد فلا عبرة لوجوده بل هو والعدم سواء, ذلك أن كل واحد من الحرزين معتبر بنفسه على حياله بدون صاحبه فإذا سرق شخص من حرز بالمكان قطع سواء أكان ثمة حافظ أو لا وسواء كان الحرز له باب مغلق أو لا باب له, وإذا سرق من حرز بغير قطع إذا كان الحافظ قريباً منه بحيث يراه سواء كان الحافظ نائماً أم مستيقظاً لأنه يقصد الحفظ فى الحالين, ويرتب أبو حنيفة على اعتبار كل حرز بنفسه نتيجة هامة هى أن الحرز بالمكان إذا اختل - وهو لا يختل عنده إلا بالإذن للسارق فى دخول الحرز - فلا يمكن اعتباره حرزاً بالحافظ ولو كان بالحرز حافظ فعلاً (2) . أما الأئمة الثلاثة فلا يرون اعتبار كل حرز بنفسه, ويجوز عندهم أن يكون   (1) المغنى ج10 ص251, أسنى المطالب ج4 ص141, 143, شرح الزرقانى ص101, 103. (2) بدائع الصنائع ج7 ص73, 74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 الحرز فى وقت واحد حرزاً بالمكان وفيه حافظ فإذا اختل الحرز بالمكان كان حرزاً بالحافظ, ومثل ذلك أن يؤذن لشخص بدخول بيت فيسرق أمتعته عليه حافظ, فيقطع لأن مكان السرقة وإن لم يكن حرزاً بنفسه فهو حرز بالحافظ (1) . على أننا يجب أن نلاحظ أن الأئمة الثلاثة لا يتفقون على ما يخل بحرز المكان, فمالك يرى أن حرز المكان لا يختل إلا بالإذن للسارق بدخول الحرز, وهو رأى أبى حنيفة (2) . والظاهر أن الشيعة الزيدية ترى رأى الشافعى وأحمد فى أن الحرز يبطل بفتح الباب وبالنقب وبالإذن (3) . أما الشافعى وأحمد فيريان أن الإذن بالدخول والنقب وفتح الباب كل منها يخل بحرز المكان ويجعله غير حرز ما لم يكن حافظ فإنه يكون حرزاً بالحافظ (4) . ويرى مالك وأبو حنيفة أن المكان يعتبر محرزاً بالحافظ كلما كان الشىء المسروق واقعاً تحت بصر الحافظ, ويستوى أن يكون الحافظ مستيقظاً أو نائماً لأنه وجد للحفظ ويقصده فى الحالين (5) , ولأن النائم عند متاعه يعتبر حافظاً له فى العادة, ويشترط المالكية أن يكون الحافظ مميزاً فإن كان صغيراً أو مجنوناً فلا يعتبر وجوده ولا يكون الشىء محرزاً, ولا يشترط الحنفية هذا الشرط, ويستثنى المالكيون والحنفيون من هذه القاعدة سرقة الغنم فى المراعى فلا قطع على سارقها لتشتت الغنم وصعوبة حفظها أثناء الرعى على رأى المالكية, ولأن   (1) شرح الزرقانى ج8 ص102, أسنى المطالب ج4 ص143, المغنى ج10 ص251, 253. (2) شرح فتح القدير ج4 ص241. (3) شرح الأزهار ج4 ص37, 372. (4) شرح الزرقانى ج8 ص305, 306, أسنى المطالب ج4 ص147, المغنى ج10ص298, 299. (5) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص101, بدائع الصنائع ج7 ص73, حاشية ابن عابدين ج3 ص280. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 الراعى لا يقصد الحفظ وإنما يقصد الرعى على رأى الحنفية (1) . ومذهب الشيعة قريب من مذهب الحنفية, فهم على الرأى الراجح يعتبرون المكان محرزاً بالحافظ إذا كان ثمة حافظ سواء كان متيقظاً أو نائماً وإن كان بعضهم يشترط أن يكون يقظان (2) . أما الشافعى فيعتبر المكان محرزاً بالحافظ كلما كان الحافظ ممن يبالى به لقوته أو لاستغاثته بغيره بحيث إذا استغاث أسمع، ويشترط فى الحافظ أن يكون مع المتاع الذى يحفظه وأن يديم ملاحظته, والمراد من إدامة الملاحظة أن لا يشتغل عنه بنوم ولا غيره مما يشغله عن الملاحظة, والمقصود الإدامة المتعارفة, فالفترات العارضة أثناء الملاحظة لا تقدح فى الإحراز على المشهور للعرف فإذا تغفل فسرق قطع فى الأصح, والمقصود من القرب أن يقع المسروق تحت بصر الملاحظ وأن يكون الشىء بحيث ينسب للملاحظ وأن يكون الملاحظ بحيث يراه السارق حتى يمتنع عن السرقة إلا بتغفله, فإن كان فى موضع لا يراه السارق اعتبر المسروق غير محرز. وإذا كان الحارس ممن لا يبالى به لعدم قوته أو لعدم استغاثته كأن يكون فى صحراء فلا يسمع صوته أحد فلا يعتبر الشىء محرزاً, وإذا نام الحارس فلا يعتبر الشىء محرزاً إلا إذا كان يلبس الشىء المسروق كحذاء مثلاً أو عمامة, أو يتوسده كجلباب أو فراش, أو يتكئ عليه, أو يلتف فيه. وإذا كان هناك زحام يمنع من وقوع بصر الحارس على الشىء باستمرار وفى أى وقت شاء اعتبر الشىء غير محرز (3) . ويعتبر أحمد المكان محرزاً بالحافظ كلما وجد فيه حافظ أياً كان صغيراً أو كبيراً ضعيفاً أو قوياً, ولا يشترط فى الحافظ إلا عدم التفريط كأن ينام أو يشتغل عن الملاحظة, ويجب أن يكون بحيث يقع بصره على الشىء فإذا فرط فى   (1) شرح الزقانى وحاشية السيبانى ج8 ص101, شرح فتح القدير ج4 ص246. (2) شرح الأزهار ج4 ص370. (3) أسنى المطالب وحاشية شهاب الرملى ج4 ص142, نهاية المحتاج ج7 ص429 وما بعدها, المهذب ج2 ص296. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 الملاحظة فلا حرز, وكذلك إذا نام ما لم يكن متوسداً الشىء أو متكئاً عليه أو يلتف فيه أو يلبسه (1) . ويرى الشافعى وأحمد أن الدور المنفردة عن العمران والدور التى فى البساتين والطرق والصحراء لا تعتبر حرزاً بنفسها ولو كانت حصينة, وإنما تعتبر حرزاً بالحافظ إذا كان فيها أهلها أو حافظ ملاحظ سواء كانت مغلقة أو مفتوحة فإن لم يكن بها حافظ فليست حرزاً ولو كانت مغلقة, فإن كان بها حافظ نائم وهى مغلقة فهى حرز بالحافظ وإن كانت مفتوحة ليست حرزاً (2) . وما يقال عن الدور ينطبق على كل الأمكنة المعدة لحفظ المال الخارجة عن العمران كالاصطبلات وحظائر المواشى والأغنام والأجران, فإنها لا تعتبر حرزاً بالمكان وإنما تعتبر حرزاً بالحافظ (3) . ولقد قلنا من قبل أن الشافعى وأحمد يشترطان فى الحرز بنفسه أن يكون معداً لحفظ المال دون حائط فى العادة, ويترتب على هذا التعريف أنهما يعتبران الخيام والمضارب وما أشبه أحرازاً بالحافظ لا بنفسها, وحجتهما أن العادة جرت بأن تحرز هذه الأشياء بالحافظ, وعلى هذا فإذا نصبت الخيمة وكان فيها حافظ نائم فهى محرزة به, فإن لم يكن فيها نائم وكان فى خارجها من يلاحظها فهى محرزة, وإن لم يكن فيها ولا عندها حافظ فسرق منها شىء فقد سرق من غير حرز, وهذا هو الحكم سواء ضربت الخيمة بين المساكن أو فى مكان بعيد عن العمران (4) . أما مالك وأبو حنيفة فيعتبران الخيام أحرازاً بنفسها, فإذا ضربت الخيمة فسرق منها شىء ففيه القطع سواء كان هناك حارس أم لم يكن (5) .   (1) كشاف القناع ج4 ص81 وما بعدها, الإقناع ج10 ص251 وما بعدها. (2) أسنى المطالب ج4 ص143, نهاية المحتاج ج7 ص429, المغنى ج10 ص251, كشاف القناع ج4 ص81. (3) نهاية المحتاج ج7 ص431, أسنى المطالب ج4 ص144. (4) أسنى المطالب ج4 ص144, كشاف القناع ج4 ص81, المغنى ج10 ص251. (5) بدائع الصنائع ج7 ص74, شرح الزرقانى ج8 ص99. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 وعند الشيعة الزيدية أن الخيام تعتبر حرزاً بنفسها ما دامت مغطاة تحجب ما بداخلها فإذا كانت سماوية وهى التى لا سجاف لها ولا تحجب ما بداخلها فلا يكون حرزاً إلا بالحافظ (1) . وما يراه الفقهاء فى اعتبار المكان حرزاً لنفسه ولو لم يكن به حافظ يتفق مع ما جاء به القانون المصرى من التشديد فى السرقة من البيوت المسكونة أو المعدة للسكن، فقد شددت العقوبة للسرقة من هذه الأمكنة سواء كان فيها حافظ أم لا, كذلك يتفق القانون المصرى مع ما يراه مالك وأبو حنيفة من أن الحرز لا يختل بفتح الباب أو النقب وإنما يختل بالإذن بدخول الحرز. فلو سرق شخص من بيت منقوب أو مفتوح الباب فقد سرق من بيت مسكون أو معد للسكن, ولكنه لو سرق من مسكن أذن له بدخوله فلا يعتبر التشديد فى هذه الحالة. وما يراه الشافعى وأحمد فى البيوت البعيدة عن العمران يقترب مما جاء به القانون المصرى عن البيوت والمحلات العامة فإنها لا تعتبر من المساكن إلا إذا كان يبيت بها أحد. ويختلف الفقهاء القائلون بالحرز فى حكم سرقة نفس الحرز, فيرى أبو حنيفة فى حالة سرقة الحرز بالمكان أن سارق الحرز أو بعضه لا يقطع لأن السرقة تقتضى الإخراج من الحرز ونفس الحرز ليس فى الحرز فلا إخراج, فمن سرق باب الدار أو حجارة من حائطها لا يسرق من حرز ولو أنه يسرق نفس الحرز, ومن يسرق فسطاطاً مضروباً وهو حرز بنفسه عند أبى حنيفة لا يقطع لأنه سرق نفس الحرز ولم يسرق من الحرز, بعكس ما لو كان الفسطاط غير مضروب وبجواره شخص يحرسه فإن القطع يجب فيه لأن السرقة تكون من حرز بالحافظ (2) . أما الأئمة الثلاثة فيرون قطع منم سرق كل الحرز أو بعضه لأن نفس الحرز يعتبر محرزاً بإقامته, فالحائط محرز ببنائه، والباب محرز بتثبيته, والفسطاط وهو   (1) شرح الأزهار ج4 ص372. (2) بدائع الصنائع ج4 ص74, شرح فتح القدير ج4 ص246. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 حرز بنفسه عند مالك يحرز بإقامته, فمن سرق حجارة من الحائط أو سرق باب منزل أو سرق الفسطاط المنصوب قطع فى سرقته (1) . أما إذا كان المال محرزاً بالحافظ فأخذ الحافظ ومعه المال كسرقة جمل نام عليه راكبه فلا قطع فيها عند الجميع لأن يد الحافظ لم تزل عن الجمل, فإذا استيقظ الحافظ بعد ذلك فالفعل اختلاس إذا أزيلت يده عن الجمل, ويعلل أبو حنيفة المسألة بتعليل آخر وهو أن الجمل محرز بالحافظ فإذا أخذا جميعاً فهو كما لو سرق أجزاء الحرز (2) . أما إذا أنزل النائم عن الجمل فلم يستيقظ وأخذ الجمل فهى سرقة يقطع فيها عند أبى حنيفة ومالك وأحمد, ولكن الشافعيين اختلفوا فى هذه فرأى بعضهم القطع ولم يره البعض الآخر مع أن تطبيق قواعدهم يقتضى القول بالقطع (3) . ومذهب الشيعة الزيدية يتفق مع مذهب أبى حنيفة فى هذه المسألة فهم يرون من سرق نفس الحرز لا يقطع لأنه محرز به على غيره وليس هو فى ذاته محرزاً, فمن سرق الباب لا يقطع فيه إلا إذا كان مكللاً أى مركباً من داخل بحيث يصير داخل الحرز, فإذا سرق فقد سرق من الحرز (4) . والقائلون بالحرز متفقون على أن الحرز يبطل بالإذن بدخوله, وأن هذا الإذن قد يكون صريحاً وقد يكون ضمنياً, إلا أنهم اختلفوا فيما يعتبر إذناً وما لا يعتبر إذناً وفيما يبطل من الحرز وما لا يبطل. هذه هى آراء الفقهاء فى الحرز واختلافاتهم, ويمكننا أن نستظهر آراء الفقهاء ومدى اختلاف آرائهم فى التطبيقات الآتية: إذا كان لإنسان منزل فى وسط العمران فأذن لآخر بدخول هذا المنزل فسرق منه شيئاً, فيرى أبو حنيفة أن لا قطع ولو كان فى الدار حافظ يحفظ الشىء   (1) شرح الزرقانى ج8 ص99, أسنى المطالب ج4 ص147, المغنى ج10 ص205. (2) بدائع الصنائع ج7 ص74, المغنى ج10 ص253, شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص101. (3) كشاف القناع ج4 ص81, أسنى المطالب ج4 ص142, بدائع الصنائع ج7 ص73. (4) شرح الأزهار ج4 ص370. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 المسروق أو كان صاحب المنزل يتوسد المسروق أو ينام عليه؛ لأن الدار حرز بنفسها فلا تكون حرزاً بالحافظ وقد خرج من أن يكون حرزاً بالإذن للسارق بدخولها فالأخذ من غير حرز ولا قطع فيه (1) . ويرى مالك أن الإذن يخرج الدار من أن تكون حرزاً بنفسها ولكنها حرزاً بالحافظ إذا كان هناك حافظ, وإذن فالسرقة من حرز بالحافظ وفيها قطع, ويستوى أن يكون الحافظ للشىء المسروق نائماً أو متيقظاً ما دام الشىء واقعاً تحت بصره (2) . ويرى الشافعى وأحمد ما يراه مالك من أن الدار تكون حرزاً بالحافظ إذا كان هناك حافظ للشىء المسروق بشرط دوام الملاحظة, على ما بينا فيما سبق, فإن نام الحافظ فلا يعتبر حافظاً للشىء إلا إذا توسد الشىء أو التف به أو لبسه (3) . ورأى الشيعة الزيدية يتفق مع رأى مالك وإن كان بعضهم يرى رأى الشافعى وأحمد (4) , ولا خلاف بين القائلين بأن الحرز يكون حرزاً بالحافظ فى أنه لو كان الشىء المسروق بعيداً عن الحافظ ولا يقع بصره عليه فإن السرقة تكون من غير حرز, حيث إن الدار خرجت بالإذن من أن تكون حرزاً بنفسها، ولأن الشىء المسروق لم يكن محرزاً بحافظ, ويمكننا أن نقيس على المثل السابق كل حرز آخر مما يعتبر حرزاً بنفسه. وإذا أذن إنسان لآخر بدخول منزله البعيد عن العمران, فالحكم عند أبى حنيفة لا يختلف عن الحالة السابقة لأن البيت حرز بنفسه ولا فرق عند أبى حنيفة بين أن يكون داخل العمران أو خارجه, ولأن الحرز يبطل بالإذن عند أبى حنيفة ولو كان فيه حافظ ولأن وجود الحافظ فى حرز بنفسه لا اعتبار   (1) بدائع الصنائع ج7 ص73, 74, شرح فتح القدير ج4 ص341. (2) شرح الزرقانى ج8 ص101, 104. (3) أسنى الماطلب ج4 ص142, 147, المغنى ج10 ص250, 251. (4) شرح الأزهار ج4 ص370. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 له. والحكم عند مالك لا يختلف عن الحالة السابقة لأنه لا يفرق بين المنازل الداخلة فى العمران والخارجة عنه, فالبيت حرز بنفسه فى كل حال, وإذا بطل الحرز بالإذن فهو حرز بالحافظ كلما وجد الحافظ. أما عند الشافعى وأحمد فالبيت لا يعتبر أصلاً حرزاً بنفسه لبعده عن العمران, فالإذن بدخوله كعدم الإذن لا أثر له, ولا يقطع فى السرقة من مثل هذا البيت إلا إذا كان ثمة حافظ على التفصيل الذى سبق بيانه عندما تعرضنا للحافظ وللبيوت الخارجة عن العمران. والخلاصة أن البيت البعيد عن العمران لا يعتبر عند الشافعى وأحمد حرزاً بنفسه بأى حال وإنما يعتبر حرزاً بالحافظ إذا وجد الحافظ (1) . ورأى الشيعة الزيدية فى هذه المسألة يتفق مع رأيهم فى مسألة السابقة لأنهم لا يفرقون بين ما دخل فى العمران وما خرج عنه, وإذا أذن للسارق إذناً خاصاً فى دخول الدار الكائنة فى العمران وكان فيها غرف مقفلة أو خزائن مغلقة فسرق من هذه الغرف المقفلة أو من الخزائن, فيرى أبو حنيفة أن لا قطع على السارق ما دام المكان المسروق منه جزءاً من الدار المأذون فى دخولها لأن الدار الواحدة حرز واحد, والإذن بدخول بعض الحرز هو إذن بالدخول فى الحرز, فإذا سرق من مكان مغلق فقد سرق من مكان مأذون له فى دخوله وقد بطل بالإذن أن يكون حرزاً فالسرقة من غير حرز ولو كان هناك حافظ (2) , ورأى الشيعة الزيدية يتفق مع رأى أبى حنيفة (3) إلا إذا كان حافظ فيجب القطع. وفى مذهب مالك رأيان: أحدهما يرى عدم القطع لأن الإذن يبطل الحرز, والثانى يرى القطع, على أن أصحاب الرأى الأول يرون القطع إذا كان ثمة حافظ (4) .   (1) أسنى المطالب ج4 ص143, كشاف القناع ج4 ص81, نهاية المحتاج ج7 ص429, المغنى ج10 ص251. (2) بدائع الصنائع ج7 ص74. (3) شرح الأزهار ج7 ص372. (4) شرح الزرقاني, وحاشية الشيبانى ج8 ص103, 104. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 أما الشافعى وأحمد فيريان قطع السارق ولو لم يكن هناك حافظ لأن الإذن لا يبطل الحرز فيما هو مغلق ولم يصرح للسارق بدخوله, وعلى هذا فإن الإذن إذا أبطل بعض الحرز فإنه لا يبطل البعض الآخر. ويفرق أحمد فى حالة حصول السرقة من ضيف بينما إذا كان المضيف قد منع قراه أم لا, فإن كان قد منعه قراه فسرقه بقدره فلا قطع عليه وإن لم يمنعه قراه فعليه القطع (1) . ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب مالك والشافعي (2) . أما إذ كانت الدار خارج العمران فلا يختلف الحكم عند أبى حنيفة ومالك والشيعة الزيدية. أما عند الشافعى وأحمد فلا يقطع السارق إلا إذا كان هناك حافظ لأن الدار لا تعتبر عندهما حرزاً بنفسها وإنما تعتبر حرزاً بالحافظ, وإذا كان المكان المسروق منه معداً لحفظ المال ومما يؤذن للناس بدخوله إذناً عاماً كبيت طبيب يقابل فيه مرضاه أو عالم يحضر فيه الجمهور فسرق السارق من مكان محجور عن العامة وغير مسموح بدخوله فالحكم على التفصيل السابق بيانه فى البيوت المأذون بدخولها إذناً خاصاً. إلا أنهم فى مذهب مالك يرون رأياً واحداً دون خلاف وهو قطع السارق ولو لم يكن حافظ, وينبغى أن نعلم أن ذلك هو حكم السرقة الحاصلة فى وقت الإذن فإن حصلت فى وقت غير مأذون فيه بالدخول فعقوبتها القطع حتى عند أبى حنيفة (3) . والمحلات العامة التجارية والمحلات المعدة لحفظ المال كالمحلات التجارية والفنادق والمطاعم وما أشبه, إذا سرق منها أثناء العمل فيها أى أثناء الإذن بالدخول فلا قطع فى السرقة فى رأى أبى حنيفة ولو كان على المسروقات حارس, أما إذا كانت السرقة فى وقت غير مأذون فيه بالدخول كأن كانت بعد غلق المحل أو فى الليل ففيها القطع (4) . ويرى مالك والشافعى وأحمد القطع إذا كانت السرقة فى وقت   (1) أسنى المطالب ج4 ص146, المغنى ج10 ص257. (2) شرح الأزهار ج4 ص372. (3) نفس المراجع السابقة. (4) شرح فتح القدير ج4 ص242, بدائع الصنائع ج7 ص74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 الإذن وكان ثمة حافظ فإذا لم يكن حافظ فلا قطع إلا إذا حصلت فى غير وقت الإذن, ويرى مالك والشافعى القطع فيما يسرق من أفنية المحلات التجارية وقت الإذن ولو لم يكن عليها حافظ خاص لأنها تحفظ عادة بأعين الجيران وملاحظتهم فتعتبر محرزة بالحافظ (1) . ويعتبر الفقهاء الحمام من المحلات المعدة لحفظ المال فهو حرز بنفسه فإذا سرق منه وقت الإذن بالدخول فلا قطع من السرقة ولو كان هناك حافظ على رأى أبى حنيفة, وفى السرقة القطع إذا كان هناك ثمة حافظ على رأى الشافعى وأحمد, أما مالك فيرى القطع إذا دخل السارق وقت الإذن إذا دخل بقصد السرقة ولو لم يكن هناك حافظ, فإن لم يقصد السرقة ثم سرق قطع إذا كان ثمة حارس (2) . وإذا كان المحل غير معد لحفظ المال كالمساجد فيرى أبو حنيفة أنه حرز بالحافظ ولا يكون حرزاً بنفسه حتى فيما يلزم بالضرورة لأداء الغرض الذى أنشئ من أجله المحل, فحصر المسجد وقناديله وما فيه من ثريات كهربائية أو ستائر أو بُسُط أو مصاحف كل ذلك إذا سرق فلا قطع فيه إلا إذا كان ثمة حافظ لأن المسجد لم يعد أصلاً لحفظ المال, وإذا دخل أحد المصلين المسجد وترك أمتعته دون ملاحظة فلا قطع فى سرقتها لأنها سرقت من غير حرز, أما إذا كان يلاحظها فسرقت منه ففى السرقة القطع لأأن السرقة من حرز بالحارس, ولقد حاول بعض الحنفيين أن يعلل عدم القطع فى سرقة أدوات المسجد بأنها مال موقوف لا مالك له, ولكن الرأى الراجح أن عدم القطع راجع لانعدام الحرز (3) .   (1) أسنى المطالب ج4 ص143, 149, شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص99, 103, 104, كشاف القناع ج4 ص81 وما بعدها. (2) شرح الزرقانى ج8 ص102, 103, أسنى المطالب ج4 ص146, 149, المغنى ج10 ص253, كشا القناع ج4 ص82, بدائع الصنائع ج7 ص74, شرح فتح القدير ج4 ص241, 242. (3) حاشية ابن عابدين ج3 ص276, شرح فتح القدير ج4 ص242, الزيلعى ج3 ص221, بدائع الصنائع ج7 ص74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 ويرى مالك أن المسجد فى أصله ليس حرزاً بنفسه ولكن بناء المسجد نفسه وأدواته المعدة للاستعمال فيه كالحصر والبسط والقناديل كل ذلك يعتبر حرزاً بنفسه, فالحائط يعتبر حرزاً بنفسه, وسقف المسجد حرزاً بنفسه, وقناديله محرزة بنفسها؛ وهكذا, فمن سرق من بناء المسجد أو أدواته المعدة للاستعمال فيه فقد سرق من حرز بنفسه. ولا يشترط أن يخرج بما سرق من باب المسجد بل يكفى أن يزيل الشىء عن مكانه؛ لأن كل شىء يعتبر حرزاً مستقلاً بنفسه, فإذا أزال البساط عن مكانه تمت السرقة دون حاجة لأن يخرج به من الباب, وإذا أزال خشبة من السقف تمت السرقة دون حاجة للخروج من الباب, وهكذا. أما الأموال التى توضع فى المسجد بصفة مؤقتة كملابس المصلين وأحذيتهم وحصير أو سجاد يحضرها أحد المصلين ليصلى عليها هو أو غيره فسرقة هذه وأمثالها لا قطع فيها لأن المسجد لم يعدّ لحفظ المال أصلاً, لكن إذا كان عليها حارس يلاحظها ففيها القطع لأن السرقة تحدث من حرز بالحافظ (1) . ويفرق بعض المالكية فى أدوات المسجد بين المثبت والمسمر منها والمشدود بعضه إلى بعض كالقناديل المسمرة المشدودة بالسلاسل والبلاط المثبت والحصر المسمرة أو المخيط بعضها فى بعض- فهذه فى سرقتها القطع, أما غير المثبت فلا قطع فيه. وعند الشافعى أن المسجد فى أصله ليس حرزاً بنفسه (2) ولكنه يعتبر حرزاً بنفسه فيما جعل لعمارته كالبناء والسقف ولتحصينه كالأبواب والشبابيك ولزينته كالستائر والقناديل المعدة للزينة، فمن سرق شيئاً مجعولاً للعمارة أو التحصين أو الزينة فقد سرقه من حرز بالمكان. أما ما أعد لانتفاع الناس به كالحصر والبسط والمصاحف والقناديل المعدة للإضاءة فلا قطع فيها ولو كان هناك حافظ ولو أن السرقة من حرز بالحافظ؛ لأن هذه المسروقات جعلت للانتفاع العام وحق السارق فى الانتفاع بها شبهة تدرأ الحد.   (1) شرح الزرقانى ج8 (2) أسنى المطالب ج4 ص142, نهاية المحتاج ج7 ص428. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 هذا إذا كان السارق له حق الانتفاع فإذا لم يكن له حق الانتفاع كذمى مثلاً أو كان المسجد خاصاً لطائفة معينة فالقطع على السارق, وكذلك يقطع السارق بسرقة أمتعة المصلين إذا كان ثمة حافظ لأن السرقة من حزر بالحافظ (1) . وفى مذهب أحمد رأيان فى السرقة من المسجد أحدهما يتفق مع مذهب الشافعى والثانى يتفق مع مذهب أبى حنيفة (2) . وحجة أصحاب الرأى الثانى أن المسجد لا مالك له من المخلوقين وأنه معد للانتفاع العام فكان الانتفاع شبهة تدرأ الحد سواء اعتبرت السرقة من حرز بنفسه أو حرز بالحافظ. وعند الشيعة الزيدية أن المسجد يعتبر حرزاً بنفسه لكل أدواته سواء كانت لعمارته أو تحصينه أو تزيينه أو منفعته وليس حرزاً فيما عدا ذلك إلا بالحافظ, فخادم المسجد إذا سرق متاعه فهو مسروق من غير حرز ما لم يكن حافظ, والمصلى إذا سرق متاعه فكذلك (3) . ولا يقر الظاهريون الحرز ولذلك فهم يوجبون قطع من سرق من مسجد باباً كان مغلقاً أو غير مغلق أو حصيراً أو قنديلاً أو شيئاً وضعه صاحبه هنالك ونسيه كان صاحبه معه أو لم يكن (4) . وحكم المعابد والكنائس كحكم المساجد (5) , ويقاس عليها كل مكان لم يعد لحفظ المال كالكتاتيب والمدارس فيما عدا الأقسام الداخلية لأنها تعد لحفظ المال, وكذلك المقاهى وما أشبه. وينبغى أن نلاحظ أن الشافعى وأحمد يفرقان بين المحلات الكائنة فى العمران وما هو كائن خارج العمران, وتطبيق هذه القاعدة على المساجد يقتضى القول بأنه لا قطع فى بناء المسجد ولا ما أعد لتحصينه أو عمارته أو زينته إذا كان المسجد خارج العمران إلا إذا كان ثمة حارس على ما سرق من المسجد (6) .   (1) نهاية المحتاج ج7 ص425, أسنى المطالب وحاشية الرملى ج4 ص140. (2) المغنى ج10 ص254, كشاف القناع ج4 ص83. (3) شرح الأزهار ج4 ص371. (4) المحلى ج11 ص329. (5) نهاية المحتاج ج7 ص425. (6) المغنى ج10 ص255. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 وإذا كان رجل فى الفلاة أو فى الطريق ومعه حقيبة أو غرارة بها أمتعته أو كان معه سيارة تعطلت أو دابة أو أى شىء آخر وجلس عندها يحفظها فسرقت منه, فالعقوبة قطع السارق عند مالك وأبى حنيفة سواء وقعت السرقة والحافظ نائم أو متيقظ بشرط أن يغافله السارق ويسرق الشىء دون أن يراه؛ فإن رأى السارق وهو يسرق فالفعل اختلاس لا سرقة لأن الأخذ لم يكن خفية ولا قطع فى الاختلاس, أما الشافعى فيرى قطع السارق إذا كان الحافظ متيقظاً فإن نام فلا قطع إلا إذا توسد الغرارة أو نام فوقها (1) . وإذا سرق الجانى فسطاطاً ملفوقاً وضعه المجنى عليه فى الطريق أو الفلاة وبقى عنده يحفظه فالحكم ما سبق, فإن تركه وحده دون حارس فسرق فالسرقة لا قطع فيها باتفاق لأنها سرقة من غير حرز. وإذا ضرب الفسطاط ووضعت بداخله أمتعة فسرق منها شىء فيرى مالك وأبو حنيفة القطع فى السرقة لأن الفسطاط حرز بنفسه فإذا سرق منه شىء فهى سرقة من حرز يقطع فيها ولو لم يكن هناك حافظ, أما الشافعى وأحمد فلا يريان القطع إلا إذا كان على الفسطاط حافظ لأنه ليس حرزاً بنفسه فى رأيهما (2) . وإذا سرق السارق نفس الفسطاط المضروب فلا قطع عليه عند أبى حنيفة لأنه سرق نفس الحرز, وسرقة الحرز عنده لا قطع فيها, وعلى السارق القطع عند مالك لأن الحرز محرز بإقامته, أما الشافعى وأحمد فيريان القطع فى سرقة الحرز كمالك ولكنهما يشترطان فى سرقة الفسطاط نفسه أن يكون هناك حافظ لأنهما لا يعتبرانه حرزاً بنفسه كما يعتبره مالك وأبو حنيفة. ومن هذا القبيل سرقة باب الدار وبعض أجزاء حائطها, فيرى أبو حنيفة   (1) بدائع الصنائع ج7 ص74, أسنى المطالب ج4 ص141, 142, شرح الزرقانى ج8 ص101, المغنى ج10 ص251. (2) شرح الزرقانى ج8 ص99, بدائع الصنائع ج7 ص74, أسنى المطالب ج4 ص144, كشاف القناع ج4 ص81. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 أن الباب إذا كان مركباً فهو جزء من الحرز كالحائط, فإذا سرق الباب أو بعض الحائط سارق فقد سرق نفس الحرز ونفس الحرز ليس فى الحرز فكأنه سرق من غير حرز ولا قطع فى سرقته. أما إذا كان الباب غير مركب وموضوعاً داخل الحرز فإن سرقته تكون من حرز وفيه القطع, وكذلك الحال فى بعض أجزاء الحائط لو كانت داخل الحرز بغض النظر عما إذا كان الباب مفتوحاً أو الحائط منقوباً لأن فتح الباب والنقب لا يبطل الحرز فى رأى أبى حنيفة. أما الأئمة الثلاثة فيرون أن سرقة الباب وبعض أجزاء الحائط سرقة من حرز يقطع فيه لأنها تعتبر محرزة بإقامتها وتثبيتها, فالحائط محرز بإقامته والباب محرز بتركيبه وحلقة الباب محرزة بتسميرها وهكذا. أما إذا كان الباب مخلوعاً وموجوداً داخل الحرز وكذلك بعض أجزاء الحائط ففيها القطع أيضاً عند مالك لأن الحرز لا يبطل عنده بالنقب وفتح الباب, أما عند الشافعى وأحمد فلا قطع إذا لم يكن هناك باب أو كان هناك باب وكان هناك نقب أو هدم فى الحائط ما لم يكن حافظ فإن كان حافظ ففى السرقة القطع (1) . ولا خلاف بين الفقهاء فى أن الإنسان يعتبر حرزاً لكل ما يلبسه أو يحمله من نقود أو غيرها, أو بتعبير آخر يعتبر كل ما يلبسه الإنسان أو يحمله من نقود وغيرها محرزاً بحافظ وهو الإنسان. فمن نشل من آخر نقوداً كانت فى جيبه أو فى ثيابه قطع بالسرقة (2) ، ويعبر عن النشال بالطراز. والنشل الذى يحدث خفية هو الذى فيه القطع أما ما يحدث والمجنى عليه منتبه له فهو اختلاس، ويستوى أن يقطع النشال ملابس المجنى عليه أو يدخل يده فيها فيأخذ النقود (3) .   (1) المغنى ج10 ص255, أسنى المطالب ج4 ص140, 144, 147, شرح الزرقانى ج8 ص99, 102, 105, 106, بدائع الصنائع ج7 ص74, كشاف القناع ج4 ص81, شرح فتح القدير ج4 ص223. (2) المدونة ج16 ص80، أسنى المطالب ج4 ص142، المغنى ج10 ص260. (3) شرح فتح القدير ج4 ص245، بدائع الصنائع ج7 ص76. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 وإن سرق من القطار بعيراً أو حملاً لم يقطع لأنه ليس بحرز مقصود فتمكن فيه شبهة العدم لأن السائق والراكب والقائد يقصدون المسافات ونقل الأمتعة ولا يقصدون الحفظ، فإن كان مع الأحمال من يثبتها للحفظ قطع ولكن إذا شق الحمل وأخذ منه قطع لأن الجوالق فى مثل هذه الحالة حرز بنفسه لأنه معد لحفظ الأمتعة (1) . وعند الأئمة الثلاثة كل من الراكب والسائق حافظ حرز فيقطع فى أخذ الجمل والحمل والجوالق والشق ثم الأخذ، وأما القائد فحافظ للجمل الذى بيده فقط عندنا (أى عند أبى حنيفة) ، وعندهم إذا كان بحيث يراها إذا التفت إليها حافظ للكل فالكل محرزة عندهم بقوده ... وإذا كانت غرارة على ظهر دابة فشقها إنسان وأخرج ما فيها من متاع قطع عند أبى حنيفة لأن الغرارة حرز لما فيها، وإن أخذها بحالها دون أن يشقها لم يقطع لأنه أخذ نفس الحرز، وكذلك إذا كانت الغرارة محملة على جمل فسرق الجمل ومعه الغرارة لأن الحمل لا يوضع على الجمل للحفظ وإنما للحمل وحتى إذا ركب الجمل صاحبه فإن الغرارة لا تعتبر محرزة بحافظ لأنها حرز بنفسها فإذا أخذها السارق فقد أخذ نفس الحرز (2) ، أما إذا سرق الجمل وراكبه فلا يقطع لأن يد الحافظ لم تزل عن المسروق، ويرى أن ظهر الدابة يعتبر حرزاً للغرارة فإذا أخذ الغرارة كلها أو شقها فأخذ منها فعليه القطع، وكذلك لو سرق الدابة وعليها الغرارة ما دامت الدابة فى حرز مثلها (3) ، كأن كانت باركة فى مراح أو سائرة فى قطار (4) . أما الشافعى وأحمد فلا يعتبران الغرارة محرزة بنفسها وتعتبر أنها محرزة بالحافظ، فإذا سرق شخص الغرارة أو شقها فأخذ منها قُطع بسرقته إذا كان هناك حافظ، وكذلك إذا سرق الجمل بما عليه إن كان ثمة حارس، فإن كان   (1) شرح فتح القدير ج4 ص246. (2) بدائع الصنائع ج7 ص74. (3) المدونة ج16 ص79، 80. (4) شرح الزرقانى ج8 ص99، 100، 102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 الحافظ راكباً الجمل فلا قطع (1) ؛ لأن يد الحافظ لم تزل عن المسروقات (2) . ومذهب الشيعة فى هذه المسألة كمذهب أحمد والشافعى لأنهم يعتبرون الجوالق حرزاً بالحارس (3) . وإذا سرق الجانى بعيراً أو شاة أو بقرة من المرعى لم يقطع عند أبى حنيفة سواء كان الراعى معها أم لم يكن، أما إذا سرقها من المراح التى تأوى إليه فيقطع سواء كان معها حافظ أم لا؛ لأن المراح حرز بنفسه، وحجة أبى حنيفة أن المرعى لا يعتبر حرزاً بنفسه ولا يعتبر حرزاً بالحافظ ولو أن الراعى موجود لأنه يوجد للرعى لا للحراسة وإن كانت الحراسة تحدث فعلاً بوجوده بخلاف المراح فإنه أعد لحفظ المال وخصص لهذا الغرض، ويشترط أبو حنيفة لاعتبار المراح أو الحظيرة حرزاً بنفسه أن تكون مسورة وعليها باب (4) . ويرى مالك ما يراه أبو حنيفة فى سرقة الدواب والماشية فى المرعى فلا قطع فى سرقتها مع وجود الراعى، أما إذا سرقت من المراح أو الحظيرة ففى سرقتها القطع، وإذا سرقت فيما بين المرعى والمراح مع وجود الحافظ فالبعض يرى القطع والبعض لا يراه. والإبل المقطرة عند مالك تقطع فى سرقتها أو نازلة مجتمعة أو مقطرة (5) . ولا يشترط عند مالك أن يكون المراح أو الحظيرة مسورة أو لها باب بل يكفى أن يعد المكان مراحاً أو موقفاً للدواب (6) . ويرى الشافعى أن السائمة من إبل وخيل وبغال وحمير وغيرها تحرز فى المرعى بملاحظة الراعى لها بأن يراها ويبلغها صوته فإن نام عنها أو غفل عنها   (1) كشاف القناع ج4 ص82. (2) المغنى ج10 ص253، أسنى المطالب ج4 ص142، 144. (3) شرح الأزهار ج4 ص371. (4) بدائع الصنائع ج7 ص74، شرح فتح القدير ج4 ص246. (5) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص101، 102. (6) شرح الزرقانى ج8 ص100، المدونة ج16 ص79. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 فغير محرزة، وإن استتر بعضها عنه فغير محرزة، ويرى البعض أنه يكفى أن يبلغها النظر ولو لم يبلغها الصوت، وتحرز السائمة فى المراح بالمراح المسور والمغلق بابه سواء كان السور حطباً أم قصباً أم حشيشاً أم غير ذلك بحسب العادة. فإن كان المراح مفتوحاً أو خارج العمران فحرز بحارس وتحرز الدواب السائرة بسائق لها يراها كلها أو قائد لها يراها كلها على أن يكثر الالتفات أو بقيادة بعضها وسوق البعض الآخر، فإن لم ير بعضها فهو غير محرز (1) . ويرى أحمد ما يراه الشافعي (2) ويزيد عليه أن الإبل تحرز وهى باركة إذا عقلت وكان معها حافظ ولو نام الحافظ لأن العادة أن صاحب الإبل يعقلها إذا نام، وإن لم تعقل الإبل وكانت الإبل باركة والحافظ ينظر إليها بحيث يراها فهى محرزة، فإذا نام أو انشغل عنها فهى غير محرزة. والثمار المعلقة فى أشجارها والزرع غير المحصود لا قطع فى سرقتها إذا سرقت وهى معلقة أى قبل الجنى والحصد، وكذلك لا قطع فيها بعد جنيها أو حصدها ما لم تنقل إلى الجرن، وهذا متفق عليه بين الفقهاء ولا يخالف فيه إلا الظاهريون حيث يرون القطع فى الثمار والزرع معلقاً أو غير معلق (3) ، ويرى أبو حنيفة أن لا قطع فى الثمار والزرع ولو كانت محاطة بسور أو حائط. ولكن مالكاً والشافعى وأحمد يرون قطع من سرق ثمراً من شجرة نابتة فى دار محرزة لأن السرقة تعتبر مما هو محرز بالدار. وفى مذهب مالك يرى أصحابه قطع من يسرق ثمراً من بستان مسور له غلق. والشافعيون يرون القطع فى هذه الحالة إن كان ثمة حارس كما يرون أن أشجار أفنية الدور محرزة بلا حارس. فإذا قطع الثمر أو حصد الزرع فلا قطع فيه إلا إذا وضع فى الجرن. على   (1) أسنى المطالب ج4 ص144، 145. (2) المغنى ج10 ص252، كشاف القناع ج4 ص82. (3) المحلى ج11 ص332، المهذب ج2 ص295، أسنى المطالب ج4 ص144، بدائع الصنائع ج7 ص69، شرح الزرقانى ج8 ص100، 105، شرح الأزهار ج4 ص399. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 أن بعض المالكيين يرون القطع فيما يسرق قبل النقل للجرن إذا كوم أو كدس أكداساً بعضها إلى بعض حتى يصير كالشىء الواحد، لأنه يصير فى حالة تتفق مع حالته فى الجرن. كما يرون القطع فى السرقة أثناء النقل إلى الجرن إذا كان ثمة حافظ. وإذا وضعت الثمار والزروع فى الجرن ففى سرقتها عند مالك والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية سواء كان هناك حافظ أم لا، ما دام الجرن داخل العمران، فإن كان الجررن خارج العمران فلا يجب القطع عند الشافعى وأحمد إلا إذا كان ثمة حارس، ويستوى أن يكون الثمر أو الزرع قد استحكم جفافه أم لا. ولكن أبا حنيفة لا يقطع فيما سرق من الجرن إلا إذا كان الثمر أو المحصول المسروق منه قد استحكم جفافه لأنه يلحق ما لم يستحكم جفافه بالتافه ولا قطع عنده فى تافه. وإذا كان الإذن بالدخول يبطل الحرز فى حق المأذون له على الوجه الذى سبق بيانه فتطبيقاً لذلك لا يقطع الخدم فى سرقة أموال مخدوميهم، ولا الضيوف فى سرقة أموال من أضافوهم، ولا الأجير إذا سرق من موضع مأذون له فى دخوله، ويقاس على هؤلاء كل من أذن له بدخول الحرز، لأن الإذن بالدخول يخرج الموضع المأذون فى دخوله من أن يكون حرزاً. وإذا أذن لشخص بأخذ شىء من الحرز ولم يؤذن له فى دخول الحرز فدخله وأخذ الشىء المأذون فى أخذه وسرق شيئاً آخر فلا قطع عليه لأن الإذن بأخذ المتاع يتضمن الإذن بالدخول فى الحرز والإذن بدخول الحرز يبطله فى حق المأذون له، فلا يشترط إذن أن يكون الإذن بالدخول صريحاً بل يكفى أن يكون ضمنياً، ويراعى فيما سبق الخلافات التى سبق عرضها بين الفقهاء فى حالة ما إذا سرق المأذون له من محل مغلق (1) . ويعتبر السارق مأذوناً له بدخول الحرز إذا كان له حق الانتفاع به كالمستأجر   (1) بدائع الصنائع ج7 ص74، 75، شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص103، 104، أسنى المطالب ج4 ص146، 149، المغنى ج10 ص253، 257، كشاف القناع ج4 ص84، شرح الأزهار ج4 ص372، المدونة ج16 ص72، 75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 والمرتهن والمستعير، فإذا سرق المستأجر مالاً لمؤجر من الدار المؤجرة، أو سرق الدائن المرتهن مالاً لمدين من العين المرهونة، أو سرق المستعير شيئاً للمعير من الدار المعارة، فلا قطع على أحدهم لأن لهم حق الانتفاع بالحرز واستعمال هذا الحق يقتضى دخول الحرز. أما المالك للحرز فلا يعتبر مأذوناً له بدخوله إذا كان حق الانتفاع لغيره، ولذلك يقطع إذا سرق مالاً من الحرز للمنتفع، فالمؤجر إذا سرق مالاً للمستأجر من الدار المؤجرة والمدين إذا سرق مالاً للمرتهن من الدار المرهونة يقطع كل منهما بسرقته، وهذا ما يراه أبو حنيفة ومالك والشافعى وأحمد والشيعة, ولكن أبا يوسف ومحمدًا يريان عدم القطع لأن الحرز ملك السارق فهناك شبهة فى إباحة الدخول والشبهة تدرأ الحد (1) . ويقطع المعير إذا سرق مالاً للمستعير من الحرز المعار, وبهذا قال الشافعى وأحمد, ولكن أبا حنيفة والشيعة الزيدية يرون أن لا قطع على المعير؛ لأن المنفعة ملك له وله الرجوع فى العارية متى شاء فيعتبر دخوله فى الحرز رجوعًا وتكون السرقة من غير حرز (2) . ويعتبر المالك للحرز مأذونًا له بدخول الحرز إذا كان مغصوبًا منه, فمن غصب شخصًا داره ثم أحرز فيها مالاً فجاء صاحب الدار وسرق ما فيها من مال فلا تعتبر السرقة من حرز لأن الغصب لم يسلب المالك حقه فى ملكية الحرز (3) . كذلك لو كانت الدار مستأجرة أو مرتهنة أو معارة فانتهت الإجارة أو الرهن أو العارية ورفض المنتفع رد الدار أو أهمل الرد (4) مع تمكنه من ذلك, ففى هذه الحالة يكون المنتفع فى حكم الغاصب (5) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص75. (2) المغنى ج 10 ص 256, أسنى المطالب ج 4 ص 138, شرح الأزهار ج4 ص372, مواهب الجليل ج6 ص307, نهاية المحتاج ج7ص434. (3) المغنى ج10 ص257. (4) نهاية المحتاج ج7 ص435, شرح الأزهار ج4 ص372. (5) أسنى المطالب ج7 ص75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 610- السرقات من الأقارب: وفى مذهب أبى حنيفة لا قطع على من سرق من ذى رحم محرم؛ لأنهم يدخل بعضهم على بعض دون إذن عادة فكان هناك إذن ضمنى بالدخول فتكون السرقة من غير حرز, فضلاً عن أن القطع بسبب السرقة يفضى إلى قطع الرحم وذلك حرام, والقاعدة أن ما أفضى إلى الحرام فهو حرام (1) . أما من سرق من ذى رحم غير محرم فيقطع بسرقته؛ لأنهم لا يدخل بعضهم على بعض عادة دون استئذان فليس هناك إذن صريح ولا ضمنى بالدخول. والسرقة من محرم غير ذى رحم كالأم من الرضاعة والأخت من الرضاعة مختلف عليها فى المذهب، فأبو حنيفة ومحمد يريان القطع فيها, وأبو يوسف لا يرى القطع فى حال السرقة من الأم ويقطع فيما عدا ذلك, وحجته أن الإنسان يدخل بيت أمه من الرضاع دون إذن عادة فهناك إذن ضمنى بالدخول (2) . ومن سرق من امرأة أبيه أو زوج أمه أو حليلة ابنه أو من ابن امرأته أو أمها فلا قطع عليه إن كانت السرقة من منزل من يضاف إليه السارق من أبيه أو أمه أو ابنه أو امرأته لأنه مأذون له بالدخول فى منزل هؤلاء فلم يكن المنزل حرزًا فى حقه. وإن سرق من منزل آخر فإن كانا فيه لم يقطع, وإن كان لكل واحد منهما منزل على حدة فيرى أبو حنيفة أن لا قطع, ويرى أبو يوسف ومحمد القطع, وحجة أبى حنيفة أن حق التزاور ثابت بين السارق وبين قريبه وكون المنزل لغير قريبه لا يمنع من أن له زيارة قريبه, وهذا يورث شبهة إباحة الدخول فيختل الحرز (3) . هذا هو حكم السرقة من الأقارب فى مذهب أبى حنيفة. أما الشافعى وأحمد فعندهما أن الولد لا يُقطع بسرقة مال ولده وإن سفل, وسواء فى ذلك الأب والأم والابن والبنت والجد والجدة من قِبَل الأب والأم؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:   (1) بدائع الصنائع ج7 ص75. (2) بدائع الصنائع ج7 ص75. أسنى المطالب ج4 ص140, المغنى ج10 ص284, 286. (3) شرح الزرقانى ج8 ص98. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 "أنت ومالك لأبيك", ولقوله: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه", وفى لفظ: "فكلوا من كسب أولادكم". ولا يقطع الابن عندهما بسرقة مال والده وإن علا لأن النفقة تجب من مال الأب لابنه حفظًا له فلا يجوز إتلافه حفظًا للمال. فأما سائر الأقارب كالإخوة والأخوات ومن عندهم فيقطع بسرقة مالهم ويقطعون بسرقة ماله (1) . ويرى مالك أن لا قطع على الأصول إذا سرقوا من الفروع, فلا قطع على الجد والجدة لأب أو لأم والأب والأم إذا سرقوا من أحفادهم أو أبنائهم. ولكن إذا سرق الفروع من الأصول قطعوا بسرقتهم, فلا يعفى مالك من القطع للقرابة إلا الأصول لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك" (2) , ويرى بعض الشيعة الزيدية رأى مالك ويرى البعض أن لا قطع على الأصول إذا سرقوا من الفروع ولا على الفروع إذا سرقوا من الأصول ولا قطع بين ذوى الأرحام المحارم (3) . أما الظاهريون فيرون قطع الأصول إذا سرقوا من الفروع وقطع الفروع إذا سرقوا من الأصول ولا يسقطون القطع بالقرابة, ويرون أن حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - "أنت ومالك لأبيك" منسوخ بآيات المواريث (4) . وإذا سرق أحد الزوجين من الآخر فيرى مالك قطع السارق منهما إذا سرق مالاً محجورًا عنه أى محرزًا فى مكانه مغلقًا لا يسمح له بدخوله, فإذا سرق من مال لم يحجر عنه فلا قطع عليه, ويستوى أن يكون المال المحجور عنه فى نفس المنزل الذى يقيمان فيه أو فى غيره (5) . ويرى أبو حنيفة أن لا قطع على أحد الزوجين فى سرقة مال الآخر سواء سرق من البيت الذى يقيمان فيه أم من بيت   (1) شرح الأزهار ج4 ص375. (2) المحلى ج11 ص343, 347. (3) (4) (5) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص 100. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 آخر؛ لأن كلاً من الزوجين مأذون له بدخول منزل صاحبه كما أنه ينتفع بماله عادة وهذا يوجب خللاً فى الحرز (1) . وفى مذهب الشافعى ثلاثة آراء, أحدها كرأى مالك, والثانى كرأى أبى حنيفة, والثالث يرى أصحابه قطع الزوج إذا سرق مالاً محجورًا عنه من مال الزوجة ولا يرى قطع الزوجة إذا سرقت ما حجر عنها من مال الزوج, وحجتهم أن للزوجة حقًا فى مال الزوج لأنه ملزم بالإنفاق عليها وليس الزوج كذلك (2) . والرأى الأول هو الراحج فى المذهب (3) . وفى مذهب أحمد رأيان أحدهما كرأى مالك, والثانى كرأى أبى حنيفة (4) . ومذهب الشيعة الزيدية فيه الرأيان: رأى مالك وأبى حنيفة (5) . أما الظاهريون فيرون القطع على كل واحد من الزوجين إذا سرق من مال صاحبه ما لم يبح له أخذه سواء كان محرزًا عنه أو غير محرز؛ لأن الظاهريين لا يعترفون بالحرز, أما إذا كان المأخوذ مباحًا أخذه كنفقة الزوجة أو طعامها أو كسوتها فلا قطع فيه (6) . وهذا هو حكم السرقة بين الزوجين ما دامت السرقة قد وقعت والزوجية قائمة, ولا عبرة بالدخول, فلو حدث الطلاق قبل الدخول فلا قطع فيما يقع من سرقات بين الزوجين من وقت الزواج إلى وقت الطلاق لأن الزوجية كانت قائمة وقت السرقة, أما ما يقع بعد الطلاق ففيه القطع لأن غير المدخول بها لا عدة لها لقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] , وإذا كانت السرقة فى عده الطلاق الرجعى فلا قطع أيضًا لأن الزوجية تظل قائمة حتى تنتهى العدة, أما السرقة فى عدة الطلاق البائن ففيها القطع. ولكن أبا حنيفة لا يرى القطع إذا وقعت السرقة فى عدة الطلاق البائن؛ لأن النكاح فى حال العدة قائم من وجه كما أن أثره قائم وهو العدة, وقيام النكاح من كل وجه يمنع القطع فقيامه من وجه   (1) بدائع الصنائع ج7 ص 75. (2) المذهب ج2 ص 299. (3) نهاية المحتاج ج7 ص 424, أسنى المطالب ج4 ص141. (4) المغنى ج10 ص 287. (5) شرح الأزهار ج4 ص 376. (6) شرح الأزهار ج4 ص376. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 أو قيام أثره يورث الشبهة والحدود تدرأ الشبهات (1) . وإذا كانت السرقة بعد انتهاء العدة ففيها القطع بلا خلاف, وقيام الزوجية بعد السرقة لا أثر له على السرقة التى وقعت قبلها فيقطع السارق فيها, ولا يخالف فى هذا إلا الحنفية فإنهم يرون أن الزواج إذا حصل قبل الحكم فى الجريمة لم يحكم فيها بالقطع لأن الزواج مانع طرأ على الحد والمانع الطارئ عند الحنفية له حكم المانع المقارن إذا أدى لإسقاط الحد. ويرى أبو حنيفة أن الزواج إذا حصل بعد الحكم وقبل تنفيذ العقوبة لم يقطع, وحجته أن الإمضاء فى باب الحدود من تمام القضاء فكانت الشبهة المعترضة على الإمضاء كالمعترضة على القضاء, وكان الطارئ على الحدود قبل الإمضاء بمنزلة الموجود قبل القضاء. ولكن أبا يوسف يرى فى هذه الحالة عدم سقوط حكم القطع بالزواج لأن المانع من القطع فى حالة الزوجية هو شبهة عدم الحرز, فإذا اعتبرت الزوجية الطارئة شبهة مانعة من القطع لكان معنى ذلك اعتبار الشبهة وهى ساقطة فى باب الحدود (2) . واختلف فى مذهب أبى حنيفة فيما إذا كان الحرز المعتبر للشيء المسروق هو حرز مثله أو حرز نوعه, فرأى البعض أن يعتبر فى الشيء حرز المثل؛ فالإسطبل مثلاً حرز الدابة والحظيرة حرز الشاة والبيوت والخزائن حرز النقود والجواهر, ورأى البعض أن ما كان حرز النوع جاز أن يكون حرزًا للأنواع كلها؛ فالإسطبل مثلاً حرز للدابة فيجوز أن يكون حرزًا للنقود أو الجواهر (3) . ولكن الأئمة الثلاثة والشيعة الزيدية يرون هذه المسألة للعرف ويرون أن حرز الشيء هو ما جرت العادة بحفظه فيه وما لا يعتبر صاحبه مضيعًا, والمرجع فى تعيين ذلك للعرف, فرأيهم إذن يتفق مع الرأى الأول فى مذهب أبى حنيفة (4) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص 76. (2) بدائع الصنائع ج7 ص 76, شرح فتح القدير ج4 ص 240. (3) بدائع الصنائع ج7 ص76, شرح فتح القدير ج4 ص242. (4) شرح الزرقانى ج8 ص98, أسنى المطالب ج4 ص101, المغنى ج10 ص250, شرح الأزهار ج4 ص 270. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 ولهذا المبحث أهمية كبرى ذلك أن القطع لا يجب إلا فى سرقة من حرز فإذا قلنا بأن الحرز حرز المثل امتنع مثلاً القطع فى سرقة الجواهر من الإصطبل أو الجرن وسرقة الأقمشة من حظيرة الشاة لأن الإصطبل والجرن والحظيرة لا يعتبر أيهم حرز لهذه الأشياء فكانت السرقة واقعة على مال غير محرز وإذا قلنا: إن حرز نوع معين هو حرز لباقى الأنواع وجب القطع فى هذه السرقات لأنها واقعة على مال محرز. 611- رابعًا: أن يبلغ المال المسروق نصابًا: الأصل فى شرط النصاب أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما أثر من فعله, فقد روى ابن عمر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قطع فى مجن ثمنه ثلاثة دراهم أو قيمته ثلاثة دراهم على رواية, رواه الجماعة. وعن عائشة أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع يد السارق فى ربع دينار فصاعدًا" رواه أحمد ومسلم والنسائى وابن ماجه, وفى رواية قال: "تقطع يد السارق فى ربع دينار" رواه البخارى والنسائى وأبو داود, وفى رواية: "تقطع يد السارق فى ربع دينار فصاعدًا" رواة البخاري, وفى رواية قال: "اقطعوا فى ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك", وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثنا عشر درهمًا, رواه أحمد. وفى رواية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن" قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار. رواة النسائى. وعن أبى هريرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده, ويسرق الحبل فتقطع يده" (1) . وجمهور الفقهاء على اشتراط النصاب بوجوب القطع فى السرقة إلا ما روى عن الحسن البصرى وداود وما عرف عن الخوارج من وجوب القطع فى سرقة القليل والكثير, وحجتهم إطلاق قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة:38] , كما استدلوا بحديث أبى هريرة: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده, ويسرق الحبل فتقطع يده". ولكن جمهور الفقهاء يرون أن إطلاق الآية مقيد بأحاديث الرسول التى سبق ذكرها, ويرون أن حديث أبى هريرة أريد به تحقير شأن السارق والتنفير من السرقة (2) . وإذا كان جمهور الفقهاء يشترط النصاب فى القطع إلا أنهم اختلفوا فى تحديد مقدار هذا النصاب, فيرى مالك أن القطع يجب فى ثلاثة دراهم من الفضة وربع دينار من الذهب, فإذا كان المسروق من غير الذهب أو الفضة قُوم بالدراهم لا بالذهب إذا اختلفت قيمة الثلاثة دراهم مع الربع دينار ولاختلاف الصرف مثل: أن يكون الربع فى وقت درهمين ونصفًا, فإذا ساوى المسروق ثلاثة دراهم قطع وإن لم يساو ربع دينار, وإن ساوى ربع دينار ولم يساو ثلاثة دراهم لم يقطع (3) . فالقاعدة عند مالك أن كل واحد من الذهب والفضة معتبر بنفسه, وقد روى عنه بعض البغداديين أنه ينظر فى تقديم العروض إلى الغالب فى نقود أهل البلد, فإذا كان الغالب دراهم قومت بالدراهم وإن كان الغالب الدنانير قومت بالدنانير, والمشهور هو الرأى الأول. ويرى الشافعى أن القطع يجب فى ثلاثة دراهم من الفضة وربع دينار من الذهب كما يرى مالك, ولكن الشافعى يرى أن الأصل فى تقويم الأشياء هو الذهب فالربع دينار أصل للدراهم ومن ثم فلا يقطع عنده إلا فيما يساوى ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار, وإذا كانت السرقة من غير الذهب قومت بالذهب (4) . وفى مذهب أحمد روايتان: الأولى: أن النصاب الذى يقطع فيه هو ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الفضة أو ما قيمته ثلاثة دراهم من غيرهما, وهذا هو مشهور مذهب مالك. الثانية: أن النصاب الذى يقطع فيه هو ربع   (1) نيل الأوطار ج7 ص36 وما بعدها. (2) نيل الأوطار ج7 ص36, 39, بداية المجتهد ج2 ص 373. (3) حاشية الشيبانى ج8 ص 94. (4) المهذب ج2 ص 294, نهاية المحتاج ص419. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الوَرِق أى الفضة, فإذا سرق السارق من غير الذهب والفضة ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع, فإذا اختلفت قيمة الربع دينار مع الثلاثة دراهم قطع إذا بلغ المسروق أقل القيمتين (1) . ويرى أبو حنيفة أن النصاب الذى يقطع فيه هو عشرة دراهم تساوى دينارًا, فلا قطع عنده فى أقل من عشرة دراهم, وحجته ما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان لا يقطع إلا فى ثمن مجن وهو يومئذ يساوى عشرة دراهم, وفى رواية أخرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطع فيما دون عشرة دراهم", وعن ابن مسعود أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقطع اليد إلا فى دينار أو عشرة دراهم", وما روى عن ابن عباس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقطع السارق إلا فى ثمن المجن", وكان يقوم يومئذ بعشرة دراهم. ويرى الحنفية أن الإجماع منعقد على القطع فى عشرة دراهم, وفيما دون العشرة اختلف الفقهاء لاختلاف الأحاديث فوقع الاحتمال فى وجوب القطع ولا يجب القطع مع الاحتمال (2) . ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع المذهب الحنفى (3) , ويرى ابن حزم من فقهاء المذهب الظاهرى أن نصاب السرقة الذى يقطع فيه اليد هو ربع دينار إذا كان المسروق ذهبًا, فإذا كان المسروق مما سوى الذهب فالقطع إنما يجب فى سرقة ما يساوى ثمن مجن أو ترس قل? ذلك أو كَثُرَ دون تحديد, ولم يحاول ابن حزم أن يبين قيمة المجن أو الترس لما روى عن عائشة من أن يد السارق لم تكن تقطع على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى أدنى من ثمن مجن أو ترس كل واحد منهما يومئذ ذو ثمن وأن يد السارق لم تكن تقطع على عهد الرسول فى الشيء التافه. أما إذا كانت قيمة المسروق أقل من ثمن المجن أو الترس فلا قطع فيه أصلاً لأن ذلك هو التافه (4) .   (1) المغنى ج10 ص242, كشاف القناع ج4 ص78. (2) بدائع الصنائع ج7 ص 77. (3) شرح الأزهار ج4 ص 364. (4) المحلى ج11 ص 350, 353. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 ويلاحظ أن صاحب نيل الأوطار ذكر أن ابن حزم يرى القطع إذا كان المسروق ربع دينار من الذهب ويرى القطع فى غيره إلا فى القليل أو الكثير بحجة أن التحديد فى الذهب منصوص ولم يوجد نص فى غيره, وهذا الذى قاله مؤلف نيل الأوطار لا يتفق مع ما صرح به ابن حزم فى المحلى (1) . وهناك آراء أخرى فى النصاب لفقهاء آخرين, لا توجب القطع إلا فى أربعة دنانير أو أربعين درهمًا, ويرى البعض القطع فى درهمين, وهناك من يرى القطع فى أربعة دراهم, ومن يراه فى ثلث دينار وهو مذهب الباقر, ومن يراه فى خمسة دراهم (2) . وإذا كان النصاب شرطًا فى القطع فلا قطع إذا قلت قيمة المسروق عن النصاب, فإذا دخل السارق دارًا فأخرج منها أقل من النصاب فلا قطع عليه وإذا أخرج درهمًا أو ما قيمته جميعًا درهم إلى صحن الدار ثم عاد فأخرج مثله وهكذا حتى أخرج النصاب أو قيمه النصاب ثم خرج بها جميعًا من صحن الدار فأنه يقطع فيها ولو أنه أخرج النصاب إلى صحن الدار مجزءًا لأن ما حدث منه يعتبر سرقه واحده إذ الدار وصحنها حرز واحد, وما دام المسروق فى صحن الدار هو لم يخرج من الحرز, فإذا أخرجه من الصحن إلى الخارج فقد أخرجه من الحرز وتمت السرقة ما لم تكن الدار مكونة من عده بيوت مستقلة والصحن مشترك لها جميعًا, فإن الإخراج إلى الصحن يعتبر إخراجًا من الحرز ولو لم يخرج السارق بالمسروقات إلى خارج الدار إذ كل بيت مستقل يعتبر حرزًا وحده (3) . وإذا أخرج المسروق من بيت مستقل فى الدار إلى صحنها المشترك مرة واحدة وكان يبلغ نصابًا فالحكم هو ما سبق؛ لأن السرقة تعتبر تامة بالإخراج إلى صحن الدار مع ملاحظة الفرق بين من يعتبرون بطلان الحرز بفتح الباب ومن   (1) نيل الأوطار ج7 ص36, 39, المحلى ج11 ص 252. (2) نيل الأوطار ج7 ص 28, 29, بداية الجتهد ج2 ص 373, 374. (3) نيل الأوطار ج7 ص 28, 29, بدايه المجتهد ج2 ص 373, 374. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 لا يعتبرون, فعند من يرى الإبطال أنه قطع إذا أخرج المتاع إلى صحن الدار من بيت مفتوح لأن المال ليس محرزً, فإن كان البيت مقفلاً وباب الدار مفتوح قطع لأنه أخرجه من حرزه إلى محل الضياع (1) , أما إذا أخرج المسروق من بيت مستقل فى الدار إلى صحنها المشترك أو أخرجه من الدار غير المشتركة إلى خارجها وكان الإخراج على دفعات وكل دفعه تقل عن النصاب فالحكم مختلف عند الفقهاء, وقد بسطناه بمناسبة الكلام على إبطال الحرز (2) . وإذا دخل جماعة دارًا فأخرجوا المتاع منها دفعة واحدة إلى صحن الدار المشترك أو إلى خارج الدار فالحكم يختلف بحسب ما إذا كان هناك تعاون على الإخراج أو اشتراك فيه, وقد سبق أن تكلمنا عن ذلك مفصلاً, أما إذا أخرجوا المتاع مجزءًا على دفعات فتطبق عليهم قواعد الإخراج على دفعات مع قاعدة التعاون والاشتراك, وإذا سرق شخص واحد نصابًا واحدًا من حرزين مختلفين فلا قطع عليه لأنهما سرقتان مختلفتان وكل واحد من المنزلين حرز مستقل, ويشترط القطع فى كل سرقة أن يخرج عن كل حرز نصابًا كاملاً. ولو سرق شخص نصابًا يملكه عده أشخاص قطع به ولا عبرة بعدد المجنى عليهم, وكذلك الحكم لو كان المجنى عليهم فى دار واحدة كل منهم فى بيت من بيوتها لأن الدار حرز واحد, أما إذا كانت البيوت مستقلة اعتبر كل بيت حرزًا مستقلاً ولم يقطع الجاني (3) . ولكن بعض الشيعة الزيدية يرون القطع فى هذه الحالة إذا بلغت قيمة الجزء الذى أخرج نصابًا (4) , وإذا أخرج السارق بعض المسروقات من الحرز دون البعض الآخر وكان المسروق شيئًا واحدًا, كخشبة أو صندوق أو ما أشبه فلا قطع عليه ولو كانت قيمة ما خرج من المسروقات تزيد على النصاب لأن بعض المسروق   (1) أسنى المطالب ج4 ص 149, المغنى ج10 ص260. (2) راجع ص501. (3) بدائع الصنائع ج7 ص77, أسنى المطالب ج4 ص 137, 138, شرح الزرقانى ج8 ص 92, 94, المغنى ج10 ص 241. (4) شرح الأزهار ج4 ص367. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 لا ينفرد عن بعض, ولأنه لم يتم إخراجه (1) , ولو وجد المسروق على هذا الوجه فأخرجه فلا قطع عليه لأن المسروق بهذا الوجه لا يعتبر محرزًا, ولأنه كما يقال إنه فى الحرز يقال أنه خارج الحرز (2) . ومن يبطلون الحرز بفتح الباب والنقب لا يعتبرون الأخذ من حرز فى هذه الحالة إذا كان الشيء خارجًا من باب أو ثقب, ويستوى أن تكون المسروقات مجتمعة أو متفرقة داخل الحرز ما دام الحرز واحدًا, والعبرة بما يخرجه السارق من الحرز فإن كان أقل من نصاب فلا قطع وإن كان أكثر من نصاب قطع به على التفصيل السابق. وإذا نقصت قيمة المسروق بهلاك بعضه فى يد السارق بعد الخروج به من الحرز فالعبرة اتفاقًا بقيمته وقت السرقة, أما إذا كان سبب النقصان نزول السعر فقد اختلفوا فى مذهب أبى حنيفة, فيرى البعض اعتبار القيمة وقت الحكم أما الزيادة فغير معتبرة, ويرى البعض اعتبار القيمة وقت الإخراج من الحرز, كذلك اختلفوا فى المذهب إذا كانت السرقة فى بلد وضبط المسروق فى بلد آخر فيرى البعض أن العبرة بقيمة المسروق فى محل ضبطه, ويرى البعض الرجوع إلى قيمة المسروق فى محل السرقة (3) . ويرى الأئمة الثلاثة أن العبرة بقيمة المسروق فى كل الأحوال وقت السرقة أى وقت إخراجه من الحرز لا قبل ذلك ولا بعد, فإذا كان لا يساوى نصابًا وقت الإخراج فلا قطع ولو كان سبب النقص فعل الجانى كأن أكل بعضه أو أتلفه أو أفسده ولا عبرة فى الرخص والغلاء الطارئين بعد إخراج المسروق من الحرز وتعتبر القيمة فى مكان السرقة لا فى مكان آخر (4) .   (1) المغنى ج10 ص361, أسنى المطالب ج4 ص 138. (2) شرح الزرقانى ج8 ص105. (3) بدائع الصنائع ج7 ص 79. (4) شرح الزرقاتى ج8 ص 94, المهذب ج2 ص300, المغنى ج10 ص 278, أسنى المطالب وحاشية الرملى ج4 ص 137. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 وعند الشيعة الزيدية أن العبرة بقيمة المسروق وقت المرافقة لا وقت السرقة, فإذا سرق شيئًا وقيمته وقت السرقة عشرة دراهم ثم كانت قيمته وقت المرافقة أقل من ذلك سقط القطع, أما إذا زادت القيمة فلا عبرة بالزيادة (1) , وإذا حكم بالقطع فنزلت القيمة قبل التنفيذ فعلى رأى أبى حنيفة والشيعة يسقط القطع لأنهم يجعلون المانع الطارئ بعد الفعل فى حكم المانع المقارن ويجعلون الإمضاء من تمام القضاء. ويرى أبو حنيفة أنه إذا اختلف المختصون فى تقويم المسروق فقدره بعضهم بأقل من النصاب وقدره بعضهم بنصاب دُرِئ القطع, وحجته فى ذلك فعل عمر حين رأى قطع سارق فقال له عثمان: إنما سرقه لا يساوى نصابًا فدرأ عنه القطع (2) . ويتفق مذهب أحمد فى هذا لأنه يرى فى حالة تعارض البينات فى القيمة أن يؤخذ بالقيمة الأقل (3) . ويرى الشافعى أن المسألة تختلف باختلاف الأساس الذى تقوم عليه شهادة المقوِّمين الذين يقوِّمون العين بالأكثر, فإن قامت على أساس القطع أخذ بهذه الشهادة وإن قامت على أساس الظن أخذ بالتقويم الأقل لتعارض البينات (4) . أما مالك فبرى أنه إذا شهد عدلان بأن قيمة المسروق نصابًا أخذ بشهادتهما ولو عارضتها شهادات أخرى, وعلة ذلك أن المبدأ عند مالك هو تقديم المثبت على النافي (5) . ولا يشترط الشافعى أن يعلم السارق بقيمة المسروق بل يكفى أن يقصد السرقة ثم يسرق نصابًا, فإذا قصد سرقة شيء تافه فى اعتقاده فتبين أنه يزيد على نصاب قطع فيه, وإذا سرق ثوبًا لا يساوى نصابًا فوجد فى جيبه نقودًا تبلغ نصابًا قطع, وإذا قصد سرقة صندوق به نقود فوجده فارغًا والصندوق لا يساوى نصابًا لم يقطع (6) .   (1) شرح الأزهار ج4 ص374. (2) بدائع الصنائع ج7 ص77, 79. (3) كشاف القناع ج4 ص237. (4) نهاية المحتاج ج7 ص 420, أسنى المطالب ج4 ص137. (5) المدونة ج16 ص90. (6) أسنى المطالب ج4 ص137, 138, نهاية المحتاج ج7 ص420. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 وعلى هذا أحد الرأيين فى مذهب أبى حنيفة, أما الرأى الأخر فيستوجب علم السارق بحقيقة قيمة المسروق, فإن كان يعلم بوجود النقود فى جيب الثوب قطع وإن لم يكن يعلم لم يقطع لأنه قصد سرقة الثوب فقط وهو لا يبلغ النصاب ولا قطع فيه وحده, أما لو سرق غرارة أو صندوقًا أو جرابًا به مال كثير ولو لم يكن عالمًا بحقيقة ما فى الغرارة أو الجراب أو الصندوق لأنه قصد بالسرقة المظروف لا الظرف, ويستدل على القصد بالظروف والقرائن (1) . ويستوجب أحمد للقطع العلم بقيمة المسروق, فلو سرق منديلاً شد عليه دينار قطع إن علم بالدينار وإن لم يعلم به فلا قطع (2) . ويرى أن الجانى يؤخذ بقصد السرقة ولا عبرة بظنه أن قيمة المسروق تقل عن نصاب إلا إذا صدق العرف فى هذا الظن, فلو م يده فى جيب شخص فأخذ منه نقودًا وهو يظنها نحاسية قطع لأن العرف لم يجر على وضع النقود النحاسية وحدها فى الجيب بل يوضع فيه كل أنواع النقود, ولو سرق ثوبًا وهو لا يساوى نصابًا فارغًا ولكن فى جيبه نقود تبلغ نصابًا قطع ولو ظن أن الثوب فارغ لأن العرف جرى على وضع النقود فى جيوب الثياب, أما إذا سرق قطعة خشب فوجدها مجوفة وفى داخلها نقودًا تبلغ نصابًا فلا قطع إذا لم تبلغ قيمة الخشبة وحدها نصابًا إذ أنه كان يعتقد وقت السرقة انه يسرق خشبة غير مجوفة وليس فيها نقود (3) . ويحدث أن يكون بعض المسروق تابعًا لبعضه الآخر وأن يكون المسروق كله مما يقطع فيه كإناء من النحاس به حناء أو حمار عليه بردعة, كما يحدث أن يكون بعض المسروق تابعًا لبعضه وأن يكون بعضه فقط مما يقطع فيه كإناء من الذهب فيه خمر أو ككلب فيه طوق من الذهب. والأصل أن المقصود بالسرقة إذا كان مما يقطع فيه لو انفرد وبلغ نصابًا بنفسه يقطع السارق فيه   (1) بدائع الصنائع ج7 ص79, 80. (2) المغنى ج10 ص28. (3) شرح الزرقانى ج8 ص95. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 بلا خلاف وإن لم يبلغ بنفسه نصابًا إلا بالتابع يكمل النصاب بالتابع ويقطع السارق فى سرقته, وكذلك الحكم لو كان كل منهما لا يبلغ نصابًا أو مقصودًا لذاته يكمل أحدهما بالآخر ويقطع السارق. أما إذا كان المقصود بالسرقة مما لا يقطع فيه لو انفرد كالكلب وكان معه ما يقطع فيه كطوق الذهب فيرى مالك أن العبرة بقيمة ما فيه القطع فإذا بلغت قيمه الطوق نصابًا قطع السارق ولو كان يقصد الكلب دون الطوق (1) . وكذلك الحكم عند الشافعي (2) . ويرى أبو حنيفة أنه إن كان المقصود بالسرقة مما لا يقطع فيه إذا انفرد لا يقطع السارق وإن كان مع المسروق المقصود غيره مما يبلغ نصابًا ما دام الغير لم يقصد بالسرقة, ويؤيد هذا الرأى محمد ولكن أبا يوسف يخالفه ويأخذ برأى مالك والشافعي (3) . وفى مذهب أحمد رأيان: الرأى الأول كرأى مالك والشافعي, والثانى كرأى أبى حنيفة (4) . الركن الثالث: أن يكون مملوكًا للغير 612- يشترط لوجود جريمة السرقة أن يكون الشيء المسروق مملوكًا لغير السارق, فإن كان مملوكًا للسارق فالفعل لا يعتبر سرقة ولو أخذه الفاعل خفية. والعبرة بملكية السارق للمسروق وقت السرقة, فإن كان يملكه قبل السرقة ثم خرج من ملكه قبيل السرقة فهو مسئول عن السرقة وعليه القطع, وإن لم يكن يملكه ولكن دخل فى ملكه وقت السرقة فلا مسئولية عليه كأن ورثه أثناء السرقة, ويشترط لانعدام المسئولية أن يملكه قبل إخراجه من الحرز   (1) شرح الزرقاتى ج8 ص 97. (2) نهاية المحتاج ج7 ص421, المحلى ج11 ص338. (3) بدائع الصنائع ج7 ص79. (4) كشاف القناع ج4 ص78. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 فإن ملكه بعد إخراجه من الحرز فلا يعفيه ذلك من المسئولية الجنائية (1) ؛ لأن الشيء وقت إخراجه من الحرز كان على ملك غيره ومن ثم يقطع بسرقته عند مالك مطلقًا, أما الشافعى وأحمد والشيعة الزيدية فيفرقون بين ما إذا كان التملك قبل تبليغ السرقة والمطالبة بالمسروق أو بعد ذلك, فإن كان التملك قبل التبليغ فلا قطع ويعزر الجانى لأن مطالبة المجنى عليه بالمسروق شرط عندهم للقطع فإذا تملك الجانى المسروق قبل المطالبة لم تصح المطالبة بعد ذلك فلا يكون الحكم بالقطع ممكنًا عملاً, أما إذا كان التملك بعد المطالبة بالمسروق فلا يمنع التملك من الحكم بالقطع (2) , والفرق بين هؤلاء الفقهاء ومالك أن مالكًا لا يشترط للقطع مخاصمة المجنى عليه أو مطالبته بالمسروق فيكفى أن يبلغ بالسرقة أى شخص المجنى عليه أو غيره وليس من الضرورى أن يطالب المجنى عليه برد المسروق فالقطع واجب على السارق سواء بلَّغ المجنى عليه أو لم يبلغ, طالب المسروق أو لم يطالب (3) , أما هؤلاء الفقهاء فيشترطون للقطع أن يطالب المجنى عليه بالمسروق. ويرى أبو حنيفة أن تملك المسروق قيل القضاء يسقط القطع عن السارق وإن كان لا يمنع من تقديره فإذا تملكه بعد القضاء وقبل الإمضاء فيرى أبو حنيفة ومحمد أن لا يقطع السارق لأن الإمضاء من تمام القضاء, فما يصلح مانعًا للحد قبل القضاء يصلح مانعًا بعده, ويرى أبو يوسف أن تملك المسروق بعد القضاء لا يمنع من القطع, فإن سارق رداء صفوان أُتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر أن يقطع, فقال صفوان: يا رسول الله إنى لم أرد هذا وهو عليه صدقة, فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فهل قبل أن تأتينى به" فدل ذلك على أن التملك بعد القضاء لا يسقط القطع (4) .   (1) شرح الزرقانى ج8 ص97. (2) أسنى المطالب ج4 ص139, المغنى ج10 ص277, شرح الأزهار ج4 ص374. (3) المدونة ج16 ص66- 69. (4) بدائع الصنائع ج7 ص88, 89, شرح فتح القدير ج4 ص256. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 أما المذهب الظاهرى فيتفق مع مذهب أبى حنيفة فى هذه النقطة (1) . ولا يكفى لتكوين جريمة السرقة أن يكون الشيء المأخوذ غير مملوك لآخذه بل يشترط أن يكون مملوكًا لغير السارق فإن لم يكن مملوكًا لأحد كالأموال المباحة أو المتروكة فإن أخذه لا يعتبر سرقة ولو كان خفية ولا يعتبر الشخص سارقًا للمال ولو لم يكن يملكه إذا له حق الانتفاع به, فالمستأجر الذى يأخذ الشيء المؤجر له والمستعير الذى يأخذ الشيء المعار والمرتهن الذى يأخذ الشيء المرهون كل هؤلاء لا يعتبر أحدهم سارقًا ولو أخذ الشيء خفية عن المالك ما دام أنه أخذه لاستفاء حقه المقرر على الشيء, على أن مالكًا يرى قطع صاحب المنفعة إذا أخذ الشيء خفية عن مالكه قبل القبض (2) . ويجب أن يكون الشيء المأخوذ محلاً للملك حتى يكون محلاُ للسرقة فإن لم يكن محلاً للملك فلا يعتبر محلاً للسرقة, ولم يعد الإنسان بعد إبطال الرق محلاً للسرقة لأنه لم يعد محلاً للملك ومن ثم فلا يعتبر سرقة أخذ الأطفال خفية ولا أخذ الرجال والنساء بصفة عامة أيًا كان جنسهم أو لونهم أو دينهم, وقبل إبطال الرق كان العبيد والإماء محلاً للسرقة فى الشريعة باعتبارهم مالاً من وجه يمكن التصرف فيه كأى مال آخر, أما بعد إبطال الرق فلا يعتبر الإنسان مطلقًا محلاً للسرقة عند جمهور فقهاء المسلمين وعند أبى حنيفة والشافعى وعلى الرأى الراحج فى مذهب أحمد ومذهب الشيعة الزيدية, أما مالك فيخالف فى هذا الاتجاه ويعتبر سرقة يقطع فيها آخذ طفل خفية ذكرًا كان أو أنثى يمكن خداعه أو أخذ مجنونًا صغيرًا كان أو كبيرًا من حرز مثله كأن كان مع أهله أو مع كبير حافظ, فإن كان الطفل كبيرًا أو واعيًا أو لم يكن فى حرز مثله فلا قطع, ويرى الظاهريون كما يرى مالك القطع فى سرقة الحر الصغير وهو يوافق الرأى المرجوح فى مذهب أحمد ومذهب الشيعة الزيدية (3) . ورأى   (1) المحلى ج11 ص151. (2) شرح الزرقانى ج8 ص96, شرح الأزهار ج4 ص365. (3) بدائع الصنائع ج7 ص67, أسنى المطالب ج4 ص139, نهاية المحتاج ج7 ص438, المغنى ج10 ص245, شرح الزرقانى ج8 ص94, 103, المحلى ج11 ص337, شرح الأزهار ج4ص369. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 القائلين بأن أخذ الأطفال لا يعتبر سرقة وإنما هو جريمة خاصة يتفق مع مذهب القانون المصرى والقانون الفرنسى ولكن يلاحظ أن القانون المصرى والفرنسى يعاقبان على خطف الأطفال بعقوبة أشد من عقوبة السرقة العادية وأن القانون الفرنسى يعبر عن خطف الأطفال باللفظ الذى يعبر به عن السرقة وهو Val, ولعل هذا أثر لما كان علية القانون الفرنسى قديمًا من اعتبار الفعل سرقة. ويكفى لوجود السرقة أن يكون الشيء مملوكًا للغير ولو كان المالك مجهولاً كسرقة مال شخص غير معروف أو كان المالك غير معين كسرقة المال الموقوف على الفقراء أو الأغراب أو التعليم, وهذا هو ما يراه مالك (1) , وهو ما يراه الظاهريون؛ لأنهم يرون قطع كل من سرق مالاً لا نصيب له فيه (2) , وعند الشافعى وأحمد أن أخذ مال مجهول خفية سرقة ولكن لا يقطع عندهما فيها لأنهما يشترطان للقطع مطالبة المجنى عليه بالمسروق وإذا كان المجنى عليه مجهولاً فلا مطالبة ولا قطع, أما سرقة مال الوقف ففيها القطع عندهما إذا لم يكن السارق من الموقوف عليهم فإن كان منهم فحكمه حكم الشريك فى المال وسنتكلم عليه فيما بعد, وفى مذهب أحمد رأى بان سرقة المال الموقوف مطلقًا لا قطع فيه بحجة أن المال الموقوف لا يملكه الموقوف عليه (3) . والراحج فى مذهب الشيعة الزيدية فى هذه المسألة كمذهب الشافعى والرأى الراحج فى مذهب أحمد (4) , ويرى أبو حنيفة أن لا يقطع السارق إذا كان المجنى عليه مجهولاً ولو أقر الجانى بالسرقة لأن القطع مشروط بمطالبة المجنى علية ومخاصمته   (1) شرح الزرقانى ج8 ص96, مواهب الجليل ج6 ص309, 310, المدونة ج16 ص68. (2) المحلى ج11 ص328. (3) أسنى المكالب ج4 ص139, 140, المهذب ج2 ص298, 300, المغنى ج10 ص249, 277, 288, كشاف القناع ج4 ص77, 87. (4) شرح الأزهار ج4 ص365, 369. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 للجاني, ولكن أبا يوسف يرى القطع فى حالة الإقرار (1) , ولا قطع, كذلك إذا كان السارق ممن أُوقف عليهم المال المسروق فإن لم يكن منهم قطع, وهذا ما يقتضيه تعريف السرقة وتعريف المال الموقوف فى المذهب فهم يعرفون السرقة بأنها أخذ العاقل البالغ عشرة دراهم أو مقدارها خفية عمن هو مقصد للحفظ ما لا يتسارع إليه الفساد من المال المتمول للغير من حرز بلا شبهة (2) , ويعرفون الوقف بأنه حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة (3) , سواء سرق العين الموقوفة أو منفعتها فهو يسرق ملك الغير ولا شبهة له فى سرقته ما دام غير مستحق فيه فيقطع بالسرقة, ولا يعتبر الشخص سارقًا للمال إذا كان يملكه ولو كان للمجنى عليه حق الانتفاع به؛ فالمؤجر الذى يأخذ المال المؤجر من المستأجر, والمعير الذى يأخذ المال المعار من المستعير, والمدين الذى يأخذ المال المرهون من الدائن المرتهن أو الأمين على الرهن, والغاصب الذى يأخذ ماله المغصوب من الغاصب, وصاحب المال الذى يأخذ ماله المسروق من السارق - كل هؤلاء لا يعتبر سارقًا ولو أخذ المال خفية لأنه أخذ ما يملكه (4) . ولا يقطع السارق إذا كان له شبهة الملك فى الشيء المسروق وإنما عليه التعزير فقط كسرقة الوالد من ولده لأن للوالد فى مال ولده تأويل الملك أو شبهة الملك لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك" (5) , ولا يقطع السارق عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة إذا سرق مالاً مشتركًا مع المجنى عليه لأن السارق يملك المسروق على الشيوع مع المجنى عليه فيكون هذا شبهة تدرأ القطع.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص83. (2) شرح فتح القدير ج4 ص219, حاشية ابن عابدين ج3 ص265. (3) حاشية ابن عابدين ج3 ص493. (4) أسنى المطالب ج4 ص138, المغنى ج10 ص256, 259, كشف القناع ج4 ص84, 85, شرح الزرقانى ج8 ص97, بدائع الصنائع ج 7 ص70. (5) شرح الزرقانى ج8 ص98, أسنى المطالب ج4 ص140, المغنى ج10 ص284, بدائع الصنائع ج7 ص70, شرح الأزهار ج4 ص375. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 ويرى المالك قطع الشريك إذا سرق المال المشترك بشرط أن يأخذ نصابًا أكثر من حقه. ويشترط أن يكون مال الشركة محجوبًا عنه أى محرزًا عنه, فإن كان المال المشترك مثليًا فلا قطع إلا أن يسرق نصابًا أكثر من نصف المال كله, وإن كان المال المشترك فيه قيميًا قطع إذا كان ما سرقه يبلغ نصابين ولو لم يكن المسروق كل المال المشترك لأن حقه فى المسروق نصاب واحد والنصاب الثانى يستحقه الشريك المسروق منه. والقاعدة عند الظاهريين أن من سرق من شيء له فيه نصيب يقطع إذا أخذ زائدًا على نصيبه مما يجب فيه القطع فإن سرق أقل فلا قطع عليه, إلا أن يكون مُنع حقه فى ذلك أو احتاج إليه فلم يصل إلى أخذ حقه إلا بما فعل ولا قدر على أخذ حقه خالصًا فلا يقطع لأنه مضطرًا إلى أخذ ما أخذ إذ لم يقدر على تخليص مقدار حقه (1) . وفى مذهب الشافعى من يرى القطع على من يسرق نصابين من المال المشترك, وبعض أصحاب هذا الرأى يرى عدم القطع إذا كان المال المشترك قابلاً للقسمة ولم يأخذ السارق أكثر من حقه ويعتبرون الأخذ قسمه فاسدة, فإن أخذ أكثر من حقه نصابًا قطع, وكذلك إذا أخذ نصابين من المال ولم يكن المال قابلاً للقسمة, وهذا يتفق مع رأى مالك. ورأى القائلين بعدم القطع ليس معناه إعفاء الشريك من المسئولية الجنائية, فالمسئولية قائمة ولكن العقوبة على الفعل التعزير لا القطع؛ لأنهم يعتبرون الشركة شبهة تدرأ القطع. وسرقة المال العام حكمها حكم المال المشترك عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية؛ لأن للسارق حقًا فى هذا المال, وقيام هذا الحق يعتبر شبهة تدرأ عنه الحد. أما مالك فيرى قطع السارق من بيت المال أو من مال المغنم, ويرى ذلك الظاهريون أيضًا بالشروط التى يشترطونها فى المال المشترك. ويرى الشافعية القطع فى سرقة المال العام إذا خصص لطائفة لا يدخل فيها   (1) المحلى ج11 ص328, 329, شرح الأزهار ج4 ص376, شرح الزرقانى ج8 ص97, 98, شرح فتح القدير ج4 ص235, كشاف القناع ج4 ص94, أسنى المطالب ج4 ص139, نهاية المحتاج ج7 ص423. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 , كأن خصص للفقراء وليس منهم, فالقطع واجب إذا لم يكن له حق فى المال (1) . ويرى الحنابلة القطع فى مال المغنم بعد إخراج الخمس, فإذا سرق قبل إخراجه فلا قطع, وإذا قسم الخمس, فإذا سرق من خمس الله تعالى لم يقطع, وإن سرق من غيره قطع (2) . سرقة مال المدين: ويرى مالك أنه لا قطع على من أخذ قدر حقه مدينه المماطل أو الجاحد, سواء كان ما أخذه من جنس حقه أو من عير جنسه, فإذا زاد ما أخذه على قدر حقه نصابًا قطع به, كذلك يقطع إذا لم يكن الدَّين حالاً أو لم يكن المدين مماطلاً أو جاحدًا (3) . ولا يرى الشافعى قطع الدائن إذا أخذ أكثر من حقه نصابًا, والرأى الأرجح فى مذهب أحمد كمذهب الشافعي, أما الرأى المرجوح فيرى قطع الدائن, لأنه ليس له أن يأخذ قدر دينه. وإذا أخذ الدائن أكثر من حقه؛ فأصحاب الرأى الأول بعضهم يرى قطعه إذا أخذ نصابًا وهو رأى مالك, وبعضهم لا يرى قطعه وهو رأى الشافعي؛ لأن له شبهة فى هتك الحرز وأخذ ناله فصار كالسارق من غير حرز (4) . ويطبق الظاهريون قاعدتهم التى سبق ذكرها عند الكلام على سرقه المال المشترك. وفى مذهب الشيعة الزيدية ثلاثة آراء: أولها قطع من يسرق مال المدين ما دام أنه سرق من جنس حقه وكان المسروق مساويًا للدين فى العدد والجنس, كأن سرق عشرة دراهم والمسروق منه مدين بعشرة دراهم, فإن كان الدين حالاً فلا قطع, لأن الأخذ مباح له, لأنه ظفر بجنس حقه, ومن له الحق إذا ظفر بجنس حقه يباح له أخذه, فإذا أخذه صار مستوفيًا لحقه. وكذلك الحكم لو أخذ أكثر من حقه, لأن بعض المأخوذ حقه على الشيوع ولا قطع فيه فلا   (1) نهاية المحتاج ج7 ص424. (2) المغنى ج10 ص288, شرح الأزهار ج4 ص369. (3) شرح الزرقانى ج2 ص98. (4) المغنى ج10 ص258. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 يقطع فى غيره كما هو الحال فى المال المشترك. أما إذا كان الدَّين مؤجَّلاً فالقياس أن يقطع, ولكنهم يرون استحسانًا أن لا يقطع, لأن حق الأخذ ليس سببه حلول الأجل, وإنما سبب ثبوته هو قيام الدين فى ذمة المسروق منه, ووجود الأصل لا أثر له على قيام الدين وإنما أثره فى تأخير المطالبة بالدين, فقيام سبب ثبوت الدين يورث شبهة والشبهة تمنع القطع. وإن سرق خلاف جنس حقه بأن كان عليه دراهم فسرق دنانير أو عروضًا قطع, لأنه لا يملكه بنفس الأخذ, بل بالاستبدال والبيع, فكان سارقًا ملك غيره, لكنه إذا دفع التهمة بأنه أخذه استيفاء لحقه فلا يرى البعض قطعه لأنه يعتبر متأولاً إذ اعتبر المعنى, وهو المالية لا الصورة, والأموال كلها فى معنى المالية متجانسة, وإذا كان الأخذ عن تأويل لا يقطع (1) . وعن أبى يوسف أنه لا يقطع إذا أخذ خلاف جنس حقه, لأن بعض العلماء فى المذاهب الأخرى يجيزون لمن ظهر بغير جنس حقه أن يأخذه استفاء بحقه, ولكن المذهب على خلاف رأى أبى يوسف. وإذا سرق الجانى من مدين أبيه أو من مدين ولده قطع ما لم يقم دليلاً على أنه وكيل عنه أو وصى عليه. ويشترط أبو حنيفة أن يكون للمسروق منه يد صحيحة على الشيء المسروق, يد المالك أو يد الأمانه كالمودع, أو يد الضمان كيد الغاصب والقابض على رسوم الشراء, لأن منفعة يد الغاصب عائده للمالك, والمغصوب مضمون عليه, وضمان الغصب عند أبى حنيفة ضمان ملك, فأشبهت يد الغاصب يد المشترى, كذلك فإن المقبوض على رسوم الشراء مضمون على القابض. ويرتب أبو حنيفة على هذا الشرط ألا قطع على السارق من سارق, لأن يد الأخير ليست صحيحة فلا هى يد ملك ولا أمانه ولا ضمان, ولكن إذا درئ القطع عن السارق الأول قطع الثاني, لأن درء الحد عن السارق الأول يجعله ضامنًا للمسروق, ويد الضمان   (1) بدائع الصنائع ج7 ص71, 72, شرح فتح القدير ج4 ص336. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 يد صحيحة, ويجعل أبو حنيفة السارق ضامنًا إذا درئ عنه القطع ولا يجعله ضامنًا إذا قطع, لأن القاعدة عنده أن القطع والضمان لا يجتمعان (1) . ولا يشترط مالك شروطًا خاصة فى المسروق منه, وكل ما يشترطه مالك أن يكون المسروق ملك الغير, سواء سرق من يد المالك أو من يد غيره مطلقًا, لأن السارق يسرق ملك غيره فى كل حال, ويترتب على هذا أن مالكًا يقطع السارق من السارق, والسارق من الغاصب, والسارق ممن يقوم مقام المالك كالمودع والمرتهن والمستأجر (2) , والقاعدة عند مالك أن من سرق مالاً للغير من حرز لا شبهة فيه قطع. ويرى أحمد أن يكون المسروق منه هو المالك أو من يقوم مقامه, فإذا أخذه من غيرهما فهو أشبه بما لو أخذ مالاً ضائعًا, والفرق بينه وبين السارق أن السارق يزيل يد المالك أو نائبه عن الشيء ويأخذه من حرزه, ويرتب أحمد على هذا أن السارق من المالك أو نائبه يقطع إذا توفرت كل شروط القطع. أما السارق من السارق أو الغاصب فلا قطع عليه ولو كان المال محرزًا (3) . أما الشافعى ففى مذهبه رأيان: أحدهما كرأى مالك, والثانى كرأى أحمد, ويعللون الرأى الأول بأن السارق يقطع؛ لأنه سرق مالاً لا شبهة له فيه من حرز مثله, ويعللون الرأى الثانى بأن السرقة من حرز لم يرضه المالك, وأن المحرز ليس هو المالك ولا نائبه (4) . وأما الشيعة الزيدية فرأيهم يتفق مع مذهب الشافعي, فلا قطع عند بعضهم على السارق من السارق ولا الغاصب, وبعضهم يرى القطع (5) . وعند الظاهرية أن السرقة هى الاختفاء بأخذ الشيء ليس له, وأن السارق   (1) بدائع الصنائع ج7 ص80. (2) شرح الزرقانى ج2 ص96. (3) المغنى ج10 ص257. (4) المهذب ج2 ص299, أسنى المطالب ج4 ص138. (5) شرح الأزهار ج4 ص369. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 هو المختفى بأخذ ما ليس له, ويترتب على هذا التعريف أن يقطع السارق كلما أخذ ما ليس له, ولو كان أخذه من سارق أو غاصب (1) . ويترتب على الحكام السابقة انه إذا سرق السارق من آخر فدرئ القطع عن الأول كان القطع على الثاني, لأن يده تصبح يد ضامن فى رأى أبى حنيفة, وإذا قطع السارق الأول فى مال فسرقه منه آخر فلا قطع على الآخر, لأن يد المسروق منه ليست يد ملك ولا أمانه ولا ضمان, إذ هو بالقطع لا يضمن المسروق, وعند أحمد لا قطع على السارق الثانى سواء قطع الأول أو درئ عنه القطع, لأن السرقة ليست من المالك أو من يقوم مقامه. وعند مالك يقطع السارق الثانى سواء قطع الأول أم لم يقطع, لأنه سرق مالاً للغير لا شبهة له فيه من حرزه ولو توالت السرقات وتعدد السراق (2) . وكذلك الحكم عند الظاهرية, أما عند الشافعى والشيعة الزيدية, فبعضهم يرى القطع على السارق الثانى وبعضهم لا يراه, لأن منهم من يأخذ برأى يتفق مع رأى مالك, ومنهم من يأخذ برأى يتفق مع رأى أحمد, كما ورد ذلك فى المراجع السابقة. وإذا سرق السارق مالاً فقطع فيه ورد المال لصاحبه فعاد نفس السارق وسرق نفس الشيء قطع أيضًا بالسرقة الثانية بهذا المال فى رأى مالك والشافعى وأحمد والظاهريين, لأن القطع عقوبة تتعلق بفعل السرقة, فتكرر العقوبة كلما تكرر الفعل, ولا عبره بالعين التى يقع عليها الفعل, ويستوى عندهم أن تكون العين قد بقيت على حالتها التى كانت عليها وقت السرقة الأولى أم تكون قد تغيرت (3) . ويفرق الحنفيون بين ما إذا كان الشيء قد بقى على حاله أم تغير, فإن كان الشيء باقيًا على حاله فالقياس هو القطع, إلا أن بعض الفقهاء فى المذهب لا يرون   (1) المحلى ج11 ص327. (2) المدونة ج16 ص69. (3) المدونة ج16 ص69, أسنى المطالب ج4 ص141, كشاف القناع ج4 ص85. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 القطع استحسانًا, لأن عصمة المال تسقط بالسرقة الأولي, فإذا عادت العصمة بالرد فإنها تعود مع شبهة العدم, لأن السقوط لضرورة وجوب القطع, وأثر القطع قائم بعد الرد فيورث شبهة فى العصمة. أما إذا كان المال قد تغير فالقاعدة فى المذهب الحنفى أنه إذا كان المال قد تغير وأصبح فى حكم عين أخرى ففيها القطع, فإذا سرق غزلاً فرده للمالك فنسجه ثوبًا فعاد وسرق الثوب قطع به, ولو سرق بقرة فقطع فيها ثم ردت لمالكها فولدت عجلاً فسرق العجل يقطع به لأنه سرق عينًا أخرى (1) . وفى مذهب الشيعة الزيدية رأيان: أولهما يرى أن من عاد إلى سرقة ما قد قطع فيه لم يقطع, ورأى يرى أنه يقطع, وحجة من لا يرى القطع أن القطع الأول يصبح شبهة (2) . ولا قطع فى مذهب أبى حنيفة على من ضمن المسروق قبل إخراجه من الحرز, لأن وجوب الضمان يؤدى إلى ملك المضمون من وقت وجود سبب الضمان, فكأنه ملكه قبل إخراجه من الحرز, واختلفوا فيمن سرق ثوبًا فشقه قبل الخروج به من الحرز أو ذبح شاة ثم أخرجها من الحرز مذبوحة, فقال أبو يوسف بعدم قطع السارق, لأنه شق الثوب وذبح الشاة فى الحرز يؤخذ منه سبب الضمان فى الحرز, ووجوب الضمان يوجب ملك المضمون من وقت وجود السبب, وذلك يمنع القطع. ويرى أبو حنيفة ومحمد قطع سارق الثوب, لأن السرقة تمت والثوب على ملك المجنى عليه إذ الملك لا يزول عنه إلا باختيار الضمان, فقبل الاختيار كان الثوب على ملكه وعلى هذا فيقطع, وكذا الأمر فى الشاة, إلا أنه لما أخرج الشاة من الحرز كانت لحمًا ولا قطع فى اللحم, أما لو أتلف الثوب إتلافًا يستهلكه فلا قطع عليه وإن كانت قيمه الثوب بعد إخراجه نصابًا, لأن التخريق أو الشق المستهلك يوجب استقرار الضمان من وقت الفعل, وهذا   (1) بدائع الصنائع ج7 ص72, 73. (2) شرح الأزهار ج4 ص373. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 بدوره يوجب ملك المضمون (1) . ويرى مالك والشافعى أن العبرة بقيمة المسروق خارج الحرز, فإن بلغ نصابًا قطع السارق, وإن لم يبلغ نصابًا فلا قطع, فمن ذبح شاة أو أفسد طعامًا أو شق ثوبًا يقطع إذا بلغت قيمة ما خرج من الحرز نصابًا (2) . والظاهريون يرون قطع السارق إذا أخذ خفية نصابًا, وهم لا يعترفون بالحرز ولا يشترطونه, ومذهب الشيعة الزيدية فى هذه المسالة كمذهب الحنفية (3) . ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن ما يستهلكه السارق داخل الحرز أو يتلفه لا يعتبر سرقة, وإنما يعتبر إتلافًا عقوبته التعزير, ولكن مذهب الظاهريين يقتضى أن ما يستهلك داخل الحرز يعتبر سرقة ما دام قد أخذ على وجه الخفية (4) , ومن ثم لا تضاف قيمة المستهلك داخل الحرز أو المتلف إلى قيمة ما أخرج من الحرز لتكملة النصاب, فلو أكل السارق داخل الحرز من الطعام ما يساوى نصف نصاب ثم خرج ومعه من نفس الطعام نصف نصاب, فإنه لا يقطع, لأن ما خرج به من الحرز لم يبلغ نصابًا كاملاً, ولكنه يقطع عند الظاهريين لأنه أخذ نصابًا كاملاً. وإذا ادعى السارق ملكية المسروق, فيرى مالك أن ادعاء ملكية المسروق فى ذاته ليس له قيمة ولا يدرأ عنه العقوبة ... إلا إذا أثبت صحة ما يدعيه, فإذا لم يكن دليل حلف المجنى عليه أن المتاع المسروق له وليس للسارق, فإن نكل حلف السارق ودفع إليه المتاع ولم تقطع يده (5) . ويرى أبو حنيفة أنه إذا ادعى السارق ملكية المسروق درئ عنه القطع   (1) بدائع الصنائع ج7 ص72, 73. (2) شرح الزرقانى ج8 ص99, أسنى المطالب ج4 ص138, المغنى ج10 ص261. (3) شرح الأزهر ج4 ص364, 375. (4) هكذا وجد فى الأصل, والظاهر أنها زيادة استغنى عنها بدليل السياق الذى بعدها. (5) المدونة ج16 ص74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 لمجرد الادعاء دون حاجة لأن يقيم دليلاً على صحة ادعائه, وتكون العقوبة التعزير, لأن المسروق منه قد صار خصمًا له فى ملكية الشيء المسروق, فإن ادعى عليه ما لو أقر به لزمه ويتمكن من إثباته عليه بالبينة, وإن طلب يمينه كان له أن يستحلف عليه, وبعدما آل الأمر إلى الخصومة لا يستوفى الحد, لأن المسروق منه إذا وجه اليمين للمتهم على ملكية الشيء فامتنع عن حلفها قضى عليه بالنكول, وإن ردها على المسروق منه فحلفها قضى عليه باليمين, فالقول بالقطع عند الادعاء بملكية المسروق يؤدى إلى استفاء الحد باليمين والنكول (1) . ويرى الشافعى أن ادعاء السارق بملكية المسروق أو ملكية الحرز, أو أنه أخذه من الحرز بإذنه, أو أنه أخذه والحرز مفتوح, أو صاحبه معرض عن الملاحظة, أو أنه دون النصاب, سقط عنه القطع بمجرد دعواه وإن ثبتت السرقة بالبينة لاحتمال صدقه فصار شبهة دارئة للقطع, لأنه صار خصمًا, ولا يستفصل بعد ثبوت السرقة عن كون المسروق ملكه, وإن كان فيه سعى فى سقوط الحد عنه أنه إغراء له بادعاء الباطل, ولكن مجرد ادعائه لا يثبت له المال وإن درأ عنه القطع إلا ببينة أو يمين مردودة, فإن نكل عن اليمين المردودة لم يجب القطع لسقوطه بالشبهة (2) . وفى مذهب أحمد ثلاثة أراء: الرأى الأول كرأى مالك, والثانى كرأى الشافعى وهو الراجح فى المذهب, والرأى الثالث: إن كان معروفًا بالسرقة لم يسقط عنه القطع, وإن لم يكن معروفًا بها سقط عنه القطع (3) , ومذهب الشيعة الزيدية أن الادعاء بالملكية يسقط القطع دون الحاجة لإقامة الدليل على صحة هذا الادعاء (4) . ويلاحظ أن سقوط القطيع ليس معناه إعفاء الجانى من المسئولية الجنائية بل يبقى مسئولاً عن جريمته ويعاقب عليها بعقوبة التعزير بدلاً من عقوبة القطع   (1) بدائع الصنائع ج7 ص71. (2) أسنى المطالب ج4 ص139. (3) المغنى ج10 ص301. (4) شرح الأزهار ج4 ص374. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 , ويشترط اتفاقًا فى المال المسروق أن يكون معصومًا فإذا لم يكن معصومًا كان مباحًا, ولا يعتبر أخذه سرقة كمال الحربى غير المستأمن ومال الباغي, فإنه غير معصوم, ولا قطع فى أخذه خفية. على أن مال العادل إذا أخذه الباغى لا يقطع به, كذلك لا يقطع الحربى بسرقة مال المسلم والذمى. ويرى أبو حنيفة استحسانًا ألا قطع فى سرقة مال الحربى المستأمن وإن كان القياس أن يقطع لأنه سرق مالاً معصومًا, إذ الحربى يستفيد العصمة بالأمان, ووجه الاستحسان أن هذا مال فيه شبهة الإباحة, لأن الحربى المستأمن من أهل دار الحرب "أى مُنتمٍ إلى دولة محاربة", وإنما دخل دار الإسلام ليقضى حوائجه ثم يعود من قريب, فكونه من أهل دار الحرب يورث شبهة الإباحة فى ماله, لأنه كان فى الأصل مباح المال وإنما ثبتت العصمة لنفسه وماله بأمان عارض هو على شرف الزوال, فعند الزوال يظهر أن العصمة لم تكن على الأصل المعهود, وكل عارض على أصل إذا زال يلحق بالعدم كأن لم يكن, فتصبح العصمة كأن لم تكن ثابتة من قبل, بخلاف الحال مع الذمى لأنه من أهل دار الإسلام, وقد استفاد العصمة بأمان مؤبد, فكان معصوم المال عصمة مؤبدة مطلقة ليس فيها شبهة الإباحة, ويرتب أبو حنيفة على رأيه هذا ألا قطع على الحربى المستأمن إذا سرق مال المسلم أو الذمي, لأنه أخذه على اعتقاد الإباحة, ولأنه لم يلتزم أحكام دار الإسلام, ولكن أبا يوسف يخالفه فى هذا ويرى قطع الحربى المستأمن إذا سرق مال مسلم أو غير مسلم. وفى مذهب أبى حنيفة: لا يقطع العادل فى سرقة مال الباغي؛ لأن ماله ليس بمعصوم فى حقه كنفسه, ولا الباغى فى سرقة مال العادل, لأنه أخذه عن تأويل؛ وتأويله وإن كان فاسدًا لكن التأويل الفاسد عند انضمام إليه يلحق بالتأويل الصحيح فى منع وجوب القطع (1) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 ويرى مالك قطع المستأمن إذا سرق مسلمًا أو غير مسلم, كما يرى قطع المسلم والذمى فى سرقة مال المستأمن (1) . وفى مذهب الشافعى أقوال فى سرقة المعاهد والمستأمن والسرقة منهما. وأحسن هذه الأقوال أنه يقطع إذا اشترط فى العهد أو الأمان قطعه بسرقة, لأنه فى هذه الحالة يكون ملتزمًا بالأحكام, فإذا لم يشترط ذلك فلا يقطع لانتفاء التزامه ويكون حكمه حكم الحربى. ولا يقطع أيضًا مسلم أو ذمى بسرقتهما ماله إلا إذا اشترط قطعه فى السرقة لاستحالة قطعهما بماله دون قطعه بمالهما (2) . على أن البعض يرى ألا يقطع المستأمن والمعاهد بالسرقة ولو اشترط قطعهما بها, ولا يقطع لهما بسرقة مالهما (3) . وفى مذهب أحمد رأيان: أرجحهما أن يقطع المستأمن بسرقة المسلم والذمى ويقطعان بسرقته؛ لأن القطع حد يجب عليه كحد القذف, وإذا كان القطع واجبًا لصيانة الأموال فإن حد القذف واجب لصيانة الأعراض, فإن وجب أحدهما فى حق المستأمن وجب الآخر, فأما حد الزنا فلم يجب, لأنه يجب بالزنا قتله انقضه العهد, ولا يجب مع القتل حد سواه. وهذا رد على أصحاب الرأى الثانى الذين يقولون إن المستأمن لا يقطع بالسرقة, لأنه حد لله تعالى فلا يقام عليه حد كحد الزنا (4) . سرقة الكفن: يرى أبو حنيفة ألا قطع فى سرقة الأكفان, وله فى ذلك حجتان: الأولى: أن الكفن مال تافه, لأن الطباع السليمة تنفر من ذلك, ولأنه لا ينتفع به مثل ما ينتفع بلباس الحي, ففى مالية الكفن إذن قصور, والقصور فوق الشبهة والشبهة تدرأ بالحد, فالقصور أولى. الثانية: أن الكفن ليس مملوكًا لأحد   (1) المدونة ج16 ص75, 91, شرح الزرقانى ج8 ص92, 97. (2) نهاية المحتاج ج7 ص440. (3) أسنى المطالب ج4 ص150. (4) المغنى ج10 ص276. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 فهو ليس ملك الميت؛ لأن الميت لا ملك له, وهو ليس على ملك الورثة؛ لأن تكفين الميت وتجهيزه مقدم على حق الورثة, وإذن فهو غير مملوك لأحد (1) . وأما مالك وأحمد والشافعى ومعهم أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة فيرون قطع سارق الكفن, لأنهم لا يقرون نظرية التافهة التى يقول بها أبو حنيفة. وعندهم أن كل ما يباع ويشترى فهو مال متقوم يقطع فى سرقته, وعلى هذا فالكفن مال مسروق من حرز مثله وهو القبر, وهو على ملك الميت إن كان من ماله, أو على ملك الورثة على رأى, والأصل أن الميت لا يزول ملكه إلا عما لم يكن فى حاجة إليه أما الكفن فهو فى حاجة إليه فبقى على ملكه, ولكنهم يشترطون للقطع أن يكون الكفن مشروعًا وأن تبلغ قيمته نصابًا, فإن كان الكفن زائدًا عن الحد الشرعى فلا تدخل قيمة الزائد فى احتساب النصاب, وإنما تحتسب فقط قيمة الجزء المشروع, فإن قلت عن النصاب فلا قطع, وكذلك لا قطع فيما يوضع مع الميت فى قبره من الأشياء الثمينة كالمصوغات وغيرها؛ لأن الشرع لا يبيح وضع هذه الأشياء من ناحية, ولأن القبر ليس حرزًا لها من ناحية أخرى. ويشترط الشافعيون أن يكون القبر فى بيت محرز أو فى مقبرة فى عمارة ولو فى جنب البلد, فإن كان القبر فى بيت غير محرز أو فى مفازة فلا قطع, ولكن الحنابلة يرون القبر حرزًا ولو بعد عن العمران ما دام القبر مطمومًا الطم الذى جرت به العادة (2) . ويرى الظاهريون قطع سارق الكفن؛ لأن السارق هو الآخذ شيئًا لم يبح الله تعالى أخذه, فيأخذه ممتلكًا له مستخفيًا به, وتلك صفة النباش فهو السارق (3) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص69, 76. (2) شرح الزرقانى ج8 ص101, أسنى المطالب ج4 ص145, المغنى ج10 ص280, كشاف القناع ج4 ص82. (3) المحلى ج11 ص730. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 كذلك فإن الشيعة الزيدية ترى القطع فى سرقة الكفن (1) . والقائلون من الفقهاء بقطع سارق الكفن يتفق مع رأيهم ما أخذت به المحاكم المصرية والفرنسية, إذ تعتبر الأشياء الموضوعة فى القبر من كفن وغيره على ملك الورثة أو واضعها, على أن هناك من يرى رأى أبى حنيفة, ويعتبر الأكفان من قبيل المتروكات التى لا عقاب على أخذها, أو يرى أن هذه الأشياء لا ملك لها (2) . 613- الأشياء المباحة: هى التى لا مالك لها أصلاً وتكون ملكًا لمن يضع يده عليها ويحتازها, كالماء فهو مباح أصلاً, ولكنه يصبح مملوكًا لمن يحتازه ويضع يده عليه, وكاللآلئ فى قاع البحر, وكالطيور والحيوانات البرية, وكالأسماك, فهذه كلها مباحة أصلاً, إذ لا مالك لها ولكنها تصبح مملوكة لمن يحتازها. والاستيلاء على الأشياء المباحة لا يعتبر فى الشريعة سرقة لأنها مال لا مالك له ولأن شروط الأخذ خفية لا تتوفر فيها, فهى لا تؤخذ من حرز ولا تخرج من حيازة شخص إلى حيازة الجانى. 614- الأشياء المتروكة: هى الأشياء التى كانت مملوكة للغير ثم تخلى عنها مالكها كالملابس المستهلكة وبقايا الطعام وكناسة المنازل, وحكم الأشياء المتروكة هو حكم الأشياء المباحة, لأن الأشياء المتروكة تصبح بتركها لا مالك لها, وملك الشيء للغير واجب لاعتبار السرقة. 615- اللقطة: وهى ما يلتقط من مال ضائع, أو مال متروك على ملك تاركه, أو مال   (1) شرح الأزهار ج4 ص371. (2) أحمد بك أمين ص361, شرح قانون العقبات, القللى ص45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 ضال (1) , أو هى ما وجد من حق ضائع محترم لا يعرف الواحد مستحقه (2) , أو هى المال الساقط أو الحيوان الضال لا يعرف مالكه (3) , ويقابل تعبير اللقطة فى الشريعة ما نسميه اصطلاحًا بالأموال الفاقدة أو الضائعة. ولا يعتبر أخذ اللقطة فى الشريعة سرقة, حتى ولو أخذها الملتقط بنية تملكها, وإنما يعتبر الملتقط مرتكبًا لجريمة أخرى هى كتمان اللقطة أو كتمان الضالة, ولهذه الجريمة عقوبة أخرى تختلف عن عقوبة السرقة, فعقوبة السرقة القطع, وعقوبة كتمان اللقطة أو الضالة التعزير وغرامته مثيلها على رأى. ولم تلحق الشريعة كتمان اللقطة بالسرقة, ولو أن المال الملتقط له مالك؛ لأن هناك فرقًا كبيرًا بين الالتقاط والسرقة. فالملتقط يعثر على المال مصادفة ولا ينتوى التقاطه إلا بعد العثور عليه, أما السارق فيقصد السرقة غالبًا قبل الأخذ خفية وقبل أن يعثر على المال المسروق. والملتقط يعثر على المال وهو غير محرز, أما السارق فيسرق غالبًا من حرز, والسارق يأخذ المسروق خفية, أما الملتقط فلا يختفى بأخذ اللقطة وليس ثمة ما يدعو للخفية. بل إن بعض الفقهاء يرى الالتقاط واجبًا لأنه يؤدى لحفظ المال وإن كان بعض الفقهاء يقول بكراهيته, فإنما يقول به لما يخاف من تقصير الملتقط فيما يجب عليه من تعريف اللقطة, والالتقاط فى ذاته لا تحرمه الشريعة وإنما المحرم هو كتمان اللقطة, ولكن السرقة محرمة لذاتها. كذلك الإبل فإنها لا تلتقط باتفاق. ولهذه الفروق الظاهرة فرقت الشيعة بين السرقة والالتقاط وجعلت كلاً منهما جريمة مستقلة, وبهذا يأخذ كثيرًا من القوانين الوضعية الحديثة, كالقانون البلجيكى والقانون الإيطالي, ولكن القانون الفرنسى والقانون المصرى يجعلان   (1) كشاف القناع ج2 ص421. (2) أسنى المطالب ج2 ص487. (3) بدائع الصنائع ج6 ص200. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 الالتقاط فى حكم السرقة ويعاقبان عليه بعقوبة السرقة إذا حبس الملتقط الشيء بنية تملكه. والأصل فى اللقطة ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن لقطة الذهب والورق فقال: "اعرف وِكاءَها وعِفاصَها ثم عرِّفها سنة, فإن لم تعرف فاستنفعها ولتكن وديعة عندك, فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فادفعها إليه". وسئل عن ضالة الإبل فقال: "ما لك ولها؟ معها سقاؤها وغذاؤها, ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها", وسئل عن الشاة فقال: "خذها فإنما هى لك أو لأخيك أو للذئب". وكتمان اللقطة محرم سواء انتوى الملتقط وقت الالتقاط تملك الشيء وكتمان اللقطه أو لم ينتو ذلك إلا بعد الالتقاط, لأن العقوبة على الكتمان وليست على مجرد الالتقاط, على أن للنية أثرها فى بعض حالات الضمان وإن لم يكن لها أثر على وجوب العقاب. وللقطة أحكام خاصة فى الشريعة أهمها: أن يعرِّف الملتقط اللقطة ويعلن عنها لمدة معينة وله بعد ذلك أن يتصرف فى الشيء ويتصدق بثمنه أو ينفقه على نفسه ولو كان غنيًا على رأي, ولصاحب الشيء أن يسترده كلما كان موجودًا, وله إن لم يكن موجودًا الرجوع بثمنه على الملتقط (1) . الركاز والكنز: الركاز هو المال المدفون فى الأرض, ويسمى الركاز الكنز أيضًا فى اصطلاح بعض الفقهاء, وأن البعض يسمى ما وجد عليه سيماء الجاهلية ركازًا, وما وجد عليه سيماء الإسلام كنزًا. والأصل فى الركاز قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وفى الركاز الخمس". والمال   (1) بداية المجتهد ج2 ص55 وما بعدها, أنسى المطالب ج2 ص287 وما بعدها, المحلى ج8 ص257 وما بعدها, بدائع الصنائع ج6 ص200 وما بعدها, كشاف القناع ج2 ص421 وما بعدها, شرح الأزهار ج4 ص58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 الذى يسمى ركازًا هو ما كان من دفن الجاهلية, ويعتبر ذلك بأن ترى عليه علاماتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصور أصنامهم ونحو ذلك, فإن كان عليه علامة الإسلام أو اسم النبى - صلى الله عليه وسلم - أو اسم أحد من خلفاء المسلمين أو والٍٍ من ولاتهم أو آية من قرآن أو نحو ذلك فالمال لقطة, وقد عرفنا فيما سبق حكم اللقطة. إذ المفروض فيه أنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه. وإن كان على بعضه علامة الإسلام وعلى بعضه علامة الكفر فهو لقطة أيضًا. والركاز الذى فيه الخمس هو كل ما كان مالاً على اختلاف أنواعه من الذهب أو الفضة والحديد والنحاس والرصاص والآنية إلى ذلك على رأي, وهو الذهب والفضة فقط على رأى آخر, أما ما عداهما فحكمه حكم المعادن التى توجد فى بطن الأرض, ويفرق رأى ثالث بين ما اختلط بالتراب ويعتبره معدنًا, وبين ما تدل حالته على أنه دفن بفعل آدمى ويعتبره ركازًا. وهناك خلاف على ملكية الركاز. فالبعض يراه مملوكًا لواجده, والبعض يراه مملوكًا لمالك الأرض، على تفصيل لا محل لذكره هنا (1) . وإذا اعتبر الركاز لمالك الأرض فإن أخذه واجده لا يعتبر سرقة ولو حفر عليه وأخذه, لأن مالكه لا يعرف شيئًا عنه فلا يعتبر أنه أحرزه, ولأن المال لا يمكن أن يؤخذ خفية, لأن البحث والحفر يقتضى العلانية فهو اختلاس أو غصب وفيه التعزير, ولا قطع فيه لما سبق, وحتى لو اعتبر سرقة فإن الخلاف على الملكية يعتبر شبهة تدرأ الحد. * * *   (1) مواهب الجليل ج2 ص339, شرح ملتقى الأنهر ج1 ص205, المغنى ج2 ص612, أسنى المطالب ج1 ص385, شرح الأزهار ج1 ص562, المحلى لابن حزم ج8 ص257 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 الركن الرابع: القصد الجنائي 616- لا يعتبر الأخذ خفية سرقة إلا إذا توفر لدى الآخذ القصد الجنائى: ويتوفر القصد الجنائى متى أخذ الجانى الشيء وهو عالم أن أخذه محرم, وما دام أنه يأخذه بقصد أن يتملكه لنفسه دون علم المجنى عليه ودون رضاه. فمن يأخذ شيئًا على اعتقاد أنه مباح أو متروك فلا عقاب عليه لانعدام القصد الجنائي, ولأنه أخذ ما ظنه مباح الأخذ, ومن أخذ شيئًا دون أن يقصد تملكه كأن أخذه ليطلع عليه أو ليستعمله ويرده أو أخذه على سبيل الدعابة, أو أخذ شيئًا وهو يعتقد أن المجنى عليه موافق على أخذه, كل أولئك لا يعتبر أحدهم سارقًا لانعدام القصد الجنائى. ويجب أن يؤخذ الشيء بنية تملكه, فمن يأخذ شيئًا لغيره ويعدمه مكانه لا يعد سارقًا, وإنما هو متلف للشيء. وكذلك الحكم لو استهلك الشيء فى محله كطعام أكله أو شراب شربه أو طيب تطيب به, فإن خرج بالشيء من حرزه ثم أتلفه أو استهلكه خارج الحرز فهو سارق لا متلف, وهذا رأى جمهور الفقهاء. إلا أن الظاهريين يرون استهلاك الشيء فى الحرز سرقة لا إتلافًا, لأنهم لا يعتبرون الحرز, ولأنهم يرون السرقة تامة بمجرد وضع يد المتهم على الشيء المسروق وضعًا ماديًا. ومن يأخذ شيئًا مملوكًا له لا عقاب عليه, لأنه لا يمكن أن يقال إنه أخذ الشيء بقصد تملكه إذ هو ملكه, فلا يعد سارقًا المؤجر الذى يأخذ العين التى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 أجرها, ولا المعير ولا المودع إذا أخذ العين التى أعارها أو أودعها, ولا يعد سارقًا من يتصرف فى الشيء تصرف الوكيل ولو لم يوكل فى هذا التصرف لأنه لم يأخذه بقصد تملكه, كالشريك الذى يبيع العين المشتركة بغير أن يقصد الاستئثار بنصيب شريكه, والدائن الذى يأخذ شيئًا لمدينه لا يقصد تملكه وإنما يقصد حبسه تحت يده حتى يسدد له دينه لا يعتبر سارقًا, لأنه لم يقصد تملك الشيء. أما إذا أخذه وهو يقصد تملكه سدادًا لدَيْنه فحكمه ما تقدم عند الكلام عن أخذ مال المدين. ومن أخذ شيئًا متنازعًا على ملكيته لا يعد سارقًا متى ثبت أنه المالك له حقًا, فإذا لم تثبت له الملكية فالعبرة بجدية النزاع وبقصد الجاني, فإن كان النزاع جديًا أو كان قد أخذه وهو يعتقد أنه مالك له, فالقصد الجنائى غير متوفر. ولا يكفى القصد الجنائى مع الأخذ خفية لعقاب الأخذ, فهناك حالات تتوفر فيها كل أركان السرقة ومع ذلك فلا يعاقب الآخذ إطلاقًا, أو يعاقب بالتعزير دون القطع. فمن أخذ مال حربى أو مال باغٍ بقصد تملكه فلا يعتبر سارقًا ولا عقوبة عليه؛ لأن أخذ مال الحربى والمال الباغى مباح, ومثل ذلك استعمال الحقوق أو أداء الواجبات التى تبيح إتيان الفعل أو توجب إتيانه, فحق الدفاع الشرعى يبيح للإنسان أن يستولى من مال غيره على ما يدفع به عن نفسه, فمن أخذ شيئًا للآخر ليدفع به جريمة قتل عن نفسه, وظل يضرب به حتى تحطم واستهلك فلا عقوبة عليه. ولا قطع على غير المكلف إذا أخذ خفية شيئًا للغير بقصد تملكه, كالحربى يأخذ مال المسلم أو الذمي, وكالباغى يأخذ مال أحدهما لأنه لا مسئولية على أحدهما. ولا يقطع المجنون أو المعتوه أو الصغير غير المميز إذا أخذ خفية مالاً لغيره بقصد تملكه؛ لأن حالة الجنون والعته والصغر مما يرفع العقوبة الجنائية عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 الفاعل, على أن امتناع القطع فى السرقة قد لا يمنع عقوبة التعزير كما هو الأمر مع الصبى الذى يزيد سنه على سبع ولم يبلغ عشر فلا قطع, ولكنه يعاقب بعقوبة تأديبية. ولا عقاب على السرقة فى حالة الإكراه المادى أو الأدبي, فمن يجبر ماديًا على سرقة شيء أو يهدد بالقتل إن لم يسرقه لا عقاب عليه إذا سرق تحت تأثير التهديد. ولا عقاب على مضطر لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] , فمن سرق ليرد جوعًا أو عطشًا مهلكًا لا عقاب عليه. ويعاقب السارق غير المضطر فى عام المجاعة بعقوبة تعزيرية, ولكنه لا يقطع بشرط أن لا يجد ما يشتريه أو يشترى به ولو لم يضطره الجوع للسرقة. 617- عقوبة الشريك إذا كان الشريك الآخر لا يقطع: يرى مالك والشافعى لأنه إذا اشترك اثنان فى سرقة, وكان أحدهما ممن لا يجب عليه القطع كالصغير غير المميز مع البالغ, أو المجنون مع العاقل البالغ, والأب مع الأجنبي, فيقطع البالغ وحده دون الصغير والمجنون, وحجتهما أن القطع امتنع عن الصغير والمجنون لمعنًى يخصه قائم فى نفسه غلا يتعداه لشريكه (1) . ويرى أبو حنيفة وزفر أنه إذا اشترك من لا قطع عليه مع من عليه القطع درئ القطع عن الشركاء, وحجتهما أن السرقة واحدة, وقد حصلت ممن يجب عليه القطع وممن لا يجب عليه القطع, فلا يجب القطع على أحد, كالعامد مع المخطئ إذا اشتركا فى قطع أو قتل, وإذا كان الإخراج أصل فى السرقة إلا أنه يحصل من الكل معنى لاتحاد الكل فى معنى التعاون, فكان إخراج من لا قطع عليه مثل إخراج من عليه القطع ضرورة الاتحاد, ومن وجبت المساواة بينهما فى العقوبة. ويرى أبو يوسف منع القطع عمن يجب عليه القطع إذا كان الذى تولى الإخراج هو الشخص الذى لا يجب عليه القطع؛ لأن الإخراج من الحرز   (1) شرح الزرقانى ج8 ص95, أسنى المطالب ج4 ص138, 139. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 هو الأصل, والإعانة كالتابع, فإذا ولى الإخراج من ليس عليه قطع فقد أتى بالأصل, وإذا لم يجب على من أتى بالأصل قطع لم يجب على من أتى بالتابع (1) . وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما يتفق مع رأى الشافعى ومالك, والثانى كرأى أبى حنيفة (2) . ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب الشافعى ومالك (3) . * * * المبحث الثاني أدلة السرقة تثبت جريمة السرقة بما يأتى: 618- أولاً: البينة, أى شهادة الشهود: ويشترط فى شهود السرقة ما سبق بيانه من الشروط التى يجب توافرها فى شهود الزنا على الخلاف والوفاق الذى ذكر بين الفقهاء. وتثبت السرقة بشهادة شاهدين اثنين: فإن قل العدد عن اثنين أو كان أحدهما امرأة أو كان أحدهما شاهد رؤية والآخر شاهد سماع فلا قطع بشهادتهما. وتقبل شهادة رجل وامرأتان, وشهادة شاهد رؤية وشاهدى سماع, وشهادة شاهد ويمين المدعي, بقصد إثبات ملكية المسروق, فإذا لم يكن غير هذه الشهادات فى جريمة السرقة امتنع الحكم بالقطع, واقتصر القاضى على الحكم بتعزير الجانى وإلزامه بضمان قيمة الشيء المسروق (4) . ويشترط أبو حنيفة عدم التقادم لقبول الشهادة ولقطع السارق بها, والأصل عنده أن التقادم يبطل الشهادة على الحدود الخاصة, ولكن بطلان الشهادة   (1) بدائع الصنائع ج7 ص67. (2) المغنى ج10 ص296. (3) شرح الأزهار ج4 ص364. (4) بدائع الصنائع ج7 ص81, سرح الزرقانى ج8 ص106, المغنى ج10 ص289, أسنى المطالب ج4 ص151. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 بالنسبة للحد لا يمنع من ثبوت المال المسروق للمجنى عليه بنفس الشهادة, ولا يمنع من تعزير الجانى بهذه الشهادة وتضمينه قيمة المسروق, لأن التقادم يمنع من قبول الشهادة على الحدود الخالصة لشبهة الضغينة, والشبهة تدرأ الحد، ولكنها لا تمنع وجوب المال. أما الأئمة الثلاثة فلا يعرفون التقادم ولا يسلمون به, فتقبل الشهادة عندهم تقادمت أو لم تتقادم ما دام القاضى مقتنعًا بصحتها. وهناك رواية عن أحمد بأنه يقبل التقادم فى الحدود (1) . وإذا تعدد السراق, وكان بعضهم غائبًا وبعضهم حاضرًا تثبت السرقة عليهم جميعًا بشهادة شاهدين, ويقطع الحاضر من الجناة, أما الغائب فلا يقطع بهذه الشهادة, بل يجب أن تعاد البينة فى مواجهته, أو تثبت عليه الجريمة فى مواجهة بينة أخري (2) , وهو ما يراه الأئمة الثلاثة. وعلى القاضى أن يتحقق من عدالة الشهود فى الحدود ولو لم يطعن المتهم فى شهادتهم, ولكنه غير ملزم بالتحقق من عدالتهم فى غير الحدود, ما لم يطعن فى شهادتهم على الرأى الراجح فى مذهب أبى حنيفة. ويشترط أبو حنيفة لقبوله الشهادة على السرقة الموجبة للقطع قيام الخصومة ممن له يد صحيحة على الشيء المسروق, فإذا حضر الشهود, وقبل المجنى عليه أو من له حق الخصومة وشهدوا بالسرقة, لم تقبل شهادتهم ما لم يحضر من له حق المخاصمة أو المجنى عليه ويخاصم, لأن من شرط السرقة أن يكون الشيء مملوكًا لغير السارق, فلا تظهر السرقة إلا بالخصومة, فإذا لم توجد الخصومة لم تقبل الشهادة, إلا أن عدم قبول الشهادة لا يمنع القبض على المتهم وحبسه بناء على تبليغ الشهود بالسرقة إذ التبليغ اتهام, والقبض والحبس لا يجوز أن يتوجه   (1) المغنى ج10 ص187, بدائع الصنائع ج7 ص81, وراجع الجزء الأول من التشريع الجنائى الإسلامى. (2) شرح فتح القدير ج4 ص258. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 بالاتهام, فإذا حضر المجنى عليه أو غيره ممن له حق الخصومة وادعى ملكية المسروق قبلت الشهادة (1) . والمقصود من قبول الشهادة هو عدم سماع الشهود قضاء والأخذ بها كدليل, فلا يمنع حضور الشهود قبل المخاصمة من سماع أقوالهم وتدوينها كبلاغ وحبس المتهم بموجبها, وإنما الممنوع هو الحكم بها (2) . ولكن مالكًا لا يرى المخاصمة ضرورية لقبول الشهادة والحكم بها, فإذا حضر الشهود وبلغوا بالسرقة سمعت شهادتهم وأقيمت الدعوى على المتهم ولو لم يحضر المجنى عليه, ولو كان المتاع لغائب أو مجهول, ويقطع السارق بشهادة الشاهدين؛ لأن الحد متعلق بحق الله تعالي, وقد ارتكب المتهم الجريمة, فوجبت عليه عقوبتها (3) , بل لو كذب المجنى عليه الشهود بالسرقة فلا يمنع هذا من القطع ما دامت السرقة ثابتة (4) . ويرى الشافعى أنه إذا تقدم الشهود فشهدوا بسرقة مال شخص غائب أو حاضر لم يبلغ قبلت شهادتهم حسبة تغليبًا لحق الله تعالي, ولكن لا يقطع السارق بهذه الشهادة حتى يطالب المالك بالشيء المسروق, أو يطالب عنه وليه أو وصيه, فإذا ادعى اعتبرى الشهادة مرة ثانية بعد ادعائه لإثبات أن المال المسروق له؛ لأن شهادة الحسبة لا تقبل فى المال, أما وجوب القطع فقد ثبت بثبوت السرقة التى ثبتت بشهادة الحسبة إن كان القطع, متوقفًا على المخاصمة؛ لأن عدم المخاصمة تفيد وجود مسقط للقطع فانتظار المخاصمة هو انتظار ظهور مسقط, فإذا خاصم تبين أن لا مسقط (5) . ورأى الشافعى لا يختلف من الناحية العملية عن رأى أبى حنيفة. وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما يتفق مع مذهب أبى حنيفة وهو الراجح   (1) بدائع الصنائع ج7 ص81. (2) شرح فتح القدير ج4 ص252. (3) شرح الزرقانى ج8 ص106, المدونة ج16 ص66, 67. (4) المدونة ج16 ص68, شرح الزرقانى ج8 ص97. (5) أسنى المطالب ج4 ص152. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 , والثانى يتفق مع مذهب مالك, وهو المرجوح (1) , وأصحاب الرأى الأول يحتاطون فيرون حبس السارق وأخذ المال المسروق وحفظه حتى يحضر الغائب أو وكيله, ويلاحظ أن المخاصمة مقيدة بالسرقة الموجبة للقطع, فإن كانت السرقة مما يعزر فيه فلا تشترط الخصومة لظهور السرقة, وليس من الضرورى سماع أقوال المجنى عليه أو من يمثله إلا فيما يتعلق بتضمين السارق قيمة المسروق, ويكفى أن يثبت السرقة بأى طريق آخر غير طريق المجنى عليه. والتشدد فى السرقة الموجبة للقطع راجع إلى الأصل المشهور "ادرءوا الحدود بالشبهات" فمن اشترط حضور المجنى عليه اتخذ من عدم حضوره شبهة أن يكون المال غير مسروق أو أن للمتهم حقًا فيه, أو أنه سرق من غير حرز, أو أن المتهم أذن له فى دخول الحرز وغير ذلك من الشبهات التى تدرأ القطع. من يملك الخصومة؟: وإذا كان بعض الفقهاء يرى الخصومة شرطًا لظهور السرقة المستوجبة للقطع فلابد من بيان من يملك الخصومة, والأصل عند أبى حنيفة أن كل من له يد مالك أو أمانة أو ضمان, فللمالك أن يخاصم السارق, وللمودع وللمستعير والمضارب والغاصب والقابض على رسوم الشراء والمرتهن؛ لأن يد هؤلاء إما يد ضمان أو يد أمانة, فلهم جميعًا أن يخاصموا السارق, وتعتبر خصومتهم فى حق ثبوت ولاية الاسترداد والإعادة إلى أيديهم أولاً, وفى حق القطع إذ يقطع السارق بخصومتهم ثانيًا. ولكن زفر لا يعتبر الخصومة فى حق القطع إلا من المالك فقط وهو مذهب الشافعي, حيث يشترط مخاصمة المالك أو وكيله, ولا يجيز مخاصمة واضع اليد كالمرتهن والمستأجر. أما مالك فلا يشترط المخاصمة والمطالبة للقطع - وفى مذهب أحمد رأيان: رأى كمذهب مالك, والثانى كمذهب الشافعى يشترط مخاصمة المالك دون غيره (2) .   (1) المغنى ج10 ص299, كشاف القناع ج4 ص86. (2) بدائع الصنائع ج7 ص83, أسنى المطالب ج4 ص152, المغنى ج10 ص299, كشاف القناع ج4 ص87, شرح الزرقانى ج8 ص106. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 والسارق عند أبى حنيفة لا يملك الخصومة إذا سرق الشيء منه؛ لأن يده ليست صحيحة على الشيء المسروق, فلا هى يد مالك, ولا يد أمانة, ولا ضمان, فصار الأخذ من يده كالأخذ من الطريق, وليس للمالك ولاية الخصومة فى هذه الحالة, لأن الأخذ لم يخرج من المال من حيازته ولكن له حق استرداد الشيء المسروق. وإذا كان السارق لا يملك الخصومة فإنه يترتب على ذلك سقوط القطع فى حق السارق الثانى. أما حق الاسترداد فقد اختلف فيه الفقهاء فى المذهب. فيرى البعض أن السارق الأول ليس له أن يطالب السارق الثانى برد المسروق, ويرى البعض أن له حق المطالبة بالاسترداد (1) , ومالك لا يشترط الخصومة, ويرى قطع السارق من السارق؛ لأنه سرق مالاً للغير من حرز لا شبهة له فيه (2) , ولكنه لا يجعل للسارق الأول حق استرداد المسروق, إنما الاسترداد للمالك. وأحمد يشترط الخصومة, ولكنه لا يقطع السارق من السارق, ولا السارق من الغاصب, ولا يجعل حق استرداد المسروق إلا للمالك (3) . وفى مذهب الشافعى رأيان فى قطع السارق من السارق: أحدهما كرأى مالك, والثانى كرأى أحمد (4) , وحق الاسترداد لا يكون فى أى حال إلا للمالك. 619 - ثانيًا: الإقرار: تثبت السرقة بالإقرار ولو بعد حين من السرقة, لأن التقادم عند القائلين به لا يؤثر على الإقرار, إذ الإنسان غير متهم فيما يقر به على نفسه. والظاهريون يرون أن يكون الإقرار مرة واحدة ولا يتعدد. وقد اختلف فى عدد الأقارير. فاكتفى مالك وأبو حنيفة والشافعى بإقرار واحد، ويرى أبو يوسف من فقهاء الحنفية مع أحمد والشيعة الزيدية أن يكون   (1) بدائع الصنائع ج7 ص84. (2) شرح الزرقانى ج8 ص 96. (3) المغنى ج10 ص257, 279. (4) المهذب ج2 ص299, أسنى المطالب ج4 ص138. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 الإقرار مرتين, وحجتهم ما روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يقطع أحد السارقين إلا بعد أن اعترف مرتين أو ثلاثًا, ويترتب على اشتراط الإقرار مرتين عند القائلين به أنه لو أقر مرة واحدة لم يقطع بها, ولكنه يعزر بها ويحكم عليه بقيمة المسروق (1) . واختلف فى اشتراط الخصومة مع الإقرار, فأبو حنيفة والشافعى وأحمد يشترطون المخاصمة مع الإقرار, فلا يقطع المقر بسرقة مال من مجهول أو من غائب إلا إذا خاصمه من يملك المخاصمة كما هو الحال فى حالة الثبوت بالبينة, ولكن أبا يوسف من فقهاء المذهب الحنفى لا يشترط المخاصمة فى حال الإقرار ويرى القطع فى السرقة من مجهول أو غائب إذا ثبتت السرقة دون حاجة للمخاصمة, وحجته فى ذلك أن المقر لا يتهم فى الإقرار على نفسه, ويحتج أبو حنيفة ومن على رأيه بأن سمرة لما أقر للرسول أنه سرق بعيرًا, أرسل الرسول يسأل المجنى عليهم فقالوا: فقدنا بعيرًا فى ليلة كذا, فقطعه. ويحتج لذلك أيضًا بأن الظاهر أن من فى يده شيء فهو ملكه, فإن أقر به لغيره لم يحكم بزوال ملكه حتى يصدقه المقر له, والغائب يجوز أن يصدقه, ويجوز أن يكذبه, فاحتمال التكذيب شبهة تدرأ الحد عن المتهم. وقد علمنا فيما سبق أن مالكًا لا يشترط المخاصمة للقطع سواء ثبتت السرقة ببينة أو إقرار (2) . وإذا أقر الجانى ورجع عن إقراره لم يقطع, لأن العدول شبهة فى صحة الإقرار, ولكن يمكن أن يعزر على أساس إقراره, وان يحكم عليه بضمان المال المسروق, وإذا عدل المتهم عن الإقرار, وكانت الجريمة ثابتة بشهادة   (1) المغنى ج10 ص291- 294, شرح الأزهار ج4 ص364, شرح الزرقانى ج8 ص106, أسنى المطالب ج4 ص150, بدائع الصنائع ج7 ص81, 82. (2) المغنى ج10 ص300, أسنى المطالب ج4 ص150, شرح الزرقانى ج8 ص106, بدائع الصنائع ج7 ص82. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 الشهود, قطع الجانى بناء على ثبوت الجريمة بالبينة, وهذا ما يراه أحمد ومالك والظاهريون (1) . وعند الشافعيين يرون أن الأصح سقوط القطع إذا ثبتت الجريمة أولاً ثم ثبتت بالبينة إذا رجع عن الإقرار (2) . ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب أبى حنيفة يرون أن الإقرار يبطل الشهادة, وأن العدول عن الإقرار يبطل الحد (3) . وليس للعدول عن الإقرار أى أثر عند الظاهريين, بل يؤخذ الجانى بإقراره ولو عدل عنه, لأنهم لا يدرأون الحدود بالشبهات, ويرى بعض الشافعية هذا الرأى على أساس أن السرقة حق متعلق بالإفراد (4) . 620- ثالثًا: اليمين: فى مذهب الشافعى رأى أن السرقة تثبت باليمين المردودة, فإذا ثبتت على هذا الوجه قطع المتهم, فإذا لم يكن شهود ولا إقرار, فنسب المجنى عليه السرقة للمتهم, فنكل السارق عن اليمين فحلفها المدعى قطع السارق؛ لأن اليمن المردودة كالإقرار والبينة وسيلة من وسائل الإثبات, وكل منها يقطع به فيقطع باليمن المردودة. لكن الرأى الراجح فى المذهب أن القطع لا يكون بالبينة أو الإقرار, وأنه لا قطع باليمين المردودة, وإنما يثبت به المال المسروق فقط (5) , وهذا الرأى يتفق مع مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد فإنهم لا يرون اليمن المردودة دليلاً مثبتًا إلا للمال دون غيره, وأن السارق لا يقطع بها (6) . * * *   (1) كشاف القناع ج4 ص86, المحلى ح8 ص250. (2) أسنى المطالب ج4 ص150, ويراجع مذهب أبس حنيفة فى شرح فتح القدير. (3) شرح الأزهار ج4 ص349. (4) المحلى ج8 ص250, المهذب ج2 ص364. (5) أسنى المطالب ج4 ص364. (6) شرح الزرقانى ج8 ص107, بدائع الصنائع ج7 ص81, المغنى ج1 ص128. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 المبحث الثالث ما يترتب على ثبوت السرقة يترتب على ثبوت السرقة شيئان: أولهما: ضمان قيمة المال المسروق. ثانيهما: قطع السارق. 621- أولاً: الضمان: يسلم أبو حنيفة وأصحابه بأن الجانى إذا ثبتت عليه السرقة ملزم بضمان قيمة الشيء المسروق, وأنه يجب عليه القطع إذا تبين أنه سارق, ولكنهم يرون الضمان والقطع لا يحتمعان معًا, فإذا قطع السارق فلا ضمان عليه حتى ولو استهلك الشيء المسروق بعد القطع, وحجتهم أن نص القرآن جاء بالقطع فقط, وأن عبد الرحمن بن عوف روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قطع السارق فلا غرم عليه", ولهم حجة أخرى منطقية وهى: أن المضمونات تملك عندهم من وقت الأخذ عند أداء الضمان أو اختياره, فلو ضمن السارق قيمة المسروق فكأنه ملكه من وقت أخذه, وكأنه أخذ ما يملكه, فلو قطع مع الضمان لقطع فى ملك نفسه, والقطع لا يجب إلا بأخذ ملك الغير, ولكن بعض فقهاء الحنفية يفرقون بين حالة الاستهلاك قبل القطع وحالة الاستهلاك بعده, ويرون أن السارق يضمن المال المسروق إذا استهلكه بعد القطع, أما إذا استهلكه قبله فلا ضمان. وحجتهم أن المال المسروق حين بقى فى يد السارق بعد القطع بقى تحت يده على سبيل الأمانة ليرده للمجنى عليه, فإذا استهلكه ضمن قيمته (1) . ويرى الحنفية عمومًا أن للمالك استرداد المسروق بعد القطع ما دام المسروق لم يستهلك, سواء كان المسروق فى يد السارق أو كان السارق قد تصرف فيه للغير, وللغير أن يرجع بالثمن على السارق, ولكن ليس له أن   (1) بدائع الصنائع ج7 ص84, 85. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 يرجع عليه بالقيمة, لأن الرجوع بالقيمة معناه الضمان, وقد انتهى الضمان عن السارق بالقطع, أما الرجوع بالثمن فلا يوجب على السارق ضمانًا فى عين المسروق, وإن كان قد هلك فى يد المتصرف إليه فلا ضمان عليه ولا على السارق؛ لأن السارق قطع, والقطع ينفى الضمان, ولأن تضمين المتصرف إليه يعطيه حق الرجوع على السارق بالضمان, فتكون النتيجة تضمين السارق, وقطعه ينفى عنه الضمان, فإذا كان المتصرف إليه قد استهلك المسروق كان للمجنى عليه أن يرجع بقيمة المسروق على المتصرف إليه, لأنه قبض ماله بغير إذن واستهلكه وكان للمتصرف إليه أن يرجع على السارق بالثمن, والرجوع بالثمن ليس تضمينًا, وإنما التضمين هو الرجوع بالقيمة, وإذا غصب مال المسروق شخص من السارق كان للمجنى عليه أن يسترد المال من يد الغاصب, فإذا هلك المال فى يد الغاصب كان للمجنى عليه أن يرجع على الغاصب بقيمته على رأى, ولم يكن له على رأى آخر, لأن عصمة المال قد سقطت بالقطع (1) . واختلف فقهاء الحنفية فى حالة تعدد السرقات, وتعدد المجنى عليهم. والقاعدة أنه إذا تعددت السرقات قبل الحكم تداخلت الحدود وأجزأ أحدها, فيقطع السارق مرة واحدة فى كل السرقات. والخلاف ليس على هذه القاعدة فهى مسلم بها من الجميع, وإنما اختلفوا فى الضمان إذا تعددت السرقات, ففريق يرى أن المجنى عليهم إذا حضروا جميعًا وخاصموا فلا ضمان على السارق, لأن مخاصمة السارق فى المسروق تقوم مقام الإبراء من الضمان, أما إذا خاصم أحدهم أو بعضهم ولم يخاصم الباقون فالضمان لمن لم يخاصم, وهذا هو رأى أبى يوسف ومحمد, وحجتهما أن المجنى عليه مخير بين أن يدعى المال فيستوفى حقه وهو الضمان, وبين أن يدعى السرقة فيستوفى حق الله تعالى فهو القطع ولا ضمان له, فسقوط الضمان أساسه عندهما الادعاء بالسرقة. أما الرأى المضاد فهو رأى أبى حنيفة, ويرى أن لا ضمان لأحد من المجنى عليهم؛ لأن القطع   (1) بدائع الصنائع ج7 ص85. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 وقع للسرقات كلها, فينتفى الضمان لأيهما (1) . ويرى الشافعى وأحمد أن القطع والضمان يجتمعان دائمًا؛ لأن السارق يأتى بما يوجب القطع, ويأتى بما يوجب ضمان قيمة المسروق فى كل سرقة, فكان الواجب عليه هو القطع والضمان, ذلك أن كل سرقة هى اعتداء على حقين أولهما: حق الله تعالى الذى حرم السرقة أو حق الجماعة التى تضر بالسرقة, والثانى: حق العبد الذى اتلف ماله دون مبرر, وإذا كانت الجريمة اعتداء على حقين فليس ثمة ما يمنع أن تكون الجريمة مضمونة بضمانين, أى أن يكون الجانى مسئولاً عن هذين الحقين, كذلك فإن الجانى ضامن لرد العين كلما كانت باقية تحت يده, فيجب عليه ضمان قيمتها إذا كانت تالفة لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه", ولا يسلم الشافعية والحنفية بحديث عبد الرحمن بن عوف؛ لأن أحد رواته مجهول. وعلى هذا يجب على السارق رد العين المسروقة على مالكها إذا كانت باقية, فإذا كانت تالفة فعلى السارق رد قيمتها أو مثلها إن كانت مثلية قُطع أو لم يقطع, موسرًا كان أو معسرًا. وإذا تعدد المجنى عليهم فى السرقة, فالسارق ضامن لكل منهم قيمة ما سرق منه أو مثله سواء خاصم أو لم يخاصم (2) . وإذا تصرف السارق فى العين كان للمالك أن يسترد العين من هذا الغير وللأخير الرجوع على السارق بقيمتها. ويرى مالك أن السارق يضمن قيمة المسروق إذا لم يحكم عليه بالقطع أيًا كان السبب فى عدم القطع, كأن كان لعدم تمام النصاب فى المال, أو فى الشهادة, أو لأنه سرق من غير حرز, أو لأن يده قطعت فى جناية أخرى عمدًا أو خطأ, أو فى حادث عرضي, وهو يضمن قيمة المال المسروق ولو كان قد تلف, وسواء كان التلف باختياره أو بالرغم منه, وسواء كان السارق موسرًا أو معسرًا,   (1) بدائع الصنائع ج7 ص85, 86. (2) أسنى المطالب ج4 ص152, المغنى ج10 ص279. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 أما إذا كانت العين باقية فعليه ردها. أما إذا قطع فى السرقة فعليه رد العين إن كانت موجودة, فإن لم تكن موجودة فعليه قيمتها أو مثلها بشرط أن يكون موسرًا وقت السرقة ويظل يسره حتى يقطع. فإن كان معسرًا وقت السرقة ثم أيسر بعد ذلك ولو قبل القطع فلا ضمان. وكذلك لو كان موسرًا وقت السرقة ثم أعسر بعد السرقة وقبل القطع ولو عاد إلى يساره بعد القطع. وأساس هذه التفصيلات عند مالك هو ما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقيم على السارق الحد فلا ضمان عليه", ويفسر مالك هذا الحديث بأنه لا يجوز أن يجتمع على السارق عقوبتان: قطع يده, واتباع ذمته. ولكن مالكًا يرى أن اليسار المتصل كالمال القائم, فإذا ظل السارق فى يساره من وقت السرقة إلى وقت القطع فلا يعتبر أنه عوقب بتضمينه قيمة المسروق الذى تصرف فيه, فدخل ثمنه فى ماله أو استهلكه, انتفع به أم لم ينتفع. ورأى مالك استحسان على غير قياس (1) . وتطبق هذه القواعد فى حاله تعدد السرقات وتعدد المجنى عليهم, وللمالك إذا تصرف السارق فى العين لآخر أن يسترد العين من الآخر. ورأى الشيعة الزيدية يتفق مع مذهب أبى حنيفة, فالسارق إذا قطع لم يضمن (2) . 622- ثانيًا القطع. أساس القطع: الأصل فى القطع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} [المائدة:38] . وعقوبة القطع لا يحوز العفو فيها لا من المجنى عليه ولا من رئيس الدولة, ولا يجوز أن تستبدل بها عقوبة أخرى أخف منها. والأصل فى ذلك ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تجافوا العقوبة بينكم, فإذا انتهى بها إلى الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا", كذلك لا يجوز تأخير تنفيذ العقوبة أو تعطيلها. وهذه المبادئ   (1) شرح الزرقانى ج8 ص107, 108, بداية المجتهد ج2 ص278. (2) شرح الأزهار ج4 ص375. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 متفق عليها ولا يخالف فيها إلا الشيعة الزيدية, حيث يرون أن القطع يسقط عن السارق بعفو المجنى عليه فى السرقة, فإذا تعدد المجنى عليهم وجب لسقوط القطع أن يعفو كل منهم (1) . كذلك يرون أن للإمام مع وجوب إقامة الحد أن يسقط العقوبة عن بعض الناس لمصلحة, وله أن يؤخر إقامته إلى وقت آخر لمصلحة, على أن بعضهم يرى أن ليس للإمام إسقاط حد القذف ولا حد السرقة (2) . 623- محل القطع: اختلف الفقهاء فى محل القطع إلى حد كبير, ولهم فى ذلك آراء مختلفة, وأساس اختلافهم تأويل قوله تعالى: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} , واختلافهم فى صحة ما أُثر عن الرسول, فرأى عطاء أن السارق إذا سرق قطعت يده فى السرقة الأولى ولا قطع بعد ذلك إن عاد للسرقة. وعلى هذا فإن جزاء السرقة هو قطع اليد اليمنى فى أول سرقة, أما السرقات الأخرى فلا قطع فيها, وإنما يعاقب السارق عقوبة تعزيرية. وحجة عطاء أن الله جل شأنه قال: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} , ولو شاء أمر بقطع الرجل ولو يكن الله تعالى نسيًا (3) . ويرى الظاهريون أن القطع واجب فى اليدين معًا, فإذا سرق قطعت إحدى يديه, فإذا عاد للسرقة قطعت يده الثانية, فإن سرق الثالثة عزر ومنع الناس ضره حتى يصلح حاله؛ أى حبس طويلاً حتى يصلح حاله. وحجتهم أن القرآن والسنة جاءا بقطع يد السارق لا بقطع رجله, فلا يجوز أن يقطع من السارق غير يديه (4) , ومحل القطع عند أبى حنيفة والشيعة الزيدية وعلى الرأى الأول   (1) شرح الأزهار ج4 ص324. (2) شرح الأزهار ج4 ص374, بدائع الصنائع ج7 ص55, كشاف القناع ج4 ص47, 87, المهذب ج6 ص287, 289, 292, 300, الأحكام السلطانية ص265, المدونة ج16 ص67, المحلى ج11 ص126 وما بعدها. (3) المحلى ج11 ص354. (4) المحلى ج11 ص357. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 - وهو الراجح فى مذهب أحمد - وهو اليد اليمنى والرجل اليسرى, فتقطع اليد اليمنى فى السرقة الأولى, فإن عاد للسرقة قطعت الرجل اليسرى, فإن عاد فلا قطع بعد ذلك وإنما يحبس إلى مدة غير معينة حتى يموت أو تظهر توبته. وحجتهم فى ذلك: أولاً ما روى عن أبى هريرة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال فى السارق: "إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله", ولأن نص القرآن: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} قصد منه اليد اليمنى فقط بدليل قراءة عبد الله بن مسعود "فاقطعوا أيمانهم", ولا يظن بمثله أن يقرأ ذلك من تلقاء نفسه بل سماعًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فخرجت قراءته مخرج التفسير, ولأن القطع - قطع اليدين- يفوت منفعة الجنس, وكذلك قطع الرجلين معًا, فلا يستطيع أن يأكل أو يمشى أو يتطهر أو يدفع عن نفسه, ولأن عمر وعليًا لم يريا أن يقطعا أكثر من يد ورجل السارق, فقد أُتى على بسارق قطعت يده ورجله فلم يقطعه وقال: إنى لأستحى من الله ألا أدع يدًا يبطش بها, ولا رجلاً يمشى عليها. ولما أشار عليه الصحابة بقطعه قال: إذا قتلته وما عليه القتل, بأى شيء يأكل الطعام؟ بأى شيء يتوضأ للصلاة؟ بأى شيء يغتسل من جنابته؟ بأى شيء يقوم على حاجته؟ وروى عن عمر أنه أتى برجل أقطع اليد والرجل قد سرق فاستودعه السجن بعد أن أشار عليه على بذلك (1) . ومحل القطع عند مالك والشافعى وعلى الرأى الثانى فى مذهب أحمد هو اليدان والرجلان معًا, فتقطع اليد اليمنى أولاً, فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى, فإن عاد الثالثة قطعت اليد اليسرى, فإن عاد الرابعة قطعت رجله اليمني, فإن عاد بعد ذلك حبى حتى يموت أو تظهر توبته. وحجتهم أن الله تعالى قال: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} , والأيدى اسم جمع والاثنان فما فوقهما جمع, وأن أبا هريرة روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى السارق: "السارق إن سرق   (1) المغنى ج10 ص264, 272, بدائع الصنائع ج7 ص86, شرح الأزهار ج4 ص272. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 فاقطعوا يده, ثم إن سرق فاقطعوا رجله, ثم إن سرق فاقطعوا يده, ثم إن سرق فاقطعوا رجله", ولأن أبا بكر وعمر قطعا فى خلافتهما اليدين والرجلين, وقد قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا باللَّذَيْن من بعدى: أبى بكر وعمر" (1) . ويشترط أبو حنيفة لقطع اليد اليمنى أن تكون اليد اليسرى صحيحة, فإن كانت مقطوعة أو شلاء مقطوعة الإبهام أو أصبعين سوى الإبهام فلا تقطع اليمنى لأن القطع للسرقة شرع للزجر لا للإهلاك, فإذا لم تكن اليسرى يمكن الانتفاع بها فإن قطع اليمنى يؤدى إلى تفويت منفعة اليدين, وهو إهلاك للنفس من وجه, وإذا كانت اليسرى كذلك فلا تقطع الرجل اليسرى أيضًا؛ لأن قطعها يؤدى إلى ذهاب أحد الشيئين على الكمال ففيه إهلاك النفس. ويرى أبو حنيفة أيضًا أنه إذا كانت الرجل اليمنى مقطوعة أو شلاء أو بها عرج يمنع المشى عليها فلا تقطع اليد اليمنى؛ لأن فى ذلك فوات منفعة الشق, وكذلك لا تقطع رجلة اليسرى وإن كانت صحيحة؛ لأنه يبقى بلا رجلين فتفوت منفعة الجنس - أى منفعة المشي- وإن كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع كلها, فإن كان يستطيع المشى عليها كلها تقطع اليد اليمني؛ لأن الجنس لا تفوت منفعته, وإن كانت يداه صحيحتين ولكن رجله اليسرى مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الأصابع تقطع يده اليمني؛ لأن جنس المنفعة لا يفوت وليس فيه فوات الشق, وإن كانت اليد اليمنى شلاء أو مقطوعة الإبهام أو الأصابع فإنها تقطع؛ لأن اليد السليمة تقطع فالمعيبة إذن أولى بالقطع. ورأى أبى حنيفة فيما سبق يتفق فى مع رأى أحمد, ولكن الأخير يخالف فى أنه يعتبر اليد التى ذهب معظم نفعها فى حكم المعدومة, فلا يعتبر معدومة ما ذهب منها خنصر أو بنصر أو إبهام, أما أبو حنيفة فيعتبر فى حكم المعدوم   (1) شرح الزرقانى ج2 ص92, 93, أسنى المطالب ج4 ص152 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 ما قطع منه أصبعان غير الإبهام, أو قطع منه الإبهام فقط, لأن ذلك فى رأيه يفوت منفعة البطش. وفى مذهب أحمد رأى لا يرى قطع الشلاء أصلاً, والانتقال إلى غيرها, فإن كانت اليد اليمنى شلاء قطعت الرجل اليسرى, ولكن الرأى الأخر يرى قطع الشلاء إذا رأى أهل الخبرة أنها قطعت رقأ دمها وانحسمت عروقها. وفى المذهب رأى يرى ألا تقطع اليد إذا كانت كل أصابعها ذاهبة, ورأى يرى قطعها (1) . ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب أبى حنيفة كما ورد ذلك فى شرح الأزهار. ويتفق مالك والشافعى كما ذكرنا من قبل فى قطع اليدين والرجلين, ولكن مالكًا يرى ألا قطع فى يد ولا قدم مشلولة شللاً ظاهرًا. وإذا قطع من اليد معظم أصابعها كثلاثة أو أربعة أصابع, اعتبرت عند مالك فى حكم المشلولة وكذلك الرجل. أما الشافعى فإنه يرى قطع اليد أو الرجل ولو كانت شلاء, إلا إذا خيف من قطعها ألا يكف الدم, ويكتفى بقطع اليد ما دام فيها أصبع واحد, بل يرى بعض فقهاء المذهب الاكتفاء بالكف دون الأصابع (2) . ومن المتفق عليه بين جميع الفقهاء أن القطع يسقط إذا ذهب العضو المستحق القطع بسبب وقع بعد السرقة لا قبلها, سواء كان الذهاب بآفة, أو قصاص, أو جناية. فمن حصل له حادث بعد السرقة فذهبت فيه يده اليمنى سقط عنه القطع ولم ينتقل للرجل اليسرى. ومن قطع يمنى شخص بعد السرقة فحكم له بقصاص, فقطعت يده اليمني, سقط عنه القطع للسرقة ولم ينتقل إلى الرجل اليسرى. أما إذا كانت الجناية التى حكم فيها بالقصاص وقعت قبل   (1) المغنى ج10 ص268, 269, كشاف القناع, بدائع الصنائع ج7 ص87. (2) أسنى المطالب ج4 ص152, 153, شرح الزرقانى ج8 ص92, 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 السرقة فالقطع ينتقل للرجل اليسرى (1) . وإذا قطع شخص عمدًا العضو المستحق القطع سقط القطع, وليس على العادى إلا التعزير, ويسقط القطع؛ لأن العضو المستحق ذهب بسبب نشأ بعد السرقة زلا قصاص على العادى؛ لأنه قطع عضوًا غير معصوم, وإنما يعزر لافتياته على الإمام ولو كان القطع قبل ثبوت السرقة. والحكم بالقطع ما دام الاعتداء حدث بعد السرقة, وما دامت السرقة قد ثبتت وكانت مما يجب فيه القطع, وهذا هو رأى مالك والشافعى وأحمد, إلا أن بعض المالكية يشترط أن يكون الاعتداء بعد ثبوت السرقة لا بعد وقوعها (2) . ويفرق الحنفية بين حالتين, حالة ما إذا كان الاعتداء قبل المخاصمة أو بعدها, فإن كان قبل المخاصمة فعلى المعتدى القصاص؛ لأن القطع لا يجب فى السرقة إلا بالمخاصمة فكان العضو حين قطع غير مستحق القطع, فقطع وهو معصوم. وينتقل القطع فى السرقة إلى الرجل اليسرى إذا كان المقطوع هو اليد اليمني, كأن سرق ولا يمين له. أما إذا كان الاعتداء بعد الخصومة, فإن كان قبل القضاء فكذلك الجواب. إلا أنا ههنا لا نقطع رجله اليسرى؛ لأنه لما خوصم كان الواجب فى اليمين وقد فاتت, فسقط الواجب كما لو ذهب بآفة سماوية, وإن كان بعد القضاء فلا قصاص على القاطع؛ لأنه احتسب لإقامة حد الله تعالى فكان قطعه عن السرقة (3) . وإذا شهد بالسرقة فحسبه الحاكم لعدل الشهود, فقطعه قاطع, ثم عدلوا, فلا قصاص على القاطع عند الأئمة الثلاثة, وإن لم يعدلوا وجب القصاص. ولكن   (1) أسنى المطالب ج4 ص153, المغنى ج10 ص269, شرح الزرقانى ج8 ص108, بدائع الصنائع ج7 ص88. (2) نفس المراجع السابقة. (3) بدائع الصنائع ج7 ص88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 الحنفيين لا يرون القصاص, لأن صدق الشهود محتمل فيكون ذلك شبهة (1) . وإن عدا شخص على السارق فقطع يسراه بعد السرقة عمدًا أو خطأ فعليه القصاص فى العمد والدية فى الخطأ, ولكن قطع اليمن يسقط عن السارق عند أبى حنيفة وأحمد والشيعة الزيدية, لأنه لو قطع لأدى قطعه إلى تفويت منفعة الجنس, ولكن مالكًا والشافعى لا يسقطان قطع اليمين عن السارق. لأنهما يجيزان قطع اليدين والرجلين, بينما لا يجيز أبو حنيفة وأحمد إلا قطع يد ورجل فقط (2) . وإذا قطع الإمام أو الجلاد اليسرى بدلاً من اليمنى خطأ أجزأت, وليس على القاطع ضمان فى رأى البعض, وعليه الضمان فى رأى البعض الآخر, أما إذا قطعها عمدًا وهو عالم أن السنة قطع اليمين فعلى القاطع القصاص, ولا يسقط القطع عن السارق فنقطع يده اليمنى عند مالك والشافعي, وعليه التعزير عند أبى حنيفة والضمان. وكذلك يرى بعض الحنابلة, ولكن البعض الآخر يرى القصاص. ولكن الحنفيين عمومًا والحنابلة يرون أن قطع اليسار يمنع من قطع اليمين ويجزئ عنه؛ لأن قطع اليمين يفضى إلى تفويت منفعة الجنس, كما يؤدى إلى قطع اليدين فى سرقة واحدة. ويرى أبو حنيفة ألا ضمان على القاطع فى هذه الحالة؛ لأن القاطع أتلف وأخلف خيرًا مما اتلف. أى أنه إذا كان فعل القاطع أدى إلى إتلاف اليسرى فقد أدى إلى لإبقاء اليمنى وهى خير من اليسرى (3) .   (1) المغنى ج10 ص269, 270, حاشية ابن عابدين ج3 ص287, الزيلعى ج3 ص226, شرح فتح القدير ج4 ص251. (2) بدائع الصنائع ج7 ص87, أسنى المطالب ج4 ص153, شرح الزرقانى ج8 ص93, المغنى ج10 ص270, شرح الأزهار ج4 ص373. (3) بدائع الصنائع ج7 ص87, شرح الزرقانى ج8 ص93, 94, أسنى المطالب ج4 ص153, كشاف القناع ج4 ص88 المغنى ج10 ص270. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 624- موضع القطع: موضع القطع من اليد هو مفصل الزند عند الأئمة الأربعة والظاهريين والشيعة الزيدية, وعند الشيعة الإمامية القطع من أصول الأصابع, فلا تقطع الكف, ويرى الخوارج القطع من المنكب. وموضع قطع الرجل من مفصل الكعب, ولكن الشيعة الإمامية يرون القطع من مقعد الشراك ليبقى للسارق عقب يمشى عليه. وحجة الخوارج أن اليد تطلق على الذراع كله, وحجة الشيعة الإمامية أن عليًا قطع أصابع اليد دون الكف, وقطع القدم دون الكعب. وحجة القائلين القطع من مفصل الزند ومفصل الكعب: أن أقل ما يطلق على اليد هو الكف والأصابع, وأن العمل جرى من عهد الرسول على القطع من هذين المفصلين (1) . 625- التداخل: إذا سرق السارق مرات قبل القطع أجزأ قطع واحد عن جميع السرقات وتداخلت الحدود جميعًا؛ لأن السرقة حد من حدود الله تعالي, فإذا اجتمعت أسبابه تداخل كحد الزنا. والقاعدة: أن ما تعلق بحق الله تداخل, وما تعلق به حق لآدمى لم يتداخل (2) . ويرى مالك أن التداخل يكون فى حالتين: الأولى: إذا اتحد الموجب؛ أى اتفق قدر ما توجبه كل جريمة كالقذف والشرب, فعقوبة كل منهما ثمانون جلدة, وكالسرقة وقطع اليد اليمنى فالأولى عقوبتها القطع والثانية القصاص. فإذا أقيمت إحدى العقوبتين أو العقوبات التى تتحد فى الموجب سقطت العقوبات الأخرى ولو لم يقصد عند إقامة العقوبة التى أقيمت أن تجزئ عن غيرها, أو لم يكن يعلم أن هناك حدودًا أخرى واجبة على المحدود.   (1) المحلى ج11 ص357, المغنى ج10 ص264, شرح الأزهار ج4 ص272, شرح الزرقانى ج8 ص 92, 93, بدائع الصنائع ج7 ص78, أسنى المطالب ج4 ص152, 153, بداية المجتهد ج2 ص278. (2) المغنى ج10 ص268, أسنى المطالب ج4 ص152, 157, بدائع الصنائع ج7 ص85, شرح الزرقانى ج8 ص108. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 الثانية: إذا تكررت موجبات الجريمة الواحدة كالسرقة مرارًا قبل الحد أو الشرب مرارًا قبل الحد. ويرى بعض الحنابلة أنه لو سرق جماعة وجاءوا متفرقين فإن الحدود لا تتداخل. ولعله يقيس ذلك على حد القذف, ولكن الصحيح أنها تتداخل؛ لأن القطع خالص حق الله تعالى وإن توقف على مخاصمة المالك, أما حد القذف فحق لآدمى ويتوقف على المطالبة باستيفائه ويسقطه العفو عنه (1) . 626- من الذى يقيم الحد؟: يقيمه الإمام أو من ولاَّه من الحكام. 627- تعليق اليد بعد قطعها: يرى الشافعى وأحمد أن تعليق اليد المقطوعة وقتًا ما فى عنق السارق للزجر والتنكيل, أخذًا بما رواه الترمذى من أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أتى بسارق فقطعت يده ثم أمر فعلقن فى عنقه (2) . ولم يحدد الحنابلة الوقت وحدده الشافعية بساعة, ويرى الشيعة الزيدية التعليق على أن يكون ثلاثة أيام (3) , ولا يذكر المالكية والحنفية شيئًا عن تعليق اليد. 628- مسقطات القطع: إذا وجب القطع على السارق فلا مفر من تنفيذ العقوبة, إلا إذا سقطت بسبب ما, والأسباب المسقطة للقطع مختلف عليها بين الفقهاء, فما يراه البعض مسقطًا للعقوبة لا يراه البعض كذلك. وسنبين فيما يلى أسباب السقوط المختلف عليها والمتفق عليها: 1- تكذيب المسروق منه السارق فى إقراره بالسرقة أو تكذيبه الشهود فيما شهدوا به من سرقة: فهذا التكذيب يبطل الإقرار والشهادة, ويترتب على بطلانهما سقوط القطع, وهذا هو مذهب أبى حنيفة, ويستوى أن يكون التكذيب مبتدأ أو بعد المخاصمة والادعاء بالسرقة, ولكن مالكًا- وهو لا يعتبر المخاصمة- لا يرى فى تكذيب المجنى عليه لإقرار الجانى أو الشهود ما يسقط   (1) المغنى ج10 ص268. (2) أسنى المطالب ج4 ص153, المغنى ج10 ص266. (3) شرح الأزهار ج4 ص372. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 القطع ما دام الثابت أن التكذيب قصد به مساعدة الجاني, ولا يتفق مع الحقيقة, والأمر كذلك عند الشافعى وأحمد إذا كان التكذيب بعد المخاصمة والادعاء بالسرقة, أما إذا كان التكذيب مبتدأ فلا يجب القطع؛ لأنه لا يجب إلا المخاصمة, والتكذيب المبتدأ يمنع من المخاصمة. ومذهب الظاهريين يتفق مع مذهب مالك فى هذه النقطة. أما مذهب الشيعة الزيدية فهو كمذهب أبى حنيفة؛ لأنهم لا يسقطون القطع بعفو المجنى عليه, فسواء كان التكذيب صحيحاُ أو مقصودًا به مساعدة الجانى فهو مسقط للحد عندهم (1) . 2- العفو عن السارق: على أن يكون من جميع المجنى عليهم, فإن كان من بعضهم دون البعض فلا يسقط القطع. وهذا رأى الشيعة الزيدية ولا تأخذ به المذاهب الأخرى المقارنة (2) . 3 - رجوع السارق عن إقراره صراحة أو ضمنًا إذا لم يكن دليل إلا الإقرار: فإذا كان دليل آخر فهو على ما بينا عند الكلام على الإقرار. وهذا متفق عليه إلا من الظاهريين وبعض الشافعية, فإنهم لا يرون الرجوع عن الإقرار مسقطًا للقطع. وإذا اشترك فى السرقة شخصان فأقرا بالسرقة وعدل أحدهما عن إقراره دون الآخر سقط القطع عمن عدل دون غيره؛ عند مالك والشافعى وأحمد, وعند أبى حنيفة يدرأ القطع عن الآخر؛ لأن السرقة واحدة وشركتهما ثابتة ورجوع أحدهما يورث شبهة فى حق الشريك الآخر, وإذا اعترف أحدهما بالسرقة وأنكر الآخر ولم يكن عليه دليل فالقطع على المقر وحده عند الجميع. إلا أن أبا يوسف من فقهاء المذهب الحنفى يرى ألا يقطع المقر, لأنه أقر بسرقة واحدة بينهما على الشركة, فإذا لم تثبت فى حق شريكه بإنكاره   (1) بدائع الصنائع ج7 ص88, شرح الأزهار ج4 ص374, شرح الزرقانى ج8 ص97, المدونة ج16 ص95. (2) شرح الأزهار ج4 ص374. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 يؤثر ذلك فى حق صاحبه ضرورة اتحاد السرقة. وأصحاب الرأى المضاد يرون أن إقراره بالشركة فى السرقة إقرار بوجود السرقة من كل واحد منهما, إلا أنه لما أنكر صاحبه السرقة لم يثبت فعل السرقة بالنسبة له, وعدم الفعل منه لا يؤثر فى وجود الفعل من صاحبه, فيبقى إقراره على نفسه بالسرقة قائمًا فيؤخذ به (1) . 4- رد المسروق قبل المرافعة: يرون فى مذهب أبى حنيفة أن رد السارق للمسروق قبل المرافعة يسقط القطع أما بعد المرافعة فلا يسقطه؛ لأن الخصومة شرط لظهور السرقة الموجبة للقطع, فإذا رد السارق المسروق قبل المرافعة بطلت الخصومة, بخلاف ما بعد المرافعة؛ لأن الشرط وجود الخصومة لا بقاؤها. وهناك رواية عن أبى يوسف بأن الرد قبل المرافعة لا يسقط القطع؛ لأن السرقة حين وجودها انعقدت موجبة للقطع, فرد المسروق بعد ذلك لا يخل بالسرقة الموجودة ولا يسقط القطع الواجب كما لو رده بعد المرافعة. وعند الشيعة الزيدية أن رد المسروق إلى الحرز بعد إخراجه يجب فيه القطع. وعند مالك والشافعى وأحمد أن الرد لا يمنع من القطع, لأن مالكًا لا يعتبر المخاصمة, ولأن المخاصمة كما يراها الشافعى وأحمد شرط للحكم لا شرط للقطع, فإذا خاصم المجنى عليه وجب القطع, ولو رد الجانى المسروق, ولو كان الرد قبل المرافعة (2) . 5- تملك السارق للمسروق قبل القضاء: يرى الحنفيون أن السارق إذا تملك المسروق قبل القضاء سقط القطع, فإذا تملكه بعد الحكم وقبل التنفيذ سقط القطع أيضًا عند أبى حنيفة ومحمد, ولا يسقط عند أبى يوسف, ويرى الشيعة الزيدية أن المسقط للقطع هو التملك قبل الشكوى, وعند الشافعى وأحمد الحكم   (1) بدائع الصنائع ج7 ص88, شرح الأزهار ج4 ص349, شرح الزرقانى ج8 ص107, كشاف القناع ج4 ص86, أسنى المطالب ج4 ص150, 151, المهذب ج2 ص364, المحلى ج8 ص250 وما بعدها. (2) نفس المراجع السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 كذلك, لأن من شرط الحكم بالقطع المطالبة بالمسروق, فإذا تملكه السارق قبل الشكوى امتنعت المطالبة, أما إذا كان التملك بعد الشكوى فلا يسقط القطع؛ لأن المطالبة وجدت فعلاً, أما عند مالك فالعبرة بتملك المسروق وقت السرقة, فإذا كان لا يملكه وقت السرقة قطع به, لأن مالكًا لا يشترط المطالبة ويرى القطع, ولو رد الشيء المسروق قبل الشكوى, ولو كانت الشكوى من أجنبي (1) . 6- ادعاء ملكية المسروق: إذا ادعى الجانى ملكية الشيء المسروق, فيرى البعض أن الادعاء يسقط القطع, وقد تكلمنا عن ذلك فيما سبق فليراجع. الشفاعة فى السرقة: لا يرى الفقهاء بأسًا بالشفاعة فى السارق ما لم يبلغ الحادث الإمام, فإنه روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم, فما بلغنى من حد فقد وجب". ومما يروى عن الزبير بن العوام أنه قال فى الشفاعة فى الحد: "يفعل ذلك دون السلطان, فإذا بلغ الإمام فلا أعفاه الله إن أعفاه", وقال مالك: إن السارق إذا لم يكن يعرف بشرِّ فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام. وأما من عرف بشر وفساد فلا ينبغى أن يشفع له أحد, ولكن يترك حتى يقام الحد عليه. واجمعوا على أنه إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة فيه؛ لأن ذلك إسقاط لحق وجب لله تعالى. وقد غضب النبى - صلى الله عليه وسلم - حين شفع أسامة بن زيد فى المخزومية التى سرقت وقال: "تشفع فى حد من حدود الله؟ ", وقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله فى حكمه (2) . ما يترتب على سقوط الحد: إذا سقط الحد بعد ثبوت السرقة ترتب على   (1) المغنى ج10 ص277, المدونة ج16 ص89, شرح الزرقانى ج8 ص89. (2) المغنى ج10 ص295, شرح الزرقانى ج8 ص108, المهذب ج2 ص300, المحلى ج11 ص151. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 ذلك نتيجتان: أولهما: دخول المسروق فى ضمان السارق عند من لا يجمعون بين القطع والضمان حتى ولو كان قد هلك فى يده أو استهلكه بنفسه, وسواء كان موسرًا أو معسرًا؛ لأن المانع من الضمان عندهم هو القطع وقد سقط, وإذا حلت عقوبة التعزير محل القطع فإنها لا تمنع الضمان. ثانيهما: وجوب رد عين المسروق إن كان قائمًا, فإن لم يكن قائمًا كإهلاك أو استهلاك فعلى السارق قيمته. وهاتان النتيجتان يترتب كلتاهما فى الحالات التى يجب فيها الضمان والرد, أما إذا لم يكن الضمان والرد واجبًا فلا وجود لهاتين النتيجتين. فمثلاً إذا كان السارق قد رد المسروق قبل التبليغ فلا ضمان ولا رد ما لم يكن رده ناقصًا. وإذا كان قد تملكه بعد السرقة فلا ضمان ولا رد (1) . * * * الشروع فى السرقة 629- للتفريق بين السرقة التامة والشروع فيها أهمية كبرى فى الشريعة الإسلامية؛ لأن القطع لا يكون إلا فى السرقة التامة, أما الشروع فلا قطع فيه بأى حال, وعقوبته دائمًا التعزير. وتتم السرقة عند الظاهريين بمجرد استيلاء الجانى على الشيء استيلاء ماديًا؛ أى بمجرد وضع يده عليه وضعًا ماديًا ولو لم يخرجه من الحرز أو ينقله من مكانه, أما عند عامة الفقهاء فتتم السرقة بإخراج الشيء المسروق من حرزه بحيث يدخل فى حيازة الجانى ويخرج من حيازة المجنى عليه. والحرز كما عرفناه نوعان: حرز بطبيعته وحرز بالحفظ. فيجب لتمام السرقة من حرز بطبيعته أن يخرج السارق بالمسروق من الحرز. فإن سرق من مسكن فلا تتم السرقة إلا بإخراج المسروق من المسكن. أما إخراج المسروق إلى ساحة الدار فلا يعتبر سرقة تامة إلا إذا كانت الغرفة المسروقة   (1) راجع فى هذا الموضوع: بدائع الصنائع ج7 ص89, المغنى ج10 ص280. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 تكون وحدها حرزًا مستقلاً, وكانت الساحة مشتركة لها وللغرف الأخرى. أما السرقة من حرز بالحافظ فتعتبر تامة بمجرد انفصال السارق عن البقعة التى فيها الشيء المسروق, لأنه بذلك ينفصل عن الحرز. فمن سرق من نائم فى السجد ثوبًا يتوسده يعتبر فعله سرقة تامة بمجرد إخراج الثوب من تحت النائم, ومن أخذ ثوبًا لجالس فى المسجد من جواره يعتبر فعله سرقة تامة بمجرد انفصاله عن مكان الثوب ولو لم يخرج من المسجد, ومن نشل من إنسان نقودًا يعتبر مرتكبًا لسرقة تامة بمجرد انفصال النقود عن ملابس المجنى عليه ولو ظل واقفًا بجوار المجنى عليه. ورأى جمهرة فقهاء الشريعة فى السرقة التامة يتفق إلى حد كبير مع الرأى الذى عليه جمهرة شراح القوانين الوضعية, والذى تأخذ به أكثر القوانين هو أن السرقة لا تتم إلا بالاستيلاء على الشيء المسروق استيلاءً تامًا يخرجه من حيازة صاحبه ويجعله فى قبضة السارق, فإن وقعت السرقة فى منزل مثلاً يعتبر سرقة تامة بمجرد رفع الشيء من مكانه أو الخروج به من الغرفة التى أودع فيها بل يجب أن يخرجه السارق من المنزل جميعه. على أنه قد تتم السرقة فى بعض الحالات بغير أن يخرج السارق بالشيء المسروق من المنزل, كما لو سرق خادم أو ضيف مثلاً متاعًا لصاحب المنزل ووضعه فى غرفته أو حقيبته, فإنه يعد مرتكبًا للسرقة التامة رغم استمرار بقائه فى المنزل. وأساس الخلاف بين الشريعة والقوانين فى هذه الحالة هو أن الشريعة تشترط إخراج المسروق من الحرز فوق إخراجه من حيازة المجنى عليه, والقوانين لا تشترط هذا الشرط. على أن هذا الخلاف قاصر على السرقات التى يجب فيها القطع, أما السرقات التى يعاقب فيها بالتعزير فلا يشترط فيها الإخراج من الحرز, وإنما يشترط فيها أن يكون الأخذ يخرج الشيء من حيازة المجنى عليه ويدخل فى حيازة الجانى. وفى هذه السرقات تتفق الشريعة مع القوانين فى تحديد السرقة التامة. ورأى الظاهريين يتفق مع رأى يعض شراح القوانين الوضعية وهم الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 يرون أن السرقة تتم برفع الشيء من مكانه, وبهذا الرأى يأخذ القانون الإيطالى. وقد أخذت المحاكم الفرنسية بما يراه أبو عبيدة الزبيرى , فحكمت باعتبار المتهم شارعًا فى السرقة بمجرد دق جرس الشقة للتأكد من خلوها من ساكنيها قبل أن يستعمل الآلات التى حملها معه, وحكمت بأن مجرد الترصد أمام المنزل يعتبر شروعًا فى السرقة (1) . واتجاه الشريعة فى العقاب على الجرائم المشروع فيها يتفق مع ما يذهب إليه أصحاب المذهب الشخصى من شراح القوانين الوضعية. ولكن نظرية الشريعة تتسع لأكثر مما يتسع له المذهب الشخصي, لأن الشريعة تعاقب على كل ما يأتى الجانى إذا تكون مما أتاه معصية, سواء كان ما فعله الجانى مؤديًا حتمًا إلى الركن المادى للجريمة المقصودة أو غير مؤد إليه, كما بسطنا ذلك فى الجزء الأول من كتاب التشريع الجنائى الإسلامى. 630- الشروع فى السرقة: لم يهتم فقهاء الشريعة بوضع نظرية خاصة للشروع فى الجرائم عامة وفى السرقة بوجه خاص, ولم يعرفوا لفظ الشروع بمعناه الفنى كما نعرفه اليوم, ولكنهم اهتموا فقط بالتفرقة بين الجرائم التامة والجرائم غير التامة, وعلة ذلك أن قواعد العقاب على التعازير تمنع من وضع قواعد خاصة للعقاب على الشروع فى الجرائم؛ لأن قواعد التعازير كافية لحكم جرائم الشروع. فالقاعدة فى الشريعة أن التعزير يكون فى كل معصية ليس فيها حد مقدر ولا كفارة. أى أن كل فعل تعتبره الشريعة معصية هو جريمة يعاقب عليها بالتعزير ما لم يكن معاقبًا عليها بحد ولا كفارة. ولما كان الحد والكفارة لا يعاقب بهما إلا على جرائم معينة أتمها الجانى فعلاً, فإن كل شروع فى فعل محرم لا يعاقب عليه إلا بالتعزير, ويعتبر كل شروع معاقب عليه معصية فى حد ذاته؛ أى جريمة تامة, ولو أن جزء من الأعمال المكونة لجريمة لم تتم ما دام الجزء الذى تم محرمًا لذاته ولا   (1) الأموال, للقللى ص64. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 استحالة فى أن يكون فعل ما جريمة معينة إذا كان وحده, وأن يكون مع غيره جريمة من نوع آخر. فالسارق إذا ما نقب البيت ثم ضبط قبل أن يدخله يكون مرتكبًا لمعصية تستوجب العقاب, وهذه المعصية تعتبر فى حد ذاتها جريمة تامة ولو أنها بدء فى تنفيذ جريمة السرقة, وعندما يتسلق السارق المنزل يريد أن يسرق منه يرتكب معصية, وإذا أذن له بدخول البيت فجمع متاعه ليسرقه فضبط قبل الخروج به فهو مرتكب لمعصية, وهكذا كلما أتى السارق فعلاً تحرمه الشريعة فهو مرتكب معصية أى جريمة تامة تستوجب العقاب إذا نظرنا إليها على حدة, ولو أن هذه المعصية تعتبر جزءًا من جريمة أخرى إذا نظرنا إلى جريمة السرقة التى لم تتم, فإذا أتم الجانى سلسلة الأفعال المكونة لجريمة السرقة وخرج بالمسروقات من الحرز فإن كل الأفعال التى أتاها تكون مجتمعة جريمة معينة هى السرقة, وبتمام جريمة السرقة تجب عقوبة الحد, وهى العقوبة المقررة للسرقة التامة, ويمتنع التعزير على ما دون التمام لأن كل الأفعال اندمجت وتكونت منها جريمة السرقة (1) . 631- متى يعتبر الفعل شروعًا فى الجريمة: يعتبر الفعل جريمة كلما كان معصية؛ أى اعتداء على حق الجماعة أو حق الفرد, وليس من الضرورى أن يكون الفعل بدءًا فى تنفيذ ركن الجريمة المادى بل يكفى أن يكون الفعل معصية, وأن يكون مقصودًا به تنفيذ الركن المادي, ولو كان لا يزال بين الفعل وبين الركن المادى أكثر من خطوة, فمثلاً فى السرقة يعتبر النقب والتسلق وكسر الباب وفتحه بمفتاح مصطنع؛ كل ذلك يعتبر معصية تستحق التعزير, وبالتالى شروعًا فى السرقة, ولو أن بين كل منهما وبين الفعل المادى المكون لجريمة السرقة خطوات هى دخول محل السرقة والاستيلاء على المسروقات وإخراجها من الحرز. وكذلك يعزر الجانى باعتباره مرتكبًا لمعصية أو شارعًا فى السرقة إذا تعرض للنقب أو فتح الباب أو حاول التسلق ولو لم يتم ما تعرض له أو حاول فعله.   (1) التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص298. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 ويرى أبو عبد الله الزبيرى تعزير الجانى باعتباره مرتكبًا المعصية أو شارعًا فى السرقة إذا وجد بجوار المنزل المراد سرقته ومعه مِبْرَد ليستعمله فى فتح الباب أو مِثْقَب لينقب به الحائط, ولو أنه لم يبدأ فى فتح الباب أو نقب الحائط إذا ثبت أنه جاء بقصد السرقة, ويرى تعزير الجانى إذا وجد مترصدًا بجوار محل السرقة يترصد غفوة الحارس ليسرق المتاع الذى يحرسه. فمقياس الفعل المعاقب عليه فى الشروع هو أن يكون ما أتاه المتهم مكونًا لمعصية كالنقب, ويستعان على معرفة ما إذا كان الفعل معصية أو غير معصية بنية الجانى وقصده من الفعل؛ لأن ثبوت هذه النية يزيل كل شك ويساعد على تحديد نوع المعصية. وقد جعل أبو عبد الله الزبيرى فى الأمثلة التى ذكرناها سابقًا شأنًا كبيرًا للنية, فالترصد بجوار محل السرقة قد يكون للسرقة أو لعمل آخر مباح, ولكن نية الجانى وحدها هى التى أزالت الشك عن الفعل وعينت المعصية, ووجود الجانى بجوار محل السرقة ومعه مبرد أو مثقب يحتمل أن يكون الجانى قاصدًا سرقة هذا المحل أو غيره, ويحتمل أن يكون أراد السرقة أو أراد عملاً آخر غير محرم, ولكن نية الجانى هى التى أخرجت الفعل من حيز الاحتمال إلى حيز اليقين وعينت المعصية (1) . * * *   (1) التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص301, 302. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 الكتاب الخامس الحرابة 632- الحرابة: هى قطع الطريق أو هى السرقة الكبرى, وإطلاق السرقة على قطع الطريق مجاز لا حقيقة؛ لأن السرقة هى أخذ المال خفية وفى قطع الطريق بأخذ المال مجاهرة, ولكن فى قطع الطريق ضرب من الخفية هو اختفاء القاطع عن الإمام ومَنْ أقامه لحفظ الأمن, ولذا لا تطلق السرقة على قطع الطريق إلا بقيود فيقال السرقة الكبرى, ولو قيل السرقة فقط لم يفهم منها قطع الطريق, ولزوم التقييد من علامات المجاز (1) . 633- مقارنة بين السرقة والحرابة: وجريمة الحرابة وإن سميت بالسرقة الكبرى إلا أنها لا تتفق تمام الاتفاق مع السرقة, فالسرقة أخذ المال خفية والحرابة هى الخروج لأخذ المال على سبيل المغالبة, فركن السرقة الأساسى هو أخذ المال فعلاً وركن الحرابة هو الخروج لأخذ المال سواء أخذ المال أم لم يؤخذ, والسارق يعتبر سارقًا إذا أخذ المال خفية, أما المحارب فيعتبر محاربًا فى حالات: الأولى: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فأخاف السبيل ولم يأخذ مالاً ولم يقتل أحد. الثانية: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فأخذ المال ولم يقتل أحدًا. الثالثة: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فقتل ولم يأخذ مالاً. الرابعة: إذا خرج لأخذ المال على سبيل المغالبة فأخذ المال وقتل. ففى هذه الحالات الأربع يعتبر الشخص محاربًا ما دام قد خرج   (1) شرح فتح القدير ج4 ص268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 بقصد أخذ المال على سبيل المغالبة, أما إذا خرج بقصد أخذ المال على سبيل المغالبة فلم يخف سبيلاً ولم يأخذ مالاً ولم يقتل أحدًا فهو ليس محاربًا, فالخروج بقصد أخذ المال إذا لم يؤد لحالة من الحالات ليس حرابة ولكنه ليس مباحًا بل هو معصية يعاقب عليها بالتعزير, والخروج بغير قصد المال لا يعتبر حرابة ولو أدى إلى جرح وقتل, والخروج لأخذ المال على غير سبيل المغالبة ليس حرابة وإنما هو اختلاس. والحرابة تعرف عند أبى حنيفة وأحمد والشيعة الزيدية بأنها الخروج لأخذ المال على سبيل المغالبة إذا أدى هذا الخروج إلى إخافة السبيل أو أخذ المال أو قتل إنسان, ويعرفها البعض بأنها إخافة السبيل لأخذ المال (1) . والأصل فى الحرابة قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ... } الخ [المائدة:33] , وقد اختلف فى المحاربين المقصودين بهذه الآية, فقال البعض: إنها نزلت فى قوم مشركين كان بينهم وبين النبى ميثاق فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا فى الأرض, وقال البعض: إنها نزلت فى قوم من أهل الكتاب, وقال البعض: إنها نزلت فى قوم أسلموا ثم ارتدوا واستاقوا إبلاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتلوا راعيها. والرأى الذى عليه جمهور الفقهاء أن المحارب هو المسلم أو الذمى الذى يقطع الطريق أو يخرج أخذ المال على سبيل المغالبة (2) , على أن الظاهرية يرون أن الذمى الذى يقطع الطريق ليس محاربًا ولكنه ناقض للذمة (3) , ومن هذا الرأى بعض الفقهاء فى مذهب أحمد (4) , أما بقية المذاهب المقارنة فيسوى بين المسلم والذمى وترى كليهما محاربًا إذا قطع الطريق. وفى مذهب مالك أن الحرابة هى إخافة السبيل سواء قصد المال أو لم يقصد, فمن   (1) بدائع الصنائع ج7 ص90, أسنى المطالب ج4 ص154, المغنى ج10 ص302, شرح الأزهار ج4 ص376, شرح الزرقانى ج8 ص108, المغنى ج11 ص306. (2) بداية المجتهد ج2 ص379, نيل الأوطار ج7 ص260 وما بعدها, المحلى ج11 ص300 وما بعدها. (3) المحلى ج11 ص315. (4) المغنى ج10 ص319. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 خرج لقطع السبيل لغير مال فهو محارب كقوله: لا أدع هؤلاء يخرجون للشام أو غيرها, فمن قطع الطريق أخاف الناس فهو محارب, ومن حمل عليهم سلاحًا بغير عداوة ولا ثائرة فهو محارب. والمسلم به عند مالك أن كل ما يقصد به أخذ المال على وجه يتعذر معه الغوث فهو حرابة. وتعرف الحرابة عند الشافعيين بأنها هى البروز لأخذ مال أو لقتل أو إرعاب مكابرة اعتمادًا على الشوكة مع البعد عن الغوث (1) . على أنهم يشترطون فى القتل الغير حرابة أن يكون بقصد أخذ المال (2) أو إخافة السبيل (3) . ويرى الظاهريون أن المحارب هو المكابر المخيف لأهل الطريق المفسد فى الأرض, فيدخل فى المحاربين قاطع الطريق واللص, ولكنهم يرون أن اللص إذا دخل مستخفيًا ليسرق أو يزنى أو يقتل مثلاً ففعل شيئًا من ذلك مستخفيًا فإنما هو سارق أو زان أو قاتل, عليه ما على الزانى أو السارق أو القاتل, فإن اشتهر أمره بفعل ارتكاب جريمته فهو ليس محاربا ولكنه فاعل منكر وليس عليه إلا التعزير, فإن دافع وكابر بقصد ارتكاب جريمته فهر محارب بلا شك لأنه قد حارب وأخاف السبيل وأفسد فى الأرض (4) . ومن أشهر على آخر سلاحًا على سبيل إخافة الطريق ولو لم يقصد أخذ المال فهو محارب, وإن كان يقصد العدوان فقط فعليه القصاص إذا جرح شخصًا فإن لم يكن هنالك جرح فعليه التعزير (5) , ومن يمتنع عن أداء الزكاة عليه التعزير ولا يعتبر محاربًا فإن مانع دونها فهو محارب (6) , فالمحارب عندهم كل من حارب المار وأخاف السبيل بقتل نفس أو أخذ مال أو لانتهاك فرج (7) , ويرى بعض الشافعية والمالكية التعرض للبُضع مجاهرة حرابة (8) .   (1) أسنى المطالب ج4 ص154, نهاية المحتاج ج8 ص2. (2) نهاية المحتاج ج8 ص5. (3) أسنى المطالب ج4 ص155. (4) المحلى ج11 ص306 - 308. (5) المحلى ج11 ص315. (6) المحلى ج11 ص313. (7) المحلى ج11 ص308, والمراجع السابقة. (8) نهاية المحتاج ج8 ص2, شرح الزرقانى ج8 ص109. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 ويعتبر مالك من الحرابة أخذ المال مخادعة مع استعمال القوة أو مع عدم استعمالها, فمن يسقى المجنى عليه أو يطعمه مادة مخدرة أو يحقنه بها حتى يغيب عن صوابه ثم يأخذ ماله أو يخدعه حتى يدخله محلاً بعيدًا عن الغوث ثم يسلبه ما معه يعتبر محاربًا. ومن يخدع شخصًا صغيرًا أو كبيرًا على أى الوجهين السابقين ثم يقتله بقصد أخذ ما معه فهو محارب سواء أخذ ما معه أو لم يجد معه ما يؤخذ. ويسمى مالك هذا النوع من القتل قتل الغيلة وهو عنده نوع من الحرابة (1) . 634- ممن تحدث الحرابة؟: تحدث الحرابة من جماعة أو فرد فقط قادر على الفعل. ويشترط أبو حنيفة وأحمد أن يكون مع المحارب سلاح أو ما هو فى حكم السلاح كالعصا والحجر والخشبة, ولكن مالكًا والشافعى والظاهرية والشيعة الزيدية لا يشترطون السلاح ويكفى عندهم أن يعتمد المحارب على قوته, بل يكتفى مالك بالمخادعة دون استعمال القوة فى بعض الأحوال وأن يستعمل أعضاءه كاللكز والضرب بجمع الكف (2) . ويعتبر محاربًا كل من باشر الفعل فيه أو تسبب فيه, فمن باشر أخذ المال أو القتل أو الإخافة فهو محارب, ومن أعان على ذلك بتحريض أو اتفاق أو إعانة فهو محارب, ويعتبر فى حكم المباشر من يحضر المباشرة ولو لم يباشر بنفسه كمن يوكل إليه الحفظ أو الحراسة. ويعتبر معينًا الطليعة والردء الذى يلجأ إليه المحاربون إذا انهزموا أو الذين يمدونهم بالعون إذا احتاجوا إليه, فكل هؤلاء يعتبرون محاربين عند مالك وأبى حنيفة وأحمد والظاهريين, ولكن الشافعى لا يعتبر محاربًا إلا من باشر فعل الحرابة بنفسه, وأما المتسبب فى الفعل والمعين عليه وإن حضر مباشرته ولم يباشره فلا يعتبر محاربًا وإنما هو عاص أتى معصية   (1) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص109, المدونة ج16 ص104. (2) بدائع الصنائع ج7 ص90, كشاف القناع ج4 ص89, المغنى ج10 ص 304, أسنى المطالب ج4 ص154, شرح الأزهار ج4 ص376, المحلى ج11 ص308, المدونة ج16 ص103, شرح الزرقانى ج2 ص109. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 يُعزَّر عليها ويترتب على هذا الفرق أنه لو خرج جماعة فقطعوا الطريق وأخذ بعضهم مالاً وقتل بعضهم أشخاصًا ولم يفعل الباقون شيئًا فكلهم مسئول عن أخذ المال والقتل عند أبى حنيفة وأحمد والظاهريين, أما عند الشافعى فلا يسأل عن القتل إلا القاتل ولا يسأل عن أخذ المال إلا من أخذ المال لأن كل واحد منهم انفرد بسبب حد فاختص بحده, أما الباقون فعليهم التعزير (1) . ويشترط فى المحارب أن يكون مكلفًا ملزمًا وهذا متفق عليه [ولا يخالف فيه إلا الظاهريون فلا يشترطون إلا أن يكون مكلفًا فقط لأنهم يرون أن الذمى إذا قطع الطريق ينقض عهده] . فإذا كان فى القطاع صبى أو مجنون فيرى أبو حنيفة ومحمد أن لا حد عليهما لأنهما ليس من أهل الحد ولا حد على غيرهما ممن باشر الجريمة أو تسبب فيها أو أعان عليها, ويرى أبو يوسف هذا الرأى إذا كان الصبى أو المجنون هو الذى باشر الجريمة وحده فإن كان غيرهما هو المباشر فالحد على العقلاء البالغين دون غيرهم, ويرى مالك والشافعى وأحمد والظاهريون أن الحد يسقط عن الصبى والمجنون فى كل حال دون غيرهما سواء ولى أحدهما قطع الطريق أو وليه غيره (2) . ويستوى أن يكون المحارب رجلا أو امرأة عند مالك والشافعى وأحمد والظاهريين والشيعه, وظاهر الرواية عند أبى حنيفة أن لا تحد المرأة إذا اشتركت فى الحرابة ولا يحد من معها إذا وليت هى مباشرة الفعل, ولكن أبا يوسف يرى حد الرجال ولو باشرت المرأة القطع دونهم, والرواية الأخرى فى مذهب أبى حنيفة أن النساء والرجال فى قطع الطريق سواء؛ لأن هذا حد يستوى فى وجوبه   (1) المهذب ج2 ص302, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111, المدونة ج16 ص100, كشاف القناع ج4 ص9, المحلى ج11 ص308, بدائع الصنائع ج4 ص91. (2) بدائع الصنائع ج7 ص91, كشاف القناع ج4 ص89, المدونة ج16 ص103, أسنى المطالب ج4 ص152. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 الذكر والأنثى كسائر الحدود, ولأن النص لم يفرق بين ذكر وأنثى (1) . وإذا أخذ المحارب مالاً فيشترط فى المال المأخوذ محاربة ما يشترط فى المال المأخوذ بالسرقة, فيجب أن يكون المال مالاً محرزًا, وأن يكون مالاً متقومًا, وأن يكون مملوكًا للغير, وأن لا يكون لآخذه شبهة فيه, إلى غير ذلك من الشروط التى سبق بيانها عند الكلام عن السرقة. وبالإجمال فإنه يشترط فى أخذ المال حرابة ما يشترط فى أخذه بالسرقة إلا أن الأخذ حرابة يقتضى الأخذ مجاهرة ومغالبة لا خفية, ويجب أن يكون المال المسروق بحيث يصيب كل من المحاربين نصابًا فإذا لم يصب كل منهم نصيبًا فلا حد عليهم باعتبارهم آخذين للمال, وهذا هو مذهب أبى حنيفة والشافعي, على أننا يجب أن نلاحظ أن أبا حنيفة يعتبر المباشر والمتسبب والمعين محاربًا, أما الشافعى فلا يعتبر محاربًا إلا المباشر, كذلك يجب أن لا ننسى الفرق بينهما فى تقدير النصاب, وقد سبق بيانه فى السرقة. أما الشيعة الزيدية وأحمد فيرون الحد على المحارب ما دامت قيمة المسروق كله تبلغ نصابًا واحدًا, ولو تعدد السراق ولو لم يصب أحدهم من المال المسروق نصابًا كاملاً (2) . أما مالك فلا يشترط النصاب فى الحرابة, ويكفى عنده لوجوب الحد أن يأخذ المحارب مالاً محترمًا سواء بلغ نصاب السرقة أو لم يبلغه, وسواء كان الآخذ واحدًا أو جماعة (3) , ويرى بعض فقهاء المذهب الشافعى هذا الرأى.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص91, شرح الزرقانى ج8 ص109, المدونة ج16 ص102, أسنى المطالب ج4 ص154, كشاف القناع ج4 ص89, شرح الأزهار ج4 ص376, المحلى ج11 ص308. (2) بدائع الصنائع ج7 ص92, أسنى المطالب ج4 ص154, نهاية المحتاج ج8 ص3, المهذب ج2 ص302, كشاف القناع ج4 ص91, المغنى ج10 ص313, شرح الأزهار ج4 ص366, 367. (3) المدونة ج6 ص100, شرح الزرقانى ج8 ص108, نهاية المحتاج ج8 ص5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 وإذا كان المحارب مستأمنًا فحكمه حكم السارق, وقد بينا ذلك عند الكلام على السرقة (1) . 635- مكان القطع: يشترط أبو حنيفة لعقوبة الحد أن تكون الحرابة فى دار الإسلام, فإن كانت فى دار الحرب فلا يجب الحد؛ لأن المتولى إقامة الحد وهو الإمام ليس له ولاية على دار الحرب وهى محل وقوع الجريمة (2) , ومن هذا الرأى الشيعة الزيدية (3) , لكن مالكًا والشافعى وأحمد والظاهريين يوجبون الحد سواء وقعت الحرابة فى دار الإسلام أو دار الحرب ما دام الفعل قد وقع جريمة؛ أى وقع على مسلم أو ذمى من مسلمين أو ذميين, وقد تكلمنا عن هذا بمناسبة الكلام على السرقة, ويشترط الظاهريون أن يكون القطع من المسلمين فقط. ويرى أبو حنيفة أن يكون القطع فى غير مصر أى بعيداُ عن العمران, فإن كان فى مصر فلا حد عنده سواء كان القطع نهارًا أو ليلاً, وسواء كان بسلاح أو غيره, وهو رأى أساسه الاستحسان, ويعلل بأن القطع لا يحصل عادة فى الأمصار وإنما يحصل فى الطريق بين القرى, ولذلك يشترط أن يكون القطع على مسافة سفر من المصر, وإذا كان هذا هو الاستحسان فإن القياس أن الحد يجب سواء كان القطع فى مصر أو غير مصر, وهو رأى أبى يوسف, ويميل إليه فقهاء المذاهب وعليه فتوى, ويروى عن أبى يوسف أنه يفرق بين النهار والليل فيرى الحد فى قطع الطريق فى المصر ليلاً سواء كان القاطعون مسلحين أم يحملون عصيًا, ولا يعتبر الفاعلون قاطعى طريق فى النهار إلا إذا كانوا مسلحين فإن لم يكونوا مسلحين فليسوا بقطاع إذا ارتكبوا جرائمهم فى المصر, وحجته أن الغوث قلما يتحقق فى الليل فيستوى فيه السلاح وغيره (4) . وأبدى أحمد رأيه فى الحرابة   (1) مواهب الجليل ج6 ص314, أسنى المطالب ج4 ص150. (2) بدائع الصنائع ج7 ص92. (3) شرح الأزهار ج4 ص376. (4) بدائع الصنائع ج7 ص92, شرح فتح القدير ج4 ص374,375. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 فى الصحراء ولكنه توقف إذا كانت فى القرى والأمصار, ولكن أصحابه لا يفرقون بين الحرابة فى الصحراء والمصر ويرون المحارب محاربًا حيثما كان لتناول الآية بعمومها كل محارب, ولأن الحرابة فى المصر أعظم خطرًا وأكثر ضررًا. ويفرق بعض فقهاء المذهب بين ما إذا كان المجنى عليهم يلحقهم الغوث لو صاحوا وبين عدم لحوق الغوث ويعتبرون القطع فى الحالة الثانية (1) . ولا يفرق مالك والشافعى بين الصحراء والمصر فيصح أن يقع الفعل فى الصحراء أو فى المصر, ولكن مالكًا يشترط أن يقع الفعل على وجه يتعذر معه الغوث, فلو منع المجنى عليه من الاستغاثة وكان الغوث ممكنًا لو استغاث فالفعل حرابة, وإذا وضع حول الدار من يمنع وصول الغوث كان الفعل حرابة, وكذلك إذا هدد من يحضر للغوث فامتنع عن الإغاثة خوفاً (2) . أما الشافعى فيشترط لاعتبار الفعل حرابة أن لا يلحق الغوث. وفقد الغوث قد يكون للبعد عن العمران أو السلطان أو لضعف الموجودين فى محل الحادث أو على مقربة منه أو لضعف السلطان أو لمنع المجنى عليهم من الاستغاثة, فمذهب الشافعى فى هذه الحالة كمذهب مالك (3) , والشيعة الزيدية لا يرون الحرابة إلا فى غير المصر ولكن بعضهم يرى أنها تكون فى المصر وغير المصر (4) . أما الظاهريون فيرون أن الحرابة تكون فى المصر والفلاة, سواء وقعت ليلاً أو نهارًا, وسواء كان المحارب مسلحًا أو غير مسلح, وسواء كانت فى قرية صغيرة أو مدينة عظيمة, وسواء كان الغوث ممكنًا أو متعذراً (5) . 636- المقطوع عليه: يشترط فى المقطوع عليه أن يكون معصومًا,   (1) المغنى ج10 ص303, 304, كشاف القناع ج4 ص89. (2) مواهب الجليل ج6 ص314, شرح الزرقانى ج8 ص108, 109. (3) نهاية المحتاج ج8 ص3, أسنى المطالب ج4 ص154. (4) شرح الأزهار ج4 ص376. (5) المحلى ج11 ص308. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 ويكون كذلك إذا كان مسلمًا أو ذميًا, أما إذا كان حربيًا أو بغيًا فلا عصمة له, وإذا كان حربيًا مستأمنًا فهو معصوم, ولكن هناك خلافًا على توقيع عقوبة الحد فى ارتكاب الجريمة عليه, وقد أن ذكرنا الآراء المختلفة فى شأنه فى السرقة (1) . وللمقطوع عليه أن يقتل القاطع ويدفعه عن نفسه وماله, ويستحب للمجنى عليه أن يناشد المحارب أن يرجع عن جريمته, فإن لم يكن فى الأمر مهلة ففرض على المجنى عليه أن يبادر إلى كل ما يمكنه به الدفاع عن نفسه, ما يغلب على ظنه أنه يندفع به, فإن اندفع بالقول والتهديد لم يكن له أن يضربه, وإن كان يندفع بالضرب لم يكن له أن يقتله, فإن كان لا يندفع إلا بالقتل أو خاف أن يبدأه بالقتل أو لم يعاجله بالدفع فله أن يضربه بما يقتله, والأصل فيما سبق أن المحارب حين يقصد قتل إنسان أو سلب ماله لا يُهدر دمه بهذا القصد فى ذاته وإنما الذى يهدر دم المحارب هو عدم إمكان دفعه إلا بالقتل لأن القتل يصبح من ضروريات الدفع, على أن المحارب يهدر دمه إذا ارتكب من الحرابة ما يوجب حد القتل, فإذا عدا عليه شخص فقتله فلا قصاص عليه وإنما يعزر لافتياته على السلطات العامة (2) . 637- الأدلة على جريمة الحرابة: تثبت جريمة الحرابة بالبينة والإقرار, ويكفى فى حالة البينة شهادة شاهدين, وما قيل عن البينة والإقرار فى السرقة يقال هنا. ويجوز أن يكون الشاهدان من الرفقة الذين قاتلوا المحاربين أو وقعت عليهم الحرابة على أن لا يشهدا لأنفسهما بشيء ويجوز أن يشهد لهما غيرهما, وإذا لم يتوفر نصاب الشهادة فكان شاهد واحد, أو شاهد وامرأة, أو شاهد رؤية وشاهد سماع, وكان الشهود سماعيين أو لم يكن ثمة شهود, وكان المتهم مقرًا ثم عدل عن إقراره - فى هذه الحالات وأمثالها يعاقب المحارب عقوبة تعزيرية لأن التعزير يثبت بما يثبت   (1) بدائع الصنائع ج7 ص91. (2) بدائع الصنائع ج7 ص92, 93, شرح الزرقانى ج8 ص109, 110, المدونة ج16 ص104, وقد سبق الكلام على قطع السارق والحكم واحد فى الحالتين, ويراجع كتاب التشريع الجنائي, والمحلى لابن حزم ج11 ص314, المغنى ج11 ص352, أسنى المطالب ج4 ص166 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 به الأموال, والعبرة عند توقيع العقاب بثبوت الاتهام لدى القاضي, فإذا اقتنع بصحة الأدلة المعروضة عليه قضى على أساسها وإلا فلا (1) . 638- عقوبة الحرابة: تختلف عقوبة المحارب عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية باختلاف الأفعال التى يأتيها فتعتبر حرابة, وهى لا تخرج عما يأتى: (1) إخافة السبيل دون أن يأخذ مالاً أو يقتل نفسًا. (2) أخذ المال لا غير. (3) القتل لا غير. (4) أخذ المال والقتل معًا. فلكل فعل من هذه الأفعال عقوبة خاصة عند هؤلاء الفقهاء. أما مالك فيرى أن الإمام بالخيار فى اختيار عقوبة المحارب من بين العقوبات التى وردت فى النص ما لم يمن قتل فعقابه القتل أو القتل والصلب والخيار للإمام بين هاتين العقوبتين دون غيرهما, بينما يرى الظاهريون أن الإمام بالخيار فى كل الأحوال أيًا كانت الجريمة وسواء قتل المحارب أم لم يقتل. والأصل فى هذا الخلاف بين الفقهاء اختلافهم على تفسير حرف "أو" الوارد فى قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] , فمن رأى أن جرف "أو" جاء للبيان والتفصيل قال: إن العقوبات جاءت مترتبة على قدر الجريمة وجعل لكل جريمة بعينها عقوبة بعينها, ومن رأى أن حرف "أو" جاء للتخيير ترك للإمام أن يوقع أى عقوبة على أية جريمة بحسب ما يراه ملائمًا, إلا أن مالكًا قيد التخيير فى حالة القتل فجعل الخيار بين القتل والصلب فقط, وحجته أن القتل أصلاً عقوبته القتل فلا يعاقب عليه بالقطع ولا بالنفي, كذلك قيد التخيير فى حالة أخذ المال دون قتل وجعل للإمام الخيار إلا فى عقوبة النفى. أما الظاهريون فيرون الخيار المطلق.   (1) شرح الزرقانى ج8 ص112, أسنى المطالب ج4 ص158, المغنى ج10 ص324, شرح الأزهار ج4 ص379, بدائع الصنائع ج7 ص93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 وبعد هذا البيان نستطيع أن نبين عقوبة كل فعل بحسب الآراء المختلفة: 639- إخافة السبيل لا غير: إذا أخاف المحارب السبيل لا غير ولم يقتل ولم يأخذ مالاً فجزاؤه عند أبى حنيفة وأحمد النفي؛ لقوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} , وجزاؤه عند الشافعى والشيعة الزيدية التعزير أو النفي, وقد سووا بين التعزير والنفى لاعتبارهم النفى تعزيرًا حيث لم يحدد نوعه ومدته, على أنهم يرون أن يمتد النفى حتى تظهر توبة المحارب (1) . ويرى مالك أن الإمام مخير بين أن يقتل المحارب أو يصلبه أو يقطعه أو ينفيه وأن الأمر فى الاختيار مرجعه الاجتهاد وتحرِّى المصلحة العامة, فإن كان المحارب ممن له الرأى والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه لأن القطع لا يرفع ضرره, وإن كان لا رأى له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعه من خلاف, وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ باليسر وما يجب فيه هو النفى والتعزير (2) . ويرى الظاهريون ما يراه مالك فى هذه المسألة (3) . معنى النفى: اختلف الفقهاء فى معنى النفى اختلافًا كبيرًا, فقال البعض: إن المراد بقوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} أن ينفوا من الأرض بالقتل أو الصلب. وقال البعض: إن النفى هو الطرد من دار الإسلام, فالنفى بهذا المعنى هو التغريب ويساوى إلى حد ما إسقاط الجنسية فى عصرنا الحاضر وإن كان من الممكن إعادة المنفى إذا ظهرت توبته. والنفى فى مذهب مالك هو السجن فى رأى البعض, وهو السجن فى بلد أخرى غير محل الحادث فى رأى ثانٍ, وهو فرارهم من الإمام لإقامة الحد عليهم, فإن قدر عليهم فلا نفى بعد ذلك, وبالرأى الأول يأخذ الحنفيون   (1) أسنى المطالب ج4 ص154, 155, المغنى ج10 ص313, بدائع الصنائع ج7 ص93, شرح الأزهار ج4 ص376. (2) نهاية المجتهد ج2 ص 380, 381, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111, المدونة ج16 ص98, 99. (3) المحلى ج11 ص387, 319. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 فعندهم هو السجن. وفى مذهب الشافعى الرأى الراجح أن النفى هو الحبس وأن الحبس جائز فى محله وأولى أن يكون فى محل آخر, أما الرأى المرجوح فالنفى أن يطلبوا إذا هربوا حتى يؤخذوا. ويرى أحمد أن النفى هو تشريد المحارب فى الأمصار فلا يسمح له أن يأوى إلى بلد حتى تظهر توبته, والرواية الثانية كالرأى الثانى فى مذهب الشافعى. والرأى الراجح فى مذهب الشيعة أن النفى يكون بالحبس, وقيل: بسمل الأعين وبالطرد والتشريد. مدة النفى: ومدة النفى عند أبى حنيفة والشافعى ومالك غير محدودة, فيظل المحارب مسجونًا حتى تظهر توبته وينصلح حاله فيطلق سراحه, وهذا هو الرأى الراجح فى مذهب أحمد. وإن كان البعض يرى أن تكون مدة النفى عامًا قياسًا على التغريب فى الزنا (1) . أما الظاهريون فيرون أن النفى هو أن ينفى أبدًا من كل مكان من الأرض وأن لا يترك يقرّ إلا مدة أكله ونومه وما لا بد منه من الراحة التى إن لم ينلها مات, ومدة مرضه, ويظل هكذا حتى يحدث توبة فإذا أحدثها سقط عنه النفى وترك يعود إلى مكانه (2) . وأساس هذه الآراء المختلفة هو الاختلاف فى تفسير معنى النفي, فمن قال بأن النفى هو السجن مطلقًا فسروا النفى بأنه الإبعاد من الأرض, ورأوا أنه لا يقدر على إخراجه من الأرض جملة فوجب أن يفعل من ذلك أقصى ما يقدر عليه وغاية ذلك هو السجن لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم", وسقط ما يستطاع. زمن قال إن السجن يكون فى بلد غير بلده نظر إلى المعنى   (1) المدونة ج16 ص98, 99, شرح الزرقانى ج8 ص110, بداية المجتهد ج2 ص381, أسنى المطالب ج4 ص154, المهذب ج2 ص302, المغنى ج10 ص313, 314, بدائع الصنائع ج7 ص95, شرح فتح القدير ج4 ص269, 270, كشاف القناع ج4 ص91, شرح الأزهار ج4 ص376. (2) المحلى ج11 ص183. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 السابق ونظر إلى أن يحقق معنى الإبعاد المستطاع عن محل الجريمة أيضًا. أما الذين لم يروا سجنه فقد قالوا: إذا سجناه فى بلد أو أقررناه فيه غير مسجون فلم ننفه من الأرض كما أمر الله تعالى بل عملنا به ضد النفى والإبعاد وهو الإقرار والإثبات فى الأرض فى مكان واحد منها وهذا خلاف القرآن, فوجب علينا بنص القرآن أن ننفيه ونبعده عن جميع الأرض بحسب طاقتنا, وغاية ذلك ألا نقره فى شيء منها ما دمنا قادرين على نفيه من ذلك الموضع ثم هكذا أبدًا, ولو قدرنا على أن لا ندعه يقر ساعة فى شيء من الأرض لفعلنا ذلك ولكان واجبًا علينا فعله ما دام مصرًا على المحاربة (1) . وحجة الفقهاء فى أن النفى غير محدود المدة أن النص لم يحدده وأن النفى جاء عقوبة للمحارب وأن المحارب ما دام مصرًا على المحاربة فهو محارب, وإذ هو محارب يجب أن يجزى جزاء المحارب, فالنفى باقٍٍ عليه ما لم يترك المحاربة بالتوبة, فإذا تركها سقط عنه جزاؤها (2) . 640- أخذ المال لا غير: إذا أخذ المحارب المال ولم يقتل, فيرى أبو حنيفة والشافعى وأحمد ومعهم الزيدية أن يقطع المحارب من خلاف؛ أى أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى, وهم يقطعون اليد اليمنى للمعنى الذى قطعت به يد السارق اليمنى ويقطعون الرجل اليسرى لتتحقق المخالفة, ولا ينتظر اندمال اليد فى قطع الرجل بل يقطعان معًا لأن العقوبة عقوبة واحدة وتبدأ بالأيدى لأن النص بدأ بالأيدى فقدمها على الأرجل, ولا خلاف فى قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى إذا كانت يداه ورجلاه صحيحة, فإن كان معدوم اليد والرجل إما لكونه قد قطع فى حرابة أو سرقة أو قصاص أو مرض, فمذهب أبى حنيفة وهو رأى فى مذهب أحمد أن القطع يسقط عن المحارب سواء كانت اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس؛ لأن قطع ما زاد على ذلك يذهب منفعة الجنس. وعلى هذا الشيعة الزيدية وكل من لا يرى أن يقطع إلا يد واحدة ورجل   (1) المحلى ج11 ص 181, 182. (2) المحلى ج11 ص182, 183. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 واحدة فى السرقة. أما الشافعى ورأيه وجه فى مذهب أحمد فيرى أن يقطع الباقى من الأعضاء المستحقة القطع, فإن كانت يده اليمنى مقطوعة قطعت رجله اليسرى وحدها, ولو كانت يداه صحيحتين ورجله اليسرى مقطوعة قطعت يمنى يديه ولم يقطع غير ذلك لأنه وجد فى محل الحد ما يستوفى فاكتفى باستيفائه. وإن كان ثمة شلل فى اليدين أو الرجل فالحكم فى الشلل مما سبق ذكره عند الكلام على القطع فى السرقة. أما مالك فيرى أن المحارب إذا أخذ المال دون قتل يعاقب على حسب اجتهاد الإمام فيما هو من المصلحة العامة, والإمام مخير فى عقابه بأية عقوبة مما جاءت بها آية المحاربة عدا عقوبة النفي, فليس له أن يعاقبه بها لأن الحرابة سرقة مشددة وعقوبة السرقة أصلاً القطع فلا يصح أن يجعل الخيار للإمام فيما ينزل بالعقوبة عن القطع وهو النفى. أما الظاهريون فيرون أن الإمام له حق الخيار المطلق من كل قيد فى جريمة الحرابة, فيختار أية عقوبة من عقوباتها لأى فعل أتاه المحارب بحسب ما يرى أنه يتفق مع المصلحة العامة. ويلاحظ أنه عند اختيار القطع بحسب رأى مالك نفذ القطع على الوجه الذى يراه الشافعى والذى سبق بيانه (1) . وينبغى أن لا ننسى ما ذكرناه عن النصاب واشتراطه أو عدم اشتراطه فى حالة أخذ المال, كما ينبغى أن نعلم أن من يشترطون المخاصمة للقطع فى السرقة يشترطون لتوقيع عقوبة القطع فى الحرابة المخاصمة أيضًا ممن له حق المخاصمة, فليراجع ما ذكرناه عن المخاصمة فى السرقة (2) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص93, شرح الازهار ج4 ص377, المغنى ج10 ص311, 312, بداية المجتهد ج2 ص381, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111, أسنى المطالب ج4 ص155, المحلى لابن حزم ج11 ص327. (2) أسنى المطالب ج4 ص155, بدائع الصنائع ج7 ص93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 641- القتل لا غير: إذا قتل المحارب ولم يأخذ مالاً فيرى أبو حنيفة والشافعى أن عقوبة المحارب هى القتل حدًا دون صلب, وهذا الرأى رواية عن أحمد, وعنه رواية أخرى هى أنهم يصلبون لأنهم محاربون يجب قتلهم فيصلبون كمن أخذوا المال, وفى مذهب الشيعة الزيدية رأيان, أحدهما يرى القتل دون صلب, والثانى يرى القتل مع الصلب. ويرى مالك أن الإمام بالخيار إن شاء قتل وصلب وإن شاء قتل دون صلب (1) , ولا خيار له فى غير هاتين العقوبتين دون غيرهما (2) . ويرى الظاهريون أن الإمام بالخيار فى كل العقوبات التى جاءت بها آية المحاربة, فيعاقب على القتل بالنفى أو القطع أو القتل أو الصلب, ولا يباح له أن يجمع على المحارب عقوبتين من هذه العقوبات بأى حال (3) . 642- القتل أخذ المال: إذا قتل المحارب وأخذ المال كان عقابه القتل والصلب معًا عند الشافعى وأحمد والشيعة الزيدية ولا قطع عليه, وهذا هو ما يراه أبو يوسف ومحمد من فقهاء المذهب الحنفي, ويرى أبو حنيفة أن الإمام مخير فى حالة القتل المقترن بأخذ المال بين أن يقطع يده ورجله أو يصلبه وبين أن لا يقطعه ثم يقتله بلا صلب أو يصلبه فيقتله. وينبغى أن لا ننسى ما سبق ذكره عن اشتراط النصاب أو عدم اشتراطه فى المحاربة, فمن يشترط النصاب لكل محارب لا يعتبر القتل مصحوبًا بأخذ المال ما لم يخص كل محارب نصابًا كما هو الحال عند الشافعي, ومن يكتفى بنصاب واحد لكل المحاربين لا يعتبر القتل مصحوبًا بأخذ المال إلا إذا بلغ المال المأخوذ نصابًا كما هو الحال فى مذهب أحمد, ومن لا يشترط النصاب فى المحاربة فيكتفى بأخذ مال مقوَّم أيًا كان مقداره كما هو الحال فى مذهب مالك ومذهب أحمد والرأى المعتمد فى مذهب الشافعي   (1) المدونة ج16 ص99. (2) بداية المجتهد ص381, 382, شرح الزرقانى ج8 ص110, 111. (3) المحلى ج11 ص317, 319. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 , ويرى البعض أن محمدًا لا يرى القطع ولكنه يرى الإمام مخيرًا بين الصلب والقتل (1) . ويرى مالك أن الإمام مخير بين أن يقتله وبين أن يصلبه ويقتله, أما الظاهريون فيرون أن الإمام مخير فى كل العقوبات المقررة فى آية الحرابة فله أن ينفيه وله أن يقطعه وله أن يقتله وله أن يصلبه بحسب ما تقتضيه المصلحة العامة, ولكن ليس له أن يجمع عليه القتل والصلب ولا أن يجمع عليه بين عقوبتين بحال كالنفى والقطع أو القطع والقتل أو القطع والصلب (2) . 643- كيفية الصلب: اختلف الفقهاء فى كيفية الصلب الواجب على المحارب, فرأى الشافعى وأحمد أن الصلب يجيء بعد القتل فيقتل المحارب أولاً ثم يصلب مقتولاً, وحجتهم أن النص جاء بتقديم القتل على الصلب فى اللفظ فوجب أن يتقدمه فى الفعل, ولأن الصلب قبل القتل تعذيب للمقتول ومُثْلة يؤدى إلى اتخاذ المقتول غرضًا وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "أن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة", وقال: "إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان", وقال: "لعن الله من اتخذ شيئًا فيه روح غرضًا". كذلك نهى الرسول عن المثلة ولو بالكلب العقور. وأصحاب هذا الرأى يرون أن الصلب ليس عقوبة شرعت لردع المحارب وإنما وهو عقوبة شرعت للزجر, فالمقصود من الصلب اشتهار أمره فيرتدع بذلك غيره (3) . والمعتمد فى مذهب مالك أن القتل يكون بعد الصلب فيصلب المحارب على خشبة ثم يقتل وهو مصلوب, وحجتهم أن الصلب فرض عقوبة والعقوبة لا تقع   (1) شرح فتح القدير ج4 ص270. (2) المحلى ج11 ص317, 319, الودونة ج16 ص99 , بداية المجتهد ج2 ص380, 381, شرح الأزهار ج4 ص377, أسنى المطالب ج4 ص155, المغنى ج10 ص307, بدائع الصنائع ج7 ص93. (3) المغنى ج10 ص307, 308, أسنى المطالب ج4 ص155, المحلى ج11 ص315,316. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 على ميت فوجب أن يتقدم الصلب القتل وأن الصلب لم يقصد به ردع الغير وإنما قصد به العقاب قبل كل شيء, وكل عقوبة لا غرضان: الأول: ردع الجاني, والثانى: زجر غيره, ولأن الصلب شرع زيادة فى العقوبة وتغليظًا حتى لا تتساوى عقوبة من قتل مع عقوبة من قتل وأخذ المال (1) , على أن فى المذهب من يرى القتل قبل الصلب (2) . وفى مذهب أبى حنيفة رأيان كمذهب مالك أرجحهما صلب المحارب حيًا ثم طعنه برمح فى ثُنْدُوَته حتى يموت (3) . وفى مذهب الشيعة الزيدية هذان الرأيان وأرجحهما الصلب بعد القتل لا قبله (4) . أما الظاهريون فالأصل عندهم أن الإمام مخير فى كل عقوبات المحاربة ولكن ليس له أن يجمع بينها, فإذا رأى صلبه فليس له أن يقتله أو يقطعه أو ينفيه, وإذا رأى قتله فقد حرم عليه أن يصلبه أو يقطعه أو ينفيه, وإذا رأى نفيه فقد حرم عليه الصلب والقتل والقطع, وإذا رأى قطعه حرم عليه القتل والصلب والنفي, فالصلب عندهم عقوبة مستقلة مقصود بها قتل المحارب بكيفية معينة؛ فيصلب المحارب حيًا ثم يترك على خشبة فلا يطعم ولا يسقى حتى ييبس ويجف فإذا مات أنزل عن خشبته وغسل وكفن (5) . 644- مدة الصلب: لم يرد نص فى تحديد مدة الصلب ولذلك اختلف فى مدته, فرأى الفقهاء فى مذهب أحمد أنه يصلب بقدر ما يشتهر أمره لأن المقصود من الصلب هو إشهار أمر المصلوب, ورأى الفقهاء فى مذهب الشافعى وأبى حنيفة أنه يصلب ثلاثة أيام (6) .   (1) مواهب الجليل ج6 ص315, المدونة ج16 ص99, شرح الزرقانى ج8 ص110. (2) بداية المجتهد ج2 ص381. (3) بدائع الصنائع ج7 ص95. (4) شرح الأزهار ج7 ص377, 378, تبصرة الحكام ج2 ص361. (5) المحلى ج11 ص317, 318. (6) المغنى ج10 ص308, بداية المجتهد ج2 ص381, أسنى المطالب ج4 ص155, بدائع الصنائع ج7 ص95. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 645- حكم موت المحارب قبل إقامة الحد عليه: وإذا مات المحارب قبل البدء فى إقامة الحد عليه لم يصلب لأن الصلب جزء من الحد وقد سقط الحد بموت المحارب فيسقط الصلب. على أن بعض الشافعيين والشيعة الزيدية يرون أنه إذا سقط بعض الحد لعدم إمكان تنفيذه لم يسقط البعض الذى يمكن تنفيذه. أما إذا قتل قصاصًا فلا صلب عليه عند أحمد لأن حد الحرابة سقط بالقصاص فيسقط الصلب. وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما كرأى أحمد, والثانى: يرى أن الصلب لا يسقط لأن تنفيذه ممكن, وهو رأى فى مذهب الشيعة الزيدية وهو الرأى المعمول به فى مذهب مالك خصوصًا وأنه يرى تقديم حق الله على حق الآدمى. أما مذهب أبى حنيفة فيجيز الصلب ولو أنه يقدم حق الأفراد على حق الله تعالى لأنه لا يمنع من تنفيذ حقوق إلا ما سقط بالضرورة فأما ما لم يسقط فينفذ. وإذا قتل المحارب حسبة أى عدا عليه شخص فقتله لحرابته وجب الصلب عند من يوجبونه وجاز عند من يجعلون الخيرة فيه للإمام (1) . 646- هل يقتص من قاتل المحارب أو قاطعة؟: القاعدة أن الحد حق لله تعالى وأنه لا يجوز العفو عنه ولا إسقاطه, وحد الحرابة كأى حد آخر لا يحتمل العفو والإسقاط والإبراء والصلح عنه, فكل ما وجب على المحارب من قتل أو قطع أو صلب تستوفى منه سواء عفا الأولياء وأرباب الأموال أو لم يعفوا وسواء أبرأوا منه أو صالحوا عليه, وليس للإمام إذا ثبت الحد عمده أن يتركه أو يسقطه أو يعفو عنه لأن الواجب حد والحدود حقوق الله تبارك وتعالي (2) . وهذا هو الأصل فى كل المذاهب الإسلامية, ولكن الشيعة يرون أن الإمام له إسقاط الحدود عن بعض الناس لمصلحة أو تأخيرها إلى وقت آخر لمصلحة, عدا   (1) المغنى ج10 ص309, 323, أسنى المطالب ج4 ص155, بدائع الصنائع ج7 ص62, 63, شرح الأزهار ج4 ص377, المدونة ج16 ص12, شرح الزرقانى ج8 ص110. (2) بدائع الصنائع ج7 ص56, 57, 95, المغنى ج10 ص307, كشاف القناع ج4 ص47, أسنى المطالب ج4 ص156, المدونة ج16 ص99, 101. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 حدى القذف والسرقة ففيهما اختلاف, فالبعض لا يرون للإمام أن يسقطهما أو يؤخرهما والبعض يرى ذلك, وحجتهم فى هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تمكن من بنى قينقاع وأراد قتلهم وكانوا حلفاء لعبد الله بن أُبى كبير المنافقين فى حال الجاهلية فطلب من النبى تركهم فكره ذلك ثم إنه تشفع إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأكثر فى تركهم فتركهم له لما رأى فى ذلك من الصلاح. وهم مختلفون فيما إذا كان للإمام حق إسقاط القصاص عن بعض الناس أو تأخيره باعتبار أنه حق آدمي, فيرى البعض جواز الإسقاط لمصلحة عامة, ويرى البعض أن الإسقاط لا يجوز لأن منع القصاص هو منع لحق آدمى وظلم, والخلاف بين الفريقين أساسه الخلاف فى أى مصلحتين تغلب عند التعارض, المصلحة العامة أم المصلحة الخاصة (1) . ويترتب عليه أنه يترتب على عدم جواز العفو عن الحد أو إسقاطه أن يكون المحارب مهددًا إذا وجب عليه القطع أو القتل, وقد فصلنا ذلك فى التشريع الجنائي (2) , ولكن لم نبين حكم الإهدار عند الظاهريين والشيعة الزيدية, فنقول: إن الظاهريين يجعلون للإمام الخيار فى أى عقوبة من العقوبات الواردة فى الآية, وهذا يجعل المحارب غير مهدر ولو حكم عليه بعقوبة مهدرة لاحتمال أن يستبدل بها الإمام عقوبة أخرى غير مهدرة قبل التقييد. ورأى الشيعة يجعل المحارب غير مهدر ولو حكم عليه بعقوبة مهدرة لأن للإمام إسقاط العقوبة لمصلحة عامة. وعلى هذا إذا عدا شخص على المحارب أخذ المال أو قتل فقطع يده أو قتله فلا قصاص على العادى عند مالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد سواء, كان ذلك قبل الحكم أو بعده ما دامت جريمة الحرابة ثابتة, وإنما يعزر العادى لافتياته على السلطات العامة القائمة على تنفيذ العقوبات, والعلة فى عدم القصاص هى أن قطع   (1) شرح الأزهار ج4 ص334, 335. (2) جزء أول فيراجع ذلك هناك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 المحارب أو قتله متحتم وواجب لابد من إقامته, فالتعزير ليس للقطع أو للقتل وإنما للافتيات على السلطات العامة والقيام بما اختصت نفسها به (1) . أما عند الظاهريين والشيعة الزيدية فيقتص من القاطع أو القاتل؛ لأن العقوبات غير لازمة (تراجع أقوال الظاهريين والشيعة فى القتل والجرح) . 647- هل يشترط فى القتل الذى يحدث من المحارب أن يكون عمدًا؟: يوجب مالك وأبو حنيفة والشيعة الزيدية القتل لمجرد القتل, ويطلقون لفظ القتل فلا يشترطون أن يكون عمدًا, وعلى هذا يكون القتل الذى يجب فيه الحد عندهم هو مطلق القتل سواء كان عمدًا أو شبه عمد أو خطأ. مع ملاحظة أن مالكًا لا يعترف بشبه العمد, ويسوى الحنفيون بين أنواع القتل وأداة القتل فلا يشترطون المحدد ويجوز أن يكون القتل بمثقل وعصًا وحجر وخشب (2) , أما الشافعى فيشترط القتل العمد لوجوب الحد, فبالقتل العمد يجب قتله للنص ولأنه ضم إلى جناية القتل الحرابة أى إخافة السبيل وهى تقتضى زيادة العقوبة, والزيادة هنا القتل والقتل محتم إذا قتل لأخذ مال ولو لم يأخذ نصابًا, أما إذا أخذ نصابًا فالقتل والصلب (3) . وبعض الشافعية يشترط فى القتل أن يكون مما يوجب القَوَد, فلا يكفى أن يكون القتل عمدًا وإنما يجب أن يكون قتلاً يجب فيه القصاص فإن لم يكن قتلاً عمدًا فلا يجب الحد, وإن كان قتلاً عمدًا لا يجب فيه القصاص فكذلك (4) . ومذهب أحمد على أن يتعمد الجانى الفعل بغض النظر عن الأداة التى استعملت فى القتل, فيستوى عنده أن يكون القتل عمدًا أو شبه عمد (5) .   (1) المدونة ج16 ص104, أسنى المطالب ج4 ص156, ويراجع ما كتب عن السرقة. (2) بدائع الصنائع ج7 ص96, 97, حاشية ابن عابدين ج3 ص295, 297, شرح الأزهار ج4 ص377, المدونة ج16 ص99, مواهب الجليل ج6 ص315. (3) أسنى المطالب وحاشية الشهاب ج4 ص155, 156. (4) نهاية المحتاج ج8 ص4, 5. (5) المغنى ج10 ص309, كشاف القناع ج4 ص89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 والظاهر من أقوال الظاهريين أنهم يشترطون القتل العمد كالشافعيين (1) . 648- حكم الجراح التى يحدثها المحارب: يرى الظاهريون أن إحداث الجراح بقصد إخافة السبيل حرابة, وعلى هذا فإذا حدثت جراح ولم يكن أخذ مال ولا قتل فالفعل حد والإمام مخير فى العقوبة, والقاعدة عندهم أنه إذا اجتمع حقان أحدهما لله والثانى للعبد كان حق الله تعالى أولى بالقضاء لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقضوا الله فهو أحق بالوفاء دين الله أحق أن يقضى", وقوله: "كتاب الله أحق وشرط الله أوثق", وعلى هذا فإن قتله الإمام أو صلبه للمحاربة كان للولى أن يأخذ أُرْش جرحه لأن حقه فى القود قد سقط فبقى حقه فى الدية أو العفو عنه, وإن رأى الإمام قطع المحارب كان للمجنى عليه أن يقتص أو يعفو. والخلاصة أنه كلما أمكن للمجنى عليه أن يستوفى حقه بعد استفاء حق الله استوفاه وكلما سقط كانت له الدية (2) , ويرى مالك وأبو حنيفة والشيعة الزيدية أنه كلما وجب على المحارب حد دخلت الجراحة فى الحد, فإن لم يكن حد أو كان حد وسقط فحكم الجراحة هو حكمها فى حال عدم وجود الحد (3) . ويرى الشافعى وأحمد أن الجراح لا تدخل فى الحد فيقتص فى الجراح إذا كانت مما يقتص فيه وإذا لم يكن قصاص ففيها الدية, ويرى الشافعى أن القصاص غير محتم أى ليس حدًا وإنما هو على أصله؛ لأن الانحتام خاص بالقتل والقطع والصلب فإذا سرى الجرح فمات فأصبح القتل عمدًا انحتم القتل (4) . أما أحمد ففى مذهبه رأيان: رأى يرى عدم انحتام القصاص كمذهب الشافعى لأن الشرع لم يرد بشرع الحد فى الجراح, والرأى الثانى على انحتام القصاص, وحجة أصحابه أن الجراح تابعة للقتل فتأخذ مثل حكمه, ويسلم أصحاب هذا الرأى بأن الجراح التى لا قصاص فيها كالجائفة لا يجب فيها إلا الدية (5) .   (1) المحلى ج11 ص311, 312. (2) المحلى ج11 ص213, 313. (3) بدائع الصنائع ج7 ص97, شرح الأزهار ج4 ص377, شرح الزرقانى ج8 ص111, مواهب الجليل ج6 ص386. (4) أسنى المطالب ج4 ص156. (5) المغنى ج10 ص310. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 649- الحد والضمان: علمنا مما سبق فى السرقة أن الشافعى وأحمد يريان الجمع بين الحد والضمان, وهذا هو رأيهما فى جريمة الحرابة فالحد لا يمنع من الضمان, أما عند مالك وأبى حنيفة والشيعة الزيدية فالقاعدة عندهم أن الحد لا يجمع مع الضمان, وقد تكلمنا على هذا فى السرقة فليرجع. ويعلل أبو حنيفة أن الحد فى الحرابة ينفى وجوب ضمان الجراحات؛ لأن الجراحات الخطأ فيها الدية, ولأن الجراحات يسلك بها فى مذهبه مسلك الأموال, فالضمان فى الجراحات بنوعيها مال ولا يجب ضمان المال مع الحد, ومذهب مالك والشيعة الزيدية لا يجمع بين الحد وضمان الجراحات؛ لأنهم يدخلون الجراح فى الحد ويعتبرون الحد عقوبة عنها (1) . 650- التداخل: يجرى التداخل فى جريمة الحرابة, فلو ارتكب شخص أكثر من حرابة عوقب عنها جميعًا مرةً واحدةً إذا كان الفعل الذى أتاه واحدًا, فإن كان الفعل مختلفًا يكفى أن يعاقب بعقوبة الفعل الأشد عقوبة. هذا مع ملاحظة رأى أبى حنيفة فى حالة أخذ المال والقتل فإنه إن أخذ مرة المال وقتل فى الثانية دون أخذ المال جاز قطعه ثم قتله, وهذا على رأى القائلين بأن لفظ "أو" ورد للبيان والتفصيل, وما على رأى القائلين بأن "أو" للتخيير فعند مالك تتداخل على الوجه السابق أيضًا؛ لأنه يخصص لأخذ المال والقتل عقوبات خاصة فتتداخل الأفعال من نوع واحد ويكفى فيها عقوبة واحدة, وإذا اختلف كانت العقوبة الأشد هى الواجبة وفيها الكفاية. أما عند الظاهريين فللإمام الخيار, ولذلك فالتداخل مطلق, وتكفى أية عقوبة لغض النظر عما إذا كانت أخف العقوبات أو أشدها. 651- مسقطات الحد: 1- يسقط حد الحرابة بما يسقط به حد السرقة: قد ذكرنا أسباب سقوط حد السرقة وبينا ما فيها من اتفاق واختلاف فلتراجع   (1) بدائع الصنائع ج7 ص95, تبصرة الحكام ج2 ص361, 362. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 [مع ملاحظة أن بعض هذه الأسباب خاص بأخذ المال ولا أثر له فى حالة القتل أو إخافة السبيل] . 2- التوبة: من المتفق عليه أن توبة المحارب قبل القدرة عليه تسقط ما وجب عليه من حد بحرابته, والأصل فى ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:34] , فإذا تاب المحارب سقط عنه ما وجب عليه من القتل والصلب والقطع والنفى ولكن التوبة لا يسقط ما يتعلق بحقوق العباد فيبقى مسئولاً؛ فإن كان أخذ المال فقط فعليه رده, وإن كان قتل أحدا أو جرحه فعليه القصاص أو إجراءات شكلية وإنما يدل عليها رد المال لصاحبه أن كان هناك مال عند القدرة على رده, ويكفى فى التوبة الندم والعزم على ترك مثل ما حدث. ويشترط فى التوبة أن تكون قبل القدرة على المحارب فإن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء لا من الحقوق المتعلقة بالله ولا من الحقوق المتعلقة بالأفراد, لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} , فأوجب الحد على كل محارب ثم استثنى من ذلك التائبين قبل القدرة, ومن عداهم يبقى على حكم العموم, وعلة قبول التوبة قبل القدرة أن التوبة قبل القدرة تكون غالبًا توبة إخلاص أما بعد القدرة فهى غالبًا توبة تقيه من إقامة الحد, عليه ولأن فى قبول التوبة قبل القدرة ترغيبًا للمحارب فى التوبة والرجوع عن المحاربة والإفساد فناسب ذلك إسقاط الحد عنه, أما بعد القدرة فلا حاجة لترغيبه لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة (1) . والمراد بما قبل القدرة أن تمتد إلى المحارب يد الإمام, فإن تاب بعد أن امتدت إليه يد الإمام لم تعتبر التوبة قبل القدرة ولو كان هاربًا أو مستخفيًا أو ممتنعًا (2) .   (1) المغنى ج10 ص310, أسنى المطالب ج4 ص155, 156, بدائع الصنائع ج7 ص96, شرح الأزهار ج4 ص378. (2) أسنى المطالب وحاشية الرملى ج4 ص155. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 ويعتبر المحارب تائبًا إذا أتى الإمام طائعًا قبل القدرة عليه ملقيًا سلاحه وإن لم يدل على التوبة مظهر آخر, ويعتبر كذلك إذا ترك ما هو عليه من الحرابة وإن لم يأت الإمام (1) , وإذا أمن المحارب ليسلم نفسه فلا أمان له ولا يعتبر بتسليم نفسه تائبًا قبل القدرة عليه لأنه كان مطلوبًا (2) . وإذا فعل المحارب ما يوجب حدًا لا يختص بالمحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة فإنها لا تسقط عنه بالتوبة عند مالك والظاهريين, ويسقط منها السرقة دون غيرها عند أبى حنيفة لما سنبينه بعد. أما عند الشافعى وأحمد ففى مذهبهما رأيان: أولهما: أنها جميعًا تسقط بالتوبة لأنها حدود الله تعالى فتسقط بالتوبة كحد المحاربة إلا حد القذف فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي, ولأن فى إسقاطها ترغيبًا فى التوبة, وهذا الرأى هو الراجح فى مذهب أحمد والمرجوح فى مذهب الشافعي, والثانى: أنها لا تسقط لأنها لا تختص بالمحاربة فكانت فى حق المحارب كحق غيره. وهذا هو الراجح فى مذهب الشافعى. أما إن أتى حدًا قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة عليه لم يسقط الحد الأول؛ لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذى تاب منه دون غيره. ويرى فقهاء الشيعة الزيدية أن توبة المحارب تسقط كل ما عليه من حدود غير حد المحاربة, ولكنهم يختلفون فى سقوط حد الآدميين, فيرى بعضهم أن التوبة تسقط أيضًا حقوق الآدميين التى أتلفها المحارب أو التائب حالاً حكمًا, ويرى البعض أن أثر التوبة لا تمتد لحقوق الأفراد وإنها لا تسقط إلا حق الله المحض فلا تمتد لمثل القصاص والقذف والمال. التوبة ممن عليه حد غير المحارب: هناك اختلاف فى أثر توبة من عليه حد من غير المحاربين, فيرى مالك والظاهريون ورأيهما هو الرأى الراجح فى مذهب الشافعى والرأى المرجوح فى مذهب أحمد أن التوبة لا أثر لها على الحد لقول الله   (1) شرح الزرقانى ج8 ص112, بدائع الصنائع ج7 ص96. (2) شرح الزرقانى ج8 ص112. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] , وهذا عامٌّ فى التائبين وغيرهم, وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] , ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا والغامدية وقطع الذى جاءه مقرًا بالسرقة وقد جاءوا جميعًا تائبين يطلبون تطهرهم بإقامة الحد, وقد سمى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلهم توبة فقال فى حق الغامدية: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم", وجاء عمرو بن سمرة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله إنى سرقت جملاً لبنى فلان فطهرني, فأقام الرسول عليه الحد". ولأن الحد كفارة عن الذنب فلا يسقط بالتوبة, ولأن التائب مقدور عليه فلم يسقط عنه بالتوبة كالمحارب المقدور عليه. ويرى أبو حنيفة أن السرقة الصغرى وحدها هى التى يسقط حدها بالتوبة إذا تاب السارق قبل أن يظفر به ورد المال إلى صاحبه فيسقط عنه القطع, بخلاف سائر الحدود فإنها لا تسقط بالتوبة, والفرق أن الخصومة شرط فى السرقة الصغرى والكبرى؛ لأن محل الجناية خاص حق العباد والخصومة تنتهى بالتوبة والتوبة تمامها رد المال إلى صاحبه, فإن وصل المال إلى صاحبه لم يبق له حق الخصومة مع السارق. أما الرأى الراجح فى مذهب أحمد والمرجوح فى مذهب الشافعى وهو مذهب الشيعة الزيدية فيرى أن كل حد يسقط بالتوبة لقوله تعالى: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} [النساء:16] , ولأنه ذكر حد السارق, ثم قال: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة:39] , ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له", ومن لا ذنب له لا حد عليه، ولأنه قال فى ماعز لما أُخبر بهربه: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه"، ولأن الحدود خالص حد الله فتسقط بالتوبة كحد المحارب. والقائلون بأن التوبة تسقط الحدود مختلفون فيما إذا كان الحد يسقط بمجرد التوبة أو يسقط بها مع إصلاح العمل, ففريق يسقط الحد بمجرد التوبة وهو ظاهر مذهب أحمد, وفريق يعتبر إصلاح العمل لقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] , فعلى هذا يعتبر مضى مدة يعلم بها صدق التوبة وصلاح النية, والبعض لا يقدر مدة معلومة, والبعض يقدر المدة بسنة (1) , وهناك نظرية ثالثة لابن تيمية وابن القيم ذكرناها (2) . 652- حق الله وحق الفرد فى عقوبة القتل: الأصل فى جريمة القتل العادى أنها تمس الأفراد أكثر مما تمس الجماعة, ولذلك يعبر عنها الفقهاء بأنها متعلقة بحقوق الأفراد, ولكن الشارع جعل القتل فى الحرابة مما يمس حقوق الجماعة حيث جعل العقوبة لازمة ولم يجعل لعفو المجنى عليه أثرًا عليها. وقد نظر الفقهاء إلى أن القتل فى الحرابة يجتمع فيه حق الله وحق العبد فكان هذا مما دعا البعض إلى القول بتغليب حق الله ودعا البعض إلى القول بتغليب حق الفرد. والقائلون بتغليب حق الفرد هم بعض الشافعية ورأيهم الراجح فى المذهب, وبعض الحنابلة ورأيهم المرجوح فى المذهب. أما بقيه المذاهب فتغلب حق الله على حق الأفراد, ولكن المذهب الظاهرى له حكم خاص سنذكره فيما بعد (3) . ويترتب على تغليب حق الله أنه لا يعتبر التكافؤ فى القتل عند القائلين بالتكافؤ؛ فيؤخذ الحر بالعبد والمسلم بالذمى ولأب بالبن لأن القتل حد لله فلا تعتبر فيه المكافأة كما هو الحال فى الزنا والسرقة, ولا تراعى المماثلة فى القتل فيقتل بالسيف أيًا كانت الآلة التى استعملها. ويترتب على تغليب حق العبد اعتبار التكافؤ فى القتل فلا يقتل المحارب إذا كان حرًا بعبد أو نحوه ممن لا يكافئه كابنه وذمى والمحارب مسلم. وإن قتل بمثقل أو غيره روعيت المماثلة فى قتله بأن يقتل بمثل ما قتل به, وإذا قتل ومات   (1) المغنى ج10 ص314 وما بعدها, كشاف القناع ج4 ص91, بدائع الصنائع ج7 ص96, شرح الزرقانى ج8 ص112, أسنى المطالب ج4 ص155, 156, نهاية المحتاج ج8 ص6, شرح الأزهار ج4 ص378, المحلى ج11 ص126, 131. (2) التشريع الجنائى ج1 ص305. (3) يراجع القتل عند الظاهريين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 قبل قتله قصاصًا فالدية تجب فى ماله, وإذا عفا الولى على مال لزم القاتل المال وقتل حدًا. ويحتج القائلون بتغليب حق الله أن القاعدة تغليب حق الله إذا اجتمع مع حق العبد فى حد لأن العقوبات فى الحدود خالصة أصلاً لله وأن الحد لا يجوز فيه العفو, وإذا كان ولى الدم ليس له العفو فمعنى ذلك أن حق الله غالب, ويحتج القائلون بتغليب حق العبد بأنه الأصل فيما اجتمع فيه حق الله وحق آدمي, ولأن الآدمى لو قتل فى غير محاربة فله حق القصاص فكيف يسقط حقه بقتله فى المحاربة, ويقولون إن أثر الحد هو من ناحية انحتام القتل وعدم جواز العفو عنه, ولكن ذلك لا يسقط بحال حق العبد من النواحى الأخرى, خصوصًا وإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقتل مسلم بكافر" (1) . 653- عدم وجوب الحد المانع: لا يجب حد الحرابة إلا إذا استوفت كل شروط الحد, فإذا امتنع أحد الشروط امتنع وجوب الحد كشرط النصاب عند من يشترطون النصاب, فإذا لم يتوفر هذا النصاب عندهم ولم يكن هناك قتل فلا يجب حد القطع, وكشرط البلوغ فإذا حدثت الحرابة من صبى لم يجب عليه الحد أو أخذ المال وحده أو قتل أو فعل غير ذلك, وكشرط العقل فى المحارب فإذا كان المحارب مجنونًا لم يجب عليه الحد, وكشرط العمد فى حالة القتل عند من يشترطون أن يتعمد المحارب القتل, فإن الحد لا يجب عندهم إذا قتل ولم يأخذ مالاً, فإذا أخذ مالاً وقتل غير متعمد القتل وجب عليه حد القطع إذا بلغ المال نصبًا, وهكذا كلما امتنع شرط من شروط الحد لم يجب الحد, وقد تعرضنا لهذه الشروط المختلف عليها والمتفق عليها فيما سبق. على أن عدم وجوب الحد على من أخذ مالاً دون النصاب لا يمنع تعزيره وضمانه لما أخذ, وعدم وجوب الحد على الصبى والمجنون لا يمنع من تأديب الصبى والمجنون بما يتفق مع حالتهما كضرب الصبى وحجز المجنون فى مكان لمنع أذاه عن الناس   (1) المغنى ج10 ص307. أسنى المطالب ج4 ص156, الدونة ج16 ص99, 100. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 , ومن يقتل غير متعمد وهو يريد أخذ المال ولكنه لم يأخذ مالاً يعزر ويلزم الدية, وهكذا. والقاعدة فى الشريعة أن كل ما يعتبر معصية إذا أتاه الإنسان عزر ولو أراد الفاعل فعلاً ما لم يتمه ما دام ما فعله يعتبر فى حد ذاته معصية لا حد فيها, فإذا كان ما فعله سواء أتمه أم لم يتمه فيه الحد عوقب بعقوبة الحد إذا توفرت شروطها فإذا لم تتوفر شروطها فالعقوبة التعزير كلما كان الفعل معصية. 654- حكم سقوط الحد بعد وجوبه: إذا سقط الحد بعد وجوبه كان الحكم بالنسبة للمال والقتل والجراح على الوجه الآتى: إذا كان سبب سقوط الحد هو تكذيب الحجة عند القائلين بالسقوط بتكذيب المجنى علية لشهود الإثبات أو تكذيبه للإقرار الصادر من الجانى فلا شيء على الجانى جنائيًا أو مدنيًا لأن الفعل لا يثبت فى حق الجانى إلا بالحجة وقد بطلت أصلاً. أما إذا كان سبب سقوط الحد الرجوع عن الإقرار فعند من يقولون بسقوط الحد برجوع الجانى عن الإقرار لا يسقط إلا الحد ولكن الجانى يظل مسئولاً جنائيًا عما يتعلق بحق الأفراد كالقصاص, كما تبقى مسئوليته المدنية كاملة؛ لأن إقرار المقر حجة كاملة فى حقه إلا أنه تعذر اعتباره بالنسبة لعقوبته لأن الحدود تدرأ بالشبهات (1) . أما إذا كان سبب سقوط الحد هو التوبة قبل القدرة, فإن كان المحاربون أخذوا المال لا غيره ردوه على أصحابه إن كان قائمًا وعليهم ضمانه إن كان هالكًا أو مستهلكًا, وإن كانوا قتلوا لا غير اقتص ممن يجب عليه القصاص ومن لا قصاص عليه ألزم الدية, وإن اجتمع القتل والمال اجتمع الحكمان السابقان لأن المكافأة لا تهمل إلا فى حالة إقامة الحد, أما من يلزمه القصاص من المحاربين فهو من عليه القصاص فى القتل العادي, وقد علمنا مدى اختلاف الفقهاء فى اعتبار المباشر والمتسبب والمعين, والقاعدة العالمة أنه كلما امتنع الحد أو سقط عن القطَّاع رجع   (1) يراجع ما قيل عن سقوط الحد فى السرقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 بهم فيما عليهم من جرائم إلى حكم غير القطاع وإلى حكم جرائمهم الخاص. وتراعى فى حالة القصاص والمكافأة عند جميع القائلين بها فى حالة التوبة والرجوع عن الإقرار. وإذا كانوا أخذوا المال وجرحوا فحكم المال ما سبق, وحكم الجراحات القصاص فيما يستطاع فيه القصاص, والدية فيما فيه الدية, كما لم كانت الجراحات حدثت من غير قطع الطريق (1) , ويلاحظ أن بعض الشيعة الزيدية يرون أنه يسقط من حقوق الأفراد ما أتلفه المحارب حالاً حكمًا كمال استهلكه أو هلك فى يده لا كمالٍٍ تصرف فيه بمقابل. 655- هل مسئولية القطاع الجنائية تضامنية؟: القاعدة العامة فى الحدود أن الحد لا يجب إلا على مباشِره فقط. ويرى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن يُحَدَّ الرِّدْء والمعين والطليعة كما يحد مباشر الحرابة. والرِّدْء هو الذى يلجأ إليه المحارب إذا هرب أو هزم, والطليعة هى التى تتطلع الطريق وتأتى بالأخبار, والمعين هو من يحضر وقت الجريمة ولو أنه لم يباشر الفعل بنفسه. وحجتهم أن المحاربة مبنية على حصول المنفعة والمعاضدة والمناصرة فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة هؤلاء جميعًا ومعاونتهم بخلاف سائر الحدود, فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل فى حق جميعهم ووجب قتلهم جميعًا حدًا لا تعزيرًا, وإن أخذ بعضهم المال دون بعض ثبت الأخذ فى حقهم جميعًا ووجب على جميعهم القطع, وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال قتلوا جميعًا وصلبوا كما لو فعل كل منهم الأمرين معًا, فالمحاربون جميعًا المباشرون والمتسببون مسئولون جنائيًا عن الفعل الذى باشره غيره. ويذهب المالكيون فى اعتبار التسبب إلى حد بعيد بحيث يعتبرون متسببًا فى الجريمة من يتقوى المحاربون بجاهه ولو لم يأمر بقتل أو يتسبب فيه بفعل ما دام جاهه قد أعان على الحادث حكمًا. وإذا كان فى المحاربين صبى أو مجنون أو من لا حد عليهم, فيرى أبو حنيفة وأحمد أن لا حد عليهما لأنهما ليسا من أهل الحد ولا حد على غيرهما ممن باشر الجريمة أو أعان عليها أو تسبب فيها. ويرى أبو يوسف هذا الرأى إذا كان الصبى أو المجنون هو الذى باشر الجريمة وحده, فإن كان المباشر غيرهما فالحد على العقلاء البالغين دون غيرهم (2) . وحجة أبى حنيفة أن مسئولية الجميع واحدة فالشبهة فى فعل أحدهم شبهة فى حق الجميع. وحجة أبى يوسف انه إذا كان المباشر هو الصبى أو المجنون فهو الأصل والباقون تبع فإذا سقط الحد عن الأصل سقط عن التابع. ويرى أحمد رأى أبى يوسف فعنده أنه لا حد على الصبى والمجنون وإن باشرا القتل وأخذا المال لأنهما ليسا من أهل الحدود وعليهما ضمان ما أخذا من المال فى أموالهما ودية قتلهما على عاقلهما ولا شيء على الردء لهما لأنه إذا لم يثبت الحد على المباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق أولى, أما إذا كان المباشر غيرهما لم يلزمهما شيء لأنهما لم يثبت فى حقهما حكم المحرابة وثبوت الحكم فى حق الرِّدْء يثبت بالمحاربة (3) . ولا يحد مالك الصبى والمجنون ولكنه يرى الحد على غيرهما فى كل حال, سواء باشر الصبى والمجنون أو لم يباشرا. وإذا كان فى المحاربين امرأة فيرى أبو حنيفة   (1) المغنى ج10 ص318 وما بعدها, بدائع الصنائع ج7 ص91, شرح الزرقانى ج8 ص110. (2) بدائع الصنائع ج7 ص91. (3) المغنى ج10 ص318, 319. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 أن لا حد عليها ولو باشرت الفعل ولا حد على من معها سواء اشتركوا معها أو لم يشتركوا, ولكن أبا يوسف يرى أن المرأة إذا باشرت الفعل وحدها حُدَّ من معها من الرجال, والرأى الراجح فى مذهب أبى حنيفة أن الرجال والنساء سواء فى الحد (1) . ويرى مالك وأحمد أن المرأة يلزمها حكم المحاربة كالرجل, فإذا باشرت الفعل ثبت حكم المحاربة فى حق من معها لأنهم رِدْء لها وأعوان, وإن فعل ذلك غيرها ثبت ذلك فى حقها لأنها ردء وعون له (2) . أما الشافعى فلا يرى المسئولية التضامنية فى الحرابة وإن كان يعتبر الردء   (1) بدائع الصنائع ج7 ص91. (2) المغنى ج10 ص319. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 والطليعة والمعين والمتسبب مسئولين جنائيًا ولكنه يجعل مسئوليتهم تعزيرية باعتبارهم مرتكبين لمعصية, أما الذى يعاقب بالحد فهو المباشر دون غيره, فمن أخذ نصابًا من المال قُطع دون غيره, ومن قتل كان مسئولاً عن القتل دون غيره ولو كان الغير قد أخذ مصابًا من المال (1) . 656- هل مسئولية القطاع المدنية تضامنية؟: يرى مالك أن المحاربين مسئولين مسئولية تضامنية عن الأموال التى يأخذونها فمن يظفر به منهم يغرم ما يلزمهم جميعًا من أموال الناس سواء أخذ هذا المحارب شيئًا مما انتهب أم لم يأخذ وسواء جاء تائبًا أو قدر عليه غير تائب, وإنما يغرم عمن عداه حيث لزم من عداه الغرم لأنه غرم بطريق الضمان إذ كل واحد منهم تقوى بأصحابه, وتلك هى القاعدة فى المحاربين والبغاة والغصاب وفى مذهب مالك (2) , وهذا هو الحكم فى السرقة العادية إذا كان السارق قد تعاون مع غيره فى إخراج السرقة, فكل من لزمه القطع فى السرقة كان مسئولاً بالتضامن عما أخذه غيره ممن وجب عليهم القطع (3) . على أن فى مذهب مالك من يرى أن لا يضمن كل من المحاربين إلا ما أخذه, وهو رأى غير معمول به (4) . هذه هى القاعدة فى مذهب مالك, ويقيدها قاعدة أخرى هى عدم اجتماع الحد والضمان، وقد سبق ذكرناها فى السرقة فلتراجع. ويذهب أحمد إلى أن الضمان ليس بحد إلا على المباشر دون الرِّدء والمعين؛ لأن وجوب الضمان ليس بحد فلا يتعلق بغير المباشر له كالغصب والنهب, وإذا تاب المحاربون قبل القدرة عليهم وتعلقت بهم حقوق الآدميين من القصاص والضمان فالمختص بذلك المباشر دون الرِّدْء ولو وجب الضمان فى السرقة لتعلق بالمباشر دون غيره (5) .   (1) أسنى المطالب ج4 ص154. (2) شرح الزرقانى ج8 ص111. (3) حاشية الشيبانى ج8 ص111. (4) تبصرة الحكام ج2 ص361. (5) المغنى ج10 ص310. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 أما الشافعى فيجعل الضمان على المباشر دون غيره كمبدأ فى عدم التضامن فى المسئولية الجنائية. 657- مسئولية المحارب إذا كان صبيًا أو فاقد العقل: المحارب الصبى ليس عليه حد وإنما يعزر بما يناسبه, وكذلك المجنون لا يحد وإنما يعزر بما يمنع شره عن الناس كوضعه فى مصحة أو ما أشبه, والصبى والمجنون كلاهما مسئول فى ماله الخاص إذا أخذ المال, فإذا قتل فالدية على عاقلة عند مالك وأبى حنيفة وأحمد لأنهم يرون أن عمد المجنون والصبى خطأ لأنه لا يمكن أن يقصد الفعل قصدًا صحيحًا, وإذا لم يكن قتله مقصودًا فهو ليس عمدًا وإنما هو خطأ, أما الشافعى فيرى أن عمد الصبى والمجنون عمد لا خطأ وأن الصغير يعفى من الحد والقصاص ولكنه يؤثر على تكييف الفعل لأنه يأتيه مريدًا له وإن كان لا يدركه إدراكًا صحيحًا (1) . أما السكران بمحرم فهو مسئول فى المذاهب الأربعة جنائيًا ومدنيًا مسئولية كاملة (2) . ويرى الظاهريون أن الصبى والمجنون والسكران سكرًا أخرجه عن عقله لا يؤاخذون بحد ولا قَوَد, لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن الصبى حتى يبلغ, وعن المجنون حتى يفيق", والسكران لا يعقل, ولا على أحد من هؤلاء دية ولا ضمان عليه ولا على عاقلته, لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام", فأموال الصبى والمجنون والسكران حرام بغير نص كتحريم دمائهم ولا نص فى وجوب غرامة عليهم أصلاً, وإيجاب الغرامة شرع فإذا كان بغير نص من قرآن أو سنة فهو شرع فى الدين لم يأذن به الله, ولكن الصبيان والمجانين والسكارى لا يؤاخذون بحد ولا قود فعليهم التعزير, فإذا أتى أحدهم   (1) التشريع الجنائى ج1 ص508 وما بعدها- مذهب الشيعة الزيدية. (2) التشريع الجنائى ج1 ص499 وما بعدها, كشاف القناع ج3 ص140, أسنى المطالب ج4 ص154 وج3 ص283. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 جريمة وجب تعليمه ليكف أذاه حتى يتوب السكران ويفيق المجنون ويبلغ الصبي, لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] , وتثقيفهم تعاون على البر والتقوى, وإهمالهم تعاون على الإثم والعدوان (1) . 658- حكم المال المأخوذ حرابة: حكم المال فى الحرابة هو وجوب الرد وإن كان قائمًا بعينه سواء سقط الحد أو لم يسقط, ولصاحبه أن يأخذه أينما وجده سواء وجده فى يد المحارب أو يد من تصرف إليه فيه, وذلك على التفصيل المبين فى باب السرقة, وعلى ما ذكرناه من خلاف بين الفقهاء. * * *   (1) المحلى ج11 ص344, 347. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 الكتاب السادس البغي 659- النصوص الواردة فى البغى: الأصل فى البغى قول الله جل شأنه: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9, 10] (1) , وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ... } الخ [النساء:59] . وهناك نصوص من السنة وردت فى البغي, فيروى عن عبد الله بن عمر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أعطى إمامًا صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" رواه مسلم. وروى عرفجة أنه قال: "ستكون هَنَاتٌ وهنات - ورفع صوته - ألاَ من خرج على أمتى وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان" (2) . وفى رواية أخرى: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه".   (1) ويستخلص من نص الآية خمس فوائد: الأولى: أنهم لم يخرجوا بالبغى عن الإيمان فإنه سماهم مؤمنين, الثانية: أنه أوجب قتلهم, الثالثة: أنه أسقط قتلهم إذا فاءوا إلى أمر الله, الرابعة: أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوا فى قتلهم, الخامسة: أن الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقاً عليه, المغنى ج10 ص48. (2) المغنى ج10 ص48. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر, فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية", وفى لفظ: "من كره من أمره شيئًا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية". وعن أبى هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء, كلما هلك نبى خلفه نبي, وأنه لا نبى بعدي, وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم, فإن الله سائلهم عما استرعاهم". وعن عوف بن مالك الأشجعى قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم, وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم". قال: قلنا: يا رسول الله ألاَ ننابذهم عند ذلك؟ قال: "لا, ما أقاموا فيكم الصلاة, إلا من ولى عليه وال فرآه يأتى شيئًا من معصية الله, فليكره ما يأتى من معصية الله, ولا ينزعن يدًا من طاعة". وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون بعدى أئمة لا يهتدون بهديى ولا يستنون بسنتي, وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين فى جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع". وعن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننزع الأمر أهله, إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان". وعن أبى ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أبا ذر كيف بك عند ولاة يستأثرون عليك بهذا الفيء؟ قال: والذى بعثك بالحق أضع سيفى على عاتقى وأضرب حتى ألحقك, قال: أو لا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ تصبر حتى يلحقنى" (1) .   (1) نيل الأوطار ج7 ص80, 81. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن مسعود: "هل تدرى يا ابن أم عبد كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم, قال: لا يجهز على جريحها, ولا يُقتل أسيرها, ولا يُطلب هاربها, ولا يقسم فيئها" (1) . 660- تعريف البغى: يعرف البغى لغة بأنه طلب الشيء, فيقال: بغيت كذا إذا طلبته, ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:64] , ثم اشتهر البغى فى العرف فى طلب ما لا يحل من الجور والظلم, وإن كانت اللغة لا تمنع أن يكون البغى بحق، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّى الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْى بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] . ويختلف الفقهاء فى تعريف البغى اصطلاحًا لاختلاف مذاهبهم فيه, فالمالكيون يعرفون البغى بأنه الامتناع عن طاعة من ثبتت إمامته فى غير معصية بمغالبته ولو تأويلاً, ويعرفون البغاة بأنهم فرقة من المسلمين خالفت الإمام الأعظم أو نائبه لمنع حق وجب عليها أو لخلفه (2) . ويعرف الحنفيون البغاة ويستخرجون منها تعريف البغى بأنه الخروج عن طاعة إمام الحق بغير حق, والباغى بأنه الخارج عن طاعة إمام الحق بغير حق (3) . ويعرف الشافعيون البغاة بأنهم المسلمون مخالفو الإمام بخروج عليه وترك الانقياد له أو منع حق توجه عليهم بشرط شوكة لهم وتأويل ومطاع فيهم (4) . أو هم الخارجون عن الطاعة بتأويل فاسد لا يقطع بفساده إن كان لهم شوكة   (1) سبل السلام ج3 ص207, طبعة الحلبى سنة 1349هـ. (2) شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص60. (3) حاشية ابن عابدين ج3 ص426, شرح فتح القدير ج4 ص48. (4) نهاية المحتاج ج8 ص382. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 بكثرة أو قوة وفيهم مطاع (1) , فالبغى إذن عند الشافعيين هو خروج جماعة ذات شوكة ورئيس مطاع عن طاعة الإمام بتأويل فاسد. ويعرف الحنابلة البغاة بأنهم الخارجون عن إمام ولو غير عادل بتأويل سائغ ولهم شوكة ولو لم يكن فيهم مطاع (2) , فالبغى عند الحنابلة لا يختلف فى تعريفه كثيرًا عند الشافعية. ويرى الظاهريون أن البغى هو الخروج على إمام حق بتأويل مخطئ فى الدين أو الخروج لطلب الدنيا (3) . ويعرف الشيعة الزيدية الباغى بأنه من يظهر أنه محق والإمام مبطل وحاربه أو غرم وله فئة أو مَنَعة أو قام بما أمره للإمام (4) , فالبغى هو الخروج على الإمام الحق من فئة لها مَنَعة. علة اختلاف التعاريف: والعلة فى اختلاف تعريف البغى فى المذاهب الفقهية المختلفة هى الاختلاف على الشروط التى يجب توفرها فى البغاة وليست الاختلاف فى الأركان للبغى ومحاولة الفقهاء فى أكثر من مذهب أن يجمعوا فى التعريف بين أركان البغى وشروطه ورغبتهم أن يكون التعريف جامعًا مانعًا. تعريف مشترك: ونستطيع أن نعرف البغى تعريفًا مشتركًا فيه كل المذاهب إذا اكتفينا بإبراز الأركان الأساسية فى التعريف فنقول: إن البغى هو الخروج على الإمام مغالبة. 661- أركان البغى: وأركان البغى الأساسية كما هو ظاهر من التعريف المشترك ثلاثة: (1) الخروج على الإمام. (2) أن يكون الخروج مغالبة. (3) القصد الجنائى. * * *   (1) أسنى المطالب ج4 ص111. (2) شرح المنتهى مع كشاف القناع ج4 ص114. (3) المحلى ج11 ص97, 98. (4) الروض النضير ج4 ص331. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 الركن الأول: الخروج على الإمام 662- يشترط لوجود جريمة البغى الخروج على الإمام, والخروج المقصود هو مخالفة الإمام والعمل لخلعة, أو الامتناع عما وجب على الخارجين من حقوق. ويستوى أن تكون هذه الحقوق لله أى مقررة لمصلحة الجماعة, أو للأشخاص أى مقررة لمصلحة الأفراد. فيدخل تحتها كل حق تفرضه الشريعة للحاكم والمحكوم, وكل حق للجماعة على الأفراد, وكل حق للقرد على الفرد, فمن امتنع عن أداء الزكاة فقد امتنع عن حق وجب عليه, ومن امتنع عن تنفيذ حكم متعلق بحق الله كحد الزنا, أو متعلق بحق الأفراد كالقصاص, فقد امتنع عن حق وجب عليه, ومن امتنع عن طاعة الإمام فقد امتنع عن الحق الذى وجب عليه, وهكذا. ولكن من المتفق عليه أن الامتناع عن الطاعة فى معصية ليس بغياَ وإنما هو واجب على كل مسلم لأن الطاعة لم تفرض إلا فى معروف ولا تجوز فى معصية, فإذا أمر الإمام بما يخالف الشريعة فليس لأحد أن يطيعه فيما أمر إذ الطاعة لا تجب إلا فيما تجيزه الشريعة (1) . والخروج قد يكون على الإمام وهو رئيس الدولة الأعلى وقد تكون على من ينوب عنه, فمن امتنع عن طاعة الإمام فى معصية فليس باغيًا لأن حق الأمر واجب الطاعة وكلاهما مقيد غير مطلق, فليس لآمر أن يأمر بما يخالف الشريعة وليس لمأمور أن يطيعه فيما يخالف الشريعة. وذلك ظاهر من قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] , ومن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق", وقوله: "من أمركم من   (1) حاشية ابن عابدين ج3 ص430. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه", وقوله: "لا طاعة فى معصية الله إنما الطاعة فى المعروف", وقد احتاط الفقهاء لهذا فى تعريف البغاة. والإمام: هو رئيس الدولة الإسلامية الأعلى أو من ينوب عنه من سلطان أو وزير أو حاكم أو غير ذلك من المصطلحات, ويعبر بعض الفقهاء عن رئيس الدولة الإسلامية الأعلى بالإمام الذى ليس فوقه إمام, وعمن دونه بالإمام مطلقًا إذا كان مستقلاً بجزء من الدولة الإسلامية, وبنائب الإمام إذا كان ينوب عن الإمام الأعظم. والإمامة فرض من فروض الكفاية فى الشريعة الإسلامية كالقضاء, إذ لابد للأمة من إمام يقيم الدين وينصر السنة وينصف المظلومين ويستوفى الحقوق ويضعها موضعها. ولا خلاف على هذا بين الفقهاء. ويشترط فى الإمام شروط لا محل لذكرها هنا أهمها أن يكون مسلمًا ذكرًا مكلفًا عدلا (1) , ولا يعتبر الخروج على الإمام قبل أن تثبت إمامته, وتثبت الإمامة بأربع طرق: 1- باختيار أهل الحل والعقد من العلماء والفقهاء وأرباب الحل والعقد, كما حدث فى بيعة أبى بكر على أثر وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 2- باختيار الإمام السابق لمن يليه, كما حدث فى اختيار أبى بكر لعمر حيث عهد إلى عمر بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة فى الحال التى يؤمن فيها الكافر ويتقى فيها الفاجر, إنى استعملت عليكم عمر بن الخطاب فإن برَّ وعَدَل فذلك علمى به ورأيى فيه, وإن جار وبدَّل فلا علم لى بالغيب, والخير أردت, ولكل امرئ ما اكتسب, وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون". ويصح أن يعهد الإمام لولده, كما فعل معاوية وغيره من الخلفاء الأمويين والعباسيين وغيرهم.   (1) أسنى المطالب ج4 ص108, كشاف القناع ج4 ص94, المحلى لابن حزم ج9 ص359 وما بعدها, شرح الأزهار ج4 ص518. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 3- يجعل الإمام السابق الأمر شورى فى جماعة معينة يختارون الإمام الجديد من بينهم أو يختاره أهل الحل والعقد, كما فعل عمر حيث ترك الأمر شورى فى ستة من الصحابة فاختاروا من بينهم عثمان. 4- بالتغلب والقهر حيث يظهر المتغلب على الناس ويقهرهم حتى يذعنوا له ويدعونه إمامًا فتثبت له الإمامة وتجب طاعته على الرعية, ومثل ذلك ما حدث من عبد الملك بن مروان حين خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعًا وكرهًا ودعوه إمامًا. وإذا ثبتت الإمامة بإحدى هذه الطرق كان الخروج على الإمام بغيًا, أما إذا لم تكن الإمامة ثابتة بإحدى هذه الطرق فلا يعتبر الخارج باغيًا ولا الخروج بغيًا (1) . ومع أن العدالة شرط من شروط الإمامة إلا أن الرأى الراجح فى المذاهب الأربعة ومذهب الشيعة الزيدية هو تحريم الخروج على الإمام الفاسق الفاجر ولو كان الخروج للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأن الخروج على الإمام يؤدى عادة إلى ما هو أنكر مما فيه وبهذا يمتنع النهى عن المنكر لأن من شرطه أن لا يؤدى الإنكار إلى ما هو أنكر من ذلك, إلى الفتن وسفك الدماء وبث الفساد واضطراب البلاد وإضلال العباد وتوهين الأمن وهدم النظام. وإذا كانت القاعدة أن للأمة خلع الإمام وعزلة بسبب يوجبه كالفسق إلا أنهم يرون أن لا يعزل إذا استلزم العزل الفتنة. أما الرأى المرجوح فيرى أصحابه أن للأمة خلع وعزل الإمام بسبب يوجبه وأنه ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق, فإذا وجد من الإمام ما يوجب اختلال أموال المسلمين وانتكاس أمور الدين كان للأمة خلعه كما كان لهم تنصيبه لانتظام شئون الأمة وإعلائها, ويرى بعض هذا   (1) كشاف القناع ج4 ص94, 95, أسنى المطالب ج4 ص105 وما بعدها, حاشية ابن عابدين ج3 ص428, شرح الزرقانى وحاشية الشيبانى ج8 ص60. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 الفريق انه إذا أدى الخلع لفتنة احتمل أدنى الضررين (1) . ويرى الظاهريون أن الخروج على الإمام محرم إلا أن يكون جائرًا, فإن كان جائرًا فقام عليه مثله أو دونه قوتل مع القائم لأنه منكر زائد ظهر, فإن قام عليه أعدل منه وجب أن يقاتل مع القائم. وإذا كانوا جميعًا أهل منكر فلا يقاتل من أحد منهم إلا أن يكون أحدهم أقل جورًا فيقاتل معه من هو أجور منه (2) . وعلى هذا الرأى بعض المالكيين, فسحنون يقول بوجوب قتال أهل العصبية إن كان الإمام عدلاً وقتال من قام عليه, فإن كان غير عدل فإن خرج عليه عدل وجب الخروج معه ليظهر دين الله وإلا وسعك الوقوف إلا أن يريد نفسك ومالك فادفعه عنهما ولا يجوز لك دفعه عن الظالم. ويرى الشيخ عز الدين بن عبد السلام أن فسق الأئمة قد يتفاوت ككون فسق أحدهم بالقتل وفسق الآخر بانتهاك حرمة الإبضاع وفسق الآخر بالتعرض للأموال فيقوم هذا على التعرض للدماء والإبضاع, فإن تعذر يقوم المتعرض للإيضاع على المتعرض للدماء, فإن قيل: أيجوز القتال مع أحد هؤلاء لإقامة ولايته وإدامة نصرته وهو معصية, قلنا نعم وفقًا لما بين مفسدتى الفسوقيين, وفى هذا وقفة وإشكال من جهة كونه إعانة على معصية ولكن درء ما هو أشد من تلك المعصية يجوزه. ونحوه خروج فقهاء القيروان مع أبى يزيد الخارجى على الثالث من بنى عبيد لكفره وفسق أبى يزيد والكفر أشد (3) . ومجموع رأى سحنون والشيخ عز الدين هو رأى الظاهريين. وعلى الرغم من أن الرأى الراجح فى مذهب مالك هو تحريم الخروج على الإمام الجائر فإن من المتفق عليه فى المذهب أنه لا يحل للإمام الجائر أن يقاتل   (1) شرح الزرقانى ج8 ص60, حاشية ابن عابدين ج3 ص429, أسنى المطالب ج4 ص109, حاشية الشهاب الرملى ج4 ص111, كشاف القناع ج4 ص95, الأحكام السلطانية الغراء ص514, تتمة الروض النضير ج4 ص6, 9, مواهب الجليل ج6 ص277, نيل الأوطار ج7 ص84. (2) المحلى ج9 ص372. (3) حاشية الشيبانى ج8 ص60. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 الخارجين عليه لفسقه وجوره, وعليه قبل كل شيء أن يترك فسقه ثم يدعوهم لطاعته فإن لم يجيبوه كان له أن يقاتلهم (1) . ومن المتفق عليه فى كل المذاهب الشرعية أن قتال الخارجين لا يجوز قبل سؤالهم عن سبب خروجهم, فإذا ذكروا مظلمة أو جورًا وكانوا على حق وجب على الإمام أن يرد المظالم ويرفع الجور الذى ذكروا ثم يدعوهم للطاعة وعليهم أن يرجعوا للطاعة فإن لم يرجعوا قاتلهم, والأصل فى ذلك قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] . فأمر الله تعالى بالإصلاح ثم بالقتال فلا يجوز أن يقدَّم القتال على الإصلاح ولا يكون الإصلاح إلا برد المظالم ورفع الجور (2) . والخارجون على ثلاثة أنواع عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد: 1- الخارجون بلا تأويل سواء كانوا ذوى منعة أو شوكة أو لا منعة لهم. 2- الخارجون بتأويل ولكن لا مَنَعة لهم. 3- الخارجون بتأويل وشوكة, وهم قسمان: (أ) الخوارج ومن يذهبون مذهبهم ممن يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويَسْبُون نسائهم ويكفِّرون بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ب) الخوارج بتأويل ولهم منعة وشوكة ممن لا يذهبون مذهب الخوارج ولا يستحلون دماء المسلمين ولا يستبيحون أموالهم ونساءهم (3) . والتأويل المقصود هو ادعاء سبب للخروج والتدليل عليه, ويستوى أن   (1) شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60. (2) شرح فتح القدير ج4 ص409, أسنى المطالب ج4 ص114, كشاف القناع ج4 ص96, شرح الزرقانى ج8 ص60, 61, المحلى ج11 ص99. (3) شرح فتح القدير ج4 ص48, 49, المغنى ج10 ص48, 52, أسنى المطالب ج4 ص111, 113. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 يكون التأويل صحيحًا أو فاسدًا لا يقطع بفساده, ويعتبر التأويل فاسدًا إذا أولوا الدليل على خلاف ظاهره ولو كانت الأدلة على التأويل ضعيفة كادعاء أهل الشام فى عهد على بأنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم, مع أن الادعاء صادر ممن لا يعتد بقولهم وشهادتهم. وكتأويل بعض مانعى الزكاة فى عهد أبى بكر بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن كانت صلاته سكنًا لهم, طبقًا لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة:103] . وكادعاء الخوارج الذين خرجوا من عسكر على بعد صفين أنه كفر ومن معه من الصحابة حيث حكم الرجال فى أمر الحرب الواقعة بينهم وبين معاوية وقالوا إنه حكَّم الرجال فى دين الله والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف:40] , وتلك كبيرة ومرتكب الكبيرة فى رأيهم كافر, فإذا كان التأويل مقطوعًا بفساده فلا يعتبر أن هناك تأويلاً ما (1) . والمنعة والشوكة هى الكثرة والقوة, كثرة عدد الخارجين أو قوتهم بحيث يمكن معها مقاومة تدعوه إلى احتمال كلفة من بذل مال وإعداد رحال ونصب قتال ونحو ذلك ليردهم إلى الطاعة. ويعتبرون فى مذهب أحمد النفر اليسير كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم ممن لا منعة لهم ولو كانوا مسلحين يحسنون القتال (2) . ويشترط الشافعيون لوجود المنعة والشوكة أن يكون فى الخارجين مطاع ولو لم يكن إمامًا عليهم يسمعون له ويطيعون؛ لأنه الشوكة لمن لا مطاع لهم, فمهما بلغ عدد الخارجين ومهما كانت قوتهم فلا شوكة ما لم يكن فيها مطاع (3) .   (1) حاشية ابن عابدين ج4 ص427, نهاية المحتاج ج7 ص382, 383, كشاف القناع ج4 ص96. (2) حاشية ابن عابدين ج3 ص428, نهاية المحتاج ج7 ص382, كشاف القناع ج4 ص96, المغنى ج10 ص49, أسنى المطالب ج4 ص111. (3) نهاية المحتاج ج7 ص383. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 وحكم الخارجين بلا تأويل والخارجين بتأويل ولا شوكة لهم عند أبى حنيفة وأحمد هو حكم قطَّاع الطريق فيعاملون على هذا الأساس. وكتب الحنابلة والأحناف تجعل حكمهم حكم قطاع الطريق دون تفصيل مما قد يوهم بأنهم يقرون كذلك دون قيد ولا شرط. أما حكمهم عند الشافعى فهو حكم غيرهم من أهل العدل ويحاسبون على ما يأتونه من أفعال: فإن كونت جريمة الحرابة عوقبوا على الحرابة, وإن كونت جرائم أخرى عوقبوا عليها. ويلاحظ أن لا فرق بين الحنفيين والحنابلة وبين الشافعيين فى هذه المسألة؛ لأن الأحناف والحنابلة وإن اعتبروهم محاربين إلا أنهم لا يعاقبونهم بعقوبة الحرابة إلا إذا توفرت شروط الحرابة وإن سموهم قطاعًا بإطلاق: لأن الخارجين إذا لجأوا للقوة فلن يفعلوا إلا أن يخيفوا الطريق ويأخذوا الأموال ويقتلوا من تعرض لهم فتكون جرائمهم بطبيعة الحال وظروف الخروج حرابة, فكأنهم نظروا إلى واقع الحال فى إعطائهم حكم المحاربين, أما الشافعيون فنظروا إلى الأصل وقالوا إنهم من أهل العدل فإذا ارتكبوا جريمة وتوفرت شروطها أخذوا بها, وهكذا لا نجد ثمة فرق بين الفريقين وإن اختلفوا فى تعبيراتهم (1) . وإذا كان الرأى الراجح فى مذهب أحمد أن المتأول بلا شوكة يعتبر محاربًا فإن بعض فقهاء المذهب لا يشترط الشوكة مع التأويل, فلا فرق عنده بين الكثير والقليل ما دام الخروج أساسه التأول ويعتبر المتأول بلا شوكة باغيًا لا محاربًا, وحجة القائلين بالشوكة أن ابن ملجم - لما جرح عليًا قال على للحسن: إن برئت رأيت رأيى وإن مت فلا تمثلوا به - لم يثبت لفعله حكم البغاة كما أن إثبات حكم البغاة للعدد اليسير يشجع على الخروج ويؤدى إلى إتلاف أموال الناس؛ لأن البغاة يسقط عنهم ضمان ما أتلفوه (2) . وحجة الذين لا يشترطون الشوكة أن الخروج أساسه التأول   (1) شرح فتح القدير ج4 ص48, 49, بدائع الصنائع ج7 ص140, أسنى المطالب ج4 ص48, كشاف القناع ج4 ص96. (2) المغنى ج10 ص49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 لا الشوكة وعقيدة الخارج لا عدد من يشاركونه تلك العقيدة, فلا معنى لاشتراط الشوكة. أما الخارجون بتأويل وشوكة فهم البغاة عند أبى حنيفة والشافعى سواء رأوا رأى الخوارج أو لم يروه, ولا تعتبر الخوارج عندهما كفرة ولا فسقة وإنما بغاة لا غير (1) . واختلف الحنابلة فى الخوارج الذين يكفِّرون بالذنب ويكفِّرون عثمان وعليًا وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة, ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويرون سبى نسائهم, والبعض يراهم بغاة لا غير, وهذا هو رأى أبى حنيفة والشافعى وجمهور الفقهاء, والبعض يراهم بغاة وفسقة فى وقت واحد, ويرون استتابتهم فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم, وهذا هو رأى مالك وسنذكره فيما بعد. على أن أبا حنيفة يعتبر أيضًا الخوارج فسقة باعتقادهم ولكنه يعاملهم معاملة البغاة ولا ينظر إلى الفسق إلا فى قبول شهادتهم وقضائهم (2) . ويرى البعض الآخر - ورأيهم الراجح فى كذهب أحمد - أن الخوارج مرتدون فحكمهم حكم المرتدين لا حكم البغاة ومن ثم تباح دمائهم وأموالهم, فإن تحيزوا فى مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار, وإن كانوا فى قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين فإن تابوا وإلا قتلوا حدًا وكانت أموالهم فيئًا لا يرثهم ورثتهم المسلمون. وحجة أصحاب هذا الرأى ما رواه أبو سعيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج قوم يحقرون صلاتكم مع صلاتهم, وصيامكم مع صيامهم, وأعمالكم مع أعمالهم, يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يَمْرُقُون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة, ينظر من النصل فلا يرى شيئًا, وبنظر فى القدح فلا يرى شيئًا, وينظر فى الريش فلا يرى شيئًا, ويتمادى فى الفُوق".   (1) شرح فتح القدير ج4 ص48, 49, بدائع الصنائع ج8 ص140, نهاية المحتاج ج7 ص382, 385, أسنى المطالب ج4 ص111, 113, المهذب ج2 ص234, 238. (2) شرح فتح القدير ج4 ص416. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 وفى رواية أخرى: "يخرج قوم فى آخر الزمان أحداث الأسنان, سفهاء الأحلام, يقولون من خير قول البرية, يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, فإن لقيتهم فاقتلهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة". أما القائلون بأنهم بغاة أو بغاة فسقة فيحتجون بأنه لم يقل بتكفيرهم أحمد من الفقهاء, وإنما الذى قال به بعض فقهاء الحديث لا كلهم, ويفسرون عبارة "يتمادى فى الفوق" بأن الحديث لم يكفرهم لأنهم علقوا من الإسلام بشيء بحيث يشك فى خروجهم منه, ويحتجون أيضًا بما روى عن على أنه لم يقاتل أهل النهروان إلا بعد أن قتلوا عبد الله بن خباب وأنه لم يبدرهم بقتال, وقال لأصحابه: لا تبدروهم بقتال, وبعث إليهم: أقيدونا بعبد الله بن خباب. قالوا: كلنا قتله, فحينئذ استحل قتالهم لإقرارهم على أنفسهم بما يوجب القتل, ولو كانوا كفارًا لبدرهم بالقتال ولما طالب بالقَوَد من قتلة عبد الله بن خباب. كذلك يحتجون بما ذكره ابن عبد البر عن على أنه سئل عن أهل النهروان: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل فما هم؟ قال: هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا, وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم. وأخيرًا فإنهم يحتجون بأن عليًا لما جرحه ابن ملجم قال للحسن: أحسنوا إساره؛ فإن عشتُ فأنا ولى دمي, وإن مت فضربة كضربتي, أى أنه أشار بالقصاص منه ولو كان كافرًا لَمَا اقتص منه لأن الكافر مباح الدم بكفره (1) . ويختلف مذهب مالك عن المذاهب الثلاثة فيمن يعتبره باغيًا, فالباغى عند مالك هو كل من امتنع عن الطاعة فى غير معصية بمغالبة ولو تأويلاً, فكل من خرج بمغالبة فهو باغٍ سواء كان متأولاً أو غير متأول, ذا منعة وشوكة أو ليس له شوكة ومنعة, ويجوز أن يكون الباغى فردًا واحدًا ويجوز أن يكون البغى من أكثر من واحد, والخوارج الذين يكفِّرون بعض الصحابة ومَنْ على   (1) المغنى ج10 ص48- 52, كشاف القناع ج4 ص96. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 غير رأيهم من المسلمين ويستحلون الدماء والأموال وسبى النساء, هم عند مالك بغاة وليسوا كفرة وإنما هم فسقة فى رأيه ولهذا إذا ظفر بهم الإمام العدل أن يستتيبهم وغيرهم من أهل الأهواء (1) . ومذهب الظاهريين على أن البغاة قسمان لا ثالث لهما, قسم خرجوا على تأويل فى الدين فأخطأوا فى تأويلهم كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق, وقسم أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام الحق أو على من هو فى السيرة مثلهم, فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق أو إلى أخذ مال من لقوا أو سفك الدماء هملاً انتقل حكمهم إلى حكم المحاربين وهم ما لم يفعلوا ذلك فى حكم البغاة. والمتأولون قسمان: قسم أخطأ فى التأويل وله عذر فى تأويله كأصحاب معاوية, وقسم من المتأولين لا عذر له فى تأويله كمن قام رأى الخوارج ليخرج الأمر على قريش أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم أو تكفير أهل الذنوب أو استقراض المسلمين أو قتل الأطفال والنساء وإظهار القول بإبطال القدر أو إلى منع الزكاة, فهؤلاء وأمثالهم لا عذر لهم بالتأويل الفاسد لأنها جهالة تامة. والقائمون لغرض الدنيا أو للعصبية كما فعل يزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان فى القيام على ابن الزبير, وكما فعل مروان بن محمد فى القيام على يزيد بن الوليد, فهؤلاء لا يعذرون لأنهم لا تأويل لهم أصلاً وعملهم بغى مجرد (2) . أما من قام يدعو إلى أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو إلى إظهار القرآن والسنن والحكم بالعدل فليس بغيًا بل الباغى من خالفه, فإذا أريد بظلم فمنع نفسه فإنه على حق سواء أراد الإمام أو غيرة (3) . ويرى الظاهريون أن البغاة ليسوا فقط من خرجوا على الإمام وإنما الباغى   (1) مواهب الجليل ج6 ص277, 278, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, 61, تبصرة الحكام ج2 ص362. (2) المحلى ج11 ص97, 98. (3) المحلى ج11 ص98. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 هو من بغى على أخيه المسلم, فيجوز أن يكون الباغى سلطانًا ويجوز أن يكون فردًا, فإذا كان الباغى هو السلطان كان على المسلمين أن يقاتلوا الباغى حتى يفئ إلى أمر الله, وعلى هذا يصح أن يكون الباغى فردًا ويصح أن يكون جماعة (1) . وخلاصة رأى الظاهريين أن كل من خرج مغالبة على الإمام بتأويل أو غير تأويل فهو باغٍ سواء كان فرد أو جماعة ما لم يكن خروجه بحق فإنه ليس باغيًا. والباغى عند الشيعة الزيدية هو من يظهر أنه محق والإمام مبطل وحاربه أو عزم على المحاربة وله فئة أو منعة, أو قام بما أمره للإمام (2) . فالبغى لا يكون إلا من جماعة يكون لهم منعة وعدد وتأويل, وهذا يتفق مع مذهب أبى حنيفة والشافعى وأحمد إلى حد كبير. كما يتفق مذهب الظاهريين مع مذهب مالك, ولا يعتبر الخارج بحق باغيًا عند بعض المالكيين وأبى حنيفة والظاهريين (3) , وعلى مثل هذا الرأى الشيعة الزيدية (4) . أما عند الشافعى وأحمد وبعض المالكيين فيعتبر الخارج باغيًا ولو كان خارجًا بحق وسواء كان على صواب أو على خطأ؛ لأن الخروج ليس هو الطريق الصحيح الذى يؤدى لإقرار الحق وتصحيح الخطأ، فإذا لم يكونوا بغاة فيما يطلبون فهم بغاة فى اختيار الوسيلة التى يريدون بها الوصول إلى حقهم لأنها تؤدى إلى الفساد وزعزعة أركان الدولة, ولأنه من المحرم عليهم الخروج على من تثبت إمامته, لأن من ثبتت إمامته تجب طاعته. على أن فى مذهب الشافعى من يرى أن الخروج على الإمام الجائر ليس بغيًا إذا كان الخروج لإزالة جور أو ظلم, ولكن رأيهم مرجوح فى المذهب (5) . ويعتبر الخروج بحق فى مذهب أبى حنيفة وعند القائلين به من المالكيين إذا   (1) المحلى ج11 ص99. (2) الروض النضير ج4 ص331. (3) مواهب الجليل ج6 ص477, شرح الزرقاني, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, شرح فتح القدير ج4 ص408, المحلى ج11 ص98, 99, حاشية ابن عابدين ج3 ص426. (4) تتمة شرح الروض النضير ج4 ص8, 9. (5) أسنى المطالب, وحاشية الشهاب الرملى ج4 ص111, كشاف القناع ج4 ص96. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 كان الخوارج قد فعلوا ذلك لظلم ظلمهم به الإمام وعليه أن يترك الظلم وينصفهم, ولا ينبغى للناس أن يعينوا الإمام عليهم؛ لأن فى ذلك إعانة على الظلم وتعاون على الإثم والعدوان. ويرون فى مذهب مالك أن على الناس أن يعينوا الخارجين على الإمام, بينما يرى الحنفية أن ليس للناس إعانة الخارجين لأن فيه إعانة على خروجهم على الإمام. أما إذا كان الخروج بدعوى الحق والولاية فقالوا الحق معنا فهم أهل بغى عند أبى حنيفة, وعلى كل من يقوى على القتال أن ينصر الإمام على هؤلاء الخارجين. أما المالكيون فيرون نصر الخارجين إذا كان الخارج عليه عدلاً أو كان أقل فسقًا وجورًا ما دام الإمام جائرًا فاسقًا (1) . ويعتبر الخروج بحق فى مذهب الظاهريين إذا كان لظلم ظلمهم به الإمام أو كان للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فتعرض لهم الإمام, أو خرج على الإمام الجائر إمام عدل أو أقل فسقًا وجورًا (2) . ويفترق مذهب الظاهريين عن المذاهب الأربعة ومذهب الشيعة الزيدية فى اعتبار السلطان باغيًا, فهذه المذاهب لا تعتبر السلطان باغيًا ولو كان جائرًا وإنما البغاة هم الخارجون على الإمام. وقد رأينا أن بعض الفقهاء يعتبرون الخارجين بغاة سواء كانوا على حق فى خروجهم أو كانوا على غير الحق, بينما يراهم البعض بغاة إذا كانوا على غير الحق فقط فإن كانوا على حق فليسوا بغاة, على أن القائلين بهذا يرون هم ومخالفوهم أن الإمام ليس له أن يقاتل الخارجين قبل أن يسألهم عن سبب خروجهم, فإذا ادعوا مظلمة أو شبهة كان على الإمام أن يرد المظالم ويكشف الشبهات ثم يدعوهم بعد ذلك للطاعة, فإن لم يعودوا قاتلهم لأنهم يصبحون بامتناعهم عن العودة للطاعة بغاة ولو كانوا قد خرجوا فى أول الأمر بحق (3) . * * *   (1) حاشية ابن عابدين ج3 ص437, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, مواهب الجليل ج6 ص277. (2) المحلى ج11 ص97, 98. (3) أسنى المطالب ج4 ص114, كشاف القناع ج4 ص96, المغنى ج10 ص53, حاشية ابن عابدين ج4 ص427, 429, شرح فتح القدير ج4 ص409, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 الركن الثانى: أن يكون الخروج مغالبة 663- يشترط ليكون الخروج بغيًا أن يكون مغالبة أى أن يكون استعمال القوة هو وسيلة الخروج وأن يكون الخروج مصحوبًا بالمغالبة أى باستعمال القوة, فإذا كان الخروج غير مصحوب باستعمال القوة فلا يعتبر بغيًا كرفض مبايعة الإمام بعد أن بايعت له الأغلبية ولو نادى الخارجون بعزل الإمام أو بعصيانه وعدم طاعته أو بالامتناع عن أداء ما عليهم من واجبات تقوم الدولة على استيفائها. ولكن إذا فعل الخارجون شيئًا محرمًا عوقبوا عليه باعتباره جريمة عادية. ومثل الامتناع عن البيعة ما وقع من بعض الصحابة فى صدر الإسلام, فقد امتنع على عن مبايعة أبى بكر أشهر ثم بايع, ورفض سعد بن عبادة مبايعته ولم يبايعه حتى مات. وكامتناع عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير عن المبايعة ليزيد. ومن الأمثلة على ذلك ما وقع من الخوارج فى عهد عليّ, فإن عليًا لم يتعرض لهم حتى استعملوا القوة, ولم يعتبرهم بغاة إلا بعد استعمالها. وكان يخطب يومًا فقال رجل بباب المسجد: لا حكم إلا لله, وهى عبارة كان الخوارج يتنادونها يعرِّضون بقبول على التحكيم. فقال على: كلمة حق أريد بها باطل, لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله, ولا نمنعكم من الفيء ما دامت أيديكم معنا, ولا نبدؤكم بقتال. وكان يصلى يومًا فناداه رجل من الخوارج: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين؛ يعرِّض به على اعتبار أنه كفر بقبول التحكيم, فأجابه على: فاصبروا إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. ويدللون على هذا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه فى المدينة فلأن لا تتعرض لأهل البغى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 وهم من المسلمين أولى. وتلك كانت سيرة عمر بن عبد العزيز فى الخوارج: كتب إليه عدى بن أرطأة أن الخوارج يسبونك, فكتب إليه: إن سبونى فسبوهم, وإن شهروا السلاح فأشهروا عليهم, وإن ضربوا فاضربوا. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الولاة فى شأن الخوارج فقال: إن كان رأى القوم أن يسيحوا فى الأرض من غير فساد على الأئمة ولا على أحد من أهل الذمة ولا على قطع سبيل من سبل المسلمين فليذهبوا حيث شاءوا, وإن كان رأيهم القتال فوالله لو كان أبكارى خرجوا رغبة عن جماعة المسلمين لأرقت دماءهم ألتمس بذلك وجه الله. ومن الأمثلة على ذلك أيضًا مقالة على بعد أن جرحه ابن ملجم, قال على: أطعموه واسقوه واحبسوه, فإن عشت فأنا ولى دمى أعفو إن شئت وإن شئت استقدت, وإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به. فقد اعتبر على جريمة ابن ملجم جريمة عادية ولم يعتبره باغيًا لأن خروجه لم يكن مغالبة (1) . ويروى الحضرمى يقول: دخلت مسجد الكوفة من قِبَل أبواب كندة, فإذا نفر خمسة يشتمون عليًا وفيهم رجل عليه بُرْنُس يقول: أعاهد الله لأقتلنه, فتعلقت به وتفرقت أصحابه عنه, فأتيت به عليًا فقلت: إنى سمعت هذا يعاهد الله ليقتلنك, فقال: ادْنُ, ويحك من أنت؟ فقال أنا سور المنقرى. فقال على: خل عنه. فقلت: أخلى عنه وقد عاهد الله ليقتلنك؟! قال: أفأقتله ولم يقتلني؟ (2) . ويعتبر الخروج بغيًا عند مالك والشافعى وأحمد والظاهريين حينما يبدأ الخارجون باستعمال القوة فعلاً, أما قبل استعمالها فلا يعتبر الخروج بغيًا ولا يعتبرون بغاة ويعاملون كما يعامل العادلون ولو تحيزوا فى مكان وتجمعوا ولو كانوا يقصدون استعمال القوة فى الوقت المناسب, ولكن ليس ثمة ما يمنع من   (1) المهذب ج2 ص237, 238, مواهب الجليل ج6 ص278, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, المغنى ج10 ص58, 60, كشاف القناع ج4 ص99. (2) شرح فتح القدير ج4 ص409. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 منعهم من التحيز وتعزيرهم على التجمع بقصد استعمال القوة ولإثارة الفتنة. أما أبو حنيفة فيعتبرهم بغاة, ويعتبر حالة البغى قائمة من وقت تجمعهم بقصد القتال والامتناع من الإمام لأنه لو انتظر حقيقة قتالهم ربما لا يمكنه الدفع. ومذهب الشيعة الزيدية يماثل مذهب أبى حنيفة فى هذا. والأصل عند الجميع أن البغاة لا يحل قتالهم إلا إذا قاتلوا, فمن نظر إلى حقيقة القتال اشترط أن يقع القتال فعلاً, ومن نظر إلى وجودهم فى حال قتال اكتفى بتجمعهم بقصد القتال والامتناع (1) , على أن الرأى الراجح فى مذهب أحمد يرى قتل الخوارج لأنهم كفار بتكفيرهم المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم. ولا يبدأ الإمام قتال الخارجين إلا بعد أن يراسلهم ويسألهم عن سبب خروجهم, فإن ذكروا مظلمة أزالها أو شبهة كشفها, لأن ذلك طريق إلى الصلح ووسيلة إلى الرجوع إلى الحق, وقد فعل على هذا فى وقعة الجمل وفعله مع الحرورية, ولأن الله جل شأنه يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِي} [الحجرات:9] , فيجب أن يتقدم ما قدمه الله وهو الصلح ويتأخر ما أخره وهو القتال, ثم يدعوهم بعد ذلك للطاعة فإن استجابوا وإلا قاتلهم, إلا أن يعاجلوه بالقتال فله أن يقاتلهم دون أن يسألهم. ويرى أحمد أن له أيضًا إذا خشى كَلَبَهُم فليس من المتعين أن يراسلهم (2) . وقد راسل على أهل البصرة قبل وقعة الجمل, وأمر أصحابه أن لا يبدءوهم بقتال, ثم قال: هذا يوم من فَلَج فيه فَلَج يوم القيامة, ثم سمعهم يقولون: الله أكبر يا ثارات عثمان, فقال: اللهم أكب قتلة عثمان على وجوههم. كذلك بعث عبد الله بن عباس للحرورية فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف.   (1) شرح فتح القدير ج4 ص410, الروض النضير ج4 ص331, شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص60, نهاية المحتاج ج7 ص383. (2) المغنى ج10 ص53, كشاف القناع ج4 ص96, شرح فتح القدير ج4 ص409, أسنى المطالب ج4 ص144, المحلى ج11 ص99. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 وإنما وجبت المراسلة والدعوة للطاعة لأن المقصود من القتال هو كفهم ودفع شرهم لا قتلهم؛ فإذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال لما فيه من الضرر بالفريقين, فإن سأله الخوارج لإنظار لمدة معينة أنظرهم إن رأى فى ذلك مصلحة, وإن ظن أنهم يريدون المهلة ليكيدوا له لم ينظرهم ثلاثة أيام (1) , ويشترط الزيدية أن تكون الدعوة للطاعة, وإذا أمكن دفع البغاة بدون القتل لم يجز قتلهم لأن المقصود دفعهم وليس إهلاكهم, ولأن المقصود إذا حصل بما دون القتل لم يجز القتل من غير حاجة. وإذا حضر مع البغاة من لا يقاتل فيرى الحنابلة أنه لا يجوز قتله, وهذا هو رأى بعض الشافعيين, ويرى الآخرون قتله مادام فى صف البغاة ولو لم يقاتل لأنه يعتبر رِدْءًا لهم. والظاهر فى المذاهب الأخرى أن حكم من حضر المعركة وكان فى صفوف البغاة أن له حكمهم إذا أمكن اعتباره فى مركز المقاتل أو المدافع (2) . وتعتبر حالة البغى قائمة طالما كان الباغى فى مركز المقاتل أو المدافع, فمن ألقى سلاحه من البغاة أو كف عن القتال أو استسلم أو عجز عن القتال كالجريح جرحًا يمنعه من القتال أو هرب غير متحيز إلى فئة أو متحرفًا لقتال فلا يجوز قتله لأنه لا يجوز قتاله حيث زالت حالة البغى وهى استعماله القوة. وعلى هذا لا يقتل المدبر ولا الأسير ولا يجهز على الجريح سواء كانت حالة الحرب قائمة أو انتهت, وهذا هو ما يراه الشافعى وأحمد. وفى مذهب أحمد: لا يتبع المدبر أصلاً ولا يقتل ولو كان متحيزًا إلى فئة (3) . ومذهب الشافعى على إتباع المنهزمين إذا انهزموا إذا انهزموا مجتمعين أو انسحبوا   (1) شرح الأزهار ج4 ص538, المغنى ج10 ص54, أسنى المطالب ج4 ص114, المحلى لابن حزم ج11 ص116. (2) المغنى ج10 ص55, المهذب ج2 ص235, المحلى ج11 ص100. (3) المغنى ج10 ص55, 56, 63, كشاف القناع ج4 ص98. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 بنظام وكانوا غير متفرقين, فإذا انهزموا متفرقين بحيث تزول شوكتهم لم يتبعوا, وإلا اتبعوا حتى يتبددوا وتزول شوكتهم, ومن تخلف منهم عجزًا أو ألقى سلاحه تاركًا للقتال لم يقاتل, ويقاتل من ولَّى متحرفًا للقتال أو متحيزًا لفئة قريبة أو بعيدة (1) . فإذا انهزموا وولوا مدبرين, فإن كانت لهم فئة ينحازون إليها فيبقى لأهل العدل أن يقتلوا مدبرهم ويجهزوا على جريحهم لئلا يتحيزوا إلى الفئة فيمتنعوا بها فيكرَّوا على أهل العدل, وأما أسيرهم فإن شاء الإمام قتله استئصالاً لشأفهم وإن شاء حبسه لاندفاع شره بالأسر والحبس, وإن لم يكن لهم فئة يتحيزون إليها لم يتبع مدبرهم ولو يجهز على جريحهم ولو يقتل أسيرهم (2) . وبعض أصحاب الشافعى يرون رأى أبى حنيفة (3) . والقاعدة عند مالك أن لا يتبع المنهزم ولا يجهز على الجريح إلا إذا خيف منهم أو انحازوا إلى فئة, ففى هذه الحالة يتبع المنهزم ويذفَّف على الجريح, أما الأسير فإذا كانت الحرب قائمة فللإمام قتله ولو كانوا جماعة إذا خيف أن يكون منهم ضرر, فإذا انقطعت الحرب فلا يقتل (4) . على أن بعض المالكيين يمنع قتل الأسير وتتبع المدبر والإجهاز على الجريح بصفة مطلقة (5) . ويرى الظاهريون أنه لا يجوز قتل الأسير بأى حال ولو أن قتله كان مباحًا قبل الأسار لأن حل قتله قبل لإسار ليس مطلقًا, وإنما الذى أحل قتله هو قتاله أو دفاعه, فإذا لم يكن باغيًا أى مقاتلاً أو مدافعًا حرم قتله لزوال حالة البغي, وهو إذا أسر فليس حينئذ باغيًا ولا مدافعًا فدمه محرم, وكذلك لو ترك   (1) أسنى المطالب ج4 ص114. (2) بدائع الصنائع ج7 ص140, 141, شرح فتح القدير ج4 ص411, 412. (3) المغنى ج10 ص63. (4) شرح الزرقانى ج8 ص62, مواهب الجليل ج6 ص278. (5) مواهب الجليل ج6 ص277. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 القتال وقعد مكانه ولم يدافع لحرم دمه وإن لم يؤسر لأن الله جل شأنه قال: {فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] , فمن فاء فلا يقاتل, وإنما حل قتال الباغى بمقاتلته ولم يحل قتله قط فى غير المقاتلة (1) , وكذلك الحكم فى الجرحى؛ لأن الجريح إذا قدر عليه فهو أسير وأما ما لم يقدر عليه وكان ممتنعًا فهو باغ. أما المدبرون فإن كانوا تاركين للقتال جملة منصرفين إلى بيوتهم فلا يحل اتباعهم أصلاً, وإن كانوا منحازين إلى فئة أو لاذين بمعقل يمتنعون فيه أو زائلين عن الغالبين لهم من أهل العدل إلى مكان يأمنوهم فيه ثم يعودون إلى حالهم فيتبعون (2) ؛ لأن الله افترض قتالهم حتى يفيئوا لأمر الله ولم يفيئوا بعد. ومذهب الشيعة الزيدية كمذهب أبى حنيفة (3) . وإذا قتل من البغاة أسير أو جريح أو مدبر عند من لا يجيزون قتله فقاتله مسئول عن قتله جنائيًا. ويرى بعضهم القصاص من القاتل لأنه قتل معصومًا لا شبهة فى قتله. ويرى البعض أن لا قصاص لأن فى قتلهم اختلافًا بين الأئمة فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص عند من يقولون بأن الشبهات تدرأ الحدود. والظاهريون لا يعترفون بأن الحدود تدرأ بالشبهات. فمقتضى مذهبهم القصاص فى كل الأحوال (4) . ويحبس الأسرى - إلا من دخل منهم فى الطاعة فيخلى سبيله - ويظلون محبوسين حتى تنتهى الحرب. وإذا كان الأسير امرأة أو صبيًا أو شيخًا فانيًا أخلى سبيلهم ولم يحبسوا فى رأى. وفى الرأى الآخر يحبسون لأن فى ذلك كسرًا لقلوب البغاة. والرأيان فى مذهب أحمد والشافعي, أما مالك وأبو حنيفة فيريان الحبس (5) .   (1) المحلى ج11 ص100. (2) المحلى ج11 ص101. (3) شرح الروض النضير ج4 ص332, شرح الأزهار ج4 ص534. (4) المغنى ج10 ص64, المهذب ج2 ص336. (5) المهذب ج2 ص336, المغنى ج10 ص64, شرح فتح القدير ج4 ص412, شرح الزرقانى ج8 ص62. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 ويجوز تبادل الأسرى وأخذ الرهائن بين الفريقين عند الضرورة ولكن لا يجوز لأهل العدل قتل الأسرى أو الرهائن على سبيل المعاملة بالمثل لو قتل البغاة الرهائن أو الأسرى لأنهم مسلمون غير مقاتلين ولا مغالبين. مع ملاحظة ما سبق أن قلناه من أن بعض الفقهاء يجيز قتل الأسرى فى حالة قيام الحرب, أما منع قتل الرهائن فلا خلاف فيه لأنهم غير مقاتلين ولأنهم صاروا آمنين بالموادعة (1) . ويرى مالك وأبو حنيفة أنه يجوز قتال البغاة بما يعم إتلافه كالحريق والتغريق ورمى المنجنيق ويقاتلون بكل ما يقاتل به المشركون, لأن القتال مقصود به دفع شرهم وكسر شوكتهم فيقاتلون بكل ما يؤدى لذلك (2) . ويرى بعض المالكيين أن لا يقاتلوا بما يعم إتلافه إذا كان فيهم نساء وذرية, ولا يراه البعض الآخر (3) . ومذهب الشافعى وأحمد أن لا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه كالنار والمنجنيق والتغريق من غير ضرورة, لأنه لا يجوز قتل من يقاتل وما يعم إتلافه يقع على من يقاتل ومن لا يقاتل, فإن دعت إلى ذلك ضرورة مثل أن يحتاط بهم البغاة ولا يمكنهم التخلص إلا برميهم بما يعم إتلافه جاز ذلك, أما إذا قاتل البغاة بما يعم إتلافه فيجوز قتالهم بمثله (4) . ويجيز الشيعة الزيدية القتل بما يعم إتلافه بشرطين: أولهما: أن يتعذر الوصول إلى البغاة إلا بذلك كأن يتحصنوا فى حصن أو بيوت مانعة أو فى سفينة البحر, ثانيهما: أن يكون بينهم من لا يجوز قتله كالصبيان والنساء, فإن لم يجتمع   (1) المحلى ج11 ص117, 118, شرح فتح القدير ج4 ص415, المغنى ج10 ص64, أسنى المطالب ج4 ص114. (2) بدائع الصنائع ج7 ص141, شرح فتح القدير ج4 ص411. (3) شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص61. (4) أسنى المطالب ج4 ص115, المغنى ج10 ص57. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 هذان الشرطان يجوز استعمال ما يعم إتلافه إلا لضرورة ملحة (1) . ويجيز الظاهريون القتال بما يعم تلفه بشرط أن لا يؤدى إلى قتل غير البغاة؛ لأن من لا يقاتل لا يحل قتله (2) . ويكره للعادل قتل أبيه أو أمه إذا كان أحدهما باغيًا ولكن القاتل يرث القتيل مع هذا لأنه عمد غير عدوان, ولا يكره قتل الجد ولا الأخ ولا الابن (3) . أما أبو حنيفة فيكره للعادل أن يقتل باغيًا ذا رحم محرم منه ابتداء إلا إذا أراد الباغى قتله فله أن يدفعه, ولا يحرم العادل ميراث الباغي, أما الباغى إذا قتل العادل فيحرم من ميراثه عند أبى يوسف. وعند أبى حنيفة ومحمد لا يحرم إن كان يعتقد أنه قتله بحق ولا يزال على هذا الاعتقاد (4) . ومذهب الشافعى كمذهب أبى حنيفة فى كراهة القتل, ولكنه لا يورث العادل ولا الباغى شيئًا من مال المقتول لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لقاتل شيء", وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما: يكره قتل ذى الرحم المحرم, والثانى: لا يرثه لأنه ليس لقاتل شيء, وأما الباغى إذا قتل العادل فإنه لا يرثه لأنه قتله بغير حق (5) . وحجة القائلين بالكراهة قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] , ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - كف أبا حذيفة ومنعه عن قتل أبيه. ورأى الظاهريين أن قتل ذى الرحم غير مكروه وإن كانوا لا يختارون أن يعمد المرء إلى أبيه أو أخيه خاصة ما دام يجد غيرهما, فإن رأى أباه أو أخاه يقصد مسلمًا كان عليه أن يدفعه عن المسلم (6) .   (1) شرح الأزهار ج4 ص541, 542. (2) المحلى ج11 ص116, 117. (3) شرح الزرقانى ج8 ص62. (4) بدائع الصنائع ج7 ص141, 142, شرح فتح القدير ج4 ص414, 416. (5) المغنى ج10 ص67, 68, أسنى المطالب ج4 ص115. (6) المحلى ج11 ص107. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 ولكن الشيعة لا يجيزون للمسلم أن يقتل ذا رَحِمه ولو كان كافرًا إلا لأحد وجهين: أحدهما: أن يقتله مدافعًا عن نفسه أو غيره, الثانى: أن لا يندفع إلا بالقتل, ويرث العادل الباغى إذا قتله (1) . والبغى إذا كان يحل مقاتلة البغاة ويبيح دماءهم طالما كانوا باغين إلا أنه لا يبيح أموالهم حتى فى حالة البغي, فتظل أموالهم معصومة ولو وقعت فى يد العادلين. ويرى مالك أنه لا يجوز قطع أشجارهم ولا هدم دورهم ولا إتلاف أموالهم وإنما للإمام أن يستعين بأموال البغاة التى يمكن استعمالها فى القتال فيقاتلهم بها كالأسلحة والخيل والإبل حتى إذا تغلب عليهم رد عليهم ما استعان به وغيره (2) . ويرى أبو حنيفة أن أموال البغاة تظل على ملكهم لأن عليًا لما هزم طلحة وأصحابه أمر مناديه فنادى أن لا يقتل مقبل ولا مدبر بعد الهزيمة, ولا يفتح باب, ولا يستحل فرج ولا مال, وبعد موقعة النهروان جمع ما غنم من الخوارج فى الرحبة فمن عرف شيئًا أخذه حتى كان أخره قدر من الحديد لإنسان جاء فأخذه. ويرى أبو حنيفة ما يراه مالك من جواز استعمال السلاح والكُراع إن احتاجه أهل العدل لأن للإمام أن يستعين بمال العادل عند حاجة المسلمين إليه ففى مال الباغى أولى, أما بقية الأموال فتحبس عن البغاة لدفع شرهم وإضعافهم بذلك ولا ترد إليهم حتى يفيئوا فترد عليهم أو على ورثتهم, ويجوز للإمام أن يبيع من الأموال ما يحتاج نفقة ويحبس الثمن (3) . ويرى الشافعى أنه لا يجوز استعمال شىء من أموال البغاة وأنها ترد جميعًا بعد انتهاء الحرب لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه, لكن إذا اقتضيت الضرورة استعمال مال من أموال البغاة جاز استعماله كما لو تعين استعمال سلاحهم للدفاع أو استعمال خيلهم للتغلب عليهم, ويرى البعض أن   (1) شرح الأزهار ج4 ص541. (2) شرح الزرقانى, وحاشية الشيبانى ج8 ص61. (3) شرح فتح القدير ج4 ص412, 413. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 تؤدى أجرة المال المستعمل كما هو الشأن فى حالة الضرورة, ولا يرى البعض ذلك لأن الضرورة هنا منشؤها فعل البغاة ولم تنشأ من جهة المضطر (1) . وفى مذهب أحمد رأيان: أحدهما كمذهب أبى حنيفة ومالك, والثانى كمذهب الشافعي (2) . وكمذهب الظاهريين كمذهب الشافعى فهم يرون الحيلولة بين البغاة وبين كل ما يستعينون به على باطلهم من مال أو سلاح فيحبس عنهم حتى يفيئوا, ولا يجوز استعماله إذا اضطر أهل العدل لأن يدافعوا به عن أنفسهم (3) . ويرى الشيعة الزيدية أنه لا يجوز الاستعانة بأموال البغاة أيًا كان نوعها, فإذا استعملها الإمام كان ضامنًا لها (4) . على أن من الشيعة من يرى أن ما كان فى معسكر البغاة من الأموال يحل أخذه غنيمة لأهل العدل (5) . وللإمام أن يستعين على قتال البغاة ببغاة مثلهم حتى إذا انتصر دعا من معه إلى الطاعة, وليس له - عند أحمد والشافعى - أن يستعين على قتالهم بالكفار بل ولا بمن يرى قتلهم مدبرين من المسلمين. ويرى أبو حنيفة أن للإمام الاستعانة على البغاة إذا كان حكم أهل العدل هو الظاهر, وهذا هو رأى الشيعة الزيدية. أما الظاهريون فلا يوجبون الاستعانة بأهل الحرب وأهل الذمة إذا اضطرتهم حماية أنفسهم لذلك بشرط أن يوقنوا أنهم فى استنصارهم لا يؤذون مسلمًا ولا ذميًا فى مال ولا حرمة. أما الاستعانة بأهل البغى فلا يمنعها الظاهريون (6) .   (1) أسنى المطالب ج4 ص114, 115, (2) المغنى ج10 ص65, 66. (3) المحلى ج11 ص102. (4) شرح الأزهار ج4 ص542. (5) الروض النضير ج4 ص330. (6) المحلى ج11 ص113, شرح فتح القدير ج4 ص416, المغنى ج10 ص57, أسنى المطالب ج4 ص115, 116, شرح الزرقانى ج8 ص62, شرح الأزهار ج4 ص533. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 ولم أعثر على رأى مالك فى الاستعانة على البغاة بالذميين, وإن كان رأيه فى الجهاد أن لا يستعان بمشرك إلا فى خدمة الجيش المحارب فأولى ألا يستعان به فى محاربة مسلم. * * * الركن الثالث: القصد الجنائى (قصد البغي) 664- يشترط لوجود البغى أن يتوفر لدى الخارج القصد الجنائى, والقصد المطلوب توفره هو القصد الجنائى العام؛ أى قصد الخروج على الإمام مغالبة, فإذا كان الخارج لم يقصد من فعله الخروج على الإمام أو لم يقصد المغالبة فهو ليس باغيًا. ويشترط أن يكون الخروج على الإمام بقصد خلعه أو عدم طاعته أو الامتناع من تنفيذ ما يجب على الخارج شرعًا, فإن كان الخارج قد خرج امتناعًا عن المعصية فهو ليس باغيًا, وإذا ارتكب الباغى جرائم قبل المغالبة أو بعد انتهائها فليس من الضرورى أن يتوفر فيها قصد البغى لأنه لا يعاقب عليها باعتباره باغيًا وإنما باعتباره عادلاً, فيشترط أن يتوفر فى كل جريمة منها القصد الجنائى الخاص بها ليعاقب عليها بعقوبتها الخاصة. * * * مسئولية الباغى الجنائية والمدنية 665- تختلف مسئولية الباغى الجنائية والمدنية باختلاف الحالات التى يكون فيها, فمسئوليته قبل المغالبة وبعدها تختلف عنها فى حالة المغالبة. 666- مسئولية الباغى قبل المغالبة وبعدها: يسأل الباغى مدنيًا وجنائيًا عن كل ما يقع منه من الجرائم قبل المغالبة باعتباره مجرمًا عاديًا, وكذلك عن جرائمه التى تقع بعد انتهاء المغالبة, فإذا قتل اقتص منه إذا توفرت شروط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 القصاص, وإذا أخذ مالاً خفية عوقب باعتباره سارقًا إذا توفرت شروط السرقة, وإذا غصب مالاً أو أتلفه عوقب بالعقوبة المقررة للغصب والإتلاف, وإذا امتنع عن تنفيذ ما يجب عليه عوقب بالعقوبة المقررة للامتناع, وعليه الضمان العادى فى كل الأحوال إذا أتى ما يوجب الضمان كالسرقة والغصب والإتلاف. 667- مسئولية الباغى أثناء المغالبة: الجرائم التى تقع من البغاة أثناء المغالبة والحرب إما أن تكون مما تقتضيه حالة الحرب وإما أن لا تقتضيها حالة الحرب. فأما ما اقتضته حالة الحرب كمقاومة رجال الدولة وقتلهم والاستيلاء على البلاد وحكمها والاستيلاء على الأموال العامة وجبايتها وإتلاف الطرق والكبارى وإشعال النار فى الحصون ونسف الأسوار والمستودعات وغير ذلك مما تقتضيه طبيعة الحرب, فهذه الجرائم لا يعاقب عليها بعقوبتها العادية, وتدخل جميعًا فى جريمة البغي, والشريعة تكتفى فى البغى بإباحة دماء البغاة وإباحة أموالهم بالقدر الذى يقتضيه ردعهم والتغلب عليهم, فإذا ظهرت الدولة عليهم وألقوا سلاحهم عصمت دماؤهم وأموالهم وكان لولى الأمر أن يعفو عنهم أو أن يعزرهم على بغيهم لا على الجرائم والأفعال التى أتوها أثناء خروجهم, فعقوبة البغى بعد التغلب على البغاة هى التعزير, أما عقوبة البغى فى حالة المغالبة والحرب فهى القتال إن جاز أن نسميه عقوبة وما يتبعه من قتل وجرح وقطع, والواقع أن القتال لا يعتبر عقوبة وإنما هو إجراء دفاعى لدفع البغاة وردهم إلى الطاعة ولو كان عقوبة لجاز قتل البغاة بعد التغلب عليهم لأن العقوبة جزاء على ما وقع, ولكن من المتفق عليه أنه إذا انتهت حالة المغالبة امتنع القتال والقتل. والخلاف منحصر فى قتل الأسير والإجهاز على الجريح, حيث يجيزه البعض كما قدمنا عند حالة المغالبة, ولا يجيزه البعض الآخر, فإذا انتهت حالة المغالبة فالباغى معصوم الدم لأن البغى هو الذى أباح دمه, ولا بغى إذا لم تكن مغالبة. أما الجرائم التى تقع من الباغى أثناء المغالبة ولا تقتضيها طبيعة المغالبة فهذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 تعتبر جرائم عادية ويعاقب عليها بعقوبتها العادية ولو أنها وقعت أثناء الخروج والمغالبة كشرب الباغى الخمر مثلاً. 668- مسئولية الباغى المدنية: ليس على أهل البغى ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفوس وأموال إذا اقتضيت إتلافه ضرورة الحرب, فأما ما لم تكن هناك ضرورة لإتلافه فى حالة الحرب وما أتلف فى غير حالة الحرب فعلى البغاة ضمانة بلا خلاف. أما الأموال التى لم تتلف أو تلفت تلفًا جزئيًا فعلى البغاة ردها لأربابها وعليهم ضمان التلف الجزئى إذا لم تكن ضرورة الحرب هى التى اقتضت هذا التلف الجزئى. وهذا هو رأى أبى حنيفة وأحمد والرأى الصحيح هو مذهب الشافعي, على أن فى مذهب الشافعى رأيًا بتضمين البغاة كل ما أتلفوه من نفس ومال فى حالة الحرب وفى غير حالة الحرب لأنهم أتلفوه بعدوان. على أن القائلين بهذا الرأى لا يرون القصاص فى القتلى لأنهم يسقطونه بالشبهة فيلزمون البغاة بديات من قتلوا (1) , ويحتج القائلون بتضمين البغاة بأن أبا بكر قال لأهل الردة: تدون قتلانا ولا ندى قتلاكم, ولأنها نفوس وأموال أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح, فوجب الضمان كالذى تلف فى غير حالة الحرب, ويحتج القائلون بعدم الضمان بأن الفتنة الكبرى كانت بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أن لا يقام الحد على رجل استحل فرجًا حرامًا بتأويل القرآن, ولا يقتل رجل سفك دمًا حرامًا بتأويل القرآن, ولا يغرم ما أتلفه بتأويل القرآن, ولأن البغاة طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ فلا تضمن ما أتلفته على الأخرى كأهل العدل, ولأن تضمينهم يقضى إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلا يشرع كتضمين أهل الحرب, فأما قول أبى بكر رضى الله عنه فقد رجع عنه ولم يمضه فإن عمر قال له: أما أن يدوا قتلانا فلا, فإن قتلانا قتلوا فى سبيل الله تعالى على ما أمر الله, فوافقه أبو بكر ورجع إلى قوله ولم ينقل أنه غرم أحدًا شيئًا, على   (1) المهذب ج2 ص236, أسنى المطالب ج1 ص113, المغنى ج10 ص61, شرح فتح القدير ج4 ص414. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 أنه لو وجب التغريم فى حق المرتدين لم يلزم مثله فى حق البغاة؛ فإن أولئك كفار لا تأويل لهم وهؤلاء مسلمون لهم تأويل سائغ فلا يصح إلحاقهم بهم (1) . ويرى الشيعة الزيدية أن البغاة لا ضمان عليهم (2) . ويرى مالك عدم تضمين الباغى ولو كان مليئًا سواء أتلف نفوسًا أو أموالاً بشرطين: أولهما: أن يكون الباغى متأولاً, فإن لم يكن متأولاً ضمن, الثانى: أن يكون الإتلاف حدث حال البغى واقتضته ضرورة المغالبة (3) . ويسمى الباغى غير المتأول فى مذهب مالك معاندًا, ولكنهم لا يعتبرونه معاندًا إلا إذا كان خارجًا على عادل, فإن خرج على غيره فليس معاندًا ولو كان غير متأول وكان حكمه حكم المتأول. أما الظاهريون, فالبغاة عندهم ثلاثة أصناف: صنف تأولوا تأويلاً يخفى وجهه على كثير من أهل العلم كمن تعلق بآية خصصتها آية أو بحديث خصصه آخر أو نسخه نص آخر, فهؤلاء معذورون, حكمهم حكم الحاكم المجتهد يخطئ فيقتل مجتهدًا أو يتلف مالاً مجتهدًا أو يقضى فى فرج خطأ مجتهدًا ولم تقم عليه الحجة فى ذلك, ففى الدم دية على بيت المال لا على الباغى ولا على عائلته ويضمن المال كل من أتلفه, وهكذا أيضًا من تأول تأويلاً خرق به الإجماع بجهالة ولم تقم عليه الحجة ولا بلغته, وأما من تأول تأويلاً فاسدًا لا يعذر فيه, لكن خرق الإجماع أى شيء كان ولم يتعلق بقرآن ولا سنة فعليه القود فى النفس وما دونها, والحد فيما أصاب من حدود الله, وضمان ما استهلك من مال, وهكذا من قام فى طلب دنيا مجردًا بلا تأويل ومن قام عصبية (4) . وإذا غلب البغاة على بلد فجبوا الخراج والزكاة والجزية وأقاموا الحدود وقع ذلك موقعه, فإذا ظهر أهل العدل بعد على البلد وظفروا بأهل البغى لم يطالبوا بشيء مما جبى ولم يرجع به على من أُخذ منه, وهذا هو رأى مالك وأبى   (1) المغنى ج10 ص62. (2) نيل الأوطار ج7 ص79. (3) شرح الزرقانى ج8 ص62. (4) المحلى ج11 ص107. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 حنيفة والشافعى وأحمد, وحجتهم أن فى عدم الاعتداد بذلك إضرارًا بالرعية, على أنه إذا كان قد بقى من الأموال التى جبيت شيء فى يد البغاة استولى عليها الإمام لصرفها فى مصارفها (1) . ويقصر مالك عدم الضمان على الباغى المتأول دون غيره. ويرى الظاهريون أنه لا محل أن يكون حاكمًا إلا من ولاه الإمام الحكم, ولا أن يكون آخذًا للحدود إلا من ولاه الإمام ذلك, ولا أن يكون مُصَدِّقًا أو جابيًا إلا من ولاه الإمام ذلك, فكل من أقام حدًا أو أخذ صدقة أو قضى قطيعة وليس ممن جعل الله ذلك له بتقديم الإمام, فلم يحكم كما أمر الله, ولا أقام الحد كما أمره الله تعالى, ولا أخذ الصدقة كما أمره الله تعالي؛ فإن لم يفعل ذلك كما أُمر فلم يفعل شيئًا من ذلك بحق وإذا يفعله بحق فقد فعله بباطل, وإذا فعله بباطل فقد تعدى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] , والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" فإذا هو ظالم, فالظالم لا حكم له إلا رده ونقضه. وواضح من هذا أن من أخذ صدقة فعليه ردها لأنه أخذها بغير حق فهو متعد فعليه ضمان ما أخذ, إلا أن يوصله إلى الأصناف المذكورة فى القرآن فإذا أوصلها فقد تأدت الزكاة إلى أهلها. وصح من هذا أن كل حد أتاه فهو مظلمة لا يعتد به وتعاد الحدود ثانية ولابد وتؤخذ الدية من مال من قتلوه فورًا وأن يفسخ كل حكم حكموه ولابد. وليس أدل على ذلك مما رواه عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى العسر والسير والمنشط والمكره, وعلى أَثَرة علينا, وأن لا ننازع الأمر أهله, وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم". وعن عرفجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكون هَنَاتٌ وهنات, فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جمع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان", فصح أن لهذا   (1) شرح الزرقانى ج8 ص62, شرح فتح القدير ج4 ص413, أسنى المطالب ج4 ص113, المغنى ج10 ص68. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 الأمر أهلاً لا يحل لأحدهم أن ينازعهم إياه وأن تفريق هذه الأمة بعد اجتماعها لا يحل, وصح أن المنازعين فى الملك والرياسة مريدون تفريق جماعة هذه الأمة وأنهم منازعون أهل الأمر أمرهم, فهم عصاة بكل ذلك, وإذ هم عصاة فكل حكم حكموه وكل زكاة قبضوها وكل حد أقاموه كل ذلك منهم ظلم وعدوان, ومن الباطل أن تنوب معصية الله عن طاعته وأن يجزى الظلم عن العدل وأن يقوم الباطل مقام الحق (1) . ويرى الشيعة الزيدية أن للإمام أن يضمن البغاة ما اقتضوه من الحقوق التى إلى الإمام من واجبات أو خراج أو مظالم أو نحو ذلك (2) . وإذا أقام البغاة قاضيًا يصلح للقضاء فحكمه حكم أهل العدل, ينفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام أهل العدل ويرد منه ما يرد, فإن كان ممن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم لم يجز قضاؤه لأنه ليس بعدل, وهذا ما يراه مالك والشافعى وأحمد وأبو حنيفة, على أن مالكًا يشترط أن يكون البغاة متأولين, وما يثبت عند قاضى البغاة يثبت عند قاضى أهل العدل من حقوق ولو لم يكن قد حكم به, وإذا سمع شهودًا فكتب بها كتابًا صح كتابة إذا توفرت فى الشهود العدالة سواء كانوا من البغاة أم لا, ولكن أبا حنيفة لا يقبل شهادة البغاة مطلقًا لفسقهم (3) . مسئولية من يعين البغاة: قد يستعين البغاة بغيرهم من الذميين أو المحاربين, ولكل صنف حكمه. 669- الاستعانة بالذميين: يفرق مالك بين ما إذا كان الباغى متأولاً أو معاندًا والباغى المعاند عنده هو غير المتأول, فإن استعان البغاة المتأولين بذميين فحكم الذميين هو حكم البغاة الذين أعانوهم؛ يسألون جنائيًا عما يسألون   (1) المحلى ج11 ص111, 112. (2) شرح الأزهار ج4 ص557. (3) شرح الزرقانى ج8 ص62, شرح فتح القدير ج4 ص416, أسنى المطالب ج4 ص112, 113, المغنى ج10 ص70. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 عنه ويضمنون مدنيًا ما يضمنونه. وإذا استعان البغاة المعاندون بذميين اعتبر الذميون ناقضين لعهدهم وحلت دمائهم وأموالهم كالحربيين سواء بسواء. ويعتبر مالك هذه الحالة بأن يكون المعاند خارجًا على الإمام العدل, فإن كان الخروج على غيره فلا يعتبر الخارج معاندًا ولو كان غير متأول والذمى معه لا يعتبر ناقضًا (1) . ويرى أبو حنيفة أنه لو استعان أهل البغى بأهل الذمة فقاتلوا معهم لم يكن ذلك منهم نقضًا للعهد كما أن هذا الفعل من أهل البغى ليس نقضًا للإيمان, فالذين انضموا إليهم من أهل الذمة لم يخرجوا من أن يكونوا ملتزمين حكم الإسلام فى المعاملات وأن يكونوا من أهل الدار فحكمهم حكم البغاة مسئوليتهم جميعًا واحدة من الناحيتين الجنائية والمدنية (2) . وفى مذهب الشافعى وأحمد رأيان: أولهما: أن إعانة الذميين بالبغاة تنقض عهدهم كما لو انفردوا بقتال المسلمين, والثانى: أن عهدهم لا ينتقض لأن أهل الذمة لا يعرفون الحق من الباطل فيكون ذلك شبهة لهم. ويترتب على القول بنقض العهد أن الذميين يصبحون كأهل الحرب, ويترتب على القول بعدم النقض أن يكون حكمهم حكم أهل البغى فى قتل قتيلهم والكف عن مدبرهم وأسيرهم وجريحهم, إلا أن أصحاب هذا الرأى يرون تضمين الذميين ضمانًا تاماُ فيسألون عن جرائمهم حال القتال وغيره, فإن قتلوا أو جرحوا أو أتلفوا سئلوا جنائيًا عن كل ذلك وعليهم ضمان المال المتلف ورد القائم سواء أتلف فى حال الحرب واقتضت ضرورة الحرب إتلافه أم لا. ويعللون التفرقة بين البغاة والذميين بأن البغاة لهم تأويل سائغ والذميين لا تأويل لهم, ولأن إسقاط المسئولية عن المسلمين قصد منه عدم تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة ولا يخشى تنفير الذميين عن الطاعة لأن تأمينهم مشروط بالطاعة. والقائلون بنقض العهد يرون أن إكراه البغاة الذميين على معاونتهم يمنع من نقض العهد, وأن اعتقاد الذميين بأنهم ملزمون   (1) شرح الزرقانى ج8 ص62. (2) شرح فتح القدير ج4 ص415. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 بمعاونة البغاة يمنع أيضًا من نقض العهد (1) . 670- الاستعانة بأهل الحرب: إذا استعان البغاة بأهل الحرب فإما أن يكونوا مستأمنين أو غير مستأمنين: فإن كانوا مستأمنين فأعانوهم نقضوا عهدهم بالإعانة وصاروا كأهل الحرب غير المستأمنين لأنهم تركوا شرط الأمان وهو الكف عن المسلمين, فإن فعلوا ذلك مكرهين لم ينتقض عهدهم. وأن كانوا غير مستأمنين فاستعان بهم البغاة وأمَّنوهم أو عقدوا لهم ذمة لم يصح من ذلك شيء؛ لأن شرط الأمان الأساسى هو الكف عن المسلمين والبغاة يشترطون عليهم قتال المسلمين فلا يصح الأمان, ولأهل العدل يقاتلوهم كمن لم يؤمِّنوه سواء. وحكم أسيرهم حكم أسير سائر أهل الحرب قبل الاستعانة بهم, فأما أهل البغى فلا يجوز لهم قتلهم لأنهم آمنوهم فلا يجوز لهم الغدر بهم (2) . أما إذا عقد البغاة ذمة لحربيين أو عاهدوهم ولم يشترطوا عليهم أن يعينوهم على أهل العدل فعقود أهل البغى نافذة فى حق أهل العدل؛ لأن البغاة مسلمون وأمان المسلم إذا كان فى حقه فهو نافذ على جميع المسلمين, فإذا استعانوا بهم فأعانوهم انتقض العهد فى حق أهل العهد. ويرون فى مذهب أبى حنيفة أن العادل يجوز له أن يؤمن الباغي, فإذا أمن رجل من أهل العدل رجلاً من أهل البغى جاز أمانه لأنه ليس أعلى شقاقًا من الكافر وهناك يجوز فكذا هنا, ولأنه قد يحتاج المناظرة ليثوب ولا يأتى ذلك ما لم يأمن كل الآخر, لكن إذا أمن ذمى يقاتل مع أهل العدل باغيًا فلا يجوز أمانه (3) .   (1) المغنى ج10 ص72, المهذب ج2 ص237. (2) شرح فتح القدير ج4 ص416, المغنى ج10 ص71, المهذب ج2 ص237, أسنى المطالب ج4 ص115. (3) شرح فتح القدير ج4 ص416. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 ولكن غيرهم يرى أن أمان أهل البغى بأيديهم متى تركوا القتال حرمت دمائهم وكانوا إخواننا, وما داموا مقاتلين باغين فلا يحل لمسلم إعطاؤهم الأمان على ذلك, فالأمان والإجارة هنا هدر ولغو, وإنما الأمان والإجارة للكافر الذى يحل للإمام قتله إذا أسروه واستبقاؤه لا فى مسلم إن ترك بغيه كان هو ممن يعطى الأمان ويجير, ولو أن أحدًا من أهل البغى أجار كافرًا جازت إجارته كإجارة غيره ولا فرق: لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجير على المسلمين أدناهم" (1) . * * *   (1) المحلى ج11 ص117. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 الكتاب السابع الردة 671- النصوص الواردة فى الردة: قال الله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] , وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه". 672- تعريف الردة: الردة لغة هى الرجوع, فالراجع مرتد, ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21] , وتعرف الردة شرعًا بأنها الرجوع عن الإسلام أو قطع الإسلام, وكلا التعبيرين بمعنى واحد (1) . أركان الردة 673- للردة ركنان: أولهما: الرجوع عن الإسلام, ثانيهما: القصد الجنائى.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص134, حاشية ابن عابدين ج3 ص391, مواهب الجليل ج6 ص279, شرح الزرقانى ج8 ص62, نهاية المحتاج ج7 ص393, أسنى المطالب ج4 ص116, شرح الأزهار ج4 ص575, كشاف القناع ج4 ص100. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 الركن الأول: الرجوع عن الإسلام 674- الرجوع عن الإسلام: هو ترك الإسلام؛ أى ترك التصديق به, والرجوع يكون بأحد طرق ثلاثة: بالفعل أو بالامتناع عن الفعل, وبالقول, وبالاعتقاد. فالرجوع عن الإسلام بالفعل يحدث بإتيان أى فعل يحرمه الإسلام إذا استباح الفاعل إتيانه سواء أتاه متعمدًا أو أتاه استهزاء بالإسلام واستخفافًا أو عنادًا ومكابرة؛ كالسجود لصنم أو للشمس أو القمر أو لأى كوكب, وكإلقاء المصحف وكتب الحديث فى الأقذار أو وطأها استهزاءً بها أو استخفافًا بما جاء فيها أو عنادًا, ويكون أيضًا بإتيان المحرمات مع استحلال إتيانها كأن يزنى الزانى وهو يعتقد أن الزنا غير محرم بصفة عامة أو غير محرم عليه, وكاستحلال شرب الخمر واستحلال قتل المعصومين وسلب أموالهم, فمن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه وظهر حكم بين المسلمين وزالت الشبهة فى حله بالنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر, وكذلك إن استحل قتل المعصومين أو أخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل, أما إذا كان الاستحلال بتأويل كما هو حال الخوارج فأكثر الفقهاء لا يرون كفر الفاعل, وقد عرف عن الخوارج أنهم يكفِّرون كثيرًا من الصحابة والتابعين ويستحلون دماءهم وأموالهم ويعتقدون أنهم يتقربون إلى الله جل شأنه بقتلهم, ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم, وكذلك الحكم فى كل محرم استُحل بتأويل فلا يعتبر فاعله مرتدًا. ومن الأمثلة على استحلال المحرم بالتأويل ما فعله قدامة بن مظعون فقد شرب الخمر مستحلاً لها, وكذلك فعل أبو جندل بن سهل وجماعة معه شربوا الخمر فى الشام مستحلين لها مستدلين بقول الله جل شأنه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} [المائدة:93] , فلم يكفروا بفعلهم وعرفوا تحريمها فتابوا وأقيم عليهم حد الخمر باعتبارهم عاصين. ومن استحل محرمًا يجهل تحريمه فلا يعتبر مرتدًا إذا ثبت أنه يجهل التحريم ويعرف أن الفعل محرم, فإذا عاد له مستحلاً إياه فهو كافر لا شك فى كفره, أما إن أتاه غير مستحل له فهو عاصٍ لا كافر (1) . ويعتبر راجعًا عن الإسلام من امتنع عن إتيان فعل يوجبه الإسلام إذا أنكر هذا الفعل أو جحده أو استحل عدم إتيانه؛ كأن يمتنع عن أداء الصلاة أو الزكاة أو الحج جاحدًا لها منكرًا إياها. وكذلك الامتناع عن كل ما أوجبته الشريعة وأجمع على وجوبه. ويعتبر الممتنع كافرًا إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك, فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث عهد بالإسلام أو ناشئ بغير داره أو ببادية بعيده عن الأمصار وأهل العلم, لم يحكم بكفره, ويعرَّف ذلك وتبين له أدلة وجوب ما ينكره, فإن جحد بعد ذلك كفر, أما إذا كان الجاحد ناشئًا فى الأمصار بين أهل العلم بالشريعة فإنه يكفر بمجرد الجحد, وكذلك الحكم فى مبانى الإسلام كلها ومبادئه الأولية المتفق عليها؛ لأن أدلة وجودها لا تكاد تخفى والكتاب والسنة مشحونان بأدلتها والإجماع منعقد عليها فلا يجحدها إلا معاند للإسلام ممتنع عن التزام أحكامه, غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع أمته (2) . ومن الأمثلة الظاهرة على الكفر بالامتناع فى عصرنا الحاضر الامتناع عن الحكم بالشريعة الإسلامية وتطبيق القوانين الوضعية بدلاً منها, والأصل فى الإسلام أن الحكم بما أنزل الله واجب وأن الحكم بغير ما أنزل الله محرم,   (1) مواهب الجليل ج6 ص279, 280, شرح الزرقانى ج8 ص62, 65, نهاية المحتاج ج7 ص395, 396, أسنى المطالب ج4 ص116, 118, حاشية ابن عابدين ج3 ص391, 393, المغنى ج10 ص85, كشاف القناع ج4 ص101-103, شرح الأزهار ج4 ص575-577. (2) نفس المراجع السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 ونصوص القرآن صريحة وقاطعة فى هذه المسألة, فالله جل شأنه يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف:40] , ويقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] , ويقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] , ويقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] , ويقول: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3] , ويقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] , ويقول: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] , ويقول: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] , وقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83] , وقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] . ولا خلاف بين الفقهاء والعلماء فى أن كل تشريع مخالف للشريعة الإسلامية باطل لا تجب له طاعة, وأن كل ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أيًا كانت, ومن المتفق عليه أم من يستحدث من المسلمين أحكامًا غير ما أنزل الله ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته, فإنه يصدق عليهم ما وصفهم به الله تعالى من الكفر والظلم والفسق كل بحسب حالته, فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعًا, ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم إن كان فى حكمه مضيعًا لحق أو تاركًا لعدل أو مساواة وإلا فهو فاسق, ومن المتفق عليه أن من رد شيئًا من أوامر الله أو أوامر رسوله فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 أو من جهة ترك القبول أو الامتناع عن التسليم, ولقد حكم الصحابة بارتداد مانعى الزكاة واعتبروهم كفارًا خارجين عن الإسلام لأن الله حكم بأن من لم يسلم بما جاء به الرسول ولم يسلم بقضائه وحكمه فليس من أهل الإيمان, قال جل شأنه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء:65] (1) . ويعتبر خروجًا عن الإسلام صدور قول من الشخص هو كفر بطبيعته أو يقتضى الكفر؛ كأن يجحد الربوبية فيدعى أن ليس ثمة إله أو يجحد الوحدانية فيدعى أن لله شركاء أو يقول بأن لله صاحبة أو ولدًا, ويدعى النبوة أو يصدق مدعيها, أو ينكر الأنبياء والملائكة أو أحدهم, أو جحد القرآن أو شيئًا منه, أو جحد البعث أو أنكر الإسلام أو الشهادتين, أو أعلن براءته من الإسلام, أو قال إن الشريعة لم تجئ لتنظيم العلاقات بين الإفراد والجماعات والحاكمين والمحكومين, وأن أحكامها ليست واجبة التطبيق فى كل الأحوال وعلى كل المسائل, أو قال إن أحكام الشريعة كلها أو بعضها ليست أحكامًا دائمة وإن بعضها أو كلها موقوت بزمن معين, أو قال إن أحكام الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر وإن غيرها من أحكام القوانين الوضعية خير منها. ويعتبر خروجًا عن الإسلام كل اعتقاد منافٍ للإسلام كالاعتقاد بقدم العالم وأن ليس له موجد, وكاعتقاد حدوث الصانع, والاعتقاد باتحاد المخلوق والخالق, أو بتناسخ الأرواح, أو باعتقاد أن القرآن من عند غير الله, أو أن محمدًا كاذب, أو أن عليًا إله أو أنه هو الرسول, وغير ذلك من الاعتقادات المنافية للقرآن والسنة, وكذلك الاعتقاد بأن الشريعة لا تصلح للتطبيق فى هذا العصر أو أن   (1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص214, أعلام الموقعين ج1 ص57, 58, تفسير المنار ج6= =ص405, روح المعانى للألوسى ج6 ص140, تفسير الطبرى ج6 ص119, تفسير القرطبى ج6 ص100, التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص196-206. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 تطبيقها كان سبب تأخر المسلمين وانحطاطهم, أو أنه لا يصلح المسلمين إلا التخلص من أحكام الشريعة والأخذ بأحكام القوانين الوضعية. ويلاحظ أن الاعتقاد المجرد لا يعتبر ردة يعاقب عليها ما لم يتجسم فى قول أو عمل, فإذا لم يتجسم الاعتقاد الكفرى فى قول أو عمل فلا عقاب عليه, لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عفا لأمتى عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم", فإذا اعتقد المسلم اعتقادًا منافيًا للإسلام أيًا كان هذا الاعتقاد فهو لا يخرجه عن الإسلام إلا إذا أخرجه من سريرته فى قول أو عمل, فإذا لم يخرجه من سريرته فهو مسلم ظاهرًا فى حكم الدنيا, أما فى الآخرة فأمره لله فإذا أظهر اعتقاده المنافى للإسلام فى قول أو فعل وثبت ذلك عليه فقد ثبتت عليه الردة. ويختلف الفقهاء فى ماهية السحر وفى حكم الساحر, فأما فى ماهية السحر فإنهم يسلمون للسحر أثره, ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان حقيقة أو تخيلاً فرأى البعض أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تخيل واحتجوا بقول الله جل شأنه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] , ورأى البعض أن السحر له حقيقة واحتجوا بقوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ} [الفلق:4] , أى السواحر, وقالوا: لو أن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة منه, كما احتجوا بقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} إلى قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] , وقالوا إن من المشهور بين الناس عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها وحل عقده فيقدر عليها بعد عجزه عنها حتى صار متواترًا لا يمكن جحده. ومن المتفق عليه أن تعلُّم السحر وتعليمه حرام, واعتقاد إباحته كفر, ولكنهم اختلفوا فى حكم الساحر, فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الساحر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 يكفر بتعلم السحر وبفعله سواء اعتقد تحريمه أو لم يعتقده, ويقتل بذلك دون استتابة لما روى عن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حد الساحر ضربه بالسيف", ولذلك يرى الحنفيون قتل المرأة ولو أنهم لا يرون قتل المرأة المرتدة لأن الساحر يقتل حدًا لا ردة واو أنه يكفر بسحره, والمرتد يستتاب أما فى الحد فلا استتابة إلا حيث يوجد نص, ولا نص (1) . وهناك رواية عن أحمد بأن الساحر لا يكفر بتعلم السحر ولا بفعله, وإنما هو عاصٍ يؤدب ويستتاب (2) . ويرى الشافعى أن الساحر لا يعتبر مرتدًا إلا إذا أتى فى سحره بقول أو فعل يكفره كالإشراك بالله والسجود للشمس أو الكواكب أو إذا استحل السحر, فإن لم يأت بشيء من الكفر الذى لا خلاف فيه فهو مسلم عاص (3) . ولا يأخذ الشافعيون بحديث جندب ومثلهم الظاهريون لأنه حديث مرسل, ويرى ابن حزم أن الحديث روى هكذا: "حد الساحر ضربه بالسيف", وليس فيه قتله, والضربة قد تقتل وقد لا تقتل, وعنده أن الحديث غير صحيح, وإذا لم يصح الحديث وجب الرجوع للنصوص العامة وهى تحريم القتل إلا بحق: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء:33] , وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم", فصح بالقرآن والسنة أن كل مسلم دمه حرام إلا بنص ثابت أو إجماع متيقن وليس فى السحر نص ثابت إلا ما روى أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات, قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا, والتولى يوم الزحف, وقذف المحصنات المؤمنات", فكان هذا بيانًا جليًا بأن السحر ليس من الشرك ولكنه معصية موبقة كقتل   (1) حاشية ابن عابدين ج3 ص408, 409, شرح فتح القدير ج4 ص408, المغنى ج10 ص113 وما بعدها. (2) مواهب الجليل ج6 ص279, 280. (3) أسنى المطالب ج4 ص117. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 النفس فارتفع الإشكال وصح أن السحر ليس كفرًا, وإذا لم يكن كفرًا فلا يصح قتل فاعله إلا إذا أتى بما هو كفر؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان, وزنًا بعد إحصان, ونفس بغير نفس" (1) . وفى الكاهن والعراف نفس الخلاف فى الساحر. والكاهن هو الذى له رِئْى من الجن يأتيه بالأخبار, والعراف هو الذى يحدس ويتخرص, على أن الحنفيون يرون أن العراف والكاهن إن اعتقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر, وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر, وفى مذهب أحمد روايتان: الأولى: حكمهما حكم الساحر, لقول عمر: اقتلوا كل ساحر وكاهن, والثانية: إن تاب لم يقتل, ويرى الحنفيون المتأخرون أنه لا يجب العدول عن مذهب الشافعى فى كفر الساحر والكاهن والعراف (2) . ويرى الشيعة الزيدية أن الساحر مرتد وأن حده القتل بعد الاستتابة كالمرتد (3) . ولا تصح الردة إلا من عاقل, فلا تصح الردة ممن لا عقل له كالمجنون ومن زال عقله بإغماء أو نوم أو مرض أو شرب دواء مباح, وكالطفل الصغير الذى لم يميز. 675- ردة المجنون وإسلام من فى حكمه: لا تصح ردة المجنون لأن العقل من شرائط الأهلية خصوصًا فى الاعتقادات, ومن المتفق عليه أن المجنون إذا ارتد فى حال جنونه فإنه مسلم على ما كان عليه قبل ذلك, ولو قتله قاتل عمدًا كان عليه القود, والأصل فى ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن المجنون حتى يفيق", فلا تصح ردة المجنون لأنه لا قول له, أما إذا ارتد فى حال إفاقته صحت ردته,   (1) المحلى ج11 ص394. (2) نفس المراجع السابقة, المغنى ج10 ص118, شرح الزرقانى ج8 ص62. (3) شرح الأزهار ج4 ص379. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 فإن ارتد صاحيًا ثم جن بعد ذلك لم يقتل حال جنونه لأنه يقتل بالإصرار على الردة بعد استتابته والمجنون لا يمكن أن يوصف بالإصرار كما أنه لا يمكن أن يستتاب, فإذا قتله قبل إفاقته أو بعدها وقبل استتابته عزر لتفويته الاستتابة الواجبة ولافتياته على السلطات العامة, ولكنه لا يسأل عن القتل, وإذا كان المجنون المقتول امرأة فلا قود على من قاتلها عند أبى حنيفة, وإنما على القاتل التعزير فقط, لأن الردة تبيح دم صاحبها, وكل جناية على المرتد هدر, ومن قتل المرأة بالردة راجع للشبهة (1) . والقاعدة عند الشافعى وأحمد أن المجنون تنفذ عليه حال جنونه كل جريمة تثبت عليه بالبينة, وعقوبة كل جريمة ثابتة بالإقرار, وإذا كان العدول عن الإقرار لا يسقط الإقرار كالقصاص. أما إذا كانت العقوبة ثابتة بالإقرار وكان العدول عن الإقرار يسقط العقوبة كما هو الحال فى السرقة والزنا والشرب فيوقف التنفيذ حتى يفيق المجنون لاحتمال أنه إذا أفاق عدل عن إقراره فسقطت العقوبة المحكوم بها (2) . وفى مذهب مالك يرون أن الجنون يوقف تنفيذ الحكم ويظل الحكم موقوفًا حتى يفيق المجنون, إلا إذا كانت العقوبة قصاصًا, فإنها على رأى البعض تسقط باليأس من إفاقة المجنون, وباقى الآراء ورأى أبى حنيفة تراجع فى التشريع الجنائي (3) . 676- ردة السكران وإسلامه: يرى أبو حنيفة وأصحابه أن   (1) المغنى ج10 ص76, 110, أسنى المطالب ج4 ص120 وما بعدها, شرح الزرقانى ج8 ص69, 70, بدائع الصنائع ج7 ص134, 135, حاشية ابن عابدين ج3 ص293, 294, شرح فتح القدير ج4 ص387, 407, شرح الأزهار ج4 ص575, المحلى ج10 ص344. (2) أسنى المطالب ج4 ص120, المغنى ج10 ص110, التشريع الجنائى الإسلامى ج1 ص511,512. (3) التشريع الجنائى ج1 ص512. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 السكران حكمه حكم المجنون فلا يصح إسلامه ولا تصح ردته, وهم لا يصححون ردته ولا إسلامه استحسانًا, أما حكم القياس عندهم فتصحيح ردته وإسلامه لأن الأحكام مبنية على الإقرار بظاهر اللسان لا على ما فى القلب إذ هو أمر باطن فلا يوقف عليه, أما وجه الاستحسان فإن أحكام الكفر مبنية على الكفر كما أن أحكام الإيمان مبنية على الإيمان, والإيمان والكفر يرجعان إلى التصديق والتكذيب, وإنما كان الإقرار دليلاً عليهما وإقرار السكران لا يصح دليلاً, وإذا لم يصح الدليل لم يثبت المدلول عليه (1) . ويتفق المذهب الظاهرى مع مذهب أبى حنيفة فى هذه المسألة, فالظاهريون لا يعتبرون ردة السكران ولا أى فعل أتاه وهو سكران سواء أدخل السكر على نفسه أم أدخله عليه غيره (2) . وفى مذهب مالك والشافعى وأحمد والشيعة الزيدية خلاف, والرأى الراجح فى هذه المذاهب أو ردة السكران لا تصلح إذا أدخل السكر على نفسه وكان عالمًا بأنه يتناول سكرًا, أما الرأى المرجوح فلا يصحح ردته لأنه زائل العقل ولأن المسألة متعلقة بالاعتقاد (3) . ويلاحظ أن القائلين بتصحيح ردة السكران يصححون إسلامه, وأن القائلين بعدم تصحيح الردة لا يصححون إسلام السكران. 677- ردة الصبى وإسلامه: من المتفق عليه أن ردة الصبى الذى لا يعقل غير صحيحة, ولكنهم اختلفوا فى ردة الصبى الذى يعقل على الوجه الآتى: فيرى أبو حنيفة ومحمد أن البلوغ ليس شرط للردة فتصح ردة الصبى الذى يعقل, ويرى أبو يوسف أن الصبى الذى لم يبلغ لا تصح ردته, وحجتهما أن الصبى   (1) بدائع الصنائع ج7 ص134, شرح فتح القدير ج4 ص407. (2) المحلى ج10 ص208, 344, المحلى ج7 ص322 وما بعدها. (3) المغنى ج10 ص108, 110, نهاية المحتاج ج7 ص397, المهذب ج2 ص238, شرح الأزهار ج4 ص575, مواهب الجليل ج4 ص34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 المميز يصح إسلامه فتصح ردته؛ لأن صحة الإسلام والردة مبنية على وجود الإيمان أو الكفر حقيقة, لأن الإيمان والكفر من الأفعال الحقيقية وهما أفعال خارجة من القلب بمنزلة أفعال سائر الجوارح, والإقرار الصادر عن العقل دليل وجودهما وقد وجدها هنا, إلا أنه من وجود الكفر من الصبى العاقل لا يقتل ولكن يحبس إذ لا قتل إلا على البالغ بعد استتابته فيحبس الصبى حتى يبلغ ثم يستتاب, ويشترط أبو يوسف البلوغ لصحة الردة فلا تصح الردة عنده إلا إذا بلغ الصبى مرتدًا, وحجته أن عقل الصبى فى التصرفات الضارة المحضة ملحق بالعدم ولهذا لم يصح طلاقه وإعتاقه وتبرعاته, والردة مضرة محضة, أما الإيمان فيصح من الصبى لأنه نفع محض, ولذلك صح إسلام الصبى عند أبى يوسف ولم تصح ردته (1) . ويتفق مذهب مالك مع رأى أبى حنيفة ومحمد. وفى مذهب أحمد رأيان: أولهما وهو المعمول به فى المذهب: أن ردة الصبى تصح, وهذا يتفق مع رأى أبى حنيفة ومحمد, وظاهر مذهب مالك, والثانى: أن الصبى يصح إسلامه ولا تصح ردته, وهو يتفق مع رأى أبى يوسف (2) . ويلاحظ أن الخلاف ليس له أهمية عملية من الناحية الجنائية, لأن الصبى لا يقتل سواء قيل بصحة ردته أو بعدم صحتها, إذ الغلام لا تجب عليه الحدود حتى يبلغ, فإذا بلغ فثبت على ردته ثبت حكم الردة ووجبت عليه العقوبة بعد الاستتابة إن لم يتب, فيستوى إذن فى الحكم المرتد قبل بلوغه والمرتد وقت بلوغه, والمسلم الأصلى الذى ارتد والكافر الذى ارتد والكافر الذى أسلم صبيًا ثم ارتد (3) . أما مذهب الشافعى فلا يصحح ردة الصبى ولا إسلامه إلا بالبلوغ, وعلى هذا الرأى زفر من أصحاب أبى حنيفة, وهو يتفق مع مذهب الظاهريين ومذهب الشيعة الزيدية, وحجة أصحاب هذا الرأى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم   (1) بدائع الصنائع ج7 ص134, 135. (2) المغنى ج10 ص92, 92. (3) نفس المرجع السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن المجنون حتى يفيق". وأصحاب هذا الرأى إذا كانوا لا يصححون إسلام الصبى فإنهم يعتبرونه مسلمًا حكمًا أو تبعًا, لأن الصغير يعتبر مسلمًا تبعًا لأبويه أو أحدهما ولا يأخذ حكمهما حتى البلوغ, فلو صحح إسلامه لكان مسلمًا أصلاً, فيكون هناك تناقض بين اعتباره مسلمًا تبعًا لأبويه أو أحدهما وبين اعتباره مسلمًا أصلاً, فضلاً عن أن الإسلام يلزمه أحكامًا تشوبها المضرة من حرمان الإرث والفرقة بينه وبين زوجته المشركة, وهو ليس أهلاً لما يضر به من التصرفات (1) . وخلاصة ما سبق أن الفقهاء على ثلاثة آراء فى ردة الصبى العاقل وإسلامه, فبعضهم لا يصحح إسلام الصبى المميز - أى الذى يعقل - ولا ردته, وبعضهم يصحح إسلامه ولا يصحح ردته, وبعضهم يصحح إسلامه وردته معًا, وهذا فى الصبى المميز أى الذى يعقل, أما الصبى الذى لا يعقل فلا يصح له إسلام ولا رده اتفاقًا, وإن كان محكومًا له بالإسلام تبعًا لأبويه, والفقهاء الذين يصححون إسلام الصبى الذى يعقل يشترطون لصحة إسلامه شرطين: أولهما: أن يعقل الإسلام ومعناه, وأن يعلم أن الله تعالى ربه لا شريك له وأن محمدًا عنده ورسوله, وهذا الشرط لا خلاف عليه لأن الطفل الذى لا يعقل لا يتحقق عنده اعتقاد الإسلام. ثانيهما: أن يكون عمره عشر سنوات, وهو شرط غير متفق عليه. وأكثر من يصححون إسلام الصبى لم يشترطوا ذلك ولم يحددوا له حدًا من السنين, وحجة من يشترطون عشر سنوات أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أمر بضرب الصبيان على الصلاة لعشر, وهذا هو مذهب الحنابلة, على أن هناك رواية عن احمد بتصحيح إسلام الصبى إذا بلغ سبع سنوات لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال:   (1) أسنى المطالب ج4 ص120, 123, 194, نهاية المحتاج ج7 ص397, شرح فتح القدير ج4 ص404, المغنى ج10 ص88, المحلى ج10 ص218, 344, وج7 ص322 وما بعدها, شرح الأزهار ج4 ص575. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 "مروهم بالصلاة لسبع", فدل ذلك على صحة عباداتهم فيكون حدًا لصحة إسلامهم, وبعض الفقهاء يرى تصحيح إسلام الصبى إذا بلغ خمس سنوات, وحجته أن عليًا أسلم فى هذا السن (1) . ويعتبر ولد المرتد مسلمًا إذا حُمل به فى الإسلام سواء كان المرتد الأب أو الأم أو هما معًا, فإن بلغ أولاد المرتد فثبتوا على إسلامهم فهم مسلمون, وإن بلغوا كافرين فهم مرتدون, لهم حكم المرتدين, أما من حُمل به بعد الردة فهو محكوم بكفره لأنه من أبوين كافرين؛ سواء حمل به فى دار الإسلام أو فى دار الحرب (2) . والقاعدة عند أبى حنيفة والشافعى وأحمد والظاهريين والشيعة الزيدية أنه إذا أسلم أحد الأبوين كان أولاده الصغار مسلمين تبعًا له, يستوى فى ذلك أن يكون المسلم الأب أو الأم, ولكن مالكًا يرى أن الصغار يتبعون فى الإسلام الأب فقط, فإذا أسلم الأب تبعه أولاده, وإن أسلمت الأم لم يتبعوها لأن الولد يتبع أباه ولا يتبع أمه (3) . 678- ردة المكره وإسلامه: ومن أُكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر أو بعمل مكفِّر لم يصر كافرًا, وهذا متفق عليه فى المذاهب الأربعة, وعليه مذهب الشيعة الزيدية ومذهب الظاهريين, وشهادة ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ} [النحل:106] , ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "عفى لأمتى عن الخطأ والنسيان, وما استكرهوا   (1) المغنى ج10 ص89, 90, شرح فتح القدير ج4 ص407. (2) شرح الزرقانى ج8 ص62, بدائع الصنائع ج7 ص139, أسنى المطالب ج4 ص123, المغنى ج10 ص93, كشاف القناع ج4 ص109, شرح الأزهار ج4 ص580, 581. (3) المغنى ج10 ص96, شرح الزرقانى ج8 ص66, مواهب الجليل ج6 ص284, المحلى ص322, ونفس المراجع السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 عليه", والإكراه على الإسلام مما لا يجوز إكراهه كالذمى والمستأمن لا يجعل المكرَه مسلمًا حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعًا مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه, فإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار, وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله, ولا إكراه على الإسلام (1) . * * * الركن الثانى: القصد الجنائي 679- ويشترط لوجود جريمة الردة أن يتعمد الجانى إتيان الفعل أو القول الكفرى وهو يعلم بأنه فعل أو قول كفرى, فمن أتى فعلاً يؤدى للكفر وهو لا يعلم معناه, ومن قال كلمة الكفر وهو لا يعلم معناها, فلا يكفر, ومن حكى كفرًا سمعه وهو لا يعتقده لم يكفر. وكذلك من جرى على لسانه الكفر سبقًا من غير قصد لشدة فرج أو وهن أو غير ذلك, كقول من أراد أن يقول: اللهم أنت ربى وأنا عبدك, فقال: أنت عبدى وأنا ربك. ويشترط الشافعى أن يقصد الجانى أن يكفر, فلا يكتفى أن يتعمد إتيان الفعل أو القول الكفرى, بل يجب أن ينوى الكفر مع قصد الفعل, وحجته حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات", فإذا لم ينو الكفر فلا كفر (2) . وعلى هذا الرأى مذهب الظاهريين لأنهم يشترطون النية (3) فى كل الأعمال, وحجتهم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى", فالصحيح عندهم أن كل عمل بلا نية فهو باطل لا يعتد به.   (1) شرح الزرقانى ج8 ص68, مواهب الجليل ج6 ص282, بدائع الصنائع ج7 ص134, 178, شرح فتح القدير ج4 ص406, المهذب ج2 ص238, نهاية المحتاج ج7 ص379, أسنى المطالب ج4 ص121, المغنى ج10 ص104, المحلى ج8 ص329, شرح القدير ج4 ص577. (2) نهاية المحتاج ج7 ص394. (3) المحلى ج10 ص200, 205. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 وعند مالك وأبى حنيفة والشافعى يكفى لاعتبار الشخص مرتدًا أن يتعمد إتيان الفعل والقول الكفرى ولو لم ينو الكفر, ما دام جاء بالفعل بقصد الاستخفاف أو التحقير أو العناد أو الاستهزاء (1) , وعلى هذا مذهب الشيعة الزيدية (2) . ويرى أبو حنيفة وأحمد أن فعل الهازل وقوله كفر, فمن تكلم بلفظ كفرى أو أتى بفعل كفرى وهو مختار يعتبر كافرًا ولو لم يقصد معنى الفعل أو القول ما دام أنه عارف لمعناه؛ لأن التصديق وإن كان موجودًا حقيقة إلا أنه زائل حكمًا, لأن الشارع جعل بعض المعاصى أمارة على عدم وجوده, كما لو سجد لصنم فإنه يكفر وإن كان مصدقًا لأن ذلك فى حكم التكذيب (3) . * * * عقوبات الردة 680- للردة عقوبات تختلف باختلاف ظروف الجريمة, منها ما هو عقوبة أصلية, ومنها ما هو عقوبة بدلية, ومنها ما هو عقوبة تبعية. أولاً: العقوبة الأصلية 681- عقوبة الردة الأصلية هى القتل حدًا: لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه". والقتل عقوبة عامة لكل مرتد سواء كان رجلاً أو امرأة, شابًا أو شيخًا, ولكن أبا حنيفة يرى أن لا تقتل المرأة بالردة ولكنها تجبر على الإسلام, وإجبارها   (1) شرح الزرقانى ج8 ص62, 63, 70 وما بعدها, كشاف القناع ج4 ص100, 101, حاشية ابن عابدين ج3 ص392. (2) شرح الأزهار ج4 ص575, 577. (3) حاشية ابن عابدين ج3 ص392, كشاف القناع ج4 ص100, شرح فتح القدير ج4 ص407. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 على الإسلام يكون بأن تحبس وتخرج كل يوم فتستتاب ويعرض عليها الإسلام, فإن أسلمت وإلا حبست, وهكذا إلى أن تسلم أو تموت (1) . والمذاهب الأخرى على خلاف مذهب أبى حنيفة لا تفرق بين الرجل والمرأة, وتعاقب المرتدة بالقتل كما تعاقب المرتد (2) . وحجة أبى حنيفة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل المرأة الكافرة, فإذا كانت المرأة لا تقتل بالكفر الأصلى فأولى أن لا تقتل بالكفر الطارئ. وحجة بقية الفقهاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من بدَّل دينه فاقتلوه", وقال: "لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة", ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قتل المرأة مقصود به الكافرة الأصلية, ولا يصح أن يقاس على الكفر الأصلى الكفر الطارئ؛ لأن الرجال والنساء يقرون على الكفر الأصلى ولا يقرون على الكفر الطارئ (3) . ويرى أبو حنيفة أيضًا أن لا يقتل الصبى المميز بالردة فى أربع حالات: الأولى: إذا كان إسلامه تبعًا لأبويه وبلغ مرتدًا, ففى القياس يقتل وفى الاستحسان لا يقتل, لأن إسلامه لما ثبت تبعًا لغيره صار شبهة فى إسقاط القتل عنه وإن بلغ مرتدًا. الثانية: إذا أسلم فى صغره ثم بلغ مرتدًا, ففى القياس يقتل وفى الاستحسان لا يقتل لقيام الشبهة بسبب اختلاف العلماء فى صحة إسلامه. الثالثة: إذا ارتد فى صغره. الرابعة: اللقيط فى دار الإسلام فإنه محكوم بإسلامه تبعًا للدار كما لو كان مولودًا بين مسلمين.   (1) بدائع الصنائع ج7 ص135. (2) مواهب الجليل ج6 ص281, نهاية المحتاج ج7 ص299, المغنى ج10 ص74, المحلى ج11 ص227, شرح الأزهار ج4 ص578. (3) المغنى ج10 ص74, 578. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 والصبى المميز إذا لم يقتل فى هذه الحالات الأربع فإنه يجبر على الإسلام كما تجبر المرأة على الإسلام بالحبس والتعزير (1) . والقاعدة عند مالك أن الصبى المميز يقتل بالردة إذا بلغ مرتدًا ولكنه يستثنى من ذلك: 1- الصبى المراهق حين إسلام أبيه. 2- الصبى الذى ترك لأمه الكافرة سواء ترك مميزًا أو غير مميز إذا غفل عنه حتى أرهق؛ أى قارب البلوغ؛ كابن ثلاث عشرة سنة. فهذان إذا بلغ أحدهما كافرًا فلا يقتل بكفره وإنما يجبر على الإسلام بالتعزير (2) . أما بقية المذاهب فترى قتل الصبى المرتد إذا بلغ مرتدًا شأنه فى ذلك شأن الرجل والمرأة (3) . 682- الاستتابة: القاعدة الأصلية أن المرتد لا يقتل إلا بعد أن يستتاب, فإن لم يتب يقتل, ويرى بعض الفقهاء أن الاستتابة واجبة, وهو مذهب مالك والشيعة الزيدية, وهو الرأى الراجح فى مذهبى الشافعى وأحمد, وهناك رأى فى مذهب الشيعة الزيدية أن الاستتابة مستحبة, وهو رأى مرجوح (4) . ويرى أبو حنيفة أن الاستتابة مستحبة لا واجبة, لأن الدعوة قد بلغت المرتد فانتفى بذلك الوجوب, وإنما يعرض عليه الإسلام استحبابًا فلعله يسلم, وهذا القول رأى الشافعى وأحمد, ويرى الظاهريون أن الاستتابة ليست واجبة ولا ممنوعة (5) .   (1) شرح فتح القدير ج4 ص406, 407, بدائع الصنائع ج7 ص135. (2) شرح الزرقانى ج8 ص66, 70, مواهب الجليل ج6 ص281, 284. (3) نهاية المحتاج ج7 ص400, المغنى ج10 ص92, المحلى ج7 ص322, وج11 ص227, شرح الأزهار ج4 ص580, 581. (4) شرح الأزهار ج4 ص379, 380. (5) شرح الزرقانى ج8 ص65, نهاية المحتاج ج7 ص398, المهذب ج2 ص238, المغنى ج10 ص76, شرح الأزهار ج4 ص579, المحلى ج11 ص197. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 683- مدة الاستتابة: مذهب مالك على أن الاستتابة مدتها ثلاثة أيام بلياليها من يوم ثبوت الكفر على المرتد, لا من يوم الكفر ولا من يوم الرفع أى التبليغ. ولا يحسب اليوم إن سبقه الفجر ولا تلفق الأيام الثلاثة, والمقصود بذلك الاحتياط لعظم الدماء, ولا يجوز أن يمنع عنه الماء ولا الطعام ولا يعذب, فإن تاب لا يقتل وإلا قتل بعد غروب شمس اليوم الثالث (1) . ويرى أبو حنيفة أن المدة متروكة لتقدير الإمام , فإن طمع فى توبة المرتد أو سأله هو التأجيل أجَّله ثلاثة أيام, وإن لم يطمع فى توبته ولم يسأله هو التأجيل قتله من ساعته (2) . وفى مذهب الشافعى رأيان: أحدهما: أن الاستتابة مدتها ثلاثة أيام لأنها مدة قريبة يمكن فيها الارتياد والنظر, والرأى الثانى: أن يقتل فى الحال إذا استتب فلم يتب, وهو الرأى الراجح فى المذهب (3) . ومذهب أحمد على أن مدة الاستتابة ثلاثة أيام مع حبس المرتد فيها (4) . ولا يحدد الظاهريون مدة الاستتابة, ويرون قتل المرتد فى الحال إذا لم يتب (5) , ولكن الشيعة الزيدية يحددون مدة الاستتابة بثلاثة أيام (6) . والأصل فى ذلك كله ما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قدم إليه رجل من جيش المسلمين فقال: هل عندكم من مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ قال: نعم رجل كفر بالله تعالى بعد إسلامه, فقال عمر رضى الله عنه: ماذا فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه, فقال عمر رضى الله عنه: هلا طفيتم عليه بيتًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا   (1) شرح الزرقانى ج8 ص95. (2) بدائع الصنائع ج7 ص135. (3) نهاية المحتاج ج7 ص398, 399. (4) المغنى ج10 ص78, كشاف القناع ج4 ص104. (5) المحلى ج11 ص192. (6) الروض النضير ج4 ص324, شرح الأزهار ج4 ص379, 380. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 واستتبتموه لعله يتوب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى, اللهم إنى لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني, كذلك روى عن على رضى الله عنه أنه قال: يستتاب المرتد ثلاثًا, وبهذا يتمسك من قال بوجوب الاستتابة أو استحبابها وبمدة الأيام الثلاثة. 684- كيفية التوبة: تكون التوبة بالنطق بالشهادتين, وبإقرار المرتد بما أنكره, وبراءته من كل دين يخالف دين الإسلام, فمن ادعى وجود إلهين أو أنكر رسالة محمد, يكتفى أن يأتى بالشهادتين, وإن كان الكفر بإنكار شيء آخر كمن خصص رسالة محمد بالعرب أو جحد فرضًا أو تحريمًا فيلزمه مع الشهادتين الإقرار بما أنكر, وهكذا تختلف حقيقة التوبة بحسب الفعل أو قول الكفر. 685- من لا يستتاب: وإذا كانت القاعدة هى استتابة المرتد بغض النظر عما إذا كانت الاستتابة واجبة أو مستحبة فإن مالكًا يمنع استتابة ثلاثة: 1- الساحر إذا أتى من السحر ما يعتبر كفرًا: فإنه لا يستتاب ويقتل, وإذا تاب لم تقبل توبته إلا أن يجئ بنفسه مبلغًا عن سحره وتائبًا منه, ذلك أن حكم الساحر فى المذهب كحكم الزنديق (1) . 2- الزنديق: وهو من يظهر الإسلام ويسر الكفر, فإذا ثبت عليه الكفر لم يستتب ويقتل ولو أظهر توبته, لأن إظهار التوبة لا يخرجه عما يبديه من عادته ومذهبه, فإن التقَّة عند الخوف عين الزندقة, أما إذا جاء بنفسه مقرًا بزندقته ومعلنًا توبته دون أن يظهر عليه فتقبل توبته (2) . 3- من سب نبيًا أو مَلَكًا أو عرض به أو لعنه أو عابه أو قذفه أو استخف بحقه وما أشبه: فإنه يقتل ولا يستتاب, ولا تقبل منه التوبة لو أعلنها ولو جاء تائبًا قبل أن يطلع عليه, لأن القتل فى هذه الحالة حد خاص وإن كان يدخل تحت الردة (3) .   (1) مواهب الجليل ج6 ص279. (2) مواهب الجليل ج6 ص282. (3) مواهب الجليل ج6 ص285, 286, شرح الأزهار ج8 ص70, 71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 فالمرتد يقتل حدًا لا كفرًا عالى مشهور قول مالك, ولهذا لا تقبل توبته ولا تنفعه استتابه, على أن هناك من يرى فعله ردة, وفى هذه الحالة يستتاب فإن تاب نُكِّل أى عُزِّر (1) . أما المعتاد على الردة فيستتاب ولو تكررت ردته ما دامت ردته ليست من الأنواع الثلاثة السابقة. ومذهب الشافعى يختلف عن مذهب مالك تمام الاختلاف, فالشافعيون يرون الاستتابة ويقبلون التوبة من الساحر والزنديق, ولو كان زنديقًا لا يتناهى خبثه فى عقيدته, لقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] , ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم" أى النطق بالشهادتين (2) . على أن هناك رأيًا مرجوحًا فى المذهب بعدم قبول توبة الزنديق (3) . وتقبل توبة من سب النبى - صلى الله عليه وسلم - أو سب نبيًا غيره, ويستتاب, وهو الرأى الراجح فى المذهب, وهناك رأيان آخران: أحدهما: أنه يقتل حدًا إذا سب النبى أو قذفه؛ لأن القتل حد قذف النبى أو سبه, وحد القذف لا يسقط بالتوبة, والثانى: أنه يعاقب على القذف بالجلد ثمانين جلده ويعزر على السب (4) . وفى مذهب أحمد: 1- لا تقبل توبة الزنديق: لأن الله تعالى يقول: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} [البقرة:160] , والزنديق لا يظهر منه ما يتبين به رجوعه وتوبته؛ لأن الزنديق لا يظهر منه بالتوبة خلاف ما كان عليه؛ فإنه كان ينفى الكفر عن نفسه قبل ذلك, وقلبه لا يطلع عليه فلا يكون لما قاله حكم, لأن الظاهر من حاله أنه يستدفع القتل بإظهار التوبة. 2- كذلك لا تقبل توبة من تكررت ردته: لقوله   (1) مواهب الجليل ج6 ص282. (2) أسنى المطالب ج4 ص122, المهذب ج2 ص229. (3) نهاية المحتاج ج7 ص399. (4) أسنى المطالب ج4 ص122, نهاية المحتاج ج7 ص399. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء:137] , وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران:90] , كذلك فإن تكرار الردة دليل على فساد العقيدة وقلة المبالاة بالدين. 3 - ولا تقبل توبة من سب الله ورسوله أو تنقيصه: لأن ذلك دليل على فساد العقيدة واستخفافه بالله تعالى ورسوله, ولقوله جل شأنه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65, 66] . 4- ولا تقبل توبة الساحر الذى يكفر بسحره: لوجهين: أولهما: لما روى عن جندب بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حد الساحر ضربه بالسيف" فسماه حدًا, والحد لا يسقط بالتوبة. وثانيهما: أنه إذا لم يكن حد فلا طريق إلى معرفة إخلاصه فى توبته لأنه يضمر السحر ولا يجهر به فيكون إظهار الإسلام خوفًا من القتل (1) . وهناك رواية أخرى عن أحمد يرى الأخذ بها بعض فقهاء المذهب وهى قبول توبة المرتد واستتابته مها كان كفره؛ أى سواء كان زنديقًا أو ساحرًا أو معتاد الردة.. إلخ, وهذا الرأى يتفق مع مذهب الشافعي (2) . ومذهب أبى حنيفة على عدم قبول توبة كل من: 1 - الساحر: لما روى عن الرسول من أن حد الساحر ضربه بالسيف, ولكن الكثير من فقهاء الحنفية يفضلون مذهب الشافعى فى هذه المسألة, ويلاحظ أن القائلين بقتل الساحر يرون قتل الساحرة؛ لأن القتل حد لا يستتاب فيه. 2 - الزنديق: والرأى فى توبته هو ما يرونه فى مذهب مالك, على أن هناك رأيًا آخر يقول بقبول توبته (3) . 3 - سب الرسل والملائكة والاستهزاء بهم: وفى المذهب رأيان: أحدهما: يرى القتل حدًا فلا تقبل التوبة (4) .   (1) كشاف القناع ج4 ص105, 106. (2) المغنى ج10 ص78, 113, 115, 116, 118. (3) حاشية ابن عابدين ج3 ص408, 409. (4) حاشية ابن عابدين ج3 ص400 وما بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 والثانى: يرى أنه مرتد يقتل للردة فتقبل توبته (1) . 4 - من تكررت ردته: فلا تقبل توبته (2) . ومذهب الظاهريين كمذهب الشافعي (3) . وكذلك مذهب الشيعة الزيدية فإنهم يستتيبون كل مرتد ويقبلون منه التوبة أيًا كان وجه الكفر, أى سواء كان للسحر أو الزندقة أو غير ذلك (4) . 686 - ما يترتب على التوبة: يترتب على حدوث التوبة ممن تقبل توبته أن يسقط القتل عنه بالتوبة فيعود معصوم الدم كما كان قبل الردة فإذا قتله شخص ما أُقيد به لأنه قتل نفسًا معصومة, أما قبل ذلك فيكون المرتد مهدر الدم من وقت الردة فإذا قتله شخص ما لم يعتبر قاتلاً وإنما يعزر فقط لافتياته على السلطات العامة لا لأنه قاتل إذ أنه قتل شخصًا مهدر الدم مباح القتل بل يعتبر قتله فرضًا على كل مسلم, ويستوى أن يكون القتل حاصلاً قبل الاستتابة أو بعدها ما دام قد حدث قبل التوبة فعلاً ممن تقبل توبته لأنه يقتل فى الحالين على ردته, وكل جناية على المرتد هدر لأن الردة تسقط عصمة المرتد. وإذا كان أبو حنيفة لا يرى قتل المرأة ولا الصبيان الذين بلغوا مرتدين, وإذا كان مالك لا يرى قتل بعض الصبيان؛ فإنهما معًا يريان أن من قتل امرأة مرتدة أو صبيًا مرتدًا قبل التوبة فأن القاتل لا يعتبر مسئولاً عن جريمة القتل لأنه قتل شخصًا مهدر الدم وإنما يسأل باعتباره مفتاتًا على السلطات العامة (5) . * * * ثانيًا: العقوبة البديلة 687- العقوبة البديلة للردة تكون فى حالتين: الأولى: إذا سقطت العقوبة الأصلية بالتوبة استبدل بها القاضى عقوبة تعزيرية   (1) حاشية ابن عابدين ج3 ص401, 402. (2) حاشية ابن عابدين ج3 ص412. (3) شرح فتح القدير ج4 ص387. (4) شرح الأزهار ج4 ص379, 380. (5) مواهب الجليل ج6 ص281, 288, أسنى المطالب ج4 ص122, كشاف القناع ج4 ص104, شرح فتح القدير ج4 ص387, 388, 404. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 مناسبة لحال الجاني, كالجلد أو الحبس أو الغرامة أو التوبيخ, ويصح أن يكون الحبس محدد المدة, وأن لا يكون محدد المدة, فيحبس المرتد إلى غير أمد حتى يظهر صلاحه. ويميل الفقهاء إلى تشديد العقوبة على من تكررت ردته (وهذا عند من يقبلون توبة المعتاد على الردة) , كما يميل بعض الفقهاء إلى إعفاء الجانى من العقاب من أول ردة إلا إذا كان سابًا لرسول الله أو ساحرًا (1) . الثانية: إذا سقطت العقوبة الأصلية لشبهة, كما أسقطها أبو حنيفة عن المرأة والصبي, وكما أسقطها مالك عن بعض الصبيان, ففى هذه الحالة تحبس المرأة والصبى إلى أمد ويجبر كلاهما على الإسلام, ويجوز أن يصحب الحبس عقوبة أخرى, ويستمر الحبس حتى يسلم المرتد. * * * ثالثًا: العقوبة التبعية 688- العقوبه التبعية هى التى تصيب المرتد على نوعين: أولهما: مصادرة مال المرتد. ثانيهما: نقص أهلية المرتد للتصرف. 689- (1) مصادرة مال المرتد: يرى مالك والشافعى وأحمد أن مال المرتد إذا مات أو قتل يكون مشيعًا ولا يرثه أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم, ويستثنى مالك من هذه القاعدة مال الزنديق والمنافق فيرى أن ميراثه لورثته من المسلمين لأن المنافقين على عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - ورثهم أبناؤهم المسلمون لما ماتوا (2) . والرأى الراجح فى المذاهب الثلاثة أن الردة لا تزيل الملك عن المرتد ولا تمنعه من تملك أموال أخرى بعد الردة بأسباب التمليك المشروعة وإنما توقف الردة ملك المرتد من وقت ردته فإن أسلم ثبت له ملكه وإن مات مرتدًا أو قتل بردته كان ماله فيئًا.   (1) مواهب الجليل ج6 ص282, شرح فتح القدير ج4 ص387, نهاية المحتاج ج7 ص401, أسنى المطالب ج4 ص122, المغنى ج10 ص113, كشاف القناع ج4 ص106. (2) مواهب الجليل ج6 ص281, 282, أسنى المطالب ج4 ص123, كشاف القناع ج4 ص104, المغنى ج10 ص81. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 أما فى مذهب أبى حنيفة فالمال المكتسب حال الإسلام يرثه الورثة المسلمون إذا مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وقضى باللحاق أو المال المكتسب حال الردة فيراه أبو حنيفة فيئًا, ويراه أبو يوسف ومحمد ميراثًا, ولا خلاف فى المذهب أن مال المرتد الموجود فى دار الحرب سواء اكتسبه قبل الردة أو بعدها فهو فئ إذا ظُهر عليه (1) . والفرق بين مذهب أبى حنيفة والمذاهب الأخرى يرجع إلى الخلاف على تفسير ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث الكافر المسلم, ولا المسلم الكافر", فالمذاهب الثلاثة لا تجعل مال المرتد لورثته لأنه كافر وهم مسلمون, وأبو حنيفة وأصحابه يتأولون فيقولون إن مال المرتد مال مسلم لأن الردة كالموت فى إزالة سبب الملك, فإذا ارتد شخص فإن الردة تعتبر بالنسبة لماله موتًا فهو مسلم قد مات فيرثه ورثته المسلمون. ويتفق مذهب الشيعة الزيدية مع مذهب أبى حنيفة ورأى أبى يوسف ومحمد (2) , ويرى مذهب الظاهريون أن مال المرتد لورثته الكفار إن كان له ورثة, فلا هو فئ ولا هو ميراث لورثته المسلمين (3) . ويعتبر أبو حنيفة لحاق المرتد بدار الحرب فى حكم موته إذا قضى القاضى بلحاقه لأن اللحاق بدار الحرب بمنزله الموت فى حق زوال ملكه عن أمواله المتروكة فى دار الإسلام؛ لأن زوال الملك عن المال بالموت حقيقة لكونه مالاً فاضلاً عن حاجته لانتهاء حاجته بالموت وعجزه عن الانتفاع به, وقد وجد هذا المعنى فى اللحاق, لأن المال الذى فى دار الإسلام خرج من أن يكون منتفعًا به فى حقه لعجزه عن الانتفاع به, فكان فى حكم المال الفاضل عن حاجته, لعجزه عن قضاء حاجته به, فكان اللحاق بمنزلة الموت فى كونه مزيلاً للملك (4) .   (1) بدائع الصنائع ج7 ص138. (2) شرح الأزهار ج4 ص578. (3) المحلى ج11 ص197, 198. (4) بدائع الصنائع ج4 ص84. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 وعلى هذا مذهب الشيعة الزيدية (1) , أما المذاهب الأخرى فلا تعتبر اللحاق بدار الحرب فى حكم الموت. 690- (2) نقص أهلية المرتد للتصرف: لا تؤثر الردة على أهلية المرتد للتملك, فيجوز أن يتملك بالهبة, وباستئجار نفسه, وبالصيد, وبالشراء مثلاً, ولكنه لا يتملك بالميراث ما دام فى دار الإسلام, لاختلاف الدين لأنه لا يقر على ردته, ولكن الردة تؤثر على أهلية المرتد للتصرف فى ماله, سواء كان المال مكتسبًا قبل الردة أو بعدها, فتصرفاته لا تكون نافذة, وإنما توقف تصرفاته, فإن أسلم نفذت, وإن مات على ردته كانت تصرفاته باطلة لأنها تمس أموالاً بها حق الغير. وهذا هو الرأى الراجح فى مذهب مالك والشافعى وأحمد, إلا أن مذهب الشافعى يبطل التصرفات التى لا تحتمل الإيقاف كالبيع فإنه من القعود النافذة ما لم يكن معلقًا على شرط, وكذلك الهبة والرهن وما أشبه. على أن فى هذه المذاهب الثلاثة رأى مرجوح يرى أصحابة بطلان تصرفات المرتد بطلانًا مطلقًا, وهذا على أساس النظرية القائلة بأن الردة تزيل الملك ولا توقفه, فإذا أزالت الردة الملك عن المرتد فتصرف كان التصرف باطلاً لصدوره من غير مالك (2) . وفى مذهب أبى حنيفة خلاف, فيرى أبو حنيفة أن تصرفات المرتد موقوفة, فإن أسلم جازت هذه التصرفات, وإن مات على ردته أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت كل تصرفاته, وأساس نظريته أن الردة توقف ملك المرتد. أما عند أبى يوسف ومحمد فملك المرتد لا يزول بالردة ولا يوقف وإنما يزول الملك بالموت أو القتل أو اللحاق بدار الحرب, وعلى هذا فإن تصرفات المرتد عندهما جائزة كما تجوز من المسلم, ولكنهما اختلفا فى مدر جواز هذه التصرفات, فرأى   (1) شرح الأزهار ج4 ص578. (2) مواهب الجليل ج6 ص281, 282, 284, شرح الزرقانى ج8 ص66, 68, نهاية المحتاج ج7 ص401, أسنى المطالب ج4 ص123, المغنى ج10 ص83, كشاف القناع ج4 ص108. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 محمد أن تصرفات المرتد جائزة جواز تصرفات المريض مرض الموت, لأن المرتد على شرف التلف لأنه يقتل فأشبه المريض مرض الموت, ويرى أبو يوسف أن تصرفات المرتد جائزة جواز تصرفات الصحيح لأن اختيار الإسلام بيده فيمكنه الرجوع إلى الإسلام فيتخلص من القتل, والمريض لا يمكنه دفع المرض, فأَنَّى يتشابهان؟ (1) . ومذهب الشيعة الزيدية كرأى أبى حنيفة, إلا أنهم يجعلون التصرفات فى القُرَب لغوًا كالوقف والصدقة والنذر إلا المعتق, فإذا لم تتناول التصرفات القرب فهى موقوفة فإن أسلم نفذت وإلا بطلت (2) . * * * تم بحمد الله * * *   (1) بدائع الصنائع ج7 ص136. (2) شرح الأزهار ج4 ص579. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 مراجع الكتاب فى التفسير: "جامع البيان فى تفسير القرآن": لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى. "الجامع لأحكام القرآن": لأبى عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى. "مفاتيح الغيب": لمحمد الرازى فخر الدين. "الكشف عن حقائق التنزيل": للزمخشرى. "الشهاب على البيضاوي": لشهاب الدين الخفاجى. "روح المعنى": للسيد محمد الألوسى. "تفسير المنار" للسيد محمد رشيد رضا. فى الحديث: "صحيح البخاري": الطبعة الأولى, المطبعة الخيرية. "التاج الجامع للأصول فى أحاديث الرسول": الطبعة الأولى, مطبعة البابى الحلبى. "نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار": لمحمد على الشوكاني, مطبعة بولاق. "عون البارى لحل أدلة البخاري": لأبى صديق بن حسن بن على الحسيني, مطبوع مع الكتاب السابق. "زاد المعاد فى هدى خير العباد": لابن قيم الجوزية, الطبعة الأولى, مطبعة صبيح. "سبل السلام" وهو شرح العلامة الصنعانى على متن بلوغ المرام: للحافظ ابن حجر العسقلانى. فى الأصول: "أصول الفقه": للشيخ محمد الخضري, الطبعة الثانية. "علم أصول الفقه": للشيخ عبد الوهاب خلاف, الطبعة الثانية. "الإحكام فى أصول الأحكام": لابن حزم الأندلسي, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة. "الإحكام فى أصول الأحكام": لسيف الدين أبى الحسن الآمدي, طبعة دار الكتب. "المستصفى": للغزالي, الطبعة الأولى, المطبعة الأميرية. "فواتح الرحموت فى شرح مسلم الثبوت": لمحب الله بن عبد الشكور, مطبوع مع الكتاب السابق. "رسالة الشافعى فى علم الأصول": الطبعة الأولى, مطبعة القبانى. فى مذهب مالك: "المدونة الكبرى": رواية سحنون عن عبد الرحمن بن قاسم عن الإمام مالك, الطبعة الأولي, مطبعة السعادة. "أحكام القرآن": لأبى بكر بن عبد الله المعروف بابن العربي, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة. "مواهب الجليل شرح مختصر خليل": للحطاب, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة. "التاج والإكليل لمختصر خليل": للمواق, مطبوع مع الكتاب السابق. "شرح الزرقانى على مختصر خليل": مطبعة محمد أفندى مصطفى. "حاشية البناني": مطبوع مع الكتاب السابق. "شرح الخرشى على مختصر خليل": الطبعة الثانية, مطبعة بولاق. "حاشية العدوي": مطبوع مع الكتاب السابق. "المقدمات": لابن رشد, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة. "بداية المجتهد ونهاية المقتصد": لابن رشد, الطبعة الأولى, مطبعة الجمالية. "الشرح الكبير" للدردير: المطبعة الأميرية. "حاشية الدسوقي": مطبوع مع الكتاب السابق. "فتح العلى المالك": للشيخ عليش, الطبعة الأولى, مطبعة التقدم العلمية. "تبصرة الحكام فى أصول الأقضية ومناهج الأحكام": لابن فرحون, مطبوع مع الكتاب السابق. فى مذهب أبى حنيفة: "المبسوط لشمس الدين السرخسي": مطبعة السعادة بمصر. "كتاب الخراج": لأبى يوسف. "بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع": لعلاء الدين الكاساني, الطبعة الأولى, مطبعة الجمالية. "شرح فتح القدير": لابن الهمام, مع "تكملة نتائج الأفكار فى كشف الرموز والأسرار على الهداية", الطبعة الأولى, المطبعة الأميرية. "شرح العناية على الهداية": لمحمد بن محمود البايرني, مطبوع مع الكتاب السابق. "حاشية سعد جبلي": مطبوع مع الكتاب السابق. "حاشية الطهطاوى على الدر المختار": الطبعة الثالثة. "حاشية رد المحتار على الدر المختار": لابن عابدين, المطبعة الأميرية. "حاشية شهاب الدين الشلبي": مطبوع مع الكتاب السابق. "الهداية شرح بداية المبتدي": لبرهان الدين أبى بكر المرغتياني, الطبعة الأولي, المطبعة الخيرية. "البحر الرائق شرح كنز الدقائق": لابن نجيم, الطبعة الأولى. "منحة الخالق على البحر الرائق": لابن عابدين, مطبوع مع الكتاب السابق. "مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر": لشيخ زاده. "الأشباه والنظائر": لابن نجيم, مطبعة وادى النيل. "إتحاف الأبصار والبصائر": محمد أبو الفتح, طبعة 1289 هـ. "تأسيس النظر": لابن عيسى الدبوسي, الطبعة الأولى. "جامع الفصولين": لابن قاضى سماوه, الطبعة الأولى, المطبعة الأزهرية. "أحكام القرآن": لأبى بكر الرازى الجصاص, الطبعة الأولى, مطبعة الأوقاف الإسلامية. فى مذهب الشافعى: "الأم": للإمام الشافعي, الطبعة الأولى, مطبعة بولاق. "مختصر المزني": مطبوع مع الكتاب السابق. "أسنى المطالب شرح روض الطالب": لأبى يحيى زكريا الأنصاري, الطبعة الأولى, المطبعة الميمنية. "حاشية أبى العباس أحمد الرملي": مطبوع مع الكتاب السابق. "شرح البهجة لأبى زكريا الأنصاري": الطبعة الأولى, المطبعة الميمنية. "حاشية ابن قاسم العبادي": مطبوع مع الكتاب السابق. "الأحكام السلطانية": للماوردي, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة, ومطبعة الوطن. "الفتاوى الكبرى": لابن حجر المكي, المطبعة الميمنية. "فتاوى شهاب الدين الرملي" مطبوع مع الكتاب السابق. "تحفة المحتاج بشرح المنهاج": لشهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي, طبعة 1319 هـ. "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج": لأبى عباس الرملي, الطبعة الأولى, مطبعة البابى الحلبى. "حاشية الشبراملسي": مطبوع مع الكتاب السابق. "حاشية أحمد بن عبد الرازق المغربي": مطبوع مع الكتاب السابق. "حاشية البيجرمى على مهج الطلاب": الطبعة الأولي, مطبعة البابى الحلبى. "المهذب": لأبى إسحاق الشيرازي, الطبعة الأولى, مطبعة البابى الحلبى. "إحياء علوم الدين": للغزالي, الطبعة الأولى, طبع لجنة نشر الثقافة. "الوجيز": للغزالي, الطبعة الأولى, مطبعة الآداب والمؤيد. فى مذهب أحمد بن حنبل: "المغنى على مختصر الخرقي": لمحمد عبد الله بن قدامة, الطبعة الأولى, مطبعة المنار. "الشرح الكبير على متن المقنع": لشمس الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن قدامة, مطبوع مع الكتاب السابق. "الإقناع": لشرف الدين موسى الحجاوي, الطبعة الأولى, المطبعة المصرية. "مجموعة فتاوى ابن تيمية": مطبعة كردستان. "الاختبارات العلمية": لابن تيمية, مطبوع مع الفتاوى. "أعلام الموقعين عن رب العالمين": لابن قيم الجوزية, مطبعة الكردى. "الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية": لابن قيم الجوزية, مطبعة الآداب والمؤيد. "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان": لابن قيم الجوزية, مطبعة البابى الحلبى. "الفروسية": لابن قيم الجوزية, مطبعة الأنوار. "مجموعة الرسائل لابن تيمية": الطبعة الأولى, مطبعة التقدم. كتب أخرى: "الكامل": لابن الأثير (تاريخ) مطبعة بولاق. "سيرة عمر بن الخطاب": لابن الجوزي, الطبعة الأولى, مطبعة السعادة. "القصاص": لأحمد محمد إبراهيم, طبعة 1363هـ/1944م. "الجنايات المتحدة": لرضوان شفعى المتعافي, المطبعة السلفية. "فقه القرآن والسنة" لمحمود شلتوت, الجزء الأول, مطبعة العلوم. "مجلة القانون والاقتصاد". "طرق القضاة فى الشريعة الإسلامية": لأحمد إبراهيم بك, الطبعة الأولى, مطبعة العلوم. "القضاء فى الإسلام": لعطية مشرفة, الطبعة الأولى, مطبعة الاعتماد. "الدية فى الشريعة الإسلامية": لعلى صادق أبو سيف, مطبعة على عنان.