الكتاب: مفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام المؤلف: عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر النجدي التميمي الوهيبي الأشيقري ثم المكي السلفي (المتوفى: 1401هـ) الناشر: مكتبة النهضة المصرية، القاهرة الطبعة: الثانية، 1389 هـ - 1969 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- مفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام عبد الله بن جاسر الكتاب: مفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام المؤلف: عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر النجدي التميمي الوهيبي الأشيقري ثم المكي السلفي (المتوفى: 1401هـ) الناشر: مكتبة النهضة المصرية، القاهرة الطبعة: الثانية، 1389 هـ - 1969 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم اسم الكتاب: مفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام. تأليف الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر النجدي التميمي الوهيبي الأشيقري ثم المكي السلفي عفا الله عنه ونفع بعلومه آمين. الجزء الأول، الطبعة الثالثة. الرياض 1412 هـ، الموافق 1992 م. طبع على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، أجزل الله مثوبته. ْْْْْْْْْْْ بسم الله الرحمن الرحيم - ترجمة المؤلف : - نسبه: هو الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر بن محمد بن عثمان بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن بجاد ينتهي نسبه إلى بسام بن عقبة من آل راجح من أوهبة تميم. - مولده: ولد هذا العالم الجليل في بلد أشيقر (من أعمال الوشم) في شهر محرم سنة 1323 هـ، ورباه والده أحسن تربية ولما بلغ من العمر سبع سنين جعله عند مقرئ يسمى عبد الرحمن بن موسى يعلمه القرآن الكريم ولما بلغ من العمر أربع عشرة سنة حفظ القرآن المجيد. - مشايخه: ثم اشتغل بطلب العلم لدى شيخه إبراهيم بن صالح بن عيسى من بلد أشيقر ولازمه ملازمة تامة وكان ابتداء طلبه العلم لدى شيخه إبراهيم المذكور سنة 1336 هـ، ولا زال يقرأ عليه في كثير من الفنون قراءة بحث وتحقيق إلى سنة 1342 هـ، ومن الكتب التي قرأها على شيخه في أول الطلب (مجموعة التوحيد) ثم بعد إكمالها قرأ عليه فتح المجيد ثم شرح الدليل وشرح الزاد وشرح الشينشوري مع حاشية إبراهيم الباجوري في الفرائض كرره قراءة على شيخه عشر مرات تقريباً وفي اللغة العربية شرح الشيخ خالد على الأجرومية ثم متممة الأجروية وشرحيهما للأهدل والفاكهي، ثم شرح القطر ثم قرأ عليه شرح المنتهى للشيخ منصور البهوتي قراءة بحث وتحقيق وتفهم وتدقيق وأكمل دراسته عليه مرتين وعلق رحمه الله على شرح المنتهى على نسخته الخطية أثناء الدرس والمطالعة حاشية حافلة تحتوي على فوائد نفسية ومباحث غزيرة وهي باقية حتى الآن لم تجرد ولو جردت لجاءت في مجلدين وليتها تجرد لأن الكتابة قد استغرقت جميع مواضع البياض ويخشى من انقطاع أطراف الورق فتذهب الفائدة بفقدان بعض الكلمات. وقرأ على شيخه في العروض كتاب الجدول الصافي في علمي العروض والقوافي وقرأ عليه الجزرية وشروحها لابن المصنف والشيخ زكريا الأنصاري وغيرهما وقرأ عليه أطرفاً من الكتب الستة وتفسير القرآن العظيم وغير ذلك من الفنون وقد أجازه بسنده للرواية عنه وبعد رحيل شيخه إبراهيم إلى عنيزة رحل إلى مكة فاستوطنها سكناً له وقرأ على علماء الحرم المكي ولازمهم وتضلع في العلم فكان فقيهاً لا يجاري وقد وهبه الله فهما ثاقباً وقوة في الحفظ وفراسة في الأحكام، ومن العلماء الذين درسوه الشيخ سعد وقاص البخاري من علماء مكة المكرمة. ومن مشايخه العالم العلامة البحر الفهامة السلفي الشيخ محمد الطيب الأنصاري المدني رحمه الله فقرأ عليه قراءة بحث وتحقيق وقد خصص له مجلساً للقراءة عليه وقد استفاد منه علماً كثيراً وقد أجازه جماعة من العلماء الأعلام والأجلاء الكرام منهم العلامة الشيخ أحمد بن إبراهيم بن حمد العيسى. - أعماله: في صفر سنة 1350 هـ، تولى القضاء في المستعجلة بمكة ثم تعين في الطائف وذلك في سنة 1355 هـ، ثم تعين في قضاء المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وذلك سنة 1356 هـ، وأقام فيها قاضياً سبع سنين ثم صدر أمر الملك عبد العزيز رحمه الله بنقله إلى مكة في أول عام 1363 هـ، وأن يكون برئاسة القضاء عضواً وسكرتيراً ثم صدر أمر الملك عبد العزيز رحمه الله بأن يكون معاوناً لرئيس القضاة بمكة ثم مساعداً لرئيس القضاء في مكة ولما أنشئت هيئة التمييز للأحكام تعين عضواً فيها ثم رئيساً لها حتى أحيل على التقاعد لإكماله السن النظامية في 1-7-93 هـ، بموجب القرار رقم 2697 في 25-6-93 هـ، فتجرد للعبادة ونفع الخلق الكثير وكان آية في مكارم الأخلاق، توفى رحمه الله في 10-2-1401 هـ، له من الأبناء عبد العزيز وإبراهيم. - مؤلفاته: لشيخنا من المؤلفات (كتاب مفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام، وهو هذا، وحاشيته على المنتهى وشرحها علقها أثناء الدرس وفي أوقات المطالعة وهي باقية على الهامش لم تجرد وقد تقدم ذكرها، وله فوائد في الفقه الحنبلي لا تقل عن ستة كراريس وله رسالة سماها تنبيه النبيه والغبي فيما التبس على الشيخ المغربي ألفها في المدينة المنورة في آخر شعبان سنة 1358 هـ، رد فيها على شيخ مغربي أنكر تكليم الله لموسى وزعم أن جبريل أظهر لموسى كلام الله من اللوح المحفوظ وهذا اعتقاد مبدع خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الله جل وعلا كلم موسى حقيقة بكلام سمعه موسى من الله تقدس وعلا وتتضمن الرسالة سماع جبريل عليه السلام القرآن الكريم من رب العزة والجلال والإكرام وأن الله يتكلم إذا شاء بصوت. ولشيخنا رسالة في وجوب السمع والطاعة لولي أمر المسلمين وإن جار ما لم يأمر بمعصية ألفها في بلد شقراء في 25-8-1347 هـ، وألفت لمناسبة حصلت حين ذاك وهي رسالة مفيدة، وله غير ذلك من الرسائل والمسائل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. بسم الله الرحمن الرحيم - خطبة الكتاب : قال المؤلف عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر عفا الله عنه، الحمد لله الحي القيوم ذي الجلال والإكرام، والشكر له ذي الفضل والجود والكرم والمنن العظام، الذي هدانا للإسلام، وأسبغ علينا نعمه وألطافه الجسام، وشرع لنا فضلاً منه وتكرماً حج بيته الحرام، وجعله محلاً لتنزلات الرحمة ومحو الآثام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي خص الحج بوقت محدود، وأطلق وقت العمرة في جميع العام، وفرض الحج والعمرة على كل حر مسلم مكلف مستطيع من الأنام. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وخليله وحبيبه أفضل من أحرم من ميقات ولبى ووقف بعرفة نهاراً إلى الغروب وبات بمزدلفة ومنى ورمى ونحر وحلق وطاف بالبيت الحرام، وصلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا بسنته وسعوا كما سعى بين الصفا والمروة، ووقفوا بتلك المشاعر العظام. أما بعد: فإن الحج من أفضل الطاعات عند رب العالمين، وأجل الأعمال الصالحة لمحو ذنوب المذنبين، وقد استعنت الله سبحانه وتعالى وألفت فيه هذا الكتاب، وسميته: (مفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام) . وهو يشتمل على بيان أحكام الحج وإيضاح مشكلاته، وذكر مصححاته ومفسداته وأركانه وواجباته ومسنوناته، وغير ذلك من متعلقاته، وسقت فيه بحوثاً مفيدة وفوائد فريدة لا تجدها في غيره، لا سيما في المسائل التي كثر فيها السؤال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 والاستشكال في مواسم الحج، مثل مسألة ما إذا طاف المتمتع وسعى لعمرته ثم أحرم بالحج قبل الحلق أو التقصير هل يصح حجه أم لا؟ ومثل مسألة المتمتع هل يكفيه لعمرته وحجه سعى واحد بين الصفا والمروة أم لا بد من سعين واحد للعمرة والآخر للحج؟ وسقت الأحاديث الصحيحة في ذلك، ومثل مسألة رمى الجمار الثلاث لنفسه ومستنيبه أو موليه، ومثل مسألة منع أخذ الشعر والظفر عند الإحرام إذا كان في عشر ذي الحجة ومن نيته أن يضحي أو يضحى عنه، ووجوب أخذ ذلك عند إتمام عمرته، وبيان الفرق بينهما، وغير ذلك من البحوث المفيدة، وتكلمت في الغالب على بعض الأحاديث التي أوردها الفقهاء في المناسك والزيارة وهي غير صحيحة ولا حسنة، كما أني أرجح من الروايات والأقوال ما يوافق الدليل وإن خالف الصحيح من المذهب، مثل قول صاحب المنتهى والإقناع وغيرهما: إنه إذا أتى على رمي جمرة العقبة يستقبل القبلة مع أن الصحيح الذي تدل عليه السنة أنه يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه وغير ذلك، وقد تعرضت في بعض المسائل لذكر الخلاف بين الأئمة لاسيما في فصل: ولا يجوز لمن أراد دخول مكة أو الحرم أو نسكاً تجاوز الميقات بغير إحرام؛ وفي باب الإحرام ومحظوراته، وباب الفدية، فإني قد سقت في ذلك مذاهب الأئمة أكثر مما سقته في غيره. هذا، وإني قد أسوق العبارة الصريحة في بيان المسألة ثم أعقبها بعبارة تؤيدها من المنتهى أو الإقناع أو غيرهما، ولم أتلفت إلى أن هذا يعد تكراراً لأن منه ما يحلو لزيادة الإيضاح. وقد دعاني إلى جمع هذا الكتاب قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 صالح يدعو له) ، وإن لم أكن أهلاً للإكرام فقد يكرم الطفيلي في محل الكرام. هذا، وإني أرجو من الواقف عليه والناظر فيه إن وجد فيه ما يوافق الحق والصواب فليبادر بالقبول ويتذكر يوم الحساب عند رب الأرباب، وإن عثر على شيء زلت فيه القدم أو سبق به القلم فليستحضر بقلبه أنه لم يسلم من الخطأ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد العرب والعجم، كما قيل: ومن ذا الذي ترضى سجاياها كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه. وكما قيل: من يلتمس للناس عيباً يجد لهم ... عيوباً ولكن الذي فيه أكثر. وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الخطأ والزلل، ويحفظنا من التصنع بالقول والعمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وسبباً للفوز بجنات النعيم (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ) (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيبُ) . وهذا أوان الشروع في المقصود بعون الله الملك المعبود، فأقول وبالله الاعتماد وهو الموفق للصواب والسداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 -- كتاب المناسك: جمع منسك بفتح السين وكسرها، وهو التعبد، يقال تنسك: إذا تعبد وغلب إطلاقها على متعبدات الحج، والمنسك في الأصل: من النسيكة، وهي الذبيحة، قال تعالى: (إن صلاتي ونسكي) : أي ذبيحتي (ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له) . قال الجوهري: النسك بالإسكان: العبادة، وبالضم: الذبيحة، انتهى. واعلم أن الحج والعمرة يجبان بشروط خمسة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى والحج لغة: القصد إلى من تعظمه، وشرعاً: قصد مكة وعرفة لعمل مخصوص في زمن مخصوص والعمرة لغة: الزيارة، ويقال أعمره: إذا زاره. وشرعاً: زيارة البيت الحرام على وجه مخصوص، ووجوبهما بالكتاب والسنة. فأما الكتاب فقوله عز وجل: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) ، وقوله: (وأتموا الحج والعمرة لله) . وأما السنة فمنها ما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا) ، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) . رواه أحمد وابن ماجة بإسناد صحيح، وإذا ثبت ذلك في حق النساء فالرجال أولى. والأخبار الواردة في فضله كثيرة مشهورة: فمنها ما في الصحيحين عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) . وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي إلا أنه قال: (غفر له ما تقدم من ذنبه) . وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) . رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ فقال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور) . رواه البخاري وغيره. وابن خزيمة في صحيحه. ولفظه قالت: (قلت يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمر فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) . رواه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال أبو هريرة: حجة مبرورة تكفر خطايا سنة وغير ذلك من الأحاديث والآثار، وتجب العمرة على المكي أيضا، ونص الغمام أحمد على أنها لا تجب على المكي بخلاف غيره، قال الإمام أحمد: (كان ابن عباس يرى العمر واجبة ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت) وهو من رواية إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف. قال شيخ الإسلام: والقول بوجوب العمرة على أهل مكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 قول ضعيف جداً مخالف للسنة الثابتة، ولهذا كان أصح الطريقين عن أحمد أن أهل مكة لا عمرة عليهم رواية واحدة، وفي غيرهم روايتان وهي طريقة أبي محمد المقدسي، وطريقة المجد أبي البركات في العمرة ثلاث روايات، ثالثها تجب على غير أهل مكة انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وعن الإمام أحمد رحمه الله أن العمرة سنة وليست واجبة، روى ذلك عن ابن مسعود، وبه قالت المالكية والحنفية وشيخ الإسلام، فعلى هذه الرواية يجب إتمامها إذا شرع فيها، والمذهب وجوبها كما تقدم؛ ويروى ذلك عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيره وهو أحد قولي الشافعي. وفرض الحج سنة تسع من الهجرة عند أكثر العلماء وقيل سنة عشر، وقيل ست، وقيل خمس، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة وهي حجة الوداع، قال القاضي أبو يعلى: سميت بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، وقال: (ليبلغ الشاهد الغائب) ، أو لأنه لم يعد على مكة بعد انتهى؛ ولا خلاف بين العلماء أن حجة الوداع كانت سنة عشر من الهجرة وكان قارناً فيها. قال الإمام أحمد رحمه الله: لا أشك أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً والمتعة أحب إليّ انتهى، واستدل بما روى أنس: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً يقول لبيك عمر وحجاً) . متفق عليه، وقول الإمام أحمد والمتعة أحب إليّ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم تأسف فقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى ولحللت معكم) ، ويأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. والحج فرض كفاية كل عام على من لم يجب عليه عينا، نقله في الآداب الكبرى لابن مفلح عن الرعاية لابن حمدان. وقال هو خلاف ظاهر قول الأصحاب انتهى. قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي: ويمكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 أن يقال: من لا يجب عليه الحج عيناً بأن يكون أدى حجة الإسلام فالحج في حقه بعد ذلك فرض كفاية باعتبار اندراجه في عموم المخاطبين بفرض الكافية فيعزم كل عام على الحج مع القدرة لو لم يحج غيره، وهو نفل في حقه أيضاً باعتبار خصوصه فيسن له العزم على الحج كل عام مع القدرة، فزيد مثلاً إذا كان أدى حجة الإسلام ثم رأى الناس تهيئوا للخروج إلى الحج فعزم على الخروج معهم كان عزمه وأخذه في الأسباب على سبيل النفلية ظاهراً، ثم إذا حج الجميع فمن كان منهم حجته حجة الإسلام فثوابه ثواب فرض العين، وغيره إن كان ممن دخل في عموم المخاطبين بفرض الكفاية أثيب كل فرد منهم ثواب فرض الكفاية لاستوائهم في مطلق أداء فرض الكفاية. وملخص هذا الحج في حق هذا القسم عند التوجه إليه فرض كفاية على العموم، نفل على الخصوص، وبعد فعل الحج يتبين أنهم قاموا بفرض الكفاية فيثابون على الخصوص ثواب فرض الكفاية، ومثل هذا يأتي في الصلاة على الميت ونحوها، فلا منافاة بين كلام الرعاية وغيرها لما علمت من ثبوت الاعتبارين المذكورين، وبهذا أيضاً يندفع ما أورده الشيخ خالد الأزهري في جمع الجوامع، والظاهر أيضاً سقوط فرض الكفاية بفرض العين لحصول المقصود مع كونه أعلى، هذا ما ظهر لي ولم أره مسطوراً انتهى. ولا يجب الحج والعمرة في العمر إلا مرة واحدة إلا لعارض نذر أو قضاء نسك، لما روى أبو هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) . رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 (يا أيها الناس كتب عليكم الحج، فقال الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلتها لوجبت. ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع. رواه أحمد والنسائي بمعناه. ووجوبهما على الفور نص عليه أحمد، فيأثم إن أخرهما بلا عذر بناء على أن الأمر المطلق عند الأصوليين للفور، ويؤيد خبر ابن عباس مرفوعاً قال: (تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا دري ما يعرض له) . رواه أحمد. قال شيخ الإسلام: الحج واجب على الفور عند أكثر العلماء انتهى. فإن قيل: لو كان واجباً على الفور لم يؤخره صلى الله عليه وسلم، قيل: أما تأخيره صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه الحج بناء على أن الحج فرض سنة تسع فيحتمل أنه كان في آخرها، أو لأنه أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على أنه لا يموت حتى يحج فيكون على يقين من الإدراك. قال أبو زيد الحنفي، أو لاحتمال عدم الاستطاعة، أو حاجة خوف في حقه منعه من الخروج ومنع أكثر أصحابه خوفاً عليه. والصحيح أن الحج فرض سنة تسع كما تقدم وأن فرضه كان في آخرها، وأن آية فرضه هي قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) وهي نزلت عام الوفود آخر سنة تسع وأنه صلى الله عليه وسلم لم يؤخر الحج بعد فرضه عاماً واحداً، وهذا هو اللائق بهديه وحاله صلى الله عليه وسلم. ويشترط للحج والعمرة خمسة شروط: أحدها الإسلام. الثاني العقل، وهما شرطان للوجوب والصحة، فلا يجب حج ولا عمرة على كافر ولو مرتداً لأنه ممنوع من دخول الحرم، وهو مناف له، ويعاقب الكافر على الحج والعمرة وعلى سائر فروع الإسلام كالصلاة والزكاة والصوم كالتوحيد إجماعاً، قال الشيخ عثمان بن قائد: أي لا يجب الحج والعمرة على الكافر وجوب أداء، وأما وجوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الخطاب فثابت، وهذا مبني على الصحيح عند الأصوليين من خطاب الكفار بالفروع انتهى. ولا يجب الحج والعمرة عليه باستطاعته في حال ردته فقط بأن استطاع زمن الردة دون زمن الإسلام لأنه ليس من أهل الوجوب زمن الردة، ولا تبطل استطاعته في إسلامه بردته، بل يثبت الحج في ذمته إذا عاد للإسلام، وإن حج واعتمر ثم ارتد ثم أسلم وهو مستطيع لم يلزمه حج ولا عمرة لأنهما إنما يجبان في العمر مرة واحدة وقد أتى بهما في حين إسلامه، وردته بعد الإتيان بهما لا تبطلهما إذا عاد إلى الإسلام كسائر عباداته. ولا يصح الحج والعمرة من الكافر ولو مرتداً، لأن كلا من الحج والعمرة عبادة من شرطها الإسلام، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط، ويبطل إحرامه ويخرج منه بردته فيه لقوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) . ولا يجب الحج والعمرة على المجنون لحديث (رفع القلم عن ثلاثة) الحديث، ولا يصحان منه إن عقده بنفسه أو عقده له وليه كالصوم، وإنما صح من الصغير دون التمييز إذا عده له وليه للنص الوارد في ذلك، ولا تبطل استطاعته بجنونه فيحج عنه، ولا يبطل إحرامه بالجنون إذا أحرم وهو عاقل ثم جن بعد إحرامه كالصوم لا يبطل بالجنون، ولا يبطل الإحرام بالإغماء والموت، والسكر كالنوم. الشرط الثالث البلوغ. الرابع كمال الحرية، وهما شرطان للوجوب والإجزاء فقط دون الصحة، فلا يجب الحج ولا العمرة على الصغير لأنه غير مكلف، ولا على قن لأن مدتهما تطول فلم يجبا عليه؛ لما فيه من إبطال حق السيد، وكذا مكاتب ومدبر، وأم ولد ومعتق بعضه ومعلق عتقه بصفة، ويصح الحج والعمرة منهم لحديث ابن عباس (أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبياً فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) . رواه مسلم. والقن من أهل العبادة فصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 منه الحج والعمرة كالحر، وقد نظم الشيخ عثمان بن قائد النجدي شروط وجوب الحج والعمرة في بيتين فقال رحمه الله تعالى: الحج والعمرة واجبان ... في العمر مرة بلا تواني بشرط إسلام كذا حرية ... عقل بلوغ قدرة جلية. فقوله في البيت بلا توانٍ إشارة إلى أن وجوبهما بالشروط المذكورة على الفور، فيأثم إن أخرهما بلا عذر، وقوله قدرة جلية إشارة إلى الاستطاعة، والله أعلم. ويجزئ الحج والعمرة كافراً أسلم وهو حر مكلف ثم أحرم بحج قبل دفع من عرفه أو بعده إن عاد فوقف في وقته، أو أحرم بعمرة ثم طاف وسعى لها، أو أفاق من جنون وهو حر مكلف بالغ ثم أحرم بحج أو عمرة وفعل ما تقدم. ولا يجزئ حج الصغير والقن والمكاتب والمدبر وأم الولد والمعتق بعضه والمعلق عتقه بصفة عن حجة الإسلام، إلا أن يبلغ الصغير وهو حر مسلم عاقل محرماً، أو يعتق القن المكلف ونحوه محرماً قبل الدفع من عرفة أو بعده قبل فوات وقت الوقوف إن عاد إلى عرفة فوقف قبل طلوع فجر يوم النحر، ويلزمه العود إلى عرفة في وقت الوقوف إن أمكنه العود لوجوب الحج على الفور ما لم يكن أحرم مفرداً أو قارناً وسعى فيه بعد طواف القدوم فلا يجزئه على الأصح، قال في الإقناع وشرحه: ولو سعى قن أو صغير بعد طواف القدوم وقبل الوقوف والعتق والبلوغ وقلنا السعي ركن وهو المذهب لم يجزئه الحج عن حجة الإسلام لوقوع الركن في غير وقت الوجوب، أشبه ما لو كبر للإحرام ثم بلغ، فعلى هذا لا يجزئه ولو أعاد السعي بعد البلوغ والعتق لأنه لا يشرع مجاوزة عدده ولا تكراره وخالف الوقوف من حيث إنه إذا بلغ أو أعتق بعده وأعاده في وقته يجزئه، إذ استدامته مشروعة ولا قدر له محدود ما دام وقت الوقوف باقيا، وقيل يجزئه إذا أعاد السعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 لحصول الركن الأعظم وهو الوقوف وتبعية غيره له، ولا تجزئ العمرة من بلغ أو عتق في طوافها وإن أعاده وفاقاً انتهى. ومعنى قوله ولا قدر له محدود أن الوقوف بعرفة يكفي ولو لحظة فلا يقدر بساعة أو ساعتين ونحو ذلك، قال الشيخ مرعي في الغاية: ويتجه الصحة ولو بعد سعي إن فسخ حجة إلى عمرة ولم يسق هديا أو يقف بعرفة كما يأتي انتهى. قلت ما ذكره صاحب الغاية من الاتجاه واضح لا غبار عليه كما يأتي أنه يسن للمفرد والقارن الفسخ إذا لم يسوقا هديا أو يقفا بعرفة، وحينئذ إذا فسخ حجة إلى عمرة صح ذلك بل الفسخ سنة ولكن لو لم يفسخ حجة إليها، فالذي ينبغي أن يقال به هو القول بالإجزاء إذا أعاد السعي، وإن حكى بصيغة التمريض وخالف الصحيح من المذهب، لحديث (الحج عرفة) والله أعلم. ومتى أمكنه العود إلى عرفة في وقت الوقوف فلم يفعل استقر الوجوب عليه سواء كان مؤسراً أو معسراً، لأن ذلك وجب عليه بإمكانه في موضعه فلم يسقط بفوات القدرة بعده. ولا تجزئ عمرة الصغير والقن والمكاتب والمدبر وأم الولد والمبعض والمعلق عتقه بصفة عن عمرة الإسلام إلا أن يبلغ الصغير أو يعتق القن ونحوه في العمرة محرماً قبل الشروع في طوافها فتجزئهم عن عمرة الإسلام إذا طاف وسعى لها. قال ابن رجب في القاعدة السادسة عشرة: ومنها إذا بلغ الصبي أو عتق العبد وهما محرمان قبل فوات وقت الوقوف فهل يجزئهما عن حجة الإسلام؟ على روايتين أشهرهما الإجزاء، فقيل لأن إحرامهما انعقد مراعي لأنه قابل للنقل والانقلاب. وقيل بل يقدر ما مضى منه كالمعدوم ويكتفي بالموجد منه. وقيل إن قلنا الإحرام شرط محض كالطهارة للصلاة اكتفى بالموجود منه، وإن قيل هو ركن لم يكتف به انتهى. قال في المنتهى وشرحه: ويكون من بلغ محرماً وقن عتق محرماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 كمن أحرم إذاً: أي بعد بلوغه وعتقه لأنها حال تصح لتعيين الإحرام كحال ابتداء الإحرام وإنما يعتد بإحرام ووقوف موجودين، إذا: أي حال البلوغ والعتق وما قبله تطوع لم ينقلب فرضا. قاله الموفق ومن تابعه وقدمه في التنقيح. وقال جماعة منهم صاحب الخلاف والانتصار والمجد وغيرهم: ينعقد إحرام الصغير والقن موقوفا، فإذا تغيرت حاله إلى بلوغ أو حرية تبين فرضيته: أي الإحرام كزكاة معجلة انتهى. قلت لعل من فائدة الخلاف زيادة أجر الفرض على النقل، والله أعلم. قال الشيخ مرعي في الغاية: ويتجه لو حج وفي ظنه أنه صبي أو قن فبان بالغاً أو حرا أنه يجزئه انتهى. -- فصل: ويصح الحج والعمرة من صغير ذكر أو أنثى ولو ولد لحظة، فإن كان مميزاً أحرم بإذن وليه، وإن لم يكن مميزاً أحرم عنه وليه فيصير الصغير محرماً بذلك، وهو مذهب المالكية والشافعية. وقالت الحنفية: لا ينعقد إحرام الصبي ولا يصير محرماً بإحرام وليه، لأن الإحرام سبب يلزم به حكم فلم يصح من الصبي كالنذر، ودليل من قال بالصحة حديث ابن عباس: (أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) . رواه مسلم. قال في المنتهى وشرحه: ويُحرم ولي في مال عمن لم يميز لتعذر النية منه، وولي المال الأب أو وصيه أو الحاكم، وظاهره لا يصح من غيرهم بلا إذنهم. قلت إن لم يكن ولي فمن يلي الصغير يعقد له كما ذكره في الإقناع وغيره في قبول زكاة وهبة انتهى. قال الشيخ محمد الخلوتي: وهذا ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (نعم ولك أجر) حيث لم يستفصل فيسأل هل له أب حاضر أو لا؟ انتهى. قال الموفق في المغني: فإن أحرمت عنه أمه صح لقول النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 صلى الله عليه وسلم: (ولك أجر) ولا يضاف الأجر إليها إلا لونه تبعاً لا في الإحرام، قال الإمام أحمد في رواية حنبل: يحرم عنه أبوه أو وليه واختاره ابن عقيل، وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلا وليه، لأنه لا ولاية للأم على ماله، والإحرام يتعلق به إلزام مال فلا يصح من غير ذي ولاية كشراء شيء له، فأما غير الأم والولي من الأقارب كالأخ والعم وابنه فيخرَّج فيهم وجهان بناء على القول في الأم. أما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجهاً واحداً انتهى ملخصاً؛ ومعنى إحرام الولي عنه، نيته لإحرام له فيجرده كما يجرد الكبير نفسه، ويعقد له الإحرام، ويصير الصغير محرماً سواء كان الولي محرماً أو حلالاً ممن عليه حجة الإسلام، أو ممن كان قد حج عن نفسه، ولأن الولي يعقد له النكاح ولو كان مع الولي أربع نسوة، ويقع إحرام الصغير لازما، وحكمه كالمكلف نصاً، قال في الغاية وشرحها: ويتجه احتمال قوي الصحة لو أحرم الولي عن نفسه وعن موليه الغير المميز معاً، كما لو جعل لكل إحراماً على حدته وهو متجه انتهى. وعليه فيقول: أدخلت نفسي وهذا الصغير في نسك كذا ونحو ذلك، ويعايا بها فيقال: شخص يصح أن يحرم عن غيره بالحج في حال إحرامه عن نفسه، ويجاب عنها فيقال هذا في الولي فإنه يصح أن يحرم عن الطفل المولى عليه ولو كان الولي محرماً، والله أعلم. ويحرم مميز بإذن الولي عن نفسه لأنه يصح وضوءه فيصح إحرامه كالبالغ، وليس لولي المميز تحليله إذا أحرم كالبالغ. ولا يصح إحرام المميز بغير إذن وليه لأنه يؤدي إلى لزوم ما لم يلزم فلم ينعقد بنفسه كالبيع؛ ولا يحرم الولي عن المميز لعدم الدليل على ذلك وكل ما أمكن الصغير، مميزاً كان أو دونه، فعله بنفسه كالوقوف بعرفة والمبيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بمزدلفة وليالي منى لزمه فعله؛ بمعنى أنه لا يصح أن يفعل عنه لعدم الحاجة إليه، لا بمعنى أنه يأثم بتركه لأنه غير مكلف سواء أحضره الولي فيهما، أعني الوقوف والمبيت أو غير الولي أو لم يحضره أحد، ويفعل ولي بنفسه أو نائبه عن مميز وغيره ما يعجزهما من أفعال حج وعمرة، لكن لا يبدأ ولي أو نائبه في رمي جمرات إلا بنفسه كنيابة حج، فإن بدأ برمي عن موليه وقع عن نفسه إن كان محرماً بفرضه، كمن أحرم عن غيره وعليه حجة الإسلام، قال في المغني: ولا يجوز أن يرمي عنه إلا من قد رمى عن نفسه لأنه لا يجوز أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه، قال في المنتهى وشرحه: لكن لا يبدأ ولي في رمي جمرات إلا بنفسه كنيابة حج، فإن رمى عن موليه وقع عن نفسه إن كان محرماً بفرضه انتهى. قال الشيخ محمد الخلوتي على قول صاحب المنتهى لكن لا يبدأ في رمي إلا بنفسه: أي فيما إذا كان حج فرض كما قيد به في شرحه، قال في الإقناع وشرحه: وما عجز عنه الصغير فعله عنه الولي لكن لا يجوز أن يرمي عنه: أي عن الصغير إلا من رمى عن نفسه كما في النيابة في الحج إن كان الولي محرماً بفرضه، قاله في المبدع وشرح المنتهى، وإن رمى عن الصغير أولا وقع الرمي عن نفسه كمن أحرم عن غيره وعليه حجة الإسلام، انتهى ملخصاً. قلت: يفهم من كلامهم أنه إذا كان الولي محرماً بنفل الحج أنه يجوز له أن يرمي عن موليه قبل رميه عن نفسه، ويقاس عليه النائب في رمي الجمار إذا رمى عن مستنيبه قبل نفسه إذا كان النائب محرماً بنفل الحج، ويأتي البحث في ذلك مستوفى عند ذكر رمي الجمار، والله الموفق للصواب. قال الشيخ مرعي في الغاية: ويتجه أنه لا يصح رمي عن صغير من غير موليه كما لا يصح الإحرام من غيره عنه وتقدم وهو متجه، قال شارح الغاية أو من أذن له الولي كبقية أفعال الحج انتهى. وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 صريح في كلامهم حيث قالوا ويفعل ولي صغير ومميز بنفسه أو نائبه ما يعجزهما من أفعال الحج، قال الموفق في المغني: قال الإمام أحم يرمي عن الصبي أبواه أو وليه انتهى. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يحج بصبيانه وهم صغار فمن استطاع منهم أن يرمي رمى، ومن لم يستطع أن يرمي، رمى عنه، وإن كان الولي حلالاً لم يعتد برميه لأنه لا يصح منه لنفسه رمى، فلا يصح عن غيره، ومعنى هذا أنه لا يعتد برمي الحلال وهو من لم يحج في هذه السنة التي رمى فيها لأنه غير متلبس بعبادة الحج في هذه السنة فلم يكن صالحاً لأدائها ولا شيء منها ولذا لم يصح منه الرمي عن نفسه لكونه لم يحج، وإذا لم يصح منه عن نفسه فعن غيره من باب أولى، هذا ما ظهر لي، والله أعلم. ولا يرد عليه إحرام الولي عمن لم يميز حيث كان يصح إحرامه عنه ولو كان حلالاً، لأنا نقول إذا عقد الولي الإحرام للصغير صار الصغير محرماً كما تقدم قريباً، وإن أمكن الصبي أن يناول النائب الحصا ناوله إياه وإلا استحب أن توضع الحصاة في كفه ثم تؤخذ فترمى عنه، فإن وضعها النائب في يده ورمى بها عنه فجعل يده كالآلة فحسن ليوجد منه نوع عمل، وإن أمكن الصغير أن يطوف ماشياً فعله كالكبير وإلا طيف به محمولاً أو راكباً كالمريض، ويجوز وإن لم يكن الطفل طاهراً لأن طهارته ليست شرطاً لصحة طوافه، فيعايا بها فيقال: شخص صح طوافه بلا طهارة ولا تيمم من غير عجز عن استعمال ذلك ولا عدم، ولا فرق بين أن يكون الحامل له حلالا أو حراماً ممن أسقط الفرض عن نفسه أولاً جعلاً للحامل له بمنزلة المركوب ولوجود الطواف من الصبي كمحمول مريض، ولم يوجد من الحامل إلا النية كحالة الإحرام بخلاف الرمي. وتعتبر النية من الطائف به، فإن لم ينو الطواف عن الصبي لم يجزئه، قال في الإقناع: وتعتبر النية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 من الطائف به، قال الشيخ منصور: ولعله إذا كان دون التمييز وإلا فلا بد من النية منه كالإحرام انتهى. قال في المنتهى: ويعتبر نية طائف به انتهى، قال الشيخ محمد الخلوتي: لعله في غير المميز على قياس الإحرام، وعلى قياسه أيضاً أنه إذا كان مميزاً يأتي به لنفسه بنيته بإذن وليه انتهى. ويعتبر كونه ممن يصح أن يعقد له الإحرام بأن يكون وليه أو نائبه لأن الطواف تعتبر له النية فلما تعذرت من الصغير اعتبرت ممن له النيابة عنه بالشرع، بخلاف الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى، فإن نوى الطائف بالصغير الطواف عن نفسه وعن الصبي وقع الطواف عن الصبي كالكبير يطاف به محمولاً لعذر، لأن الطواف فعل واحد لا يصح وقوعه عن اثنين، ونفقه الحج التي تزيد على نفقة الحضر وكفارته في مال وليه إن كان وليه أنشأ السفر به تمريناً على الطاعة لأنه السبب فيه وكما لو أتلف مال غيره بأمره قال ابن عقيل، ولا حاجة إلى التمرن على الحج لأنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة وقد لا يجب إذا فقدت شروطه أو أحدهما. وأما نفقة الحضر، ففي مال الصبي بكل حال لأنه لا بد له منها مقيماً كان أو مسافراً، وأما سفر الصبي مع الولي للتجارة أو الخدمة أو إلى مكة ليستوطنها أو ليقيم بها لعلم أو غيره مما يباح للولي السفر بالصبي في وقت الحج وغيره ومع الإحرام وعدمه، فلا نفقة على الولي بل هي على الصبي قال في المبدع رواية واحدة، وعمد صغير وعمد مجنون لمحظور خطأ لا يجب فيه إلا ما يجب في خطأ المكلف أو في نسيانه لعدم اعتبار قصدهما فلا يجب بفعلهما شيء إلا فيما يجب على المكلف في خطأ ونسيان كإزالة الشعر وتقليم الظفر وقتل الصيد والوطء، بخلاف الطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس. قال الشيخ الخلوتي: أي إذا طرأ جنونه بعد إحرامه وإلا فسيأتي أن الإحرام لا ينعقد مع الجنون ولا الإغماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ولا السكر انتهى. قلت: يأتي ذلك في باب الإحرام وتقدم شيء منه، وإن فعل الولي بهما فعلاً لمصلحة كتغطية رأس الصغير أو المجنون المحرم لبرد أو حر أو تطيبه لمرض أو حلق رأسه لأذى، فكفارته على الولي إذا كان الولي أنشأ السفر به تمرينا على الطاعة، أما لو سافر به لتجارة ونحوها فهي في مال الصبي كما لو فعله الصبي نفسه، هذا مقتضى ما نقله في الفروع والمبدع، وشرح المنتهى لمؤلفه الفتوحي عن المجد واقتصروا عليه، فأما إن فعله الولي لا لعذر فكفارته عليه بكل حال كمن حلق رأس محرم بغير إذنه، قال في المنتهى وشرحه: وإن وجب في كفارة على ولي بأن أنشأ السفر به تمرينا على الطاعة صوم صام الولي عنه لوجوبها عليه ابتداء كصوم عن نفسه، وعلم منه أن الكفارة لو لم تجب على الولي ودخلها صوم لم يصم الولي، لأن الواجب بأصل الشرع لا تدخله النيابة انتهى. قال الشيخ منصور في حاشيته على المنتهى: قوله وإن وجب في كفارة على ولي إلى آخره، يعني إذا وجبت الكفارة على الولي لكونه أنشأ السفر به تمرينا على الطاعة وكان فيها صوم فللولي الصوم لوجوبها عليه ابتداء كصومه عن نفسه، وعلم منه أنه لا يصوم في كفارة عن الصبي حيث وجبت عليه لأن الواجب بأصل الشرع لا تدخله النيابة كما مر، هذا مفهوم كلامه في الفروع. وعبارة التنقيح وتبعه في الإقناع: وإن وجب في كفارة صوم صام الولي فعمومه يتناول ما إذا كانت الكفارة على الولي أو الصبي، وهل هو مراد لكون الصوم إذاً من توابع الحج فتدخله النيابة تبعاً كركعتي الطواف، ويكون مخالفاً لكلام الفروع كما هو مقتضى قوله، يعني صاحب التنقيح في أول خطبته: وإن وجدت فيه شيئاً مخالفاً لأصله أو غيره فاعتمده فإنه وضع عن تحرير أوْ لا لكونه جزم في الإنصاف بما قاله في الفروع غير حاكٍ فيه خلافاً، ولعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 هذا هو حكمة عدول المصنف، يعني الشيخ محمد بن أحمد الفتوحي في المنتهى عما في التنقيح مع كونه التزمه أولاً انتهى. قال الشيخ محمد الخلوتي في حاشية المنتهى: قوله وإن وجب في كفارة إلى آخره هذه العبارة تبع المصنف فيها ظاهر كلام الفروع وهو مخالف لظاهر عبارة التنقيح، وعبارته في التنقيح: وإن وجب في كفارة صوم صام الولي وتبعه في الإقناع في التعبير، وكل من العبارتين مشكل، أما الأولى فلما فيها من التناقض بحسب الظاهر لأن صدرها يقتضي أن الكفارة استقرت على الولي، وقوله عنه يقتضي أنها وجبت على مَوليه، وأما الثانية فلأن إطلاقها يقتضي أنه متى وجب في الكفارة صوم سواء كانت وجبت على الولي أو الصغير لزم الولي الصوم، فيقتضي أن ما وجب في الصوم بأصل الشرع تدخله النيابة. فإن قلت: أي العبارتين أولى؟ قلت: الأولى. ويجاب عن التناقض اللازم عليها بأن قوله صام عنه ليس لكون الكفارة استقرت على الصبي بل لكون الوجوب جاء من جهته لأن أصل الفعل عنه، وبأن الضمير في عنه راجع للواجب لا للصغير وإن كان هذا خلال حل شيخنا، يعني خاله الشيخ منصوراً في شرحه. وعبارة المبدع، فإذا وجبت على الولي ودخل فيها الصوم فصومها عن نفسه انتهى. وهي معينة للمراد من عبارة المصنف، يعني صاحب المنتهى، ولو أسقط يعني صاحب المنتهى لفظ عن لكان أظهر للمراد انتهى كلام الخلوتي. قال الشيخ عثمان بن قائد في حاشية المنتهى: قوله صام عنه؛ المتبادر من عبارته أن الصوم عن الصغير، وهو مناقض لقوله وجب على ولي. والحاصل أن صوم كفارة واجبة على ولي واجب على الولي، وصوم كفارة في مال الصبي واجب على الصبي إذا بلغ كما ذكره منصور. وفي المبدع: متى دخل في الكفارة اللازمة للولي صوم صام عن نفسه، وهي ظاهرة لا غبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 عليها فيتعين حمل ما نهى على ذلك بأن يراد بقوله عنه: أي عن ذلك الواجب، اللهم إلا أن يقال معنى كونه عن الصغير أن الوجوب إنما جاء من جهته فنسب إليه، وفي التنقيح والإقناع وإن وجب في كفارة صوم صام الولي وفيها عموم غير مراد بقرينة أنه جزم في الإنصاف بما قاله في الفروع الذي جزم به المصنف، يعني صاحب المنتهى هنا غير حاك فيه خلافاً، قال منصور: ولعل هذا حكمة عدول المصنف عما في التنقيح مع كونه التزمه أولاً فما هنا أولى من عبارتهما على ما فيه فتأمل انتهى كلام عثمان. قال الشيخ منصور في شرح الإقناع بعد كلام سبق: وعلى هذا لو كانت الكفارة على الصبي ووجب فيها صوم لم يصم الولي عنه بل يبقى في ذمته حتى يبلغ. فإن مات أطعم عنه كقضاء رمضان وهذا مقتضى كلامه أيضاً في المبدع وشرح المنتهى لمؤلفه. انتهى كلام الشيخ منصور وفي الغاية للشيخ مرعي: وإن وجب في كفارة مطلقاً صوم صام ولي خلافا للمنتهي في تفصيله، إذ الصوم لا يصح ممن لم يميز ومن مميز نفل انتهى. قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه: وإن وجب في كفارة صوم صام ولي إذ الصوم من الطفل لا يصح ومن المميز نفل انتهى. تبنيه: تبين من العبارات المتقدمة حصول الخلاف في هذه المسألة فصاحب الفروع والإنصاف فيه والمبدع والمنتهى وشرحيه للمؤلف ومنصور. وحاشية الشيخ منصور على المنتهى وشرحه على الإقناع، والشيخ محمد الخلوتي في حاشيته على المنتهى، والشيخ عثمان بن قائد النجدي في حاشيته على المنتهى يرون أنه إذا وجبت الكفارة على الولي ودخلها صوم صام الولي، وإن وجبت الكفارة على الصبي فلا يصوم الولي عنه؛ وأما صاحب التنقيح فيه وصاحب الإقناع والغاية وسليمان بن علي فيرون أنه إذا وجب في كفارة صوم صام الولي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 سواء كانت الكفارة على الولي أو الصبي. فإن قيل: أي القولين أولى؟ قلت الأول. ويكون حكم المسألة في هذا كما قاله الشيخ منصور حيث قال: وعلى هذا لو كانت الكفارة على الصبي ووجب فيها صوم لم يصم الولي عنه بل يبقى في ذمته حتى يبلغ، فإن مات أطعم عنه كقضاء رمضان انتهى كلام منصور، والله أعلم. ووطء الصبي كوطء البالغ ناسياً، فإن كان قبل التحلل الأول أفسد حجه وإلا فلا ويمضي في فاسده ويلزمه القضاء بعد البلوغ نصاً، ويعايا بها فيقال: صبي مميز كلفناه بالحج في صباه مع أنه لا يصح إلا بعد البلوغ ويجاب عنها فيقال: هذا فيما إذا أحرم بالحج بإذن وليه ثم أفسده بالجماع فإنه يلزمه القضاء لكن لا يصح إلا بعد البلوغ في المنصوص، فلو قضاه قبل بلوغه لم يصح نص عليه لأنه إفساد لإحرام لازم وذلك يقتضي وجوب القضاء، ونية الصبي تمنع التكليف بفعل العبادات البدنية لضعفه عنها، ونظير ذلك وجود الاحتلام أو الوطء من المجنون، فإنه يوجب الغسل عليه لوجود سببه ولا يصح منه إلا بعد الإفاقة لفقد أهليته للغسل في الحال. وكذا الحكم إذا تحلل الصبي من إحرامه لفوات وقت الوقوف فإن يقتضيه إذا بلغ، وفي الهدي التفصيل السابق أو تحلل الصبي لإحصار، وقلنا يجب القضاء يقضيه إذا بلغ والفدية على ما سبق، ويأتي أن المحصر لا يلزمه قضاء، لكن إذا أراد الصبي القضاء، بعد البلوغ لزمه أن يقدم حجة الإسلام على المقضية كالمنذورة، فلو خالف وقدم المقضية على حجة الإسلام فهو كالحر البالغ يحرم قبل الفرض بغيره فينصرف نفله إلى حجة الإسلام ثم يقضي بعد ذلك، ومتى بلغ الصبي في الحجة الفاسدة التي وطيء فيها في حال يجزئه عن حجة الفرض لو كانت صحيحة بأن بلغ وهو بعرفة أو بعده وعاد فوقف في وقته ولم يكن سعى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بعد طواف القدوم لحجة أو قرانه فإنه يمضي في تلك الحجة التي بلغ في أثنائها ثم يقضيها فوراً ويجزئه ذلك الحج القضاء عن حجة الإسلام والقضاء كما يأتي نظيره في العبد، أما إن كان قد سعى بعد طواف القدوم، فقد تقدم في الشرط الثالث من شروط الحج الكلام في ذلك فراجعه إن أردت، وذكر الموفق في المغني وجهاً أن الصبي لا يجب عليه القضاء إذا أفسد حجه لئلا تجب عبادة بدنية على من ليس من أهل التكليف، وهذا الوجه وجيه، والله أعلم. -- فصل: ويصح الحج والعمرة من قن ذكر أو أنثى صغير أو كبير على ما تقدم في الصغير الحر لعدم المانع، ويلزمان القن البالغ بنذره لهما، أما الصغير فلا ينعقد نذره، ولا يجوز أن يحرم قن بنذر ولا نفل، ومثله مدبر وأم ولد، ولا أن تحرم زوجة بنفل حج أو عمرة إلا بإذن سيد وزوج لتفويت حقهما بالإحرام، فإن عقد القن والمرأة الإحرام بنفل بلا إذن سيد وزوج، فللزوج والسيد تحليلهما ويكونان كمحصر، ويأثم من لم يمتثل من قن وزوجه، وله وطء زوجته وأمته إذا أحرمتا بلا إذنه إذا أمرهما بالتحلل وخالفتا، ولا يجوز لزوج وسيد تحليلهما مع إذن لهما في إحرام لوجوبه بالشروع، ويصح من زوج وسيد رجوع في إذن بإحرام قبل إحرامهما، ومتى علما برجوع امتنع عليهما الإحرام كما لو لم يأذن الزوج والسيد وإلا فالخلاف في عزل الوكيل قبل علمه بعزل موكله له: والمذهب أنه ينعزل فيكون الحكم هنا كما لو لم يأذنا، قال الشيخ عثمان النجدي: فله التحليل إذاً وإن لم يعلم من أحرم بالرجوع انتهى. ولا يصح رجوع في إحرام بعد إذن فيه وبعد إحرام للزومه، ولا يجوز لزوج وسيد تحليل زوجة وقن أحرما بنذر أذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فيه زوج وسيد للقن والزوجة، فإن لم يأذنا في الإحرام بالنذر فللسيد تحليل قنه مننه، وليس للزوج تحليل زوجته منه لوجوبه عليها كالواجب بأصل الشرع، ولا يمنع زوج زوجته من فرض كملت شروطه ونفقتها عليه كقدر نفقة الحضر وما زاد فمن مالها، ويستحب لها استئذانه فإن أذن وإلا حجت بمحرم، فلو لم تكمل شروطه فله منعها من الخروج إليه ومن الإحرام به لتفويتها حقه فيما ليس بواجب عليها. قال الشيخ عثمان: فلو لم تكمل شروط الوجوب بل شروط الإجزاء أعني سوى الاستطاعة بدليل أنه لو كان نفلا في حق غير المستطيعة لملك تحليلها، والحاصل أنه متى أحرم الحر المسلم المكلف غير المستطيع فإنه يلزمه المضي فيه ويجزئه ذلك عن حجة الفرض بحيث أنه لو استطاع بعد ذلك لم تلزمه إعادته، رجلاً كان أو امرأة انتهى. ويأتي أن الاستطاعة شرط للوجوب فقط لا للصحة والإجزاء، وإن أحرمت بحج الفرض الذي لم تكمل شروطه بلا إذنه لم يملك تحليلها لوجوب إتمامه بشروعها فيه، وليس للزوج منعها من العمرة الواجبة إذا كملت شروطها ولا تحليلها منها إذا أحرمت بها وإن لم تكمل شروطها لوجوبها بالشروع فيها كالحج. ومن أحرمت بواجب حج أو عمرة بأصل الشرع أو النذر فحلف زوجها ولو بالطلاق الثلاث لا تحج العام لم يجز أن تحل من إحرامها للزومه ويقع عليه الطلاق، وتصير في هذه الحال بلا محرم، إن لم يكن معها غيره ممن يصلح أن يكون محرماً لها، وإن أفسد قن حجه بوطء فيه قبل التحلل الأول مضى في فاسده وقضاه كحر، ويصح القضاء من قن مكلف في رقه لأنه وجب فيه فصح كالصلاة والصيام بخلاف حجة الإسلام، وليس لسيده منعه من قضاء إن كان شرع فيما أفسده من حج أو عمرة بإذنه، لأن إذن السيد فيه إذن في موجبه، ومن موجبه قضاء ما أفسده على الفور، فإن لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 بإذن السيد فله منعه منه كالنذر، وإن عتق القن قبل أن يأتي بالقضاء لزمه أن يبتدئ بحجة الإسلام لأنها آكد، فإن خالف فبدأ بالقضاء فحكمه كالحر يبدأ بنذر أو غيره قبل حجة الإسلام فيقع عن حجة الإسلام ثم يقضي في القابل، قال في المنتهى وشرحه: وإن عتق قن في الحجة الفاسدة أو بلغ الحر في الحجة الفاسدة وكان عتقه أو بلوغه في حال تجزئه عن حجة الفرض لو كانت الحجة الفاسدة صحيحة مضى فيها كالحر وقضاها وأجزأته حجة القضاء عن حجة الإسلام وحجة القضاء لأن القضاء يحكي الأداء انتهى. فقوله في حال تجزئه عن الفرض: أي بأن كان ذلك قبل الدفع من عرفة أو بعده وعاد ووقف في وقت الوقوف ولم يكن سعى بعد طواف القدوم لحجه أو قرانه كما مر، أما إن بلغ بعد الوقوف ولم يقف ثانياً فإنه لا تجزئه حجة القضاء عن حجة الإسلام والقضاء؛ قال المحب بن نصر الله البغدادي: وإذا لم تجزئه فليس له فعل حجة القضاء قبل حجة الإسلام فإن أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الإسلام ويبقى القضاء في ذمته كالعبد إذا أفسد حجته ثم عتق فإنهم ذكروا ذلك فيهما، انتهى كلام ابن نصر الله. وقن في جنايته بفعل محظور في إحرامه كحر معسر في الفدية بالصوم، فإن مات العبد ولم يصم ما وجب عليه فيسن لسيده أن يطعم عنه كما ذكروه في قضاء رمضان ولا يصوم عنه، وإن تحلل القن لحصر عدو منعه من الحرم أو حلله سيده لعدم إذنه له لم يتحلل قبل الصوم كحر أحصر وأعسر فيصوم عشرة أيام بنية التحلل ثم يتحلل، وليس للسيد منع القن من الصوم نص عليه لوجوبه بأصل الشرع فهو كرمضان، وإن أفسد قن حجة بأن وطيء فيه قبل التحلل الأول صام عن البدنة عشرة أيام كالحر المعسر، وكذا إن تمتع قن أو قرن أو أفسد عمرته صام عن الدم عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع لأنه لا مال له، وحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 المدبر والمكاتب والمعلق عتقه بصفة والمبعض حكم القن فيما ذكره، ومشترى القن المحرم كبائعه في تحليله إن كان أحرم بلا إذن بائعه وفي عدمه إن كان أحرم بإذنه، وللمشتري فسخ البيع إن لم يعلم بإحرام القن لما فيه من تفويت منافعه عليه مدة الحج ولم يملك المشتري تحليله إن كان إحرامه بإذن البائع، فإن ملك مشتر تحليله بأن كان أحرم بلا إذن البائع فلا فسخ لأن إبقاءه في الإحرام كإذنه له فيه ابتداء وكذا لا فسخ للمشتري إن علم أنه محرم. -- فصل: وليس للوالدين منع ولدهما من حج الفرض والنذر ولا تحليله منه، ولا يجوز للولد طاعتهما في ترك الحج الواجب أو التحلل منه، وكذا كل ما وجب كصلاة الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب لأنها فرض عين فلا يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة، ولكل من أبوي حر بالغ حرين منع ولدهما البالغ من إحرام بنفل حج أو عمرة كمنعه من نفل جهاد للإخبار، وأما ما يفعله في الحضر من نفل نحو صلاة وصوم فلا يعتبر فيه إذن وتجب طاعتهما في غير معصية. قال في المستوعب وغيره ولو كانا فاسقين وهو ظاهر إطلاق أحمد. قال في الإنصاف وظاهر رواية المرودي لا طاعة لهما في مكروه وظاهر رواية جماعة لا طاعة لهما في ترك مستحب. وقال المجد وتبعه ابن تميم: لا يجوز منع ولده من سنة راتبة. قال شيخ الإسلام: تجب طاعتهما فيما فيه نفع لهما ولا ضرر عليه ولو شق. قال الشيخ مرعي في الغاية: ووقع خُلف في المباح، فقيل يلزمه طاعتهما ولو كانا فاسقين فلا يسافر إلا بإذنهما، ويتجه صحة هذا في سفر وفي كل ما يخافان عليه منه انتهى. ولا يحللان ولدهما البالغ إذا أحرم بحج التطوع لوجوبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بالشروع فيه، ولا يحلل غريم مديناً أحرم بحج أو عمرة لوجوبهما بالشروع فيهما، وليس لولي سفيه مبذر بالغ منعه من حج الفرض وعمرته ولا تحليله من إحرام بأحدهما لتعينه عليه كالصلاة وتدفع نفقته إلى ثقة ينفق عليه في الطريق يقوم مقام الولي في التصرف له، ويحلل سفيه بصوم كحر معسر إذا أحرم السفيه بنفل لمنعه في التصرف في ماله إن زادت نفقة السفر على نفقة الإقامة ولم يكتسب السفيه الزيادة في سفره، فإن كانت نفقة السفر بقدر نفقة الحصر أو زادت وكان يكتسب الزائد لم يحلل لا ضرر عليه في ماله. -- فصل: الشرط الخامس لوجوب الحج والعمرة الاستطاعة للآية والأخبار، وهي شرط للوجوب فقط لا للصحة والإجزاء، فغير المستطيع إذا حج واعتمر صح ذلك منه وأجزأه عن حجة الإسلام وعمرته، ولا تبطل الاستطاعة بجنون ولو مطبقاً ولا ردة، ويحج عنهما، وكذا الموت، على ما يأتي إن شاء الله. والاستطاعة ملك زاد يحتاجه في سفر ذهاباً وإياباً من مأكول ومشروب وكسوة وملك وعائه لأنه لا بد منه، ولا يلزمه حمل الزاد إن وجد بثمن مثله أو زائد يسيراً بالمنازل في طرق الحاج، وملك راحلة لركوبه بآلتها بشراء أو كراء يصلحان أعني الراحلة وآلتها لمثله في مسافة قصر عن مكة وهي مسيرة يومين قاصدين معتدلين، وذلك أربع وعشرون ساعة بسير الأثقال من الإبل ودبيب الأقدام، ولا يعتبر ملك راحلة فيما دون مسافة القصر عن مكة من مكي وغيره بينه وبين مكن دون المسافة كأهل لزيمة وبحرة ووادي فاطمة المسمى سابقا بمر الظهران ونحوهم، لقدرتهم على المشي فيها غالباً، ولأن مشقتها يسيرة ولا يخشى فيها عطب لو انقطع بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 بخلاف البعيدة، ويعايا بها فيقال: فقير لا يجد راحلة مع وجوب الحج عليه ويجاب عنها فيقال: هذا فيما إذا كان بمكة أو قريباً منها وهو قادر على المشي، وكذا من مكل ما يحج به لكنه أخر الحج حتى افتقر فإن الحج واجب في ذمته والله أعلم، إلا لعاجز عن المشي كشيخ كبير فيعتبر له ملك الراحلة بآلتها حتى فيما دون مسافة القصر، ولا يلزمه السير حبواً ولو أمكنه. وأما الزاد فيعتبر، قربت المسافة أو بعدت مع الحاجة إليه أو ملك ما يقدر به من نقد أو عرض على تحصيل الزاد والراحلة وآلتهما، فإن لم يملك ذلك لم يلزمه الحج لكن يستحب لمن أمكنه المشي والكسب بالصنعة، ويكره لمن حرفته المسألة، وينبغي أن يكثر من الزاد والنفقة عند إمكانه ليؤثر محتاجاً ورفيقاً، وأن تطيب نفسه بما ينفقه لأنه أعظم في أجره، ويستحب أن لا يشارك غيره في الزاد وأمثاله، واجتماع الرفاق كل يوم على طعام أحدهم على المناوبة أليق بالورع من المشاركة في الزاد، ويعتبر كون ما تقدم من الزاد والراحلة وآلتهما أو ما يقدر به على تحصيل ذلك فاضلا عما يحتاج إليه من كتب ومسكن للسكنى أو مسكن يحتاج إلى أجرته لنفقته أو نفقة عياله أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه لو صرف فيه شيئاً منها لما فيه من الضرر عليه، وخادم لنفسه لأنه من الحوائج الأصلية وعما لا بد له منه من لباس مثله وغطاء ووطاء وأوان ونحوها، وفاضلاً عن قضاء دينه حالا كان الدين أو مؤجلا لله أو لآدمي، وعما لا بد له منه كمؤنثه ومؤنة عياله الذين تلزمه مؤنتهم، لكن إن كن المسكن واسعاً أو الخادم نفسياً فوق ما يصلح له وأمكن بيعه وشراؤه قدر الكفاية منه ويفضل ما يحج به، لزمه ذلك لأنه مستطيع، فإن لم يفضل عنه ما يحج به لم يلزمه، وكذا إن استغنى بإحدى نسختي كتاب باع الأخرى. ويقدم النكاح مع عدم الوسع للنكاح والحج من خاف العنت نصا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 قال في الإقناع وشرحه: ويعتبر في الاستطاعة أن يكون له إذا رجع من حجه ما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام ولم يعتبر على رواية ما يكفيه بعد رجوعه، فيعتبر إذاً أن يكون له ما يقوم بكفايته وكفاية عياله إلى أن يعود، وجزم به في الكافي والروضة، وقدمه في الرعاية انتهى ملخصاً، قال في المنتهى وشرحه: وأن يكون فاضلاً عن مؤنته ومؤنة عياله على الدوام حتى بعد رجوعه من عقار أو بضاعة يتجر فيها أو صناعة ونحوها، كعطاء من ديوان: أراتب من بيت المال ونحوه، وإلا لم يلزمه لتضرره بإنفاق ما في يده إذاً انتهى. قال في المغني: والزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إلهي في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة، فإن كان يملكه أو وجده يباع بثمن المثل في الغلاء والرخص أو بزيادة يسيرة لا تجحف بماله لزمه شراؤه، وإن كانت تجحف بماله لم يلزمه كما قلنا في شراء المال للوضوء إلى أن قال: وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصحل لمثله إلى أن قال: ويعتبر أن يكون هذا فاضلا عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مؤنتهم في مضيه ورجوعه. وأن يكون فاضلاً عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم وما لا بد منه، وأن يكون فاضلاً عن قضاء دينه. انتهى ملخصاً. قال الشيخ عبد الله بن ذهلان: وفي هامش الإقناع عن المطلع مدة ذهابه ورجوعه انتهى. وكتب عليه بعضهم عن المبدع ما نصه وظاهره أنه قصد النفقة عليه وعلى عياله إلى أن يعود ويبقى له ما يقوم بكفايته وكفاية عياله من عقار أو بضاعة أو صناعة انتهى. وذكر في الإنصاف عن هذا القول أنه الصحيح من المذهب وقال به جموع من الفقهاء؛ والآخر قاله في الروضة والكافي والرعايتين والفائق فقط، والمفهوم لا يساعده انتهى كلام ابن ذهلان. قلت ما قاله في الروضة والكافي والرعايتين والفائق أقرب إلى الصحة ولو لم يساعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مفهوم عبارة بعض الأصحاب بقولهم وعيتبر أن يكون له إذا رجع من حجه ما يقوم بكفايته، وكفاية عياله على الدوام كما سنبين ذلك قريباً إن شاء الله تعالى. قالت الشافعية: يشترط في الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه فاضلا عما يحتاج إليه لنفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم مدة ذهابه ورجوعه وفاضلاً عن مسكن وخادم يحتاج إليهما وعن قضاء دين يكون عليه حالاً كان أو مؤجلاً انتهى. قالت المالكية: الاستطاعة هي إمكان الوصول بلا مشقة عظمت ولو بلا زاد وراحلة لذي صنعة تقوم به ولو بالسؤال، إذا كان ذلك عيشه في بلاده وكانت العادة إعطاءه وقدر على المشي، وإن يكونا آمناً على نفسه وماله، ويعتبر ما يرجع به إلى محل يمكنه فيه التعيش إن خشي الضياع بالإقامة بمكة انتهى. وقالت الحنفية: مقدار ما يتعلق به وجوب الحج ملك مال يبلغه إلى مكة ذاهباً وراجعاً راكباً في جميع السفر لا ماشياً بنفقة متوسطة فاضلاً عن مسكنه وخادمه وفرسه وسلاحه وآلات حرفة وثيابه وأثاثه ونفقة من عليه نفقته وكسوته وقضاء ديونه ولو مؤجلة إلى حين عوده، ولا يشترط نفقة لما بعد إيابه لا سنة ولا شهراً ولا يوماً انتهى. فتحرر لنا من ذلك أن المقدم من الروايتين عند الحنابلة اعتبار أن يكون له من النفقة إذا رجع من حجة ما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام؛ وعلى الرواية الأخرى عندهم لا يعتبر ذلك وإنما يعتبر أن يكون عنده من النفقة ما يقوم بكفايته وكفاية عياله مدة ذهابه للحج ورجوعه فقط وفاقاً للحنفية والمالكية والشافعية، وهذه الرواية أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى، لأن القول بأن الإنسان لا يكون مستطيعاً للحج إلا إذا كان عنده من النفقة بعد رجوعه من الحج ما يكفيه ويكفي عياله على الدوام، أي دوام حياته يقضي بأن لا يكون غالب الأغنياء مستطيعين للحج لأنه قل من يثق من الأغنياء أن عنده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 من المال ما يكفيه ويكفي عياله على الدوام، هذا ما ظهر لي والله أعلم. ولا يصير من لا يملك الزاد والراحلة وتوابعهما مستطيعاً ببذل غره له ما يحتاج إليه لحجته وعمرته ولو أباه أو ابنه للمنة وفاقاً للحنفية، وعلى الأصح عند الشافعية كبذل رقبة لمكفر أو كبذل إنسان نفسه ليحج عن نحو مريض لا يرجي برء مرضه وليس له ما يستنيب به. ومن الاستطاعة سعة الوقت بأن يكون متسعاً يمكن الخروج والمسير حسب العادة لتعذر الحج مع ضيق وقته؛ فلو شرع من وقت وجوبه فمات بالطريق تبينا عدم وجوبه عليه لعدم وجود الاستطاعة. ومن الاستطاعة أمن طريق يمكن سلوكه لأن إيجاب الحج مع عدم ذلك ضرر وهو منفي شرعاً، ولو كان الطريق الممكن سلوكه بحراً أو غير معتاد لأن غايته أنه مشق وهو لا يمنع الوجوب كبعد البلد، وإن غلب الهلال في الطريق لم يلزمه سلوكه، وإن غلبت السلامة فيه لزمه، وإن سلم فيه قوم وهلك قوم ولا غالب منهما بل استويا لم يلزمه سلوكه. قال الشيخ: أعان على نفسه فلا يكون شهيداً. ويشترط في الطريق إمكان سلوكه بلا خفارة، فإن لم يمكن سلوكه إلا بها لم يجب ولو يسيرة، وقال الموفق والمجد: إن كانت الخفارة يسيرة لزمه لأنه ضرر يسير، وزاد المجد إذا أمن باذل الخفارة الغدر من المبذول له، قال في الإنصاف: ولعله مراد من أطلق بل يتعين، قال شيخ الإسلام: الخفارة تجوز عند الحاجة إليها في الدفع عن المخفر ولا تجوز مع عدم الحاجة إليها كما يأخذه السلطان من الرعايا انتهى. قال في المصباح: خفر بالعهد يخفر من باب ضرب وفي لغة من باب قتل: إذا وفى به، وخفرت الرجل: حميته وأجرته من طالبه فأنا خفير والاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الخفارة بضم الخاء وكسرها. والخفارة مثلثة الخاء: جُعل الخفير وتمامه فيه ويشترط في الطريق أن يوجد فيه الماء والعلف على المعتاد بالمنازل في الأسفار لأنه لو كلف حمل مائة وعلف بهائمه فوق المعتاد من ذلك أدى إلى مشقة عظيمة، فإن وجد على العادة ولو بحمل من منهل إلى آخر أو العلف من موضع إلى آخر لزمه لأنه معتاد. قلت اشتراط العلف فيما إذا كان مركوبه حيواناً كما هو ظاهر ومن الاستطاعة دليل لجاهل طريق مكة وقائد لأعمى، لأن في إيجابه عليهما بلا دليل وقائد ضرراً عظيماً وهو منتف شرعاً، ويلزم الجاهل والأعمى أجرة مثلهما لتمام الواجب بهما، ولو تبرع القائد والدليل لم يلزم الجاهل والأعمى للمنة، فلو كملت له الشروط ولم يكن الطريق آمناً فمات لم يلزمه هذا المذهب، فلو كملت له الشروط ولم يكن الطريق آمنا فمات لم يلزمه هذا المذهب، وعن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن سعة الوقت وأمن الطريق وقائد الأعمى ودليل الجاهل من شرائط لزوم الأداء اختاره الأكثر، فعلى هذا يأثم إن لم يعزم على الحج إذا اتسع الوقت وأمن الطريق ووجد القائد والدليل كما نقول في طروّ الحيض بعد دخول الوقت، فإن الحائض تأثم إن لم تعزم على القضاء إذا زال، فالعزم في العبادات مع العجز عنها يقوم مقام الأداء في عدم الإثم حال العجز، فإن مات من وجد الزاد والراحلة قبل وجود هذين الشرطين: سعة الوقت وأمن الطريق وعلى قياسهما قائد الأعمى ودليل الجاهل، أخرج عنه من ماله لمن ينوب عنه، على القول الثاني لموته بعد جوبه عليه دون القول الأول لعدم وجوبه عليه، قال في المستوعب: والفرق بين شرط الوجوب وشرط الأداء أن ما كان شرطاً في الوجوب إذا مات قبل وجوده لم يجب الحج في ماله، وما كان شرطاً في الأداء ووجوب السعي إذا مات قبل وجوده فقد كملت في حقه شرائط الوجوب ووجب الحج في ماله انتهى. قال في الشرح الكبير: واختلفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الرواية في إمكان المسير وتخلية الطريق، فروى أنهما من شرائط الوجوب لا يجب الحج بدونهما، لأن الله سبحانه وتعالى إنما فرض الحج على المستطيع وهذا غير مستطيع، ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج فكان شرطاً كالزاد والراحلة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وروى أنهما من شرائط لزوم الأداء، فلو كملت الشروط الخمسة ثم مات قبل وجود هذين الشرطين حج عنه بعد موته، وإن أعسر بعد وجودهما بقي في ذمته وهو ظاهر كلام الخرقي، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والرحلة) حديث حسن انتهى ملخصاً. فمن كملت له الشروط الخمسة المتقدمة وجب عليه السعي للحج والعمرة فوراً نصاً، فيأثم إن أخره بلا عذر بناء على أن الأمر للفور وفاقاً للحنفية والمالكية، وإنما يجب عليه السعي فوراً للحج إذا كان الحج في وقت المسير وإلا انتظر إلى وقت المسير للحج. وعند الشافعية إذا وجدت شرائط وجوب الحج وجب على التراخي فله تأخيره ما لم يخش العضب، فإن خشيه حرم عليه التأخير على الأصح عندهم؛ وعندهم أيضا إذا أخره فمات تبين أنه مات عاصيا على الأصح لتفريطه؛ قالوا ومن فوائد موته عاصياً أنه لو شهد بشهادة ولم يحكم بها حتى مات لم يحكم بها، كما لو بان فسقه، ويحكم بعصيانه من السنة الأخيرة من سني الإمكان على الأصح عندهم. -- فصل: في الاستنابة في الحج والعمرة: والعاجز عن سعي لحج وعمر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه لنحو زمانة أو ثقل بحيث لا يقدر مع الثقل على ركوب راحلة ولو في محمل إلا بمشقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 شديدة غير محتملة أو لكونه نضو الخلقة: أي نحيفها لا يقدر ثبوتاً على راحلة إلا بمشقة غير محتملة، يلزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه فوراً من بلده لأنه وجب عليه كذلك، قال الشيخ مرعي أو موضع أيسر فيه انتهى. وبهذا قالت الشافعية والحنفية، وقالت المالكية: لا حج عليه إلا أن يستطيع بنفسه لأن الله تعالى قال: (من استطاع إليه سبيلاً) وهذا غير مستطيع، ولأن هذه عبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة فلا تدخلها مع العجز كالصوم والصلاة انتهى. ودليل الجمهور حديث الخثعمية المتفق عليه وهو حجة قاطعة ودليل واضح، ويكفي أن ينوي النائب عن المستنيب وإن لم يسمه لفظاً، وإن نسي اسمه ونسبه نوى من دفع إليه المال ليحج عنه. وأجزأ فعل نائب عمن عوفي من نحو مرض أبيح لأجهل الاستنابة، لأنه أتى بما أمر به فخرج من عهدته كما لو لم يبرأ وكالمتمتع إذا شرع في الصوم ثم قدر على الهدي. وقالت الشافعية وأصحاب أبي حنيفة: لا يجزئه، لأن هذا بدل إياس فإذا برأ تبينا أنه لم يكن ميؤساً منه فلزمه الأصل. ولنا أن المستنيب أتى بما أمر به فخرج من عهدته، والمعتبر لجواز استنابة النائب اليأس ظاهراً، وسواء عوفي قبل فراغ نائبه من النسك أو بده ولا يجزيء مستنيباً إن عوفي قبل إحرام نائبه لقدرته على المبدَل قبل الشروع في البدل، ومن يرجى برؤه لا يستنيب؛ فإن فعل لم يجزئه وإن لم يبرأ وفاقاً للشافعية. وقالت الحنفية له ذلك ويكون مراعى؛ فإن قدر على الحج بنفسه لزمه، وإلا أجزأه ذلك انتهى وما تقدم ذكره في الاستنابة هو فيما إذا كان الحج فرضا؛ أما إن كان نفلا فتصح الاستنابة فيه عند الحنابلة ولو لم يكن المستنيب معذوراً كما يأتي إن شاء الله تعالى؛ وإن كان المعضوب قادراً على نفقة راكب ولم يجد نائباً في الحج عنه انبنى بقاؤه في ذمته على إمكان المسير على ما تقدم. فإن قلنا هو شرط للزوم الأداء بقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 في ذمته حتى يجد نائباً، وإن قلنا شرط للوجوب وهو المذهب لم يثبت في ذمته، فإذا وجد النائب بعد لم تلزمه الاستنابة إلا أن يكون مستطيعاً إذ ذاك، قال ابن نصر الله البغدادي على قول الأصحاب وأجزأ فعل نائب عمن عوفي لا قبل إحرام نائبه - لكن إذا لم يعلم النائب حتى أحرم فهل يقع حجه عن نفسه أو عن مستنيبه، وهل نفقته على مستنيبه أو في ماله، وهل ثواب حجه لنفسه أو لمن استنابه؟ لم أجد من تكلم على ذلك، ويتوجه وقوعه عن مستنيبه ولزوم نفقته أيضاً وثوابه له أيضا، لأنه إن فات إجزاء ذلك عنه لم يفت وقوعها عنه نفلاً، انتهى كلام ابن نصر الله، واستظهره الشيخ عثمان بن قائد وقال: وعليه فيعايا بها، فيقال: شخص صح نفل حجه قبل فرضه انتهى. قال في الإقناع وإن عوفي قبل إحرام النائب لم يجزئه. قال الشيخ عبد الله بن ذهلان: مفهومه أنه لو عوفي بعد إحرامه فإنه يجزئه ولو كان إحرامه قبل الميقات انتهى. قال الشيخ مرعي في الغاية: ولا يجزيء مستنيباً إن عوفى قبل إحرام نائبه، ويتجه ولا يرجع عليه بما أنفق قبل أن عوفى بل بعده لعزله إذاً انتهى. قال في شرح الغاية: قوله ويتجه ولا يرجع المستنيب عليه: أي على نائبه بما أنفق قبل أن عوفى المستنيب بل يرجع عليه بما أنفق من مال مستنيبه بعده: أي بعد أن شفي لعزله إياه إذاً، أي بمجرد شفائه انعزل نائبه حكماً أي سواء علم أم لم يعلم قياسا على الوكيل، وهو متجه. قال ابن العماد في شرح الغاية: وفي القلب من إطلاق هذه العبارة شيء فليتأمل انتهى. قال الشيخ ابن عوض في حاشية الدليل، قال ابن نصر الله وحكى كلامه آنف الذكر، ثم قال: وتفصيل مرعي في هذا ظاهر، لأنه قبل أن عوفى كان وكيلاً فله النفقة وبعده لا، لعزله حكما وصرح بما قاله مرعي الشيخ منصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 في شرح المفردات، فقال: قلت ويلزمه رد النفقة انتهى، وقول ابن نصر الله أظهر يعض عليه بالنواجذ انتهى، قال في المنتهى وشرحه: ومن لزمه حج أو عمرة بأصل الشرع أو بإيجابه على نفسه فتوفي قبله ولو قبل التمكن من فعله لنحو حبس أو أسر أو عدة وكان استطاع مع سعة الوقت وخلف مالاً أخرج عنه: أي الميت من جميع ماله: أي لا من الثلث حجة وعمرة: أي ما يفعلان به من حيث وجباً: أي من بلد الميت نصا، لأن القضاء يكون بصفة الأداء ولو لم يوص بذلك انتهى، قال الشيخ محمد الخلوتي: قوله ولو قبل التمكن عبارة شيخنا في حاشيته على المنتهى: قوله ولو قبل التمكن كأسير ومحبوس ظلماً ومريض يرجى برؤه ومعتدة ونحو ذلك، وكان قد وجد الزاد والراحلة وآلتهما في حال اتساع الوقت لحجة، كما مر آنفاً بناء على الصحيح من أن اتساع الوقت شرط للوجوب، أما على قول الأكثر من أنه شرط للزوم الأداء فإنه يستناب عنه حيث كان قد وجد الزاد والراحلة بآلتهما على كل حالة انتهى. واعلم أن كلام المتن هنا ظاهر في البناء على قول الأكثر من أن اتساع الوقت شرط للزوم الأداء، فإنه قوله ولو قبل التمكن معناه فيما يظهر ولو ضاق الوقت ولم يتمكن من السعي، وأما حمل شيخنا له على من لم يتمكن لمانع كالحبس ونحوه مع اتساع الوقت فتكلف غير ظاهر دعاه إليه حمل كلام المصنف هنا وفيما سلف على وتيرة واحدة من المشي على الصحيح من القولين في المسألة انتهى كلام الخلوتي. قلت: الصحيح من القولين في المسألة أن اتساع الوقت شرط للوجوب، قال في الإقناع وشرحه: ومن وجب عليه الحج لاجتماع الشروط السابقة فتوفي قبله فرّط في الحج بأن أخره لغير عذر أو لم يفرط كالتأخير لمرض يرجي برؤه أو لحبس أو أسر أو نحوه، أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة، ولو لم يوص به؛ لأنه حق استقر عليه فلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يسقط بموته ولهذا كان من جميع ماله، ولا فرق بين الواجب بأصل الشرع أو إيجابه على نفسه، ويكون الإحجاج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته، لأن القضاء يكون بصفة الأداء، ويجوز أن يستناب عنه من أقرب وطنيه لتخير المنوب عنه لو كان حيا، ويجوز من خارج بلده دون مسافة القص؛ لأن ما دونها في حكم الحاضر، ولا يجوز أن يستناب عنه مما فوق مسافة القصر، ولا يجزئه حج من استنيب عنه مما فوق المسافة لعدم إتيانه بالواجب انتهى ملخصا. وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت، فإن وصى به فهو من الثلث لأنه عبادة بدنية فيسقط بالموت كالصلاة، وعند الشافعية متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج فإنه يجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر وفاقا للحنابلة، قال في المغني: فإن كان له وطنان استنيب من أقربهما، فإن وجب عليه الحج بخراسان ومات ببغداد أو وجب عليه ببغداد فمات بخراسان، فقال أحمد يحج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته انتهى. قال في المنتهى وشرحه: ويسقط حج عمن وجب عليه ومات قبله بحج أجنبي عنه بدون مال ودون إذن وارث وكذا عمرة انتهى. قال في الغاية ويرجع على تركته إن نواه انتهى. وتبعه الشيخ سليمان بن علي في منسكه فقال ويسقط بحج أجنبي عنه بلا إذن وارث ويرجع على تركته إن نواه انتهى، قال الخلوتي في حاشيته على المنتهى: قوله ويسقط بحج أجنبي عنه: وله الرجوع بما أنفق على ما في الإقناع قبيل باب صوم التطوع، وعبارته: ويجوز أن يحج عنه حجة الإسلام ولو بغير إذن وليه وله الرجوع على التركة بما أنفق انتهى. قال في الإقناع وشرحه: يوقع الحج والعمرة عن الميت ولا إذن له ولا لوارثه كالصدقة عنه انتهى. ويأتي ولا يسقط حج عن معضوب حي ولو معذوراً إلا بإذنه، ويقع حج من حج عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 حي بلا إذنه عن نفسه ولو كان الحج نفلا عن محجوج عنه بلا إذنه، قال الشيخ منصور في شرح المنتهى: لكن قياس ما سبق آخر الجنائز يصح جعل ثوابه لحي أو ميت انتهى. قال الشيخ سليمان بن علي: ولا يصح النسك عن حي بلا إذنه ويقع على نفسه ولو نفلاً، فإن جعل ثوابه له حصل انتهى. ولو مات من وجب عليه الحج واستقر في ذمته، أو مات نائبه في طريق الحج، حج عنه من حيث مات هو أو نائبه فيما بقي مسافة وقولاً وفعلا، لفعله قبل موته بعض ما وجب عليه وهو السعي إلى ذلك الموضع الذي مات فيه، فلا يلزم أن يحج عنه من وطنه، لأن المنوب عنه لم يكن عليه أن يرجع إلى وطنه ثم يعود إلى الحج، قال ابن نصر الله البغدادي: يؤخذ منه جواز نيابة اثنين في حجة واحدة كل واحد منهما يأتي ببعضها، ولم أجد من ذكر ذلك وهو غير ممتنع انتهى. قال في المغني: فإن خرج للحج فمات في الطريق حج عنه من حيث مات؛ لأنه أسقط بعض ما وجب عليه فلم يجب ثانيا، وكذلك إن مات نائبه استنيب من حيث مات لذلك، ولو أحرم بالحج ثم مات صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك، سواء كان إحرامه لنفسه أم لغيره نص عليه، لأنها عبادة تدخلها النيابة، فإذا مات بعد فعل بعضها قضي عنه باقيها كالزكاة انتهى. قال الشيخ منصور في حاشيته على الإقناع: قوله حج عنه من حيث مات ينبغي تقييده فيما إذا مات بأن يكون وجب عليه قبل موته بأن اتسع الوقت له وإلا انبنى على القولين السابقين، وإذا استنيب عنه من موضع موته إلى دون مسافة قصر فقياس ما قبله لا يمتنع ويجزئه بخلاف ما لو استنيب من فوق المسافة، وإذا مات النائب في حج النفل، فظاهر كلامهم لا تجب الاستنابة فيما بقي مع أنه يجب بالشروع، ولم أر من تعرض له انتهى كلام منصور: قلت ظاهر عبارات الأصحاب خلاف ما ذكره منصور لأن حج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 النفل يجب بالشروع فيه وقد أطلق الأصحاب الوجوب فلم يقيدوه بما إذا شرع فيه بنفسه دون نائبه، وبما إذا كان فرضا لا نفلا، وإذا كان الحال ما ذكر فإطلاقهم يستفاد منه العموم ما لم يأت دليل صريح يؤيد ما ذكره منصور. فائدة: إذا مات في الطريق من قصد الحج نفلا أو مات نائبه فلا يخلو إما أن يكون قد أحرم أولا، فإن كان قد أحرم وجبت الاستنبابة في إتمام نسكه لأنه بالإحرام قد شرع فيه فوجب إتمامه، وإن كان لم يحرم فلا تجب الاستنابة فيه لأنه لم يشرع في حج النفل فلم يكن واجباً عليه، هذا ما ظهر لي والله أعلم. تنبيه: قول فقهائنا رحمهم الله: ومن وجب عليه الحج فتوفي قبله حج عنه من حي وجب عليه لا من حيث موته لا يعارض ما ذكروه من أنه إذا مات في الطريق حج عنه من حيث مات، لأن المراد بالأول إذا مات غير قاصد للحج، والمراد بالثاني إذا مات في أثناء الطريق قاصداً للحج، والله أعلم. فوائد: الأولى: إذا مرض من أحرم بالحج وأتى ببعض المناسك وعجز عن طواف الإفاضة فإنه يطاف به راكباً أو محمولاً، ولا يستنيب إن كان حجه فرضاً، فإن كان نفلا جاز له أن يستنيب ولو لغير عذر؛ لأن الاستنابة في نفل الحج جائزة ولو لغير عذر ففي بعضه من باب أولى. الثانية: لا يصح أن يستنيب في طواف الوداع ولو كان معذوراً إذا كان حجه فرضاً، بل يطاف به راكباً أو محمولاً، فإن لم يفعل فعليه دم، أما إن كان حجه نفلاً فله الاستنابة فيه ولو كان لغير عذر كطواف الإفاضة وأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الثالثة: إذا توفي إنسان وقد بقي عليه بعض مناسك الحج فإنها تفعل عنه بعد موته ولا فرق بين الفرض والنفل ولا كون الحج عن نفسه أو عن غيره. والله أعلم. لكن يأتي في فصل ثم يفيض إلى مكة حكم المحرم إذا مات، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أن يؤدى عنه بقية الحج في الرجل الذي وقصته راحلته بعرفة. ويأتي في باب محظورات الإحرام أيضاً، ومن وجب عليه نسك ومات قبله وضاق ماله عن أدائه من بلده استنيب به من حيث بلغ، أو لزمه دين وعليه حج وضاق ماله عنهما أخذ من ماله لحج بحصته كسائر الديون وحج بما أخذ للحج من حيث بلغ، قال الإمام أحمد رحمه الله في رجل أوصى أن يحج عنه ولا تبلغ النفقة، قال يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من غير مدينته، وهذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ولأنه قادر على أداء بعض الواجب فلزمه كالزكاة انتهى. وإن صد من وجب عليه حج أو نائبه بطريقة فعل عنه ما بقي مسافة وفعلا وقولا؛ فيستناب عنه من حيث صد لأنه أسقط عنه بعض الواجب، وإن أوصى شخص بنسك نفل وأطلق فلم يقل من محل كذا، جاز أن يفعل عنه من ميقات بلد الموصي، نص عليه أحمد ما لم تمنع منه قرينة كجعل ما يمكن الحج به من بلده فيستناب به منه كحج واجب كما لو صرح به، وإن لم يف ثلثه بحج من محل وصيته حج به من حيث بلغ أو يعان به في الحج نص عليه أحمد، قال في الفروع: ومن ضمن الحَجَّةَ بأجرة أو جعل فلا شيء له ويضمن ما تلف بلا تفريط كما سبق. انتهى، قال في حاشية ابن قندس على مشكلات مسائل الفروع: قوله ومن ضمن الحجة بأجرة أو جعل، معنى ذلك ما يفعله أهل زماننا أن النائب يجعل له جعل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أن يحج ويعتمر ويكون الجعل له فإذا لم يتفق له إتمامها، إما لكونه أحصر أو ضل أو تلف ما أخذه أو مات قبل إتمام الحج المسقط للفرض، فإنه يضمن ما تلف ولا شيء له. وقد سبق كلامه، يعني صاحب الفروع بما يشبه ذلك فقال: ولو أحصر أو ضل أو تلف ما أخذه فرّط أولاً فلا يحتسب له بشيء، قال صاحب الرعاية: وإن كان النائب ضمن الحجة بأجرة أو بجعل فلا شيء له ويضمن ما تلف أو أنفق منه ولو لم يفرط، وما لزمه إذاً من دم أو كفارة بفعل محظور أو ترك واجب ففي ماله، وكذا دم الإحصار، إلا أن قال قلت بل يستأجر من تركته من يتمم ما لزمه منها ولوارثه أخذ الأجرة من مستنيبه أو ما بقي منها، انتهى كلام ابن قندس في حاشيته ملخصاً. قال الشيخ سليمان بن علي: إذا تقرر هذا فمقتضى قاعدة المذهب أن الجعالة صحيحة على الحج والعمرة وعلى أحدهما، ومقتضى الجعالة أيضاً أن المجعول له إذا تعذر عليه إتمام العمل بفسخه لعقد الجعالة باختياره أو بموته أو حبسه أنه لا يستحق شيئاً، لكن على قول ابن قندس هذا الذي حكاه عن صاحب الرعاية، وهو قوله بل يستأجر من تركته يعني تركة النائب من يتمم ما لزمه منها، ولوارثه أخذ الأجرة من مستنيبه أو ما بقي منها، أنه إذا استناب النائب بأجرة أولا من يطوف طواف الإفاضة ويفعل باقي النسك أنه يلزم دفع الجعل إليه، فعلى هذا إذا مات ثم تمم باقي النسك صح، وإن لم يكن تمم وكان الفائت طواف الإفاضة فتتميمه ممكن لأن طواف الإفاضة لا حد لآخره، والله أعلم انتهى. ولا يصح ممن لم يحج عن نفسه وكذا من عليه حج قضاء أو نذرا أن يحج عن فرض غيره ولا نذره وا نافلته حياً كان محجوجاً عنه أو ميتاً، فإن فعل انصرف إلى حجة الإسلام ورد النائب ما أخذه من غيره ليحج عنه لعدم إجزاء حجه عنه ووقوعه عن نفسه، ويعايا بها فيقال: شخص نوى شيئاً فألغيناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وصححنا له غيره من غير نية، وجوابها أن يقال هاذ فيما إذا نوى الحج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه فإنه يرد ما أخذ ويكون الحج عن نفسه انتهى. وأما من حج عن نفسه واعتمر صح منه ذلك عن غيره ولو كان غير عدل، ويحرم على الصحيح من المذهب أخذ الأجرة على النيابة في الحج، وتجوز الجعالة، وظاهر جواز غير العدل إذا كان بتعيين الموصى أو كان بغير عوض ولو لم يعينه الموصى، وأما النائب بعوض فيشترط أن يكون عدلاً. قال في المنتهى وشرحه المصنف ويحج عن الموصى بمباشرة إنسان ثقة سوى المعين، وقال في القندسية في سجود السهو والثقة هو الضابط العدل وكذا حكم من عليه العمرة، فمن عليه عمرة الإسلام أو عمرة قضاء أو نذر لم يجز ولم يصح أن يعتمر عن غيره ولا نذره ولا نافلته، وبهذا قالت الشافعية، وقالت الحنفية والمالكية: يجوز أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه انتهى. ومن أدى أحد النسكين فقط صح أن ينوب فيه قبل أداء الآخر وأن يفعل نذره ونفله، فمن حج حجة الإسلام فله أن يحج نذراً ونفلا وأن ينوب عن غيره في الحج قبل أن يعتمر، ومن اعتمر عمرة الإسلام فله أن يعتمر نذراً ونفلا وأن ينوب عن غيره في العمر قبل أن يحج، قال في المغني: وليس للصبي وللعبد أن ينوبا في الحج عن غيرهما لأنهما لم يسقطا فرض الحج عن أنفسهما فهما كالحر البالغ في ذلك وأولى منه، ويحتمل أن لهما النيابة في حج التطوع دون لا فرض لأنهما من أهل التطوع دون الفرض ولا يمكن أن تقع الحجة التي نابا فيها عن فرضهما، لكونهما ليسا من أهله فبقيت لمن فعلت عنه، وعلى هذا لا يلزمهما رد ما أخذا لذلك كالبالغ الحر الذي قد حج عن نفسه انتهى، ويصح أن ينوب الرجل عن المرأة، وأن تنوب المرأة عن الرجل في الحج والعمرة ولا كراهة في نيابتها عنه للخبر. وحكم النائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 كالمنوب عنه في ذلك لأنه فرعه، فلو أحرم بنذر أو نفل عمن عليه حجة الإسلام وقع إحرامه عنها وكذا لو كان عليه حجة قضاء أو حجة نذر وأحرم بنفل، ولو أحرم بنذر حج ونفله من عليه حجة الإسلام وقع حجه عنها دون النذر والنفل، نص عليه الإمام أحمد لقول ابن عمر وأنس: وتبقى المنذورة في ذمته، وكذا حكم العمرة وفاقاً للشافعية، وقالت الحنفية والمالكية: يقع ما نواه وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول أبي بكر عبد العزيز: ويصح أن يحج عن معضوب واحد في فرضه وآخر في نذره في عام واحد، ويعايا بها فيقال: حجات مفروضات تقع عن مكلف واحد في عام واحد، ويجاب عنها فيقال: هذا في المعضوب إذا نذر حجات وكان عليه حجة الإسلام فاستناب أشخاصاً لأدائها في سنة واحدة انتهى. والمعضوب هو العاجز عن حج لكبر أو نحوه من العضب بمهملة ومعجمة وهو القطع كأنه قطع عن كمال الحركة والتصرف، ويصح أن يحج عن ميت واحد في فرضه وآخر في نذره في عام واحد لأن كلا عبادة مفردة كما لو اختلف نوعهما وأي النائبين أحرم أو لا قبل الآخر فعن حجة الإسلام ثم الحجة الأخرى التي تأخر إحرام نائبها عن نذره ولو لم ينوه الثاني عن النذر، لأن الحج يعفى فيه عن التعيين ابتداء لانعقاده مبهما ثم يعين، والعمرة في ذلك كالحج ويصح أن يجعل قارن أحرم بحج وعمرة أو بها ثم به الحج عن شخص استنابه فيه والعمرة عن شخص آخر استنابه فيها بإذن الشخصين في ذلك لأن القران نسك مشروع، فإن لم يأذنا وقع الحج والعمرة للنائب ورد لهما ما أخذه منهما لأنه أمر بنسك مفرد ولم يأت به فكان مخالفاً كمن أمر بحج فاعتمر أو عكسه ذكره القاضي أبو يعلي وغيره وقدم في المغني والشرح يقع عنهما ويرد من نفقة كل واحد منهما نصفها، فإن أذن أحدهما دون الآخر رد على غير الآذن نصف نفقته وحده لأن المخالفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 في صفته لا في أصله ولو أمر بأحد النسكين فقرن بينه وبين النسك الآخر لنفسه فالحكم فيه كذلك ودم القران على النائب إن لم يؤذن له فيه وإن أذنا فعليهما، وإن أذن أحدهما دون الآخر فعلى الآذن نصف الدم ونصفه على النائب. قال في الإقناع وشرحه، ومن أوقع نسكاً فرضاً أو نفلاً عن حي بلا إذنه أو أوقع نسكاً لم يؤمر به كأمره بحج فيعتمر وعكسه بأن يؤمر بالاعتمار فيحج لم يجز عن الحي كزكاة: أي كإخراج زكاة حي بلا إذنه، ويرد المأمور المخالف فيما تقدم ما أخذه من الآمر لعدم فعله ما أخذ العوض لأجهل ويقع الحج والعمرة عن الميت ولا إذن له ولا لوارثه كالصدقة عنه انتهى. وتقدم أنه لو جعل ثوابه لحي أو ميت حصل فليعاود ويتعين النائب بتعيين وصي جعل إليه التعيين لقيامه مقام الموصى، فإن أبى الوصي التعيين عين غيره كوارث أو حاكم، وكذا لو أبى موسى إليه بحج عن غيره لسقوط حقه بإبائه، ويصح أن يستنيب القادر والعاجز في نفل الحج وفي بعضه كالصدقة وكذا عمرة وهذا المذهب وفاقاً للحنفية لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب. وقالت الشافعية لا يصح لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض وهو رواية عن الإمام أحمد. ويأتي في باب الإحصار قول صاحب المغني والشرح فإن أحب أن يستنيب من يتمم عنه أفعال الحج جاز في التطوع لأنه جاز أن يستنيب في جملته فجاز في بعضه ولا يجوز في حج الفرض إلا أن ييأس عن القدرة عليه في جميع العمر كما في الحج كله انتهى. فإن قيل كيف تجوز الاستنابة في البعض، وتطوع الحج والعمرة يجب إتمامه بالشروع فيهما لأن نفلهما كفرضهما؟ قلت لا مانع شرعاً للقادر من الاستنابة في بعض نفل الحج والعمرة؛ لأنه تجوز الاستنابة للقادر في كله ففي بعضه أولى ولأن الاستنابة في بعضه إتمام لما شرع فيه لا ترك للإتمام، ولكن يشترط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 في ذلك أن يكون المستنيب قد أتى ببعض الحج ثم استناب في إكماله، أما من لم يفعل بعض الحج فليس له استنابة غيره في بعضه هذا ما ظهر لي، والله أعمل. فإن قيل هل يعتبر في النائب في إتمام الحج أن يكون قد تلبس بالحج في سنة الإتمام أولا لا يعتبر ذلك. قلت: الظاهر الأول لأن غير المتلبس بالحج في تلك السنة غير صالح لأداء هذه العبادة أو بعضها عن نفسه فعن أداء بعضها بالنيابة عن غيره من باب أولى، وقد نص فقهاؤنا رحمهم الله عل مثل ذلك في الاستنابة في الرمي، فقالوا لا يعتد برمي حلال، ومرادهم بذلك من لم يحج تلك السنة، هذا ما ظهر لي، والله أعلم. ويستحب أن يحج عن أبويه إن كانا ميتين أو عاجزين، ويقدم أمه لأنها أحق بالبر، ويقد واجب أبيه على نفلها، ولا يجوز أن يشرك والديه ي حجة واحدة بخلاف الأضحية، والله أعلم. والنائب في بفعل النسك فرضاً كان أو نفلا أمين فيما أعطيه من مال يحج منه أو يعتمر، فيركب وينفق منه بمعروف ويضمن نائب ما أنفقه زائداً على نفقة المعروف أو ما زاد على نفقة طريق أقرب من الطريق البعيد إذا سلكه بلا ضرر في سلوك الأقرب؛ لأنه غير مأذون فيه نطقاً ولا عرفاً، ويجب عليه أن يرد ما فضل عن نفقته بالمعروف لأنه لم يملكه له المستنيب وإنما أباح له النفقة منه، وجزم الشيخ مرعي بأنه لا يرد الفاضل إن كان بجعل معلوم وإلا رده، قال في الإرشاد وغيره في حج عني بهذا فما فضل لك ليس له أن يشتري به تجارة قبل حجه انتهى. قال الإمام أحمد في الذي يأخذ دراهم للحج لا يمشي ولا يقتر في النفقة ولا يسرف، وقال في رجل أخذ حجة عن ميت ففضلت معه فضلة يردها ولا يناهد أحداً إلا بقدر ما لا يكون سرفاً ولا يدعو إلى طعامه ولا يتفضل، ثم قال: أما إذا أعطي ألف درهم أو كذا وكذا فقيل له حج بهذه فله أن يتوسع فيها، وإن فضل شيء فهو له، وإذا قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الميت حجوا عني حجة بألف درهم فدفعوها إلى رجل فله أن يتوسع فيها وما فضل فهو له قلت: وصفة المناهدة أن يدفع كل واحد من الرفقة شيئاً من النفقة وإن لم يتساووا إلى من ينفق عليهم منه ويأكلون جميعاً؛ فلو أكل بعضهم أكثر من رفيقه فلا بأس وهي مباحة فلذا قال الإمام أحمد: ولا يناهد أحداً إلا بقدر ما لا يكون سرفاً، قال في المغني بعد كلام سبق: وفي الاستئجار على الحج روايتان: إحداهما لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة وإسحق، والأخرى يجوز وهو مذهب مالك والشافعي وابن المنذر. وفائدة الخلاف أنه متى لم يجز أخذ الأجرة فلا يكون إلا نائباً محضاً وما يدفع إليه من المال يكون نفقة لطريقه، فلو مات أو أحصر أو مرض أو ضل الطريق لم يلزمه الضمان لما أنفق، نص عليه أحمد لأنه إنفاق بإذن صاحب المال، وإذا ناب عنه آخر فإنه يحج من حيث بلغ النائب الأول من الطريق لأنه حصل قطع هذه المسافة بمال المنوب عنه فلم يكن عليه الإنفاق دفعة أخرى: كما لو خرج بنفسه فمات في بعض الطريق فإنه يحج عنه من حيث انتهى، وما فضل معه من المال رده إلا أن يؤذن له في أخذه، ويتفق على نفسه بقدر الحاجة من غير إسراف ولا تقتير، وليس له التبرع بشيء منه إلا أن يؤذن له في ذلك وما لزمه من الدماء بفعل محظور فعليه في ماله لم يؤذن له في الجناية فكان موجبهاً عليه كما لو لم يكن نائباً ودم المتعة والقران إن أذن له في ذلك على المستنيب لأنه أذن في سببهما، وإن لم يؤذن له فعليه لأنه كجناية، ودم الإحصار على المستنيب لأنه للتخلص من مشقة السفر فهو كنفقة الرجوع، وإن أفسد حجه فالقضاء عليه ويرد ما أخذ، لأن الحجة لم تجز عن المستنيب لتفريطه وجنايته وكذلك إن فاته الحج بتفريطه، وإن فات بغير تفريط احتسب له بالنفقة لأنه لم يفت بفعله فلم يكن مخالفاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 كما لو مات، وإن قلنا بوجوب القضاء فهو عليه في ماله كما لو دخل في حج ظن أنه عليه ولم يكن ففاته، وإن أقام بمكة أكثر من مدة القصر بعد إمكان السفر للرجوع، أنفق من مال نفسه، لأنه غير مأذون له فيه فأما من لا يمكنه الخروج قبل ذلك فله النفقة لأنه مأذون له فيه، وله نفقة الرجوع وإن أقام بمكة سنين ما لم يتخذها داراً، فإن اتخذها داراً ولو ساعة لم يكن له نفقة رجوعه لأنه صار بنية الإقامة مكياً فسقطت نفقته فلم تعد، وإن مرض في الطريق فعاد فله نفقة رجوعه لأنه لا بد له منه وقد حصل بغير تفريطه فأشبه ما لو قطع عليه الطريق أو أحصر، وإن قال خفت أن أمرض فرجعت فعليه الضمان لأنه متوهم، وعن أحمد فيمن مرض في الكوفة فرجع يرد ما أخذ وفي جميع ذلك إن أذن له في النفقة فله ذلك لأن المال للمستنيب فجاز ما أذن فيه، وإن شرط أحدهما أن الدماء الواجبة عليه على غيره لم يصح الشرط؛ لأن ذلك من موجبات فعله أو الحج الواجب عليه فلم يصح شرطه على غيره كما لو شرطه على أجنبي، وإن قلنا يجوز الاستئجار على الحج جاز أن يستنيب من غير استئجار فيكون الحكم فيه على ما ذكرنا وأن يستأجر، فإن استأجر من يحج عنه أو عن ميت اعتبر فيه شروط الإجارة وما يأخذه أجرة يملكه ويباح له التصرف فيه والتوسع به في النفقة وغيرها وما فضل فهو له، وإن أحصر أو ضل الطريق أو ضاعت النفقة فهو من ضمانه وعليه الحج، وإن مات انفسخت الإجارة لتلف المعقود عليه كما لو ماتت البهيمة المستأجرة ويكون الحج أيضاً من الموضع الذي بلغ إليه النائب وما لزمه من الدماء فعليه لأن الحج عليه انتهى ملخصا وبتصرف في التقديم والتأخير، وفيه مع ما تقدم وما يأتي بعض تكرار سقناه طلباً للفائدة، قال الشيخ مرعي في الغاية: ونفقة حج فاسد على نائب كقضائه ويرد ما أخذ ويتجه تبين وقوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الحج من أصله عن النائب انتهى، قال في شرح الإقناع: وله أي النائب نفقة خادمه إن لم يخدم نفسه مثله ويرجع بما استدانه لعذر وبما أنفق على نفسه بنية رجوع انتهى، قال في المنتهى وشرحه ويجع نائب بما استدانه لعذر على مستنيبه ويرجع بما أنفق على نفسه بنية رجوع، وظاهره ولو لم يستأذن حاكماً لأنه قام عه بواجب وما لزم نائباً بمخالفته كفعل محظور ضمنه أي النائب لأنه بجنايته، وكذا نفقة نسك فسد وقضائه ويرد ما أخذ لأن النسك لم يقع عن مستنيبه لجنايته وتفريطه انتهى. قلت حاصل ذلك أن النائب في الحج له حالتان: الأولى أن يكون أخذ من المستنيب أو وارثه مالاً معلوماً ليحج عن المستنيب في مقابل ذلك ففي هذه الحالة يكون النائب ضامناً للحجة لأنها في عهدته فما غرمه في حجته هذه من نفقة أو دم نسك أو جبران أو غير ذلك، ففي ماله لأنه أخذ المال ملتزماً للحج عن المستنيب وليس على المستنيب شيء من النفقة أو غيرها سوى ما دفع أولاً من المال للنائب وإن لم يتيسر للنائب إتمام الحج بنفسه أو نائبه رد جميع ما أخذه من المال للمستنيب أو وارثه، لأنه لم يف بما حصل عليه الاتفاق بينه وبين المستنيب أو وارثه وعلى هذا عمل الناس قديماً وحديثاً. الحالة الثانية أن يكون النائب قصد الحج عن المستنيب من غير مقابلة مال معلوم، بل حصل الاتفاق بينه وبين المستنيب أو وارثه على أن يحج عن المستنيب بنفقته فقط فهذا نائب محض وأمين فيما ينفقه من مال المستنيب، فما لزمه في حجته من أجرة مركوب أو نفقة بمعروف أو دم أو غير ذلك، فمن مال المستنيب، وإن قصرت النفقة واستدان بنية الرجوع على مستنيبه رجع ولا يضمن شيئاً مما لزمه في حجته ما لم يتعد أو يفرط، وتقدم كلام ابن قندس فيمن ضمن الحجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فليراجع وبالله التوفيق. وتقدم أن الاستنابة عن الحي في فرضه لا تصح إلا أن يكون معضوباً، والله أعلم. -- فصل: -- في مخالفة النائب: قال في المغني ومثله في الشرح الكبير: إذا أمره بحج فتمتع أو اعتمر لنفسه من الميقات ثم حج نظرت، فإن خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج جاز ولا شيء عليه نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي، وإن أحرم بالحج من مكة فعليه دم لترك ميقاته ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام الحج فيما بين الميقات ومكنة، وقال القاضي: لا يقع فعله عن الآمر ويرد جميع النفقة لأنه أتى بغير ما أمر به، وهو مذهب أبي حنيفة، ولنا أنه إذا أحرم من الميقات فقد أتى بالحج صحيحاً من ميقاته، وإن أحرم به من مكة فما أخل إلا بما يجبره الدم فلم تسقط نفقته، كما لو تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه، وإن أمره بالإفراد فقرن لم يضمن شيئاً وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة يضمن لأنه مخالف، ولنا أنه أتى بما أمر به وزيادة فصح ولم يضمن، ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج ففعلها فلا شيء عليه، وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها، وإن أمره بالتمتع فقرن، وقع عن الآمر، لأنه أمر بهما وإنما خالف في أنه أمره بالإحرام بالحج من مكة فأحرم به من الميقات، وظاهر كلام أحمد أنه لا يرد شيئاً من النفقة وهو مذهب الشافعي، وقال القاضي: يرد نصف النفقة لأن غرضه في عمره مفردة وتحصيل فضيلة التمتع وقد خالفه في ذلك وفوته عليه وإن أفراد وقع عن المستنيب أيضاً ويرد نصف النفقة لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات وقد أمره به وإحرامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 بالحج من الميقات زيادة لا يستحق به شيئاً، وإن أمره بالقران فأفرد أو تمتع صح ووقع النسكان عن الآمر ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات، وفي جميع ذلك إذا أمره بالنسكين ففعل أحدهما دون الآخر رد من النفقة بقدر ما ترك ووقع المفعول عن الآمر وللنائب من النفقة بقدره، وإن أمره بالحج فحج ثم اعتمر لنفسه أو أمره بعمرة فاعتمر ثم حج عن نفسه صح ولم يرد شيئاً من النفقة لأنه أتى بما أمر به على وجهه، وإن أمره بالإحرام من ميقات فأحرم من غيره جاز لأنهما سواء في الأجزاء، وإن أمره بالإحرام من بلده فأحرم من الميقات جاز لأنه الأفضل، وإن أمره بالإحرام من الميقات فأحرم من بلده جاز لأنه زيادة لا تضر، وإن أمره بالحج في سنة أو بالاعتمار في شهر ففعله في غيره جاز لأنه مأذون فيه في الجملة انتهى. ويأتي في باب الإحرام مسائل في النيابة تناسب هذا الموضع وكذلك في الكلام عن رمي الجمار فلتراجع عند الحاجة. -- فصل: ويشترط لوجوب الحج على المرأة شابة كانت أو عجوزاً مسافة قصر ودونها وجود محرم نصاً، قال الإمام أحمد، المحرم من السبيل، قال الشيخ محمد الخلوتي وهذا الشرط من قسم الاستطاعة لا شرط سادس، ويدل لذلك قول الإمام المحرم من السبيل انتهى، فمن لم يكن لها محرم لم يلزمها الحج بنفسها ولا بنائبها ويعايا بها فيقال: غني بالغ عاقل حر لا يجب الحج عليه. ويجاب عنها فيقال: هذا في المرأة إذا كانت غنية لكن ليس لها محرم فإن المقدم من الروايتين أنه لا يجب الحج عليها، ولا فرق بين حج الفرض والتطوع في اشتراط المحرم، ويعتبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المحرم لكل ما يعد سفراً عرفاً، ولا يعتبر المحرم إذا خرجت في أطراف البلد مع عدم الخوف عليها لأنه ليس بسفر، والمحرم معتبر لمن لعورتها حكم وهي بنت سبع سنين فأكثر لأنها محل الشهوة بخلاف من دونها. قال شيخ الإسلام: وإماء المرأة يسافرن معها ولا يفتقرن إلى محرم لأنه لا محرم لهن في العادة الغالبة ويتوجه في عتقائها من الإماء مثله على ما قاله شيخ الإسلام من أنه لا محرم لهن في العادة، ويحتمل عكسه لانقطاع التبعية وملك أنفسهن بالعتق، قال في الفروع: وظاهر كلامهم، أي الأصحاب، اعتبار المحرم للكل، أي الأحرار وإمائهن وعتقائهن لعموم الأخبار، وعدمه، أي المحرم للمذكورات كعدم المحرم للحرة الأصل فلا يباح لها السفر بغيره مطلقاً، ونقل الأثرم: لا يشترط المحرم في الحج الواجب قال أحمد لأنها تخرج مع النساء ومع كل من أمنته، وقال ابن سيرين تخرج مع مسلم لا بأس به، وقال الأوزاعي مع قوم عدول، وقال مالك مع جماعة من النساء، وقال الشافعي مع حرة مسلمة ثقة، وقال بعض أصحابه وحدها مع الأمن، والصحيح عندهم يلزمها مع نسوة ثقات ويجوز لها مع واحدة، وعند شيخنا تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم، وقال إن هذا متوجه في كل سفر طاعة وعنه لا يعتبر المحرم إلا في مسافة القصر وفاقاً لأبي حنيفة كما لا يعتبر في أطراف البلد مع عدم الخوف انتهى كلام صاحب الفروع ملخصاً، قال ابن المنذر: تركوا القول بظاهر الحديث واشترط كل واحد شرطاً لا حجة معه عليه انتهى كلام ابن المنذر. قلت الصحيح من المذهب أن المحرم شرط للوجوب وعليه فلا يجب الحج على المرأة التي لا محرم لها كما قال الإمام أحمد رحمه الله: المحرم من السبل والمحرم المعتبر لوجوب النسك وجواز سفرها معه زوج، ويشترط فيه ما يشترط في غيره من العقل والبلوغ، وسمي الزوج محرماً مع حلها له لحصول المقصود من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 صيانتها وحفظها به مع إباحة الخلوة بها، والمحرم أيضاً من تحرم عليه المرأة على التأبيد بنسب كالأب والابن والأخ والعم والخال، أو سبب مباح كزوج أمها وابن زوجها وأبيه وأخيها من رضاع لحرمتها، لكن يستثنى من سبب مباح نساء النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن محمرات على غيره على الأبد ولسنا محارم لهن إلا من بينه وبينهن نسب أو رضاع محرم أو مصاهرة كذلك، وحكمهن وإن كان قد انقطع بموتهن لكن قصدنا بيان خصوصيتهن وفضيلتهن، وخرج بقولنا مباح أم الموطوءة بشبهة أو زنا وبنتها فليس الواطئ لهن محرماً لعدم إباحة السبب، وخرج بقولنا لحرمتها الملاعنة فإن تحريمها على الملاعن عقوبة وتغليظ لا لحرمتها فلا يكون الملاعن محرماً لها، ويعتبر أن يكون المحرم ذكراً فأم المرأة وبنتها ليستا محرماً لها، ويعتبر كونه بالغاً عاقلاً مسلماً فمن دون البلوغ والمجنون والكافر ليس محرماً لأن غير المكلف لا يحصل به المقصود من الحفظ، والكافر لا يؤمن عليها كالحضانة وكالمجوسي لاعتقاده حلها، قال في الفروع: ويشترط كن المحرم ذكراً مكلفاً مسلماً خلافاً لأبي حنيفة والشافعي انتهى، ولا تعتبر الحرية في المحرم فلو كان أبو المرأة أو أخوها من نسب أو رضاع أو ولد زوجها أو أبوه ونحوه عبداً لم يضر ذلك، والعبد ليس محرماً لسيدته نص عليه الإمام أحمد لأنها لا تحرم عليه أبداً، إذ لو أعتقته لجاز له أن يتزوجها ولأنه لا يؤمن عليها ولو جاز له النظر إليها، وعن الإمام أحمد رواية أن العبد محرم لسيدته، وقال صاحب المحرر ذكر القاضي في شرح المذهب أن مذهب أحمد أنه محرما وفقاً للشافعي، واختار ابن عقيل ثبوت المحرمية بوطء الشبهة وهو ظاهر ما في التلخيص فإنه قال بسبب غير محمر، واختاره شيخ الإسلام وذكره قول أكثر العلماء لثبوت جمع الأحكام فيدخل في الآية بخلاف الزنا، قال الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 يحيى بن عطوة التميمي المتوفى سنة 948 في بلد الجبيلة وهو تلميذ العسكري: يشترط في محرم المرأة أن يكون بصيراً انتهى. قلت لم أر من سبقه إلى ذلك من الأصحاب، وفي النفس من اشتراط ذلك شيء، والذي ينبغي القول به عدم اشتراط ذلك في المحرمية، والله أعلم. ونفقة المحرم زمن سفره معها لأداء نسكها على المرأة لأنه من سبيلها، فيشترط لوجوب النسك عليها أن تملك زاداً وراحلة بآلتهما لها ولمحرمها، وأن تكون الراحلة وآلتها صالحين لهما على ما تقدم، فإن لمت تملك المرأة ذلك لها ولمحرمها لم يلزمها، قال الشيخ محمد الخلوتي في حاشيته على المنتهى ونفقة المحرم عليها زوجاً أو غيره لكن الذي يلزمها في جانب الزوج ما زاد على نفقة الحضر فيما يظهر فليراجع انتهى. قلت لا معنى لما ذكره الخلوتي هنا، والذي يظهر من إطلاقهم خلافه، وإنما يقال ذلك في مسألة أخرى وهي أن وجوب نفقة الزوجة على زوجها في السفر يكون بقدر نفقة الحضر وما زاد فعليها. قال الشيخ منصور في شرح الإقناع: فيجب لها عليه بقدر نفقة الحضر وما زاد فعليها: أي إذا كان الذي معها زوجها وهذه مسألة أخرى. وتحقيق ذلك أن نقول: الزوجة تلزمها نفقة زوجها زمن سفره معها لأداء نسكها حيث كان محرماً لها سواء زادت على نفقة الحضر أم لم تزد، كما أن الزوج يلزمه نفقة زوجته بقدر نفقه الحضر لا غير وما زاد فعليها. إذا تقرر هذا اتضح لك أن عبارة الشيخ منصور في شرح الإقناع قد خرج فيها عن موضوع المسألة التي جرى التفريع عليها، وأن عبارة الشيخ الخلوتي في حاشيته على المنتهى قد فيها ما أطلقه الأصحاب من وجوب نفقة المحرم على المرأة في السفر زوجاً أو غيره، والله ولي التوفيق، قال في الغاية: ويجوز لها أن تتزوج من يحج بها انتهى، ولا يلزم المحرم مع بذلها الزاد والراحلة وما يحتاجه سفر معها للمشقة كحجة عن نحو كبيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 عاجزة، قال المحب بن نصر الله: مفهوم كالمهم أنه إذا كان مسافراً معها وامتنع من صحبتها لزمه ذلك لعدم المشقة انتهى، وتكون إن امتنع محرمها من سفره معها كمن لا محرم لها فلا وجوب عليها وظاهر كلامهم لا يلزمها أجرة له. وفي الفروع: ويتوجه أن يجب له جرة مثله لا النفقة كقائد الأعمى ولا دليل يخص وجوب النفقة انتهى، والمذهب ما تقدم من وجوب نفقته عليها، قال في المنتهى وشرحه: ومن أيست منه أي المحرم استنابت من يفعل النسك عنها ككبير عاجز، فإن وجدت بعد فحكمها كالمعضوب، والمراد أيست بعد أن وجدت المحرم وفرطت بالتأخير حتى فقد لما قدمناه من نص الإمام انتهى. قلت نص الإمام الذي أشار إليه هو قوله المحرم من السبيل وعليه ولا يجب الحج عليها ولو كانت غنية إذا لم تجد محرماً، وقوله فحكمها كالمعضوب: أي في إجزاء الحج عنها لأن المعضوب إذا استناب لعجزه ثم عوفى بعد حج النائب عنه يجزئه، وعلى القول المقابل للمذهب منن أن وجود المحرم شرط للزوم الأداء لا للوجوب فإنها إذا أيست من المحرم يلزمها أن تستنيب من يؤدي النسك عنها، سواء وجدت المحرم قبل ذلك وفرطت بالتأخير حتى فقد أو لم تجد محرماً أصلاً، ويعايا بها، فيقال: شخص صحيح قوي يستطيع الثبوت على الراحلة يجوز له أن يستنيب في حجة الإسلام، وجوابها أن يقال هذا في المرأة إذا أيست من المحرم، وقلنا إنه شرط للزوم الأداء على الرواية التي هي مقابل المذهب أو على المذهب من أن المحرم شرط للوجوب إذا كانت قد وجدته وفرطت بالتأخير حتى عدم، فإن عليها أن تستنيب من يؤدي النسك عنها، والله أعلم. قال الشيخ محمد الخلوتي: قال في المنتهى: ومن أيست منه استنابت، حَمَله ولده الموفق على من وجدت المحرم أولاً ثم عدمته، وليس مبنياً على القول بأن المحرم شرط للزوم الأداء فإن المنصف يعني الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الفتوحي قد مشى سابقا على الصحيح من أنه شرط للوجوب لا للزوم الأداء وبيَّن في شرحه أن مما ينبني على هذا القول أن من لم تجد محرماً لا يلزمها الحج بنفسها ولا بنائبها، وعبارته هنا بدون هذا الحمل ظاهرة في القول بالقول الضعيف وعبارة شيخنا في حاشيته لا تخلو عن تعقيد انتهى كلام الخلوتي، وعبارة شيخه الشيخ منصور التي أشار إليها هذا نصها: قوله ومن أيست منه أي المحرم استنابت، هذا محمول على ما إذا وجدت المحرم ثم عدمت كما قال ولده الموفق، وإلا فمبني على أن المحرم شرط للزوم الأداء لا للوجوب كما يعلم من كلامه في أول الفصل في شرحه يعني شرح الفتوحي على المنتهى؛ وحكايته: نص الإمام انتهى كلام منصور، ومراده بنص الإمام هو قول أحمد المحرم من السبيل. قلت: ففي كلام الشيخ منصور نوع تعقيد كما قاله تلميذه ابن أخته محمد الخلوتي، ولو قال الشيخ منصور هذا محمول على ما إذا وجدت المحرم ثم عدمت، كما قال ولده الموفق، وكما يعلم من كلامه في أول الفصل في شرحه وحكايته نص الإمام، وإلا فهو مبني على القول بأن المحرم شرط للزوم الأداء لا للواجب، لسلم من التعقيد الذي أشار إليه الخلوتي والله أعلم. وإن حجت امرأة بدون محرم حرم سفرها بدونه وأجزأها حجها وفاقاً للأئمة الثلاثة كمن حج وترك حقاً يلزمه من نحو دين فإنه يحرم عليه ذلك ويجزئه الحج، لكن على الصحيح من المذهب لا رخصة له فلا قصر ولا فطر لأن السفر محرَّم، وإن مات محرم سافرت معه بالطريق فإن كان مات قريباً رجعت لأنها في حكم الحاضرة، وإن كان مات بعيداً مضت في سفرها للحج، لأنها لا تستفيد برجوعها شيئاً لأنه بغير محرم ولو مع إمكان إقامتها ببلد، لأنها تحتاج إلى الرجوع ولم تصر محصرة إذ لا تستفيد بالتحلل زوال ما بها كالمريض، لكن إن كان حجها تطوعاً وأمكنها الإقامة ببلد فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أولى من السفر بغير محرم، وقال في المنتهى: وإن مات بالطريق مضت في حجها ولم تصر محصرة انتهى، وقال في الإقناع وإن مات المحرم قبل خروجها لم تخرج، وإن مات بعده، فإن كان قريباً رجعت، وإن كان بعيداً مضت ولم تصر محصرة انتهى، قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي: فبين عبارة الإقناع والمنتهى تخالف بالإطلاق والتقييد، ولم ينبه الشيخ منصور في شرح المنتهى على ذلك انتهى. قلت لأن صاحب المنتهى أطلق مضيها إذا مات، وصاحب الإقناع قيده بما إذا كان بعيداً والله أعلم، وقد ذكر صاحب المنتهى والإقناع وغيرهما في باب العدد تفاصيل جيدة فيما إذا كان المحرم المتوفى زوجاً فليراجع في محله عند الحاجة إليه، وعلى القول برجوعها إذا مات محرمها قريباً فهو فيما إذا أمكنها الرجوع، وإلا بأن كانت في سيارة فيها ركاب سواها أو بابور بري أو بحري أو طائرة مثلاً، فإنها في هذه الحالة لا تتمكن من الرجوع في الغالب إذا مات محرمها، وحينئذ لا إثم عليها إذا لم ترجع للعذر، وكذلك فيما يظهر لو تمكنت من الرجوع، ولكنها خشيت في رجوعها بغير محرم انفراد فاسق بها في الطريق أو عدم الاهتداء إليه أو ضرراً يلحقها في بدنها أو مالها، فإنه لا يلزمها الرجوع ولو كانت دون مسافة قصر، والله أعلم. (تتمة) يصح حج المغصوب على الحج وأجير الخدمة والمكاري والتاجر، قال بعض المفسرين في قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) هو النفع والربح في التجارة، وكان ناس من العرب يتأثمون أن يتجروا أيام الحج، وإذا دخلت عشر ذي الحجة كفوا عن البيع والشراء فلم يقم لهم سوق، ويسمون من يخرج للتجارة الداج، ويقولون هؤلاء الداج وليسوا بالحاج، وقيل كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية يتجرون فيها أيام الموسم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وكانت معايشهم منها فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم، وإنما يباح ما لم يشغل عن العبادة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً قال له إنا نكرى في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا، فقال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت عنه، فلم يرد عليه حتى نزلت: (ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلا من ربكم) فدعا به فقال أنتم حجاج. وعن عمر رضي الله عنه أنه قيل له هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال وهل كنت معايشنا إلا من التجارة في الحج. انتهى. قال في المصباح: عكاظ وزان غراب: سوق من أعظم أسواق الجاهلية وراء قرن المنازل بمرحلة من عمل الطائف، وقال أبو عبيد: هي صحراء مستوية لا جبل بها ولا علم، وهي بين نجد والطائف وكان يقام فيها السوق في ذي القعدة نحوا من نصف شهر، ثم يأتون موضعاً دونه إلى مكة يقال له سوق مجنة فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر، ثم يأتون موضعاً قريباً منهن يقال له ذو المجاز فيقام فيه السوق إلى يوم التروية، ثم يصدرون إلى منى، والتأنيث لغة الحجاز، والتذكير لغة تميم انتهى كلام صاحب المصباح، قال في القاموس: وذو المجاز سوق كانت لهم على فرسخ من عرفة بناحية كبكب انتهى. قال الأزرقي: مجنة سوق بأسفل مكة على بريد منها وهي سوق لكنانة وأرضها من أرض كنانة وهي التي يقول فيها بلال رضي الله عنه. وهل أردن يوما مياه مجنة: وذو المجاز سوق لهذيل عن يمين الموقف من عرفة قريب من كبكب على فرسخ من عرفة انتهى. وقد حصل في عكاظ أربعة أيام في الجاهلية بين قريش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وبين هوازن وهي: يوم شمطة ويوم العبلا ويوم يثرب ويوم الحريرة، وهذه المواضيع معروفة الآن وهي قريبة من مطار الطائف فيستدل على موضع عكاظ بهذه المواضع الأربعة، والله أعلم. إذا تقرر هذا فإن الحج من المغصوب والأجير والتاجر صحيح ولا إثم، نص على ذلك الإمام أحمد وفاقاً للأئمة الثلاثة، قال في الفصول والمنتخب: والثواب بحسب الإخلاص، قال أحمد: ولو لم يكن تجارة كان أخلص انتهى. ولهذا ذكر في الإقناع والمنتهى وغيرهما أنه متى نوع مع نية الصوم هضم الطعام مع نية الحج التجارة أو رؤية البلاد النائية أن ذلك ينقص من الأجر، وهذا مع عدم تمحض النية كلها لذلك فإن تمخضت لذلك فعبادة باطلة فيجب على كل مسلم أن يخلص أعماله لله جل وعلا، قال الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن رجب: الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض صلاة وصوم، وقد يصدر في نحو صدقة وحج، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وقال إن شارك الرياء العمل من أصله فالنصوص الصحيحة على بطلانه، وإن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه خاطر الرياء ودفعه لم يضر بلا خلاف، وإن استرسل معه فخلاف، رجح أحمد أن عمله لا يبطل بذلك انتهى، وإن حج على حيوان مغصوب ومثله سيارة مغصوبة أو بما مغصوب، عالماً ذاكراً لذلك وقت حجه لم يصح وإلا صح، وما أحسن ما قال بعض الفضلاء في هذين البيتين: إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت ولكن حجت العير ما يقبل الله إلا كل صالحة ... ما كل من حج بيت الله مبرور قال الشيخ مرعي في غايته: ولو تاب من ذلك في الحج قبل الدفع من عرفة أو بعده إن عاد فوقف في الوقت مع تجديد إحرام. إن حجة يصح لتلبسه بالمباح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 حال فعل الأركان انتهى. وقد سئل الشيخ موسى الحجاوي عمن حج بمال حرام ما حم حجه؟ فأجاب إذا حج بالمال الحرام من جمل أو نفقة لزمه أن يحج ثانياً لعدم سقوطه بالمال الحرام انتهى. وروي أن الإمام مالكا رحمه الله وقف في المسجد الحرام في الحج ونادى: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس: من حج بمال حرام فليس له حج انتهى. -- باب المواقيت: جمع ميقات، وهو لغة: الحد، وشرعاً: مواضع وأزمنة معينة لعبادة مخصوصة، فميقات أهل المدينة ذو الحليفة بضم الحاء وفتح اللام، وهي أبعد المواقيت عن مكة وبينها وبين مكة عشر مراحل أو أقل أو أكثر بحسب اختلاف السير والطرق فإن منها إلى مكة عدة طرق وبينها وبين المدينة ستة أميال تقريباً وتعرف الآن بأبيار علي، قيل سميت بذلك لأن عليا رضي الله عنه قاتل الجن في بعض تلك الآبار، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وهو كذب لا أصل له فإن الجن لم يقاتلهم أحد من الصحابة، وعلي رضي الله عنه أرفع قدراً من أن تثبت الجن لقتاله، ولا فضيلة لهذه البئر ولا مذمة، ولا يستحب أن يرمى بها حجر ولا غيره، بل فعل ذلك والقول به من خرافات الجاهلين، وفي هذا الميقات مسجد يسمى مسجد الشجرة وقد خرب وعمر في سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، قال السمهودي في تاريخه: قد اختبرت ذرع ذلك فكان من عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب السلام إلى عتبة مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع بتقديم المثناة الفوقية وسبعمائة ذراع بتقديم السين واثنين وثلاثين ذراعاً ونصف ذراع بذراع اليد، وقد نظم بعضهم أسماء المواقيت وأسماء أهلها فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 عرق العراق يلملم اليمنى ... وذو الحليفة يُحرم المدني. والشام جحفة إن مررت بها ... ولأهل نجد قرن فاستبن. ونظمها بعضهم أيضاً مبيناً مقدار بعد كل منها عن مكة، فقال: قرن يلملم ذات عرق كلها ... في البعد مرحلتان من أم القرى. ولذي الحليفة بالمراحل عشرة ... وبها لجحفة ستة فأخبر تري. انتهى، والمراد بسير الإبل المحملة والمشي على الإقدام. وميقات أهل الشام ومصر والمغرب: الجحفة بضم الجيم وسكون الحاء المهملة، قرية على طريق المدينة خربة قرب رابغ على يسار الذاهب لمكة تعرف الآن بالمقابر كان اسمها مهيعة فجحف السيل بأهلها فسميت بذلك، وتلى ذا الحليفة بالبعد عن مكة، قال في المنتهى وشرحه: وبينها وبين المدينة ثمان مراحل وبينها وبين مكة ثلاث مراحل أو أربع، ومن أحرم من رابغ فقد أحرم قبل الميقات بيسير انتهى. وفي فتح الباري لابن حجر العسقلاني: بينها وبين مكة خمس مراحل أو ست، وفي قول النووي في شرح المذهب ثلاث مراحل نظر انتهى. قلت ما ذكره الحافظ في الفتح وجيه لأن المسافة التي بين الجحفة ومكة هي كما ذكر خلافا لما في شرح المهذب والمنتهى وغيرهما. قال شيخ الإسلام في منسكه الأخير بعد كلام سبق: ولهذا صار الناس يحرمون قبل الجحفة من المكان الذي يسمى رابغاً، وهذا ميقات لمن حج من ناحية المغرب كأهل الشام ومصر وسائر المغرب، لكن أهل الشام إذا اجتازوا بالمدينة النبوية كما يفعلونه في هذه الأوقات أحرموا من ميقات أهل المدينة فإن هذا هو المستحب لهم بالاتفاق، وإن أخروا الإحرام إلى الجحفة ففيه نزاع انتهى. وقال في الاختيارات: ومن ميقاته الجحفة كأهل مصر والشام إذا مروا على المدينة فلهم تأخير الإحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 إلى الجحفة، ولا يجب عليها الإحرام من ذي الحليفة، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك انتهى. وحكى الأثرم عن الإمام أحمد أنه سئل أي سنة وقت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت؟ فقال عام حج انتهى. والجحفة كانت مسكن اليهود فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه في أوائل الهجرة أن ينقل حُمى المدينة إليها فنقلها إليها حتى لو مر بها طائر حُمَّ فنزلت في اليهود فقطعتهم. فإن قيل كيف جعلت ميقاتاً وفيها الحمى المذكورة مع أن في ذلك ضرراً على المسلمين؟ أجيب بأن نقل الحمى إليها مدة مقام اليهود بها، ثم زالت الحمى عنها بزوالهم من الحجاز أو قبله حين أقت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بما فيه ضرر على المسلمين كما علم من قواعد الشريعة المطهرة. وعند المالكية إذا مرَّ المصري والشامي والمغربي بذي الحليفة فالأفضل لهم أن يحرموا منها ولهم التأخير للجحفة. وفي منسك الشيخ يحيى الحطاب من المالكية، قال مالك: ومن حج في البحر من أهل مصر والشام وشبههما أحرم إذا حاذى الجحفة، قال شارحه الشيخ محمد البناني: أي ولا يؤخره إلى البر، وعليه درج الخرشي في شرحه حيث قال: إن من سافر في البحر فإنه يحرم إذا حاذى الميقات ولا يؤخره إلى البر انتهى. فعليه إذا لم يحرم عند محاذاة الميقات ببحر وأخره إلى البر أساء وعليه دم عندهم، وقد نقل ابن الحاج في مناسكه رواية ابن نافع عن مالك وهي تخالف ما تقدم عن مالك، ونص ما في مناسك ابن الحاج قال ابن نافع لا يحرم المسافر في السفن، ورواه عن مالك رحمه الله انتهى، كذا في الحطاب على منسك خليل انتهى، وعند الحنفية أن من سلك طريقا ليس فيه ميقات معين براً أو بحراً اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتاً منها، ومن حذو الأبعد أولى، وإن لم يعلم المحاذاة فعلى مرحلتين من مكة كجدة، وعندهم أن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ترك ميقاته الذي جاوزه وأحرم من ميقات آخر ولو أقرب إلى مكة من الأول، سقط عنه الدم، وإن المدني إذا جاوز ذا الحليفة غير محرم إلى الجحفة كره، وفي لزوم الدم عندهم خلاف، والصحيح عدم وجوبه لأنه إذا كان في طريقه ميقاتان فالسالك مخير عندهم في أن يحرم من الأول وهو الأفضل، أو يحرم من الثاني فإنه رخصة له، وروي عن أبي حنيفة أنه قال في غير أهل المدينة: إذا مروا على المدينة فجاوزوها إلى الجحفة فلا بأس بذلك وأحب إليّ أن يحرموا من ذي الحليفة لأنهم لما وصلوا إلى الميقات الأول لزمهم محافظة حرمته فيكره لهم تركها انتهى. وقالت الشافعية: من سلك البحر أو طريقاً ليس فيه شيء من المواقيت الخمسة أحمر إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، فإذا كان عند محاذاة ذي الحليفة على ميلين منها، وعند محاذاة الجحفة على ميل كان ميقاته الجحفة، وإن استويا في القرب إليه أحرم عند محاذاة الأبعد من مكة، فإن لم يحاذ شيئا كالآتي من غربي جدة في البحر أحرم على مرحلتين من مكة. قلت: إنما سقت في هذا الموضع مذاهب الأئمة الثلاثة رغبة في حصول الفائدة للناظر في هذا الكتاب، ويأتي إن شاء الله تحقيق الكلام في هذه المسألة على مذهب الحنابلة عند قولنا: ومن لم يمر بميقات من المذكورات أحرم بحج أو عمرة وجوباً إذا علم أنه حاذى أقرب المواقيت، وبالله التوفيق. وميقات أهل اليمن يَلَمْلَمُ بفتح التحتية أوله ويقال له ألملم بهمزة أوله، وهو أصل يلملم قلبت الهمزة ياء، ويقال أيضاً يرمرم براءين مهملتين بدل اللامين، فإن أريد به الجبل فمنصرف، وإن أريد به البقعة فغير منصرف، قال في الإقناع وشرحه: وجبل معروف انتهى، وفي المصباح وألملم جبل بتهامة على ليلتين من مكة، وهو ميقات أهل اليمن، وقد غلب على البقعة فيمتنع الصرف للعملية والتأنيث، ويبدل من الهمزة ياء فيقال يلملم انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ملخصا، وبين يلملم وبين مكة مرحلتان أربعون ميلاً. واليمن كل ما كان على يمين الكعبة من بلاد الغور، والنسبة إليه يمني على القياس، ويماني على غير القياس. وميقات أهل نجد قرن بفتح القاف وسكون الراء، يقال له قرن المنازل، على يوم وليلة من مكة بسير الإبل المحملة، قال في المصبح: نجد سمي بها بلاد معروفة من ديار العرب مما يلي العراق وليست من الحجاز وإن كانت من جزيرة العرب، قال في التهذيب: كل ما وراء الخندق الذي خندقه كسرى على سواد العراق فهو نجد إلى أن تميل إلى الحرة، فإذا ملت إليها فأنت في الحجاز، وقال الصنعاني: كل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد انتهى، وقد غلط صاحب المصباح حيث قال: وقرن بالسكون ميقات أهل نجد، وهو جبل مشرف على عرفات، ويقال له قرن المنازل وقرن الثعالب انتهى. وقال في شرح المصابيح: وقرن جبل أملس كأنه بيضة في تدوره، وهو مطل على عرفات انتهى، وهذا وَهم، وقال في القاموس: قرن جبل مطل على عرفات والحجر الأملس النقي وميقات أهل نجد وهي قرية عند الطائف أو اسم الوادي كله انتهى. قلت قرن المنازل هو ميقات أهل نجد وهو معروف مشهور ويسمى الآن بالسيل الكبير، ويتصل وادي السيل هذا بوادي المحرم المسمى أيضاً قرناً الذي تمر معه السيارات الذاهبة من الطائف إلى مكة مع الجبل المسمى كرا، وكالهما يطلق عليهما اسم قرن الميقات المذكور فمن أحرم من أحدهما فقد أحرم من الميقات الشرعي والله أعلم. وأما قرن الثعالب فقد قال الفاكهي في أخبار مكة: إنه جبل مشرف على أسفل مِنى قريباً من مسجد الخيف بينه وبين المسجد ألف وخمسمائة ذراع، وقيل له ذلك لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب انتهى كلامه. وميقات أهل المشرق والعراق وخراسان وابقي الشرق ذات عِرق، منزل معروف سمي بذلك لعرق فيه: أي جبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 صغير، أو أرض سبخة تنبت الطرفا، قال في الإقناع وهي قرية خربة قديمة، وعرق هو الجبل المشرف على العقيق انتهى ملخصاً، وإذا كان الميقات قرية فانتقلت إلى مكان آخر فموضع الإحرام من الأولى، وإن انتقل الاسم إلى الثانية؛ لأن الحكم تعلق بذلك الموضع فلا يزول بخرابه، وقد رأى سعيد بن جبير رجلاً يريد أن يحرم من ذات عرق فأخذ بيده حتى خرج به من البيوت وقطع الوادي فأتى به المقابر هذه ذات عرق الأولى، قال في فتح الباري: عرق بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف هو الحد الفاصل بين نجد وتهامة انتهى ملخصاً، قال بعض متأخري الحنفية: ذات عرق بعد المضيق إلى جهة العراق وقبل العقيق فمن أحرم منه فقد أحرم من الميقات بيقين انتهى. قال بعض الشافعية: والأفضل في حق أهل العراق والمشرق أن يحرموا من العقيق، وهو وادٍ بقرب ذات عرق أبعد منها انتهى. قلت: ذات عرق وهي ميقات أهل المشرق والعراق وخراسان وباقي الشرق، وموضعها معروف مشهور، وبها وادٍ وهي بين العقيق وبين قرية المضيق، وكان بعض حجاج أهل نجد إذا حجوا على الإبل يحرمون منها فيدخلون إليها مع الطريق المسمى الآن عند أهل نجد وغيرهم بريع الضريبة بفتح الضاد وكسر الراء على وزن الزريبة، وأما أهل المشرق والعراق وغيرهم ممن على جهاتهم فهم في هذه الأزمان لا يحرمون من هذا الميقات لأنهم يحجون في الغالب على سيارات وهي لا تتمكن من عبور هذا الطريقة لمشقته، وإنما يأتون على قرن الميقات أو من طريق جدة وأما العقيق فهو وادٍ كبير معروف مشهورة وهو غير وادي العقيق الذي بقرب المدينة المنورة الذي ورد فيه الحديث، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: (أتأني الليلة آت من ربي فقال صلّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجة) فإن هذا بينه وبين المدينة أربعة أميال تقريباً. وهي المواقيت كلها ثبتت بالنص لما روى ابن عباس قال: وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرنا ولأهل اليمن يلملم. هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمهله من أهل وكذلك أهل مكة يهلون منها. متفق عليه. وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود والنسائي، وعن جابر نحوه مرفوعا. رواه مسلم. والأفضل أن يحرم من أول الميقات وهو الطرف الأبعد عن مكة احتياطا، وإن أحرم من الميقات من الطرف الأقرب من مكة جاز لإحرامه من الميقات وفاقاً للأئمة الثلاثة. (تنبيه) : إذا أحرم من قرن المسمى بالسيل من موضع القهاوي التي خارج الوادي إلى جهة مكة فإنه لا يعتبر محرماً من الميقات المذكور، بل يكون حكمه حكم من جاوز الميقات بغير إحرام، ويلزمه ما يلزم المجاوز للميقات غير محرم من الدم، وقد وقع في ذلك جم غفير من الحجاج والمعتمرين لا سيما بعد أن بينت هذه القهاوي وصار الحجاج يقفون عندها بسياراتهم للإحرام، وقليل من الحجاج من إذا أراد الإحرام يرجع إلى الوادي حتى يحرم من نفس الميقات الذي وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالواجب على من نصح نفسه التنبه لذلك وتنبيه الجاهل عن الإحرام من نفس القهاوي التي بعد الوادي مما يلي مكة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والمواقيت المذكورة لأهلها ولمن مر عليها من غير أهلها ممن يريد الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 والعمرة كما في الحديث، وقوله في الحديث (هن لهن) أي المواقيت المذكورة للجماعات المذكورة أو لأهلن على حذف المضاف، ووقع في صحيح البخاري في باب مَهَل أهل اليمن بلفظ (هن لأهلهن) ووقع في البخاري أيضاً بلفظ (هن لهم ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمر ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة) ومعنى هن لهم أن المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة، فعلى هذا إذا مر الشامي أو المدني أو المصري أو غيرهم على غير ميقات بلده كالشامي يمر بذي الحليفة والنجدي يمر بذات عرق فإنه يحرم من الميقات الذي مر عليه لأنه صار ميقاته، ومن منزله بين الميقات ومكة كأهل خليص وعسفان ووادي فاطمة وبحرة وحده بالحاء المهملة ولزيمة والشرائع ونحوهم فميقاته من موضعه وفاقاً للمالكية والحنفية والشافعية لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن كان دون ذلك فمهله من أهله) فإن كان له منزلان جاز أن يحرم من أقربهما إلى مكة، والأولى أن يحرم من البعيد عن مكة كما تقدم في طرفي الميقات، وجزم الشيخ مرعي في الغاية بأن بلاده كلها منزله، قال محمد الخلوتي: ومن منزله دونها فيمقاته منه، والمراد من بلده انتهى. وحكم من منزله دون الميقات خارجا من الحرم كأهل لزيمة والشرائع ووادي فاطمة ونحوهم إذا جاوز قريته إلى ما يلي الحرم حكم المجاوز للميقات لأن موضعه ميقاته فهو في حقه كالمواقيت الخمسة في حق الأفقي وأهل مكة ومن بها من غيرهم، سواء كانوا في مكة أو في الحرم كمنى ومزدلفة إذا أرادوا العمرة فمن الحل، ومن التنعيم أفضل، وهو مذهب الحنابلة وفاقاً للحنفية لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم، متفق عليه، ولأن أفعال العمرة كلها في الحرم فلم يكن بد من الحل ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم، بخلاف الحج فنه يخرج إلى عرفة وهي من الحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فيحصل الجمع بين الحل والحرم، والتنعيم أقرب الحل إلى مكة، وقال الإمام أحمد: كلما تباعد فهو أعظم للأجر، وفي التلخيص والمستوعب من الجعرانة أفضل وفاقاً للشافعية لاعتماره صلى الله عليه وسلم منها، فإن أحرم أهل مكة وحرمها من مكة أو من الحرم انعقد إحرامهم بالعمرة لأهليتهم له، ومخالفة الميقات لا تمنع الانعقاد كمن أحرم بعد الميقات، وفيه دم لمخالفة الميقات كمن جاوز الميقات، بلا إحرام ثم إن خرج إلى الحل قبل إتمام العمرة ولو بعد الطواف أجزأته عمرته عن عمرة الإسلام لأن الإحرام من المحل المشروع له ليس شرطاً لصحة النسك وكذا تجزئة العمرة إن لم يخرج إلى الحل لما سبق قدمه في المغني، قال الزركشي هو المشهور. وفوات الإحرام من الميقات لا يقتضي البطلان لأن الإحرام من الميقات ليس شرطا كما تقدم، فإن أحرم من مكة أو الحرم قارنا فلا دمه عليه لأجل إحرامه بالعمرة من مكة تغليبا للحج على العمرة لاندراجها فيه وسقوط أفعالها. وأما دم القِران فيلزمه بشرطه، وإن أراد من بمكة أو الحرم الحج فإن يحرم من مكة مكياً كان الحاج أو غيره إذا كان في مكة من حيث شاء منها، لقول جابر: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم من الأبطح) رواه مسلم. ونص أحمد في رواية حرب يُحرم من المسجد، وفي الإيضاح والمبهج لأبي الفرج الشيرازي: من تحت الميزاب ويسمى الحطيم، لكن حديث جابر صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة رضي الله عنهم أن يُحرموا من الأبطح ولم أطلع على دليل يقضي بتفضيل الإحرام من المسجد أو من تحت الميزاب أو غيرهما من بقاع مكة، والله أعلم. ويجوز إحرامه من سائر الحرم ومن الحل كالعمرة وكما لو خرج إلى الميقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الشرعي، ولا دم عليه لعدم الدليل على وجوبه، ويأتي في باب صفة الحج شيء مما تقدم، ومن لم يمر بميقات من المذكورات أحرم بحج أو عمرة وجوباً إذا علم أنه حاذى أقرب المواقيت منه لقول عمر رضي الله عنه: (انظروا حذوها من طريقكم) رواه البخاري، وسن له أن يحتاط ليخرج من عهدة الواجب، فإن لم يعلم حذو الميقات أحرم من بعدٍ إذ الإحرام قبل الميقات جائز، وتأخيره عنه حرام فإن تساويا قُرباً منه فإنه يحرم من حذو أبعدهما من مكة من طريقه، لأنه أحوط، فإن لم يحاذ ميقاتاً كالذي يجيء من سواكن إلى جدة من غير أن يمر برابغ ولا يلملم لأنهما أمامه فيصل جدة قبل محاذاتهما، أحرم عن مكة بقدر مرحلتين فيحرم في المثال من جدة لأنها على مرحلتين من مكة، لأنه أقل المواقيت، وتقدم البحث في ذلك على مذاهب الأئمة الثلاثة، فإن أحرم ثم علم بعد أنه قد جاوز غير محرم ما يحاذي الميقات فعليه دم، قاله في المغني والشرح، قال في المبدع: وهو متجه. -- فصل: ولا يجوز لمن أراد دخول مكة ولو لتجارة أو زيارة أو أراد دخول الحرم أو أراد نسكا تجاوز الميقات بغير إحرام إن كان حراً مسلماً مكلفاً؛ بخلاف الرقيق والكافر وغير المكلف، لأنهم ليسوا من أهل فرض الحج، فلو جاوز الميقات رقيق أو كافر أو غير مكلف ثم لزمهم الإحرام بأن عتق الرقيق، وأسلم الكفار، وكلف غير المكلف، أحرموا من موضعهم لأنه حصل دون الميقات وعلى وجه مباح فكان له أن يحرم منه كأهل ذلك الموضع ولا دم عليهم إذا أحرموا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 موضعهم، لأنهم لم يجاوزوا الميقات حال وجوب الإحرام عليهم بغير إحرام، فإن لم يرد الحرم ولا نسكا لم يلزمه الإحرام بغير خلاف، لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتوا بدراً مرتين وكانوا يسافرون للجهاد فيمرون بذي الحليفة بغير إحرام. قال شيخ الإسلام: وليس لأحد أن يجاوز الميقات إذا أراد الحج أو العمرة إلا بإحرام، وإن قصد مكة لتجارة أو لزيارة فينبغي له أن يحرم، وفي الوجوب نزاع انتهى. وعند الحنفية: يجب الإحرام من الميقات لأحد النسكين، ويحرم تأخيره عنه لمن أراد الحج أو العمرة أو دخول مكة أو الحرم ولو كان لقصد التجارة أو غيرها من إرادة نزهة أو دخول بيته ولم يرد نسكا، ويلزمه الدم بتأخير الإحرام عن الميقات ويجب عليه أحد النسكين إن لم يحرم عند دخول الميقات أو بعده إلى أن دخل مكة فيلزمه التلبس بحجة أو عمرة ليقوم بحق حرمة البقعة، وعندهم أيضا أن من جاوز الميقات غير محرم ثم أحرم بعد المجاوزة أو لم يحرم بعدها فعليه العود: أي يجب عليه الرجوع إلى ميقات من المواقيت، ولو كان أقربها إلى مكة ولم يتعين عليه العود إلى خصوص ميقاته الذي تجاوزه بلا إحرام. وعن أبي يوسف الأولى أن يحرم من ميقاته كما صرح به في المحيط، وإن لم يعد مطلقا فعليه دم لمجاوزة الميقات. فإن عاد قبل شروعه في طواف أو وقوف سقط الدم إن لبى من الميقات، وقال أبو حنيفة: لا يسقط الدم بالعود محرما لبى أو لم يلب، وقال زفر لا يسقط لبى أو لم لب لأن جنايته لا ترتفع بالعود، وعندهم أيضا يجوز لمن منزله الميقات أو داخله من أفقي وغيره، دخول الحرم ومكة إلا أن يريد نسكا، هذا ملخص مذهب الحنفية. وعند المالكية أن المار بالميقات، إما أن يريد مكة أولاً، فإن كان لا يريد مكة أو كان غير مخاطب بالنسك كالعبد والصبي فلا إحرام عليه، فإن بدا له دخول مكة بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 تعدي الميقات فأحرم فلا دم عليه ولو كانت حجة الإسلام، وإن كان يريد مكة وجب عليه الإحرام ولو لم يرد نسكا، فلو دخلها بغير إحرام وجب عليه أن يرجع إلى الميقات ليحرم منه إلا أن يغلب على ظنه فوات الحج أو الرفقة التي لا يجد غيرها فيحرم من مكانه الذي هو به ولا يرجع ويلزمه هدي. وإن أحرم بعد تعدي الميقات وجب عليه الهدي ولو لم يرد نسكا، لأن قصد مكة كقصد النسك كما في نقل ابن عرفة واعتمدوه، قال أبو مصعب من أصحاب مالك وعبد الملك لا يجوز أن يدخل مكة إلا محرماً ولو لتجارة أو لكونها وطنه أو لزيارة أهل بمكة أو لاستقضاء حق من غرمائه أو لشبه ذلك، وقال ابن شهاب: له أن يدخل حلالا ولا شيء عليه، هذا ملخص مذهب المالكية، وعند الشافعية إذا انتهى إنسان إلى الميقات وهو يريد حجاً أو عمرة لزمه أن يحرم منه، فإن جاوزه غير محرم عصى ولزمه أن يعود إليه ويحرم منه إن لم يكن له عذر، فإن كان له عذر كخوف الطريق أو الانقطاع من الرفقة أو ضيق الوقت أحرم ومضى في نسكه ولزمه دم إذا لم يعد، فإن عاد إلى الميقات قبل الإحرام فأحرم منه أو بعد الإحرام ودخول مكة قبل أن يطوف أو يفعل شيئاً من أنواع النسك سقط عنه الدم، وإن عاد بعد فعل نسك لم يسقط عنه الدم، وسواء في لزوم الدم من جاوزه عامداً أو جاهلاً أو ناسياً أم معذوراً بغير ذلك، وإنما يفترقون في الإثم فلا إثم على الناسي والجاهل ويأثم العامد، وأما إذا لم يرد حجاً ولا عمرة فإنه لا يلزمه الإحرام إذا أتى الميقات، هذا ملخص مذهب الشافعية والله أعلم. قال الشيخ أبو محمد المقدسي في المغني: النوع الثالث المكلف الذي يدخل للحرم إما مكة أو غيرها ليغر قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم، وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: لا يجب الإحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 عليه. وعن أحمد ما يدل على ذلك، وقد روى عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقى عن الأصل. إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الإحرام بعد تجاوز الميقات رجع فأحرم منه، فإن أحرم من دونه فعليه دم كالمريد للنسك انتهى ملخصاً، وقال أيضا ومن دخل الحرم بغير إحرام ممن يجب عليه الإحرام فلا قضاء عليه، وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة يجب عليه أن يأتي بحجة أو عمرة إلى أن قال ولنا أنه مشروع كتحية البقعة فإذا لم يأت به سقط لتحية المسجد وتمامه فيه ومثله في الشرح الكبير. قال في الفروع: إذا أراد حر مسلم مكلف نسكا أو مكة نص عليه أو الحرم لزمه إحرام من ميقاته وفاقاً لأبي حنيفة ومالك إلا أن أبا حنيفة يجوِّز لمن منزله الميقات أو داخله من أفقي وغيره دخول الحرم ومكة إلا أن يريد نسكاً ولا وجه للتفرقة، وظاهر مذهب الشافعي يجوز مطلقا إلا أن يريد نسكا، وعن أحمد مثله ذكرها القاضي وجماعة وصححها ابن عقيل وهي أظهر للخبر السابق، وينبني على عموم المفهوم والأصل عدم الوجوب يعني عدم وجوب الإحرام على كل داخل، والله أعلم. (تنبيه) : لا يجوز لمن أراد دخول الحرم أو مكة أو أراد نسكاً تجاوز الميقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 بغير إحرام هذا هو المذهب وعن الإمام أحمد رواية لا يجب عليه الإحرام إذا لم يرد نسكا ذكرها القاضي أبو يعلى وجماعة وصححها ابن عقيل واستظهرها ابن مفلح في الفروع، قال الموفق في المغني لأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقى على الأصل انتهى. وروى عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام وهو الصحيح من مذهب الشافعية، إذا تقرر هذا فعلى المذهب لو لم ينو نسكا ودخل مكة غير محرم فهل يلزم دم أو لا؟ الظاهر أنه لا يلزمه دم لأن الدم إنما يجب لجبران النقص الذي حصل في نسكه، وهذا لم يأت بنسك يجبره بدم وتقدم قريبا قول صاحب المغني إن الإحرام مشروع لتحية البقعة فإذا لم يأت به سقط كتحية المسجد، فإن تجاوز الميقات بغير إحرام لقتال مباح جاز لدخوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعلى رأسه المغفر ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه أنه دخل مكة محرماً ذلك اليوم، أو لخوف أو لحاجة تتكرر كحطاب وفيج وهو رسول السلطان وناقل ميرة وحشاش وحطاب وفحام وناقل فاكهة من الطائف أو غيره وصاحب البريد ونحوهم ومكي يتردد لقرية بالحل، قال مرعي أو خارج الميقات انتهى. فهؤلاء لهم الدخول بلا إحرام لما روى حرب عن ابن عباس (لا يدخل إنسان مكة إلا محرما إلا الجمالين والحطابين وأصحاب منافعها) احتج به أحمد دفعاً للمشقة والضرر لتكرره، قال ابن عقيل وكتحية المسجد في حق قيمة للمشقة، ثم إن بدا لمن لا يلزمه الإحرام ممن تقدم ذكرهم ممن تتكرر حاجته، والمكي الذي يتردد إلى قريته بالحل أن يحرم أو بدا لمن لم يرد الحرم كقاصد عسفان أو المضيق أو وادي فاطمة المسمى بمر الظهران أو لزيمة أو الشرايع ونحوهم أن يحرم أو تجاوز الميقات غير قاصد مكة ثم بدا له قصدها فجميع هؤلاء يحرمون من الموضع الذي بدا لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الإحرام فيه، لأنهم حصلوا دون الميقات على وجه مباح، فأشبه أهل ذلك المكان ولا دم على واحد منهم لأنهم لم يجاوزوا الميقات حال وجوب الإحرام عليهم بغير إحرام، ولأن من منزله دون الميقات لو خرج إلى الميقات ثم عاد غير محرم وأحرم من منزله لم يلزمه شيء، قال المحقق عثمان بن قائد النجدي: اعلم أن المار على الميقات لا يجوز له تجاوزه بلا إحرام بسبعة شروط: الإسلام والحرية والتكليف وإرادة مكة أو الحرم هذه الأربعة وجودية، والخامس والسادس والسابع: عدم القتال المباح والخوف والحاجة المتكررة وهذه الثلاثة عدمية فتدبر انتهى. وحيث أحرم من الميقات لدخول مكة أو الحرم لا لنسك طاف وسعى وحلق أو قصر وحل من إحرامه، قال في المنتهى وشرحه: وأبيح للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دخول مكة محلِّين ساعة من يوم الفتح، وهي من طلوع الشمس إلى صلاة العصر، لا قطع شجر لأنه صلى الله عليه وسلم قام الغد من يوم فتح مكة فحمد لله وأثنى عليه، ثم قال: (إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجراً، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب) وكذا في الإقناع وشرحه وغيرهما من كتب الأصحاب مع تصريحهم بجواز مجاوزة الميقات بلا إحرام لدخول مكة أو الحرم إذا كان لقتال مباح، واستدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو دخول مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، فإذا جاز لنا دخول مكة أو الحرم بلا إحرام للقتال المباح فكيف يكون دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة محلين ساعة من يوم الفتح من خصائصه صلى الله عليه وسلم؟ والذي يظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 أن الخصوصية إنما هي في جواز البداءة بالقتال وعاد التحريم بعد الساعة التي أحل الله مكة فيها لرسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لنا أن نبدأ أحداً بالقتال فيها، أما إذا بدأنا أحد بالقتال جاز لنا قتاله لقوله تعالى: (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم) أما ترك الإحرام لدخول مكة أو الحرم للقتال المباح وهو الدفاع عن المسلمين فليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولم يبح للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من أصحابه ولا غيرهم قطع الشجر وقتل صيد الحرم. ومن تجاوز الميقات بلا إحرام يريد نسكا فرضاً أو نفلا ولو كان جاهلا أنه الميقات أو حكمه أو ناسيا أو مكرها، لزمه أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه حيث أمكن كسائر الواجبات إن لم يخف فوت حج أو علة نفسه أو أهله أو ماله لصاً أو غيره، فإن خاف لم يلزمه رجوع ويحرم من موضعه، فإن رجع إلى الميقات فأحرم منه فلا دم عليه لأنه أتى بالواجب عليه كما لو لم يجاوزه ابتداء. وإن أحرم دون الميقات من موضعه أو غيره لعذر أو غيره صح وعليه دم وفاقاً للأئمة الثلاثة سواء أمكن رجوعه أم لا، وإن رجع محرماً إلى الميقات لم يسقط الدم برجوعه، نص عليه لأنه وجب لتركه إحرامه من ميقاته فلم يسقط كما لو لم يرجع، وإن فسد نسكه هذا الذي تجاوز فيه الميقات بلا إحرام لم يسقط دم المجاوزة نص عليه كدم محظور، ونقل منها يسقط لأن القضاء واجب، وعند الحنفية من كان منزله في نفس الميقات أو داخل الميقات إلى الحرم كأهل لزيمة والشرائع والمضيق ووادي فاطمة وبحرة ونحوهم، فإن ميقاته للحج والعمرة جميع المسافة من الميقات إلى انتهاء الحل وهو في رخصة وعدم لزوم كفارة ما لم يدخل أرض الحرم بلا إحرام، وإحرامه من دويرة أهل أفضل، وله دخول مكة بغير إحرام إذا لم يرد نسكا، فإن أراد نسكا وجب عليه الإحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 حينئذ، وأما من كان منزله خارج الميقات إلى الحل فيجب عليه الإحرام من الميقات لأحد النسكين ولو لقصد مكة أو الحرم أو تجارة بها أو نزهة أو دخول بيته، هذا ملخص مذهبهم، قال صاحب الفروع ابن مفلح: ولا وجه للتفرقة يعني تفرقة الحنفية بين من كان خارج الميقات وبين من كان فيه أو دونه إلى الحرم، حيث قالوا بوجوب الإحرام لدخول مكة أو الحرم مطلقا على من كان خارج الميقات دون من كان في الميقات أو داخله إلى الحرم إذ لم يرد نسكا والله أعلم. وعند المالكية من تردد إلى مكة بحطب أو فاكهة أو غيرهما من دون الميقات كأهل وادي فاطمة ولزيمة والمضيق وجدة فله أن يدخل مكة بغير إحرام، أما إن تردد لها من المواقيت فلا يجوز له أن يتعدى الميقات بلا إحرام هذا مذهبهم في هذه المسئلة، وفي إلزامهم للمتردد المذكور بالإحرام من الميقات كلما مر عليه مشقة وحرج، وقد قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) . (فائدة) : إذا ركب إنسان طائرة من نجد قاصداً مكة لأداء نسكه فميقاته الشرعي قرن المعروف بالسيل، وحيث إنه لا يتمكن من النزول بالطائرة في الميقات المذكور وقصد جدة لينزل في مطارها فإن الواجب عليه والحالة ما ذكر نية الإحرام في الطائرة إذا أتى على الميقات قرن المذكور أو على ما يحاذيه فإذا نزل بجدة محرماً قصد مكة لأداء نسكه، ولا يجوز له ترك الإحرام إذا أتى على الميقات أو حاذاه بقصد الإحرام من جدة، لأن الإحرام من الميقات أو ما يحاذيه واجب وتجاوزه بغير إحرام محرم وفيه دم. ومثله إذا ركب طائرة من المدينة ونحوها قاصداً مكة والله أعلم. وكره إحرام بحجة أو عمرة قبل الميقات المكاني وينعقد، ووجه الكراهة ما نقله أبو شامة عن أبي بكر الخلال: (أن رجلاً جاء إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 مالك بن أنس فقال من أين أحرم؟ قال: من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرم منه، فقال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ فقال مالك: لا أرى ذلك، فقال: ما تكره من ذلك؟ فقال: أكره عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة في زيادة الخير؟ فقال مالك فإن الله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) وأي فتنة أكبر من أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وفي رواية أن رجلاً قال لمالك بن أنس من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعادها عليه مراراً، فقال: إن زدت على ذلك؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة، قال: وما في هذا من الفتنة، إنما هي أميال أزيدها. قال فإن الله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) الآية. قال: وأي فتنة في هذا؟ قال مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك خير من اختيار الله واختيار رسوله. حكاه في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث. قال أحمد هو أعجب إليّ، وقال القاضي أبو يعلى وأصحابه وأبو محمد المقدسي في المغني والسامري في المستوعب وغيرهم، وروي الحسن (أن عمران بن حصين أحرم من مصره، أي بلده فبلغ ذلك عمر، فغضب عليه وقال: يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من مصره. وقال: إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه له) وراهما سعيد والأثرم. وقال البخاري: كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان، وعند المالكية يكره الإحرام قبل الميقات المكاني، وعند الشافعية يجوز أن يحرم قبل وصوله الميقات. وفي الأفضل قولان: الصحيح عندهم الإحرام من الميقات اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني من دويرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 أهله، وعند الحنفية يجب الإحرام من أي ميقات كان، سواء كان ميقات بلده أو غيره. والسنة عندهم أن يكون إحرامه من ميقات بلده والأفضل من دويرة أهله. لأنه من باب المبادرة إلى الطاعات والمسارعة إلى الخيرات، والفاضل عندهم كل ما قدمه على ميقاته من غير دويرة أهله قبل وصول ميقاته لكن بشرط كونه في أشهر الحج، والحرام عندهم تأخيره عن الميقات المعين لهن والمكروه عندهم تجاوز ميقاته إلى أدنى منه إذا كان في طريقه ميقاتان، ويصح الإحرام عندهم في جميع الصور الموافقة والمخالفة إلا أنه يجب في الحرام الدم، فلا يشترط لصحة الإحرام مكان ولا زمان هذا مذهبهم، والله أعلم. ويكره عندنا أن يحرم بالحج قبل أشهره لقول ابن عباس: (من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج) رواه البخاري ولأنه أحرم بالعبادة قبل وقتها فأشبه ما لو أحرم قبل الميقات المكاني، فإن أحرم بالحج قبل أشهره انعقد، ويدل لصحة إحرامه بالحج قبل أشهره قوله تعالى: (يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) وكلها مواقيت للناس فكذا للحج. وقوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) أي معظمه فيها كقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) ولا ينقلب إحرامه بالحج قبل ميقاته المكاني أو الزماني عمرة. خلافاً لما اختاره الآجري وابن حامد، نقل أبو طالب وسندي يلزمه الحج إلا أن يفسخه بعمرة فله ذلك على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وميقات العمرة الزماني جميع العام لعدم المخصص لها بوقت دون آخر فتباح كل وقت من أوقات السنة في أشهر الحج وغيرها، فلا يكره الإحرام بها يوم النحر ولا يوم عرفة ولا أيام التشريق كالطواف المجرد، إذ الأصل الإباحة ولا دليل على الكراهة، ويأتي في صفة العمرة بيان صورة الإحرام يوم النحر، وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وسمي شوال بذلك لأن فيه يخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الحاج فتشول الإبل بأذنابها: أي تحركها؛ وسمي ذوي القعدة بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه عن القتال، وقيل لأن موسى عليه السلام قعد فيه بطور سيناء، وقيل لأنهم كانوا يقعدون فيه عن الأسفار؛ وسمي ذو الحجة بذلك لوقوع مناسكه فيه، وما قلناه من أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة هو ما رواه ابن عمر مرفوعاً وقاله جمع من الصحابة، فيوم النحر منها لأن العشر بإطلاقها للأيام كالعدة، قال تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) ، قال القاضي أبو يعلى والموفق وغيرهما: العرب تغلِّب التأنيث في العدد خاصة لسبق الليالي فتقول سرنا عشراً، وإنما فات الحج بفجر يوم النحر لخروج وقت الوقوف فقط لا بخروج وقت الحج. فإن قيل الأشهر جمع في قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) وأقل الجمع ثلاثة، قلنا: الجمع يطلق على اثنين كقوله تعالى: (فإن كان له إخوة) وعلى اثنين وبعض آخر كعدة ذات الأقراء قال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) لأنها تشمل القرءين وبعض الثالث عند من جعل القروء الأطهار كما هو رواية عن أحمد، وهو مذهب الشافعي، أما من جعل الأقراء الحيض، كما هو الصحيح من المذهب، فلا بد من ثلاثة أقراء كاملة في العدة، والله أعلم. يوم النحر هو يوم الحج الأكبر لحديث ابن عمر مرفوعاً (يوم النحر يوم الحج الأكبر) رواه البخاري. وعند الشافعية ميقات الحج الزماني شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة آخرها طلوع الفجر يوم العيد وليس منها يوم النحر ولا ينعقد الإحرام بالحج عندهم في غير هذه المدة، فإن أحرم به في غيرها لم ينعقد حجاً وانعقد عمرة مجزئة من عمرة الإسلام على الأصح عندهم. ولو أحرم عندهم قبل أشهر الحج إحراماً مطلقاً انعقد عمرة، وعند المالكية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الميقات الزماني من ابتداء شوال من أول ليلة الفطر إلى قرب فجر ليلة النحر بقدر ما يسع الإحرام والوقوف. ويمتد زمن الإحلال منه إلى انتهاء ذي الحجة وهو المشهور عندهم، وقيل إلى الحادي عشر، وقيل إلى آخر أيام الرمي، وفائدة الخلاف عندهم في تأخير طواف الإفاضة، فعلى المشهور لا يلزمه الدم إلا إذا أخره إلى المحرم، وعلى القولين الضعيفين لا يلزمه إلا إذا أخره إلى الحادي عشر أو عن أيام الرمي؛ وإنما كان ما ذكر هو المشهور عندهم للتمسك بالحقيقة في قوله تعالى: (الحج أشهرٌ معلوماتٌ) لأن أقل الجمع ثلاثة، ومعنى الآية عندهم الحج وقته أشهر معلومات بمعنى أن له التحلل في ذي الحجة بتمامه، ولا يلزمه دم إلا بدخول المحرَّم، لا بمعنى أن له أن يبتدئ الإحرام به بعد فجر النحر، فإن ذلك لم يقله مالك ولا غيره ممن يعتد به. ويكره الإحرام عندهم بالحج قبل شوال ولكنه ينعقد، وعند الحنفية يكره الإحرام بالحج قبل أشهره مع الصحة، وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة منه يوم النحر وفاقاً للحنابلة. -- باب: الإحرام أول الأركان، وهو في اللغة نية الدخول في التحريم، يقال أشتى إذا دخل في الشتاء، وأربع: إذا دخل في الربيع، وأنجد: إذا دخل نجدا، وأتهم: إذا دخل تهامة، وأصبح وأمسى: إذا دخل في الصباح والمساء. وفي الشرع: نية الدخول في النسك وإن لم يتجرد من ثيابه المحظورة على المحرم لا نيته ليحج أو يعتمر، سمي الدخول في النسك إحراماً، لأن المحرم بإحرامه حرم على نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أشياء كانت مباحة له: من النكاح والطيب والصيد وأشياء من اللباس ونحوها. ومنه في الصلاة (تحريمها التكبير) ويسن لمريد الإحرام أن يغتسل وفاقاً للحنفية والشافعية والمالكية ذكراً كان أو أنثى، ولو حائضاً أو نفساء، (لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل) . رواه مسلم. وأمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج وهي حائض، فإن رجت الحائض والنفساء الطهر قبل الخروج من الميقات استحب لهما تأخير الغسل حتى تطهراً ليكون أكمل لهما وإلا اغتسلتا قبل الطهر لما تقدم، ولأن مجاوزة الميقات بلا إحرام غير جائز على ما تقدم، ويتيمم عادم الماء لإحرامه وكذا العاجز عن استعماله لنحو مرض وفاقاً للشافعية كسائر ما يستحب له الغسل، ولا يضر حدثه بعد غسله قبل إحرامه، قال مرعي: ويتجه ولو كان الحث بجماع وحيض، وإن الطفل يغسله وليه انتهى، فعلى هذا إذا اغتسل للإحرام ثم أحدث قبل نية الإحرام فقد حصل المسنون كحدثه بعد غسل للإحرام ثم أحدث قبل نية الإحرام فقد حصل المسنون كحدثه بعد غسل الجمعة وقبل صلاتها. وقالت الحنفية: لو اغتسل ثم أحدث ثم توضأ وأحرم لم ينل فضل الغسل لأن كماله أن يصلي به، هذا هو الراجح عندهم. وعن الإمام أحمد لا يستحب التيمم، اختاره الموفق والشارح وصاحب الفائق وابن عبدوس في تذكرته وصوّبه في الإنصاف. قال الموفق: والصحيح أن التيمم غير مسنون لأنه غسل غير واجب فلم يستحب التيمم له عند عدم الماء كغسل الجمعة. والفرق بين الواجب والمسنون أن الواجب شرع لإباحة الصلاة والتيمم يقوم مقامه في ذلك، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة، والتيمم لا يحصل هذا بل يحصل شعثاً وتغييراً انتهى. قلت وهذه الرواية هي التي تطمئن إليها النفس وإن كان المذهب خلافها والله أعلم. قال في تنوير الأبصار للحنفية: التيمم لغسل الإحرام عند العجز عن الماء ليس بمشروع لأنه ملوث انتهى. وعند المالكية: أن من لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 يجد ماء يغتسل به للإحرام أو وجده ولكن خاف باستعماله ضرراً أو زيادته أو تأخير برء فإنه لا يتيمم للإحرام، وعند الحنفية لا يقوم التيمم مقام الغسل عند العجز عن الماء إلا لمن جاز له أن يصلي صلاة سنة الإحرام فإنه يتيمم حينئذ. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ويستحب أن يغتسل للإحرام ولو كانت نفساء أو حائضاً انتهى. قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى بعد كلام سبق في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (فصلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدين بالمسجد أربعاً ثم ترجل وادهن وليس إزاره ورداءه وخرج بين الظهر والعصر فنزل بذي الحليفة فصلي بها العصر ركعتين ثم بات بها وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر فصلى بها خمس صلوات وكان نساؤه كلهن معه وطاف عليهن تلك الليلة فلما أراد الإحرام اغتسل غسلاً ثانياً لإحرامه غير غسل الجماع الأول) وقد قال زيد بن ثابت (إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل) قال الترمذي حديث حسن غريب انتهى ملخصا. وقال ابن القيم أيضا وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة بعد ما صلى الظهر بالمدينة أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين وبات بذي الحليفة ثم أهلِّ بعد صلاة الظهر من يقوم الأحد بذي الحليفة في موضع مصلاه ثم ركب ناقته واستوت به على البيداء وهو يهل ودخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الأحد صبح رابعة من ذي الحجة انتهى ملخصاً من زاد المعاد. وسن لمريد الإحرام تنظف بأخذ شعره: من حلق العانة وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار، لكن محل سنية أخذ الشعر وتقليم الأظفار عند الإحرام هو فيما إذا كان في غير عشر ذي الحجة لمن يريد التضحية عن نفسه أو لمن يضحي عنه غيره تلك السنة، أما إذا أراد أن يضحي عن نفسه أو علم أن أحداً يضحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 عنه فإنه يحرم عليه إذا دخل عشر ذي الحجة أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته حتى يضحي أو يضحَّى عنه، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك في باب الأضحية: وسن له أيضا قطع رائحة كريهة كالجمعة ولأن الإحرام يمنع أخذ الشعر والأظفار فاستحب فعله قبله لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه فيه، قال إبراهيم كان يستحبون ذلك ثم يلبسون أحسن ثيابهم رواه سعيد. ويسن لمريد الإحرام أن يتطيب ولو امرأة غير محدة لحرمة الطيب عليها في بدنه سواء كان الطيب مما تبقى عينه كالمسك أو أثره كالعود والبخور وماء الورد، لقول عائشة رضي الله عنها (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف البيت) رواه البخاري. وقالت: (كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم) متفق عليه. والوبيص بفتح الواو وكسر الموحدة آخره صاد مهملة: هو بريق أثره ولمعانه، قال الإسماعيلي كما نقله القسطلاني: الويبص زيادة على البريق والمراد به التلألؤ قال وهو يدل على وجود عين باقية لا الريح فقط انتهى. قال شيخ الإسلام وكذلك إن شاء المحرم أن يتطيب في بدنه فهو حسن ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولم يأمر به الناس انتهى. ويستحب للمرأة إذا أرادت الإحرام خضاب بحناء لحديث ابن عمر: (من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء) ولأنه من الزينة أشبه الطيب. ويكره لمريد الإحرام تطييبه ثوبه الذي يريد الإحرام فيه وهو إزاره ورداؤه، فإن طيبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه، فإن نزعه فليس له لبسه والطيب فيه، لأن الإحرام يمنع الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة، فإن نزعه وأثر الطيب باق لم يغسله حتى يذهب فدى لاستعماله الطيب، أو نقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر أو تعمد مسه بيده فعلق الطيب بها أو نحى الطيب عن موضعه ثم رده إليه بعد إحرامه فدى لأنه ابتداء للطيب، فإن ذاب الطيب بالشمس أو بالعرق، فسال إلى موضع آخر من بدن المحرم فلا شيء عليه لحديث عائشة قالت: (كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها) . رواه أبو داود. ومذهب الشافعية في الطيب عند الإحرام كمذهب الحنابلة. وعند الحنفية يستحب لمن أراد الإحرام أن يدَّهن ويتطيب، وبما لا يبقى أثره من الطيب أفضل: ويستحب عندهم بالمسك وإذهاب جرمه بماء الورد ونحوه من الماء السافي، والأولى عندهم أن لا يطيب ثيابه، وعند المالكية يكره لمريد الإحرام أن يتطيب، واحتجوا بحديث يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم يعني ساعة، ثم قال: (اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك) متفق عليه، ولأنه يمنع من ابتدائه فمنع عندهم من استدامته، وحجة الأئمة الثلاثة ما تقدم من الأحاديث عن عائشة، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين والجعرانة سنة ثمان، وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر: أي فهو ناسخ انتهى. ويتجرد مريد الإحرام عن المخيط إن كان ذكراً لأنه عليه الصلاة والسلام تجرد لإهاله، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والتجرد من اللباس واجب في الإحرام وليس شرطاً فيه، فلو أحرم وعليه ثيابه صح ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتفاق الأئمة أهل العلم، وعليه أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ينزع اللباس المحظور انتهى. وعند الحنفية التجرد مستحب وليس بواجب قبل الإحرام حتى لو أحرم وهو لابس للمخيط ينعقد ويكره، وعند المالكية التجرد عن المخيط واجب. واختلف كلام الشافعية في ذلك، فعند النووي في منسكه أن التجرد سنة، والذي مشي عليه النووي في المجموع كالرافعي في العزيز أنه واجب. ويسن لمن يريد الإحرام أن يلبس ثوبين أبيضين لحديث (خير ثيابكم البياض) رواه النسائي، ويجوز الإحرام في غير البياض بلا خلاف، وفي الحديث (إن موسى بن عمران عليه السلام أحرم بعباءة قطوانية) وهي العباءة المخططة. قال شيخ الإسلام: ويستحب أن يحرم في ثوبين نظيفين، فإن كان أبيضين فهما أفضل، ويجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة من القطن والكتان والصوف، والسنة أن يحرم في إزار ورداء سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين باتفاق الأئمة، ولو أحرم في غيرهما جاز إذا كان مما يجوز لبسه، ويجوز أن يحرم في الأبيض وغيره من الألوان الجائزة وإن كان ملوناً انتهى. ويسن أن يكونا نظيفين كما تقدم لأنه يستحب له التنظيف في بدنه فكذلك في ثيابه، والثوبان اللذان يحرم فيهما إزار ورداء، سواء كان جديدين أو غسيلين، فالرداء على كتفه والإزار في وسطه لما روى أحمد عن ابن عمر مرفوعاً: (ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين) قال ابن المنذر ثبت ذلك ويجوز إحرامه في ثوب واحد، وفي التبصرة بعضه على عاتقه، ويسن لمريد الإحرام أن يلبس نعلين لما تقدم من الخبر، والنعلان هما التاسومة، ولا يجوز له لبس سرموزة ونحوها إن وجد النعلين، وللمرأة لبس المخيط في الإحرام إلا القفازين، والمراد بالمخيط هو كل ما يخاط على قدر المبلوس عليه كالقميص والسراويل والبرنس والقباء والدرع ونحوه مما يصنع من لبد ونحوه وإن لم يكن فيه خياطة، ولو لبس إزاراً موصلاً أو اتشح بثوب مخيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أو اتزر به جاز لأن ذلك ليس لبساً للمخيط المصنوع على قدر الملبوس عليه لمثله، وعند المالكية والشافعية والحنفية يسن أن يلبس المحرم إزاراً ورداء ونعلين وأن يكون الإزار والرداء أبيضين نظيفين جديدين أو خلقين وفاقاً لمذهب الحنابلة. قال الإمام مالك رحمه الله: عندي ثوب قد أحرمت فيه حججا ما غسلته، قال بعض علماء المالكية يريد مالك بذلك أنه لا يشترط في ثوبي الإحرام أن يكونا جديدين بل يجوز له أن يلبس في حال إحرامه غير الجديد ولو كان خلقاً أو وسخاً ولا يلزمه غسله حيث كان طاهراً ولكن الأولى غسله حيث كان وسخاً لأن النظافة من الإيمان، ويحمل قول مالك عندي ثوب إلى آخره على أنه غير وسخ ولو كان وسخاً لغسله، كيف لا؟ وهو إمام دار الهجرة فكلامه يدل على جواز الإحرام في غير الجديد ولو لم يغسله انتهى. (فائدتان: الأولى) لا يضطبع حال الإحرام وإنما يسن الاضطباع حال الطواف فقط خلافاً لما توهمه العوام من أن الاضطباع في جميع أحوال الإحرام. (الثانية) : قال البخاري رحمه الله في صحيحه، وقال إبراهيم النخعي: لا بأس أن يبدل ثيابه، قال الحافظ ابن حجر في الفتح أي بغير المحرم ثيابه ما شاء، وفي رواية ابن أبي شيبه أنهم لم يروا بأسا أن يبدل المحرم ثيابه قال سعيد: وحدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا إذا أتوا بئر ميمون اغتسلوا ولبسوا أحسن ثيابهم فدخلوا مكة انتهى. قال أبو داود في مسائله عن الحسن إنه كان لا يرى بأساً أن يظاهر المحرم بما شاء من الأزر والأردية ويبدل ثيابه التي أحرم فيها بغيرها من الثياب. انتهى. قالت المالكية: له أن يبيت في غير الثوب الذي أحرم فيه وله أن يبدل ثوبه وإن كان لقملٍ آذاه وأن يبيعه. انتهى. ويسن إحرامه عقب صلاة فرض أو نفل ندباً نص عليه لأنه صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 عليه وسلم أهلَّ في دبر صلاة. رواه النسائي، وإحرامه عقب الصلاة أولى، وإن شاء أحرم إذا ركب، وإن شاء أحرم إذا سار قبل مجاوزة الميقات، لورود ذلك كله عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يركعهما وقت نهى ولا من عدم الماء والتراب لحديث (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) ولا يركعهما من عجز عن استعمال الماء والتراب لقروح لا يستطيع معها مس البشرة لفقد شرطه، قال في الفروع: ويتوجه انه يستحب أن يستقبل القبلة عند إحرامه صح عن ابن عمر انتهى. قال شيخ الإسلام رحمه الله: يستحب أن يحرم عقيب صلاة إما فرضاً وإما تطوعاً إن كان وقت تطوع في أحد القولين، وفي الآخر إن كان يصلي فرضاً أحرم عقيبه وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه وهذا أرجح انتهى. قال ابن القيم رحمه الله: وأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في مصلاه ثم ركب على ناقته وأهلّ أيضا ثم أهلّ لما استقلت به على البيداء، قال ابن حزم كان ذلك قبل الظهر بيسير وهذا وهم منه، والمحفوظ أنه إنما أهلَّ بعد صلاة الظهر ولم يقل أحد قط إن إحرامه كان قبل الظهر ولا أدري من أين له هذا؟ وقد قال ابن عمر: (ما أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره) وقد قال أنس (إنه صلى الظهر ثم ركب) والحديثان في الصحيح، فإذا جمعت أحدهما إلى الآخر تبين أنه إنما أهلَّ بعد صلاة الظهر انتهى ملخصا. قال أبو محمد في المغني: والأولى الإحرام عقيب الصلاة لما روى سعيد بن جبير قال (ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته ثم خرج فلما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته واستوت به قائمة أهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا: أهل حين استوت به الراحلة وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك، ثم سار حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 علا البيداء فأهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا أهل حين علا البيداء) . رواه أبو داود والأثرم، وهذا لفظ الأثرم، وهذا فيه بيان وزيادة علم فيتعين حمل الأمر عليه انتهى. وعند الحنفية يصلي ركعتين بعد اللبس ينوي بهما سنة الإحرام يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص ولا يصليهما وقت نهى، ولو أحرم بغير صلاة جاز إحرامه وكره، فإذا سلم فالأفضل أن يحرم وهو جالس مستقبل القبلة في مكانه، وعند الشافعية يصلي ركعتين ينوي بهما سنة الإحرام يقرأن فيهما بعدد الفاتحة سورتي الإخلاص، فإن أحرم بعد فريضة أغنته عن ركعتي الإحرام ولو صلاهما منفردتين عن الفريضة كان أفضل، فإن كان الإحرام في وقت كراهة الصلاة لم يصلهما على الأصح عندهم، وفي الأفضل من وقت الإحرام قولان للشافعي: أحدهما أن يحرم عقب الصلاة وهو جالس. والثاني أن يحرم إذا ابتدأ السير راكباً أو ماشياً، وهذا هو الصحيح عندهم. ويستحب أن يستقبل القبلة عند الإحرام هذا مذهبهم، وعند المالكية يسن لمريد الإحرام أن يركع ركعتين إن كان متوضئاً وإلا بأن لم يجد ماء تيمم وركعهما، ويستحب أن يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص، فإن كان وقت نهي انتظر وقت الجواز إلا أن يخاف فوات الرفقة فيحرم بغير صلاة، فإن أحرم بعد صلاة فريضة أغنته عن ركعتي الإحرام، والأفضل عندهم تخصيصه بركعتين فإذا استوى راكباً أحرم وإن كان ماشيا فحين يشرع في المشي هذا ملخص مذهبهم، ولا ينعقد الإحرام إلا بالنية فهي شرط فيه، فإن قيل قد سبق أن الإحرام هو نية النسك فكيف يقال لا تنعقد النية إلا بالنية، وأن النية شرط في النية مع أنه يؤدي إلى التسلسل، وأما التجرد فليس ركناً ولا شرطا في النسك، قلنا لما كان التجرد هيئة تجامع نية النسك ربما أطلق الإحرام عليها فاحتيج إلى التنبيه، على أن تلك الهيئة ليست كافية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 بنفسها بل لا بد معها من النية وأنها لا تفتقر إلى غيرها من تلبية أو سوق هدي كما يأتي إن شاء الله تعالى. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولا يكون الرجل محرماً بمجرد ما في قلبه من قص الحج ونيته، فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده بل لا بد من قول أو عمل يصير به محرماً، هذا هو الصحيح من القولين انتهى. وعند الشافعية صفة الإحرام أن ينوي بقلبه الدخول في الحج والتلبس به، وإن كان معتمراً نوى الدخول في العمرة، وإن كان قارنا نوى الدخول في الحج والعمرة، والواجب أن ينوي هذا بقلبه ولا يجب التلفظ به ولا التلبية ولكن الأفضل أن يتلفظ به بلسانه وأن يلبي. وعند المالكية حقيقة الإحرام نية النسك، وينعقد بمجرد النية على الراجح عندهم. ولو لم يحصل قول ولا فعل يتعلقان به من تلبية وتجرد من المخيط، ومقابل هذا قول خليل مع قول أو فعل تعلقا به وهو تابع لابن شاش وابن بشير واللخمي وهو ضعيف. وعند الحنفية الإحرام هو الدخول في التزام حرمة ما يكون حلالاً عليه قبل التزام الإحرام، ويشترط لصحة الإحرام عندهم النية والتلبية، أو تقليد البدنة مع السوق، ولا يدخل في الإحرام بمجرد النية بل لا بد من التلبية أو ما يقوم مقامها حتى لو نوى ولم يلب لا يصير محرماً، وكذا لو لبي ولم ينو، وعند أبي يوسف يصير محرماً بمجرد النية، هذا ملخص مذهبهم في هذه المسألة. والله أعلم. ويستحب التلفظ بما أحرم به فيقصد بنيته نسكاً معيناً لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل من معه في حجة الوداع، ولأن أحكام ذلك تختلف فاستحب تعيينه ليترتب عليه مقتضاه، ونية النسك كافية فلا يحتاج معها إلى تلبية ولا سوق هدي، خلافاً للحنفية لعموم حديث (إنما الأعمال بالنيات) وإن لبى أو ساق هديا من غير نية لم ينعقد إحرامه للخبر، ولو نطق بغير ما نواه نحو أن ينوي العمرة فيسبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 لسانه إلى الحج أو ينوي الحج فيسبق لسانه إلى العمرة أو ينوي القران فيسبق لسانه إلى أحدهما أو ينوي أحدهما فيسبق لسانه إلى كليها، انعقد إحرامه بما نواه دون ما لفظ به وفاقاً للشافعية والحنفية لأن النية محلها القلب، وينعقد إحرامه حال جماعة لأنه لا يخرج منه به، ويفسد إحرامه بالجماع فيمضي في فاسده ويقضيه كما يأتي إن شاء الله تعالى، ويخرج من الإحرام بردة لعموم قوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) ولا يخرج منه بجنون وإغماء وسكر وموت لخبر المحرم الذي وقصته راحلته، ولا ينعقد الإحرام مع وجود الجنون أو الإغماء أو السكر لعدم أهليته للنية، فإذا أراد الإحرام نوى بقلبه قائلا بلسانه: اللهم إني أريد النسك الفلاني ويعينه من عمرة أو حج أو قران ويلفظ بما عينه فيسره لي وتقبله مني وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني أو فلي أن أحل، فإذا أراد التمتع قال اللهم إني أريد العمر فيسرها لي وتقبلها مني وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. وإن أراد الإفراد قال: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ويشترط. وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني ويشترط، وهذا الاشتراط سنة، ويفيد هذا الشرط شيئين أحدهما أنه إذا عاقه عدو أو مرض أو ذهاب نفقة أو ضل الطريق ونحوه أن له التحلل، والثاني أنه متى حل بذلك فلا شيء عليه، وممن رأى الاشتراط في الإحرام عمر وعلي وابن مسعود وعمار رضي الله عنهم، به قال عبيدة السلماني وعلقمة والأسود وشريح وسعيد بن المسيب وعطاء وعكرمة والشافعي بالعراق، وأنكر الاشتراط ابن عمر وطاوس وسعيد بن جبير والزهري ومالك وأبو حنيفة. وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط الدم، فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار واحتجوا بأن ابن عمر كان ينكر الاشتراط ويقول: حسبكم سنة نبيكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 صلى الله عليه وسلم، وحجة القائلين بالاشتراط ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل الني صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني) متفق عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن ضباعة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال قولي: لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني، فإن لك على ربك ما استثنيت) رواه مسلم، ولقول عائشة لعروة قل: اللهم إني أريد الحج فإن تيسر وإلا فعمرة، ولا قول لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يعارض بقول ابن عمر، ولو لم يكن في الاشتراط حديث لكان قول الخليفتين الراشدين مع من قد ذكرنا قوله من فقهاء الصحابة أولى من قول ابن عمر، وإذا اشترط وحل فلا شيء عليه، نص عليه الإمام أحمد. قال في المستوعب وغيره إلا أن يكون معه هدي فيلزمه نحره؛ ولو قال: فلي أن أحل خير، فإن اشترط بما يؤدي معنى الاشتراط كقوله: اللهم إني أريد النسك الفلاني إن تيسر لي وإلا فلا حرج عليّ، جاز لأنه في معنى ما تقدم في الخبر، وإن قال في إحرامه متى شئت أحللته أو إن أفسدته لم أقضه لم يصح اشتراطه لأنه لا عذر له في ذلك وإحرامه صحيح، وإن نوى الاشتراط ولم يتلفظ به لم يفد لقول النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة: (قولي محلي) أي مكان إحلالي (من الأرض حيث حبستي) قال الشيخ منصور في شرح الإقناع: والقول لا يكون إلا باللسان. انتهى. قلت: أما القول في حديث ضباعة هذا فهو صريح في الأمر بالنطق بالاشتراط حيث جاء فيه (قولي محلي حيث حبستني) ولكن قد يكون القول بالفعل أيضا كما في حديث عمار حين تمرغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 في الصعيد وفيه (إنما يكفيك أن تقول) أي تفعل (بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض) ، فالقول يطلق على الفعل أيضا كقولهم قال بيده هكذا، والله أعلم. قال ابن أبي الفتح في المطلع ومحلي أي مكان إحلالي بفتح الحاء وكسرها فالفتح مقيس والكسر سماع، يقال حل بالمكان يحل بضم حاء المضارع، وحل من إحرامه وأحل منه انتهى، وقال الزركشي: ظاهر كلام الخرقي وصاحب التلخيص أنه يحل بمجرد الحصر وهو ظاهر الحديث. -- فصل: ويخير مريد الإحرام بين التمتع والإفراد والقران، ذكره جماعة إجماعاً لقول عائشة (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل، قالت وأهلَّ بالحج وأهلَّ به ناس معه وأهلّ ناس بالعمرة والحج وأهلّ ناس بالعمرة وكنت فيمن أهل بعمرة) . متفق عليه. وما روي في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها من أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحج يخالف ما روي عنها وعن غيرها من الصحابة من أنه صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة. وإسناد القران أصح من إسناد الإفراد كما يأتي في كلام شيخ الإسلام وغيره، وذهبت طائفة من السلف والخلف أنه لا يجوز إلا التمتع، وقاله ابن عباس ومن وافقه من أهل الحديث، وكره التمتع عمر وعثمان ومعاوية وانب الزبير وبعضهم والقران. واختلف في علة اسمه متمتعاً؟ فقال ابن القاسم أنه يتمتع بكل ما لا يجوز للمحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فعله في وقت حلوله من العمرة إلى وقت إنشاء الحج، وقيل سمي متمتعاً لإسقاط أحد السفرين وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفر وحق الحج أن يقصد بسفر فلما تمتع بإسقاط أحد السفرين ألزمه الله هدياً كالقارن انتهى. وأفضل الأنساك الثلاثة التمتع في قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وجمع، ونص عليه الإمام أحمد في رواية صالح وعبد الله، وقال لأنه آخر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو داود وسمعته يقول: نرى التمتع أفضل، وسمعته قال لرجل يريد أن يحج عن أمه: تمتع أحب إلي، قال إسحق بن إبراهيم كان اختيار أبي عبد الله الدخول بعمرة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم) . وفي الصحيحين أنه أمر أصحابه لما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة إلا من ساق هدياً وثبت على إحرامه لسوقه الهدي وتأسف ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل ولا يتأسف إلا عليه، وروي المروذي عن أحمد: إن ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسقه فالتمتع أفضل (لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حين ساق الهدي ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه) . قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن وافى الميقات في أشهر الحج فهو مخير بين ثلاثة أنواع، وهي التي يقال لها التمتع والإفراد والقران، فإن شاء أهلّ بعمرة فإذا حل منها أهلّ بالحج وهو يخص باسم التمتع وإن شاء أحرم بهما جميعاً أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف وهو القران وهو داخل في اسم التمتع في الكتاب والسنة وكلام الصحابة، وإن شاء أحرم بالحج مفرداً وهو الإفراد، وتحقيق الأفضل من ذلك أنه يتنوع باختلاف حال الحاج، فإن كان يسافر سفرة للعمرة وسفرة أخرى للحج أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويعتمر ويقيم بها حتى يحج فهذا الإفراد له أفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 باتفاق الأئمة الأربعة، والإحرام بالحج قبل أشهره ليس مسنوناً بل مكروه، وإذا فعله فهل يصير محرماً بعمرة أو بحج؟ فيه نزاع. وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة ويقدم مكة في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فهذا إن ساق الهدي بالقران أفضل له، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل العلم بالحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع هو وأصحابه أمرهم جميعهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه وقرن هو بين العمرة والحج فقال: لبيك عمرة وحجاً) ولم يعتمر أحد بعد الحج ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها لأنها كان قد حاضت فلم يمكنها الطواف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) فأمرها أن تهل بالحج وتدع أفعال العمرة لأنها كانت متمتعة، ثم إنها طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن فاعتمرت من التنعيم ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر لا في رمضان ولا في غيره، والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة إلا عائشة كما ذكر، ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين والذين استحبوا الإفراد من الصحابة إنما استحبوا أن يحج في سفره ويعتمر في أخرى ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر عقب ذلك عمرة مكية، بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط اللهم إلا أن يكون شيئاً نادراً، وقد تنازع السلف في هذا هل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 يكون متمتعاً عليه دم أم لا؟ وهل تجزئة هذه العمرة عن عمرة الإسلام أو لا؟ (وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته أربع عمر إلى أن قال: والعمرة الرابعة مع حجته) فإنه قرن بين العمرة والحج باتفاق أهل المعرفة بسنته وباتفاق الصحابة على ذلك، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه تمتع تمتعاً حل فيه بل كانوا يسمون القران تمتعاً، ولا نقل عن أحد من الصحابة أنه لما قرن طاف طوافين وسعى سعيين وعامة المنقول عن الصحابة في صفة حجته صلى الله عليه وسلم ليست بمختلفة، وإنما اشتبهت على من لم يعرف مرادهم وجميع الصحابة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج كعائشة وابن عمر وجابر قالوا أنه تمتع بالعمرة إلى الحج، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة وابن عمر بإسناد أصح من إسناد الإفراد ومرادهم بالتمتع القران كما ثبت ذلك في الصحاح أيضا، فإذا أراد الإحرام فإن كان قارنا قال: لبيك عمرة وحجاً، وإن كان متمتعاً قال: لبيك عمرة، وإن كان مفرداً قال: لبيك حجاً، أو قال اللهم إني قد أوجبت عمرة وحجاً أو أوجبت عمرة، أو أوجبت حجاً، أو أريد الحج، أو أريدهما، أو أريد التمتع بالعمرة إلى الحج، فمهما قال من ذلك أجزاء باتفاق الأمة ليس في ذلك عبارة مخصوصة ولا يجب شيء من هذه العبارات باتفاق الأئمة، كما لا يجب التلفظ بالنية في الطهارة والصلاة والصيام باتفاق الأئمة بل متى لبى قاصدا للإحرام انعقد إحرامه باتفاق المسلمين، ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء، ولكن تنازع العلماء هل يتحسب أن يتكلم بذلك كما تنازعوا هل يستحب التلفظ بالنية في الصلاة؟ والصواب المقطوع به أنه لا يستحب شيء من ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسلمين شيئاً من ذلك ولا كان يتكلم قبل التكبير بشيء من ألفاظ النية لا هو ولا أصحابه، بل لما أمر ضباعة بنت الزبير بالاشتراط قالت فكيف أقول؟ قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 قولي: (لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني) رواه أهل السنن وصححه الترمذي، ولفظ النسائي (إني أريد الحج فكيف أقول) ؟ قولي: (لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني فإن لكِ على ربك ما استثنيت) ، وحديث الاشتراط في الصحيحين لكن المقصود بهذا اللفظ أنه أمرها بالاشتراط في التلبية ولم يأمرها أن تقول قبل التلبية شيئاً لا اشتراطاً ولا غيره، وكان يقول في تلبيته لبيك عمرة وحجاً، وكان يقول للواحد من أصحابه: بم أهللت؟ إلى أن قال والإهلال هو التلبية، قال ولو أحرم إحراماً مطلقاً جاز، فلو أحرم بقصد الحج من حيث الجملة ولا يعرف ها التفصيل جاز، ولو أهل ولبى كما يفعل الناس قصداً للنسك ولم يسم شيئاً بلفظه ولا قصد بقلبه لا تمتعاً ولا إفراداً ولا قرانا، صح حجه أيضاً وفعل واحداً من الثلاثة، فإن فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كان حسناً، وإن اشترط على ربه خوفاً من العارض فقال: وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني كان حسناً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابنة عمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أن تشترط على ربها لما كانت شاكية، فخاف أن يصدها المرض عن البيت ولم يكن يأمر بذلك كل من حج. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله، قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى بعد كالم سبق (ثم أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج والعمرة في مصلاه) ولم ينقل عنه أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، وإنما قلنا إنه كان قارنا لبضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك وساق رحمه الله جميعها، وذكر منها حديث جابر بن عبد الله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر معها عمرة) . رواه الترمذي وغيره، وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 العقيق يقول: (أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة) . رواه البخاري في صحيحه، وحديث البراء الذي جاء فيه (إني قد سقت الهدي وقرنت) . رواه أبو داود، وحديث علي الذي رواه النسائي، وجاء فيه (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعاً) وما رواه مسلم من حديث عمران بن حصين (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل قرآن يحرّمه) وما رواه الإمام أحمد من حديث سراقة بن مالك الذي جاء فيه (وقرن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع) إسناده ثقات، وما رواه الإمام أحمد أيضاً من حديث الهرماس بن زياد الباهلي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع بين الحج والعمرة) ، وما رواه أحمد أيضاً من حديث جابر بن عبد الله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بالحج والعمرة فطاف لهما طوافاً واحداً) وفيه الحجاج بن أرطأة وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم يتفرد بشيء أو يخالف الثقات، وما رواه الإمام أحمد أيضا من حديث أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج) وما رواه مالك في الموطأ من حديث عائشة، وجاء فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان معه هدي فليهلّ بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً ومعلوم أنه كان معه صلى الله عليه وسلم الهدي فهو أولى من بادر إلى ما أمر به. انتهى. ثم يلي التمتع في الأفضلية الإفراد، لأن فيه كمال أفعال النسكين ولما في الصحيحين عن ابن عباس وجابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج) . وقال عمر وعثمان وجابر هو أفضل الأنساك، لما ذكرنا ولإتيانه بالحج تاماً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 غير احتياج إلى آخر، وتقدم قريباً في كلام شيخ الإسلام (أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحج والعمرة قارنا) وأن إسناد القران أصح من إسناد الإفراد، وأيد ذلك ابن القيم في كتاب الهدي النبوي وساق بضعة وعشرين حديثاً على ذلك. ثم يلي الإفراد في الأفضلية القران، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم حج قارنا. وعند الحنفية أفضل الأنساك القران، قالوا وهو اختيار الجمهور من السلف وكثير من الخلف، ثم التمتع ثم الإفراد بالحج، وعند الشافعية أفضل الأنساك الإفراد ثم التمتع ثم القران، والقران أفضل من إفراد الحج من غير أن يعتمر بعده في سنته فإن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه عندهم، والمراد بسنته عندهم ما بقي من شهري ذي الحجة الذي هو شهر حجة، أما إذا لم يعتمر في تلك السنة أصلاً فإن كلا من التمتع والقران أفضل من الإفراد عندهم. وعند المالكية: أفضل الأنساك الإفراد، ثم القران، ثم التمتع. وصفة التمتع الذي هو أفضل الأنساك عندنا أن يحرم بالعمرة أطلقه جماعة منهم صاحب المحرر والوجيز وجزم آخرون من ميقات بلده في أشهر الحج نص عليه الإمام أحمد وروى معناه بإسناد جيد عن جابر، ولأنه لو لم يحرم بها في أشهر الحج لم يجمع بين النسكين فيه ولم يكن متمتعاً، وأن يفرغ منها. قال في المستوعب: ويتحلل لأنه لو أحرم بالحج قبل التحلل من العمرة لكان قارنا واجتماع النسكين التمتع والقران ممتنع لتباينهما ثم يحرم بالحج من مكة أو قريب منها نقله حرب وأبو داود، لما روي عن عمر أنه قال: (إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع، وإن خرج ورجع فليس بمتمتع) وعن ابن عمر نحوه ويشترط أن يحج في عامه لقوله تعالى: (فمن تمتع) وظاهره يقتضي الموالاة بينهما ولأنه لم أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج ثم حج من عامه لا يكون متمتعاً فلئلا يكون متمتعاً إذا لم يحج من عامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أولى، واشتراط الإحرام من مكة أو قريب منها ذكره في المقنع والفائق والرعايتين والحاويين وجزم به في الإقناع، وعبارته: ثم يحرم بالحج من مكة أو قريب منها انتهى. والذي عليه أكثر الأصحاب عدم التقييد ونسبه في الفروع إلى الأصحاب منهم صاحب المذهب ومسبوك الذهب والخلاصة، ذكره في الإنصاف وقطع بعدم التقييد في المنتهى، وعبارته مع شرحه ثم يحرم به أي الحج في عامه مطلقاً: أي من مكة أو قربها أو بعيد منها بعد فراغه منها أي العمرة انتهى. قال في العمدة للشيخ منصور وشرحها للشيخ عثمان بن قائد: وأفضل الأنساك التمتع بأن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه من مكة، أو قربها، أو بعيد منها خلافاً لما يوهمه تقييد الإقناع بالقرب منها انتهى. قلت: إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج من الميقات وفرغ منها وتحلل ثم أحرم بالحج في عامه من مسافة قصر فأكثر عن مكة فإنه يكون متمتعاً كما جرى عليه في المنتهى، وغيره ولكن لا دم عليه كما يأتي بيان ذلك في الشرط الثالث من شروط وجوب الدم على المتمتع، والله أعلم. ولو أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج لم يكن متمتعاً، ولو أتم أفعال العمرة من طواف وسعى وحلق أو تقصير في أشهرة، ويأتي الكلام على هذا إن شاء الله تعالى: قال القاضي أبو يعلى وغيره: ولو تحلل من الحج يوم النحر ثم أحرم فيه بعمرة فليس بمتمتع في ظاهر ما نقل ابن هانئ ليس على معتمر بعد الحج هدي لأنه في حكم ما ليس من أشهره بدليل فوت الحج فيه انتهى. وصفة الإفراد أن يحرم بالحج مفرداً فإذا فرغ من الحج اعتمر عمرة الإسلام إن كانت باقية عليه. وصفة القران أن يحرم بها جميعاً لفعله صلى الله عليه وسلم، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الشروع في طوافها، لما روت عائشة قالت: (أهللنا بالعمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ثم أدخلنا عليها الحج) وفي الصحيحين (أن ابن عمر فعله وقال هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الصحيح (أنه أمر عائشة بذلك) وساء كان إدخال الحج على العمرة في أشهر الحج أو لا؛ لأنه لا يعتبر لصحة إدخال الحج على العمرة الإحرام بالحج في أشهره لصحة الإحرام به قبل أشهره كما تقدم، قال في الإقناع وشرحه: فإن كان شرع في طواف العمرة لم يصح إدخاله عليها لأنه شرع في التحلل من العمرة كما لو سعى إلا لمن معه الهدي فيصح الإدخال ولو بعد السعي بناء على المذهب أنه لا يجوز له التحلل حتى يبلغ الهدي محله ويصير قارنا، جزم به في المبدع والشرح وشرح المنتهى لمؤلفه هنا وهو مقتضى كلامه في الإنصاف، وقال في الفروع وشرح المنتهى لمؤلفه في موضع آخر: لا يصير قارناً إذا انتهى أي بل يصير متمتعاً، قال في المنتهى وشرحه للشيخ منصور: ويصح إدخال حج على عمرة ممن معه هدي ولو بعد سعيها بل يلزمه كما يأتي لأنه مضطر إليه لقوله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) . قال في شرحه هنا؛ يعني شرح المؤلف: ويصير قارنا على المذهب ورده في أثناء الفصل بعده؛ ومن أحرم به أي الحج ثم أدخلها أي العمرة عليه لم يصح إحرامه بها أي العمرة لأنه لم يرد به أثر ولم يستفيد به فائدة بخلاف ما سبق فلا يصير قارنا انتهى بل يصير مفرداً لأنه لا يلزمه بالإحرام الثاني شيء: قال الشيخ محمد الخلوتي في حاشيته على المنتهى على قوله ولو بعد سعيها: ظاهر سياق المتن أن يكون قارناً وصرح بذلك في شرحه هنا حيث قال: ويصير قارنا على المذهب انتهى، ولكن صرح في شرحه فيما يأتي بأ، هـ يكون متمتعاً وهو مخالف لذلك، وعبارة شيخنا، يعني الشيخ منصوراً في الحاشية عند قول المصنف في الفصل الآتي وإلا صار قارنا بعد تقدير المتن. ومحل هذا إذا لم يدخله عليها بعد سعيها لكونه ساق الهدي، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 كان كذلك فهو متمتع هذا مقتضى كلامه في شرحه، وفي الأنصاف يكون قارنا ولم يحك خلافاً وتبعه في الإقناع انتهى، ويمكن التوفيق بين كلام المصنف، يعني الفتوحي هنا وفي شرحه بأن غرضه هنا بيان صحة الإحرام بالحج على هذا الوجه المخصوص لا بيان صفة من صفات القران بدليل مقابلته بالصفة غير الصحيحة، وغرضه في الشرح بيان أنه في هذه الحالة يسمى متمتعاً لا قارنا تنبيهاً على مخالفة ما في الأنصاف وإن مشى عليه في الإقناع، وذكر المصنف في شرحه هنا أنه المذهب فيكون ذلك اختياراً له وهذا تقدير لكلامهم فليحرر انتهى كلام الخلوتي. قلت والصفة غير الصحيحة التي ذكرها محمد الخلوتي، هي قوله في المنتهى، ومن أحرم بالحج، ثم أدخلها عليه لم يصح إحرامه بها، والله أعلم. وقول الخلوتي فيكون ذلك اختياراً له: يعني أن قول الفتوحي في شرحه على المنتهى ويصير قارناً على المذهب اختيار له، والله أعلم، وقال الشيخ عثمان بن قائد النجدي على قول الشيخ محمد الخلوتي فليحرر. أقول: الأظهر والله أعلم أنه متى أحرم بالحج قبل فراغه من العمرة حيث جاز له الإدخال فإنه يصير قارناً على كل حال كما يؤخذ ذلك من صريح الإنصاف وكذلك صريح الإقناع وشرح المنتهى في موضع بلا دفاع وكما يفهمه إطلاق قول المصنف الآتي وإلا صار قارناً، فإنك إذا قابلت هذا الموضع بما ذكره الشارح هناك ظهر لك الرجحان، والله ولي التوفيق. وعليه التكلان فتأمل وتمهل، انتهى كلام الشيخ عثمان، قال في المنتهى وشرحه للشيخ منصور: وإن ساقه أي الهدي متمتع لم يكن له أن يحل من عمرته فيحرم بحج إذا طاف وسعى لعمرته قبل تحليل بحلق فإذا ذبحه يوم النحر حل منهما، أي الحج والعمر معاً نصاً، لأن التمتع أحد نوعي الجمع بين الحج والعمر كالقران ولا يصير قارناً لاضطراره لإدخال حجه على عمرته، هذا معنى كلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 في شرحه هنا، يعني شرح المنصف وتقدمت الإشارة إليه انتهى ملخصاً، وقوله لاضطراره إشارة منه إلى الفرق بين هذه الصورة وبين ما إذا أدخل الحج على العمر قبل الشروع في طوافها مت تمكنه من التحلل منها لعدم سوقه الهدي، أما هذه الصورة فإنه لا يتمكن من التحلل لسوقه الهدي، وجزم الشيخ مرعي بن يوسف في غايته بأنه في هذه الصورة قان، ولكن الصحيح أنه في هذه الصورة متمتع والله أعلم. قال في المنتهى وشرحه لمنصور: ويشترط في وجوب دم متمتع وحده أي دون القارن زيادة عما تقدم ستة شروط إلى أن قال: وأن يحل منها أي العمرة قبل إحرامه به أي الحج وإلا يحل من العمرة قبل إحرامه بالحج بأن أدخله عليها كما فعل عليه الصلاة والسلام، صار قارناً فيلزمه دم القران وليس بمتمتع، وظاهره ولو بعد سعيها لمن معه هدي انتهى. قال الشيخ منصور في حاشيته على المنتهى: قوله وإلا صار قارناً محل هذا إذا لم يدخله عليها بعد سعيها لكونه ساق الهدي، فإن كان كذلك فهو متمتع، هذا مقتضى كلامه في شرحه، وفي الإنصاف يكون قارناً ولم يحك خلافاً وتبعه في الإقناع انتهى ملخصاً. (تنبيهان) الأول: قد اختلف كلام الأصحاب في هذه المسألة اختلافاً واضحاً ولم يأت أحد منهم بما يزيل الإشكال فاستعنت الله جل وعلا وأمعنت النظر في المسألة فظهر لي الصواب بتوفيق الله الملك الوهاب، فأقول وبالله التوفيق: المتمتع إذا أحرم من الميقات بعمرة متمتعاً بها إلى الحج له حالتان: حالة ساق فيها الهدي وحالة أخرى لم يسق فيها هدياً، فالحالة التي ساق الهدي فيها إذا طاف لعمرته وسعى ثبت على إحرامه لسوقه الهدي ولزمه إدخال الحج على العمرة لسوقه الهدي ويثبت على إحرامه حتى يحل منهما جميعاً يوم النحر، وهذه الحالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 يكون فيها متمتعاً لا قارنا، وإن لم نقل بأنه متمتع لزم منه أن من ساق الهدي لا يكون متمتعاً أصلاً. وأما الحالة التي لم يسق فيها هديا فإنه إذا طاف لعمرته وسعى حلق أو قصر وحل من عمرته ثم أحرم بالحج، لكن في هذه الحالة إذا أدخل الحج على العمرة باختياره أو اضطراره فيما إذا ضاق الوقت وخشي فوات الحج أو خشيته حائض ونحوها وكان ذلك الإدخال قبل الشروع في طواف العمرة، صح الإدخال المذكور وصار قارناً، وحينئذ يطوف بالبيت للقدوم إن أمكنه كسائر القارنين، فإن كان قد شرع في طواف العمرة لم يصح إدخال الحج عليها ولزمه التحلل من العمرة لأنه قد شرع في التحلل بالشروع في طواف العمرة. وأما القارن فله حالتان أيضاً: حالة ساق الهدي فيها، وحالة لم يسق فيها هدياً، فالحالة التي ساق الهدي فيها يثبت على إحرامه بعد طواف القدوم والسعي بعده إن لم يؤخر السعي إلى أن يطوف للإفاضة ولا يحل في هذه الحالة إلا يوم النحر. وأما الحالة التي لم يسق فيها هدياً فالسنة أن يفسخ نيته بالحج وينويه عمرة ويتحلل منها، سواء كان الفسخ بعد الطواف والسعي أو قبلهما، وإن لم ينو فسخ الحج إلى العمرة فإنه يثبت على إحرامه ولا يحل من حجته وعمرته إلا يوم النحر، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن عمل القارن كعمل المفرد، وأنه يسقط ترتيب العمرة عن القارن ويصير الترتيب للحج، إذا تقرر هذا فالفرق بين حالة القارن التي ساق الهدي فيها وحالة المتمتع التي ساق الهدي فيها أيضاً أن المتمتع إذا طاف بالبيت يطوف طواف العمرة الذي هو ركن، وأما القارن فإنه يطوف طواف القدوم الذي هو نفل ولا يطوف للعمرة لأن طواف العمرة يختص بالمعتمر عمرة مفردة، وبالمتمتع لا غير، وقد تقدم أن القران داخل في اسم التمتع في الكتاب والسنة وكلام الصحابة، وهذا الفرق قد منَّ الله به علي في هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 المسألة التي كثير فيها النزاع والاختلاف بين الأصحاب، فله الحمد والشكر لا نحصي ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه، والله أعلم. (التنبيه الثاني) : وقع اختلاف بين الأصحاب في المحرم المتمتع الذي لم يسق الهدي إذا طاف لعمرته وسعى ولم يحلق أو يقصر، ثم أحرم بالحج فهل يصح حجه ويصير قارنا لإدخاله الحج على العمرة ويلزمه دم لتركه الحلق، والتقصير، أو لا يصح حجه لإدخاله الحج على العمرة قبل التقصير أو الحلق وهو ممن ليس معه هدي؟ وهذا نص ما نسوقه من الأقوال في هذه المسألة التي طال النزاع فيها، لا سيما في وقت موسم الحج، فنقول: قال في المنتهى وشرحه: ويصح إدخال حج على عمرة ممن معه هدي ولو بعد سعيها، قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي: مفهومه أنه إذا لم يكن معه هدي، لا يصح إحرامه بالحج إذاً إلا بعد فراغه من العمرة، لا أنه ينعقد فاسداً ويمضي فيه كما يدل عليه صريح كالمه الآتي في الفصل الثاني في قوله: ومع مخالفته إلى حج أو قران يتحلل بفعل حج ولم يجزه عن واحد منهما ولا دم ولا قضاء، فقوله ولم يجزه دليل على عدم الصحة، وقوله ولا قضاء دليل على أنه لم ينعقد فاسداً فتدبر انتهى، قال الشيخ عبد الله أبو بطين: أقول ظاهر المغني أنه يصير في هذه الحالة أيضاً قارنا وكذا المستوعب وأفتى بذلك الشيخ سليمان بن علي، وخالفه الشيخ عبد الله بن ذهلان، ورد ما في المغني العلامة الشيخ إبراهيم بن نصر الله، وقال إنه سهو لأنه قدم أنه لا يصح، وأجاب العلامة ابن مفلح بأن المراد بما هنا المتمتع السائق للهدي، فعلمت أن ما أفتى به سليمان بن علي اعتماد على ظاهر العبارة من غير تحرير لكن على القاعدة هو مشكل انتهى كلام الشيخ عبد الله أبي بطين. قلت: عبارة المغني التي أشارة إليها الشيخ، أبو بطين هي قوله بصفحة أربعمائة واثنتي عشرة من الجزء الثالث: وإن أحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بالحج قبل التقصير فقد أدخل الحج على العمرة فيصير قارنا انتهى، وعبارة المغني هذه فيها إشكال جداً لأنه بعد الشروع في طواف العمرة لا يصح إدخال الحج عليها، وكذا بعد سعيها بطريق الأولى إلا لمن معه هدي فكيف إذا طاف للعمرة وسعى وأحرم بالحج قبل الحلق أو التقصير للعمرة يكون قارنا؟ هذا خلاف صريح عبارات الأصحاب حيث ذكروا أنه بعد الشروع في طواف العمرة لا يصح إدخال الحج عليها لأنه قد شرع في التحليل من العمرة إلا لمن معه هدي، والله أعلم. وعبارة الشيخ سليما بن علي التي أشار إليها الشيخ عبد الله أبو بطين هذا نصها: وإذا طاف المتمتع وسعي ولم يحلق، ثم أحرم وقد بقي عليه حلق العمرة الواجب فالظاهر أن هذا يصير قارنا فيلزمه حكم القران، قاله في المستوعب وغيره في المتمتع، والناسي والعامد سواء انتهى، قال الشيخ عبد الله بن ذهلان: والظاهر لنا جواز ذلك مع الإشكال لأنه بعد الطواف للعمرة لا يصح إدخال الحج عليها لمن ليس معه هدي كما صرح به غير واحد انتهى، قال في الشرح الكبير: إذا أدخل الحج على العمرة قبل طوافها من غير خوف لفوات جاز وكان قارنا بغير خلاف، فأما بعد الطواف فليس له ذلك ولا يصير قارنا وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال مالك: يصير قارنا، وحكى ذلك عن أبي حنيفة كما قبل الطواف. ولنا أنه شرع في التحلل من العمرة فلم يجز إدخال الحج عليها كما بعد السعي، إلا أن يكون معهد هدي فله ذلك انتهى. وقد نقل الشيخ أحمد المنقور في مجموعة ما تقدم من كلام الشيخ سليمان، وكلام شيخه عبد الله بن ذهلان، وكلام صاحب الشرح، ثم قال وكذلك عبارة المنتهى، والإقناع مع قولهم: الحلق من واجبات العمرة، ومن ترك واجباً فعليه دم فهل يصح إحرامه بالحج قبل الحلق أو التقصير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 كما نقل عن الشيخ أبي المواهب ويلزمه دم أم لا لقولهم ويفرغ منها، وبعضهم عبر أنه يتحلل منها، ولقولهم لا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الطواف إلا لمن معه هدي فيها إشكال، وميل شيخنا، يعني ابن ذهلان مع الثقل إلى عم صحة إحرامه بالحج، والله أعلم. انتهى كلام المنقور، قال ابن منجا في شرحه للمقنع: ويشترط في إدخال الحج على العمرة في حق من لم يسق الهدي أن يكون قبل الطواف، فلو طاف ثم أدخل عليها الحج لم يصح لأنه قد أتى بمقصود العمرة وشرع في التحلل منها، فإن كان ساق الهدي لم يمنع من ذلك انتهى: قلت بل يلزمه إدخال الحج على العمرة لاضطراره إلى ذلك لعدم صحة تحلله من العمرة لسوقه الهدي، والله أعلم. وقال في الجزء الثالث من الشرح الكبير بصفحة أربعمائة وإحدى عشرة: وفي الحديث دليل على أنه لا يحل إلا بالتقصير وهذا ينبني على أن التقصير هل هو نسك أو لا؟ وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى: فإن أحرم بالحج قبل التقصير وقلنا هو نسك فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارنا انتهى كلام الشارح، وعلى نسخة خطية من الشرح الكبير حاشية بخط الشيخ احمد بن إبراهيم بن نصر الله البغدادي المتوفى سنة سبع وثلاثين وثمانمائة، قوله وصار قارناً كذا وقع في المغني، وهو مشكل إذ إدخال الحج على العمرة إنما يصير به قارناً إذا كان قبل الشروع في أفعال العمرة كما تقدم إيضاحه في باب الإحرام، فكيف يصير قارناً وقد طاف للعمرة وسعى فهذا سهو انتهى. وتحتها حاشية أخرى بخط الشيخ إبراهيم بن مفلح جوابه لقائل أن يقول: المصنف يتكلم في المعتمر إذا أدخل الحج على العمرة وقد تقدم لك الكلام عليه باعتبار حالتين: حالة ساق فيها هدياً، وأخرى لا، فأما إذا ساق الهدي فإنه يصح إدخال الحج على العمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 قبل الطواف وبعده، صرح به في بابا الإحرام ويصير قارناً انتهى. قلت ما ذكره الشيخ أحمد بن إبراهيم بن نصر الله وجيه، لأن عبارة الشرح الكبير التي علق عليها ابن نصر الله صريحة في حالة عدم سوق الهدي، لأن نصها هكذا: فإن أحرم بالحج قبل التقصير، وقلنا هو نسك فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارناً انتهى. فهذا واضح في أنه في هذه الحالة يسوغ له التقصير وأنه لم يقصر وأدخل الحج على العمرة يكون قارنا، وكذا في المغني، وعبارته: وإن أحرم بالحج قبل التقصير فقد أدخل الحج على العمرة فيصير قارنا انتهى. وأما الحالة التي ساق الهدي فيها فلا تنطبق على عبارة الشرح الكبير المذكورة، لأنه ليس له أن يحلق أو يقصر لسوق الهدي، وأما قول الشيخ إبراهيم بن مفلح: فأما إذا ساق الهدي فإنه يصح إدخال الحج على العمرة قبل الطواف وبعده فيقال عنه: إذا ساق الهدي لزمه إدخاله الحج على العمرة، فإذا طاف وسعى لعمرته ثبت على إحرامه ولم يتحلل بحلق ولا تقصير، لأنه مضطر إلى إدخاله عليها، قال تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) ، فإذا ذبحه يوم النحر حل من الحج والعمرة معاً، لأن التمتع أحد نوعي الجمع بين الحج والعمرة كالقران، فحمل الشيخ إبراهيم بن مفلح عبارة الشرح الكبير المذكورة على من ساق الهدي بعيد لما أوضحناه؛ كما أن قوله إذا ساق الهدي يصح إدخال الحج على العمرة قبل الطواف وبعده يحتاج إلى زيادة بيان وهو أنه يلزمه الإدخال كما تقدم، والله أعلم. قال في المقنع قبيل باب صفة الحج، فإن كان معتمراً قصر من شعره وتحلل إلا أن يكون المتمتع قد ساق هدياً فلا يحل حتى يحج وعليها حاشية، هذا نصبها: قوله فإن كان معتمراً قصر من شعره إلى آخره، لأنه عليه الصلاة والسلام اعتمر ثلاث عمر سوى عمرته التي مع حجته وكان يحل إذا سعى، وظاهره أن التقصير له أفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 من الحلق، فلو أحرم بالحج قبل التقصير وقلنا هو نسك صار قارناً فإن تركهما فعليه دم إن قلنا هما نسك، وإن وطئ قبله فعليه دم وعمرته صحيحة، انتهى من المبدع، قال ابن منجا في شرحه: فإن قيل إن الحلق والتقصير نسك كما هو الصحيح من المذاهب لم يحل قبل فعله كالطواف، وإن قيل ليس بنسك حل قبله لأن الحل لا يتوقف على فعل ما ليس بنسك انتهى، قال في المغني: والحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة في ظاهر مذهب أحمد وقول الخرقي وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، وعن أحمد أنه ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور كان محرماً عليه بالإحرام فأطلق منه عند الحل كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام، فعلى هذه الرواية لا شيء على تاركه ويحصل الحل بدونه وذكر دليل من قال بهذه الرواية، ثم قال والرواية الأولى أصح وذكر دليل من قال بها أيضاً فليراجع عند الاحتياج إليه. وذكر في الشرح الكبير مثل عبارة المغني هذه سواء بسواء، وقال في المغني أيضاً بعد كلام سبق وهذا ينبني عل أن التقصير نسك وهو المشهور فلا يحل إلا به، وفيه رواية أخرى أنه إطلاق من محظور فيحل بالطواف والسعي حسب انتهى. فإن قيل فبأي القولين تعتمدون وبأيهما تفتون؟ قلت: الذي تطمئن إليه النفس هو القول بصحة إحرامه بالحج قبل الحلق أو التقصير إذا كان ناسيا أو جاهلاً لكن يلزمه دم لتركه الحلق أو التقصير، وإنما قلت بهذا القول نظراً إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإلى أن هذا الحاج قد تحمل المشاق في سبيل أداء نسكه لربه أرحم الراحمين وبذل ماله وأجهد نفسه لله رب العالمين، فإذا وصل إلى مكة شرفها الله مستبشراً بها بعد الجهد والمشقة وإنفاق المال وطاف وسعي لعمرته ونسى الحلق والتقصير، أو جهل أنه يلزمه أحدهما، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أحرم بالحج مع المحرمين مريداً بذلك وجه الله وأداء ما افترضه عليه طالباً مرضاته وثوابه، وقلنا بعدم صحة حجة مع تحمله تلك المشاق صار في ذلك حرج وضيق عليه وإبطال لأعماله، وقد قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ، وقال تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) الآيات، وقال صلى الله عليه وسلم: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، وممن قال بصحة حجه والحالة هذه صاحب المغني والشرح والمستوعب والمبدع، وقال به الشيخ أبو الموهب الحنبلي، والشيخ سليمان بن علي وتتمشى صحة حجة على الرواية الثانية عن الإمام أحمد التي تنص على أن الحلق والتقصير ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور فإنه على هذه الرواية لا شيء على تارك الحلق والتقصير ويحصل الحل بدونه كما تقدم. وبه قالت المالكية لأن عندهم إذا أحرم بالحج بعد كمال سعي العمرة، وقبل الحلاق، يصح إحرامه ولم يكن مردفاً للحج على العمرة وحرم الحلق ويجب عليه هدي لوجوب تأخير الحلق عليه بسبب إحرامه بالحج، فإن حلق لم يسقط عنه الهدي ولزمته فدية أيضاً لحلقه وهو محرم. والحاصل عندهم أن الواجب أصالة ترك الإحرام بالحج حتى يحلق للعمرة، فإن خالف ذلك الواجب وأحرم بالحج قبل حلقه للعمرة لزمه تأخير الحلق إلى الفراغ من الحج، وأهدى لترك ذلك الواجب الأصلي، فإن قدم الحلق قبل الفراغ من الحج لزمه هدي لترك التأخير الواجب وفدية لإزالة الأذى، قالوا ولو كان الحلق بالقرب كمن اعتمر في آخر يوم عرفة ثم أحرم بالحج ولم يحلق حتى وصل إلى منى يوم النحر فحلق، فيلزمه الدم ولا يسقط عنه لأن الخلق للنسك الثاني لا للأول، كما نقله الحطاب عن الطراز انتهى كلامهم، وحكى صحة حجه، والحالة هذه عن أبي حنيفة، ويأتي إن شاء الله في باب دخول مكة البحث في المتمتع إذا فرغ من عمرته وحجه، ثم علم أنه على غير طهارة فراجعه عند الحاجة إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 -- فصل: وعمل القارن كالمفرد في الأجزاء نقله الجماعة، ويسقط ترتيب العمرة ويصير الترتيب للحج كما يتأخر الحلاق إلى يوم النحر فوطؤه قبل طواف القدوم، وكان لم يدخل مكة قبل ذلك أو دخلها ولم يطف لقدومه لا يفسد عمرته: أعني إذا وطئ وطئاً لا يفسد الحج، مثل أن وطئ بعد التحلل الأول فإنه لا يفسد حجه، وإذا لم يفسد حجه لم تفسد عمرته لقول عائشة: (وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً) متفق عليه. ويجب على المتمتع دم إجماعاً، لقوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) الآية. ويجب على قارن دم لأنه ترفه بسقوط أحد السفرين كالمتمتع، والدم المذكور دم نسك لا دم جبران لما تقدم من أفضلية التمتع على غيره ولا نقص فيه يجبر به بشرط أن لا يكون المتمتع والقارن من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) ، وهذا في المتمتع، والقارن مقيس عليه، وحاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وأهل الحرم ومن كان من الحرم دون مسافة القصر لأن حاضر الشيء من حل فيه أو قرب منه، أوجاوره بدليل رخص السفر، فمن له منزلان متأهل بهما أحدهما دون مسافة القصر من الحرم كأهل وادي فاطمة المعروف سابقاً بمر الظهران وكأهل المضيق ولزيمة والشرايع وبحرة ونحوها. والآخر فوق مسافة القصر أو مثلها كجدة والطائف لم يلزمه دم التمتع ولو كان إحرامه من المنزل البعيد، أو كان أكثر إقامته، إو إقامة ماله في البعيد لأن بعض أهله من حاضري المسجد الحرام فلم يوجد الشرط؛ فلو استوطن أفقي ليس من أهل الحرم مكة فحاضر لا دم عليه لعموم الآية، ومن دخل مكة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 غير أهلها متمتعاً أو قارنا ناويا الإقامة بها بعد فراغ نسكه أو نوى الإقامة بعد فراغه من النسك، أو استوطن مكي بلداً كالمدينة والطائف وجدة، ثم عاد إلى مكة مقيماً متمتعاً أو قارناً لزمه دم، لأنه حال الشروع في النسك لم يكن من حاضري المسجد الحرام. (فائدة) : قال المحب بن نصر الله البغدادي: لو ساق المتمتع أو القارن هديا تطوعاً من قبل الميقات فهل يجزئه عن الدم الواجب، أو لا بد من دم آخر؟ لم أجد من صرح بذلك وظاهر الأحاديث يجزئه، وظاهر كلامهم يلزمه غيره لأنه استحق لتعينه بالهدي فلم يجز عن واجب غيره انتهى كلامه، قلت: الصحيح أنه يجزئه عن هدي التمتع والقران لظاهر الأحاديث، ولا عبرة بظاهر كلامهم، والله أعلم. -- فصل: ويشترط في وجوب دم متمتع وحده دون القارن زيادة عما تقدم ستة شروط: الشرط الأول: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج لقوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) . والاعتبار بالشهر الذي أحرم بها فيه لا بالشهر الذي حل منها فيه، فلو أحرم بالعمرة في شهر رمضان الذي ليس من أشهر الحج، ثم حل منها بأن طاف وسعى وحلق، أو قصر في شوال الذي هو من أشهر الحج لم يكن متمتعاً لأن الإحرام نسك يعتبر للعمرة أو من أعمالها فاعتبر في أشهر الحج كالطواف، وإن أحرم الأفقعي بعمرة في غير أشهر الحج، كرمضان مثلاً، ثم أقام بمكة واعتمر من التنعيم في أشهر الحج وحج من عامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فهو متمتع نصاً، لأنه اعتمر وحج في أشهر الحج من عامه وعليه دم لعموم الآية، وهذا مبني على قول الموفق والشارح: إنه لا يشترط لوجوب الدم على المتمتع الإحرام بالعمرة من الميقات أو مسافة قصر، ويأتي في الشرط الخامس إن شاء الله تعالى، أما إن اعتمر بعد الحج فإنه لا يكون متمتعاً، لأن عمرته حصلت في غير أشهر الحج، وقال الحسن: من اعتمر بعد النحر فهي متعة. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً، قال بهذا القول. ذكره في المغني، وتقدم في صفة التمتع شيء من ذلك فليراجع. الشرط الثاني: أن يحج من عامه، فلو اعتمر في أشهر الحج وحج من عام آخر فليس بمتمتع للآية، لأنه يقتضي الموالاة بينهما ولأنهم إذا أجمعوا على أن من اعتمر في غير أشهر الحج، ثم حج من عامه فليس بمتمتع فلئلا يكون متمتعاً إذا لم يحج من عامه من باب أولى، لأن التباعد بينهما أكثر وتقدم ذلك في صفة التمتع. الشرط الثالث: أن لا يسافر بين الحج والعمر مسافة قصر فأكثر، فإن سافر مسافة قصر فأكثر فأحرم بالحج بعد حلة من العمرة فلا دم عليه، نص عليه أحمد لما روي عن عمر أنه قال: (إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع) ولأنه إذا رجع إلى الميقات أو ما دونه لزمه الإحرام منه، فإن كان بعيداً فقد أنشأ سفراً بعيداً لحجة فلم يترفه بترك أحد السفرين فلم يلزمه دم. قلت: فعلى هذا إذا اعتمر في أشهر الحج ثم سافر إلى جدة أو الطائف ونحوهما مما يبلغ مسافة قصر عن مكة ثم رجع منهما محرماً بالحج في عامه سقط عنه دم التمتع، لأنه أحرم بالحج من مسافة قصر عن مكة هذا مقتضى كلامهم قال ناظم المفردات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 مسافة القصر لذي الأسفار ... ما بينما الحج والاعتمار. به دم المتعة والقران ... سقوطه فواضح البرهان. قال شارحها الشيخ منصور: يعني إذا أحرم بالعمرة وحل منها ثم سافر فأحرم بالحج من مسافة قصر فأكثر من مكة سقط عنه دم التمتع، وروي ذلك عن عطاء وإسحاق والشافعي إن رجع إلى الميقات فلا دم عليه. وقال أصحاب الرأي: إن رجع إلى مصره بطلت متعته وإلا فلا. وقال مالك: إن رجع إلى مصره أو إلى غيره أبعد من مصره بطلت متعته وإلا فلا. وقال الحسن هو متمتع وإن رجع إلى بلده، واختاره ابن المنذر لعموم (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) . ولنا قول عمر وذكر ما تقدم عنه ثم قال: وأما سقوط دم القرآن بالسفر المذكور فهو القياس ولكن كلامهم يقتضي لزومه لأن اسم القران باق بعد السفر بخلاف المتمتع، قال في الفروع: والصحيح أن اسم التمتع باق أيضاً انتهى. قال النووي: وإنما يجب الدم على المتمتع بأربعة شروط: أن لا يعود إلى ميقات بلده لإحرامه الحج، وأن يكون إحرامه بالعمرة في أشهر الحج، وأن يحج من عامه، وأن لا يكون من حاضري المسجد الحرام وهم أهل الحرم؛ ومن كان منه على أقل من مرحلتين، فإن فقد أحد هذه الشروط فلا دم عليه وهو متمتع على الأصح، وقيل يكون مفرداً انتهى. الشرط الرابع: أن يحل من العمرة قبل إحرامه بالحج، فإن أحرم به قبل حله من العمرة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم صار قارنا وليس بتمتع ولو بعد سعي العمرة لمن معه هدي، ولزمه دم قران لترفهه بترك أحد السفرين، هكذا ذكر في المنتهى والإقناع، وغيرهما في هذا الموضع بأنه يكون قارناً؛ وبيان ذلك أنه إذا لم يكن معه هدي وأحرم بالحج قبل الشروع في طواف العمرة فإنه يصير قارناً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وإلا بأن كان الإحرام به بعد الشروع في طواف العمرة فإنه لا يصح كما تقدم، أما إذا كان معه هدي لزمه إدخال الحج على العمرة لأنه مضطر إلى الإدخال حيث كان ممنوعاً من التحلل لسوقه الهدي، وهل يكون متمتعاً حينئذ أو قارناً؟ تقدم البحث في ذلك فليراجع. الشرط الخامس: أن يحرم بالعمر من ميقات بلده أو من مسافة قصر فأكثر من مكة، فلو أحرم من دون مسافة قصر من مكة كمن قرية المضيق أو لزيمة لم يكن عليه دم تمتع لأن حكمه حكم حاضري المسجد الحرام، وإنما يكون عليه دم مجاوزه الميقات بغير إحرام إن تجاوزه كذلك، وهو من أهل الوجوب، واختار الموفق والشارح أن الأفقي إذا ترك الإحرام من الميقات وأحرم من دونه بعمرة، ثم حل منها وأحرم بالحج من مكة من عامه فهو متمتع، وعليه دمان: دم المتعة، ودم لإحرامه من دون الميقات، وقال القاضي أبو يعلى: إذا تجاوز الميقات حتى صار بينه وبين مكة أقل من مسافة القصر فأحرم منه فلا دم عليه للمتعة، لأنه من حاضري المسجد الحرام، قال الموفق: وليس بجيد فإن حضور المسجد الحرام إنما يحصل بالإقامة به ونيته ذلك وهذا لم تحصل منه الإقامة ولا نيتها. قال الموفق: وإن أحرم الأفقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة واعتمر من التنعيم في أشهر الحج وحجم من عامة فهو متمتع نص عليه أحمد وعليه دم؛ وفي تنصيصه على هذه الصورة تنبيه على إيجاب الدم في الصورة الأولى بطريق الأولى انتهى. قلت: ما ذهب إليه الموفق بناء منه على أنه لا يشترط لوجوب دم التمتع الإحرام بالعمرة من الميقات أو مسافة قصر وصححه في الإقناع ومشى على اشتراط ذلك في المنتهى. وما ذهب إليه الموفق هو الصحيح كما ذكره صاحب الإقناع. قال في المغني بعد كلام سبق فأما إن خرج المكي مسافراً غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 منتقل ثم عاد فاعتمر من الميقات وحج من عامه فلا دم عليه، لأنه لم يخرج بهذا السفر عن كون أهله من حاضري المسجد الحرام انتهى. قلت كأهل مكة إذا رجعوا من مصيف الطائف إلى مكة وأتوا بعمرة من الميقات في أشهر الحج وحجوا من عامهم فإنه لا دم عليهم، لأنهم لم يخرجوا بذلك عن كونهم من حاضري المسجد الحرام، والله أعلم. الشرط السادس: أن ينوي التمتع في ابتداء العمرة أو في أثنائها ذكره القاضي أبو يعلى، وتبعه الأكثرون لظاهر الآية وحصول الترفه. قال الشيخ مرعي بن يوسف: فلا تكفي نية عمرة فقط في وجوب الدم انتهى، واختار الموفق والشارح أنه لا يشترط نية التمتع لوجوب الدم وقدمه في المحرر والفائق، ومشى في المنتهى والإقناع على اشتراط ذلك، والصحيح ما اختاره الموفق والشارح لما يأتي من أن المفرد والقارن يسن لهما فسخ نيتهما بالحج وينويان بإحرامهما بذلك عمرة مفردة وأن من كان منهما طاف وسعى قصر وحل من إحرامه وأنه لا يمنع الفسخ إلا سوق الهدي أو الوقوف بعرفة، وأنه إذا فسخ يكون متمتعاً عليه دم التمتع، وقد يكون الفسخ بعد الطواف والسعي بمكة أو بعد خروجه منها إلى منى قبل الوقوف، ومع هذا كله فإنه لم ينو التمتع إلا حين الفسخ ووجب عليه دم التمتع، إذا تقرر هذا فيرد على من ذهب إلى اشتراط نية التمتع في ابتداء العمرة أو في أثنائها مسئلة الفسخ الآتية فإن الأصحاب أوجبوا عليه دم التمتع وإن لم ينو التمتع في ابتداء العمرة أو في أثنائها، والله أعلم. قال في المنتهى وشرحه ولا تعتبر هذه الشروط جميعها في كونه أي الآتي بالحج والعمرة يسمى متمتعاً فإن المتعة تصح من المكي كغيره. ورواية المروذي ليس لأهل مكة متعة: أي ليس عليهم دم انتهى، ومعناه في الإقناع وشرحه، ولا يعتبر لوجوب دم تمتع وقران وقوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 النسكين عن واحد، فلو اعتمر لنفسه وحج عن غيره أو اعتمر عن غيره وحج عن نفسه أو فعل ذلك عن اثنين بأن حج عن أحدهما واعتمر عن الآخر، وجب الدم بشرطه وهو على النائب إن لم يأذنا له في ذلك لأنه بسبب مخالفته، وإن أذنا فعليهما، وإن أذن أحدهما وحده فعليه النصف والباقي على النائب على ما ذكره في الشرح فيما إذا استنابه اثنان في النسكين فقرن بينهما لهما واستنابه واحد في أحد النسكين فقرن له ولنفسه، قال في الغاية وشرحها ويتجه، وكذا صوم وجب على نائب أحرم متمتعاً، فإن كان مأذونا له في التمتع فعلى مستنيبه، وإن كان بلا إذن فعليه، هذا إن كان نائباً عن واحد، وإن كان نائباً عن اثنين فأحرم متمتعاً بلا إذنهما فعليه أن يصوم العشرة أيام، وإن كان بإذنهما احتمل أن يصوم نائب الثلاثة وهما أي الآذنان السبعة، ويجبر الكسر فيصوم كل واحد أربعة أيام، لأن اليوم لا يتبعض في الصيام، واحتمل أن يصوم كل واحد منهما خمسة أيام لوجوب ذلك بسببهما وهو متجه انتهى. -- فصل: ويلزم دم وتمتع وقران بطلوع فجر يوم النحر لقوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) أي فليهد، وحمله على أفعال الحج أولى من حمله على إحرامه كقوله (الحج عرفة) ، وعن الإمام أحمد رحمه الله تعالى رواية يجب الدم على المتمتع والقارن بإحرام الحج وفاقاً للحنفية والشافعية، وعن الإمام أحمد رواية بإحرام العمرة، قال ابن مفلح في الفروع: ويتوجه أن ينبني عليها ما إذا مات بعد سبب الوجوب يخرج عنه من تركته، وقال الشافعي في أظهر قوليه، وقال بعض أصحابنا: فائدة الروايات إذا تعذر الدم وأراد الانتقال إلى الصوم فمتى ثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 التعذر ففيه الروايات، وأما وقت ذبحه فصرح أكثر الأصحاب أنه لا يجوز ذبحه قبل وجوبه. قال في الفروع: وقال القاضي وأصحابه لا يجوز قبل فجر يوم النحر، وفاقا لأبي حنيفة ومالك فظاهره يجوز إذا وجب انتهى. قال في الإنصاف هذا الحكم مع وجود الهدي أما مع عدمه فيأتي في كلام المصنف يعني الموفق في أثناء باب الفدية أن وقت وجوب صوم الثلاثة علة المتمتع والقارن وقت وجوب الهدي، ويجوز تقديمها بإحرام العمرة نص عليه وعليه أكثر الأصحاب انتهى. قال الشيخ سليمان بن علي: ويلزمه بطلوع فجر يوم النحر، فإن طلع وهو موسر لزمه، وإن طلع وهو معسر فلا، ولو أيسر انتهى. قلت صريح عبارة الأصحاب أن دم التمتع والقران يجب بطلوع فجر يوم النحر وعليه لا يلزم من وجوبه جواز ذبحه بطلوع الفجر لأن الأصحاب صرحوا في باب الهدي والأضاحي أن وقت ابتداء ذبح هدي التمتع والقران ونحوهما هو بعد صلاة العيد من يوم النحر أو بعد مضي قدرها في حق من لا صلاة في موضعه وذكروا أنه إن ذبح هديا أو أضحية قبل وقته المذكور لم يجزئه وصنع به ما شاء لأنه لحم وعليه بدل الواجب لبقائه في ذمته وهذا هو الصحيح، فإطلاق الأصحاب هنا يقيد بما هناك. وعند الشافعية وقت وجوب دم التمتع إذا أحرم بالحج فإذا وجب جازت إراقته ولم يتوقت بوقت لكن الأفضل إراقته يوم النحر، ويجوز إراقته بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج على الأصح عندهم ولا يجوز قبل التحلل من العمرة على الأصح عندهم، وأما الصوم فلا يجوز عندهم تقديمه على الإحرام بالحج ويأتي شيء من مذهبهم ومذهب غيرهم في باب الفدية إن شاء الله، ولا يسقط دم تمتع وقران بفساد نسكهما نص عليه لأن ما وجب الإتيان به في الصحيح وجب في الفاسد كالطواف وغيره، ولا يسقط دم تمتع وقران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أيضا بفوات الحج كما لو فسد ما لم يقضه على صفة أعلى وإلا سقط قال محمد الخلوتي. قال في المنتهى وشرحه: وإذا قضى القارن قارنا لزمه دمان: دم لقرانه الأول ودم لقرانه الثاني انتهى. قال الشيخ منصور في حاشيته على المنتهى: يعني إذا قضي القارن الذي فاته الحج قارنا لزمه دمان دم لقرانه الأول ودم لقرانه الثاني. وأما من أفسد قرانه فإنه يذبح فيه ما وجب به كالصحيح كما يعلم مما يأتي انتهى. وإذا قضى القارن مفرداً لم يلزمه شيء لقرانه الأول لأنه أتى بنسك أفضل من نسكه فإذا فرغ من قضي مفرداً من الحج أحرم بالعمرة من أبعد الميقاتين اللذين أحرم في أحدهما بالقران وفي الآخر بالحج كمن فسد حجه ثم قضاه يحرم من أبعد الميقاتين، وإن لم يحرم بالعمرة من أبعد الميقاتين لزمه دم لتركه واجبا. قال في المنتهى وشرحه: وإن قضى القارن مفرداً لم يلزمه شيء قال في حاشية المنتهى للشيخ منصور يعني لا لما فاته ولا لما أتى به لأنه انتقل إلى صفة أعلى وجزم بعضهم أنه يلزمه دم لقرانه الفائت لأن القضاء كالأداء قال في الفروع وهو ممنوع؛ فعلم أن قولهم لا يسقط الدم بفوات النسك ليس على إطلاقه ومقتضى كلامهم أن القارن إذا قضى متمتعاً لا يلزمه شيء للفائت لأنه انتقل إلى صفة أعلى، ولا للقضاء لأنه لا ترفه فيه بترك السفر إذ يلزمه بعد فراغ العمرة أن يحرم بالحج من أبعد الميقاتين، وأن المتمتع إذا قضى يلزمه دم لتمتعه الفائت على أي صفة قضاه لأنه لم يؤده على وجه أعلى، ودم آخر إن قضى متمتعاً أو قارنا لا مفرداً والله أعلم انتهى كلام الشيخ منصور في حاشيته، قلت لكن قوله وجزم بعضهم أنه يلزمه دم لقرانه الفائت لأن القضاء كالأداء غير وجيه؛ لأن هذا التعليل لا يطابق الواقع لأن القضاء هو الإفراد كالأداء غير وجيه؛ لأن هذا التعليل لا يطابق الواقع لأن القضاء هو الإفراد والأداء هو القران، ولو قال لأن الدم لا يسقط في الجملة بفوات النسك لصلح التعليل والتعبير والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وإن قضى القارن متمتعاً فإذا تحلل من العمرة أحرم بالحج من الأبعد من الميقاتين اللذين أحرم من أحدهما قارنا ومن الآخر بالعمرة لأنه إذا كان الأبعد الأول فالقضاء يحكيه لأن الحرمات قصاص، وإن كان الثاني فقد وجب عليه الإحرام بحلوله فيه لوجوب القضاء على الفور، قال الشيخ منصور: والظاهر أنه لا دم عليه إذاً لفوات الشرط انتهى. قلت مراد الشيخ منصور بقوله لفوات الشرط ما ذكروه في الشرط الثالث من شروط وجوب الدم على المتمتع حيث قالوا: وأن لا يسافر بين الحج والعمرة مسافة قصر فإن فعل فأحرم بالحج من مسافة قصر فأكثر فلا دم عليه نصاً. والله أعلم. -- فصل: ويسن لمن كان قارناً أو مفرداً فسخ نيتهما بالحج وينويان بإحرامهما ذلك عمرة مفردة فمن كان منهما قد طاف وسعى قصر وحل من إحرامه، وإن لم يكن طاف وسعى فإنه يطوف ويسعى ويقصر ويحل، فإذا فرغا من العمرة وحلا منها أحرما بالحج ليصيرا متمتعين ويتمان أفعال الحج ما لم يكونا ساقا هدياً أو وقفاً بعرفة لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين أفردوا الحج وقرنوا أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من كان معه هدي، متفق عليه. وقال سلمة بن شبيب للإمام أحمد: كل شيء منك حسن جميل إلا خلة واحدة، فقال: وما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج. قالت: كنت أرى أن لك عقلاً، عندي ثمانية عشر حديثا جياداً صحاحاً كلها في فسخ الحج أتركها لقولك؟ وقد روى فسخ الحج إلى العمرة ابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة وأحاديثهم متفق عليها ورواه غيرهم وأحاديثهم كلها صحاح، وإذا فسخ الحج إلى العمرة صار متمتعاً حكمه حكم المتمتعين في وجوب الدم وغيره وقال القاضي أبو يعلى: لا يجب الدم لأن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 شرط وجوبه أن ينوي في ابتداء العمرة أو في أثنائها أنه متمتع، قال الموفق والشارح: وهذه دعوى لا دليل عليها تخالف عموم الكتاب وصريح السنة الثابتة فإن الله تعالى قال: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) ، وفي حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحل ثم ليهل بالحج وليهد ومن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) . متفق عليه. ولأن وجوب الدم في المتعة للترفه بسقوط أحد السفرين، وهذا المعنى لا يختلف بالنية وعدمها فوج بأن لا يختلف وجوب الدم، على أنه لو ثبت أن النية شرط فقد وجدت فإنه ما حل حتى نوى أنه يحل ثم يحرم بالحج انتهى كلام الموفق، قلت وهو الحق وما قاله القاضي ليس بشيء، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل العلم بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع هو وأصحابه أمرهم جميعهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فإنه أمره أن يبقي على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه وقرن هو بين العمرة والحج فقال: لبيك عمرة وحجاً ولم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها لأنها قد حاضت فلم يمكنها الطواف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) فأمرها أن تهل بالحج وتدع أفعال العمرة لأنها كانت متمتعة، ثم إنها طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر فاعتمرت من التنعيم، وتمامه فيه، قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى بعد كلام سبق، وفي السنن عن البراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 بن عازب، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال: (اجعلوا حجكم عمرة فقال الناس يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ فقال انظروا ما آمركم به فافعلوه، فرددوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجه فقالت: من أغضبك أغضبه الله، فقال: وما لي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا يتبع) . قال ابن القيم رحمه الله ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضاً علينا فسخه إلى عمرة تفادياً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعاً لأمره، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه ولا خص به أصحاب دون من بعدهم، بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة أن يسأله: هل ذلك مختص بهم؟ فأجاب بأن ذلك كائن لأبد الأبد، فما ندري ما نقدم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكد الذي أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه، وتمامه في زاد المعاد. وفي الانتصار وعيون المسائل لو ادعى مدع وجوب الفسخ لم يبعد. واختار ابن حزم وجوبه وقال هو قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وإسحاق. وفي مسلم عن ابن عباس: أن من طاف حل وقال سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. فإن قيل هل يصح الفسخ وإن لم ينو فعل الحج من عامه؟ قيل منعه ابن عقيل وغيره نقل ابن منصور لا بد أن يهل بالحج من عامه ليستفيد فضيلة التمتع ولأن الحج على الفور فلا يؤخر لو لم يحرم به فكيف وقد أحرم به، واختلف كلام القاضي أبو يعلى وقدم الصحة لأنه بالفسخ حصل على صفة يصح منه التمتع، ولأن العمرة لا تصير حجاً والحج يصير عمرة لمن حصر عن عرفة أو فاته الحج، قلت وفيما قاله القاضي نظر لأنه إنما يحصل على صفة يصح منه التمتع إذا حج من عامه الذي فسخ فيه، أما إذا لم يحج عام الفسخ فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الصفة المذكورة منتفية عنه فالصحيح ما نقله ابن منصور من أنه لا بد أن يهل بالحج من عامه ليستفيد فضيلة التمتع وألا ينو إهلالاً بالحج من عامه فإنه لا يسوغ له فسخ الحج، والله أعلم. وقالت الحنفية والمالكية والشافعية وداود: لا يجوز له فسخ الحج إلى العمرة، وقولهم هذا رد للنصوص الصحيحة الصريحة الواردة في ذلك، ومن أراد الاطلاع على حجج الطرفين والأحاديث الواردة في ذلك فليراجع زاد المعاد يظفر بالمارد والله الموفق؛ فإن كان المفرد والقارن ساقا الهدي لم يصح الفسخ لما تقدم من أن السائق للهدي يثبت على إحرامه ولا يحل إلا يوم النحر أو كانا وقفا بعرفة لم يصح الفسخ لأن من وقف بعرفة قد أتى بمعظم الحج وأمن فوته بخلاف غيره فلو فسخا في الحالتين حال سوق الهدي والوقوف بعرفة فلغو وهما باقيان على نسكهما الذي أحرما به. قال في الإقناع وشرحه ومثله في المنتهى وشرحه: ولو ساق المتمتع هدياً لم يكن له أن يحل من عمرته فيحرم بحج إذا طاف وسعى لعمرته قبل تحلله بالحلق (أو التقصير) فإذا ذبحه يوم النحر حل من الحج والعمرة معا انتهى. ومفهومه أنه لا يحل منهما حتى يذبح الهدي وهو خلاف ما يأتي من أن التحلل الأول يحصل باثنين من ثلاثة: رمي جمرة العقبة وحلق وطواف، وتقدم في صفة التمتع البحث في ذلك وهي يسمي في هذه الصورة متمتعاً أو قارنا فليراجع. قال ابن عمر: (تمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فقال من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه) ولأن التمتع أحد نوعي الجمع بين الحج والعمرة كالقران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 (تنبيه) : لا يمنع نية الفسخ للمفرد والقارن إلا سوق الهدي أو الوقوف بعرفة، أما من لم يسق الهدي ولم يقف بعرفة فإنه يسن له فسخ الحج إلى العمرة كما تقدم، قال في الإنصاف: اعلم أن فسخ القارن والمفرد حجهما إلى العمرة مستحب بشرطه نص عليه. وعليه الأصحاب قاطبة وهو من مفردات المذهب انتهى. قال في المنتهى وشرحه للمصنف، وسن لمفرد وقارن فسخ نيتهما بحج وينويان بإحرامهما ذلك الأول الذي هو الإفراد أو القران عمرة مفردة فمن كان منهما قد طاف وسعى قصر وحل من إحرامه، وإن لم يكن طاف وسعى فإن يطوف ويسعى ويقصر ويحل من إحرامه على الأصح نص على ذلك لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين أفردوا الحج وقرنوا أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من كان معه هدي متفق عليه. وليس الفسخ إبطالا للإحرام من أصله بل نقل له من الحج إلى العمرة انتهى. قال الشيخ منصور في حاشيته على الإقناع: قوله ويسن لمن كان قارنا أو مفردا فسخ نيتهما بالحج إلى آخره ظاهره سواء كان طاف وسعى أم لا، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب، قال في المقنع: يفسخ إن طاف وسعى فظاهره أن الطواف والسعي شرط في استحباب الفسخ. قال ابن منجا وليس الأمر كذلك انتهى. وذكر أنه إذا طاف وسعى ثم فسخ يحتاج إلى طواف وسعي لأجل العمرة ورده الزركشي بأنه ليس في كلامهم ما يقتضي أنه يطوف طوافاً ثانياً، قال في الإنصاف عقبه قلت قال في الكافي يسن لهما إذا لم يكن معهما هدي أن يفسخا نيتهما بالحج وينويا عمرة مفردة ويحلا من إحرامهما بطواف وسعي وتقصير ليصيرا متمتعين انتهى. وكأنه يلوح بالاعتراض على الزركشي في قوله وليس في كلامهم ما يقتضي أنه يطوف طوافاً ثانياً كما زعم ابن منجا فإن كلام الكافي المذكور يقتضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 إعادة الطواف والسعي حيث قال ويحلا من إحرامهما بطواف وسعي ولم يقيده بما إذا لم يكونا طافا وسعيا فمقتضاه مطلقا وهو واضح لأن طواف القدوم نفل فكيف يجزئ عن طواف العمرة وهو ركن، والسعي شرطه أن يكون بعد طواف نسك والطواف السابق لم يكن للعمرة فلم يعتد بالسعي بعده لها والله أعلم. وتابع في شرح المنتهى القولين في الموضعين من غير عزو انتهى كلام الشيخ منصور في الحاشية. قلت الصحيح عدم إعادة الطواف والسعي، والله أعلم. والمعتمر غير المتمتع يحل بكل حال إذا فرغ من عمرته في أشهر الحج وغيرها ولو كان معه هدي لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر سوى عمرته التي مع حجته فكان يحل فإن كان معه هدي نحره عند المروة إن أمكن، وإلا يمكن كما في هذه الأزمان نحره في أي بقاع الحرم شاء لأن كله منحر، والمرأة إذا دخلت مكة متمتعة فحاضت أو نفست قبل طواف العمرة لم يكن لها أن تدخل المسجد الحرام وتطوف بالبيت فإن خشيت فوات الحج أو خافه غيرها أحرم بالحج وجوبا. قال منصور: والخشية ليست شرطاً لجواز إدخال الحج على العمرة كما مر بل شرط لوجوبه فيجب إذاً لأن الحج واجب فوراً ولا طريق له إلا ذلك فتعين انتهى من حاشية المنتهى. وصار قارنا نص عليه في الحائض وفاقا للمالكية والشافعية. وقال أبو حنيفة يصير رافضاً للعمرة، قال الإمام أحمد ما قاله غيره، ودليلنا ما روى مسلم أن عائشة كانت متمتعة فحاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أهلِّي بالحج) ولأن إدخال الحج على العمرة يجوز من غير خشية الفوات فمعها أولى لكونها ممنوعة من دخول المسجد ولم تقض طواف القدوم لفوات محله كتحية المسجد، ويجب بإدخال الحج على العمرة دم قران إن لم يكمن من حاضري المسجد الحرام قياساً على المتمتع كما تقدم وتجزئ عمرة القارن عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عمرة الإسلام، قال في شرح المنتهى: فإن كان أحرم بالعمرة وطاف وسعى لها ثم أدخل الحج عليها لسوقه الهدي فعليه دم التمتع وليس بقارن كما سبق انتهى. والذي سبق هو قوله في المنتهى وشرحه: وإن ساقه أي الهدي متمتع لم يكن له أن يحل من عمرته فيحرم بحج إذا طاف وسعى لعمرته قبل تحليل بحلق فإذا ذبحه يوم النحر حل منهما أي الحج والعمرة معاً نصاً ولا يصير قارنا لاضطراره لإدخال الحج على عمرته انتهى ملخصا، وتسقط العمرة عن القارن فتندرج أفعالها في الحج لحديث ابن عمر مرفوعاً (من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد عنهما حتى يحل منهما جميعاً) إسناده جيد رواه النسائي والترمذي وقال حسن غريب. -- فصل: ومن أحرم وأطلق بأن نوع الدخول في نسك ولم يعين نسكا صح إحرامه نص عليه أحمد وفاقا للأئمة الثلاثة كإحرامه بمثل ما أحرم به فلان، وحيث صح مع الإبهام صح مع الإطلاق لتأكده وكونه لا يخرج منه بمحظوراته وله صرف الإحرام إلى ما شاء من الأنساك نص عليه أحمد بالنية لا باللفظ لأن له أن يبتدئ الإحرام بأي الأنساك شاء فكان له صرف المطلق إلى ما أراد، والصرف واجب وإلا يكون متلاعباً، وما عمل من أحرم مطلقاً من طواف وغيره قبل صرفه لأحد الأنساك فهو لغو لا يعتد به لعدم التعيين لحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأن الطواف وغيره وجد لا في حج ولا عمرة فلم يجزه والأولى صرف إحرامه إلى العمرة لأن التمتع أفضل، وإن أحرم بمثل ما أحرم به فلان أو أحرم بما أحرم به فلا وعلم ما أحرم به فلان، قبل إحرامه أو بعده انعقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 إحرامه بمثله لحديث جابر: إن عليا قدم من اليمن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (بم أهللت؟ فقال بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاهد وامكث حراما) . رواه مسلم وغيره. (تنبيه) : لم يقل علي رضي الله عنه باهلالك، توقيرا وتلذذا بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم، فإن كان الأول أحرم مطلقا كان للثاني الذي أحرم بمثله صرف إحرامه إلى ما شاء من الأنساك كما لو أحرم هو مطلقاً ولا يتعين عليه صرف إحرامه إلى ما يصرفه إليه الأول ولا إلى ما كان صرفه إليه الأول بعد إحرامه مطلقا، ويعمل الثاني بقول الأول إنه أحرم بنسك كذا لا بما وقع في نفسه هو قال الشيخ محمد الخلوتي: وظاهره سواء كان فلان عدلاً أو فاسقا انتهى. فإن جعل من أحرم بما أحرم به فلان أو بمثله إحرام فلان واستمر الجهل فللثاني جعله عمره لصحة فسخ الإفراد والقران إليها وله جعله حجاً أو قرانا، ولو شك الذي أحرم بما أحرم به فلان أو بمثله هل أحرم الأول فكما لو لم يحرم الأول لأن الأصل عدمه فينعقد إحرامه مطلقا فيصرفه لما شاء كما لو أحرم ابتداء مطلقا فإن صرفه قبل طوافه وقع طوافه بعد ذلك إلى صرفه إليه، وإن طاف قبل صرفه إلى نسك معين لم يعتد بطوافه لأنه لا في حج ولا عمرة وتقدم، ولو كان إحرام الأول فاسداً بأن كان في حال الجنون أو السكر أو الإغماء أو وطئ فيه فكنذره عبادة فاسدة فينعقد إحرام الثاني بمثله من الأنساك إلا أنه يكون على الوجه الصحيح المشروع، ويصح وينعقد إحرام قائل: أحرمت يوما أو أحرمت بنصف نسك ونحوهما كأحرمت نصف يوم أو بثلث نسك لأنه إذا أحرم زمنا لم يصر حلالا فيما بعده حتى يؤدي نسكه ولو رفض إحرامه، وإذا دخل في نسك لزمه إتمامه فيقع إحرامه مطلقا ويصرفه لما شاء، ولا يصح إحرام قائل: إن أحرم زيد مثلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فانا محرم لعدم الجزم حيث علق إحرامه، وكذا إن كان زيد محرما فقد أحرمت فلم يكن محرما لعدم جزمه، فإن كان زيد محرما والحالة هذه لم يتعين إحرام الثاني بمثله فيما يظهر، والله أعلم. (فائدة) : إذا خاف الرجل لضيق الوقت أن يحرم بالحج فيفوته فيلزمه القضاء ودم الفوات فالحيلة أن يحرم إحراماً مطلقاً ولا يعينه فإن اتسع له الوقت جعله حجاً أو قراناً أو تمتعاً وإن ضاق عليه الوقت جعله عمرة ولا يلزمه غيرها قاله شمس الدين ابن القيم رحمه الله، ومن أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد إحرامه بإحداهما ولغت الأخرى لأن الزمان لا يصلح لهما مجتمعتين فيصح بواحدة منهما مفردة كتفريق الصفقة ولا ينعقد الإحرام بهما معاً كبقية أفعالهما وكنذرهما في عام واحد فإنه يجب عليه إحداهما في ذلك العام لأن الوقت لا يصلح لهما، قال القاضي أبو يعلى وغيره: هو كنية صومين في يوم ولو فسدت هذه المنعقدة لم يلزمه إلا قضاؤها، قال الشيخ منصور: والظاهر أنه لا يلزمه فعل الثانية في العام القابل ولا كفارة لأنه من نذر المحال، والله أعلم انتهى. ومن أحرم بنسك تمتع أو إفراد أو قران ونسيه أو أحرم بنذر ونسى ما نذره قبل طواف صرفه إلى عمره استحباباً لأنها اليقين لأنه يسن له فسخ الحج والقران إليها من العلم فمع النسيان أولى، ويجوز صرف إحرامه إلى غير العمرة لعدم تحقق المانع فإن صرفه إلى قران أو إفراد صح حجاً فقط دون العمرة فيما إذا صرفه إلى قران لأنه يحتمل أن يكون المنسي حجاً مفرداً فلا يصح إدخال العمرة عليه فصحة العمرة مشكوك فيها فلا تسقط من ذمته بالشك ولا دم عليه لأنه لم يتحقق أنه قارن ولا يجب الدم مع الشك في سببه وإن جعل المنسي عمرة فكفسخ حج إلى عمرة فيصح إن لم يقف بعرفة ولم يسق هديا ويلزمه دم المتعة بشروط للآية ويحزئه تمتعه عن الحج والعمرة جميعاً لصحتهما على كل تقدير لأن غايته أن يكون أحرم قارنا أو مفرداً وفسخهما سنة كما تقدم، وإن نسى ما أحرم به أو ما نذره بعد الطواف ولا هدي معه يتعين صرفه إلى العمرة ولا يجعله حجاً ولا قرانا لاحتمال أن يكون المنسي عمرة، وتقدم أنه لا يجوز إدخال الحج على العمرة بعد طوافها لمن لا هدى معه فيسعى ويحلق أو يقصر، ثم يحرم بالحج مع بقاء وقته ويتمه ويسقط عنه فرضه لتأديته إياه ويلزمه دم بكل حال لأنه إن كان المنسي حجا أو قرانا فقد حلق فيه في غير أوان الحلق، وفي الحلق قبل أوانه دم جبران، وإن كان معتمراً فقد تحلل ثم حج وعليه دم المتعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 بشروطه، قال الشيخ منصور: لكن إن فسخ نية الحج إلى العمر قبل حلقه فلا دم عليه. قلت وهو كما قال لأن فسخ المفرد والقارن نيتهما بحج إلى عمرة سنة كما تقدم، ومراد منصور بقوله فلا دم عليه أي للحق، وأما دم التمتع فيلزمه إذا فسخ بشروطه والله أعلم، قال الشيخ مرعي في الغاية فيسعى ويحلق ثم يحرم بحج مع بقاء وقت وقوف ويتمه ويتجه ولا دم للحلق إن تبين أنه حاج خلافاً لهما: يعني للإقناع والمنتهى، لأن الحج فسخ بالصرف انتهى كلام مرعي، قلت: أما دم التمتع فيلزمه إذا فسخ كما تقدم والله أعلم، وإذا خالف ما وجب عليه من صرفه إلى العمرة بعد الطواف بأن صرف إحرامه مع نسيانه بعد طواف ولا هدى معه إلى حج أو إلى قران لم يصح ويتحلل بفعل حج لاحتمال أن يكون حجا ولم يجزه فعل ذلك عن واحد من الحج والعمرة لاحتمال أن يكون المنسي عمرة فلا يصح إدخال الحج عليها بعد طوافها لمن لا هدى معه أو يكون المنسي حجاً فلا يصح إدخال العمرة عليه ولا دم عليه ولا قضاء للشك في سببهما الموجب لهما والأصل براءته لكن إن كان عليه حجة الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أو عمرته فإنها تستمر باقية بذمته، قال في المنتهى وشرحه: ومن كان معه هدى وطاف ثم نسى ما أحرم به صرفه إلى الحج وجوباً وأجزأه حجه عن حجة الإسلام لصحته بكل حال ولا يجوز له التحلل قبل إتمام نسكه انتهى، وإن أحرم عن اثنين استناباه في حج أو عمرة وقع عن نفسه أو أحرم عن أحدهما لا بعينه وقع إحرامه ونسكه عن نفسه دونهما لعدم إمكان وقوعه عنهما ولا مرجح لأحدهما ويضمن ما أخذه منهما ليحج به عنهما فيرد لهما بدله وكذا يقع عن نفسه لو أحرم عنه وعن غيره بطريق الأولى ويرد ما أخذه من الغير، ومن أهلّ لعامين بأن قال: لبيك العام وعام قابل حج من عامه واعتمر من قابل قاله عطاء حكاه عنه أحمد ولم يخالفه، قال الشيخ مرعي: ويتجه احتمال أن ذلك ندب انتهى، ومن أخذ من اثنين حجتين ليحج عنهما في عام واحد أدب على فعله ذلك لفعله محرماً نصاً، وقال في الإنصاف قلت قد قيل إنه يمكن فعل حجتين في عام واحد بأن يقف بعرفة ثم يطوف للزيارة بعد نصف ليلة النحر بيسير ثم يدرك الوقوف بعرفة ثانياً قبل طلوع الفجر ليلة النحر انتهى، قلت قوله بيسير وذلك لأجل دخول وقت طواف الزيارة لأنه سيأتي أن وقته يدخل بمضي نصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة قبل وإلا يكن وقف بعرفة فوقته بعد الوقوف بعرفة فلا يعتد بالطواف قبل الوقوف. قال الشيخ منصور: ولا يصح ممن أحرم بالحج ووقف بعرفة ثم طاف وسعى ورمى جمرة العقبة وحلق في نصف الليل الثاني أن يحرم بحجة أخرى ويقف بعرفة قبل الفجر لأن رمى أيام التشريق عمل واجب بالإحرام السابق فلا يجوز مع بقائه أن يحرم بغيره هذا معنى كلام القاضي أبي يعلى وسلم الإجماع على أنه لا يجوز حجتان في عام واحد انتهى. قال في المنتهى والإقناع وشرحهما: ومن استنابه اثنان في عام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 بنسك فأحرم عن أحدهما بعينه ولم ينسه صح إحرامه عنه ولم يصح إحرامه للآخر بعده نصاً في ذلك العام بحج ولو بعد طوافه للزيارة بعد نصف ليلة النحر ورميه لأن توابع الإحرام الأول من المبيت ليالي منى، ورمي الجمار أيامها باقية فلا يصح إدخال إحرام على إحرام انتهى بتصرف وجيه وتقدم قريباً، وإن نسي المعين بالإحرام من مستنيبيه وتعذر علمه فإن فرط نائب كأن تعذر علمه من تفريطه بأن كان يمكنه كتابة اسمه أو ما يتميز به فلم يفعل أعاد الحج عنهما فيحج عن كل واحد حجة لتفريطه ولا يكون الحج لأحدهما بعينه لعدم أولويته، وإن فرط موصى إليه بذلك بأن لم يسمِّه للنائب غرم موصى إليه نفقة إعادة الحج عنهما، وإلا يفرط نائب ولا موصى إليه بأن سماه الموصى إليه للنائب وعينه ابتداء ولم يحصل منه تفريط في نسيانه لكنه نسيه فالغرم لذلك من تركة موصييه المستناب عنهما لعدم التفريط لأن الحج عنهما فنفقته عليهما ولا موجب لضمانه عنهما، قال في الإقناع وشرحه: هذا إن كان النائب غير مستأجر لذلك أي للحج عنهما لأنه أمين، وإلا بأن كان مستأجراً له إن قلنا تصح الإجارة للحج لزماه: أي لزم النائب الأجير أن يحج عنهما ليوفي بما استؤجر له انتهى، وتقدم الكلام على الاستنابة في الحج وعلى ضمان الحجة بأجرة في فصل الاستنابة في الحج والعمر فليراجع عند الحاجة فإنه مفيد جداً. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والمستحب أن يأخذ الحاج عن غيره ليحج، لا أن يحج ليأخذ فمن كان قصده إبراء ذمة الميت أو الشوق إلى الحج أو رؤية المشاعر فهذا آخذ ليحج ومثله كل رزق أخذ على عمل صالح، ففرق بين من يقصد الدين فقط والدنيا وسيلة وبين من يقصد الدنيا والدين وسيلة؛ فالأول لا بأس به والأشبه أن الثاني ليس له في الآخرة من خَلاق انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 (فائدة) لا يصح حج وصي، قال في الإنصاف: لا يصح أن يحج وصي بإخراجها، ولا يصح أن يحج وارث على الصحيح من المذهب انتهى. قال في الشرح الكبير: إذا كان فيها فضل إلا بإذن الورثة وإن لم يكن فيها فضل جاز لأنه لا محاباة فيها انتهى. وما قاله الشارح وجيه والله أعلم. -- فصل: والتلبية سنة لفعله صلى الله عليه وسلم وأمره بها، وهي ذكر في الإحرام فلم تجب كسائر الأذكار، ويسن ابتداء التلبية عقب إحرامه على الأصح لقول جابر: فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، الحديث وهذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء ذلك في الصحيحين رواه البخاري عن عائشة ومسلم عن جابر، وقيل إا استوى على راحلته وجزم به في المقنع وغيره وتبعهم في المختصر ومشى على الأول في المنتهى والإقناع وغيرهما، ويسن ذكر نسكه فيها وذكر العمرة قبل الحج للقارن فيقول لبيك عمرة وحجاً لحديث أنس، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لبيك عمرة وحجاً) متفق عليه. وقال جابر قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول لبيك بالحج الحديث، وقال ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: (حل كله) متفق عليه. ومعنى الإهلال: رفع الصوت بالتلبية، من قولهم استهل الصبي إذا صاح، ويسن الإكثار من التلبية لخبر سهل بن سعد (ما من مسلم يلبي إلى لبى ما عن يمينه وشماله من شجر أو حجر أو مدر حتى تنقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الأرض من ههنا وههنا. رواه الترمذي بإسناد جيد، وابن ماجة من رواية إسماعيل بن عياش عن المدنيين، وهو ضعيف عنهم، ويسن جهر ذكر بالتلبية لقول أنس: (سمعتهم يصرخون بها صراخا) رواه البخاري، وخبر السائب ابن خلاد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية) أسانيده جيدة رواه الخمسة وصححه الترمذي وأخرجه مالك في الموطأ والشافعي عنه وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححوه، قال الترمذي في جامعه: باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية وساق بسنده حديث خلاد ثم قال حديث خلاد عن أبيه حديث حسن صحيح وهو خلال بن السائب بن خلاد بن سويد الأنصاري عن أبيه انتهى. ولا يجهد نفسه في رفع صوته زيادة على الطاقة خشية ضرر يصيبه، ولا يستحب إظهار التلبية في مساجد الحل وأمصاره، قال أحمد إذا أحرم في مصره لا يعجبني أن يلبي حتى يبرز، لقول ابن عباس لمن سمعه يلبي بالمدينة: إن هذا لمجنون إنما التلبية إذا برزت يعني إذا خرجت من العمران إلى البراز، واحتج القاضي وأصحابه بأن إخفاء التطوع أولى خوف الرياء على من لا يشاركه في تلك العبادة بخلاف البراري وعرفات والحرم ومكة، ولا يستحب إظهارها في طواف القدوم والسعي بعده خوف اشتغال الطائفتين والساعين عن أذكارهم، ولا بأس بالتلبية سراً للمفرد والقارن في طواف القدوم والسعي بعده. وأما المتمتع والمعتمر فيقطعان التلبية إذا شرعا في طواف العمرة، ويكره رفع الصوت بها حول البيت وإن لم يكن طائفا لئلا يشغل الطائفين عن طوافهم وأذكارهم المشروعة لهم، ويستحب أن يلبي عن أخرس ومريض وصغير ومجنون ومغمى عليه، وزاد بعضهم ونائم تكميلاً لنسكهم وكالأفعال التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 يعجزون عنها، ويسن الدعاء بعد التلبية فيسأل الله الجنة ويعوذ به من النار لما روى خزيمة بن ثابت (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله عز وجل رضوانه الجنة واستعاذ برحمته من النار) رواه الشافعي والدارقطني، وفي إسناده صالح بن محمد بن أبي زائدة وهو مدني ضعيف، ويدعو بما أحب لأنه مظنة إجابة الدعاء، ويسن عقبها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم كالصلاة والأذان ولا يرفع صوته بالدعاء والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب التلبية لعدم وروده، وصفة التلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وتقدم في حديث عائشة وجابر والمشهور في (والنعمة) النصب. قال عياض ويجوز الرفع على الابتداء ويكون الخبر محذوفا، والتقدير إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك، قاله ابن الأنباري والمشهور نصب والملك ويجوز الرفع وتقديره والملك كذلك انتهى من فتح الباري، قال الطحاوي والقرطبي: أجمع العلماء على هذه التلبية انتهى، وهي مأخوذة من لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال أنا مقيم على طاعتك، وكررت لأنه أراد إقامة بعد إقامة، ولبيك لفظه مثنى وليس بمثنى حقيقة لأنه لا واحد له في لفظه، ولم يقصد به التثنية بل التكثير كحنانيك، أي رحمة بعد رحمة أو مع رحمة، وقيل معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين نادى بالحج، وقيل محمد عليهما من الله أفضل الصلاة والسلام، قال في تصحيح الفروع: أكثر العلماء على أنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم وقد قطع به البغوي وغيره من أهل التفسير انتهى. قلت: الصحيح أن الداعي هو الله عز وجل وأن الخطاب في لبيك الله سبحانه وتعالى لدلالة ما بعده من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 اللفظ اللهم ولا شريك لك وإثبات الحمد والنعمة والملك له سبحانه لا شريك له ويأتي قريباً ما يؤيد ذلك عن شيخ الإسلام رحمه الله. وسن لمن رأى ما يعجبه أو يكرهه أن يقول: لبيك إن العيش عيش الآخرة، قاله صلى الله عليه وسلم حين وقف بعرفات ورأى جمع المسلمين. رواه الشافعي وغيره عن مجاهد مرسلا. وقاله صلى الله عليه وسلم في أشد أحواله في حفر الخندق. رواه الشافعي أيضا، لكن ليس فيه لبيك بل قال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، ومعناه أن الحياة المطلوبة الهنيئة الدائمة هي حياة الدار الآخرة. والله أعلم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا أحرم لبى بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وإن زاد على ذلك لبيك ذا المعارج أو لبيك وسعديك ونحو ذلك جاز كما كان الصحابة يزيدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعهم فلا ينهاهم، وكان هو يداوم على تلبيته ويلبي من حين يحرم سواء ركب دابته أو لم يركبها، والتلبية هي إجابة دعوة الله لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته؛ والمعنى إنا مجيبون لدعوتك مستسلمون لحكمك مطيعون لأمرك مرة بعد مرة دائماً لا نزال على ذلك، والتلبية شعار الحج فأفضل الحج العَج والثَّج، فالعج رفع الصوت بالتلبية، والثج إراقة دماء الهدي، ولهذا يستحب رفع الصوت بها للرجل بحيث لا يجهد نفسه، والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقتها، ويستحب الإكثار منها عند اختلاف الأحوال مثل أدبار الصلوات ومثل ما إذا صعد نشزا أو هبط واديا أو سمع ملبيا أو أقبل الليل والنهار أو التقت الرفاق، وكذلك إذا فعل ما نهى عنه. وقد روى (إنه من لبى حتى تغرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الشمس فقد أمسى مغفوراً له، وإن دعا عقب التلبية وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وسأل الله رضوانه، واستعاذ برحمته من سخطه والنار فحسن، انتهى كلام شيخ الإسلام، وفي حديث جابر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي في حجته إذا لقي راكباً أو علا أكمة أو هبط واديا وفي أدبار الصلوات المكتوبة وفي آخر الليل) ، وأما استحبابها فيما إذا فعل محظوراً ناسيا، ثم ذكره فلتدارك الحج واستشعار إقامته عليه ورجوعه إليه، وكسر همزة إن أولى من فتحها عند الجماهير، قال ثعلب: من كسر فقد عم، يعني حمد الله على كل حال، ومن فتح فقد خص، أي لبيك لأن الحمد لك أي لهذا السبب الخاص، قال في الفروع، ويقول: لبيك إن أي بكسر الهمزة عند أحمد، قال شيخنا: يعني شيخ الإسلام هو أفضل عند أصحابنا والجمهور انتهى. وقول الأسنوي: إن الزمخشري نقل عن الشافعي اختيار الفتح رده الأذرعي بأن اختيارات الشافعي لا تؤخذ من الزمخشري لأن أصحاب الشافعي أدرى باختياراته من غيرهم ولم ينقلوا ذلك عنه انتهى. ولا تسن الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته هذه فكررها ولم يزد عليها ولا تكره الزيادة عليها، نص عليه أحمد لأن ابن عمر كان يلبي تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزيد معها: (لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل) . متفق عليه، يروي في والرغباء فتح الراء والمد وضم الراء مع القصر، وزاد عمر: لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرغوباً ومرهوبا إليك لبيك. رواه الأثرم. وروى أن أنساً كان يزيد لبيك حقاً حقاً تعبدا ورقاً. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تلبييه: (لبيك إله الحق لبيك) حديث حسن رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم. ولا يستحب تكرار التلبية في حالة واحدة قاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 أحمد، قال في المستوعب وغيره: وقال له الأثرم: ما شيء تفعله العامة يلبون دبر الصلاة ثلاثا؟ فتبسم وقال لا أدري من أين جاءوا به؟ قلت أليس يجزئه مرة؟ قال: بلى لأن المروي التلبية مطلقاً من غير تقييد وذلك يحصل بمرة، وقال الموفق وتبعه الشارح: تكرارها ثلاثا في دبر الصلاة حسن: فإن الله وتر يحب الوتر انتهى. ولا تشرع التلبية بغير العربية لقادر على التلبية بها لأنها ذكر مشروع فلم تشرع بغير العربية مع القدرة كالآذان والأذكار المشروعة في الصلاة، وإن لم يكن قادرا على العربية لبى بلغته كالتكبير في الصلاة، وقالت الحنفية: وتجوز التلبية بالعربية والفارسية والتركية والهندية وغيرها بأن لسان كان انتهى. ويستحب التلبية في مكة والمسجد الحرام وسائر مساجد الحرم كمسجد منى وفي عرفات أيضاً وسائر بقاع الحرم لأنها مواضع النسك، قال في الفروع: ولبى النبي صلى الله عليه وسلم بمزدلفة قاله ابن مسعود. رواه مسلم، ولبى ابن مسعود من منى إلى عرفة فقيل له ليس اليوم يوم تلبية بل يوم تكبير فقال: (أجهل الناس أم نسوا؟ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أنه يخالطها تكبير أو تهليل) . رواه أحمد انتهى. ولا بأس أن يلبي الحلال لأنها ذكر مستحب للمحرم فلم تركه لغيره كسائر الأذكار، تلبي المرأة استحبابا لدخولها في العمومات، ويعتبر أن تسمع نفسها التلبية لأنها لا تكون متلفظة بذلك إلا كذلك ويكره جهرها أكثر من سماع رفيقتها، قال ابن المنذر أجمع العلماء على أنه السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها انتهى، وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها، ويقطع الحاج التلبية عند رمي أول حصاة من جمرة العقبة، قال الإمام أحمد يلبي حتى يرمي جمرة العقبة يقطع عند أول حصاة وفاقاً للحنفية والشافعية لأن في الصحيحين عن ابن عباس (أن أسامة كان ردف النبي صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وسلم من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى فكلاهما قال لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة) ، وللنسائي فلما رمى قطع التلبية، ورواه حنبل: قطع عند أول حصاة، وأصح الروايتين عن مالك قطع التلبية إذا زالت الشمس من يوم عرفة. (تنبيه) : المحرم لا يخلو من أربع حالات لأنه إما أن يكون محرما بعمرة متمتعا بها إلى الحج أو مفرداً أو قارنا أو معتمرا عمرة، ففي حالة إحرامه بعمرة متمتعاً بها إلى الحج أو بعمرة مفردة يقطع التلبية إذا شرع في طواف العمرة، وفي حالة إفراده بالحج أو قرانه بين الحج والعمرة له أن يلبي سراً في طواف القدوم والسعي بعده ويكره له رفع الصوت بالتلبية لئلا يشغل الطائفين عن طوافهم وأذكارهم، وفي حالة ما إذا كان حاجاً سواء كان متمتعاً أو مفردا أو قارنا فإنه يقطع التلبية عند رمي أول حصاة من جمرة العقبة، والله أعلم، قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي: عن فلان ثم لا يبالي أن لا يقول بعد، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سمعه يلبي عن شبرمة (لب عن نفسك ثم لب عن شبرمة) وقد بوب للحديث أبو البركات المجد ابن تيمية في المنتقى. فقال: باب من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه، ثم قال عن ابن عباس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة قال: مَن شبرمة؟ قال أخ لي أو قريب لي قال حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) . رواه أبو داود وابن ماجة، وقال: فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة، والدارقطني، وفقيه قال: (هذه عنك وحج عن شبرمة) . انتهى، وقد أخرج هذا الحديث أيضاً ابن حبان وصححه والبيهقي وقال إسناده صحيح، وليس في هذا الباب أصح منه. قال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 نيل الأوطار: وقد روى موقوفاً والرفع زيادة يتعين قبولها إذا جاءت من طريق ثقة، وهي ههنا كذلك لأن الذي رفعه عبدة بن سليمان، قال الحافظ وهو ثقة محتج به في الصحيحين وقد تابعه على رفعه محمد بن بسر ومحمد بن عبيد الله الأنصاري وكذا رجح عبد الحق، وابن القطان رفعه، ورجح الطحاوي أنه موقوف وتمامه فيه، وعند الشافعية التلبية سنة وليست واجبة وفاقا لنا، وعند أبي حنيفة أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة، وعند المالكية أنها واجبة يجب بتركها دم. والله أعلم. (تنبيه مهم جداً) : ينبغي أن يحذر الملبي في حال تلبيته من أمور يفعلها بعض الغافلين: من الضحك واللعب ونحو ذلك، وليكن مقبلاً على ما هو بصدده بسكينة ووقار وليشعر نفسه أنه يجيب ربه وبارئه سبحانه وتعالى، فإن أقبل على الله بقلبه مخلصا له في القول والعمل خائفاً من ربه راجياً له أقبل الله عليه وأثابه فإن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وإن أعرض عن الله تعالى وتعلق على غيره وارتكب شيئاً من البدع أو الفسوق أو العصيان أو الرياء أو المباهاة، أعرض الله عنه وأحبط عمله، عياذاً بالله من الخذلان، ومن نزغات الشيطان، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. -- باب: محظورات الإحرام: وهي ما يحرم على المحرم فعله بسبب الإحرام، وهي تسعة: (أحدها) إزالة الشعر من جميع بدنه ولو من أنفه بلا عذر، وسواء في ذلك العمد والنسيان والجهل، لقوله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى تبلغ الهدي محله) وهذا نص على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 حلق الرأس وألحق بالحلق القلع والنتف ونحوه، وبالرأس سائر البدن لأنه في معناه؛ فإن كان للمحرم عذر من مرض أو قمل أو قروح أو صداع أو شدة حر لكثرته مما يتضرر بإبقاء الشعر أزال الشعر وفدى كما لو احتاج لأكل صيد فأكله فعليه جزاؤه لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) ولما روى كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعلك آذك هوامك، قال نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة) . متفق عليه واللفظ للبخاري، وفي لفظ مسلم: (كأن هوام رأسك تؤذيك؟ فقلت: أجل. فقال احلقه واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين) . وكعب بن عجرة بضم العين وسكون الجيم وفتح الراء، ابن أمية البلوي، حليف الأنصار شهد الحديبية ونزلت فيه آية الفدية. وأخرج ابن سعد بسند جيد عن ثابت بن عبيد الله: أن يد كعب قطعت في بعض المغازي، ثم سكن الكوفة. وتوفى بالمدينة سنة إحدى وخمسين، وله في البخاري حديثان، وقصة كعب حصلت وهو محرم مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، وقوله: هو أُمّك بتشديد الميم، جمع هامة بتشديدها، والمراد بها هنا القمل كما جاء ذلك صريحا عن كعب حيث قال: (كان بي أذى من رأسي فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك ما أرى) . الحديث متفق عليه. (الثاني) : من محظورات الإحرام: تقليم الأظفار لأنه إزالة جزء من بدنه تحصل به الرفاهية فأشبه إزالة الشعر إلا من عذر فيباح عند العذر كالحلق، وسواء كان التقليم من يد أو رجل أصلية أو زائدة، وسواء كان تقليما أو قصا أو نحوهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وسواء في ذلك العمد والنسيان والجهل، فمن حلق ثلاث شعرات فصاعدا أو قلم ثلاثة أظفار فأكثر ولو مخطئاً أو ناسياً فعليه دم شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، هذا المذهب قاله القاضي وفاقا للشافعي، وعن أحمد رواية: في أربع شعرات تكون الفدية، نقلها جماعة اختارها الخرقي، وقال أبو حنيفة لا يجب الدم بدون ربع الرأس؛ لأن الربع يقوم مقام الكل وكذا في الرقبة كلها أو الإبط الواحد أو العانة، وقال مالك: إذا حلق من رأسه ما أماط به الأذى وجب الدم، ويأتي تفصيل الفدية في بابها إن شاء الله تعالى، وخصت بالثلاث لأنها جمع وألحقت حالة عدم العذر بحالة وجوده لأنها أولى بوجوب الفدية، وأما التقليم: فبالقياس على الحلق لأنه في معناه في حصول الرفاهية، وفيما دون الثلاث من الشعرات في الأظفار في كل واحد طعام مسكين، ففي شعرة واحدة طعام مسكين، وفي شعرتين طعاماً مسكينين، وفي تقليم ظفر واحد طعام مسكين، وفي ظفرين طعاما مسكينين، لأنه أقل ما وجب شرعا فدية، وفي قص بعض الظفر ما في جميعه وفي قطع بعض شعرة ما في جميعها، ففي بعض الظفر أو بعض الشعرة طعام مسكين، وفي شعرتين وبعض أخرى، أو ظفرين، وبعض آخر فدية كاملة، لأنه غير مقدر بمساحة وهو يجب فيهما سواء طالا أو قصرا كالموضحة يجب المقدر فيها مع كبرها وصغرها، وإن حلق رأسه مثلاً أو قص ظفره بإذنه، فالفدية على المحلوق رأسه دون الحالق وفاقاً لمالك والشافعي، وإن حلق رأسه أو قص ظفره بلا إذنه لكنه سكت ولم ينه الحالق ولو كان الحالق محرماً فالفدية على المحلوق رأسه لأن الله تعالى أوجب الفدية بحلق الرأس مع عمله أن غيره يحلقه، ولأن الشعر أمانة عند كوديعة فإذا سكت ولم ينه الحالق فقد فرط فيه فيضمنه، ولا شيء على الحالق ونحوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ولو محرما لأنه محظور واحد فلا يوجب فديتين، ولو أكره المحرم على حلق شعر نفسه أو تقليم ظفره فحلقه أو قلمه بيده مكرها فالفدية عليه لأنه إتلاف وهو يستوي فيه من باشره طائعاً أو مكرها، وإن كان المحرم المحلوق رأسه مكرها وحلق رأسه بيد غيره أو كان نائماً وحلق رأسه فالفدية على الحالق، نص عليه وفاقا لمالك، وكذا قلم ظفره لأنه أزال ما منع من إزالته كحلق محرم رأس نفسه، ولأنه لا فعل من المحلوق رأسه كإتلاف أجنبي وديعة غيره، وقيل على المحلوق رأسه وفقا لأبي حنيفة، وللشافعي القولان. قلت حاصل ذلك أن المحرم المحلوق رأسه ونحوه له أربع صور: الأولى: أن يحلق زيد رأس عمرو بإذن عمرو. الثانية: أن يحلق زيد رأس عمرو مع سكوت عمرو. الثالثة: أن يكره زيد عمرا على حلق رأس عمرو بيده، أعني بيد عمرو. الرابعة: أن يكره زيد عمرا على حلق رأس عمرو بيد زيد أو كان عمرو نائماً وحلق زيد رأس عمرو، فالفدية في الصور الثلاث الأولى على عمرو، والفدية في الصورة الرابعة على زيد الحالق، ومثل ذلك يقال في الظفر ونحوه، والله سبحانه أعلم، ومن طيِّب غيره والغير محرم فكحالق، فإن كان بإذنه أو سكت ولم ينهه فالفدية على المفعول به، وإن كان مركها أو نائما فعلى الفاعل، ويأتي أنه لا فدية على من تطيب مركها إن شاء الله تعالى، وإن حلق محرم شعر حلال أو قلم المحرم أظفار حلال أو طيب المحرم حلالا بلا مباشر طيب أو ألبس محرم حلالا مخيطا فلا فدية على المحرم وفاقاً لمالك والشافعي لإباحة ذلك للحلال ولأنه شعر أو ظفر مباح الإتلاف، فلم يجب بإتلافه جزاء كبهيمة الأنعام، وعند أبي حنيفة يتصدق بشيء. وحكم الرأس والبدن في إزالة الشعر، وفي الطيب وفي اللبس واحد لأنه جنس واحد لم يختلف إلا موضعه، فإن حلق شعر رأسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وبدنه ففدية واحدة كما لو لبس قميصاً وسراويل أو تطيب في رأسه وبدنه أو لبس فيهما فعليه فدية واحدة لأن الحلق إتلاف هو آكد من ذلك ومع ذلك ففيه فدية واحدة فهنا أولى، وإن حلق من رأسه شعرتين ومن بدنه شعرة أو حلق من بدنه شعرتين، ومن رأسه واحدة فعليه دم أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين كما لو كانت من موضع واحد، وإن خرج في عينيه شعر فقلعه فلا شيء عليه أو نظل شعر حاجبيه فغطى عينيه فإزالة فلا شيء عليه لأن الشعر آذاه فكان له إزالته من غير فدية كقتل الصيد الصائل، بخلاف ما إذا حلق شعره لقمل أو صداع أو شدة حر فتجب الفدية لأن الأذى من غير الشعر وكذا إن انكسر ظفره فقصه لأنه يؤذيه بقاؤه وكذا إن وقع بظفره مرض فأزاله أو قطع إصبعاً بظفرها أو جلدة عليها شعر فهدر لأنه زال تبعاً والتابع لا يفرد بحكم كقطع أشفار عيني إنسان يضمنها دون أهدابها أو افتصد فزال شعر فهدر وإن لم يمكن مداواة مرضه إلا بقصه قصه وفدى، قال أبو داود في مسائله لأحمد وساق بسنده إلى عطاء قال يعصر المحرم القرحة والدمل انتهى. وإن خلل المحرم لحيته أو مشطها أو خلل رأسه أو مشطه فسقط منه شعر ميت فلا شيء عليه، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن خلل لحيته فسقط إن كان شعراً ميتاً فلا شيء عليه انتهى، وإن تيقن أن الشعر بان بالمشط أو التخليل فدى، وتستحب الفدية مع الشك في كونه بان بمشط أو كان ميتاً احتياطاً لبراءة ذمته ولا يجب لأن الأصل عدمه، وللمحرم حك بدنه ورأسه برفق نص عليه أحمد ما لم يقطع شعراً فيحرم عليه، وللمحرم غسل رأسه وبدنه في حمام وغيره بلا تسريح، لأن تسريحه تعريضا لقطعه روى ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وجابر وغيرهم وفاقا لأبي حنيفة والشافعي (لأن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 غسل رأسه وهو محرم ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر) متفق عليه حديث أبي أيوب، واغتسل عمر وقال: (لا يزيد الماء الشعر إلا شعثاً) . رواه مالك والشافعي، وقد روي عن ابن عباس، قال ربما قال لي عمر ونحن محرمون بالجحفة تعال أباقيك أينا أطول نفساً في الماء. رواه سعيد، ومعنى أباقيك أصابرك في البقاء تحت الماء ليعلم أينا أطول نفسا فيه، وكره الإمام مالك للمحرم أن يغطس في الماء ويغيب فيه رأسه، قال في الفروع: والكراهة تفتقر إلى دليل انتهى. قال شيخ الإسلام: وإذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره وإن تيقن أنه انقطع بالغسل وله أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق وكذلك لغير الجنابة انتهى. وللمحر غسل رأسه بسدر وخطمى وصابون وأشنان ونحوها لقوله صلى الله عليه وسلم: في المحرم الذي وقصته راحلته (اغسلوه بماء وسدر مع بقاء الإحرام عليه) وقيس على السدر ما يشبهه، وذكر جماعة أنه يكره وجزم به في المستوعب والموفق في المغني والشارح وابن رزين وحكاه الموفق عن أبي حنيفة ومالك والشافعي لتعرضه لقطع الشعر، وعنه يحرم والصحيح الجواز وقاله القاضي وغيره وهو ظاهر ما قدمه في الفروع، وصححه في الكافي وغيره، ومشى عليه في المنتهى والإقناع وغيرهما، ورواية التحريم ضعيفة، والله أعلم، وإن وقع في أظفاره مرض فأزالها من ذلك المرض فلا شيء عليه وتقدم وإن انكسر ظفره فأزال أكثر مما انكسر فعليه فدية ما زاد على المنكسر لعدم الحاجة إلى إزالته بخلاف المنكسر (الثالث من محظورات الإحرام) تعمد تغطية رأس الذكر إجماعاً لنهيه صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس العمائم والبرانس، وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته (ولا تخمروا رأسه) والأذنان من الرأس، ومنه أيضاً النزعتان والصدغ، والتحذيف والبياض فوق الأذنين، فما كان من الرأس حرم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الذكر تغطيته لأن إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها، فإن غطى الرأس أو بعضه حتى أذنيه بلاصق معتاد كعمامة وخرقة وبرنس بالضم: قلنسوة طويلة أو كل ثوب رأسه منه دراعه كانت أو جبة أو غير معتاد ولو بقرطاس فيه دواء أو لا دواء فيه وكعصابة لصداع ونحوه كرمد ولو يسيراً وطين طلاه به أو بحناء أو غيره ولو بنورة حرن بلا عذر وعليه الفدية وفاقاً للأئمة الثلاثة لأنه فعل محرماً في الإحرام يقصد به الترفه أشبه حلق الرأس، فإن فعل ما تقدم من التغطية عمداً لعذر كمرض وبرد شديد جاز ذلك وعليه الفدية وفاقاً للأئمة الثلاثة: وإن كان ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا شيء عليه، قال أبو داود في مسائله للإمام أحمد: إذا استيقظ المحرم من منامه وقد غطى رأسه فليكشفه عنه ولا شيء عليه وليفزع إلى التلبية انتهى، وإن ستره بغير لاصق بأن استظل في محمل ضبطه الجوهري وصاحب القاموس كالمجلس وعكس ابن مالك، ونحوه من هودج وعمارية ومحارة، ومثل ذلك سيارة غير مكشوفة ونحوها حرم بلا عذر وفدى لأن ابن عمر رأى على محرم عوداً يستره من الشمس فنهاه عن ذلك، رواه الأثرم واحتج به أحمد، وكذا لو استظل بثوب ونحوه راكباً ونازلاً كالمحمل، ومثله الاستظلال بالشمسية إذا جعلها فوق رأسه لا حياله كما يأتي، قال الموفق في المغني: ويروى عن الرياشي قال: رأيت أحمد بن المعدل في الموقف في يوم حر شديد وقد ضحى للشمس فقلت له يا أبا الفضل هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة، فأنشأ يقول: ضحيت له كي أستظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا. فوا أسفاً إن كان سعيك باطلا ... ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا. وعن الإمام أحمد رواية بجواز الاستظلال في المحمل وبالثوب ونحوه وفاقاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 لأبي حنيفة والشافعي فعلى هذه الرواية يجوز للمحرم الركوب في السيارة التي ليست مكشوفة وفي الطائرة وعليها يجوز له الاستظلال بالشمسية وإن كان فوق رأسه، والله أعلم. ورخص في الاستظلال بالمحمل ونحوه ربيعة والثوري، وروي ذلك عن عثمان وعطاء، ويجوز للمحرم تلبيد رأسه بعسل وصمغ ونحوه لئلا يدخله غبار أو دبيب أو يصيبه شعث لحديث ابن عمر (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً) متفق عليه. ويجوز أن يحمل على رأسه شيئاً كطبق ومكتل وأن يضع يده على رأسه لأنه لا يستدام ويجوز أن ينصب بحياله أعتي بإزائه ومقابلته شيئاً يستظل به كثوب عن الحر أو البرد أمسكه إنسان أو رفعه بعود لما روت أم الحصين قالت (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقته والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة) رواه أحمد ومسلم، وأجاب الإمام أحمد بأنه يسير لا يراد للاستدامة بخلاف الاستظلال بالمحمل، ومثل نصب الثوب حيال المحرم نصب الشمسية حياله فلا شيء على المستظل بها على المذهب، بخلاف ما إذا كانت فوق رأسه فقد تقدم أنه لا يجوز على المذاهب، وعلى الرواية الأخرى يجوز ولو جعلها فوق رأسه، والله أعلم، ولو استظل بخيمة أو شجرة ولو طرح عليها شيئاً يستظل به تحتها أو استظل بسقف أو جدار ولو قصد به الستر فلا شيء عليه لحديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة بنمرة فنزلها) رواه مسلم، ولو غطى محرم ذكر وجهه جاز ولا إثم ولا فدية، ومن خاف برداً أو استحى من عيب يطلع عليه الناس في بدنه لبس وفدي، ويأتي ذلك إن شاء الله في الرابع والسادس من محظورات الإحرام. (فرع) إذا مات المحرم لم يبطل إحرامه فيغسل بماء وسدر أو صابون ونحوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 لا كافور، ويجنب الطيب وإن كان ذكراً لا يلبس مخيطاً ولا يغطي رأسه وإن كان أنثى لا يغطي وجهها ولا يؤخذ شيء من شعره أو ظفره، وإن فعل به ذلك فلا فدية على فاعله لكن ظاهر الحديث أنه يأثم لمخالفته قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته راحلته (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) . رواه الجماعة. وروي عدم بطلان إحرامه عن عثمان وعلي وابن عباس، وبه قال عطاء والثوري والشافعي وإسحق، وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة: يبطل إحرامه بالموت ويصنع به كما يصنع بالحلال، وروي ذلك عن عائشة وابن عمر وطاوس لأنها عبادة شرعية فبطلت بالموت كالصلاة والصيام، ولنا حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصته راحلته، وهو حجة قاطعة يجب المصير إليها ولا يصار إلى القياس مع وجود راحلته، وهو حجة قاطعة يجب المصير إلها ولا يصار إلى القياس مع وجود الدليل، وقد سبق في فصل الاستنابة في الحج أنه إذا توفي وقد بقي عليه بعض مناسك الحج أنها تفعل عند بعد موته، سواء كانت حجته فرضاً أو نفلا عن نفسه أو عن غيره، وهذا هو الذي مشى عليه في المنتهى والإقناع وغيرهما، وهو المذهب، وقال البخاري في صحيحه: باب المحرم يموت بعرفة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه بقية الحج ثم ذكر حديث الرجل الذي وقصته راحلته وهو واقف بعرفة، قال القسطلاني في شرحه على صحيح البخاري بعد قول المصنف: بقية الحج أي كرمي الجمار والحلق وطواف الإفاضة لأن أثر إحرامه باق لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، وإنما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه بقية الحج لأنه مات قبل التمكن من أداء بقيته فهو غير مخاطب به كمن شرع في صلاة مفروضة أول وقتها فمات في أثنائها فإنه لا تبعة عليه فيها إجماعا انتهى كلام القسطلاني، وقد ذكرنا ذلك استطراداً وإلا فموضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ذكره في فصل الاستنابة تقدم ويأتي في فصل ثم يفيض إلى مكة شيء من ذلك، قال شيخ الإسلام: وأما الرأس فلا يغطيه المحرم لا بمخيط ولا غيره، فلا يغطيه بعمامة ولا قلنسوة ولا كوفية ولا ثوب يلصق به ولا غيره، وله أن يستظل تحت السقف والشجر، ويستظل في الخيمة ونحو ذلك باتفاقهم، وأما الاستظلال بالمحمل كالمحارة التي لها رأس في حال السير فهذا فيه نزاع، والأفضل للمحرم أن يضحي لمن أحرم له كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يضحون، وقد رأى ابن عمر رجلاً ظلل عليه فقال أيها المحرم أضح لمن أحرمت له، ولهذا كان السلف يكرهون القباب على المحامل وهي التي لها رأس، وأما المحامل المكشوفة فلم يكرهها إلا بعض النساك وهذا في حق الرجل دون المرأة، وليس للمحرم أن يلبس شيئاً مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلا لحاجة والحاجة مثل البرد الذي يخاف أن يمرضه إذا لم يغط رأسه أو مثل مرض نزل به يحتاج معه إلى تغطية رأسه فيلبس قدر الحاجة فإذا استغنى عنه نزع وعليه أن يفدي: إما بصيام ثلاثة أيام، وإما بنسك كشاة، وإما بإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو شعير أو مد من بر وإن أطعمه خبزاً جاز انتهى. الرابع: من محظورات الإحرام لُبس الذكر عمداً المخيط قلَّ اللبس أو كثر في بدنه أو بعضه مما عمل على قدر الملبوس فيه من بدن أو بعضه من قميص وعمامة وسراويل وبرنس بضمتين، وهو قلنسوة طويلة أو كل ثوب رأسه منه دراعة كانت أو جبة، والجمع البرانس ونحوها ولو درعاً منسوجاً أو لبداً معقوداً ونحوه مما يعمل على قدر شيء من البدن وكالخفين أو أحدهما للرجلين وكالقفازين تثنية قفاز كتفاح: شيء يعمل لليدين كما يعمل للبزاة، قال القاضي أبو يعلى وغيره: ولو كان المخيط غير معتاد كجورب في كف وخف في رأس فعليه الفدية انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ورانٍ، وهو شيء يلبس تحت الخف كخف، لما روى ابن عمر أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم؟ قال: (لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) رواه الجماعة، وفي رواية لأحمد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول على هذا المنبر وذكر معناه، وفي رواية للدارقطني (أن رجلاً نادى في المسجد ماذا يترك المحرم من الثياب) . قال في الفتح: وهي شاذة، يعني رواية الدارقطني، فتنصيصه على القميص يلحق به ما في معناه من الجبة والدراعة، والعمامة يلحق بها كل ساتر ملاصق أو ساتر معتاد، والسراويل يلحق بها الثياب وما في معناها، ولا فرق بين قليل اللبس وكثيره لظاهر الخبر، فإن لم يجد إزاراً لبس سراويل لقول ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: (من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين) . متفق عليه. وفي رواية عن عمرو بن دينار: أن أبا الشعثاء أخبره عن ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول: (من لم يجد إزاراً ووجد سراويل فيلبسها، ومن لم يجد نعلين ووجد خفين فيلبسهما، قلت: ولم يقل: ليقطعهما؟ قال: لا) . رواه أحمد، وهذا بظاهره ناسخ لحديث ابن عمر بقطع الخفين لأنه قال بعرفات في وقت الحاجة، وحديث ابن عمر كان بالمدينة كما سبق في رواية أحمد والدارقطني، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل) . رواه أحمد ومسلم، ومثل السراويل في المنع من اللبس لو شق إزاره وشد كل نصف على ساق، لأنه في معناه ومتى وجد إزاراً خلع السراويل كالمتيمم يجد الماء، وإن اتزر المحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 بقميص فلا بأس به لأنه ليس لبساً للمخيط المصنوع لمثله، وإن عدم نعلين أو وجدهما ولم يمكن لبسهما لضيق أو غيره لبس خفين ونحوهما من رانٍ وغيره كسر موزة وزر بول وكنادر بلا فدية لظاهر الخبر المتقدم، ولو وجبت لبينها لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وقال في شرح المنتهى: وإن وجد نعلا لا يمكنه لبسها فلبس الخف فدى نصا، قال في الإنصاف: هذا المذهب وقدم في الفروع، واختار الموفق وغيره لا فدية، وجزم به في الإقناع، انتهى كلامه في شرح المنتهى. وإذا ليس الخفين لعدم النعلين لم يلزمه قطعهما في المشهور عن أحمد، وفي المنتهى والإقناع وغيرهما يحرم قطعهما لحديث ابن عباس وجابر السابقين فإنهما لم يذكرا فيهما قطع الخفين، ولقول علي: قطع الخفين فساد، ولأن الخف ملبوس أبيح لعدم غيره أشبه لبس السراويل من غير فتق عند عدم الإزار ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وقال أبو الشعثاء لابن عباس: لم يقل: ليقطعهما؟ قال: لا. رواه أحمد، وروى أيضاً عن عمر: الخفان نعلان لمن لا نعل له، وعن الإمام أحمد رواية بقطع الخفين ونحوهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، وجوَّزه جمع، قال الموفق وغيره، والأولى قطعهما عملاً بالحديث الصحيح حديث ابن عمر وخروجاً من الخلاف وأخذاً بالاحتياط، قال الشارح والذي قاله صحيح فعلى رواية القول بالقطع إذا لبس الخفين من غير قطع فدى وهو قول عروة بن الزبير، ومالك بن أنس، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر، وأصحاب الرأي لحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم. وأجيب عن ذلك بأن زيادة القطع لم يذكرها جماعة، وروى أنها من قول ابن عمر ولو سلم صحة رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهي بالمدينة، وخبر ابن عباس بعرفات، فلو كان القطع واجباً لبينه صلى الله عليه وسلم للجمع العظيم الذي لم يحضر كثير منهم كلامه في المدينة في موضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 البيان ووقت الحاجة. فإن قيل حديث ابن عمر فيه زيادة لفظ القطع. قيل خبر ابن عباس وجابر فيهما زيادة حكم وهو جواز اللبس بلا قطع فيكون هذا الحكم لم يشرع بالمدينة وهذا أولى من دعوى النسخ، وبهذا يجاب عن قول الخطابي: العجب من أحمد في هذا من قوله بعدم القطع فإنه لا يخالف سنة تبلغه وقلَّت سنة لم تبلغه، وفيما قاله الخطابي شيء فإنه قد يخالف لمعارض راجح كما هو عادة المتبحرين في العلم الذين أيدهم الله بمعونته في جمعهم بين الأخبار، فإن قلنا بالترجيح أمكن ترجيح المطلق بأنه ثابت من حديث ابن عباس وجابر كما تقدم، ورواية اثنين أرجح من رواية واحد أعني عبد الله بن عمر الذي نص في حديثه على القطع والله أعلم، قال في المغني فإن لبس المقطوع مع وجود النعل فعليه الفدية وليس له لبسه نص عليه أحمد، وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة لا فدية عليه لأنه لو كان لبسه محرماً وفيه فدية لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعهما لعدم الفائدة فيه، وعن الشافعي كالمذهبين، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط في إباحة لبسهما عدم النعلين فدل على أنه لا يجوز مع وجودها، ولأنه مخيط العضو على قدره فوجبت على المحرم الفدية يلبسه كالقفازين انتهى. قال في الإقناع وشرحه: وإن لبس مقطوعاً من خف وغيره دون الكعبين مع وجود نعل حرم كلبس الصحيح لأن قطعه كذلك لا يخرجه عن كونه مخيطاً وفدى للبسه كذلك انتهى. قال في شرح المنتهى. وإن لبس خفاً مقطوعاً دون الكعبين مع وجود نعل حرم وفدى انتهى. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والأفضل أن يحرم في نعلين إن تيسر، والنعل هي التي يقال لها التاسومة، فإن لم يجد نعلين لبس خفين وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقطع أولا ثم رخص بعد ذلك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 عرفات في لبس السراويل لمن لم يجد إزاراً، ورخص في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، وإنما رخص في المقطوع أولا لأنه يصير بالقطع كالنعلين ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يلبس ما دون الكعبين مثل الخف المكعب والجمجم والمداس ونحو ذلك سواء كان واجداً للنعلين أو فاقداً لهما، وإذا لم يجد نعلين ولا ما يقوم مقامهما مثل الجمجم والمداس ونحو ذلك فله أن يلبس الخف ولا يقطعه، وكلك إذا لم يجد إزاراً فإنه يلبس السراويل ولا يفتقه، هذا أصح قولي العلماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في البدل في عرفات كما رواه ابن عباس انتهى كلامه رحمه الله. قال في الفروع: وذكر القاضي جوازه وابن عقيل في مفرداته وصاحب المحرر وشيخنا، يعني جواز لبس المقطوع مع وجود نعل: لأنه ليس بخف، وإنما أمرهم بالقطع أولا لأن رخصة البدل لم تكن شرعت لأن المقطوع يصير كنعل فإباحته أصلية، وإنما المباح بطريق البدل الخف المطلق انتهى كلام الفروع، وهو وجيه موافق لكلام شيخه شيخ الإسلام، قال في الإقناع وشرحه: ويباح للمحرم النعل لمفهوم ما سبق، وهي الحذاء وهي مؤنثة وتطلق على التاسومة ولو كانت النعل بعقب وقيد، وهو السير المعترض على الزمام انتهى. قلت مقتضى الحديث سنية لبس النعلين عند الإحرام، والله أعلم. ولا يعقد المحرم عليه شيئاً من منطقة ولا رداء ولا غيرهما لقول ابن عمر (ولا يعقد عليه شيئاً) رواه الشافعي، وليس له أن يجعل للمنطقة والرداء ونحوهما زراً وعروة ولا يخله بشوكة أو إبرة أو خيط ولا يغرز أطرافه في إزاره فإن فعل من غير حاجة أثم وفدى لأنه كمخيط، ومثل ذلك الحزام الذي يجعل فيه رصاص البندق فإنه ممنوع لبسه على المحرم إذا زره قياساً على المنطقة التي لها زر وعروة ما لم يكن حاجة للبسه كخوف، والله أعلم. ويجوز للمحرم شد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وسطه بمنديل وحبل ونحوهما إذا لم يعقده، قال الإمام أحمد في محرم حزم عمامته على وسطه لا يعقدها ويدخل بعضها في بعض لاندفاع الحاجة بذلك، قال طاوس فعله ابن عمر إلا إزاره فله عقده لحاجة ستر العورة وإلا هميانه ومنطقته اللذين فيهما نفقته إذا لم يثبتا إلا بالعقد لقول عائشة (أوثق عليك نفقتك) ، وروي عن ابن عباس وابن عمر معناه، بل رفعه بعضهم، ولأن الحاجة تدعو إلى عقدهما فجاز كعقد الإزار، فإن ثبتا بغير العقد، كما لو أدخل السيور بعضها في بعض لم يجز عقدهما إلا لحاجة وكما لو لم يكن فيهما نفقة وإن لم يكن في منطقة أو هميان نفقة لم يعقدهما، فإن عقدهما ولو كان لبسهما لحاجة أو وجع ظهر فدى كما لو لبس مخيطاً لحر أو برد، وله حمل جراب وقربة الماء في عنقه ولا فدية عليه ولا يدخل حبلها في صدره نص عليه. قلت ومثله حمل الساعة وجعل حبل الكيس في عنقه، وأما إذا جعل الساعة في ذراعه وزرها فالظاهر أنه لا يجوز قياساً على المنطقة التي لبسها لغير حاجة والله أعلم. قال شيخ الإسلام: وله أن يعقد ما يحتاج إلى عقده كالإزار وهميان النفقة، والرداء لا يحتاج إلى عقده فلا يعقده وإن احتاج إلى عقده ففيه نزاع والأشبه جوازه حينئذ، وهل المنع من عقده منع كراهة أو تحريم؟ فيه نزاع وليس على تحريم ذلك دليل إلا ما نقل عن ابن عمر أنه كره عقد الرداء، وقد اختلف المتبعون لابن عمر فمنهم من قال هو كراهة تنزيه كأبي حنيفة وغيره، ومنهم من قال كراهة تحريم انتهى كلامه. ويجوز للمحرم أن يلتحف بقميص، أعني يغطي به جسده ما عدا رأسه ويرتدي به وبرداء موصلز قال في الإقناع: ولو لبس إزاراً موصلاً أو اتشح بثوب مخيط أو اتزر به جاز انتهى لأن ذلك كله ليس بلبس للمخيط المصنوع لمثله، وقد أحرم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرة في رداء فيه بضع عشرة رقعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وإذا طرح على كتفيه قباء ونحوه كعباءة فدى ولو لم يدخل يديه في كميه، هذا المذهب لما روى ابن المنذر مرفوعاً أنه نهى عن لبس الأقبية للمحرم ورواه البخاري عن علي ولأنه عادة لبسه كالقميص، وقال الخرقي في مختصره وإن طرح على كتفيه القباء فلا يدخل يديه في الكمين، قال الموفق في المغني: ظاهر هذا اللفظ إباحة لبس القباء ما لم يدخل يديه في كميه وهو قول الحسن وعطاء وإبراهيم، وبه قال أبو حنيفة، وقال القاضي وأبو الخطاب: إذا أدخل كتفيه في القباء فعليه الفدية وإن لم يدخل يديه في كميه وهو مذهب مالك والشافعي لأنه مخيط لبسه المحرم على العادة في لبسه فلزمته الفدية إذا كان عامداً كالقميص، وروى ابن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الأقبية، ووجه قول الخرقي ما تقدم من حديث عبد الرحمن بن عوف في مسألة إن لم يجد إزاراً لبس السراويل، وإن لم يجد نعلين لبس الخفين، ولأن القباء لا يحيط بالبدن فلم تلزمه الفدية بوضعه على كتفيه إذا لم يدخل يديه في كميه كالقميص يتشح به، وقياسهم منقوض بالرداء الموصل، والخبر محمول على لبسه مع إدخال يديه في كميه، انتهى كلام الموفق، فعلى اختيار الخرقي والموفق، ومن تقدم ذكرهم يجوز للمحرم طرح العباءة ونحوها على كتفيه من غير أن يدخل يديه في الكمين والله أعلم. قال شيخ الإسلام: وكذلك يجوز للمحرم أن يلبس كل ما كان من جنس الإزار والرداء فله أن يلتحف بالقباء والجبة والقميص ونحو ذلك ويتغطى به باتفاق الأئمة عرضاً ويلبسه مقلوباً يجعل أسفله أعلاه ويتغطى باللحاف وغيره لكن لا يغطي رأسه إلا لحاجة، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن يلبس القميص والبرنس والسراويل والخف والعمامة ونهاهم أن يغطوا رأس المحرم بعد الموت وأمر من أحرم في جبة أن ينزعها عنه، فما كان من هذا الجنس فهو في معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان في معنى القميص فهو مثله، وليس له أن يلبس القميص لا بكم ولا بغير كم، وسواء أدخل فيه يديه أو لم يدخلهما، وسواء كان سليماً أو مخروقاً، وكذلك لا يلبس الجبة ولا القباء الذي يدخل يديه فيه وكذلك الدرع وأمثال ذلك باتفاق الأئمة، وأما إذا طرح القباء على كتفيه من غير إدخال يديه ففيه نزاع، وهذا معنى قول الفقهاء لا يلبس المخيط، والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو، وكذلك لا يلبس ما كان في معنى الخف كالموق والجورب ونحو ذلك، ولا يلبس ما كان في معنى السراويل كالتبان ونحو. انتهى كلامه رحمه الله. وإذا كان به شيء من قروح أو غيرها لا يحب أن يطلع عليه أحد لبس وفدى نص عليه أحمد، ولو خاف المحرم من برد لبس وفدى كما لو اضطر إلى أكل صيد، وله لبس خاتم وتقلد بسيف لحاجة كخوف عدو ونحوه لما روى البراء بن عازب قال (لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلها إلا بجلبان السلاح القراب بما فيه) متفق عليه، وهذا ظاهر في إباحته عند الحاجة لأنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد، ومنع الإمام أمد أن يتقلد بالسيف لغير حاجة، وإنما منع أحمد من تقلده لغير حاجة لأنه في معنى اللبس، وقال الموفق: القياس يقتضي إباحته لأنه ليس في معنى اللبس كما لو حمل قربة في عنقه، ولا يجوز حمل السلاح بمكة لغير حاجة، وهذا المذهب لما روى مسلم عن جابر مرفوعاً (لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة) وقال أبو داود في مسائله لأحمد وساق بسنده إلى بسطام بن مسلم قال سألت الحسن ومحمد بن سيرين عن الرجل يخرج إلى مكة ويحمل معه السلاح فلم يريا به بأساً انتهى. قال المجد بن تيمية في المنتقي: باب المحرم يتقلد بالسيف للحاجة، عن البراء قال (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم لا يدخل مكة سلاحاً إلا في القراب) وعن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحال كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ولا يحمل سلاحاً عليهم إلا سيوفا ولا يقيم إلا ما أحبوا فاعتمر في العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثة أيام أمروه أن يخرج فخرج) رواهما أحمد والبخاري، وهو دليل على أن للمحصر نحر هديه حيث أحصر انتهى، والقراب بكسر القاف هو وعاء يجعل فيه راكب البعير سيفه مغمداً ويطرح فيه الراكب عصاه ونحوها ويعلقه في الرحل، ففي هذين الحديثين دليل على جواز حمل السلام بمكة للعذر والضرورة فيخصص بهذين الحديثين عموم حديث جابر عند مسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح) فيكون هذا النهي فيما عدا من حمله للحاجة والضرورة، ويخصص بهذين الحديثين أيضا عموم قول ابن عمر رضي الله عنه للحجاج بن يوسف: (حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم) . رواه البخاري. الخامس: من محظورات الإحرام تعمد الطيب إجماعاً لأنه صلى الله عليه وسلم أمر يعلى بن أمية بغسل الطيب، وقال في المحرم الذي وقصته ناقته (لا تحنطوه) متفق عليهما، ولمسلم (لا تمسوه بطيب) فيحرم على المحرم بعد إحرامه تطييب بدنه وثيابه أو شيء منهما، ولو كان التطييب له في غيره بإذنه، وكذا لو سكت ولم ينهه وتقدم، وسبق حكم ما لو تطيب قبل إحرامه ثم استدامه ويحرم على المحرم لبس ما صبغ بزعفران أو ورس لحديث ابن عمر، وفيه (ولا ثوباً مسه زعفران أو ورس) والورس نبت أصفر يكون باليمن تتخذ منه الحمرة للوجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 قاله الجوهري، وفي القاموس: الورس نبات كالسمسم ليس إلا باليمن يزرع فيبقى عشرين سنة، نافع للكلف طلاء وللبهق شرباً انتهى. ويحرم على المحرم لبس ما غمس في ماء وردد أو بخر بعود ونحوه كعنبر لأنه مطيب، ويحرم عليه أيضاً الجلوس والنوم على ما صبغ بزعفران أو ورس أو غمس في ماء ورد أو بخر بعود أو نحوه، فإن فرش فوق الطيب ثوباً صفيقاً يمنع الرائحة والمباشرة غير ثياب بدنه فلا فدية بالنوم عليه ولا بالجلوس عليه لأنه لا يعد مستعملا له، بخلاف ثياب بدنه ولو صفيقة، ويحرم على المحرم الاكتحال بمطيب والاستعاط بمطيب والاحتقان بمطيب لأنه استعمال للطيب أشبه شمه، ويحرم على المحرم قصد شم الأدهان المطيبة كدهن ورد ودهن عود ودهن بنفسج بفتح الباء والنون والسين معرب بوزن سفرجل، شمه رطباً ينفع المحرورين وإدامة شمه ينوم نوماً صالحاً ومرباه ينفع من ذات الجنب وذات الرئة، نافع للسعال والصداع قاله في القاموس، ودهن خيري، وهو المنثور، ودهن زنبق بوزن جعفر يقال هو الياسمين قاله الشيخ موسى الحجاوي في حاشية الإقناع، وقال الشيخ منصور: والمعروف أنه غيره لكنه قريب منه في طبعه انتهى. قال في القاموس الزنبق كجعفر: دهن الياسمين وورد انتهى. فإن فعل وقصد شم هذه المذكورات ووجد رائحة الطيب حرم وفدى، ويحرم على المحرم الإدهان بالأدهان المطيبة لأنها تقصد رائحتها وتتخذ للطيب أشبهت ماء الورد، ويحرم على المحرم شم مسك وكافور وعنبر وغالية، قال في المصباح: الغالية أخلاط من الطيب، وتغليت بالغالية وتغللت إذا تطيبت بها انتهى، وماء ورد وزعفران وورس وتبخر بعود ونحوه كعنبر لأنها هكذا تستعمل، ويحرم على المحرم أكل وشرب ما فيه طيب يظهر طعمه أو ريحه ولو مطبوخاً أو مسته النار حتى ولو ذهبت رائحته وبقي طعمه لأن الطعم مستلزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الرائحة ولبقاء المقصود منه، فإن بقي اللون فقط دون الطعم والرائحة فلا بأس بأكله لذهاب المقصود منه، وإن مس من الطيب ما لا يتعلق بيده كمسك غير مسحوق وقطع كافور وقطع عنبر وقطع عود ونحوه فلا فدية عليه بذلك، لأنه غير مستعمل للطيب، وله شم قطع العود، لأنه لا يتطبب به إلا بالتبخير، ولو شم الفواكه كلها من الأترج والبرتقال واللومي والتفاح والسفرجل والموز وغيرها، وكذا نبات الصحراء كشيح، وخزامى، وقيصوم، وإذخر، ونحوه مما لا يتخذ طيبا وكذا ما ينبته الآدمي لغير قصد الطيب كحناء وعصفر. قال في القاموس: هو نبت يهري اللحم الغليظ وبذره القرطم انتهى. وله شم القرنفل والهيل وجعلهما في القهوة والأكل لأنهما لا يدخلان في مسمى الطيب وإنما يستعملان غالباً في الأبازير، وقد نص الفقهاء على أن القرنفل ليس من الطيب فيكون الهيل من باب أولى لأن القرنفل أفضل الأفاويه الحارة وأذكاها وأشهرها عند العرب، كما قال امرؤ القيس في معلقته المشهورة: إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل إذا تقرر هذا فإن الهيل لا يدخل في مسمى الطيب، والله أعلم، وله شم. دار صيني ومن أنواعه القرفة، وشم زرنب قال في القاموس: الزرَّنب طيب أو شجر طيب الرائحة والزعفران انتهى، وللمحرم شم ما ينبته الآدامي لطيب ولا يتخذ منه طيب كريحان فارسي، وهو الحبق. قال في القاموس: نبات طيب الرائحة فار سيَّته: الفوتنج، يشبه النمام، وحبق الماء وحبق التمساح: الفوتنج النهري، وخص الريحان الفارسي بعض العلماء بالضميران، وهو صنف من الريحان الفارسي. قال بعضهم: هو العنبج المعروف بالشام بالريحان الجمام لاستدارته على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الأصل واحد انتهى، وماء ريحان وفواكه والعصفر والقرنفل ونحوها كهو فيحل للمحرم استعماله، قال في الإقناع وشرحه: والريحان عند العرب هو الآس ولا فدية في شمه قطعاً قاله في المبدع انتهى، قال في شرح المنتهى: والريحان عند العرب الآس ولا فدية في شمه انتهى. (تنبيه) : ذكر الفقهاء أن الريحان نوعان أحدهما يسمى عند العرب الآس والآخر يسمى الريحان الفارسي وهو الحبق وأنه لا فدية في شمهما، والمعروف الآن من الريحان بالديار النجدية نوع من أفخر الطيب سوى المذكورين وفيه الفدية إذا قصد المحرم شمه والله أعلم، وله شم نرجس قال في القاموس: النرجس بفتح النون وكسرها معروف نافع شمه للزكام والصداع الباردين وأصله منقوع في الحليب ليلتين يطلى به ذكر العنين فيقيمه ويفعل عجيباً انتهى، والنرجس بفتح النون وكسرها وكسر الجيم أعجمي معرّب، وله شم التمام، قال في القاموس التمام نبت طيب مدر يخرج الجنين الميت والدود ويقتل القمل وخاصته النفع من لسع الزنانير شرباً مثقالاً بسكنجبين انتهى. وله شم برم وهو ثمر العضاة كأم غبلان وهي شجر السمر، وله شم مرزجوش، قال في القاموس: بالفتح المرد قوش معرب مر رنكوش وعربيته السمسق نافع لعسر البول والمغص ولسعة العقرب والأوجاع العارضة من البرد والماليخوليا والنفخ واللقوة وسيلان اللعاب من الفم مدر جداً مجفف رطوبات المعدة والأمعاء انتهى. قال في المغني: الثاني ما ينبته الآدميون للطيب ولا يتخذ منه طيب كالريحان الفارسي والمرزجوش والنرجس والبرم ففيه وجهان: أحدهما يباح بغير فدية قاله عثمان بن عفان وابن عباس والحسن ومجاهد وإسحق، والآخر يحرم شمه فإن فعل فعليه الفدية وهو قول جابر وابن عمر والشافعي وأبي ثور لأنه يتخذ للطيب فأشبه الورد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وكرهه مالك وأصحاب الرأي ولم يوجبوا فيه شيئاً، وكلام أحمد فيه محتمل لهذا فإنه قال في الريحان: ليس من آلة المحرم ولم يذكر فديته وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب فأشبه العصفر انتهى كلام صاحب المغني، والمذهب جواز شم المرزجوش والنرجس والبرم والريحان الفارسي كما تقدم، ويفدي المحرم بشم ما ينبته الآدمي لطيب ويتخذ منه كورد وبنفسج وخيري بكسر الخاء وتشديد الباء آخره وهو المنثور، والنيلوفر، قال في القاموس: النيلوفر ويقال النينوفر: ضرب من الرياحين ينبت في المياه الراكدة بارد في الثالثة رطب في الثانية مليِّن صالح للسعال وأوجاع الجنب والرئة والصدر، وإذا عجن أصله بالماء وطلى به البهق مرات أزاله، وإذا عجن بالزفت أزال داء الثعلب. انتهى. ويقدي المحرم بشم ياسمين وبان قال في القاموس: البان شجر ولحب ثمره دهن طيب وحبه نافع للبرش والنمش والكلف والحصف والبهق والسعفة والجرب وتقشر الجلد طلاءً بالخل وصلابة الكبد والطحال شرباً بالخل، ومثقال منه شربا مقيء مطلق بلغماً خاصاً انتهى، ويفدي بشم الزنبق ولا فدية بادهان بدهن غير مطيب كزيت شيرج وسمن ودهن البان حتى في رأسه لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم) رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث فرقد السنجي، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وقد تكلم يحيى بن سعيد في فرقد، وقد روى عنه الناس انتهى، وحديث ابن عمر هذا في إسناده المقال الذي أشار إليه الترمذي ومن عدا فرقدا فهم ثقات، وقوله: غير مقتت، قال في القاموس: زيت مقتت: طبخ فيه الرياحين أو خلط بأدهان طيبة انتهى. قال في المغني: قال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم على أن للمحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن، ونقل الأثرم جواز ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 عن ابن عباس وأبي ذر الأسود بن يزيد وعطاء والضحاك وغيرهم، ونقل أبو داود عن أحمد أنه قال: الزيت الذي يؤكل لا يدهن المحرم به رأسه، فظاهر هذا أنه لا يدهن رأسه بشيء من الأدهان وهو قول عطاء والشافعي ومالك وأبي ثور وأصحاب الرأي لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر، فأما دهن سائر البدن فلا نعلم عن أحمد فيه منعاً وإنما الكراهة في الرأس خاصة، وقال القاضي في إباحته في جميع البدن روايتان، فإن فعله فلا فدية فيه في ظاهر كلام أحمد سواء دهن رأسه أم غيره إلا أن يكون مطيباً إلى أن قال: ولنا أن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولا دليل فيه من نص ولا إجماع، ولا يصح قياسه على الطيب انتهى ملخصاً، إذا تقرر هذا فالذي عليه أكثر لأصحاب إباحة الأدهان بالزيت والشيرج والسمن والشحم ونحو ذلك إذا لم يكن فيه طيب حتى في رأسه وهو المذهب والله أعلم. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وأما الدهن في رأسه أو بدنه بالزيت والسمن ونحوهما إذا لم يكن فيه طيب ففيه نزاع مشهور، وتركه أولى انتهى. وإن جلس عند عطار أو جلس في موضع ليشم الطي فشمه مثل من قصد الكعبة حال تجميرها أو حمل شيئاً فيه مسك ليجد ريحه فدى إن شمه، نص عليه لأنه شمه قاصداً أشبه ما لو باشره فإن لم يقصد شمه كالجالس عند عطار لحاجة وكداخل السوق مثل السوق المسمى في مكة بسويقة، بالتصغير لا لشم طيب أو داخل الكعبة للصلاة لا لشم طيب، وكمن يشتري طيباً لنفسه أو للتجارة ولا يمسه فغير ممنوع لأنه لا يمكن الاحتراز منه ولمشتريه حمله وتقليبه إذا لم يمسه ولو ظهر ريحه لأنه لم يقصد الطيب ولم يستعمله، وقليل الطيب وكثيره سواء للعمومات، ولو قبل الحجر الأسود وشم فيه طيباً لم يضره ذلك، ما لم يقصد شم الطيب، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 (تنبيه) : إذا تطيب ناسياً أو عامداً لزمه إزالته بمهما أمكن من الماء وغيره من المائعات لأن القصد الإزالة، فإن لم يجد مائعاً يزيل به الطيب فإن يزيله بما أمكنه من الجاهدات كحكه بخرقة وتراب وورق شجر وحجر وخشب لأن الواجب إزالته حسب الإمكان وقد فعل. وله غسله بنفسه ولا شيء عليه لملاقاة الطيب لأنه تارك، والأفضل الاستعانة على غسله بحلال لئلا يباشره ويقدم غسله على غسل نجاسة وحدث، لكن إن قدر على قطع رائحته بغير الماء فعل وتوضأ بالماء لأن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته. السادس من محظورات الإحرام قتل صيد البر المأكول وذبحه إجماعاً لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) واصطياده لقوله تعالى: (وحرّم عليكم صيد البر ما دمتم حُرما) وأذاه ولو لم يقتله أو يجرحه في الاصطياد أو الأذى، وصيد البر هو ما كان وحشياً أصلاً لا وصفاً فلو تأهل كحمام وبط وظبا ضمنه اعتباراً بأصله ولا ضمان إن توحش أهلي من إبل أو بقر أو غيرهما فلا يحرم قتله للأكل ولا جزاء فيه، ويحرم قتل واصطياد متولد من المأكول وغيره كالسمع وهو ولد الضبع من الذئب تغليباً للتحريم كما غلبوا تحريم أكله على الحلال، لكن يفديه المحرم إذا قتله لتحريم قتله، ويحرم قتله واصطياد متولد بين وحشي وأهلي وبين وحشي وغير مأكول لما تقدم، فحمام وبط وحشيّان وإن تأهلا وبقر وجواميس أهلية وإن توحشت اعتباراً بالأصل، وإذا أتلف المحرم صيداً أو تلف في يده أو بعضه بمباشرة أو سبب ولو بجناية دابة هو المتصرف فيها بأن كان راكباً أو سائقاً أو قائداً فعليه جزاؤه إن كان الإتلاف بيدها أو فمها لا برجلها نفحاً ولا وطئاً، ومثل ذلك سائق السيارة إذا أتلف صيداً بمباشرة أو سبب، والله أعلم. أما كونه يضمنه بالجزاء إذا أتلفه فبالإجماع لقوله تعالى: (ومن قتله منكم متعمداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم) . وأما كونه يضمنه إذا تلف في يديه فلأنه تلف تحت يد عادية أشبه ما لو أتلفه، إذ الواجب على المحرم إما إرساله أو رده على مالكه. وأما ضمان جزئه بالإتلاف والتلف فلأن جملته مضمونة فضمنت أبعاضه كالآدمي والمال، وإن انفلتت الدابة منه فأتلفت صيداً أو بعضه فلا جزاء عليه، ويحرم على المحرم الدلالة على الصيد والإشارة والإعانة ولو بإعارة سلاح ليقتله أو يذبحه به سواء كان مع الصائد ما يقتله به أو لا، أو يناوله سلاحه أو سوطه أو يدفع إليه فرساً لا يقدر على أخذ الصيد إلا به لحديث أبي قتادة المتفق عليه، ويضمن المحرم الصيد بالدلالة عليه والإشارة إليه والإعانة عليه بشيء مما تقدم. قال الشيخ عثمان بن قائد: وقد ذكروا أن من دفع لشخص آله فقتل بها شخصاً انفرد القاتل بالضمان، ولعل الفرق أن الآدمي لما كان من شأنه الدفع عن نفسه ولا يقدر عليه إلا بمزيد قوة قويت المباشرة فلم يلحق بها السبب بخلاف الصيد فإن من شأنه أن لا يدفع عن نفسه فضعفت المباشرة فألحق بها السبب. انتهى كلامه. ولا ضمان على دال ولا مشير بعد أن رآه من يريد صيده، وكذا لو أعاره آلة لغير الصيد فاستعملها في الصيد لأن ذلك غير محرم، ولا تحرم دلالة على طيب ولباس لعدم ضمانهما بالسبب، ولا تحرم دلالة حلال محرماً على صيد بغير الحرم لأن صيد الحلال حلال بغير الحرم فدلالته أولى ويضمنه المحرم إذا قتله لقوله تعالى: (ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم) إلا أن يكون الصيد في الحرم فيشترك الحلال والمحرم في الجزاء كالمحرمين لتحريم صيد الحرم على الحلال والمحرم، فإن اشترك في قتل صيد حلال ومحمر أو سبع ومحرم في الحل فعلى المحرم الجزاء جميعه ثم إن كان جرح أحدهما قبل صاحبه والسابق بالجرح الحلال أو السبع فعلى المحرم جزاؤه مجروحاً اعتباراً بحال جنايته عليه لأنه وقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الضمان، وإن سبقه المحرم فجرحه وقتله الحلال أو السبع فعلى المحرم أرش جرحه فقط لأنه لم يوجد منه سوى الجرح. قلت هكذا ذكر الأصحاب، والظاهر أن المحرم إذا جرح الصيد جرحاً لا يتمكن معه من الامتناع ولا يعيش بعده فإنه يلزمه جزاؤه كله، ولو قتله الحلال أو السبع بعد الجرح المذكور، والله سبحانه أعلم. وإن كان جرحهما في حالة واحدة أو أحدهما بعد الآخر ومات منهما فالجزاء كله على المحرم تغليباً للوجوب، وإذا دل محرم محرماً على صيد ثم دل الآخر آخراً ثم كذلك إلى عشرة مثلاً فقتله العاشر فالجزاء على جميعهم لاشتراكهم في الإثم والتسبب في القتل، ولو دل حلالُ حلالاً على صيد في الحرم فكدلالة محرم محرماً على الصيد فيكون جزاؤه بينهما نص عليه أحمد، وإن نصب حلال شبكة ونحوها ثم أحرم، أو أحرم ثم حفر بئراً بحق كأن حفرها بداره ونحوها من ملكه أو موات أو للمسلمين بطريق واسع لم يضمن ما تلف بذلك لعدم تحريمه ما لم يكن حيلة على الاصطياد فإن كان حيلة ضمن، وإن لم يكن حفر البئر بحق كحفرها بطريق ضيق ونحوه ضمن ما تلف بها من الصيد كالآدامي إذا تلف في هذه المسألة ويحرم على المحرم أكل ما صاده هو أو غيره من المحرمين أو ذبحه أو دل عليه حلالاً أو أعانه عليه أو أشار إليه لحديث أبي قتادة المتفق عليه، ويحرم على المحرم أكل ما صيد لأجله لما في الصحيحين من حديث الصعب بن جثامة وعلى المحرم الجزاء إن أكل ما صيد لأجله لأنه إتلاف منع منه بسبب الإحرام بخلاف قتل المحرم صيداً ثم يأكله فإنه يضمنه لقتله لا لأكله، نص عليه لأنه مضمون بالجزاء فلم يتكرر كما يأتي، وإن أكل المحرم بعض ما صيد لأجله ضمنه بمثله من اللحم لضمان أصله لو أكله كله بمثله من النعم ولا مشقة في ضمان البعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بمثله من اللحم لجواز عدول المحرم إلى عدل البعض من طعام أو صوم، ولا يحرم على المرء أكل غير ما صيد أو ذبح له إذا لم يدل ونحوه عليه، فلو ذبح مُحِلٌ صيداً لغيره من المحرمين حرم على المذبوح له لما سبق، ولا يحرم على غيره من المحرمين، وما حرم على محرم للدلالة أو إعانة أو صيد أو ذبح له لا يحرم على محرم غير الدال أو المعين، أو الذي صيد أو ذبح له كما لا يحرم على الحلال، وإن قتل المحرم صيداً ضمنه لقتله لا لأكله وتقدم لأنه ميتة يحرم أكله على جميع الناس كما يأتي، والميتة غير متمولة فلا تضمن، وبيض الصيد ولبنه مثله فيما سبق، ويحرم تنفير الصيد، فإن نفره فتلف أو نقص في حال نفوره ضمن التالف بمثله أو قيمته وما نقص بأرشه، وإن أتلف المحرم بيض صيد ولو بنقله فجعله تحت صيد آخر أو لم يجعله أو ترك مع بيضه بيضاً آخر فنفر أو جعل مع بيضه شيئاً فنفر الصيد عن بيضه حتى فسد البيض ضمنه بقيمته مكانه لقول ابن عباس: في بيض النعام قيمته، ويضم لبن الصيد بقيمته ولا يضمن البيض المذر ولا ما فيه فرخ ميت لأنه لا قيمة لو سوى بيض النعام فإن لقشرة قيمة فيضمنه بقيمته وإن كان مذِراً أو فيه فرخ ميت، وإن باض على فراشه أو متاعه صيد فنقل البيض برفق ففسد البيض بنقله فكجراد تفرَّش في طريقه فيضمنه، وإن كسر بيضة فخرج منها فرخ فعاش فلا شيء فيه، وإن مات بعد خروجه ففيه ما في صغار أولاد المتلف بيضه، ففي فرخ الحمام: صغير أولاد النغم، وفي فرخ النعامة: حوار بضم الحاء المهملة صغير أولاد الإبل، وفيما عداهما قيمته لأن غيرهما من الطيور يضمن بقيمته، ولا يحل لمحرم أكل بيض الصيد إذا كسره هو أو محرم غيره ويحل للحلال، وإن كسره حلال فكلحم صيد إن كان أخذه لأجل المحرم لم يبح للمحرم أكله كالصيد الذي ذبح لأجله، وإن لم يكن الحلال أخذه لأجل المحرم أبيح للمحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 كصيد ذبحه حلال لا لقصد المحرم، ولو كان الصيد مملوكاً وأتلفه المحرم ضمنه جزاء لمساكين الحرم وقيمة لمالكه لأنهما سببان مختلفان، ولا يملك المحرم الصيد ابتداء أعني ملكا متجدداً بشراء ولو بوكيله ولا باتهاب ولا باصطياد، فإن أخذه بأحد هذه الأسباب ثم تلف فعليه جزاؤه، وإن كان مبيعاً وتلف بيد المحرم المشتري فعليه القيمة لمالكه لأنه مقبوض بيد فاسد فيضمنه كصحيحه، وعليه الجزاء لمساكين الحرم، وإن أخذه المحرم رهناً لم يصح، وإن تلف في يده فعليه الجزاء فقط لمساكين الحرم، ولا يضمنه لمالكه لأن صحيح الرهن لا ضمان فيه ففاسده كذلك وإن لم يتلف فعليه رده إلى مالكه لفساد العقد، فإن أرسل المحرم الصيد فعليه ضمانه لمالكه ولا جزاء فيه، وعلى المحرم رد الصيد المبيع أيضاً لمالكه لفساد العقد، ولا يسترد المحرم الصيد الذي باعه وهو حلال بخيار ولا عيب في ثمنه ولا غير ذلك، وإن رد الصيد المشتري على البائع المحرم بعيب في الصيد أو خيار للمشتري ذلك لقيام سبب الرد ثم لا يدخل في ملك المحرم لعدم أهليته لتملكه، وعلى هذا يكون أحق به فيملكه إذا حل ويلزم المحرم إرساله، ويملك المحرم الصيد بإرث لأنه أقوى من غيره ولا فعل منه، وفي معنى الإرث تنصف الصداق كأن أصدق امرأته صيداً وهو حلال ثم طلقها وهو محرم عاد نصفه عليه قهراً إذا كان الطلاق قبل الدخول، وإن أمسك المحرم صيداً حتى تحلل من إحرامه لزمه إرساله، فإن تلف الصيد قبل إرساله أو ذبحه بعد تحلله أو أمسك محرم أو حلال صيد حرم وخرج به إلى الحل ضمنه لأنه تلف بسبب كان في الإحرام أو الحرم، أو ذبح محل صيد حرم مكة ضمنه وكان الصيد ميتة في الصور المتقدمة، قال في المنتهى وشرحه: وإن أمسكه أي الصيد محرماً بالحرم أو الحل أو أمسكه حلالاً بالحرم فذبحه المحرم ولو بعد حله من إحرامه أو ذبحه ممسكه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 بالحرم ولو بعد إخراجه من الحرم إلى الحل ضمنه وكان ما ذبح لغير حاجة أكله ميتة نصاً، ولو ذبح محل صيد حرم فكالمحرم فما لغير حاجة أكله ميتة انتهى ملخصاً. قال الخلوتي في حاشيته على المنتهى قوله فكالمحرم قال: يعني الشيخ منصوراً في الحاشية، أي فيكون ميتة انتهى. أقول: انظر النكتة في ذكر المسألة مع اندراجها في قوله: وإن أمسكه محرماً أو حلالاً بالحرم إلى آخره وحرره، انتهى كلام الخلوتي. قال بعض الأذكياء فيما كتبه على شرح المنتهى. أقول: نظرت فيه فظهر أن النكتة دفع توهم كون المراد من ذلك ذبح حلال أو محرم صيداً الحرم طارئاً لا أصليا انتهى. وإن أحرم وفي يده صيد أو دخل الحرم المكي بصيد لم يزل ملكه عنه فيرده من أخذه على مالكه إذا حل لاستدامة ملكه عليه ويضمنه من قتله بقيمته له لبقاء ملكه عليه، وزوال اليد لا يزيل الملك كالغصب والعارية ويلزمه إرساله في موضع فيه وإزالة يده المشاهدة عنه مثل ما إذا كان في قبضته أو رحله أو خيمته أو قفصه أو مربوطاً بحبل معه ونحوه دون يده الحكيمة مثل أن يكون الصيد في بيته أو بلده أو يد نائبه الحلال في غير مكانه لأنه لم يفعل في الصيد فعلا فلم يلزمه شيء ولا يضمنه إذا تلف بيده الحكمية، وللمحرم نقل الملك في الصيد الذي بيده الحكمية ببيع وغيره، ومن غصب الصيد من يد محرم حكمية لزمه رده إليها لاستدامتها عليه فلو تلف الصيد في يد المحرم المشاهدة قبل التمكن من إرساله بأن نفَّره ليذهب فلم يذهب لم يضمنه، وإن تمكن من إرساله فلم يرسله ضمنه، وكذا حكم من دخل الحرم بصيد، وإن أرسل الصيد إنسان من يد المحرم المشاهدة قهراً لم يضمنه. ومن أمسك صيداً في الحل فأدخله الحرم المكي لزمه إرساله لأنه صار صيد حرم بحلوله فيه، قال في المغني: ومن ملك صيداً في الحل فأدخله الحرم لزمه رفع يده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 عنه وإرساله فإن تلف في يده أو أتلفه فعليه ضمانه كصيد الحل في حق المحرم. قال عطاء: إن ذبحه فعليه الجزاء وروى ذلك عن ابن عمر، وممن كره إدخال الصيد الحرم ابن عمر وابن عباس وعائشة وعطاء وطاوس وإسحاق وأصحاب الرأي، ورخص فيه جابر بن عبد الله وسعيد بن جبير ومجاهد ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر لأنه ملكه خارجاً وحل له التصرف فيه فجاز له ذلك داخل الحرم كصيد المدينة إذا أدخله حرمها. ولنا أن الحرم سبب محرم للصيد ويوجب ضمانه فحرم استدامة إمساكه كالإحرام، ولأنه صيد ذبحه في الحرم فلزمه جزاؤه كما لو صاده منه، وصيد المدينة لا جزاء فيه بخلاف صيد الحرم انتهى ملخصاً، أو أمسك صيداً في الحرم فأخرجه إلى الحل لزمه إرساله فإن تلف في يده ضمنه كصيد الحل في حق المحرم إذا أمسكه حتى تحلل، وإن قتل صيداً صائلا عليه دفعا عن نفسه خشية تلفها أو خشية مضرة كجرحه أو إتلاف ماله أو بعض حيواناته لم يضمنه لأنه قتله لدفع شره فلم يضمنه كآدمي، أو تلف الصيد بسب تخليصه من شبع أو شبكة ونحوها ليطلقه أو أخذ الصيد محرم ليخلص من رجله خيطاً أو نحوه فتلف بذلك لم يضمنه لأن فعل أبيح لحاجة الحيوان، ولو أخذ الصيد محرم ليداويه فهو وديعة عنده فلا ضمان عليه إن تلف بلا تعد ولا تفريط لأنه محسن، وللمحرم أخذ ما لا يضر الصيد كيد متآكلة لأنه مصلحة الحيوان فإن مات بذلك لم يضمنه، وإن أزمن المحرم الصيد فعليه جزاؤه لأنه كتالف، ولا تأثير لحرم ولا إحرام في محرم الأكل غير المتولد بين مأكول وغيره تغليباً للحظر كما تقدم، ومحرَّم الأكل ثلاثة أقسام: الأول: الفواسق وهي الحدأة بوزن عنبة والجمع حداء بحذف الهاء وحِدآن أيضاً مثل: غزلان، والغراب الأبقع وغراب البين والفأرة والحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 والعقرب والكلب العقور، لحديث عائشة قالت: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور، متفق عليه. وما يباح أكله من الغربان وهو غراب الزرع أحمر الرجلين والمنقار لا يباح قتله لأنه من الصيد، قال في الفتح: وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك ويقال له غراب الزرع وأفتوا بجواز أكله يعني في غير الحرم والإحرام فبقي ما عداه من الغربان ملحق بالأبقع انتهى. ويستحب قتل الفواسق المذكورات لحديث عائشة المذكور لكن ذكر الفقهاء في كتاب الصيد أن الكلب العقور يجب قتله. القسم الثاني: كل ما كان من طبعه الأذى وإن لم يوجد منه أذى كالأسد والنمر والذئب والفهد والبازي والصقر والشاهين والعقاب والحشرات المؤذية كالحية والزنبور والبق والبعوض والبراغيث ونحوها فكل هذه يستحب قتلها في الحل والحرام. القسم الثالث: ما لا يؤذي بطبعه كالرخم والبوم والديدان فلا تأثير للحرم ولا للإحرام فيه ولا جزاء في ذلك، قال في المبدع: ويجوز قتله، وقيل يكره وجزم به في المحرر وغيره، وقيل يحرم انتهى. ولا بأس أن يقرد المحرم بعيره وهو نزع القراد عنه وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، وعند مالك لا يجوز، ويحرم على المحرم لا على الحلال ولو في الحرم قتل قمل لأنه يترفه بإزالته كإزالة الشعر وقتل صئبانه لأنه بيضه: من رأسه وبدنه وباطن ثوبه ويجوز من ظاهره قال القاضي أبو يعلي وابن عقيل، وظاهر كلام الموفق والشارح العموم وجزم به ابن رزين وغيره، وقدمه في الرعاية الكبرى وغيرها وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وصححه في تصحيح الفروع وهو ظاهر كلام صاحب المنتهى، ولو كان قتله للقمل وصئبانه بزئبق ونحوه فيحرم في الإحرام فقط وكذا رميه لما فيه من الترفه ولا جزاء في القمل وصئبانه إذا قتله أو رماه أشبه البعوض والبراغيث لخبر كعب، ولأنه لا قيمة له كسائر المحرم المؤذي وهذا هو الصحيح من المذهب قدمه في المغني والشرح وشرح ابن رزين وصححه في النظم وصححه في تصحيح الفروع أيضاً ومشى عليه في المنتهى والإقناع، وعن الإمام أحمد رواية يتصدق بشيء إن قلنا بحرمة قتله وفاقاً للحنفية والمالكية وجزم به في الهداية والمستوعب والمحرر والرعايتين والحاويين وغيرهم. وعن الإمام أحمد رواية ثالثة بجواز قتل القمل للمحرم جزم بها في الوجيز والتصحيح وغيرهما، ولا يحرم بالإحرام صيد البحر والأنهار والآبار والعيون ولو كان مما يعيش في البر والبحر كالسلحفاة والسرطان ونحوهما لقوله تعالى: (أُحِل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة) إلا في الحرم ولو للحلال كصيد من آبار الحرم وبركه ماجن بالنون لأنه حرمى أشبه صيد الحرم ولأن حرمة الصيد للمكان فلا فرق، وطير الماء والجراد من صيد البر فيضمن بقيمته في مكانه لأنه متلف غير مثلى، وعن الإمام أحمد رواية يتصدق بتمرة عن جرادة وروي عن ابن عمر، وقال مالك عليه جزاء الجراد بحكم حَكَمين لما رواه عن يحيى بن سعيد (أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فسأله عن جرادة قتلها وهو محرم فقال عمر لكعب: تعال، فقال كعب درهم فقال عمر لكعب إنك لتجد الدراهم، لتمرة خير من جرادة، وروى أيضا عن زيد بن أسلم (أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال إني أصت جرادة وأنا محرم فقال أطعم قبضة من طعام) وللشافعي مثله عن ابن عباس، وله أيضاً (أن عمر قال لكعب في جرادتين قتلهما ونسي إحرامه ثم ذكره فألقاهما: ما جعلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 في نفسك؟ قال: درهما، قال: بخ درهمان خير من مائه جرادة) فإن انفرش الجراد في طريقه فقتله بمشيه فعليه جزاؤه، وعن الإمام أحمد رواية لا يضمن الجراد لأن كعبا أفتى بأخذه وأكله وقال هو من صيد البحر، والمذهب أن الجراد يضمن بقيمته وأنه من صيد البر كما تقدم، وإن أتلف بيض طير لحاجة كالمشي عليه فعليه جزاؤه لأنه أتلفه لمنفعته أشبه ما لو اضطر إلى أكله بخلاف ما لو وقع من شجرة على عين إنسان فدفعها فانكسرت فلا ضمان عليه، وإذا ذبح المحرم الصيد وكان مضطراً فله أكله ولمن به مثل ضرورة الذابح لحاجة الأكل، وما ذبحه المحرم من الصيد ميتة في حق غير المضطر، قال المبدع: فإذا ذبحه كان ميتة ذكره القاضي، قال الشيخ منصور البهوتي وكلام صاحب الإقناع كالمنتهى يقضي أنه ميتة في حق غير المضطر ومذكى في حق المضطر فيكون نجساً طاهراً بالنسبة إليهما وفيه نظر. قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي في شرحه للعمدة: يمكن الجواب بأن لا نسلم أن كلام الإقناع والمنتهى يقتضي ذلك إذ الظاهر أن معنى قولهما إنه ميتة: أي كالميتة في الحل والحرمة لا من كل وجه في النجاسة، إذ المشبه لا يعطي حكم المشبه به من كل وجه، ويدل على ذكر تفريعهم على ذلك أنه لا يباح إلا لمن يباح له أكلها والله أعلم. انتهى كلاه في شرح العمدة. وقال عثمان أيضاً في حاشيته على المنتهى معنى قوله ميتة: أي كميتة في التحريم لا في النجاسة بقرينة قولهم فلا يباح إلى آخره فيكون طاهراً في حق الجميع مباحاً في حق المضطر لا في حق غيره لأن التحريم لحرمته لا لنجاسته انتهى. وقال الشيخ مرعي في غايته: هو ميتة نجس في حق غيره لا فق حق نفسه انتهى. وقال الشيخ سليمان بن علي في منسكه، وكان ما ذبحه لغير حاجة أكله ميتة على جميع الناس ولحاجة أكله متية نجسة في حق غير لا في حق نفسه انتهى. قلت ما قاله الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 عثمان وجيه وإن كان خلاف ما ذهب إليه منصور ومرعي وسليمان، والله أعلم. قال في المنتهى وشرحه: وكان ما ذبح لغير حاجة أكله ميتة نصاً ولو لصول عليه لأنه محرم لمعنى فيه لحق لله تعالى كذبيحة المجوسي فساواه فيه وإن خالفه في غيره، ومفهومه وإن كان لحاجة أكله فمذكى لحل فعله وقاله في الفروع توجيهاً وقال القاضي ميتة انتهى. ونص عبارة الفروع: ويتوجه حله لكل أحد، قال منصور في حاشية المنتهى فظهر لك أن تقييده بقوله لغير حاجة أكله على بحث صاحب الفروع لكن في كالمه الآتي تبعاً للتنقيح أنه ميتة في حق غير المضطر الذابح له ومقتضاه أنه مذكى في حق الذابح وهو مخالف لكلام الأصحاب كما يعلم من الإنصاف وغيره، ويبعد جداً أو يمتنع أن يكون مذكى في حق الذابح ميتة في حق غيره انتهى ملخصاً. وأجاب الشيخ عثمان على قول الشيخ منصور هذا بجوابه المتقدم قريباً. قال في المنتهى وشرحه: ولمحرم احتاج إلى فعل محظور فعله ويفدي وكذا لو اضطر كمن بالحرم إذا اضطر إلى ذبح صيد فله ذبحه وأكله وهو ميتة في حق غيره فلا يباح إلا لمن يباح له أكلها: أي الميتة بأن يكون مضطراً انتهى. وقوله ميتة أي لعدم أهلية المذكى للزكاة والله أعلم. وعند المالكية لو مات صيد البر بسهم المحرم أو كلبه أو ذبحه فإنه لا يحل لأحد تناوله، وجلده نجس كسائر أجزائه وكذا إن لم يصده بأن أمر غلامه بذبحه أو أعانه على صيد بإشارة أو مناولة سوط أو نحوه فإن يكون ميتة عندهم على كل أحد، وقالت الشافعية: لو ذبح المحرم أو الحلال في الحرم صيداً صار ميتة على الأصح فيحرم على كل أحد أكله ويصير ميتة لأنه لا يباح إلا بالتذكية وهو ليس من أهلها لقيام معنى به كالمجوسي انتهى. قال في المغني وإذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس، وهذا قول الحسن والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال الحكم والثوري وأبو ثور لا بأس بأكله، قال ابن المنذر هو بمنزلة ذبيحة السارق، وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني يأكله الحلال إلى أن قال ولنا أنه حيوان حرم عليه ذبحه لحق الله تعالى فلم يحل بذبحه كالمجوسي، وكذا الحكم في صيد الحرم إذا ذبحه الحلال انتهى ملخصاً. وقال أيضا: وإذا اضطر المحرم فوجد صيداً وميتة أكل الميتة وبهذا قال الحسن الثوري ومالك، وقال الشافعي وإسحاق وابن المنذر: يأكل الصيد وهذه المسألة مبنية على أنه إذا ذبح الصيد كان ميتة فيساوي الميتة في التحريم ويمتاز بإيجاب الجزاء وما يتعلق به من هتك حرمة الإحرام فلذلك كان أكل الميتة أولى إلا أن لا تطيب نفسه بأكلها فيأكل الصيد كما لم يجد غيره انتهى كلام المغني، والذي مشى عليه في المنتهى والإقناع وغيرهما أن المحرم يقدم أكل الميتة على الصيد، ورأيت حاشية هذا نصها فيه: إن الميتة محرمة لذاتها والصيد محرم لسبب عارض، وقولهم إن تذكية المحرم له تجعله ميتة ليس نصاً من الشارع وإنما هي كلمة فقيه لا تصح إلا من باب التشبيه، ثم إن أكل الميتة ضار في الغالب والتعرض للضرر حرام في نفسه انتهى. قلت ويعلم الله أن لو وقعت لي هذه المسألة عياذاً بالله لقدمت أكل الصيد على الميتة وسقت الجزاء لأن نفسي لا تطيب بأكلها على ما ذكره الموفق، والله غفور رحيم. (تتمة) تقدم أنه إذا احتاج المحرم إلى فعل محظور كلبس وحلق وأكل صيد فله فعله وعليه الفدية لحديث كعب بن عَجرة لما احتاج إلى حلق رأسه وأباح له صلى الله عليه وسلم حلقه وأوجب عليه الفدية، والباقي في معناه ولأن أكل الصيد إتلاف فوجب ضمانه كما لو اضطر إلى طعام غيره، قال الشخ محمد الخلوتي في حاشية المنتهى على قوله في المنتهى: ولمحرم احتاج إلى فعل محظور فعله ويفدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 هل هو عام حتى في الوطء أو لا؟ قال شيخنا منصور: الظاهر لا، لأن الكلام في المحظور غير المفسد تأمل انتهى. قلت وهو كما قال الشيخ منصور بلا إشكال والله أعلم. السابع: من محظورات الإحرام: عقد النكاح فلا يتزوج المحرم ولا يزوج غيره بولاية ولا وكالة، ولا يقبل للمحرم النكاح وكيله الحلال ولا تزوج المحرمة، والنكاح في ذلك كله باطل تعمَّده أو لا لما روى مسلم في صحيحه من عثمان مرفوعاً (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) وقوله لا ينكح هو بفتح الياء ولا ينكح بضم الياء وكسر الكاف معنا لا يتزوج ولا يزوج إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون محظوراً بخلاف أمته ولأن الإحرام يمنع من الوطء ودواعيه فمنع عقد النكاح كالعدة، والاعتبار بحالة عقد النكاح لا بحالة الوكالة، فلو وكل محرم حلالاً في عقد النكاح فعقده بعد حله من إحرامه صح عقده، وهل مثله لو وكل محرم محرماً في عقد النكاح فعقده الوكيل بعد حله وحل موكله من إحرامهما؟ الظاهر نعم لوقوع العقد حال حل الموكل والوكيل والله أعلم، ولو وكل حلال حلالا فعقده الوكيل بعد أن أحرم هو أو موكله فيه لم يصح العقد لما تقدم، ولو وكل حلالا حلالاً في عقد النكاح ثم أحرم الموكل لم ينعزل وكيله بإحرامه فإذا حل الموكل كان لوكيله عقد لزوال المانع، ولو وكل حلال حلالاً في عقد النكاح فعقده وأحرم الموكل فقالت الزوجة وقع العقد في الإحرام وقال الزوج وقع قبله فالقول قول الزوج لأنه يدعي صحة العقد وهي الظاهر، وهي تدعي فساده فكان القول قوله. ثم إن طلق الزوج قبل الدخول وكان قد أقبضها نصف المهر فلا رجوع له به وإن لم يكن أقبضها فلا طلب لها به لتضمن دعواها أنها لا تستحقه لفساد العقد، وإن كان بالعكس بأن قالت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الزوجة وقع العقد قبل الإحرام وقال الزوج وقع في الإحرام فالقول قوله أيضاً لأنه يملك فسخه فقبل إقراره به لكن لها نصف الصداق لأن قوله لا يقبل عليها في إسقاطه لأنه خلاف الظاهر ويصح النكاح مع جهل الزوج والزوجة وقوع عقد النكاح هل كان قبل الإحرام أو فيه؟ لأن الظاهر من العقود الصحة، وإن قال تزوجتك وقد حللت وقالت بل كنت محرمة صدق، وتصدق هي في نظيرتها في العدة بأن قال الزوج: تزوجتك بعد انقضاء عدتك وقالت بل قبله ولم تمكنه من نفسها فقولها لأنها مؤتمنة على نفسها، قال الشيخ محمد الخلوتي: ومنه تعلم أن قولهم: القول قول مدعي صحة العقد ليس على إطلاقه انتهى. وإن أحرم الإمام الأعظم لم يجز أن يتزوج لنفسه ولا لغيره بالولاية العامة ولا الخاصة، ولا أن يزوج أقاربه بالولاية الخاصة ولا أن يزوج غيرهم ممن لا ولي لها بولاية العامة كالخاصة، ويجوز أن يزوج خلفاؤه كالقضاة والأمراء إن كانوا حلالا من لا ولي له أولها لأنهم ليسوا وكلاء عنه ولأنه يجوز بولاية الحكم ما لا يجوز بولاية النسب، وأما وكيله في تزويج نحو بنته فليس له عقدة بعد إحرامه حتى يحل، وأما تزويج نوابه لنحو بناتهم وأخواتهم إذا كانوا حلالاً فصحيح لأنه لا نيابة لهم عنه فيه. وإن أحرم نائب الإمام الأعظم فكإحرام الإمام فلا يجوز أن يتزوج لنفسه ولا لغيره بالولاية العام ولا الخاصة، ولا أن يزوج أقاربه بالولاية الخاصة ولا غيرهم ممن لا ولي له بالولاية العامة كالخاصة، وتكره خِطبة محرم بكسر الخاء امرأة على نفسه وعلى غيره وخِطبة مُحِل مُحرمة كخطبة عقد النكاح بضم الخاء وهي: إن الحمد لله نحمد ونستعينه إلى آخرها، ويكره حضور المحرم وشهادته في النكاح بين حلالين. قال الشيخ مرعي: وإلا فالشهادة في عقد فاسد حرام انتهى، قال الخلوتي في حاشيته على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 المنتهى قوله وشهادته فيه أي شهادة المحرم عقداً من محلين لا من محرمين لأن شهادته من محرمين حرام لكونه عقداً فاسداً، وشهادة العقد الفاسد حرام انتهى. وتباح الرجعة للمحرم وتصح لأنها إمساك كشراء أمة لوطء وغيره لورود عقد النكاح على منفعة البضع خاصة بخلاف شراء الأمة ويصح اختيار من أسلم على أكثر من أربع نسوة لبعضهن في حال الإحرام لأنه إمساك واستدامة لا ابتداء للنكاح كالرجعة وأولى، ولا فدية عليه في شيء من ذلك كله أعني جميع ما تقدم من صور عقد النكاح لأنه عقد فاسد لأجل الإحرام فلم تجب به فدية كشراء الصيد، ولا فرق فيه بين الإحرام الصحيح والفاسد. الثامن: من محظورات الإحرام وطء يوجب الغسل وهو تغييب حشفة أصلية في فرج أصلي لقوله تعالى: (فمن فرض فيهنَّ الحج فلا رفث) قال ابن عباس: هو الجماع: قُبُلا كان الفرج أو دبرا، من آدمي أو غيره حي أو ميت فمن جامع في فرج أصلي قبل التحلل الأول ولو بعد الوقوف بعرفة فسد نسكهما حكاه ابن المنذر، إجماع العلماء أنه لا يفسد النسك إلا به، وفي الموطأ بلغني أن عمر وعليا وأبا هريرة سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم فقالوا ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج من قابل والهدي، ولم يعرف لهم مخالف، ولو كان المجامع ساهياً أو جاهلاً أو مكرماً نصا أو نائمة نقله الجماعة لأن من تقدم من الصحابة قضوا بفساد النسك ولم يستفصلوا، وذكر في الفصول رواية عن الإمام أحمد لا يفسد حج الناسي والجاهل والمكره ونحوهم وخرَّجها القاضي أبو يعلي في كتاب الروايتين، واختارها شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية وصاحب الفائق ابن قاضي الجبل ومال إليه ابن مفلح في الفروع وقال هذا متجه ورد ما احتج به الأصحاب وهو جديد قول الشافعي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ويجب بالجماع قبل التحلل الأول في الحج بدنة لقول ابن عباس: أهد ناقة ولتهد ناقة، ويقوم مقام البدنة بقرة أو سبع شياه ولو لم تتعذر فإن لم يجد بدنة صام عشرة أيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع من أفعال الحج كدم المتعة لقضاء الصحابة رضي الله عنهم بذلك، والتحلل الأول يحصل باثنين من ثلاثة، وهي: طواف الإفاضة، والحلق أو التقصير، ورمي جمرة العقبة، ويأتي ذكر ذلك في موضعه إنشاء الله تعالى، ولا يفسد الإحرام بشيء من المحظورات غير الجماع قبل التحلل الأول، وعلى الواطئ والموطوءة المضي في فاسده ولا يخرجان منه بالوطء، وحكم الإحرام الذي أفسده المحرم بالجماع حكم الإحرام الصحيح فيفعل بعد الفساد كما كان يفعل قبله من الوقوف وغيره ويجتنب ما يجتنب قبل الفساد من الوطء وغيره وعليه الفدية إذا فعل محظوراً بعد الإفساد، ويقضي من فسد نسكه بالوطء كبيراً كان أو صغيراً نصاً، واطئاً أو موطوءة، فرضاً كان الذي أفسده أو نفلا أو نذراً فوراً، قال في الغاية، وجوباً انتهى، لقول ابن عمر فإذا أدركت قابلا فحج وأهد، وعن ابن عباس مثله، وعن عبد الله بن عمرو مثله رواه الدارقطني والأثرم وزاد: وحل إذا حلوا فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك وأهديا هديا فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتما، وهذا كله إن كان المفسد نسكه من واطئ وموطوءة مكلفاً لأنه لا عذر له في التأخير، وإلا يكن مكلفاً بل بلغ بعد انقضاء الحجة الفاسدة قضى بعد حجة الإسلام فوراً لزوال عذره، ويصح قضاء عبد وأمة في رقهما لتكليفهما ويكون إحرام الواطئ والموطوءة في القضاء من حيث أحرما أولا بما أفسدا من الميقات أو قبله لأن الحرمات قصاص، بخلاف المحصر إذا قضي لا يلزمه الإحرام إلا من الميقات نص عليه لأن المحصر فيه لم يلزمه إتمامه وإن لم يكونا أحرما قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الميقات بل منه أو دونه إلى مكة لزمهما الإحرام من الميقات لأنه لا يحل تجاوزه بلا إحرام، وإن أفسد القضاء فوطئ فيه قبل التحلل الأول لم يجب عليه قضاؤه وإنما يقضي عن الحج الأول كما لو أفسد قضاء صوم أو صلاة ولأن الواجب لا يزداد بفواته وإنما يبقى ما كان واجباً في الذمة على ما كان عليه. قال ابن الصلاح: إذا كان ما أفسده بالجماع قضاءً وجب قضاء المقضي لا القضاء فلو أحرم بالقضاء عشر مرات وأفسد الجميع لزمه قضاء واحد عن الأول وكفارة لكل واحد من العشرة انتهى. ونفقة المرأة في القضاء عليها إن طاوعت لقول ابن عباس: أهد ناقة ولتهد ناقة، وإن أكرهت المرأة فالنفقة على الزوج لأنه المفسد لنسكها فكانت عليه نفقتها كنفقة نسكه، قال في المنتهى وشرحه: ونفقة قضاء نسك مكرهة على مكرهٍ ولو طلقها لإفساده نسكها كنفقة نسكه، وقياسه لو استدخلت ذكر نائم فعليها نفقة قضائه انتهى. قال في الإنصاف ولو طلقها وتزوجت بغيره، ويجبر الزوج الثاني على إرسالها إن امتنع ثم قال: وظاهر كلام المصنف: يعني الموفق أن زوجها الذي وطئها يجوز ويصلح أن يكون محرما لها في حجة القضاء وهو صحيح وهو ظاهر كلام الأصحاب قاله في الفروع، وقد ذكر المصنف والشيخ وابن منجا في شرحه يكون بقربها ليراعي أحوالها لأنه محرمها، ونقل ابن الحكم يعتبر أن يكون معها محرم غير الزوج قلت فيعابا بها انتهى كلام الإنصاف وتستحب تفرقتهما في القضاء وفاقاً لمالك والشافعي من الموضع الذي أصابها فيه وفاقاً للشافعي، وعنه من حيث يحرمان وفاقاً لمالك وزفر، ودليلنا ما روى ابن وهب بإسناده عن سعيد بن المسيب (أن رجلاً جامع امرأته وهما محرمان فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أتما حجكما ثم ارجعا وعليكما حجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 أخرى من قابل حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتها فأحرما وتفرقا، ولا يواكل أحد كما صاحبه ثم أتما مناسككما وأهديا) وروى الأثرم عن ابن عمر وابن عباس معناه إلى أن يحلا من إحرامهما لأن التفريق خوف المحظور وقوله في الحديث (حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتها فأحرما) إلى آخره يعني أنهما يحرمان من المكان الذي أحرما منه وأصابها فيه قبل الميقات لما تقدم قريباً من أن إحرام الواطئ والموطوءة في القضاء من حيث أحرما أو لا بما أفسدا من الميقات أو قبله لأن الحرمات قصاص، وليس المعنى أنه إذا كان أصابها بعد أن أحرما من الميقات وجاوزاه لا يحرمان إلا من ذلك الموضع الذي أصابها فيه بعد الميقات لأنه في هذه الصورة يلزمهما الإحرام من الميقات ولو كان قبل المكان الذي أصابها فيه والله أعلم، ويحصل التفريق بأن لا يركب معها على بعير ولا يجلس معها في خبائها وما أشبه ذلك بل يكون قريباً منها فيراعى أحوالها لأنه محرمها كما سبق عن الإنصاف، قال الإمام أحمد: يتفرقان في النزول والمحمل والفسطاط وما أشبه ذلك لأنه ربما يذكر إذا بلغ الموضع فتتوق نفسه فيواقع المحظور ففي القضاء داع بخلاف الأداء. وقال الحنفية: لا يتفرقان لتذكر شدة المشقة بسبب لذة يسيرة فيندمان ويتحرزان انتهى. والعمرة في ذلك كالحج لأنها أحد النسكين فيفسدها الوطء قبل الفراغ من السعي كالحج قبل التحلل الأول، ولا يفسد العمرة الوطء بعد الفراغ من السعي وقبل الحلق كالوطء في الحج بعد التحلل الأول، ويجب المضي في فاسد العمرة ويجب قضاؤها فوراً كالحج ويجب عليه دم وهو شاة لنقص العمرة عن الحج، قال في المنتهى وشرحه: وعمرة وطئ فيها كحج فيفسدها وطء قبل تمام سعي لا بعده، أي السعي، وقبل حلق لأنه بعد تحلل أول، وعليه بوطئه في عمرته شاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 لنقص حرمة إحرامها عن الحج لنقص أركانها ودخولها فيه إذا جامعته سواء وطئ قبل تمام السعي أم بعده قبل الحلق، ولا فدية على مكرهة في وطء في حج أو عمرة لحديث (وما استكرهوا عليه) ومثلها النائمة ولا يلزم الواطئ أن يفدى عنها أي النائمة والمكرهة انتهى. قلت: وهذا بخلاف النفقة فإن المكره يلزمه نفقة المرأة التي كرهها على الوطء كما تقدم والله أعلم، لكن إن كان المفسد لعمرته مكياً أو حصل بمكة مجاوراً أحرم للقضاء من الحل سواء كان قد أحرم بالعمرة التي أفسدها منه أم من الحرم لأن الحل هو ميقاتها، قال في الإقناع وشرحه وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى في فاسدها وأتمها خرج إلى الميقات فأحرم منه بعمرة مكان التي أفسدها لأن الحرمات قصاص، فإن خاف فوت الحج أحرم به من مكة وعليه دم، فإذا فرغ من حجه خرج فأحرم من الميقات بعمرة مكان التي أفسدها وعليه هدي يذبحه إذا قدم مكة لما أفسد من عمرته نص عليه انتهى. وعبارة المغني والشرح: وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى في فاسدها فأتمها فقال أحمد: يخرج إلى الميقات فيحرم منه للحج فإن خشي الفوات أحرم من مكة وعليه دم فإذا فرغ من حجه خرج إلى الميقات فأحرم منه بعمرة مكان التي أفسدها وعليه هدي يذبحه إذا قدم مكة لما أفسد من عمرته انتهى. وعبارة الفروع: وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى فيها فأتمها فقال أحمد: يخرج إلى الميقات فإذا فرغ منه أحرم بعمرة مكان التي أفسدها، وفدي بمكة لما أفسد من عمرته انتهى، وإن أفسد المفرد حجته وأتمها فله الإحرام بالعمرة من أدنى الحل لأنه ميقاتها، وإن أفسد القارن نسكه فعليه فداء واحد لما تقدم أن عمل القارن كعمل المفرد، وإن جامع المحرم بعد التحلل الأول وقبل التحلل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الثاني بأن رمي جمرة العقبة وحلق مثلا ثم جامع قبل طواف الإفاضة لم يفسد حجه، قارناً كان أو مفرداً أو متمتعاً لكن فسد إحرامه بالوطء فيمضي إلى الحل، التنعيم أو غيره، ليجمع بين الحل والحرم فيحرم منه ليطوف للزيارة في إحرام صحيح لأن الحج لا يتم إلا به لأنه ركن ثم يسعى إن لم يكن سعى قبل لحجه ويتحلل. قال في المبدع: والمراد فساد ما بقي منه لا ما مضى إذ لو فسد كله لوقع الوقوف في غير إحرام، وليس هذا عمرة حقيقة، والإحرام إنما وجب ليأتي بما بقي من الحج، هذا ظاهر كلام جماعة منهم الخرقي فقول أحمد ومن وافقه من الأئمة: إنه يعتمر، يحتمل أنهم أرادوا هذا وسموه عمرة لأن هذه أفعالها وصححه في المغني والشرح، ويحتمل أنهم أرادوا عمرة حقيقة فيلزمه سعي وتقصير وعلى هذا نصوص أحمد وجزم به القاضي وابن عقيل وابن الجوزي ولأنه إحرام مستأنف فكان فيه طواف وسعي وتقصير كالعمرة المفردة والعمرة تجري مجرى الحج بدليل القران بينهما انتهى. ويلزمه شاة بوطئه بعد التحلل الأولى وقبل الثاني لعدم إفساده للحج كوطء دون فرج قبل التحلل الأول بلا إنزال ولخفة الجنابة، والقارن كالمفرد لأن الترتيب للحج لا للعمرة بدليل تأخير الحلق إلى يوم النحر، فإن طاف للزيارة وحلق ولم يرم جمرة العقبة ثم وطئ ففي المغني والشرح لا يلزمه إحرام من الحل ولا دم عليه لوجود أركان الحج. وقال في الفروع فظاهر كلام جماعة كما سبق لوجود الوطء قبل ما يتم به التحلل، والوطء بعد التحلل الأول محرم لبقاء تحريم الوطء المنافي وجوده صحة الإحرام، وقول صاحب الفروع: فظاهر كلام جماعة كما سبق، يعني من أنه يفسد إحرامه إذا لم يرم جمرة العقبة، وإن طاف للزيارة وحلق، ووافقه منصور في شرح الإقناع حيث قال فيفسد إحرامه بالوطء قبل رمي جمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 العقبة انتهى، والذي يترجح عندي ما يأتي من أن إحرامه لا يفسد قال في المنتهى وشرحه: ويحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة: حلق، ورمي، وطواف إفاضة، فلو حلق وطاف ثم وطئ ولم يرم فعليه دم لوطئه ودم لتركه الرمي، وحجه صحيح انتهى. قال في الإقناع وشرحه: ويحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة: رمي، وحلق، وطواف فلو حلق وطاف ثم واقع أهله قبل الرمي فحجه صحيح وعليه دم، فظهر من عبارة المنتهى والإقناع وشرحهما أنه لا يفسد إحرامه فلا يلزمه إحرام من الحل إذا وطئ بعد الحلق وطواف الإفاضة وقبل رمي جمرة العقبة، بخلاف ما لو وطئ بعد الحلق والرمي وقبل طواف الإفاضة فإن حجه صحيح أيضاً لكن يفسد إحرامه بالوطء فيمضي إلى الحل فيُحرم منه ليطوف للإفاضة في إحرام صحيح كما تقدم قريباً، والله أعلم. التاسع: من محظورات الإحرام: المباشرة من الرجل للمرأة فيما دون الفرج قبل التحلل الأول بشهوة باستمناء أو قُبلة أو لمس وكذا نظر لشهوة لأنه وسيلة إلى الوطء المحرَّم فكان حراماً فإن فعل فأنزل فعليه بدنة نقله الجماعة لأنها مباشرة اقترن بها الإنزال فأوجبتها كالجماع في الفرج ولم يفسد نسكه ولا إحرامه كما هو ظاهر عباراتهم خلافاً لما ذكره الشيخ موسى الحجاوي في مختصره حيث قال: لكن يحرم من الحل لطواف الفرض، ورده شارحه الشيخ منصور فقال ظاهر كلامه أن هذا في المباشرة دون الفرج إذا أنزل، وهو غير متجه لأنه لم يفسد إحرامه حتى يحتاج لتجديده، فالمباشرة كسائر المحرمات غير الوطء، هذا مقتضى كلامه في الإقناع كالمنتهى والمقنع والتنقيح والإنصاف والمبدع وغيرها، وإنما ذكروا هذا الحكم فيمن وطئ بعد التحلل الأول إلا أن يكون على وجه الاحتياط مراعاة للقول بالإفساد انتهى كلام منصور، فظهر من هذا أن القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 بفساد الإحرام بالمباشرة دون الفرج قبل التحلل الأول إذا أنزل خلاف مقتضى عبارات من تقدم ذكرهم، لأن المباشرة دون الفرج استمتاع لا يجب بنوعه الحد فلم يفسد نسكه ولا إحرامه بها كما لو لم ينزل وكما لو لم يكن الإنزال بشهوة، والفرق بينه وبين الصوم أنه يفسده كل واحد من محظوراته، بخلاف الحج فإنه لا يفسده إلا الجماع في الفرج قبل التحلل الأول، والله أعلم. فإن لم يجد بدنة صام عشرة أيام: ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع من أفعال الحج كدم المتعة، لقضاء الصحابة رضي الله عنهم بذلك فإن لم ينزل بالمباشرة دون الفرج قبل التحلل الأول فالواجب عليه شاة كفدية الأذى، أعني أنه يخير بين ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام، ومثله في التخيير ما وجب بوطء في عمرة أو في حج بعد التحلل الأول. قلت: وهل إذا باشر دون الفرج بعد التحلل الأول وقبل الثاني يلزمه شاة كما يلزمه في الوطء في الفرج لبقاء التحريم أولا؟ الظاهر أنه يلزمه إذا أنزل، أما إذا لم يُنزل ففيه تفصيل نذكره في باب الفدية إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : يجب على المحرم التحفظ من محظورات الإحرام إلا في مواضع العذر التي نبهنا عليها فيما سبق، وربما ارتكب بعض الناس شيئاً من محظورات الإحرام وقال أنا أفتدي متوهماً أنه بالتزامه للفدية يتخلص من إثم المعصية وذلك خطأ صريح وجهل قبيح، فإنه يحرم عليه الفعل وإذا خالف أثم ووجبت عليه الفدية وليس الفدية مبيحة للإقدام على فعل المحرّم ولا رافعة لإثمه من أصله كسائر الكفارات، ومن فعل شيئاً مما يحكم بتحريمه عمداً فقد أخرج حجه عن أن يكون مبروراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 -- فصل: والمرأة إحرامها في وجهها فيحرم عليها تغطيته ببرقع أو نقاب أو غيره لحديث ابن عمر (لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين) رواه البخاري، قال ابن عمر: (إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه، فإن غطت وجهها لغير حاجة فدت كما لو غطى الرجل رأسه، والحاجة كمرور رجال قريباً منها فتسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لفعل عائشة) . رواه أحمد وأبو داود وغيرهما ولو مس الثوب وجهها، وشرط القاضي أبو يعلي في الساتر أن لا يصيب بشرتها فإن أصابها ثم ارتفع بسرعة فلا شيء عليها وإلا فدت لاستدامة الستر، ورده الموفق بأن هذا الشرط ليس هو عن أحمد ولا هو في الخبر بل الظاهر منه خلافه فإنه لا يكاد يسلم المسدول من إصابة البشرة فلو كان شرطاً لبين انتهى ملخصاً وصحح في الفروع ما قاله الموفق، قال في المنتهى وشرحه: فتسدل أي تضع الثوب فوق رأسها وترخيه على وجهها لحاجة إلى ستر وجهها كمرور أجانب قريباً منها لحديث عائشة (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه) رواه أبو داود والأثرم. قال أحمد: إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل، ولا يضر مس المسدول بشرة وجهها خلافاً للقاضي وإنما منعت من البرقع والنقاب لأنه معد لستر الوجه ومتى غطته لغير حاجة فدت، ويحرم تغطيته أي وجه المحرمة، ويجب تغطية رأسها ولا يمكنها تغطية جميع رأسها إلا بتغطية جزء منه: أي الوجه ولا يمكنها كشف جميعه: أي الوجه إلا بكشف جزء من الرأس فستر الرأس كله أولى لكونه أي الرأس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 عورة في الجملة ولا يختص ستره بإحرام، وكشف الوجه بخلافه انتهى ملخصا، قال ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) يعني في الإحرام فسوّى بين يديها ووجهها في النهي عما صنع على قدر العضو ولم يمنعها من تغطية وجهها ولا أمرها بكشفه ألبتة، ونساؤه صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذه المسألة وقد كنّ يسدلن على وجههن إذا حاذاهن الركبان فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن إلى أن قال: فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها من جلبابها لئلا تُعرف ويفتن بصورتها وتمامه فيه. قلت وفيه الرد على من قال بعدم وجوب ستر المرأة وجهها عن الرجال الأجانب عياذاً بالله من الخذلان، وفي تفسير سورة النور لشيخ الإسلام ما يشفي ويكفي، قال في المصباح: سدلت الثوب سدلاً من باب قتل: أرخيته وأرسلته من غير ضم جانبيه فإن ضممتهما فهو قريب من التلفف، قالوا ولا يقال فيه أسدلته بالألف انتهى. قال عبد الوهاب بن فيروز في حاشيته على شرح الزاد: وهل السدل واجب أو مستحب؟ فيه تردد انتهى كلام ابن فيروز، قلت ذكر في الفروع جواز السدل، وعبارته ويجوز لها أن تسدل على الوجه للحاجة وفاقاً وذكر قول عائشة: كان الركبان إلى آخره إلى أن قال: وعن فاطمة بنت المنذر قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر) رواه مالك، أطلق جماعة جواز السدل وقال أحمد إنما لها أن تستدل على وجهها من فوق وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل ومعناه عن ابن عباس رواه الشافعي انتهى ملخصاً، وبه يحصل الجواب عما تردد فيه ابن فيروز. قال شيخ الإسلام: ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس البشرة جاز بالاتفاق وإن كان بمسه فالصحيح أنه يجوز أيضاً، ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الوجه لا بعود ولا بيدها ولا غير ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوّى بين يديها ووجهها وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه، وأزواجه صلى الله عليه وسلم كنّ يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافة، ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إحرام المرأة في وجهها) وإنما هذا قول بعض السلف، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها أن تنتقب أو تلبس القفازين كما نهى المحرم أن يلبس القميص والخف مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه باتفاق الأئمة، والبرقع أقوى من النقاب فلهذا نهى عنه باتفاقهم، ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه كالبرقع ونحوه فإنه كالنقاب انتهى ولا تحرم تغطية كفيها، ويحرم عليه ما يحرم على الرجل من إزالة الشعر وتقليم الأظفار وقتل الصيد ونحوها إلا لبس المخيط وتغطية الرأس وتظليل المحمل وغيره كالهودج والمحفة لحاجتها إلى الستر، ويحرم عليها وعلى الرجل لبس قفازين أو قفاز واحد، والقفاز بضم القاف وتشديد الفاء: هما كل ما يعمل لليدين إلى الكوعين يدخلهما فيه لسترهما من الحر أو البرد كالجوربين للرجلين كما يعمل للبزاة جمع باز وهو من جوارح الطير التي يصاد بها، ولما كان من عادة الصائد بالبازي أن يضعه على يده بعد إدخالها في مثل القفاز، وهو غلاف يعمل من الجلود على قدر اليد خوفاً من تأثر اليد بمخالب البازي إذا لم يكن عليها وقاية، شبه العلماء القفازين بما يعمل ليد صاحب البازي حيث كان معروفاً لديهم، والله أعلم. قال شيخ الإسلام: والقفازان: غلاف يصنع لليد كما يفعله حملة البزاة انتهى. ودليل تحريم لبس القفازين حديث ابن عمر مرفوعاً (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي وصححه، وإن كان الخبر ورد في حق المرأة، فالرجل أولى، ولا يلزم من جواز تغطيتهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 بكمها لمشقة التحرز جوازه بهما بدليل جواز تغطية الرجل قدمه بإزاره لا بخف، وإنما جاز تغطية قدميها بكل شيء لأنهما عورة في الصلاة، وفي لبس القفازين أو أحدهما الفدية كالنقاب فإن شدت يديها بخرقة على حناء أولا فدت لسترها لها بما يختص بهما أشبه القفازين وكشد الرجل شيئاً على جسده فإن لفتهما من غير شد فلا فدية لأن المحرَّم الشد لا التغطية كبدن الرجل، هذا المذهب، وقال في الفروع: وظاهر كلام الأكثر لا يحرم عليها ذلك انتهى. يعني لا يحرم عليها شد يديها بخرقة، والله أعلم. ويباح لها خلخال ونحوه من حلي كسوار ونحوه كدملج، نقله الجماعة، قال نافع: (كنَّ نساء ابن عمر يلبسن الحلي والمعصفر وهن محرمات) رواه الشافعي، ولا دليل للمنع، ولا يحرم على الرجل والمرأة لباس زينة، وفي الرعاية وغيرها يكره لباس الزينة، قال الإمام أحمد: المحرمة والمتوفى عنها زوجها يتركان الطيب والزينة ولهما سوى ذلك، وفي التبصرة يحرم ويكره للمحرم والمحرمة كحل بإثمد ونحوه من كل كحل أسود لزينة لما روي عن عائشة أنها قالت لامرأة محرمة: (اكتحلي بأي كحل شئت غير الإئمد أو الأسود) ولا يكره اكتحال لهما بذلك لغير الزينة كوجع عين لحاجة ولأن الأصل عدم الكراهة، ولا يكره غير الإثمد ونحوه لأنه لا زينة به إذا لم يكن مطيباً، فإن كان مطيباً حرم، ويكره لها خضاب لأنه من الزينة كالكحل بالإثمد، ولا يكره لها الخضاب بالحناء عند إرادة الإحرام بل يستحب، ولا بأس بذلك للرجل فيما لا تشبه فيه بالنساء لأن الأصل الإباحة ولا دليل للمنع، ويجوز لرجل وامرأة محرمين لبس المعصفر والكحلي وغيرهما من الأصباغ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في حق المحرمة (ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ألوان الثياب معصفراً أو خزاً أو حلياً أو سراويل أو قميصاً) رواه أبو داود، وعن عائشة وأسماء أنهما كانتا تحرمان في المعصفر ولأنه ليس بطيب، ولا بأس باستعماله وشمه فلم يكره المصبوغ به كالسواد ولهما لبس كل مصبوغ بغيرورس أو زعفران لأن الأصل الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه أو كان في معناه، ولهما قطع رائحة كريهة بغير طيب لأنه ليس من المحظورات بل مطلوب فعله، والنظر في المرآة جائز لهما جميعاً لحاجة كمداواة جرح وإزالة شعر بعينه، ويكره نظرهما في المرآة لزينة كالاكتحال بالإئمد، ولا يصلح شعثاً ولا ينفض عنه غباراً لحديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو مرفوعاً (إن الله تعالى يباهي الملائكة بأهل عرفة، انظروا إلى عبادي أتوا شعثاً غُبراً) رواه أحمد، وللمحرم لبس خاتم مباح من فضة أو عقيق ونحوه لما روى الدارقطني عن ابن عباس: لا بأس بالهميان والخاتم للمحرم: وفي رواية: رخص للمحرم في الهميان والخاتم، وله بط جرح، وله ختان نصا، وقطع عضو عند الحاجة إليه، وأن يحتجم لأنه لا رفاهية فيه ولحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم) متفق عليه، فإن احتاج المحرم في الحجامة إلى قطع شعر فله قطعه وعليه الفدية لما قطعه من الشعر كما لو احتاج لحلق رأسه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وللمحرم أن يحتجم في رأسه وغير رأسه، وإن احتاج أن يحلق شعر الذكر جاز فإنه قد ثبت في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه وهو محرم) ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر، ويفتصد إذا احتاج إلى ذلك انتهى. (تتمة) : ويجتنب المحرم ذكراً كان أو أنثى ما نهى الله تعالى عنه من الرفث وهو الجماع، روي عن ابن عباس وابن عمر، وقال الأزهري: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة انتهى، وروي عن ابن عباس أنه قال الرفث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 غشيان النساء والتقبيل والغمز وأن يعرّض لها بالفحش من الكلام، والفسوق هو السباب، وقيل المعاصي روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وهو الصحيح كما يأتي، والجدال وهو المراء فيما لا يعني أي يهم، روي عن ابن عمر قال ابن عباس: هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه، قال في المستوعب يحرم عليه الفسوق وهو السباب والجدال وهو المماراة فيما لا يعني انتهى. قال شيخ الإسلام: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أحداً بعبارة بعينها وإنما يقال أهلّ بالحج أهلّ بالعمرة، أو يقال: لبى بالحج، لبى بالعمرة، وهو تأويل قوله تعالى: (الحجُ أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وهذا على قراءة من قرأ فلا رفث ولا فسوق بالرفع، فالرفث: اسم للجماع قولاً وعملاً، والفسوق: اسم للمعاصي كلها، والجدال على هذه القراءة: هو المراء في أمر الحج فإن الله قد وضحه وبيَّنه وقطع المراء فيما كما كانوا في الجاهلية يتمارون في أحكامه، وعلى القراءة الأخرى قد يفسر بهذا المعنى أيضاً، وقد فسروها بأن لا يماري الحاج أحداً، والتفسير الأول أصح فإن الله لم ينه المحرم ولا غيره عن الجدال مطلقاً، بل الجدال قد يكون واجباً أو مستحباً كما قال تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن) وقد يكون الجدال محرماً في الحج وغيره كالجدال بغير علم، والجدال في الحق بعد ما تبين ولفظ الفسوق يتناول ما حرمه الله تعالى لا يختص بالسباب وإن كان سباب المسلم فسوقاً فالفسوق يعم هذا وغيره، والرفث هو الجماع، وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث فلهذا ميز بينه وبين الفسوق، وأما سائر المحظورات كاللباس والطيب فإنه وإن كان يأثم بها فلا يفسد الحج عند أحد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الأئمة المشهورين، وينبغي للمحرم أن لا يتكلم إلا بما يعنيه، وكان شريح إذا أحرم كأنه الحية الصماء انتهى كلام شيخ الإسلام. قلت العرب تزعم أن الأفاعي صم والله أعلم، قال في الإقناع وشرحه: ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع لحديث أبي هريرة مرفوعاً (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) متفق عليه. وعنه مرفوعاً (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) حديث حسن رواه الترمذي وغيره، ويستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله وقراءة القرآن والآمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل، ونحو ذلك من المطلوبات شرعاً انتهى ملخصا، وللمحرم والمحرمة اتجار وعمل صنعة ما لم يشغلا، أي الاتجار، وعمل الصنعة عن واجب أو مستحب، فإن شغلا عن واجب حرما أو عن مستحب كرها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) يعني في مواسم الحج رواه البخاري، ولأبي داود عن أبي أمامة التيمي قال: كنت رجلا أكرى في هذا الوجه وكان ناس يقولون. ليس لك حج فلقيت ابن عمر فقلت إني أكرى في هذا الوجه وإن ناساً يقولون ليس لك حج؟ فقال ابن عمر: أليس تحرم وتلبي وتطوف بالبيت وتفيض من عرفات وترمي الجمار؟ فقلت: بلى، قال فإن لك حجا، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله مثل ما سألتني فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه حتى نزلت الآية (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه هذه الآية وقال: لك حج، إسناده جيد ورواه الدارقطني وأحمد، وعنده (إنا نكري فهل لنا من حج؟) وفيه: وتحلقون رؤوسكم، وفيه: فقال: أنتم حجاج. ْْْْْْْْْْْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 - باب الفدية: قال الشيخ منصور في حاشيته على الإقناع: الفداء: ما يعطي في افتكاك الأسير أو إنقاذ من هلكه، وإطلاق الفدية في محظورات الإحرام فيه إشعار بأن من أتى محظوراً منها فكأنه صار في هلكة يحتاج إلى إنقاذه منها بالفدية التي يعطيها، وسبب ذلك والله أعلم تعظيم أمر الإحرام وأن محظوراته من المهلكات لعظم شأنه وتأكد حرمته، ولم أجد من اعتنى بالتنبيه على هذا فليستفد فإنه من النفائس كذا رأيته بخط ابن نصر الله البغدادي انتهى. والفدية مصدر فداه، يقال فداه وفاداه: أعطى فداءه، ويقال فدَّاه إذا قال له جعلت فداك، والفدية، والفداء، والفَدا، والفِدا بمعنى، إذا كسر أوله يمد ويقصر، وإذا فتح أوله قصر، وحكى صاحب المطلع عن يعقوب فداء ممدودا مهموزا مثلث الفاء، قال منصور: وهي مصدر فداه يفديه فداء انتهى، والفدية في الشرع: دم أو صوم أو إطعام يجب بسبب نسك كدم تمتع وقران أو يجب بسبب ترك واجب كترك الإحرام من الميقات أو الوقوف بعرفة إلى الليل لمن وقف نهاراً، وسائر الواجبات كترك المبيت بمزدلفة أو ليالي منى أو ترك رمي الجمار أو طواف الوداع، أو يجب بسبب فوات الحج بعدم وقوفه بعرفة لعذر حصر أو غيره حتى طلع فجر يوم النحر، ولم يشترط أن محلي حيث حبستني، فإن كان اشترط فلا دم عليه، أو يجب لفعل محظور من محظورات الإحرام فيه، أو يجب بسبب حرم مكة كقتل صيده وقطع حشيشه وبناته وشجره، وله تقديم الفدية على الفعل المحظور إذا احتاج إلى فعله لعذر كأن يحتاج إلى حلق ولبس وتطيب بعد وجود العذر المبيح لفعل المحظور لأنها كفارة فجاز تقديمها على وقت الوجوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ككفارة اليمين له تقديمها على الحنث بعد عقد اليمين وكتعجيل الزكاة لحول أو حولين بعد ملك النصاب الزكوي. والفدية على ثلاث أضرب: أحدها على التخيير وهو نوعان: النوع الأول منهما: يخير فيه المخرج بين الصيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد من بر أو نصف صاع من تمر أو زبيب أو شعير أو أقط كفطرة وكفارة، أو ذبح شاة فلا يجزئ الخبز كما لا يجزئ في الفطرة والكفارة على المذهب، واختار شيخ الإسلام إجزاء الخبز في الفدية كما اختار إجزاءه في الكفارة فيكون لكل مسكين رطلان عراقية من الخبز على القول بإجزائه كما قيل بذلك في الكفارة. وينبغي أن يكون ما يخرجه بأدم ليكفي المساكين المؤنة على قياس الكفارة سواء أخرج الفدية خبزاً على القول بإجزائه أو أخرجها مدا من البر أو نصف صاع من غيره وإخراج الفدية مما يأكل أفضل: من بر وشعير وغيرهما كالكفارة وخروجها من خلاف من أوجبه لظاهر قوله تعالى: (مِن أوسط ما تطعمون أهليكم) . وعند المالكية والشافعية لا يجزئ من البر إلا نصف صاع كبقية الأصناف وهو رواية عن الإمام أحمد لما في سنن أبي داود (وإن شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين) فالحديث إنما ذكر فيه التمر ويقاس عليه البر والشعير والزبيب، فالحكم ثبت في البر بطريق التنبيه أو القياس على التمر، والفرع يماثل أصله ولا يخالفه، والمذهب الرواية الأولى، قال شيخ الإسلام في الاختيارات: ويجزئ في فدية الأذى رطلاً خبز عراقية. وينبغي أن يكون بإدام ومما يأكله أفضل؛ من بر أو شعير انتهى، والفدية التي يخيَّر فيها بين ما ذكرناه في هذا النوع الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 هي فدية حلق أكثر من شعرتين وتقليم أكثر من ظفرين، وفدية تغطية الرأس من الذكر أو أوجه من الأنثى، وفدية اللبس والطيب، وفدية الإمناء بنظرة واحدة، والمباشرة دون الفرج بغير إنزال، وفدية الإمذاء بالمباشرة دون الفرج، وبتكرار النظر، وفدية ما إذا قبّل أو لمس بشهوة فأمذى فالواجب في ذلك كفدية الأذى يخيّر بين صيام أو صدقة أو نسك شاة لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) ، وتجب الفدية ولو حلق أو قلّم أو لبس أو غطى رأسه أو تطيب لعذر أو غيره وهو مذهب المالكية والشافعية لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا) الآية. وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن عُجرة (لعلك آذاك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو اطعم ستة مساكين أو انسك شاة) متفق عليه فدلت الآية والخبر على وجوب الفدية على التخيير، لأنه مدلول في حلق الرأس، وقيس عليه تقليم الأظفار واللبس والطيب لأنه يحرم في الإحرام لأجل الترفه فأشبه حلق الرأس. (تنبيه) : المذهب أن الفدية تجب على من لبس أو غطى رأسه أو تطيب عمداً، بخلاف ما إذا كان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً كما يأتي والله أعلم. وعن الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا حلق من غير عذر فعليه دم من غير تخيير، اختاره ابن عقيل وهو مذهب الحنفية لأن الله سبحانه وتعالى خيَّر بشرط العذر فإذا عدم العذر زال التخيير، والمذهب الرواية الأولى لأن كل كفارة ثبت التخيير فيها مع العذر ثبت مع عدمه كجزاء الصيد لا فرق بين قتله للضرورة إلى أكله أو لغير ذلك، وإنما الشرط لجواز الحلق لا للتخيير، وتقدم حكم ما إذا قطع شعرتين أو قلّم ظفرين أو ما دونهما في باب محظورات الإحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 النوع الثاني: من الضرب الذي على التخيير: جزاء الصيد يخير فيه من وجب عليه بين إخراج مثل الصيد من النّعم فإن اختاره ذبحه وتصدق به على مساكين الحرم ولا يجزئه أن يتصدق به حياً، لأن الله سماه هدياً، والهدي يجب ذبحه، وله ذبحه أي وقت شاء فلا يختص بأيام النحر لأن الأمر به مطلق، أو تقويم المثل بدراهم فإذا علم مثل الصيد الذي وجب عليه جزاؤه قوّم المثل لا الصيد بدراهم أو غيرها من النقود الرائجة، ويكون التقويم بالموضع الذي أتلف الصيد فيه وبقرب محل تلف الصيد، ويكون التقويم بمحل الإخراج إذا لم يكن موضع الإتلاف أو قربه، ويشتري بالنقود التي هي قيمه المثل طعاماً يجزئ في الفطرة وهو البر والشعير والتمر والزبيب والأقط كواجب في فديه أذى وكفارة. وجزم الشيخ مرعي بن يوسف في الغاية بإجزاء قوت غيره مع عدمه وما جزم به مرعي له وجه صحيح، والله أعلم. وأن أحب أخرج من طعام مجزئ يملكه بقدر القيمة متحرياً العدل فلا يجب عليه الشراء من غيره إذا كان موجوداً عنده ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم، لأن الله تعالى ذكر في الآية التخيير بين ثلاثة أشياء وهذا ليس منها فيطعم كل مسكين من مساكين الحرم مداً من حنطة أو نصف صاع من غيرها، لأن دبل الهدي الواجب للمساكين أو يصوم عن طعام كل مسكين يوماً لقوله تعالى: (ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً) فعطف بأو، وهي للتخيير، قال في الإقناع وشرحه: وإن بقي من الطعام ما لا يعدل يوماً بأن كان دون طعام مسكين صام عنه يوماً كاملاً لأن الصوم لا يتبعض انتهى. قال في المنتهى وشرحه: وإن بقي دونه صام يوما انتهى قال الخلوتي: انظر هل المراد مع إخراج ذلك الجزاء؟ وظاهر كلام الإقناع بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 صريحه أن الكلام مفروض فيما إذا صام بقدر عدد الأمداد وبقي من الطعام المعدل بالأيام أقل من مد فإنه يصوم عنه يوماً كاملا، ولا يجمع بين الصوم والإطعام، قال الشيخ عثمان النجدي على قوله في المنتهى وشرحه: وإن بقي دونه صام يوماً، يعني إذا اختار الصيام عن الإطعام فبقي ما لا يعدل طعام مسكين صام يوماً كاملاً كما لو كان الطعام عشرة أمداد بر ونصفا فيصوم أحد عشر يوماً، أما لو أحب الإطعام في الصورة المذكورة فالظاهر أنه يخرج ما معه ولا يجب عليه تكميل ولا صيام، قال في الإقناع: ولا يجوز أن يصوم عن بعض الجزاء ويطعم عن بعضه انتهى كلام الشيخ عثمان، وما قاله الشيخ عثمان ظاهر لا غبار عليه، وهو مراد الأصحاب ولا يفهم من قولهم: وإن بقي دونه صام يوماً أنه إذا أطعم عشرة أمداد وبقي نصف مد صام عنه يوماً كاملاً لأنه تبيعض للجزاء وهو ممنوع يدل لذلك قوله في الإقناع وشرحه: ولا يجوز أن يصوم عن بعض الجزاء ويطعم عن بعضه نص عليه لأنها كفارة واحدة فلم يجز فيها ذلك كسائر الكفارات انتهى. ومثله في شرح المنتهى، والله أعلم. ولا يجب التتابع في هذا الصوم لعدم الدليل عليه والأمر به مطلق فيتناول الحالين وإن كان الصيد مما لا مثل له خُيّر بين أن يشتري بقيمته طعاماً يجزئ في الفطرة، وإن أحب أخرج من طعام يملكه بقدر القيمة كما تقدم فيطعمه للمساكين لكل مسكين مد بر، أي: ربع صاع أو نصف صاع من غيره من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط، وبين أن يصوم عن كل طعام مسكين يوماً لتعذر المثل فيخير فيما عداه، قال الشيخ عثمان بن قائد فتكون المساكين بقدر الأمداد وأنصاف الآصع، وأيام الصوم بقدر المساكين انتهى. الضرب الثاني: من أضرب الفدية على الترتيب، وهو على ثلاثة أنواع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 النوع الأول: دم المتعة والقران فيجب الهدي لقوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) وقيس القارن عليه لترفهه بترك أحد السفرين كالمتمتع، بل القران أولى لأن أفعال المتمتع أكثر من أفعال القارن، والدم الذي يجب على المتمتع والقارن هو دم نسك لا دم جبران، فإن عدم المتمتع والقارن الهدي موضعه أو وجده يباع ولا ثمن معه إلا في بلده فصيام ثلاثة أيام في الحج، قيل معناه في أشهر الحج، وقيل معناه في وقت الحج ولا يلزمه أن يقترض ثمن الهدي، ولو وجد من يقرضه ويعمل بظنه في عجزه عن الهدي فإن الظاهر من المعسر استمرار إعساره فلهذا جاز للمعسر الانتقال إلى الصوم قبل زمان وجوب الصوم لأنه يجب بطلوع فجر يوم النحر، والأفضل أن يكون آخر الثلاثة يوم عرفة نص عليه أحمد فيصوم يوم عرفة هنا استحبابا للحاجة إلى صومه ويقدم الإحرام بالحج قبل يوم التروية الذي هو اليوم الثامن فيكون اليوم السابع من ذي الحجة محرماً فيُحرم قبل طلوع فجره وهو أولها ليصومها كلها وهو محرم بالحج، وعنه: الأفضل أن يكون آخرها يوم التروية وهو اليوم الثامن ومال إليه صاحب الفروع! وروى عن ابن عمر وعائشة، فعلى هذه الرواية يُحرم قبل طلوع فجر يوم السادس ويصوم السادس والسابع والثامن ويقف بعرفات مفطراً وهذا أرفق له خصوصاً في أيام الحر فإن الوقوف بعرفة مع الصيام يشق وله تقديم الأيام الثلاثة قبل إحرامه بالحج بعد أن يحرم بالعمرة وأن يصومها في إحرام العمرة لأن إحرام العمرة أحد إحرامي التمتع فجاز الصوم فيه وبعد كالإحرام بالحج، ولأنه يجوز تقديم الواجب على وقت وجوبه إذا وجد سبب الوجوب وهو هنا إحرامه بالعمرة في أشهر الحج كتقديم الكفارة على الحنث بعد اليمين، ولا يجوز تقديم صوم الثلاثة قبل إحرام العمر لعدم وجود سبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الوجوب كتقديم الكفارة على اليمين. قال الخلوتي: وهل إذا صام الثلاثة قبل وقت وجوبها لعسرته ثم أيسر وقت وجوبها يلزمه هدي؟ الظاهر أنه يلزمه لأنه تبين أنه كان موسراً وقت الوجوب إذ وقت الوجوب إنما يدخل بفجر يوم النحر كما تقدم ثم رأيت في المسألة خلافا فقال ابن الزاغوني في الإقناع: يلزمه، ولعل علته ما تقدم، وقال ابن رجب: إطلاق كثير يخالفه، أي كلام ابن الزاغوني، يعني فاختيار ابن رجب: أنه لا يلزمه لأنه يلزم عليه الجمع بين البدل والمبدل منه فليحرر، وقد نقل شيخنا عبارة ابن رجب في القواعد في القاعدة الخامسة. انتهى كلام الخلوتي، ومراد الخلوتي بقوله شيخنا الشيخ منصور وعبارة ابن رجب في القواعد قال ومنها إذا كفر المتمتع بالصوم ثم قدر على الهدي وقت وجوبه فصرح ابن الزاغوني في الإقناع بأنه لا يجزئه الصوم وإطلاق الأكثرين يخالفه بل وفي كلام بعضهم تصريح به وربما أشعر كلام أحمد بذلك لأنه صوم صح فبرئت ذمته به فصادف وقت وجوب الهدي ذمته بريئة من عهدة الواجب، انتهى من القاعدة الخامسة. قلت ويأتي الكلام على هذا قريباً إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : وقت وجوب صوم الأيام الثلاثة المذكورة في قوله جل وعلا: (فصيام ثلاثة أيام في الحج) وقت وجوب الهدي وهو طلوع فجر يوم النحر على ما تقدم لأنها بدله. (فائدة) : صوم الثلاثة بعد الإحرام بالعمرة أو في إحرام العمرة وقبل الإحرام بالحج جائز، وصومها وهو محرم بالحج أولها للسابع وآخرها التاسع سُنة فضيلة، وصومها أيام منى واجب مع أن أيام منى وهي أيام التشريق لا يجوز صومها عن تطوع ولا عن واجب إلا عن دم التمتع والقران والله أعلم، وإذا رجع إلى أهله صام سبعة أيام لقوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أيام في الحج وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) . ولا يصح صوم السبعة بعد إحرامه بالحج قبل فراغه منه، لأن المراد، والله أعلم بقوله تعالى: (إذا رجعتم) يعني من عمل الحج لأنه المذكور، ولا يصح صوم السبعة في أيام منى لبقاء أعمال من الحج. ولا يصح صوم السبعة بعد أيام منى قبل طواف الزيارة لأنه قبل ذلك لم يرجع من عمل الحج، وكذا لا يصح صوم السبعة بعد طواف الزيارة وقبل السعي. وإن صام السبعة بعد الطواف والسعي صح ذلك لأنه رجع من عمل الحج، والاختيار أن يصومها إذا رجع إلى أهله، أي وطنه لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) . متفق عليه. قلت وهذا الحديث دليل واضح على أن المراد بالرجوع في الآية الكريمة الرجوع إلى أهله أي وطنه والله أعلم. وقال في المنتهى وإن صامها قبل بعد إحرامه بحج أجزأ لكن لا يصح أيام منى انتهى، يعني بذلك صيام السبعة. قال الخلوتي قوله بعد إحرامه بحج أجزأه: أي بعد فراغه من الحج وبعد مضي أيام منى كما يأتي في قوله لكن لا يصح أيام منى كما يعلم من التقييد، ومن تفسير قوله تعالى: (وسبعة إذا رجعتم) بإذا فرغتم من أعمال الحج انتهى، قال الشيخ عثمان، وعلى هذا فهو من باب الكناية حيث أطلق صاحب المنتهى الملزوم وهو الإحرام بالحج وأراد اللازم وهو الفراغ منه وإلا فظاهره غير مراد، ولهذا اعترض الحجاوي على من عبر بذلك كالمنقح والمصنف انتهى، ومراده بالمصنف صاحب المنتهى، قال الشيخ مرعي: وكلام المنتهى هنا غير محرر انتهى، قلت ولو قال صاحب المنتهى وإن صام السبعة قبل رجوعه إلى أهل بعد فراغه من الحج أجزأ لما ورد عليه اعتراض، والله أعلم، فإن لم يصم الثلاثة قبل يوم النحر صام أيام منى كما تقدم، وهي أيام التشريق لقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ابن عمر وعائشة: (لم يرخص في أيام التشريق إلا لمن لم يجد الهدي) . رواه البخاري، ولأن الله تعالى أمر بصيام الأيام الثلاثة في الحج ولم يبق من الحج إلا هذه الأيام فتعين فيها الصوم، ولا دم عليه إذا صامها أيام منى لأنه صامها في الحج فإن لم يصم الثلاثة في أيام منى ولا قبلها ولو لعذر كمرض صام بعد ذلك عشرة أيام كاملة استدراكاً للواجب وعليه دم لتأخيره واجباً من مناسك الحج عن وقته كتأخير رمي جمار عن أيام منى، وكذا إن أخر الهدي عن أيام النحر لغير عذر فعليه دم لتأخير الهدي الواجب عن وقته، فإن كان لعذر كأن ضاعت نفقته فلا دم عليه وليس عليه إلا القضاء كسائر الهدايا الواجبة، فإن قيل ما الفرق بين تأخير صيام الثلاثة عن أيام منى وتأخير الهدي عن أيام النحر حيث أوجبوا في الأول بالتأخير عن أيام منى دماً ولو لعذر ولم يوجبوا في الثاني دما إذا كان التأخير عن أيام النحر لعذر؟ قيل الفرق بينهما أن صوم الثلاثة متسع وقتها لأن أوله من إحرامه بالعمرة فيندر استغراق العذر له بخلاف أيام النحر التي هي زمن الهدي فإن وقتها ليس بمتسع، والله أعلم. قال في الإقناع وشرحه: ولا يجب تتابع ولا تفريق في صوم الثلاثة ولا في صوم السبعة ولا بين الثلاثة والسبعة إذا قضي الثلاثة أو صامها أيام منى لأن الأمر ورد بها مطلقاً، وذلك لا يقتضي جمعاً ولا تفريقاً انتهى ومثله في المنتهى. قال الخلوتي: قوله إذا قضي، التقييد به جرى على الغالب وإلا فلو صام أيام منى عن الثلاثة صح وكان أداء، ولا يجب بينها وبين السبعة حينئذ تتابع ولا تفريق، ومما تقرر تعلم أن قوله إذا قضي راجع للثلاثة فقط، إذ السبعة لا محل لها معين حتى تقضي بفواته انتهى. وقول الخلوتي وإلا فلو صام أيام منى عن الثلاثة صح وكان أداء، فيقال لا يفهم من عبارة الإقناع وشرحه أنه إذا صاح الثلاثة أيام منى أنها تكون قضاء لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 صاحب الإقناع وشرحه أراد أنه إذا قضى الثلاثة بعد أيام منى ولو كان كما فهمه الخلوتي لكانت عبارة الإقناع وشرحه هكذا إذا قضي الثلاثة أو قضاها أيام منى لكنه قال أو صامها أيام منى فتدبر. والظاهر أن محل عدم وجوب التتابع في صيام الثلاثة إذا صامها في غير أيام التشريق، أما إذا صامها فيها فإنه يجب التتابع لأنه لم يبق من الحج سوى هذه الأيام الثلاثة فتعين فيها الصوم ولم أر من نبه على ذلك، والله أعلم. ومتى وجب عليه الصوم لعجزه عن الهدي وقت وجوبه فشرع في الصوم أو لم يشرع فيه ثم قدر على الهدي لم يلزمه الانتقال إليه اعتباراً بوقت الوجوب كسائر الكفارات وإن شاء انتقل عن الصوم إلى الهدي لأنه الأصل، ومعنى هذا أنه لو طلع عليه فجر يوم النحر وهو معسر ولم يصم الثلاثة ثم أيسر جاز له الصوم ولا يلزمه الهدي، فإن شاء الانتقال من الصوم إلى الهدي فله ذلك لأن الهدي هو الأصل. قال الشيخ منصور: وإن صام قبل الوجوب لعسرته ثم قدر على الهدي وقت الوجوب فصرح ابن الزاغوني بأنه لا يجزئه الصوم، وإطلاق الأكثرين يخالفه، وفي كلام بعضهم تصريح به قاله في القاعدة الخامسة، واقتصر عليه في الإنصاف انتهى، وتقدم الكلام في هذه المسألة قريباً، قال في المنتهى وشرحه ولا يلزمه من قدر على هدي بعد وجوب صوم بأن كان بعد يوم النحر انتقال عنه أي الصوم شرع فيه أي الصوم أو فلا، اعتباراً بوقت الوجوب فقد استقر الصوم في ذمته وإن أخرج الهدي إذاً أجزأ، لأنه الأصل انتهى. قال الخلوتي: قوله بعد وجوب صوم ظاهره أنه لو صام قبل وجوبه ثم قدر على الهدي زمن وجوب صوم وهو يوم النحر أنه يلزمه الهدي وهو ما مشى عليه ابن الزاغوني انتهى. قلت الظاهر أنه لا يلزمه الهدي إذا قدر عليه بعد صوم الثلاثة حال عسرته ولو كان صيامه قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وجوب صوم لأنه يلزمه منه الجمع بين البدل والمبدل منه وهو غير لازم شرعاً والله أعلم. ومن لزمه صوم المتعة فمات قبل أن يأتي به كله أو بعضه لغير عذر بأن أمكنه الصوم ولم يصم أطعم عنه لكل يوم مسكين من تركته إن كانت وإلا استحب لوليه كقضاء رمضان ولا يصام عنه لوجوبه بأصل الشرع، بخلاف النذر، وإن كان لعذر فلا إطعام عنه لعدم تقصيره ولا شيء عليه. (تنبيه) : لا دخل للإطعام في فدية التمتع والقران إذا كان من وجبت عليه الفدية حياً وإنما الواجب عليه الهدي، فإن لم يجد فالصيام كما تقدم، والله أعلم. النوع الثاني من الضرب الثاني: المحصر يلزمه الهدي لقوله تعالى: (فإذا أحصرتم فما استيسر من الهدي) ينحره بنية التحلل مكان الإحصار فإن لم يجد المحصر الهدي صام عشرة أيام قياساً على هدي التمتع بنية التحلل ثم حل، وليس له التحلل قبل الذبح أو الصوم، ولا إطعام في هذا النوع كما أن فدية التمتع لا إطعام فيها إذا كان من وجبت عليه حيا كما تقدم التنبيه على ذلك، ووجه قياس المحصر على المتمتع هو كون وجوب الهدي فيهما بالنص في قوله تعالى في حق المتمتع: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) . وفي قوله تعالى في حق المحصر: (فإن أُحصر تم فما استيسر من الهدي) . فلما كان كذلك قاسموا ما يقوم مقامه وهو الصيام في الإحصار عند عدم الهدي على ما نص عليه في التمتع، وهو الصيام إذا لم يجد الهدي، هذا ما ظهر لي والله أعلم. قال الشيخ الفتوحي: فإن قيل لم اعتبرت النية في المحصر دون غيره؟ فالجواب إنما اعتبرت لأن من أتى بأفعال النسك أتى بما عليه فحل بإكماله فلم يحتج إلى نية بخلاف المحصر، فأنه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها فافتقرت إلى نية. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 النوع الثالث من الضرب الثاني: فدية الوطء أو إنزال مني بمباشرة دون فرج لشهوة أو قبلة أو استمناء أو لمس أو تكرار نظر لشهوة في حج قبل التحلل الأول فتجب بذلك بدنة أو ما قام مقامها كالبقرة وسبع شياه، فإن لم يجد البدنة أو ما يقوم مقامها صام عشرة أيام. ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، أي فرغ من عمل الحج كدم المتعة لقضاء الصحابة به، قاله ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو رواه عنهم الأثرم ولم يظهر لهم مخالف في الصحابة فيكون إجماعاً. وتجب شاة إن كان الوطء في العمرة، وتقدم في الباب قبله أن الوطء يفسد النسك قبل التحلل الأول، والوطء بعد التحلل الأول، وقبل الثاني لا يفسد النسك، بل يفسد الإحرام فليعاود ذلك حيث استوفينا فيه الكلام. قال الخلوتي في حاشته على المنتهى: ويجب بالوطء في حج قبل التحلل الأول بدنة وبعده شاة على ما تقدم فإن لم يجدها هل يصوم عشرة أيام لذلك أو تستقر في ذمته حتى يجدها؟ وهل هي كفدية الوطء في الترتيب أو كفدية الأذى في التخيير؟ الذي اختاره شيخنا الأول: وقال الخلوتي أيضا: ويجب بوطء في عمرة شاة، وإذا لم يجدها هل يصوم عشرة أيام لذلك؟ وهل هي فدية تخيير إلحاقاً لها بفدية الأذى، أو فدية ترتيب إلحاقاً لها بفدية الوطء؟ توقف فيه شيخنا، يعني الشيخ منصور ثم استظهر أنه يصوم لذلك وأنها كفيدة الوطء انتهى كلام الخلوتي، وتعقبه الشيخ عثمان بن قائد النجدي في حاشيته على المنتهى، فقال: أقول هذا البحث نشأ من الغفلة مما يأتي قريباً من قول الشارح، يعني منصوراً في شرح المنتىهى، وكذلك لو وطيء في العمرة أي فإن الواجب عليه كفدية الأذى صيام أو صدقة أو نسك، وعلى هذا فذكر المصنف، يعني الشيخ الفتوحي في المنتهى، الشاة في الوطء في العمرة مع ما هو مرتب غير ظاهر إلا أن يقال إن المقصود ذكر فدية الوطء في الحج قبل التحلل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الأول وهي مرتبة، وأما فدية العمرة فذكرت بطريق التبعية لا لكونها من هذا القسم: ولهذا لم يتعرض المصنف، يعني التوحي لما إذا لم يجد الشاة كما فعل في بدنة الحج. والحاصل أنه متى وجب في الوطء شاة في حج بعد التحلل الأول، أو في عمرة فإن الشاة لا تجب بخصوصها بل على التخيير المذكور على ما نقله الشيخ منصور في شرحه هنا وفي شرح الإقناع عن الشرح الكبير فتدبر انتهى كلام الشيخ عثمان. قلت: ما قاله الشيخ عثمان هو صريح عباراتهم: قال في الإنصاف: ومثال فعل المباشرة الموجبة للدم كل استمتاع يوجب شاة كالوطء في العمر وبعد التحلل الأول إن قلنا به والمباشرة من غير إنزال ونحو ذلك إذا قلنا تجب شاة فحكمها حكم فدية الأذى على ما تقدم في أول الباب. وهذا أيضاً من غير خلاف جزم به الشارح وابن منجا وغيرهما انتهى، إذا تقرر هذا فما أوجب شاة كالوطء في الحج بعد التحلل الأول والوطء في العمرة فحكمها حكم فدية الأذى على التخيير: صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة تجزئ في الأضحية أو سُبع بدنة أو سُبع بقرة، والله أعلم. ويجب على المرأة المطاوعة مثل ذلك المذكور في الحج والعمر، ولا تجب فدية الوطء على المكرهة والنائمة لقوله عليه الصلاة والسلام: (عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ولا يجب على الواطئ أن يفدي عنها وتقدم في الثامن من محظورات الإحرام. الضرب الثالث من أضرب الفدية: الدماء الواجبة لغير ما تقدم كدم وجب لفوات الحج بعدم وقوفه بعرفة لعذر حصر أو غيره حتى طلع فجر يوم النحر ولم يشترط أن محلي حيث حبستني فإن كان اشترك فلا دم عليه، أو وجب الدم لترك واجب كترك الإحرام من الميقات أو الوقوف بعرفة إلى الليل لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وقف نهاراً وسائر الواجبات كترك المبيت بمزدلفة أو ليالي منى أو رمي الجمار أو طواف الوداع فيلزمه من الهدي ما تيسر كدم المتعة من حكمه وحكم الصيام بدله، أعني أنه يجب عليه دم كدم المتعة على الترتيب. فإن عدم الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع هكذا صرح في الإقناع والمنتهى وغيرهما أن الدم الواجب لفوات حج أو لترك واجب حكمه حكم دم التمتع، يعني على الترتيب، لكن صيام ثلاثة أيام في الحج إن أمكن ذلك فأما إذا لم يمكن كما إذا ترك طواف الوداع أو رمي إحدى الجمرات في أيام التشريق أو ترك المبيت بمنى ليلة اليوم الثاني أو الثالث فإنه يصوم عشرة أيام بعد الحج. أما إن ترك المبيت بمنى ليلة أحد عشر فإنه يمكنه أن يصوم أيام التشريق الثلاثة، وحينئذ يكون قد صام ثلاثة أيام في الحج، والله أعلم. قال الشيخ منصور: لكن في مسألة الفوات لا يتصور صوم الثلاثة قبل يوم النحر لأن الفوات إنما يتحقق بطلوع فجره وإنما أُلحق بدم التمتع لتركه بعض ما اقتضاه إحرامه كالمترفه يترك أحد السفرين ولم يلحق بالإحصار مع أنه أشبه به إذا هو إحلال من إحرامه قبل إتمامه، لأن البدل في الإحصار ليس منصوصاً عليه وإنما ثبت قياساً، وقياسه على الأصل المنصوص عليه أولى، على أن الهدي هنا كهدي الإحصار والصيام مثل الصيام عن دم الإحصار إلا أن التحلل في الإحصار لا يجوز إلا بعد ذبح الهدي أو الصيام بنية التحلل وهذا يجوز قبل الحل وبعده انتهى كلامه. ومعنى كلام الشيخ منصور هذا أن الصيام ليس منصوصاً عليه في الإحصار وإنما ثبت قياساً على التمتع فألحق الفوات بدم التمتع ولم يلحق بدم الإحصار لأنهم قد جعلوا هدي التمتع أصلاً حيث كان منصوصاً عليه وعلى بدله، وهو الصيام في الآية الكريمة، وقاسوا عليه دم الإحصار كما تقدم في النوع الثاني من الضرب الثاني لأنه لم ينص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فيه على الصيام فصار كالفرع. ولما كان الأمر كذلك قاسوا دم الفوات على الأصل المنصوص عليه وعلى بدله، وهو هدي التمت وبدله وهو الصيام، ولم يقيسوه على الفرع، وهو دم الإحصار الذي نص فيه في الآية الكريمة على الهدي فقط ولم ينص فيه على بدله وهو الصيام وإن كان الفوات أشبه بالإحصار محافظة على أولوية القياس على الأصل المنصوص عليه وعلى بدله في قوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) . الآية، والله أعلم. وما وجب من الدماء للمباشرة في غير الفرج كالقُبلة واللمس والنظر بشهوة، فما أوجب منه بدنة وهو الذي فيه إنزال وكان قبل التحلل الأول من الحج فحكمه حكم البدنة الواجبة بالوطء في الفرج على الترتيب فتجب البدنة أو ما يقوم مقامها، كالبقرة وسَبع شياه، فإن لم يجد ذلك صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، لأنه دم وجب بسبب المباشرة أشبه الواجب بالوطء في الفرج، وما عدا ما يوجب بدنه، بل أوجب دماً كاستمتاع لم ينزل فيه وكالوطء في العمرة وبعد التحلل الأول في الحج فإنه يوجب شاة، وحكمها حكم فدية الأذى لما في ذلك من الترفه وهي على التخيير كما تقدم، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما (فيمن وقع على امرأته في العمرة قبل التقصير: عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك) . رواه الأثرم. ففدية الأذى يجب فيها على التخيير الهدي أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، وهي صاع ونصف من البر لكل مسكين ربع صاع أو ثلاثة آصع من غيره مما يجزئ في فطرة لكل مسكين نصف صاع وتقدم شيء من ذلك في النوع الثاني من الضرب الأول من هذا الباب. وإن كرر النظر فأمنى أو قبّل فأمنى أو لمس لشهوة فأمنى أو استمنى فأمنى وكان ذلك قبل التحلل الأول فعليه بدنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 قياساً على الوطء، فإن لم يجدها صام عشرة أ] ام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع كما تقدم قريباً، وإن كرر النظر قبل التحل الأول أو بعده وقبل الثاني فأمذى أو قبَّل فأمذى أو لمس لشهوة فأمذى أو استمنى فأمذى فعليه شاة لأنه يحصل به التذاذ، أو أمنى بنظرة واحدة قبل التحلل الأول أو بعده وقبل الثاني فعليه شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين كفدية الأذى لأنه فعلٌ يحصل به اللذة أوجب الإنزال أشبه اللمس، وإن لم ينزل بالنظرة الواحدة فلا شيء عليه أو أنزل علن فكر فلا شيء عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم) . متفق عليه، ولأنه لا نص فيه ولا إجماع، ولا يصح قياسه على تكرار النظر لأنه دونه في استدعاء الشهوة وإفضائه إلى الإنزال، ويخالفه في التحريم إذا تعل بأجنبية، وفي الكراهة إذا تعلق بمباحة كصائمة فيبقى على الأصل، وأن أمذى بنظرة من غير تكرار للنظر فلا شيء عليه لمشقة الاحتراز منه أو احتلم فلا شيء عليه لأنه لا يمكن الاحتراز منه، وخطأ في كل ما تقدم من المباشرة دون الفرج وتكرار النظر والتقبيل واللمس لشهوة أنزل أو أمذى أو لا كعمد في حكم الفدية كالوطء فلا تختلف الفدية بالخطأ والعمد فيه، والمرأة كالرجل مع شهوة فيجب عليها مع الشهوة ما يجب عليه لاشتراكهما في اللذة، فإن لم توجد منها شهوة فلا شيء عليها. (مسألة) : عبارات الأصحاب صريحة في أن الاستمتاع فيما دون الفرج بلا إنزال يجب به شاة فهل تجب الشاة حتى لو لم يمذ وحتى لو كان الاستمتاع بعد التحلل الأول وقبل الثاني أو لا؟ وهل إذا كرر النظر أو قبَّل أو لمس لشهوة أو استمنى فلم ينزل ولم يمذ عليه شاة أو لا؟ وهل يفرق بين ما إذا حصل ذلك قبل التحلل الأول وبين ما إذا حصل ذلك بعد التحلل الأول وقبل الثاني أو لا؟ ينبغي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 أن يحرر، فأقول وبالله التوفيق: قال في الإقناع وشرحه: وأما الاستمتاع بلا إنزال فيجب به شاة كما تقدم انتهى. فظاهرة أن الشاة تجب على المستمتع بما دون الفرج إذا لم ينزل سواء أمذى أم لم يمذ، أما إن أنزل بالاستمتاع فعليه بدَنة إذا كان ذلك قبل التحلل الأول كما تقدم، قال في المنتهى وشرحه: وما أوجب من ذلك شاة كما لو أمذى بذلك أي المباشرة دون الفرج وتكرار النظر والتقبيل واللمس بشهوة فكفدية أذى أو باشر ولم ينزل أو أمنى بنظرة فكفدية أذى انتهى. وقال أيضاً: وخطأ في الكل، أي كل ما ذكر من مباشرة دون الفرج وتكرار نظر وتقبيل ولمس بشهوة أنزل أو أمذى أو لا، كعمد في حكم الفدية كالوطء انتهى. قال في المغني: وروى الأثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن الحارث أن عمر بن عبد الله قبَّل عائشة بنت طلحة محرماً فسأل فأجمه له على أن يهريق دماً، والظاهر أنه لم يكن أنزل لأنه لم يذكر، وسواء أمذى أو لم يمذ، وقال سعيد بن جبير: إن قبّل فأمذى أم لم يمذ فعليه دم، وسائر اللمس بشهوة كالقُبلة فيما ذكرنا لأنه استمتاع يلتذ به فهو كالقبلة، قال أحمد فيمن قبض على فرج امرأته وهو محرم فإنه يهريق دم شاة، وقال عطاء: إذا قبل المحرم أو لمس فيهرق دماً إلى أن قال: فصلٌ، فإن كرر النظر حتى أمذى، فقال أو الخطاب عليه دم، وقال القاضي ذكره الخرقي قال القاضي لأنه جزء من المني ولأنه حصل به التذاذ فهو كاللمس. وإن لم يقترن بالنظر مني أو مذي فلا شيء عليه سواء كرر النظر أم لم يكرره. وقد روي عن أحمد فيمن جرد امرأته ولم يكن منه غير التجريد أن عليه شاة، وهذا محمول على أنه لمس فإن التجريد لا يعري عن اللمس ظاهراً أو على أنه أمني أو أمذي، أما مجرد النظر فلا شيء فيه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى نسائه وهو محرم، وكذلك أصحابه انتهى. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 في الشرح الكبير: إذا كرر النظر فأنلز ففيه روايتان: إحداهما عليه بدنة روى ذلك عن ابن عباس. قلت: وهو المذهب إذا كان قبل التحلل الأول في الحج، والثانية عليه شاة، وهو قول سعيد بن جبير وروى أيضاً عن ابن عباس، وقال أبو ثور لا شيء عليه وحكى عن أبي حنيفة والشافعي لأنه ليس بمباشرة فأشبه الفكر، ولنا أنه إنزال بفعل محظور فأوجب الفدية كاللمس، وقد روى الأثرم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال له رجل (فعل الله بهذه وفعل إنها تطيبت لي فكلمتني وحدثتني حتى سبقتني الشهوة، فقال ابن عباس: تم حجك وأهرق دماً) فإن كرر النظر فأمذى فعليه شاة، وكذلك ذكره أبو الخطاب لأنه جزء من المني لكونه خارجاً بسبب الشهوة ولأنه حصل به التذاذ فهو كاللمس، فإن لم يقترن به مني ولا مذي فلا شيء عليه كرر النظر أو لم يكرره، وقد روي عن أحمد فيمن جرد امرأته ولم يكن منه غير التجريد أن عليه شاة وهو محمول على أنه لمس فإن التجريد لا يخلو عن اللمس ظاهراً أو على أنه أمنى أو أمذى، أما مجرد النظر فلا شيء فيه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى نسائه وهو محرم وكذلك أصحابه انتهى. قلت ومن هذه العبارات التي سقناها يظهر أن المباشرة دون الفرج بقُبلة أو لمس بشهوة أو استمناء يجب فيها شاة حتى لو لم يحصل بالمباشرة مني ولا مذي ولو كان ذلك بعد التحلل الأول لبقاء التحريم وإطلاقهم وجوب الفدية ويكون حكمها حكم فدية الأذى على التخيير، وتقدم بيان الفرق بين المني والمذي فيما إذا كانت المباشرة دون الفرج قبل التحلل الأول. وأما تكرار النظر فإنه إذا لم يحصل بسببه مني ولا مذي فلا كفارة فيه إلا أنه إذا كان بشهوم يحرم ذلك على المحرم، وأما إذا أمذى بنظرة واحدة فلا شيء عليه لمشقة التحرز كما أنه لا شيء على من فكر فأنزل ولا على من احتلم، هذا ما ظهر لي من كلامهم في هذه المسألة، والله سبحانه أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 -- فصل: وإن كرر محظوراً في إحرامه من جنس واحد غير قتل صيد مثل أن حلق ثم أعاد الحلق أو قلم أظفاره ثم أعاد أو لبس مخيطاً ثم أعاد لبسه أو غيره، وكذا لو تعدد السبب فلبس لبرد، ثم نزع ثم لبس لنحو مرض أو تطيب، ثم أعاد أو وطيء، ثم أعاد أو فعل غيرها من المحظورات كأن باشر دون الفرج، ثم أعاد ذلك ثانياً ولو غير الموطوءة أو لا فعليه كفارة واحدة للكل تابع الفعل أو فرقه لأن الله تعالى وتدقس أوجب في حلق الرأس فدية واحدة ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو دفعات، فلو قلم ثلاثة أظفا أو قطع ثلاثة شعرات ثم قلم أو قطع مثل ذلك في وقت آخر قبل التكفير لزمه كفارة واحدة، وهي دم أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين ولم تلزمه كفارة ثانية، ومثل ذلك إذا لبس المحرم لعذر البرد أو المرض ونحوهما فزال العذر لزمه الخلع في الحال فإذا عاد عليه العذر من البرد أو المرض فله أن يلبس، فإذا زال خلع وهلم جرا، وعليه في ذلك كفارة واحدة إن لم يكفر عن الفعل الأول، فإن كفر عن الفعل الأول لزمه عن الثاني كفارة ثانية، وهكذا أبدا لأن السبب الموجب للكفارة الثانية غير عين السبب الموجب للكفارة الأولى فأشبه ما لو حلف ثم حنث وكفر ثم حلف ثانيا وحنث فإنه يكفر أيضاً. وعن الإمام أحمد رحمه الله: أنه إن كرره لأسباب مثل أن لبس للبرد ثم لبس للحر ثم لبس للمرض فكفارات، وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة، وروى الأثرم عن الإمام أحمد فيمن لبس قميصاً وجبة وعمامة وغير ذلك لعلة واحد فكفارة واحدة، فإن اعتل فلبس جبة ثم برأ ثم اعتل فلبس جبة، فقال: لا، هذا عليه كفارتان، وقال ابن أبي موسى في الإرشاد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 إذا لبس وغطى رأسه متفرقاً وجب عليه دمان وإن كان في وقت واحد، فعلى روايتين انتهى. والمذهب ما ذكرناه أولا من أنه لا فرق بين ما وقع في دفع أو دفعات أو اختلف سببه وكرره لأجهل مثل المرض والبرد والحر أو اتحد سببه في أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة ما لم يكفر عن الفعل الأول على ما تقدم. قال في الشرح الكبير: فإن لبس قميصاً وسراويل وعمامة وخفين كفاه فدية واحدة لأن الجميع لبس فأشبه الطيب في رأسه وبدنه وفيه خلاف ذكرناه فيما مضى انتهى، وقد نقل الشيخ منصور في شرح الإقناع عبارة الشرح الكبير هذه معتمداً عليها، قال في المنتهى أو لبس. قال الخلوتي في حاشيته: أي ثوباً في بدنه أو رأسه أو خفاً فهو موافق لما نبه عليه في الإنصاف من أن الثلاثة من جنس. انتهى. قال الزركشي وغيره: إذا لبس وغطى رأسه ولبس الخف ففدية واحد، لأن الجميع من جنس واحد قاله في الإنصاف، انتهى. قال الشيخ عثمان النجدي في حاشيته على المنتهى: عموم كلام الزركشي يقتضي أن تغطية الرأس بجميع أنواعها حتى بالتظليل بمحمل متحدة مع لبس المخيط، والمفهوم من الإقناع التفصيل، وهو أنه إن غطى رأسه بمخيط كطاقية وعمامة فكلبس المخيط في بدنه وإلا فجنس آخر له فدية على حدته فليحرر انتهى كلام الشيخ عثمان. أقول: الذي يظهر من كلام الأصحاب أن التظليل بمحمل ونحوه ملحق بتغطية الرأس لوجهين. الوجه الأول: ذكرهم الاستظلال بمحمل في محظور تغطية الرأس، قال في المنتهى وشرحه: الثالث تغطية الرأس، فمتى غطاه ولو بقرطاس به دواء أو لا أو بطين أو نورة إلى أن قال أو ستره بغير لاصق، بأن استظل في محمل ونحوه أو بثوب ونحوه راكباً أو لا، حرم بلا عذر وفدى لأنه ستره بما يستدام ويلازمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 غالباً أشبه ما لو ستره بشيء يلاقيه انتهى ملخصاً وكذا ذكر في الإقناع وغيره. الوجه الثاني: تعليلهم أن الاستظلال بمحمل ونحوه هو من ستر الرأس بما يستدام ويلازمه غالباً وشبهوا الاستظلال به بمثل ستر الرأس بالشيء الذي يلاقيه، وحيث الحال ما ذكر فإن تغطية الرأس بجميع أنواعها حتى بالتظليل بمحمل متحدة مع لبس المخيط، ولا يفهم من الإقناع سوى ذلك خلافاً لما ذكره الشيخ عثمان رحمه الله، فاعتمد ما ذكرته هنا واعتبره تحريراً للمسألة، والله أعلم، ويتعدد جزاء الصيد بتعدده ولو قتلت معاً ولو كانت من جنس واحد لقوله تعالى: (فجزاء مثل ما قتل من النعم) ومثل المتعدد لا يكون مثل أحدها، وإن فعل محظوراً من أجناس بأن حلق وقلم ظفره وتطيب ولبس مخيطاً فعليه لكل جنس واحد فداء سواء فعل ذلك مجتمعاً أم متفرقاً اتحدت فديتها أو اختلفت لأنها محظورات مختلفة الأجناس فلم يتداخل موجبها كالحدود المختلفة، وعكسه إذا كانت من جنس واحد، قال في المنتهى وشرحه: وإن كان المحظور من أجناس فلكل جنس فداء، قال الخلوتي في حاشيته على المنتهى: قوله فلكل جنس فداء، أي لم تتكرر أفراده أو تكررت وكان قبل التكفير، وهذا الحمل متعين ليوافق ما صدر به انتهى ويكفِّر وجوباً من حلق أو قلم أظفاره أو وطيء أو باشر دون الفرج أو قتل صيداً عامداً أو ناسياً أو مخطئاً أو جاهلاً أو مكرهاً أو نائماً أو قلع شعره عبثاً أو صوب رأسه إلى تنور أو تصلى على نار فأحرق اللهب شعره لأنه إتلاف فاستوى عمده وسهوه وخطؤه واختياره كإتلاف مال آدمي لكن تقدم في باب أو محظورات الإحرام فيما إذا حلق رأسه مكرهاً بيد غيره. أو نائماً أن الفدية على حالق، وكذا لو قلم ظفره فليعاود ولأن الله تعالى وتقدس أوجب الفدية على من حلق رأسه لأذى به وهو معذور فكان ذلك تنبيهاً على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وجوبها على غير المعذور بطريق الأولى ودليلاً على وجوبها على المعذور بنوع آخر كالمحتجم بحلق موضع محاجمه، وإن لبس مخيطاً ناسياً أو جاهلاً أو مكرها أو تطيب ناسياً أو جاهلاً أو مكرها أو غطى رأسه ناسياً أو جاهلاً أو مكرها فلا كفارة لقوله عليه الصلاة والسلام: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) . ولا كفارة على من أكرهه على لبس أو تطيب أو تغطية رأس، قال الإمام أحمد: إذا جامع أهله بطل حجه لأنه شيء لا يقدر على رده، ومصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده، والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده، فهذه الثلاثة العمد والخطأ والنسيان فيها سواء وكل شيء من النسيان بعد هذه الثلاثة فهو يقدر على رده مثل ما إذا غطى المحرم رأسه ثم ذكر ألقاه عن رأسه وليس عليه شيء أو لبس خفاً نزعه وليس عليه شيء، ويلحق بالحلق تقليم الأظفار بجامع الإتلاف، ويلزمه غسل الطيب وخلع اللباس في الحال أي بمجرد زوال العذر من النسيان والجهل والإكراه لخبر يعلي بن أمية (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق أو قال أثر صفرة فقال يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك أثر الخلوق، أو قال أثر الصفرة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك) . متفق عليه، فلم يأمره بالفدية مع سؤاله عما يصنع، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، فدل ذلك على أنه عذره لجهله، والناسي والمكره في معناه، ومتى أخر غسل الطيب وخلع اللباس عن زمن الإمكان فعليه الفدية لاستدامة المحظور من غير عذر. (تنبيه) : حكم الجاهل إذا علم حكم الناسي إذا ذكر، وحكم المكره حكم الناسي، لأنه مقرون به في الحديث الدال على العفو، ومن لم يجد ماء لغسل طيب وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 محرم مسح الطيب بنحو خرقة أو حكه بتراب ونحوه، لأن الواجب إزالته حسب الإمكان، ويستحب أن يستعين على إزالته بحلال لئلا يباشره المحرم، وله غسله بيده لعموم أمره صلى الله عليه وسلم بغسله ولأنه تارك له، وله غسله بمائع فإن أخر غسل الطيب عنه بلا عذر فدى للاستدامة أشبه الابتداء، وإن وجد ماء لا يكفي لوضوئه وغسل الطيب غسل به الطيب وتيمم لوضوئه إن لم يقدر على قطع رائحته بغير الماء، ومن تطيب قبل إحرامه في بدنه فله استدامة ذلك في إحرامه لحديث عائشة رضي الله عنها: (كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم) . متفق عليه، ولأبي داود عنها (كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها) ، وحديثها هذا كان في حجة الوداع سنة عشر، وحديث يعلي بن أمية كان عام حنين بالجعرانة سنة ثمان ذكره ابن عبد البر اتفاق أهل العلم بالسير والآثار، وليس للمحرم لبس ثوب مطيب بعد إحرامه وتقدم لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) . متفق عليه، فإن لبس مطيباً بعد إحرامه عمداً فدى، وإن أحرم وعليه قميص ونحوه خلعه ولم يشقه ولا فدية عليه لحديث يعلي بن أمية ولأن محظورات الإحرام إنما تترتب على المحرم لا على المحل فيجوز للإنسان الإحرام وعليه المخيط ثم يخلعه إلا على الرواية التي ذكرها ابن حمدان في الرعاية أن عليه الفدية فإن مقتضاها أنه لا يجوز قاله ابن رجب في القاعدة السابعة والأربعين، ولأن شق اللباس إتلاف مال لم يحتج إليه خلافاً لمن قال بذلك مدعياً بأنه يحصل تغطية الرأس حين ينزعه، ورد بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يعلي بخلعه ولم يأمره بشقه ولو وجب الشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 أو الفدية بالإحرام فيه لبينه صلى الله عليه وسلم لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، فإن استدام لبس المخيط ولو لحظة فوق الوقت المعتاد من خلعه فدي لا ستدامة المحظور بلا عذر، فإن لبس بعد إحرامه ثوباً كان مطيباً وانقطع ريحه، أو افترش ما كان مطيباً وانقطع ريح الطيب منه ويفوح ريحه برش ماء على ما كان مطيباً وانقطع ريحه ولو افترشه تحت حائل غير ثيابه لا يمنع الحائل ريحه ولا مباشرته فدى لأنه مطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء والماء لا رائحة له، وإنما هو من الطيب الذي فيه أشبه ما لو ظهرت الرائحة بنفسها، فإن فرش فوق الطيب ثوباً صفيقاً يمنع الرائحة والمباشرة غير ثيبا ب بدنه فلا فدية بالنوم عليه ولا بالجلوس عليه لأنه لا يعد مستعملاً له بخلاف ثياب بدنه التي هي الإزار والرداء ولو صفيقة فعليه الفدية، وإن مس طيباً يظنه يابساً فبان رطبا ففي وجوب الفدية وجهان صوب في الإنصاف وتصحيح الفروع لا فدية عليه، وقال قدمه في الرعاية الكبرى في موضع. (فائدة) : في حكم رفض الإحرام: من رفض إحرامه لم يفسد إحرامه بذلك لأن الإحرام عبادة لا يخرج منها بالفساد فلم يخرج منها برفضها بخلاف سائر العبادات، ولم يلزمه دم لرفض الإحرام لأنه مجرد نية، قال في الإنصاف: وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب انتهى، ومشى عليه في المنتهى وشرحيه والإقناع وشرحه، وقيل يلزمه دم لرفض الإحرام ذكره في الترغيب وغيره وقدمه في الفروع، وحكم إحرامه باق وعلى كلا القولين تلزمه أحكام الإحرام لأن التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء: إما بكمال أفعاله أو التحلل منه عند الحصر أو بالعذر إذا شرط في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني وما عداها ليس له التحلل به، فإن فعل محظوراً بعد رفضه إحرامه فعليه فداؤه لبقاء إحرامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ويأتي إن شاء الله الكلام على هذه المسألة في باب الإحصار والفوات، وقد ذكر في المنتهى والإقناع هناك أنه يلزمه دم لرفض الإحرام، وذكرا هنا أنه لا يلزمه دم لرفضه فكلامهما في البابين متناقض إلا أن يحمل على ما قاله الشيخ عثمان النجدي من أن ما هنا في حق غير المحصر، وما هناك في حق المحصر، والله أعلم. وعند الحنفية إذا نوى رفض الإحرام فصنع ما يصنعه الحلال من لبس الثياب الممنوعة على المحرم من المخيط ونحوه والتطيب والحلق والجماع وقتل الصيد فإنه لا يخرج بذلك من الإحرام ويجب عليه أن يعود كما كان محرماً ويجب دم واحد لجميع ما ارتكب ولو فعل كل المحظورات استحساناً عندهم لأنه أسند ارتكاب المحظورات إلى قصد واحد، وهو تعجيل الإحلال فيكفيه لذلك دم واحد وسواء نوى الرفض قبل الوقوف أو بعده إلا أن إحرامه يفسد بالجماع قبل الوقوف، ومع هذا يجب عليه أن يعود كما كان محرماً، لأنه بالإفساد لم يصر خارجا منه، وإنما يتعدد عندهم الجزاء بتعدد الجنايات إذا لم ينو الرفض في أول ارتكابها واستمر عليها، ثم نية الرفض إنما تعتبر عندهم ممن زعم أنه يخرج من الإحرام بارتكاب الجناية لجهله مسألة عدم الخروج، وأما من علم أنه لا يخرج من الإحرام بالرفض وارتكاب الجناية فإن نية الرفض لا تعتبر منه. وعند المالكية إذا عقد إحرامه لزمه إتمام نسكه وليس له رفضه فإذا رفضه لم يرتفض ولا يلزم رافضه هدي ولا غيره، وأما إذا وقع الرفض في أثناء الأفعال الواجبة عليه كالطواف والسعي ارتفض ذلك الفعل فقط ويكون كالتارك له فيطالب بغيره وأصل الإحرام لم يرتفض. أما الشافعية: فإنهم لم ينصوا على ذكر الرفض، وإنما ذكروا ما يؤدي إلى معناه، فقال الشيخ زكريا الأنصاري في كتابه أسنى المطالب: فرع إذا صرف الأجير بعد الإحرام عن المستأجر الحج إلى نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وظن انصرافه إليه لم ينصرف لأن الإحرام من العقود اللازمة، فإذا انعقد على وجه لا يجوز صرفه إلى غيره ويستحق المسمى لبقاء العقد انتهى، وقال أيضاً بعد كلام سبق: وإلا بأن حبس المحرم بحق كأن حبس بدين يتمكن من أدائه فلا يجوز له التحلل بل عليه أن يؤدي ويمضي في نسكه، فلو تحلل لم يصح تحلله فإن فاتح الحج في الحبس لم يتحلل إلا بعمرة انتهى، وقد ذكر في حاشية شرح المنهج في باب الإحرام فيمن كان إحرامه مطلقاً صرفه بنيته لما شاء وجوباً ولا يجوز له إبطال الإحرام انتهى. فظهر من هذا أن الإحرام عندهم لا ينفسخ بالرفض، لأنه من العقود اللازمة وهو باق عليه عندهم، فاتضح مما تقدم أن الإحرام لا يرتفض على المذهب الأربعة، والله أعلم. -- فصل: وكل هدي أو إطعام يتعلق بالإحرام أو الحرم كجزاء صيد حرم أو إحرام وما وجب من فدية لترك واجب أو فوات حج، أو وجب بفعل محظور في حرم كلبس ووطء فيه فهو لمساكين الحرم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الهدي والإطعام بمكة وكذا هدي تمتع وقران ومنذور للحرم ونحوها فهو لمساكين الحرم لقوله تعالى: (ثم محلها إلى البيت العتيق) وقال في جزاء الصيد: (هديا بالغ الكعبة) وأما ما وجب لترك واجب أو فوات حج فلأنه هدي وجب لترك نسك أشبه دم القران، والإطعام في معنى الهدي، وكل هدي قلنا إنه لمساكين الحرم فإنه يلزم ذبحه في الحرم ويجزئه الذبح في جميع الحرم، قال الإمام أحمد: مكة ومنى واحد، واحتج الأصحاب بحديث جابر مرفوعاً (كل فجاج مكة طريق ومنحر) . رواه أحمد وأبو داود لكنه في مسلم عنه مرفوعاً (منى كلها منحر) وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 أراد الحرم لأنه كله طريق إليها، والفج: الطريق، وقوله تعالى: (هديا بالغ الكعبة) . وقوله تعالى: (ثم محلها إلى البيت العتيق) لا يمنع الذبح في غيرها كما لم يمنعه بمنى، ويلزم تفرقة لحمه في الحرم أو إطلاقه بعد ذبحه لمساكين الحرم إن قدر على إيصاله إليهم بنفسه أو بمن يرسله معه، لأن المقصود من ذبحه بالحرم التوسعة على مساكينه ولا تحصل بإعطاء غيرهم، كذا الإطعام. قال الخلوتي في حاشيته على المنتهى: قولهم لمساكينه ظاهر تعبيرهم بالجمع أنه لا يجزئ دفعه إلا إلى أقل الجمع، وقياس الفطرة أنه يجزئ إلى واحد، قال شيخنا يعني منصوراً: لكن إلحاقه بالكفارة أشبه فليتنبه انتهى، وقول الخلوتي إلا إلى أقل الجمع أي إلا إلى جمع، قال الشيخ عثمان بن قائد: ظاهر تعبيرهم بالجمع أنه لا يجزئ الدفع لواحد كالفطرة، اللهم إلا أن يقال المراد الجنس، لكن قال الشيخ منصور: إلحاقه بالكفارة أشبه فتأمل انتهى، قال الشيخ مرعي في غايته: ويتجه فلا يجزئ اقتصار على واحد، بل ثلاثة، واحتمل أو اثنين وقياس الفطرة يجزئ اقتصاره على واحد انتهى. قال في التحفة لابن حجر الشافعي: ويجب صرف لحمه إلى مساكينه، أي الحرم أي ثلاثة منهم، قال الشرواني في حاشيته: ويكفي الاقتصار على ثلاثة من فقرائه أو مساكينه وإن انحصروا، لأن الثلاثة أقل الجمع، فلو دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث ضمن له أقل متمول انتهى. ومساكين الحرم من كان مقيماً به أو وارداً إليه من حاج وغيره ممن له أخذ زكاة لحاجة كالفقير والمسكين والمكاتب والغارم لنفسه، بخلاف المؤلف الغني والغارم للغير إذا كان غنياً، فإن دفع من الهدي أو أو الإطعام إلى فقير في ظنه فبان غنياً أجزأه كالزكاة، قال الشيخ مرعي في غايته، ويتجه لا إن ظنه نحو مسلم فبان عكسه انتهى، ويجزئ نحره في أي نواحي الحرم كان الذبح، قال الإمام أحمد: مكة ومنى واحد، ومراده في الإجزاء لا في التساوي في الفضيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ومنى كلها منحر لما تقدم من حديث مسلم. والأفضل أن ينحر في الحج بمنى وفي العمرة بالمروة خروجاً من خلاف مالك حيث كان لا يرى النحر للحج إلا بمنى ولا للعمرة إلا بمكة. قلت: وفي هذه الأزمة وقبلها لا يتأتى النحر للعمرة بالمروة لكثرة الحجاح وحصوص البناء من جوانبها، فلو حصل النحر بها لحصل تلويث الحجاج والمعتمرين بالدماء لا سيما لدى السعي بين الصفاء والمروة، ولحصل بسبب كثرة الدماء روائح كريهة مؤذية كما لا يخفي على متأمل، وإن سلم الهدي حياً إلى مساكين الحرم فنحروه بالحرم أجزأ لحصول المقصود، وإن لم ينحروه استرده منهم ونحره لوجوب نحره، فإن أبى أن يسترده أو عجز عن استرداده ضمنه لمساكين الحرم لعدم خروجه من عهد الواجب، فإن لم يقدر على إيصال ما وجب ذبحه بالحرم إلى مساكين الحرم بنفسه أو وكيله، جاز نحره في غير الحرم كالهدي إذا عطب، لقوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وجاز تفرقة الهدي الذي عجز عن إيصاله بنفسه أو بمن يرسله معه حيث نحره، أي بالمكان الذي نحره فيه، وأما فدية الأذى وفدية اللبس وتغطية الرأس ونحوها كطيب وما أوجب شاة كالمباشرة دون الفرج إذا لم ينزل وما وجب بفعل محظور خارج الحرم ولو لغير عذر، فله تفرقتها دماً كانت أو طعاماً حيث وجد سببها (لأنه صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية، وهي من الحل، واشتكى الحسين بن علي رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزوراً بالسقيا) . رواه مالك والأثرم وغيرهما، وله تفرقتها في الحرم أيضاً كسائر الهدايا. (تنبيه) : يستثنى من فعل المحظور خارج الحرم قتل الصيد خارج الحرم فإنه لا يجزئ إخراج فدائه إلا بالحرم، لقوله تعالى: (هديا بالغ الكعبة) وتقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 -- فصل: ووقت ذبج فدية الأذى واللبس ونحوهما كتغطية الرأس والطيب وما ألحق بذلك من المحظورات حين فعل المحظور، وله الذبح قبله إذا أراد فعله لعذر ككفارة اليمين ونحوها، وكذلك ما وجب لترك واجب من واجبات الحج يكون وقته من ترك ذلك الواجب: ولو أمسك صيداً أو جرحه ثم أخرج جزاءه ثم تلف المجروح أو الممسك أو قدَّم من أبيح له الحلق فيدته قبل الحلق ثم حلق أجزأه، ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر من حل أو حرم، نص عليه أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه بالحديبية وهي من الحل، ودل على ذلك قوله تعالى: (وصدوركم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله) ولأنه موضع حله فكان موضع نحره كالحرم، وأما الصيام والحلق فيجزئه بكل مكان فلا يختص بالحرم لقول ابن عباس رضي الله عنهما: الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شاء، ولأنه لا يتعدى نفعه إلى حد فلا معنى لتخصيصه بمكان بخلاف الهدي والإطعام، والدم المطلق يجزيء فيه شاة كأضحية فيجزيء الجذع من الضأن وهو ما تم له ستة أشهر أم الثني من المعز، وهو ما تم له سنة، أو سُبع بدنة أو سُبع بقرة لقوله تعالى في المتمتع: (فما استيسر من الهدي) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: شاة أو شرك في دم، وقوله في فدية الأذى: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) . وفسره صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة بذبح شاة، وما سوى هذين مقيس عليهما، وأما إذا قيد الدم بنحو بدنة تقيد بذلك فيجب بعينه، فإن ذبح من وجوب عليه دم مطلق بدنة أو بقرة، فهو أفضل مما تقدم لأنها أوفر لحماً وأنفع للفقراء، وتجب كلها لأنه اختار الأعلى لأداء فرضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 فكان كله واجباً كالأعلى من خصال الكفارة إذا اختاره، ولا يقال: إن سُبعها يكون واجباً فقط والباقي تطوع، له أكله وهديته كما قال في بعض العلماء، وقيل يلزمه سبعها فقط والباقي له أكله والتصرف فيه كذبحه سبع شياه، قال ابن أبي المجد: فإن ذبح بدنة لم تلزمه كلها في الأشهر، قال ابن اللحام في قواعده: وينبغي أن يبنى على الخلاف زيادة الثواب فإن ثواب الواجب أعظم من ثواب التطوع انتهى، قال مرعي في غايته: وتجب كلها ويتجه إن كانت كلها ملكه انتهى، ومن وجبت عليه بدنة أجزأته عنها بقرة لقول جابر: (كنا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل له: والبقرة؟ فقال: وهل هي إلا من البُدن) ، رواه مسلم كعكسه، أي إجزاء البدنة عن البقرة، ولو كان ذبح البقرة عن البدنة أو بالعكس في جزاء صيد ونذر مطلق، فإن نوى شيئاً بعينه لزمه ما نواه، قال ابن عقيل، ويجزئه عن كل واحدة من البدنة والبقرة سبع شياه ولو في نذر أو جزاء صيد قدمه في الشرح، ويجزئه عن سبع شياه بدنة أو بقرة، سواء وجد الشياه أو عدمها في جزاء الصيد وغيره، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتمتعون فيذبحون البقرة عن سبعة، ولحديث جابر: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة) . رواه مسلم، وذكر جماعة إلا في جزاء الصيد فلا تجزئ بدنة عن بقرة، ولا عن سبع شياه، والمذهب الإجزاء كما تقدم. ووقت ذبح هدي نذر أو تطوع أو هدي متعة أو قران كوقت أضحية من بعد مقدار صلاة العيد فلا يجزئ قبل ذلك، وتقدم في باب الإحرام في فصل: ويلزم دم تمتع وقران بطلوع فجر يوم النحر الخلاف في ذلك فليراجع عند الحاجة. وسن أكله وتفرقته من هدي تطوع غير عاطب، ولا يأكل من هدي واجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 بفعل محظور في حرم أو إحرام كلبس ووطء، أو واجب لترك واجب من واجبات الحج أو لفوات حج ونحو ذلك غير دم متعة أو قران فله الأكل منهما نص عليه أحمد، لأن سببهما غير محظور فأشبها هدي التطوع، فإن أكل مما ليس له الأكل منه ضمن ما أكله بمثله لحماً ويعطيه إلى الفقراء، ويجوز لرفقته الأكل منه إذا كانوا فقراء بخلاف ما إذا عطب الهدي بالطريق واجباً كان أو تطوعاً أو عجز عن المشي صحبة الرفاق فإنه يذبحه موضعاً وجوباً ليأخذه الفقراء، ويحرم أكله وأكل خاصته منه ولو فقراء، وإنما منع المهدي ورفقته من الأكل من الهدي العاطب لئلا يقصروا في حفظه فيعطب ليأكل هو ورفقته منه فتلحقه التهمة في عطبه لنفسه ورفقته، قال في الإنصاف: وقد صرح الأصحاب بأن الرفقة: الذين معه ممن تلزمه مؤنته في السفر ويأتي الكلام على هذا مستوفى في باب الهدي والأضاحي إن شاء الله تعالى. (فائدة) : قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكل ما ذبح بمنى وقد سيق من الحل إلى الحرم فإنه هدي، سواء كان من الإبل أو البقر أو الغنم، ويسمى أيضاً أضحية بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل فإنه أضحية وليس بهدي كما في سائر الأمصار، فإذا اشترى الهدي من عرفات وساقه إلى منى فهو هدي باتفاق العلماء، وكذلك إن اشتراه بالحرم فذهب به إلى التنعيم، وأما إذا اشترى الهدي من منى وذبحه فيها ففيه نزاع، فمذهب مالك أنه ليس بهدي، وهو منقول عن ابن عمر، ومذهب الثلاثة أنه هدي وهو منقول عن عائشة انتهى. (تتمة) : وجوب دم التمتع عن الشافعة إذا أحرم بالحج فإذا وجب جاز إراقته عندهم ولم يتوقت بوقت، لكن الأفضل إراقته يوم النحر، ويجوز إراقته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 عندهم بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج على الأصح، ولا يجوز قبل التحلل من العمرة على الأصح، وأما الصوم فلا يجوز تقديمه على الإحرام بالحج، ولا يجوز صوم شيء من الثلاثة في أيام التشريق، وهذا كله مخلف لمذهبنا كما تقدم، وعند المالكية إذا ذبح هدي التمتع والتطوع قبل فجر يوم النحر لم يجزه. قال في التلقين: الواجب لكل واحد من التمتع والقران هدي ينحره بمنى، ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر. وأما الصيام: فلا يجوز قبل أن يحرم بالحج ويكره تأخير الثلاثة إلى أيام منة، فإن أخرها صام أيام التشريق، وإن وجب عليه هديان أو أكثر لنقص في حج متقدم على الوقوف بعرفة صام عن كل هدي وجب عليه ثلاثة أيام قبل عرفة، فمن عليه هديان صام ستة عن كل هدي ثلاثة، وهكذا وصام سبعة أيام لكل هدي إذا رجع من منى، هكذا ذكر علماء المالكية، وهو موافق لمذهبنا ما عدا نفيهم جواز صيام الثلاثة قبل الإحرام بالحج لأنه عندنا يجوز صيامها بعد الإحرام بالعمرة كما تقدم. -- باب جزاء الصيد: جزاؤه ما يستحق بدله على من أتلفه بمباشرة أو سبب من مثل الصيد ومقاربه وشبهه ولو أدنى مشابهة، أو من قيمة ما لا مثل له، وقد عقد فقهاؤنا رحمهم الله هذا الباب لبيان نفس جزاء الصيد. وأما باب الفدية الذي تقدم فهو بيان لما يفعل بجزائه فلا تكرار كما قدم توهمه بعضهم والله أعلم، ويجتمع الضمان لمالكه والجزاء لمساكين الحرم إذا كان الصيد ملكاً لغير متلفه، وتقدم في السادس من المحظورات، ويجوز إخراج الجزاء بعد الجرح وقبل الموت ككفارة قتل الآدمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 والصيد ضربان: أحدهما له مثل من النعم خلقة لا قيمة فيجب فيه مثله نص عليه الإمام أحمد للآية، والذي له مثل نوعان: أحدهما ما قضت فيه الصحابة ففيه ما قضت به لقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ) رواه أحمد والترمذي وحسنه ولأنهم أقرب إلى الصواب وأعرف بمواقع الخطاب، ففي النعامة بدنة، والمراد بالبدنة هنا البعير ذكراً كان أو أنثى حكم به عمر وعثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية وأكثر العلماء، لأنها تشبه البعير في خلقته فكان مثلاً لها فيدخل في عموم النص، وجعلها الخرقي من أقسام الطير لأن لها جناحين فيعايابها، فيقال: طائر يج فيه بدنة، ويجب في كل واحد من حمار الوحش بقرة، قضى به عمر وقاله عروة ومجاهد لأنه شبيهة به، ويجب في بقرة الوحش بقرة قضى به ابن مسعود، وروى عن ابن عباس وقاله عطاء وقتادة، وفي الوعل: بقرة، والوعل بفتح الواو مع فتح العين وكسرها وسكونها: تيس الجبل، قاله في القاموس، وهو الأروى قاله في الصحاح، يروى عن ابن عمر أنه قال: في الأروى بقرة، ويقال لذكر الأوعال إيَّل على وزن قِنَّب وخُلَّب وسيِّد: الأول بكسر القاف وتشديد النون المفتوحة، والثاني بضم الخاء المعجمة وتشديد اللام المفتوحة، والثالث بفتح السين المهملة وتشديد المثناة التحتية المكسورة، وفي الإبل بقرة قاله ابن عباس ويقال للمسن منه الثيتل بوزن جعفر وفيه بقرة لما تقدم، وفي الضبع كبش، لقول جابر (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع؟ فقال: هو صيد، وفيه كبش إذا صاده المحرم) . رواه أبو داود، وروى أيضاً ابن ماجة والدارقطني عن جابر نحوه مرفوعاً، وقضي به عمر وابن عباس، وبه قال عطاء، والشافعين وأبو ثور، وابن المنذر، وقال الأوزاعي: كان العلماء بالشام يعدونها من السباع ويكرهون أكلها، وهو القياس إلا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 اتباع السنة والآثار أولى انتهى. قال الإمام (حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع بكبش) انتهى، الكبش: فحل الضأن. وفي المقنع أو شاة، وفي الظبي وهو الغزال عنز قضى به عمر وابن عباس، وروى عن علي وقاله عطاء. والعنز: هي الأنثى من المعز، وعن محمد بن سيرين (أن رجلاً جاء عمر بن الخطاب فقال: إني أجرت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبا ونحن محرمان، فماذا ترى؟ فقال عمر رضي الله عنه لرجل إلى جنبه تعال حتى نحكم أنا وأنت قال: فحكما عليه بعنز فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلاً فحكم معه، فسمع عمر رضي الله عنه قول الرجل فدعاه فسأله هل يقرأ سورة المائدة؟ فقال لا، فقال هل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا، فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضرباً، ثم قال إن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: (يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة) ، وهذا عبد الرحمن بن عوف. رواه مالك في الموطأ انتهى من الزركشي على الخرقي، قال في الشرح: وفي الثعلب شاة لأنه يشبه الغزال، وممن قال فيه الجزاء قتادة وطاوس ومالك والشافعي، وعن أحمد لا شيء فيه لأنه سبع انتهى. قلت: الصحيح من المذهب أنه لا شيء في الثعلب لأنه سبع مفترس بنابه فيحرم أكله على الصحيح من المذهب وليس صيداً، وفي الوبر بسكون الباء والأنثى وبرة، قال في القاموس: هو دويبة كحلاء دون السنور لا ذنب لها، وفي ضب جدي قضى به عمر وأربد، والوبر مقيس على الضب، قال الخلوتي، ولا ضرورة في إدراجه فيما قضت فيه الصحابة لأن قياس المذهب مذهب، ويصح أن يعزى لصاحبه على الصحيح عندهم انتهى، قال عبد الوهاب بن فيروز في حاشيته على شرح الزاد على هذا الموضع، قال ابن قندس: أربد براء، مهملة بعدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 باء موحدة أشار إليه شيخنا ابن حجر في الإصابة انتهى. قال شيخنا يعني أباة محمد بن فيروز أربد التميمي تابعي انتهى كلام عبد الوهاب المذكور. قلت ليس الأمر كما قاله ابن فيروز، فإن أربد المذكور ليس هو أربد التميمي بل هو أربد بن عبد الله البجلي، قال ابن حجر في الإصابة: أربد بن عبد الله البجلي أدرك الجاهلية وحكَّمه عمر في قصة جزاء الضب، قال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن المخارق بن عبد الله: سمعت طارق بن شهاب يقول: (خرجنا حجاجاً فأوطأ رجل منا يقال له أربد بن عبد الله ضبا فأتينا عمر نسأله، فقال له عمر: احكم فيه. قال: أنت خير مني وأعلم، قال: أنا أمرتك أن تحكم، قال: قلت فيه جديٌ قد جمع الماء والشجر. قال: ففيه ذلك) إسناده صحيح ورواه الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق ولم يسم الرجل انتهى كلام ابن حجر. وقد ذكره في الإصابة في القسم الثالث المحتوى على المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا رأوه، سواء أسلموا في حياته أم لا، قال: هؤلاء ليسوا أصحابه باتفاق من أهل العلم بالحديث انتهى. وقال ابن حجر في التقريب: أربدة يسكون الراء بعدها موحدة مكسورة، ويقال أربد التميميم المفسر صدوق من الثالثة انتهى. قلت: والطبقة الثالثة على اصطلاح صاحب التقريب هي الطبقة الوسطى من التابعين، كالحسن، وابن سيرين، والله أعلم. فاتضح مما تقدم حصول الوهم لمحمد بن فيروز حيث ظن أن صاحب قصة جزاء الضب القاضي فيه هو أرد التميمي مع أنه أربد بن عبد الله البجلي، والله أعلم. والجدي الذكر من أولاد المعز له ستة أشهر، وفي اليربوع جفرة من المعز لها أربعة أشهر، قضى به عمر وابم مسعود وجابر، وفي الأرنب عناق، قضى به عمر، وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 رواه الدارقطني، والعناق الأنثى من أولاد المعز أصغر من الجفرة، وفي واحدة الحمام: وهو كل ما عب الماء وهدر شاة، قضى به عمر وابنه وعثمان وابن عباس في حمام الحرم وقيس عليه حمام الإحرام، وروي أيضاً عن ابن عباس في الحمام في حال الإحرام وليس ذلك علة وجه القيمة، وقولهم: كل ما عب بالعين المهملة أي وضع منقاره في الماء فيكرع كما تكرع الشاة ولا يأخذ قطرة قطرة كالدجاج والعصافير، وهدر أي صوّت، وإنما أوجبوا فيه شاة لشبهة بها في كرع الماء، ومن هنا قال أحمد في رواية ابن القاسم: وسندي كل طير يعب الماء كالحمام فيه شاة، فيدخل فيه القطا والفواخت والوراشين والقمارى. والدباس جمع دبسي بالضم ضرب من الفواخت، وقال الفتوحي في شرح المنتهى: هو طائر لونه بين السواد والحمرة يقرقر والأنثى دبسية ونحوا كالسفانين جمع سفنة بكسر السين وفتح الفاء والنون ومشددة قاله في القاموس: طائر بمصر لا يقع على شجرة إلا أكل جميع ورقها لأن العرب تسميها حماماً، وقال الكسائي كل ما طوق حمام فيدخل في الحجل لأنه مطوق فهذا كله يخير فيه بين ذبح المثل المذكور أو تقويم المثل بنقود وأخذ طعام يجزئ في الفطرة بقيمته ويطعم كل مسكين مدَّ بُر أو نصف صاع من غيره أو يصوم عن كل إطعام مسكين يوماً وتقدم في باب الفدية. النوع الثاني: ما لم تقض فيه الصحابة وله مثل من النعم فيرجع فيه إلى قول عدلين لقوله تعالى: (يحكم به ذوا عدل منكم) ويعتبر أن يكونا من أهل الخبرة لأنه لا يتمكن من الحكم بالمثل إلا بها فيعتبران الشبه خلقة لا قيمة لفعل الصحابة، ويجوز أن يكون القاتل أحدهما نص علي أحمد ظاهر الآية، وروي أن عمر أمر كعب الأحبار أن يحكم علة نفسه في الجرادتين اللتين صادهما وهو محرم، وأمر أيضاً أربد بن عبد الله البجلي بذلك حين وطيء الضب فحكم علة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 نفسه بجدي فأقره، وكتقويمه عرض التجارة لإخراج زكاته: ويجوز أن يكون الحاكمان بمثل الصيد المقتول القاتلين، وحمله ابن عقيل على ما إذا قتله خطأ أو جاهلاً بتريمه لعدم فسقه، وعلى قياسه إذا قتله لحاجة أكل لأنه قتل مباح لكن يجب فيه الجزاء. قال في التنقيح: وهو قوي، قال منصور: ولعله مرادهم لأن قتل العمد ينافي العدالة انتهى، قال مرعي في غايته ويتجه عدم هذا، والمعتبر من العدالة حال الحكم فلو تابا قبله قُبل كالشهادة انتهى. قال الخلوتي: أما إذا تابا هل يصح مهما بعد ذلك أم لا؟ الظاهر لا مانع من ذلك بدليل قوله تعالى: (عفا الله عما سلف) ، ومشى عليه شيخنا في شرحه انتهى، يعني بشيخه الشيخ منصوراً في شرح المنتهى، وعبارته بعد قول المنتهى لأن قتل العمد ينافي العدال إن لم يتب وهي شرط الحكم انتهى، ويضمن كل واحد من الكبير والصغير والصحيح والمعيب والذكر والأنثى والحائل والحامل بمثله للآية، وإن فدى الصغير بكبير والذكر بأنثى والمعيب بصحيح فهو أفضل لأنه زاد خيراً، ولو جني على الحامل فألقت جنينها ميتاً ضمن نقص الأم فقط كما لو جرحها. قال في شرح الإقناع: لأن الحمل في البهائم زيادة انتهى. قلت: لغير مريد اللحم، والله أعلم، وإن ألقت الجنين حياً لوقت يعيش لمثله ثم مات ففيه جزاؤه، وإن كان لوقت لا يعيش لمثله فكالميت جزم به في المغني والشرح، ويجوز فداء أعور من عين وفداء أعرج من قائمة بأعور وأعرج من أخرى، لأن الاختلاف يسير ونوع العيب واحد، ولا يجوز فداء أعور بأعرج ولا أعرج بأعور لاختلاف أنواع العيب، ويجوز فداء أنثى بذكر وذكر بأنثى لأن لحمه أوفر وهي أطيب فيتساويان. الضرب الثاني: ما لا مثل له من النعم فيجب فيه قيمته مكان إتلافه كمال الآدمي غير المثلى وهو سائر الطيور ولو أكبر من الحمام كالإوز بكسر الهمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وفتح الواو وتشديد الزاي جمع إوزة ويقال وز جمع وزة كتمر وتمرة ذكره الحجاوي في حاشية الإقناع، وكالحبارى والحجل والكبير من طير الماء والكركي وغير ذلك لأنه القياس تركناه في الحمام لقضاء الصحابة رضي الله عنهم فيه، وإن أتلف المحرم أو من بالحرم جزءاً من صيد فاندمل أو تلف في يده جزء منه ثم اندمل والصيد ممتنع أي يمكنه الجري أو الطيران وله مثل من النعم ضمن الجزء المتلف بمثله لحماً من مثله من النعم لأن ما وجب ضمان جملته بالمثل وجب في بعض مثله كالمكيلات، والمشقة مدفوعة لجواز عدوله إلى عدله طعاماً أو صياماً كما سبق، وما لا مثل له إذا أتلف جزأه أو تلف جزؤه في يده ثم اندمل وهو ممتنع يضمن ما نقص من قيمته لأن جملته مضمونة بالقيمة فكذلك أبعاضه فيقوّم الصيد سليماً ثم مجنياً عليه فيجب ما بينهما ليشتري به طعاماً، وإن نفرّ المحرم صيدا فتلف بشيء ولو بآفة سماوية أو نقص في حال نفوره ضمن (لأن عمر دخل دار الندوة فعلق رداءه فوقع عليه حمام فأطاره فوقع على واقف في البيت فخرجت حية فقتلته، فسأل: من معه، فحكم عليه عثمان بشاة) . رواه الشافعي، ودار الندوة: هي دار قصي بن كلاب التي اجتمعت فيها قريش للمشورة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، هي الموضع المسمى، الزيادة وفيها بابان أحدهما يسمى باب زيادة والآخر يسمى باب القطبي، وقيل هي موضع مقام الحنفي، والأول أصح والله أعلم. وقد أزيل مقام الحنفي لأجل توسعة المطاف كما أزيل باب زيادة وباب القطبي لتوسعة الحرم ودخول عمر دار الندوة كان في خلافته وقد أتى مكة حاجاً، والله أعلم، وكذا إن جرحه فتحامل، فوقع في شي تلف به، لأنه تلف بسببه، ولا يضمنه إن تلف بعد نفوره في مكانه بعد أمنه، وإن رمى المحرم صيداً فأصابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ثم سقط المرمى على آخر فماتا ضمنهما لتلفهما بجنايته، فلو مشى المجروح قليلاً ثم سقط على آخر فماتا ضمن المجروح لموته بجنايته فقط دون ما سقط عليه، لأن سقوطه عليه ليس من فعله، وإن جرحه المحرم جرحاً غير موح: أي غير مسرع إلى الموت فغاب ولم يعلم خبره فعليه ضمان ما نقصه فيقوّم صحيحاً وجريحاً غير مندمل ثم يخرج بقسطه من مثله إن كان مثلياً وإلا ما نقصه، قال الخلولتي أي يخرج من مثله لحماً يساوي ذلك اللحم القسط الذي نقص من الثمن انتهى، فإن نقص ربعاً أخرج ربع مثله أو سدساً أخرج سدس مثله وإن لم يكن له مثل فعل بأرشه ما يفعل بقيمة ما لا مثل له لأنه موجب جناته، وكذا إن وجده ميتاً بعد جرحه غير موح ولم يعلم موته بجرحه لأنه لا نعلم حصول التلف بفعله فلا يجب عليه جزاؤه كله، وإن وقع بعد جرحه في ماء يقتله مثله أو لا فمات ضمنه، أو تردى صيد جرحه من علو فمات ضمنه لتلفه بسببه وإن اندمل الجرح وصار الصيد غير ممتنع من قاصده فعليه جزاؤه جميعه لأنه عطله فصار كالتالف أو جرحه جرحاً موحياً لا تبقى معه الحياة غالباً فعليه جزاؤه جميعه كقلته لأنه سبب للموت، وكل ما يضمن به الآدمي يضمن به الصيد في الإحرام والحرم من مباشرة أو سبب كدلالة وإشارة وإعانة وكذلكما جنت دباته بيدها أو فمها فأتلفت صيداً فالضمان على راكبها أو قائدها أو سائقها المتصرف فيها، كما لو كان المتلف آدميا، وما جنته برجلها: أي نفحت بها فلا ضمان عليه فيه كذنبها بخلاف وطئها بها وتقدم في السادس من المحظورات، وإن انفلتت الدابة فأتلفت صيداً لم يضمنه كالآدمي إذا أتلفته لأن يده ليست عليها إلا الضارية كما ذكروه في باب الغصب، وإن نصب المحرم شبكة أو نحوها فوقع فيها صيد ضمنه أو حفر المحرم بئراً بغير حق بأن حفرها في غصب أو طريق ولو واسعاً لنفع نفسه فوقع فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 صيد ضمنه لعدوانه بحفرها، وإن نصب شبكة ونحوها كشَرك وفخ قبل إحرامه فوقع فيها صيد بعد إحرامه لم يضمنه إن لم يتحيل، كما لو صاده قبل إحرامه وتركه في منزله فتلف بعد إحرامه وكذا إن حفر بئراً بحق فتلف بها صيد وأن نتف المحرم أو من بالحرم ريش الصيد أو شعره فعاد ما نتفه فلا شيء عليه فيه لأن النقص زال أشبه ما لو اندمل الجرح، فإن صار الصيد غير ممتنع بنتف ريشه ونحوه فكما لو جرحه جرحاً صار به غير ممتنع فعليه جزاؤه جميعه، وإن نتفه فغاب ولم يعلم خبره فعليه ما نقصه، وإن اشترك جماعة في قتل صيد ولو كان بعضهم ممسكاً للصيد والآخر قاتلاً أو كان عضهم متسبباً كالمشير والدال والمعين والآخر قاتلاً فعليهم جزءاٌ واحد وإن كفروا بالصوم، روي عن عمر وابنه وابن عباس، لأن الجماعة إنما قتلوا صيداً واحداً فلزمهم مثله، وإذا اتحد الجزاء في المثل اتحد في الصوم لأنه بدله بخلاف ما إذا اشتركوا في قتل آدمي، وعن الإمام أحمد (على كل واحد جزاء) اختاره أبو بكر وفاقاً لأبي حنيفة، وقاله مالك في المشتركين ككفارة قتل الآدمي، والرواية الثالثة عن الإمام أحمد عليهم جزاءٌ واحد إلا أن يكون صوماً فعلى كل واحد صوم تام، ومن أهدى فبحصته وعلى الآخر صوم تام، نقلها الجماعة ونصرها القاضي أبو يعلى وأصحابه لأن الجزاء بدل لا كفارة لأن الله سبحانه عطف عليه الكفارة والصوم كفارة فيكمل ككفارة قتل الآدمي، والمذهب عليهم جزاء واحد وإن كفروا بالصوم، وإن اشترك حلال ومحرم في قتل صيد حرمى فالجزاء عليهما نصفان لاشتراكهما في التقل وإن تعددت جهة التحريم في أحدهما واتحدت في الآخر، وهذا الاشتراك الذي هذا حكمه هو الذي يقع فيه الفعل منهما معاً أو يجرحه أحدهما قبل الآخر ويموت منهما أي من الجرحين بالسراية، فإن جرحه أحدهما وقتله الآخر فعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الجارح أرش نقصه لأنه لم يشارك في القتل وعلى القاتل جزاؤه مجروحاً لأنه قتله كذلك، وإذا قتل القارن صيداً فعليه جزاءٌ واحد لعموم الآية وكذا لو تطيب أو لبس وكذا المحرم يقتل صيداً في الحرم، وكلما قتل المحرم أو من بالحرم صيداً حكم عليه بلزوم الجزاء ولا يتداخل كما سبق في الفدية لقوله تعالى: (فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم) وعمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم حكموا في الخطأ وفيمن قتل، ولم يسألوه هل كان قتل أولا أو لا، ولأن الجزاء كفارة قتل الصيد فاستوى فيه المبتدئ والعائد كقتل الآدمي والآية اقتضت الجزاء على العائد لعمومها، وذكر العقوبة في العائد في قوله تعالى: (ومن عاد فينتقم الله منه) لا يمنع الوجوب، والله سبحانه وتعالى أعلم. -- باب: صيد حرمي مكة والمدينة ونباتهما: يحرم صيد حرم مكة على الحلال والمحرم إجماعاً لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها، فقال العباس إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم، قال إلا الإذخر. متفق عليه. قال النووي: واستثناؤه صلى الله عليه وسلم الإذخر محمول على أنه أوحى إليه في الحال باستثناء الإذخر وتخصيصه من العموم، أو أوحى إليه قبل ذلك بأنه إن طلب أحد استثناء شيء فاستثنه، أو أنه اجتهد انتهى، وعلم من الحديث أن مكة كانت حراماً قبل إبراهيم وعليه أكثر العلماء، وقيل إنما حرمت بسؤال إبراهيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وفي الصحيحين من غير وجه (إن إبراهيم حرمها) أي أظهر تحريمها، فمن أتلف من صيد حرم مكة شيئاً ولو كان المتلف كافراً أو صغيراً أو عبداً لأن ضمانه كالمال وهم يضمنونه فعليه ما على المحرم في مثله، نص عليه أحمد لأنه كصيد الإحرام ولاستوائهما في التحريم فوجب أن يستويا في الجزاء، فإن كان الصيد مثلياً ضمنه بمثله وإلا فبقيمته، ولا يلزم المحرم بقتل صيد الحرم جزاءان نص عليه الإمام أحمد لعموم الآية، وحكم صيد مكة حكم صيد الإحرام مطلقاً: أي في التحريم ووجوب الجزاء وإجزاء الصوم وتملكه فلا يملكه ابتداءً بغير إرث، وضمانه بالدلالة ونحوها سواء كان الدال في الحل أم الحرم، وقال القاضي أبو يعلى: لا جزاء على الدال إذا كان في الحل، والجزاء على المدلول، والصحيح الأول فكل ما يضمن في الإحرام يضمن في الحرم إلا القمل فإنه لا يضمن في الحرم ولا يكره قتله فيه، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه لأنه حرم في حق المحرم لأجل الترفه: وقتله مباح في الحرم، وتقدم في السادس من محظورات الإحرام أنه يحرم على المحرم قتل القمل وصئبانه وأنه لا جزاء فيه على المذهب، قال في المنتهى وشرحه: إلا أنه، أي الحرم يحرم صيد بحرية، أي الحرم لعموم الخبر ولا جزاء فيه أي صيد بحر بالحرم لعدم وروده انتهى. قلت وصيد بحري الحرم كمثل ما إذا وجد سمكا في بركة ماجن ونحوها والله أعلم. وإن رمى الحلال من الحل صيداً في الحرم كله أو بعض قوائمه في الحرم ضمنه وكذا إن كان جزءٌ منه فيه غير قوائمه إن لم يكن قائماً تغليباً لجانب الحظر فإن كانت قوائمه الأربع بالحل وهو قائم ورأسه أو ذنبه بالحرم لم يكن من صيد الحرم كالشجرة إذا كان أصلها بالحل وأغصانها في هواء الحرم أو أرسل كلبه على صيد في الحرم فقتله ضمنه أو قتل صيداً على غصن في الحرم وأصل الغصن في الحل ضمنه لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الهواء تابع للقرار، وقرار الغصن حرم فهو من صيد الحرم، وصيده معصوم، أو أمسك صيداً بالحل فهلك فرخه بالحرم أو هلك ولده بالحرم ضمن الهالك من الفرخ أو الولد لأنه تلف بسببه، ولا يضمن أمه لأنها من صيد الحل وهو حلال للمحل، ولو رمى الحلال صيداً ثم أحرم قبل أن يصيبه ضمنه اعتباراً بحالة الإصابة وهذا في الإمكان لأن الأحرام هو النية كما تقدم، ولو رمى المحرم صيداً في الحل ثم حل قبل الإصابة لم يضمن الصيد اعتباراً بحالتها، وإن قتل الحلال من الحرم صيداً في الحل بسهمه أو كلبه فلا جزاء فيه لأنه ليس من صيد الحرم فليس معصوما، أو قتل الحلال صيداً على غصن في الحل أصل في الحرم فلا جزاء فيه لتبعية الهواء للقرار، وقراره حل فلا يكون صيده معصوماً، أو أمسك الحلال صيداً بالحرم فهلك فرخه بالحل أو هلك ولده بالحل لم يضمن الفرخ والولد لأنه من صيد الحل، وإن كان الصيد والصائد له في الحل فرماه بسهمه أو أرسل كلبه في الحل على صيد بالحل فقتل الصيد الذي كان بالحل وهو في الحرم أو قتل غير الذي أرسل عليه الكلب في الحرم لم يضمن، أو فعل ذلك سهمه بأن رمى به محل صيداً بالحل فشطح السهم فقتل صيداً في الحرم لم يضمن لأنه لم يرسل كلبه على صيد بالحرم وإنما دخل الكلب باختيار نفسه، أشبه ما لو استرسل بنفسه وكذا شطوح السهم بغير اختياره، ولو دخل سهم محل رمى صيداً في الحل الحرم أو دخل كلب محل أرسل كلبه على صيد في الحل الحرم ثم خرج منه فقتل صيداً أو جرحه بالحل ثم دخل الصيد الحرم فمات بالحرم لم يضمن لأن القتل والجرح بالحل، ولا يحل صيد وجد سبب موته بالحرم تغليباً للحظر كما لو وجد سببه في الإحرام فهو ميتة، قال في المنتهى: ولا يحل ما وجد سبب موته بالحرم. قال الخلوتي: كالمسألة المتقدمة في قوله يعني صاحب المنتهى: أو أرسل كلبه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الحل على صيد بالحل فقتله أو غيره في الحل أو فعل ذلك سهمه، إلخ لأن سبب القتل وهو نهش الكلب أو إصابة السهم حصل بالحرم، وهو دفع لما عساه أن يتوهم من حل كل ما كان غير مضمون مع أنه ليس على إطلاقه بل ما كان منه سبب موته بالحرم لا يحل كما أن جميع ما كان مضموناً لا يحل فتدبر انتهى. وقال ابن مفلح في الفروع، ويحرم الصيد في هذه المواضع ضمنه أولا؛ لأنه قتل في الحرم ولأنه سبب تلفه انتهى. قال في المغني والشرح: لو رمى الحلال من الحل صيداً في الحل فجرحه وتحامل الصيد فدخل الحرم فمات حل أكله ولا جزاء فيه لأن الذكاة في الحل فأشبه ما لو جرح صيداً ثم أحرم فمات الصيد بعد إحرامه ويكره أكله لموته في الحرم انتهى. قال في شرح المنتهى: ويحل ما جرحه من بالحل في الحل ومات في الحرم كما في الإقناع انتهى، فأطلق في الإقناع وشرح المنتهى إباحة أكله من غير تقييد بكراهة، وهذه المسألة لا يشملها قولهم: ولا يحل ما وجد سبب موته بالحرم لأن سبب الموت في هذه المسألة وهو جرح الصيد حصل بالحل لا بالحرم، والله أعلم. -- فصل: ويحرم قطع شجر الحرم المكي حتى ما فيه مضرة كشوك وعوسج بفتح العين والسين المهملتين معروف ذو شوك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يعضد شجرها) ، وقال أكثر الأصحاب: لا يحرم ما فيه مضرة كشوك وعوسج لأنه مؤذٍ بطبعه كالسياع ذكره في المبدع، ويحرم قطع حشيش الحرم لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يختلى خلاها) حتى شوك وورق وسواك ونحوه ويضمن القاطع ذلك كما يأتي إلا اليابس من شجر وحشيش وورق ونحوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 لأنه بمنزلة الميت، وإلا ما زال بفعل غير آدمي فيجوز الانتفاع به نص عليه لأن الخبر في القطع وإلا ما انكسر ومل يبن أي ينفصل فإنه كظفر منكسر، وإلا الإذخر لقول العباس: (يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم قال: إلا الإذخر) وهو بكسر الخاء والهمزة: نبت طيب الرائحة، والقين الحداد، وإلا الكمأة والفقع لأنهما ليسا بشجر ولا حشيس، والفقع نوع من الكمأة وهو الأبيض الرخو، وإلا الثمرة لأنها تستخلف، وإلا ما زرعه آدمي من بقل ورياحين وزرع وشجر غرس من غير شجر الحرم فيباح أخذه والانتفاع به لأنه مملوك الأصل كالأنعام وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يقطع شجرها) المراد ما لا يملكه أحد لأن هذا يضاف إلى مالكه، ويباح رعي حشيش الحرم، لأن الهدايا كانت تدخل الحرم فتكثر فيه، ولم ينقل سد أفواهها، ولدعاء الحاجة إليه أشبه قطع الإذخر، بخلاف الاحتشاش لها فإنه لا يجوز. قال الجوهري: الحشيش والهشيم: اليابس من الكلأ والخلا مقصور، والعشب: الرطب منه، قال ابن نصر الله البغدادي في حواشي المحرر: فكان ينبغي للمصنف أن يقول في رعي عشبه لأن الحشيش دخل في قوله إلا اليابس، وكأن المصنف أطلق اسم الحشيش على الرطب تجوزاً باعتبار ما يئول إليه انتهى. ويباح انتفاع بما زال من شجر الحرم أو انكسر من أغصانه بغير فعل آدمي نصاً ولو لم يبن أي ينفصل لتلفه فصار كالظفر المنكسر وتقدم، ويجوز الانتفاع بالورق الساقط، وإذا قطع الآدمي ما يحرم قطعه من شجر الحرم وحشيشه ونحوه حرم انتفاعه به، وحرم انتفاع غيره به لأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم فإذا قطعه من يحرم عليه لم ينتفع به كصيد ذبحه محرم لا يحل له ولا لغيره، ومن قطع شجر الحرم وحشيشه ونحوه ضمن الشجرة الكبيرة والمتوسطة عرفا ببقرة وضمن الصغيرة عرفا بشاة لما روي عن ابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 (في الدوحة بقرة وفي الجزلة شاة) وقاله عطاء، والدوحة الشجرة العظيمة والجزلة الصغيرة، ويخير من وجب عليه جزاء شجر الحرم وحشيشه وصيده بين الشاة أو البقرة فيذبحها ويفرقها أو يطلقها لمساكين الحرم وبين تقويم البقرة أو الشاة بدراهم ويفعل بقيمتها كجزاء صيد بأن يشتري بها طعاماً يجزئ في فطرة فيطعم كل مسكين مدبر أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً، ويضمن الحشيش والورق بقيمته نص عليه الإمام أحمد لأن الأصل وجوب القيمة ويتخير فيها كجزاء صيد لا مثل له ويفعل بالقيمة كما سبق، ويضمن الغصن بما نقص أصله كأعضاء الحيوان وكما لو جنى على مال آدمي فنقص، وبفعل بأرشه كما مر، فإن استخلف الغصن والحشيش والورق ونحوه سقط الضمان كما لو قطع شعر آدمي ثم نبت أو ريش صيد فعاد. وكذا لو رد شجرة قلعها من الحرم إليه فنبتت فلا ضمان عليه لأنه لم يتلفها ويضمن نقصها إن نبتت ناقصة لتسببه فيه، وإن قلع شجرة من الحرم فغرسها في الحل لزمه ردها إلى الحرم لإزالة حرمتها فإن تعذر ردها أو يبست ضمنها لأنه أتلفها، أو قلعها من الحرم فغرسها في الحرم فيبست ضمنها فإن قلع الشجرة المنقولة من الحرم إلى الحل غير الغارس لها بالحل ضمنها القالع وحده لأنه المتلف لها. قال في الغاية: فلو قلعها غيره من الحل ضمنها الغير، ويتجه مع إمكان رد لا بدونه وأنه ينتفع بها إذا انتهى، ويضمن من نفر صيداً من الحرم فخرج إلى الحل فقتله غيره فيه لتفويت المنفر حرمته بإخراجه إلى الحل ولا ضمان على قاتله بالحل، قال مرعي في الغاية: ويتجه مع قصد تنفير انتهى، يعني أن من نفر صيداً من الحرم إلى الحل فقتله غيره يضمن مع قصد التنفير. وهذا الاتاه وجيه لأنه إذا لم يقصد تنفيره لا يكون مؤاخذاً به، والله أعلم. ويضمن من أخرج صيداً من الحرم إلى الحل إذا قتل به إن لم يرده إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الحرم فإن رده إليه فلا ضمان، والفرق بين الشجر والصيد أن الشجر لا ينتقل بنفسه ولا تزول حرمته بإخراجه إلى الحل: ولهذا وجب على مخرجه رده فكان جزاؤه على متلفه بخلاف الصيد فإن تنفيره يفوت حرمته بإخراجه إلى الحل فلزم منفره أو مخرجه جزاؤه، فلو فداه أي الصيد الذي نفره أو أخرجه إلى الحل ثم ولد الصيد وقتل ولده لم يضمن منفره أو مخرجه ولده لأنه ليس من صيد الحرم. قال الخلوتي لعله ما لم تكن حاملاً قبل الإخراج انتهى، ويضمن من قطع غصناً في هواء الحل أصل الغصن أو بعض أصله بالحرم لتبعيته لأصله بخلاف ما لو قتل الحلال صيداً على غصن في الحل أصله في الحرم فلا جزاء فيه لتبعية الهواء للقرار وقراره حل فلا يكون صيده معصوماً وتقدم، ولا يضمن ما قطعه من غصن بهواء الحرم وأصله كله بالحل لتبعيته لأصله بخلاف ما لو قتل صيداً على غصن في الحرم وأصله في الحل فإنه يضمنه لأن الهواء تابع للقرار فهو من صيد الحرم وتقدم. قال الخلوتي على قوله في المنتهى ولا يضمن ما قطعه من غصن بهواء الحرم وأصله بالحل لأن الغصن تابع لأصله يرد عليه ما تقدم فيما إذا قتل صيداً على غصن بالحرم وأصله بالحل فتدبر، وقد يفرق بأن الصيد لما كان معتمداً على الغصن الذي هو بالحرم جعل كأنه أصله وهواؤه تابع لقراره هو، وأما الغصن نفسه فهو تابع لأصله لا لقراره فتدبر، انتهى. ْْْْْْْْْْْ -- فصل: قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يخرج من تراب الحرم ولا يدخل إليه من الحل، كذلك قال ابن عمر وابن عباس: ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل، والخروج أشد في الكراهة، قال في المنتهى: وكره إخراج تراب الحرم وحجارته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 إلى الحل انتهى. فعلى هذا فإخراج الأواني المعمولة من الفخار للشرب وغيره من تراب الحرم إلى الحل مكروه والله أعلم، ولا يكره وضع الحصى بالمساجد كما في مسجده صلى الله عليه وسلم زمنه وبعده، وفي سنن أبي داود: باب في حصى المسجد حدثنا سهل بن تمام بن بزيع حدثنا عمر بن سليم الباهلي عن أبي الوليد سألت ابن عمر عن الحصى الذي في المسجد فقال: مطرنا ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة فجعل الرجل يأتي بالحصى في ثوبه فيبسطه تحته فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال ما أحسن هذا انتهى. ويحرم إخراج تراب المساجد وإخراج طيبها في الحل والحرم لأنه انتفاع بالموقوف في غير جهته قاله في شرح الإقناع وشرح المنتهى وغيرهما. قلت: يؤيد هذا ما في سنن أبي داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال: (كان يقال إن الرجل إذا أخرج الحصى من المسجد يناشده) حدثنا محمد بن إسحق أبو بكر، يعني الصاغاني حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد حدثنا شريك حدثنا أبو حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال أبو بدر: أراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد) انتهى. ويقاس التراب على الحصا، والله أعمل. قال المنذري وإسناده جيد، وقد سئل الدارقطني عن هذا الحديث فذكر أنه روى موقفاً على أبي هريرة وقال: رفعه وهم من أبي بدر، والله أعلم. قال في شرحي الإقناع والمنتهى قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا أراد أن يستشفى من طيب الكعبة لم يأخذ منه شيئاً ويلزق عليها طيباً من عنده ثم يأخذه، ذكر ذلك في المغني والشرح وشرح المنتهى والإقناع وغيرها، وجواز الاستشفاء بطيب الكعبة أو بطيب يلزقه عليها من عنده ثم يأخذه فيه نظر، والأظهر عدم جوازه وإن خالف نص الإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 لأن الاستشفاء به من قبيل التبرك به وهو ممنوع للأدلة الواردة في مثل ذلك، بخلاف ماء زمزم فإن التبرك بشربه جائز للأحاديث الواردة فيه، والله أعلم، ولا يكره إخراج ماء زمزم لأنه يستخلف فهو كالثمرة، قال الإمام أحمد: أخرجه كعب ولم يزد عليه انتهى، وروى عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت حمل من ماء زمزم وتخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمله) . رواه الترمذي وقال حسن غريب. (فائدة) قال الشيخ ابن العماد في شرح الغاية: لا بأس بنقل ماء زمزم للهدية كما يفعله كثير من الحجاج، وخاصيته من أنه طعام طعم وشفاء سقم، لا ترفع كما ظنه بعضهم، ولا تبدله الملائكة كما ظنه آخرون، لكن من صحبه معه، وفقد الماء في الطريق لا يباح له التيمم لأن عنده ماءً طهوراً ويجب عليه استعماله وكذا إن اضطر إليه عطشان من حيوان محترم فيجب بذله فليحفظ فإنه مهم انتهى. قلت: ما ذكره ابن العماد من وجوب استعمال ماء زمزم إذا فقد مستصحبه الماء في الطريق محله إذا لم يخف باستعماله عطش نفسه أو ولده أو حرمته من زوجة ونحوها أو امرأة من أقاربه أو رفيقه أو حيوان محترم فإن خاف ذلك شرع له التيمم، والله أعلم. -- فصل: ومكة أفضل من المدينة لحديث عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت) . رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح، ولمضاعفة الصلاة فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 أكثر، والحزورة كانت هي سوق مكة وكانت بفناء دار أم هانئ فدخلت في المسجد الحرام، قيل إنها الأكمة التي كانت بين باب أم هانئ وبين باب الوداع، وقيل غيرها، وتستحب المجاورة لمن لا يخاف الوقوع في محظور بمكة، قال في المغني والشرح قال أحمد رحمه الله: كيف لنا بالجوار بمكة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إنك لأحب البقاع إلى الله عز وجل، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت) وإنما كره عمر الجوار بمكة لمن هاجر منها، وجابر بن عبد الله جاور بمكة وجميع أهل البلاد، ومن كان من أهل اليمن ليس بمنزلة من يخرج ويهاجر أي لا بأس به، وابن عمر كان يقيم بمكن قال: والمقام بالمدينة أحب إليّ من المقام بمكة لمن قوى عليه لأنها مهاجر المسلمين وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة) . انتهى والحديث رواه مسلم من حديث ابن عمر ومن حديث أبي هريرة وأبي سعيد وسعد وفيهن (أو شهيداً) وتضاعف الحسن والسيئة بمكان وزمان فاضلين لقول ابن عباس الآتي، وقد سئل الإمام أحمد هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال لا إلا بمكة لتعظيم البلد، ولو أن رجلاً بعدن وهمّ أن يقتل عند البيت أذاقه الله من العذاب الأليم، ولا ينافيه قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ومراد ابن عباس مضاعفة السيئات بالكيف لا بالكم كما قرره شيخ الإسلام، والله أعلم. وروى الأزرقي بسنده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: لخطيئة أصيبها بمكة أعز علي من سبعين خطيئة أصيبها بركبة انتهى. وركبة هي الصحراء الواسعة المعروفة بطريق نجد، وروى الأزرقي بسنده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: (يا أهل مكة لا تحتكروا الطعام بمكة فإن احتكار الطعام بمكة للبيع إلحاد) وبسنده عن مجاهد قال: (ومن يُرد فيه بإلحاد بظلم يعمل عملاً سيئاً) وبسنده عن عبد الله بن مسعود قال: (ليس أحد من خلق الله تعالى يهم بسيئة فيؤخذ بها ولا تكتب عليه حتى يعملها غير شيء واحد، قال ففزعنا لذلك فقلنا: ما هو يا أبا عبد الرحمن؟ فقال عبد الله: من هم أو حدث نفسه بأن يلحد بالبيت أذاقه الله عز وجل من عذاب أليم ثم قرأ: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) . قال شيخ الإسلام: المجاورة بمكان يكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان. قلت: هذا هو الصواب الذي لا شك فيه، وإلا فماذا ينفع المقيم في مكة أو المدينة مع فسقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وفجوره أو نفاقه؟ وماذا يضر غيره ممن أقام في بلد من بلدان المسلمين سوى مكة والمدينة مع صلاحه وكمال إيمانه وتقواه؟ والله المستعان، والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة؛ ونص الإمام أحمد رحمه الله أن الطواف للغريب أفضل من الصلاة النافلة والصلاة للمكي أفضل من الطواف. ويستحب لمن أتي مكة الإكثار من سائر التطوعات بالمسجد الحرام واغتنام الزمان في تلك البقعة المشرفة الفاضلة من طواف وتلاوة قرآن وذكر مشروع واعتكاف وغير ذلك، وكان كثير من السلف يحيى الليل مدة إقامته بمكة، وفعله الإمام أحمد رحمه الله ليلة قدومه وهو في تلك الحجة ماشياً، والصلاة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم بألف صلاة، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، وبقية حسنات الحرم كصلاة فيه فكل عمل صالح فيه بمائة ألف. وفي الفروع: والأظهر أن مرادهم غير صلاة النساء في البيوت فإن صلاتها في بيتها بمكة أفضل من صلاتها في المسجد الحرام لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله من حرم الله وبيتها خير لها، وإن النفل بالبيت أفضل) فظاهر كلامهم أن المسجد الحرام نفس المسجد، وقيل الحرام كله مسجد، ومع هذا فالحرم أفضل من الحل انتهى، قال ابن جرير في تفسيره على قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) . اختلف فيه وفي معناه فقال بعضهم يعني من الحرم كله مسجد وذكر دليل من قال به ثم قال: وقال آخرون بل أسرى به من المسجد وذكر دليل من قال به ثم قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أخبر أنه أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام. والمسجد الحرام هو الذي يتعارفه الناس بينهم إذا ذكروه انتهى. وقال في الإقناع وشرحه: وما خلق الله خلقاً أكرم عليه من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه البراهين، وأما نفس تراب تربته صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فليس هو أفضل من الكعبة بل الكعبة أفضل منه، قال في الفنون: الكعبة أفضل من مجرد الحجرة، فأما والنبي صلى الله عليه وسلم فيها فلا والله ولا العرش وحملته والجنة لأن بالحجرة جسداً لو وزن به لرجح انتهى. قلت: لا حاجة إلى هذا التكلف الذي ذكره ابن عقيل صاحب الفنون في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه من الإطراء. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) . الحديث. قال شيخ الإسلام: لا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض ولم يسبقه أحد إليه ولا وافقه أحد قط عليه، قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه: تكملة، حكى عن أبي بكر النقاش في شأن قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في مسجدي هذا) زاد ابن خزيمة يعني مسجد المدينة رواه عبد الله بن الزبير، وروى صاحب مثير الغرام الساكن في كتابه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة) ، قال أبو بكر النقاش: فحسبت ذلك في هذه الرواية فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة، وصلاة يوم وليلة في المسجد الحرام وهي خمس صلوات عمر مائتي سنة وسبع وسبعين سنة وتسعة أشهر وعشر ليال انتهى. قلت: حسبنا ذلك فوجدنا صلاة واحدة عن ست وخمسين سنة وستة أشهر إلا يوماً واحداً، وحسبنا صلاة يوم وليلة فوجدناها عن مائتي سنة واثنتين وثمانين سنة وستة أشهر إلا خمسة أيام، وذلك على رواية جابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 بن عبد الله، فانظر يا أخي إلى هذا الفضل الكبير والعطاء الكثير فإذا كان هذا على هذه الرواية فما بالك بها في رواية عبد الله بن الزبير التي قال فيها (وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في مسجدي هذا) فإنه يزاد على العدد المذكور تسعمائة وتسعة وتسعون مرة؛ يعني أن العدد الذي ذكرناه هنا يكون على رواية ابن الزبير جزءاً واحداً من ألف جزء والله أعلم. وهذا شيء يعجز الحاذق الماهر في الحساب عن ضبط سنينه وأعوامه ولياليه وأيامه، فحق لمثل هذا الحرم الشريف أن تشد إليه الرحال وتتلف فيه أنفس الرجال فضلاً عن الأموال. وفي أحكام المساجد للزركشي الشافعي: روى أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه من حديث حماد بن زيد وغيره عن حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة ألف صلاة) وإسناده على شرط الشيخين لا جرم صححه ابن عبد البر وقال إنه الحجة عند التنازع وإنه نص في موضع الخلاف قاطع عند من ألهم رشده ولم تمل به عصبيته، يعني في القول بأفضلية مسجد المدينة على المسجد الحرام، ثم ذكر أن بعض الناس طعن في حبيب المعلم، وبعضهم أعلّ الحديث ورد ذلك بما يطول ذكره، ثم نقل عن الذهبي أنه قال إسناده صالح، وروى ابن عبد البر هذا الحديث بإسناد آخر ثم قال ورجال إسناده علماء أجلاء ولم ينفرد ابن الزبير بذلك، بل روى ما يوافقه أنس وجابر وأبو الدرداء، ولقد أحسن القائل في مدح مكة: أرض بها البيت المحرم قبلة ... للعالمين لها المساجد تعدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 حرم حرام أرضها وصيودها ... والصيد في كل البلاد محلل. وبها المشاعر والمناسك كلها ... وإلى فضيلتها البرية ترحل. وبها المقام وحوض زمزم مشرعاً ... والحجر والركن الذي لا يرحل. والمسجد العالي المحرّم والصفا ... والمشعران لمن يطوف ويرمل. وبمكة الحسنات ضوعف أجرها ... وبها المسيء عنه الخطايا تغسل. قوله: والصيد في كل البلاد محلل، أي ما عدا صيد حرم المدينة المنورة على الصحيح، وأعلم أن العلماء صرحوا بأن هذه المضاعفة فيما يرجع إلى الثواب فقط ولا يتعدى ذلك إلى الأجزاء عن الفوائت، فلو كان عليه صلاتان فصلى في مسجد مكة أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى صلاة واحدة لم تجزه عنهما، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء خلافاً لما يغتر به بعض الجهلة، وأعلم أيضاً أن هذه المضاعفة لا تختص بالصلوات بل كل حسنة يعملها العبد في الحرم بمائة ألف، فمن صام بها يوماً كتب الله له صوم مائة ألف يوم، ومن تصدق فيها بدرهم كتب الله له مائة ألف درهم صدقة، ومن ختم القرآن مرة واحدة كتب الله له مائة ألف ختمة بغيرها، ومن سبح الله تعالى فيها مرة كتب الله له مائة ألف مرة بغيرها، إلى غير ذلك من أعمال البر وتقدم. (تنبيه) : يشترط لحصول المضاعفة المشار إليها شرطان: الإخلاص لله في العمل والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الإخلاص والمتابعة شرطان لصحة الأعمال وقبولها وكذلك إذا فقد أحدهما: يعني إذا كان العمل خالصاً لله ولم يكن على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقبل: كما أنه إذا كان العمل على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يكن خالصاً لله فإنه لا يقبل أيضاً، فلا يقبل من أعمال العبد إلا ما كان خالصاً لله صوابا على سنة رسول الله صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 عليه وسلم، فيجب على كل من أراد نجاة نفسه يوم لقاء ربه أن يفتش نفسه ويتوب إلى ربه ويخلص جميع أعماله لربه أكرم الأكرمين، ويتبع سنة رسوله محمد أشرف المرسلين صلى الله عليه وسلم والله الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل. -- فصل: وحدّ حرم مكة من طريق المدينة ثلاثة أميال عند بيوت السقيا، ويقال لها بيوت نفار، بكسر النون وبالفاء: وهي دون التنعيم، ويعرف الآن بمساجد عائشة، وفي أخبار مكة للأزرقي: بيوت غفار بالغين، قال محشيه وتسمى اضاه بني غفار كما ذكر ياقوت. والأضاءة: الماء المستنقع من سيل وغيره. وغفار، قبيلة من كنانة، وقد قال ابن ظهيرة إن الحصحاص وهو مقبرة المهاجرين المعروف اليوم بالمختلع يسمى بضاة بني غفار انتهى. وحدّه من طريق اليمن سبعة أميال عند أضاة لِبن بالضاد المعجمة على وزن قناة، ولبن بكسر اللام وسكون الموحدة، وحدُّه من طريق العراق سبعة أميال على ثنية خل بخاء معجمة مفتوحة ولام مشددة هكذا في ضبط الشيخ الحجاوي في الإقناع بالقلم. وفي المنتهى والمبدع وغيرهما: رجل بكسر الراء وسكون الجيم، وهل جبل بالمقطع بفتح الميم وبقاف ساكنة وطاء مفتوحة هكذا ضبطه الشيخ الحجاوي في الإقناع بالقلم، وعبارة المنتهى والمبدع وغيرهما: بالمنقطع، وفي أخبار مكة للأزرقي قال ومن طريق العراق على ثنية خل بالمقطع على سبعة أميال انتهى. وفي بعض المناسك المعتمدة بفتح الميم وسكون القاف على ما ضبطه المحب الطبري، وسبب تسميته بذلك أنهم قطعوا منه حجارة الكعبة في زمن ابن الزبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 قال الأزرقي في أخبار مكة، وإنما سمي المقطع لأنه جبل صلب الحجارة فكان يوقد بالنار ثم يقطع، وقيل غير ذلك. وقال في موضع من كتابه أخبار مكة: وإنما سمي المقطع لأن البنائين حين بنى ابن الزبير الكعبة وجدوا هناك حجراً صلباً فقطعوه بالنار فسمي ذلك الموضع المقطع، إلى أن قال ثنية خل بطرف المقطع منتهى الحرم من طريق العراق. انتهى كلام الأزرقي. ومن هذا يتضح صحة ما ضبطه الحجاوي في الإقناع أن ثنية خل بخاء معجمة وأن المقطع بقاف ساكنة وطاء مفتوحة فليعتمد ذلك ويعول عليه والله أعلم. ومن الجعرانة بسكون العين وتخفيف الراء على المشهور تسعة أميال في شعب عبد الله بن خالد، وحده من طريق جدة عشر أميال عند منقطع الأعشاش أي منتهى طرفها جمع عشر بضم العين المهملة وهو دون الموضع المعروف الآن بالشميسي وسابقاً بالحديبية، فحد الحرم دونه إلى مكة وليس الموضع المعروف الآن بالشميسي والحديبية داخلاً في الحرم كما يتضح ذلك من أعلام الحرم المنصوبة هناك. تنبيه مهم: إن علمي الحرم من طريق جدة هما العلمان القديمان من زمن نبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم بإشارة جبريل عليه السلام بوضعهما في تلك البقعة كسائر حدود الحرم من الجهات الأخرى. أما العلمان الجنوبيان المسامتان لعلمي الحرم المذكورين فقد أحدثا في جمادى الثانية سنة ست وسبعين وثلثمائة وألف من أجل طريق السيارات المؤدي بينهما ثم صار عدول السيارات من هذا الطريق الجنوبي الذي يمر بين العلمين المحدثين إلى الطريق الشمالي الذي يمر بين علمي الحرم القديمين ولإزالة اللبس لزم التنبيه على ذلك. قال في الإقناع وشرحه: وحده من طريق الطائف على عرفات من بطن نمرة سبعة أميال عند طرف عرفة، وحده من بطن نمرة أحد عشر ميلا. انتهى. قلت هكذا ذكر الأزرقي وتبعه بعض الفقهاء من الحنابلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وغيرهم وفيه نظر لأن عرفة حل فكيف يكون بطنها حدا؟ وقد ذكر الأزرقي أن حده من طريق الطائف على عرفات من بطن نمرة سبعة أميال وهذان جهة واحدة فاعتمد حده من هذه الجهة سبعة أميال لا أحد عشر ميلاً والله أعلم. وعلى تلك المذكورات أنصاب الحرم ولم تزل معلومة. قال الشيخ عثمان بن قائد: وهل يعتبر ذلك التحديد من الكعبة أو المسجد أو من مكة انتهى. قلت الظاهر أن اعتبار ذلك من الكعبة كما هو مصرح به في بعض المناسك، والله أعلم. (فائدة) : سبب بعد التحديد وقربه من الحرم واختلافه في القرب والبعد هو ما ذكر الشيخ عبد الرحمن بن رجب أنه لما نزل الحجر الأسود أضاء له نور عظيم فحدد الحرم على ذلك النور. انتهى. وفي أخبار مكة للأزرقي: ولما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ربنا أرنا مناسكنا، نزل إليه جبريل فذهب به فأراه المناسك ووقفه على حدود الحرم فكان إبراهيم يرضم الحجارة وينصب الأعلام ويحثي عليها التراب، وكان جبريل عليه السلام يقفه على الحدود قال: وجاء جبريل بالحجر الأسود إلى إبراهيم فوضعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام في موضعه هذا فأنار شرقاً وغرباً ويمناً وشمالاً فحرم الله تعالى الحرم من حيث انتهى نور الحجر وإشراقه من كل جانب. انتهى كلام الأزرقي. وحيث الحال ما ذكر وأن حدود الحرم مختلفة في القرب والبعد وأن وضع حدود الحرم هو بإيقاف جبريل عليه الصلاة والسلام لأبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم على حدود الحرم وظهور أن حد الحرم من طريق المدينة ثلاثة أميال ومن طريق جدة عشرة أميال مع أن الحدين متجاوران فبذلك تبين أنه ليس للاجتهاد في تحديد الحرم مساغ وأنه لا يجوز لأحد أن يحدث حداً للحرم ويضع عليه أنصاباً من تلقاء نفسه لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 قد لا يكون ذلك حداً للحرم في نفس الأمر، أما إذا أتى على محل ليس به أعلام فإنه ينظر إلى محاذاة أقرب الأعلام إليه وليس في الإمكان سوى ذلك مع عدم الجزم بأن هذا حد للحرم والله أعلم. قال الشيخ محمد الخلوتي: حد حرم مكة من الجهات في هذه الأبيات: وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال لمن رام إتقانه. وسبعة أميال عراق وطائف ... وجدة عشر ثم تسع جعرانة. ومن يَمَن سبع بتقديم سينها ... فسل ربك المحمود يرزقك غفرانه. (فائدة) : أول من نصب الحدود للحرم أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم قصيّ، وقيل إسماعيل ثم قصي ثم قريش بعد قلعهم لها، ثم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عام الفتح ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم معاوية ثم عبد الملك بن مروان وفي عام مائة وتسع وخمسين لما رجع المهدي من الحج أمر بتجديدها وكذلك جددها المقتدر بالله العباسي، وفي سنة ثلاث مائة وخمس وعشرين أمر الراضي بالله العباسي بعمارة العلمين من جهة التنعيم، وفي سنة ستمائة وستة عشر أمر المظفر صاحب أربل بعمارة العلمين من جهة عرفة، ثم الملك المظفر صاحب اليمن سنة ستمائة وثلاث وثمانين، وجددها السلطان أحمد الأول العثماني سنة ألف وثلاث وعشرين، وكل هؤلاء أظهروا وجددوا ما حدده أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد الدراسة، لا أنهم أحدثوا حدودا من عند أنفسهم. -- فصل: ويحرم صيد المدينة لحديث عامر بن سعد عن أبيه مرفوعاً (إني أحرّم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها) . رواه مسلم، والمدينة من الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 بمعنى الطاعة لأن المقام بها طاعة، أو بمعنى الملك لأنه دين أهلها أي ملكهم، يقال فلان في دين فلان: أي في ملكه وطاعته، قال الحافظ بن حجر العسقلاني: قرأت على أبي علي الصدفي في هامش نسخته من صحيح البخاري بخطه ما نصه: أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها يجده من أقام بها ويجد لطيبها أقوى رائحة ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب، وللمدينة أسماء منها ما رواه عمر بن الخطاب شبة في أخبار المدينة من رواية زيد بن أسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (للمدينة عشرة أسماء هي المدينة وطابة وطيبة والمطيبة والمسكينة والدار والجابرة والمجبورة والمحببة والمحبوبة) وروى الزبير في أخبار المدينة من طريق ابن أبي يحيى مثله، وزاد: والقاصمة وتمامه فيه انتهى، والأولى أن لا تسمى بيثرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم غيَّره لما فيه من التثريب وهو التغيير والاستقصاء في اللوم، وما وقع في القرآن فهو حكاية لمقالة المنافقين، ويثرب في الأصل اسم لرجل من العمالقة بني المدينة فسميت به، وقيل يثرب اسم أرضها قاله الحجاوي في حاشية الإقناع، قال في الإقناع وشرحه: فلو صاد من حرم المدينة وذبح صيدها صحت تذكيته، قال القاضي: تحريم صيدها يدل على أنه لا تصح ذكاته وإن قلنا تصح فلعدم تأثير هذه الحرمة في زوال ملك الصيد نص عليه مع أنه ذكر في الصحة احتمالين انتهى. قال في شرح المنتهى: وإن صاده وذبحه صحت تذكيته جزم به في الإقناع انتهى. ويحرم قطع شجرها وحشيشها لحديث (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت في صاعها ومدها بمثلى منا دعا إبراهيم لأهل مكة) . متفق عليه، ولما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها) ولمسلم ولا يختلى خلالها ولا يحدث فيها حدث من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 والملائكة والناس أجمعين) . متفق عليه. ويجوز أخذ ما تدعو لحاجة إليه من شجرها للرحل والقتب وعوارضه وآلة الحرث ونحو ذلك كآلة الدياس والجذاذ والحصاد. والعارضة لسقف المحمل والمساند من القائمتين اللتين تنصب البكرة عليهما والعارضة بين القائمتين ونحو ذلك كعود البكرة، لما روى جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم المدينة قالوا يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضج ولا نستطيع أرضاً غير أرضنا فرخص لنا، فقال: القائمتان والوسادة والعارضة والمسند فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء) . رواه أحمد فاستثنى الشارع صلى الله عليه وسلم ذلك وجعله مباحاً، والمسند عود البكرة، ويجوز أخذ ما تدعو الحاجة إليه من حشيشها للعلف لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور لا يختلى خلالها ولا ينفر صيدها ولا يصلح أن تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره) . رواه أبو داود، ولأن المدينة يقرب منها شجر وزرع، فلو منعنا من احتشاشها أفضى إلى الضرر، بخلاف مكة، ومن أدخل إليها صيداً فله إمساكه وذبحه، نص عليه بخلاف مكة لقول أنس (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال أحسبه فطيما، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير ما فعل النغير بالغين المعجمة، وهو طائر صغير كان يلعب به، متفق عليه، قال المحب بن نصر الله البغدادي: حديث أبي عمير يدل على جواز الإمساك فأين دليل الذبح؟ وفي شرح المحرر لأن إمساكه يفضى إلى تلفه بغير فائدة فذبحه المفضي إلى جواز أكله أولى انتهى، قال في المنتهى وشرحه: ولا جزاء فيما حرم من ذلك أي من صيدها أو شجرها أو حشيشها، قال أحمد: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحداً من أصحابه حكموا فيه بجزاء انتهى، ولا يلزم من الحرمة الضمان ولا من عدمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 عدمها، قال في المغني: ويحرم صيد المدينة وشجرها وحشيشها وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا يحرم لأنه لو كان محرماً لبينه صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولو وجب فيه الجزاء كصيد الحرم. ولنا ما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (المدينة حرم ما بين ثور إلى عير) . متفق عليه، وروى تحريم المدينة أبو هريرة ورافع وعبد الله بن زيد متفق على أحاديثهم، ورواه مسلم عن سعد وجابر وأنس إلى إن قال: فمن فعل مما حرُم عليه شيئاً ففيه روايتان: إحداهما لأجزاء فيه، وهذا قول أكثر أهل العلم وهو قول مالك والشافعي في الجديد، والثانية يجب فيه الجزاء روى ذلك عن ابن أبي ذئب وهو قول الشافعي في القديم وابن المنذر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني أحرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة) ونهى أن يعضد شجرها ويؤخذ طيرها، فوجب في هذا الحرم الجزاء كما وجب في ذلك إذ لم يظهر بينهما فرق، وجزاؤه إباحة سلب القاتل لمن أخذه، لما روى مسلم بإسناده عن عامر بن سعد أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاء أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرد عليهم، وعن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد أحداً يصيد فيه فليسلبه) رواه أبو داود، فعلى هذا يباح لمن وجد آخذ الصيد أو قاتله أو قاطع الشجر سلبه، وهو أخذ ثيابه حتى سراويله، فإن كان على دابة لم يملك أخذها، لأن الدابة ليست من السلب، وإنما أخذها قاتل الكافر في الجهاد، لأنه يستعان بها على الحرب بخلاف مسألتنا، وإن لم يسلبه أحد فلا شيء عليه سوى الاستغفار والتوبة، انتهى ملخصاً. قلت: لفظ البخاري عن علي رضي الله عنه قال: ما عندنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 شيء إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم (المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا) وفي مسلم: إلى ثور. وعائر بالعين المهملة والألف مهموز آخر راء: جبل بالمدينة، قال القسطلاني: واتفقت الروايات التي في البخاري كلها على إبهام الثاني انتهى. وحرمها أيضاً ما بين لابتيها لقول أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بين لابتيها حرام) . متفق عليه، واللابة الحرة وهي أرض تركبها حجارة، ولا تعارض بين الحديثين لما يأتي، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري رواية ما بين لابتيها أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية جبليها لا تنافيها فيكون عند كل جبل لابة، أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة المشرق والمغرب، وعاكسه ابن أبي الفتحح في المطلع. قلت: فيما قاله الحافظ بن حجر نظر ظاهر، فإنه ليس عند كل جبل لابة، ولا أن لابتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة المشرف والمغرب، بل الحقيقة أن حديث ما بين لابتيها يعني من جهة المشرق والمغرب، بل الحقيقة أن حديث ما بين لابتيها يعني من جهة المشرق والمغرب، فإن من جهة المشرق حرة ومن جهة المغرب أخرى، وحديث ما بين ثور إلى عير يعني من جهة الجنوب والشمال، فثور من جهة الشمال وعير من جهة الجنوب والله أعلم، وقدر حرم المدينة يريد في بريد نصاً، قال الإمام أحمد: ما بين لابتيها حرام بريد في بريد، كذا فسره مالك بن أنس. قلت: وقد أنكر جماعة من العلماء أن بالمدينة جبلاً يسمى ثوراً واعتقدوا أنه خطأ من بعض رواة الحديث لعدم معرفتهم له. قال القسطلاني قال أبو عبيد: أهل المدينة لا يعرفون عندهم جبلاً يقال له ثور وإنما ثور بمكة، وقيل إن البخاري إنما أبهمه عمداً لما وقع عنده أنه وهم، لكن قال صاحب القاموس: ثور جبل بمكة وجبل بالمدينة، ومنه الحديث الصحيح (المدينةحرم ما بين عير إلى ثور) وأما قول أبي عبيد بن سلام وغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 من أكابر الأعلام: إن هذا تصحيف والصواب إلى أحد لأن ثوراً إنما هو بمكة فغير جيد لما أخبرني الشجاع البعلي الشيخ الزاهد عن الحافظ أبي محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد جانحاً إلى ورائه جبلاً صغيراً يقال له ثور، وتكرر سؤالي عنه طوائف من العرب العارفين بتلك الأرض فكل أخبر أن اسمه ثور، ولما كتب إلى عفيف الدين المطري عن والده الحافظ الثقة قال إن خلف أحد عن شماله جبلاً صغيراً مدوراً يسمى ثوراً يعرفه أهل المدينة خلفاً عن سلف، ونحو ذلك قاله صاحب تحقيق النصرة انتهى كلام القسطلاني. قال الشيخ أبو محمد المقدسي في المغني وتبعه صاحب الشرح الكبير: فأما قوله ما بين ثور إلى عير فقال أهل العلم بالمدينة لا نعرف بها ثوراً ولا عيراً وإنما هما جبلان بمكة فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد قدر ما بين ثور وعير، ويحتمل أنه أراد جبلين بالمدينة وسماهما ثوراً وعيراً تجوزاً انتهى كلام الموفق رحمه الله. قلت: ليس الأمر كما قاله الشيخ الموفق عفا الله عنه فإن ثوراً معروف عند أهل المدينة، وهل جبل صغير لونه يضرب إلى الحمرة بتدوير ليس بمستطيل خلف أحد من جهة الشمال، وعيرا جبل مشهور بالمدينة أيضا من جهة الجنوب قرب ذي الحليفة ميقات أهل المدينة، وهذا ليس فيه إشكال، قال في فتح الباري نقلاً عن شيخه أبي بكر بن حسين المراغي: إن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خلف أحد من جهة الشمال جبلاً صغيراً يضرب لونه إلى الحمرة بتدوير يسمى ثوراً قال وقد تحققه بالمشاهدة. انتهى كلام ابن حجر. قلت قد سهل الله لي المجاورة بالمدينة سبع سنين ابتداؤها أول شهر المحرم سنة ألف وثلثمائة وست وخمسين وانتهاؤها في أثناء شهر محرم سنة ألف وثلثمائة وثلاث وستين فالحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 (فائدة) : قد جعل صلى الله عليه وسلم (حول المدينة اثني عشر ميلا حمى) رواه مسلم عن أبي هريرة، قال بعض العلماء وهو الموضع المسمى بالنقيع في ديار مزينة على نحو عشرين ميلا من المدينة. قال شيخ الإسلام رحمه الله وكذلك حرم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو ما بين لابتيها واللابة هي الحرة وهي الأرض التي فيها حجار سود وهو بريد في بريد، والبريد أربعة فراسخ وهو من عير إلى ثور، وعير هو جبل عند الميقات يشبه العير وهو الحمار، وثور هو جبل من ناحية أُحد، وهو غير جبل ثور الذي بمكة، فهذا الحرم أيضاً لا يصاد صيده ولا يقطع شجره إلا لحاجة كآلة الركوب والحرث ويؤخذ من حشيشه ما يحتاج إليه للعلف، وإذا أدخل إليه صيداً لم يكن عليه إرساله، وليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره إلا هذان الحرمان حرم مكة والمدينة، ولا يسمى غيرهما حرماً كما يسمى الجهال فيقولون حرن المقدس وحرم الخليل فإن هذين وغيرهما ليس بحرم باتفاق المسلمين، والحرم المجمع عليه حرم مكة، وأما المدينة فلها حرم أيضا عند الجمهور كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينازع المسلمون في حرم ثالث إلا في وج وهو واد بالطائف وهو عند بعضهم حرم وعند الجمهور ليس بحرم انتهى ملخصاً. قال في المنتهى وشرحه: وحكم وج وهو واد بالطائف كغيره من الحل فيباح صيده وشجره وحشيشه بلا ضمان. والخبر فيه ضعفه أحمد وغيره، وقال ابن حبان والأزدي لم يصح حديثه انتهى. قلت الخبر الذي أشار إليه هو حديث محمد بن عبد الله بن سنان عن أبيه عن عروة بن الزبير عن أبيه مرفوعاً (إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله) رواه أحمد وأبو داود وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفاً فقد ضعفه أحمد، وقال أبو حاتم في محمد ليس بقوي في حديثه نظر، وقال البخاري لا يتابع عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وقال ابن حبان والازدي لم يصح حديثه، وحمل القاضي أبو يعلى ذلك على الاستحباب للخروج من الخلاف، قال ابن القيم رحمه الله وفي سماع عروة من أبيه نظر وإن كان قد رآه والله أعلم، قال في المغني: صيد وج وشجره مباح وهو واد بالطائف، وقال أصحاب الشافعي: هو محرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيد وج وعضاهها محرم) رواه أحمد في المسند، ولنا أن الأصل الإباحة والحديث ضعيف ضعفه أحمد ذكره أبو بكر الخلال في كتاب العلل انتهى. -- باب: دخول مكة وما يتعلق به من الطواف والسعي وغيره: يسن الاغتسال لدخول مكة ولو كان بالحرم، وفي الإقناع وشرحه ولدخول حرمها ولم لحائض ومثلها النفساء فتغتسل لدخول مكة انتهى، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل لدخول مكة وكان يبيت بذي طوى وهي عند الآبار التي يقال لها آبار الزاهر، فمن تيسر له المبيت بها والاغتسال ودخول مكة نهاراً وإلا فليس عليه شيء من ذلك ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال: غسل الإحرام، والغسل عند دخول مكة، والغسل يوم عرفة، وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار وللطواف والمبيت بمزدلفة فلا أصل له لا عن النبي صلى الله عليه ولم ولا عن أصحابه، ولا استحبه جمهور الأئمة لا مالك ولا أبو حنيفة ولا أحمد وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه بل هو بدعة إلا أن يكون هناك سبب يقتضي الاستحباب مثل أن يكون عليه رائحة يؤذي الناس بها فيغتسل لإزالتها انتهى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في صفة حجته صلى الله عليه وسلم: (ثم نهض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 صلى الله عليه وسلم إلى أن نزل بذي طوى وهي المعروفة الآن بآبار الزاهر فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح ثم اغتسل من يومه ونهض إلى مكة) وتمامه فيه. قلت في زمننا هذا يسمى بالزاهر موضعان موضع بالشهداء وفيه البستان المسمى ببستان الزاهر، والموضع الثاني بجرول قرب ذي طوي وهو بستان معالي وزير المالية عبد الله السليمان الحمدان، وأما بئر طوي فهي معروفة مشهورة عند أهل مكة بالموضع المسمى بجرول ومكتوب عليها بئر طوي ملاصقة لدار السادة العلويين آل عقيل والله أعلم. قال البخاري في صحيحه: باب الاغتسال عند دخول مكة، وساق بسنده إلى نافع قال: (كان ابن عمر رضي الله عنهما يبيت بذي طوي ثم يصلي به، أي بذي طوي الصبح، ويغتسل به ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) . قال القسطلاني: وظاهر إطلاق البخاري يتناول المحرم والحلال الداخل لها أيضاً، وقد حكاه الشافعي في الأم عن فعله صلى الله عليه وسلم عام الفتح انتهى، وفي أثر ابن عمر هذا استحباب الاغتسال بذي طوي، وهو محول على من كان بطريقه بأن يأتي من طريق المدينة، أما من لم يكن بطريقه كمثل من أتى من نجد أو اليمن ونحوهما فإنه يغتسل من طريقه الذي ورد منه والله أعلم. قال القسطلاني: وطوى بكسر الطاء اسم بئر أو موضع بقرب مكة، ولأبي ذر: طوي بضمها ويجوز فتحها والتنوين وعدمه كما في القاموس فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة ومن لم يصرفه جعله بقعة وجعله معرفة انتهى. قلت: طوي يصدق على واد، وموضع بجرول وبئر طوي في الموضع المذكور كما هو معلوم بالمشاهدة، ويسن أن يدخل مكة نهاراً لفعله صلى الله عليه وسلم، ففي مسلم من طريق أيوب عن نافع ولفظه (كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوي حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهاراً) قال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الفروع: وقيل ليلاً، نقل ابن هانئ لا بأس به، وإنما كرهه من السراق انتهى، وأخرج النسائي أنه صلى الله عليه وسلم دخل ليلاً ونهاراً، قال القسطلاني ولا يعلم دخوله صلى الله عليه وسلم ليلاً إلا في عمرة الجعرانة كما رواه أصحاب السنن الثلاثة انتهى. ويسن أن يدخل مكة من أعلاها من ثنية كداء بفتح الكاف ممدود مهموز مصروف وغيره مصروف، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وإذا أتى مكة جاز أن يدخلها والمسجد من جميع الجوانب لكن الأفضل أن يأتي من وجه الكعبة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه دخلها من وجهها من الناحية العليا التي فيها اليوم باب المعلاة، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لمكة ولا للمدينة سور ولا أبواب مبنية ولكن دخلها من الثنية العليا ثنية كداء بالفتح والمد المشرفة على المقبرة انتهى، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة نهاراً من أعلاها من الثنية العليا التي تشرف على الحجون، وكان في العمرة يدخل من أسفلها، وفي الحج دخل من أعلاها وخرج من أسفلها ثم سار حتى دخل المسجد وذلك ضحى انتهى. قلت: وهل يسن الدخول من الثنية العليا لكل داخل سواء كانت تلقاء طريقه أم لم تكن في طريقه؟ لم أر من تعرض لهذا البحث من أصحابنا، وقد ذهب أبو بكر الصيدلاني وجماعة من الشافعية واعتمده الرافعي إلى أنه إنما يستحب الدخول منها لمن كانت في طريقه، وأما من لم تكن في طريقه، فقالوا لا يستحب له العدول إليها، وذهب النووي إلى أن الدخول منها نسك مستحب لكل أحد وصوبه وصححه، وهو ما مشي عليه في المجموع وزوائد الروضة، واعتمده المتأخرون منهم، وظاهر كلام الحنابلة يقتضي سنية ذلك لإطلاقهم سنية الدخول من أعلاها من ثنية كداء، ولكن ينبغي تقييد هذا الإطلاق بما إذا كانت ثنية كداء إزاء طريقه، أما إذا لم تكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 في طريقه فلا يستحب له العدول إليها، كما قاله أبو بكر الصيدلاني واعتمده الرافعي، قال الشيخ خليل المالكي: يدخل المدني من كداء، قال في المدونة: أحب للحاج أن يدخل مكة من كداء لمن أتى من طريق المدينة انتهى من المواق على خليل، وقال ابن حجر في الفتح، ثنية كداء بفتح الكاف والمد، وهذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلى مقبرة أهل مكة وهي التي يقال لها الحجون بفتح المهملة وضم الجيم، وكانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأزرقي ثم سهل في عصرنا هذا منها سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة، وكل عقبة في جبل أو طريق عال تسمى ثنية انتهى. قلت: ثم سهلت في زمن الشريف الحسين بن علي في حدود الثلاثين وثلثمائة وألف ثم سهلت في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود رحمه الله ثم سهلت تسهيلاً كاملاً بعده. وسن خروج من مكة من أسفلها من ثنية كدي بضم الكاف والتنوين دون ذي طوى من جهة مكة بقرب شعب الشافعيين، ويقال لها باب شبيكة لقول ابن عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل من الثنية العليا التي بالبطحاء ويخرج من الثنية السفلى) متفق عليه. قال الخلوتي: ثنية كدي التي يخرج منها كهدي لا كرضى ولا كفتي خلافاً للغالطين في ذلك انتهى. قلتك ثنية كدي تعرف الآن بريع الرسام دون مقبرة الشيخ محمود إلى مكة، وقد سهلت وهي الآن في الشارع العام الموصل إلى جرول والله أعلم، وأما كدي مصغراً لهو لمن خرج من مكة إلى اليمن وليس من هذين الطريقين في شيء قال في فتح الباري: ثنية كدي عند باب شبيكة بقرب شعب الشافعيين من ناحية قعيقعان، وكان بناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 هذا الباب عليها في القرن السابع انتهى. قلت: لا وجود الآن لهذا الباب وقد أزيل لاتساع البلد، وقال الأزرقي ثنية كدي التي يهبط منها إلى ذي طوى وهي التي دخل منها قيس بن سعد بن عبادة يوم الفتح وخرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعليها بيوت يوسف بن يعقوب الشافعي ودار آل طرفة الهذليين يقال لها دار الأراكة فيها أراكة خارجة من الدار على الطريق وهي الدار التي يقول فيها حسان بن ثابت الأنصاري: عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء. انتهى كلام الأزرقي، قلت فيما قاله الأزرقي نظر ظاهر فكلامه غير محرر لأن ثنية كدي بضم الكاف هي الثنية التي تسمى ثنية الشافعيين، وتعرف الآن بريع الرسام كما تقدم وهي التي خرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما التي أشار إليها حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدته المشهورة وجعلها موعد خيل المسلمين في قوله: عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء. ودخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقال صلى الله عليه وسلم: (ادخلوها من حيث قال حسان) فهي ثنية كداء بفتح الكاف والدال مع المد وهي التي تسمى بالحجون بأعلى مكة وبها باب المعلاة مقبرة أهل مكة والله أعلم. وفي القاموس وكدا كسما اسم عرفات وجبل بأعلا مكة ودخل النبي صلى الله عليه وسلم منه وكسمي بأسفلها وخرج منه، وجبل آخر بقرب عرفة، وكقرى: جبل مسفلة مكة على طريق اليمن، وكدي منقوصة كفتي ثنية بالطائف، وغلط المتأخرون في هذا التفصيل واختلفوا على أكثر من ثلاثين قولاً انتهى قلت: وفيما قاله صاحب القاموس نظر فإن الذي خرج منه صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 هي ثنية كدى بضم الكاف كهدي وقرى لا ثنية كدي كسمي بالتصغير لأن هذه لمن خرج من مكة إلى اليمن. وأما قوله وكقرى جبل مسفلة مكة على طريق اليمن فليس الأمر كذلك بل هذه لمن خرج من مكة إلى المدينة ونحوها. والحاصل أن ثنية كدى بضم الكاف على وزن هدى وقرى هي التي خرج منها صلى الله عليه وسلم للمدينة، وثنية كدى مصغرة على وزن سمي هي لمن خرج من مكة إلى اليمن، وقد عكس ذلك صاحب القاموس، يدل لذلك ما في المصباح حيث قال: الكدية الأرض الصلبة، والجمع كدى مثل مدية ومدى، وبالجمع سمي موضع بأسفل مكة بقرب شعب الشافعيين، وقيل فيه ثنية كدي فأضيف إليه للتخصيص ويكتب بالياء ويجوز بالألف إلى أن قال: وكداء بالفتح والمد: الثنية العليا بأعلى مكة عند المقبرة ولا ينصرف للعلمية والتأنيث، وتسمى تلك الناحية المعلى، وبالقرب من الثنية السفلى موضع يقال له كدي مصغر، وهو على طريق الخارج من مكة إلى اليمن، قال الشاعر: أقفرت بعد عبد شمس كداء ... فكدي فالركن والبطحاء. انتهى. (فائدة) : وأهل مكة يقولون: ادخل وافتح، واخرج وضم، وهذا ضابط طريف. (تنبيه) : ينبغي لمن أراد الدخول إلى مكة أو إلى المسجد الحرام أو إلى المواضع التي فيها زحام أن يتحفظ من إيذاء الناس في الزحمة ويتلطف بمن يزاحمه ويلحظ بقلبه فضيلة البقعة التي هو فيها والتي هو متوجه إليها ويمهد عذر من زاحمه ويصفح عنه لأنه في الغالب مزحوم، وما نزعت الرحمة إلا من قلب شقي. قال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 يرحمكم من في السماء) فلقد كان بعض من لا شفقة ولا رحمة لديه بالمسلمين يهجم على الضعفاء من النساء والرجال بقوته في الطواف والسعي ورمي الجمار ونحوها حتى يسقطوا بالأرض ويدسوا بالأرجل فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وفي تاريخ مكة للفاسي في الجزء الثاني ص 232 قال: وفي سنة خمسائة وأحدى وثمانين ازدحم الحجاج في الكعبة، فمات منهم أربعة وثلاثون نفراً، وقال أيضاً في ص235 وفي سنة تسع عشرة وستمائة مات بالمسعى جماعة من الزحام لكثرة الخلق الذي حجوا في هذه السنة. وقال أيضا في صفحة 240 من الجزء الثاني وجدت بخط الميورقي أنه في يوم الخميس رابع عشر ذي الحجة سنة سبع وسبعين وستمائة ازدحم الحجاج في خروجهم إلى العمرة في باب المسجد الحرام المعروف بباب العمرة فمات بالزحمة جمع كثير يبلغون ثمانين نفراً وقال عددت خمسة وأربعين ميتاً انتهى باختصار، ووجدت هذه الحادثة بخط غيره، وذكر أنها في ثالث عشر ذي الحجة وأنها اتفقت حين خروج الحجاج إلى العمرة من باب العمرة من المسجد الحرام انتهى. ويسن أن يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة، والدخول منه يسن لكل قادم منم أي جهة كان بخلاف الدخول من الثنية العليا فإنه يسن منها إذا كانت في طريقه كمثل أهل المدينة، وأما من لم تكن في طريقه كأهل نجد واليمن فلا يستحب لهم العدول إليها كما تقدم، والفارق بينهما أن الدوران حول المسجد الحرام لا يشق بخلافه حول البلد والله أعلم، والدليل لذلك حديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ارتفاع الضحى وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ثم دخل) . رواه مسلم وغيره. قال منصور في شرح الإقناع: وبإزاء باب بني شيبة الباب المعروف بباب السلام لكن قال في حاشيته على المنتهى باب بني شيبة هو المعروف الآن بباب السلام فحصل من التناقض بين كلامه في شرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الإقناع وحاشية المنتهى، والمعروف أن باب بني شيبة هو باب السلام وكان باب بني شيبة يعرف أولاً بباب عبد شمس وعبد مناف، وهو الآن ثلاثة أبواب وأما العقد الذي خلف المقام فالظاهر أنه ليس باب بني شيبة كما يزعمه المطوفون الآن، وربما وافقهم بعض أهل العلم من أهل مكة وغيرهم على ذلك. ولعل الحامل لهم على ذلك أن المسجد الحرام لم يبلغ في زمنه صلى الله عليه وسلم ما بلغه الآن من السعة، ولا شك أن باباه ملتصق به، وبين باب السلام الذي هو أحد أبواب المسجد الحرام الآن والمسجد الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم مسافة طويلة لأن الذي في زمنه صلى الله عليه وسلم هو مقدار المطاف المبلط في هذا الزمن، وهذه نظرة وجيهة، والله أعلم أي ذلك كان. أما العقد الذي خلف المقام فالظاهر أنه ليس باب بني شيبة لأن العقد المذكور داخل في المسجد القديم وقد انتهى الكلام فيه لأنه قد أزيل للتوسعة على الطائفين ولله الحمد. ويقول عند دخول المسجد الحرام: بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله اللهم افتح لي أبواب رحمتك، ويقدم رجله اليمنى في الدخول، وإن شاء قال: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، بسم الله والحمد لله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قدَّم رجله اليسرى وقال هذا الدعاء إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك، وهذا الدعاء والذكر مستحب في كل مسجد، وقد وردت فيه أحاديث في الصحيح وغيره يحصل من مجموعها ما ذكرناه، وقد خص الرحمة بالدخول والفضل بالخروج، لأن العرف الشرعي استعمال الرحمة المقابلة للفضل في المنح الإلهية المفاضة على المتعبدين المخلصين المتبعين، والمساجد بنيت لذلك فناسب ذكر الرحمة عند دخولها، وأيضاً فالمصلي تواجهه الرحمة كما ورد فناسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 سؤالها لمريد الدخول لمحل الصلاة، وإن لم يقصد الدخول لصلاة، واستعمال الفضل في المنح الإلهية المفاضة على المتسببين في حصول أرزاقهم فناسب ذكر الفضل عند الخروج منها، ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) وقوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) فإذا رأى البيت رفع يديه، نص عليه الإمام أحمد روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال الثوري وابن المبارك والشافعي وإسحاق لأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت، وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء قال في الإقناع وكبر، قال منصور واليهوتي للحديث رواه البيهقي في السنن وحكاه في الفروع بقيل، ولم يذكره، أي التكبير في المنتهى وغيره، وقيل ويهلل انتهى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان عند رؤيته يرفع يديه ويكبر ويقول: اللهم أنت السلام إلى آخره، والحديث مرسل ولكن سمع هذا سعيد بن المسيب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوله انتهى. وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام حَيِّنا ربنا بالسلام. والسلام الأول اسم الله، والثاني من أكرمته بالسلام فقد سلم، والثالث السلامة من الآفات. اللهم زد هذا البيت تعظيماً أي تبجيلاً، وتشريفاً أي رفعة وإعلاء، وتكريماً أي تفضيلاً، ومهابة أي توقيراً، وإجلالاً وبراً بكسر الباء اسم جامع للخير، وزد من عظمه وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابة وبراً، الحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، والحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا، والحمد لله على كل حال، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام، وقد جئتك لذلك اللهم تقبل مني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت، ذكر ذلك الأثرم وإبراهيم الحربي، يرفع بهذا الدعاء صوته إن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 رجلاً لأنه ذكر مشروع فاستحب رفع الصوت به كالتلبية، وما زاد من الدعاء المناسب فحسن كقوله: اللهم إني أسألك في مقامي هذا أن تقبل توبتي وتتجاوز عن خطيئتي وتضع عني وزري، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمناً اللهم إني عبدك والبلد بلدك والحرم حرمك والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك أسألك مسألة المضطر الخائف لعقوبتك الراجي رحمتك الطالب مرضاتك، وهذا الدعاء يقوله إذا عاين البيت، لا عند وصوله للمحل الذي كان يرى منه البيت قبل ارتفاع الأبنية، وهو المسمى أولاً برأس الردم، والآن يسمى بالمدعى، قال شيخ الإسلام: ولم يكن قديماً بمكة بناء يعلو على البيت ولا كان فوق الصفا والمروة والمشعر الحرام بناء، ولا كان بمنى بناء ولا بعرفات مسجد ولا عند الجمرات مسجد بل كل هذه محدثة بعد الخلفاء الراشدين، ومنها ما أحدث بعد الدولة الأموية فكان البيت يرى قبل دخول المسجد وقد ذكر ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت يرى قبل دخول المسجد وقد ذكر ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وبراً وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً فمن رأى البيت قبل دخول المسجد فعل ذلك، وقد استحب ذلك من استحبه عند رؤيته البيت ولو كان بعد دخول المسجد. انتهى. (فائدة) : ينبغي أن يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع فهذه عادة الصالحين وعباد الله المخلصين العارفين لأن رؤية البيت تذكر وتشوق إلى رب البيت، وقد حكي أن امرأة دخلت مكة فجعلت تقول من عظم ولها: أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟ فقيل لها: ألا ترينه؟ فلما لاح قالوا لها: هذا بيت ربك، فأسرعت نحوه وألصقت جبينها بالحجر الأسود فما رفعت إلا ميتة من غلبة الشوق، فلسان حالها ينشد: جئتك لذلك اللهم تقبل مني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت، ذكر ذلك الأثرم وإبراهيم الحربي، يرفع بذا الدعاء صوته إن كان رجلاً لأنه ذكر مشروع فاستحب رفع الصوت به كالتلبية، وما زاد من الدعاء المناسب فحسن كقوله: اللهم إني أسألك في مقامي هذا أن تقبل توبتي وتتجاوز عن خطيئتي وتضع عني وزري، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمناً اللهم إني عبدك والبلد بلدك والحرم حرمك والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك أسألك مسألة المضطر الخائف لعقوبتك الراجي رحمتك الطالب مرضاتك، وهذا الدعاء يقوله إذا عاين البيت، لا عند وصوله للمحل الذي كان يرى منه البيت قبل ارتفاع الأبنية، وهو المسمى أولاً برأس الردم، والآن يسمى بالمدعي، قال شيخ الإسلام: ولم يكن قديماً بمكة بناء يعلو على البيت ولا كان فوق الصفا والمروة والمشعر الحرام بناء، ولا كان بمنى بناء ولا بعرفات مسجد ولا عند الجمرات مسجد بل كل هذه محدثة بعد الخلفاء الراشدين، ومنها ما أحدث بعد الدولة الأموية فكان البيت يرى قبل دخول المسجد وقد ذكر ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وبراً وزد من شرفه وكرمه ممن حجة واعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً فمن رأى البيت قبل دخول المسجد فعل ذلك، وقد استحب ذلك من استحبه عند رؤيته البيت ولو كان بعد دخول المسجد انتهى. (فائدة) : ينبغي أن يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع فهذه عادة الصالحين وعباد الله المخلصين العارفين لأن رؤية البيت تذكر وتشوق إلى رب البيت، وقد حكي أن امرأة دخلت مكة فجعلت تقول من عظم ولهها: أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟ فقيل لها: ألا ترينه؟ فلما لاح قالوا لها: هذا بيت ربك، فأسرعت نحوه وألصقت جبينها بالحجر الأسود فما رفعت إلا ميتة من غلبة الشوق، فلسان حالها ينشد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 هذه دارهم وأنت محب ... ما بقاء الحياة في الأجساد. وعن أبي بكر الشبلي رحمه الله تعالى أنه غشي عليه عند رؤية الكعبة ثم أفاق فأنشد: هذه دارهم وأنت محب ... ما بقاء الدموع في الآماق. (فائدة) : قال النووي: يستحب أن لا يعرج أول دخوله على استئجار منزل أو حط قماش وتغيير ثياب أو غير ذلك، بل يبدأ بالطواف ويقف بعض الرفقة عند متاعهم ورواحلهم حتى يطوفوا ويسعوا ثم يرجعوا إلى رواحلهم ومتاعهم واستئجار المنزل انتهى. قلت: ويدل لذلك ما في القرى، قال عن عروة بن الزبير (أن النبي صلى الله عليه وسلم حج فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم معاوية وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدئان بشيء أول من البيت تطوفان به، أخرجاه انتهى من القرى للطبري. وقد نقل هذا الحديث بلفظ مسلم مع قليل من الاختصار، ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان محرماً بها متمتعاً أو غيره ولم يحتج أن يطوف لها طواف القدوم كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحيته، ويبتدئ بطواف القدوم إن كان مفرداً أو قارناً وهو سنة، ويسمى طواف الورود وهو تحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الكعبة فاستحبت البداءة به ولقول عائشة: (إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة توضأ ثم طاف بالبيت) متفق عليه. وتحية المسجد الحرام الصلاة وتجزئ عنها الركعتان بعد الطواف وهذا لا ينافي أن تحية المسجد الحرام الطواف لأنه مجمل وهذا تفصيله. والحاصل: أن تحية الكعبة مقدماً على تحية المسجد فيكون أول ما يبدأ به الطواف إلا إذا أقيمت الصلاة أو ذكر فريضة فائتة أو خاف فوت ركعتي الفجر أو الوتر أو حضرت جنازة فيقدمها على الطواف لاتساع وقته ثم يطوف إذا فرغ من صلاته تلك، والأولى للمرأة تأخير الطواف إلى الليل إذا أمنت الحيض والنفاس، ولا تزاحم الرجال لتستلم الحجر الأسود ولا لغيره خوف المحظور لأنه أستر لها لكن تشير المرأة إلى الحجر كما يشير الرجل الذي لا يمكنه الوصول إليه إلا بمشقة، قال البخاري في صحيحه: باب طواف النساء مع الرجال، وقال لي عمرو بن علي بن بحر الباهلي البصري: حدثنا أبو عاصم هو الضحاك بن مخلد النبيل البصري. قال ابن جريج: أخبرنا عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال عطاء: كيف تمنعهن؟ وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال، أي في وقت واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وقد ذكر القسطلاني في شرح هذا الأثر: أن ثبيراً المذكور: جبل بالمزدلفة على يسار الذاهب منها إلى منى وعلى يمين الذاهب من منى إلى عرفات، وهذا وهم وخطأ واضح فإن ثبيرا جبل المزدلفة هو الذي كان أهل الجاهلية لا يدفعون منها حتى تشرق عليه الشمس ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير، ويبعد كل البعد أن تجاور أم المؤمنين عند جبل المزدلفة، والصواب أن ثبيرا الذي جاورت عنده أم المؤمنين هو ثبير الذي أشار إليه امرؤ القيس في معلقته حيث قال: كأن ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل. ويسمى الآن عند العامة بجبل الرخم، ويقابله جبل حراء المسمى الآن جبل النور، وقوله في جوف ثبير يعني أنها مقيمة في أسفله في الأرض الواسعة هناك المسماة بالعدل، وكثير من الحجاج النجديين ينزلون فيه، وبمكة خمسة جبال أخر يسمى كل واحد منها ثبيراً كما ذكره الأزرقي وياقوت والبكري، واستحب الإمام مالك للرمأة الجميلة إذا قدمت نهاراً أن تؤخر الطواف إلى الليل، قال النووي الشافعي ولو قدمت امرأة جميلة أو شريفة لا تبرز للرجال استحب لها أن تؤخر الطواف ودخول المسجد إلى الليل انتهى. قال السندي الحنفي: وإن كانت امرأة لا تبرز للرجال يستحب لها أن تؤخر الطواف إلى الليل لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 أتسر لها انتهى، قال الأزرقي ورأى عطاء بن أبي رباح امرأة تريد أن تستلم الركن فصاح بها وزجرها: غطي يديك لا حق للنساء في استلام الركن. انتهى. (فائدة) : قال الأزرقي في تاريخ مكة: باب ما جاء في النوم في المسجد الحرام وساق بسنده إلى عمرو بن دينار قال: كنا ننام في المسجد الحرام زمان ابن الزبير، وبسنده إلى ابن جريج قال: قلت لعطاء أتكره النوم في المسجد الحرام؟ قال لا بل أحبه. انتهى. (فائدة) : أو من أدار الصفوف حول الكعبة خالد بن عبد الله القسري نقله الأزرقي بسنده إلى سفيان بن عيينة، ونقل بعضهم عن الزركشي الشافعي أن أول من فعله عبد الله بن الزبير، ويمكن الجمع بين الكلامين بأن عبد الله بن الزبير فعله أولاً ثم تبعه على ذلك خالد بعد قتل ابن الزبير والله أعلم. ويضطبع بردائه في طواف القدوم وفي طواف العمر للمتمتع ومن في معناه غير حامل معذور وغير محرم من مكة أو قربها في جميع أٍبوعه. والاضطباع: أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، وهو معنى من عبر بقوله: تحت إبطه الأيمن، ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر، وهو معنى من عبر بقوله ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر فيكون المنكب الأيمن مكشوفاً على هيئة أرباب الشجاعة إظهاراً للجلادة في ميدان العبادة، مأخوذ من الضبع وهو عضد الإنسان افتعال منه، وكان أصله اضتبع فقلبوا التاء طاء لأن التاء متى وضعت بعد ضاد أو صاد أو طاء ساكنة قلبت طاء، ودليل الاضطباع ما روى أبو داود وابن ماجة عن يعلى بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً، وروي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 والاضطباع محله إذا أراد الشروع في الطواف، وليس كما يتوهمه بعض الناس من أن الاضطباع سنة في جميع أحوال الإحرام، وإنما الاضطباع سنة مع دخوله في الطواف أو قبيل الشروع في الطواف، قال في المنتهى وشرحه: ويضطبع استحباباً غير حامل معذور بحمله بردائه انتهى، فقوله بحمله متعلق بمعذور، وقوله بردائه متعلق بيضطبع، وقال عبد الوهاب بن فيروز على قوله في شرح الزاد: إن لم يكن حامل معذور بردائه، قوله إن لم يكن حامل معذور بالإضافة أي بأن حمل في ردائه معذوراً انتهى. قلت: فيما جنح إليه ابن فيروز نظر، قال الشيخ عثمان النجدي: قوله غير حامل معذور وهو بالإضافة أي غير حامل شخصاً معذوراً كمريض وصغير فلا يستحب في حق الحامل الطائف به اضطباع ولا رمل كما سيأتي، هكذا ينبغي أن يفهم، ويدل هل قول العلامة ابن قندس عند قول الفروع أو حامل معذور أي المعذور إذا حمله آخر ليطوف به لا يرمل الحامل انتهى. فالأظهر ما قاله الشيخ عثمان من أن حامل المعذور لا يستحب له الاضطباع مطلقاً سواء حمل المعذور في ردائه أو لم يحمله فيه، ويؤيد هذا قوله في الإقناع وشرحه ويطوف سبعاً يرمل في الثلاثة الأول منها ماش غير راكب وغير حامل معذور وغير نساء وغير محرم من مكة أو من قربها فلا يسن هو، أي الرمل ولا الاضطباع، لهم لعدم وجود المعنى الذي لأجله شرع الرمل، ومن لا يشرع له الرمل لا يشرع له الاضطباع انتهى ملخصاً، ومنه يتضح عدم وجاهة ما ذهب إليه عبد الوهاب بن فيروز في حاشيته على شرح الزاد والله أعلم، فإذا فرغ المضطبع من الطواف سوى رداءه فجعله على عاتقه، ولا يضطبع في السعي لعدم وروده. قال الإمام أحمد: ما سمعنا فيه شيئاً ويبتدئ الطواف من الحجر الأسود لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبتدئ به وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 (خذوا عني مناسككم) وهو جهة المشرق فيحاذي الحجر ظائف بكل بدنه ويستقبله بوجهه أو يحاذي بعضه بجميع بدنه لأن ما لزم استقباله لزم بجميع البدن كالقبلة، فإن لم يحاذ الحجر أو بعضه بكل بدنه بأن ابتدأ بالطواف عن جانب الركن من جهة الباب بحيث خرج شيء من بدنه عن محاذاة الحجر، أو بدأ بالطواف من دون الركن الذي به الحجر كالباب والملتزم لم يحتسب بذلك الشوط لعدم محاذاة بدنه للحجر ويحتسب له بالثاني وما بعده ويصير الثاني أوله لأنه قد حاذى فيه الحجر بجميع بدنه وأتى على جميعه، فإذا أكمل سبعة أشواط غير الأول صح طوافه وإلا لم يصح، قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه: فيحاذيه بجميع بدنه، وإن قصده من ورائه كان أمكن لتحقق المحاذاة بكل بدنه حالة المرور ويزول الإشكال ذكره بعض الحنابلة الشاميين المتأخرين، أو يحاذي بعضه بكل بدنه انتهى، ويأتي في كلام شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله أنه لا يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني، قال الشيخ عثمان بن قائد قال الفتوحي والد صاحب المنتهى فيما رأيته بخطه على هامش المحرر: وذلك بأن يقف مقابل الحجر حتى يكون مبصراً لضلعي البيت اللذين عن أيمن الحجر وأيسره، وهذا احتراز من أن يقف في ضلع الباب ويستلمه منه فلا يكون محاذياً له ببدنه فمتى رأى الضلع الآخر فقد حاذاه بكل بدنه انتهى، واختار شيخ الإسلام رحمه الله أنه يجزئه المحاذاة لكله أو بعضه ببعض بدنه، واختاره جماعة من الأصحاب وصححه ابن رزين في شرحه وأطلقهما في المغني والشرح والمحرر، والنفس تطمئن إلى هذا القول وإن كان الذهب ما قدمناه من أنه لا بد من محاذاته أو بعضه بكل البدن والله أعلم، ثم يستلم الحجر، أي يمسحه بيده اليمنى، فإن تعذر لنحو أقطع اليمنى أو أشلها فباليسرى، ودليل الاستلام حديث جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قدم مكة أتى الحجر فاستلمه) رواه مسلم، والاستلام: افتعال من السلام وهو التحية، وأهل اليمن يسمون الحجر الأسود المحيا لأن الناس يحيونه باستلامه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نزل من الجنة أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم) رواه الترمذي وقال حسن صحيح. قال السيوطي: ومن الحكمة في سواد الحجر الأسود بعد بياضه تنبيه الأمة على أن المعصية إذا أثرت في الحجر بمجرد التقبيل له فتأثيرها في القلب الذي هو أرق منه أولى انتهى، ويقبِّل الحجر من غير صوت يظهر للقبلة لحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر ووضع شفتيه عليه يبكي طويلاً ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكى فقال: يا عمر هاهنا تسكب العبرات) . رواه ابن ماجة وفي الصحيحين (أن أسلم قال رأيت عمر بن الخطاب قبَّل الحجر وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبلتك) وإنما قال عمر رضي الله عنه ذلك لئلا يغتر بهذا التقبيل بعض من ألف في الجاهلية عبادة الأحجار تعظيماً ورجاء بقصد طلب شفاعتها له عند الله، فأخبر رضي الله عنه أن الحجر الأسود لا يضر ولا ينفع وأنه إنما قبله اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأشاع عمر هذا في الموسم ليحفظه عنه أهل الموسم المختلفو الأوطان والله أعلن، ونص أحمد في رواية الأثرم: ويسجد عليه فعله ابن عمر وابن عباس، فإن شق استلامه وتقبيله لم يزاحم واستلمه بيده وقبَّل يده لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم استمله وقبل يده) رواه مسلم، وروي عن ابن عمر وجابر وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس، فإن شق استلامه بيده استلمه بشيء وقبل ما استلمه به، روي عن ابن عباس موقوفاً، فإن شق عليه استلامه بشيء أشار إليه بيده أو بشيء واستقبله بوجهه لحديث البخاري عن ابن عباس قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 (طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبر) . قلت: والذي أشار به صلى الله عليه وسلم محجن بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم بعدها نون: عصا محنية الرأس، ولا يقبِّل المشار به من يده أو شيء من غير مس الحجر به لعدم وروده، ولا يزاحم لاستلام الحجر أو تقبيله فيؤذي أحداً من الطائفين، وفي البخاري سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر؟ فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله، قال قلت: أرأيت إن زحمت أرأيت إن غلبت؟ قال اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله، وذكر شراح هذا الأثر أن السائل لابن عمر هو الزبير ابن عربي راويه، وظاهر كلام ابن عمر هذا أنه لا يرى الزحام عذراً في ترك الاستلام، وروى سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمي، وفي تاريخ مكة للأزرقي: أن ابن عمر كان لا يدع الركن الأسود واليماني في كل طواف طافه بهما حتى يستلمهما، لقد زاحم على الركن مرة في شدة الزحام حتى رعف فخرج فغسل عنه ثم رجع فعاد يزاحم فلم يصل إليه حتى رعف الثانية فخرج فغسل عنه ثم رجع فما تركه حتى استلمه، وبسنده أن عبد الله بن عمر كان لا يترك استلام الركنين في زحام ولا غيره حتى زاحم عنه يوم النحر وأصابه دم فقال قد أخطأنا هذه المرة، وبسنده إلى ابن عيينة عن إبراهيم بن أبي مرة قال: كنت أزاحم أنا وسالم بن عبد الله بن عمر على الركن حتى نستلمه، وبسنده إلى هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن عوف (كيف صنعت يا أبا محمد في استلام الحجر؟ وكان قد استأذنه في العمرة فقال كلاً قد فعلت استلمت وتركت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أصبت) وبسنده إلى هشام بن عروة: أن عمر بن الخطاب كان يستلم إذا وجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فجوة فإذا اشتد الزحام كبَّر كلما حاذاه، وبسنده إلى عطاء أنه سمع ابن عباس يقول إذا وجدت على الركن زحاماً فلا تؤذ ولا تؤذى، وكان طاوس قل ما استلم الركنين إذا رأى عليهما زحاماً انتهى ملخصاً، وكلام الحنابلة صريح في أن المزاحمة التي تؤذي الغير أقل أحوالها الكراهة، وعن عبد الرحمن بن الحارث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه (يا أبا حفص إنك رجل قوي فلا تزاحم على الركن فإنك تؤذي الضعيف ولكن إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فكبِّر وامض) رواه الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو مرسل جيد، فظهر مما تقدم أن المزاحمة على الحجر بحيث يحصل منها إذاء لنحو ضعيف منهي عنها للآثار المتقدمة، وأما فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فليس بحجة لا سيما وقد خالفه والده عمر رضي الله عنه وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وغيرهم من الصحابة والله أعلم، ويقول عند استلام الحجر أو استقباله بوجهه إذا شق استلامه لنحو زحام: بسم الله والله أكبر اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة محمد نبيك صلى الله عليه وسلم، ويقول ذلك كلما استلمه لحديث عبد الله بن السائب (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك عند استلامه) وزاد جماعة: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وقوله: اللهم إيماناً بك مفعول له أي فعلت ذلك إيماناً بك أي لأجل إيماني أنك حق فعلت ذلك، كذا في المطلع لابن أبي الفتح الحنبلي، وقوله: ووفاءً بعهدك، قال المحقق عثمان بن قائد لعله قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) . الآية، وفي المطلع ما نصه: روي عن علي رضي الله عنه قال: لما أخذ الله عز وجل الميثاق على الذرية كتب كتاباً فألقمه الحجر فهو يشهد للمؤمن بالوفاء وعلى الكافر بالجحود وذكره الحافظ أبو الفرج بن الجوزي انتهى. وعن ابن عباس قال: قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي هذا الحجر يوم القيام له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق) . رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم، فإن لم يكن الحجر موجوداً والعياذ بالله بأن ذهب به كما ذهبت به القرامطة حين ظهروا على مكة وقف مقابلاً لمكانه كما ذكروه في استقبال الكعبة إذا هدمت، واستلم الركن وقبَّله، فإن شق استلمه وقبَّل يده لحديث (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) . (تنبيه) : تاريخ أخذ القرامطة للحجر الأسود سنة سبع وعشرين وثلاثمائة ولما أخذوه حملوه على نحو أربعين بعيراً فما حملوه على بعير إلا أهلكه الله، ومكث الحجر عندهم بضع عشرة سنة فأصابهم بلاء عظيم وأصاب رئيسهم الجذام، فراودوه على ترجيعه فامتنع عناداً إلى أن مات وتولى أخوه فتطير من الحجر فبدأ برده إلى موضعه وحمله على قعود هزيل فسمن، ولما جاء رسول القرامطة بالحجر إلى مكة عظم فرح أهلها مع جميع المسلمين وكثر شكرهم لله تعالى على ذلك، فال الرسول عند رؤية ذلك: وهل أمنتم أن نكون أتلفنا الحجر الأسود وجئناكم بشبهه من بعض الأودية؟ فقال بعض العلماء: إن الحجر الأسود له خاصية بأنه لا يغطس في الماء إذا ألقى فيه ولا تعدوا عليه النار فقال الرسول: لا أبرح حتى أختبر، فدعا بإناء كبير ووضع فيه ماء ورمى فيه الحجر فطفا على وجه الماء ثم أوقد النار عليه ثلاثة أيام فلم تعد عليه فعجب من ذلك وقال هذا دين مفخم، هكذا نقله بعض العلماء من المؤرخين وغيرهم والله على كل شيء قدير، قال الخرقي ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه إن استطاع وقبِّله انتهى. فقوله إن كان لأنه ألّف مختصره والحجر الأسود عند القرامطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ثم يأخذ الطائف على يمينه مما يلي باب البيت لحديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً) . رواه مسلم، ويجعل البيت على يساره لفعله صلى الله عليه وسلم وقد قال: (خذوا عني مناسككم) ليقرب جانبه الأيسر الذي هو مقر القلب إلى البيت وقال شيخ الإسلام رحمه الله: لكون الحركة الدورية تعتمد فيها اليمنى على اليسرى، فلما كان الإكرام في ذلك للخارج جعل لليمنى انتهى. قلت يكفينا في ذلك سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لما طاف جعل البيت على يساره فوجب علينا اتباعه سواء عرفنا الحكمة في ذلك أم لا والله الموفق، قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى: ولما دخل صلى الله عليه وسلم في حجته المسجد عمد إلى البيت ولم يركع تحية المسجد فإن تحية المسجد الحرام الطواف فلما حاذى الحجر الأسود استلمه ولم يزاحم عليه ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني ولم يرفع يديه ولم يقل نويت بطوافي هذا الأسبوع كذا وكذا ولا افتتحه بالتكبير كما يكبر للصلاة كما يفعله من لا علم عنده بل هو من البدع المنكرات، ولا حاذى الحجر الأسود بجميع بدنه ثم انفتل عنه وجعله على شقه بل استقبله واستلمه ثم أخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره ولم يدع عند الباب بدعاء ولا تحت الميزاب ولا عند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقت للطواف ذكراً معينا، لا بفعله ولا بتعليمه بل حفظ عنه بين الركنين (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) ورمل في طوافه هذا ثلاثة الأشواط الأول، وكان يسرع مشيه ويقارب بين خطاه واضطبع بردائه فجعله على أحد كتفيه وأبدى كتفه الآخر ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه واستلمه بمحجنة وقبل المحجن، والمحجن: عصا محنية الرأس، وثبت عنه أنه استلم الركن اليماني ولم يثبت عنه أنه قبله ولا قبَّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 يده عند استلامه، وقد روى الدارقطني عن ابن عباس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه) وفيه عبد الله بن مسلم بن هرمز قال الإمام أحمد: صالح الحديث وضعفه غيره، ولكن المراد بالركن اليماني هاهنا الحجر الأسود فإنه يسمى الركن اليماني مع الركن الآخر ويقال لهما اليمانيان، ويقال له مع الركن الذي يلي الحجر من ناحية الباب العراقيان، ويقال للركنين اللذين يليان الحجر الشاميان، ويقال للركن اليماني والذي يلي الحجر من ظهر الكعبة الغربيان، ولكن ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قبَّل الحجر الأسود، وثبت عنه أنه استلمه بيده فوضع يده عليه ثم قبلها، وثبت عنه أنه استلمه بمحجن فهذه ثلاث صفات، وروى عنه أيضاً أنه وضع شفتيه عليه طويلا يبكي، وذكر الطبراني عنه بإسناد جيد أنه كان إذا استلم الركن اليماني قال: بسم الله والله أكبر، وكان كلما أتى على الحجر الأسود قال: الله أكبر. وذكر أبو داود الطيالسي وأبو عاصم النبيل عن جعفر بن عبد الله بن عثمان قال: (رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبَّل الحجر وسجد عليه، ثم قال رأيت ابن عباس يقبله ويسجد عليه، وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه، ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلت) . وروى البيهقي عن ابن عباس (أنه قبل الركن اليماني ثم سجد عليه ثم قبله ثم سجد عليه ثم قبله ثم سجد عليه ثلاث مرات) . قلت والمراد بالركن اليماني هنا الحجر الأسود كما يأتي في كلام ابن القيم رحمه الله وكما تقدم عنه، قال ابن القيم وذكر البيهقي أيضاً عن ابن عباس قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر ولم يستلم صلى الله عليه وسلم ولم يمس من الأركان إلا اليمانيين فقط) . قال الشافعي رحمه الله ولم يدع أحد استلامهما هجرة لبيت الله ولكن استلم ما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وأمسك ما أمسك عنه انتهى كلام ابن القيم رحمه الله، وقال أيضاً عند سياقه: الأوهام التي توهمها بعض الناس في حجته صلى الله عليه وسلم ومنها وهم من زعم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الركن اليماني في طوافه وإنما ذلك الحجر الأسود وسماه اليماني لأنه يطلق عليه وعلى الآخر اسم اليمانيين فعبر بعض الرواة عنه باليماني منفرداً انتهى. قلت: وقد ذكر بعض العلماء أنه إنما قيل للحجر الأسود والركن اليماني اليمانيان للتغليب كما قيل في الأب والأم الأبوان، وفي الشمس والقمر القمران، وفي أبي بكر وعمر: العمران، وفي الماء والتمر الأسودان ونظائره كثيرة والله أعلم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وإذا دخل المسجد بدأ بالطواف فيبتدئ من الحجر الأسود يستقبله استقبالا يستلمه ويقبله إن أمكن ولا يؤذي أحداً بالمزاحمة عليه، فإن لم يمكن استمله وقبل يده وإلا أشار إليه ثم ينفتل للطواف ويجعل البيت عن يساره، وليس عليه أن يذهب إلى ما بين الركنين ولا يمشي عرضاً ثم ينفتل للطواف بل ولا يستحب ذلك ويقول إذا استلمه: بسم الله والله أكبر، وإن شاء قال أيضاً: اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويجعل البيت عن يساره فيطوف سبعاً، ولا يخترق الحجر في طوافه لما كان أكثر الحجر من البيت والله أمر بالطواف به لا بالطواف فيه، ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين دون الشاميين فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استلمها بأمر لأنهما على قواعد إبراهيم عليه السلام والآخران هما في داخل البيت. فالركن الأسود يستلم ويقبَّل، واليماني يستلم ولا يقبل، والآخران لا يستلمان ولا يقبلان، والاستلام هو مسحه باليد، وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها ومقابر الأنبياء والصالحين كحجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومغارة إبراهيم ومقام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه وغير ذلك من مقامات الأنبياء والصالحين وصخرة بيت المقدس لا يستلم ولا يقبل باتفاق الأمة، وأما الطواف بذلك فهو من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه ديناً فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل انتهى كلامه رحمه الله، فأول ركن يمر به الطائف يسمى الشامي والعراقي وهو جهة الشام ثم يليه الركن الغربي والشامي وهو جهة المغرب ثم اليماني جهة اليمن، فإذا أتى على الركن اليماني استلمه ولم يقبله ولا يده خلافاً للخرقي حيث قال بتقبيل الركن اليماني، وحديث مجاهد عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني استلمه ووضع خده الأيمن عليه فقال ابن عب البر: هذا لا يصح وإنما يعرف التقبيل في الحجر الأسود وتقدم كلام ابن القيم في أن الركن اليماني يسمى به الحجر الأسود، ولا يستلم ولا يقبل الركنين الأخيرين الشامي والغربي لقول ابن عمر (لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الأركان إلا اليمانيين) . متفق عليه، وقال ابن عبد البر: ما أراه يعني النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر إلا لأن البيت لم يتم من جهتهما على قواعد إبراهيم ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك، وتقدم شيء من ذلك في كلام شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله تعالى، وطاف معاوية فجعل يستلم الأركان كلها فقال ابن عباس لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجوراً، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. فقال معاوية صدقت. ويطوف سبعاً يرمل في الثلاثة الأول منها ماشٍ لما تقدم من حديث جابر وكذلك رواه ابن عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وابن عباس متفق عليهما، وقال ابن عباس (رمل النبي صلى الله عليه وسلم في عُمره كلها وفي حجه وأبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء من بعده) رواه أحمد، وإن كان أصل الرمل لإظهار الجلد للمشركين فبقى الحكم بعد زوال علته، وفي البخاري (أن عمر قال بعد استلامه الحجر الأسود: ما لنا والرمل إنما كنا رأينا المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه) انتهى، وقوله: رأينا بوزن فاعلنا بالهمز من الرؤية أي أريناهم بذلك أنا أقوياء لا نعجز عن مقاومتهم ولا نضعف عن محاربتهم، وجعله ابن مالك من الرياء الذي هو إظهار المرائي خلاف ما هو عليه فقال: معناه أظهرنا لهم القوة ونحن ضعفاء، وقوله وقد أهلكهم الله أي فلا حاجة لنا اليوم إلى ذلك فهمَّ رضي الله عنه بترك الرمل لفقد سببه، ثم قال رضي الله عنه بعد أن رجع عما همّ به: هو شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه: أي لعدم اطلاعنا على حكمته وقصور عقولنا عن إدراك حقيقته، وقد يكون فعله سبباً باعثاً على تذكر نعمة الله تعالى على إعزازه الإسلام وأهله والله أعلم. قال الموفق في المغني: فإن قيل إنما رمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لإظهار الجلد للمشركين ولم يبق ذلك المعنى إذ قد نفى الله المشركين فلم قلتم إن الحكم يبقى بعد زوال علته؟ قلنا: قد رمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح فثبت أنه سنة ثابتة انتهى. ولا يسن رمل ولا اضطباع لراكب وحامل معذور ونساء ومحرم من مكة أو من قربها لعدم وجود المعنى الذي لأجله شرع الرمل، وهو إظهار الجلد والقوة لأهل البلد، ومن لا يشرع له الرمل لا يشرع له الاضطباع. قال في الشرح الكبير: قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت ولا بين الصفا والمروة إلى أن قال وليس على أهل مكة رمل وهذا قول ابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وابن عمر رضي الله عنهم، وكان ابن عمر إذا أحرم من مكة لم يرمل لأن الرمل إنما شرع في الأصل لإظهار الجلد والقوة لأهل البلد، وهذا المعنى معدوم في أهل البلد، والحكم فيمن أحرم من مكة حكم أهل مكة لما ذكرنا عن ابن عمر ولأنه أحرم من مكة أشبه أهل البلد وليس عليهم اضطباع لأن من لا يشرع له الرمل لا يشرع له الاضطباع كالنساء والمتمع إذا أحرم بالحج من مكة ثم عاد وقلنا يشرع له طواف القدوم لا يرمل فيه. قلت: الصحيح أنه لا يشرع له طواف القدوم والله أعلم، قال أحمد رحمه الله: ليس على أهل مكة رمل عند البيت ولا بين الصفا والمروة انتهى كلام صاحب الشرح ومثله في المغني. ولا يسن رمل ولا اضطباع في غير طواف القدوم للمفرد والقارن، وطواف العمر للأفاقي سواء كان متمتعاً بأن كانت العمرة في أشهر الحج أولا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما اضطبعوا ورملوا في طواف القدوم والعمرة فقط، ولا يقضي الطائف الاضطباع والرمل ولا يقضي بعضه إذا فاته في طواف غيره خلافاً للقاضي أبي يعلى. قال في مختار الصحاح: الرمل بفتحتين الهرولة، ورمل بين الصفا والمروة يرمل بالضم رملا ورملانا بفتح الراء والميم فيهما انتهى. قال الزركشي: وفسره الأصحاب بإسراع المشي مع تقارب الخطا من غير وثب، والرمل أولى من الدنو من البيت بدون رمل لعدم تمكنه منه مع القرب للزحام لأن المحافظة على فضيلة تتعلق بنفس العبادة أولى من المحافظة على فضيلة تتعلق بمكانها أو زمانها، وإن كان لا يتمكن من الرمل أيضاً مع البعد عن البيت لقوة الزحام أو كان إذا تأخر في حاشية الطائفين للرمل يختلط بالنساء فالدنو من البيت مع ترك الرمل أولى من البعد لخلوه عن المعارض، ويطوف مع الزحام كيفما أمكنه بحيث لا يؤذي أحداً فإذا وجد فرجة رمل فيها ما دام في الثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 الأول لبقاء محله، ولا يسن رمل في غير الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم أو طواف العمرة، فإن ترك الرمل فيها لم يقضه في الأربعة الباقية لأنها هيئة فات موضعها فسقطت كالجهر في الركعتين الأوليين ولأن المشي هيئة في الأربعة كما أن الرمل هيئة في الثلاثة، فإذا رمل في الأربعة الأخيرة كان تاركاً للهيئة في جميع طوافه كتارك الجهر في الركعتين الأوليين من العشاء إذا جهر في الأخيرتين. وذكر القاضي أبو يعلى أن من ترك الرمل والاضطباع في طواف القدوم أتى بهما في طواف الزيارة لأنها سنة أمكن قضاؤها فتقضي كسنن وهذا لا يصح كما ذكرنا فيمن تركه في الثلاثة الأول لا يقضيه في الأربعة وكذلك من ترك الجهر في صلاة الجهر لا يقضيه في الأربعة وكذلك من ترك الجهر في صلاة الجهر لا يقضيه في صلاة السر، ولا يقتضي القياس أن تقتضي هيئة عبادة في عبادة أخرى؛ وتأخير الطواف حتى يزول الزحام لأجل الرمل والدنو من البيت أو لأحدهما أولى من تقديمه مع فواتهما أو فوات أحدهما ليأتي بالطواف على الوجه الأكمل، ويمشي في الأربعة الأشواط الباقية من الطواف بلا رمل للأخبار المتفق عليها التي تقدمت الإشارة إليها ويكون الرمل من الحجر إلى الحجر، وإن ترك الرمل في شيء من الثلاثة أتى به فيما بقى منها لأن تركه للهيئة في بعض محلها لا يسقطها في بقية محلها كتارك الجهر في إحدى الركعتين الأوليين من صلاة جهرية لا يسقطه في الثانية، وكلما حاذى الحجر الأسود والركن اليماني استلمهما استحبابا لما روى ابن عمر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في طوافه) قال نافع: وكان ابن عمر يفعله، رواه أبو داود ولكن لا يقبِّل إلا الحجر الأسود وإن شق استلامهما للزحام أشار إليهما، ويقول كلما حاذى الحجر الأسود: الله أكبر فقط من غير تهليل لحديث البخاري عن ابن عباس قال: (طاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كملا أتى الركن أشار بيده وكبر) هذا الصحيح من المذهب. وقال في الشرح الكبير: وكلما حاذى الحجر الأسود والركن اليماني استلمهما أو أشار إليهما ويقول كلما حاذى الحجر: لا إله إلا الله والله أكبر إلى أن قال ويكبر كلما حاذى الحجر الأسود لما رويناه ويقول: لا إله إلا الله والله أكبر. قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمى الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل) . رواه الأثرم وابن المنذر انتهى. قال في المنتهى وشرحه وكلما حاذى طائف الحجر الأسود والركن اليماني استلمهما ندبا، قال الشيخ عبد الله أبو بطين: ظاهره من غير تقبيل وهو المذهب انتهى، قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه بعد كلام سبق: فظاهر هذا أن تقبيل الحجر الأسود والسجود عليه مسنون في ابتداء كل أسبوع لا في كل طوفه، وإنما المسنون في كل طوفة استلامه هو واليماني باليد، فإن شق استلمه بشيء انتهى، وقال النووي: ويستحب استلام الحجر الأسود وتقبيله واستلام اليماني عند محاذاتهما في كل طوفة، وهو في الأوتار آكد لأنها أفضل انتهى، وتقدم في كلام ابن القيم أنه صلى الله عليه وسلم كلما حاذى الحجر الأسود استلمه بمحجنه وقبَّل المحجن، فظاهره سنية تقبيل الحجر في كل طوفة كلما حاذاه؛ لأنه إذا كان صلى الله عليه وسلم كلما حاذى الحجر استلمه بمحجنه وقبَّل المحجن فإن تقبيل الحجر نفسه كلما حاذاه الطائف من باب أولى والله أعلم. (تنبيه) : وردت الأحاديث والآثار بسنية استلام الحجر الأسود والركن اليماني، وأما الإشارة إليهما من غير استلام فوردت أيضاً في الحجر الأسود دون اليماني، وعبارة الأصحاب صريحة في استحباب الإشارة إليهما كلما حاذاهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 لكن لم أطلع على دليل يقضي باستحباب الإشارة إلى الركن اليماني والله أعلم. وقد ذكر في الشرح الكبير والإقناع وغيرهما أن من سنن الطواف استلام الحجر وتقبيله أو ما يقوم مقامه من الإشارة عند تعذر الاستلام، وأن من سننه استلام الركن اليماني فقط ولم يذكروا الإشارة إليه عند تعذر استلامه، وهذا هو الأسعد بالدليل والله أعلم. وتستحب القراءة في الطواف نص عليه لا الجهر بها فيه، ويكره الجهر بالقراءة فيه إن أغلط المصلين أو الطائفين، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ويستحب له في الطواف أن يذكر الله تعالى ويدعو بما يشرع، وإن قرأ القرآن فلا بأس، وليس فيه ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم طوافه بين الركنين بقوله: (ربنا آتنا في الدنيا حسن وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) كما كان يختم سائر دعائه بذلك، وليس في ذلك ذكر واجب باتفاق الأئمة انتهى، وروى أحمد في المناسك عن عبد الله بن السائب (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن الذي به الحجر الأسود والركن اليماني: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) ورواه أبو داود وقال بين الركنين، وأخرجه أيضاً النسائي وصححه ابن حبان والحاكم، وعن أبي هريرة مرفوعاً قال: (وكل به، ويعني الركن اليماني سبعون ملكا فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين) رواه ابن ماجة، وفي إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال، وفي إسناده أيضاً هشام بن عمار وهو ثقة تغير بأخرةٍ، والحديث قد ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الحافظ بن حجر في التلخيص وقال إسناده ضعيف. (فائدة) قال في المطلع: في حسنة الدنيا سبعة أقوال: أحدها أنها المرأة الصالحة، قاله علي رضي الله عنه، والثاني أنها العبادة وهو مروى عن الحسن رحمه الله، والثالث أنها العلم والعبادة وروى عن الحسن أيضاً، والرابع أنها المال قاله أبو وائل وغيره، والخامس أنها العافية قاله قتادة، والسادس أنها الرزق الواسع قاله مقاتل، والسابع أنها النعمة. وفي حسن الآخرة ثلاثة أقوال: أحدها أنها الحور العين قاله علي رضي الله عنه، والثاني أنها الجنة قاله الحسن وغيره، والثالث أنها العفو والمعافاة انتهى كلام صاحب المطلع. قلت: والأقرب أن المراد كل ذلك، وأعم منه مما ينشأ منه خير دنيوي أو أخروي، هذا في حسنة الدنيا، والمراد بحسنة الآخرة جميع ذلك وأفضل منه النظر إلى وجه الله تعالى وزيارته جل وعلا يوم المزيد، رزقنا الله ذلك ولا حرمنا منه بمنه وكرمه وجوده وإحسانه فإنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. ويكثر في بقية طوافه من الذكر والدعاء، ومنه: اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً أي عملاً متقبلا يزكو لصاحبه ثوابه، ومساعي الرجل أعماله الصالحة واحدها مسعاة، قال الحجاوي في حاشية الإقناع وذنبا مغفوراً، رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم، قال الشيخ عبد الغني اللبدي الحنبلي في منسكه: الظاهر أن محل قوله: واجعله حجاً مبروراً إذا كان الطواف في الحج وكذا في طواف عمرة لأنها تسمى حجاً أصغر، وأما غير ذلك فلا والله أعلم انتهى، قال الشيخ زكريا الأنصاري في المنهج. قال الأسنوي: والمناسب للمعتمر أن يقول: عمرة مبرورة ويحتمل الأطلاق مراعاة للحديث ويقصد المعنى اللغوي وهو القصد انتهى، قال ابن حجر وظاهر كلامهم أن المعتمر يعبر بالحج أيضاً وهو ظاهر مراعاة للخبر ولأنها تسمى حجاً لغة بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 قال الصيدلاني إنها تسمى حجاً شرعاً لقوله صلى الله عليه وسلم (العمرة هي الحج الأصغر) انتهى. ويدعو في طوافه بما أحب ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم لأن ذلك مستحب في جميع الأحوال ففي حال تلبسه بهذه العبادة أولى، وإن شاء قال: اللهم إن هذا البيت بيتك الحرم حرمك والأمن أمنك وهذا مقام العائذ بك من النار. قال ابن الصلاح: قوله وهذا مقام العائذ بك من النار كلام يقوله المستعيذ ويعني بالعائذ نفسه وهو كما يقال هذا مقام الذليل وليس كما توهمه بعض مصنفي المناسك المشهورة من أنه إشارة إلى مقام إبراهيم عليه السلام وهذا غلط فاحش وقع إلى بعض عوام مكة رأيت منهم من يطوف الغرباء ويشير إلى مقام إبراهيم عند انتهائه إلى هذه الكلمة من دعائه انتهى. قال ابن حجر الهيتمي: ونقل الرافعي عن أبي حامد أنه يشير عند قوله وهذا مقام العائذ بك من النار إلى مقام إبراهيم عليه السلام وأقره، لكن نقل الأذرعي عن غيره أنه يشير إلى نفسه واستحسنه، بل قال ابن الصلاح إن الأول غلط فاحش انتهى. وفيه نظر لأنه إذا استحضر استعاذة خليل الله تعالى حمله ذلك على غاية من الخوف والإجلال والسكينة والوقار وذلك هو المطلوب في هذا المحل فكان أبلغ وأولى، وأيضاً فتخصيص هذا الدعاء بمقابلة المقام يدل على أنه يشير إليه انتهى كلام الهيتمي. قلت: الصحيح ما قاله ابن الصلاح، وما استحسنه الأذرعي، ففيما قاله ابن حجر الهيتمي وما نقله الرافعي عن أبي حامد نظر ظاهر، لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء الراشدين ولا عن سائر الصحابة أجمعين ولا عن التابعين ولا عن أحد من العلماء المعتبرين الإشارة إلى شيء حين الطواف بالبيت سوى الحجر الأسود وعند بعض الفقهاء والركن اليماني، فالإشارة في الطواف إلى مقام إبراهيم ليس مشروعاً بل هو فعل مبتدع والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 (تنبيه) : إذا حصل على الطائفين زحام من جهة مقام إبراهيم فإنه يسوغ تأخيره بقدر إزالة الضرر لأن المقام ليس هو البقعة التي هو بها الآن وإنما هو نفس الحجر والله أعلم. (تنبيه آخر) : لقد وضع الملك فيصل بن عبد العزيز يرحمه الله بعد عصر يوم السبت ثامن عشر رجب سنة 1387 هـ، المقام بداخل زجاج محاط بشباك صغير طلباً للتوسعة على الطائفين وذلك بعدما أزيلت الأعمدة والشباك الكبير وسقفهما الذي على المقام فجزاه الله أحسن الجزاء والحمد لله رب العالمين. ويقول إن شاء عند الركن العراقي: اللهم إني أعوذ بك من الشرك والشك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وسوء المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد، اللهم أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك واسقني من حوض نبيك محمد صلى الله عليه وسلم شراباً هنيئاً لا أظمأ بعده يا ذا الجلال والإكرام، وإن شاء بين الشامي أي الغربي واليماني: اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وعملاً مقبولاً وتجارة لن تبور يا عزيز يا غفور، وعند الفراغ من ركعتي الطواف يقول إن شاء: اللهم هذا بلدك الحرام ومسجدك الحرام وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك أتيتك بذنوب كثيرة وخطايا جمة وأعمال سيئة وهذا مقام العائذ بك من النار اللهم اغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم اللهم إنك دعوت عبادك إلى حج بيتك الحرام وقد جئت إليك طالباً بذلك رحمتك مبتغياً مرضاتك وأنت مننت بذلك علي فاغفر لي وارحمني إنك على كل شيء قدير، اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب إلى غير ذلك من الدعاء المشروع، ويدع الحديث في الطواف إلا الذكر والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما لا بد منه كالسلام ورده لأن الطواف بالبيت كالصلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الشيخ سليمان ابن علي في منسكه: وحكم الطواف حكم الصلاة إلا أن الكلام أبيح فيه والأكل والشرب ولو كثيراً انتهى، قلت أما الأكل والشرب كثيراً في الطواف ففي النفس منه شيء وهو ينافي المروءة فلا ينبغي القول به والله أعلم. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وقوله الطواف بالبيت صلاة لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هو ثابت عن ابن عباس وقد روى مرفوعاً انتهى. ومن طاف أو سعى راكباً أو محمولاً لغير عذر لم يجزئه الطواف ولا السعي لأن الطواف عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكباً كالصلاة هذا هو الصحيح من المذهب ومشى عليه في المنتهى والإقناع وغيرهما من كتب المتأخرين من الحنابلة، وإن طاف أو سعى راكباً أو محمولاً لعذر أجزأه لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن) وعن أم سلمة قالت: (شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي؟ فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) متفق عليهما، وكان طوافه صلى الله عليه وسلم راكباً لعذر كما يشير إليه قول ابن عباس: (كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد؟ هذا محمد؟ حتى خرج العواتق من البيوت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا تضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب) رواه مسلم، قال في المغني والشرح فعلى هذا تكون كثرة الناس وشدة الزحام عذراً ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصد تعليم الناس مناسكهم فلا يتمكن منه إلا بالركوب انتهى، قال في المقنع: (مسألة) ومن طاف راكباً أو محمولاً أجزأه. وعنه لا يجزئه إلا لعذر ولا يجزئ عن الحامل، قال في الشرح: يصح طوف الراكب للعذر بغير خلاف علمناه، فإن فعل ذلك لغير عذر فعن أحمد فيه ثلاث روايات: إحداهن لا يجزئه وهو ظاهر كلام الخرقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف بالبيت صلاة) فلم يجز فعلها راكباً لغير عذر كالصلاة، والثانية يجزئه ويجبره بدم، والثالثة يجزئه ولا شيء عليه اختارها أبو بكر وهو مذهب الشافعي وابن المنذر. فأما السعي محمولاً وراكباً فيجزئه لعذر ولغير عذر لأن المعنى الذي منع الطواف راكباً غير موجود فيه انتهى كلام الشارح ملخصاً. واختار الموفق في المغني أنه يجزئ السعي راكباً ولو لغير عذر، وممن اختار رواية الإجزاء في الطواف راكباً ولو لغير عذر ابن حامد والمجد وغيرهما وقد عد في الشرح الكبير الطواف ماشياً من سنن الطواف والصحيح من المذهب ما تقدم، وعدم إجزاء طواف الراكب من غير عذر من مفردات المذهب، قال الشيخ عبد الغني اللبدي في منسكه وهل يجزئ أن يطوف حبواً أو زحفاً لغير عذر؟ لم أر من نبه عليه ومثله لو كان منحنياً كالراكع، ولو قيل بعدم صحته حينئذ لكان له وجه والله أعلم انتهى. قلت: والصحيح من المذهب أنه يشترط لصحة الطواف المشي مع القدرة عليه والله أعلم، فعلى المذهب إذا طاف أو سعى محمولاً لعذر وقع الطواف أو السعي عن المحمول إن نويا: أي الحامل والمحمول عنه أو نوى كل منهما عن نفسه لأن المقصود هنا الفعل وهو واحد فلا يقع عن شخصين ووقوعه عن المحمول أولى لأنه لم ينو بطوافه إلا لنفسه والحامل لم يخلص قصده بالطواف لنفسه ولأن الطواف عبادة أدى بها الحامل فرض غيره فلم تقع عن فرضه كالصلاة، وصحة أخذ الحامل عن المحول الأجرة تدل على أنه قصده به لأنه لا يصح أخذه عن شيء يفعله لنفسه ذكره القاضي أبو يعلى وغيره، وإن نوى الحامل والمحمول الطواف عن الحامل وقع الطواف عن الحامل لخلوص كل منهما بالنية للحامل وإن نوى أحدهما الطواف عن نفسه والآخر لم ينو الطواف وقع لمن نوى منهما حاملاً أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 محمولاً لحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) وإن عدمت النية منهما أو نوى كل منهما عن الآخر لم يصح الطواف لواحد منهما لخلو طواف كل منهما عن نية منه، قال في الشرح الكبير بعد كلام سبق: الثالث أن يقصد كل واحد عن نفسه فيقع للمحمول دون الحامل وهذا أحد قولي الشافعي، والقول الآخر يقع للحامل لأنه الفاعل، وقال أبو حنيفة: يقع لهما لأن كل واحد منهما طائف بنية صحيحة فأجزأ الطواف عنه كما لو لم ينو صاحبه شيئاً، قال شيخنا وهو قول حسن، ووجه الأول أنه طواف أجزأ عن المحمول فلم يقع عن الحامل ولأنه طواف واحد فلم يقع عن شخصين كالراكب وتمامه في الشرح، قال في الإنصاف عما إذا نوى كل منهما عن نفس والنفس تميل إلى ذلك أي إلى وقوعه عن الحامل لأنه هو الطائف وقد نواه لنفسه: وقال أبو حفص العكبري لا يجزئ عن واحد منهما. قلت: والمذهب هو ما تقدم من وقوعه عن المحمول. والله أعلم. وإن حمله بعرفات لعذر أو لا أجزأ الوقوف عنهما لأن المقصود الحصول بعرفة وهو موجود، وإن طاف منكسا بأن جعل البيت عن يمينه لم يجزئه لقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) وقد جعل صلى الله عليه وسلم البيت في طوافه على يساره؛ ويجوز في (منسكا) فتح الكاف صفة لمصدر محذوف: أي طاف طوافاً منكساً ويجوز كسرها ويكون حالاً: أي طاف منكساً طوافه والله أعلم، وإن طاف القهقهرى بأن مشى إلى جهة قفاه وجعل البيت عن يمينه لم يجزئه أو طاف على جدار الحجر بكسر الحاء المهملة لم يجزئه لقوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) والحجر منه لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة (هو من البيت) رواه مسلم. فمن لم يطف به لم يعتد بطوافه لأن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 طاف من وراء الحجر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لتأخذوا عني مناسككم) قال النووي: ولو سلم أن بعض الحجر ليس من البيت لا يلزمه منه أنه لا يجب الطواف خارج جميعه لأن المعتمد في باب الحج الاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الطواف بجميعه سواء كان من البيت أم لا والله تعالى أعلم انتهى، أو طاف على شاذروان الكعبة لم يجزئه لأن الشاذروان من الكعبة، قال في المطلع: الشاذروان بفتح الشين والذال المعجمتين وسكون الراء: القدر الذي ترك خارجاً عن الجدار مرتفعاً عن وجه الأرض قدر ثلثي ذراع، والذراع أربع وعشرون إصبعاً، وهو جزء من الكعبة نقصته قريش وهو ظاهر في جوانب البيت إلا عند الحجر الأسود وهو في هذا الزمان قد صفح فصار يعسر الدوس عليه فجزى الله فاعل الخير خيراً انتهى كلام المطلع. قلت: وفي هذا الزمن قد بقى الموضع الذي جهة باب الكعبة والملتزم لم يصفح مراعاة لتسهيل الالتزام فيما يظهر لي والله أعلم. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ولو وضع يده على الشاذروان الذي يربط فيه أستار الكعبة لم يضره ذلك في أصح قولي العلماء وليس الشاذروان من البيت بل جعل عماداً للبيت انتهى، وإن طاف طوافاً ناقصاً ولو نقصاً يسيراً لم يجزئه لأنه لم يطف بجميع البيت، أو لم ينو الطواف لم يجزئه لحديث (إنما الأعمال بالنيات) أو طاف خارج المسجد لم يجزئه لأنه لم يرد به الشرع ولا يحنث به من حلف لا يطوف بالكعبة، أو طاف محدثا ولو حائضا لم يجزئه لقوله صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه) رواه الترمذي والأثر من حديث ابن عباس، وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) ويلزم الناس انتظار الحائض لأجله فقط إن أمكن لتطوف طواف الإفاضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ولا يلزمهم انتظارها للنفاس لطول مدته، وإن طاف نجسا ثوبه أو بدنه أو بقعته لم يجزئه كالمحدث، أو طاف شاكا في الطواف في طهارته وقد تيقن الحدث لم يجزئه استصحاباً للأصل ولا يضره شكه في طهارته بعد فراغه من الطواف لأن الظاهر صحته كشكه في الصلاة أو غيرها بعد الفراغ، قال الخرقي ويكون طاهراً في ثياب طاهرة، قال الموفق يعني في الطواف وذلك لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في المشهور عن أحمد وهو قول مالك والشافعي، وعن أحمد أن الطهارة ليست شرطاً، فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة، فإن خرج إلى بلده جبره بدم وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة، وعنه فيمن طاف للزيارة وهو ناس للطهارة لا شيء عليه وقال أبو حنيفة ليس شيء من ذلك شرطاً واختلف أصحابه فقال بعضهم هو واجب، وقال بعضهم: هو سنة لأن الطواف ركن للحج فلم يشترط له الطهارة كالوقوف، ولنا ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه) رواه الترمذي والأثرم انتهى من المغني، وقال شيخ الإسلام: وكذلك المرأة الحائض إذا لم يمكنها طواف الفرض إلا حائضاً بحيث لا يمكنها التأخر بمكة ففي أحد قولي العلماء الذين يوجبون الطهارة على الطائف إذا طافت الحائض أو الجنب أو المحدث أو حامل النجاسة مطلقاً أجزأه الطواف وعليه دم إما شاة وإما بدنه مع الحيض والجنابة وشاة مع الحدث الأصغر، إلى أن قال فلا يجوز لحائض أن تطوف إلا طاهرة إذا أمكنها ذلك باتفاق العلماء، ولو قدمت المرأة حائضاً لم تطف بالبيت لكن تقف بعرفة وتفعل سائر المناسك مع الحيض إلا الطواف فإنها تنتظر حتى تطهر إن أمكنها ذلك ثم تطوف، وإن اضطرت إلى الطواف فطافت أجزأها ذلك على الصحيح من قولي العلماء، وقال رحمه الله أيضاً: وأما الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 لا أعلم فيه نزاعاً أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا كانت قادرة على الطواف مع الطهر، فما أعلم منازعاً أن ذلك يحرم عليها وتأثم به، وتنازعوا في أجزائه؛ فمذهب أبي حنيفة يجزئها ذلك وهو قول في مذهب أحمد إلى أن قال: وأما القول بأن هذه العاجزة عن الطواف مع الطهر ترجع محرمة أو تكون كالمحصر أو يسقط عنها الحج أو يسقط عنها طواف الفرض فهذه أقوال كلها مخالفة لأصول الشرع مع أني لم أعلم إماما من الأئمة صرح بشيء منها في هذه الصورة وإنما كلام من قال عليها دم أو ترجع محرمة ونحو ذلك من السلف والأئمة كلام مطلق يتناول من كان يفعل ذلك في عهدهم وكان زمنهم يمكنها تحتبس حتى تطهر وتطوف وكانوا يأمرون الأمراء أن يحتبسوا حتى تطهر الحيض ويطفن، ولهذا ألزم مالك وغيره المكاري لها أن يحتبس معها حتى تطهر وتطوف انتهى ملخصاً من نحو عشر ورقات. وقال أبو عبد الله محمد بن القيم رحمه الله: المثال السادس أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر وقال: (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوف بالبيت) فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك وتمسك بظاهر النص ورأى منافاة الحيض للطواف كمنافاته للصلاة والصيام إذ نهى الحائض عن الجميع سواء ومنافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته لعبادة الصلاة، ونازعهم في ذلك فريقان. أحدهما صححوا الطواف مع الحيض ولم يجعلوا الحيض مانعاً من صحته بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه، وهؤلاء لم يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 بالصلاة ارتباط الشرط بالمشروط بل جعلوها واجبة من واجباته وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به يصح فعله مع الإخلال بها ويجبرها الدم. والفريق الثاني جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها بل وبمنزلة سائر شروط الصلاة أو واجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز، قالوا وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له بأعظم من اشتراطها للصلاة، فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحرى، قالوا وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صفية وقد حاضت: (أحابستنا هي؟ قالوا إنها قد أفاضت، قال فلتنفر إذاً) وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها. فأما في هذه الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيض فلا تخلو من ثمانية أقسام: أحدها أن يقال لها أقيمي بمكة وإن رحل الركب حتى تطهري وتطوفي، وفي هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلد الغربة مع لحوق غاية الضرر لها ما فيه. الثاني: أن يقال يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه. الثالث: أن يقال إذا علمت أو خشيت مجيء الحيض في وقته جاز لها تقديمه على وقته. الرابع: أن يقال إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج وأنها إذا حجت أصابها الحيض هناك سقط عنها فرضه حتى تصير آيسة وينقطع حيضها بالكلية. الخامس: أن يقال بل تحج فإذا حاضت ولم يمكنها الطواف ولا المقام رجعت وهي على إحرامها تمتنع من النكاح ووطء الزوج حتى تعود إلى البيت وتطوف وهي طاهرة ولو كان بينها وبينه مسافة سنين، ثم إذا أصابها الحيض في سنة العود رجعت كما هي ولا تزال كذلك كل عام حتى يصادفها عام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 تطهر فيه. السادس: أن يقال بل تتحلل إذا عجزت عن المقام حتى تطهر، كما يتحلل المحصر مع بقاء الحج في ذمتها، فمتى قدرت على الحج لزمها، ثم إذا أصابها ذلك أيضاً تحللت وهكذا أبدا حتى يمكنها الطواف طاهرا. السابع: أن يقال يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها كالمعضوب وقد أجزأ عنها الحج، وإن انقطع حيضها بعد ذلك. الثامن: أن يقال بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط والواجبات، كما يسقط عنها طواف الوداع بالنص، وكما يسقط عنها فرض السترة إذا شلحتها العبيد أو غيرهم، وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب إذا عجزت عنها لعدم الماء أو مرض بها وكما يسقط فرض اشتراط طهارة مكان الطواف إذا عرض فيه نجاسة يتعذر إزالتها، وكما يسقط شرط استقبال القبلة في الصلاة إذا عجز عنه، وكما يسقط فرض القيام والقراءة والركوع والسجود إذا عجز عنه المصلي، وكما يسقط فرض الصوم عن العاجز عنه إلى بدله وهو الإطعام ونظائر ذلك من الواجبات، والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بلد أو مطلقاً، فهذه ثمانية أقسام لا مزيد عليها، ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوي هذا القسم الثامن. ثم تكلم رحمه الله تعالى على الأقسام السبعة المتقدمة وأبطل قول من قال بها أو أحدها ورده رداً شافياً كافياً لا مزيد على حسنه، ثم قال فإذا بطلت هذه التقديرات تعين التقدير الثامن وهو أن يقال تطوف بالبيت والحالة هذه وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة بل يوافقها كما تقدم إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه ولا واجب في الشريعة مع عجز ولا حرام مع ضرورة، فإن قيل الطواف كالصلاة ولهذا تشترط له الطهارة من الحديث، وقد أشار إلى هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 بقوله في الحديث (الطواف بالبيت صلاة) والصلاة لا تشرع ولا تصح مع الحيض فكذا شقيقها ومشبهها ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فلم تصح مع الحيض كالصلاة، فالجواب أن يقول باشتراط طهارة الحدث للطواف لم يدل عليه نص ولا إجماع، بل فيه النزاع قديماً وحديثا، فأبو حنيفة وأصحابه لا يشترطون ذلك، وكذلك أحمد في إحدى الروايتين عنه، وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه على أن الرجل إذا طاف جنباً ناسياً صح طوافه ولا دم عليه، وعنه رواية أخرى عليه دم، وثالثة أنه لا يجزئه الطواف إلى أن قال: وقد دلت أحكام الشريعة على أن الحائض أولى بالعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة ناسياً أو ذاكراً فإذا كان فيه النزاع المذكور فهي أحق بالجواز منه فإن الجنب يمكنه الطهارة وهي لا يمكنها فعذرها بالعجز والضرورة أولى من عذره بالنسيان فإن الناسي لما أمر به من الطهارة والصلاة يؤمر بفعله إذا ذكره، بخلاف العاجز عن الركن أو الشرط فإنه لا يؤمر بإعادة العبادة معه إذا قدر عليه، فهذه إذا لم يمكنها إلا الطواف على غير طهارة وجب عليها ما تقدر عليه وسقط عنها ما تعجز عنه كما قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وهذه لا تستطيع إلا هذا وقد اتقت الله ما استطاعت فليس عليها غير ذلك بالنص وقواعد الشريعة والمطلق يقيد بدون هذا بكثير إلى أن قال: فإن قيل لو كان طوافها مع الحيض ممكنا أمرت بطواف القدوم وطواف الوداع فلما سقط عنها طواف القدوم والوداع علم أن طوافها مع الحيض غير ممكن قيل لا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط طواف القدوم عن الحائض وأمر عائشة لما قدمت وهي متمتعة فحاضت أن تدع أفعال العمرة وتحرم بالحج، فعلم أن الطواف مع الحيض محظور لحرمة المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 أو للطواف أو لهما والمحظورات لا تباح إلا في حال الضرورة ولا ضرورة بها إلى طواف القدوم لأنه سنة بمنزلة تحية المسجد، ولا إلى طواف الوداع فإنه ليس من تمام الحج، ولهذا لا يودع المقيم بمكة وإنما يودع المسافر عنها فيكون آخر عده بالبيت فهذان الطوافان أمر بهما القادر عليهما إما أمر إيجاب فيهما أو في أحدهما أو استحباب كما هي أقوال وليس واحد منهما ركنا يقف صحة الحج عليه، بخلاف طواف الفرض فإنها مضطرة إليه وهذا كما يباح لها دخول المسجد واللبث فيه للضرورة ولا يباح لها الصلاة ولا الاعتكاف فيه، وإن كان منذوراً إلى أن قال: وبالجملة فالكلام في هذه الحادثة في فصلين: أحدهما في اقتضاء قواعد الشريعة لها لا لمنافاتها وقد تبين ذلك بما فيه كفاية. والثاني في أن كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط والوجوب إنما هو في حال القدرة والسعة لا في حال الضرورة والعجز فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع ولا قول الأئمة وغاية المفتي بها أنه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم، فالمفتي بها موافق لأصول الشرع وقواعده ولقواعد الأئمة وأصولهم وبالله التوفيق انتهى ملخصاً. وقد سقت كلام الشيخين في هذه المسألة لأني لم أر من الأصحاب من استوفى الكلام فيهما سواهما، ومن كلامهما يتضح أنهما يريان القول بصحة طواف الحائض طواف الإفاضة الذي هو ركن في الحج إذا اضطرت إلى طوافه بأن لم تتمكن من المقام بمكة حتى تطهر لسفر رفقتها عنها، وقولهما هذا وجيه وإن كان خلاف المذهب عند متأخري الأصحاب. قلت وحكم النفساء حكم الحائض في صحة طوافها للإفاضة الذي هو ركن في الحج إذا اضطرت إلى طوافه بأن لم تتمكن من المقام بمكة حتى تطهر من نفاسها لسفر رفقتها عنها والله أعلم. وإن طاف عريانا لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 يجزئه لحديث أبي هريرة: (إن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر عليها قبل حجة الوداع يؤذن يوم النحر: ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) . متفق عليه، وقوله في الحديث: إن أبا بكر بعثه، أي بعث أبا هريرة سنة تسع من الهجرة والله أعلم. وكذا لو انكشف من العورة ما تبطل به الصلاة وكثيراً ما يقع في ذلك جهال النساء فإنه ربما انكشف من بدنها في طوافها ما تبطل به صلاتها لكون الأنثى كلها عورة في الصلاة إلا وجهها، والطواف صلاة كما تقدم، قال الشيخ مرعي في الغاية: ويتجه احتمال عدم صحة الطواف في المغصوب وفي الحرير لغير أنثى انتهى، أو قطع الطواف بفصل طويل عرفاً ولو سهواً أو لعذر لم يجزئه لأنه صلى الله عليه وسلم والى بين طوافه وقال: (خذوا عني مناسككم) أو أحدث في بعضه لم يجزئه لأن الطهارة شرط فيه على الصحيح من المذهب، وإذا وجد الحدث بطلت فيبطل الطواف كالصلاة فتشترط الموالاة في الطواف والسعي لا بين الطواف والسعي كما يأتي، ولو مس الجدار بيده في موازاة الشاذروان صح طوافه اعتباراً بجملته كما لا يضر التفات المصلي بوجهه، وعلى قياسه لو مس أعلى جدار الحجر، وإن طاف في المسجد من وراء حائل من قبة وغيرها أجزأه الطواف لأنه في المسجد، قال في المنتهى وشرحه: وإن طاف على سطح المسجد توجه الإجزاء كصلاته إليها أو قصد في طوافه غريماً وقصد معه طوافاً بنية حقيقية أي مقارنة للطواف لا حكمية توجه الإجزاء في قياس قولهم ويتوجه احتمال كعاطس قصد بحمده قراءة قاله في الفروع انتهى. قال في الفروع: وفي الإجزاء عن فرض القراءة وجهان انتهى. قلت: المرجح عدم الإجزاء، إذا قصد حمد العطاس والقراءة والله أعلم، قال الشيخ منصور البهوتي: والنية الحكمية أن ينويه قبل ويستمر حكمها وهو معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 استصحاب حكمها ذكره ابن قندس انتهى. قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي قوله بنية حقيقية لا حكمية، قال ابن قندس: النية الحقيقية أن ينوي الطواف حقيقة، والنية الحكمية أن يكون قد حصلت له نية ثم استمر حكمها ولم يقطعها، وهو معنى قولهم: ويجب استصحاب حكم النية وهو أن لا ينوي قطعها انتهى، قوله في الحكمية قد حصلت له نية، قيل معناه والله أعلم أن ينوي الطواف قبل الشروع فيه ثم يعرض له غريم في الطواف فيتبعه لملازمته له مستصحباً لحكم تلك النية أي غير قاطع لها فلا يجزئه الطواف في هذه الحالة وهذا بخلاف ما لو لم يعرض له غريم بل شرع في الطواف مستصحباً لحكم تلك النية فإنه يصح طوافه بشرط قرب الزمن بين النية والشروع. وأما النية الحقيقية فهي ما قارنت الطواف الذي قصد معه ملازمة الغريم بأن ينوي عند الشروع فيه الطواف فإنه لا يضر مع ذلك قصد الغريم كما لو نوى الصوم وقصد معه هضم الطعام أو نوى الصلاة وإدمان السهر لكن ثوابه ينقص بذلك انتهى كلام الشيخ عثمان، وإن شك في عدد الأشواط أخذ باليقين ليخرج من العهدة بيقين، ويقبل قول عدلين في عدد الأشواط كعدد الركعات في الصلاة. ويسن فعل سائر المناسك من السعي والوقوف والرمي وغيرها على طهارة، وإن قطع الطواف بفصل يسير بني من الحجر الأسود لعدم فوت الموالاة بذلك أو أقيمت صلاة مكتوبة صلى وبنى لحديث (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) والطواف صلاة فتدخل في العموم، أو حضرت جنازة صلى وبنى لأنها تفوت بالتشاغل عنها، ويكون البناء من الحجر الأسود ولو كان القطع من أثناء الشوط لأنه لا يعتد ببعض شوط قطع فيه، وحكم السعي في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 كطواف ثم بعد تمام الطواف يصلي ركعتين والأفضل كونهما خلف مقام إبراهيم لقول جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعاً ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت) ويأتي سياق حديث جابر في أول باب صفة الحج إن شاء الله تعالى، وقراءته صلى الله عليه وسلم الآية المذكورة بيان منه لتفسير القرآن ومراد الله منه، وحيث ركعهما من المسجد أو غيره جاز لعموم (جعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهوراً) وصلاهما عمر بذي طوى، ولا شيء عليه لترك صلاتهما خلف المقام، وهما سنة مؤكدة يقرأ فيهما بعد الفاتحة في الأولى: (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قل هو الله أحد) لحديث جابر (فصلى ركعتين فقرأ فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد، ثم عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج إلى الصفا) . رواه مسلم، ولا بأس أن يصليهما إلى غير سترة ويمر بين يديه الطائفون من الرجال والنساء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما والطواف بين يديه ليس بينهما شيء، وكان ابن الزبير يصلي والطواف بين يديه فتمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى ترفع رجلها ثم يسجد، وكذا سائر الصلوات بمكة لا يعتبر لها سترة، قاله في المغني والشرح، وتكفي عن ركعتي الطواف مكتوبة وسنة راتبة كركعتي الإحرام وتحية المسجد، ويسن الإكثار من الطواف كل وقت؛ ونص الإمام أحمد أن الطواف لغريب أفضل من الصلاة بالمسجد الحرام، قال شيخ الإسلام: جنس القراءة أفضل من الطواف انتهى. وله جمع أٍسابيع من الطواف، فإذا فرغ منها ركع لكل أسبوع ركعتين لفعل عائشة والمسور بن مخرمة، وبه قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير وإسحق، وكرهه ابن عمر والحسن والزهري ومالك وأبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 في المغني والشرح وشرح الإقناع والمنتهى وغيرها من كتب الأصحاب: وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله لا يوجب كراهته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف أسبوعين ولا ثلاثة وذلك غير مكروه بالاتفاق، ولا تعتبر الموالاة بين الطواف والركعتين، لأن عمر صلاهما بذي طوى وتقدم وأخرت أم سلمة الركعتين حين طافت راكبة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ والأولى أن يركع لكل أسبوع ركعتين عقبه، ولطائف تأخير سعيه عن طوافه بطواف أو غيره فلا تجب الموالاة بينهما، ولا بأس أن يطوف أول النهار ويسعى آخره أو بعد ذلك لكن تسن الموالاة بينهما. (فائدة) قال في القرى للطبري: ما جاء في كراهة طواف المجذوم مع الناس، عن ابن أبي مليكة (أن عمر بن الخطاب رأى امرأة مجذومة تطوف بالبيت فقال لها يا أمة الله لا تؤذي الناس لو جلست في بيتك، ففعلت فمر بها رجل بعد ذلك فقال لها إن الذي نهاك قد مات فاخرجي، فقالت: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً) . أخرجه مالك وسعيد بن منصور بتغيير بعض اللفظ انتهى. (فرع) : إذا فرغ المتمع من العمرة والحج ثم علم أنه كان على غير طهارة في أحد طوافيه للعمرة والحج وجهل الطواف الذي كان فيه على غير طهارة، هل هو طواف العمرة أو طواف الحج؟ لزمه الأحوط لتبرأ ذمته بيقين، والأحوط كونه بلا طهارة في طواف العمرة، فلم تصح عمرته لفساد طوافها، ولم يحل منها بالحلق لفساد الطواف فكأنه حلق قبل طواف عمرته، فيلزمه دم للحلق لبقاء إحرامه، وكذا لو قلم أطفاره لزمه لذلك دم لأنه كرر محظوراً من أجناس، ويكون قد دخل الحج على العمر فيصير قارناً ويجزئه طواف الإفاضة عن الحج والعمر كالقارن في ابتداء إحرامه، قال الشيخ منصور: الذي يظهر لزوم إعادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الطواف لاحتمال أن يكون المتروك فيه الطهارة هو طواف الحج فلا يبرأ بيقين إلا بإعادته انتهى. وقد ذكر مثل ذلك الشيخ مرعي في الغاية فقال ويتجه ندباً إعادة طواف حج وسعيه احتياطاً انتهى. (تنبيه) : لا يرد على ما هنا ما سبق في باب الإحرام من أنه بعد الشروع في طواف العمرة لا يصح إدخال الحج عليها إلا لمن معه هدي، لأنا نقول إدخاله الحج على العمر هنا هو قبل الشروع في طوافها لعدم اعتبار طوافه، لأنا قدرنا وقوعه بغير طهرا، هذا ما ظهر لي والله أعلم، وإذا قدرنا أن الطواف بغير طهارة هو طواف الإفاضة لزمه إعادة الطواف لوقوعه غير صحيح ويلزمه إعادة السعي على التقديرين المذكورين أي تقدير كون الطواف وقع على غير طهارة في طواف العمر أو الإفاضة لأنه وجد بعد طواف غير معتد به، لأنا قدرنا كونه وقع بغير طهارة، وإن كان وطيء المتمتع بعد حله من عمرته وقد فرضنا طوافها بلا طهارة حكمنا بأنه أدخل حجاً على عمرة فاسدة لوطئه فيها فلم تصح، ولا يصح إدخال الحج عليه ويلغو ما فعله من أفعال الحج لعدم صحة الإحرام به، ويتحلل بالطواف الذي قصده للحج من عمرته الفاسدة. وعليه دمان: دم للحق، ودم للوطء في عمرته، ودم لكل محظور وقع منه ولا يحصل له حج ولا عمرة لفساد العمرة بالوطء فيها وعدم صحة إدخال الحج عليها إذاً، وحينئذ فلا يبرأ من الواجب ويلزمه قضاؤه. وأما التطوع فقال الشيخ مرعي في غايته لا يقضيه للشك، والاحتياط القضاء انتهى، قال في الإقناع وشرحه: ولو قدرنا الطواف بلا طهارة من الحج أي وقد وطيء بعد حله من العمرة لم يلزمه أكثر من إعادة الطواف والسعي للحج، ويحصل له الحج والعمرة لحصول الوطء زمن الإحلال انتهى. وقد سبق في باب الإحرام البحث في حكم المتمتع الذي لم يسق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الهدي إذا طاف لعمرته وسعي ولم يحلق أو يقصر ثم أحرم بالحج فعليك بمراجعته فإنه نفيس يعض عليه بالنواجذ، ويأتي في فصل: ثم يخرج إلى الصفا أنه إذا ترك التقصير والحلق وقد طاف وسعى لعمرته طوافاً وسعياً صحيحين عليه دم، وأنه إذا وطيء قبل التقصير والحلق فعمرته صحيحة وعليه دم فتنبه لذلك والله ولي التوفيق. -- فصل: ويشترط لصحة الطواف ثلاثة عشرة شيئاً: الإسلام، والعقل، والنية، وستر العورة، وطهارة الحدث لا لطفل دون التمييز لعدم إمكانها منه، وطهارة الخبث حتى للطفل، وتكميل السبع، وجعل البيت عن يساره، والطواف بجميع البيت بأن لا يطوف على جدار الحجر، وأن يطوف ماشيا مع القدرة على المشي، وأن يوالي بينه إلا إذا حضرت جنازة أو أقيمت صلاة، وأن لا يخرج من المسجد أعني أن يطوف بالمسجد، وأن يبتدئ من الحجر الأسود فيحاذيه بكل بدنه وتقدم ذلك كله موضحاً. وسن الطواف عشر: استلام الحجر الأسود، وتقبيله أو ما يقوم مقامه من الإشارة عند تعذر الاستلام، واستلام الركن اليماني، والاضطباع، والرمل، والمشي في مواضعه، والدعاء، والذكر، والدنو من البيت وركعتا الطواف، وإذا فرغ من ركعتي الطواف وأراد السعي سن عوده إلى الحجر فيستلمه لحديث جابر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 -- فصل: ثم يخرج إلى الصفا من بابه: أي باب المسجد المعروف بباب الصفا، والصفا: طرف جبل أبي قبيس عليه درج وفوقه أزج كإيوان، وبعد العمارة الجديد صار فوقه قبة وأزيل الأزج فيرقى عليه حتى يرى البيت إن أمكنه فيستقبله لحديث أبي هريرة: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو) . رواه مسلم، وفي حديث جابر: (فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة) . الحديث رواه مسلم، ويكبر ثلاثاً ويقول ثلاثاً: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده؛ والأحزاب هم الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق: قريش وغطفان واليهود ويقول: لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، اللهم جنبني حدودك: أي محارمك، اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين، اللهم يسر لي اليسرى وجنبني العسرى واغفر لي في الآخرة والأولى واجعلني من أئمة المتقين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لي خطيئتي يوم الدين، اللهم إنك قلت وقولك الحق: ادعوني أستجب لكم، وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى تتوفاني على الإسلام، اللهم لا تقدمني للعذاب ولا تؤخرني لسوء الفتن) . هذا دعاء ابن عمر، قال الإمام أحمد يدعو به، قال نافع بعده: ويدعو دعاء كثيراً حتى إنه ليملنا ونحن شباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ولا يلبي على الصفا لعدم وروده ويأتي حكم التلبية في السعي إن شاء الله تعالى ثم ينزل من الصفا فيمشي حتى يبقى بينه وبين العلم وهو الميل الأخضر في ركن المسجد على يساره نحو ستة أذرع فيسعى ماش بالتنوين فاعل يسعى سعياً شديداً ندباً بشرط أن لا يؤذي ولا يؤذى حتى يتوسط بين الميلين الأخضرين وهما العلمان أحدهما بركن المسجد والآخر بالوضع المعروف بدار العباس، وقد أزيلت الدار للتوسعة وهما بعد العمارة الجديدة بجداري المسعى، فيترك شدة السعي حتى يأتي المروة، وهي أنف جبل قيقعان فيرقى عليها ويستقبل القبلة ويقول عليها ما قال على الصفا لما في حديث جابر، قال ابن القيم رحمه الله: (ثم نزل صلى الله عليه وسلم من الصفا إلى المروة يمشي فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا جاوز الوادي وأصعد مشى) هذا الذي صح عنه وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين في أول السعي وآخره، والظاهر أن الوادي لم يتغير عن وضعه هكذا، قال جابر عنه في صحيح مسلم: وظاهر هذا أنه كان ماشياً، وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف ولم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) . قال ابن حزم: لا تعارض بينهما لأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب كله وانصبت قدماه أيضاً مع سائر جسده، وعندي في الجمع بينهما وجه آخر أحسن من هذا، وهو أنه سعى ماشياً أولاً ثم أتم سعيه راكباً وقد جاء ذلك مصرحاً به، ففي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكباً أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة، قال صدقوا وكذبوا: قال قلت: ما قولك صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 صلى الله عليه وسلم كثير عليه الناس يقولون: هذا محمد حتى خرج عليه العواتق من البيوت قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه قال فلما كثر عليه الناس ركب) والمشي أفضل. انتهى. (تنبيه) : وجه مشروعية السعي الشديد لما روى أحمد في المسند عن حبيبة بنت أبي تجراه قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) . وحديث حبيبة هذا أخرجه الشافعي أيضاً وغيره من حديث صفية بنت شيبة عن حبيبة، وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف، وله طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة والطبراني عن ابن عباس، قال ابن حجر في الفتح: وإذا انضمت إلى الأولى قويت، قوله بنت أبي تجراه قال في الفتح بكسر المثناة وسكون الجيم بعدها راء ثم ألف ساكنة ثم هاء: وهي إحدى نساء بني عبد الدار، قوله يدور به إزاره وفي لفظ آخر: وإن مئزره ليدور من شدة السعي، والضمير في قوله به يرجع إلى الركبتين أي يدور إزاره بركبتيه انتهى، وفي سنن ابن ماجة عن حبيبة بنت أبي تجراه إحدى نساء بني عبد الدار، قالت: (دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة سعيه حتى إني لأقول إني لأرى ركبتيه وسمعته يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) ذكره في المغني، ولما روت صفية بنت شيبة عن أم ولد شيبة قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: لا يقطع الأبطح إلا شداً) ولما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء إبراهيم عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 بهاجر وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يؤمئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: (رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك الحرام، حتى بلغ يشكرون) وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقا عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى. أو قال يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فذلك سعى الناس بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت صهَ، تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء) وللأثر بقية تأتي إن شاء الله عند الكلام على ماء زمزم وفضله. ويجب استيعاب ما بين الصفا والمروة لفعله عليه الصلاة والسلام وقوله: (خذوا عني مناسككم) فإن لم يرقهما ألصق عقب رجليه بأسفل الصفا وألصق أصابعهما بأسفل المروة ليستوعب ما بينهما وإن كان راكباً لعذر فعل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 بدابته وهذا كان أولاً، أما بعد العمارة الجديدة فالظاهر أنه لا يكون مستوعباً للسعي إلا إذا رقى على المحل المتسع وهو آخر درجة والله أعلم، ثم ينقلب فينزل عن المروة فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا يفعل ذلك سبعاً، يحتسب بالذهاب سعيه والرجوع سعية، يفتتح بالصفا ويختم بالمروة لخبر جابر، فإن بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط لمخالفته قوله عليه الصلاة والسلام (خذوا عني مناسككم) ، ولا يسن لأهل مكة الإسراع بين الصفا والمروة، قال الإمام أحمد: ليس على أهل مكة رمل عند البيت ولا بين الصفا والمروة، ذكره في المغني والشرح وتقدم، وليس السعي، أعني الإسراع، بواجب ولا شيء على تاركه فإن ابن عمر قال: (إن أسع بين الصفا والمروة فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، وإن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا شيخ كبير) . رواه أبو داود وابن ماجة، ولأن ترك الرمل في الطواف بالبيت لا شيء فيه فبين الصفا والمروة أولى. ويكثر من الدعاء والذكر فيما بين الصفا والمروة، ومنه ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله) قال الترمذي حديث حسن صحيح، قال في الإقناع وشرحه: ولا يسن السعي بينهما أي بين الصفا والمروة إلا في حج أو عمرة فهو ركن كما يأتي فليس السعي كالطواف في أنه يسن كل وقت لعدم ورود التطوع به مفرداً انتهى، قال في المنتهى وشرحه: ويشترط كونه أي السعي بعد طواف لنسك ولو مسنوناً كطواف القدوم انتهى، قال في الإقناع وشرحه: ويشترط تقدم الطواف عليه ولو كان الطواف الذي تقدم عليه مسنوناً كطواف القدوم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 إنما سعى بعد الطواف وقال لنا: (خذوا عني مناسككم) انتهى، وعبارة المنتهى وكونه بعد طواف ولو مسنوناً انتهى. قال الشيخ منصور في حاشية المنتهى قوله وكونه بعد طواف ولو مسنوناً: يعني إذا كان في نسك من حج أو عمرة أو قران، ولو قال ولا يصح إلا بعد طواف نسك لكان أصوب، ولا يستحب السعي مع كل طواف، ولا يصح إذا لم يكن طواف نسك كما نبه عليه الحجاوي في الحاشية انتهى، قال الخلوتي في حاشية المنتهى قوله وكونه بعد طواف: أي طواف نسك كما نبه عليه الحجاوي في حاشية التلقيح مع أنه لم يتنبه له في الإقناع فأطلق فتدبر انتهى. وقال الخلوتي أيضاً قوله ولو مسنوناً وهو طواف القدوم لأنه يصدق عليه أنه مسنون، وطواف نسك وتمامه فيه. قلت: إذا سلم الخلوتي أن طواف القدوم يصدق عليه أنه مسنون وطواف نسك سقط قوله إن الحجاوي لم يتنبه له في الإقناع لأن عبارة الإقناع هذا نصها: ويشترط تقدم الطواف عليه ولو مسنوناً كطواف القدوم. انتهى. (تنبيه) : تقدم في الإقناع وشرحه في باب المواقيت ما نصه: وحيث لزم الإحرام من الميقات لدخول مكة أو الحرم لا لنسك طاف وسعى وحلق وحل من إحرامه انتهى، فعبارة الإقناع وشرحه في باب المواقيت مناقضة لعبارته هنا التي نصها ولا يسن السعي بينهما إلا في حج أو عمرة انتهى، ومناقضة أيضاً لما في حاشيته على التنقيح وملا قاله منصور في شرح المنتهى وحاشيته عليه ولما قاله الخلوتي في حاشيته على المنتهى والذي يظهر لي أن الصواب هو ما في متن الإقناع والمنتهى هنا من صحة السعي بعد الطواف المسنون كطواف القدوم فشمل كلامهما ما إذا أحرم من الميقات لدخول مكة أو الحرم لا لنسك فإنه يسن له الطواف والسعي: وقد يقال إذا أحرم من الميقات لدخول مكة أو الحرم لا لنسك وطاف وسعى وحلق أو قصر فإنه يكون في حكم المعمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 فيصدق عليه أنه سعى بعد طواف نسك، والله أعلم. ويستحب أن يسعى طاهراً من الحدث الأكبر والأصغر ومن النجاسة في بدنه وثوبه ساتراً لعورته، بمعنى أنه لو سعى عريانا أجزأه وإلا فكشف العورة محرم وسترها واجب مطلقاً، ويشترط للسعي النية والموالاة، وقال في المغني: فأما السعي بين الصفا والمروة فظاهر كلام أحمد أن الموالاة غير مشروطة فيه، فإنه قال في رجل كان يسعى بين الصفا والمروة فلقيه قادم يعرفه يقف يسلم عليه ويسأله، قال نعم أمر الصفا سهل إنما كان يكره الوقوف في الطواف بالبيت، فأما بين الصفا والمروة فلا بأس. وقال القاضي: تشترط الموالاة فيه قياساً على الطواف، وحكاه أبو الخطاب رواية عن أحمد والأول أصح، لأنه نسك لا يتعلق بالبيت فلم تشترط له الموالاة كالرمي والحلاق، وقد روى الأثرم: أن سودة بنت عبد الله بن عمر امرأة عروة بن الزبير سعت بين الصفا والمروة فقضت طوافها في ثلاثة أيام وكانت ضخمة، وكان عطاء لا يرى بأساً أن يستريح بينهما، ولا يصح قياسه على الطواف لأن الطواف يتعلق بالبيت وهو صلاة، ويشترط له الطهارة والستارة فاشترطت له الموالاة، بخلاف السعي انتهى كلام المغني ومثله في الشرح ومشى في المنتهى والإقناع وغيرهما على اشتراط الموالاة للسعي وهو المذهب. والمرأة لا ترقى الصفا ولا المروة ولا تسعى بين العلمين سعياً شديداً لقول ابن عمر: (ليس على النساء رمل بالبيت ولا بين الصفا والمروة، وقال: لا تصعد المرأة فوق الصفا والمروة، ولا ترفع صوتها بالتلبية) . رواه الدارقطني، ولأن المطلوب منها الستر، وفي ذلك تعرّض للانكشاف، والقصد بشدة السعي إظهار الجلد وليس ذلك مطلوباً في حقها، وإن سعى على غير طهارة بأن سعى محدثاً أو نجساً كره له ذلك وأجزأه لأنه عبادة لا تتعلق بالبيت أشبه الوقوف ويشترط تقدم الطواف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 على السعي ولو كان الطواف الذي تقدم عليه مسنوناً كطواف القدوم للمفرد والقارن وتقدم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سعى بعد الطواف وقال: (خذوا عني مناسككم) فإن سعى بعد طوافه الواجب أو المسنون ثم علم أنه طاف غير متطهر لم يجزئه السعي لبطلان الطواف الذي تقدمه فوجوده كعدمه، ولا تسن عقب السعي صلاة لعدم وروده، وإن سعى المفرد أو القارن مع طواف القدوم لم يعد السعي مع طواف الإفاضة لأنه لا يشرع تكراره، وإن لم يكن سعي مع طواف القدوم، أو كان متمتعاً سعى بعد طواف الإفاضة ليأتي بركن الحج، فإذا فرغ من السعي فإن كان متمتعاً ليس معه هدى حلق أو قصر من جميع شعره وقد حل ولو كان ملبداً رأسه فيستبيح جميع محظورات الإحرام، والأفضل هنا التقصير ليتوفر الحلق للحج، ولا يسن تأخير التحلل لحديث ابن عمر قال: (تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال: من كان معه هدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجة ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت والصفا والمروة وليقصر وليحلل) . متفق عليه. فإن ترك التقصير والحلق فعليه دم، فإن وطيء قبله فعمرته صحيحة وعليه دم، روى عن ابن عباس وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي، قال أحمد فيمن وقع على امرأته قبل تقصيرها من عمرتها تذبح شاة، قيل: عليه أو عليها؟ قال: عليها هي، وهذا محمول على أنها طاوعته، وتقدم في الثامن من محظورات الإحرام بأبسط من هذا فليراجع. (فائدة) : ذكر الفقهاء أنه إذا دخلت عشر ذي الحجة حرم على من يضحي أو يُضحَّى عنه أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته لحديث أم سلمة مرفوعاً (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وأظفاره) . رواه الجماعة إلا البخاري، ولفظ أبي داود وهو لمسلم والنسائي أيضاً (من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره وأظفاره حتى يضحي) وفي رواية لمسلم (ولا من بشرته) . قال الشيخ مرعي في الغاية: ويتجه هذا في غير متمتع حل من عمرته، انتهى، يعني فإنه يحلق أو يقصر وجوباً ولا يتناوله التحريم: ولو ضحى أو ضُحِّي عنه، لأن الحلق والتقصير نسك على الصحيح وفعل هذا النسك واجب والله أعلم، وإن كان مع المتمتع هدي أدخل الحج على العمرة، وليس له أن يحل ولا أن يحلق أو يقصر حتى يحج فيحرم بالحج بعد طوافه وسعيه لعمرته ويحل من الحج والعمرة يوم النحر نص عليه أحمد، وإن كان الذي طاف وسعى لعمرته معتمراً غير متمتع فإنه يحلق أو يقصر وقد حل ولو كان معه هدي سواء كان في أشهر الحج ولم يقصد الحج من عامه أم كان في غير أشهر الحج ولو قصده من عامه لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر سوى عمرته التي مع حجته وكان يحل منها، ومتى كان معه هدي نحره عند المروة كذا قال الأصحاب، لكن في هذا الزمن لا يمكنه النحر عندها وحيث نحره من الحرم جاز، وإن كان الذي طاف وسعى حاجاً مفرداً أو قارناً بقي على إحرامه حتى يتحلل يوم النحر لفعله عليه الصلاة والسلام، ومن كان متمتعاً أو معتمراً قطع التلبية إذا شرع في طواف العمرة لحديث ابن عباس يرفعه: (كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر) قال الترمذي حسن صحيح: والمراد من ذلك أن المحرم بالعمرة يقطع التلبية إذا شرع في طوافها، أما المحرم بالحج فلا يقطعها إلا إذا رمى جمرة العقبة سواء كان قارناً أم متمتعاً أم مفرداً ولا بأس بالتلبية في طواف القدوم للمفرد والقارن سراً نص عليه، قال الموفق يكره الجهر بها لئلا يختلط على الطائفين وكذا السعي بعده انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 (تنبيه) : قال في الغاية: شروط السعي تسعة: إسلام وعقل ونية معينة وموالاة ويتجه كطواف ومشي القادر وتكميل السبع واستيعاب ما بين الصفا والمروة وكونه بعد طواف صحيح ولو مسنوناً أو في غير أشهر الحج ويتجه وبدء بأوتار من الصفا وإشفاع من المروة. وسننه طهارة حدث وخبث وستر عورة وذكر ودعاء وإسراع ومشى بمواضعه ورقي وموالاة بينه وبين طواف، فإن طاف في يوم وسعى في آخر فلا بأس ولا يسن عقبه صلاة انتهى كلام الغاية. (فائدة) : الصحيح من المذهب اشتراط المشي في السعي للقادر، وقال الموفق في المغني: فأما السعي راكباً فيجزئه لعذر ولغير عذر، لأن المعنى الذي منع الطواف راكباً غير موجود فيه ومثله في الشرح وتقدم عند الكلام على الطواف راكباً فليراجع، قال في المغني: واختلفت الرواية في السعي، فروى عن أحمد أنه ركن لا يتم الحج إلا به وهو قول عائشة وعروة ومالك والشافعي لما روى عن عائشة قالت: (طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون، يعني بين الصفا والمروة فكانت سنة ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة) رواه مسلم. ولأنه نسك في الحج والعمرة فكان ركنا فيهما كالطواف بالبيت، وروى عن أحمد أنه سنة لا يجب بتركه دم، روى ذلك عن ابن عباس وأنس وابن الزبير وابن سيرين لقول الله تعالى: (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) ونفى الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه فإن هذا رتبة المباح وإنما تثبت سنيته بقوله: (من شعائر الله) ، وقال القاضي: هو واجب وليس بركن إذا تركه وجب عليه دم وهو مذهب الحسن وأبي حنيفة والثوري وهو أولى لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب لا على كونه لا يتم الحج إلا به. وأما الآية فإنها نزلت لما تحرج ناس من السعي في الإسلام لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية لأجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 صنمين كانا على الصفا والمروة، كذلك قالت عائشة انتهى ملخصاً، والصحيح من المذهب هو الرواية الأولى أن السعي ركن ومشى عليه المتأخرون من الحنابلة قال ابن القيم رحمه الله، وقال ابن حزم: وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة سبعاً راكباً على بعيره يخب ثلاثاً ويمشي أربعاً، وهذا من أوهامه وغلطه رحمه الله فإن أحداً لم يقل هذا قط غيره ولا رواه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة وهذا إنما هو في الطواف بالبيت فغلط أبو محمد ونقله إلى الطواف بين الصفا والمروة، وأعجب من ذلك استدلاله عليه بما رواه من طريق البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاث أطواف ومشى أربعاً فركع حين قضى طوافه بالبيت وصلى عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط وذكر باقي الحديث، قال: ولم نجد عدد الرمل بين الصفا والمروة منصوصاً ولكنه متفق عليه هذا لفظه. قلت: المتفق عليه السعي في بطن الوادي في الأشواط كلها، وأما الرمل في الثلاثة الأول خاصة فلم يقله ولا نقله فيما نعلم غيره، وسألت شيخنا عنه؟ فقال هذا من أغلاطه وهو لم يحج رحمه الله تعالى، وقال ابن القيم أيضاً فلما أكمل صلى الله عليه وسلم سعيه عند المروة أمر كل من لا هدي معه أن يحل حتما ولا بد قارناً كان أو مفرداً وأمرهم أن يحلوا الحل كله من وطء النساء والطيب ولبس المخيط وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية ولم يحل هو من أجل هديه، وهناك قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) إلى أن قال: ولم يحل أبو بكر ولا عمر ولا علي ولا طلحة ولا الزبير من أجل الهدي، وأما نساؤه صلى الله عليه وسلم فأحللن وكن قارنات إلا عائشة فإنها لم تحل من أجل تعذر الحل عليها بحيضها، وفاطمة حلت لأنها لم يكن معها هدي وعلي رضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الله عنه لم يحل من أجل هديه وأمر من أهلّ بإهلال كإهلاله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على إحرامه إن كان معه هدي وأن يحل إن لم يكن معه هدي، وتقدم الكلام على هذا في فصل: ويسن لمن كان قارناً أو مفرداً فسخ نبتهما بالحج وينويان بإحرامهما ذلك عمرة مفردة، وعلى ما ذكره ابن القيم رحمه الله هنا وفيما تقدم يتضح أنه يرى وجوب فسخ القارن والمفرد حجهما إلى عمرة إذا لم يسوقا هدياً، والله أعلم. (فائدة) : إن قيل قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يقتضي المنع من قول (لو) حيث قال عليه الصلاة والسلام (لو تفتح عمل الشيطان) قلنا الممنوع استعمالها في التلهف على أمور الدنيا إما طلباً كقوله لو فعلت كذا حصل لي كذا، وإما هرباً كقوله لو كان كذا وكذا لما حصل علي كذا وكذا لما في ذلك من عدم التوكل، أما تمني القربات كما في هذا الحديث فلا محذور في ذلك لانتفاء المعنى المذكور والله أعلم، وقد ساق ابن القيم رحمه الله الأوهام التي توهمها بعض الناس في حجته صلى الله عليه وسلم وذكر منها وهم من قال إنه صلى الله عليه وسلم حل بعد طوافه وسعيه، كما قال القاضي أبو يعلى وأصحابه، قال وقد بينا أن مستند هذا الوهم وهم معاوية أو من روى عنه أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة في حجته انتهى. والحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. تم الجزء الأول من كتاب: مفيد الأنام، ويليه الجزء الثاني وأوله باب صفة الحج. ْْْْْْْْْْْْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 -- باب: صفة الحج والعمرة وما يتعلق بذلك: نذكر في هذا الباب صفة الحج بعد حل المتمتع من عمرته، ونبدأ بذكر حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح عظيم مشتمل على جمل من مناسك الحج وفوائده، ونفائس من مهماته وقواعده، وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم ورواه ابن ماجة. قال مسلم في صحيحه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحق بن إبراهيم جميعاً عن حاتم، قال أبو بكر حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه قال دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى ثم نزع زري الأسفل ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب فقال مرحباً بك يا ابن أخي سل عما شئت فسألته وهو أعمى وحضر وقت الصلاة فقام في نساجه ملتحفاً بها كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا فقلت أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بيده فعقد تسعاً فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولّدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فأهلّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته. قال جابر رضي الله عنه لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول، ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين (قل هو الله أحد، قل يا أيها الكافرون) ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله) أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبل فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده؛ ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله: ألعامنا هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: (دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد) وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت: إن أبي أمرني بهذا، فقال فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال: صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال قلت: اللهم إني أهِل بما أهل به رسولك، قال فإن معي الهدي فلا تحل قال فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منة فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والغشاء والفجر ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضر له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول رباً أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يؤطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم أشهد اللهم أشهد ثلاث مرات، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورِك رَحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذن وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبيره وهلله ووحده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيما فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه) . وحدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا جعفر بن محمد حدثني أبي قال: أتيت جابر بن عبد الله فسألته عن حجته رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث بنحو حديث حاتم بن إسماعيل، وزاد في الحديث: (وكانت العرب يدفع بهم أبو سيَّارة على حمار عري فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه ويكون منزله ثم فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات فنزل) . حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي عن جعفر حدثني أبي عن جابر في حديثه ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف) وحدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعاً. انتهى حديث جابر بن عبد الله، قال عطاء كان منزل النبي صلى الله عليه وسلم بمنى بالخيف قاله في المغني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 ونتكلم الآن على شيء قليل من معانيه ولغته، فنقول وبالله التوفيق: قوله فسأل عن القوم، فيه أنه يستحب لمن ورد عليه زائرون أو ضيفان أن يسأل عنهم لينزلهم منازلهم كما في حديث عائشة (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم) وفيه إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل جابر بمحمد بن علي، ومنها استحباب قوله للزائر والضيف ونحوهما: مرحباً، ومنها ملاطفة الزائر بما يليق به وتأنيسه، وهذا سبب حل جابر زري محمد بن علي ووضع يديه بين ثدييه، وقوله: وأنا يومئذ غلام شام، فيه تنبيه على أن الرجل الكبير لا يحسن إدخال اليد في جيبه والمسح بين ثدييه، ومنها جواز تسمية الثدي للرجل، وقوله في نساجة: هي بكسر النون وتخفيف السين المهملة وبالجيم، وهو ثوب ملفق على هيئة الطيلسان، وقوله ورداؤه إلى جنبه على المشجب هو بميم مكسورة ثم شين معجمة ساكنة ثم جيم ثم باء موحدة، وهو: اسم لأعواد توضع عليها الثياب ومتاع البيت، وقوله: ثم ركب القصواء، هي بفتح القاف وبالمد: اسم لناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: وأهلّ الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته. قال القاضي عياض: فيه إشارة إلى ما روى من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذكر: كما روى في ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه كان يزيد: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوباً منك ومرغوباً إليك. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل. وعن أنس رضي الله عنه: لبيك حقاً تعبداً ورقاً، وقوله: استلم الركن، يعني الحجر الأسود، أي مسحه بيده، قوله: فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلخ، معنى هذا الكلام أن جعفر بن محمد روى هذا الحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 عن أبيه عن جابر قال: فكان أبي، يعنى محمداً يقول: إنه قرأ هاتين السورتين، قال جعفر: ولا أعلم أبي ذكر تلك القراءة عن قراءة جابر في صلاة جابر، بل عن جابر عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة هاتين الركعتين، وأما قوله: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس هو شكا في ذلك لأن لفظة العلم تنافي الشك بل جزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: هزم الأحزاب وحده، معناه هزمهم بغير قتال من الآدميين، ولا بسبب من جهتهم، والمراد بالأحزاب: الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. قوله: حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فيه دلالة لمذهب الجمهور وأن الذهاب من الصفا إلى المروة يحسب مرة، والرجوع إلى الصفا ثانية، والرجوع إلى المروة ثالثة وهكذا فيكون ابتداء السبع من الصفا وآخرها بالمروة، وقال ابن بنت الشافعي وأبو بكر الصيرفي من الشافعية وحكي عن ابن جرير يحسب الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا مرة واحدة فيقع آخر السبع في الصفا. وهذا الحديث الصحيح يرد عليهم حيث جاء فيه: حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، الحديث، وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان والله أعلم. قوله: فوجد فاطمة، إلخ، فيه إنكار الرجل على زوجته ما رآه منها من نقص في دينها لأنه ظن أن ذلك لا يجوز فأنكره، والتحريش الإغراء والمراد هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها، وأما قوله: وقصروا فإنما قصروا ولم يحلقوا مع أن الحلق أفضل، لأنهم أرادوا أن يبقى شعر يحلق في الحج، فلو حلقوا لم يبق شعر فكان التقصير هنا أحسن ليحصل في النسكين إزالة شعر والله أعلم. قوله فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، معنى أجاز جاوز المزدلفة ولم يقف بها بل توجه إلى عرفات قوله: فأتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 بطن الوادي، هو وادي عرنة بضم العين وفتح الراء وبعدها نون، قال النووي: وليست عرنة من أرض عرفات عند العلماء كافة إلا مالكاً فقال هي من عرفات. قوله: وجعل حبل المشاة بين يديه، روى حبل بالحاء المهملة وإسكان الباء، وروى جبل بالجيم وفتح الباء، قال القاضي عياض: والأول أشبه بالحديث، وحبل المشاة طريقهم الذي يسلكونه، وقيل أراد صفهم ومجتمعهم في مشيهم تشبيهاً بحبل الرمل، قوله: وقد شنق للقصواء الزمام إلى آخره، معنى شنق ضم وضيق، وهو بتخفيف النون، ومورك الرحل، قال الجوهري قال أبو عبيد: المورك والمورِكة يعني بفتح الميم وكسر الراء: هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب، وضبطه القاضي عياض بفتح الراء قال: وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب تجعل في مقدم الرحل شبه المخدة الصغيرة، وفي هذا استحباب الرفق في السير من الراكب بالمشاة وبأصحاب الدواب الضعيفة، قوله: كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد إلخ، الحبال هنا بالحاء المهملة المكسورة جمع حبل، وهو التل اللطيف من الرمل الضخم، قوله: ولم يسبح بينهما شيئاً، معناه لم يصل بينهما نافلة، والنافلة تسمى سبحة لاشتمالها على التسبيح، قوله: حتى أسفر جداً، قال النووي الضمير في أسفر يعود إلى الفجر المذكور أولا، قلت: ويحتمل أن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. وقوله جداً بكسر الجيم، أي إسفاراً بليغاً، قوله: ثم سلك الطريق الوسطي، إلخ، فيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة، وقوله: ما غَبَر، أي ما بقي، قوله صلى الله عليه وسلم: لولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم، معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 الاستقاء والله أعلم، انتهى ما أردناه من الكلام على حديث جابر. ونرجع إلى ذكر صفة الحج والعمرة وما يتعلق بذلك، فنقول: يستحب لمتمتع حل من عمرته ولغيره من المحلين بمكة وقربها الإحرام بالحج يوم التروية لقول جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم (فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج) ويوم التروية ثامن ذي الحجة، قال ابن رسلان: اعلم أن أيام المناسك سبعة: أولها سابع ذي الحجة وآخرها ثالث عشر. فالسابع ذكر مكي بن أبي طالب في باب عمل الحج أن اسمه يوم الزينة لأنهم كانوا يزينون محاملهم وهوادجهم للخروج، وأما يوم الثامن فاسمه يوم التروية بالتاء المثناة فوق، وسمي بذلك لترويهم فيه الماء، وسمي يوم النقلة لانتقالهم فيه من مكة إلى منى، والتاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، والحادي عشر يوم القر بفتح القاف وتشديد الراء، لأنهم قارون فيه بمنى، والثاني عشر يوم النفر الأول بفتح النون وسكون الفاء، والثالث عشر يوم النفر الثاني انتهى؛ قال الأصحاب: وسمي الثامن يوم التروية لأنهم كانوا يتروون فيه الماء لما بعده، أو لأن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة الثامن في المنام ذبح ابنه إسماعيل فأصبح يتروى في أمر الرؤيا ويفكر أهو حلم أم من الله تعالى؟ فلما كان ليلة عرفة رأى ذلك أيضاً فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: لأن تلك الأماكن لم تكن فيها إذ ذاك آبار وعيون، وأما الآن فقد كثرت جداً واستغنوا عن حمل الماء انتهى، ويسمى يوم الثاني عشر أيضاً بيوم الرؤوس كما يأتي: (فائدة) : عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إذا رأيت الماء بطريق مكة ورأيت البناء يعلو أخاشبها فخذ حذرك، وفي رواية: فإن الأمر قد أظلك انتهى، ومحل استحباب الإحرام بالحج يوم التروية لمن ذكرنا هو في حق غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 متمتع لم يجد هدياً وأراد الصيام فيستحب له أن يحرم بالحج من ليلة سابع ذي الحجة قبل الفجر ليصوم ثلاثة الأيام في إحرام الحج، ويكون آخر تلك الثلاثة يوم عرفة فيصوم السابع والثامن والتاسع، وإن أحرم ليلة السادس فصامه وصام السابع والثامن أجزأ لأنه أرفق به لا سيما في أيام الحر فإن الوقوف بعرفة مع الصيام يشق، قال في الفروع: والأشهر عن أحمد وعليه الأصحاب الأفضل أ، آخرها عرفة وفاقاً لأبي حنيفة، وعن أحمد يوم التروية وفاقاً لمالك والشافعي، وروى عن ابن عمر وعائشة، وفي البخاري عن ابن عباس تصوم قبل يوم عرفة وفي يوم عرفة لا جناح ولأن صومه بعرفة لا يستحب، وله تقديمها بإحرام العمرة نص عليه وهو أشهر لأن العمر سبب لوجوب صوم المتعة لأن إحرامها يتعلق به صحة التمتع فكان سبباً لوجوب الصوم كإحرام الحج انتهى ملخصاً، وتقدم ذلك في باب الفدية، قال في الإقناع وشرحه، ويستحب أن يفعل عند إحرامه من مكة أو قربها ما يفعله عند إحرامه من الميقات من غسل وتنظيف وتطيب في بدنه وتجرد ذكر من مخيط ولبس إزار ورداء أبيضين نظيفين ونعلين ثم بعد ذلك يطوف أسبوعاً ويصلي ركعتين انتهى. ومثله في المغني والشرح وغيرهما، قلت لم أطلع على دليل يقضي باستحباب الطواف قبل الإحرام بخلاف الصلاة قبله فإن العلماء قد ذكروا ذلك وتقدم والله أعلم. (فائدة) من أراد أن يضحي أو يُضحي عنه فإنه لا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئاً إذا أراد الإحرام بالحج أو العمرة أو بهما في عشر ذي الحجة لأن الأخذ من ذلك في العشر لمريد التضحية محرَّم، أما المتمتع إذا حل من عمرته في عشر ذي الحجة فإنه يقصر أو يحلق وجوباً ولا يحرم عليه ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 ولو ضحى أو ضُحي عنه لأن الحلق والتقصير نسك على الصحيح وتقدم ويأتي في باب الأضحية إن شاء الله تعالى، ثم بعد ذلك يحرم بالحج من المسجد الحرام والأفضل من تحت الميزاب، ذكره في المبهج والإيضاح لأبي الفرج الشيرازي ولم يذكر دليلاً على ذلك وكان عطاء يستلم الركن ثم ينطلق مهلاً بالحج ولا يطوف بعد إحرامه بالحج لوداعه نصاً لعدم دخول وقته لقول ابن عباس لا أرى لأهل مكة أن يطوفوا بعد أن يحرموا بالحج، ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى يرجعوا، فلو طاف وسعى بعده لم يجزه سعيه لأنه لم يسبقه طواف واجب ولا مسنون وفاقاً لمالك وخلافاً للشافعي، ويجوز إحرامه بالحج من حيث شاء من بقية الحرم ومن خارجه ولا دم عليه نصاً، وفي المغني إن أحرم من الجانب الآخر ثم سلك الحرم فلا شيء، نص عليه أحمد في رجل أحرم للحج من التنعيم فقال ليس عليه شيء وذلك لأنه أحرم قبل ميقاته، ولو أحرم من الحل ولم يسلك الحرم فعليه دم لأنه لم يجمع بين الحل والحرم انتهى ومثله في الشرح، ومنع القاضي أبو يعلى وأصحابه وجوب إحرامه من مكة والحرم وهو الذي مشى عليه المتأخرون من الحنابلة وهو المذهب، قال في المنتهى وشرحه: وجاز وصح إحرامه من خارج الحرم ولا دم عليه نصاً انتهى، وقال في المنتهى وشرحه أيضاً في باب المواقيت: ويصح أن يحرم من بمكة لحج من الحل كعرفة ولا دم عليه كما لو خرج إلى الميقات الشرعي وكالعمرة انتهى، وقال في الإقناع وشرحه في باب المواقيت: ويجوز إحرامه من الحل كالعمرة أو كما لو خرج إلى الميقات الشرعي ولا دم عليه لعدم الدليل على وجوبه انتهى ملخصاً، وتقدم في باب المواقيت حكم ما إذا أراد من بمكة أو الحرم الحج مكياً كان أو غيره، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 فإذا كان يوم التروية أحرم فيفعل كما فعل عند الميقات إن شاء أحرم من مكة وإن شاء من خارج مكة هذا هو الصواب، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرموا كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم من البطحاء، والسنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه وكذلك المكي يحرم من أهله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من كان منزله دون مكة فمهله من أهله حتى أهل مكة يهلون من مكة) . انتهى. قال ابن القيم رحمه الله: وكان صلى الله عليه وسلم يصلي مدة مقامه بمكة بمنزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة يعني بالأبطح فأقام بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة يوم الأحد، والاثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يوم الخميس ضُحى توجه بمن معه من المسلمين إلى منى فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم ولم يدخلوا إلى المسجد ليحرموا منه بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم فلما وصل إلى منى نزل بها وصلى بها الظهر والعصر وبات بها وكان ليلة الجمعة انتهى. ولا يخطب يوم السابع بعد صلاة الظهر بمكة لعدم وروده ثم يخرج يوم التروية من مكة محرماً إلى منى قبل الزوال فيصلي بها الظهر مع الإمام ويبيت بمنى إلى أن يصلي مع الإمام الفجر لقول جابر: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وهذا قول سفيان ومالك والشافعي وإسحق وأصحاب الراي، وليس ذلك واجباً بل سُنة لأن عائشة تخلفت ليلة عرفة حتى ذهب ثلثا الليل، وإن أحرم قبل يوم التروية كان ذلك جائزاً، وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأهل مكة ما لكم يقدم الناس عليكم شعثا إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج، وهذا مذهب ابن الزبير وقال الإمام مالك: من كان بمكة فأحب أن يهل من المسجد لهلال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 ذي الحجة انتهى، والمستحب الإحرام يوم التروية حين التوجه إلى منى كما تقدم وبهذا قال ابن عمر وابن عباس، قال شيخ الإسلام: والسنة أن يبيت الحجيج بمنى فيصلون بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ولا يخرجون منها حتى تطلع الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأما الإيقاد فهو بدعة مكروهة باتفاق العلماء، وإنما الإيقاد بمزدلفة خاصة بعد الرجوع من عرفة، أما الإيقاد بمنى أو عرفة فبدعة، ويسيرون من منى إلى نمرة على طريق ضب من يمين الطريق انتهى. قلت: طريق ضب هو الطريق المزفت الذي تسلكه السيارات في هذا الزمن فتسير معه وتكون مزدلفة على يسارك إذا كنت قاصداً عرفة ثم إذا سلكت طريق ضب المذكور. يكون مأزماً عرفة وعلماء الحرم على يسارك أيضاً، وأما الطريق الآخر فهو على جهة اليسار من مزدلفة فإذا سلكته صار المشعر الحرام على يمينك ثم تسير بين المأزمين فإذا جاوزت ما بينهما أتيت على علمي الحرم وعلى عرنة بالنون، وبين علمي الحرم المذكورين وجدار مسجد إبراهيم القبلي المسمى مسجد عرنة بالنون تقريباً ألف ذراع وثمانمائة ذراع بذراع اليد كما اختبرنا ذلك، وقال الأزرقي ألف ذراع وستمائة ذراع وخمسة أذرع انتهى، وقول شيخ الإسلام: وإنما الإيقاد بمزدلفة خاصة مراده ما يفعل سابقاً من إيقاد النار بها، قال الأزرقي في تاريخ مكة وساق بسنده إلى غنيم بن كليب عن أبيه عن جده قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في حجته وقد دفع من عرفة إلى جمع والنار توقد بالمزدلفة وهو يؤمها حتى نزل قريباً منها، وساق بسنده أيضاً عن نافع عن ابن عمر قال: كانت النار توقد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، يعني بالمزدلفة بعد الرجوع من عرفة انتهى، وقد أبدلت في زماننا هذا وقبله بالسرج التي توضع في منارة المشعر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 الحرام كما يأتي، ولو صادف يوم التروية يوم جمعة وهو مقيم بمكة ممن تجب عليه وزالت الشمس وهو بمكة فلا يخرج قبل صلاة الجمعة لوجوبها بالزوال، والخروج إلى منى في ذلك الوقت غير واجب وقب الزوال إن شاء خرج إلى منى وإن شاء أقام بمكة حتى يصلي الجمعة فإن خرج الإمام إلى منى أمر من يصل بالناس الجمعة إن اجتمع معه العدد لئلا تفوتهم، فإذا طلعت الشمس من يوم عرفة سار من منى إلى عرفة فأقام بنمرة ندبا حتى تزول الشمس، قال في الإقناع وشرحه: ونمرة موضع بعرفة وقيل بقربها وهو خارج عنها، وهو الجبل الذي عليه أنصاب؛ أي علامات الحرم على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف انتهى. قلت: وفي زمننا هذا ليست أنصاب الحرم على جبل بل هي على أرض مستوية كما هو مشاهد، قال في المنتهى وشرحه: فإذا طلعت الشمس سار من منى فأقام بنمرة: موضع بعرفة إلى الزوال ثم يأتي عرفة انتهى ملخصاً، قال في القاموس: ونمرة كفرحة: موضع بعرفات أو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمينك خارجاً على المأزمين تريد الموقف، ومسجدها معروف انتهى، قال في المصباح: ونمرة موضع قيل من عرفات وقيل بقربها خارج عنها انتهى، وقال النووي: ونمرة ليست من عرفة كعرنة انتهى. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ونمرة كانت قرية خارجة عن عرفات من جهة اليمين فيقيمون بها إلى الزوال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسيرون منها إلى بطن الوادي، وهو موضع النبي صلى الله عليه وسلم الذي صلى فيه الظهر والعصر وخطب وهو في حدود عرفة ببطن عرنة، وهناك مسجد يقال له مسجد إبراهيم وإنما بني في أول دولة بني العباس، فيصلي هناك الظهر والعصر قصراً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي خلفه جميع الحجيج أهل مكة وغيرهم قصراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وجمعاً يخطب بهم الإمام كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم على بعيره ثم إذا قضى الخطبة أذن المؤذن وأقام ثم يصلي كما جاءت بذلك السنة ويصلي بعرفة ومزدلفة ومنى قصراً، ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة ومزدلفة كما كان أهل مكة يفعلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر وعمر، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه أحداً من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفرٌ، ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ ولكن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى بهم بمكة، وأما في حجه فإنه لم ينزل بمكة ولكن كان نازلاً خارج مكة وهناك كان يصلي بأصحابه انتهى كلامه رحمه الله تعالى. قلت: وموضع نزوله صلى الله عليه وسلم في حجته كان بالأبطح أعلى مكة والله أعلم. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: نمرة قرية غربي عرفات وهي خراب اليوم نزل بها صلى الله عليه وسلم حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنة فخطب الناس، وتمامه يأتي، قال الأزرقي، ونمرة هو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف، وتحت جبل نمرة غار أربعة أذرع في خمسة أذرع ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزله يوم عرفة حتى يروح إلى الموقف وهو منزل الأئمة إلى اليوم، والغار داخل في جدار دار الإمارة في بيت في الدار ومن الغار إلى مسجد عرنة ألفا ذراع وأحد عشر ذراعاً انتهى. قلت في كلام الأزرقي نظراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة أي خيمة بنمرة فنزل بها لا بالغار وفي هذا الزمن لا يوجد على الجبل المذكور أنصاب للحرم وإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 أنصاب الحرم على وجه الأرض كما تقدم. قال ابن القيم رحمه الله وموضع خطبته صلى الله عليه وسلم لم يكن من الموقف فإنه خطب بعرنة وليست من الموقف وهو صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة وخطب بعرنة ووقف بعرفة انتهى، قال النووي: واعلم أنه ليس من عرفات وادي عرنة ولا نمرة ولا المسجد الذي يصلي فيه الإمام المسمى مسجد إبراهيم ويقال له مسجد عرنة بل هذه المواضع خارج عرفات على طرفها الغربي مما يلي مزدلفة وهذا نص الشافعي انتهى، قلت: كلام شيخ الإسلام وابن القيم والنووي المتقدم صريح في أن نمرة ليست من عرفة وهو الذي اتضح لنا بعد التحري الشديد والوقوف على تلك المواضع ومشاهدتها لأن حد عرفة من الغرب هو وادي عرنة بالنون، ونمرة هي غربي وادي عرنة من جهة الجرم، وكذلك مسجد عرنة المسمى مسجد إبراهيم ليس من عرفات، ولا عبرة بقول من قال: آخر المسجد من عرفات لأنه يكذبه الحس الظاهر بالمشاهدة لعلمي عرفة، ولأن نفس المسجد المذكور في بطن وادي عرنة بالنون وللوادي بقية من جهة عرفة شرقي المسجد، وكل ما ذكرناه يتضح بالوقوف والمشاهدة والله أعلم. وقال النووي أيضاً واعلم أن عرفة ونمرة بين عرفات والحرم ليستا من واحد منهما وأما جبل الرحمة ففي وسط عرفات انتهى وهو كما قال. (تنبيه) : لا ينافي هذا ما يأتي من أن من حد عرفة من الشمال وادي عرنة لأن الوادي مستطيل فهو حد لعرفة غرباً ومن حدها شمالاً والله أعلم. فإذا زالت الشمس استحب للإمام أو نائبه أن يخطب خطبة واحدة يقصرها لقول سالم بن عبد الله للحجاج بن يوسف يوم عرفة (إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة وعجل الصلاة، فقال ابن عمر صدق) رواه البخاري، ويفتتحها بالتكبير يعلم الناس فيها مناسكهم من الوقوف ووقته والدفع من عرفات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 والمبيت بمزدلفة وأخذ الحصا ورمى الجمار وغير ذلك من الحلق والنحر، فإذا فرغ من خطبته أمر بالأذان فنزل وصلى الظهر والعصر جمعاً بأذان للأولى وإقامتين لكل صلاة إقامة لحديث جابر، قال في الإقناع وشرحه: فإذا فرغ من خطبته نزل فصلى الظهر والعصر جمعاً إن جاز له الجمع كالمسافر سفر قصر بأذان وإقامتين، وكذلك يجمع غيره أي غير الإمام ولو منفرداً لأن الجماعة ليست شرطاً للجمع انتهى، قال في المنتهى وشرحه: ثم يجمع من يجوز له الجمع حتى المنفرد بين الظهر والعصر ويعجل انتهى، قال الشيخ محمد الخلوتي في حاشيته على المنتهى: قوله ويعجل، أي يجمع جمع تقديم انتهى وفيه قصور، والمراد بالتعجيل هو تعجيل الصلاة حين تزول الشمس، قال في المغني والشرح: والسنة تعجيل الصلاة حين تزول الشمس وأن يقصر الخطبة ثم يروح إلى الموقف لما روى سالم أنه قال للحجاج يوم عرفة (إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة وعجل الصلاة، فقال ابن عمر صدق) . رواه البخاري، ولأن تطويل ذلك يمنع الرواح إلى الموقف في أول وقت الزوال والسنة التعجيل في ذلك وتمامه فيه قول ولأن تطويل ذلك يمنع الرواح إلى الموقف، إلخ يعني يمنع الرواح إلى عرفة في أول وقت الزوال لأن السنة تعجيل الدخول إلى عرفة وعرفة كلها موقف، والله أعلم. قال في الإنصاف: تنبيه ظاهر كلام المصنف يعني الموفق أن أهل مكة ومن حولهم كغيرهم إذا ذهبوا إلى عرفة ومزدلفة ومنى، وهو صحيح، فلا يجوز لهم القصر، ولا الجمع على الصحيح من المذهب نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب، وجزم به في المستوعب وغيره وقدمه في الفروع، وقال اختاره الأكثر وقدمه في الفائق وقال: لا يجمع ولا يقصر عند جمهور أصحابنا، واختار أبو الخطاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 في العبادات الخمس والشيخ تقي الدين جواز القصر والجمع لهم فيعايابها، واختار المصنف يعني الموفق جواز الجمع فقط، قال في الفروع وهو الأشهر عن أحمد فيعايابها انتهى. وقال شيخ الإسلام: ثم لما خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى وعرفة خرج معه أهل مكة وغيرهم ولما رجع من عرفة رجعوا معه ولما صلى بمنى أيام منى صلوا معه ولم يقل لهم: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفرٌ ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم السفر لا بمسافة ولا بزمان ولم يكن بمنى أحد ساكن في زمنه، ولهذا قال (منى مناخ من سبق) ولكن قيل إنها سكنت في خلافة عثمان وأنه بسبب ذلك أتم عثمان الصلاة لأنه كان يرى أن المسافر من يحمل الزاد والمزاد ثم بعد ذلك يذهب إلى عرفات فهذه السنة، لكن في هذه الأوقات لا يكاد أحد يذهب إلى نمرة ولا إلى مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بل يدخلون عرفات فهذه السنة، بل يدخلون عرفات على طريق المأزمين ويدخلونها قبل الزوال ومنهم من يدخلها ليلاً ويبيتون بها قبل التعريف، وهذا الذي يفعله الناس كله يجزئ معه الحج، لكن فيه نقص عن السنة فيفعل ما يمكن من السنة مثل الجمع بين الصلاتين فيؤذن أذاناً واحداً ويقيم لكل صلاة انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى. قلت: ما ذكره شيخ الإسلام كان في زمنه، وأما زمننا هذا فإن غالب الحجاج يذهبون إلى عرفات من طريق ضب على السيارات وهو الطريق المبعد المزفت ويتمكنون من الذهاب إلى نمرة وإلى الصلاة في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم مع الإمام وبدونه للأمن الشامل في هذا الزمن من طريق المأزمين على السيارات وكذلك المشاة على الأقدام وأصحاب الدواب، وسنح لي هنا ما تذكرته سنة أربعين وإحدى وأربعين بعد الثلاثمائة والألف حين أتيت عرفات للحج فاستشهدت بهاتين الآيتين الكريمتين، وهما قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 تعالى: (واذكروا إذا أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) . وقوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا أرحم الراحمين، وسبق في كلام شيخ الإسلام أن السنة قصر الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى لأهل مكة وغير أهل مكة وكذلك الجمع بعرفة ومزدلفة لأهل مكة وغير أهل مكة وأن هذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما. (تنبيه) : الناس في زمننا هذا ثلاثة أقسام: قسم لا يجمع ولا يقصر في عرفة ومزدلفة ومنى، وقسم يجمع ولا يقصر فيهن، وقسم يقصر ويجمع بعرفة ومزدلفة ويقصر ولا يجمع بمنى، وهذا القسم الثالث هو الذي معه الدليل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر والله أعلم. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فلما طلعت الشمس سار صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفة وأخذ على طريق ضب على يمين طريق الناس اليوم وكان من أصحابه الملبي ومنهم المكبر وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء فوجد القبة قد ضربت له بنمرة بأمره، وهي قرية غربي عرفات وهي خراب اليوم فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت، ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنة فخطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة قرر فيها قواعد الإسلام وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية وخطب خطبة واحدة ولم تكن خطبتين جلس بينهما، وموضع خطبته لم يكن من الموقف فإنه خطب بعرنة، وليست من الموقف، وهو صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة وخطب بعرنة ووقف بعرفة، فلما أتم خطبته أمر بلالاً فأذن. ثم أقام الصلاة فصلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة وكان يوم جمعة؛ فدل أن المسافر لا يصلي جمعة ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة وصلوا بصلاته قصراً وجمعاً بلا ريب ولم يأمرهم بالإتمام ولا بترك الجمع، ومن قال إنه قال لهم: أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفرٌ فقد غلط فيه غلطاً بينا ووهم وهما قبيحاً، وإنما قال لهم ذلك في غزوة الفتح بجوف مكة حيث كانوا في ديارهم مقيمين انتهى. (تنبيه) : السنة أن يقيم بنمرة يوم عرفة إلى الزوال ثم يسير منها إلى بطن وادي عرنة بالنون ويصلي هناك الظهر والعصر جمعاً وقصراً ويخطب بهم الإمام في حدود عرفة ببطن عرنة وهو موضع المسجد الآن، وهذا هو الذي يدل له حديث جابر، وأما عبارة المنتهى وشرحه كالإقناع فإنها تقتضي أن السنة الإقامة بنمرة إلى الزوال والصلاة جمعاً بها وأنها من عرفة، ولكن حديث جابر صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل الظهر والعصر من يوم عرفة بنمرة، وإنما أقام صلى الله عليه وسلم بنمرة إلى الزوال فقط ثم ارتحل وسار منها إلى بطن وادي عرنة فصلى هناك الظهر والعصر جمعاً وقصراً ببطن عرنة وهي ليست من عرفة كما في الحديث (وارفعوا عن بطن عرنة) كما أن نمرة ليست من عرفة بطريق الأولى، لأنها غربي عرنة بالنون من جهة الحرم وتقدم ذلك ولكن أعدناه للتأكيد وإزالة الإشكال الذي وقع فيه الفقهاء ومؤلفو المناسك، والله أعلم. قال ابن القيم رحمه الله: فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته الظهر والعصر ركب حتى أتى الموقف فوق في ذيل الجبل عند الصخرات واستقبل القبلة وجعل حبل الماشة بين يديه وكان على بعيره، فأخذ في الدعاء والتضرع والابتهال إلى غروب الشمس وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عرنة وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) وأرسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم ويقفوا بها فإنها من إرث أبيهم إبراهيم، وكذلك هناك أقبل ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال (الحج يوم عرفة من أدرك قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج أيام منى ثلاثة أيام التشريف فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه) انتهى ملخصاً، قال في الإقناع وشرحه، ثم يأتي موقف عرفة ويغتسل له، أي للوقوف استحباباً انتهى. قال شيخ الإسلام: الاغتسال لعرفة قد روى في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن ابن عمر، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال غسل الإحرام والغسل عند دخول مكة والغسل يوم عرفة وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار والطواف والمبيت بمزدلفة، فلا أصل له لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا استحبه جمهور الأئمة، لا مالك ولا أبو حنيفة ولا أحمد وإن كان قد نقله طائفة من متأخري أصحابه بل هو بدعة إلا أن يكون هناك سبب يقتضي الاستحباب مثل أن يكون عليه رائحة يؤذي الناس بها فيغتسل لإزالتها انتهى، قال في المغني والشرح والمنتهى والإقناع وغيرها وحد عرفات من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر انتهى. وذكر الأزرقي بسنده عن ابن عباس أنه قال حد عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبال عرفة إلى وصيق إلى ملتقى وسيق ووادي عرنة انتهى. وهذا مطابق لحدود عرنة بالمشاهدة، وقوله إلى جبال عرفة هي سلسلة الجبال والهضاب المتصل بعضها ببعض من الشرق والجنوب، قال النووي قال إمام الحرمين ويطيف بمنعرجات عرفات جبال وجوهها المقبلة من عرفات انتهى، وهذا تحديد جامع مفيد، وقال النووي أيضاً: وأما عرفات فحدها ما جوز وادي عرنة، أي جاوز الوادي من جهة عرفات إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 تنسب إلى عبد الله بن عامر بن كريز بن خال عثمان بن عفان الذي افتتح فارس وخراسان، وقد اكتشفتها في خامس عشر صفر سنة ألف وثلاثمائة وثمان وثمانين هجرية فوجدت الساقي الذي يجري معه ماء العين مستطيلاً ومشيت معه جنوباً شرقاً حتى أتيت على موضع بركة العين فوجدتها مبنية هي وساقيها بالحجارة والنورة القوية الصلبة وقد عجزت عن فصل النور من الحجارة، وهذا هو أول اكتشاف لبساتين ابن عامر وعينها، ووجدت موضعها على طبق ما حدده الشافعي، لأن الجبال المقابلة لوادي عرنة في قول الشافعي هي سلسلة الجبال والهضاب الجنوبية والشرقية المتصل بعضها ببعض التي هي حدود عرفة، فبساتين ابن عامر داخلة في عرفة، لأنها دون الهضاب الشرقية، والجنوبية التي هي حدود عرفة والحاصل أن حدود عرفة من جهاتها الأربع هي من الشرق الجبل المشرف المسمى سعدا وما اتصل به من الجبال إلى الهضاب الجنوبية التي هي حدود عرفة جنوباً إلى أن تلتقي بوادي عرنة على مسامته جبل نمرة، وحدود عرفة من الجهة الشرقية الشمالية هي من الجبل المشرف سعد المذكورة وما اتصل به من الجبال إلى وصيق وملتقى وصيق ووادي عرنة فحد عرفة من الشمال ملتقى وصيق بوادي عرنة وحدها من الغرب وادي عرنة، أما مسجد عرنة فإنه في نفس الوادي، والوادي هو حد عرنة من الغرب وبمشاهدة علمي عرفة القديمين يتضح أن جميع المسجد ليس من عرفة، ويقال إن صدر هذا المسجد كانت بنايته في المحل الذي خطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطبة البليغة، وصلى فيه رسول الله صلى عليه وسلم يوم عرفة صلاة الظهر والعصر جمع تقديم، وذلك في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة النبوية والعلمان القديمان المذكوران يقعان شرقاً شمالاً عن المسجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 المذكور وهما فاصلان بين عرفة ووادي عرنة من جهة الغرب عن عرفة، فما كان شرقاً عن العلمين المذكورين فهو من عرفة، وما كان غرباً عنهما فمن عرنة، وقد وجدت مكتوباً على العلم الجنوبي منهما في حجر ملزق بالعلم ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين أمر بعمارة علمي عرفات المفروض القيام بها على كافة الأنام في حجة الإسلام سيدنا ومولانا الإمام الأعظم مفترض الطاعة على كافة الأمم أبو جعفر المنصور عبد الله أمير المؤمنين أمتع الله بطول بقائه، وله بقية لم نتمكن من قراءتها لصعوبة معرفتها، وتاريخ اكتشافي لما هو مكتوب في العلم المذكور في جمادى الأولى سنة سبعين وثلاثمائة وألف فليعتمد ذلك، قال الأزرقي: حدثني جدي قال حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح قال رأيت الفرزدق جاء إلى قوم من بني تميم في مسجد لهم بعرفة معهم مصاحف لم يبعد مكانهم من موقف الإمام فوقف عليهم ففداهم بالأب والأم، وقال إنكم على إرث من إرث آبائكم. ويسن أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة، واسمه إلال بوزن هلال وبعض العامة تسمية القرين بضم القاف مصغراً ولا يشرع صعوده، ويقال لجبل الرحمة أيضا جبل الدعاء، ويقف مستقبل القبلة راكباً، قال ابن الحاج: وهذا مستثنى من النهي عن اتخاذ ظهور الدواب مجلساً يجلس عليها انتهى لحديث جابر عنه عليه الصلاة والسلام فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، وقوله حبل المشاة: أي طريقهم الذي يسلكونه، وقيل أراد صفهم ومجتمعهم في مشيهم تشبيها بحبل الرمل، وهذا بخلاف سائر المناسك والعبادات فإنه يفعلها راجلاً، وفي الانتصار ومفردات أبي يعلى الصغير أفضلية المشي في الحج على الركوب، وهو ظاهر كلام ابن الجوزي في مثير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 الغرام الساكن فإنه ذكر أن الحسن بن علي حج خمس عشرة حجة ماشياً، وذكر غيره خمسا وعشرين والجنائب تقاد معه. قلت: أما الوقوف بعرفة فقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم بها راكبا، ولنا به صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، قال شيخ الإسلام: وتختلف أفضلية الحج راكباً أو ماشياً بحسب الناس، والركوب واقفاً أفضل انتهى ويرفع يديه واقف بعرفة ولا يجاوز بهما رأسه. (تنبيه) : إذا كان بعرفة غرباً عن جبل الرحمة الذي وقف عنده صلى الله عليه وسلم أو شمالاً أو جنوباً عنه، فإن لا يستقبل الجبل المذكور وإنما يستقبل القبلة هذه هي السنة، وقد رأيت أكثر الحجاج حين الوقوف بعرفات يستقبلون الجبل ويدعون وهم متوجهون إلى الشرق أو الجنوب أو الشمال ويقولون نحن نشاهد الجبل، وغالبهم لا يطمئن إلا برويته للجبل في منزله بعرفه وحين الدعاء فينبغي التنبه لهذا وتبيه الناس على استقبال القبلة حين الوقوف والدعاء، أما إذا كان الواقف بعرفات شرقاً عن جبل الرحمن فإنه إذا استقبله يكون مستقبلاً للقبلة ولكن ليس هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقف فيه بعرفة كما يأتي، والله أعلم. (تنبيه آخر) : السنة أن يقف بعرفات عند الصخرات لحديث جابر المتقدم، وفيه (فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة) والصخرات المذكورات لم أر من الفقهاء ولا من مؤلفي المناسك ولا من شراح الحديث من عيَّن موضعها، وفي تواريخ مكة شيء من بيان موضعها لكنه غير محرر فلا يكفي ولا يشفي، ولم أعلم إلى ساعتي هذه من حرر موضعها تحريراً واضحاً، وقد صار عادة أهل نجد سابقاً ولاحقاً يقفون هناك على الإبل في حفرة شرقاً عن جبل الرحمة وهم فيها مستقبلون للقبلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 لكن هذه الحفرة ليست والله أعلم موقف النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا ينطبق على موضعها حديث جابر حيث جاء فيه (وجعل حبل المشاة بين يديه) ومن كان واقفاً في الحفرة المذكورة لا يكون بين يديه حبل مشاة فرضي الله عن جابر بن عبد الله لقد وصف موقف النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً واضحاً، والذي ينطبق عليه هو المحل الكائن عند الجبل من جهته الجنوبية، فإذا وقفت فيه صار الحبل المسمى جبل الرحمة على يمينك وكنت حينئذ مستقبلاً القبة وصار حبل المشاة بين يديك تشاهدهم وهم يمشون، وهناك الصخرات عليها بناية من الجهات الأربع على هيئة المسجد وفيه محراب، وكان أمراء مكة من السابق يقفون في هذا الموضع، والله أعلم. (فائدة) يجب على كل من أراد نجاة نفسه أن يتوب إلى الله توبة نصوحاً لا سيما في هذا الموقف العظيم ويستحضر بقلبه عظمة ربه أرحم الراحمين ويخلص أعماله لله رب العالمين. وروى ابن ماجة في سننه، قال: قالت عائشة رضي الله عنها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عدباً من النار من يوم عرفة، فإنه ليدنو عز وجل، ثم يباهي بكم الملائكة، فيقول ما أراد هؤلاء؟) قال في المغني: ويستحب أن يكون مفطراً ليتقوى على الدعاء مع أن صومه بغير عرفة يعدل سنتين انتهى، ويكثر الدعاء والاستغفار والتضرع وإظهار الضعف والافتقار ويلح في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة ويجتنب السجع ويكرر الدعاء ثلاثاً ويكثر من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، والله اجعل في قبري نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، ويسر لي أمري، ويدعو بما أحب ومما ورد أفضل، ومنه: اللهم إنك ترى مكاني وتسمع كلامي وتعلم سري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وعلانيتي ولا يخفى عليك شيء من أمري أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته وذل لك جسده وفاضت لك عيناه ورغم لك أنفه، يا من لا يشغله سمع عن سمع ولا تشتبه عليه الأصوات، يا من لا تغلطه المسائل ولا تختلف عليه اللغات، يا من لا يبرمه إلحاح الملحين ولا تضجره مسألة السائلين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك برحمتك يا أرحم الراحمين. وفي الحديث (أفضل الدعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له) رواه مالك في الموطأ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير) . رواه الترمذي، وروى عن سفيان الثوري قال: رأيت أعرابياً وهو مستلق بعرفة يقول: إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني وقد خلقتني ضعيفاً؟ ومن أولى بالعفو عني منك وعلمك في سابق وأمرك بي محيط، أطعتك بإذنك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي وبفقري إليك وغناك عني أن تغفر لي وترحمني، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني ولم أسيء حتى قضيت عليّ، اللهم أطعتك بنعمتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك الشرك بك فاغفر لي ما بينهما، اللهم أنت أنيس المؤنسين لأوليائك وأقربهم بالكفاية للمتوكلين عليك تشاهد ما في ضمائرهم وتطلع على سرائرهم وسري لك اللهم مكشوف وأنا إليك ملهوف، إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك، وإذا صبت إليّ الهموم لجأت إليك استجارة بك علماً أن أزمة الأمور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 بيديك ومصدرها عن قضائك، وكان إبراهيم بن إسحاق الحربي يقول: اللهم قد آويتني من ضنأي بالفتح والمد: أي تعبي، وبصرتني من عمائي وهديتني من جهلي وجفائي أسألك ما يتم به فوزي وما آمل في عاجل دنياي وديني ومأمول أجلي ومعادي ثم لا أقدر على أداء شكره إلا بتوفيقك وإلهامك إذ هيجت قلبي القاسي على الشخوص إلى حرمك وقويت أركاني الضعيفة لزيارة عتيق بيتك ونقلت بدني إلى مواقف حرمك اقتداء بسنة خليلك واحتذاء على مثال رسولك صلى الله عليه وسلم واتباعاً لآثار خيرتك من خلقك وأنبيائك وأصفيائك، وأدعوك في مواقف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومناسك السعداء ومشاهد الشهداء دعاء من أتاك لرحمتك راجياً وعن وطنه نائياً ولقضاء نسكه مؤدياً ولفرائضك قاضياً ولكتابك تالياً ولربه عز وجل داعياً ملبياً ولقلبه شاكياً ولذنبه خاشياً ولحظه مخطئاً ولرهنه مغلقا ولنفسه ظالماً وبجرمه عالماً، دعاء من عمت عيوبه وكثرت ذنوبه وتصرمت أيامه واشتدت فاقته وانقطعت مدته، دعاء من ليس لذنبه سواك غافراً ولا لعيبه غيرك مصلحاً ولا لضعفه غيرك مقوياً ولا لكسره غيرك جابراً ولا لمأمول خير غيرك معطياً ولا لما يتخوف من حر ناره غيرك معتقاً. اللهم وقد أصبحت في بلد حرام في شهر حرام في فئام من خير الأنام، أسألك أن لا تجعلني أشقى خلقك المذنبين عندك ولا أخيب الراجين لديك ولا أحرم الآملين لرحمتك الزائرين لبيتك ولا أخسر المنقلبين من بلادك. اللهم وقد كان من تقصيري ما قد علمت ومن توبيقي نفسي ما قد عرفت ومن مظالمي ما قد أحصيت، فكم من كرب قد نجيت ومن غم قد جليت ومن هم قد فرجت ومن دعاء قد استجبت ومن شدة قد أزلت ورخاء قد أنلت، منك النعماء وحسن العطاء ومني الجفاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وطول الاستعصاء والتقصير عن أداء شكرك، لك النعماء يا محمود فلا يمنعك من إعطائي مسألتي من حاجتي إلى حيث انتهى لها سؤالي ما تعرف من تقصيري وما تعلم من ذنوبي وعيوبي. اللهم فأدعوك راغباً وأنصب لك وجهي طالباً وأضع لك خدي مذنباً راهباً فتقبل دعائي وارحم ضعفي وأصلح الفساد من أمري واقطع من الدنيا همي وحاجتي واجعل فيما عندك رغبتي. اللهم واقلبني منقلب المدركين لرجائهم المقبول دعاؤهم المفلوج حجتهم المبرور حجهم المغفور ذنبهم المحطوط خطاياهم الممحو سيئاتهم المرشود أمرهم، منقلب من لا يعصى لك بعده أمراً ولا يأتي بعده مأثماً ولا يركب بعده جهلا ولا يحمل بعده وزراً، منقلب من عمرت قلبه بذكرك ولسانه بشكرك وطهرت الأدناس من بدنه واستودعت الهدي قلبه وشرحت بالإسلام صدره وأقررت قبل الممات بعفوك عينه وأغضضت عن المآثم بصره واستشهدت في سبيلك نفسه برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً كما يحب ربنا ويرضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويكثر من قول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسن وقنا عذاب النار) . اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ويكثر البكاء مع ذلك فهناك تسكب العبرات وتقال العثرات. قال الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن رجب في اللطائف بعد كلام سبق وفضل يوم عرفة مشهور، ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال أي آية؟ قال قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكن نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 عمر رضي الله عنه: إني لأعرف اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة، فهذه الآية تشهد لما روى في يوم عرفة أنه يوم المغفرة والعتق من النار، فيوم عرفة له فضائل متعددة منها: أنه يوم إتمام الدين، وإكمال النعمة، ومنها أنه عيد لأهل الإسلام كما قال عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما، ويشرع صيامه لأهل الأمصار، ومنها أنه قيل إنه الشفع الذي أقسم الله تعالى به في كتابه وأن الوتر يوم النحر، وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه، قال تعالى: (وشاهد ومشهود) الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم الجمعة وقيل بالعكس، ومنها أنه روى أنه أفضل الأيام، قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأيام يوم عرفة) وذهب إلى ذلك طائفة من العلماء ومنهم من قال: يوم النحر أفضل. قلت: وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله. ومنها أنه روى عن أنس بن مالك قال: إنه كان يقال يوم عرفة بعشرة آلاف يوم يعني في الفضل. ومنها أنه يوم الحج الأكبر عن جماعة من السلف، وقيل يوم الحج الأكبر يوم النحر. قلت: وهو الصحيح الذي تدل عليه السنة وإن كان الشيخ عبد الرحمن بن رجب رحمه الله حكاه بصيغة التمريض. ومنها أن صيامه كفارة سنتين. قلت لغير الحاج الواقف بعرفة فإنه لا يستحب له صومه تطوعاً والله أعلم. ومنها أنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وليحذر من الذنوب التي تمنع من المغفرة والعتق من النار، فمنها الاختيال، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما يرى أكثر عتيقاً ولا عتيقة من يوم عرفة لا يغفر الله لمختال) والمختال هو المتعاظم في نفسه المتكبر، قال الله تعالى: (والله لا يحب كل مختال فخور) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء) . ومنها الإصرار على الكبائر، من يطمع في العتق من النار يمنع نفسه من الرحمة بالإصرار على كبائر الإثم والأوزار، بالله ما نصحت لنفسك ولا وقف على طريقك غيرك. توبق نفسك بالمعاصي فإذا حرمت المغفرة. قلت من أين هذا (قل هو من عند أنفسكم) . فنفسك لُم ولا تلم المطايا ... ومت كمداً فليس لك اعتذار. إذا كنت تطمع في العتق من النار فاشتر نفسك من الله فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. من كرمت عليه نفسه هان عليه كل ما يبذل في انفكاكها من النار. اشترى بعض الصالحين نفسه من الله ثلاث مرات أو أربعا فتصدق بوزنه فضة. واشتر عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من الله ست مرات يتصدق بها، واشترى حبيب نفسه من الله بأربعين ألفاً تصدق بها، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يسبح كل ليلة اثنتي عشرة ألف تسبيحة يفك بذلك نفسه. من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل. ويحك قد رضينا منك بفكاك نفسك بالندم وقنعنا منك بثمنها بالتوبة والحزن وفي هذا الموسم قد رخص السعر. من ملك سمعه وبصره ولسانه غفر له. مد غليه يد الاعتذار وقم على بابه بالذل والانكسار وارفع قصة ندمك على صحيفة خدك بمداد الدموع الغزار. وقل: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) . كانت أحوال الصادقين في الموقف فر عفة تتنوع: فمنهم من كان يغلب عليه الخوف والحياء. توافق مطرف بن عبد الله بن الشخير وبكر المزني فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي، وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم. وقف الفضيل بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 المحترقة وقد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال واسواتاه منك وإن عفوت عني. وقف بعض العافين بعرفة إلى غروب الشمس فنادى: الأمان الأمان فقد دنا الانصراف فياليت شعري ما فعلت بحاجة المسكين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وإني لأدعو الله أسأل عفوه ... وأعلم أن الله يعفو ويغفر. لأن أعظم الناس الذنوب فإنها ... وإن عظمت في رحمة الله تصغر. انتهى ملخصا من اللطائف، قلت ما قاله الفضيل بن عياض رحمه الله هو في حق الواقفين بعرفات المخلصين أعمالهم لله عز وجل الذين لم يصرفوا شيئاً من عباداتهم لغيره، أما من صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله من دعاء الله من دعاء أو خوف أو رجاء أو توكل أو رغبة أو رهبة أو خشية أو خشوع أو استعانة أو استغاثة أو استعاذة أو ذبح أو نذر أو غيرها من العبادات، فهذا قد ارتكب ظلماً عظيماً مانعاً لمغفرته ما دام مصراً على شركه، كمن يدعو الله ويراقب شيخه في دعائه كما يفعله أتباع مشايخ الطرق فإن المريدين يراقبون مشايخهم في عباداتهم وأذكارهم فيصرفون مرتبة الإحسان التي لا تصلح إلا الله جل وعلا لمشايخهم، ومشايخهم يشترطون على أتباعهم مراقبتهم في جميع حالاتهم، فإن لله وإنا إليه راجعون. ووقت الوقوف بعرفة من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر هذا هو المذهب لحديث عروة بن مضرس الطائي قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت يا رسول الله إني جئت من جبلي طيء أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) . رواه الخمسة وصححه الترمذي، ولفظه له ورواه الحاكم وقال صحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 على شرط كافة أئمة الحديث، ولأن ما قبل الزوال من يوم عرفة فكان وقتاً للوقوف كما بعد الزوال، وتركه صلى الله عليه وسلم الوقوف فيه لا يمنع كونه وقتاً للوقوف كما بعد العشاء، وإنما وقف النبي صلى الله عليه وسلم وقت الفضيلة، وقوله في الحديث: جئت من جبلي طيء هما أجا وسلما جبلان معروفان بقرب بلد حائل، وقوله والله ما تركت من حبل يروى بالحاء المهملة أحد حبال الرمل: وهو ما اجتمع منه واستطال، وروى جبل بالجيم والله أعلم، واختار شيخ الإسلام وأبو حفص العكبري وحكي إجماعا أن وقت الوقوف من الزوال يوم عرفة، وهو قول مالك والشافعي وأكثر الفقهاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقف بعد الزوال وقد قال: (خذوا عني مناسككم) إلى طلوع فجر يوم النحر لقول جابر: (لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع) فقال أبو الزبير فقلت له أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال نعم. قلت: وفائدة الخلاف في ذلك أنه لو وقف أول النهار ثم خرج من عرفة قبل الزوال ولم يعد إليها صح حجه وعليه دم هذا على المذهب، وعلى مقابله إذا خرج من عرفة قبل الزوال ولم يعد إلهيا في وقت الوقوف لم يصح حجه، والله أعلم. فعلى المذهب من حصل بعرفة في وقت الوقوف وهو من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر ولو لحظة مختاراً ولو ماراً بها راجلاً أو راكباً ولو في طلب غريم أو طلب نحو دابة شاردة أو عبد آبق أو نائماً أو جاهلاً بأنها عرفة وهو من أهل الوقوف بأن يكون مسلماً عاقلاً محرماً بالحج صح حجه وأجزأ عن حجة الإسلام إن كان حرا بالغاً وإلا فنفل لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (وقد أتى عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة؛ وقال أبو ثور لا يجزئه لأنه لا يكون واقفاً إلا بإرادة، ودليل الأئمة الأربعة عموم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 الحديث المذكور، ولا يصح الوقوف من مجنون ومغمى عليه وسكران وفاقاً للشافعي لعدم عقله إلا أن يفيقوا وهم بعرفات قبل خروج وقت الوقوف، وكذا لو أفاقوا بعد الدفع منها وعادوا فوقفوا بها في وقت الوقوف. وقال مالك وأصحاب الرأي في المغمى عليه يجزئه، ومن فاته الوقوف بعرفة قبل طلوع فجر يوم النحر فاته الحج لحديث جابر، ويستحب أن يقف طاهراً من الحدثين ومن نجاسة ببدنه وثوبه كسائر المناسك، ويصح وقوف الحائض إجماعاً ووقفت عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما حائضاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشترط للوقوف طهارة ولا سترة ولا استقبال القبلة ولا نية، لكن كشف العورة محرّم وعكس الوقوف إحرام وطواف وسعي، لا يصير من حصل بالميقات محرماً بلا نية لأن الإحرام هو النية كما سبق، وكذا الطواف والسعي لا يصحان بلا نية وتقدم. ويجب أن يجمع في الوقوف بين الليل والنهار من وقف نهاراً لفعله صلى الله عليه وسلم مع قوله (خذوا عني مناسككم) فإن دفع من عرفة قبل غروب الشمس فعليه دم كدم متعة وهو ذبح شاة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لأنه ترك واجباً وهو الوقوف في جزء من أجزاء الليل، ولا يفسد الحج بتركه أشبه ترك الإحرام من الميقات، وصيام ثلاثة الأيام في الحج في هذه الصورة يتعين عنها صيام ثلاثة أيام التشريق لأنه لم يبق من أيام الحج سواها والله أعلم. وإن عاد إلى عرفة قبل الغروب ووقع الغروب وهو بها فلا دم عليه، لأنه أتى بالواجب وهو الجمع بين الليل والنهار في الوقوف، قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه: ويجب أن يجمع في الوقوف بين الليل والنهار من وقف نهاراً، فإن دفع قبل الغروب فعليه دم إن لم يعد قبله ويقع الغروب وهو بها، قال في الشرح الكبير: لأنه عليه الوقوف حال الغروب وقد فاته بخروجه فأشبه من تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم عاد إليه انتهى. قال في الإنصاف: ومن وقف بعرفة نهاراً ودفع قبل غروب الشمس فعليه دم، هذا المذهب، ثم قال تنبيه محل وجوب الدم إذا لم يعد إلى الموقف قبل الغروب هذا الصحيح من المذهب جزم به في المغني والشرح والوجير، وغيرها وقدمه في الفروع وغيره، وقال في الإيضاح لأبي الفرج الشيرازي ولم يعد إلى الموقف قبل الفجر وقاله ابن عقيل في مفرداته، فإن عاد إلى الموقف قبل الغروب أو قبل الفجر عند من يقول به فلا دم عليه على الصحيح من المذهب وعليه أكثرهم جزم به في الوجيز وغيره وقدمه في الفروع وقيل عليه دم مطلقاً. وفي الواضح وشرح المنتهى: لو عاد إليه قبل الفجر فلا دم عليه لأنه أتى بالواجب وهو الوقوف في الليل والنهار فلم يجب عليه دم كمن تجاوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 الميقات غير محرم ثم رجع إليه فأحرم منه، والذي يظهر أن شارح المنتهى قال ذلك تبعاً لابن عقيل انتهى كلام الشيخ سليمان. قلت: وقد تبع الشيخ منصور في شرحه على المنتهى الشيخ الفتوحي في شرحه عليه. وعبارة الإقناع: ويجب أن يجمع في الوقوف بين الليل والنهار من وقف نهاراً، فإن دفع قبل غروب الشمس فعليه دم إن لم يعد قبله انتهى، فكلام صاحب الإقناع صريح في مخالفة شرح المنتهى، ثم قال منصور في شرح الإقناع: فإن عاد إلهيا ليلاً فلا شيء عليه، والظاهر أنه قال ذلك متابعة للفتوحي في شرحه على منتهاه من غير نظر إلى الترجيح كما تابعه أيضاً في شرحه للمنتهى وكما جرى عليه في شرح المختصر. وعبارة المغني باختصار: فإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهاراً فوقف حتى غربت الشمس فلا دم عليه، فإن لم يعد حتى غربت الشمس فعليه دم لأن عليه الوقوف حال الغروب وقد فاته بخروجه وكذا عبارة الشرح الكبير. إذا تقرر هذا فالمذهب كما في المغني والشرح والإنصاف ومتن الإقناع ومتن المنتهى والمختصر وغيرها أن من وقف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 نهاراً ودفع قبل الغروب فعليه دم إن لم يعد قبل الغروب ويقع الغروب وهو بعرفة. وقال ابن عقيل في مفرداته إن عاد إلى الموقف قبل الفجر فلا دم عليه وتبعه في الإيضاح ومشى عليه الشيخ محمد الفتوحي في شرح المنتهى وتبعه الشيخ منصور البهوتي في شروحه على الإقناع والمنتهى والمختصر والله أعلم. وإن وافى عرفة ليلاً فقط فلا دم عليه بعدم وقوفه جزءاً من النهار لأنه ليس بواجب على من لم يوافها إلا ليلاً ووقف بها، قال في المغني والشرح لا نعلم فيه مخالفاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج) ولأنه لم يدرك جزءاً من النهار فأشبه من منزله دون الميقات إذا أحرم منه. قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه ولعل سقوط الدم عنه فيما إذا منعه عذر عن الوقوف نهاراً انتهى. قلت كلام الأصحاب مطلق في أنه لا دم على من لم يواف عرفة إلا ليلاً ولم يقيدوه بما إذا كان له عذر عن الوقوف نهاراً لأن الوقوف نهاراً ليس بواجب على من لم يواف عرفة إلا ليلا، والله أعلم. (فائدة) : إذا خاف فوت الوقوف بعرفة إن صلى صلاة آمن صلى صلاة خائف إن رجا إدراك الوقوف لما في فوت الحج من الضرر العظيم، قال في شرح المختصر: وإذا اشتد الخوف صلوا رجالاً وركباناً للقبلة وغيرها يومئون طاقتهم، وكذا حالة هرب مباح من عدو أو سيل ونحوه أو خوف فوت عدو يطلبه أو وقت وقوف بعرفة انتهى، فعلى هذا إذا خاف فوت الوقوف بعرفة صلى الفريضة راجلاً أو راكباً في سيارة أو على دابة أو غيرهما للقبلة أو غيرها ويوميء بقدر طاقته والله أعلم. (فائدة) وقفة الجمعة في آخر يومها ساعة الإجابة للخبر، فإذا اجتمع فضل يوم الجمعة ويوم عرفة كان لهما مزية على سائر الأيام. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وأما ما استفاض على ألسنة العوام بأنها تعدل اثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له انتهى. قال الفاسي في الإعلام وفي سنة عشرين وسبعمائة وقف الناس بعرفة يوم الجمعة وهذه تكملة مائة جمعة وقفها المسلمون من الهجرة النبوية إلى الآن قال البرزالي انتهى. وإن وقف كل الحجيج الثامن أو العاشر خطأ أجزأهم، أو وقوف الحجيج إلا يسيراً الثامن أو العاشر خطأ أجزأهم نصاً فيهما. قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه: ولو رأى الهلال طائفة قليلة لم ينفردوا بالوقوف بل الوقوف مع الجمهور، واختار في الفروع أنه يقف من رآه في التاسع ومع الجمهور وهو حسن انتهى كلامه. قلت الوقوف بعرفة مرتين بدعة لم يفعله السلف كما سنوضحه في باب الفوات والإحصار بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : من دفع قبل غروب الشمس من المحل الذي وقف فيه بعرفة لأجل الزحمة ونيته أن يتقدم إلى السعة ولا يخرج من عرفة بل يقف بها حتى تغرب الشمس وهو بها لم يضره ذلك والله أعلم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ويقفون بعرفة إلى غروب الشمس لا يخرجون منها حتى تغرب، فإذا غربت يخرجون إن شاءوا بين العلمين وإن شاءوا من جانبهما، والعلمان الأولان حد عرفة فلا يجاوزهما حتى تغرب الشمس، والميلان بعد ذلك حد مزدلفة وما بينهما حد عرنة ولا يقف ببطن عرنة، قلتك لما كان العلمان الأولان حد عرفة فإن مسجد عرنة المسمى مسجد إبراهيم هو في عرنة بلا إشكال فلا يجزئ الوقوف به وتقدم، وقول الشيخ رحمه الله والميلان بعد ذلك حد مزدلفة، أقول الميلان المذكوران هما علمان للحرم والله أعلم. قال الحطاب نقلاً عن تاريخ الفاسي: وعرنة التي يجتنب الحاج الوقوف فيها هي واد بين العلمين اللذين هما على حد عرفة، والعلمين اللذين هما على حد الحرم فليسا من عرفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 ولا من الحرم انتهى. قلت: وهو كما قال والله أعلم ويأتي في كلام شيخ الإسلام تحديد مزدلفة وأنها ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر وهذا هو الصحيح بخلاف ما ذكره هنا من قوله والميلان بعد ذلك حد مزدلفة. -- فصل: ثم يدفع بعد غروب الشمس من عرفة إلى مزدلفة بسكينة ووقار لقول جابر رضي الله عنه (فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة) ، والقصواء التي قطع طرف أذنها، ولم تكن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وإنما كان لقباً لها. قال النووي: معنى شنق ضم وضيق وهو بتخفيف النون انتهى. قال في القاموس: شنق البعير يشنقه ويشنقه: كفه بزمامه حتى ألزق ذفراة بقادمة الرجل أو حتى رفع رأسه وهو راكبه انتهى. قال ابن القيم في معنى شنق: ضم إليه زمام ناقته انتهى. قال ابن هشام في السيرة والفاكهي في تاريخ مكة والفاسي وغيرهم كانت الإجازة بالحاج من عرفة إلى مزدلفة ومن منى إلى مكة في بني سعد بن زيد مناة بن تميم. قال ابن إسحاق كان صفوان بن الحارث بن شجنة هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة ثم بنوه من بعده حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام كرب بن صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وذكر الفاكهي عن الواقدي قال سألت ربيعة بن عثمان التيمي وعبد الله بن جعفر عن آخر المشركين الذي دفع بالناس من عرفة ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 منى فقال ربيعة بن عثمان آخرهم كرب وقال عبد الله بن جعفر دفع بهم سنة ثمان، وكرب هو كرب من صفوان على ما ذكره ابن إسحاق في السيرة وقد استوفيت الكلام في هذا المقام في غير هذا الكتاب. (تنبيه) : يجب على الحاج الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس لحديث جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينصرف من عرفة حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً) . رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة، وحديث علي وأسامة (أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع حين غابت الشمس) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ويقفون بعرفة إلى غروب الشمس لا يخرجون منها حتى تغرب الشمس انتهى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فلما غربت الشمس واستحكم غروبها بحيث ذهبت الصفرة أفاض صلى الله عليه وسلم من عرفة انتهى. قال في المغني: وقول الخرقي إلى غروب الشمس معناه ويجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غابت الشمس في حديث جابر، وفي حديث علي وأسامة (أن النبي دفع حين غربت الشمس) . انتهى ملخصاً، قال في المقنع: ومن وقف بعرفة نهاراً ودفع قبل غروب الشمس فعليه دم، قال في الشرح الكبير: يعني أنه يجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، رواه جابر وغيره، وقال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) . انتهى ملخصاً، وقد أجمع الأئمة الأربعة على وجوب الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس مستدلين بالأحاديث الصحيحة الصريحة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فإن قيل حديث عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة الطائي يدل على جواز الدفع من عرفة قبل غروب الشمس ولفظه: قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت يا رسول الله إني جئت من جبل طيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 أكللت راحتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. قلنا لا يدل حديث عروة هذا على جواز الدفع من عرفة قبل غروب الشمس لوجوه: منها أن قوله صلى الله عليه وسلم (وقد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً) يفسره فعله صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم وقف بالمسلمين نهاراً إلى غروب الشمس، فعلم من هذا أن الوقوف إلى غروب الشمس واجب ونسك من مناسك الحج لمن وافى عرفة نهاراً، وقد قال صلى الله عليه وسلم (خذوا عني مناسككم) ، ومنها أن حديث عروة بن مضرس يدل على أنه وقف بعرفة ليلاً لأنه لو كان قد وقف بها نهاراً مع الجمع العظيم ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فهل لي من حج؟ ولما كان عروة وافى عرفة ليلاً صار يتحرى في وقوفه وينتقل من موضع إلى آخر وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ لأنه قد شك في صحة وقوفه من عدمها فأجابه صلى الله عليه وسلم بأنه إذا كان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً في زمن الوقوف قبل الزمن الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فإن حجه تام. وقد أخذ الفقهاء بهذا حيث قالوا من حصل بعرفة في وقت الوقوف ولو لحظة ولو ماراً بها أو نائماً أو جاهلاً بأنها عرفة صح حجه، واستدلوا لذلك بعموم حديث عروة هذا حديث جاء فيه (وقد أتى عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) وبهذا قال الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم. فهذا الحديث لا يدل على جواز الانصراف من عرفة قبل غروب الشمس وإنما يدل على أن حجه صحيح وهذا متفق عليه بين الأئمة إلا مالكاً، وهذا كما لو ترك الإحرام من الميقات فإنه يحرم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 عليه وحجه صحيح وعليه دم وتقدم. ومنها أنه لو كان الدفع من عرفة جائزاً قبل غروب الشمس لرخص صلى الله عليه وسلم للضعفة أن يتقدموا من عرفة إلى مزدلفة قبل غروب الشمس خوفاً من الزحام الذي لا نظير له في سائر المشاعر كما رخص للضعفة أن يتقدموا بعد غيبوبة القمر من مزدلفة إلى منى فلما لم يرخص لهم في ذلك علم أنه غير جائز، وحيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفع من عرفة إلا بعد غروب الشمس واستحكام غروبها وذهاب الصفرة قليلاً علم من فعله وتشريعه أن هذا هو وقت جواز الدفع من عرفة لمن وقف نهاراً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) فأخذ المسلمون ذلك عنه وتلقوه بالقبول والتسليم وصاروا يدفعون من عرفة كما دفع منها صلى الله عليه وسلم بعد غروب الشمس وهو المشرع صلى الله عليه وسلم؛ فالذي أفتى عروة بن مضرس بالحديث المتقدم هو الذي وقف بالمسلمين بعرفات إلى غروب الشمس ولم يدفع منها إلا بعد الغروب وأمر الجمع العظيم أن يأخذوا ذلك عنه بأن لا يدفعوا من عرفة إلا بعد غروب الشمس، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فصلوات الله وسلامه عليه، فإن قيل مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم (فقد تم حجه) أنه لا نقص فيه ولو انصرف قبل الغروب لأنه وقف بعرفة نهاراً فشمله حديث عروة وأنتم توجبون عليه دم جبران، قلنا معنى قوله صلى الله عليه وسلم فقد تم حجه: أي أدرك الوقوف بعرفة ولم يفته الحج بدليل أنه لو انصرف بعد الوقوف إلى أهله ولم يأت بطواف الإفاضة لم يتم حجه ولم تجزئه هذه الحجة عن حجة الإسلام إن كانت باقية عليه فعلم أن معنى تم حجه: أي أدرك الوقوف ولم يفته الحج ونحن نقول بذلك وبأن حجه صحيح وعليه الأئمة الثلاثة رحمهم الله تعالى، ولا ينافي هذا وجوب الدم عليه لقول ابن عباس رضي الله عنهما: من ترك نسكا أو نسيه فإن يهريق دما، وهذا قد ترك نسكا فعله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 صلى الله عليه وسلم في حجته ومعه الجمع العظيم وهو الوقوف إلى غروب الشمس وقال صلى الله عليه وسلم (خذوا عني مناسككم) والله سبحانه وتعالى أعلم. وعند الإمام مالك إذا دفع من عرفة قبل غروب الشمس لا حج له ما لم يعد إلى عرفة نهاراً ويقف بها حتى تغرب الشمس. ويكون حال دفعه من عرفة إلى مزدلفة مستغفراً، وسميت مزدلفة بذلك من الزلف: وهو التقرب، لأن الحجيج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها: أي تقربوا ومضوا إليها، وتسمى أيضاً جمعاً لاجتماع الناس بها، وتسمى أيضاً بالمشعر الحرام. قال في المغني: وللمزدلفة ثلاثة أسماء: مزدلفة، وجمع، والمشعر الحرام انتهى، ويدفع مع الإمام أو نائبه وهو أمير الحجيج على طريق المأزمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلكها وهما جبلان، قال شيخ الإسلام: فإذا أفاض من عرفات ذهب إلى المشعر الحرام على طريق المأزمين، وهو طريق الناس اليوم، وإنما قال الفقهاء على طريق المأزمين لأنه إلى عرفة طريق أخرى تسمى طريق ضب، ومنها دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات وخرج على طريق المأزمين، وكان في المناسك والأعياد يذهب من طريق ويرجع من أخرى فدخل مكة من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى، ودخل المسجد من باب بني شيبة وخرج بعد الوداع من باب حزورة، ودخل إلى عرفات من طريق ضب وخرج من طريق المأزمين، وأتى إلى جمرة العقبة يوم العيد من الطريق الوسطى التي يخرج منها إلى خارج منى ثم يعطف على يساره إلى الجمرة ثم لما رجع إلى موضعه بمنى الذي نحر فيه هديه وحلق رأسه رجع من الطريق المتقدمة التي يسير منها جمهور الناس اليوم انتهى كلامه رحمه الله تعالى. قلت: والطريق الوسطى التي ذكرها شيخ الإسلام هي المعروفة الآن بسوق العرب والذي يأتي مع هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 الطريق يخرج منها إلى جمرة العقبة، وجمرة العقبة ليست من منى بل هي حد له من جهة مكة، وهذا معنى قول شيخ الإسلام يخرج منها إلى خارج منى، وقوله ثم يعطف على يساره إلى الجمرة: أي لأن أمامه الجبل المسمى بالعقبة التي فوق الجمرة وعلى يساره الوادي الذي يخرج على الجمرة المذكورة وقد أزيلت العقبة للتوسعة وأما الطريق المتقدمة التي ذكرها شيخ الإسلام فهي طريق الناس اليوم التي فيها الجمرات الثلاث، والله أعلم. قال في النهاية: المأزم المضيق في الجبال حيث يلتقي بعضها ببعض ويتسع ما وراءه والميم زائدة، فكأنه من الأزم القوة والشدة انتهى. قال في القاموس: وال/ازم ويقال المأزمان مضيق بين جمع وعرفة انتهى. فإن دفع قبل الإمام كره لقول الإمام أحمد: ما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام، ولا شيء عليه في الدفع قبله خلافاً للخرقي، ويسرع في الفجوة لقول أسامة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجون نص) متفق عليه. والعنق: انبساط السير، والنص: الإسراع، ويلبي في الطريق لقول الفضل بن العباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. متفق عليه، ويذكر الله تعالى لأنه في زمن السعي إلى شعائره، فإذا وصل مزدلفة صلى المغرب والعشاء جمعاً، وقال الشيخ منصور البهوتي: إن كان ممن يباح له الجمع انتهى. قلت: الصحيح الذي تدل له السنة هو الجمع والقصر لكافة الحجاج سواء كانوا مكيين أم أفقيين والله أعلم، ويصلي المغرب والعشاء قبل حط رحله، قال في الإقناع وشرحه بإقامة لكل صلاة بلا أذان هذا اختيار الخرقي، قال ابن المنذر هو رواية أسامة وهو أعلم بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان رديفه وإنما لم يؤذن للأولى هاهنا لأنها في غير وقتها بخلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 المجموعتين بعرفة، وظاهر كلام الأكثرين يؤذن للأولى لقول جابر (حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين) وإن إذن وأقام للأولى فقط ولم يقم للثانية فحسن لحديث مسلم عن ابن عمر قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع فصلى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة واحدة) لكن السنة أن يقيم لها انتهى كلام الإقناع وشرحه. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في سياق أوهام بعض من وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ومنها وهم من وهِم في أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر يوم عرفة والمغرب والعشاء تلك الليلة بأذانين وإقامتين، ووهم من قال صلاهما بإقامتين بلا أذان أصلا، ووهم من قال جمع بينهما بإقامة واحدة، والصحيح أنه صلاهما بأذان واحد وإقامة لكل صلاة انتهى، ولا يتطوع بين المغرب والعشاء المجموعتين لقول أسامة وابن عمر (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بينهما) . قال الشيخ منصور البهوتي لكل لا يبطل جمع التأخير بالتطوع بين المجموعتين بخلاف جمع التقديم كما ذكروه في الجمع انتهى. قلت: التطوع بينهما خلاف السنة وإن قلنا بعدم البطلان والله أعلم. وإن صلى المغرب في الطريق ترك السنة وأجزأته الصلاة وفاقاً لمالك والشافعي وخلافاً لأبي حنيفة لأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز التفريق بينهما كالظهر والعصر بعرفة. قال في المنتهى وشرحه: وإن فاتته الصلاة مع الإمام بعرفة أو مزدلفة جمع وحده لفعل ابن عمر انتهى، ومقتضى مفهومه أنه لو أراد الصلاة قبل الإمام أنه لا يجمع وليس مراداً بل مراده أن من لم يصل مع الإمام جمع وحده سواء كان ذلك قبل الإمام أم بعده وإن كان معه رفقة صلى بهم جمعاً وقصراً لتحصل لهم فضيلة صلاة الجماعة ثم يبيت بمزدلفة حتى يصبح ويصلي الفجر لقول جابر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 (ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة) قال شيخ الإسلام: فإذا وصل إلى مزدلفة صلى المغرب قبل تبريك الجمال إن أمكن، ثم إذا بركوها صلوا العشاء، وإذا أخر العشاء لم يضره ذلك ويبيت بمزدلفة ومزدلفة كلها يقال لها المشعر الحرام، وهي ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر فإن بين كل مشعرين حدا ليس منهما، فإن بين عرفة ومزدلفة بطن عرنة أي وبطن نمرة، وبين مزدلفة ومنى بطن محسر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة، ومزدلفة كلها موقف وارفعوا عن بطن محسر، ومنى كلها منحر، وفجاج مكة كلها طريق) والسنة أن يبيت بمزدلفة إلى أن يطلع الفجر فيصلي بها الفجر في أول الوقت ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يسفر جداً قبل طلوع الشمس، فإن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم فإنه يتعجل من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر: ولا ينبغي لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر فيصلوا بها الفجر ويقفوا بها، ومزدلفة كلها موقف لكن الوقوف عند قزح أفضل وهو جبل الميقدة وهو المكان الذي يقف الناس فيه اليوم قد بني عليه بناء وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء باسم المشعر الحرام انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. قال في الدر المختار للحنفية: وينزل عند جبل قزح، والأصح أنه المشعر الحرام وعليه ميقدة انتهى، ويأتي الكلام على تسميته بجبل الميقدة إن شاء الله قبيل الفصل. قال الأزرقي في تاريخ مكة والماوردي وغيرهما: حد مزدلفة ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر، وليس الحدان منها ويدخل في مزدلفة جميع تلك الشعاب الداخلة في الحد المذكور انتهى. وفي حديث جابر المتقدم ما يدل على أن المشعر الحرام قزح حيث جاء فيه (حتى أتى المزدلفة فصلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام) الحديث. قال النووي: المراد بالمشعر الحرام هنا قزح بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة وهو جبل معروف في مزدلفة، وهذا الحديث حجة للفقهاء في أن المشعر الحرام هو قزح، وقال جماهير المفسرين وأهل السير والحديث: المشعر الحرام جميع مزدلفة انتهى، وتقدم في كلام الموفق وشيخ الإسلام أن المزدلفة تسمى بالمشعر الحرام قال الموفق والشارح: حد مزدلفة من مأزمي عرفة إلى قرن محسر وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب، ففي أي موضع وقف منها أجزأه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كل المزدلفة موقف. رواه أبو داود وابن ماجة، وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وقفت هاهنا بجمع وجمع كلها موقف) وليس وادي محسر من مزدلفة لقوله (وارفعوا عن بطن محسر) انتهى. قال في الإقناع وشرحه: فإذا أصبح بمزدلفة صلى الصبح بغلس أول وقتها لما تقدم من حديث جابر وليتسع وقت الوقوف عند المشعر الحرام ثم يأتي المشعر الحرام، سمي بذلك لأنه من علامات الحج: وتسمى أيضاً المزدلفة بذلك تسمية للكل باسم البعض واسمه في الأصل قزح، وهو جبل صغير بالمزدلفة فيقف عنده ويحمد الله تعالى ويهلله ويكبره ويدعو ويقول: اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) ثم لا يزال يدعو إلى أن يسفر جداً انتهى. قال في المغني: والمستحب الاقتداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 برسول الله صلى الله عليه وسلم في المبيت إلى أن يصبح ثم يقف حتى يسفر، ولا بأس بتقديم الضعفة والنساء، وممن كان يقدم ضعفة أهله عبد الرحمن بن عوف وعائشة، وبه قال عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً، ولأن فيه رفقاً بهم ودفعاً لمشقة الزحام عنهم واقتداء بفعل نبيهم صلى الله عليه وسلم انتهى. قال في الإقناع وشرحه: وله الدفع قبل الإمام وليس له الدفع قبل نصف الليل: ويباح الدفع من مزدلفة بعده: أي بعد نصف الليل ولا شيء عليه كما لو وافاها بعده؛ أي بعد نصف الليل لقول ابن عباس (أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله) . متفق عليه. قلت: الضعفة بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة والفاء جمع ضعيف: النساء والصبيان والمشايخ العاجزون وأصحاب الأمراض ليرموا قبل الزحمة والله أعلم. وعن عائشة قالت: (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت) . رواه أبو داود انتهى كلام الإقناع وشرحه. قلت: حديث ابن عباس هذا يدل على الرخصة للضعفة لا غير، وأما حديث عائشة فيأتي كلام ابن القيم رحمه الله أنه منكر، وإن جاء مزدلفة بعد الفجر فعليه دم لتركه نسكاً واجباً، وإن دفع غير رعاة وسقاة قبل نصف الليل فعليه دم إن لم يعد إليها قبل الفجر سواء كان عالماً بالحكم أم جاهلاً ذاكراً أم ناسياً لأنه ترك نسكاً واجباً، والنسيان إنما يؤثر في جعل الموجود كالمعدوم لا في جعل المعدوم كالموجود، فإن عاد إلى مزدلفة قبل الفجر فلا دم عليه كمن لم يأت مزدلفة إلا في النصف الثاني من الليل لأنه لم يدرك فيها جزءاً من النصف الأول فلم يتعلق به حكمه كمن لم يأت عرفة إلا ليلاً، قال في المغني: ومن لم يواف مزدلفة إلا في النصف الأخير من الليل فلا شيء عليه لأنه لم يدرك جزءاً من النصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الأول فلم يتعلق به حكمه كمن أدرك الليل بعرفات دون النهار انتهى ومثله في الشرح، وأما الرعاة والسقاة فلا دم عليهم بالدفع قبله لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة والسقاة فلا دم عليهم بالدفع قبله لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة في ترك البيتوتة لحديث عدي (ورخص للعباس في ترك البيتوتة لأجل سقايته) ولأن عليهم مشقة لحاجتهم إلى حفظ مواشيهم وسقي الحاج فكان لهم ترك المبيت بمزدلفة كليالي منى، قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه: وأما الرعاة فهم رعاة الإبل، وأما السقاة فالظاهر إنهم الذين يأتون بالماء للحاج وليس كذلك، وإنما هذه الرخصة لسقاة زمزم لأن الرخصة إنا وقعت للعباس وهو صاحب زمزم انتهى. قلت: ويدل لذلك قوله في المنتهى وشرحه: وفيه أي الدفع من مزدلفة قبله: أي نصف الليل على غير رعاة وغير سقاة زمزم دم انتهى، قال في الشرح الكبير: وليس له الدفع قبل نصف الليل، فإن فعل فعليه دم، وإن دفع بعده فلا شيء عليه وبه قال الشافعي، وقال مالك: إن مر بها ولم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى ما دفع. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها وقال (لتأخذوا عني مناسككم) وإنما أبيح الدفع بعد نصف الليل بما ورد من الرخصة فيه انتهى ومثله في المغني. قلت: حكم المبيت بمزدلفة يشتمل على صور: الأولى أتى مزدلفة في النصف الأول من الليل ودفع منها قبل مضي نصف الليل ولم يعد إليها قبل الفجر، الثانية لم يأت مزدلفة إلا بعد الفجر، الثالثة أتى مزدلفة في النصف الأول من الليل ودفع منها بعد نصف الليل، الرابعة أتى مزدلفة في النصف الآخر من الليل ودفع منها قبل أن يبيت بها، الخامسة دفع من مزدلفة قبل نصف الليل الأول وعاد إليها قبل الفجر؛ فعليه في الأولى والثانية دم على غير سقاة ورعاة وليس عليه في الثالثة والرابعة والخامسة شيء هذا مقتضى كلام فقهائنا رحمهم الله، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم سار صلى الله عليه وسلم حتى أتى المزدلفة فتوضأ وضوء الصلاة ثم أمر المؤذن بالاذان فأذن المؤذن ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ثم صلى عشاء الآخرة بلا أذان ولم يصل بينهما شيئاً ثم نام حتى أصبح ولم يحيي تلك الليلة ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء، وأذن في تلك الليلة لضعفة أهله أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر وكان ذلك عند غيبوبة القمر وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس. حديث صحيح صححه الترمذي وغيره، وأما حديث عائشة رضي الله عنها (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عندها) . رواه أبو داود، فحديث منكر أنكره الإمام أحمد وغيره ثم ذكر ما يدل على إنكاره، ثم قال: ومما يدل على بطلانه ما ثبت في الصحيحين عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: (استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس وكانت امرأة ثبطة قالت فأذن لها فخرجت قبل دفعه وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه، ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة أحب إليّ من مفروح به) فهذا الحديث الصحيح يبين أن نساءه غير سودة إنما دفعن معه. فإن قيل: فما تصنعون بالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أم حبيبة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل) قيل قد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم تلك الليلة ضعفة أهله وكان ابن عباس فيمن قدم، وثبت أنه قدم سودة، وثبت أنه حبس نساءه عنده حتى دفعن بدفعه، وحديث أم حبيبة انفرد به مسلم فإن كان محفوظاً فهي إذاً من الضعفة التي قدمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 فإن قيل: فما تصنعون بما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر) قيل نقدم عليه حديثه الآخر الذي رواه أيضاً الإمام أحمد والترمذي وصححه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) ولفظ أحمد فيه (قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع فجعل يلطح أفخاذنا ويقول أبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) لأنه أصح منه، وفيه (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رمي الجمرة قبل طلوع الشمس) وهو محفوظ بذكر القصة فيه. قلت وقد رواه الخمسة وصححه الترمذي ولفظه: (قدم ضعفة أهل وقال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) وأخرجه أيضاً الطحاوي وابن حبان وصححه وحسنه الحافظ في الفتح وله طرق، وقوله أغيلمة منصوب على الاختصاص أو على الندب، والمراد بهم الصبيان، وحمرات بضم الحاء المهملة والميم جمع لحمر وحمر جمع لحمار، ويلطح بفتح الياء التحتية والطاء المهملة وبعدها حاء مهملة قال الجوهري: اللطح الضرب اللين على الظهر ببطن الكف انتهى. وإنما فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ملاطفة لهم، وقوله أبيني بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وسكون ياء التصغير وبعدها نون مكسورة ثم ياء النسبة المشددة قاله ابن رسلان في شرح السنن، قال في النهاية: الأبيني بوزن الأعيمي تصغير الأبناء بوزن الأعمى وهو جمع ابن انتهى. رجعنا إلى كلام ابن القيم رحمه الله، قال: ثم تأملنا فإذا أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث فإنه أمر الصبيان أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، أما من قدمه من النساء فرمين قبل طلوع الشمس للعذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحطمتهم، وهذا الذي دلت عليه السنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر بمرض أو كبر يشق عليه مزاحمة الناس لأجله، وأما القادر الصحيح فلا يجوز له ذلك. وفي المسألة ثلاثة مذاهب: أحدها الجواز بعد نصف الليل مطلقاً للقادر والعاجز كقول الشافعي وأحمد رحمهما الله. والثاني لا يجوز إلا بعد طلوع الفجر كقول أبي حنيفة رحمه الله. والثالث لا يجوز لأهل القوة إلا بعد طلوع الشمس كقول جماعة من أهل العلم، والذي دلت عليه السنة إنما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر لا نصف الليل، وليس مع من حده بالنصف دليل والله أعلم، ثم ذكر حديث عروة بن مضرس الطائي ثم قال وبهذا احتج من ذهب إلى أن الوقوف بمزدلفة والمبيت بها ركن كعرفة وهو مذهب اثنين من الصحابة: ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم، وإليه ذهب إبراهيم النخعي والشعبي وعلقمة والحسن البصري وهو مذهب الأوزاعي وحماد بن أبي سليمان وداود الظاهري وأبي عبيد القاسم بن سلام، واختاره المحمدان: ابن جرير، وابن خزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية، واحتج من لم يره ركنا بأمرين: أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مد وقت الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر، وهذا يقتضي أن من وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان صح حجه، ولو كان الوقوف بمزدلفة ركنا لم يصح حجه، الثاني أنه لو كان ركنا لاشترك فيه الرجال والنساء فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بالليل علم أنه ليس بركن، وفي الدليلين نظر فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قدمهن بعد المبيت بمزدلفة وذكر الله تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة والواجب هو ذلك، وأما توقيت بعرفة إلى الفجر فلا ينافي أن يكون المبيت بمزدلفة ركنا وتكون تلك الليلة وقتاً لهما كوقت المجموعتين من الصلوات، وتضييق القوت لإحداهما لا يخرجه عن أن يكون وقتاً لهما حال القدرة انتهى. كلام ابن القيم رحمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 الله ملخصاً، قلت: قد يقال وقت المجموعتين من الصلوات يحصل أداؤهما فيه، بخلاف الوقوف بعرفة مع الفجر فإنه ينتفي الوقوف بمزدلفة لضيق الوقت فلم يحصل أداء في وقتهما إلا لواحد منهما وهو الوقوف بعرفة فقط، بخلاف المجموعتين فإنه يحصل أداؤها معاً في وقتهما، فالفارق موجود والقياس غير مطابق مع الاعتراف بفضل شمس الدين بن القيم وتحقيقه وعلو رتبته رحمه الله تعالى. (تنبيه) : الميقدة المذكورة في كلام شيخ الإسلام المتقدم قد ذكرها الأزرقي فقال: هي إسطوانة من حجارة مدورة تدويرها أربعة وعشرون ذراعاً وطولها اثنا عشر ذراعاً وفيها خمس وعشرون درجة، وهي على أكمة مرتفعة كان يوقد عليها في خلافة هارون الرشيد الشمع ليلة مزدلفة، وكانت قبل ذلك توقد عليها النار بالحطب، وبعد أن توفي هارون الرشيد وضع عليها مصابيح، قال وبين مسجد مزدلفة وبين قزح أربعمائة ذراع وعشرة أذرع انتهى كلام الأزرقي ملخصاً، قلت: المشاهد في زمننا هذا هو أن المشعر الحرام المسمى قزح في نفس مسجد مزدلفة، وقزح: جبل صغير جداً عليه الآن منارة تجعل فيها تلك الليلة السرج بالكهرباء، وطول مسجد مزدلفة تسعة وخمسون متراً ونصف، وعرضه سبعة وثلاثون متراً، وقد قسمت طوله وعرضه فصار كما ذكرته وذلك سنة تسع وستين وثلاثمائة وألف، وقد تقدم عن الأزرقي بسنده عن نافع عن ابن عمر أن النار كانت توقد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة بعد الرجوع من عرفة، وتقدم عن شيخ الإسلام أن الإيقاد بمزدلفة خاصة بعد الرجوع من عرفة فليراجع عند الحاجة إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 -- فصل: ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى لقول عمر: (كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس) رواه الجماعة إلا مسلماً لكن في رواية أحمد وابن ماجة (أشرق ثبير كيما نغير) وقوله أشرق ثبير بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وكسر الراء وسكون القاف فعل أمر من الإشراق، وثبير بفتح المثلثة وكسر الموحدة والضم منادى حذف منه حرف النداء، والمعنى لتطلع عليك الشمس، وكيما نغير بالنون أي نذهب سريعاً، يقال أغار يغير: إذا أسرع في العدو والله أعلم، ويدفع وعليه السكينة لقول ابن عباس (ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس وقال: يا أيها الناس إن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل فعليكم السكينة) فإذا بلغ وادي محسر بالحاء المهملة والسين المهملة المشددة، وهو وادٍ بين مزدلفة ومنى وليس من واحد منهما كما تقدم، قال الأزرقي في تاريخه: وهو خمسمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعاً انتهى. أسرع قدر رمية حجر فإن كان راكباً حرك دابته لقول جابر: حتى أتى بطن محسر حرك قليلاً، والعلة فيما كما في المجموع للشافعية أن النصارى كانت تقف هناك فنسرع نحن مخالفة لهم، وعبر الغزالي بالعرب بدل النصارى، قال ابن حجر: ولا مانع أن كلا كان يقف ثمَّ، أو مراده بالعرب العرب من النصارى، وقيل ومشى عليه النووي: لأنه محل هلاك أصحاب الفيل، وبحثه الأسنوي لعدم روايته له منقولاً ثم قال هو كديار ثمود إذ يُسن لمن مر بها الإسراع، ويؤيد الأول قول عمر وابنه رضي الله عنهما عند إسراعهما في وادي محسر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 إليك تعدو قلقاً وضينها ... معترضاً في بطنها جنينها. مخالفاً دينَ النصارى دينها ... قد ذهب الشحم الذي يزينها. واعترض الثاني بأن نزول العذاب على أصحاب الفيل إنما كان بمحل يسمى المغمس بفتح الميم الثانية وقد تكسر، بل المعروف أن الفيل المذكور لم يدخل الحرم أصلا انتهى، وقائل هذه الأبيات أبو علقمة أخو أسقف نجران لأمه وابن عمه لما توجه يريد النبي صلى الله عليه وسلم، والوضين بطان عريض منسوج من سيور أو شعر، أو لا يكون إلا من جلد كما في القاموس، والقلق: الانزعاج والله أعلم. قال ابن القيم رحمه الله: فلما أتى صلى الله عليه وسلم بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله علينا؛ ولذلك سمي ذلك الوادي وادي محسر لأن الفيل حسر فيه: أي أعيي وانقطع عن الذهاب، وكذلك فعل في سلوكه الحجر وديار ثمود فإنه تقنع بثوبه وأسرع السير، ومحسر برزخ بين منى وبين مزدلفة لا من هذه ولا من هذه، وعرنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام، فبين كل مشعرين برزخ ليس منهما، فمنى من الحرم وهي مشعر، ومحسر من الحرم وليس بمشعر ومزدلفة حرم ومشعر، وعرنة ليست مشعراً وهي من الحل، وعرفة حل ومشعر انتهى كلامه رحمه الله، ويكون في دفعه من مزدلفة إلى منى ملبياً إلى أن يرمي جمرة العقبة لقول الفضل بن العباس: (لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى الجمرة) رواه مسلم مختصراً، وجمرة العقبة آخر الجمرات مما يلي منى وأولها مما يلي مكة؛ وهي الجمرة الكبرى وليست من منى، بل هي حد من جهة مكة، وهي التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار عندها على الهجرة، والجمرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 اسم لمجتمع الحصا، سميت بذلك لاجتماع الناس بها، يقال: تجمر بنو فلان إذا اجتمعوا، وقيل إن العرب تسمي الحصا الصغار جماراً فسميت بذلك تسمية الشيء بلازمة، وقيل لأن إبراهيم لما عرض له إبليس فحصبه جمر بين يديه: أي أسرع فسميت بذلك، ويأخذ حصا الجمار من طريقه قبل أن يصل إلى منى، أو يأخذه من مزدلفة، ومن حيث أخذ الحصا جاز لقول ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته (القط لي حصا فلقطت له سبع حصيات هن حصا الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، ثم قال: يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) . رواه ابن ماجة، وكان ذلك بمنى. قال ابن القيم: (ثم سار صلى الله عليه وسلم من مزدلفة للفضل بن عباس وهو يلبي في مسيره وانطلق أسامة بن زيد على رجليه في سباق قريش، وفي طريقه ذلك أمر ابن عباس أن يلتقط له حصى الجمار سبع حصيات ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة كما يفعل من لا علم عنده، ولا التقطها بالليل فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا) الحديث. وينفضهن بالنون والفاء الموحدتين من فوق، وفي بعض الروايات يقبضهن والأولى أصح والله أعلم. قال في المنتهى وغيره: ويأخذ حصا الجمار سبعين حصاة أكبر من الحمص ودون البندق كحصا الخذف انتهى. قلت: والسبعون لمن أراد التأخر، وأما من أراد التعجل فيكفيه تسع وأربعون حصاة كما هو ظاهر. والحديث يدل على أن ابن عباس لم يلقط للنبي صلى الله عليه وسلم غداة العقبة، أي صباح يوم النحر إلا سبع حصيات فقط وهي التي رمى بها جمرة العقبة والله أعلم. والخذف بالخاء والذال المعجمتين: هو الرمي بنحو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 حصاة بين السبابتين يخذف بها، وليس المراد أن رمي الجمار يكون على هيئة الخذف وإنما المراد أن حصا الجمار بقدر حصا الخذف، قال النووي: وقدرهن نحو حبة الباقلا انتهى، قال الخرقي: ويأخذ حصا الجمار من طريقه أو من مزدلفة، قال في المغني: إنما استحب ذلك لئلا يشتغل عند قدومه مني بشيء قبل الرمي فإن الرمي تحية منى كما أن الطواف تحية المسجد فلا يبدأ بشيء قبله؛ وكان ابن عمر يأخذ الحصا من جمع وفعله سعيد بن جبير وقال: كانوا يتزودون الحصا من جمع واستحبه الشافعي، وعن أحمد قال: خذ الحصا من حيث شئت، وهو قول عطاء وابن المنذر وهو أصح إن شاء الله تعالى لأن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته (القط لي حصا) وذكر الحديث ثم قال وكان ذلك بمنى، ولا خلاف في أنه يجزئه أخذه من حيث كان إلى أن قال: قال الأثرم يكون أكبر من الحمص ودون البندق، وكان ابن عمر يرمي بمثل بعر الغنم انتهى ومثله في الشرح الكبير. قال في الإقناع وشرحه: ويأخذ حصا الجمار من طريقه قبل أن يصل إلى منى أو يأخذه من مزدلفة، ومن حيث أخذه أي الحصا جاز لقول ابن عباس وذكر الحديث، قال في المنتهى وشرحه ومن حيث شاء أخذ حصا الجمار، وكره أخذ الحصا من الحرم يعني المسجد؛ لما تقدم من جواز أخذه من جمع ومنى وهما من الحرم، وقد أوضحته في الحاشية انتهى ملخصا. وعبارة الشيخ منصور في الحاشية قال هكذا في الإنصاف وغيره وفيه نظر فإنه ذكر أن جواز أخذها من طريقه ومن مزدلفة ومن حيث شاء هو المذهب وأن عليه الأصحاب، وأيضاً فابن عباس جمعها للنبي صلى الله عليه وسلم من منى وابن عمر أخذها من جمع، قال سعيد بن جبير: كانوا يتزودون الحصا من جمع، ومزدلفة ومنى من الحرم، ولعل المراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 بالحرم هاهنا نفس المسجد الحرام، وأصل العبارة لصاحب الفروع قال في تصحيحها: وهذا والله أعلم سهو، وقال ولعله أراد حرم الكعبة وفي معناه قوة انتهى: أي أراد بالحرم المسجد الحرام، يؤيده قوله في المستوعب وإن أخذه من غيرها جاز إلا من المسجد لما ذكرنا أنه يكره إخراج شيء من حصا الحرم وترابه وتمامه فيه. قلت: الصحيح من كلامهم أن له أخذ حصا الجمار من مزدلفة ومن طريقة منها إلى منى ومن منى ومن حيث شاء إلا من نفس المسجد الحرام والله أعلم، وكره أخذ الحصا من الحش لأنه مظنة نجاسته، وكره تكسير الحصا لئلا يطير إلى وجهه شيء يؤذيه، ولا يسن غسله. قال الإمام أحمد: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله انتهى. إلا أن تعلم نجاسته فيغسله خروجاً من الخلاف في أجزائه، وتجزئ مع الكراهة حصاة نجسة، أما أجزاؤها فلإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم (أمثال هؤلاء فارموا) وأما كراهتها فخروجاً من الخلاف، فإن غسل الحصاة النجسة زالت الكراهة لزوالها علتها، وتجزئ حصاة غير معهودة كحصاة من مسن وبرام ومرمر، ومرو: وهو حجر الصوان، ورخام وكدان، وسواء السوداء والبيضاء والحمراء لعموم الخبر. والمسن بكسر الميم: ما تسن عليه السكين ونحوها. والبرام من الحجارة، يعمل منه قدور البرام، ولا تجزئ حصاة صغيرة جداً أو كبيرة لأمره صلى الله عليه وسلم بالرمي بمثل حصا الخذف، فلا يتناول ما لا يسمى حصا، ولا كبيرة تسمى حجراً، ولا تجزئ حصاة رمي بها لأخذه صلى الله عليه وسلم الحصا من غير المرمى ولأنها استعملت في عبادة فلا تستعمل فيها ثانيا كماء وضوء. وقال الشافعي يجزئه لأنه حصا فيدخل في العموم انتهى، ولا يجزئ الرمي بغير حصا كجوهر وزمرد وياقوت وذهب وفضة ونحاس وحديد ورصاص وخشب وطين، ومدر، وهو قطع الطين اليابس ونحو ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 رمى بالحصا وقال (خذوا عني مناسككم) وقال أبو حنيفة: يجوز بالطين والمدر وما كان من جنس الأرض، وقال نحوه الثوري، فإذا وصل إلى منى، قال القاموس: مِنَى كَإلى ويصرف، سميت بذلك لكثرة ما يمنى بها من الدماء، وروي عن ابن عباس (إنما سميت بذلك لأن جبريل لما أراد أن يفارق آدم قال له تمنَّ قال أتمنى الجنة فسميت منى لأمنية آدم عليه السلام. انتهى. وحدها من وادي محسر إلى جمرة العقبة، ووادي محسر وجمرة العقبة ليسا من منى سلك استحباباً الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلكها وبدأ بجمرة العقبة سواء كان راكباً أو ماشياً لحديث ابن مسعود (إنه انتهى إلى جمرة العقبة فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات وهو راكب يكبر مع كل حصاة، وقال: اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً، ثم قال: هاهنا كان يقوم الذي أنزلت عليه سورة البقرة) . رواه أحمد، فلا يبدأ بشيء قبل رميها لأنها تحية منى، وامتازت جمرة العقبة عن الجمرتين الأخرتين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وكونها ترمى يوم النحر بعد الشروق وترمى من أسفلها استحباباً أي لا من أعلى العقبة التي أزيلت في زمننا هذا، ويرميها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة بعد طلوع الشمس ندباً لقول جابر (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعدُ فإذا زالت الشمس) . أخرجه الجماعة. قال في الإقناع وشرحه، فإن رمى بعد نصف ليلة النحر أجزأه الرمي إن كان قد وقف بعرفة وإلا فبعده كطواف الإفاضة، لما روى أبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت) وروي (أنه أمرها أن تعجل الإفاضة وتوافي مكة مع صلاة الفجر) احتج به أحمد، ولأنه وقت للدفع من مزدلفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فكان وقتاً للرمي كما بعد طلوع الشمس، وحديث أحمد عن ابن عباس مرفوعاً (لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) محمول على وقت الفضيلة جمعاً بين الأخبار انتهى كلام الإقناع وشرحه. قلت: قد تقدم كلام ابن القيم رحمه الله على حديث عائشة وحديث ابن عباس المذكورين وذكر أن حديث عائشة هذا منكر أنكره الإمام أحد وغيره وذكر في زاد المعاد أدلة إنكاره فليراجع عند الحاجة إليه. وجزم الشيخ مرعي في غايته بأن وقت الحلق من نصف ليلة النحر لمن وقف قبله كرمي والله أعلم، وإن غربت الشمس من يوم النحر قبل رمي جمرة العقبة فإنه يرميها من غده بعد الزوال لقول ابن عمر: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرمي حتى تزول الشمس من الغد، فإن رمى بسبع الحصيات دفعة واحدة لم يجزئه الرمي إلا عن حصاة واحدة يحتسب بها ويتمم عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى سبع رميات وقال: (خذوا عني مناسككم) ويؤدب نصاً من رمي أكثر من حصاة دفعة واحدة زجراً له وردعاً لغيره عن الاقتداء به. ويؤخذ من هذا أن من فعل بدعة يؤدب لا سيما إذا خيف أن يقتدي به فيها، ويشترط علمه بحصول ما يرميه من الحصا في المرمى في جمرة العقبة وغيرها، لأن الأصل بقاء الرمي في ذمته فلا يزول عنه بالظن ولا بالشك فلا يبرأ إلا بيقين. قال في المغني: وإن رمى حصاة فشك هل وقعت في المرمى أو لا لم يجزئه لأن الأصل بقاء الرمي في ذمته فلا يزول بالشك، وإن كان الظاهر أنها وقعت فيه أجزأته لأن الظاهر دليل انتهى. قال في الشرح الكبير: وإن رمى حصاة فشك هل وقعت في المرمى أو لا؟ لم يجزئه لأن الأصل بقاء الرمي في ذمته فلا يزول بالشك، وعنه يجزئه ذكره ابن البنا في الخصال، وإن غلب على ظنه أنها وقعت فيه أجزأته لأن الظاهر دليل انتهى. قال الشيخ منصور وعنه يكفي ظنه وقواعد المذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 تقتضيه إلا أن يقال لا مشقة في اليقين انتهى. قلت المذهب اشتراط العلم بحصول ما يرميه من الحصا في المرمى والله أعلم. ولا يجزئ وضع الحصا في المرمى لأن الوضع ليس برمي بل يعتبر طرحها لفعله صلى الله عليه وسلم وقوله: (خذوا عني مناسككم) ، قال في الإقناع: ولو أصابت الحصاة مكاناً صلباً في غير المرمى ثم تدحرجت إلى المرمى أو أصابت ثوب إنسان ثم طارت فوقعت في المرمى أجزأته لأن الرامي انفرد برميها، وكذا لو نفضها أي الحصاة من وقعت على ثوبه فوقعت في المرمى أجزأته نصاً لحصولها في المرمى انتهى. قال مرعي في الغاية: ويتجه إن نفضها من وقعت على ثوبه فوراً وأنه لا بد من مريها بيد فلا يجوز الرمي بالقوس أو الرجل أو الفم انتهى، قال في المنتهى: فلو وقعت خارجه ثم تدحرجت فيه أو على ثوب إنسان ثم صارت فيه ولو بنفض غيره، أي الرامي أجزأته انتهى، قال الخلوتي في حاشيته على المنتهى: قوله ثم صارت فيه يؤخذ من العطف بثم أنه لا تشترط الفورية انتهى. قلت: وما اتجه الشيخ مرعي من اشتراط الفورية وجيه خصوصاً في رمي الجمرات الثلاثة بعد يوم النحر، فإن لو رمي مثلاً حصاة من الجمرة الأولى وتأخرت فلم تقع في المرمى إلا بعد رميه شيئاً من الجمرة الثانية لحصل خلل في الترتيب وهو شرط في الرمي والله أعلم. وقال ابن عقيل في مسألة ما إذا نفض الحصاة: من وقعت على ثوبه لا تجزئه لأن حصولها في المرمى بفعل الثاني دون الأول، قال في الفروع وهو أظهر، قال في الإنصاف وهو الصواب، قال الشيخ منصور وهو كمال قال. قالت: والمذهب الإجزاء كما تقدم، ولكن ما ذهب إليه ابن عقيل وجيه لا سيما وقد استظهره ابن مفلح في الفروع وصوبه المرداوي في الإنصاف، وارتضاه الشيخ منصور والله أعلم. وإن رمى الحصاة فاختطفها طائر قبل حصولها في المرمى أو ذهبت بها ريح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 عن المرمى لم يعتد له بها لعدم حصولها في المرمى، والمرمى: هو مجتمع الحصا لا نفس الشاخص، قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه تنبيه: المرمى الذي تترتب عليه الأحكام بقولهم: يعتبر حصول كل حصاة في المرمى، هو الأرض المحيطة بالميل المبني، فلو طرح الحصاة في رأس البناء لم يعتد بها لأنها لم تحصل في المرمى انتهى ملخصا. قلت: إذا طرح الحصاة في رأس البناء كما يفعله كثير من الحجاج فتدحرجت في المرمى المحطوط بالبناء في الجمرات الثلاث فإنها تجزئة، أما إذا بقيت على رأس البناء فإنها لا تجزئه فيما يظهر لي والله أعلم. ويكبر مع كل حصاة لفعله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم من حديث جابر ويقول مع كل حصاة اللهم اجعله حجاً مبروراً: أي مقبولاً، يقال بر الله حجه: أي تقبله. وذنباً مغفوراً وعملاً مشكوراً، لما روى حنبل عن زيد بن اسلم قال: (رأيت سالم بن عبد الله استبطن الوادي ورمى الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة الله أكبر الله أكبر ثم قال: اللهم اجعله فذكره فسألته عما صنع؟ فقال: حدثني أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة من هذا المكان ويقول كلما رمى مثلما قلت) . وكذا كان ابن عباس يقول، ويرفع الرامي للجمار يمناه حتى يرى بالبناء للمفعول بياض إبطه لأن في ذلك معونة على الرمي، قال في المغني والشرح: فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ثم ينصر ولا يقف. قال في المنتهى والإقناع وغيرهما من كتب المذهب: ويستبطن الوادي ويستقبل القبل ويرمي على حاجبه الأيمن ندباً انتهى لحديث عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي أبي بكر الكوفي قال (لما أتى عبد الله بن مسعود جمرة العقبة استبطن الوادي واستقبل القبلة وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن ثم رمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم قال: والله الذي لا إله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 غيره من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة) . قال الترمذي حديث حسن صحيح ورواه ابن ماجة، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: يرمي جمرة العقبة مستقبلا لها يجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، هذا هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها انتهى. قلت: وما ذكره الأصحاب من استقبال القبلة عند رمي جمرة العقبة هو استناد على رواية الترمذي المذكورة، وقد روى هذا الحديث البخاري وفيه: (وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه) وكذلك رواه مسلم وأبو داود، ولفظه: حدثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم المعني، قالا: أنبأنا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن زيد عن ابن مسعود قال: (لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ورمى الجمرة بسبع حصيات وقال هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة) انتهى، وما رواه البخاري ومسلم وأبو داود هو الصحيح، وما رواه الترمذي وابن ماجة شاذ في إسناده المسعودي وقد اختلط والله أعلم، وقوله في الحديث سورة البقرة، خصها بالذكر لأن كثيراً من أفعال الحج مذكور فيها فكأنه قال هذا مقام الذي أنزلت عليه أحكام المناسك منبها بذلك على أن أفعال الحج توقيفية، ويحتمل أنه خص سورة البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما فيها من الأحكام والله أعلم. وله رمى جمرة العقبة من فوقها لأن عمر رضي الله عنه جاء والزحام عند الجمرة فرماها من فقوها، قال في الإقناع وشرحه، وله رميها؛ أي جمرة العقبة من فوقها لفعل عمر انتهى، قال في المنتهى وشرحه، وله رميها؛ أي الجمرة من فوقها لفعل عمر لما رأى من الزحام عندما انتهى، لكن الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هو رمي جمرة العقبة مستقبلاً لها والبيت عن يساره ومنى عن يمينه وقد استبطن الوادي وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 فاتباع سنته صلى الله عليه وسلم أولى من الأخذ بفعل عمر رضي الله عنه من رميها من فوقها، قال ابن حجر العسقلاني: وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها: أي جمرة العقبة جاز سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو يساره أو من فوقها أو من أسفلها أو وسطها والاختلاف في الأفضل انتهى كلامه. وقولهم له رمى جمرة العقبة من فوقها وذلك أن هناك عقبة معتلية في جانب الجمرة وقد أزيلت العقبة في زمننا هذا فما ذكره العلماء في كتبهم من الآثار وأقوال العلماء من ذكر رمي جمرة العقبة من فوقها إنما كان ذلك قبل إزالة العقبة التي في ظهر الجمرة المذكورة شمالاً شرقاً وكان إزالة العقبة في شهر جمادى الأولى سنة ستة وسبعين وثلثمائة وألف، وزوال العقبة لا يؤثر في حكم الرمي المتعلق بالجمرة من أن الأفضل رميها مستقبلا لها منى عن يمينك ومكة عن شمالك، ولا يقف الرامي عند جمرة العقبة بل يرميها وهو ماش بلا وقوف عندها لقول ابن عمر وابن عباس (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى جمرة العقبة مضى ولم يقف) رواه ابن ماجة وروى البخاري معناه من حديث ابن عمر، قال في شرح الإقناع والمنتهى: ولضيق المكان أي عندها، وقال ابن القيم وقيل وهو أصح: إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمي جمرة العقبة فرغ الرمي. والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها انتهى ويأتي. (فائدة) : يكره طرد الناس عند رمي الجمار لحديث أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله العامري قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار على ناقة ليس ضرب ولا طرد ولا إليك إليك) قال الترمذي. هذا حديث حسن صحيح، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وإنما يعرف هذا الحديث من هذا الوجه وهو حديث أيمن بن نابل وهو ثقة عند أهل الحديث، ورواه ابن ماجة من حديث قدامة بن عبد الله المذكور ولفظه: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك) . ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي، يروى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وميمونة رضي الله عنهم، وبه قا عطاء وطاووس وسعيد بن جبير والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لحديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع إلى منى فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) . رواه الجماعة، ورديفه يومئذ أعلم بحاله من غيره، ويستحب قطع التلبية عند أول حصاة لما في بعض ألفاظ حديث الفضل (حتى رمي جمرة العقبة قطع عند أول حصاة) رواه حنبل في المناسك وهذا بيان يتعين الأخذ به، وفي رواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل حصاة دليل على أنه لم يكن يلبي ولأنه يتحلل بالرمي، وإذا شرع فيه قطع التلبية كالمعتمر يقطع التلبية بالشروع في الطواف. (تنبيه) عبارة الأصحاب صريحة في أنه لا يقطع التلبية إلا إذا ابتدأ في رمي جمرة العقبة، فهل إذا أخر رميها حتى طاف للإفاضة وسعى يلبي حتى يرميها أم لا؟ ظاهر عبارتهم أنه يلبي حتى يشرع في رميها لإطلاقهم ذلك، والذي يترجح عندي أنه إذا شرع في طواف الإفاضة يقطع التلبية كما يقطعها المعتمر إذا شرع في طواف العمرة، لأن طواف الإفاضة شروع في التحلل كالشروع في الرمي وأولى، ولأنه إذا حلق بعد الطواف حصل له التحلل الأول فلم يبق وجه لمشروعية التلبية بعد التحلل مع أنه لم يرم جمرة العقبة، هذا ما ظهر لي والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 (فائدة) أصل مشروعية الرمي كما في مثير الغرام الساكن لابن الجوزي: أنه لما فرغ أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت أتاه جبريل فأراه الطواف ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطاها إبراهيم، وأخذ سبعاً أيضاً وقال له ارم وكبر، فرميا وكبرا حتى غاب الشيطان، ثم أتى الجمرة الوسطى فعرض لهما الشيطان ففعلا كما تقدم، ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما ففعلا كذلك انتهى. قلت وفي حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى) . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ولفظه (إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى) وسكت عنه أبو داود، وأما الترمذي فقال إنه حديث حسن صحيح. فاتضح من هذا الحديث أن أصل مشروعية الرمي هو أيضاً لإقامة ذكر الله تعالى ويأتي في فصل، ثم يرجع من أفاض إلى مكة شيء من أحكام رمي الجمار إن شاء الله تعالى. (فائدة) : قال ابن القيم رحمه الله (سئل صلى الله عليه وسلم أن يبنى له بمنى بناء يظله من الحر فقال: لا، منى مناخ لمن سبق إليه) قال وفي هذا دليل على اشتراك المسلمين فيها وأن من سبق إلى مكان منها فهو أحق به حتى يرتحل عنه ولا يملكه بذلك انتهى كلامه. وعن عائشة قالت: (قلت يا رسول الله: ألا تبني لك بمنى بناء يظلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، منى مناخ من سبق) رواه الدارمي في سننه والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي حديث حسن صحيح وقال ابن القيم أيضاً في الهدي فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة والمسعى ومنى وعرفة ومزدلفة لا يختص بها أحد دون أحد بل هي مشتركة بين الناس؛ إذ هي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 محل نسكهم ومتعبدهم فهي مسجد من الله وقفه ووضعه لخلقه ولهذا امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى له بيت بمنى يظله من الحر وقال منى مناخ من سبق انتهى. تنبيه: إذا ضاقت أرض منى بالحاج ولم يجد موضعاً ينزل فيه بمنى ساغ له أن ينزل في أي أرض تلي أرض منى كمزدلفة ولا دم عليه لأنه معذور حكمه حكم المكره المضطر لأنه لا يستطيع سوى ذلك والله أعلم. وفي أول السنة أعني سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وألف صدر أمر صاحب السمو الملكي ولي عهد المملكة العربية السعودية علي وعلى جماعة من أعيان أهالي مكة بالنظر في البناء المحدث بمنى وتقرير ما نراه، فتوجهنا إلى منى ونظرنا فيه فقررنا إزالة الأبنية المحدثة والأحوشة التي كادت أن تبلغ وادي محسر فوافق سموه على قرارنا وأمر بإزالة البناء وتوسيع الشوارع فكان ذلك حسنة من حسناته يلقى بها ربه يوم يجزي الله المحسنين ثم عاد بعض الناس إلى البناء بمنى وهذا لا يجوز. (نكتة) قال الشيخ محمد السفاريني: قال الحافظ بن الجوزي: ربما قال قائل نعلم أن الحجيج خلق كثيرون ويحتاج كل واحد منهم أن يرمي سبعين حصاة (يعني إن تأخر وأما إن تعجل فيكفيه تسع وأربعون) وهذا من زمن أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، والمرمى مكان صغير ثم لا يجوز أن يرمي بحصاة قد رمى بها قبل، ونرى الحصا في المرمى قليلاً فما وجه ذلك؟ فالجواب ما روى عن سعيد بن جبير أنه قال: (الحصا قربان فما قبل منه رفع وما لم يقبل منه بقى) انتهى. قال في المغني: ولأن ابن عباس قال: ما تقبل منها يرفع انتهى وكذلك في الشرح الكبير، وروى الأزرقي بسنده إلى سعيد بن جبير أنه قال: (إنما الحصا قربنان فما تقبل منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 رفع، وما لم يتقبل منه فهو الذي يبقى) وبسنده إلى ابن عمر أنه قال: (والله ما قبل الله من امرئ حجة إلا رفع حصاه) وبسنده إلى ابن عباس أنه قال: (والله ما قبل الله من امرئ حجة إلا رفع حصاه) انتهى، ثم ينحر هديه إن كان معه واجباً كان أو تطوعاً لقول جاب في صفة حجته صلى الله عليه وسلم (إنه رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها) . رواه أحمد ومسلم. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره، ثم أمر عليا أن يتصدق بجلالها ولحومها وجلودها في المساكين وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئاً منها وقال نحن نعطيه من عندنا، وقال من شاء اقتطع انتهى. وفي حديث البراء بن عازب قال: (لما قدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين وانسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين) رواه أبو داود والنسائي وحديث جابر أصح سنداً من حديث البراء، قوله أو ستاً وستين هكذاً في سنن أبي داود، وكان جملة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة كما في صحيح مسلم. قال النووي والقرطبي ونقله القاضي عياض عن جميع الرواة: إن الصواب ما وقع في رواية مسلم من (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بيده ثم أعطى علياً فنحر ما غَبَر) لا ما وقع في رواية أبي داود والله أعلم، فإن لم يكن معه هدي وكان عليه هدي واجب لتمتع أو قران أو نحوهما اشتراه وذبحه، وإن أحب أن يضحي اشترى ما يضحي به، وكذا إن أحب أن يتطوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 بهدي ثم يحلق رأسه لقوله تعالى: (محلقين رءوسكم ومقصرين) ولحديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع) . متفق عليه. ويبدأ بشق رأسه الأيمن لحديث أنس (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس) . رواه أحمد ومسلم وأبو داود، ويستقبل القبل في الحلق لأنه نسك أشبه سائر المناسك، ويكبر وقت الحق كالرمي، والأولى أن لا يشارط الحلاق على أجرة، وإن قصر فمن جميع شعر رأسه نص عليه الإمام أحمد لا من كل شعرة بعينها لأن ذلك يشق جداً ولا يكاد يعلم إلا بحلقه، قال في الإنصاف: قلت هذا لا يعدل عنه ولا يسع الناس غيره انتهى لقوله تعالى: (محلقين رءوسكم ومقصرين) وهو عام في جميع شعر الرأس، ولا يجزئ حلق بعض الرأس أو تقصيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه فكان ذلك تفسيراً لمطلق الأمر بالحلق أو التقصير فيجب الرجوع إليه، قال في الشرح الكبير يلزمه الحلق أو التقصير من جميع شعره وكذلك المرأة (يعني في التقصير) وبه قال مالك، وعنه يجزئه بعضه كالمسح كذلك قال ابن حامد، وقال الشافعي يجزئه التقصير من ثلاث شعرات، وقال ابن المنذر يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له انتهى، وعند أبي حنيفة يجزئ ربع الرأس، وعند أبي يوسف نصفه، ومن لبّد رأسه أو ضفره أو عقصه فكغيره في جواز التقصير، والمرأة تقصر من شعرها على أي صفة كان من ضفر وعقص وغيرهما قدر أنملة فأقل من رؤوس الضفائر لحديث ابن عباس مرفوعاً (ليس على النساء الحلق إنما على النساء التقصير) رواه أبو داود والدارقطني والطبراني وقد قوى إسناده البخاري في التاريخ وأبو حاتم في العلل، وحسنه الحافظ، وأعله ابن القطان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 ورد عليه ابن المواق ولأن الحلق مثله في حقهن فتقصر من كل قرن قدر أنملة، ونقل أبو داود تجمع شعرها إلى مقدم رأسها ثم تأخذ من أطرافه قدر أنملة، وكذا عبد يقصر ولا يحلق إلا بإذن سيده لأن الحلق ينقص قيمته، قال الزركشي لأن الشعر ملك للسيد ويزيد في قيمته ولم يتعين زواله فلم يكن له ذلك كغير حال من الإحرام، نعم إن أذن له سيده جاز إذ الحلق له انتهى، قال في الغاية: لوا يحلق بلا إذن سيده ويتجه إن نقصت به قيمته انتهى. ويسن لمن حلق أو قصر أخذ أظفاره وشاربه وعانته وإبطه، قال ابن المنذر: (ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه قلم أظفاره) وكان ابن عمر يأخذ من شاربه وأظفاره، ويستحب إذا حلق أن يبلغ العظم الذي عند منقطع الصدغ من الوجه لقول ابن عمر للحالق: ابلغ العظمين، افصل الرأس من اللحية، وكان عطاء يقول: من السنة إذا حلق أن يبلغ العظمين، وقال في المغني والشرح وكان عطاء وطاووس والشافعي يحبون لو أخذ من لحيته شيئاً انتهى، قال في الفروع: ويسن أخذ أظفاره وشاربه، وقال ابن عقيل وغيره ومن لحيته انتهى. قال النووي قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولو أخذ من شاربه أو شعر لحيته شيئاً كان أحب إليّ ليكون قد وضع من شعره شيئاً لله تعالى انتهى. قال ابن حجر الهيتمي: وقد يستأنس لما قاله الشافعي بما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه) انتهى. وفي الموطأ عن مالك عن نافع (أن عبد الله بن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه) . وعن مالك أنه بلغه أسن سالم بن عبد الله كان إذا أراد أن يحرم دعا بالجملتين فقص شاربه وأخذ من لحيته قبل أن يركب وقبل أن يهل محرماً انتهى. قلت يحمل ما ذكروه في الأخذ من اللحية على ما إذا كانت كثيفة وأخذ منها ما زاد على القبضة لأن الأحاديث الصحيحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 صريحة في وجوب إعفاء اللحى، وقد حرم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء المعتبرين حلقها والله أعلم. وكلام الشافعي يدل على أن الأخذ منها لأجل التقرب إلى الله بذلك لقوله ليكون قد وضع من شعره شيئا لله تعالى والله أعلم. ويجب الاحتراز عند الحلق والتقصير من حلق أو تقصير الشعر النازل عن حد الرأس كالعنق والعارض قبل إكمال حلق الرأس أو تقصيره فإنه محظور، أما إذا كان الحلق بعد رمي جمرة العقبة وطواف الإفاضة جاز له ذلك لأنه قد حصل له التحلل الأول بهما فحل له كل شيء إلا النساء والله أعلم. قال في شرح الإقناع قال أبو حكيم ثم يصلي ركعتين انتهى، يعني بعد الحلق أو التقصير، قال بعض علماء الشافعية: لم أر أحداً من أصحابنا قال بسنية الركعتين بعد الحلق بل الذي يتجه كراهتهما قياساً على الصلاة بعد السعي بجامع عدم ورود كل انتهى. قلت ما قاله البعض وجيه لعدم ورود سنية الركعتين عنه صلى الله عليه وسلم وقد قال (خذوا عني مناسككم) ولم ينقل أنه فعل ذلك ولا أمر به ولا أقرّ عليه والله أعلم. قال في المغني: والأصلع الذي لا شعر على رأسه يستحب أن يمر الموسى على رأسه، روى ذلك عن ابن عمر، وبه قال مسروق وسعيد بن جبير والنخعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الأصلع يمر الموسى على رأسه وليس ذلك واجباً، وقال أبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) فهذا لو كان ذا شعر وجب عليه إزالته وإمرار الموسى على رأسه، فإذا سقط أحدهما لتعذره وجب الآخر. ولنا أن الحلق محله الشعر فسقط بعدمه كما يسقط وجوب غسل العضو في الوضوء بفقده، ولأنه إمرار لو فعله في الإحرام لم يجب به دم فلم يجب عند التحلل كإمراره على الشعر من غير حلق انتهى. قال في المنتهى: وسن إمرار الموسى على من عدمه انتهى. قال في الإقناع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 ومن عدم الشعر استحب أن يمر الموسى على رأسه انتهى، قال في الإنصاف وفي النفس من ذلك شيء وهو قريب من العبث انتهى. قال في الشرح الكبير: وبأي شيء قصر الشعر أجزأه وكذلك إن نتفه أو أزاله بنورة لأن القصد إزالته ولكن السنة الحلق أو التقصير لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه انتهى. والحلق أفضل من التقصير لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ولحديث أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر للمحلقين، قالوا يا رسول الله وللمقصرين، قال اللهم اغفر للمحلفين، قالوا يا رسول الله وللمقصرين، قال اللهم اغفر للمحلقين، قالوا يا رسول الله وللمقصرين قال وللمقصرين) متفق عليه. ولفظ أبي داود: (ارحم) . ثم بعد رمي جمرة العقبة وحلق أو تقصير قد حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام من الطيب والصيد واللباس وغير ذلك إلا النساء، نص عليه في رواية الجماعة وطئاً ومباشرة وقبلة ولمساً بشهوة وعقد نكاح لحديث عائشة مرفوعاً: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء) رواه سعيد، وعن عائشة قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك) متفق عليه. وللنسائي (طُيَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله بعد ما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت) وهذا قول ابن الزبير وعائشة وعلقمة وسالم وطاووس والنخعي وعبد الله بن الحسين وخارجة بن زيد والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، وعن الإمام أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج لأنه أغلظ المحرمات ويفسد النسك بخلاف غيره، وقال مالك لا يحل له النساء ولا الطيب ولا قتل الصيد لقوله تعالى: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وهذا حرام. ومذهب الجمهور يرد هذا القول ويمنع أنه محرم وإنما بقي عليه بعض أحكام الإحرام، قال في الفروع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 ثم قد حل له كل شيء إلا النساء. قال القاضي وابنه وابن الزاغوني والشيخ (يعني الموفق) وجماعة والعقد، وظاهر كلام أبي الخطاب وابن شهاب وابن الجوزي حله وقاله شيخنا (يعني شيخ الإسلام) وذكره عن أحمد، قال في التصحيح القول الأول وهو المنع أيضاً من عقد النكاح اختاره من ذكره المصنف واختاره ابن نصر الله في حواشيه وابن منجا في شرحه وجزم به في الرعاية الكبرى. والقول الثاني ظاهر كلام أكثر الأصحاب وهو الصواب انتهى، ومشى في الإقناع وشرح المنتهى وغيرهما من كتب متأخري الأصحاب على المنع من عقد النكاح بعد التحلل الأول وقبل الثاني إلحاقاً بالوطء والمباشرة والقبلة واللمس بشهوة والله أعلم. -- فصل: ويحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة: رمي لجمرة العقبة، وحلق أو تقصير، وطواف إفاضة؛ لحديث سعيد عن عائشة السابق وقيس الطواف على الحلق والرمي، فلو حلق وطاف ثم واقع أهله قبل الرمي فحجه صحيح وعليه دم لوطئه، فلو ترك الرمي بأن ذهب إلى أهله ولم يرم فعليه دم أيضاً لتركه الرمي، ويحصل التحلل الثاني بالثالث من الحلق والرمي والطواف مع السعي، إن كان متمتعاً ولو سعى مع عمرته أو كان مفرداً أو قارناً ولم يسع مع طواف القدوم، فعلى هذا يحصل التحلل الثاني باثنين من أربعة، فإن كان المفرد أو القارن سعى مع طواف القدوم لمن تسن له إعادة السعي كسائر الأنساك لأنه لا يشرع تكراره كما سبق، ولو طاف ولم يكن سعى لم يحل حتى يسع في الأصح، قال في المغني والشرح والحلق أو التقصير نسك في الحج والعمرة في ظاهر مذهب أحمد وهو قول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 مالك وأبي حنيفة والشافعي: وعن أحمد أنه ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور كان محرماً عليه بالإحرام فأطلق فيه عند الحل كاللباس وقتل الصيد والطيب وسائر محظورات الإحرام، فعلى هذه الرواية لا شيء على تاركه ويحصل الحل بدونه، ووجهها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالحل من العمرة قبله) فروى أبو موسى، قال: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي بِمَ أهللت؟ قلت لبيك بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أحسنت فأمرني فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة ثم قال لي أحل) . متفق عليه. وعن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سعى بين الصفا والمروة قال: من كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة) . رواه مسلم. ولأن ما كان محرماً في الإحرام إذا أبيح كان إطلاقا من محظور كسائر محرماته، والرواية الأولى أصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحل) . وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلوا إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا) وأمره يقتضي الوجوب ولأن الله تعالى وصفهم به بقوله سبحانه: (محلقين رءوسكم ومقصرين) ولو لم يكن من المناسك لما وصفهم به كاللبس وقتل الصيد ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ترحم على المحلقين ثلاثاً وعلى المقصرين مرة ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل كالمباحات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه في جميع حجهم وعمرهم ولم يخلوا به ولو لم يكن نسكاً لما داوموا عليه بل لم يفعلوه لأنه لم يكن من عادتهم فيفعلوه عادة ولا فيه فضل فيفعلوه لفضله. وأما أمره بالحل فإنما معناه والله أعلم الحل بفعله، لأن ذلك كان مشهوراً عندهم فاستغنى عن ذكره، ولا يمتنع الحل من العبادة بما كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 محرماً فيها كالسلام من الصلاة انتهى. واختار ابن القيم رحمه الله أن الحلق نسك وليس بإطلاق من محظور، وهو الذي مشى عليه في المنتهى والإقناع وغيرهما من كتب الأصحاب وهو المذهب، فعليه إذا ترك الحلق والتقصير معاً وجب عليه دم، وعلم من كونهما نسكاً أنه لا بد من نيتهما كنية الطواف نبه عليه الشيخ منصور في كل من شرح المنتهى والحاشية، وإن أخر الحلق والتقصير عن أيام منى فلا دم عليه لأنه لا حدَّ لآخرهما كما أنه لا حدَّ لطواف الإفاضة لقوله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى تبلغ الهدي محله) فبين أول وقته دون آخره فمتى أتى به أجزأه، وبهذا قال عطاء وأبو يوسف وأبو ثور. وعن أحمد عليه دم بتأخيره الحلق والتقصير عن أيام منى، وهو مذهب الحنفية لأنه نسك أخره عن محله، ومن ترك نسكاً فعليه دم، ولا فرق في التأخير بين القليل والكثير والعامد والساهي، وقال مالك الثوري وإسحق وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: من تركه حتى حل فعليه دم لأنه نسك فوجب أن يأتي به قبل الحل كسائر مناسكه، قال في الشرح الكبير: وهل يحل قبله؟ فيه روايتان: إحداهما أن التحلل إنما يحصل بالحلق والرمي معاً وهو ظاهر كلام الخرقي وقول الشافعي وأصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما ولأنهما نسكان يتعقبها الحل فكان حاصلاً بهما كالطواف والسعي في العمر. والثانية يحصل التحلل بالرمي وحده وهذا قول عطاء ومالك وأبي ثور، قال شيخنا (يعني عمه الموفق) وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله في حديث أم سلمة (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) وكذلك قال ابن عباس: قال بعض أصحابنا هذا ينبني على الخلاف في الحلق إن قلنا هو نسك حصل الحل به، وإلا حصل بالرمي وحده وهو الذي ذكره شيخنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 في كتابه المشروح انتهى كلام الشارح، ومراده بالكتاب المشروح المقنع لأن الشرح الكبير شرح له: وعبارة المغني قال: ظاهر كلام الخرقي هاهنا أن الحل إنما يحصل بالرمي والحلق معاً وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما ولأنهما نسكان يتعقبهما الحل فكان حاصلاً بهما كالطواف والسعي في العمرة. وعن أحمد إذا رمى الجمرة فقد حل وإذا وطيء بعد جمرة العقبة فعليه دم ولم يذكر الحلق، وهذا يدل على أن الحل بدون الحلق وهذا قول عطاء ومالك وأبي ثور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله في حديث أم سلمة: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) وكذلك قال ابن عباس: قال بعض أصحابنا هذا ينبني على الخلاف في الحلق هل هو نسك أو لا؟ فإن قلنا نسك حصل الحل به، وإلا فلا انتهى. قلت: تقدم أن التحلل الأول يحصل باثنين من ثلاثة: رمي، وحلق أو تقصير، وطواف إفاضة، وأن الحلق والتقصير نسك وهذا هو الصحيح من المذهب وعليه عمل المسلمين قديماً وحديثاً. وإن قدم الحلق على الرمي أو على النحر أو طاف للزيارة قبل رميه أو نحر قبل رميه جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه، وكذا لو كان عالماً لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال: يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي؟ فقال ارم ولا حرج، وأتاه آخر: فقال إني ذبحت قبل أن أرمي؟ فقال ارم ولا حرج، وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي؟ قال ارم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 ولا حرج، قال فما رأيته سئل يومئذ عن شيء إلا قال افعلوا ولا حرج) . متفق عليه. وعنه قال: (وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال اذبح ولا حرج، ثم جاء رجل آخر، فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: ارم ولا حرج، قال فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدّم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج) . رواه مسلم. وعن عليّ قال: (جاء رجل فقال: يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر؟ قال: انحر ولا حرج، ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله إني أفضت قبل أن أحلق؟ قال: احلق أو قصر ولا حرج) . رواه أحمد، وقوله صلى الله عليه وسلم: ولا حرج، يدل على أنه لا إثم ولا دم فيه، قال في الإقناع وشرحه: لكن يكره ذلك للعالم خروجاً من الخلاف، قال في الغاية، لكن السنة تقديم رمي فنحر فطواف انتهى. قال في المغني والشرح وروى ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى قال رجل رميت بعد ما أمسيت قال لا حرج رواه البخاري فإن أخرها إلى الليل لم يرمها حتى تزول الشمس من الغد، وبه قال أبو حنيفة وإسحق، وقال الشافعي ومحمد وأبو يوسف وابن المنذر يرمي ليلاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم ارم ولا حرج، ولنا أن ابن عمر رضي الله عنهما قال من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ارم ولا حرج إنما كان في النهار لأنه سأله في يوم النحر ولا يكون اليوم إلا قبل مغيب الشمس. وقال مالك يرمي ليلاً وعليه دم ومرة قال لا دم عليه انتهى. وعند المالكية: إن قدم الحلق على الرمي فعليه دم، وإن قدمه على النحر أو النحر على الرمي فلا شيء عليه لأنه بالإجماع ممنوع من حلق شعره قبل التحلل الأول ولا يحصل إلا برمي الجمرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 فأما النحر قبل الرمي فجائز لأن الهدي قد بلغ محله، وعندهم أيضاً لا تجزئه الإفاضة قبل الرمي، وعند الحنفية إن قدم الحلق على الرمي أو على النحر فعليه دم، فإن كان قارناً فعليه دمان. ومذهب الحنابلة هو ما تقدم للأحاديث الصحيحة الواردة في رفع الحرج عمن قدم أو أخر شيئاً قبل شيء. قال ابن القيم رحمه الله بعد كلام له سبق: وهناك سئل صلى الله عليه وسلم عمن حلق قبل أن يرمي، وعمن ذبح قبل أن يرمي، فقال: لا حرج إلى أن قال: وقال أسامة بن شريك (خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجاً وكان الناس يأتونه، فمن قائل: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف أو أخرت شيئاً وقدمت، فكان يقول لا حرج لا حرج إلا على رجل اعترض عرض رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي حرج وهلك) . وقوله سعيت قبل أن أطوف في هذا الحديث ليس بمحفوظ والمحفوظ تقديم الرمي والنحر والحلق بعضها على بعض انتهى كلامه رحمه الله تعالى. والسنة أن يرمي جمرة العقبة ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف طواف الإفاضة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها كذلك، فإن أخل بترتيبها فلا شيء عليه وتقدم قريباً، ثم يخطب الإمام أو نائبه يوم النحر بكرة النهار بمنى خطبة مفتتحة بالتكبير يعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمي للجمرات كلها أيام منى لحديث أبي بكرة قال (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليست بالبلدة؟ قلنا: بلى، قال: فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد فليبلغ الشاهد الغائب فرب مُبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) رواه أحمد والبخاري، وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر يعني بمنى، وفيه: ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت) . رواه البخاري. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وخطب صلى الله عليه وسلم الناس يعني بمنى خطبة بليغة أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وتحريمه وفضله عند الله وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمر بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه، وقال لعلي لا أحج بعد عامي هذا، وعلمهم مناسكهم وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم، وأمر الناس أن لا يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمر بالتبليغ عنه، وأخبر أنه رب مبلغ أوعى من سامع وقال في خطبته: (لا يجني جان إلا على نفسه) وأنزل المهاجرين عن يمين القبلة والأنصار عن يسارها والناس حولهم وفتح الله له أسماع الناس حتى سمعها أهل منى في منازلهم، وقال في خطبته تلك: (اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم) ، وودع حينئذ الناس فقالوا حجة الوداع انتهى كلامه رحمه الله تعالى. قال عطاء كان منزل النبي صلى الله عليه وسلم بمنى بالخيف قاله في المغني وتقدم. ويوم النحر هو يوم الحج الأكبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر (هذا يوم الحج الأكبر) رواه البخاري، وسمي بذلك لكثرة أفعال الحج فيه: من الوقوف بالشعر والدفع منه إلى منى والرمي والنحر والحلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وطواف الإفاضة والرجوع إلى منى ليبيت بها وليس في غيره مثله، وهو مع ذلك يوم عيد ويوم يحل فيه من إحرام الحج. -- فصل: ثم يفيض إلى مكة فيطوف متمتع لقدومه كطوافه لعمرته السابق في دخول مكة نصاً بلا رمل ولا اضطباع لأنه قد رمل في طواف العمرة، ثم يطوف للزيارة واختار ذلك الخرقي وأكثر الأصحاب، ويطوف مفرد وقارن لم يدخلا مكة قبل وقوفهما بعرفة للقدوم نصاً برمل واضطباع ثم للزيارة، قال الخرقي وإن كان متمتعاً فيطوف بالبيت سبعاً وبالصفا والمروة سبعاً كما فعل للعمرة ثم يعود فيطوف طوافاً ينوي به الزيارة وهو قوله عز وجل: (وليطوفوا بالبيت العتيق) . قال أبو محمد موفق الدين بن قدامة: أما الطواف الأول الذي ذكره الخرقي هاهنا فهو طواف القدوم لأن المتمتع لم يأت به قبل ذلك، والطواف الذي طافه في العمرة كان طوافها ونص أحمد على أنه مسنون للمتمتع في رواية الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله رحمه الله تعالى فإذا رجع، أعني المتمتع، كم يطوف ويسعى؟ قال يطوف ويسعى لحجه ويطوف طوافاً آخر للزيارة عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه، وكذا الحكم في القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم فإنهم يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة نص عليه أحمد أيضاً، واحتج الإمام أحمد بما روت عائشة قالت: (فطاف الذين أهلوا بالعمرة وبين الصفا والمروة ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً) فحمل أحمد قول عائشة على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم ولأنه قد ثبت أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 طواف القدوم مشروع فلم يكن طواف الزيارة مسقطاً له كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبس بصلاة الفرض، ولم أعلم أحد وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي بل المشروع طواف واحد للزيارة كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابة الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ولا أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أحداً، وحديث عائشة دليل على هذا فإنها قالت طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وهذا هو طواف الزيارة ولم تذكر طوافاً آخر ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج الذي لا يتم إلا به وذكرت ما يستغنى عنه، وعلى كل حال فما ذكرت إلا طوافاً واحداً فمن أين يستدل به على طوافين، وأيضاً فإنها لما حاضت قرنت الحج إلى العمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن طافت للقدوم ولا أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الخرقي في موضع آخر في المرأة إذا حاضت فخشيت فوات الحج أهلت بالحج وكانت قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب لشرع في حق المعتمر طواف للقدوم مع طواف العمرة لأنه أول قدومه إلى البيت فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به. وفي الجملة إن هذا الطواف المختل فيه ليس بواجب وإنما الواجب طواف واحد وهو طواف الزيارة وهو في حق المتمتع كهو في حق القارن والمفرد في أنه ركن للحج لا يتم إلا به ولا بد من تعيينه، فلو نوى به طواف الوداع أو غيره لم يجئه انتهى كلام الموفق، واختار الشيخ تقي الدين ما رجحه الموفق وصححه الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب. قال ابن القيم رحمه الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 بعدما حكى كلام الموفق المتقدم قلت: لم يرفع كلام أبي محمد الإشكال وإن كان الذي أنكره هو الحق كما أنكره، والصواب في إنكاره، فإن أحداً لم يقل إن الصحابة لما رجعوا من عرفة طافوا للقدوم وسعوا ثم طافوا للإفاضة بعده ولا النبي صلى الله عليه وسلم هذا لم يقطع قطعاً، ولكن كان منشأ الإشكال أن أم المؤمنين فرقت بين المتمتع والقارن فأخبرت أن القارنين طافوا طوافاً واحداً وأن الذين أهلوا بالعمرة طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وهذا غير طواف الزيارة قطعاً فإنه يشترك فيه القارن والتمتع فلا فرق بينهما فيه، ولكن الشيخ أبو محمد لما رأى قولها في المتمتعين أنهم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى، قال لبس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين، والذي قاله حق ولكن لم يرفع الإشكال، فقالت طائفة هذه الزيادة من كلام عروة أو ابنه هشام أدرجت في الحديث وهذا لا يتبين ولو كان فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال، فالصواب أن الطواف الذي أخبرت به عائشة وفرقت به بين المتمتع والقارن هو الطواف بين الصفا والمروة لا الطواف بالبيت وزال الإشكال جملة، فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما لم يضيفوا إليه طوافاً آخر يوم النحر وهذا هو الحق، وأخبرت عن المتمتعين أنهم طافوا بينهما طوافاً آخر بعد الرجوع من منى للحج وذلك الأول كان للعمرة وهذا قول الجمهور، وتنزيل الحديث على هذا موافق لحديثها الآخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسعك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك) وكانت قارنة ويوافق قول الجمهور، ولكن يشكل عليه حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) طوافه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 الأول هذا يوافق قول من يقول يكفي المتمتع سعي واحد، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله نص عليه في رواية ابنه عبد الله وغيره، وعلى هذا فيقال عائشة أثبتت وجابر نفى والمثبت مقدم على النافي، أو يقال مراد جابر من قرن مع النبي صلى الله عليه وسلم وساق الهدي كأبي بكر وعمر وطلحة وعلي رضي الله عنهم وذوي اليسار فإنهم إنما سعوا سعياً واحداً وليس المراد به عموم الصحابة، أو يعلل حديث عائشة بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام وهذه ثلاث طرق للناس في حديثها، والله أعلم انتهى كلام ابن القيم. قلت: ويأتي قريباً إن شاء الله البحث في مسألة المتمتع هل يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة لعمرته وحجه أم لا بد من سعيين بينهما، والله الهادي إلى سواء السبيل. قال الموفق والشارح: والأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف الزيارة، وهو ركن لا يتم الحج إلا به بغير خلاف. وطواف القدوم، وهو سنة لا شيء على تاركه. وطواف الوداع، وهو واجب يجب بتركه دم، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك: على تارك طواف القدوم دم ولا شيء على تارك طواف الوداع، وما زاد على هذه الأطوفة فهو نفل ولا شرع في حقه أكثر من سعي واحد بغير خلاف علمناه. قال جابر: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول) . رواه مسلم، ولا يكون السعي إلا بعد الطواف، فإن سعى مع طواف القدوم لم يسع بعده، وإن لم يسع معه سعى مع طواف الزيارة انتهى ملخصاً، وسمي طواف الزيارة بذلك لأنه يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم بمكن بل يرجع إلى منى، ويسمى طواف الزيارة الإفاضة لأنه يفعل بعدها، قال في الإقناع: ويسمى الصَّدر بفتح الصاد والدال المهملة: وهو رجوع المسافر من مقصده لأنه يفعل بعده أيضاً، وما ذكره في الإقناع من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 أنه يسمى طواف الصدر قاله ابن أبي الفتح في المطلع وابن حمدان في الرعاية والسامري في المستوعب وقدمه الزركشي، وصحح في الإنصاف أن طواف الصدر هو طواف الوداع وتبعه في المنتهى، ويعين طواف الزيارة بنيته لحديث (إنما الأعمال بالنيات) وكالصلاة، ويكون طواف الزيارة بعد وقوفه بعرفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف كذلك، وقال: (خذوا عني مناسككم) وطواف الزيارة هو الطواف الذي به تمام الحج فهو ركن من أركانه إجماعاً قاله ابن عبد البر، لقوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) ، وعن عائشة قالت: (حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله فقلت: يا رسول الله إنها حائض، قال أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: اخرجوا) متفق عليه. فعلم منه أنها لو مل تكن أفاضت يوم النحر لكانت حابستهم فيكون طواف الزيارة حابساً لمن لم يأت به، فإن رجع إلى بلده قبل أن يطوف للزيارة رجع من بلده باقياً على إحرامه بمعنى بقاء تحريم النساء عليه لا الطيب، وليس المخيط ونحوه لحصول التحلل الأول إن كان رمى جمرة العقبة وحلق، وإذا رجع من بلده طاف طواف الإفاضة وتقدم حكم ما لو وطئ قبل طواف الإفاضة، والرمي في الثامن من محظورات الإحرام، قال في شرح الإقناع: ويحرم بعمرة إذا وصل إلى الميقات فإذا حل منها طاف للإفاضة انتهى. قلت: قد يقال إن هذا من إدخال العمرة على الحج وفيه ما تقدم، وقد يقال الممنوع هو إدخال العمرة على الحج الكامل بخلاف ما إذا لم يكن بقي من الحج إلا طواف الإفاضة فقط والله أعلم. ويأتي في فصل أركان الحج وفي باب الإحصار البحث في هذه المسألة، ولا يجزئ عن طواف الإفاضة غيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 من طواف الوداع أو غيره لحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) وأول وقت طواف الزيارة من نصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة قبل، وإلا يكن وقف بعرفة فوقته بعد الوقوف بعرفة فلا يعتد به قبله وفعله يوم النحر أفضل لحديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى) متفق عليه، وفي حديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمكة الظهر) . رواه مسلم. قال ابن القيم رحمه الله لما ساق بعض الأوهام التي ذكرها بعضهم في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ومنها على القول الراجح وهم من قال صلى الظهر يوم النحر بمكة، والصحيح أنه صلاها بمنى انتهى، وإن أخر طواف الزيارة إلى الليل فلا بأس بذلك، وإن أخره عن يوم النحر وعن أيام منى جاز كالسعي، ولا شيء عليه لأن آخر وتقه غير محدود، وعند الشافعية أول وقت طواف الزيارة من نصف الليل من ليلة النحر ويبقى إلى آخر العمر، والأفضل في وقته أن يكون في يوم النحر، ويكره عندهم تأخيره إلى أيام التشريق من غير عذر، وعند الحنفية أوله طلوع الفجر من يوم النحر وآخره آخر أيام النحر، وعند المالكية يدخل وقت طواف الإفاضة بطلوع الفجر من يوم النحر وآخره تمام شهر ذي الحجة، وإن دخل شهر محرم فعليه دم. قال الحطاب وكذا لو طاف للإفاضة وأخر السعي حتى دخل شهر محرم فنه يعيد طواف الإفاضة ويسعى وعليه الهدي كما ذكره سند في باب المحصر انتهى كلامه، ثم يسعى متمتع لحجه بين الصفا والمروة لأن سعيه الأول كان لعمرته، ولا يكتفى بسعي عمرته لأنها نسك آخر بل يسعى لحجه، ويسعى من لم يسع مع طواف القدوم من مفرد وقارن، ومن سعى منهما لم يعده لأنه لا يستحب التطوع بالسعي كسائر الأنساك إلا الطواف بالبيت لأنه صلاة، قال في الشرح الكبير: ولا نعلم فيه خلافاً، والسعي ركن في الحج فلا يتحلل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 التحلل الثاني إلا بفعله لحديث حبيبة بنت أبي تجراة قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو رواؤهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) رواه أحمد، وتقدم الكلام على هذا الحديث في باب دخول مكة في فصل: ثم يخرج إلى الصفا فليراجع. وعن عائشة (ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة) متفق عليه مختصر فإن فعل السعي قبل الطواف عالماً أو ناسياً أو جاهلاً أعادة لما تقدم من أن شرط السعي وقوعه بعد الطواف. قلت عبارات الأصحاب صريحة واضحة في أن المتمتع إذا أفاض إلى مكة يلزمه بعد طواف الإفاضة السعي بين الصفا والمروة لحجه، لأن سعيه الأول كان لعمرته. والعمرة نسك آخر. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وليس على المفرد إلا سعي واحد وكذلك القارن عند جمهور العلماء وكذلك المتمتع في أصح قوليهم وهو أصح الروايتين عن أحمد، وليس عليه إلا سعي واحد فإن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة قبل التعريف، فإذا اكتفى المتمتع بالسعي الأول أجزأه ذلك كما يجزئ المفرد والقارن، وكذلك قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، قيل لأبي: المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة؟ قال: إن طاف طوافين يعني بالبيت وبين الصفا والمروة فهو أجود، وإن طاف طوافاً واحداً فلا بأس، وإن طاف طوافين فهو أعجب إليّ. قال أحمد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقول: المفرد والقارن والمتمتع بجزئه طواف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة. وقد اختلف في الصحابة المتمتعين مع النبي صلى الله عليه وسلم مع اتفاق الناس على إنهم طافوا أولاً بالبيت بين الصفا والمروة ولما رجعوا من عرفة قيل إنهم سعوا أيضاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 بعد طواف الإفاضة، وقيل لم يسعوا، وهذا هو الذي ثبت في صحيح مسلم عن جابر قال: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول) ، وقد روي في حديث عائشة أنهم طافوا مرتين، لكن هذه الزيادة قيل إنها من قول الزهري لا من قول عائشة، وقد احتج به بعضهم على أنه يستحب طوافان بالبيت وهذا ضعيف: والأظهر ما في حديث جابر ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فالمتمتع من حين أحرم بالعمر دخل في الحج لكنه فصل بتحلل ليكون أيسر على الحاج، وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة، ولا يستحب للمتمتع ولا لغيره أن يطوف للقدوم بعد التعريف، بل هذا الطواف هو السنة في حقه كما فعل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طاف طواف الإفاضة فقد حل له كل شيء النساء وغير النساء انتهى. كلام شيخ الإسلام. قوله رحمه الله وقد روي في حديث عائشة أنهم طافوا مرتين مراده بحديث عائشة الحديث المتقدم الذي تكلم عليه ابن القيم رحمه الله، وقد جاء في (فطاف الذين أهلوا بالعمرة وبين الصفا والمروة ثم حلو ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم) ، ومراد عائشة بهذا الطواف الآخر هو السعي بين الصفا والمروة كما هو ظاهر كلام شيخ الإسلام المتقدم، وقد حققه ابن القيم كما تقدم قريباً، وقوله رحمه الله: ولا يستحب للمتمتع ولا لغيره أن يطوف للقدوم بعد التعريف إلى آخره خلافاً لما ذهب إليه الخرقي وهي رواية الأثرم عن أحمد وتقدم ذلك قريباً والله أعلم. وقال في الفروع بعد كلام سبق: وعند يجزئ سعي عمرته واختاره شيخنا انتهى. يعني صاحب الفروع أن المتمتع إذا سعى لعمرته يجزئه سعيها فلا يحتاج بعد ذلك إلى سعي آخر بين الصفا والمروة لحجه على هذه الرواية التي اختارها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 شيخه سيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. قلت: وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يكن معه هدي فليحلل، قال: قلنا أي الحل؟ قال: الحل كله، قال: فأتينا النساء، ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة) فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن المتمتع يكفيه سعي واحد لعمرته وحجه بين الصفا والمروة، ولقد أوّل النووي هذا الحديث وصرفه عن ظاهره حيث قال في شرح مسلم على هذا الحديث: قوله وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة يعني القارن منا وأما المتمتع فلا بد له من السعي بين الصفا والمروة في الحج بعد رجوعه من عرفات وبعد طواف الإفاضة انتهى كلام النووي. قلت: هذا صرف للحديث عن ظاهره الذي لا يحتمل التأويل، لأن قوله في الحديث (فأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ومسسنا الطيب فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة) صريح واضح في أنهم حلوا من إحرام العمر فإنهم أهلوا أولاً بالحج مفردين له ثم بعد طوافهم بالبيت وبين الصفا والمروة أمر صلى الله عليه وسلم من لم يكن معهد هدي منهم بفسخ الحج إلى العمر فسمعوا وأطاعوا وفسخوا حجهم فصار حكمهم بعد الفسخ حكم المتمتع ابتداء، ولو كانوا قارنين كما جنح إليه النووي ما أتوا النساء ولا لبسوا الثياب ولا مسوا الطيب، لأن القارنين يثبتون على إحرامهم كالمفردين ولا يحلون إلا يوم النحر، إذا تقرر ذلك فإن هذا الحديث صريح في أن المتمتع يكفيه السعي لعمرته وأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 لا يحتاج بعد طواف الإفاضة إلى سعي بين الصفا والمروة لحجه، ويدل لذلك أيضاً الحديث الآخر عن جابر أيضاً، قال: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول) . رواه مسلم. فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً والقارن يكفيه سعي واحد. قلنا هذا مسلَّم ولكن معظم الصحابة رضي الله عنهم كانوا متمتعين لأنهم فسخوا حجهم إلى العمرة وحلوا من إحرامهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يكن معهم هدي، وحديث جابر هذا صريح في أنهم لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً قبل التعريف فهو عام يشمل القارن والمتمتع، وإذا قيل إن الذين لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً هم القارنون لا المتمتعون قلنا هذا تقييد لما أطلقه الحديث بغير دليل مع أن حديث جابر المتقدم لا يحتمل مجالاً لقائل، حيث جاء فيه: (فأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة) ويؤيد ذلك ما في سنن أبي داود، عن جابر قال (قدم رسول الله صلى الله عليه وأصحابه لأربع خلون من ذي الحجة، فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج، فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة) انتهى ويؤيد ذلك أيضاً ما في سنن النسائي. قال النسائي في سننه: كم طواف القارن والمتمتع بين الصفا والمروة؟ وساق بسنده إلى جابر رضي الله عنه أنه قال: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) انتهى، قال السندي في حاشيته على سنن النسائي قوله وأصحابه: أي الذي وافقوه في القران، وقيل بل مطلقاً والصحابة كانوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 ما بين قارن ومتمتع وكل منهما يكفيه سعي واحد وعليه بنى المصنف يعني النسائي ترجمته انتهى كلام السندي. قلت: فترجمة النسائي لحديث جابر وهي قوله كم طواف القارن والمتمتع بين الصفا والمروة تفيد أنه يرى شمول الحديث للقارن والمتمتع جميعاً والله أعلم، ولكن يشكل على ما تقدم ما روى البخاري في صحيحه في باب قول الله تعالى: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) قال عن ابن عباس رضي الله عنهما (أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهلّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال تعال: (فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) إلى أمصاركم الشاة تجزئ فجمعوا النسكين في عام بين الحج والعمرة الحديث، قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: قوله فقد تم حجنا ومن هنا أي من قوله فقد تم حجنا إلى آخر الحديث موقوف على ابن عباس، ومن هنا إلى أوله مرفوع انتهى، فحديث ابن عباس هذا يدل على أن المتمتع لا يكفيه لعمرته وحجه سعي واحد بين الصفا والمروة وأنه لا بد له من سعيين واحد للعمرة وآخر للحج والله أعلم. قلت: ومما تقدم يتضح أن المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة لعمرته وحجه لحديث جابر المتقدم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورواية عن الإمام أحمد، وإن سعى بينهما مرتين واحدة لعمرته، وأخرى لحجه عملاً بحديث ابن عباس المتقدم فهو أحوط وهو قول جمهور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 العلماء والله أعلم، ثم بعد التحلل الثاني قد حل له كل شيء حتى النساء. فائدة: إذا مرض من أحرم بالحج وأتى ببعض المناسك وعجز عن طواف الإفاضة فإنه يطاف به محمولاً أو راكباً ولا يستنيب إن كان حجه فرضاً، فإن كان نفلا جاز له أن يستنيب ولو لغير عذر، لأنه إذا جازت الاستنابة في كل الحج ولو لغير عذر جازت في بعضه من باب أولى، والله أعلم. تتمة: إذا توفي إنسان وقد بقي عليه بعض مناسك الحج فإنها تفعل عنه بعد موته، ولا فرق بين الفرض والنفل ولا كون الحج عن نفسه أو عن غيره، وتقدم في فصل الاستنابة في الحج أول الكتاب فليراجع كما تقدم ذلك أيضاً في باب محظورات الإحرام، ولكن في صحيح البخاري ما نصه: باب المحرم يموت بعرفة، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدى عنه بقية الحج، ثم ذكر حديث الرجل الذي وقصته راحلته وهو واقف بعرفة، قال القسطلاني في شرحه على البخاري بعد قول المصنف بقية الحج: أي كرمي الجمار والحلق وطواف الإفاضة لأن أثر إحرامه باق لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، وإنما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدى عنه بقية الحج لأنه مات قبل التمكن من أداء بقيته فهو غير مخاطب به كمن شرع في صلاة مفروضة أول وقتها فمات في أثنائها فإنه لا تبعة عليه فيها إجماعاً انتهى كلام القسطلاني. -- فصل: ثم يأتي زمزم فيشر منها لما أحبَّ لحديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) . رواه أحمد وابن ماجة وابن أبي شيبة والبيهقي والدارقطني والحاكم وصححه المنذري والدمياطي وحسنه الحافظ وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وقد تفرد به كما قال البيهقي وهو ضعيف وأعله ابن القطان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 به، وقد رواه البيهقي من طريق أخرى عن جابر، وفيه سويد بن سعيد، وهو ضعيف جداً وإن كان مسلم قد أخرج له فإنما أخرج له في المتابعات، لكن يأتي في كلام ابن القيم رحمه الله تعالى أن عبد الله بن المبارك روى هذا الحديث عن ابن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر، وأن ابن أبي الموالي ثقة وعن عائشة رضي الله عنها (أنها كانت تحمل من ماء زمزم وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وأخرجه البيهقي والحاكم وصححه، وعن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فأت الله رسوله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال: اسقني، فقال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقني فشرب، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، يعني عاتقه وأشار إلى عاتقه) رواه البخاري. وفي الحديث كراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات وأن الأصل فيها الطهارة والنظافة حتى يتحقق ما يخالف الأصل. وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم حيث شرب من ماء زمزم وهم يضعون أيديهم فيه. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ماء زمزم لما شرب له، إن شربته لتستشفي به شفاك الله، وإن شربته يشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لتستشفي به شفاك الله، وإن شربته يشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لقطع ظَمِئك قطعه الله، وإن شربته مستعيذاً أعاذك الله، وهي هزمة جبريل وسقيا إسماعيل) . رواه الدارقطني قال: فكان ابن عباس إذا شرب ماء زمزم، قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 واسعاً، وشفاء من كل داء. قوله: ماء زمزم لما شرب له، فيه دليل على أن ماء زمزم ينفع الشارب إذا شاء الله لأي أمر شربه لأجله سواء كان من أمور الدنيا أو الآخرة، لأن (ما) في قوله لما شرب له من صيغ العموم. قوله: لولا أن تغلبوا وذلك بأن يظن الناس أن النزع سنة فينزع كل رجل لنفسه فيغلب أهل السقاية عليها. قوله: لا يتضلعون: أي لا يروون من ماء زمزم. قال في القاموس: وتضلع: امتلأ شبعاً أو رياً حتى بلغ الماء أضلاعه انتهى. قوله: هزمة جبريل بالزاي: أي حفرة جبريل لأنه ضربها برجله فنبع الماء، قال في القاموس: هزمه يهزمه: غمزه بيده فصارت فيه حفرة، ثم قال: والهزائم البئار الكبيرة الغزر الماء. قوله: وسقيا إسماعيل: أي أظهره الله ليسقي بها إسماعيل في أول الأمر. فائدة: سبب ظهور زمزم هو ما روى ابن عباس رضي الله عنهما (أن هاجر لما أشرفت على المروة حين أصابها وولدها العطش على ما تقدم في السعي سمعت صوتاً فقالت صهٍ، تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا تغترف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغترف) قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغترف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً، قال فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنى هذا الغلام وأبوه فإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله) . أخرجه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ماء زمزم سيد المياه وأشرفها وأجلها قدراً وأحبها إلى النفوس وأغلاها ثمناً وأنفسها عند الناس، وهو هزمة جبرائيل وسقيا إسماعيل. وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر وقد أقام بين الكعبة وأستارها أربعين ما بين يوم وليلة، وليس له طعام غيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها طعام طُعم) وزاد غير مسلم بإسناده (وشفاء سقم) . وفي سنن ابن ماجة من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) وقد ضعف هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المؤمل رواية عن محمد بن المنكدر، وقد روينا عن عبد الله بن المبارك أنه لما حج أتى زمزم فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه عن نبيك صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) فإني أشربه لظمأ يوم القيامة، وابن أبي الموالي ثقة، فالحديث إذاً حسن، وقد صححه بعضهم وجعله بعضهم موضوعاً، وكلا القولين فيه مجازفة، وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله، وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر ولا يجد جوعاً ويطوف مع الناس كأحدهم وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً وكان له قوة يجامع بها أهل ويصوم ويطوف مراراً انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى. وفي صحيح مسلم في فضائل أبي ذر ثم قال يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم (متى كنت هاهنا؟ قال: قلت قد كنت هاهنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟ قال قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، قسمنت حتى تكسرت عُكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، قال: إنها مباركة إنها طعام طُعمٍ) . وعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ابن عباس رضي الله عنهما قال: (سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم، قال عاصم: فحلف عكرمة ما كان يومئذ إلا على بعير) . رواه البخاري. قوله: قال عاصم، يعني الأحول. قوله فحلف عكرمة يعني مولى ابن عباس، قوله ما كان يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله يومئذ: أي يوم سقاه ابن عباس من ماء زمزم إلا راكباً على بعير. قال ابن القيم رحمه الله تعالى، ثم أتى صلى الله عليه وسلم زمزم بعد أن قضى طوافه وهم يسقون فقال: (لولا أن يغلبكم الناس لنزلت فسقيت معكم ثم ناولوه الدلو فشرب وهو قائم فقيل هذا نسخ لنهيه عن الشر قائماً، وقيل بل بيان منه لأن النهي على وجه الاختيار وترك الأولى، وقيل بل للحاجة وهذا أظهر، وهل كان في طوافه هذا راكباً أو ماشياً؟ فروى مسلم في صحيحه عن جابر قال (طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن) وهذا الطواف ليس بطواف الوداع فإنه كان ليلاً، وليس بطواف القدوم لوجهين ثم ذكرهما عمار رحمه الله تعالى انتهى. قلت: فإذا لم يكن طواف الوداع ولا طواف القدوم فإن الطواف المذكور هو طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج والله أعلم. لطيفة: سأل الحفاظ بن حجر العسقلاني الشيخ ابن عرفة حين اجتماعه به في مصر عن ماء زمزم لِمَ لم يكن عذباً فقال ابن عرفة في جوابه إنما لم يكن عذباً ليكون شربه تعبداً لا تلذذاً، فاستحسن ابن حجر جوابه وطرب به انتهى. قال الأزرقي في تاريخ مكة: وعن وهب بن منبه أنه قال في زمزم: والذي نفسي بيده إنها لفي كتاب الله تعالى مضنونة، وإنها لفي كتاب الله برة وإنها لفي كتاب الله سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 شراب الأبرار، وإنها لفي كتاب الله طعام وشفاء سقم، إلى أن قال: والذي نفس وهب بيده لا يعمد إليها أحد فيشرب منها حتى يتضلع إلا نزعت منه داء وأحدثت له شفاء، وبسند الأزرقي إلى علي رضي الله عنه قال: خير بئر في الناس بئر زمزم، وبسنده إلى العباس بن عبد المطلب قال: تنافس الناس في زمزم في الجاهلية حتى إن كان أهل العيال يغدون بعيالهم فيشربون منها فتكون صبوحاً لهم وقد كنا نعدها عوناً على العيال. وبسنده إلى ابن عباس قال: كانت تسمى في الجاهلية شباعة يعني زمزم وإنها نعم العون على العيال، وبسنده إلى ابن عباس أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق) وبسنده إلى الضحاك بن مزاحم قال: بلغني أن التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق وأن ماءها يذهب الصداع انتهى. قال في المنتهى وشرحه. ثم يشر من ماء زمزم لما أحب ويتضلع منه ويرش على بدنه وثوبه لحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنت جالساً عند ابن عباس فجاءه رجل فقال من أين جئت؟ قال: من زمزم، قال فشربت منها كما ينبغي؟ قال فكيف؟ قال إذا شربت منها فاستقبل القبلة أي الكعبة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثاً من ماء زمزم وتضلع منها، فإذا فرغت منها فاحمد الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (آية ما بيننا وبين المنافقين أنه لا يتضلعون من ماء زمزم) . رواه ابن ماجة انتهى، وأخرجه أيضاً الدارقطني والحاكم من طريق ابن أبي مليكة. فائدتان: الأولى قال الشيخ محمد السفاريني: ورد أن زمزم عين من الجنة، وذكر بعضهم أن حبشياً وقع في بئر زمزم فنزحت من أجله فوجدوها تفور من ثلاث أعين، أقواها وأكثرها ماء عين من ناحية الحجر الأسود، والثانية من جهة الصفا، والثالثة من جهة المروة انتهى. الثانية قال الشيخ ابن العماد في شرح الغاية: لا بأس بنقل ماء زمزم للهدية تبركاً به كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 يفعله كثير من الحجاج، وخاصيته من أنه طعام طعم وشفاء سقم لا ترفه كما ظنه بعضهم، ولا تبدله الملائكة كما ظنه آخرون لكن من صحبه معه وفقد الماء في الطريق لا يباح له التيمم لأن عنده ماءاً طهوراً ويجب عليه استعماله، وكذا إن اضطر إليه عطشان من حيوان محترم فيجب بذله، فليحفظ فإنه مهم انتهى. قلت: لا نسلم لابن العماد إطلاقه هذا الكلام في عدم إباحة التيمم لمن كان معه ماء من زمزم لا سيما إذا كان قليلاً لأن المسلمين قديماً وحديثاً وفيهم العلماء المحققون يتيممون ومعهم الماء الذي يحتاجونه لشربهم وطبخهم خصوصاً في الطرق التي لا يوجد فيها الماء مسافة اليومين والثلاثة والأربعة على الإبل، وقد يردون الماء ومعهم شيء فاضل من الماء الذي يحملونه ولا يوجب ذلك عدم صحة تيممهم، أما وجوب بذله إذا اضطر غليه عطشان فهو صحيح بشرط أن لا يحتاج إليه صاحبه فإن احتاج إليه صاحبه واضطر إلى شربه فلا يلزم بذله لغيره، لأن حاجته مقدمة على حاجة غيره، والضرر لا يزال بالضرر كما نص العلماء على ذلك، والله أعلم. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ومن حمل شيئاً من ماء زمزم جاز فقد كان السلف يحملونه انتهى. ويسن أن يدخل البيت والحجر منه لحديث عائشة قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس، ثم رجع إليّ وهو حزين فقلت له؟ فقال إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي) . رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي، وأخرجه أيضاً وصححه ابن خزيمة والحاكم، وعن أسامة بن زيد قال (دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فجلس فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل، ثم قام إلى ما بين يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه ثم هلل وكبر ودعا، ثم فعل ذلك بالأركان كلها، ثم خرج فأقبل على القبلة وهو على الباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 فقال هذه القبلة هذه القبلة مرتين أو ثلاثاً) . رواه أحمد والنسائي ورجاله رجال الصحيح، وأصله في صحيح مسلم بلفظ (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ في البيت ولكنه كبر في نواحيه) . قال الشوكاني: في هذا الحديث دليل على مشروعية وضع الصدر والخد على جميع الأركان مع التهليل والتكبير والدعاء انتهى. وعن عبد الرحمن بن صفوان قال (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انطلقت فوافقته قد خرج من الكعبة وأصحابه قد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم وقد وضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم) . رواه أحمد وأبو داود، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد ولا يحتج بحديثه، وقد ذكر الدارقطني أن يزيد بن أبي زياد تفرد به عن مجاهد، ولكن ذكر الذهبي أنه صدوق من ذوي الحفظ، وكر في الخلاصة أنه كان من الأئمة الكبار، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وله أن يفعل الالتزام قبل طواف الوداع فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة. انتهى. قلت: الالتزام للقادم قد يكون من باب الاشتياق للبيت بعد الغربة الطويلة عنه وللمسافر أيضاً لأنه أراد مفارقة بيت الله العتيق، وقد يكون الالتزام من باب الذل والخضوع بين يدي الله في هذا المقام الشريف على حسب نية الملتزم وقصده، خلافاً لما يعتقده بعض الجهلة من أن التزام البيت والتمسح به ووضع الخد والصدر عليه يحصل لهم به بركة البيت من الشفاء والنفع ودفع الضرر والسقم، وهذا الاعتقاد من أعظم الضلال عياذاً بالله من الخذلان. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يلتزم ما بين الركن والباب ويقول لا يلتزم ما بينهما أحد يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، فيجب على كل مسلم أن يخلص عمله لله جل وعلا، وأن يتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإخلاص في العمل والمتابعة للرسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 صلى الله عليه وسلم شرطان لقبول العمل، فإن فقد الشرطان أو أحدهما فالعمل غير مقبول عند الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً والله أعلم. قال الشيخ مرعي في الغاية: ولا يرفع بصره إلى سقف البيت ولا يشتغل بذاته بل بإقباله على ربه انتهى. قلت: وذلك لما ذكره المحب الطبري في القرى عن عائشة أنها قالت: واعجبا للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قبل السقف لا يدع ذلك إجلالاً لله تعالى وإعظاماً له (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلَّف بصره موضع سجوده حتى خرج منها) أخرجه أبو ذر وابن الصلاح في منسكيهما انتهى. قال ابن ظهيرة في الجامع اللطيف: ومنها أنه لا يرفع بصره إلى السقف لحديث عائشة رضي الله عنها قالت (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلَّف بصره موضع سجوده حتى خرج منها) أخرجه البيهقي في سننه والحاكم في المستدرك. قال المحب الطبري: وإنما كره ذلك لأنه يولد الغفلة واللهو عن القصد انتهى، ويكون حال دخول البيت والحجر حافياً بلا خف ولا نعل لما روى الأزرقي عن الواقدي عن أشياخه: أول من خلع الخف والنعل فلم يدخل الكعبة بهما الوليد بن المغيرة إعظاماً لها فجرى ذلك عادة وبغير سلاح نصاً، ويكبر في نواحيه، ويدعو في نواحيه، ويصلي فيه ركعتين لقول ابن عمر (دخل النبي صلى الله عليه وسلم وبلال وأسامة بن زيد البيت، فقلت لبلال: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: أين؟ قال: بين العمودين تلقاء وجهه قال ونسيت أن أسأله كم صلى) متفق عليه، فإن لم يدخل البيت فلا بأس لحديث عائشة وتقدم قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ودخول نفس الكعبة ليس بفرض ولا سنة مؤكدة بل دخولها حسن والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدخلها في الحج ولا في العمر لا عمرة الجعرانة ولا عمرة القضية، وإنما دخلها عام فتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 مكة. ومن دخلها يستحب له أن يصلي فيها ويكبر الله ويدعوه ويذكره، وإذا دخل من الباب حتى يصير بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع والباب خلفه فذلك هو المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدخلها إلا حافياً والحجر أكثره من البيت من حيث ينحني حائطه فمن دخله فهو كمن دخل الكعبة، وليس على داخل الكعبة ما ليس على غيره من الحجاج بل يجوز له من المشي حافياً وغير ذلك ما يجوز لغيره، والإكثار من الطواف بالبيت من الأعمال الصالحة انتهى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهاهنا ثلاث مسائل: هل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت في حجته أم لا؟ وهل وقف في الملتزم بعد الوداع أم لا؟ وهل صلى الصبح ليلة الوداع بمكة أو خارجهاً منها؟ فأما المسألة الأولى: فزعم كثير من الفقهاء وغيرهم أنه دخل البيت في حجته، ويرى كثير من الناس أن دخول البيت من سنن الحج اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، والذي تدل عليه سنته أنه لم يدخل البيت في حجته ولا في عمرته وإنما دخله عام الفتح، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقة لأسامة حتى أناخ بفناء الكعبة فدعا عثمان بن طلحة بالمفتاح فجاء به ففتح فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأجافوا عليهم الباب ملياً ثم فتحوه، قال عبد الله: فبادرت الناس فوجدت بلالاً على الباب فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بين العمودين المقدَّمين، قال: ونسيت أن أسأله كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي صحيح البخاري عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، قال: فأمر بها فأخرجت، قال: فأخرجوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط، قال فدخل البيت فكبر في نواحيه ولم يصل فيه) فقيل كان ذلك دخولين صلى في أحدهما ولم يصل في الآخر، وهذه طريقة ضعفاء النقد كلما رأوا اختلاف لفظ جعلوه قصة أخرى كما جعلوا الإسراء مراراً لاختلاف ألفاظه، وجعلوا شراءه من جابر بعيره مراراً لاختلاف ألفاظه، وجعلوا طواف الوداع مرتين لاختلاف سياقه ونظائر ذلك. وأما الجهابذة النقاد فيرغبون عن هذه الطريقة ولا يجبنون عن تغليط من ليس معصوماً من الغلط ونسبته إلى الوهم. قال البخاري وغيره من الأئمة: والقول قول بلال لأنه مثبت شاهد صلاته، بخلاف ابن عباس، والمقصود أن دخوله إنما كان في غزاة الفتح لا في حجة ولا عمرة، وفي صحيح البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته البيت؟ قال: لا، وقالت عائشة: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس ثم رجع إليَّ وهو حزين القلب، فقلت يا رسول الله خرجت من عندي وأنت كذا وكذا؟ فقال: إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي) فهذا ليس فيه أنه كان في حجته بل إذا تأملته حق التأمل أطلعك التأمل على أنه كان في غزاة الفتح والله أعلم. وسألته عائشة أن تدخل البيت فأمرها أن تصلى في الحجر ركعتين. وأما المسألة الثانية وهي وقوفه في الملتزم، فالذي روي عنه أنه فعله يوم الفتح ففي سنن أبي داود عن عبد الرحمن بن أبي صفوان قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الكعبة هو وأصحابه وقد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم ووضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم) وروى أبو داود أيضاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه قال: (طفت مع عبد الله فلما حاذى دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره وجبهته وذراعيه وكفيه هكذا وبسطهما بسطا، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) ، فهذا يحتمل أن يكون في وقت الوداع وأن يكون في غيره، ولكن قال مجاهد والشافعي وغيرهما إنه يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع ويدعو، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يلتزم ما بين الركن والباب، وكان يقول لا يلتزم ما بينهما أحد يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه والله أعلم انتهى كلام ابن القيم، ومراده بقوله طفت مع عبد الله هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فعمرو هو ابن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فعبد الله بن عمرو هو جد شعيب المذكور، والطائف هو محمد مع أبيه عبد الله بن عمرو، والله أعلم. وأما المسألة الثالثة، وهي موضع صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع، فنذكرها إن شاء الله عند الكلام على وجوب طواف الوداع على من خرج من مكة. قال في الإقناع وشرحه: ومن أراد أن يستشفي بشيء من طيب الكعبة فليأت بطيب من عنده فليرقه على البيت ثم يأخذه ولا يأخذ من طيب الكعبة شيئاً: أي يحرم ذلك لأنه صرف للموقوف في غير ما وقف عليه انتهى. قلت: وفي جواز الاستشفاء بالطيب الذي يضعه على الكعبة نظر ظاهر، ولو قيل بالمنع من ذلك لكان له وجه صحيح لأنه من قبيل التبرك ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم جواز ذلك، ولا فعله الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 ولا سائر الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل. تنبيهات: الأول؛ منع الإمام مالك أن يشترك مع بني شيبة غيرهم في خدمة البيت لأنها ولاية منه صلى الله عليه وسلم لهم، وأما نزعها منهم بالكلية فقد نص الحديث على منعه، وذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض من عثمان بن طلحة يوم الفتح مفتاح الكعبة ودخل به الكعبة ومعه أسامة بن زيد وبلال بن رباح وعثمان بن طلحة فخرج وهو يتلو هذه الآية (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح وقال: خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه لا ينزعها منكم إلا ظالم) ، وروى الأزرقي بسنده قال: (ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة ومعه المفتاح فتنحى ناحية من المسجد فجلس وكان قد قبض السقاية من العباس، وقبض المفتاح من عثمان بن طلحة، فلما جلس بسط العباس بن عبد المطلب يده فقال: بأبي وأمي يا رسول الله أجمع لنا الحجابة والسقاية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيكم ما ترزءون منه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ادع لي عثمان، فقام عثمان بن عفان، فقال: ادع لي عثمان، فقام عثمان بن طلحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن طلحة يوماً وهو بمكة يدعوه إلى الإسلام ومع عثمان بن طلحة المفتاح فقال صلى الله عليه وسلم لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت، فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل عزت وعمرت يومئذ يا عثمان، قال عثمان: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أخذه المفتاح، فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم وما كان قال لي، فأقبلت فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر، ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله سبحانه وتعالى استأمنكم على بيته فخذوها بأمانة الله عز وجل، قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال صلى الله عليه وسلم، ألم يكن الذي قلت لك؟ قال فذكرت قوله لي بمكة، فقلت بلى أشهد أنك رسول الله فأعطاه المفتاح والنبي صلى الله عليه وسلم مضطبع عليه بثوبه وقال عليه السلام غيبوه) . انتهى. التنبيه الثاني: قال الحطاب: أجمع العلماء على حرمة أخذ خدمة الكعبة أجرةً على فتحها لدخول الناس خلافاً لما يعتقده بعض الجهلة من أن بني شيبة ولا ولاية عليهم وأنهم يفعلون بالبيت ما شاءوا انتهى كلام الحطاب. قلت وهو كما قال، لأن هذا ينافي أخذ الحجابة بأمانة الله التي اشترطها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمننا هذا إذا فتح آل شيبة الكعبة في موسم الحج يحصل لهم من الحجاج الذين يدخلونها شيء من المال ولو تنزهوا عن الأخذ لكان هو اللائق بهم والأحسن في حقهم والله ولي التوفيق. قال في لباب المناسك وشرحه لملا علي قاري: أمر كسوة الكعبة زادها الله شرفاً وكرماً إلى السلطان إذا صارت خلقاً إن شاء باعها وصرف ثمنها في مصالح البيت كما اقتصر عليه في الفتاوى السراجية وإن شاء ملكها لأحد ولو لواحد من المسلمين إذا كان من المساكين، وإن شاء فرّقها على الفقراء: أي جمع منهم سواء من أهل مكة وغيرهم ويستوي بنو شيبة وخدمهم فيهم، ولا بأس بالشراء منهم، أي من الفقراء بعد أخذهم وقبضهم على ما في النخبة، لكن في البحر الزاخر أنه لا يجوز قطع شيء من كسوة الكعبة ولا نقله ولا بيعه ولا شراؤه ولا وضعه في أوراق المصحف، ومن حمل شيئاً من ذلك فعليه رده، ولا عبرة بما يتوهم الناس أنهم يشترونه من بني شيبة فإنهم لا يملكونه انتهى. وفي النخبة: رجل اشترى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 من بعض الخدام ستر الكعبة لا يجوز، ولو نقله المشتري إلى بلدة أخرى يتصدق به على الفقراء وهذا إذا لم ينقله الإمام، أما إذا نقله الإمام للخدام أو لآخر من المسلمين فجائز كما تقدم أن الأمر رفيه إلى الإمام انتهى، وهو محمول على ما إذا كانت الكسوة من عمد الإمام بخلاف ما إذا كانت من وقف فإنه يراعي شرط واقفه في جميع الأحكام انتهى. قال في الدر المختار على متن تنوير الأبصار للحنفية: يندب دخول البيت إذا لم يشتمل على إيذاء نفسه أو غيره، وما يقوله العوام من العروة الوثقى والمسمار الذي في وسطه أن سرة الدنيا لا أصل له، ولا يجوز شراء كسوة الكعبة من بني شيبة بل من الإمام أو نائبه وله لبسها ولو جنباً أو حائضاً انتهى، قال في رد المحتار لابن عابدين الحنفي قوله: إذا لم يشتمل على إيذاء نفسه ومثله فيما يظهر دفع الرشوة على دخوله، لقوله في شرح اللباب: ويحرم أخذ الأجرة ممن يدخل البيت بلا خلاف بين علماء الإسلام وأئمة الأنام كما صرح به في البحر وغيره انتهى. وقد صرحوا بأن ما حرم أخذه حرم دفعه إلا لضرورة ولا ضرورة هنا لأن دخول البيت ليس من مناسك الحج انتهى من رد المحتار. وقال أيضاً قوله: وله لبسها: أي للشاري إن كان امرأة أو كان رجلاً وكانت الكسوة من غير الحرير كما في شرح اللباب، ونقل بعض المحشين عن المنسك الكبير للسندي تقييد ذلك أيضاً بما إذا لم تكن عليها كتابة لا سيما كلمة التوحيد انتهى من رد المحتار. قال في الإقناع وشرحه: ويتصدق بثياب الكعبة إذا نزعت نص عليه الإمام أحمد لفعل عمر رواه مسلم عن ابن أبي نجيح عنه فهو مرسل، وروى الثوري أن شيبة كان يدفع خلقان البيت إلى المساكين وقياساً على الوقف المنقطع بجامع انقطاع المصرف انتهى، وفي هذه الأزمان يأخذ آل شيبة كسوة الكعبة القديمة كل سنة ويبيعونها في الدكاكين وغيرها جهاراً ويتمولون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 قيمتها مع غناهم عن ثمنها وهذا مخالف للنصوص الشرعية لأن مصرف كسوة الكعبة إذا نزعت للفقراء والمساكين، والله أعلم ثم في سنة 1381 رأت الحكومة حفظ كسوة الكعبة في دائرة الأوقاف بعد أن تكسى بالكسوة الجديدة، وذلك لأمور شرعية، وقررت لآل شيبة مبلغاً كبيراً عوضاً عن الكسوة القديمة وصار آل شيبة يقبضونه سنوياً من الحكومة السعودية، أيدها الله بنصره. -- فصل: ثم يرجع من أفاض إلى مكة بعد الطواف والسعي على ما تقدم إلى منى فيبيت بها وجوباً، قال الشيخ مرعي في غايته: ويتجه المراد معظم الليل انتهى لحديث ابن عباس قال: (لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة إلا للعباس لأجل سقايته) رواه ابن ماجة ثلاث ليال إن لم يتعجل في يومين وليلتين إن تعجل ويصلي بها ظهر يوم النحر نصاً، نقله أبو طالب لحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى متفق عليه. فإن قيل جاء في حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إلى المنحر فنحر، ثم ركب فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر) مختصر من مسلم، وظاهر هذا التنافي قلت: قد جمع النووي بينهما بأنه طاف للإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها ثم رجع إلى منى وصلى بها الظهر مرة أخرى إماماً بأصحابه حين سألوه ذلك فيكون متنفلاً بالظهر الثانية التي بمنى وهذا كما ثبت في الصحيحين في صلاته صلى الله عليه وسلم ببطن نخل أحد أنواع صلاة الخوف مرتين مرة بطائفة ومرة بأخرى فروى ابن عمر صلاته بمنى، وجابر صلاته بمكة، وهما صادقان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وذكر ابن المنذر نحوه، ويمكن الجمع بأن يقال إنه صلى بمكة، ثم رجع إلى منى فوجد أصحابه يصلون الظهر فدخل معهم متنفلاً لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك لمن وجد جماعة يصلون وقد صلى والله أعلم انتهى كلام النووي. قلت وقد ساق المحقق شمس الدين بن القيم رحمه الله حديث ابن عمر، وحديث جابر، ثم قال: واختلف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر ثم ذكر الوجوه التي قال بها كل فريق. ومن الوجوه التي احتج بها من رجح حديث ابن عمر الوجه الخامس، وهو أن حديث ابن عمر متفق عليه وحديث جابر من أفراد مسلم فحديث ابن عمر أصح منه، وكذلك هو في إسناده فإن رواته أحفظ وأشهر وأتقن فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله؟ وأين يقع حفظ جعفر من حفظ نافع انتهى، ثم بعد ذلك رجح رحمه الله حديث ابن عمر فإنه لما ساق بعض الأوهام التي ذكرها بعضهم في صفة حجته صلى الله عليه وسلم قال: ومنها على القول الراجح وهم من قال إنه صلى الظهر يوم النحر بمكة، والصحيح أنه صلاها بمنى انتهى وما صححه رحمه الله هو الذي نص عليه الإمام أحمد، قال في المنتهى وشرحه: ثم يرجع من أفاض إلى مكة فيصلي ظهر يوم النحر بمنى لحديث ابن عمر، قال في الإقناع وشرحه ويصلي بها يعني منى ظهر يوم النحر نصاً نقله أبو طالب لحديث ابن عمر، قال عطاء كان منزل النبي صلى الله عليه وسلم بمنى بالخيف قاله في المغني وتقدم. فائدة: يكبر المحرم في دبر كل صلاة من صلاة الظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، لأنه قبل صلاة الظهر مشغول بالتلبية فلا يقطعها إلا عند رمي جمرة العقبة، وليس بعدها صلاة قبل الظهر فيكبر بعدها ويستوي هو والحلال في آخر مدة التكبير، وهذا ما لم يكن قد دفع من مزدلفة بعد نصف الليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 ورمى الجمر قبل الفجر فإنه يقطع التلبية من ابتداء الرمي، وحينئذ يكبر دبر صلاة الفجر والله أعلم. وصفة التكبير ما ذكر في صلاة العيد، وهو أن يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، ويرمي الجمرات الثلاث بمنى في أيام التشريق وهي أيام منى الثلاثة التي تلي يوم النحر كل يوم بعد الزوال لحديث جابر قال: (رمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس) . أخرجه الجماعة وقال ابن عمر: (كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا) رواه البخاري وأبو داود، وقوله نتحين: أي نراقب الوقت المطلوب، ولقوله صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم) وأي وقت رمى بعد الزوال أجزأه إلا أن المستحب المبادرة إليها حين الزوال لقول ابن عمر. وسميت أيام التشريق بذلك لتشريق الناس لحوم الأضاحي فيها وهو تقديدها ونشرها في الشمس، أو لإشراق نهارها بنور الشمس وليلها بنور القمر. فإن قيل لو كانت الحكمة في تسميتها ذلك لزم أن تسمى كل هذه الأيام الثلاثة في جميع شهور السنة أيام التشريق. قبل حكمة التسمية لا يلزم اطرادها. قال ابن القيم رحمه الله تعال (ثم رجع صلى الله عليه وسلم بعد الإفاضة إلى منى من يومه ذلك فبات بها فلما أصبح انتظر زوال الشمس فلما زالت مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة يقول مع كل حصاة: الله أكبر ثم يقدم على الجمرة أمامها حتى أسهل فقام مستقبل القبلة ثم رفع يديه ودعا دعاء طويلاً بقدر سورة البقرة ثم أتى إلى الجمرة الوسطى فرماها كذلك ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فوقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو قريباً من وقوفه الأول ثم أتى الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة فاستبطن الوادي واستعرض الجمرة فجعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 البيت عن يساره ومنى عن يمينه فرماها بسبع حصيات كذلك ولم يرمها من أعلاها كما يفعل الجهال ولا جعلها عن يمينه واستقبل البيت وقت الرمي كما ذكره غير واحد من الفقهاء، فلما أكمل الرمي رجع من فوره ولم يقف عندها) فقيل لضيق المكان بالجبل، وقيل وهو أصح إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها (فلما رمى جمرة العقبة فرغ الرمي، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها إلى أن قال: ولم يزل في نفسي هل كان يرمي قبل صلاة الظهر أو بعدها، والذي يغلب على الظن أنه كان يرمي قبل الصلاة ثم يرجع فيصلي لأن جابراً وغيره قالوا كان يرمي إذا زالت الشمس فعقبوا زوال الشمس برميه، وأيضاً فإن وقت الزوال للرمي أيام منى كطلوع الشمس لرمي يوم النحر والنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر لما دخل وقت الرمي لم يقدم عليه شيئاً من عبادات ذلك اليوم، وأيضاً فإن الترمذي وابن ماجة رويا في سننهما عن ابن عباس رضي الله عنهما (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار إذا زالت الشمس) زاد ابن ماجة (قدر ما إذا فرغ من رميه صلى الظهر) ، وقال الترمذي حديث حسن ولكن في إسناد حديث الترمذي الحجاج بن أرطأة، وفي إسناد حديث ابن ماجة إبراهيم بن عثمان بن شيبة ولا يحتج به ولكن ليس في الباب غير هذا. وذكر الإمام أحمد أنه كان يرمي يوم النحر راكباً وأيام منى ماشياً في ذهابه ورجوعه انتهى كلام ابن القيم. قال في الإقناع وشرحه: ويستحب الرمي أيام منى قبل صلاة الظهر لقول ابن عباس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار إذا زالت الشمس قدر ما إذا فرغ من رميه صلى الظهر) رواه ابن ماجة انتهى، وفي إسناده ما تقدم، وللسقاة والرعاة الرمي ليلا ونهارا للعذر ولو كان رميهم في يوم واحد، أو في ليلة واحدة من أيام التشريق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وإن رمى غير السقاة والرعاة قبل الزوال، أو ليلاً لم يجزئه الرمي فيعيده نصاً وبه قال مالك والشافعي، ورخص إسحاق وأصحاب الرأي في الرمي يوم النفر قبل الزوال ولا ينفر إلا بعد الزوال، وعن أحمد مثله. قال في الإنصاف وعنه يجوز رمي متعجل قبل الزوال وينفر بعده، ونقل ابن منصور: إن رمى عند طلوعها متعجل، ثم نفر كأنه لم ير عليه دما وجزم به الزركشي انتهى، والمذهب الأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بعد الزوال، وآخر وقت رمى كل يوم من أيام الرمي الأربعة إلى المغرب لأنه آخر النهار. ويستحب أن لا يدع الصلاة مع الإمام في مسجد منى وهو مسجد الخيف لفعله عليه الصلاة والسلام وفعل أصحابه، فإن كان الإمام غير مرضي لفسق أو نحوه، صلى المرء برفقته محافظة على الجماعة، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى وهو مسجد الخيف مع الإمام فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون بالناس قصراً بلا جمع بمنى ويقصر الناس كلهم خلفهم أهل مكة وغير أهل مكة، وإنما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفرٌ) لما صلى بهم بمكة نفسها، فإن لم يكن للناس إمام عام صلى الرجل بأصحابه، والمسجد بنى بعد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على عهده انتهى كلامه، ويرمي كل جمرة من الثلاث بسبع حصيات واحدة بعد واحدة كما تقدم في رمي جمرة العقبة، فيبدأ بالجمرة الأولى، وهي أبعدهن من مكة وتلى مسجد الخيف في القرب فيجعلها عن يساره ويرميها بسبع حصيات، ثم يتقدم قليلاً لئلا يصيبه الحصا فيقف ويدعو رافعاً يديه ويطيل، ثم يأتي الوسطى فيجعلها عن يمينه ويرميها كذلك بسبع حصيات ويقف عندها بعد أن يتقدم قليلاً لئلا يصيبه الحصا ويدعو ويرفع يديه ويطيل، ثم يأتي جمرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 العقبة ويجعلها عن يمينه ويستبطن الوادي: أي يأتي من بطنه عند مريها ولا يقف عندها، هكذا ذكر فقهاؤنا رحمهم الله. والصحيح أنه يستعرض جمرة العقبة عند الرمي ويجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه وتقدم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة، ولا يقف عندها) . رواه أحمد وأبو داود. قال ابن القيم رحمه الله: حديث عائشة هذا ليس بالبين في أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة يومئذ، وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر (أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى) متفق عليه، وحديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به ولم يصرح بالسماع بل عنعنه انتهى، وتمامه في زاد المعاد، وعن ابن عمر: (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة طويلاً ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) . رواه أحمد والبخاري، وروى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه الذي دعا به بعرفه ويزيد (وأصلح وأتم لنا مناسكنا) وقال ابن المنذر: كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند الرمي: اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وعن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهباً وراجعاً) رواه الترمذي وصححه، وفي لفظ عنه (أنه كان يرمي الجمرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 يوم النحر راكباً وسائر ذلك ماشياً ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) . رواه أحمد. وأخرج نحو أبو داود عنه بلفظ (كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشياً ذاهبا وراجعاً ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) وعن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي إلى الجمار) . رواه الترمذي، قال في المنتهى والإقناع والغاية وغيرها من كتب الأصحاب: ويستقبل القبلة في الجمرات كلها، والصحيح الذي تدل عليه السنة أنه في رمي جمرة العقبة يجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه وهو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله وتقدم التنبيه على ذلك غير مرة، وترتيب الجمرات شرط بأن يرمي أولاً الجمرة التي تلي في القرب مسجد الخيف ثم الوسطى ثم العقبة، فإن نكس الرمي بأن قدم على الأولى غيرها لم يجزئه ما قدمه على الأولى نص عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها في الرمي، وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) ولأنه نسك متكرر فاشترط الترتيب فيه كالسعي، قال في المنتهى وشرحه: وترتيب الجمرات شرط، فلو نكس فبدأ بغير الأولى لم يحتسب له إلا بها ويعيد الأخرتين مرتبتين كالعدد أي السبع حصيات فهو شرط لكل واحدة منها لأنه عليه الصلاة والسلام رمى كلا منها بسبع، فإن أخل الرامي بحصاة من الأولى لم يصح رمي الثانية ولا الثالثة، وإن أخل بحصاة من الثانية لم يصح رمي الثالثة لإخلاله بالترتيب انتهى ملخصاً، وإن جهل الرامي محلها بأن جهل من أي جمرة ترك الحصاة بني على اليقين، فإن شك أمن الأولى أو ما بعدها، جعله من الأولى، أو شك في كونه من الثانية أو الثالثة جعله من الثانية لتبرأ ذمته بيقين كما لو تيقن ترك ركن وجهل محله. فائدة: هل تجب الموالاة في الرمي أم لا؟ قال الشيخ مرعي في غايته ويتجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 أنه لا تجب موالاة رمي انتهى، قال الشيخ محمد الخلوتي: الظاهر أنه لا تشترط الموالاة ويدل عليه قولهم وإن جهل من أيها تركت بني على اليقين أي فيجعلها من الأولى فيذهب إليها فيرميها بحصاة واحدة فقط ثم يعيد رمي ما بعدها فإنه لو كانت الموالاة معتبرة لأعاد رمي الأولى كاملاً لطول الزمن انتهى. قلت: قال في المغني: فأما السعي بين الصفا والمروة، فظاهر كلام أحمد أن الموالاة غير مشترطة فيه، وقال القاضي: تشترط الموالاة، والأول أصح فإنه نسك لا يتعلق بالبيت فلم تشترط له الموالاة كالرمي والحلاق انتهى ملخصا، فجعل صاحب المغني الرمي والحلاق أصلا في عدم اشتراط الموالاة فيهما وقاس عليهما السعي بين الصفا والمروة ومثله في الشرح الكبير، ومن هذا يتضح صحة ما بحثه الشيخ مرعي ومحمد الخلوتي والله أعلم، ثم يرمي في اليوم الثاني ثلاث الجمرات مرتبة على صفة ما تقدم، ويرمي في اليوم الثالث كذلك إن لم يتعجل في اليوم الثاني، وعدد الحصا لكل جمرة سبع حصيات لما تقدم، وأما جميع حصا الجمار فسبعون إن لم يتعجل يرمي منها جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات وباقيها في أيام التشريق كل يوم إحدى وعرين حصاة في الجمرات الثلاث كل جمرة بسبع حصيات وتقدم ذلك. أما من تعجل فعدد الحصا في حقه تسع وأربعون حصاة لأن اليوم الثالث يسقط عنه رميه، وكل هذا ظاهر لا غبار عليه، وإن أخر الرمي كله مع رمي يوم النحر بأن أخر رمي جمرة العقبة يوم النحر، وأخّر رمي الأول والثاني من أيام التشريق فرماها بعد الزوال آخر أيام التشريق أجزأه أداء لأن أيام الرمي كلها بمثابة اليوم الواحد لأنها كلها وقت للرمي، ومعنى ذلك أن أيام الرمي الأربعة كيوم واحد منها للرمي تأخيراً لا تقديماً، فلو رمى جمرات الأيام الثلاثة مرتباً في أول يوم من أيام التشريق مثلاً لم يجزئه، ولو أخر الرمي كله إلى آخر يوم منها ورمى مرتباً بعد الزوال أجزأه لكنه بتأخير الرمي إلى آخر أيام التشريق تارك للأفضل وهو الإتيان بالرمي في مواضعه المتقدمة، قال في المنتهى وشرحه: وإن أخر رمي يوم ولو كان المؤخر رميه يوم النحر إلى غده أو أكثر أجزأه أداء، أو أخر رمي الكل إلى آخر أيام التشريق ورماها بعد الزوال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 أجزأه رميه أداء لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي، فإذا أخره عن أول وقته إلى آخره أجزأه كتأخير وقوف بعرفة إلى آخر وقته، ويجب ترتيبه أي الرمي بالنية كمجموعتين وفوات الصلاة، فإذا أخر الكل مثلاً بدأ بجمرة العقبة فرمى فنوى رميها ليوم النحر، ثم يأتي الأولى ثم الوسطى ثم العقبة ناوياً عن أول يوم من أيام التشريق، ثم يعود فيبدأ من الأولى حتى يأتي على الأخيرة ناوياً عن الثاني وهكذا عن الثالث انتهى. وإن أخر الرمي كله عن أيام التشريق أو أخر جمرة العقبة عن أيام التشريق أو ترك المبيت بمنى ليلة أو أكثر من ليالي أيام التشريق غير الثالثة لمن تعجل فعليه دم لقول ابن عباس: من ترك نسكاً أو نسيه فإنه يهريق دما. قال الشيخ منصور في شرح الإقناع: وعلم منه أنه لو ترك دون ليلة فلا شيء عليه وظاهره ولو أكثرها انتهى، قال في شرح المنتهى: ولعل المراد لا يجب استيعاب الليلة بالمبيت بل كمزدلفة على ما سبق انتهى. وقال الشيخ مرعي: ويتجه المراد أي من البيتوتة بمنى معظم الليل، وتقدم ولا يأتي بالرمي بعد أيام التشريق كالبيتوتة بمنى لياليها إذا تركها لا يأتي بها لفوات وقته واستقرار الفداء الواجب فيه، قال في المنتهى وشرحه: وفي ترك حصاة واحدة ما في إزالة شعرة طعام مسكين، وفي ترك حصاتين ما في إزالة شعرتين مثل ذلك، وهذا إنما يتصور في آخر جمرة من آخر يوم وإلا لم يصح رمي ما بعدها وفي أكثر من حصاتين دم لما تقدم في حلق الرأس انتهى، قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 الخلوتي: قوله وفي ترك حصاة، إلخ بشرط أن يكون من الأخيرة، وأن يكون سائر ما قبلها من الجمرات وقع تاماً وأن تكون أيام التشريق قد مضت، فإنه لو كان الترك من غير الأخير لم يصح رمي ما بعد الجمرة التي ترك منها ولو كان ما قبل المتروك منها ناقصاً لم يصح رميه ولم يصح رمي ما بعده بالمرة ولو كان الترك من الأخيرة ولم تمض جميع أيام التشريق وجب عليه أن يعيد ولم يجزئه الإطعام لبقاء وقت الرمي كما تقدم جميع ذلك فافهم تسلم انتهى. وعن الإمام أحمد يجزئه خمس حصيات، وفي رواية أخرى ست، قال في المغني: والأولى أن لا ينقص في الرمي عن سبع حصيات لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات فإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس ولا ينقص أكثر من ذلك نص عليه لما روى ابن أبي نجيح قال: سئل طاووس عن رجل ترك حصاة قال: يتصدق بتمرة أو لقمة فذكرت ذلك لمجاهد فقال إن أبا عبد الرحمن لم يسمع قول سعد يعني ابن مالك قال سعد: (رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضنا يقول رميت بست وبعضنا يقول بسبع، فلم يعب بعضنا على بعض) . رواه الأثرم وغيره، ومتى أخل بحصاة واجبة من الأولى لم يصح رمي الثانية حتى يكمل الأولى، فإن لم يدر من أي الجمار تركها بنى على اليقين، وإن أخل بحصاة غير واجبة لم يؤثر تركها انتهى من المغني ملخصا ومثله في الشرح الكبير، والمذهب ما قدمناه من أن عدد السبع شرط، وحديث سعد ها رواه أيضاً أحمد والنسائي ورجاله رجال الصحيح؛ ولكن لا يكون دليلا بمجرد ترك إنكار بعض الصحابة على البعض الآخر إلا أن يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره وقد رمى صلى الله عليه وسلم بسبع حصيات وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) والله أعلم، وليس على أهل سقاية الحجيج وهم سقاة زمزم على ما في المطلع لابن أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 الفتح والمستوعب للسامري والمبدع وغيرها من كتب الأصحاب ولا على الرعاء مبيت بمنى ولا مزدلفة لما روى ابن عمر (أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له) متفق عليه، وعن عاصم بن عدي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاة الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون يومين ثم يرمون يوم النفر) . رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان. قوله يرمون يوم النحر: أي جمرة العقبة ثم يخرجون ولا يبيتون بمنى. قوله ثم يرمون يومين: أي يرمون اليوم الثاني عشر لذلك اليوم واليوم الذي فاتهم الرمي فيه وهو اليوم الحادي عشر. قوله ثم يرمون يوم النفر: أي اليوم الثالث عشر إن لم يتعجلوا والله أعلم، وفي رواية (رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما) رواه أبو داود والنسائي، وفي الموطأ بسنده عن عاصم بن عدي بلفظ (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر) ، قال مالك: تفسير الحديث الذي أرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في تأخير رمي الجمار فيما نرى، والله أعلم أنهم يرمون يوم النحر فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد، وذلك يوم النفر الأول فيرمون لليوم الذي مضى ثم يرمون ليومهم ذلك لأنه لا يقضي أحد شيئاً حتى يجب عليه فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك فإن بدا لهم النفر فقد فرغوا وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر ونفروا انتهى. فائدة: المراد بالسقاة أهل زمزم خاصة، وأما السقاة في غير زمزم كالذين يذهبون إلى المياه ويرجعون بالماء إلى الحجيج بمنى فحكمهم حكم أهل الأعذار وليسوا بالسقاة المشار إليهم في الحديث والله أعلم، فإن غربت الشمس وأهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 سقاية الحج والرعاة بمنى لزم الرعاء المبيت لانقضاء وقت الرعي وهو النهار دون أهل السقاية فلا يلزمهم المبيت ولو غربت وهم بمنى لأنهم يسقون بالليل. فائدة: قال المحب بن نصر الله في حواشي الكافي: لزوم المبيت للرعاء إذا غربت الشمس هل هو مطلقاً أو بشرط أن لا تكون إبلهم في المرعى، فإن كانت فيه كان لهم الخروج من منى بعد الغروب إليها لم أجد فيه نقلا، والظاهر أنهم إن خافوا عليها جاز لهم الخروج وإلا فلا انتهى، قال في الإنصاف والمريض، ومن له مال يخاف عليه ونحوه كغيره يعني في لزوم البيتوتة بمنى، هذا المذهب وعليه الأصحاب، ثم قال: وقيل أهل الأعذار من غير الرعاء كالمرضى ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم حكمهم حكم الرعاء في ترك البيتوتة جزم به المصنف، يعني الموفق والشارح وابن تميم، قال في الفصول: وكذا خوف فوات ماله وموت مريض، ثم قال: قلت هذا والذي قبله هو الصواب، قال الشارح: وأهل الأعذار كالمرضى ومن خاف ضياع ماله ونحوهم كالرعاء، لأن الرخصة لهؤلاء تنبيه على غيرهم انتهى. قال ابن القيم رحمه الله: وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص لأهل السقاية وللرعاء في ترك البيتوة، فمن له مال يخاف ضياعه أو مريض يخاف من تخلفه عنه أو كان مريضاً لا تمكنه البيتوتة سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء والله أعلم انتهى. وإن كان مريضاً أو محبوساً أو له عذر جاز أن يستنيب من يرمي عنه كالمعضوب يستنيب في الحج كله إذا عجز عنه والأولى أن يشهده إن قدر على الحضور ليتحقق الرمي. ويستحب أن يضع المريض ونحوه الحصا في يد النائب ليكون له عمل في الرمي، ولو أغمي على المستنيب لم تبطل النيابة بذلك فله الرمي عنه كما لو استنابه في الحج ثم أغمى عليه وهذا فيما إذا كان الحج فرضاً، أما إن كان نفلاً جاز له أن يستنيب من يرمي عنه ولو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 لغير عذر لما تقدم أول الكتاب أن النيابة في حج النفل تجوز للقادر في كله وفي بعضه، فتنبه لهذا ولا تغفل، والله أعلم. فائدة جليلة: ذكر الأصحاب أنه لا يجوز للنائب في رمي الجمار أن يرمي عن مستنيبه قبل رميه عن نفسه، وقيدوا ذلك بما إذا كان محرما بفرضه، قال في المغني: ولا يجوز أن يرمى عنه إلا من قد رمى عن نفسه لأنه لا يجوز أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه انتهى. قال في الشرح الكبير: ولا يجوز أن يرمي إلا من قد رمى عن نفسه لأنه لا يجوز أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه كالحج انتهى، قال في المنتهى وشرحه: لكن لا يبدأ ولي في رمي جمرات إلا بنفسه كنيابة حج، فإن رمى عن موليه وقع عن نفسه إن كان محرماً بفرضه انتهى، قال الشيخ محمد الخلوتي في حاشيته على قول صاحب المنتهى: لكن لا يبدأ في رمي إلا بنفسه: أي فيما إذا كان حج فرض كما قيد به في شرحه انتهى، قال في الإقناع وشرحه لكن لا يجوز أن يرمي عنه: أي عن الصغير إلا من رمى عن نفسه كما في النيابة في الحج إن كان الولي محرما بفرضه قاله في المبدع وشرح المنتهى انتهى، فمفهوم عبارة المغني والشرح وشرح المنتهى وحاشية الخلوتي والإقناع وشرحه أنه لو كان الولي أو النائب محرما بنفل أنه يجوز أن يرمي عن مستنيبه أو موليه قبل أن يرمي عن نفسه، وإذا قلنا بعدم جواز رمي النائب عن مستنيبه أو الولي عن موليه قبل رميه عن نفسه فيما إذا كان حجه فرضا فهل إذا رمى النائب عن نفسه أو الولي عن موليه الجمرة الأولى في أيام التشريق يجوز أن يرميها عن مستنيبه أو موليه في ذلك اليوم قبل رمي الجمرة الوسطى وجمرة العقبة عن نفسه، أو لا يجوز؟ لم أر لأصحابنا الحنابلة كلاما في ذلك، وجواز ذلك لا يبعد فيما يظهر لأنه إنما رمى الجمرة الأولى عن مستنيبه أو مواليه بعد رميها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 عن نفسه ولأنه ليس فيه إخلال بالترتيب المشترط في رمي الجمار، والمنع من القول بالجواز يحتاج إلى دليل، والله أعلم. ونسوق الآن بعض عبارات أصحاب المذاهب، فنقول: قال ابن حجر الهيتمي الشافعي: فلو رمى الجمرة الأولى لم يصح أن يرمي عن المستنيب قبل أن يرمي الجمرتين الباقيتين عن نفسه على الأوجه عندي من احتمالين للأسنوي خلافاً للزركشي حيث رجح مقابله، قال لأن الموالاة بين الجمرات لا تشترط، وكما له أن يطوف عن غيره إذا كان قد طاف عن نفسه وبقي عليه أعمال الحج انتهى، والفرق أن الطواف ركن مستقل بنفسه لا ارتباط له بما بعده فحيث فعله جاز له فعله عن غيره، وأما رمي الجمرات الثلاث فهو واجب واحد له أجزاء كما أن الطواف كذلك، فكما ليس له الطواف عن غيره ما بقي عليه من طوافه شيء وإن لم تجب الموالات فيه كذلك ليس له الرمي عن غيره ما بقي عليه من رميه شيء، ويدل لما ذكرته قوله: من عليه رمى اليوم الثاني مثلا لو رمى في اليوم الثالث لكل جمرة أربع عشرة حصاة لم يقع شيء منها عن يومه لأن رمي أمسه لم يتم، ولو كان الأمر كما ذكره لزمه الوقوع عن يومه لأن رمي أمسه لم يتم، ولو كان الأمر كما ذكره لزمه الوقوع عن يومه لأن رمي أمسه بالنسبة لكل جمرة تم قبل الشروع في الجمرة الثانية، فدل كلامهم على أن الجمرات كالجمرة الواحدة وهو صريح فيما ذكرته إلى أن قال: وبما تقرر يعلم أنه لو استناب من عليه رمي أول أيام التشريق في ثانيها من رمي أولها عن نفسه تخير النائب بين أن يقدم رمي نفسه عند كل جمرة أو رمي مستنيبه لأنه قد فعل ما استنيب فيه انتهى كلام ابن حجر المذكور، وقال أيضاً في تحفة المحتاج: فرع له أنا جماعة في الرمي عنهم جاز كما هو ظاهر لكن هل يلزمه الترتيب بينهم بأن لا يرمي عن الثاني مثلا إلا بعد استكمال رمي الأول، أو لا يلزمه ذلك فله أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 يرمي الأولى عن الكل ثم الوسطى كذلك ثم الأخيرة كذلك ثم الأخيرة كذلك؟ كل محتمل والأول أقرب قياساً على ما لو استنيب عن آخر وعليه رمي لا يجوز له أن يرمي عن مستنيبه إلا بعد كمال رميه عن نفسه كما تقرر. فإن قلت ما عليه لازم له فوجب الترتيب فيه، بخلاف ما على الأول في مسألتنا. قلت: قصد الرمي له صيرة كأنه ملزوم به فلزمه الترتيب رعاية لذلك انتهى كلام صاحب التحفة. وفي حاشية الشيخ أحمد بن قاسم الشافعي أن ما ذكره صاحب التحفة أحد احتمالين، والثاني أنه لا يتوقف على رمي الجميع بل إن رمى الجمرة الأولى صح أن يرمي عقبه عن المستنيب قبل أن يرمي الجمرتين الباقيتين عن نفسه، وفي الخادم أنه الظاهر انتهى مخلصا. وقال في لباب المناسك وشرحه من كتب الحنفية: ولو رمى بحصاتين إحداهما عن نفسه والأخرى عن غيره جاز ويكره؛ أي لتركه السنة فإن ينبغي أن يرمي السبع عن نفسه أولاً ثم يرميها عن غيره نيابة انتهى. وقال في توضيح المناسك من كتب المالكية: ويستحيب لمن يرمي عن غيره أن يرمي أولاً عن نفسه ثم عمن ناب عنه، فإن رمى جمرة بتمامها أولا عن نفسه ثم رماها عمن ناب عنه أو العكس أجزأه وترك المندوب وهو التتابع بين الجمرات الثلاث من غير فصل بشيء؛ ولو رمى حصاة عن نفسه وحصاة عمن ناب عنه أجزأه أيضاً وترك المندوب وهو تتابع الحصيات من غير فصل خلافا للقابسي القائل إنه يعيد عن نفسه وعن غيره ولا يعتد من ذلك ولا بحصاة واحدة، ومنه على الظاهر لو رمى عن نفسه حصاتين أو أكثر وعن الآخر مثله أو دون أو أكثر كما في البناني؛ وأما إن شرك بينه وبين من ناب عنه في الحصاة الواحدة لم يجزئه عن واحد مهما وكذا لو رمى بحصاتين قصد بهما عن نفسه ومن ناب عنه انتهى، ومن هذا يظهر الجواز في مسألتنا هذه لدى الحنفية والإجزاء لدى المالكية والصحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 لدى الشافعية في أحد الاحتمالين للأسنوي ورجحه الزركشي الشافعي واستظهره في الخادم، والله أعلم. وتقدم الكلام في ذلك في فصل ويصح الحج والعمرة من صغير. فائدة: ذكر الأصحاب أنه لا يعتد برمي حلال ومرادهم بذلك والله أعلم من لم يحج في تلك السنة التي رمى فيها لأنه غير متلبس بتلك العبادة فلم يكن صالحاً لأدائها عن نفسه فعن غيره من باب أولى، والله أعلم، وتقدم في فصل الاستبانة في الحج والعمرة وفي فصل ومن أحرم وأطلق شيئاً من مسائل النيابة فليعاود عند الاحتياج إليه. ويستحب للإمام أو نائبه أن يخطب في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال خطبة يعلمهم فيها حكم التعجيل والتأخير والتوديع لحاجة الناس إلى تعليمهم ذلك لحديث سراء بنت نبهان قالت: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرؤوس فقال: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: أليس أوسط أيام التشريق) . رواه أبو داود وسكت عنه، وسكت عنه المنذري، وقال في مجمع الزوائد رجاله ثقات، وعن ابن أبي نجيحعن أبيه عن رجلين من بني بكر قالا: (رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب بمنى) . رواه أبو داود وسكت عنه، وسكته عنه المنذري والحافظ في التلخيص ورجاله رجال الصحيح. وعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق فقال: (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى أبلَّغتُ؟ قالوا: بلَّغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد، قال في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح، وسمي اليوم الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 من أيام التشريق بيوم الرؤوس لأنهم كانوا يأكلون فيه رؤوس الأضاحي، والله أعلم. فائدة: الخطب المشروعة في الحج ثلاث: أولها ببطن عرنة يوم عرفة، وثانيها بمنى يوم النحر بكرة، وثالثها بمنى أيضاً في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال والله أعلم. ولكل حاج ولو أراد الإقامة بمكة التعجيل إن أحب لقوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى) . قال عطاء: هي للناس عامة: يعني أهل مكة وغيرهم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (أيام منى ثلاث فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه) . رواه أبو داود وابن ماجة إلا الإمام المقيم للمناسك فليس له التعجيل لأجل من يتأخر من الناس، والأفضل التأخير. قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد كلام له سبق: ثم إن شاء رمى في اليوم الثالث وهو الأفضل، وإن شاء تعجل في اليوم الثاني بنفسه قبل غروب الشمس كما قال تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى) ولا ينفر الإمام الذي يقيم للناس المناسك، بل السنة أن يقيم إلى اليوم الثالث انتهى. قال ابن القيم في زاد المعاد: ولم يتعجل صلى الله عليه وسلم في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة انتهى. فإن أحب غير الإمام أن يتعجل في ثاني أيام التشريق، وهو النفر الأول خرج من منى قبل غروب الشمس لظاهر الآية والخبر، ولا يضر رجوعه إلى منى بعد ذلك لحصول الرخصة؛ ومعنى هذا أن من تعجل في اليوم الثاني من منى ثم رجع إلى منى وغربت الشمس وهو بمنى لم يلزمه المبيت فيها، والله أعلم، وليس على المتعجل لليوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 الثالث رمي نص عليه، قال في الإقناع وشرحه: ويدفن بقية الحصا وهو حصا اليوم الثالث، قال في الفروع في الأشهر زاد بعضهم في المرمى انتهى. قلت: وله طرحه بالأرض لعدم الدليل على دفنه هذا إن كان قد جمعه، وإن غربت الشمس وهو بمنى لزمه المبيت والرمي من الغد بعد الزوال. قال ابن المنذر: ثبت أن عمر قال: من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس ولأنه بعد إدراكه الليل لم يتعجل في يومين، أما من تعجل في يومين ثم رجع إلى منى وأدركه الغروب بها لم يلزمه المبيت فيها كما تقدم، والله أعلم، وقال أبو حنيفة: له أن ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث لأنه لم يدخل اليوم الآخر فجاز له النفر كما قبل الغروب، وحجة الحنابلة قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) واليوم اسم للنهار، فمن أدركه الليل فما تعجل في يومين كما تقدم عن عمر رضي الله عنه. قلت: لكن لو نوى التعجل وقام بطرح خيامه وحملها مع أثاثه، ثم عرض له ما يمنعه من الخروج من منى كمثل توقف سير السيارات وما أشبه ذلك وغربت الشمس وهو بمنى، فالظاهر أنه لا يلزمه المبيت والرمي من الغد لما فيه من الضرر والخرج، لا سيما بعد حمل خيامه وأثاثه على السيارات والله أعلم، ثم رأيت النووي صرح بذلك حيث قال ولو ارتحل فغربت الشمس قبل انفصاله منى فله النفر ولو غربت وهو في شغل الارتحال انتهى. ثم ينفر الإمام في اليوم الثالث، وهو النفر الثاني وينفر معه في ذلك اليوم من لم ينفر في اليوم الثاني. ويستحب إذا نفر من منى نزوله بالأبطح وهو المحصب والخيف والبطحاء والحصبة، قال في الإقناع: وحدّه ما بين الجبلين إلى المقبرة انتهى: يعني مقبرة مكة وهي المعلاة، والله أعلم، فيصلي به الظهرين والعشاءين ويهج يسيراً ثم يدخل مكة، لحديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به) ، رواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 البخاري، وعن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالبطحاء ثم هجع هجعة ثم دخل مكة وكان ابن عمر يفعله) رواه أحمد وأبو داود والبخاري بمعناه، وعن الزهري، عن سالم: أن أبا بكر وعمر وابن عمر كانوا ينزلون الأبطح، قال الزهري: وأخبرني عروة عن عائشة (أنها لم تكن تفعل ذلك وقالت إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان منزلاً أسمح لخروجه) رواه مسلم، وعن عائشة قالت: (نزول الأبطح ليس بسنة إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج) متفق عليه، وعن ابن عباس قال (التحصيب ليس بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم) متفق عليه. وقول ابن عباس: ليس بشيء أي ليس بسنة والله أعلم. قلت: ويترجح أن النزول بالمحصب مستحب لتقريره صلى الله عليه وسلم على ذلك وفعله، وقد فعله الخلفاء الراشدون بعده كما رواه مسلم عن سالم، وقال ابن عمر (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان ينزلون الأبطح) . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ويدل لاستحباب التحصيب ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث أسامة بن زيد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث قاسمت قريشاً على الكفر) يعني بخيف بني كنانة المحصب وذلك أن بني كنانة حالفت قريشاً على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يؤووهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزهري: والخيف الوادي، وحكى النووي عن القاضي عياض أنه مستحب عند جميع العلماء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ثم إذا نفر من منى، فإن بات بالمحصب وهو الأبطح وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة ثم نفر بعد ذلك فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بات به وخرج ولم يقم بمكة بعد صدوره من منى لكنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 ودّع البيت انتهى، قال ابن القيم: ونفر صلى الله عليه وسلم من منى في حجته يوم الثلاثاء بعد الظهر إلى المحصب وهو الأبطح وهو خيف بني كنانة فوجد أبا رافع قد ضرب فيه قبته هنالك وكان على ثقله توفيقاً من الله عز وجل دون أن يأمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة ثم نهض إلى مكة فطاف للوداع ليلا سحراً ولم يرمل في هذا الطواف، ثم خرج من أسفلها إلى المدينة ولم يرجع إلى المحصب، وفي الصحيحين عن عائشة (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذكرت الحديث، قالت: (حين قضى الله الحج ونفرنا من منى فنزلنا بالمحصب دعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له اخرج بأختك من الحرم ثم افرغا من طوافكما ثم ائتياني هاهنا بالمحصب، قالت: فقضى الله العمرة وفرغنا من طوافنا في جوف الليل، فأتيناه بالمحصب، فقال فرغتما؟ قلنا نعم، فأذن في الناس بالرحيل فمر بالبيت فطاف به، ثم ارتحل متوجهاً إلى المدينة) فهذا من أصح حديث على وجه الأرض. وقد اختلف السلف في التحصيب هل هو سنة أو منزل اتفاق على قولين، فقالت طائفة: هو من سنن الحج، فإن في الصحيحين عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين أراد أن ينفر من منى: نحن نازلون غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر) يعني بذلك المحصب، وذلك أن قريشاً وبني كنانة تقاسموا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يكون بينهم شيء حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر والعداوة لله ورسوله، وهذه كانت عادته صلاة الله وسلامه عليه أن يقيم شعائر التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجد الطائف موضع اللات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 قالوا وفي صحيح مسلم عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا ينزلونه) وفي رواية لمسلم عنه (أنه كان يرى التحصيب سنة) وقال البخاري عنه (كان يصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويهجع، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك) ، وذهب آخرون منهم ابن عباس وعائشة إلى أنه ليس بسنة وإنما هو منزل اتفاق، ففي الصحيحين عن ابن عباس (ليس المحصب بشيء وإنما هو منزل نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه) وفي صحيح مسلم عن أبي رافع (لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل بمن معي بالأبطح، ولكن أنا ضربت قبته، ثم جاء فنزل فأنزله الله فيه بتوفيقه تصديقاً لقول رسوله: نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة) وتنفيذاً لما عزم عليه وموافقة منه لرسول صلاة الله وسلامه عليه انتهى كلام ابن القيم ملخصاً. قلت: نزول المحصب حسن ومستحب، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عازم على نزوله حين أراد أن ينفر من منى كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه وتقدم. قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: والحاصل أن من نفى أن التحصيب سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء، ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم لا الإلزام بذلك انتهى. قال بعضهم: المحصب داخل في حدود مني واحتج لذلك بقول الشافعي وهو عالم بمكة وأقطارها: يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاطن خيفها والناهض وهذا الاحتجاج ليس بشيء بل هو وهم، لأن قوله: من منى متعلق ب (راكباً) وليس قوله من منى في موضع الصفة للمحصب كما توهمه هذا المحتج فافهم تسلم، ويحتمل أن قوله قف بالمحصب من منى، أي قف عند الجمرات التي تحصب أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 ترمى بالجمار، قال جرير: كأن في الخدِّ قرنَ الشمس طالعة ... لما دَنَى من جمار الناس تحصيب. أراد يوم منى وحصب الجمار رميها، وهذا أظهر من معنى البيت المذكور، والله أعلم. قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه: ويسن إذا نزل من منى نزوله بالأبطح وهو المحصب، وحدُّه ما بين الجبلين إلى المقبرة فيصلي به الظهرين والعشائين ويهج يسيراً ثم يدخل مكة، كذا ذكر في الإقناع والمنتهى وشرحه وغيرهم، فدلَّ هذا على أن الأبطح ليس من مكة: فلو أقام به من ودَّع أو اتجر لم تجب عليه إعادة الوداع، لأنها إقامة كمن خرج من مكة إلى بعض بقاع الحرم؛ ويؤيد ذلك ما في المغني قال: وإن أحرم خارجاً منها (أي مكة) من الحرم جاز لقول جاب: (فأهللنا من الأبطح) انتهى. إذا تقرر هذا فالأبطح ليس من مكة انتهى كلام الشيخ سليمان. قلت: الظاهر والله أعلم أنه لم يكن في زمن الشيخ سليمان بنيان بالأبطح ولم تصل دور مكة إليه، وأما في زمننا هذا فقد جاوز العمران الأبطح فصار الأبطح بذلك من مكة لاتصال دور مكة به ومجاوزتها له، وأما ما ذكره صاحب المغني من قوله: وإن أحرم خارجاً منها: أي مكة من الحرم إلخ، فذلك كان في وقته حيث لم يصل العمران إلى الأبطح، فعلى هذا من ودع البيت ثم أقام بالأبطح أو اتجر فيه لزمه إعادة الوداع لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدما، هذا ما ظهر لي، والله أعلم. تتمة: قال بعضهم: اعلم أن منى بها خمس خصال: إحداها أن ما قبل من حصا الجمار يرفع كما تقدم، ذكر ذلك عن السلف. الثانية اتساعها للحجيج مع ضيقها في الأعين. الثالثة كون الحدأة لا تخطف منها اللحم. الرابعة كون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 الذباب لا يقع في الطعام وإن كان من شأنه أن لا ينفك عنه كالعسل والسكر. الخامسة قلة البعوض بها، ونظمها بعضهم فقال: وآي منى خمس فمنها اتساعها ... لحجاج بيت الله لو جاوزوا الحدَّا. ومنع حداة من تخطف لحمها ... وقلة وجدان البعوض بها عدّا. وكون ذباب لا يقع في طعامها ... ورفع الحصا المقبول دون الذي ردّا. -- فصل: فإذا أتى مكة متعجل أو غيره وأراد خروجاً لبلده أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف إذا فرغ من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون آخر عهده بالبيت إن لم يقم بمكة أو حرمها فلا وداع عليه، وهو على كل خارج من مكة أو حرمها، فإن أقام بمكة أو حرمها فلا وداع عليه، وهو على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم، سواء كان حراً أم عبداً ذكراً أم أنثى صغيراً أم كبيراً، وتقدم في أول فصل من هذا الكتاب حكم طواف الصغير فليراجع عند الاحتياج إليه، ودليل ذلك ما روى ابن عباس قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف على المرأة الحائض) متفق عليه وفي رواية عنه قال (كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة. وعن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة) رواه أحمد. وعن عائشة قالت (حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت قالت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحابستنا هي؟ قلت يا رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة قال فلتنفر إذاً) متفق عليه، ومن كان خارج الحرم ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع سواء أراد الرجوع إلى بلده أو غيره لما تقدم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت فيطوف طواف الوداع حتى يكون آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه، وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ولا نحوها، ولكن إن قضى حاجته أو اشترى شيئاً في طريقه بعد الوداع أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، ولكن يسقط عن الحائض انتهى كلامه، ومن مفهومه يؤخذ أنه لو دخل منزله بعد طواف الوداع فاشتغل فيه بغير ما هو من أسباب الرحيل أنه يلزمه إعادة الوداع، وبالأولى لو ودع في الليل ونام في بيته أو غيره من مساكن مكة أو ما يدخل في مسماها، لأن هذا يعد إقامة وينافي مقتضى الحديث الذي نص فيه بأن يكون آخر عهده بالبيت، أما لو ودع البيت ثم انتظر وداع رفقته حتى يسافروا جميعاً فإنه لا يضر هذا الانتظار إذا لم يشتغل بعد الوداع بما هو ممنوع منه، والله أعلم. وقال في الترغيب والتلخيص: لا يجب طواف الوداع على غير الحاج، قال في الفروع وإن خرج غير حاج فظاهر كلام شيخنا لا يودع انتهى. قلت: كلام شيخ الإسلام يخالف ما استظهره في الفروع. قال شيخ الإسلام: وطواف الوداع ليس من الحج وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة انتهى، والمذهب وجوبه على كل من أراد الخروج من مكة وبلده في غير الحرم. (هذا بحث نفيس مهم لا تجده في غير هذا الكتاب) وهو أن يقال: هل يجوز طواف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة بعده بمنى والبيع والشراء فيه أم لا؟ فنقول وبالله التوفيق: قال في المنتهى وشرحه: فإذا أتى مكة متعجل أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف انتهى ملخصاً، قال الشيخ عثمان النجدي فهم منه أنه لو سافر إلى بلده من منة ولم يأت مكة لا وداع عليه، صرح في الإقناع عن الشيخ تقي الدين في موضع انتهى. قلت لم أجد ذلك في الإقناع بعد المراجعة مراراً اللهم إلا أن يكون مراده بذلك قوله الآتي وطواف الوداع ليس من الحج إلى آخره وهذا ليس بصريح فيما قاله عن الشيخ تقي الدين، وقال النووي الشافعي: ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع انتهى. قال ابن حجر المكي: أي بعد نفره، وإن كان قد طاف قبل عوده من مكة إلى منى كما في المجموع انتهى، وقال ابن نصر الله البغدادي الحنبلي في حواشي الكافي، وظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج ولو لم يكن طريق بلده عليها لوجوب طواف الوداع عليه ولم يصرح به وقال ابن نصر أيضاً: وقوة كلام الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منة، فلو ودع قبلها لم يجزئه ولم أجد به تصريحاً، ويؤخذ ذلك من قولهم: من أخر طواف الزيارة فطافة عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الزيارة والوداع ولم يقولوا من اكتفى بطواف الزيارة يوم النحر عن طواف الوداع ولم يعد إلى مكة انتهى. قلت: بل قد صرح به المغني حيث قال فيما يأتي كما لو طافه قبل حل النفر، أي فإنه لا يجزئه قال في المغني: ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (حتى يكون آخر عهده بالبيت) انتهى. قال في الإنصاف: وظاهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 كلام المصنف يعني الموفق أن طواف الوداع يجب ولو لم يكن بمكن، قال في الفروع وهو ظاهر كلامهم، قال الآجري: يطوف من أراد الخروج من مكة أو من منى أو من نفر آخر انتهى. وفي أثناء كلام للشيخ يحيى بن عطوة النجدي تلميذ الشيخ العسكري قال: وأخبرنا جماعة أن الشويكي أفتاهم بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والبيع والشراء والإقامة بعده بمنى، ونقلوا عنه أنه بالغ حتى نسب ذلك إلى جميع الأصحاب، ولو تحقق ما صرح به الزركشي والمغني والشرح الكبير وغيرها من كتب الأصحاب ما قال ما قال. قال الخرقي: فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، قال الزركشي والمراد الخروج من الحرم، قال في الشرح: ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت وكذا قال في المغني قال: ولقد كشفت قريباً من خمسين كتابا من كتب المذهب فلم أظفر فيها بما نسبه هذا المتفقه إليهم وأفتى به عنهم، وأنا أتعجب منه كيف صدرت منه هذه النسبة إلى جميع الأصحاب والصريح عنهم العكس، ولعله دخل عليه اللبس من لفظ الخروج في كلام الخرقي وتوهم أنه الخروج من مكة وليس كذلك فقد صرح الزركشي أن مراد الخرقي الخروج من الحرم ولعله ذهل عن وقت الطواف: أعني طواف الوداع، ولو حقق النظر في المغني والشرح الكبير وغيرهما لزالت عنه ضبابة الشك ولعله اعتمد على ما وجهه ابن مفلح في فروعه قال: فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه، ومراده بعد حل النفر ودخول وقت الوداع هذا مع تسليم جواز الإفتاء بالتوجيه المذكور وجواز اعتماد المقلد عليه من غير نظر في الترجيح انتهى كلام ابن عطوة قلت أما لفظ الخروج، فهو صريح في كلام الأصحاب أنه الخروج من مكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 خلافاً لما فهمه الشيخ أحمد بن عطوة، قال الخرقي: فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعاً ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت، قال الموفق في المغني: وجملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها أو الخروج منها فإن أقام بها فلا وداع عليه، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع وهو واجب من تركه لزمه دم انتهى ملخصاً ومثله في الشرح الكبير، قال في الإقناع وشرحه: فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف إلى أن قال وهو على كل خارج من مكة انتهى ملخصاً. قال في المنتهى وشرحه: فإذا أتى مكة متعجل أو غيره وأراد خروجاً لبلده أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف انتهى، وقال في الإقناع أيضاً، قال الشيخ: وطواف الوداع ليس من الحج وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة، قال في المستوعب: ومتى أراد الحاج الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع انتهى، وأما فتوى الشيخ الشويكي بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة بمنى فلا نسلم له صحة فتواه هذه لما تقدم عن ابن نصر الله أن ظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج ولو لم يكن طريق بلده عليها لوجوب طواف الوداع عليه ولما تقدم عنه أيضا أن قوة كلام الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منى، فلو ودع قبلها لم يجزئه. قال في المغني بعد كلام سبق ولأنه إذا أقام بعده، أي طواف الوداع، خرج عن أن يكون وداعاً في العادة فلم يجزه كما لو طافه قبل حل النفر، إلخ فجعل صاحب المغني ما إذا طاف للوداع قبل حل النفر أصلاً في عدم الإجزاء وقاس عليه من ودع بعد حل النفر ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعلم منه أنه لو طاف للوداع قبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 حل النفر وهو ثاني عشر ذي الحجة أنه لا يجزئه لأن وقت طواف الوداع لا يدخل إلا بعد حل النفر، والله أعلم، ومثل في الشرح الكبير. وأما توجيه صاحب الفروع الذي نصه: فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه فمراده والله أعلم إذا كان طاف للوداع بعد حل النفر ودخول وقت الوداع، وقد نص العلماء أن وقت طواف الوداع إذا فرغ من جميع أموره: ومن كان بقي عليه المبيت ليالي منى ورمى الجمار فإنه لا يكون قد فرغ من جميع أموره، بل بقي عليه شيء من واجبات الحج، أما إذا نفر من منى النفر الأول أو الآخر، ثم ودع البيت وسافر ونزل خارجاً عن بنيان مكة للبيتوتة أو المقيل أو غيرهما، سواء كان ذلك النزول بمنى أو غيره من بقاع الحرم المنفصلة عن مسمى بنيان مكة فلا يلزمه إعادة طواف الوداع لأنه قد سافر عن مكة وليس مقيماً بها بعد الوداع، هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المسألة التي طال فيها النزاع قديماً وحديثاً والله سبحانه وتعالى أعلم، وفي التحفة للشافعية: وإذا أراد الحاج أو المعتمر المكي وغيره الخروج من مكة، أو منى عقب نفره منها، وإن كان طاف للوداع عقب طواف الإفاضة عند عوده إليها طاف وجوباً للوداع إذ لا يعتد به، ولا يسمى طواف وداع إلا بعد فراغ جميع النسك انتهى ملخصاً بتصرف في التقديم والتأخير، قال في المغني: فصل ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريباً منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت، وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك ذكره ابن القاسم. وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام بدليل سقوط دم المتعة عنهم. ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينفرن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) ولأنه خارج عن الحرم فلزمه التوديع كالبعيد انتهى، وكذا في الشرح الكبير، قال في الإقناع وشرحه: ومن كان خارجه: أي خارج الحرم ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع وهو على كل خارج من مكة انتهى ملخصاً، وتقدم أول الفصل أنه إذا أقام بمكة أو حرمها لا وداع عليه وأنه على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم ثم بعد طواف الوداع يصلي ركعتين خلف المقام كسائر الطوافات، قال في المنتهى والإقناع وغيرهما ويأتي الحطيم نصاً أيضاً وهو تحت الميزاب فيدعو انتهى. قال ابن القيم: وأما الحطيم فقيل فيه أقوال: أحدها أنه ما بين الركن والباب وهو الملتزم، وقيل هو جدار الحجر لأن البيت رفع وترك هذا الجدار محطوماً، والصحيح أن الحطيم الحجر نفسه وهو الذي ذكره البخاري في صحيحه واحتج عليه بحديث الإسراء قال: (بينا أنا نائم في الحطيم، وربما قال: في الحجر) قال: وهو حطيم بمعنى محطوم كقتيل بمعنى مقتول انتهى. ثم يأتي زمزم فيشرب منها ثم يستلم الحجر ويقبله ويدعو في الملتزم بما يأتي من الدعاء، وتقدم في فصل ويحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة. شيء من الآثار الواردة في فضل ماء زمزم وما يقال عند شربه فليراجع. قال شيخ الإسلام: ويستحب أن يشرب من ماء زمزم ويتضلع منها ويدعو عند شربه بما شاء من الأدعية الشرعية: ومنها: اللهم اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً، وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي واملأه من خشيتك، ولا يستحب الاغتسال منها انتهى، فإن ودع ثم اشتغل بغير شد رحل أو اتجر أو أقام أعاد الوداع وجوباً، لأن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه من مكة ليكون آخر عهده بالبيت وتقدم ذلك، ولا يعيد الوداع إن اشترى حاجة في طريقه أو اشترى زاداً أو شيئاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 لنفسه أو صلى لأن ذلك لا يمنع أن يكون آخر عهده بالبيت الطواف، وتقدم أول الفصل حكم ما لو ودع في الليل ونام فليراجع. قال في الإقناع وشرحه: فإن خرج قبله: أي قبل الوداع فعليه الرجوع إليه، أي إلى الوداع لفعله إن كان قريباً دون مسافة القصر ولم يخف علة نفسه أو ماله أو فوات رفقته أو غير ذلك من الأعذار، ولا شيء عليه إذا رجع قريباً سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أولا، لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر، فإن لم يمكنه الرجوع لعذر مما تقدم أو لغيره أو أمكنه الرجوع للوداع ولم يرجع أو بعد مسافة قصر عن مكة فعليه دم رجع إلى مكة وطاف للوداع أولاً، لأنه قد استقر عليه ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه كمن تجاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم ثم رجع إلى الميقات، وسواء تركه: أي طواف الوداع عمداً أو خطأ أم نسياناً لعذر أو غيره لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره كسائر واجبات الحج، ومتى رجع من القرب لم يلزمه إحرام لأنه في حكم الحاضر ويلزمه مع البعد الإحرام بعمرة يأتي بها فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، ثم يطوف الوداع إذا فرغ من أموره انتهى. قال الخرقي: مسألة: فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب، وإن بعد بعث بدم: قال في المغني: هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحق وأبي ثور. والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد: من بلغ مسافة القصر نص عليه أحمد وهو قول الشافعي، وكان عطاء يرى الطائف قريباً. وقال الثوري: حد ذلك الحرم، فمن كان في الحرم فهو قريب. ومن خرج منه فهو بعيد. ووجه القول الأول أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام. وقد روى (أن عمر رد رجلاً من مرّ إلى مكة ليكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 آخر عهده بالبيت) رواه سعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد، ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم، ولا فرق بين تركه عمداً أو خطأ لعذر أو غيره لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره كسائر واجباته، فإن رجع البعيد فطاف للوداع، فقال القاضي: لا يسقط عنه الدم لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه، وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب. -- فصل: إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرماً لأنه ليس من أهل الأعذار فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي وطواف لوداعه، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه. فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله أنه لا يلزمه إحرام لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به فأشبه من رجع لطواف الزيارة: فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة، فقال أحمد أحب إليّ أن لا يدخل إلى محرما، وأحب إلى إذا خرج أن يودع البيت بالطواف، وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك إنما دخل لحاجة غير متكررة فأشبه من يدخلها للإقامة بها انتهى كلام صاحب المغني ومثله في الشرح الكبير، وإن أخر طواف الزيارة ونصه أو القدون فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الوداع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 قال الشيخ مرعي في الغاية ويتجه من تعليلهم ولو لم ينو طواف الوداع حال شروعه في طواف الزيارة أو القدوم انتهى، لأن المأمور به أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل، ولأنهما عبادتان من جنس فأجزأت إحداهما عن الأخرى، ولأن ما شرع مثل تحية المسجد يجزئ عنه الواجب من جنسه كإجزاء المكتوبة عن تحية المسجد وكإجزاء المكتوبة أيضاً عن ركعتي الطواف وعن ركعتي الإحرام وكغسل الجنابة عن غسل الجمعة، فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة ولو كان ناسياً لطواف الزيارة، لأنه لم ينوه، وفي الحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) . فإن قيل كيف يتصور إجزاء طواف القدوم عن طواف الوداع، وقد قال الأصحاب ثم يفيض إلى مكة فيطوف مفرد وقارن لم يدخلاها قبلُ للقدوم برمَل ثم للزيارة؟ قلنا: يتصور فيما إذا لم يكن دخل مكة لضيق وقت الوقوف بعرفة مثلاً وقصد عرفات فلما رجع منها طاف للزيارة أولا ثم طاف للقدوم إما نسيانا أو غيره فطواف القدوم هذا وإن كان متأخراً عن طواف الزيارة يكفيه عن طواف الوداع، وهذا على القول بسنية طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة للمتمتع وللمفرد والقارن اللذين لم يدخلوا مكة قبل وقوفهم بعرفة وهو نص الإمام أحمد اختاره الخرقي، أما على اختيار الموفق والشارح وشيخ الإسلام وابن القيم وابن رجب فلا يسن طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة وهو الذي تدل عليه السنة كما تقدم في فصل: ثم يفيض إلى مكة، ويكتفي بطواف الزيارة الذي هو ركن في الحج والله أعلم، ولا وداع على حائض ونفساء لحديث ابن عباس وفيه (إلا أنه خفف عن الحائض) وتقدم، والنفساء في معناها لأن حكمه حكم الحيض فيما يمنعه وغيره، ولا فدية على الحائض والنفساء لظاهر حديث صفية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 المتقدم فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بفدية إلا أن تطهر الحائض والنفساء قبل مفارقة بنيان مكة فيلزمهما العود ويغتسلان للحيض والنفاس لأنهما في حكم المقيم بدليل أنهما لا يستبيحان الرخص قبل مفارقة البنيان ثم يودّعان، فإن لم تعودا للوداع مع طهرهما قبل مفارقة البنيان ولو لعذر فعليهما دم لتركهما نسكاً واجباً، فأما إن فارقت الحائض والنفساء البنياء قبل طهرهما لم يجب عليهما الرجوع لخروجهما عن حكم الحاضر. فإن قيل فلم لا يجب الرجوع عليهما مع القرب كما يجب على الخارج لغير عذر؟ قلنا: هناك ترك واجباً فلم يسقط بخروجه مع القرب كما تقدم تفصيله وهاهنا لم يكون واجباً عليهما ولا يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما وهما حين الإقامة لا يجب عليهما لحصول الحيض والنفاس والله أعلم. وأما المعذور غير الحائض والنفساء كالمريض ونحوه فعليه دم إذا ترك طواف الوداع لأن الواجب لا يسقط جبرانه بالعذر وتقدم. فائدة: لا يصح أن يستنيب في طواف الوداع إذا كان حجه فرضاً بل يطاف به راكباً على نحو كرسي أو محمولاً، فإن لم يفعل فعليه دم، أما إن كان حجه نفلاً فله الاستنابة فيه ولو كان لغير عذر كطواف الإفاضة وأولى، والله أعلم، وتقدم ذلك في فصل الاستنابة في الحج والعمرة. تنبيه: الدم الذي يجب على من ترك طواف الوداع كدم التمتع فإذا لم يجد صام عشرة أيام والله أعلم، فإذا فرغ من الوداع واستلم الحجر وقبّله وقف في الملتزم وهو ما بين الركن الذي به الحجر الأسود وباب الكعبة وقدره أربعة أذرع تقريباً فيلتزم الملتزم ملصقاً به صدره ووجهه وبطنه ويبسط يديه عليه ويجعل يمينه نحو الباب ويساره نحو الحجر الأسود، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه قال: (طفت مع عبد الله بن عمرو بن العاص فلما جاء دبر الكعبة قلت ألا تتعوذ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 قال نعوذ بالله من النار، ثم استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره وذراعيه وكفيه هكذا وبسطهما بسطاً وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه أبو داود، ووالد شعيب هو محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فعبد الله بن عمرو رضي الله عنه هو جد شعيب المذكور وتقدم. ويدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخرة. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وإن أحب أن يأتي الملتزم وهو ما بين الحجر الأسود والباب فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفيه ويدعو ويسأل الله حاجته فعل ذلك، وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة، وإن شاء قال في دعائه الدعاء المأثور عن ابن عباس: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى وإلا فمن الآن فارض عني قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير) . انتهى من منسك شيخ الإسلام رحمه الله، وهذا الدعاء هو نص ما ذكره الأصحاب في كتبهم عند الالتزام. قوله قبل أن تنآى: أي تبعد قوله فمنَّ الآن، الوجه ضم الميم وتشديد النون على أنه صيغة أمر من مَنَّ يمن مقصود به الدعاء كما ذكره العلامة ابن أبي الفتح الحنبلي في كتابه (المطلع على ألفاظ المقنع) وذكر أنه قرأه كذلك على شيخه الذي قرأه كذلك أيضاً على العلامة أبي محمد موفق الدين بن قدامة مصنف المقنع، قال في المصباح: قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وإلا فمن الآن: أي وإن كنت ما رضيت فامنن الآن برضاك انتهى، ويجوز كسر الميم وفتح النون على أنها حرف جر لابتداء الغاية، والآن: الوقت الحاضر مبني على الفتح. قوله فاصحبني العافية، وقوله وأحسن منقلبي بقطع الهمزة فيهما. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسنا انتهى. قال في جمع الجوامع ليوسف بن عبد الهادي الحنبلي: قال صاحب كتاب الأعلام: لو لم يقف في الملتزم بل وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام البيت كان حسناً، وقد أخبرنا جماعة من شيوخنا أخبرنا ابن المحب أنبأنا والدي أنبأنا ابن خولان أنبأنا ضياء الدين قال: سمعت أبا محمد عبد الغني الغزنوي يقول: سمعت أبا الحسن الدينوري يقول: سمعت أبا القاسم السهمي يقول: سمعت أبا القاسم عبيد الله بن محمد البزار يقول: سمعت محمد بن الحسن سمعت أبا بكر محمد بن إدريس (هو من أهل مكة وليس بمحمد بن إدريس الشافعي رحمه الله فإن كنيته أبو عبد الله لا أبو بكر) يقول سمعت عبد الله بن الزبير الحميدي (هو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله القرشي الأسدي المكي صاحب الشافعي ورفيقه في رحلته إلى مصر وهو شيخ البخاري وهو لأهل الحجاز كأحمد بن حنبل لأهل العراق) . يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت عمرو بن دينار يقول: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الملتزم موضع يستجاب فيه الدعاء وما دعا الله تعالى فيه أحد دعوة إلا استجابها أو نحو هذا) قال ابن عباس: فوالله ما دعوت الله فيه قط إلا أجابني، قال عمرو بن دينار: وأنا والله ما أهمني أمر فدعوت الله فيه إلا استجاب لي منذ سمعت هذا الحديث من ابن عباس، قال سفيان بن عيينة: وأنا والله ما دعوت الله فيه قط بشيء إلا استجاب لي منذ سمعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 هذا الحديث من عمرو بن دينار، قال الحميدي: وأنا والله ما دعوت الله فيه قط بشيء إلا استجاب لي منذ سمعت هذا الحديث من سفيان بن عيينة، قال محمد بن إدريس المكي الراوي عن الحميدي: وأنا والله ما دعوت الله بشيء فيه إلا استجاب لي منذ سمعت هذا الحديث من الحميدي. قال محمد بن الحسن بن راشد الأنصاري: وأنا والله ما دعوت الله عز وجل بشيء فيه إلا استجاب لي منذ سمعت هذا الحديث من محمد بن إدريس، قال أبو القاسم عبيد الله البزار: وأنا دعوت الله فيه فاستجاب لي. وقال أبو القاسم السهمي: قال لنا عبيد الله بن محمد: دعوت الله عز وجل فيه مراراً فاستجاب لي، قال أبو الفتح: وأنا دعوت الله فيه فاستجاب لي، قال الحافظ عبد الغني: وأنا دعوت الله فيه فاستجاب لي، قال الحافظ ضياء الدين: وأنا دعوت الله فيه فاستجاب لي انتهى. قال محب الدين الطبري: هذا حديث حسن غريب من حديث عمرو بن دينار المكي عن ابن عباس انتهى. وقد أخرج هذا الحديث القاضي عياض في الشفاء مسلسلاً، وقد روى من حديث أبي الزبير المكي عن ابن عباس موقوفاً ورواية أبي الزبير أخرجها سعيد بن منصور والبيهقي في سننهما وهو شاهد قوي، وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس من وجه آخر عن محمد بن الحسن بن راشد الأنصاري تلميذ محمد بن إدريس مسلسلاً، وتقدم في فصل: ويحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة الكلام على الالتزام فليراجع، قال أبو داود في سننه: (حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة أنبأنا يحيى بن سعيد أنبأنا السائب بن عمر المخزومي قال: حدثني محمد بن عبد الله بن السائب عن أبيه أنه كان يقود ابن عباس فيقيمه عند الشقة الثالثة مما يلي الركن الذي يلي الحِجر مما يلي الباب، فيقول له ابن عباس: أنبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصل هاهنا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 فيقول نعم فيقوم فيصلي) انتهى، وفي إسناده محمد بن عبد الله بن السائب روى عن أبيه وهو شبه مجهول قاله المنذري قال الحافظ في التقريب محمد بن عبد الله بن السائب المخزومي مجهول انتهى. قوله كان يقود ابن عباس: أي بعد ما كف بصره في آخر عمره. قوله أنبئت بصيغة الخطاب بحذف همزة الاستفهام، وفي رواية النسائي فقال ابن عباس أما أنبئت. قوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي هاهنا فيقول: أي عبد الله بن السائب نعم: أي نعم كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا فيقوم، أي ابن عباس فيصلي. قلت: ظاهر الحديث أن الشقة الثالثة قريبة من الركن الشامي مما يلي الحجر بكسر الحاء، وفي تاريخ مكة للطبري وابن ظهيرة ما يؤيد هذا خلافاً لما في بذل المجهود شرح سنن أبي داود حيث جعل الشقة الثالثة هي الملتزم، وإن أحب دعا في الملتزم بغير ما تقدم ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج ولاها ظهره ولا يلتفت، قال الإمام أحمد، فإذا ولَّى لا يقف ولا يلتفت، فإن التفت أعاد الوداع نص عليه يعني استحباباً قال في المغني والشرح، إذ لا نعلم لإيجاب ذلك عليه دليلاً انتهى، وقد قال مجاهد: إذا كدت تخرج من المسجد فالتفت ثم انظر إلى الكعبة فقل: اللهم لا تجعله آخر العهد انتهى، قال أبو عبد الله أكره ذلك، قال شيخ الإسلام: فإذا ولَّى لا يقف ولا يلتفت ولا يمشي القهقرى، قال الثعالبي في فقه اللغة: القهقرى مشية الراجع إلى خلف، حتى قد قيل إنه إذا رأى البيت رجع فودع انتهى كلام شيخ الإسلام. والحائض والنفساء تقفان عند باب المسجد الحرام وتدعوان بذلك الدعاء استحباباً لتعذر دخوله عليهما. فائدة: إذا ودع وأراد الخروج من المسجد الحرام فمن أي أبوابه يخرج؟ ذهب بعض الشافعية إلى أنه يخرج من باب الحزورة وأنه يندب ذلك لكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 مسافر من مكة ولو لغير بلده لحديث علد الله بن عدي بن الحمراء (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته واقفاً بالحزورة يعني في حال خروجه من مكة يقول لمكة: والله إنك لخير أرض الله) . الحديث. قلت: ولا حجة في هذا الحديث لما ذهب إليه البعض لأن الباب المذكور هو المسامت لطريق أهل المدينة المنورة والنبي صلى الله عليه وسلم خرج من باب الحزورة لأنه هو المسامت لطريقه، أما من كان طريقه شرقاً ونحوه فالظاهر أنه مخير والأمر في هذا واسع، وتقدم البحث في موضع الحزورة في فصل: ومكة أفضل من المدينة فليعاود. قال ابن القيم: وأما المسألة الثالثة وهي موضع صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع، ففي الصحيحين عن أم سلمة قالت: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي؟ فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، قالت: فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور، فهذا يحتمل أن يكون في الفجر وفي غيرها وأن يكون في طواف الوداع وغيره فنظرنا في ذلك فإذا البخاري قد روى في صحيحه في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت وأرادت الخروج فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون ففعلته ولم تصلّ حتى خرجت) وهذا محال قطعاً أن يكون يوم النحر فهو طواف الوداع بلا ريب، فظهر أنه صلى الصبح يومئذ عند البيت وسمعته أم سلمة يقرأ فيها بالطور انتهى كلام ابن القيم. تنبيه: قد ذكر بعض من ألف في المناسك أنه ينبغي التبرك بالأماكن الآتية وهذا لا أصل له في الشرع بل هو من البدع والضلال المبين، فمن ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 قوله ينبغي التبرك بمولده صلى الله عليه وسلم بسوق الليل ومولد علي رضي الله عنه بقربه وبيت خديجة رضي الله عنها بزقاق الحجر المشهور الآن بمولد السيدة فاطمة رضي الله عنها، وقد اشتراه معاوية وفتح به بابا من دار أبيه أبي سفيان الذي في ظهره المسمى بالقبان وهو الآن مستشفى للغرباء وبابه بأثناء سوق المدعى، فالتبرك بذلك أو شيء منه من البدع المنكرة والأمور المحرمة وكغار حراء وهو المسمى الآن بجبل النور وكالغار الذي في جبل ثور بأسفل مكة المذكور في القرآن صعب المرقى وله بابان ضيق وواسع وكمسجد على جبل أبي قبيس يقال له مسجد إبراهيم وكدار الأرقم التي عند الصفا المعروفة الآن بدار الخيزران جارية المهدي العباسي: أم الخليفتين موسى الهادي وهارون الرشيد وكرباط عثمان رضي الله عنه، وهو رباط معروف يسكنه المغاربة بالسوق الصغير وفيه بئر مالحة وشجرة نبق قطعت ولله الحمد سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف لأنها تشبه ذات أنواط المذكورة في الحديث واشتهر عند أهل الابتداع أن المحموم إذا تبخر بشيء من قشرها واغتسل من بئرها وقت خطبة الجمعة يشفى وهذا كله من المنكرات ولا أصل في الشرع لزيارة جميع ذلك ولا للتبرك به، وكدار أبي بكر الصديق رضي الله عنه التي بزعمهم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم منها وموضعها بحارة المسفلة وبالقرب منها على ما زعموا مولد حمزة رضي الله عنه وهو زاوية بجوار بازان المسفلة مجرى عين مكة لبركة ماجن، وكمولد عمر رضي الله عنه وهو بزعمهم غار لطيف عليه بناء قد تهدم غالبه في الجبل المسمى بجبل عمر، ومنها مسجد في شعب جياد يسمى مسجد المتكأ بزعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم اتكأ فيه، ومنها مسجد صغير مقابل للقبان بسوق المدعى، ومنها مسجد آخر بعلو سوق المدعى على يسار الصاعد إلى المعلى مقابل لزقاق بنان، ومنها مسجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 على يسار الصاعد إلى المعلى أيضاً مقابل لزقاق المجزرة جعل سابقاً مكتباً للصبيان والآن عمرته مديرية الأوقاف وجعلت أعلاه مسجداً وأسفله دكاكين ومنها مسجد آخر على يمين الصاعد إلى المعلى على رأس زقاق حوش غراب المقابل للخرازين محوط عليه بأحجار كبار وليس مسقفاً يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه وهذا لا أصل له، ومنها مسجد الراية وهو بأعلى مكة على يمين الصاعد إلى المعلى بزعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ركز رايته يوم فتح مكة عنده وهو أمام الحلقة، ومنها مسجد الجن بزعمهم إنهم استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وهو به ومنها مسجد الشجرة مقابل مسجد الجن بزعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا شجرة في ذلك المسجد فأقبلت تخط الأرض حتى وقفت بين يديه ثم أمرها فرجعت ومنها مسجد بأعلى مكة عند سوق الغنم بزعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الناس عنده يوم فتح مكة ومنها مسجد الإجابة وهو مسجد بالمحصب المسمى بالأبطح في المعابدة على يسار الصاعد إلى منى بزعمهم أنه منزل النبي صلى الله عليه وسلم حين نفر من منى ونزل بالمحصب، فهذه البقاع والمساجد والجبال لا تشرع زيارتها ولا التبرك بها وليس لها من الخصوصية ما ليس لغيرها من المساجد والبقاع، وقد ذكرتها هنا للاحتراز عما يزعمه الجهلة فيها وليعلم أن من ألف في فضلها وفضل زيارتها والدعاء فيها وعندها لا أصل معه شرعاً بل الاعتقاد فيها بما ذكر من البدع، فيجب على من أراد نجاة نفسه التنبه لذلك وتنبيه من يأتي بالحجاج الغرباء على تلك الأماكن وتعليمهم أن زيارتها غير مشروعة، والله أعلم. فائدة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام كالمسجد الذي تحت الصفا وما في سفح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 أبي قبيس ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كمسجد المولد وغيره فليس قصد شيء من ذلك من السنة ولا استحبه أحد من الأئمة، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، والمشاعر عرفة ومزدلفة ومنى والصفا والمروة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال إنه كان فيه قبة الفدا، ونحو ذلك فإنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك بل هو بدعة، وكذلك ما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على الآثار والبقاع التي يقال إنها من الآثار لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم قصد شيء من ذلك لخصوصه ولا زيارة شيء من ذلك، انتهى كلامه رحمه الله. -- فصل: قال شيخ الإسلام رحمه الله وإذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده فإنه يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه، والصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه وإلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وهو مروي من طرق أخر، ومسجده كان أصغر مما هو اليوم وكذلك المسجد الحرام لكن زاد فيه الخلفاء الراشدون ومن بعده، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام، ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فإنه قد قال: (ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام) رواه أبو داود وغيره، وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد يقول: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف، وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه، ويسلمون عليه مستقبلي الحجرة مستدبري القبلة عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد، واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها، وإذا قال في سلامه السلام عليك يا رسول الله يا خيرة الله من خلقه يا أكرم الخلق على ربه يا إمام المتقين فهذا كله من صفاته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وكذلك إذا صلى عليه مع السلام عليه فهذا مما أمر الله به، ولا يدعو هناك مستقبلاً للحجرة فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه فإن هذا بدعة ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) وقال: (لا تجعلوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني) فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يسمع الصلاة والسلام من القريب وأنه مبلغ ذلك من البعيد، وزيارة القبور على وجهين زيارة شرعية وزيارة بدعية، فالشرعية المقصود بها السلام على الميت والدعاء له كما يقصد في الصلاة على جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنة فيها أن يسلم على الميت ويدعو له، سواء كان نبياً أو غير نبي كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا واغفر لنا ولهم، وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع ومن به من الصحابة أو غيرهم أو زار شهداء أُحد وغيرهم، والزيارة البدعية أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت أو يقصد الدعاء عند قبره أو يقصد الدعاء به فهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 ولا استحبه أحد من سلف الأمة بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها، والأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله: (من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة) وقوله (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي حلت عليه شفاعتي) ونحو ذلك كلها أحاديث ضعيفة بل موضوع ليست في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة ولا نحوهم، لكن روى بعضها البزار والدارقطني ونحوهما بأسانيد ضعيفة، لأن من عادة الدارقطني وأمثاله يذكرون هذا في السنن ليعرف وهو وغيره يثبتون ضعف الضعيف من ذلك، فإذا كانت هذه الأمور التي فيها شرك وبدعة ينهى عنها عند قبره وهو أفضل الخلق، فالنهي عن ذلك عند قبر غيره أولى وأحرى ويستحب أن يأتي مسجد قباء ويصلي فيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطهر في بيته فأحسن الطهور ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان له كأجر عمرة) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في مسجد قباء كعمرة) قال الترمذي حديث حسن والسفر إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف مستحب في أي وقت شاء سواء كان عام الحج أو بعده، ولا يفعل فيه ولا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما يفعل في سائر المساجد، ليس فيها شيء يتمسح به ولا يقبل ولا يطاف به، هذا كله ليس إلا في المسجد الحرام خاصة. والدين مبني على أصلين: أن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ولا يعبد إلا بما شرع لا نعبده بالبدع كما قال تعالى: (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 في دعائه: اللهم اجعل عملي صالحاً واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل فيه لأحد شيئاً، وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قيل أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوابه؟ قال إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة إلى أن قال: ولهذا كان أئمة العلماء يعدون من جملة البدع المنكرة السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، وهذا في أصح القولين غير مشروع حتى صرح بعض من قال ذلك أن من سافر هذا السفر لا يقصر فيه الصلاة لأنه سفر معصية، وكذلك من يقصد بقعة لأجل الطلب من مخلوق هي منسوبة إليه كالقبر والمقام أو لأجل الاستعاذة به ونحو ذلك فهذا شرك وبدعة إلى أن قال: ولهذا نهى العلماء عما فيه عبادة لغير الله وسؤال من مات من الأنبياء والصالحين مثل من يكتب رقعة ويعلقها عند قبر نبي أو صالح أو يسجد لقبره أو يدعوه ويرغب إليه. قلت: ما ذكره شيخ الإسلام هنا من قوله ولهذا نهى العلماء إلخ، لا ينافي أنه شرك بالله أكبر لأن الشرك بالله أعظم المنهيات. قال الشيخ: ورفع الصوت في المساجد منهي عنه وهو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أشد، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلين يرفعان أصواتهما في المسجد فقال: لو أعلم أنكما من أهل البلد لأوجعتكما ضرباً، إن الأصوات لا ترفع في مسجده صلى الله عليه وسلم، فما يفعله بعض جهال العامة من رفع الصوت عقب الصلاة من قولهم: السلام عليكم يا رسول الله بأصوات عالية من أقبح المنكرات ولم يكن أحد من السلف يفعل شيئاً من ذلك عقب الصلاة لا بأصوات عالية ولا منخفضة، بل ما في الصلاة من قول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 المشروع، كما أن الصلاة عليه مشروعة في كل زمان ومكان، قلت هذا في زمن شيخ الإسلام رحمه الله فكيف لو رأى زمننا هذا الذي قل فيه العلم النافع وكثر في الجهل واتبع فيه الهوى فإنه قد زاد رفع الصوت في مسجده صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الجهلة الزائرين فإنه بعد كل صلاة يقومون جماعات في قبلّي المسجد ويكون مع كل جماعة مزوِّر يرفع صوته لجماعته فيرفعون أصواتهم بما يقول وهكذا كل جماعة ترفع صوتها فيصير لهم ضجة في المسجد يذوب من سماعها قلب الموحد (فإنا لله وإنا إليه راجعون) قال الشيخ: وفي سنن سعيد بن منصور: أن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً ينتاب قبر النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء عنده فقال يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني) فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء انتهى كلام شيخ الإسلام ملخصاً من منسكه الأخير. وقال في المنتهى وشرحه: قال الشيخ تقي الدين: واتفقوا على أنه لا يقبل الحجرة ولا يتمسح بها فإنه من الشرك قال: والشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، وكذا مس القبر أو حائطه ولص صدره به وتقبيله انتهى. وتستحب الصلاة بمسجده صلى الله عليه وسلم، وهي بألف صلاة والصلاة بالمسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، وحسنات الحرم في المضاعفة كصلاته لحديث ابن عباس مرفوعاً (من حج من مكة ماشياً حتى يرجع إلى مكة كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة كل حسنة مثل حسنات الحرم، قيل له: وما حسنات الحرم؟ قال: بكل حسنة مائة ألف حسنة) رواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم كلاهما من رواية عيسى بن سوادة، وقال الحاكم صحيح الإسناد، وقال ابن خزيمة: إن صح الخبر فإن في القلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 من عيسى بن سوادة، قال المنذري قال البخاري: هو منكر الحديث انتهى قال في الإقناع: وتعظم السيئات به انتهى. سئل أحمد في رواية ابن منصور: هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ قال: لا إلا بمكة لتعظيم البلد؛ ولو أن رجلاً بعدن وهم أن يقتل عند البيت أذاقه الله من العذاب الأليم. انتهى. وظاهر كلام الإقناع أن المضاعفة في الكيف لا الكم وهو كلام الشيخ تقي الدين، وظاهر كلام الفتوحي في المنتهى تبعاً للقاضي أبي يعلى وغيره أن المضاعفة في الكم كما هو ظاهر نص الإمام أحمد وكلام ابن عباس: ما لي وبلد تتضاعف فيها السيئات كما تتضاعف الحسنات، قال منصور البهوتي: وهو خاص فلا يعارضه عموم الآيات بل تخصص به لأن مثله لا يقال من قبل الرأي فهو بمنزلة المرفوع انتهى، قلت: الذي يترجح عند هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أن مضاعفة السيئات في الكيف لا الكم حتى لا يتعارض مع قوله جل وعلا (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) وتقدم البحث في ذلك بأبسط من هذا في فصل: ومكة أفضل من المدينة من باب صيد الحرمين ونباتهما ويسن أن يأتي مسجد قباء، بضم القاف، يقصر ويمد ويصرف على ميلين من المدينة من جهة الجنوب فيصلي فيه لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيه راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين، وفي الصحيحين أيضاً كان يأتيه كل سبت راكباً وماشياً، وكان ابن عمر يفعله، وتقدم كلام شيخ الإسلام في ذلك. قال الإمام أحمد: وإذا حج الذي لم يحج قط، يعني من غير طريق الشام لا يأخذ على طريق المدينة لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أقصر الطرق ولا يتشاغل بغيره انتهى، ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى، ثم يقول: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وافتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج قدم رجله اليسرى، وقال مثل ذلك إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك، قال في المغني والشرح الكبير: ثم تأتي القبر فتولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه وتقول: السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أشهد أنك ق بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين فصلى الله عليك كثيراً كما يحب ربنا ويرضى اللهم اجز عنا نبينا أفضل ما جزيت أحداً من النبيين والمرسلين، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم اجعله أول الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الآخرين والأولين برحمتك يا أرحم الراحمين. ثم يتقدم قليلاً ويقول: السلام عليكم يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعيه ووزيريه ورحمة الله وبركاته، اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيراً (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) . انتهى ملخصاً. قال الإمام أبو عبد الله الحليمي الشافعي: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني) لوجدنا فيما نثني عليه ما تكل الألسن عن بلوغ مداه، ولكن امتثال نهيه خصوصاً بحضرته أولى فليعدل عن التوسع في ذلك انتهى، قلت: ولقد عمت البلوى فكان بعض الجهلة بالتوحيد الذي بعث الله به سيد المرسلين يأتي في زيارته للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من شهداء أُحد وأهل البقيع بكلام غير مشروع بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 هو من الشرك كقول بعضهم عند الحجرة: يا رسول الله أتيناك زائرين مستجيرين مستغيثين فلا تردنا خائبين، المدد يا رسول الله، الغوث يا أكرم الخلق على الله يا رسول الله خذ بأيدينا، ونحو ذلك من الكلام الذي هو من الشرك الأكبر (فإن لله وإنا إليه راجعون) فيجب على كل من أراد نجاة نفسه التنبه لذلك وتنبيه الجاهل واستعمال السلام المشروع، والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل. ويسن أن يقول عند منصرفه من حجه متوجهاً إلى بلده: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، آيبون: أي راجعون، تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، لما في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول فذكره. قال في الإقناع وشرحه: ولا بأس أن يقال للحاج إذا قدم (تقبل الله نسكك وأعظم أجرك وأخلف نفقتك) . رواه سعيد عن ابن عمر قال في المستوعب: وكانوا يغتنمون أدعية الحاج قبل أن يتلطخوا بالذنوب، وفي الخبر: اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج. تنبيه: قد ذكر بعض الفقهاء والمؤلفين في المناسك أحاديث ضعيفة بل موضوعة في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، فمنها حديث (من زار قبري وجبت له شفاعتي) . رواه الدارقطني والبيهقي، وهو حديث منكر ضعيف الإسناد وقد تفرد به موسى بن هلال العبدي المجهول الحال عن عبد الله بن عمر العمري المشهور بسوء الحفظ وشدة الغفلة، ومنها حديث (من حجج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي) . رواه الدارقطني في سننه وغيرها وهو حديث منكر المتن ساقط الإسناد، وذكر بعض العلماء أنه من الأحاديث الموضوعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 والأخبار المكذوبة وهو من رواية حفص بن سليمان، قال عثمان بن سعيد الدارمي وغيره، عن يحيى بن معين ليس بثقة، وقال الإمام أحمد متروك الحديث، وقال البخاري تركوه، وقال مسلم بن الحجاج متروك، وقال علي بن المديني ضعيف وتركته على عمد، وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه، ومنها حديث (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) رواه ابن عدي في الكامل، وهو حديث منكر جداً لا أصل له بل هو من المكذوبات والموضوعات وهو كذب موضوع وقد عده ابن الجوزي في الموضوعات، قال ابن حبان في كتاب الضعفاء: النعمان بن شبل أبو شبل من أهل البصرة يروى عن أبي عوانه ومالك والبصريين والحجازيين روى عنه ابن ابنه محمد بن محمد بن النعمان بن شبل حدثنا عنه الحسن بن سفيان أنه يأتي عن الثقات بالطامات وعن الإثبات بالمقلوبات، وروى عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) ، ومن المعلوم عند أهل الحديث أن تفرد مثل محمد بن محمد بن النعمان بن شبل المتهم بالكذب والوضع عن جده النعمان بن شبل الذي لم يعرف بعدالة ولا ضبط من أبين الأدلة على ضعف ما تفرد به وكذبه ورده، ونسخه مالك عن نافع عن ابن عمر محفوظة رواها عنه أصحابه رواة الموطأ وليس هذا الحديث منها بل لم يروه مالك قط ولا طرق سمعه ولو كان من حديثه لبادر إلى روايته عنه بعض أصحاب الثقات بل لو تفرد برواية هذا الحديث عنه ثقة معروف من بين سائر أصحاب مالك لأنكره الحفاظ عليه ولعدوه من الأحاديث المنكرة الشاذة فكيف وهو حديث لم يروه عنه ثقة قط، ومنها حديث: (من زار قبري) أو قال: (من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي، قال حدثني رجل من آل عمر عن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من زار قبري) أو قال: (من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله عز وجل من الآمنين يوم القيامة) وهذا الحديث ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه، وقد خرجه البيهقي في كتاب شعب الإيمان، وفي كتاب السنن الكبرى، وقال في كتاب السنن بعد تخرجه: هذا إسناد مجهول انتهى، وسوار بن ميمون شيخ أبي داود الطيالسي يقلبه بعض الرواة ويقول ميمون بن سوار وهو شيخ مجهول لا يعرف بعدالة ولا ضبط، وأما شيخ سوار في رواية أبي داود هذه فإنه شيخ مهم وهو أسوأ حالاً من المجهول، فكل هذه الأحاديث التي ذكرناها ليس فيها حديث صحيح بل كلها ضعيفة أو موضوعة لا أصل لها، وأجود ما روى في أحاديث الزيارة ما روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من حديث أبي هريرة قال: حدثنا عبد الله بن يزيد هو أبو عبد الرحمن المقريء حدثنا حيوة، حدثنا أبو صخر أن يزيد بن عبد الله بن قسيط أخبره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عز وجل علي روحي حتى أرد عليه السلام) وهذا الحديث هو الذي اعتمد عليه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من الأئمة في مسألة الزيارة، ومع هذا فإنه لا يسلم من مقال في إسناده ونزاع في دلالته. أما المقال في إسناده فمن جهة تفرد أبي صخر به عن ابن قسيط، وأبو صخر هو حميد بن زياد وهو ابن أبي المخارق المدني الخراط صاحب العبا، سكن مصر، ويقال حميد بن صخر، واختلف الأئمة في عدالته فوثقه بعضهم وتكلم فيه آخرون، واختلفت الرواية عن يحيى بن معين فيه فقال أحمد بن سعيد بن أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 مريم عنه: أبو صخر حميد بن زياد الخراط ضعيف الحديث، وقال إسحاق بن منصور عنه: أبو صخر حميد بن زياد ضعيف، وروى عثمان بن سعيد الدارمي عنه حميد بن زياد الخراط ليس به بأس، وقال في موضع آخر: قلت ليحيى فأبو صخر؟ قال ثقة: وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل سئل أبي عن أبي صخر فقال: ليس به بأس وروى عن الإمام أحمد رواية أخرى أنه ضعيف، وقال النسائي: حميد بن صخر ضعيف، وفي كتاب الضعفاء للنسائي حميد بن صخر ليس بالقوي، قال في التقريب: حميد بن زياد أبو صخر بن أبي المخارق الخراط صاحب العبا مدني سكن مصر، ويقال هو حميد بن صخر أبو مودود الخراط، وقيل إنهما اثنان صدوق يهم من السادسة مات سنة تسع وثمانين بعد المائة انتهى، فقد تبين أن هذا الحديث الذي تفرد به أبو صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة لا يخلو من مقال في إسناده وأنه لا ينتهي به إلى درجة الصحيح وإنما هو حديث إسناده مقارب وهو صالح أن يكون متابعاً لغيره وعاضداً له، والله أعلم. وأما النزاع في دلالة الحديث فمن جهة احتمال لفظه، فإن قاله (ما من أحد يسلم علي) يحتمل أن يكون المراد به عند قبره كما فهمه جماعة من الأئمة، ويحتمل أن يكون معناه على العموم، وأنه لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد، والذين قالوا بالاحتمال الأول، وأثبتوا استحباب السلام عليه عند الحجرة كمالك وابن حبيب وأحمد بن حنبل وأبي داود واحتجوا: إما بفعل ابن عمر كما احتج به مالك وأحمد وغيرهما، وإما بهذا الحديث فإنه عمدة الإمام أحمد وأبي داود وابن حبيب وأمثالهم، وليس في لفظ الحديث المعروف في السنن والمسند عند قبري لكن عرفوا أن هذا هو المراد وأنه لم يرد على كل مسلم عليه في كل صلاة في شرق الأرض وغربها، مع أن هذا المعنى إن كان هو المراد بطل الاستدلال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 بالحديث من كل وجه على اختصاص تلك البقعة بالسلام، وإن كان المراد هو السلام عليه عند قبره كما فهمه عامة العلماء فهل يدخل فيه من سلم من خارج الحجرة فهذا مما تنازع فيه الناس، وقد تنازعوا في دلالته فمن الناس من يقول هذا إنما يتناول من سلم عليه عند قبره كما كانوا يدخلون الحجرة على زمن عائشة فيسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فكان يرد عليهم فأولئك سلموا عليه عند قبره وكان يرد عليهم، وهذا قد جاء عموماً في حق المؤمنين (ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) قالوا: فأما من كان في المسجد لم يسلموا عليه عند قبره لا سيما بعد أن وضع الشباك على الحجرة وإنما سلامهم عليه في المسجد كالسلام عليه في الصلاة، وكالسلام عليه إذا دخل المسلم المسجد وخرج منه، وهذا هو السلام الذي أمر الله به في حقه بقوله (صلوا عليه وسلموا تسليما) وهذا السلام قد ورد أنه من سلم عليه مرة سلم الله عليه عشراً كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً، وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه ذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختص بمكان دون مكان، وحديث أبي هريرة هذا يدل على أنه يرد السلام على من سلم عليه، والمراد عند قبره ولكن النزاع في معنى كونه عند قبره، هل المراد به في بيته كما يراد مثل ذلك في سائر ما أخبر به من سماع الموتى إنما هو لمن كان عند قبورهم قريباً منها أو يراد به من كان في المسجد أيضاً قريباً من الحجرة كما قاله طائفة من السلف والخلف، وقول من يقول إنه صلى الله علي وسلم يسمع الصلاة والسلام من البعيد ممتنع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 فإنه إن أراد وصول المصلى والمسلم إليه فهذه مكابرة، وإن أراد أنه صلى الله عليه وسلم يكون بحيث يسمع أصوات الخلائق من بعيد فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلها، ويقال أيضا ليس في الحديث ثناء على المسلم ولا مدح له ولا ترغيب له في ذلك ولا ذكر أجر له كما جاء في الصلاة والسلام المأمور بهما فإنه قد وعد أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا، وكذلك من سلم عليه، وأيضاً فهما مأمور بهما وكل مأمور به ففاعله محمود مشكور مأجور، وأما قوله: (ما من رجل يمر بقبر الرجل فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام وما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام) فإنما فيه مدح المسلم عليه والإخبار بسماعه السلام وأنه يرد السلام فيكافئ المُسَلِّم عليه لا يبقى للمسَلَّم عليه فضل فإنه بالرد تحصل المكافأة كما قال تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) والمقصود هنا أن يعرف ما كان عليه السلف من الفرق بين ما أمر الله به من الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سلام التحية الموجب للرد الذي يشترك فيه كل مؤمن حي وميت. ومن أعظم ما منّ الله به على رسوله وعلى أمته واستجاب فيه دعاءه أن دفن في بيته بجانب مسجده فلا يقدر أحد أن يصل إلا إلى المسجد خصوصاً بعد وضع الشباك على الحجرة، والمسافر إلى قبره صلى الله عليه وسلم إنما يسافر إلى المسجد، وإذا سمى هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمى له إنما هو إتيان إلى مسجده صلى الله عليه وسلم ولهذا لم يطلق السلف هذا اللفظ؛ ولا عند قبره قناديل معلقة ولا ستور مسبلة بل إنما تعلق القناديل في المسجد المؤسس على التقوى، ولا يقدر أحد أن يخلق نفس قبره بزعفران أو غيره من الخلوق، ولا ينذر زيتاً ولا شمعاً ولا ستراً، ولا غير ذلك مما ينذره أهل الإشراك لقبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 غيره، وإن كان فعل شيء من ذلك في ظاهر الحجرة أو كان في بعض الأحوال قد ستر بعض الناس الحجرة أو خلقها بعضهم بزعفران، فهذا إنما هو للحائط الذي يلي المسجد لا من باطن الحجرة والقبر كما يفعل بقبر غيره، فعلم أن الله سبحانه وتعالى استجاب دعاءه حين قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) وإن كان كثيراً من الناس يريدون أن يجعلوه وثنا ويعتقدون أن ذلك تعظيم له كما يريدون ذلك ويعتقدونه في قبر غيره، فهو لا يتمكنون من ذلك في قبره صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، لا سيما بعد وضع الشباك على الحجرة، بل هذا القصد والاعتقاد خيال في أنفسهم لا حقيقة له في الخارج فما يحصل من بعض الزوار في مسجده صلى الله عليه وسلم أثناء زيارتهم لا يعد من البدع والإشراك واقعاً عند قبره صلى الله عليه وسلم، وإنما ذلك في مسجده صلى الله عليه وسلم، لأنه من الممتنع الوصول إلى قبره صلى الله عليه وسلم، فعلم يقيناً أن الله قد استجاب دعاءه صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن القيم في الكافية الشافعية: ولقد نهانا أن نصيِّر قبره ... عيداً حذار الشرك بالرحمن. ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثناً من الأوثان. فأجاب رب العالمين دعاؤه ... وأحاطه بثلاثة الجدران. حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان انتهى. قلت: هذا في زمن ابن القيم ثم بعد زمنه أحيط أيضاً بالشباك الكبير الموجود الآن فأصبح القبر محاطاً بثلاثة الجدران التي ذكرها ابن القيم رحمه الله وثلاثة الجدران محاطة بالشباك الكبير من جميع الجهات، فالحمد لله رب العالمين والمقصود أن الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم المأمور بهما في القرآن لا يوجب الرد، وهو أفضل من السلام الموجب للرد، وكانت على عهد الخلفاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 الراشدين والصحابة حجرته صلى الله عليه وسلم خارجة عن المسجد ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار، ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة وكان من آخرهم موتاً جابر بن عبد الله وهو توفي في خلافة عبد الملك قبل خلافة الوليد فإنه توفى سنة بضع وسبعين، والوليد تولى سنة بضع وثمانين وتوفى سنة بضع وتسعين فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك، وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبه النميري في كتاب أخبار المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشياخه وعمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هجرية هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه، وقوله في الحديث (إلا رد الله علي روحي حتى أراد عليه السلام) يقتضي رد الروح بعد السلام ولا يقتضي استمرارها في الجسد وليعلم أن رد الروح بعد للبدن هو عودها إلى الجسد بعد الموت لا يقتضي فيه ولا يستلزم حياة أخرى قبل يوم النشر نظير الحياة المعهودة، بل إعادة الروح إلى الجسد في البرزخ إعادة برزخية لا تزيل عن الميت اسم الموت، وقد ثبت في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور في عذاب القبر ونعيمه وفي بيان الميت وحاله أن روحه تعاد إلى جسده مع العلم بأنها غير مستمرة فيه؛ وأن هذه الإعادة ليست مستلزمة لإثبات حياة مزيلة لاسم الموت، بل هي نوع حياة برزخية والحياة جنس تحتها أنواع وكذلك الموت، فإثبات بعض أنواع الموت لا ينافي الحياة كما في الحديث الصحيح أنه كان إذا استيقظ من النوم قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، وفي الجملة رد الروح على الميت في البرزخ ورد السلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 على من يسلم عليه لا يستلزم الحياة التي يظنها بعض الغالطين وإن كان نوع حياة برزخية، وقول من زعم إنها نظير الحياة المعهودة مخالف للمنقول والمعقول ويلزم منه مفارقة الروح للرفيق الأعلى وحصولها تحت التراب قرناً بعد قرن والبدن حي مدرك سميع بصير تحت أطباق التراب والحجارة ولوازم هذا باطلة مما لا يخفى على العقلاء، وعند أهل السنة من الفقهاء والمحدثين وغيرهم أن الروح ذات قائمة بنفسها لها صفات تقوم بها وأنها تفارق البدن وتصعد وتنزل وتُقبض، وتُنعم وتعذب، وتدخل وتخرج، وتذهب وتجيء، وتُسأل وتحاسب، ويقبضها الملك ويعرج بها إلى السماء ويشيعها ملائكة السموات إن كانت طيبة وإن كانت خبيثة طرحت طرحاً، وأنها تحس وتدرك وتأكل وتشرب في البرزخ من الجنة كما دلت عليه السنة الصحيحة في أرواح الشهداء خصوصاً والمؤمنين عموماً، ومع هذا فلها شأن آخر غير شأن البدن فإنها تكون في الملأ الأعلى فوق السموات، وقد تعلقت بالبدن تعلقاً يقتضي رد السلام على من سلم عليه عند قبره وهي في مستقرها في عليين مع الرفيق الأعلى، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على موسى قائماً يصلي في قبره، ثم رآه في السماء السادسة ولا ريب أن موسى لم يرفع من قبره. تلك الليلة لا هو ولا غيره من الأنبياء الذين رآهم في السموات؛ بل لم تزل تلك منازلهم من السموات، وإنما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في منازلهم التي كانوا فيها من حين رفعهم الله سبحانه إليها، ولم تكن صلاة موسى في قبره بموجبة مفارقة روحة للسماء السادسة وحلولها في القبر، بل هي في مستقرها ولها تعلق بالبدن قوى حتى حمله على الصلاة، وقد ثبت في الصحيح أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 وتسرح فيها حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وهذا شأنها حتى يبعثها الله سبحانه إلى أجسادها، ومع هذا فإذا زارهم المسلم وسلم عليهم عند قبورهم عرفوه وردوا عليه السلام بل ونسمة المؤمن كذلك مع كونها طائراً تعلق في شجر الجنة ترد على صاحبها وتشعر بالمسلم إذا سلم عليه عند قبره والله أعلم، قال في الكافية الشافعية لابن القيم رحمه الله تعالى: وكذا نشد رحالنا للمسجد ... النبوي خير مساجد البلدان. من بعد مكة أو على الإطلاق ... فيه الخلف منذ زمان. فإذا أتينا المسجد النبوي ... صلينا التحية أولا ثنتان. ثم أنثنينا للزيارة نقصد ... القبر الشريف ولو على الأجفان. فنقوم دون القبر وقفة خاضع ... متذلل في السر والإعلان. فكأنه في القبر حي ناطق ... فالواقفون نواكس الأذقان. ملكتهم تلك المهابة فاعترت ... تلك القوائم كثرة الرجفان. وتفجرت تلك العيون بمائها ... ولطال ما غاضت على الأزمان. وأتى المسلم بالسلام بهيبة ... ووقار ذي علم وذي إيمان. لم يرفع الأصوات حول ضريحه ... كلا ولم يسجد على الأذقان. كلا ولم ير طائفاً بالقبر ... أسبوعاً كأن القبر بيت ثان. ثم انثنى بدعائه متوجها ... لله نحو البيت ذي الأركان. هذي زيارة من غدا متمسكا ... بشريعة الإسلام والإيمان. من أفضل الأعمال هاتيك الز- ... يارة وهي يوم الحشر في الميزان. لا تلبسوا الحق الذي جاءت به ... سن الرسول بأعظم البطلان. هذي زيارتنا ولم ننكر سوى ال- ... بدع المضلة يا أولي العدوان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وحديث شر الرحل نص ثابت ... يجب المصير إليه بالبرهان. انتهى. ويأتي في كلام شيخ الإسلام أن السلف نصوا على أنه لا يوقف عنده للدعاء، قال شيخ الإسلام: اتفق الأئمة على أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارته وعلى صاحبيه لما في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي بها روحي حتى أرد عليه السلام) وهو حديث جيد إلى أن قال ومع هذا لم يقل أحد منهم أن الدعاء مستجاب عند قبره ولا أنه يستحب أن يتحرى الدعاء متوجهاً إلى قبره بل نصوا على نقيض ذلك، واتفقوا كلهم على أنه لا يدعو مستقبل القبر، وتنازعوا في السلام عليه فقال الأكثرون كمالك وأحمد وغيرهما يسلم عليه مستقبل القبر وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: بل يسلم عليه مستقبل القبلة بل نص أئمة السلف على أنه لا يوقف عنده للدعاء مطلقاً كما ذكر ذلك إسماعيل بن إسحاق في كتاب المبسوط وذكره القاضي عياض، قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو ولكن يسلم ويمضي، وقال أيضاً في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: فإنا ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة أو في اليوم المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدتنا ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك إلا من جاء من سفر أو أراده. قال ابن القاسم رأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وسلموا قال وذلك دأبي فهذا مالك وهو أعلم أهل زمانه: أي زمن تابع التابعين بالمدينة النبوية التي كان أهلها في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أعلم الناس بما يشرع عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون الوقوف للدعاء بعد السلام عليه وبين أن المستحب هو الدعاء له ولصاحبيه وهو المشروع من الصلاة والسلام، وأن ذلك أيضاً لا يستحب لأهل المدينة كل وقت بل عند القدوم من سفر أو إرادته لأن ذلك تحية له، والمحيا لا يقصد بيته كل وقت لتحيته بخلاف القادمين من السفر، وقال مالك في رواية ابن وهب إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف وجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده، وكره مالك أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال القاضي عياض كراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ينهى عن إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبه بفعل ذلك قطعاً للذريعة وحسما للباب انتهى كلام الشيخ. الإسلام وقد تنازع العلماء في شد الرحال إلى مجرد زيارة القبور، والصحيح أنه ينهى عن ذلك لحديث (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فإن قيل الحديث نص في المساجد لا في غيرها، قلنا قد فهم الصحابة من نهيه صلى الله عليه وسلم أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة أن السفر إلى طور سيناء داخل في النهي وإن لم يكن مسجداً كما جاء عن بصرة ابن أبي بصرة وأبي سعيد وابن عمر وغيرهم، وحديث بصرة معروف في السنن والموطأ، قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تعمل المطي إلا إلى الثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) وأما ابن عمر: فروى أبو زيد عمر بن شبه النميري في كتاب أخبار المدينة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 حدثنا ابن أبي الوزير، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طلق عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت إني أريد الطور؟ فقال: (إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى فدع عنك الطور فلا تأته) رواه أحمد بن حنبل في مسنده، وهذا النهي عن بصرة ابن أبي بصرة وابن عمر ثم موافقة أبي هريرة يدل على أنهم فهموا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم النهي فلذلك نهوا عنه لم يحملوه على مجرد نفي الفضيلة وكذلك أبو سعيد الخدري رواية أيضاً وحديثه في الصحيحين فروى أبو زيد، حدثنا هشام بن عبد الملك، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) فأبو سعيد جعل الطور مما نهى عن شد الرحال إليه مع أن اللفظ الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى بالنهي، والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة وأن الله سماه الوادي المقدس والبقعة المباركة وكلم الله موسى هناك فالصحابة الذي سمعوا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فهموا منه النهي وفهموا منه تناوله لغير المساجد وهم أعلم بما سمعوه، والله أعلم. وأما طلب الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته فليس بجائز، والحكاية المنسوبة عن الإمام مالك بن أنس الذي جاء فيه أنه قال لأبي جعفر المنصور: لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام، بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك، قال الله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) الآية. حكاية باطلة فإن هذا الحكاية لم يذكرها أحد من الأئمة فيما أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 ولم يذكر أحد منهم أنه يستحب أن يسأل بعد الموت لا استغفاراً ولا غيره، وكلام الإمام مالك المنصوص عنه وعم أمثاله ينافي هذا، وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخرى الفقهاء أنه يروى عن العتبي أنه قال: كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله: سمعت الله يقول (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) وتلا هذه الآية وأنشد هذين البيتين: يا خير من دفنت بالبقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم. نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم. ثم انصرف الأعرابي فحملتني عيناي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: يا عتبى الحق الأعرابي فبشره أن الله تعالى قد غفر له، ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم، وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعاً مأموراً به، وهذه الحكاية يرويها بعضهم عن العتبي بلا إسناد، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي، وقد ذكرها البيهقي في شعب الإيمان بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد البصري، حدثني أبو حرب الهلالي، قال: حج أعرابي فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته فعقلها ثم دخل المسجد حتى أتى القبر ثم ذكر نحو ما تقدم، وقد وضع لها بعض الكذابين إسناداً إلى علي بن أبي طالب، وفي الجملة ليست هذه الحكاية المذكورة عن الأعرابي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 مما تقوم بها حجة وإسنادهم مظلم مختلق ولفظها مختلق أيضاً فلا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وبالله التوفيق. -- فصل: -- في صفة العمرة وما يتعلق بذلك: من كان في الحرم من مكي وغيره وأراد العمرة خرج إلى الحل فأحرم من أقربه إلى الحرم وكان ميقاتاً له، قال في الشرح الكبير: لا نعلم فيه خلافاً انتهى، ومن التنعيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر أخته عائشة من التنعيم. قال ابن سيرينك بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل مكة التنعيم، وإنما لزم الإحرام من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرم، ومن أي الحل أحرم جاز، وإنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة من التنعيم لأنه أقرب الحل إلى مكة. ثم يلي الإحرام من التنعيم في الأفضلية الإحرام من الجعرانة بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء وقد تكسر العين وتشدد الراء، وقال الشافعي: التشديد خطأ. وهي موضع بين مكة والطائف خارج من حدود الحرم يعتمر منه، سمي بريطة بنت سعد وكانت تلقب بالجعرانة، قال في القاموس وهي المرادة في قوله تعالى: (كالتي نقضت غزلها) قال في المصباح المنير: والجعرانة موضع بين مكة والطائف، وهي على سبعة أميال من مكة وتمامه فيه، وفي ذلك الموضع بئر ماؤها من أعذب المياه، ثم يلي الإحرام من الجعرانة في الأفضلية الإحرام من الحديبية مصغرة وقد تشدد. قال في المصباح: الحديبية بئر بقرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 مكة على طريق جدة دون مرحلة ثم أطلق على الموضع وتمامه فيه. قال في القاموس: الحديبية كدويهيه وقد تشدد: بئر قرب مكة حرسها الله تعالى أو لشجرة حدباء كانت هناك انتهى قال في شرح القاموس لمرتضى الحسيني: وجزم المتأخرون أنها قريبة من قهوة الشميسي، والشجرة هي التي كانت تحتها بيعة الرضوان انتهى ملخصاً. قلت: قد قطع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى الناس يذهبون إليها مذاهب سداً لذريعة الشرك من التبرك بالأشجار كذات أنواط المذكورة في حديث أبي واقد الليثي والله أعلم، والحديبية من الحل وهناك علماً حدود الحرم قريباً منها كما هو مشاهد. ثم يلي ما سبق في الأفضلية ما بعد عن الحرم، وعنه في المكي كلما تباعد في العمرة فهو أعظم للأجر هي على قدر تعبها؛ ومن كان خارجاً عن حرم مكة دون المواقيت التي سبقت كأهل لزيمة والشرائع وبحرة ونحوها فميقات إحرامه بالحج أو العمرة من دويرة أهله كما تقدم في باب المواقيت لحديث ابن عباس السابق هناك؛ وإن كان في قرية وأراد الإحرام فإنه له أن يحرم من الجانب الأقرب من الحرم وإحرامه من الجانب الأبعد أفضل كمن بالميقات فإن إحرامه من الجانب الأبعد عن الحرم أفضل وتقدم في باب المواقيت، وتباح العمرة كل وقت من أوقات السنة في أشهر الحج وغيرها، فلا يكره الإحرام بها يوم عرفة ولا يوم النحر ولا أيام التشريق لأن الأصل الإباحة ولا دليل على الكراهة، فإن قيل كيف يتصور الإحرام بالعمرة يوم النحر وهو متلبس بحج إذ يكون ذلك من إدخال العمرة على الحج والصحيح عدم جوازه، فالجواب أن فعل ذلك لمن لم يكن متلبساً بحج أصلاً أو لمن فاته الحج والله أعلم، لكن تقدم في باب الإحرام في صفة التمتع أن القاضي أبا يعلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 قال: لو تحلل من الحج يوم النحر ثم أحرم فيه بعمرة فليس بمتمتع فعبارته صريحة في صحة عمرته يوم النحر بعد التحلل الأخير من الحج، فعلى هذا يكون الممنوع ما إذا أحرم بالعمرة وهو متلبس بالحج، أما إذا حل منه التحلل الأخير صح الاعتمار إذ ليس فيه إدخال للعمرة على الحج، على أني لم أطلع على أن أحداً من السلف أو ممن يعتد بقوله اعتمر وهو في تلك الحالة التي بقي عليه بعض مناسك الحج من الرمي والمبيت ليالي منى والله أعلم. ولا بأس أن يعتمر في السنة مراراً روى عن علي وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وطاووس وعكرمة والشافعي، وكره العمرة في السنة مرتين الحسن وابن سيرين ومالك، قال النخعي ما كانوا يعتبرون في السنة إلا مرة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله قال في الشرح الكبير ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة مع قرانها وعمرة بعد حجها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العمر إلى العمرة كفارة لما بينهما) متفق عليه. وقال علي رضي الله عنه: في كل شهر مرة وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر، رواهما الشافعي في مسنده انتهى. ويكره الإكثار منها والموالاة بينها نصا باتفاق السلف قاله في الفروع، قال أحمد إن شاء كل شهر وقال لا بد أن يحلق أو يقصر وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس. قال في الشرح: قال شيخنا يعني عمه الموفق وأحوال السلف وأقوالهم على ما قلناه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تنقل عنه الموالاة بينها وإنما نقل عن السلف إنكار ذلك والحق في اتباعهم. قال طاووس: الذين يعتمرون من التنعيم ما أدرى يؤجرون عليها أم يعذبون؟ قيل له: فلم يعذبون؟ قال لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج إلى أربعة أيمال ويجيء وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائة طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 في غير شيء انتهى. والعمر في غير أشهر الحج أفضل منها في أشهر الحج نقله الأثرم عن أحمد، واختار في زاد المعاد أن العمر في أشهر الحج أفضل، وظاهر كلام جماعة التسوية، وأفضلها في رمضان ويستحب تكرارها فيه لأنها تعدل حجة لحديث ابن عباس مرفوعاً (عمرة في رمضان تعدل حجة) متفق عليه. قال أحمد: من أدرك يوماً من رمضان فقد أدرك عمرة رمضان، وقال أنس (حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة واعتمر أربع عُمر واحدة في القعدة وعمرة الحديبية وعمرة مع حجته وعمرة الجعرانة إذ قسم غنائم حنين) متفق عليه. وفي الصحيحين عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كهلن في ذي القعدة إلا التي اعتمر مع حجته) الحديث، والتي مع حجته في ذي الحجة. قال ابن القيم: ولا تناقض بين حديث أنس أنهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته وبين قول عائشة وابن عباس لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة لأن مبدأ عمر القران كان في القعدة ونهايتها كانت في ذي الحجة مع انقضاء الحج، فعائشة وابن عباس أخبرا عن ابتدائها وأنس أخبر عن انقضائها انتهى. وتسمى العمرة حجاً أصغر لمشاركتها للحج في الإحرام والطواف والسعي والحلق والتقصير، وانفراد الحج بالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى ورمي الجمار وغير ذلك، قال في المنتهى وشرحه: وحرام إحرام بعمرة من الحرم لتركه ميقاته وينعقد إحرامه وعليه دم كمن تجاوز ميقاته بلا إحرام ثم أحرم انتهى. قال في الإقناع وشرحه: وإن أحرم بالعمرة من الحرم لم يجز له ذلك لتركه ميقاته وهو الحل وينعقد إحرامه وعليه دم لتركه نسكاً واجباً. قال في المغني والشرح: فإن أحرم بالعمرة من الحرم لم يجز وينعقد وعليه دم وذلك لتركه الإحرام من الميقات وهو الحل، فإن خرج إلى الحل قبل الطواف ثم عاد أجزأه لأنه قد جمع بين الحل والحرم، وإن لم يخرج حتى قضى عمرته صح أيضاً لأنه قد أتى بأركانها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وإنما أخل بالإحرام من ميقاتها وقد جبره فأشبه من أحرم دون الميقات بالحج وهذا قول أبي ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي. والقول الثاني لا تصح عمرته لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج فعلى هذا وجود هذا الطواف كعدمه وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يطوف بعد ذلك ويسعى، وإن حلق قبل ذلك فعليه دم وكذلك كل ما فعله من محظورات إحرامه فعليه فديته، وإن وطئ أفسد عمرته ويمضي في فاسدها وعليه دم لإفسادها ويقضيها بعمرة من الحل، فإن كانت العمرة التي أفسدها عمرة الإسلام أجزأه قضاؤها عن عمرة الإسلام وإلا فلا انتهى. قال في الرعاية: فإن أحرم بها من الحرم أو من مكة معتمراً صح في الأصح ولزمه دم، وقيل إن أحرم بها مكي من مكة أو من بقية الحرم خرج إلى الحل قبل طوافها وقبل إتمامها وعاد فأتمها كفته وعليه دم لإحرامه دون الميقات وإن أتمها قبل أن يخرج ففي إجزائها وجهان انتهى. قال في الفروع وإن أحرم بالعمرة من مكة أو الحرم لزمه دم ويجزئه إن خرج إلى الحل قبل طوافها وكذا بعده كإحرامه دون ميقات الحج به انتهى. يعني إذا خرج إلى الحل محرماً أجزأته عمرته وعليه دم لإحرامه بها دون ميقاتها كإحرامه دون ميقات الحج والله أعلم، ثم بعد الإحرام بالعمرة يطوف لعمرته ويسعى ثم يحلق أو يقصر ولا يحل قبل الحلق أو التقصير، فإن وطئ قبله فعليه دم لما روى عن ابن عباس وتقدم قال في الشرح: وهل يحل قبل الحلق أو التقصير على روايتين أصلهما هل الحلق والتقصير نسك أو ليس بنسك؟ فإن قلنا إنه نسك لم يحل قبله كالرمي، وإن قلنا ليس بنسك بل إطلاق من محظور حل قبله كاللبس والطيب، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في الحج وهذا مقيس عليه انتهى. قلت: قد تقدم أن الحلق والتقصير نسك على الصحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 لا إطلاق من محظور واستوفينا البحث هناك فليراجع فإنه مهم جداً والله الموفق. وتجزئ عمرة القارن عن عمرة الإسلام وتجزئ عمرة من التنعيم عن عمرة الإسلام، لحديث عائشة حين قرنت الحج والعمرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم حين حلت منهما (قد حللت من حجك وعمرتك) وإنما أعمرها من التنعيم قصداً لتطيب خاطرها وإجابة مسألتها لا لأنها كانت واجبة عليها وعن الإمام أحمد أن العمرة من أدنى الحل لا تجزئ عن العمرة الواجبة، قال إنما هي من أربعة أميال وثوابها على قدر تعبها، وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: والله ما كانت عمرة إنما كانت زيادة، وإذا لم تكن تامة لم تجز لقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) قال علي رضي الله عنه إتمامها أن تأتي بهما من دويرة أهلك. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد كلام له سبق: ولم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها، لأنها كانت قد حاضت فلم يمكنها الطواف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) فأمرها أن تهل بالحج وتدع أفعال العمرة لأنها كانت متمتعة ثم إنها طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن فاعتمرت من التنعيم، والتنعيم هو: أقرب الحل إلى مكة وبه اليوم المساجد التي تسمى مساجد عائشة، ولم تكن هذه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما بنيت بعد ذلك علامة على المكان الذي أحرمت منه عائشة، وليس دخول هذه المساجد ولا الصلاة فيها لمن اجتاز بها محرماً لا فرضاً ولا سنة بل قصد ذلك واعتقاد أنه يستحب بدعة مكروهة، ولكن من خرج من مكة ليعتمر فإنه إذا دخل واحداً منها وصلى فيه لأجل الإحرام، فلا بأس بذلك، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 ليعتمر إلا لعذر لا في رمضان ولا في غير رمضان، والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة إلا عائشة كما ذكر ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين، والذين استحبوا الإفراد من الصحابة إنما استحبوا أن يحج في سفره ويعتمر في أخرى ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر عقب ذلك عمرة مكية، بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط، اللهم إلا أن يكون شيئاً نادراً، وإن تنازع السلف في هذا هل يكون متمتعاً عليه دم أم لا، وهل تجزئة هذه العمرة عن عمرة الإسلام أم لا؟ وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته أربع عمر: عمرة الحديبية وصل إلى الحديبية، والحديبية وراء الجبل الذي بالتنعيم عند مساجد عائشة عن يمينك وأنت داخل إلى مكة ثم صده المشركون عن البيت فصالحهم وحل من إحرامه وانصرف، وعمرة القضية اعتمر من العام القابل، وعمرة الجعرانة كان قد قاتل المشركين بحنين، وحنين من ناحية المشرق من ناحية الطائف، وأما بدر فهي بين المدينة وبين مكة وبين الغزوتين ست سنين ولكن قرناً في الذكر لأن الله تعالى أنزل فيهما الملائكة لنصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في القتال ثم ذهب فحاصر المشركين بالطائف ثم رجع وقسم غنائم حنين من الجعرانة، فلما قسم غنائم حنين اعتمر بالجعرانة داخلاً إلى مكة لا خارجاً منها للإحرام، والعمرة الرابعة مع حجته فإنه قرن بين العمرة والحج باتفاق أهل المعرفة بسنته وباتفاق الصحابة على ذلك، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع تمتعاً حل فيه بل كانوا يسمون القران تمتعاً ولا نقل عن أحد من الصحابة أنه لما قرن طاف طوافين وسعى سعيين وعامة المنقول عن الصحابة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج، كعائشة، وابن عمر، وجابر؛ قالوا: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج، وقد ثبت هذا في الصحيحين عن عائشة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وابن عمر بإسناد أصح من إسناد الإفراد ومرادهم بالتمتع القران كما ثبت ذلك في الصحاح أيضاً انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وفي صحيح البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي ثم ائتيا بمكان كذا ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك) انتهى، وقوله بمكان كذا: أي بالأبطح وهو المحصب، والله أعلم، وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: سئل عمر عن العمرة بعد الحج فقال هي خير من لا شيء، وسئلت عائشة فقالت على قدر النفقة، وروى عن عطاء وطاووس ومجاهد أنهم كرهوا العمرة بعد الحج، وقالوا: لا تجزئ ولا تفي، وقالوا: الطواف بالبيت والصلاة أفضل. تتمة: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) قال الترمذي حسن صحيح. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) . متفق عليه. -- فصل: أركان الحج أربعة: الأول الوقوف بعرفة لحديث (الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه) رواه أبو داود. الثاني طواف الزيارة: قال ابن عبد البر هو من فرائض الحج لا خلاف في ذلك بين العلماء لقوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) قال في المنتهى وشرحه: فلو تركه أي طواف الزيارة وأتي بغيره من فرائض الحج وبَعُد عن مكة مسافة قصر رجع إلى مكة معتمراً فأتى بأفعال العمرة ثم يطوف للزيارة، فإن وطئ أحرم من التنعيم على حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 ابن عباس وعليه دم انتهى، قال الخلوتي: قوله يعني في متن المنتهى فلو تركه رجع معتمراً ظاهره سواء قرب أو لم يقرب وتعليل الشارح فيما سبق يخالفه، وعلى كل حال ففيه إدخال العمرة على الحج وهو لا يصح على الصحيح من المذهب قال ابن نصر الله انتهى، وتقدم في فصل: ثم يفيض إلى مكة البحث في هذه المسألة. الثالث: السعي بين الصفا والمروة وفاقاً لمالك والشافعي لحديث عائشة قالت: (طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون تعني بين الصفا والمروة وكانت سنة فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة) . رواه مسلم، ولحديث (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) رواه ابن ماجة، وعنه: أن السعي سنة لا دم في تركه، روى ذلك ابن عباس وأنس وابن الزبير وابن سيرين، وعنه أنه واجب اختاره الموفق والشارح والقاضي وصاحب الفائق وهو قول الحسن وأبي حنيفة والثوري فعلى القول بوجوبه يجب بتركه دم، والصحيح من المذهب أنه ركن. الرابع: الإحرام وهو نية النسك وإن لم يتجرد من ثيابه المحرمة على المحرم لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) وكبقية العبادات، قال الشيخ منصور: لكن قياسها أنه شرط انتهى. وعن أحمد رواية أن الإحرام شرط وهو قول أبي حنيفة. وواجبات الحج سبعة: الأول: الإحرام من الميقات المعتبر له إنشاء ودواماً، قال في التلخيص والإنشاء أولى لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر المواقيت وقال: (هن لهن ولمن مرَّ عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة) . الثاني: الوقوف بعرفة إلى الليل على من وقف نهاراً لما تقدم. الثالث: المبيت بمزدلفة إلى ما بعد نصف الليل إن وافها قبله وإلا فلا. الرابع: المبيت بمنى ليالي أيام التشريق إلا أن كان من أهل الأعذار ولمن تعجل عن الليلة الثالثة على ما تقدم تفصيله. الخامس: الرمي للجمار مرتباً على ما سبق. السادس: الحلق أو التقصير لمن به شعر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 السابع: طواف الوداع، قال في المنتهى وشرحه وهو الصدر بفتح الصاد المهملة، وقدم الزركشي وتبعه في الإقناع أن طواف الصدر هو طواف الزيارة انتهى، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وطواف الوداع ليس من الحج وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة انتهى، والمسنون المبيت بمنى ليلة عرفة، وطواف القدوم، والرمل والاضطباع، والتلبية، واستلام الركنين وتقبيل الحجر الأسود، والمشي والسعي شديداً في مواضعهما، والخطب والأذكار، والدعاء، ورقي الصفا والمروة والاغتسال والتطيب في البدن، والصلاة قبل الإحرام، واستقبال القبلة عند الوقوف بعرفة وعند الرمي ما عدا جمرة العقبة فإن الصحيح الذي تدل عليه السنة أنه يجعل القبلة عن يساره ومنى عن يمينه وإن كان خلاف المذهب عند المتأخرين والله أعلم. والوقوف بعد الرمي طويلاً عند الجمرتين الأولى والثانية فقط دون جمرة العقبة. وأركان العمرة ثلاثة: الأول: الإحرام، الثاني: الطواف، الثالث: السعي لما تقدم في الحج. وواجبات العمرة شيئان: الأول: الإحرام من الحل، الثاني: الحلق أو التقصير، فمن أتى بواحد منهما فقد أتى بالواجب، فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه حجا كان أو عمرة، ومن ترك ركنا غير الإحرام لم يتم نسكه إلا به أو ترك نية الركن غير الإحرام لأن الإحرام هو نفس النية وغير الوقوف بعرفة لأنه لا يحتاج إلى نية لقيام الإحرام عنها لم يتم نسكه إلا به فمن طاف أو سعي بلا نية أعاده بنية. ومن ترك واجباً عمداً أو سهواً أو جهلاً أو لعذر فعليه دم بتركه لقول ابن عباس وتقدم فإن عدم الدم فكصوم متعة يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، ولا إطعام فيه على المذهب، قال في المغني والشرح: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 ومن لزمه صوم المتعة فمات قبل أن يأتي به لعذر منعه عن الصوم فلا شيء عليه وإن كان لغير عذر أطعم عنه كما يطعم عن صوم أيام رمضان؛ لأنه صوم وجب بأصل الشرع أشبه صوم رمضان انتهى. ومن ترك سنة فلا شيء عليه، لكن ينقص به أجر الحج ويثاب على فعله، قال في الفصول وغيره ولم يشرع الدم عنها لأن جبران الصلاة أدخل فيتعدى إلى صلاته من صلاة غيره قلت: معنى كلام صاحب الفضول أنه لا يشرع لمن ترك سنة من سنن الحج أن يجبره بدم بخلاف ما إذا ترك سنة من سنن الصلاة فعنده يشرع أن يجبرها بسجدتي السهو، لأن جبران الصلاة أدخل لكن ذكر في شرح المنتهى أنه يباح السجود لترك سنة من سنن الصلاة وفي الإقناع ولا يشرع السجود لترك سنة ولو قولية وإن سجد فلا بأس انتهى قال في الإقناع وشرحه قال أبو الوفا علي بن عقيل: وتكره تسمية من لم يحج صرورة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صرورة في الإسلام) لأنه اسم جاهلي. قلت: والصرورة بفتح الصاد المهملة وضم الراء الأولى، ويسمى بذلك من لم يحج عن نفسه، قال ويكره أن يقال حجة الوداع لأنه اسم على أن لا يعود، قال وأن يقال شوط بل طوفه وطوفتان انتهى قال السيوطي في الجامع الصغير: حديث (لا صرورة في الإسلام) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والحاكم انتهى. -- فصل: يعتبر في أمير الحجيج أن يكون مطاعاً ذا رأي وشجاعة وهداية، وعليه جمع الناس في مسيرهم ونزولهم حتى لا يتفرقوا فيخاف عليهم، وعليه ترتيبهم في السير والنزول، حتى لا يتنازعوا ولا يضلوا عنه، ويرفق بهم في السير، ويسير سير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 أضعفهم ما لم يحصل عليهم ما هو أهم منه كخوف عطش أو عدو أو فراغ علف ونحو ذلك، ومحل فراغ العلف إذا كانوا على بهائم، ويسلك بهم أوضح الطرق ويرتاد لهم المياه ويحرسهم إذا نزلوا، ويحوطهم إذا رحلوا حتى لا يتخطفهم متلصص، ويكف عنهم من يصدهم عن المسير بقتال إن قدر عليه أو يبذل مال إن أجاب الحجيج إليه، ولا يحل له أن يجبر أحداً على بذل الخفارة إن امتنع منها لأن بذل المال في الخفارة لا يجب، اللهم إلا أن يخاف عليهم إن لم يبذلوا الخفارة من النهب والسلب أو القتل مع عجزهم عن مدافعة طالب الخفارة فله إذاً إجبار الحجيج على بذلها قال الشيخ تقي الدين: ومن جرد معهم وجمع له من الجند المقطعين ما يعينه على كلفة الطريق أبيح له ولا ينقص أجره وله أجر الحج والجهاد وهذا كأخذ بعض الإقطاع ليصرفه في المصالح وليس في هذا اختلاف ويلزم المقطع بذل ما أمر به انتهى. وفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف طرح الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل الخفارة التي تؤخذ من الحجاج في زمنه وزمن أمراء مكة السابقين فصارت حسنة من حسناته والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ويصلح أمير الحجاج بين الخصمين ولا يحكم بينهما إلا أن يفوض إليه الحكم فيعتبر كونه من أهل فإن دخلوا بلداً، فلحاكم البلد الحكم بينهما، ولو تنازع واحد من الحجيج وواحد من أهل البلد لم يحكم بينهما إلا حاكم البلد، ويراعي الأمير اتساع الوقت حتى يأمن فوات الحج ولا يلحقهم ضيق في الحث على السير، فإذا وصل الميقات أمهلهم للإحرام ولإقامة سنته، فإن كان الوقت واسعاً دخل بهم مكة وخرج بهم مع أهلها إلى منى ثم عرفات، وإن كان ضيقاً عدل إلى عرفات مخافة من فوات الحج فإذا وصل الحجيج مكة، فمن لم يكن على عزم العود زالت إمارته عنه، ومن كان عزم العود فهو تحت إمارته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وملتزم أحكام طاعته في غير معصية إذا قضى الناس حجهم أمهلهم الأيام التي جرت العادة بها لإنجاز حوائجهم ولا يعجل عليهم في الخروج لئلا يحصل عليهم ضرر بذلك، ويلزمه انتظار حائض تطهر لطواف الزيارة لأنه ركن لا يتم الحج إلا به، بخلاف انتظار النفساء لأن مدة النفاس طويلة وفيه مشقة على الحجيج إذا انتظروا طهرها، هكذا ذكر الأصحاب ومعنى هذا أن هذه النفساء الغريبة المسكينة تبقى بمكة حتى تطهر من نفاسها ثم تطوف ولو كان عليها ضرر في البقاء مطلقاً وقد تقدم في باب دخول مكة كلام شيخ الإسلام وابن القيم في جواز طواف الحائض للضرورة ويقاس عليها النفساء، ثم يعود بهم إلى وطنهم ويكون في عوده ملتزماً فيهم من الحقوق ما كان ملتزماً في ذهابه إلى الحج حتى يصل إلى البلد الذي سار بهم منه فتنقطع إمارته بالعود إليه، وشهر السلاح عند قدوم الحاج الشامي تبوك بدعة محرمة، ومثله ما يفعله الحاج المصري ليلة بدر في المحل المعروف بجبل الزينة من إيقاد الشموع. قال شيخ الإسلام: وما يذكره الجهال من حصار تبوك كذب فلم يكن بها حصن ولا مقاتلة فإن مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كانت بضعاً وعشرين لم يقاتل فيها إلا في تسع: بدر، وأُحد، والخندق، وبني المصطلق، والغابة، وفتح خيبر، وفتح مكة، وفتح حنين، والطائف. وقال: من اعتقد أن الحج يسقط ما عليه من الصلاة والزكاة فإنه يستتاب بعد تعريفه إن كان جاهلاً، فإن تاب وإلا قتل، ولا يسقط حق الآدمي من مال أو عرض أو دم بالحج إجماعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 -- باب الإحصار والفوات وما يتعلق بهما: الفوات مصدر فاته يفوته فواتاً وفوتاً وهو سبق لا يدرك فهو أخص من السبق، والإحصار مصدر أحصره إذا حبسه فهو الحبس، وأصل الحصر المنع، من طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة في وقته المعتبر له لعذر من حصر أو غيره أو لغير عذر فاته الحج ذلك العام لا نعلم فيه خلافاً لانقضاء زمن الوقوف لقول جابر: (لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع، قال أبو الزبير: فقلت له أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال: نعم) . رواه الأثرم بإسناده ولحديث (الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه) فمفهومه فوت الحج بخروج ليلة جمع وسقط عنه توابع الوقوف كمبيت بمزدلفة ومنى ورمي جمار وانقلب إحرامه بالحج عمرة نصاً، وسواء كان قارناً أو غير قارن لأن عمرة القارن لا يلزمه أفعالها، وإنما يمنع من عمرة على عمرة إذا لزمه المضي في كل منهما. وقال ابن حامد: لا ينقلب إحرامه بالحج عمرة بل يتحلل بطواف وسعي وحلق، وهو مذهب مالك والشافعي لأن إحرامه انعقد بأحد النسكين فلم ينقلب إلى الآخر كما لو أحرم بالعمرة، قال في المغني ويحتمل أن من قال يجعل إحرامه عمرة أراد به يفعل ما فعل المعتمر وهو الطواف والسعي: أي والحلق أو التقصير ولا يكون بين القولين خلاف انتهى. وعلى المذهب إذا انقلب إحرامه بالحج عمرة فإنه يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، قال الشيخ مرعي في الغاية ويتحلل بها ولو لم ينوه انتهى، قال في المغني: من فاته الحج يتحلل بطواف وسعي وحلاق هذا الصحيح من المذهب، وروى ذلك عن عمر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 الخطاب وابنه وزيد بن ثابت وابن عباس وابن الزبير ومروان بن الحكم، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وروى الشافعي في مسنده أن عمر قال لأبي أيوب حين فاته الحج: اصنع ما يصنع المعتمر ثم قد حللت فإن أدركت الحج قابلا فحج وأهد ما استيسر من الهدي، وروى الأثرم بإسناده عن سليمان بن يسار: أن هبار بن الأسود حج من الشام فقدم يوم النحر، فقال له عمر: ما حبسك؟ قال: حسبت أن اليوم يوم عرفة، قال: فانطلق إلى البيت فطف به سبعاً وإن كان معك هدية فانحرها، ثم إذا كان عام قابل فاحجج فإن وجدت سعة فأهد فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إن شاء الله تعالى. وروى النجاد بإسناده عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فاته الحج فعليه دم وليجعلها عمرة) ، وليحج من قابل ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات فمع الفوات أولى انتهى ملخصاً. قلت: الظاهر أن محل جواز فسخ الحج إلى العمرة قبل الفوات هو فيما إذا تمكن من الحج تلك السنة التي فسخ فيها والله أعلم. ومحل انقلاب إحرامه بالحج عمرة إن لم يختر البقاء على إحرامه ليحج من قابل من غير إحرام متجدد فإن اختار ذلك فله استدامة الإحرام لأنه رضي بالمشقة على نفسه، ولا تجرئ هذه العمرة التي انقلب إحرامه بالحج إليها عن عمرة الإسلام نصاً لحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذه لم ينوها ولوجوبها كعمرة منذورة، وعلى من فاته الحج وانقلب إحرامه عمرة القضاء ولو كان الحج الفائت نفلا لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فاته عرفات فقد فاته الحج وليتحلل بعمرة وعليه الحج من قابل) وعمومه شامل للفرض والنفل وكذا ما سبق عن عمر، ولأن الحج يلزمه بالشروع فيه فيصير كالمنذور بخلاف سائر التطوعات، وروى ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 عن عمر وابنه وزيد وابن عباس وابن الزبير ومروان، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وهو الصحيح من المذهب. وعن أحمد لا قضاء عليه بل إن كانت فرضاً فعلها بالوجوب السابق وإن كانت نفلاً سقطت، وروى هذا عن عطاء وهو إحدى الروايتين عن مالك، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحج أكثر من مرة قال: بل مرة واحدة ولو أوجبنا القضاء كان أكثر من مرة، ولأنه معذور في ترك إتمام حجه فلم يلزمه القضاء كالمحصر ولأنها عبادة تطوع فلم يجب قضاؤها كسائر التطوعات، ووجه الرواية الأولى التي هي المذهب ما ذكرنا من الحديث وإجماع الصحابة: وأما قوله صلى الله عليه وسلم (الحج مرة) فالمراد به الواجب بأصل الشرع حجة واحدة وهذه إنما وجبت بإيجابه لها بالشروع فيها كالمنذورة. وأما المحصر فإنه غير منسوب إلى تفريط فلذا لا يجب عليه قضاء النفل، بخلاف من فاته الحج انتهى. قال الشيخ زكريا الأنصاري الشافعي في المنهج وشرحه: ولا إعادة على محصر تحلل لعدم وروده ولأن الفوات نشأ عن الإحصار الذي لا صنع له فيه، فإن كان نسكه فرضاً ففي ذمته إن استقر عليه، وإن لم يستقر اعتبرت استطاعته بعد زوال الإحصار إن وجدت وجب وإلا فلا، وعلى من فاته وقوف بعرفة تحلل ويحصل بعمل عمرة بأن يطوف ويسعى ويحلق وعليه دم وإعادة فوراً للحج الذي فاته بفوات الوقوف تطوعاً كان أو فرضاً كما في الإفساد انتهى. قال البجيرمي في حاشيته على المنهج وشرحه: فإن قلت هلا وجب القضاء على المحصر قياساً على الفوات؟ قلت: لا لأن المحصر أذن له الشارع في الخروج من العبادة فكان حجه غير واجب الإتمام فلا يجب تداركه بخلاف الفوات انتهى كلام البجيرمي الشافعي، وإذا قضى حجته الفائتة أجزأه القضاء عن الحجة الواجبة بغير خلاف لأن الحجة المقضية لو تمت لأجزأت عن الواجبة عليه، فكذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 قضاؤها يجزئه عنها لأن القضاء يقوم مقام الأداء، ومحل وجوب القضاء عليه إن لم يشترط في ابتداء إحرامه بأن لم يقل فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن اشتراط في ابتداء إحرامه لم يلزمه قضاء نفل ولا هدى لحديث ضباعة، وتقدم في باب الإحرام مفصلا، ويلزم من فاته الحج أيضاً إن لم يكن اشتراط أن محلي حيث حبستني هدى عن الفوات شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة من حين الفوات ساق الهدي أولا، نص عليه يؤخره إلى القضاء يذبحه فيه لأنه حل من إحرامه قبل تمامه فلزمه هدي كالمحصر، قال في المغني إذا ثبت هذا فإنه يخرج الهدي في سنة القضاء إن قلنا بوجوب القضاء، وإلا أخرجه في عامه، وإذا كان معهد هدي قد ساقه نحره، ولا يجزئه إن قلنا بوجوب القضاء بل عليه في السنة الثانية هدي أيضاً نص عليه أحمد، وذلك لحديث عمر الذي ذكرناه، والهدي ما استيسر مثل هدي المتعة لحديث عمر أيضاً: والمتمتع والمفرد والقارن والمكي وغيره سواء فيما ذكرنا، لأن الفوات يشمل الجميع انتهى، ومثله في الشرح ومراده بحديث عمر هو ما ذكره آنفا من قصة أبي أيوب وهبار، قال في المستوعب: وإن كان قد ساق هدياً نحره ولم يجزه عن دم الفوات، وقاله ابن أبي موسى وصاحب التلخيص وغيرهم انتهى. قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه: وعلى من لم يتحلل قبل الفوات بنحو عمرة ولم يشترط أول إحرامه القضاء حتى المتنفل وعليه هدي شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة من الفوات ويؤخره للقضاء، فإن عدمه زمن وجوبه صام كمتمتع ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع انتهى. قلت سبقه إلى ذلك الشيخ مرعي في الغاية قال شارحها الشيخ مصطفى ولا يلزمه قضاء نفل، أي إذا تحلل قبل الفوات بنحو عمرة، قال وهذا مما تفرد به المصنف وكأنه قاسه على المحصر ولم يسبق إليه انتهى. قال في الإقناع: فإن كان الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 فاته الحج قارنا قضى قارنا، قال الشيخ منصور في شرحه له: أي لزمه في العام الثاني مثل ما أهل به أولا نص عليه، لأن القضاء يجب على حسب الأداء في صورته ومعناه، فيجب أن يكون هنا كذلك. قال في الشرح: ويلزمه دمان لقرانه وفواته انتهى كلام منصور، وقال في الإقناع وشرحه في باب الإحرام: وإذا قضى القارن قارناً لزمه دمان دم لقرانه الأول ودم لقرانه الثاني، وإن قضى القارن مفرداً لم يلزمه شيء لقرانه الأول لأنه أتى بنسك أفضل من نسكه وجزم غير واحد بأنه يلزمه دم لقرانه الأول لأن القضاء كالأداء، قال في الفروع: وهو ممنوع فإذا فرغ من قضى مفرداً من الحج أحرم بالعمرة من الميقات الأبعد: أي أبعد الميقاتين اللذين أحرم في أحدهما بالقران وفي الآخر بالحج كمن فسد حجه ثم قضاه يحرم من أبعد الميقاتين، وإلا، أي وإن لم يحرم بالعمرة من أبعد الميقاتين، لزمه دم لتركه واجبا، وإن قضى القارن متمتعا فإذا تحلل من العمرة أحرم بالحج من أبعد الموضعين: الميقات الأصلي والموضع الذي أحرم منه الإحرام الأول الذي أفسده. قلت: والظاهر أنه لا دم عليه إذاً لفوات الشرط الرابع انتهى كلام الإقناع وشرحه. قوله وجزم غير واحد بأنه يلزمه دم لقرانه الأول لأن القضاء كالأداء، أقول: في هذا التعليل نظر لأن القضاء هو الإفراد والأداء في القران، ولو قال لأن الدم لا يسقط دم التمتع والقران بفساد نسكهما ولا يسقط دم التمتع والقران أيضاً بفوات الحج فليراجع، وقوله لفوت الشرط الرابع، مراده بذلك هو ما ذكروه في باب الإحرام حيث قالوا: ويجب على المتمتع دم نسك لا جبران بسبعة شروط. الرابع منها أن لا يسافر بين الحج والعمرة مسافة قصر فأكثر فإن سافر مسافة قصر فأكثر فأحرم بالحج فلا دم عليه، وذكرنا هناك الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 مستوفى فليراجع، قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه: ويجب قضاء على صفة أداء فمن فاته الحج قارناً قضى قارناً وهو خلاف قولهم في دم التمتع، وإذا قضى مفرداً لم يلزمه شيء، فإذا فاته النسك المفضول قضى على صفته وجاز قضاؤه بنسك أفضل منه لا عكسه فمن فاته الحج قارنا قضى قارناً وجاز مفرداً ومتمتعاً فدلَّ هذا على صحة القضاء بالنسك الفاضل عن النسك المفضول بخلاف العكس، فلو خالف وأتى بالنسك المفضول قضاء عن الفاضل فالذي يظهر صحة النسك ذلك لكن لم يزل القضاء في ذمته حتى يقضيه بمثل نسك الفائت أو بنسك أفضل منه كما ذكرنا والله أعلم انتهى. قال الشيخ مرعي في الغاية: ويجب قضاء على صفة أداء فمن فاته الحج قارنا قضى قارنا وهو خلاف قولهم في دم التمتع وإذا قضى مفرداً لم يلزمه شيء انتهى كلام مرعي. قلت: قد بحث الشيخ منصور بأن معنى قول الأصحاب هنا فإن كان الذي فاته الحج قارناً قضى قارناً أنه يلزمه قضاء النسكين: أي الحج والعمرة، لا أن يكون قارناً لأنهم صرحوا في باب الإحرام، بأن القارن له أن يقضي قارناً أو مفرداً أو متمتعاً والله أعلم، وتقدم ذلك فإن عدم الهدي زمن الوجوب وهو طلوع فجر يوم النحر من عام الفوات صام عشرة أيام ثلاثة في حجة القضاء وسبعة إذا رجع؛ أي فرغ من حجة القضاء كمتمتع، لأثر عمر المتقدم في قضية هبار بن الأسود، والمكي وغيره في ذلك سواء، قال في الإنصاف متى يكون قد وجب فيه وجهان: أحدهما وجب في سنته ولكن يؤخر إخراجه إلى قابل، والثاني لم يجب إلا في سنة القضاء إلى أن قال: قلت: الصواب وجوبه مع القضاء انتهى، قال في الغاية: وظاهر كلامهم أن زمن الوجوب وقت الفوات والأثر بخلافه انتهى، قال في المنتهى: فإن عدمه: أي الهدي زمن الوجوب صام كمتمتع، قال الخلوتي قوله: صام كمتمتع: أي في العام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 الذي أراد القضاء فيه وأجزأه الصوم ولو أيسر عند إرادة الصوم لما تقدم من أن الاعتبار فيه وفي الكفارات بوقت الوجوب على الصحيح من المذهب انتهى. قلت: نص الأثر يخالف هذا لأنه جاء فيه (ثم إذا كان عام قابل فاحجج فإن وجدت سعة فأهد فإن لم تجد فص ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت) ، فاعتبر الوجوب مع القضاء وأنه إن وجد سعة زمن القضاء أهدى وإلا صام، وقد صوَّبه في الإنصاف، ويؤيد ذلك قوله في المغني والشرح: ويعتبر اليسار والإعسار في زمن الوجوب، وهو في سنة القضاء إن قلنا بوجوبه، أو في سنة الفوات إن قلنا لا يجب القضاء انتهى، والعبد لا يهدي ولو أذن له سيده لأنه لا مال له لأنه لا يملك ولو مُلِّك غير المكاتب، ويجب عليه الصوم المذكور بدل الهدي، وعلى قياس هذا كل دم لزمه في الإحرام لفعل محظور أو غيره لا يجزئه عنه إلا الصيام لما تقدم، وإذا صام العبد بدل الهدي فإنه يصوم عشرة أيام كالحر ثلاثة في حجة القضاء وسبعة إذا رجع خلافاً للخرقي وتبعه في الإقناع، حيث قال يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوماً حيث يصوم الحر، قال في الإقناع: فإن عدم (أي من فاته الحج) الهدي زمن الوجوب صام عشرة أيام ثلاثة في الحج: أي حج القضاء، وسبعة إذا رجع ثم حل؛ قال منصور قوله: ثم حل يقتضي أنه لا يحل حتى يصوم، وليس بظاهر لأنه ليس كالمحصر بل يحصل التحلل بنفس إتمام النسك على ما تقدم في صفة الحج إذا لم يفرقوا بين القضاء وغيره، ولم يذكر ثم حل في المنتهى وغيره فيمن فاته الحج بل في المحصر انتهى. فائدة: وإن أخطأ الناس فوقفوا في غير يوم عرفة بأن وقفوا الثامن أو العاشر ظناً منهم أنه يوم عرفة أجزأهم نصاً لما روى الدارقطني بإسناده عن عبد العزيز بن عبد الله بن جابر بن أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 (يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه) وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون) رواه الدارقطني وغيره، قال في الفروع: ويتوجه وقوف مرتين إن وقف بعضهم لا سيما من رآه، وصرح جماعة إن أخطأوا لغلط في العدد أو في الرؤية أو في الاجتهاد مع الغيم أجزأ، وهو ظاهر كلام الإمام وغيره، انتهى. قال شيخ الإسلام: الوقوف مرتين بدعة لم يفعله السلف وقال فلو رآه طائفة قليلة لم ينفردوا بالوقوف، بل الوقوف مع الجمهور، انتهى. قلت: ما قاله شيخ الإسلام هو الحق الذي لا ريب فيه خلافاً لما وجهه ابن مفلح في فروعه من الوقوف مرتين فإنه توجيه ليس بوجيه وليته سار على منهاج شيخه كما سار عليه شمس الدين بن القيم وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي صاحب الصارم المنكي والله الموفق يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، قال في الإقناع وشرحه: وإن أخطأ بعضهم فاته الحج، هذه عبارة غالب الأصحاب، وفي الانتصار وإن أخطأ عدد يسير، وفي الكافي والمجرد وإن أخطأ نفر منهم. قال ابن قتيبة: يقال إن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولذلك قال في المنتهى وإن وقف الكل أو إلا يسيراً الثامن أو العاشر خطأ أجزأهم انتهى كلام الإقناع وشرحه، قال في شرح المنتهى وظاهره سواء أخطأوا لغلط في العدد أو الرؤية أو الاجتهاد في الغيم، قال في الفروع وهو ظاهر كلام الإمام وغيره وإن أخطأ دون الأكثر فاتهم الحج لأنهم لم يقفوا في وقته، وأما الأكثر فقد ألحق بالكل في مواضع فكذا هنا على ظاهر الانتصار وغيره، وفي المقنع وإن أخطأ بعضهم فقد فاته الحج، قال في الإنصاف: هذا المذهب وعليه الجمهور ولم يخالفه في التنقيح وجزم به في الإقناع انتهى نقل عبد الله، قال عليه الصلاة والسلام: (يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 فإذا شك الناس في عرفة فقال قوم يوم النحر فوقف الإمام بالناس يوم عرفة ثم علم أنه يوم النحر أجزأهم، قال في المقنع: وإن أخطأ الناس فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم وإن أخطأ بعضهم فاته الحج، قال في الشرح الكبير فإن اختلفوا فأصاب بعض وأخطأ بعض لم يُجزِ من أخطأ لأنهم غير معذورين في ذلك، وقد ذكرنا حديث هبار حين قال لعمر: ظننت أن اليوم يوم عرفة فلم يعذر بذلك انتهى. -- فصل: ومن أحرم فحصره بالبلد عدو في حج أو عمرة من الوصول إلى البيت أو حصره بالطريق قبل الوقوف بعرفة أو بعده أو منه من دخول الحرم ظلماً أو جن أو أغمى عليه ولم يكن له طريق آمن إلى الحج ولو بعدت وخشي فوات الحج ذبح هديا شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة لقوله تعالى: (فإن أُحصرتم فما استيسر من الهدي) ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه حين أحصروا في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا. قال الشافعي: لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية، ولأنه أبيح له التحلل قبل إتمام نسكه فوجب الهدي في صورة ما لو حصر بعد الوقوف كما لو حصر قبله، فإن قيل: كيف يتصور من المجنون والمغمى عليه أن يتحلل إذا خشي فوات الوقوف بذبح هدي بنية التحلل أو بصوم عشرة أيام بالنية أيضاً؟ قلنا: لعل ذلك فيما إذا منعه الجنون أو الإغماء عن الذهاب إلى الوقوف لأنه لا يصح منهما ثم عقل أو أفاق قبل الفوات ولكن في زمن لا يمكنه الوصول فيه إلى عرفة إلا بعد فوات وقت الوقوف فتحلل حينئذ والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 تنبيه: فوت الحج ليس شرطاً لتحلل المحصر كما تدل عليه الآية والخبر وكلام الأصحاب، بل إذا خشي فوات الحج فله التحلل بذبح الهدي في موضع حصره، حلا كان أو حرماً لذبحه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية، وهي من الحل والله أعلم، وينوي المحصر بذبح الهدي التحلل وجوباً لحديث (إنما الأعمال بالنيات) قال في الإقناع: وحلق أو قصر، قال في شرح الإقناع وجوباً، قدمه في الرعاية واختاره القاضي في التعليق وغيره وقدم في المحرر وشرح ابن رزين عدم الوجوب وهو ظاهر الخرقي والمنتهى لعدم ذكره في الآية انتهى، وقال في الإقناع وشرحه أيضاً: ثم حل من إحرامه انتهى يعني بعد الذبح والحلق أو التقصير. وقال في الغاية: ومن منع البيت ظلما ولو بعد الوقوف ولم يَرم ويحلق، أو في عمرة ذبح هدياً حيث أحصر بنية التحلل وجوباً فإن لم يجد صام عشرة أيام بالنية وحل، ويتجه صحة تتميم ما بقي من أركان حجه بإحرام ثان إذا زال حصره ولا إطعام في ذلك ولا مدخل لحلق أو تقصير خلافاً له (يعني للإقناع) وعند بعضهم إن عجز عن صوم لعذر حل ثم صام بعده انتهى كلام صاحب الغاية. قال في المنتهى: ومن منع عن البيت ولو بعد الوقوف أو في عمرة ذبح هدياً بنية التحلل وجوباً فإن لم يجد هدياً صام عشرة أيام بالنية وحل انتهى، قال منصور في شرح المنتهى: وظاهره أن الحلق أو التقصير ليس واجباً هنا وأن التحلل يحصل بدونه، وهو أحد القولين قدمه في المحرر وابن رزين في شرحه وهو ظاهر الخرقي لأنه من توابع الوقوف كالرمي، وقدم الوجوب في الرعاية الكبرى واختاره القاضي في التعليق وغيره وجزم به في الإقناع انتهى. فائدة: قول الأصحاب في حق المحصر: ذبح هدياً بنية التحلل أي ولو كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 قد عينه هدياً هذا ظاهر كلام المحب بن نصر الله البغدادي في الحواشي وصرح به في المغني فقال: وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه وإن لم يكن معه لزمه شراؤه إن أمكنه، ويجزئه أدنى الهدي وهو شاة أو سبع بدنة لقوله تعالى: (فما استيسر من الهدي) انتهى. قلت: ويجزئه أيضاً سُبع بقرة كما صرحوا به والله أعلم. تنبيه: ظاهر الأحاديث الصحيحة أن الحلق أو التقصير لا بد منه في حق المحصر لما روى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في حديث عمرة الحديبية والصلح (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا) رواه أحمد والبخاري وأبو داود، وقال البخاري في صحيحه: باب النحر قبل الحلق في الحصر، حدثنا محمود، حدثنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن المسور رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك) ، وعن المسور ومروان أيضاً قالا: (قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره بذي الحليفة وأحرم منها بالعمرة وحلق بالحديبية في عمرته وأمر أصحابه بذلك ونحر بالحديبية قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك) . رواه أحمد، وعن ابن عمر قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدُنه وحلق رأسه. رواه البخاري، قال البخاري وقال مالك وغيره: ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان ولا قضاء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف وقبل أن يصل الهدي إلى البيت، ثم لم يُذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقضوا شيئاً ولا يعودوا له، والحديبية خارج من الحرم، وكل هذا كلام البخاري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 في صحيحه وفي رواية للبخاري بسنده إلى عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه وجامع نساءه ونحر هديه حتى اعتمر عاملاً قابلاً، والعطف بالواو في هذا الحديث إنما هو لمطلق الجمع، ولا يدل على الترتيب لأن المحصر يقدم النحر على الحلق لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (فانحروا ثم احلقوا) والله أعلم، وترجم المجد في المنتقى في هذا الباب بقوله: باب تحلل المحصر عن العمرة بالنحر ثم الحلق حيث أحصر من حل أو حرم وأنه لا قضاء عليه انتهى، قال في تصحيح الفروع: اختلف الأصحاب في الحلق والتقصير للمحصر فقيل فيه روايتان مبنيتان على أنه هل هو نسك أو إطلاق من محظور؟ وهذه الطريقة جزم بها في الكافي وقدم في الرعاية الكبرى الوجوب، واختاره القاضي في التعليق وغيره إلى أن قال فعلى هذه الطريقة يجب عليه الحلق أو التقصير على الصحيح لأن الصحيح من المذهب أنه نسك فكذا يكون هنا وتمامه فيه. قلت: صريح السنة يدل على وجوب الحلق أو التقصير على المحصر والله أعلم، فإن أمكن المحصر الوصول إلى الحرم من طريق أخرى غير التي أحصر فيها لم يبح له التحلل لقدرته على الوصول إلى الحرم فليس بمحصر ولزمه ليتم نسكه لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بعدت الطريق أو قربت، خشي فوات الحج أو لم يخش، قال في المغني: فإن كان محرماً بعمرة لم يفت وإن كان بحج ففاته تحلل بعمرة وكذا لو لم يتحلل المحصر حتى خلى عنه لزمه السعي وإن كان بعد فوات الحج يتحلل بعمرة، ثم هل يلزمه القضاء إن فاته الحج؟ فيه روايتان: إحداهما يلزمه كمن فاته بخطأ الطريق، والثانية لا يجب لأن سبب الفوات الحصر أشبه من لم يجد طريقاً أخرى بخلاف المخطئ فأما من لم يجد طريقاً أخرى فتحلل فلا قضاء عليه إلا أن يكون واجباً يفعله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 بالوجوب السابق في الصحيح من المذهب وبه قال مالك والشافعي انتهى، فإن لم يجد المحصر هدياً صام عشرة أيام بنية التحلل كمبدل الصوم وهو ذبح الهدي فإنه يذبحه بنية التحلل كما تقدم ثم حل بعد الصيام، بخلاف ما تقدم فيمن فاته الحج وقضى وعدم الهدي فإنه يحل بإتمام النسك ولا يتوقف صحة حله على الصيام، بل إذا لم يصم قبل يوم النحر الذي حل فيه وجب عليه صيام ثلاثة أيام التشريق الثلاثة عن ثلاثة الأيام في الحج، وسبعة يصومها إذا رجع خلافا لما في الإقناع حيث يؤخذ من عبارته أنه لا يحل حتى يصوم عشرة الأيام، وهذا إنما يكون في حق المحصر لا في من قضى حجه الفائت والله أعلم، ولا إطعام في الإحصار لعدم وروده، بل يجب مع الهدي أو بدله على المحصر حلق أو تقصير على الصحيح، ولا فرق فيما تقدم بين الحصر العام في كل الحجيج وبين الحصر الخاص في شخص واحد، مثل أن يحبس بغير حق أو يأخذه اللصوص لعموم النص ووجود المعنى في الكل، ومن حبس بحق أو دين حال وهو قادر على أدائه فليس له التحلل لأنه ليس بمعذور فإن كان معسراً به عاجزاً عن أدائه فليس له التحلل لأنه ليس بمعذور فإن كان معسراً به عاجزاً عن أدائه فحبسه بغير حق فله التحلل، قال في المغني: وإن كان عليه دين مؤجل يحل قبل قدوم الحاج فمنعه صاحبه من الحج فله التحلل أيضاً لأنه معذور انتهى، وإذا كان العدو الذي حصر الحاج مسلمين جاز قتلاهم للحاجة إليه، وإن أمكن الانصراف من غير قتال فهو أولى لصون دماء المسلمين، وإن كانوا مشركين لم يجب قتالهم إلا إذا بدأوا بالقتال أو وقع النفير ممن له الاستنفار فيتعين إذاً لما ذكروه في الجهاد فإن غلب على ظن المسلمين الظفر بالمشركين استحب قتالهم حيث لم يجب لإعلاء كلمة الدين، وللحجيج المحرمين لبس ما تجب فيه الفدية إن احتاجوا إليه في القتال ويفدون للبسه كما تقدم في تغطية الرأس، وإن لم يغلب على ظن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 المسلمين الظفر بالمشركين فترك القتال أولى خوفاً على المسلمين، فإن أذن العدو للحاج في العبور فلم يثقوا بهم فلهم الانصراف والتحلل، وإن وثقوا بهم لزمهم المضي على الإحرام لإتمام النسك إذ لا عذر لهم إذاً، وإن طلب العدو خفارة على تخلية الطريق للحجيج وكان العدو ممن لا يوثق بأمانة لعادته بالغدر لم يلزم بذلك المال المطلوب خفارة لأنه إضاعة للمال من غير وصول للمقصود، وإن وثق بأمانة والخفارة كثيرة فكذلك لا يجب بذلها للضرر، قال في الإقناع وشرحه: بل يكره بذلها: أي الخفارة إن كان العدو كافراً لما فيه من الذل والهوان وتقوية الكفار، وإن كانت الخفارة يسيرة فقياس المذهب وجوب بذله: أي مال الخفارة قال الموفق والشارح وصححه في تصحيح الفروع لأنه ضرر يسير كماء الوضوء، وقال جماعة من الأصحاب: لا يجب بذل خفارة بحال كما في ابتداء الحج لا يلزمه إذا لم يجد طريقاً آمناً من غير خفارة انتهى، وفي المنتهى وشرحه ويباح تحلل من إحرام لحاجة إلى قتال إلى قتال أو على بذل مال كثير مطلقاً أو يسير لكافر، لا لحاجة بذلك مال يسير لمسلم لأن ضرره يسير انتهى، فعلى ما في المنتهى إذا طلب الكافر من الحجاج مالاً ولو يسيراً لم يجب عليهم بذله ويباح لهم التحلل، وعلى ما في الإقناع يجب على قياس المذهب بذل المال اليسير لكافر كما يجب للمسلم ولا يتحلل من الإحرام، قال شيخ الإسلام: الخفارة تجوز عند الحاجة إليها في الدفع عن المخفر، ولا يجوز مع عدم الحاجة إليها كما يأخذه السلطان من الرعايا انتهى. وقال الجمهور: لا يلزمه الحج مع الخفارة وإن كانت يسيرة ذكره في المبدع. قلت: الذي تطمئن له النفس وعليه عمل المسلمين قديماً وحديثاً هو ما قاله شيخ الإسلام والله أعلم، وبهذه المناسبة نذكر ما حصل في عامنا هذا سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف، وهو أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل وفقه الله لفعل الخيرات، قد ألغى جميع المظالم والرسوم التي تؤخذ على الحجاج فاستبشر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بهذا وأصبح المسلمون يدعون له فصار ذلك حسنة سبق بها من قبله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. فائدة: لو نوى المحصر التحلل قبل ذبح هدي أو قبل صيام عند عدم الهدي ورفض إحرامه لم يحل، قال في الإقناع وشرحه: ولو نوى المحصر التحلل قبل ذبح هدي إن وجده أو قبل صوم إن عدم الهدي ورفض إحرامه لم يحل ولزمه دم لتحلله ولكل محظور فعله بعده: أي بعد التحلل هكذا في المقنع، قال في الإنصاف: وهذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب وقدمه في الفروع، وقيل لا يلزمه دم لذلك جزم به في المغني والشرح انتهى، وسبق في كلام المصنف (يعني الحجاوي) تبعاً لما صححه في الإنصاف أيضاً إنه لا شيء عليه لرفض إحرامه لأنه مجرد نية، فانظر هل هما مسألتان فيحمل التحلل هنا على لبس المخيط مثلا، أو مسألة واحدة تناقض التصحيح فيها انتهى كلام الإقناع وشرحه وقوله في الإنصاف: وقيل لا يلزمه دم لذلك: أي لتحلله ورفض إحرامه، أما لو فعل محظوراً بعد الرفض فإنه يلزمه دم لفعل ذلك المحظور على كلا القولين والله أعلم. قال في المنتهى وشرحه: ولو نوى المحصر التحلل قبل أحدهما؛ أي ذبح الهدي إن وجده أو الصوم إن عدمه لم يحل لفقد شرطه وهو الذبح أو الصوم بالنية واعتبرت النية في المحصر دون غيره لأن من أتى فأفعال النسك أتى بما عليه فحل بإكماله فلم يحتج إلى نية بخلاف المحصر فإنه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها فافتقر إلى النية، ولزمه: أي من تحلل قبل الذبح أو الصوم دم لتحلله صححه في شرحه، وقال في الإنصاف هنا: إنه المذهب وجزم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 في شرحه فيما سبق أنه لا شيء لرفض الإحرام، لأنه مجرد نية فلا يؤثر، وجزم به في المغني والشرح ولزمه دم لكل محظور بعده، أي التحلل انتهى كلام المنتهى وشرحه، وقال في الإقناع وشرحه في باب الفدية: ومن رفض إحرامه لم يفسد إحرامه بذلك لأنه عبادة لا يخرج منها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 بالفساد فلم يخرج منها برفضها بخلاف سائر العبادات ولم يلزمه دم لرفضه لأنه مجرد نية، قال في الإنصاف: وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب ومشى عليه في المنتهى وشرحه، وقيل يلزمه وذكره في الترغيب وغيره وقدمه في الفروع، وحكم إحرامه باق لأن التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء: إما بكمال أفعاله أو التحلل منه عند الحصر أو بالعذر إذا شرط في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني، فإن فعل محظوراً بعد رفضه إحرامه فعليه فداؤه لبقاء إحرامه انتهى كلام الإقناع وشرحه، قال في المنتهى وشرحه في باب الفدية: ويفدي من رفض إحرامه ثم فعل محظوراً للمحظور لأن التحلل من الإحرام إما بكمال النسك أو عند الحصر أو بالعذر إذا شرط، وما عداها ليس له التحلل به ولا يفسد الإحرام برفضه كما لا يخرج منه بفساده فإحرامه باق وتلزمه أحكامه ولا شيء عليه لرفض الإحرام لأنه مجرد نية لم يؤثر شيئاً، وقدم في الفروع يلزمه له دم انتهى كلام المنتهى وشرحه، قال الخرقي: فإن قال أنا أرفض إحرامي وأحل فلبس الثياب وذبح الصيد وعمل ما يعمله الحلال كان عليه في كل فعل فعله دم، وإن كان وطئ فعليه للوطء بدنة ما يجب عليه من الدماء انتهى. قال في المغني: وجملة ذلك أن التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء: إكمال أفعاله أو التحلل عند الحصر أو بالعذر إذا شرط، وما عدا هذا فليس له أن يتحلل به فإن نوى التحلل لم يحل ولا يفسد الإحرام برفضه لأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد فلا يخرج منها برفضها بخلاف سائر العبادات، ويكون الإحرام باقياً في حقه تلزمه أحكامه ويلزمه جزاء كل جناية جناها عليه، وإن وطئ أفسد حجه وعليه لذلك بدنة مع ما وجب عليه من الدماء، سواء كان الوطء قبل الجنايات أو بعدها، فإن الجناية على الإحرام الفاسد توجب الجزاء كالجنابة على الصحيح وليس عليه لرفضه الإحرام شيء لأنه مجرد نية لم تؤثر شيئاً انتهى ومثله في الشرح. تنبيه: قد تناقض كلام صاحب المنتهى والإقناع في هذه المسألة حيث أوجبا في باب المحصر على من رفض إحرامه دما للرفض، ونفيا في باب الفدية عنه وجوب الدم مع اتفاقهما في البابين على وجوب الدم لكل محظور فعله بعد الرفض وعلى عدم فساد الإحرام بالرفض، فلذا قال الشيخ عثمان بن قائد: لعل ما تقدم (يعني في باب الفدية) في غير المحصر وهذا في المحصر فلا تناقض فليحرر انتهى كلامه. قال في شرح الغاية: وما جزم به في شرح المنتهى فيما سبق أنه لا شيء عليه لرفضه الإحرام فهو في غير المحصر لإلغاء رفضه ولزوم أفعال الحج وهذا في المحصر الممنوع من تتميم أفعال الحج، فإذا عدل عن الواجب عليه من هدي أو صوم لزمه دم انتهى، فكلام شارح الغاية يوافق ما ذكره الشيخ عثمان قال في الإقناع وشرحه: ولا قضاء على محصر إن كان حجه نفلا لظاهر الآية، وذكر في الإنصاف أنه المذهب، وقيده في المستوعب والمنتهى بما إذا تحلل قبل فوات الحج، ومفهومهما أنه لو تحلل بعد فوات الحج يلزمه القضاء وهو إحدى روايتين أطلقهما في الشرح وغيره وهو ظاهر كلامه أول الباب انتهى. قال في المنتهى: ولا قضاء على من (أي محصر) تحلل قبل فوات الحج، ومثله من جُن أو أغمي عليه قال منصور في شرحه: وعلم منه أنه لو لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 يتحلل حتى فاته الحج لزمه القضاء لما تقدم أول الباب انتهى، قال منصور في حاشيته على المنتهى: قوله قبل فوات الحج، يعني إن كان نفلا لكن يلزمه فعل الحج في ذلك العام إن أمكنه، وإن لم يمكنه فلا قضاء عليه نصاً نقله الجماعة، ومفهوم تقييده بتحلل قبل فوات الحج أنه لو تحلل بعده عليه القضاء ولم أجد هذا القيد في الفروع ولا في الإنصاف والتنقيح ولا غيرها بل أطلقوا أنه لا قضاء على المحصر. فإن قيل يؤخذ هذا القيد من كلامهم أولا حيث قالوا من طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة لعذر حصر أو غيره فاته الحج، وقالوا بعده: وعليه القضاء قلت: لا يلزم ذلك إذ التعميم قد يكون بالنسبة إلى فوات الحج فقط كما يرشد إليه السياق انتهى، قال الشيخ محمد الخلوتي: ثم ضرب عليه شيخنا وأثبت ما نصه: وصحح ابن رزين في شرحه أنه لا قضاء فيما إذا أحصر بعده أي بعد فوات الحج ذكره في الإنصاف انتهى كلام الخلوتي وفي حاشية الإقناع، قال في المستوعب: ومن تحلل بالإحصار قبل فوات الحج فلا قضاء عليه بالتحلل انتهى وتبعه في المنتهى، ومفهومهما أنه لو تحلل بعد فوات الحج لزمه القضاء وهو داخل في عموم ما سبق فيمن طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة، وأطلق في الكافي الروايتين فيمن أمكنه سلوك طريق لا يصل منه إلا بعد الفوات مضى وتحلل بعمرة. وفي القضاء روايتان. إحداهما يجب لأنه فاته الحج أشبه من أخطأ الطريق. والثانية لا قضاء عليه لأنه تحلل بسبب الحصر أشبه من تحلل قبل الفوات انتهى، وأطلق في الإنصاف أنه لا قضاء على محصر وتبعه في الإقناع، وقال الشيخ عثمان بن قائد: لو تحلل المحصر بعد فوات الحج عليه القضاء وهو الموافق لما مر أول الباب خلافا لما صححه ابن رزين في شرحه انتهى. قال في المغني والشرح: فإن أمكن المحصر الوصول من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 طريق أخرى لم يبح له التحلل ولزمه سلوكها بعد أو قرب خشي الفوات أو لم يخشه، فإن كان محرماً بعمرة لم تفت، وإن كان بحج ففاته تحلل بعمرة، وكذا لو لم يتحلل المحصر حتى زال الحصر لزمه السعي وإن كان بعد فوات الحج ليتحلل بعمرة ثم هل يلزمه القضاء إن فاته الحج؟ فيه روايتان: إحداهما يلزمه كمن فاته بخطأ الطريق، والثانية لا يجب لأن سبب الفوات الحصر أشبه من لم يجد طريقاً أخرى، وبهذا فارق المخطئ انتهى، قال في الغاية: ولا قضاء على محصر تحلل قبل فوات حج انتهى. تنبيه: مفهوم المنتهى والغاية يخالف منطقو الإقناع في هذه المسألة لأن صاحب الإقناع أطلق أنه لا قضاء على محصر، وصاحب المنتهى والغاية قيدا عدم القضاء عليه بما إذا تحلل قبل فوات الحج فمفهومهما أنه لو تحلل بعد فوات الحج عليه القضاء وهو الموافق لما ذكروه أول الباب، وقد تابع صاحب المنتهى والغاية في هذه المسألة السامري صاحب المستوعب، وتبعهم الشيخ عثمان كما أن صاحب الإقناع تابع صاحب الإنصاف، وأطلق في المغني والكافي والشرح الروايتين في هذه المسألة والله أعلم. قال في شرح الإقناع: وإن زال الحصر بعد تحلله وأمكنه فعل الحج الواجب في ذلك العام لزمه فعله انتهى، ومثله في شرح المنتهى. قال في المغني والشرح: وإذا تحلل المحصر من الحج فزال الحصر وأمكنه الحج لزمه ذلك إن كانت حجة الإسلام أو قلنا بوجوب القضاء أو كانت الحجة واجبة في الجملة لأن الحج يجب على الفور، وإن لمن تكن الحجة واجبة ولا قلنا بوجوب القضاء فلا شيء عليه كمن لم يحرم انتهى، ومن حصر عن فعل واجب كرمي الجمار أو طواف الوداع أو المبيت بمزدلفة أو بمنى في لياليها فليس له التحلل لأن صحة الحج لا تقف على ذلك ولعدم ورود التحلل من ذلك وعليه دم بتركه ذلك الواجب ويرجع بالدم على من حصره كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 لو تركه اختياراً وحجه صحيح لتمام أركانه، وإن صُد المحرم بحج عن عرفة دون البيت تحلل بأفعال عمرة مجاناً ولم يلزمه به دم لأن قلب الحج إلى العمرة مباح بلا حصر فمعه أولى، فإن كان قد طاف وسعى للقدوم ثم أحصر أو مرض أو فاته الحج تحلل بطواف وسعي آخرين لأن الأولين لم يقصد بهما طواف العمرة ولا سعيها وليس عليه أن يجدد إحراماً في الأصح قال الفتوحي في شرح المنتهى. قال في الشرح الكبير: وقال الزهري: لا بد أن يقف بعرفة، وقال محمد بن الحسن لا يكون محصراً بمكة، وروى ذلك عن أحمد لأنه إنما جاز له التحلل بعمرة في موضع يمكنه أن يحج من عامه فيصير متمتعاً وهذا ممنوع من الحج ثم يتحلل بعمرة، فإنه فاته الحج فحكمه حكم من فاته بغير حصر، وقال مالك يخرج إلى الحل ويفعل ما يفعل المعتمر، فإن أحب أن يستنيب من يتمم عنه أفعال الحج جاز في التطوع لأنه جاز أن يستنيب في جملته فجاز في بعضه، ولا يجوز في حج الفرض إلا أن ييأس من القدرة عليه في جميع العمر كما في الحج كله انتهى. قال في المغني: فإن أحب أن يستنيب من يتمم عنه أفعال الحج جاز في التطوع لأنه جاز أن يستنيب في جملته فجاز في بعضه ولا يجوز في حج الفرض إلا أن ييأس من القدرة عليه في جميع العمر كما في الحج انتهى، وتقدم في فصل الاستنابة في الحج والعمرة شيء من ذلك، قال في المنتهى وشرحه: ومن حصر عن طواف الإفاضة فقط بأن رمى وحلق بعد وقوفه لم يتحلل لنحو جماع حتى يطوف للإفاضة ويسعى إن لم يكن سعى وكذا لو حصر عن السعي فقط لأن الشرع ورد بالتحلل من إحرام تام يحرّم جميع المحظورات وهذا يحرم النساء خاصة فلا يلحق به ومتى زال الحصر أتى بالطواف والسعي إن لم يكن سعى وتم حجه انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 تنبيه: تقدم أن من منع عن البيت ولو بعد الوقوف بعرفة يذبح هديا بنية التحلل حل، وهنا لا يتحلل من منع عن طواف الإفاضة فقط حتى يطوف للإفاضة ويسعى إن لم يكن سعى، وكذا لو حصر عن السعي فقط لا يتحلل حتى يسعى، والفرق بين الموضعين أن محل التحلل هو فيما إذا منع عن البيت قبل التحلل الأول بأن لم يرم جمرة العقبة ولم يحلق أو يقصر بعد الوقوف بعرفة، ومحل عدم التحلل هو فيما إذا منع عن البيت وقد تحلل التحلل الأول بأن رمي جمرة العقبة وحلق أو قصر بعد وقوفه بعرفة، والله أعلم قال في المغني: وإن أحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة فليس له أن يتحلل أيضاً لأن إحرامه إنما هو عن النساء والشرع إنما ورد بالتحلل من الإحرام التام الذي يحرم جميع محظوراته فلا يثبت بما ليس مثله، ومت زال الحصر أتى بالطواف وقد تم حجه انتهى ومثله في الشرح الكبير. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: فإن رجع إلى بلده من حصر عن طواف الإفاضة فقط وقد رمى جمرة العقبة وحلق أو قصر بعد وقوفه لزمه أن يعتزل النساء وطئاً ومباشرة إلى أن يرجع فيحرم من الميقات بعمرة فإذا طاف طواف العمرة وسعى طاف لحجه وسعى إن لم يكن سعى انتهى. وتقدم في فصل: ثم يفيض إلى مكة عن شرح الإقناع، وفي فصل أركان الحج عن المنتهى وشرحه ما يؤيد ذلك، ولكن قد يرد على هذا قول الأصحاب لا يصح إدخال العمرة على الحج، وقد يقال الممنوع هو إدخال العمرة على الحج الذي لم يتحلل منه التحلل الأول، أما بعد التحلل الأول فإنما بقي عليه بعض أحكام الإحرام فلا يعطى حكم من لم يتحلل التحلل الأول، والله أعلم. وإذا وطئ قبل طواف الإفاضة وقد رمى وحلق فإن إحرامه يفسد ولا يفسد حجه لأنه وطئ بعد التحلل الأول ويلزمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 الإحرام من الحل ليأتي بطواف الإفاضة في إحرام صحيح، فإن أتى على الميقات وأحرم منه فحسن. قال في المغني: وإذا أحرم من الحل طاف للزيارة وسعى إن كان لم يسع في حجه، وإن كان سعى طاف للزيارة وتحلل، هذا ظاهر كلام الخرقي، والمنصوص عن أحمد ومن وافقه من الأئمة أنه يعتمر، فيحتمل أنهم أرادوا هذا أيضاً وسموه عمرة، لأن هذا هو أفعال العمرة، ويحتمل أنهم أرادوا عمرة حقيقية فيلزمه سعي وتقصير والأول أصح لما ذكرنا انتهى ملخصاً. قلت: ما ذكره الموفق من أن الأول أصح هو الموافق لما ذكروه من أن إدخال العمرة على الحج لا يصح، والله أعلم. تنبيه: إذا أحصر أو سافر إلى بلده قبل طواف الإفاضة وقد رمى وحلق أو قصر فقد بقي عليه بعض أحكام الإحرام لأنه لم يتحلل التحلل الثاني ولزمه أن يعتزل النساء وطئاً ومباشرة وعقد نكاح، ولا يفسد إحرامه هذا إلا بالوطء فقط ويلزمه الرجوع إلى مكة ليطوف للإفاضة؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. ومن أحصر بمرض أو ذهاب نفقة أو ضل الطريق بقي محرماً حتى يقدر على البيت لأنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حال إلى حال خير منها، ولا التخلص من أذى به بخلاف حصر العدو ولأنه صلى الله عليه وسلم لما دخل على ضباعة بنت الزبير وقالت إني أريد الحج وأنا شاكية؟ قال: (حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني) فلو كان المرض يبيح التحلل لما احتاجت إلى شرط، وحديث (من كسر أو عرج فقد حل) متروك الظاهر فإن مجرد الكسر والعرج لا يصير به حلالا، فإن حملوه على أنه يبيح له التحلل حملناه على ما إذا اشترط الحل، على أن في الحديث كلاما لأن ابن عباس يرويه ومذهبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 بخلافه، فقد روى الشافعي في مسنده عن ابن عباس قال: (لا حصر إلا حصر العدو) وصحح الحافظ إسناده. واختار شيخ الإسلام جواز التحلل لمن ذكر، قال: ومثله حائض تعر مقامها وحرم طوافها، أو رجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزيارة، أو لعجزها عنه ولو لذهاب الرفقة. قال في الشرح الكبير: ومن أحصر بمرض أو ذهاب نفقة لم يكن له التحلل في إحدى الروايتين اختارها الخرقي، روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس ومروان وبه قال مالك والشافعي وإسحق. والثانية له التحلل بذلك، وروى نحوه عن ابن مسعود، وهو قول عطاء والنخعي والثوري وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: من كُسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى. رواه النسائي، فإذا قلنا يتحلل فحكمه حكم من حصره العدو على ما مضى، وإن قلنا لا يتحلل فإنه يقيم على إحرامه ويبعث ما معه من الهدي ليذبح بالحرم وليس له نحره في مكانه لأنه لم يتحلل، فإن فاته الحج تحلل بعمرة كغير المريض انتهى ملخصا، وحديث: (من كُسِرَ أو عَرج فقد حل وعليه حجة أخرى) رواه الخمسة وفيه (قال فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا صدق) وفي رواية لأبي داود وابن ماجة (من عَرج أو كُسر أو مرض فذكر معناه، وسكت عنه أبو داود والمنذري وحسنه الترمذي وأخرجه أيضاً ابن خزيمة والحاكم والبيهقي. فعلى المذهب إن فاته الحج من أحصر بمرض أو ذهاب نفقة أو ضل الطريق بطلوع فجر يوم النحر قبل وقوفه ثم قدر على البيت تحلل بعمرة كما لو فاته الحج لغير مرض، ولا ينحر من أحصر بمرض أو ذهاب نفقة أو ضل الطريق هدياً معه إلا بالحرم فيبعث بالهدي ليذبح في الحرم بخلاف من حصره العدو نص أحمد على التفرقة بينهما، ويقضي عبدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 مكلف حيث وجب عليه القضاء بأن كان نذراً أو فاته الحج في رقه كحر، لأنه أهل لأداء الواجب، وصغير في فوات وإحصار كبالغ، ولا يصح قضاؤه حيث وجب إلا بعد بلوغه وبعد حجة الإسلام كما لو أفسد نسكه بالوطء ولو أحصر في حج فاسد فله التحلل منه بذبح الهدي إن وجده أو الصوم إن عدمه كالحج الصحيح لأن فاسد الحج كصحيحه؛ فإن حل من الحج الفاسد ثم زال الحصر وفي الوقت سعة للقضاء قضى وجوباً في ذلك العام لوجوب القضاء على الفور كما تقدم، وليس يتصور القضاء في العام الذي أفسد فيه الحج في غير هذه المسألة، قاله الموفق والشارح وجماعة. قال في شرح الإقناع: ولا يصح ممن أحرم بالحج ووقف بعرفة، ثم طاف وسعى ورمى جمرة العقبة وحلق في نصف الليل الثاني أن يحرم بحجة أخرى ويقف بعرفة قبل الفجر، لأن رمي أيام التشريق عمل واجب بالإحرام السابق فلا يجوز مع بقائه أن يحرم بغيره، هذا معنى كلام القاضي، وسلم الإجماع على أنه لا يجوز أداء حجتين في عام انتهى، قال في حاشية الإقناع للشيخ منصور: وقيل للقاضي لو جاز طوافه في النصف الأخير من ليلة النحر لصح أداء حجتين في عام، ولا يجوز إجماعاً لأنه يرمي ويطف ويسعى فيه ثم يحرم بحجة أخرى ويقف بعرفة قبل الفجر ويمضي فيها ويلزمكم أن تقولوا به لأنه إذا تحلل من إحرامه فلا معنى لمنعه منه، فقال القاضي لا يجوز، وقد نقل أبو طالب فيمن أحرم بحجتين لا يكون أهلاً لاثنتين لأن الرمي عمل واجب بالإحرام السابق فلا يجوز مع بقائه أن يحرم بغيره انتهى، واقتصر عليه في الإنصاف مع أنه في باب الإحرام قال: قد قيل إنه يمكن أداء حجتين في عام، وما هنا من حكاية الإجماع التي سلمها القاضي حيث لم يردها يمنعه انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 فائدة نفيسة جليلة: من شرط في ابتداء إحرامه أن يحل متى مرض أو ضاعت نفقته أو نفدت أو ضل الطريق أو قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فله التحلل بجميع ذلك لحديث ضباعة بنت الزبير السابق، وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن لك على ربك ما اشترطت) ولأن للشرط تأثيراً في العبادات بدليل: إن شفي مريضي صمت شهراً ونحوه، وليس عليه هدي ولا صوم ولا قضاء ولا غيره لظاهر حديث ضباعة ولأنه إذا شرط شرطاً كان إحرامه الذي فعله إلى حين وجود الشرط فصار بمنزلة من أكمل أفعال الحج وله البقاء على إحرامه حتى يزول عذره ويتم نسكه، فإن قال إن مرضت ونحوه فإنا حلال فمتى وجد الشرط حل بوجوده لأنه شرط صحيح فكان على ما شرط. قال في المنتهى وشرحه: ومن شرط في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني فله التحلل مجاناً في الجميع من فوات أو إحصار ومرض ونحوه ولا دم عليه ولا قضاء لظاهر خبر ضباعة ولأنه شرط صحيح لكان على ما شرط، لكن إن تحلل ولم يكن حج حجة الإسلام قبل فوجوبها باق لعدم ما يسقطه انتهى. قال في المغني والشرح بعد كلام لهما سبق: ثم ينظر في صيغة الشرط فإن قال إن مرضت فلي أن أحل وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فإذا حبس كان بالخيار بين الحل وبين البقاء على الإحرام، وإن قال: إن مرضت فأنها حلال فمتى وجد الشرط حل بوجوده لأنه شرط صحيح فكان على ما شرط انتهى، وتقدم قريباً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 -- باب: الهدي والأضاحي وما يتعلق بهما: الهدي ما يهدى للحرم من النعم وغيرها لأنه يهدى إلى الله تعالى، والأضحية بضم الهمزة وكسرها وتخفيف الياء وتشديدها ويقال ضحية كسرية والجمع ضحايا واحدة الأضاحي: ما يذكى من بهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم الأهلية أيام النحر الثلاثة وليلتي يومي التشريق على ما يأتي إن شاء الله تعالى بسبب العيد، بخلاف ما يذبح بسبب نسكك أو إحرام فليس بأضحية تقربا إلى الله تعالى، احترازاً عما يذبح أيام النحر للبيع ونحوه فإنه ليس بأضحية. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وكل ما ذبح بمنى وقد سيق من الحل إلى لحرم فإنه هدي، سواء كان من الإبل أو البقر أو الغنم، ويسمى أيضاً أضحية بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل فإنه أضحية وليس بهدي، وليس بمنى ما هو أضحية وليس بهدي كما في سائر الأمصار، فإذا اشترى الهدي من عرفات وساقه إلى منى فهو هدي باتفاق العلماء، وكذلك إن اشتراه من الحرم فذهب به إلى التنعيم، وأما إذا اشترى الهدي من منى وذبحه ففيه نزاع، فمذهب مالك أنه ليس بهدي وهو منقول عن ابن عمر، ومذهب الثلاثة أنه هدي وهو منقول عن عائشة انتهى كلامه رحمه الله تعالى. والأصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتب فقوله تعالى : (فَصَلّ لربك وانحر) قال أهل التفسير: المراد التضحية بعد صلاة العيد، وأما السنة فروى أنس قال (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يُسمِّي ويكبر فذبحهما بيده) . رواه الجماعة، وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 بالهدي إلى مكة وهو بالمدينة، وأهدى في حجة الوداع مائة بدنة، قال في الشرح الكبير: ويستحب لمن أتى مكن أن يهدي هدياً لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجته مائة بدنة، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الهدي ويقيم بالمدينة انتهى، ولا تجزئ أضحية ولا هدي من غير الإبل والبقر والغنم الأهلية، والجواميس في الأضحية والهدي كالبقر في الإجزاء والسن وإجزاء الواحدة عن سبعة لأنها نوع من البقر، والأفضل في الهدي والأضحية إبل ثم بقر إن أخرج كاملاً بأن ضحى ببدنة كاملة أو بقرة كاملة، ثم غنم لحديث أبي هريرة مرفوعاً (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن) . متفق عليه، ولأن الإبل أكثر ثمناً ولحماً وأنفع للفقراء، والتفضيل المذكور هو فيما إذا قوبل الجنس بالجنس وإلا فإن سبع شياه أفضل من البدنة والبقرة، والشاة أفضل من شِرك في بدنة أو بقرة لأن إراقة الدم مقصودة في الأضحية، والمنفرد تقرّب بإراقته كله فصار أفضل من المتقرب بسُبع بدنة أو سُبع بقرة، لأن المضحي بالسُبع لم يتقرب إلا بشرك في دم، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال به مالك في الهدي، وقال في الأضحية الأفضل الضآن ثم البقر ثم البدن'، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين ولا يفعل إلا الأفضل، ولو علم الله سبحانه خيراً منه لفدى به الذبيح، ودليلنا الحديث المتقدم المتفق عليه، ولا يجزيء في الأضحية الوحشي إذ لا يحصل المقصود به مع عدم الورود، ولا يجزيء في الأضحية أيضاً من أحد أبويه وحشي تغليبا لجانب المنع، والأفضل من كل جنس أسمن ثم أغلى ثمناً لقوله تعالى: (ومن يُعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) . قال ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 ولأن ذلك أعظم لأجرها وأكثر لنفعها، وأفضل ألوانها الأشهب وهو الأملح وهو الأبيض النقي البياض، قاله ابن الأعرابي، أو ما فيه بياض وسواد وبياضه أكثر من سواده قال الكسائي لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين) رواه أحمد والحاكم والبيهقي ورواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس (بلفظ دم الشاة البيضاء عند الله أزكى من دم السوداوين) وفيه حمزة النصيبي قد اتهم بوضع الحديث، ورواه الطبراني أيضاً وأبو نعيم من حديث كبيرة بنت سفيان نحو الأول، ورواه البيهقي موقوفاً على أبي هريرة، ونقل عن البخاري أن رفعه لا يصح. والعفراء: التي بيضاها ليس بناصع. قال في الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام: والعفراء أفضل من السوداء، وإذا كان السواد حول عينيها وفمها وفي رجلها أشبهت أضحية النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. ثم يلي الأشهب في الأفضلية الأصفر، ثم الأسود. قال الإمام أحمد: يعجبني البياض وأكره السواد، وكل ما كان أحسن لوناً فهو أفضل؛ وجذع الضأن أفضل من ثني الماعز على الصحيح من المذهب، قال الإمام أحمد: لا تعجبني الأضحية إلا بالضأن ولأن جذع الضأن أطيب لحماً من ثني الماعز، وكل من جذع الضأن وثني الماعز أفضل من سُبع بدنة أو سُبع بقرة لما تقدم من أن إراقة الدم مقصودة في الأضحية، ومن تقرب بإراقته كله أفضل ممن تقرب بإراقة سُبعه، وسَبع شياه أفضل من بدنة أو بقرة لكثرة إراقة الدماء المطلوبة شرعاً وتقدم، وزيادة عدد في جنس أفضل من المغالاة مع عدم التعدد. سأل ابن منصور الإمام أحمد: بدنتام سمينتان بتسعة وبدنة بعشرة؟ قال أحمد: بدنتان أعجب إليّ انتهى لما فيه من كثرة إراقة الدماء، قال في الفروع: وهل زيادة العدد أفضل كالعتق، أم المغالاة في الثمن وفاقاً للشافعي، أم سواء؟ يتوجه ثلاثة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 أوجه، ثم ذكر رواية ابن منصور انتهى، ورجح شيخ الإسلام تفضيل البدنة السمينة التي بعشرة على البدنتين بتسعة لأنها أنفس، قال زين الدين بن رجب: وفي سنن أبي داود حديث يدل عليه انتهى، وبمراجعتي لسنن أبي داود وجدت فيه: عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: (أهدى عمر بن الخطاب نجيباً فأعطى به ثلثمائة دينار فأتى النبي صلى الله عليه وسل فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيباً فأعطيت به ثلثمائة دينار أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا، قال: لا، انحرها إياها) . قال أبو داود: هذا لأنه كان أشعرها انتهى. وذكر وأنثى سواء، لقوله تعالى: (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) ، وقوله تعالى: (والبُدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خيرٌ) ولم يقل ذكراً ولا أنثى، قال الإمام أحمد: الخصي أحب إلينا من النعجة لأن لحمه أوفر وأطيب، قال الموفق: الكبش في الأضحية أفضل النَّعم لأنها أضحية النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرن أفضل (لأنه عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين أملحين أقرنين) ويسن استسمانها واستحسانها لما تقدم، ولا يجزيء في هدي واجب ولا أضحية دون جذع ضأن، وهو ما له ستة أشهر كوامل لحديث أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجوز الجذع من الضأن أضحية) رواه أحمد وبان ماجة وابن جرير والطبراني والبيهقي، ورجال إسناده كلهم بعضهم ثقة وبعضهم صدوق وبعضهم مقبول، والهدي مثلها؛ ويعرف الجذع بنوم الصوف على ظهره قال الخرقي عن أبيه عن أهل البادية، ونوم الصوف افتراقه على ظهره على جنبيه، ولا يجزيء دون ثني معز وهو ما له سنة كاملة لأنه قبلها لا يلقح بخلاف جذع الضأن فإنه ينزو ويلقح، ولا يجزيء دون ثني بقر وهو ما له سنتان كاملتان، ولا يجزيء دون ثني إبل وهو ما له خمس سنين كوامل، سمي بذلك لأنه ألقى ثنيته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وكذلك عند مالك والليث والشافعي وأبي عبيد وأصحاب الرأي لا يجزيء إلا الجذع من الضأن والثني مما سواه، وتجزيء الشاة عن واحد وعن أهل بيته وعياله مثل امرأته وأولاده ومماليكه. قال صالح: قلت لأبي يضحي بالشاة عن أهل البيت؟ قال: نعم لا بأس (قد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم كبشين، فقال بسم الله هذا عن محمد وأهل بيته، وقرَّب الآخر، وقال: بسم الله، اللهم منك ولك عمن وحدك من أمتي) ، ويدل له أيضاً ما روى أبو أيوب قال: (كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصار كما ترى) . رواه مالك في الموطأ وابن ماجة والترمذي وصححه، قال في الشرح الكبير: ولا بأس أن يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة أو بدنة أو بقرة يضحي بها، نص عليه أحمد وبه قال مالك والليث والأوزاعي وإسحاق، وروى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة وتمامه فيه. وقال بعض أهل العلم: لا تجزيء الشاة إلا عن نفس واحدة، وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره من أهل العلم حتى زعم النووي أنه مجمع عليه ووافقه على دعوى الإجماع ابن رشد. والحق الذي لا ريب فيه أنها تجزيء عن أهل البيت وإن كثروا كما قضت بذلك السُنة. فائدة: قال الشيخ أحمد بن محمد القصيِّر: اعلم أن قولهم وتجزيء الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته وعياله والبدنة والبقرة عن سبعة أن سبع البدنة أو سبع البقرة لا يكفي عن الرجل وأهل بيته لأنه شرك في دم ولفظ الحديث في الشاة بخلاف سبع البدنة أو البقرة وهذه فائدة جليلة انتهى. وفي الموطأ عن ابن شهاب قال: (ما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعن أهل بيته إلا بدنة واحدة أو بقرة واحدة) شك مالك انتهى، قال البخاري في صحيحه: باب ذبح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن وساق بسنده إلى عمرة بنت عبد الرحم قالت سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه ومسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل قالت: فدُخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت ما هذا؟ قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه) ، واستفهام عائشة عن اللحم لما دُخِل به عليها استدل به البخاري على قوله في الترجمة: من غير أمرهن، لأنه لو كان الذبح بعلمها لم تحتج إلى الاستفهام، وعبر البخاري في الترجمة بلفظ الذبح، وفي الحديث بلفظ النحر إشارة إلى رواية سليمان بن بلال المذكورة في باب ما يأكل من البدن وما يتصدق ولفظه (فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت ما هذا؟ فقيل ذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه) ونحر البقر جائز عند العلماء لكن الذبح أولى لقوله تعالى: (إن الله يأمركن أن تذبحوا بقرة) وتجزيء كل من البدنة والبقرة عن سبعة لحديث جابر قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة) متفق عليه. وفي الشرح الكبير بعد ما ذكر أن البدنة والبقرة عن سبعة وأنه قول أكثر أهل العلم، قال وعن سعيد بن المسيب: أن الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة، وبه قال إسحاق لما روى رافع (أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عن عشر من الغنم ببعير) متفق عليه. وعن ابن عباس قال: (كنا مع رسول الله صلى الله علي وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة) . رواه ابن ماجة وتمامه فه، قال في المنتقى: عن ابن عباس قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضي الأضحى، فذبحنا البقرة عن سبعة، والبعير عن عشرة) . رواه الخمسة إلا أبا داود انتهى، والحديث حسنه الترمذي، ويشهد له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 حديث رافع بن خديج المتقدم لكن أجاب الشارح بأن حديث رافع في القسمة لا في الأضحية. قلت: عمل الناس على حديث جابر أن البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة والله أعلم، وتجزيء البدنة والبقرة عن أقل من سبعة بطريق الأولى، والاعتبار في إجزاء البدنة أو البقرة عن سبعة فأقل أن يشترك الجميع في البدنة أو البقرة دفعة واحدة؛ فلو اشترك ثلاثة في بدنة أو بقرة أضحية وقالوا من جاء يريد أضحية شاركناه فجاء قوم فشاركوهم لم تجز البدنة أو البقرة إلا عن الثلاثة نقله الزركشي في شرحه على الخرقي عن الشيرازي، قال في الإقناع وشرحه: والمرا إذا أوجبوها: أي الثلاثة على أنفسهم نص عليه لأنهم إذا لم يوجبوها فلا مانع من الاشتراك قبل الذبح لعدم التعيين، قال في شرح المنتهى وإن اشترك ثلاثة في بدنة أو بقرة وأوجبوها لم يجز أن يشركوا غيرهم فيها انتهى. إذا تقرر هذا فإن الثلاثة مثلاً إذا اشتروا بدنة أو بقرة ولم يوجبوها كلها على أنفسهم، بل قال واحد أريد فيها أضحية واحدة وقال الثاني أريد أضحيتين وقال الثالث أريد ثلاث ضحايا ثم أتى رابع وأشركو÷ وأخذ الأضحية الباقية فإن هذا سائغ شرعاً وعليه العمل من غير نكير، وسواء كان المشتركون من أهل بيت واحد أو لم يكونوا، وسواء أراد جميع الشركاء في البدنة أو البقرة القربة أو أراد بعضهم القربة وأراد الباقون اللحم لأن الجزء المجزيء لا ينقص إجره بإرادة الشريك غير القربة كما لو اختلفت جهات القربة بأن أراد بعضهم عن دم التمتع والآخر عن دم القران والآخر عن ترك واجب من واجبات الحج كترك الإحرام من الميقات لمن مر عليه، والآخر عن فعل محظور من محظورات الإحرام، وقال أبو حنيفة: يجوز إذا كانوا كلهم متقربين، ولا يجوز إذا لم يرد بعضهم القربة، ويجزيء الاشتراك في البدن والبقر ولو كان بعض الشركاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 ذمياً في قياس قول الإمام أحمد قاله القاضي وجزم بمعناه في المنتهى، ويعتبر ذبح البدنة أو البقرة عن السبعة فأقل نص عليه، ويجوز أن يقتسموا اللحم لأن القسمة في المثليات ونحوها ليست بيعاً بل إفراز حق، ولو ذبحوا البدنة أو البقرة على أنهم سبعة فبانوا ثمانية ذبحوا شاة وأجزأتهم الشاة مع البدنة أو البقرة، فإن بانوا تسعة ذبحوا شاتين، وهكذا ولو اشترك اثنان في شاتين على الشيوع أجزاء ذلك عنهما كما لو ذبح كل منهما شاة، ولو اشترى سبع بدنة أو بقرة ذبحت للحم فهو لحم اشتراه ولست الحصة التي اشتراها أُضحية لعدم نيتها قبل الذبح، وكذا لو اشترى شاة ذبحت للحم فهي لحم وليست بأضحية، أما إذا اشترى سبعاً أو سبعين من بدنة أو بقرة وهي حية وأوجب ما اشتراه أضحية وأراد اللحم في الباقي جاز وله بيعه، وقول الأصحاب لو اشترى سبع بدنة أو سبع بقرة ذبحت للحم فو لحم المراد منه إذا اشترى سبعها وهي مذبوحة، فإن كانت حية جاز ذلك كما تقدم والله أعلم. وأما ما ذبح هديا أو أضحية فلا يصح بيعه ولو تطوعا لتعينه بالذبح ويأتي ذلك إن شاء الله تعالى. فائدة: حيث كانت كل واحدة من البدنة والبقرة تجزيء عن سبعة كما تقدم فهل هذا مطلق فلا تجزيء عن أهل بيته إذا كانوا أكثر من سبعة أو هي أولى بالإجزاء من الشاة؟ وبخط عبد الوهاب بن فيروز ما نصه قوله عن سبعة، أقول ظاهره مطلقاً، ولا يقال كما فهم من أبعد النجعة أن المراد عن سبع شياه يريد بذلك أنه يجزئ ذبحها عن أهل بيته ولو زادوا على سبعة، لأنا نقول كونها عن سبع شياه مسلم لكن لا مطلقاً فتأمل انتهى. قلت: الظاهر أن البدنة أو البقرة تجزيء عنه وعن أهل بيته ولو كانوا أكثر من سبعة لأنها أغلى وأفضل من الشاة خلافاً لما جنح إليه عبد الوهاب بن فيروز، قال في الشرح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 الكبير: ولا بأس أن يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة أو بدنة أو بقرة يضحي بها نص عليه أحمد وبه قال مالك والليث والأوزاعي، وروى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة وتمامه فيه، وتقدمت عبارة الشرح هذه، ومنها يؤخذ إجزاء البدنة أو البقرة عن أهل البيت ولو كانوا أكثر من سبعة لأن صاحب الشرح ذكرهما مع الشاة المنصوص على إجزائها عن أهل البيت ولو كانوا أكثر من سبعة (لأنه صلى الله عليه وسلم قد ذبح كبشين وقال: بسم الله هذا عن محمد وأهل بيته وقرّب الآخر، وقال اللهم منك ولك عمن وحدك من أمتي) وبخط عبد الوهاب بن فيروز أيضاً ما نصه قوله: وتجزيء الشاة عن واحد وأهل بيته يظهر أنه لو شرك غيرهم من الأجانب لا يجزيء خلافاً لمن عمم انتهى كلام ابن فيروز. قلت: الظاهر أنه لا خصوص لأهل البيت لما في الحديث (اللهم منك ولك عمن وحدك من أمتي) ثم رأيت كلاماً للشيخ عبد الله أبي بطين قد استظهر فيه أنه لا خصوص لأهل البيت، والله أعلم. قال ابن القيم رحمه الله: (وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة من أصحابه كانوا معه فأخرج كل واحد منهم درهما فاشتروا أضحية فقالوا يا رسول الله لقد أغلينا بها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أفضل الضحايا أغلاها وأسمنها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رجل برجل ورجل برجل ورجل بيد ورجل بيد ورجل بقرن ورجل بقرن وذبحها السابع وكبروا عليها جميعاً ذكره أحمد نزل هؤلاء النفر منزلة أهل البيت الواحد في إجزاء الشاة عنهم لأنهم كانوا رفقة واحدة انتهى كلام ابن القيم. فائدة: إذا أراد الإخوة أن يضحوا عن والدهم مثلاً بأضحية واحدة صح ذلك سواء كانوا شركاء في المال أو لم يكونوا وكذلك لو لم يكونوا إخوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 واشتركوا في شراء أضحية وذبحوها عن إنسان، وإذا ضحى إنسان بشاة واحدة وجعل ثوابها لوالديه وإخوانه مثلا جاز ذلك وإن كثروا كما تقدم، بخلاف الحجة فإنها لا تصح إلا عن واحدة، فلو حج عن والديه بحجة واحدة لم يصح ذلك لأن الحجة الواحدة لا تقع عن عدد، ولا يجوز التشريك فيها بخلاف الأضحية، وإذا أراد إنسان أن يضحي عن جماعة بأضحية واحدة فإنه لا يشترط تسميتهم بل تكفي النية لكن يستحب له أن يسميهم فيقول عن فلان وفلان وفلان، أما لو حج حجة واحدة نفلاً لنفسه ثم بعد إتمامها جعل ثوابها لوالديه ونحوهما فإنه غير ممنوع فيما يظهر وصرح به في رد المحتار لابن عابدين الحنفي، والله أعلم. -- فصل: ولا تجزيء في الهدي والأضحية العوراء البينة العور: وهي التي انخسفت عينها، فإن كان على العين بياض وهي قائمة لم تذهب أجزأت لأن ذلك لا ينقص لحمها، ولا تجزيء فيهما عمياء وإن لم يكن عماها بيِّناً كقائمة العينين مع ذهاب إبصارهما لأن العمى ينع مشيها مع رفيقتها ويمنع مشاركتها في العلف، وفي النهي عن العوراء تنبيه على النهي عن العمياء. قال النووي: وتجزيء العشواء على الأصح؛ وهي التي تبصر بالنهار دون الليل لأنها تبصر وقت الرعي، وأما العمش وضعف بصر العينين جميعاً فقطع الجمهور بأنه لا يمنع وقال الروياني إن غطى الناظر بياضٌ أذهب أكثره منع وإن أذهب أقله لم يمنع على الصحيح انتهى. ولا تجزئء عجفاء لا تفقي بضم التاء وإسكان النون وكسر القاف، من أنقت الإبل: إذا سمنت وصار فيها نقي، بكسر النون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وإسكان القاف: وهو مخ العظم وشحم العين من السمن قاله ابن أبي الفتح الحنبلي في المطلع، والعجفاء هي الهزيلة التي لا مخ فيها، ولا تجزيء عرجاء بيِّنٌ ظلعها بفتح اللام وسكونها: أي غمزها وهي التي لا تقدر على المشي مع جنسها الصحيح إلى المرعى، ولا تجزيء كسيرة ولا مريضة بين مرضها: وهو المفسد للحمها بجرب أو غيره لحديث البراء بن عازب قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي) . رواه الخمسة وصححه الترمذي وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه النووي، وفي رواية الترمذي والنسائي والعجفاء بدل الكسيرة، قال النووي وحكى وجه في الهيام خاصة أنه يمنع الأجزاء وهو من أمراض الماشية وهو أن يشتد عطشها فلا تروى من الماء، والهيام بضم الهاء قال أهل اللغة هو داء يأخذها فتهيم في الأرض لا ترعى، وناقة هيماء بفتح الهاء والمد انتهى. ولا تجزيء عضباء بالعين المهملة والضاد المعجمة: وهي التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها لحديث علي قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب الأذن والقرن) قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: العضب: النصف فأكثر من ذلك رواه الخمسة، وصححه الترمذي، لكن ابن ماجة لم يذكر قول قتادة إلى آخره، وسكت عن الحديث أبو داود والمنذري، وقال الإمام أحمد العضباء ما ذهب أكثر أذنها أو قرنها، نقله حنبل لأن الأكثر كالكل، وتكره معيبة أذن بخرق أو شق أو قطع لنصف أو أقل من النصف، وكذا معيبة قرن بواحد من هذه، وهذه الكراهة كراهة تنزيه فيحصل الإجزاء بها لأن اشتراط السلامة من ذلك يشق ولأنه ليس داخلاً في العضب المنهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 عنه، قال في المنتهى وشرحه، ولا يجزيء عضباء: وهي ما ذهب أكثر أذنها أو ذهب أكثر قرنها إلى أن قال: وتكره معيبتهما؛ أي الأذن والقرن بخرق أو شق أو قطع لنصف منهما فأقل انتهى، وكذا في الإقناع وشرحه: قال في الغاية: وكره معيبة أذن وقرن بخرق أو شق أو قطع لنصف فأقل، ويتجه احتمال أَلْيه كذلك انتهى، قال في شرح الدليل للشيخ عبد القادر: وتجزيء الحامل وما خلق بلا أذن أو ذهب نصف أليته أو أذنه، وتكره معيبة أذن بخرق أو شق أو قطع لنصف أو أقل وكذا قرن، ولا تجزيء عضباء، وهي ما ذهب أكثر أذنها أو قرنها لأن الأكثر كالكل انتهى ملخصاً، ومن هذا يتضح أن المذهب إجزاء ما ذهب نصف أذنها أو قرنها كما هو نص الإمام أحمد في رواية حنبل خلافاً لما ذهب إليه سعيد بن المسيب رحمه الله حيث قال: العضب النصف فأكثر، والله أعلم. تنبيه: إذا ذهب أكثر القرن من الكبش فإنه لا يجزيء في الأضحية ولا في الهدي، ولا يقال إن عدم الأجزاء فيما ذهب أكثر قرنه مختص بالبقر والمعز كما فهمه بعض المعاصرين محتجاً بأن القرن في الكبش نادر والنادر لا حكم له، لأنا نقول قرن البش له حكم في الأفضلية وقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين ونهى أن يضحي بأعضب القرن، فشمل النهي كل ما له قرن سواء كان من البقر أو المعز أو الكبش والله أعلم. ولا تجزيء الجداء: وهي جافة الضرع: أي الجدباء التي شاب ونشف ضرعها لأن هذا أبلغ في الإخلال بالمقصود من ذهاب شحمة العين ولأنها في معنى العجفاء، بل أولى، والجداء: اسم لما لم يكن في ضرعها لبن فإذا وجد فيه شيء فليس بجداء، ولو جد شطر وسلم الآخر أو بعضه فإنها لا تكون جداء، قال بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 المالكية عن مذهبهم لا تجزيء في الأضحية يابسة الضرع فإن كانت ترضع ببعضه لم يضر انتهى، قال في المنتهى ولا تجزيء جداء وهي الجدباء وهي ما شاب ونشف ضرعها انتهى، قال عبد الوهاب بن فيروز في حاشية الزاد قوله وهو ما شاب كذا في الرعاية ولم يظهر لي معنى هذا اللفظ، ولم أر في القاموس كالصحاح والمجمل ما أستدل به عليها فتأمل انتهى كلام ابن فيروز. قلت: عدم ظهور معنى ذلك لابن فيروز يعد منه قصوراً. قال في شرح الغاية: معنى شاب أبيض ضرعها لأن الشاة إذا كبرت ابيض ضرعها انتهى، وما ذكره شارح الغاية واف بالمعنى، قال في النهاية: الجدّاء: ما لا لبن فيها من حلوبة لآفة أيبست ضرعها، وتجدّ الضرع: ذهب لبنه، والجدّاء من النساء الصغيرة الثدي انتهى، ولا تجزيء هتما وهي التي ذهبت ثناياها من أصلها، هذه عبارة الأصحاب، فظهر من تعريفهم هذا أن المانع من الإجزاء هو ذهاب الثنيتين جميعاً، فلو لم يذهب إلا ثنية واحدة أجزأت فيما يظهر والله أعلم. ولا تجزيء عصماء، وهي التي انكسر غلاف قرنها، قال في الإقناع: وتجزيء ما ذهب دون نصف أليتها قال في شرحه وكذا ما ذهب نصفها كما في المنتهى، وقياس ما تقدم في الأذن، وتكره، بل هنا أولى انتهى. وعبارة المنتهى: ويجزيء ما خلق بلا أذن أو ذهب نصف أليته انتهى، فإن ذهب أكثر من نصف الألية لم تجزيء لأن الألية ليست بذنب والله أعلم، وتجزيء الجماء. وهي التي خلقت بلا قرن، والصمعاء بالصاد والعين المهملتين، وهي صغيرة الأذن وما خلقت بلا أذن، والبتراء التي لا ذنب لها خلقه أو مقطوعاً لأن ذلك لا يخل بالمقصود، وتجزيء التي بعينها بياض لا يمنع النظر لعدم فوات المقصود من البصر وتقدم، ويجزيء الخصي وهو ما قطعت خصيتاه أو سُلَّتا أو رُضتّا لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين والوجاء: رض الخصيتين، ولأن الخصاء إذهاب عضو غير مستطاب يطيب اللحم بذهابه ويسمن فإن قطع ذكره مع قطع الخصيتين أو سلهما أو رضهما وهو الخصي المجبوب لم يجزيء، ولا يجزيء ما ليس بملك له ولو أجيز بَعْدُ، وتجزيء الحامل من الإبل أو البقر أو الغنم كالحائل. فوائد: الأولى: قال الحجاوي: الأضحية التي ترضع نفسها ينقص الثمن ولا ينقص الأضحية. الثانية: لا تجزيء المنذورة التي انقطع ضرعها كله، أما إن انقطع بعضه وبعضه صحيح فالظاهر أنها تجزيء في الهدي والأضحية. الثالثة: تجزيء المبعوجة، وهي التي بها فتق والله أعلم. -- فصل: والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر وفاقاً لمالك والشافعي، وإسحق وابن المنذر، لما روى زياد بن جبير قال: (رأيت ابن عمر أتى على رجل أناخ بدنة لينحرها فقال أبعثها قائمة مقيدة سُنة محمد صلى الله عليه وسلم) . متفق عليه، وروى أبو داود بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها) لكن إن خشي عليها أن تنفر أناخها. والسُنة ذبح بقر وغنم على جنبها الأيسر موجهة للقبلة لحديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين ذبحهما بيده) ويجوز ذبح الإبل ونحر البقر والغنم لأنه لم يتجاوز محل الذكاة ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) . ويسمى وجوباً حين يحرك يده للنحر أو الذبح، وتسقط سهواً؛ ويكبر ندباً فيقول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 ولك، وإن قال قبل بسم الله والله أكبر وقبل تحريك يده: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض إلخ، فحسن لما روى جابر بن عبد الله (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوءين فلما وجههما قال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين) اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر ثم ذبح) رواه أبو داود، وأخرجه أيضاً ابن ماجة والبيهقي، وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال، وفيه أيضاً أبو عياش، قال في التلخيص: لا يعرف. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ويستحب أن ينحر الإبل مستقبلة القبلة قائمة معقولة يدها اليسرى، والبقر والغنم يضجعها على شقها الأيسر مستقبلاً بها القبلة ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك، اللهم تقبل مني كما تقبلته من إبراهيم خليلك انتهى، وإن اقتصر على التسمية فقد ترك الأفضل؛ ولا بأس بقول الذابح أو الناحر اللهم تقبل من فلان لحديث: (اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى) . رواه أحمد ومسلم وأبو داود، والأفضل أن يتولى صاحب الذبيحة هديا كانت أو أضحية ذبحها بنفسه (لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده الشريفة وسمى وكبر ووضع رجله الشريفة على صفاحيهما ونحر البدن الست بيده، ونحر من البدن التي أهداها في حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة بيده) ولأن فعل الذبح قربة وتولى القربة بنفسه أولى من الاستنابة فيها. قال في المنتهى وشرحه: ويذبح أو ينحر واجباً من هدي أو أضحية قبل ذبح أو نحر نفل كل منهما مسارعة لأداء الواجب. قال الخلوتي: قوله ويذبح واجباً قبل نفل استحباباً قياساً على الصدقة انتهى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وقد سبقه إلى هذا خاله منصور في شرح الإقناع حيث قال: ولعل المراد استحباباً مع سعة الوقت وقد تقدم (أي في باب الزكاة من الإقناع) لمن عليه زكاة الصدقة تطوعاً قبل إخراجها ولا يكاد يتحقق الفرق انتهى. وسن إسلام ذابح لأنها قربة فينبغي أن لا يليها غير أهلها، وإن وكل من يصح ذبحه ولو ذمياً كتابياً جاز مع الكراهة وفاقاً للشافعي وأبي ثور وابن المنذر، وممن كراه ذلك علي وابن عباس وجابر. وعن أحمد لا يجوز أن يذبحها إلا مسلم، وهو قول مالك لحديث ابن عباس الطويل مرفوعاً (لا يذبح ضحاياكم إلا طاهر) قلت: ومراد الأصحاب جواز توكيل الذمي الكتابي في ذبيحة هدي المسلم أو أضحيته إذا كان الكتابي يذبح الأضحية أو الهدي أو ينحرهما في موضعه الشرعي بشروطه المعتبرة، أما إن كان يذبحها بضرب المسامير أو الفؤوس في الرأس ونحوه أو بالكهرباء كما عليه عمل بعض النصارى في هذا الزمن فإنه لا يصح توكيل ولا تحل ذبيحته بذلك، لأن ذبحه للبهيمة على هذه الصفة لا يسمى ذكاة ولا تحل بذلك، بل حكمها حكم الميتة فهي حرام كما لو فعل ذلك مسلم وأولى والله أعلم، ويشهد أضحيته وهديه ندبا إن وكل في تذكيتهما لأن في حديث ابن عباس الطويل: (واحضروها إذا ذبحتهم فإنه يغفر لكم عند أول قطرة من دمها) وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: (احضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من دمها) ولا بأس أن يقول الوكيل: اللهم تقبل من فلان، أي الموكل له؛ وتعتبر نية كونها أضحية من الموكل وقت التوكيل في الذبح، وفي الرعاية ينوي الموكل كونها أضحية عند الذكاة أو الدفع إلى الوكيل ليذبحها إلا مع تعيين بأن يكون المهدي معيناً أو الأضحية معينة، فلا تعتبر النية ولا تعتبر تسمية المضحى عنه ولا المهدى عنه اكتفاء بالنية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 -- فصل: وقت ابتداء ذبح أضحية أو هدي نذر أو تطوع أو هدي تمتع أو قران من بعد أسبق صلاة العيد بالبلد الذي تصلى فيه ولو قبل الخطبة، والأفضل بعدها وبعد ذبح الإمام إن كان خروجاً من الخلاف لحديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى) . متفق عليه، أو بعد قدر الصلاة بعد دخول وقتها بمحل لا تصلي فيه كأهل البوادي من أصحاب الطنب والخركاوات ونحوهم، قال مرعي: ويتجه أو ببلد لا تجب عليهم انتهى، فدخول وقت ذبح ما ذكر في حقهم بمضي قدر ما تفعل فيه الصلاة بعد دخول وقتها لأنه لا صلاة في حقهم تعتبر فوجب الاعتبار بقدرها، أما من بمصر أو قرية يصلي فيها العيد فليس له الذبح قبل الصلاة حتى تزول الشمس، فإن فاتت الصلاة بالزوال ذبح بعده. قال في الإقناع وشرحه: ووقت ابتداء ذبح يوم العيد بعد الصلاة، ولو سبقت صلاة إمام في البلد الذي يتعدد فيه العيد جاز الذبح لتقدم الصلاة عليه انتهى ملخصاً. وآخر وقت ذبح أضحية أو هدي نذر أو تطوع أو هدي تمتع أو قران آخر اليوم الثاني من أيام التشريق؛ فأيام النحر ثلاثة: يوم العيد ويمان بعده وهو قول عمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة وأنس وأبي حنيفة ومالك، قال الإمام أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن آخر وقت الذبح لأضحية أو هدي آخر أيام التشريق، وروى عن علي أنه قال (أيام النحر يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده) حكاه النووي في شرح مسلم، وحكاه أيضاً عن جبير بن مطعم وعطاء والحسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 البصري وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام ومكحول وداود الظاهري والأوزاعي وابن المنذر ومشى عليه في الإيضاح، وهو مذهب الشافعي واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فعلى هذه الرواية تكون أيام النحر أربعة يوم العيد وثلاثة أيام بعده، والتضحية وذبح الهدي في يوم العيد أفضل، وأفضله عقب الصلاة والخطبة وذبح الإمام إن كان وتقدم لما فيه من المبادرة والخروج من الخلاف، ثم ما يلي يوم العيد أفضل مسارعة للخير؛ ويجزيء ذبح هدي أو أضحية في ليلتي اليوم الأول والثاني من أيام التشريق لدخوله في مدة الذبح فجاز فيه كالأيام، وفي الإقناع: يجزيء مع الكراهة للخروج من الخلاف، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وإسحاق وأبي ثور والجمهور، وظاهر المنتهى لا يكره، واختار الخرقي لا يجزيء الذبح في ليلتيهما، وهو اختيار الخلال ونص عليه في رواية الأثرم، قال في الفروع: وعنه لا يجزيء ليلا اختاره الخلال وأنه رواية الجماعة والخرقي وغيرهما انتهى وهو المشهور عن مالك وعليه عامة أصحابه، وحكم ليلة اليوم الثالث حكم ليلتي اليوم الأول والثاني على الرواية الثانية، ووقت ذبح ما وجب من الدماء بفعل محظور فعله في الإحرام كلبس وطيب وحلق رأس ونحوه من حين فعل المحظور، وإن أراد فعل المحظور لعذر يبيحه فله ذبح ما يجب به قبل فعل المحظور لوجود سببه كإخراج كفارة عن يمين بعد حلف وقبل حنث وتقدم في باب الفدية ذكر ذلك. ووقت ذبح ما وجب من الدماء لترك واجب في حج أو عمرة من حين ترك الواجب ولا يختص ذلك بأيام النحر، فلو ترك الإحرام من الميقات أو خرج من عرفة قبل الغروب جاز ذبح ما وجب من الدم بسبب ذلك قبل أيام النحر وبعدها لكن بشرط كون الذبح بالحرم، هذا في أحد واجبات الحج وفي فعل المحظور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 في الحرم، وأما إذا فعل المحظور خارج الحرم فلا يتعين ذبح ذلك بالحرم بل يجوز ولو خارجا عنه غير قتل الصيد فلا يجزيء إلا في الحرم، وإن ذبح هدياً أو أضحية قبل وقته لم يجزئه كالصلاة قبل الوقت وصنع به ما شاء لأنه لحم وعليه بدل الواجب لبقائه في ذمته، وإن فات وقت الذبح قبل ذبح هدي أو أضحية ذبح الواجب قضاء وفعل به كالأداء؛ أي كالمذبوح في وقته المعتبر لأن الذبح أحد مقصودي الهدي والأضحية فلا يسقط بفوات وقته، كما لو ذبحها في الوقت ثم خرج قبل تفرقتها فرقها بعد ذلك، وسقط التطوع بخروج وقت الذبح لأنه سنة فات محلها، فلو ذبح التطوع بعد خروج الوقت وتصدق به كان لحما تصدق به لا أضحية وهدياً. فوائد: الأولى: عقار وقفه مالكه وجعل من ريعه أضحية لشخص أو أشخاص فاشترى الوصي من غلته أضحية ومضت أيام النحر ولم تذبح لعذر أي غيره لزم الوصي ذبحها أي وقت كان، لأنها وجبت بنفس الشراء من غلة العقار الموقوف عليها فتعينت به، أما إن مضت أيام النحر قبل شراء الأضحية فإنه يؤخرها إلى العام المقبل ويذبحها مع أضحية ذلك العام، والله أعلم. الثانية: الوصي على ذبح الأضاحي هل له أن يشتريها قبل عيد يوم النحر أو لا يشتريها إلا وقت الذبح، وهل إن اشتراها قبل وقت الذبح يضمن إن تلفت أم لا؟ فإن ضاعت ووجدها بعد أن مضت أيام النحر ما يفعل بها؟ الظاهر أنه يرجع في ذلك إلى العادة فإن كانت عادة أهل بلده جارية بشراء الأضاحي قبل وقت الذبح فله شراؤها قبله ولا ضمان عليه إن ضاعت لعدم تعديه، وإلا تكن عادة أهل بلده جارية بالشراء قبل وقت الذبح فليس له ذلك، فإن اشتراها في هذه الحال وتلفت فالظاهر أنه يضمن لوجود التعدي منه، وإذا ضاعت ووجدت بعد مضي أيام النحر فإنها تذبح حال وجودها ويفعل بها كما يفعل بها لو ذبحت في وقت الذبح، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 الثالثة: إذا أوصى بنخلة في أضحية كل عام فعام ذلك ثمرة النخلة، فمتى حصلت ثمرة النخلة اشترى بها أضحية أيام النحر، فإن لم تف الغلة بالأضحية أرصدت قيمتها إلى العام المقبل واشترى بها مع ثمن غلة العام المقبل أضحية، وإذا عين إنسان أضحية وضاعت منه ثم وجدها بعد مضي أيام النحر لزمه ذبحها لوجوبها بالتعيين ويفعل بها كما يفعل بها لو ذبحت في أيام النحر، والله أعلم. الرابعة: قال الشيخ عبد الله بن ذهلان: الظاهر أنه إذا أوصى بثلاث أضاح مثلاً تشتري بأربعين مثلا جاز التفاضل في أثمانها ولو كان قد عين كل أضحية لشخص تبرعاً انتهى، وقال أيضاً: إذا لم تكف غلة الموقوف على أضحية أرصدت للسنين المقبلة حتى تكفي ولو أعواماً لأنه العرف انتهى. -- فصل: ويتعين الهدي بقوله: هذا هدي لأنه لفظ يقتضي الإيجاب لوضعه شرعاً فوجب أن يترتب عليه مقتضاه، ويتعين الهدي أيضاً بتقليده النعل والعرى وآذان القرب بنية كونها هدياً أو إشعاره مع نية الهدي لأن الفعل مع النية يقوم مقام اللفظ إذا كان الفعل يدل على المقصود كمن بنى مسجداً وأذِن للناس في الصلاة فيه، ولا يتعين الهدي بشرائه ولا بسوقه مع النية فيهما من غير تقليد أو إشعار لأن الشراء والسَّوق لا يختصان بالهدي، والتعيين إزالة ملك على وجه القربة فلم تؤثر فيه النية المقارنة لهما كالعتق والوقف لا يحصلان بالنية حال الشراء كإخراجه مالاً للصدقة به فلا يلزمه التصدق به، وقال أبو حنيفة: يجب بالشراء مع النية، وتعيين الأضحية بقوله: هذه أضحية، قال الشيخ مرعي في الغاية لا إن قاله نحو متلاعب ويديّن انتهى فتصير واجبة بقوله: هذه أضحية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 كما يعتق العبد بقول سيده: هذا حر لوضع الصيغة لذلك شرعا، ويتعين كل من الهدي والأضحية بقوله: هذه لله أو هذه صدقة لأن هذه الصيغ خبر أربد به الإنشاء كصيغ العقود. قال في الموجز والتبصرة إذا أوجبه بلفظ الذبح نحو: لله على ذبحها، لزمه تفريقها على الفقراء وهو معنى قوله في عيون المسائل لو قال: لله علي ذبح هذه الشاة ثم أتلفها ضمنها لبقاء المستحق لها انتهى، والمستحق لها هم الفقراء، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أنها تتعين بالشراء مع النية واختاره شيخ الإسلام، وهو قول مالك قال: إذا اشتراها بنية الأضحية وجبت كالهدي بالإشعار. فائدة: اعترض المحب بن نصر الله في حواشي المحرر على قول الأصحاب: ويتعين هدي: بهذا هدي إلى آخره بأن الهدي منه واجب وتطوع وليس في هذا اللفظ ما يقتضي الوجوب، إذ يجوز أن يريد هذا هدي تطوعت به أو تطوع به، ولو كانت هذه الصيغة للوجوب لم يكن لهدي التطوع صيغة ويلزم أنه إذا قال هذا المال صدقة أنه يلزمه كما لو قال: لله علي أن أتصدق به انتهى كلام ابن نصر الله البغدادي تلميذ زين الدين بن رجب، قال الشيخ منصور في حاشيته على المنتهى: ويجاب بأن هذه الصيغة للإنشاء، والتطوع لا يحتاج لإنشاء انتهى، قال الشيخ محمد الخلوتي ابن أخت الشيخ منصور في حاشيته على المنتهى: هذا الجواب فيه تسليم أن هذه الصيغة نص في الوجوب ولِمَ لا يجوز أن يكون المراد بقولهم يتعين يتميز بدليل أنهم عطفوا على الهدي الأضحية مع أنها سُنة عندنا معاشر الحنابلة لا واجبة، ومعنى الكلام أنه يتميز الهدي عن غيره والأضحية عن غيرها بقوله: هذا هدي أو هذه أضحية من الصيغ القولية أو بالإشعار ونحوه من القرائن الفعلية، ولو كان المراد بقولهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 يتعين يجب كما فهم ابن نصر الله لاقتضى إيجاب الأضحية إلا أن يلتزم أن الأضحية في الأصل سُنة وأنها بمجرد قوله هذه أضحية تصير واجبة، وفيه نظر انتهى كلام الخلوتي. قلت: ظاهر كلام الأصحاب بل صريحة أنهم أرادوا بقولهم ويتعين هدي إلى آخره الوجوب. قال في المغني: ويحصل الإيجاب بقوله هذا هدي أو بتقليده أو إشعاره ناوياً به الهدي إلى أن قال: الحال الثاني أن يوجب بلسانه، فيقول هذا هدي أو يقلده أو يشعره ينوي بذلك إهداءه فيصير واجباً معيناً يتعلق الوجوب بعينه دون ذمة صاحبه ويصير في يد صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وإيصاله إلى محله، فإن تلف بغير تفريط منه أو سرق أو ضل لم يلزمه شيء لأنه لم يجب في الذمة، وإنما تعلق الحق بالعين فسقط بتلفها كالوديعة، فأما إن أتلفه أو تلف بتفريطه فعليه ضمانه لأنه أتلف واجباً لغيره فضمنه كالوديعة انتهى ملخصاً، قال في الشرح الكبير: وكذلك الأضحية تتعين بقوله هذه أضحية فتصير واجبة بذلك انتهى، وقال في الشرح أيضاً: فإن ذبحها قبل وقتها لم تجزه وعليه بدلها إن كانت واجبة بنذر أو تعيين انتهى. قال الخرقي وإيجابها أن يقول هذه أضحية. قال في الكافي: وإن قلده أو أشعره وجب بذلك وإن نذره أو قال هذا هدي أو لله وجب، وقال ولا يزول ملكه عن الهدي والأضحية في إيجابهما انتهى. فعباراتهم صريحة في أن المراد بقولهم ويتعين الوجوب، ففي تنظير الخلوتي نظر واضح لأن كلام الأصحاب ظاهر بل صريح في أن الهدي والأضحية يجبان بقول المهدي والمضحي هذا هدي وهذه أضحية، وأما ما بحثه المحب بن نصر الله من أن هذه الصيغة لو كانت للوجوب لم يكن لهدي التطوع صيغة، فقد أجاب عنه الشيخ منصور بأن هذه الصيغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 للإنشاء يعني لإنشاء الوجوب، والتطوع لا يحتاج لإنشاء، وهو جواب سديد مفيد، والله أعلم. فائدة: قال الشيخ سليمان بن إبراهيم الفداغي في مجموعه المسمى (تحفة الطالب) الأضحية سُنة مؤكدة ولا تجب إلا بنذر أو تعيين، فإذا قال هذه أضحية تعينت ووجبت. ثم التعيين الموجب، إما مطلق كأن يقول هذه أصحية ولم يقيدها بعام بعينه فيجب ذبحها بأي عام ما ويتعين ذبحها في أيام النحر فقط فإذا فات عام أرصدها أو باعها وأرصد ثمنها إلى عام آخر فيذبحها في أيام النحر، وإما مقيد كأن يقول هذه أضحية في هذا العام فيذبحها فيه في أيام النحر وجوبا، فإن فاتت أيام النحر ولم يذبحها لعذر أو لا ذبحها متى شاء أي وقت شاء من أيام السنة، يوم نحر أو غيره لفوات وقتها المتعين لذبحها، وهو معنى قولهم: فإن فات الوقت للذبح قضى الواجب وفعل به كالأداء، وأما صفة التطوع الذي يسقط بخروج الوقت فهو أن ينوي الأضحية بشرائها أو عند شرائها أو حال شرائها أو بسوقها بنية الأضحية من غير تعيين أو يرسلها إلى محل أو يحبسها عنده بنية الأضحية أو يقول عند الشراء أو بعده نريد أن نضحي بهذه، أو نريد هذه أضحية أو ضحايا، فهذا كله يطلق عليه اسم الأضحية، ولا تجب بذلك لأن النية لا تؤثر في نقل المكل كالعتق والوقف بخلاف التعيين باللفظ، وأما ما ذكره في حاشية المنتهى فبحث بحثه المحب بن نصر الله على خلاف ما قرروه في كتبهم، وقد عورض بأن قول المضحي هذه أضحية إنشاء والتطوع لا يحتاج إلى إنشاء والله أعلم انتهى كلام صاحب المجموع المذكور، ولو أوجبها ناقصة نقصاً يمنع الأجزاء كالعوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها لزمه ذبحها كما لو نذره ولم تجزئه عن الأضحية الشرعية لما تقدم من الخبر ولكن يثاب على ما يتصدق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 به منها إلا أنه هاهنا لا يلزمه بدلها لأن الأضحية في الأصل غير واجبة ولم يوجد منه ما يوجبها لأنه إنما أجوب ناقصة لا تجزيء في الأضحية فإن زال عيبها المانع من الإجزاء كبرء المريضة وبرء العرجاء وزوال الهزال أجزأت لعدم المانع والحكم يدور مع علته، ولو عين معلوم العيب عما في ذمته في ذمته من هدي أضحية لزمه ذبحه ولا يجزئه هديا ولا أضحية. قال في المستوعب: وإن حدث بالمعينة أضحية عيبٌ كالعمى والعرج ونحوه أجزأ ذبحها وكانت أضحية انتهى، وإذا تعين الهدي والأضحية لم يزل ملكه عنهما كالعبد المنذور عتقه والمال المنذور الصدقة به، وجاز له نقل الملك في الهد والأضحية المعينين بإبدال وغيره وشراء خير منهما بأن يبيعهما بخير منهما أو بنقد أو غيره ثم يشتري به خيراً منهما نقله الجماعة عن أحمد وهو اختيار الخرقى وبه قال أبو حنيفة ومالك ومحمد بن الحسن لحصول المقصود مع نفع الفقراء بالزيادة وجاز إبدال لحم ما تعين من هدي وأضحية بخير منه لنفع الفقراء، واختار أبو الخطاب أنه لا يجوز إبدالهما وهو مذهب الشافعي وأبي يوسف وأبو ثور. فإن قيل إذا جاز إبدال الهدي والأضحية بخير منهما، فهل العبد المنذور عتقه نذر تبرر يجوز بيعه وشراء خير منه أم لا؟ فالجواب أنه لا يجوز ذلك لأن الحق في العتق للعتيق فإذا أبدل فات غرضه، والحق في الهدي والأضحية للفقراء وإبدالهما بخير منهما أحظ لهم لأنه يحصل معه الغرض وزيادة، والله أعلم. ولا يجوز إبدال ماتعين من هدي أو أضحية أو لحمهما بمثل ذلك ولا بما دونه، إذا لاحظ في ذلك للفقراء، وإن اشترى هدياً أو أضحية وعينها لذلك ثم علم عيبها بعد التعيين ملك الرد واسترجاع الثمن ويشتري به بدلها كما يملك أخذ أرشه وإن أخذ الأرش اشترى به شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة، فإن لم يبلغ تصدق به أو اشترى به لحماً وتصدق به، وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 اشترى هديا أو أضحية وعينها ثم بانت مستحقة بعد التعيين لزمه بدلها نصاً نقله علي بن سعيد قاله في الفروع. قال الشيخ محمد الخلوتي: ينبغي أن تقيد المسألة بالمعين عما في ذمته، أما المعين ابتداءً فالظاهر أنه إذا بان مستحقاً لا يلزمه بدله لكن كلامهم ليس فيه هذا القيد كما لو قال عن عبد غيره: هذا حرٌ، أو عن مال غيره: هذا صدقة، انتهى كلام الخلوتي وهو وجيه، لأن المعين ابتداء إذا تلف بغير تعدّ أو سرق أو ضل ونحوه لا يجب عليه بدله كما يأتي إن شاء الله، والله أعلم. وعلى القول بأنه يلزمه بدلها إذا بانت مستحقة بعد التعيين لا يلزمه بدلها إذا بانت مستحقة قبل التعيين لعدم صحة التعيين إذاً، وإن مات بعد تعيين الهدي أو الأضحية لم يجز بيعها في دينه ولو لم يكن له وفاء إلا منها لتعلق حق الله بها وتعين ذبحها وكما لو كان حياً ولزم الورثة ذبحها ويقومون مقامه في تفرقتها، وكذا في أكل وهدية حيث جازا كسائر الحقوق التي له وعليه، وإن أتلف الأضحية أو الهدي متلفٌ: ربُّها أو غيره وأخذت منه القيمة أو باعها من أجبها ثم اشترى بالقيمة في الأولى أو اشترى بالثمن في الثانية مثلها صارت المشتراة معينة بنفس الشراء كبدل رهن أو وقف أتلف ونحوه لقيام البدل مقام مبدله، ولمن عين هديا أو أضحية الركوب لحاجة فقط بلا ضرر، قال الإمام أحمد لا يركبها إلا عند الضرورة، وهو قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اركبها بالمعروف إذا لجئت إليها حتى تجد ظهرا) . رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ولأنه تعلق بها حق المساكين فلم يجز ركوبها من غير ضرورة كملكهم، فإن احتاج إليه وتضررت بركوبه لم يجز لأن الضرر لا يزال بالضرر، ويضمن نقصها الحاصل بركوبه لأنه تعلق بها حق غيره، قال في الشرح الكبير: فأما ركوبها مع عدم الحاجة ففيه روايتان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 إحداهما لا يجوز لما ذكرنا، والثانية يجوز لما روى أبو هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال اركبها، فقال يا رسول الله إنها بدنة، فقال اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة) متفق عليه انتهى. وإن ولدت التي عينها أضحية ابتداء أو عن واجب في الذمة ذبح ولدها معها سواء عينها حاملاً أو حدث الحمل بعد التعيين، وبهذا قال الشافعي، لأن استحقاق المساكين للولد حكم ثبت بطريق السراية من الأم فيثبت للولد ما يثبت لأمه كولد أم الولد والمدبرة. وولد الهدي بمنزلة أمه أيضاً كولد الأضحية يذبحه مع أمه إن أمكن حمل الولد على ظهرها أو ظهر غيرها أو أمكن سوقه إلى محل ذبح الهدي، وإن لم يمكن حمل الولد ولا سوقه إلى محله ذبح في موضعه كهدي عطب، ولا يشرب من لبن المعينة أضحية أو هديا إلا ما فضل عن ولدها فيجوز شربه لقول علي: لا يحلبها إلا ما فضل عن تيسير ولدها، وبذلك قال الشافعي ولأنه انتفاع لا يضر بها ولا بولدها، والصدقة به أفضل خروجاً من الخلاف. وقال أبو حنيفة: لا يحلبها ويرش على الضرع الماء حتى ينقطع اللبن، فإن احتلبها تصدق به لأن اللبن متولد من الأضحية الواجبة فلم يجز للمضحي الانتفاع به كالولد، وحجتنا ما تقدم عن علي، فإن خالف وحلب من الأضحية أو الهدي ما يضر بولدها أو بها أو ينقص لحمها حرم عليه ذلك وعليه الصدقة به، فإن شرب اللبن ضمنه لتعديه بأخذه، ويباح أن يجز صوفها ووبرها وشعرها لمصلحتها كما لو كانت في زمن تخف بجزه وتسمن به ويتصدق به ندباً؛ وله الانتفاع به لجريانه مجرى جلدها للانتفاع به دواما، وإن كان بقاء الصوف أو الوبر أو الشعر أنفع لها لكونه يقيها الحر والبرد حرم جزه، كما يحرم أخذ بعض أعضائها ولا يعطي الجازر شيئاً منها أجرة، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 لحديث علي، وفيه (وأن لا أعطي الجاز منها شيئا، وقال: نحن نعطيه من عندنا) متفق عليه، ولأن ما يدفعه إلى الجزار عوض عن عمله وجزارته، ولا تجوز المعاوضة بشيء منها، ولا فرق في ذلك بين ما عينه ابتداء وبين ما عينه ابتداء وبين ما عينه عن الواجب في ذمته، فأما إن دفع إليه منها هدية أو صدقة فلا بأس لأنه في ذلك كغيره بل هو أولى لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها، وله أن ينتفع بجلدها وجلها. قال في الشارح الكبير: لا خلاف في جواز الانتفاع بجلودها وجلالها لأن الجلد جزء منها فجاز للمضحي الانتفاع به كاللحم، وكان علقمة ومسروق يدبغان جلد أضحيتهما ويصليان عليه. ويستحب أن يتصدق بالجلد والجل، ويحرم بيع شيء من الذبيحة هدياً كانت أو أضحية ولو كانت تطوعاً لأنها تعينت بالذبح كما يحرم بيع الجلد والجلّ لحديث علي (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدنه وأن أقسم جلودها وجلالها وأن لا أعطي الجازر منها شيئاً وقال: نحن نعطيه من عندنا) متفق عليه. قال البخاري في صحيحه: باب الجلال للبدن قال في فتح الباري: الجلال بكسر الجيم وتخفيف اللام جمع جل بضم الجيم: وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه انتهى. قال في الشرح الكبير: ورخص الحسن والنخعي في الجلد أن يبيعه ويشتري به الغربال والمنخل وآلة البيت، وروي نحو ذلك عن الأوزاعي، لأن ينتفع هو وغيره فجرى مجرى تفريق لحما. وقال أبو حنيفة: يبيع ما شاء منها ويتصدق بثمنه. وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه يبيع الجلد ويتصدق بثمنه، وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحق انتهى. قال ابن رجب في القواعد: لو أبدل جلود الأضاحي بما ينتفع به في البيت من آلاته جاز، نص عليه لأن ذلك يقوم مقام الانتفاع بالجدل نفسه في متاع البيت انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 مسائل: المسألة الأولى: قال الشيخ عبد الله بن ذهلان: لا يجوز بيع جلد الأضحية على الصحيح من المذهب، ودبغه بجزء منه أو بصوفه صحيح، وإن اشترى جزء الدباغ صح، وإن كان المدبوغ جلدين وهما أضحيتان لواحد فاقتسم الجلدين هو والدباغ جاز، وإن كان المدبوغ جلداً جيداً وأعطاه الدباغ جلداً رديناً عن نصفه ففيه الخلاف الذي في بيع كله انتهى. المسألة الثانية: إذا كان لإنسان وقف في أضاحي وأوصى عليه إنساناً يتولى قبض ريعه ويشتري بقيمته أضاحي وأذن الموصي للوصي في الأكل من الأضاحي التي ولاه عليها جاز ذلك وصرح ابن عبد الهادي بجواز أكل الوصي منها كغيره، أما إذا قال الموصي لوصيه في الأضحية لك جلدها ونحوه على سبيل الوصية له بذلك أو على طريق العوض فالظاهر عدم جواز ذلك، وأما إذا قال أذنت لكل في الأكل من لحمها فلا مانع منه. قال الشيخ عبد الله بن ذهلان يجوز للوصي على الأضحية الأكل منها لأنه العرف، وإذا جعل الموصي أنها على يد واحد من ورثته أو غيره فقد بَره بذلك انتهى. المسألة الثالثة: جلد الأضحية وجلها. ذكر العلماء أنه ينتفع بهما أو يتصدق بهما فهل تختص الصدقة بهما على الفقير والمسكين، أم يصح إعطاؤهما لغني هدية أو صدقة؟ الجواب: أما جلد الأضحية وجلها وغير ذلك فإذا قيدوا، أي العلماء، بذكر الصدقة لم ين مصرف الصدقة إلا للفقراء أو المساكين في الغالب من كلامهم، لأن تعبيرهم لغير الفقير والمسكن بالهبة والهدية ونحوهما قاله الشيخ سليمان بن علي مجيباً به الشيخ محمد بن عبد ابن إسماعيل. المسألة الرابعة: إذا دفعت جلد الأضحية لقريب أو صديق لي غني على طريق الإباحة والانتفاع لا على طريق التمليك، فهل يصح الدفع إليه على هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 المنوال وينتفع به كما انتفع به أنا، ولا يصح له بيعه لأني لم أدفعه له إلا لينتفع به أم لا يصح دفعه له مطلقاً؟ الجواب: أما جلد الأضحية فانتفاع القريب ونحوه به مع غناه جائز لكون الدافع أقامه مقامه فله أن ينتفع به كما تنتفع به، ويمنع مما أنت ممنوع منه كالبيع ونحوه من المعاوضات والله أعلم، قاله الشيخ سليمان بن علي مجيباً به الشيخ محمد بن عبد الله بن إسماعيل. المسألة الخامسة: إذا أوصى إنسان بأضحية في غلة عقار فالظاهر أنها تكون متوسطة إذا كان الموصي من أهل المروءة لأنه المعروف منه في حياته بخلاف ما إذا لم يعلم ذلك منه فإنها تكون بأدون مجزيء، قال الشيخ عبد الله بن ذهلان، قال الشيخ سلميان بن علي: إذا أوصى بأضحية في غلة عقار مثلاً وأطلق فإنه لا يلزم فيها إلا قدر المجزيء لا سيما إذا كان في الورثة قاصر فلا يجوز أعلى من القدر المجزيء وإن كانت العادة جارية بخلاف ذلك والله أعلم. -- فصل: وإن عين هدياً أو أضحية فسرق بعد الذبح من غير تفريط فلا شيء عليه وكذا إن عينه عن واجب في الذمة ولو كان وجوبه في الذمة بالنذر بأن نذر هدياً أو أضحية ثم عين عنه ما يجزيء ثم ذبحه فسرق فلا شيء عليه لأنه أمانة في يده فلا يضمنه بتلفه بلا تعد ولا تفريط كالوديعة، وإن لم يعين ما ذبحه عن واجب في ذمته وسرق ضمن ما في ذمته لعدم تميزه عن ماله. قال في الشرح الكبير: فأما إن ساق الهدي ينوي به الواجب الذي في ذمته ولم يعينه بالقول فهذا لا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى أهله، وله التصرف فيه بما شاء من بيع وهبة وأكل وغير ذلك لأنه لم يتعلق به حق لغيره، وله نماؤه وإن عطب، تلف من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 ماله وإن تعيب لم يجزئه ذبحه وعليه الهدي الذي كان واجباً ولا يبرأ إلا بإيصاله إلى مستحقه بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه يقصد دفعه إليه فتلف قبل أن يوصله إليه ومتى عينه بالقول تعين فإن ذبحه فسرق أو عطب فلا شيء عليه، قال أحمد رحمه الله: إذا نحر فلم يطعمه حتى سرق لا شيء عليه فإنه إذا نحر فقد فرغ، وبهذا قال الثوري وابن القاسم صاحب مالك وأصحاب الرأي، وقال الشافعي عليه الإعادة لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه فأشبه ما لو لم يذبحه. ولنا أنه أدى الواجب عليه فبرأ منه كما لو فرقه، ودليل أنه أدى الواجب أنه لم يبق إلا التفرقة وليست واجبة لأنه لو خلى بينه وبين الفقراء أجزأه، ولذلك لما نحر النبي صلى الله عليه وسلم البدن قال: (من شاء اقتطع) انتهى، وان تلفت المعينة ابتداء هدياً كانت أو أضحية ولو قبل الذبح أو سرقت قبل الذبح أو ضلت فلا بدل عليه إن لم يفرط لأنه أمين، وإن عين عن واجب في الذمة ما يجزيء فيه كالمتمتع يعين دم التمتع أو عن هدي نذره في ذمته وتعيّب ما عينه عن ذلك أو تلف أو ضل أو عطب أو سرق قبل الذبح ونحوه، كما لو غصب لم يجزئه لأن الذمة لم تبرأ من الواجب بمجرد التعيين عنه كالدين يضمنه ضامن أو يرهن به رهناً فإنه يتعلق الحق بالضامن والرهن مع بقائه في ذمة المدين، فمتى تعذر استيفاؤه من الضامن أو تلف الرهن بقي الحق في الذمة بحاله ولزمه بدل ما تعيب أو تلف أو ضل أو عطب أو سرق قبل الذبح ونحوه إذا كان عيَّنه عن واجب في ذمته وإن كان أفضل مما في الذمة إن كان تلفه بتفريطه لأن الواجب تعلق بما عيَّنه عما في الذمة وهو أزيد فيلزمه مثله وهو أزيد مما في الذمة كما إذا عين عن دم التمتع بقرة مثلاً فتيعبت بفعله أو تفريطه أو سرقت أو ضلت أو غصبت فيلزمه مثله ولو زاد عما في الذمة، قال في الشرح الكبير: وإن عين عما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 ذمته صحيحاً فهلك أو تعيب بغير تفريطه لم يلزمه أكثر مما كان واجباً في الذمة لأن الزائد لم يجب في الذمة وإنما تعلق بالعين فسقط بتلفها كأصل الهدي إذا لم يجب بغير التعيين، وإذا أتلفه أو تلف بتفريطه مِثلُ المعين إن كان زائداً عما في الذمة لأن الزائد تعلق به حق الله تعالى، فإذا فوته لزمه ضمانه كالهدي المعين ابتداء انتهى. ولو ضحى اثنان كل بأضحية الآخر عن نفسه غلطاً كفتهما ولا ضمان على واحد منهما للآخر استحساناً لإذن الشرع فيه، ولو فرق كل منهما لحم ما ذبحه وإن بقي لحم ما ذبحه كل منهما تراداه، لأن كلا منهما أمكنه أن يفرق لحم أضحيته بنفسه فكان أولى به، وإن ذبح المعينة هدياً أو أضحية ذابح في وقتها بغير إذن ربها أو وليه ونواها عن ربها أو أطلق أجزأت عن ربها ولا ضمان على الذابح وبهذا قال أبو حنيفة؛ لأن الذبح فعل لا يفتقر إلى النية فإذا فعله غير صاحبه أجزأ عن صاحبه كغسل ثوبه من النجاسة، ولأنها وقعت موقعها بذبحها في وقتها فلم يضمن ذابحها، حيث لم يكن متعدياً، ولأن الذبح إراقة دم تعين إراقته لحق الله تعالى فلم يضمن مريقه كقاتل المرتد بغير إذن الإمام، وإن نوى الذابح الأضحية عن نفسه مع علمه أنها أضحية الغير لم تجز عن مالكها ولا عن ذابحها بطريق الأولى سواء فرق الذابح اللحم أو لا، ويضمن الذابح قيمتها صحيحة إن فرق لحمها لأنه غاصب متلف عدوانا، ويضمن أرش الذبح وهو ما بين قيمتها صحيحة ومذبوحة إن لم يفرقه لتنقيصه مال الغير عدوانا، وإن ذبحها عن نفسه ولم يعلم أنها أضحية الغير لاشتباهها عليه مثلا أجزأت عن ربها إن لم يفرق الذابح لحمها لما تقدم من أن الذبح لا يفتقر إلى نية كإزالة النجاسة، فإن فرق اللحم إذاً ضمن لأن الإتلاف يستوي فيه العمد وغيره، وإن أتلف المعينة من هدي أو أضحية صاحبها ضمنها بقيمتها يوم التلف في محله كسائر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 المتقومات تصرف قيمتها في مثلها لتعينها كإتلاف أجنبي غير مالكها لها لبقاء المستحق لها، وهم الفقراء بخلاف كن نذر عتقه نذر تبرر فإذا أتلفه ربه أو غيره فلا يلزمه صرف قيمته في مثله لأن القصد من العتق تكميل الأحكام وهو حق للرقيق وقد هلك، وإن فضل من قيمة الأضحية المعينة أو الهدي المعين شيء عن شراء المثل، بأن كان المتلف شاة مثلاً تساوي عشرة ورخصت الغنم بحيث يساوي مثلها خمسة اشترى بالفاضل عن شراء المثل شاة إن اتسع لذلك أو سُبع بدنة أو سبع بقرة لما فيه من إراقة الدم المقصود في ذلك اليوم، وإن شاء اشترى بالعشرة كلها شاة، وإن لم يتسع الفاضل لثمن شاة، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة اشترى به لحما فتصدق به أو يتصدق بالفضل فوات إراقة الدم، وإن فقأ عين الحيوان المعين هدياً أو أضحية مالكه أو غيره تصدق بالأرض أو بلحم يشتريه به إن لم يتسع لشاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة، ولو مرضت معينة فخاف صاحبها عليها موتاً فذبحها فعليه بدلها لإتلافه إياها، ولو تركها بلا ذبح فماتت فلا شيء عليه نصاً لأنها كالوديعة عنده ولم يفرط. قال الشيخ محمد الخلوتي: يطلب الفرق بينها وبين الهدي إذا عطب، وكأن الفرق أن الإتلاف هاهنا بفعله بخلاف ما إذا عطب الهدي، وفي كلام الشارح إشارة إلى ذلك، وقوله ولو تركها فماتت فلا شيء عليه لأن الموت ليس من صنعه ولعله ما لم يحصل منه سبب ظاهري كترك سقيها أو علفها، وقد يقال لا يحتاج إلى ذلك القيد لأن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلية، والمعنى وإن ماتت بسبب المرض أي لا بسبب غيره كترك السقي أو العلف مما هو من فعله، ويدل على إرادة ذلك مقابلة المصنف له فيما يأتي بقوله: وإن تلف أو عاب بفعله، إلخ فتدبر، انتهى. كلام الخلوتي: وإن عطب في الطريق قبل محله أو عطب في الحرم هدي واجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 أو تطوع بأنه ينويه هدياً ولا يوجبه بلسانه ولا بتقليده وإشعاره وتدوم نيته فيه قبل ذبحه أو عجز الهدي عن المشي إلى محله لزمه تذكيته موضعة مجزئاً. ويستحب له أن يصبغ نعل الهدي التي في عنقه في دمه ثم يضرب بها صفحته ليعرفه الفقراء فيأخذوه، وبهذا قال الشافعي: ويحرم عليه وعلى خاصة رفقته ولو كانوا فقراء الأكل من الهدي العاطب ولو تطوعا ما لم يبلغ محله، وقال مالك: يباح لرفقته ولسائر الناس الأكل غير صاحبه أو سائقه ولا يأمر أحداً يأكل منه فإن أكل أو أمر من أكل أو ادخر شيئاً من لحمه ضمنه، وحجة الحنابلة ومن وافقهم ما روى ابن عباس أن ذؤيباً أبا قبيصة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول: (إن عطب منها شيء فخشيت عليها موتاً فأنحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك) . رواه أحمد ومسلم وابن ماجة ولا يصح قياس رفقته على غيرهم لأن الإنسان يشفق على فقته ويحب التوسعة عليهم وربما وسع عليهم من مؤنته، وإنما منع السائق ورفقته من الأكل لئلا يقصر في حفظها فيعطبها ليأكل هو ورفقته منها فتلحقه التهمة لنفسه ورفقته فحرموها لذلك، فإن أكل السائق من الهدي العاطب أو باع منه لأحد أو أطعم غنياً أو أطعم رفقته ضمنه لتعديه بمثله لحماً لأنه مثلي، وإن أطعم منه فقيراً أو أمره بالأكل منه فلا ضمان لأنه أوصله إلى مستحقه كما لو فعله بعد بلوغه محله، وإن أتلف الهدي أو تلف الهدي بتفريطه أو تعديه أو خاف عطبه فلم ينحره حتى هلك فعليه ضمانه كسائر الودائع إذا فرط فيها أو تعدى يوصل بدل الهدي إلى فقراء الحرم لأنهم مستحقوه وإن فسخ في التطوع نيته قبل ذبحه صنع به ما شاء من بيع وأكل وإطعام لرفقته لأنه لحم. قال في الشرح الكبير: وجملة ذلك أن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 تطوع بهدي غير واجب لم يخل من حالين أحدهما أن ينويه هديا ولا يوجبه بلسانه ولا تقليده وإشعاره فهذا لا يلزمه إمضاؤه، وله أولاده ونماؤه والرجوع فيه متى شاء ما لم يذبحه لأنه نوى الصدقة بشيء من ماله أشبه ما لو نوى الصدقة بدرهم. الثاني: أن يوجبه بلسانه أو يقلده ويشعره مع النية فيصير واجباً معيناً يتعلق الوجوب بعينه دون ذمة صاحبه ويكون في يد صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وإيصاله إلى محله فإن تلف بغير تفريط منه أو سرق أو ضل فلا ضمان عليه كالوديعة لأن الحق إنا تعلق بالعين فسقط بتلفها، وقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أهدى تطوعاً ثم ضلت فليس عليه البدل إلا أن يشاء فإن كان نذراً فعليه البدل) فأما أن أتلفها أو تلفت بتفريطه فعليه ضمانه لأنه أتلف واجباً لغيره فضمنه كالوديعة انتهى، وإن ساقه عن واجب في ذمته لتمتع أو قران أو فعل محظور من محظورات الإحرام أو ترك واجب من واجبات الحج ونحوه ولم يعينه بقوله: هذا هدي لم يتعين بالسوق مع النية لأن السوق لا يختص بالهدي، والنية وحدها ضعيفة لا يحصل التعيين بها، وله التصرف فيه بما شاء من بيع وأكل وغيره، فإن تصرف فيه لزمه إخراج ما في ذمته في محله لعدم سقوطه، فإن بلغ الهدي الذي ساقه عما في ذمته من الواجب محله سالماً فنحره في محله أجزأ عما عينه عنه لصلاحيته لذلك وعدم المانع. وإن عطب ما ساقه عن واجب في ذمته دو محله صنع به ما شاء من أكل وغيره لأنه لحم وعليه إخراج ما في ذمته في محله لعدم سقوطه، وإن تعيب الهدي أو الأضحية بغير فعله ذبح ما ذكر من الهدي أو الأضحية وأجزأه إن كان واجباً بنفس التعيين بأن قال ابتداء. هذا هدي أو أضحية ولم يكن عن شيء في ذمته لما روى أبو سعيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 الخدري قال: اشتريت كبشاً أضحى به فعدا الذئب فأخذ الألية قال: فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ضحِّ به) . رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي، وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جداً، وفيه أيضاً محمد برن قرظة قال في التخليص غير معروف، وقال في التقريب مجهول، قال المجد: وهذا الحديث دليل على أن العيب الحادث بعد التعيين لا يضر انتهى، ولأنها أمانة عنده فلم يضمن تعييبها ولم يمنع من الإجزاء، قال في المستوعب وإن حدث بالمعينة أضحية عيب كالعمى والعرج ونحوه أجزأه ذبحها وكانت أضحية انتهى. قال في الشرح الكبير: إذا أوجب أضحية سليمة ثم حدث بها عيب يمنع الإجزاء ذبحها وأجزأته، روى هذا عن عطاء والحسن والنخعي والزهري والثور ومالك والشافعي وإسحاق، وقال أصحاب الرأي: لا تجزيء لأن الأضحية عندهم واجبة فلم يبرأن منها إلا بإراقة دمها سليمة كما لو أجوبها في ذمته ثم عينها فعابت، ثم قال: ولنا ما روى أبو سعيد وذكر حديثه المتقدم انتهى، وإن تعيب الهدي أو الأضحية المعينة بتعديه أو تفريطه فعليه بدله كالوديعة يفرط فيها وبه قال الشافعي: وإن كان واجباً قبل التعيين بأن عينه عن واجب في الذمة كالفدية والمنذور في الذمة وعطب هذا المعين أو تعيب عنده عيباً يمنع الإجزاء لم يجزئه ذبحه عما في الذمة لأن الواجب في ذمته دم صحيح فلا يجزيء عنه دم معيب، والوجوب متعلق بالذمة كالدين به رهن ويتلف لا يسقط بذلك، وعليه بدل ما عينه عن الواجب في ذمته كما لو أتلفه أو تلف بتفريطه ولو كان ما عينه عما في ذمته زائداً كما لو كان الذي في ذمته شاة فعين عنها بدنة أو بقرة ثم تلفت أو تعيبت يلزمه بدنة أو بقرة نظير التي عينها، وإن كان بغير تفريطه، ففي المعنى لا يلزمه أكثر مما كان في ذمته لأن الزيادة وجبت بتعيينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وقد تلفت بغير تفريطه فسقطت كما لو عينه هدياً تطوعاً ثم تلف قاله في القاعدة الحادية والثلاثين ومعناه في الشرح وتقدم الكلام في ذلك أول الفصل فليراجع، وليس لمن نحر بدل ما عطب من أضحية أو هدي أو تعيب أو ضل ونحوه استرجاع عاطب ومعيب وضال وجد ونحوه كمغصوب قدر عليه بعد ذبح بدله إلى ملكه بل يذبحه لما روى عن عائشة أنها أهدت هديين فأضلتهما فبعث إليها ابن الزبير بهديين فنحرتهما ثم عاد الضالة فنحرتهما وقالت: هذه سنة الهدي، رواه الدارقطني، وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه تعلق حق الله تعالى بهما بإيجابهما على نفسه فلم يسقط بذبح بدلهما، قال في المنتهى وشرحه قال أحمد: من ساق هدياً واجباً فعطب أو مات فعليه بدله وإن شاء باعه وإن نحره جاز أكله منه ويطعم منه لأن عليه البدل قاله في المبدع، وليس له أي من نحر بدل ما عطب أو تعيب أو سرق أو ضل ونحوه استرجاع عاطب ومعيب وضال ومسروق وجد ونحوه كمغصوب قدر عليه انتهى كلام المنتهى وشرحه. قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين في حاشية المنتهى وشرحه على هذه العبارة التي سقناها عن المنتهى وشرحه: يطلب الفرق بين ما نص عليه أحمد وما في المتن بعده انتهى كلام الشيخ عبد الله في الحاشية. قلت الفرق بينهما أن ما نص عليه أحمد رحمه الله تعالى هو في الهدي الواجب في ذمته قبل التعيين كفدية التمتع والقران فإنه إذا عطب الهدي أو مات أو ضل أو سرق قبل الذبح لا بعده يلزمه بدله مطلقاً فرَّط أو لم يفرط، ويجوز له بيعه إذا عطب وإن نحره جاز أكله ويطعم منه لأن عليه البدل لا محالة، وما في المتن هو في الهدي الواجب ابتداء من غير أن يكون عن شيء واجب في ذمته بل أوجبه بقوله هذا هدي ونحوه، فإنه إذا عطب أو تلف أو سرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 ولو قبل الذبح أو ضل فإنه لا يلزمه بدله إن لم يتعد فيه أو يفرط، وعليه أن يذبح العاطب موضعه وجوباً وحرم أكله وخاصته منه، فإن أبدله من تلقاء نفسه فليس له استرجاع ما عينه، وأوجبه ابتداء من الهدي العاطب أو المسروق أو الضال إذا وجده بل يلزمه ذبحه لأن الوجوب قد تعلق بعين الهدي المذكور دون ذمة صاحبه، وإذا تعلق الوجوب بعين الهدي لزمه ذبحه إذا قدر عليه، أما ما ذبحه أولاً عن هذا الهدي الواجب بنفس التعيين فإنه يعد منه تبرعاً، والحاصل أن ما في المتن هو في الهدي الواجب ابتداء، وما نص عليه أحمد في الهدي الواجب في الذمة، والفرق بينهما هو ما ذكرته والله أعلم، وإن غصب شاة فذبحها عما في ذمته من دم فدية أو تمتع أو قران أو نذر ونحوه لم يجزئه وإن رضي مالكها، وسواء عوضه عنها أو لم يعوضه. وقال أبو حنيفة: يجزئه إن رضي مالكها، ووجه مأخذنا أن هذا لم يكن قربة في ابتدائه فلم يصر قربة في أثنائه كما لو ذبحها للأكل ثم نواها للتقرب، ولا يبرأ من الهدي الواجب عليه إلا بذبحه أو نحره في وقته ومحله إذا لمقصود إراقة الدم والتوسعة على الفقراء، وإن دفعه إلى الفقراء سليماً فنحروه أجزأ لأنه حصل المقصود بفعلهم فأجزأه، وإن لم ينحروه فعليه أن يسترده منهم وينحره، فإن لم يفعل أو لم يقدر فعليه ضمانه لأنه فوته بتفريطه في دفعه إليهم سليما، ويباح للفقراء الأخذ من الهدي إذا لم يدفعه إليهم بأحد شيئين: أحدهما الإذن فيه لفظاً كقول المالك من شاء اقتطع، والثاني دلالة الحال على الإذن كالتخلية بينهم وبينه لأنه صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدن وقال: من شاء فليقتطع، وقال لسائق البدن (اصبغ نعلها في دمها واضرب به صفحتها) وفيه دليل على اكتفاء الفقراء بذلك من غير لفظ وإلا لم يكن مفيداً، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 -- فصل: سوق الهدي من الحل مسنون، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فساق في حجته مائة بدنة، وكان يبعث بهديه وهو بالمدينة ولا يجب سوق الهدي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر به والأصل عدم الوجوب إلا بالنذر لحديث (من نذر أن يطيع الله فليطعه) ولأنه نذر طاعة فوجب الوفاء به كغيره، ويستحب أن يقف الهدي بعرفة ويجمع فيه بين الحل والحرم، روي استحباب ذلك عن ابن عباس وبه قالت الشافعية وأصحاب الرأي، وكان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما وقف بعرفة. وقال مالك: أحب للقارن يسوق هديه من حيث يُحرم فإن اشتراه من دون ذلك مما يلي مكة بعد أن يقفه بعرفة جاز انتهى، وقال مالك أيضاً في هدي المجامع: إن لم يكن ساقه فليشتره من مكة ثم ليخرجه إلى الحل وليسقه إلى مكة انتهى. وحجة الحنابلة أن المراد من الهدي نحره ونفع المساكين بلحمه وهو لا يتوقف على وقوفه بعرفة ولم يرد بما قالوه دليل يوجبه فبقي على أصله. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكل ما ذبح بمنى وقد سيق من الحل إلى الحرم فإنه هدي سواء كان من الإبل أو البقر أو الغنم ويسمى أيضاً أضحية، بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل فإنه أضحية، وليس بهدي وليس بمنى ما هو أضحية وليس بهدي كما في سائر الأمصار فإذا اشترى الهدي من عرفات وساقه إلى منى فهو هدي باتفاق العلماء، وكذلك إن اشتراه من الحرم فذهب به إلى التنعيم، وأما إذا اشترى الهدي من منى وذبحه ففيه نزاع، فمذهب مالك أنه ليس بهدي وهو منقول عن ابن عمر، ومذهب الثلاثة أنه هدي وهو منقول عن عائشة انتهى كلام شيخ الإسلام وقد تقدم أول الباب. ويسن إشعار البدن والبقر فيشق صفحة سنامها اليمنى أو يشق محله مما لا سنام له من إبل وبقر حتى يسيل الدم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وظاهر كلام المنتهى والإقناع وغيرهما أنه لا يشعر غير السنام، وقال في الكافي: يجوز إشعار غير السنام وذكره في الفصول عن أحمد، والظاهر أن ماله سنامان من الإبل كالبخاتي يكفي الإشعار في واحد منهما لأن المقصود العلامة وقد حصلت والله أعلم. ويسن تقليد إبل وبقر وغنم نعلا أو آذان القرب أو العرى بضم العين جمع عروة لحديث عائشة قالت: (فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها) متفق عليه، وعن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ثم دعا ببدنه فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها بيده) رواه مسلم وقال مالك وأبو حنيفة لا يسن تقليد الغنم لأنه لو كان سنة لنقل كما نقل في الإبل، قلت: قد نقل، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تقليد الغنم فقد قال المجد في المنتقى ما نصه: عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مرة إلى البيت غنماً فقلدها) رواه الجماعة، ففي هذا الحديث الصحيح دليل على سنية ذلك، ونعتذر لأبي حنيفة ومالك أن الحديث لم يبلغهما والله أعلم. وقال أبو حنيفة: الإشعار مثله غير جائز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان، ولأنه إيلام فهو كقطع عضو منه. وقال مالك: إن كانت البقرة ذات سنام فلا بأس بإشعارها وإلا فلا. وحجة الحنابلة نصوص السنة الصحيحة الصريحة وفعل الصحابة رضي الله عنهم، فيجب تقديم ذلك على عموم ما احتجوا به ولأنه إيلام لغرض صحيح فجاز كالكي والوسم والحجامة، وفائدة الإشعار أن لا تختلط بغيرها وأن يتوقاها اللص ولا يحصل ذلك بالتقليد بمفرده لأنه يحتمل أن ينحل ويذهب إذا ثبت هذا فالسنة الإشعار في صحفتها اليمنى كما تقدم، وبه قالت الشافعية. وقالت المالكية وأبو يوسف بل يشعرها في صحفتها اليسرى. وحجتنا حديث ابن عباس وتقدم، ولا يسن إشعار الغنم لأنها ضعيفة ولأن صوفها وشعرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 يستر موضع إشعارها لو أشعرت وإذا كان مسافراً بالهدي وساقه من قبل الميقات استحب له إشعاره وتقليده من الميقات لحديث ابن عباس، وإن بعث بالهدي مع غيره أشعره وقلده من بلده. -- فصل: وإن نذر هديا وأطلق، بأن قال: لله علي هدي ولم يقيده بلفظه ولا بنيته فأقل مجزيء عن نذره شاة جذعُ ضأن أو ثني معز أو سُبع من بدنة أو سُبع من بقرة لحمل المطلق في النذر على المعهود الواجب بأصل الشرع، فإن ذبح بدنة أو بقرة عن النذر المطلق كانت البدنة أو البقرة كلها واجبة لتعينها عما في ذمته بذبحها عنه، وإن نذر بدنة أجزأته بقرة إن أطلق البدنة كما تقدم في الواجب بأصل الشرع، وإلا يطلق البدنة بل نوى من الإبل لزمه ما نواه كما لو نوى كونها من البقر، فإن عين شيئاً بنذره بأن قال هذا هدي أجزأه ما عينه صغيراً كان أو كبيراً من حيوان ولو معيباً أو غير حيوان كدرهم وثوب وعبد وقعار ونحو ذلك لأنه إنما وجب بإيجابه على نفسه ولم يوجب سوى هذا فأجزأه كيف كان. والأفضل كون الهدي من بهيمة الأنعام لفعله صلى الله عليه وسلم، وإن قال: إن لبست ثوباً من غزلك فهو هدي فلبسه وقد ملكه صار هديا واجبا، وعليه إيصال الهدي مطلقاً إلى فقراء الحرم لقوله تعالى: (ثم محلها إلى البيت العتيق) ولأن النذر يحمل على المعهود شرعاً والمعهود في الهدي الواجب بالشرع كهدي المتعة يذبحه بالحرم فكذا يكون المنذور ويبيع غير المنقول كالعقار ويبعث ثمنه إلى الحرم لتعذر إهدائه بعينه فانصرف إلى بلده لما روى عن ابن عمر (أن رجلاً سأله عن امرأة نذرت أن تهدي داراً؟ قال تبيعها وتتصدق بثمنها على فقراء الحرم) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وينبغي أن يكون على قياس غير المنقول صيد البر الوحشي إذا نذره فإنه لو نقله لوجب عليه إطلاقه عند بلوغ الحرم كما تقدم فيبيعه حينئذ ويوصل ثمنه لفقراء الحرم والله أعلم. قال الشيخ مرعي في الغاية: ويتجه في هدي صيد ذَبْحُهُ خارج الحرم إن كان غير مُحرم وبيعه ونقل ثمنه انتهى: أي نقله لفقراء الحرم والله أعلم. وقال ابن عقيل في الفنون: أو يقوّم العقار ويبعث القيمة إلى فقراء الحرم لأن الغرض القيمة التي هي بدله لا نفس البيع انتهى، إلا أن يعين المنذور لموضع سوى الحرم فيلزمه ذبحه في الموضع الذي عينه وتفرقة لحمه على مساكين ذلك الموضع إو إطلاقه لمساكينه ليذبحوه، إلا أن يكون الموضع الذي عينه به صنم أو عيد من أعياد الجاهلية أو شيء من أمور الكفر أو المعاصي كبيوت النار والكنائس والبيع أو به قبر أو حجر أو شجر وأشباه ذلك مما تعظمه المبتدعة فلا يوف بنذره ولو بعد زوال ذلك المانع من تلك البقعة لأن الوفاء به محرم بل الذبح لغير الله من الأشجار والأحجار والأموات ونحوها شرك أكبر، وإن لم يكن بالموضع الذي عينه مانع وجب الوفاء به وذبحه في ذلك الموضع، والدليل على ذلك ما روى أبو داود (أن رجلاً نذر أن ينحر إبلا ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم، وإسناده على شرطهما، وإن فرق أجنبي نذراً من هدي أو أضحية بلا إذن على فقراء الحرم لم يضمن شيئاً لوصول الحق إلى مستحقه ولا مانع من الأجزاء فلا موجب للضمان وكذا تفرقة هدي واجب بغير نذر على مستحقيه لوقوعه موقعه والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 -- فصل: ويستحب أن يأكل من هدي تطوع غير عاطب لما تقدم ويهدي ويتصدق أثلاثاً لقوله تعالى: (فكلوا منها) وأقل أحوال الأمر في ذلك الاستحباب، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من بدنه، وقال جابر (كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث رخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا وتزودوا فأكلنا وتزودنا) . رواه البخاري، ولأنه نسك فاستحب الأكل منه كأضحية وله التزود والأكل كثيراً لحديث جابر، وتجزئه الصدقة باليسير منه، فإن أكل الذبيحة من هدي التطوع كلها ضمن المشروع للصدقة منها كأضحية أكلها كلها فإنه يضمن أقل ما يقع عليه الاسم كما يأتي إن شاء الله تعالى. قال في الإقناع وشرحه: ولا يأكل من كل واجب من الهدايا ولو كان إيجابه بالنذر أو بالتعيين إلا من دم متعة وقران نص على ذلك لأن سببهما غير محظور فأشبها هدي التطوع، ولأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تمتعن معه في حجة الوداع وأدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارنة ثم ذبح عنهن النبي صلى الله عليه وسلم البقر فأكلن من لحومها. قال الإمام أحمد: قد أكل من البقر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة خاصة انتهى. وأما الأضحية فسيأتي أنه يسن الأكل منها والتفرقة ولو كانت واجبة والله أعلم. وقال في المنتهى وشرحه: ولا يأكل من هدي واجب ولو كان إيجابه بنذر أو تعيين غير دم متعة وقران نصا لأن سببهما غير محظور فأشبها هدي التطوع انتهى. ورأيت على هامش المنتهى وشرحه من خط الشيخ عبد الله أبي بطين ما نصه: قوله أو تعيين ظاهره أنه مطلقاً ولعل ذلك فيما كان واجباً قبل التعيين ثم عينه لا ما عين ابتداء لما في المغني والشرح من أنه يستحب أن يأكل من هدي التطوع وسواء في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 ذلك ما أوجبه بالتعيين من غير أن يكون واجباً في ذمته وما نحره تطوعاً من غير أن يوجبه ونقل ذلك صاحب الفروع والزركشي مقتصرين على ذلك. قال في الشرح: ويستحب أن يأكل من هديه ولو أوجبه بالتعيين، قال في الفروع: ويستحب الأكل من هدية التبرع، وذكر الشيخ يعني الموفق ومما عينه لا عما في ذمته، ثم قال الشيخ عبد الله: قلت: بل كلام المتن يعني المنتهى صريح في المنع من الأكل كما هو صريح الإقناع والغاية انتهى. ومراده بقوله صريح في المنع من الأكل: أي من الأكل مما أوجبه ابتداء بالتعيين كما منع من الأكل مما عينه عن واجب في ذمته أو عينه عن نذر والله أعلم. قال في المغني: فأما هدي التطوع وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته وما نحره تطوعاً من غير أن يوجبه فيستحب أن يأكل منه لقوله تعالى: (فكلوا منها) وأقل أحوال الأمر الاستحباب. قال في الشرح الكبير: يستحب أن يأكل من هديه وسواء في ذلك ما أوجبه بالتعيين من غير أن يكون واجباً في ذمته وما نحره تطوعا من غير أن يوجبه لقوله تعالى: (فكلوا منها) وأقل أحوال الأمر الاستحباب انتهى. تنبيه: عبارة المنتهى والإقناع والغاية تقتضي منعه من الأكل من الهدي الذي أوجبه بالتعيين ابتداء، وأما عبارة المغني والشرح فصريحة في استحباب الأكل من ذلك، ولعل ما ذهب إليه الموفق والشارح أولى لأن ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته لا يخرج عن كونه هدي تطوع؛ أما ما كان معينا عن واجب في الذمة كالدم عن فعل محظور من محظورات الحج أو الدم عن ترك واجب من واجبات الحج أو عن نذر فإنه ممنوع من الأكل منه عند جميعهم، كما أن أكله من دم التمتع والقران وهدي التطوع غير العاطب الذي لم يوجبه مستحب عند جمعيهم، هذا ما ظهر لي في هذه المسألة والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 وما جاز له أكله كأكثر هدي التطوع فله هديته لغيره لقيام المهدي له مقامه وما لا يملك أكله كالهدي الواجب غير دم تمتع وقران وغير ما أوجبه بالتعيين ابتداء على ما ذهب إليه الموفق والشارح فلا يملك هديته بل يجب صرفه لفقراء الحرم لتعلق حقهم، فإن أكل مما لا يجوز له الأكل منه أو أهدى منه ضمنه بمثله لحماً لأن الجميع مضمون عليه بمثله فكذلك أبعاضه، وكذا إن أعطى الجزار عن أجرته شيئاً منها، كما لو باع شيئاً من الهدي أو أتلفه فإنه يضمنه بمثله لحماً، قال في المنتهى وشرحه: ويضمنه أي الهدي والأضحية أجنبي أتلفه بقيمته كسائر المتقومات. وأما اللحم بعد الذبح فينبغي ضمانه بالمثل لأنه مثلي انتهى. وفي الفصول: لو منعه الفقراء حتى أنتن فعليه قيمته: أي إن لم يبق فيه نفع قال في المنتهى وشرحه: وإن منع الفقراء منه أي مما لا يملك أكله حتى أنتن ضمن نقصه إن انتفع به. إذاً فيغرم أرشه وإلا ينتفع به فإنه يضمنه بقيمته كإعدامه، قال في الإنصاف: ويتوجه أن يضمن بمثله انتهى كلام المنتهى وشرحه. قال الشيح منصور في حاشية المنتهى: ضمانه بالمثل مقتضى القواعد. قلت: وهو كما قال لأن اللحم من الموزونات فهو مثلي وضمانه بالمثل والله أعلم. -- فصل: والأضحية مشروعة إجماعاً لقوله تعالى: (فَصَلِّ لربكَ وانحر) . قال جماعة من المفسرين: المراد بذلك التضحية بعد صلاة العيد، ولما روى (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أمحلين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما) متفق عليه وهي سنة مؤكدة لمسلم تام الملك. وهو الحر والمبعض فيما ملكه بجزئه الحر أو مكاتب بإذن سيده لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث كتبت عليّ وهن لكم تطوع: الوتر والنحر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وركعتا الفجر) رواه الدارقطني، وقوله صلى الله عليه وسلم (من أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً) . رواه مسلم فعلقه على الإرادة والواجب لا يعلق عليها، ولأن الأضحية ذبيحة لا يجب تفريق لحمها فلم تكن واجبة كالعقيقة. قال في شرح الإقناع: وأما حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا) وحديث (يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة) فقد ضعفه أصحاب الحديث، ثم يحمل على تأكد الاستحباب جمعاً بين الأحاديث كحديث (غسل الجمعة واجب على كل محتلم، ومن أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا) انتهى. قلت: حديث أبي هريرة هذا رواه أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم، قال ابن حجر في بلوغ المرام: ورجع الأئمة غيره وقفه، وقال في فتح الباري: رجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره انتهى. وحديث (يا أيها الناس) هو من رواية مخنف بن سليم ولفظه (كنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول: يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية) . رواه أحمد وابن ماجة والترمذي، وقال هذا حديث حسن غريب، وأخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وفي إسناده أبو رملة، واسمه عامر. قال الخطابي: هو مجهول والحديث ضعيف المخرج، وقال أبو بكر المعافري: حديث مخنف بن سليم ضعيف لا يحتج به. والعتيرة: ذبيحة كانوا في الجاهلية يذبحونها في العشر الأول من رجب ويسمونها الرجيبة كما وقع في الحديث، وفي الحدي (لا فرع ولا عتيرة في الإسلام) متفق عليه. والفرع: نحر أول ولد الناقة، والعتيرة: ذبيحة رجب. وممن قال بأن الأضحية سنة مؤكدة أبو بكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وعمر وابن مسعود رضي الله عنهم، وبه قال سويد بن غفلة وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر، ولا تسن الأضحية لمكاتب بغير إذن سيده لنقصان ملكه ولأنه ممنوع من التبرع لحق سيده. ويكره ترك الأضحية لقادر عليها لحديث أبي هريرة السابق، ومن عدم ما يضحى به اقترض وضحى مع القدرة على الوفاء، ذكره شيح الإسلام في الاختيارات وهو قياس ما ذكروه في العقيقة، وليست الأضحية واجبة إلا أن ينذرها فتجب بالنذر لحديث (من نذر أن يطيع الله فليطعه) وكانت الأضحية واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث ابن عباس السابق وعن الإمام أحمد رواية بوجوب الأضحية مع الغنى، وهو قول ربيعة ومالك والثوري والليث والأوزاعي وأبي حنيفة لحديث أبي هريرة المتقدم، والمذهب عدم الوجوب كما تقدم. وذبح الأضحية ولو عن ميت أفضل من الصدقة بثمنها وكذا الهدي، صرح به ابن القيم رحمه الله في تحفة الودود وابن نصر الله في حواشيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى والخلفاء بعده، ولو كانت الصدقة بالثمن أفضل لم يعدلوا عنه، ولحديث عائشة مرفوعا (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله تعالى من إهراقه دماً وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا) . رواه ابن ماجة والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب، ولأن إيثار الصدقة على الأضحية يفضي إلى ترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الاختيارات: والتضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها انتهى، قال في الشرح الكبير: وما روي عن عائشة من قولها: لأن التصدق بخاتمي هذا أحب إلي من أن أهدى إلى البيت ألفاً، فهو في الهدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 لا في الأضحية انتهى، قال الشيخ منصور: وفيه نظر إذ الهدي كالأضحية كما تقدم عن ابن القيم وغيره فالأولى أن يجاب عن الأثر بأن الموقوف لا يعارض المرفوع انتهى. قلت: وما قاله منصور جواب وجيه سديد جداً والله أعلم. ويعمل بالأضحية عن ميت كأضحية عن حي من أكل وصدقة وهدية. قال الفتوحي في شرح المنتهى: والتضحية عن ميت أفضل منها عن حي لعجزه واحتياجه للثواب، ولا يضحي عما في البطن لأنه لا تثبت له أحكام الدنيا إلا في الإرث والوصية، لكن يقال قد ذكر الفقهاء أنه يسن إخراج الفطرة عنه إلا أن يقال ذلك لفعل عثمان، ولأن القصد من زكاة الفطر الطهرة وما هنا على الأصل، ومن بعضه حر إذا ملك بجزئه الحر ما يضحي به فله أن يضحي بغير إذن سيده لأن ملكه تام على ما ملكه بجزئه الحر. والسنة أن يأكل ثلث الأضحية ويهدي ثلثها ولو لغني ويتصدق بثلثها، ولا يجب الأكل والإهداء (لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدن وقال: من شاء فليقتطع ولم يأكل منهن شيئاً) ولأنها ذبيحة يتقرب بها إلى الله فلم يجب الأكل منها كالعقيقة فيكون الأمر للاستحباب: ويجوز الإهداء من الأضحية لكافر إن كانت تطوعاً، قال الإمام أحمد رحمه الله: نحن نذهب إلى حديث عبد الله: يأكل هو الثلث ويطعم من أراد الثلث ويتصدق بالثلث على المساكين. قال علقمة بعث معي عبد الله بهدية فأمرني أن آكل ثلثاً وأن أرسل ثلثاً إلى أهل أخيه وأن أتصدق بثلث، فإن كانت الأضحية واجبة لم يعط منها الكافر شيئاً كالزكاة والكفارة، ويأكل ويهدي ويتصدق أثلاثاً ولو كانت الأضحية واجبة بنذر أو تعيين أو وصية أو وقف على أضحية، وقال في الإنصاف: جمهور الأصحاب على أنه لا يأكل من الأضحية المنذورة، واختار أبو بكر والقاضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 والمصنف والشارح الجواز، انتهى. قلت: المذهب هو الجواز والله أعلم، وفي حديث ابن عباس في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلاث ويتصدق على السؤال بالثلث) رواه الحافظ أبو موسى في الوظائف، وقال حديث حسن، وهو قول ابن مسعود وابن عمر ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، ولقوله تعالى: (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) . والقانع: السائل، يقال قنع قنوعاً: إذا سأل، والمعتر: الذي يعتريك أي يتعرض لك لتطعمه ولا يسأل، وهذا تفسير سعيد بن جبير والحسن، وقيل القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل، والمعتر الذي يسأل، قال عكرمة وقتادة، فذكر سبحانه ثلاثة أوصاف ومطلق الإضافة يقتضي التسوية فينبغي أن يقتسم بينهم أثلاثا، ويستحب أن يتصدق بأفضلها لقوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) وأن يهدى الوسط؛ وأن يأكل الأدون ذكره بعضهم، وكان من شعار الصالحين تناول لقمة من الأضحية من كبدها أو غيرها خروجاً من خلاف من أوجب الأكل، وإن كانت الأضحية ليتيم فلا يتصدق الولي عنه منها بشيء ولا يهدى منها شيئاً ويوفرها له لأنه ممنوع من التبرع من ماله، وكذا المكاتب لا يتبرع منها بشيء إلا بإذن سيدة لما سبق، فإن أكل أكثر الأضحية أو أهدى أكثرها أو أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز أو أهداها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز لأنه يجب الصدقة ببعضها نيئاً على فقير مسلم لعموم قوله تعالى: (وأطعموا القانع والمعتر) فإن لم يتصدق بشيء منها ضمن أقل ما يقع عليه الاسم كالأوقية بمثله لحماً لأن ما أبيح له أكله لا تلزمه غرامته ولا يلزمه غير ما وجبت الصدقة به لأنه حق يجب عليه أداؤه مع بقائه فلزمته غرامته إذا أتلفه كالوديعة، ويعتبر تمليك الفقير كالزكاة والكفارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 فلا يكفي إطعامه لأنه إباحة، ولا يعتبر التمليك في العقيقة لأنها لسرور حادث: فتشبه الوليمة بخلاف الهدي والأضحية، ويفعل المالك ما شاء من أكل وبيع وهبة بما ذبح قبل وقته لأنه لحم لم يقع في محله وعليه بدله إن كان واجباً. تنبيه: إذا ذبح هديه أو أضحيته بمنى ولم يجد فقيراً يتصدق عليه بشيء من لحمها لاستغناء الفقراء عن أخذ اللحم في أيام النحر وعدم قبولهم له كما هو الواقع في زمننا هذا، فإنه والحالة هذه لا يأثم ولا يلزمه ضمان والله أعلم. -- فصل: وإذا دخل عشر ذي الحجة حرم على من أراد أن يضحي أو يضحي عنه أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته إلى ذبح الأضحية ولو بواحدة لمن يضحي بأكثر فإذا ضحى بواحدة جاز ذلك قبل ذبح غيرها وهذا قول سعيد بن المسيب وربيعة وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي. وقال الشافعي وبعض أصحابه: هو مكروه كراهة تنزيه وليس بحرام وقال أبو حنيفة: لا يكره والحديث يرد عليه، وقال مالك في رواية لا يكره، وفي رواية يكره، وفي رواية يحرم في التطوع دون الواجب. وحجة الحنابلة ومن وافقهم على التحريم حديث أم سلمة مرفوعاً (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) رواه الجماعة إلا البخاري، ولفظ أبي داود وهو لمسلم والنسائي أيضاً (من كان له ذبح يذبحه فإذا أهلَّ هلال ذي الحجة فلا يأخذنَّ من شعره وأظفاره حتى يضحي) وفي رواية لمسلم (ولا من بشره) ، وأما حديث عائشة (كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلدها بيده ثم يبعث بها ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي) . متفق عليه. أجيب عنه بأنه في إرسال الهدي لا في التضحية، فإن أخذ شيئاً من شعره أو ظفره أو بشرته قبل أن يضحي استغفر الله سبحانه وتعالى وتاب إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 لوجوب التوبة من كل ذنب، قال الشيخ منصور: وهذا إذا كان لغير ضرورة وإلا فلا إثم كالمحرم وأولى انتهى. ولا فدية عليه إجماعاً سواء فعله عمداً أو سهواً. فوائد: الأولى: المراد بقول فقهائنا حرم على من يضحي أو يضحى عنه أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته هو أن يضحي عن نفسه أو يضحى عنه، وأما إذا ضحى عن غيره متبرعاً أو وصياً أو وكيلاً فلا يحرم عليه أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته، والله أعلم. الثانية: قال الشيخ عثمان بن قائد في حاشية المنتهى: قوله من يضحي ظاهره عن نفسه أو عن غيره فتدبر، وفي صورة ما إذا ضحى عن غيره فالظاهر من كلامهم الحرمة عليهما معاً انتهى، والذي تحرر لنا هو ما ذكرنا في الفائدة الأولى أن من ضحى عن غيره وصياً كان أو متبرعاً أو وكيلا لا يحرم عليه أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته وإنما يحرم الأخذ على ذلك الغير فقط والله أعلم. الثالثة: إذا حل المتمع من عمرته في عشر ذي الحجة فإنه لا يحرم عليه الحلق أو التقصير ولو أراد التضحية لأن الحلق والتقصير نسك على الصحيح من المذهب، وكذلك أيضاً إذا ألجأت الضرورة إلى أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته في عشر ذي الحجة وهو يريد التضحية فلا يحرم عليه أخذ شيء من ذلك قياساً على المحرم إذا كان مريضاً أو به أذى من رأسه فإنه يباح له الحلق بنص الكتاب والسنة، ولكن إذا حلق المحرم للمرض أو الأذى فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، بخلاف المضحي أو المضحى عنه إذا حلق في عشر ذي الحجة فليس عليه فدية إجماعاً سواء كان الحلق لعذر أو لا، عمداً أو سهواً أو جهلاً، بل عليه أن يستغفر الله تعالى وتقدم، والله أعلم. الرابعة: ذكر الفقهاء أنه يسن لمريد الإحرام أخذ شعر وظفر، وهذا فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 إذا لم يكن الأخذ من الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمريد التضحية، أما إن كان يريد أن يضحي أو يضحى عنه فلا يأخذ من شعره وظفره شيئاً لأن الأخذ من ذلك لمريد الإحرام سنة والأخذ من ذلك بعد دخول العشر لمريد التضحية حرام فيرجح جانب الترك على جانب الأخذ، هذا ما ظهر لي والله أعلم. ويستحب حلقه بعد الذبح، قال الإمام أحمد: على ما فعل ابن عمر تعظيماً لذلك اليوم ولأنه كان ممنوعاً من ذلك قبل أن يضحي فاستحب له ذلك بعده كالمُحرم، ولو أوجبها بنذر أو تعيين ثم مات قبل الذبح أو بعده قام وارثه مقامه في الأكل والإهداء والصدقة كسائر حقوقه، ولا تباع في دينه وتقدم. ونسخ تحريم ادخار لحم الأضحية فوق ثلاث فيدخر ما شاء لحديث عائشة وفيه (إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا وادخروا وتصدقوا) متفق عليه، وعن ثوبان قال: (ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحيته ثم قال: يا ثوبان أصلح لي لحم هذه، فلم أزل أطعمه منه حتى قدم المدينة) رواه أحمد ومسلم، وفي سنن الدارمي (أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى: أصلح لنا من هذا اللحم فأصلحت له منه، فلم يزل يأكل منه حتى بلغنا المدينة) وعن جابر قال: (كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى فرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلو وتزودوا) . متفق عليه، وفي لفظ (كنا نتزود لحوم الأضاحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة) متفق عليه، وفي لفظ (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ثم قال بعد كلوا وتزودوا وادخروا) رواه مسلم والنسائي، وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 أن لهم عيالاً وحشماً وخدماً فقال: كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا) . رواه مسلم، وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة ليتسع ذوو الطول على من لا طول له فكلوا ما بدا لكم وأطعموا وادخروا) . رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه، ولم يجز ذلك عليٌّ وابن عمر لأنه لم تبلغهما الرخصة، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: إلا زمن مجاعة أي فلم ينسخ فيه تحريم الادخار لأنه سبب تحريم الادخار والدافة المذكورة في الحديث بتشديد الفاء: قوم يسيرون جميعاً سيراً خفيفاً، ودافة الأعراب من يريد منهم المصر، والمراد هنا من ورد من ضعفاء الأعراب للمواساة والله أعلم، قال شيخ الإسلام: الأضحية من النفقة بالمعروف، فتضحي المرأة من مال زوجها عن أهل البيت بلا إذنه عند غيبته أو امتناعه كالنفقة عليهم، ويضحي مدين لم يطالبه رب دين به. قال مؤلفه عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر عفا الله عنه: وهذا ما تيسر جمعه، والله أسأل أن يعم نفعه ويجعله خالصاً لوجه الكريم وسبباً للفوز لديه بجنات النعيم. اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. اللهم أني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم أن تحقق فيّ رجاء رحمتك وغفرانك آمالنا، وأن تسهل إليّ بلوغ رضاك وعفوك وعافيتك ومعافاتك سبيلنا، وأن تحسن في جميع أحوالنا أعمالنا. اللهم نبهنا لذكرك في أوقات الغفلة واستعملنا بطاعتك في أيام المهلة، وانهج بنا إلى محبتك سبيلاً سهلة، واجمع لنا بها خيري الدنيا والآخرة. اللهم لا تكلنا إلى خلقك بل تفرد بقضاء حوائجنا وتول كفايتنا وانظر إلينا بعين رحمتك في جميع أمورنا، فإنك إن وكلتنا إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 أنفسنا عجزت عن كفايتنا ولم تقم بما فيه مصلحة ديننا ودنيانا، وإن وكلتنا إلى خلقك تجهمونا، فبفضلك الهلم فأغثنا، وبعظمتك فأنعشنا، وبسعة رزقك فابسط أيدينا، وبما عندك فاكفنا. اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربنا إلى من تكلنا إلى بعيد يتجهمنا أم إلى عدو ملكته أمرنا؟ إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي غير أن عافيتك هي أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بنا غضبك أو يحل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك. اللهم لا تجعل عيشنا كداً ولا ترد دعاءنا رداً، فإننا لم نجعل لك ضدا، ولم ندع معك ندا. اللهم نزه قلوبنا عن التعلق من دونك، واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك، يا أرحم الراحمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قال مؤلفه الفقير إلى الله عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر عفا الله عنه: فرغت من تأليفه ثالث ربيع الآخر سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف بدارنا بمكة المشرفة المعروفة في حارة شعب عامر، عمر الله قلوبنا بالإيمان ووفقنا للعمل بالسنة والقرآن، وأعاذنا من نزغات الشيطان ومن كل طارق يطرق إلا بخير يا رحمن، إنك قريب مجيب سميع الدعاء يا أرحم الراحمين. ثم إني بعد الفراغ من تأليف هذا الكتاب تراخيت عن تبييضه لما أنيط بي من كثرة الأعمال ثم استعنت الله جل وعلا، وابتدأت في تبييضه غرة محرم سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وألف، وفرغت منه في آخر ربيع الأول من السنة المذكورة، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. ْْْْْْْْْْْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256