الكتاب: الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة المؤلف: عبد الله بن عبد الحميد الأثري مراجعة وتقديم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن صالح الناشر: مدار الوطن للنشر، الرياض الطبعة: الأولى، 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة عبد الله بن عبد الحميد الأثري الكتاب: الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة المؤلف: عبد الله بن عبد الحميد الأثري مراجعة وتقديم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن صالح الناشر: مدار الوطن للنشر، الرياض الطبعة: الأولى، 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة مراجعة وتقديم فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود إعداد عبد الله بن عبد الحميد الأثري تقديم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فهذا كتاب مختصر في الإيمان ومسائله؛ أعده أخونا الفاضل الشيخ عبد الله بن عبد الحميد الأثري. وقد جاء الكتاب على غرار كتابيه؛ الموجزين النافعين: (الوجيز في عقيدة السلف الصالح) و (أحكام وأنواع التوسل المشروع والممنوع) ، واللذين سبق طبعهما. وقد قرأت كتابه هذا: (الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة) ؛ فألفيته مختصراً جامعاً، مدعما بالأدلة من الكتاب والسنة، والنقول عن أئمة أهل السنة المعتبرين؛ ثم إنه ابتعد فيه عن تفاصيل المسائل والخلاف فيها، والردود والمناقشات التي يعتني بها المتخصصون ونحوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ومن ثم جاء كتابه: 1- نافعاً لعموم المسلمين على مختلف مستوياتهم؛ فهو موجز وشامل ومدلل. 2- لا يستغني عن مثله طالب العلم؛ إذا أراد جمع شتات هذا الموضوع، وتدريسه وتعليمه للآخرين. 3- كما أنه مناسب جداً لغير الناطقين بالعربية؛ إذا تُرجم إلى لغاتهم؛ لأنهم سيجدون فيه من السهولة والوضوح ما يغني عن المطولات، وصعوبة المناقشات للمخالفين. فجزى الله المؤلف خير الجزاء، ونفع به وبعلمه، ورزقنا وإياه العلم النافع والعمل الصالح. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. كتبه عبد الرحمن الصالح المحمود 9 شوال 1423هـ أستاذ قسم العقيدة كلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 المقدمة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إله الأولين والآخرين، المتفرد بالجلال والكمال، والمتنزه عن الشركاء والأنداد والأمثال؛ الذي حبب إلى المؤمنين الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين. وأفضل الصلاة وأتم التسليم على رسوله الأمين، إمام المؤمنين المتقين الصادقين الموحدين، وسيد الثقلين المبعوث رحمة للعالمين؛ الذي حقق التوحيد، وصدق مع ربه، وعاش حقائق الإيمان والدين، وعلم أصحابه حقيقة الإيمان. وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغر المحجلين، الكرام الميامين؛ الذين نتقرب إلى ربنا بحبهم أجمعين، والتابعين العظام من بعدهم، والذين اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا. اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع؛ آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أما بعد: فإن العقيدة الإسلامية الصحيحة، هي الأساس في هذا الدين، وهي المنطلق الذي ينطلق منه إسلام المرء، وعليها تبنى جميع المعارف؛ فمن صحت عقيدته صح عمله، ومن فسدت عقيدته فسد جميع عمله، ولا يصح الدين، ولا يقبل العمل عند الله تعالى إلا بالإيمان الصحيح الذي تبنى عليه العقيدة الصالحة السالمة من الشرك. وإن الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - له أهمية بالغة في حياة المسلم؛ لأن سعادته في الدارين مبنية على قوة إيمانه بربه - عز وجل - وقربه منه؛ فمن أطاع الله تعالى في ما أمره، وآمن به إيماناً صادقاً، واجتنب ما نهي عنه، وقال: سمعنا وأطعنا، آمنا وصدقنا؛ فقد فاز فوزاً عظيماً. كما أن نجاة العبد من عذاب الله، ومن شديد عقابه تكون بالإيمان الصحيح الذي علمنا إياه رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} (1) .   (1) سورة آل عمران، الآية: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 والإيمان بالغيب هو أساس التسليم التام لله تعالى في أمره ونهيه، وعندما يثبت هذا الإيمان في قلب المؤمن؛ لا تجده يعترض على أي شيء من الشرع المنزل، ولا يصد عنه؛ بل هو في غاية الانقياد، وتمام الانشراح لشرع الله تعالى. والإيمان الصحيح الصادق الراسخ؛ هو المحرك الذي يقرب من الله تعالى، ويجلب ولايته، ويتحصن به المؤمن من كيد أعدائه من شياطين الإنس والجن، ومن معتقداتهم الفاسدة وأفعالهم القبيحة، وأسس هذا الإيمان هي: العلم الصحيح المستقى من الوحيين الشريفين، والإيمان بالغيب، والكفر بالطاغوت، والقيام بمقتضى التكليف الشرعي، والإخلاص لله تعالى في العبادة، والصدق في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبهذه الأسس تترسخ شجرة الإيمان في القلب المؤمن؛ ثم يجد حلاوته ولذته، قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (1) .   (1) سورة إبراهيم، الآيتان: 24-25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فجذور شجرة الإيمان هي أركانها الستة، وساقها الإخلاص لله تعالى ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفروعها الأعمال الصالحة من أعمال القلوب والجوارح، وثمرتها اليانعة هي الأمن والاطمئنان والحياة الطيبة، وسعادة الدنيا والآخرة، وولاية الله تعالى. ولقد كانت الأمة على هذا الإيمان الصحيح والعقيدة الحقة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه - جل وعلا - وبلغها لصحابته الكرام - رضي الله عنهم أجمعين - فكانوا أكمل الناس إيماناً، ويقيناً، وفهماً، وتبليغاً لهذه العقيدة. وقد اعتصموا بهذه العقيدة، وارتبط الإيمان عندهم بالعمل بديهيا، وكانوا يكرهون الابتداع في الدين، والجدال والخصومات والمراء، وكان هديهم التسليم التام لشرع الله تعالى. وعندما فتح باب الفتنة بمقتل ثاني الخلفاء الراشدين؛ تتابعت الفتن من بعده، وظهرت فرق الابتداع الذين خالفوا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وتمزق شمل الأمة بعدها، وأصبحت شيعاً وأحزاباً؛ وكان الأمر كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. فعن الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل؛ حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة؛ كلهم في النار إلا ملة واحدة. قال: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي (1) . وعندما حدثت هذه الفرق في الأمة - كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم - لم يعدم ولن يعدم الخير فيها، إذ ظلت فئة منها متمسكة بالهدى والحق، وهم ظاهرون إلى قيام الساعة، لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم؛ مصداقاً لبشرى النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، حيث قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم؛ حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك) (2) . ولا شك أن أهل السنة والجماعة المتقنين أثر الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان؛ هم الطائفة المنصورة القائمة على دين الله الحق، وهم الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم -:   (1) (رواه الترمذي) في (كتاب الإيمان) باب: (افتراق هذه الأمة) وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) ج2، ص 334. (2) (رواه مسلم) في (كتاب الإمارة) باب: (قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ومن هنا وجب على المسلم أن يتعرف على عقيدة هذه الطائفة المباركة التي تلتزم الإسلام الصحيح. وعليه - أيضاً - أن يعرف الإيمان الذي آمنوا وعملوا به معاً، ويعرف حقيقة هذا الإيمان، ومسماه، ومراتبه، وخوارمه، ونواقضه، وموانعه، وأركانه التي هي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. ولأن الإيمان بهذه المغيبات أساس هذا الدين، فإن الله تعالى لا يقبل إيمان الذي يجحد أحدها؛ حتى يؤمن بها جميعا. ولما كثر كلام الناس عن حد الإسلام والإيمان، ونتج عن ذلك الجدال والخصومات الكثيرة؛ قديماً وحديثاً، وزلت به الأقدام؛ فضلوا وأضلوا؛ ثم ذهب الرجال وبقي الجدال، ولا يزال باقياً يهدد وحدة الأمة، ويهز كيانها، والله المستعان. ومن هذا المنطلق نظرت إلى المسلم المعاصر اليوم - مع قلة الهمم وبعد الناس عن علوم الدين - فإذا هو يحتاج أن يتيسر له العلوم الإسلامية؛ لأن مخاطبة العوام بلغة عصرهم (1) ، وعلى مستوى فهمهم، وإنزال عقولهم منازلها، والتعرف على مداخل   (1) (() مع المحافظة على ثوابت اللغة، وعدم التوسع في العبارات العلمية؛ بحيث تحتمل كثيراً من المعاني عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 نفوسهم من الوسائل والأسباب المهمة لهدايتهم بإذن الله تعالى، وهذا ما يقره الدعاة العاملون في الساحة الإسلامية، وذلك من خلال دعوة العوام، وقربهم منهم، ومخاطبتهم إياهم عن كثب، ولنا في سيرة إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم شواهد كثيرة على ذلك. فهم يحتاجون إلى تعريف ميسر ومفهوم للإيمان - مع المحافظة التامة على عقيدة أئمة أهل السنة والجماعة - ومتى يطلق الإيمان، ومتى يمنع إطلاقه، ومتى يتطابق لفظه مع الإسلام، ومتى يفترقان، وأيهما أشمل؟ وما هي أركانه، ودرجاته، ومراتبه، وصفات أهله، وثمراته، وخوارمه، ونواقضه ومبطلاته التي تزيل حكمه وتبطل أثره؟ فقد يرتد أحدهم عن الدين من حيث لا يشعر! وما هي أسباب ترك الإيمان والإعراض عنه؟ فاستعنت بالله - عز وجل - وجمعت ما أمكن جمعه من المسائل التي تتعلق بالإيمان، وذلك من كتاب الله العزيز، وسنة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم، وأقوال أئمة أهل السنة والجماعة. واجتهدت في عرض المسائل على المادة العلمية، وعرضها بإختصار مع سلاسة الأسلوب والعبارة، واختيار التبويب المناسب، لكي تكون قريبة من مدارك عامة الناس، ولا يصعب فهمها عليهم؛ وحتى تكون سبباً لقراءتهم، ثم لهدايتهم بإذن الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 والتزمت الألفاظ الشرعية المأثورة عن أئمة أهل السنة والجماعة قدر الإمكان. وحرصت أن تكون هذه الرسالة دليلاً للمسلم المستقيم، أو المهتدي حديثاً إلى طريق الحق؛ وعوناً له لتحصيل مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان. وتركت جميع أقوال الفرق الضالة؛ حتى لا تكدر وتلبس على العامة، ثم يضطرب عندهم الفهم الصحيح لمسألة الإيمان، وذلك لكثرة شبهاتهم التي هي من خطوات الشيطان لرد طالب الحق عن الحق، ولكي ينهلوا - أيضاً - العلم من منبعه الصحيح؛ كما كان الأمر في الصدر الأول من هذه الأمة المعصومة، وقبل الافتراق. رغم أنني أعلم أن التطرق لموضوع الإيمان ليس بأمر سهل وهين، وخصوصاً مع قلة الباع - والله المستعان - ولكني توكلت على الله تعالى؛ آملاً منه - عز وجل - أن لي مخرجاً؛ كما دلنا على ذلك كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم بذلت ما في وسعي لتكن هذه الرسالة قد استوعبت ما يحتاجه المسلم من عقيدته في هذا الموضوع، ولا أدعي أني وصلت بهذا العمل إلى المطلوب، ولا سيما أنني مسبوق بأئمة كبار قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 كتبوا في باب الإيمان فأجادوا وأفادوا وجزاهم الله عن المسلمين خيرا. ولكني أؤمل أن أكون قد وفقت إلى ما سعيت إليه، وقربت الموضوع، وسهلت عبارته في هذه الرسالة التي سميتها: الإيمان؛ حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة هذا هو جهد المقل؛ فإن وفقت وأصبت، فمن الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، وهو الموفق سبحانه. وإن أخفقت وأخطأت؛ فمن نفسي، وعجزي، وقلة حيلتي. وأعوذ بالرحمن - سبحانه - من الشيطان والخذلان. وأحسن الله تعالى لمن دلني على نقص، ولم يبخل علي، ونبهني إليه مشكوراً مأجوراً. كما أشكر كل من كان له فضل علي من إبداء رأي، أو مراجعةٍ، أو نصيحةٍ، أو دعاء؛ فجزاهم الله خيراً (1) .   (1) (() كما أشكر كل من: فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود؛ الذي تفضل بمراجعة الكتاب والتقديم له، وفضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف؛ اللذان استفدت من آراءهم الثاقبة ونظراتهم الموفقة، وتصوباتهم السديدة؛ شكر الله لهما، ونفع المسلمين بعلمهما.. اللهم آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وأسأل الله تعالى؛ أن يثبتنا على الإيمان، ويحببه إلينا، ويزين قلوبنا به، وأن يغرس فيها شجرته؛ لنذوق حلاوة الإيمان، ونجد فيها طعم الحياة بالإيمان، ويكرمنا بالعيش في ظلاله. وأسأله - جلت قدرته - أن يعصمنا من الشيطان الرجيم، وأن يعيننا عليه، وعلى مكره، وكيده، وشبهاته، وخطواته وخطراته؛ بحوله وقوته. وصلى الله وسلم على الهادي البشير والسراج المنير نبينا وقائدنا وإمامنا ومرشدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه راجي رحمة ربه الغفور أبو محمد عبد الله بن عبد الحميد بن عبد المجيد آل إسماعيل الأثري نزيل اصطنبول عفا الله عنه 16 ذو الحجة 1422هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 تعريف الإيمان الإيمان في اللغة: الإيمان لغة له معنيان: أولاً - (الأمن) : أي: إعطاء الأمن والأمان والطمأنينة؛ الذي هو ضد الخوف. وآمنته ضد أخفته. قال الله تعالى: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (1) . فآمن، أي: أصبح داخلاً في الأمن. واستأمن إليه، أي: دخل في أمانه. والأمنة والأمانة: نقيض الخيانة. ومنه اسم الله - تبارك وتعالى - (المؤمن) ؛ لأنه - سبحانه - أمن عباده أن يظلمهم. ثانياً - (التصديق) : أي الذي يصدق قوله بالعمل. والتصديق: ضد التكذيب. وإذا قال العبد: آمنت بالله تعالى رباً؛ أي: صدقت به. والمؤمن مبطن من التصديق مثل ما يظهر.   (1) سورة قريش، الآية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 قال الله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ} (1) . وقال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} (2) . والتصديق يتضمن الأمن والأمان. ولهذا قال إخوة يوسف - عليه السلام - لأبيهم: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (3) . أي: لا تقر بخبرنا، ولا تثق به، ولا تطمئن إليه، ولو كنا صادقين. إذن الإيمان لغة: له معنيان حسب الاستعمال؛ الأمن والتصديق، والمعنيان متداخلان (4) .   (1) سورة البقرة، الآية: 136. (2) سورة البقرة، الآية: 75. (3) سورة يوسف، الآية: 17. (4) انظر معاجم اللغة؛ مادة (أمن) : (تهذيب اللغة) للأزهري؛ ج 15، ص 513. و (الصحاح) للجوهري. ج5، ص 2071. و (القاموس المحيط) للفيروزآبادي؛ ص 1518. و (لسان العرب) لابن منظور؛ ج 13، ص 21-27. و (مختار الصحاح) للرازي؛ ص 18. و (مفردات ألفاظ القرآن) للأصفهاني؛ ص 90. و (النهاية في غريب الحديث) لابن الأثير؛ ج1، ص 69-71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 - ولكن لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - رأي آخر في معنى الإيمان اللغوي، وهو من آرائه السديدة، واختياراته الموفقة؛ حيث اختار معنى (الإقرار) للإيمان. لأنه رأى أن لفظة (أقر) أصدق في الدلالة والبيان على معنى الإيمان الشرعي من غيرها؛ لأمور وأسباب ذكرها ثم ناقشها بالمعقول، ورد بتحقيق علمي رصين قول من ادعى: أن الإيمان مرادف للتصديق، وذكر فروقاً بينهما؛ تمنع دعوى الترادف. قال رحمه الله: (فكان تفسيره - أي الإيمان - بلفظ الإقرار؛ أقرب من تفسيره بلفظ التصديق، مع أن بينهما فرقا) (1) . وقال أيضاً: (ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار؛ لا مجرد التصديق، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد) (2) . وقال - رحمه الله - في رده على من ادعى الترادف بين الإيمان والتصديق: (إنه - أي الإيمان - ليس مرادفاً للتصديق في المعنى؛ فإن كل مخبر عن مشاهدة، أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال:   (1) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 291. (2) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 638. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 كذبت؛ فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدق، كما يقال: كذب. وأما لفظ الإيمان؛ فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة، كقول: طلعت الشمس وغربت، أنه يقال: آمناه، كما يقال: صدقناه. ولهذا؛ المحدثون والشهود ونحوهم، يقال: صدقناهم، وما يقال: آمنا لهم؛ فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر؛ كالأمر الغائب الذي يؤمن عليه المخبر، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ: آمن له؛ إلا في هذا النوع) (1) . وقال أيضاً: (إن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب؛ كلفظ التصديق؛ فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت، أو كذبت، ويقال: صدقناه، أو كذبناه، ولا يقال: لكل مخبر: آمنا له، أو كذبناه. ولا يقال: أنت مؤمن له، أو مكذب له؛ بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب) (2) .   (1) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 291. (2) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (أكثر أهل العلم يقولون: إن الإيمان في اللغة: التصديق، ولكن في هذا نظر! لأن الكلمة إذا كانت بمعنى الكلمة؛ فإنها تتعدى بتعديها، ومعلوم أن التصديق يتعدى بنفسه، والإيمان لا يتعدى بنفسه؛ فنقول مثلاً: صدقته، ولا تقول آمنته! بل تقول: آمنت به، أو آمنت له. فلا يمكن أن نفسر فعلاً لازماً لا يتعدى إلا بحرف الجر بفعل متعد ينصب المفعول به بنفسه، ثم إن كلمة (صدقت) لا تعطي معنى كلمة (آمنت) فإن (آمنت) تدل على طمأنينة بخبره أكثر من (صدقت) . ولهذا؛ لو فسر (الإيمان) بـ (الإقرار) لكان أجود؛ فنقول: الإيمان: الإقرار، ولا إقرار إلا بتصديق، فتقول أقر به، كما تقول: آمن به، وأقر له كما تقول: آمن له) (1) . واعلم أخي المسلم علمنا الله وإياك طريقة السلف الصالح: أن الحقائق قد تعرف بالشرع كالإيمان، وقد تعرف باللغة كالشمس، وقد تعرف بالعرف كالقبض.   (1) انظر: (شرح العقيدة الواسطية) ج 2، ص 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وأن التعريف الشرعي قد يتفق مع التعريف اللغوي، وقد يختلف؛ بحيث يكون بالمعاني الشرعي أشمل من اللغوي، ولكن العبرة بالمعني الشرعية الذي نتعبد الله تعالى به. وهكذا في مسمى الإيمان؛ إذ التصديق أحد أجزاء المعنى الشرعي على الصحيح المشهور عند أئمة أهل السنة والجماعة، وعلى ذلك دلت نصوص الكتاب والسنة. فالمعنى المختار للإيمان لغة: هو الإقرار القلبي: ويكون الإقرار: - باعتقاد القلب: أي تصديقه بالأخبار. - عمل القلب: أي إذعانه وانقياده للأوامر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الإيمان في الاصطلاح الشرعي: الإيمان عند السلف الصالح - أهل السنة والجماعة - هو: التصديق الجازم، والإقرار الكامل، والاعتراف التام؛ بوجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، واستحقاقه وحده العبادة، واطمئنان القلب بذلك اطمئناناً تُرى آثاره في سلوك الإنسان، والتزامه بأوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه. وأن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم رسول الله، وخاتم النبيين، وقبول جميع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن ربه - جل وعلا - وعن دين الإسلام؛ من الأمور الغيبية، والأحكام الشرعية، وبجميع مفردات الدين، والانقياد له صلى الله عليه وسلم بالطاعة المطلقة فيما أمر به، والكف عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وزجر؛ ظاهراً وباطناً، وإظهار الخضوع والطمأنينة لكل ذلك. وملخصه: (هو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة) . - الباطنة: كأعمال القلب، وهي تصديق القلب وإقراره. - الظاهرة: أفعال البدن من الواجبات والمندوبات. ويجب أن يتبع ذلك كله: قول اللسان، وعمل الجوارح والأركان، ولا يجزيء واحد من الثلاث إلا بالآخر؛ لأن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، وجزء منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فمسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة؛ كما أجمع عليه أئمتهم وعلماؤهم، هو: (تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية) . ومن أصولهم التي اتفقوا عليها في مسمى الإيمان على اختلاف عباراتهم في التعبير - إجمالاً وتفصيلاً - وذلك خوفاً من الاشتباه، أو الالتباس؛ أن الإيمان مركب من: (قول، وعمل) . أو (قول، وعمل، ونية) . أو (قول، وعمل، ونية، واتباع السنة) . أي: أن مسمى الإيمان يطلق عند أهل السنة والجماعة على ثلاث خصال مجتمعة، لا يجزيء أحدهما عن الآخر، وهذه الأمور الثلاثة جامعة لدين الإسلام: (اعتقاد القلب، إقرار اللسان، عمل الجوارح) . وبعبارة أخرى عندهم: - قول القلب، وقول اللسان. - عمل القلب، وعمل الجوارح. ويمكن توضيح ذلك؛ بالتفصيل التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 أولاً - قول القلب: هو معرفته للحق، واعتقاده، وتصديقه، وإقراره، وإيقانه به؛ وهو ما عقد عليه القلب، وتمسك به، ولم يتردد فيه، قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {33} لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} (1) . وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (2) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير) (3) . قول اللسان: إقراره والتزامه. أي: النطق بالشهادتين، والإقرار بلوازمها. قال تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ   (1) سورة الزمر، الآيتان: 33 - 34. (2) سورة الأنعام، الآية: 57. (3) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (زيادة الإيمان ونقصانه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ... ) (3) . ثانياً: عمل القلب: نيته، وتسليمه، وإخلاصه، وإذعانه، وخضوعه، وإنقياده، والتزامه، وإقباله إلى الله تعالى، وتوكله عليه - سبحانه - ورجاؤه، وخشيته، وتعظيمه، وحبه وإرادته. قال الله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (4) . وقال تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى {19} إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى {20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (5) .   (1) سورة البقرة، الآية: 136. (2) سورة الأحقاف، الآية: 13. (3) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ) . (4) سورة الأنعام، الآية: 52. (5) سورة الليل، الآيات: 19-21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه) (1) . عمل الجوارح: أي فعل المأمورات والواجبات، وترك المنهيات والمحرمات. فعمل اللسان: ما لا يؤدى إلا به؛ كتلاوة القرآن، وسائر الأذكار؛ من التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والدعاء، والاستغفار، والدعوة إلى الله تعالى، وتعليم الناس الخير، وغير ذلك من الأعمال التي تؤدى باللسان؛ فهذا كله من الإيمان. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} (2) . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (3) . وعمل الجوارح: مثل الصلاة، والقيام، والركوع، والسجود، والصيام، والصدقات، والمشي في مرضاة الله تعالى؛ كنقل الخطا   (1) (رواه أبو داود) في (كتاب الأدب) باب: الغيبة) . وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود) ج 3، ص 923. (2) سورة فاطر، الآية: 29. (3) سورة الأحزاب، الآية: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 إلى المساجد، والحج، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من أعمال شعب الإيمان. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {77} {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} (1) . وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا {63} وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (2) . فهذه الخصال الثلاث: (اعتقاد القلب، إقرار اللسان، عمل الجوارح) . اشتمل عليها مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة؛ فمن أتى بجميعها؛ فقد اكتمل إيمانه.   (1) سورة الحج، الآيتان: 77-78. (2) سورة الفرقان، الآيتان: 63-64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الأدلة من القرآن على أن الأعمال جزء من الإيمان ومما يدل على أنه لا بد من اعتقاد القلب من إقرار اللسان وعمل الجوارح؛ وصف الله تعالى للمؤمنين الصادقين في كثير من الآيات؛ بصفات زائدة على التصديق؛ إذ وصفهم بالخصال الثلاثة المذكورة؛ كما أطلق - سبحانه وتعالى - صفة المؤمنين الكاملين - حقاً وصدقاً - على الذين آمنوا بالله تعالى، وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يشكوا في ذلك، ولم يرتابوا، وانقادوا لأمره، ثم عملوا بما آمنوا به؛ من أصول الدين وفروعه، وظاهره وباطنه، وظهرت آثار هذا الإيمان في عقائدهم، وأقوالهم، وأعمالهم الظاهرة والباطنة؛ وبهذه الأعمال حققوا الإيمان الكامل؛ فاستحقوا هذا الوصف من ربهم - جل وعلا - فدل كل هذا على أن الإيمان يعم هذه الخصال الثلاث؛ لأن الله تعالى أدخل أعمالهم في مسمى الإيمان في الآيات القرآنية، وجعلها شرطاً في قبول إيمانهم؛ إذن فلا يكون المؤمن مؤمناً حقاً إلا بتلك الأعمال الصالحة، كما قال الله تبارك وتعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (1) . وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (2) . وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) . وقال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) .   (1) سورة الأنفال، الآيات: 2-4. (2) سورة الحجرات، الآية: 15. (3) سورة التوبة، الآية: 71. (4) سورة التوبة، الآية: 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقال: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) . وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (2) . وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ {3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ {4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {5} إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ {6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ {7} وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {8} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ   (1) سورة البقرة، الآية: 177. (2) سورة النساء، الآية: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 يُحَافِظُونَ {9} أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ {10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) . وقد جعل الله عز وجل - أيضاً - جميع الطاعات من الإيمان في كثير من الآيات، قال الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (2) . لم يختلف المفسرون بأن الله أراد من {إِيمَانَكُمْ} في الآية؛ صلاتكم إلى بيت المقدس فسمى الصلاة إيماناً، ولو لم تكن جزءاً من الإيمان وركنا فيه؛ لما صح تسميتها به؛ فهذا دليل بين على أن العمل من الإيمان. وكذلك قرن الله - عز وجل - الإيمان مع العمل في كثير من الآيات، وجعل جنة الخلد جزاءً لمن آمن وعمل صالحاً. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} (3) . وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} (4) .   (1) سورة المؤمنون، الآيات: 1- 11. (2) سورة البقرة، الآية: 143. (3) سورة الكهف، الآية: 107. (4) سورة الرعد، الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} (1) . وقال: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) . وقال: {وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) . وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ {92} عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) . وهذه الآيات الكريمات البينات؛ كلها تدخل الأعمال الصالحة، وجميع الطاعات معها في مسمى الإيمان. إذن صفة المؤمن في القرآن: هو الذي يفعل ما يوجب عليه الشرع من أعمال القلب والجوارح، وإذا فعل كان جزاؤه عند الله أن يدخله الجنة، ويكفر عن سيئاته، ويزحزحه عن النار.   (1) سورة فصلت، الآية: 30. (2) سورة الزخرف، الآية: 72. (3) سورة العصر، الآيات: 1- 3. (4) سورة الحجر، الآيتان: 92 - 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الأدلة من السنة على أن الأعمال جزء من الإيمان قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قل آمنت بالله؛ فاستقم) (1) . وقال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) (2) . وقال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار) (3) . وقال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) (4) .   (1) (رواه مسلم) في (كتاب الإيمان) باب: (جامع أوصاف الإسلام) . (2) (رواه مسلم) في (كتاب الإيمان) باب: (بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها) . (3) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (من كره أن يعود في الكفر) . (4) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (حب النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس؛ عندما سألوه عن أمور الدين؛ فأمرهم: (بالإيمان بالله وحده) وقال: (أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم) (1) . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: (إيمان بالله ورسوله) قيل: ثم ماذا؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور) (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه) (3) . وقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (4) .   (1) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (أداء الخمس من الإيمان) . (2) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (من قال إن الإيمان هو العمل) . (3) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (تطوع قيام رمضان من الإيمان) . (4) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وغيرها من الأحاديث النبوية الدالة على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق ولا القول بدون العمل وأداء الفرائض. فهذه هي الأدلة من الكتاب والسنة؛ تدل على أن الأعمال جزء من الإيمان، ولم يثبت المدح فيهما إلا على إيمان معه العمل؛ لا على إيمان خال عن أعمال، وهذا هو القول الحق، الذي أجمع عليه سلف هذه الأمة، ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا. فتعريفهم للإيمان حكم الشرعي موافق للنقول؛ أما غيرهم فقد مالوا عن الحق وجانبوا الصواب. وفي الحقيقة أن المؤمن الصادق مع ربه - جل وعلا - والطالب للحق، العامل لآخرته؛ يبتعد من شبهات الشيطان وخطواته، ويتبع الجماعة، ولا يقول قولاً ولا يعمل عملاً إلا وله فيها إمام من أئمة أهل السنة المعتبرين، ويكفيه - أيضاً - دليل واحد صحيح من الشرع، لكي يعتقد ذلك الأمر ويعمل بها؛ فكيف وقد تضافرت الأدلة الشرعية الصريحة من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على صحة ما أجمع عليه سلف هذه الأمة المعصومة، في مسمى الإيمان، وفي جميع ما يعتقدون، والحمد لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 خلاصة القول في مسمى الإيمان: هو ما وقر في القلب، وصدقه اللسان والعمل. وبدت ثمراته واضحة في الجوارح بامتثال أوامر الله تعالى، والابتعاد عن نواهيه. لأن اسم الإيمان يقع على من يصدق بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه - جل وعلا - اعتقاداً، وإقراراً، وعملاً. وأن العباد لا يتساون في الإيمان ولا يتماثلون فيه أبداً؛ لذا من صدق بقلبه، وأقر بلسانه، ولم يعمل بجوارحه الطاعات التي أمر بها؛ لم يستحق اسم الإيمان. ومن أقر بلسانه، وعمل بجوارحه، ولم يصدق ذلك بقلبه؛ لم يستحق اسم الإيمان. وإذا تجرد الإيمان عن العمل؛ فلا فائدة فيه، ولو كان الإيمان المجرد عن العمل ينفع أحداً لنفع إبليس - نعوذ بالله منه ومن خطواته - فقد كان يعرف أن الله - عز وجل - واحد لا شريك له، وأن مصيره لا شك إليه سبحانه؛ لكنه عندما جاءه الأمر الإلهي {اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ولم يشفع له علمه بالوحدانية والربوبية؛ لأنه لم يحقق توحيد العبادة. إذن فالتصديق المجرد عن العمل لا قيمة له عند رب العالمين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 والإيمان لم يأت في القرآن والسنة مجرداً عن العمل؛ بل عطف عليه العمل الصالح في كثير من الآيات والأحاديث - كما بينا ذلك - وهذا العطف من باب الخاص على العام، أو البعض على الكل؛ وذلك للتأكيد على الأعمال الصالحة. فالإيمان والعمل متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، والعمل صورة الإيمان وجوهره، وهو من لوازمه ومقتضياته، ونصف معناه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بعد ما نقل أقوال أئمة أهل السنة والجماعة على أن الأعمال جزء من الإيمان: (وكان من مضى من سلفنا؛ لا يفرقون بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل؛ فمن آمن بلسانه، وعرف بقلبه، وصدق بعمله؛ فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدق بعمله؛ كان في الآخرة من الخاسرين، وهذا معروف عن غير واحد من السلف والخلف؛ وأنهم يجعلون العمل مصدقاً للقول) (1) .   (1) (الإيمان) لابن تيمية: ص 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 زيادة الإيمان ونقصانه ومن عقيدة السلف الصالح - أهل السنة والجماعة - التي أجمعوا عليها: أن الإيمان يزيد وينقص، وأهله يتفاضلون فيه. فقد وردت أدلة كثيرة من الآيات والأحاديث، ومن أئمة السلف الصالح على أن الإيمان درجات وشعب، يزيد وينقص. الإيمان يزيد: بأعمال القلب والجوارح وبقول اللسان؛ كالطاعات والعبادات؛ من التصديق والمعرفة والعلم، وذكر الله تعالى، والحب والبغض في الله، والخوف والرجاء من الله، والتوكل على الله.. الخ، والقيام بجميع شعائر الدين من الأعمال الصالحة. الإيمان ينقص: بأعمال القلب والجوارح وبقول اللسان؛ كفعل المعاصي والمنكرات، وارتكاب الذنوب والكبائر، والأقوال والأفعال الرديئة، وبغفلة القلب ونسيان ذكر الله تعالى، وبالحسد، والكبر، والعجب، والرياء والسمعة، والجهل، والإعراض، والتعلق بالدنيا، وقرناء السوء، وجميع الأعمال الطالحة. وأن أهل الإيمان يتفاضلون في إيمانهم على حسب علمهم وعملهم؛ فبعضهم أكمل إيمانا من بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 قال الله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (1) . وقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (2) . وقال: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (3) . وقال: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} (4) . وقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (5) . وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (6) . وقال تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (7) . وقال تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (8) .   (1) سورة المدثر، الآية: 31. (2) سورة التوبة، الآية: 124. (3) سورة الأنفال، الآية: 2. (4) سورة الفتح، الآية: 4. (5) سورة آل عمران، الآية: 173. (6) سورة مريم، الآية: 76. (7) سورة الكهف، الآية: 13. (8) سورة الأحزاب، الآية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان) (1) . وقال: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) (2) . وقال: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان) (3) . وقال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير) (4) . ووجه الدلالة في هذه الآيات والأحاديث واضح وبين في أن الإيمان يزيد، وما جاز عليه الزيادة جاز عليه النقصان.   (1) (رواهما أبو داود) في (كتاب السنة) باب: (الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه) . وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود) ج 3، ص 886. (2) المرجع السابق. (3) (رواه مسلم) في (كتاب الإيمان) باب: (بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبان) . (4) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (زيادة الإيمان ونقصانه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ومن الأدلة على نقصان الإيمان، قول الله تعالى في المنافقين: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (1) . وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (2) . وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (3) . وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ... وذلك أضعف الإيمان) (4) . وبناءً على زيادته ونقصانه يتكامل المؤمنون في إيمانهم، ويتفاضلون بقدر طاعتهم لله وموافقتهم لشرعه، قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (5) .   (1) سورة آل عمران، الآية: 167. (2) سورة الأنعام، الآية: 82. (3) سورة الصف، الآية: 5. (4) (رواه مسلم) في (كتاب الإيمان) باب: (بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان) . (5) سورة الحديد، الآية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أسباب زيادة الإيمان إن الله - تبارك وتعالى - جعل للإيمان موارد كثيرة تعززه وتقويه، وأسباباً عديدة تزيده وتنميه؛ إذا فعلها قوي يقينه وزاد إيمانه، وارتفع درجاته في الدنيا والآخرة، والإيمان سبب لكل خير عاجل وآجل. ومن أهم أسباب زيادة الإيمان التي وردت في الكتاب والسنة: 1- طلب العلم النافع المستمد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل به؛ فمن وفق فيهما، فقد وفق لأعظم أسباب زيادة الإيمان. 2- معرفة أسماء الله الحسنى؛ الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبد بها. 3- قراءة القرآن وتدبره: فهو من أنفع دواعي زيادة الإيمان؛ فالذي يقرأه بتدبر وتأمل؛ يجد فيه من العلوم والمعارف ما يقوي به إيمانه، ويزيده وينميه، ولا تكون هذه الزيادة إلا مع فهم القرآن وتطبيقه، والعمل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 4 - تأمل سيرة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة، والخصال الكريمة، والشمائل الحميدة؛ لأن من درس وتأمل سيرته صلى الله عليه وسلم وصفاته؛ فقد استكثر لنفسه من الخير، وازداد حبه ويقينه للنبي صلى الله عليه وسلم وأورثه هذه المحبة متابعته، والعمل بسنته صلى الله عليه وسلم. 5- تأمل محاسن الإسلام؛ لأن الدين الإسلامي كله محاسن؛ فعقائده أصح وأنفع وأصدق العقائد من بين عقائد الأديان والملل، وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها للعباد، وأخلاقه أجمل الأخلاق وأكملها إطلاقاً؛ فالمتأمل في هذه كلها يزين الله الإيمان في قلبه ويحببه إليه، فيجد حلاوته؛ فيزداد إيماناً. 6- تأمل آيات الله ومخلوقاته؛ فالمتأمل في عظمة خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة والعجيبة، وفي نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات؛ فإن ذلك من الأسباب القوية لزيادة الإيمان وترسيخه في القلب. 7- الإكثار من ذكر الله تعالى، والدعاء؛ لأنه من أهم أسباب صلة العبد بربه جل وعلا، فهو يغرس شجرة الإيمان في القلب ويغذيه ويقويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 8- الإكثار من النوافل بعد الفرائض؛ لأنها تقرب العبد إلى ربه عز وجل، والاجتهاد في الإحسان، والإتقان في جميع العبادات. 9- الاتصاف بصفات المؤمنين الصادقين وأولياء الله الصالحين، واتباع آثارهم، والأخذ بهديهم، ومجالستهم؛ لأن ذلك يذكر العبد بربه تعالى، ويرقق قلبه، ويزيده إيماناً. 10- الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق والصبر. 11- البعد عن شعب الكفر، وكبائر الذنوب، والنفاق، والفسوق، والعصيان؛ لأن هذه المعاصي سبب ضعف الإيمان في القلب، والبعد عنها سبب لزيادته وقوته. إلى غير ذلك من الأسباب. واعلم - أخي المسلم - علمنا الله تعالى وإياك طريق النجاة: أن من أهم أسباب نقصان الإيمان في قلب العبد هو عدم تعاهد أسباب زيادة الإيمان، وإهمال تقويته، وترك العناية به؛ فكما أن المحافظة على هذه الأسباب سبب في زيادة الإيمان فإهمالها سبب في نقصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ومن أهم أسباب نقص الإيمان: - الجهل بأمور الدين، وعلوم الشرع. - الغفلة، والإعراض، والنسيان. - فعل المعاصي، وارتكاب الذنوب. - طاعة النفس الأمارة بالسوء. - الركون إلى الدنيا، وفتنتها، وزينتها. - مجالس اللهو، وقرناء السوء. - اتباع خطوات الشيطان. إلى غير ذلك من الأسباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 مراتب الإيمان علمنا مما سبق أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل؛ يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، وأهله متفاوتون فيه على حسب علمهم وعملهم. فالإيمان يزيد بالطاعات والأعمال الصالحة إلى ما شاء الله تعالى؛ حتى يوصل صاحبه درجة الصديقين، ويرفعه إلى الدرجات العليين، وهذه المرتبة تسمى (حقيقة الإيمان) . وكذلك ينقص الإيمان بالمعاصي؛ حتى لا يبقى منه شيء ينفع صاحبه عند الله - سبحانه وتعالى - يوم الحساب. إذن فللإيمان حد أدنى من أخل به ذهب إيمانه، ولن ينجو صاحبه من الخلود في النار! والعياذ بالله. وهذه المرتبة تسمى الإسلام فإن الإيمان - عند أهل السنة والجماعة - مراتب ودرجات ومنازل، والمؤمنون فيه على طبقات متفاوتون في مراتب إيمانهم؛ فمنهم من معه أصل الإيمان، ومنهم من عمل بحقائقه واستكمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الإيمان، وبلغ درجات الكمال الواجب، أو المستحب؛ فهؤلاء معهم (حقيقة الإيمان) . فمراتب الإيمان - عند أهل السنة والجماعة - كالآتي: المرتبة الأولى: (أصل الإيمان) : ويسمى أيضاً (الإيمان المجمل) أو (مطلق الإيمان) . وهذه المرتبة من الإيمان غير قابلة للنقصان؛ لأنها حد الإسلام، والفاصل بين الإيمان والكفر، وهذا النوع واجب على كل من دخل دائرة الإيمان، وشرط في صحته، وبه تثبت الأحكام الشرعية؛ لأن اسم الإيمان وحكمه يشمل كل من دخل فيه، وإن لم يستكمله، ولكن معه الحد الأدنى منه، هو ما يصح به إسلامه، ومرتكب الكبائر داخل في هذا المعنى، والمنفي عنه ليس اسم الإيمان والدخول فيه، وإنما المنفي هو حقيقته وكماله الواجب؛ فهو لا يسلب مطلق الإيمان، أي أصله، ولا يعطى الإيمان المطلق التام. وهذا الإيمان يتحقق بالتصديق والانقياد المجمل، وتوحيد الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، واستحقاقه - سبحانه - وحده للعبادة، واتباع أوامره ونواهيه، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه المرتبة لا يشترط فيه وجود العلم التام بالإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فإذا عمل بهذا كله؛ فقد حقق أصل الإيمان الذي ينجو به من الكفر، ومن الخلود في النار، ومصيره يكون إلى الجنة؛ إن مات عليه، وإن قصر في بعض الواجبات، أو اقترف بعض المحرمات. وصاحب هذه المرتبة يدخل في دائرة الإسلام، أو الإيمان المقيد، وكذلك يدخل فيه من أسلم من أهل الطاعة ممن لم تدخل حقائق الإيمان في قلوبهم، ويدخل فيه - أيضاً - أهل الكبائر عموماً، ويسمى صاحبه: مؤمنا ناقص الإيمان، أو فاسقاً، أو عاصياً.. إلخ. المرتبة الثانية (الإيمان الواجب) : ويسمى أيضاً (الإيمان المفصل) أو (الإيمان المطلق) أو (حقيقة الإيمان) . وهذه المرتبة تكون بعد مرتبة (أصل الإيمان) ويكون صاحبها ممن يؤدي الواجبات ويتجنب الكبائر والمنكرات، ويلتزم بكل تفصيلات الشريعة؛ تصديقاً والتزاماً وعملاً، ظاهراً وباطناً؛ حسب استطاعته، وبقدر ما يزيد علمه وعمله يزداد إيمانه، وإذا ارتكب بعض الصغائر؛ يكفر عنه حسناته واجتنابه للكبائر، ولكن المتورع عن الصغائر أكمل إيماناً ممن يقع فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وصاحب هذه المرتبة؛ موعود بالجنة بلا عذاب؛ وينجو من الدخول في النار؛ إن مات على ذلك، ويدخل في عداد المؤمنين الأبرار الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (1) . وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (2) . المرتبة الثالثة (الإيمان المستحب) : ويسمى أيضاً (الإيمان الكامل بالمستحبات) . وهذه المرتبة تكون بعد مرتبة (الإيمان الواجب) وهي مرتبة (الإحسان) وصاحبها لا يكتفي بعمل الواجبات وترك المنكرات؛ بل يضيف إلى ذلك فعل المستحبات، واجتناب المكروهات والمشتبهات؛ بقدر ما ييسر الله تعالى له ذلك.   (1) سورة الأنفال، الآية: 4. (2) سورة الحجرات، الآية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ويتفاوت أصحاب هذه المراتب، بقدر تفاوتهم بالعلم والعمل، ويقابل ذلك تفاوتهم في درجات العلى من جنة الخلد. قال الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز عن هذه المراتب: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ {32} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (1) . السابق بالخيرات: هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه، وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات، والمتورع عن المكروهات، والمجتنب للمحظورات والمشتبهات، وهو صاحب (الإيمان الكامل المستحب) . المقتصد: المكتفي بفعل الواجبات، واجتناب المحظورات، وإن لم يحافظ على المسنونات، ولا تورع عن المكروهات، وهو صاحب (الإيمان الواجب) .   (1) سورة فاطر، الآيتان: 32 و 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الظالم لنفسه: هو المفرط في بعض الواجبات، والمرتكب لبعض المحرمات والمعاصي التي لا تصل إلى الكفر، أو الشرك الأكبر، وهو صاحب (الإيمان المجمل) . قال الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم) (1) .   (1) انظر: (تفسير الطبري) ج 11، 189 و (تفسير ابن كثير) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان اتفق أئمة أهل السنة والجماعة - سلفاً وخلفاً - على أن الإيمان: قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح؛ يزيد بالطاعة وكثرة العبادة، وينقص بالمعصية والغفلة، وقد حكى الإجماع على ذلك أكثر أهل العلم - رحمهم الله - بل أصبح هذا القول من مميزات أهل السنة والجماعة، والفارقة بينهم وبين أهل البدع والأهواء. وأقوالهم في هذا الباب كثيرة جداً لا يمكن حصرها في هذه الرسالة، ولكن نذكر بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر: كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لأصحابه: (هلموا نزدد إيماناً) فيذكرون الله تعالى (1) . وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:   (1) (السنة) الخلال: 5/39 (1122) . و (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1012 (1700) . و (الإبانة) ابن بطة: 2/846 (1134) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، من لا صبر له لا إيمان له) (1) . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (اللهم زدنا إيماناً، ويقينا، وفقها) (2) . وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: (تعالوا نؤمن ساعة؛ تعالوا فلنذكر الله ونزدد إيماناً؛ لعله يذكرنا بمغفرته) (3) . وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (اجلس بنا نؤمن ساعة) (4) . وقال جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة؛ فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن؛ ثم تعلمنا القرآن؛ فازددنا به إيماناً) (5) .   (1) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 4/924 (1569) . و (الإيمان) ابن أبي شيبة: ص 48 (130) . (2) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1013 (1704) . (3) (الإيمان) ابن أبي شيبة: ص 43 (116) . (4) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1014 (1706) . (5) (ابن ماجة) كتاب السنة، باب (الإيمان) انظر (صحيح سنن ابن ماجة) : 1/16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (الإيمان نزه؛ فمن زنى فارقه الإيمان، فإن لام نفسه وراجع راجعه الإيمان) (1) . وكان عبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وأبو الدرداء - رضي الله عنهم - يقولون: (الإيمان يزيد وينقص) (2) . وقال عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه: (الإيمان يزيد وينقص، قيل: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله فحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا فذلك نقصانه) (3) . وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار) (4) . وقال التابعي الجليل عروة بن الزبير رحمه الله: (ما نقصت أمانة عبد قط؛ إلا نقص إيمانه) (5) .   (1) (كتاب الشريعة) الآجري: 2/596 (228) تحقيق د. عبد الله الدميحي؛ دار الوطن. (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1016 (1711، 1712) . (2) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1016 (1711، 1712) . (3) (الإبانة) ابن بطة: 2/845 (1131) . (4) (البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (إفشاء السلام من السلام) . (5) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1023 (1730) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (فإن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً؛ فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان) (1) . وقال التابعي الإمام مجاهد بن جبر رحمه الله: (الإيمان: قول وعمل؛ يزيد وينقص) (2) . وقال الإمام الحسن البصري رحمه الله (ت 110هـ) : (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال) (3) . وقال الوليد بن مسلم القرشي: سمعت الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز؛ ينكرون قول من يقول: إن الإيمان قول بلا عمل، ويقولون: (لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان) (4) . وقال أيضاً: سمعتهم يقولون: (ليس للإيمان منتهى هو في زيادة أبداً، وينكرون على من   (1) (البخاري) في (كتاب الإيمان) . (2) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1023 (1728) . (3) (اقتضاء العلم العمل) الخطيب البغدادي: رقم (56) . (4) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 4/930 (1586) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 يقول: إنه مستكمل الإيمان، وإن إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام) (1) . وقال شيخ الإسلام الإمام الأوزاعي رحمه الله (ت 157هـ) : (لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة؛ فكان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان، والعمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها وتصديقه العمل؛ فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق ذلك بعمله فذلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدقه بعمله لم يقبل منه، وكان في الآخرة من الخاسرين) (2) . وقال الإمام مالك رحمه الله (ت 179هـ) : (الإيمان: قول وعمل) (3) .   (1) (السنة) عبد الله بن أحمد: 1/322 (687) . و (الإبانة) : 2/901 (1259) . (2) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/955 - 956 (1591) . (3) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1030 (1742) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقال الإمام الحافظ سفيان الثوري رحمه الله (ت 161هـ) : (الإيمان: يزيد وينقص) (1) . وقال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله (ت 181هـ) : (الإيمان: قول وعمل، والإيمان يتفاضل) (2) . وقال الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله (ت 186هـ) : (الإيمان عندنا داخله وخارجه الإقرار باللسان والقول بالقلب، والعمل به) (3) . وقال الإمام أبو الثور البغدادي رحمه الله (ت 240هـ) : (الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح) (4) . وقال الإمام وكيل بن الجراح رحمه الله (ت 179هـ) : (أهل السنة يقولون: الإيمان: قول وعمل) (5) .   (1) (الإبانة) ابن بطة: 2/852 (1149) . (2) (السنة) عبد الله بن الإمام أحمد: 5/315 (627) . (3) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1030 (1742) . (4) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 4/932 (1590) . (5) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1030 (1749) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وقال الإمام يحيى بن سعيد القطان رحمه الله (ت 198هـ) : (كل من أدركت من الأئمة كانوا يقولون: الإيمان: قول وعمل؛ يزيد وينقص، ويقدمون أبا بكر وعمر في الفضيلة والخلافة) (1) . وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله (ت 198هـ) : (الإيمان: قول وعمل؛ يزيد وينقص) (2) . وعن الإمام الحافظ الحميدي - رحمه الله - قال: سمعت ابن عيينة يقول: (الإيمان: قول وعمل؛ يزيد وينقص) فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: يا أبا محمد، لا تقولن: يزيد وينقص؛ فغضب وقال: (اسكت يا صبي! بلى حتى لا يبقى منه شيء) (3) . وقال الإمام الشافعي رحمه الله (ت 204هـ) : (الإيمان: قول وعمل؛ يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ثم تلا قوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (4) .   (1) (سير أعلام النبلاء) الذهبي: 9/179. (2) (سير أعلام النبلاء) الذهبي: 8/468. (3) (كتاب الشريعة) الآجري: 2/607 (224) . (4) (حلية الأولياء) الأصفهاني: 9/115. والآية: 131 من سورة المدثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وقال: (كان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان: قول وعمل ونية، ولا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر) (1) . وقال الإمام عبد الرزاق الصنعاني رحمه الله (ت 211هـ) : (سمعت معمراً، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وابن جريح، وسفيان بن عيينة، يقولون: الإيمان: قول وعمل؛ يزيد وينقص) (2) . وقال الإمام عبد الله الحميدي رحمه الله (ت 219هـ) : (الإيمان: قول وعمل؛ يزيد وينقص، لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل ولا قول إلا بنية، ولا قول وعمل بنية إلا بسنة) (3) . قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله (ت 224هـ) : (اعلم - رحمك الله - أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين: فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله   (1) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/956 (1593) . (2) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1028 (1735) . (3) (أصول السنة) الحميدي: مطبوعة في آخر (مسنده) ج2، ص 546. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وشهادة الألسنة وعمل. وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة، فأما الأعمال فإنما هي تقوى وبر، وليست من الإيمان. وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين؛ فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وينفيان ما قالت الأخرى) (1) . وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (ت 241هـ) : (أجمع تسعون رجلاً من التابعين وأئمة السنة، وأئمة السلف، وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. - فذكر أموراً منها -: الإيمان: قول وعمل؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية) (2) . وقال: (الإيمان: يزيد وينقص؛ فزيادته بالعمل، ونقصانه بترك العمل) (3) . وعن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني: أنه سأل أبا عبد الله: الإيمان قول ونية؟ فقال لي: (كيف يكون بلا نية؛ نعم قول وعمل ونية، لابد من النية - قال لي - النية متقدمة) (4) .   (1) (كتاب الإيمان) أبو عبيد القاسم بن سلام: ص 9. تحقيق الألباني. (2) (طبقات الحنابلة) ابن رجب الحنبلي: 1/130. (3) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1056 (8179) . (4) (السنة) الخلال: 3/579 (1002) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وقال الإمام البخاري رحمه الله (ت 256هـ) : (كتبت عن ألف من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عمن قال: الإيمان: قول وعمل ولم أكتب عن من قال: الإيمان: قول) (1) . وقال: (لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً يختلف في أن الإيمان: قول وعمل؛ يزيد وينقص) (2) . وقال الإمام إسحاق بن راهويه رحمه الله (ت 283هـ) : (الإيمان: يزيد وينقص؛ حتى لا يبقى منه شيء) (3) . وقال الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله (ت 264هـ) : (الإيمان عندنا قول وعمل؛ يزيد وينقص، ومن قال غير ذلك؛ فهو مبتدع مرجئ) (4) . وقال الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله (ت 274هـ) : (مذهبنا واختيارنا وما نعتقده وندين الله به ونسأله السلامة في الدين والدنيا: أن الإيمان قول وعمل؛ يزيد وينقص) (5) .   (1) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/959 (1597) . (2) (فتح الباري) ابن حجر العسقلاني: ج1، ص 47. (3) (السنة) الخلال: 4/680 (1011) . (4) (طبقات الحنابلة) ابن رجب الحنبلي: 1/203. (5) (طبقات الحنابلة) ابن رجب الحنبلي: 1/286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وقال الإمام يعقوب بن يوسف الفسوي رحمه الله (ت 277هـ) : (الإيمان عند أهل السنة: الإخلاص لله بالقلوب والألسنة والجوارح، وهو قول وعمل؛ يزيد وينقص، على ذلك وجدنا كل من أدركنا من عصرنا بمكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة) ثم ذكر منهم ثلاثين ونيفا) (1) . وقال الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله (ت 294هـ) : (الإيمان: أن تؤمن بالله) : أن توحده، وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له ولأمره، بإعطاء العزم للأداء لما أمر، مجانباً للاستكشاف والاستكبار، والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محابه، واجتنبت مساخطه) (2) . وقال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله (ت 310هـ) : (أما القول في الإيمان هل هو قول وعمل، وهل يزيد وينقص، أم لا زيادة فيه ولا نقصان؟ فإن الصواب فيه قول من قال: هو قول وعمل يزيد وينقص، وبه جاء الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه مضى أهل الدين والفضل) (3) .   (1) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1035 (1753) . (2) (تعظيم قدر الصلاة) المروزي: 1/394. (3) (صريح السنة) الإمام ابن جرير الطبري: ص 25. تحقيق بدر بن يوسف المعتوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وقال الإمام أبو الحسن الأشعري - رحمه الله - عن ما أجمع عليه السلف من الأصول (ت 324هـ) : (وأجمعوا على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) (1) . وقال الإمام البربهاري رحمه الله (ت 329هـ) : الإيمان قول وعمل. وعمل وقول، ونية وإصابة؛ يزيد وينقص، يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه شيء) (2) . وقال الإمام الآجري رحمه الله (ت 360هـ) : (اعلموا - رحمنا الله وإياكم - أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق؛ وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح. ثم اعلموا: أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق؛ إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزئ معرفة بالقلب، ونطق باللسان؛ حتى يكون عمل بالجوارح؛ فإذا كملت فيه هذه الثلاث خصال: كان مؤمناً. دل على ذلك القرآن والسنة، وقول علماء المسلمين) (3) .   (1) (رسالة إلى أهل الثغر) الأشعري: ص 272. تحقيق عبد الله شاكر الجندي. (2) (شرح السنة) الإمام الحسن بن علي البربهاري: ص 67. تحقيق خالد الردادي. (3) (كتاب الشريعة) الإمام الآجري: 2/611. دار الوطن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقال: (فالأعمال - رحمكم الله - بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمل جوارحه؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وأشباه لهذه، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً لإيمانه، وكان العمل بما ذكرناه تصديقاً منه لإيمانه، وبالله التوفيق) (1) . وقال أيضاً: - اعلموا - رحمنا الله وإياكم - يا أهل القرآن، ويا أهل العلم بالسنن والآثار، ويا معشر من فقههم الله تعالى في الدين بعلم الحلال والحرام: أنكم إن تدبرتم القرآن - كما أمركم الله تعالى - علمتم أن الله تعالى أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله العمل، وأنه تعالى لم يثن على المؤمنين بأنه قد رضي عنهم وأنهم قد رضوا عنه، وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة والنجاة من النار إلا بالإيمان وحده حتى ضم إليه العمل الصالح. قرن مع الإيمان العمل الصالح، لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده حتى ضم إليه العمل الصالح الذي وفقهم له، فصار الإيمان لا يتم لأحد حتى يكون مصدقاً بقلبه، وناطقاً بلسانه، وعاملاً بجوارحه،   (1) (كتاب الشريعة) الإمام الآجري: 2/614. دار الوطن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 لا يخفى على من تدبر القرآن وتصفحه، وجده كما ذكرت. واعلموا - رحمنا الله وإياكم - أني قد تصفحت القرآن فوجدت ما ذكرته في شبيه من خمسين موضعاً من كتاب الله تعالى، أن الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده؛ بل أدخلهم الجنة برحمته إياهم، وبما وفقهم له من الإيمان والعمل الصالح) (1) . وقال الإمام ابن بطة رحمه الله (ت 387هـ) : (واعلموا - رحمكم الله - أن الله - عز وجل - لم يثن على المؤمنين، ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم والنجاة من العذاب الأليم، ولم يخبرهم برضاه عنهم إلا بالعمل الصالح والسعي الرابح، وقرن القول بالعمل، والنية بالإخلاص؛ حتى صار اسم الإيمان مشتملاً على المعاني الثلاثة، لا ينفصل بعضها من بعض، ولا ينفع بعضها دون بعض؛ حتى صار الإيمان قولاً باللسان، وعملاً بالجوارح، ومعرفة بالقلب؛ خلافاً لقول المرجئة الضالة الذين زاغت قلوبهم، وتلاعبت الشياطين بعقولهم) (2) .   (1) (كتاب الشريعة) الإمام الآجري: 2/618. دار الوطن. (2) (الإبانة) الإمام ابن بطة: 2/779. دار الراية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي - رحمه الله - عن اعتقاد أئمة الحديث؛ أنهم يقولون (ت 371هـ) : (إن الإيمان قول وعمل ومعرفة) (1) . وقال الإمام ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله (ت 386هـ) : (أن الإيمان قول باللسان، وإخلاص بالقلب، وعمل بالجوارح؛ يزيد ذلك بالطاعة، وينقص بالمعصية نقصاً عن حقائق الكمال لا محبط للإيمان، ولا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة، وأنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وإن كان كبيراً، ولا يحبط الإيمان غير الشرك بالله تعالى) (2) . وقال الإمام الحافظ ابن مندة رحمه الله (ت 395هـ) : (الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالأركان؛ يزيد وينقص) (3) .   (1) (اعتقاد أئمة الحديث) الإمام أبو بكر الإسماعيلي: ص 63. (2) نقل جملة من اعتقاده الإمام ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية) : ص 149، 156. تحقيق د. عواد بن عبد الله المعتق؛ فانظر. (3) (كتاب الإيمان) الإمام ابن مندة: 2/341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقال الإمام الحافظ ابن أبي زمنين رحمه الله (ت 399هـ) : (ومن أقوال أهل السنة: أن الإيمان إخلاص لله بالقلوب، وشهادة بالألسنة، وعمل بالجوارح؛ على نية حسنة، وإصابة السنة.. أن الإيمان درجات ومنازل يتم ويزيد وينقص، ولولا ذلك استوى الناس فيه، ولم يكن للسابق فضل على المسبوق) (1) . وقال الإمام إسماعيل الصابوني رحمه الله (ت 449هـ) : (ومن مذهب أهل الحديث: أن الإيمان قول وعمل ومعرفة؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية) (2) . وقال الإمام ابن بطَّال المالكي رحمه الله (ت 449هـ) : (مذهب أهل السنة من سلف الأمة وخلفها: أن الإيمان قول وعمل؛ يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه؛ ما أورده البخاري في كتاب الله من ذكر الزيادة في الإيمان، وبيان ذلك أنه من لم تحصل له بذلك الزيادة؛ فإيمانه أنقص من إيمان من حصلت له) (3) .   (1) (أصول السنة) الإمام ابن أبي زمنين: ص 207. (مكتبة الغرباء الأثرية) . (2) (عقيدة السلف) الإمام الصابوني: ص 264. (دار العاصمة) . (3) (شرح صحيح البخاري) ابن بطال: 1/56. (مكتبة الرشد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وقال الإمام الحليمي رحمه الله (ت 403هـ) : (ومما يدل على أن الإيمان يزيد وينقص قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: (إنكن ناقصات عقل ودين) (1) . وقال الإمام القاضي أبو يعلى الفراء (ت 458هـ) - رحمه الله - عن تعريف الإيمان الشرعي: (وأما حده في الشرع فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة؛ فالباطنة أعمال القلب، وهو تصديق القلب، والظاهرة هي أفعال البدن الواجبات والمندوبات) (2) . وقال الإمام البيهقي رحمه الله (ت 458هـ) : (أن الإيمان يزيد وينقص، وإذا قبل الزيادة قبل النقص) (3) . وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله (ت 460هـ) : (أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل؛ ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان) (4) .   (1) (المنهاج في شعب الإيمان) الإمام الحليمي البخاري: 1/63. (2) (مسائل الإيمان) الإمام القاضي أبو يعلى: ص 152. (دار العاصمة) . (3) (الاعتقاد) الإمام البيهقي: ص 115 باب: (القول في الإيمان) . (4) (التمهيد) الإمام ابن عبد البر: 9/238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقال الإمام البغوي رحمه الله (ت 516هـ) : (اتفقت الصحابة والتابعين فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان.. وقالوا إن الإيمان قول وعمل وعقيدة؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء) (1) . وقال الإمام قوَّام السنة الأصفهاني رحمه الله (ت 535هـ) : (الإيمان في الشرع عبارة عن جميع الطاعات الظاهرة والباطنة) (2) . وقال: (قال علماء السلف.. والإيمان قول وعمل ونية؛ يزيد وينقص، زيادته البر والتقوى، ونقصانه الفسوق والفجور) (3) . وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله (ت 561هـ) : (ونعتقد أن الإيمان قول باللسان، ومعرفة بالجنان، وعمل بالأركان) (4) .   (1) (شرح السنة) الإمام البغوي: 1/38. (2) (الحجة في بيان المحجة) : 1/403. . (3) (الحجة) 2/262-264 (دار الراية) . (4) (الغنية لطالبي طريق الحق) الجيلاني: 1/62. (دار الألباب) دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وقال الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله (ت 600هـ) : (الإيمان قول وعمل ونية؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) (1) . وقال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله (ت 620هـ) : (الإيمان: قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان؛ يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان) (2) . وقال الإمام النووي رحمه الله (ت 676هـ) : (قال عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا: سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبيد بن عمر، والأوزاعي، ومعمر بن راشد، وابن جريح، وسفيان بن عيينة، يقولون: الإيمان: قول وعمل؛ يزيد وينقص. وهذا قول: ابن مسعود، وحذيفة، والنخعي، والحسن البصري، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعبد الله بن المبارك؛ فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح) (3) .   (1) (الاقتصاد في الاعتقاد) الإمام المقدسي: 182. تحقيق د. أحمد الغامدي. (2) (لمعة الاعتقاد) : ص 33. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط (مكتبة دار البيان) . (3) (شرح صحيح مسلم) النووي: 1/146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقال: (إن الطاعات تسمى إيماناً وديناً، وإذا ثبت هذا علمنا أن من كثرت عبادته زاد إيمانه ودينه، ومن نقص عبادته نقص دينه) (1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ت 728هـ) : (ومن أصول أهل السنة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) (2) . وقال: (ولهذا كان القول: إن الإيمان قول وعمل - عند أهل السنة - من شعائر السنة، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك) (3) . وقال الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله (ت 751هـ) : (حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد، وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه،   (1) (شرح صحيح مسلم) النووي: 2/68. (2) (مجموع الفتاوى) : 3/151. (3) (الإيمان) ابن تيمية: 292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وعمل الجوارح؛ فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب، لم تنفع بقية الأجزاء) (1) . وقال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله (ت 744هـ) في تفسير الآية {2} من سورة الأنفال: (وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمة؛ بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد، كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة) . وقال - أيضاً - في تفسير الآية {124} من سورة التوبة: (وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء؛ بل قد حكى غير واحد الإجماع على ذلك، وقد بسط الكلام على هذه المسألة في أول شرح البخاري رحمه الله) .   (1) (كتاب الصلاة وحكم تاركها) ابن القيم: ص 54 فصل: (في الحكم بين الفريقين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقال العلامة ابن أبي العز الحنفي رحمه الله (ت 792هـ) : (اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً: فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، وسائر أهل الحديث، وأهل المدينة رحمهم الله، وأهل الظاهر، وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان وعمل بالأركان) (1) . وقال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله (ت 795هـ) في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهديين) (2) : (أما زينة الإيمان؛ فالإيمان قول وعمل ونية؛ فزينة الإيمان تشمل زينة القلب بتحقيق الإيمان له، وزينة اللسان بأقوال الإيمان، وزينة الجوارح بأعمال الإيمان) (3) . وقال في شرحه لقول البخاري: الإيمان قول وعمل: (وأكثر العلماء قالوا: هو قول وعمل. وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث، وقد حكى الشافعي إجماع   (1) (شرح العقيدة الطحاوية) : 2/459. تحقيق شعيب الأرناؤوط. (2) (رواه النسائي) في (كتاب السهو) باب: (الدعاء بعد الذكر) وصححه الألباني. (3) (شرح حديث عمار بن ياسر) ص 48 تحقيق إبراهيم العرف. (مكتبة السوادي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الصحابة والتابعين عليه، وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضاً. وقال الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل، وحكاه غير واحد من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة، وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة: الفضيل بن عياض، ووكيع ابن الجراح، وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل: الحسن، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والزهري، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وغيرهم) وقال أيضاً: (زيادة الإيمان ونقصانه قول جمهور العلماء) (1) . وقال العلامة أبو الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي رحمه الله (ت 1270هـ) في تفسير الآية {2} من سورة الأنفال: (وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وبه أقوال لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلاً؛ بل قد احتج عليه   (1) (فتح الباري شرح صحيح البخاري) لابن رجب الحنبلي: 1/508 (مكتبة الغرباء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 بعضهم بالعقل أيضاً، وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة - عليهم الصلاة والسلام - واللازم باطل؛ فكذا الملزوم (1) . وقال العلامة السفاريني رحمه الله (ت 1188هـ) : (الذي اعتمده أئمة الأثر وعلماء السلف: أن الإيمان: تصديق بالجنان وإقرار باللسان، وعمل بالأركان؛ يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان, وإلا فمجرد تصديق القلب من غير إقرار باللسان لا يحصل به الإيمان؛ فإن إبليس لا يسمى مؤمنا بالله، وإن كان مصدقاً بوجوده وربوبيته) (2) . وقال العلامة صديق حسن القنوجي رحمه الله (ت 1307هـ) : (إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون؛ إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً؛ هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد وأبو عبيد، وغير واحد إجماعاً أن الإيمان قول وعمل) (3) .   (1) (روح المعاني) الآلوسي: 5/165. (2) (شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد) السفاريني: 2/21. (3) (بغية الرائد في شرح العقائد) القنوجي: ص 44. الطبعة الهندية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله (ت 1376هـ) في تفسير الآية {76} من سورة مريم: (وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصه؛ كما قاله السلف الصالح، ويدل عليه قوله تعالى: {لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} ، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ويدل عليه أيضاً الواقع؛ فإن الإيمان: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، والمؤمنون متفاوتون في هذه الأمور أعظم تفاوت. وقال العلامة حافظ الحكمي رحمه الله (ت 1377هـ) : (الإيمان: قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويتفاضل أهله فيه) (1) . وقال الشيخ العلامة المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله (ت 1393هـ) : (إن الحق الذي لا شك فيه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد، وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة) (2) .   (1) (أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة) : ص 45 تحقيق أحمد الرشد. (2) (أضواء البيان) الشنقيطي: 7/201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وهذا غيض من فيض؛ من أقوال أئمة السلف الصالح أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول وعمل؛ يزيد وينقص، لا قول لهم غيره؛ بل أجمعوا على ذلك، ومن نسب إليهم خلاف ذلك؛ فقد أخطأ، وجهل مذهبهم، ونسب إليهم ما لم يقولوه. وعلى هذه العقيدة توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى هذا المنهج كان جميع الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان: من المحدثين، والفقهاء، وجميع أئمة الدين، ولم يخالفهم أحد من السلف والخلف؛ إلا الذين مالوا عن الحق في هذا الأمر، وجانبوا الصواب. والآثار عن السلف في مسمى الإيمان وحقيقته كثيرة جداً، ولا يمكن حصرها هنا، وقد قال بهذا القول خلق كثير - غيرهم - من أهل السنة والجماعة؛ فمن أراد البسط في معرفة أقوالهم في هذا الباب؛ فعليه مراجعة مصنفاتهم وكتب أئمتهم، وخصوصاً كتب العقيدة المسندة، وقد ذكرنا بعضاً منها في نهاية هذه الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الإيمان والإسلام اختلف أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإسلام والإيمان على قولين: هل هما بمعنى واحد، أم أن أحدهما غير الآخر؟ والمتتبع للآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ يجد أن اسم الإيمان تارة يذكر مفرداً غير مقرون باسم الإسلام، وتارة يذكر مقروناً به، وكذلك العكس؛ فإنهما أحياناً يكونان بمعنى واحد فهما مترادفان، وتارة يراد من أحدهما معنى يغاير لمعنى الآخر؛ فيكونان متغايرين. والذي عليه أكثر العلماء؛ أن مسمى الإسلام غير مسمى الإيمان، وبينهما فرق؛ فباعتبار الحقيقة اللغوية يفترق الإسلام والإيمان وباعتبار الحقيقة الشرعية يتضمن الإيمان الإسلام؛ لأن بينهما تلازماً في الوجود، فكل واحد منهما مكمل للآخر بحيث لا ينفكان عن بعضهما، وأنهما إذا اجتمعا اختلفا في مدلولهما، وإذا افترقا اجتمعا في مدلولهما، وأنه إذا وجد أحدهما في نص دون الآخر فهو لازم له، وإن اجتمعا في نص واحد فكل منهما يفسر بمعناه المذكور، قال الله تبارك وتعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1) . بمعنى أنه إذا اجتمعا باللفظ افترقا بالمعنى، أي: إذا قرن الإسلام والإيمان في نص: فيراد بالإسلام الأعمال الظاهرة من العبادات: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، أي: الاستسلام لله تعالى، والخضوع والإنقياد له - سبحانه - بالعمل. ويراد بالإيمان الاعتقادات الباطنة، وهي الإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، أي: تصديق القلب وإقراره ومعرفته. وإذا افترقا في نص اجتمعا؛ فيشمل كل واحد منهما الدين كله؛ من أصوله وفروعه؛ من اعتقاداته وأفعاله الظاهرة والباطنة. أي: إذا جاء ذكر الإسلام مفرداً، أو الإيمان مفرداً فالمراد بهما الدين كله، بما فيه من إسلام، وإيمان، واستسلام، وشعائر، وشرائع، ومناهج، وأحكام، قال الله تعالى:   (1) سورة الحجرات، الآية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} (1) . وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ} (2) . وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) . وقال: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) . وقال: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ {7} وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (5) . وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (6) .   (1) سورة آل عمران، الآية: 19. (2) سورة المائدة، الآية: 3. (3) سورة آل عمران، الآية: 85. (4) سورة المائدة، الآية: 5. (5) سورة الحديد، الآيتان 7-8. (6) سورة الحجرات، الآية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الإيمان بضع وسبعون، أوبضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) (1) . وعن عمر - رضي الله عنه - قال: بينما نحن عند رسول الله ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد؛ حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.   (1) سورة الحجرات، الآية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 قال: صدقت؛ فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء؛ يتطاولون في البنيان) . ثم انطلقت فلبثت ملياً، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) (1) .   (1) (رواه مسلم) في (كتاب الإيمان) باب: (بيان الإيمان والإسلام والإحسان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فمثل الإسلام من الإيمان؛ كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى؛ فالشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة غير الشهادة لله بالوحدانية والعبادة، ومثل لفظ الفقير إذا أطلق دخل فيه المسكين، وإذا أطلق لفظ المسكين تناول الفقير، وإذا قرن بينهما؛ فأحدهما غير الآخر. كذلك الإسلام والإيمان؛ إذ لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه. وبهذا التفصيل يحصل الجمع بين الأدلة، وهذا هو القول الوسط، وبه تجتمع النصوص الشرعية. ويمكن القول إن الخلاف بين السلف في هذه المسألة خلاف لفظي يسير؛ لأن الجميع متفقون على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنهم لا يخرجون أهل المعاصي من الإيمان إلى الكفر؛ وإذا أخرجوهم من الإيمان إلى الإسلام؛ فلم يقولوا إنه لا يبقى معهم شيء من الإيمان؛ بل يبقى معهم أصل الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (لو قدر أن الإسلام يستلزم الإيمان الواجب، فغاية ما يقال: إنهما متلازمان؛ فكل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم. وهذا صحيح إذا أريد أن كل مسلم يدخل الجنة معه الإيمان الواجب، وهو متفق عليه؛ إذا أريد أن كل مسلم يثاب على عبادته؛ فلابد أن يكون معه أصل الإيمان فما من مسلم إلا وهو مؤمن، وإن لم يكن هو الإيمان الذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وعمن يفعل الكبائر، وعن الأعراب وغيرهم. فإذا قيل: إن الإسلام والإيمان التام متلازمان، لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر؛ كالروح والبدن، فلا يوجد عندنا روح إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح، وليس أحدهما الآخر؛ فالإيمان كروح، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن. والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حياً إلا مع الروح، بمعنى أنهما متلازمان، لا أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر، وإسلام المنافقين كبدن الميت، جسد بلا روح، فما من بدن حي إلا وفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 روح..؛ فكل من خشع قلبه، خشعت جوارحه، ولا ينعكس، ولهذا قيل: إياكم وخشوع النفاق، وهو أن يكون الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع؛ فإذا صلح القلب صلح الجسد كله، وليس إذا كان الجسد في عبادة يكون القلب قائماً بحقائقهما) (1) .   (1) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 التلازم الظاهر بالباطن إن ظاهر العبد - عند أهل السنة والجماعة - هو الوجه الآخر لقلبه وباطنه، وأنه انعكاس مباشر له لا يتخلف عنه ولا يغايره، وإذا كان الباطن صالحاً كان الظاهر كذلك، وإذا كان الباطن فاسداً كان الظاهر كذلك فاسداً بحسبه؛ لأن الإيمان أصله في القلب، وهو: - قول القلب من المعرفة والعلم والتصديق. - عمل القلب من الإذعان والانقياد والاستسلام. ولكن من لوازم هذا الإيمان - إذا تحقق في القلب - تحقيقها في الظاهر، فالظاهر لا يتخلف عن الباطن ولا يضاده؛ لأنه ترجمان الباطن، ومرتبط به ارتباطاً وثيقاً. فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيماً إلا باستقامة الباطن، وكذلك العكس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 والإيمان المطلوب شرعاً هو الإيمان الظاهر والباطن، وتلازم عمل القلب بعمل الجوارح؛ لأنه لا يصح إيمان العبد بواحدة دون الأخرى؛ فمن زعم وجود العمل في قلبه دون جوارحه؛ لا يثبت له اسم الإيمان؛ لأن الأعمال والأقوال الظاهرة من لوازم الإيمان التي لا تنفك عنه، قال الله تبارك وتعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) . وقال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (2) . وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {2}   (1) سورة المجادلة، الآية: 22. (2) سورة المائدة، الآية: 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (1) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه) (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب.) (3) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في شرح هذا الحديث: (فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد؛ فإذا كان الجسد غير صالح، دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح؛ فعلم أن من يتكلم بالإيمان، ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمناً، حتى أن المكره إذا كان في إظهار الإيمان؛ فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه؛ كما قال عثمان. وأما إذا لم يظهر   (1) سورة الأنفال، الآية: 2 - 4. (2) رواه أحمد في (المسند) مسند أنس بن مالك؛ ج3، ص 198 وحسنه الألباني في (السلسلة الصحيحة) : ج 6، ص 822 (2841) . (3) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: فضل من استبرأ لدينه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أثر ذلك إلا بقوله، ولا بفعله قط؛ فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان، وذلك أن الجسد تابع للقلب؛ فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه) (1) . وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - في شرحه لهذا الحديث أيضاً: (إن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه. فإن كان قلبه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات. وإن كان القلب فاسداً، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب.   (1) (مجموع الفتاوى) ج 14، ص 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، مبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك؛ فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم.. . فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئاً من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهية معصيته ... وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده؛ فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله تعالى، فسد، وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب.. . ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله؛ فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهراً وباطناً، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح الجوارح؛ فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله، وإرادة الله ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله) (1) .   (1) انظر: (جامع العلوم والحكم) لابن رجب؛ ج1، ص 210 في شرح الحديث السادس من الأربعين النووية. تحقيق شعيب الأرناؤوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب، فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي التصديق لما في القلب، ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له؛ لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح؛ كما قال أبو هريرة - رضي الله عنه - إن القلب ملك، والأعضاء جنوده؛ فإن طاب الملك، طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده) (1) . وقال أيضاً: (فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء إنه إذا أقر بالواجب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل   (1) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 644. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان، وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع؛ سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان، أو جزء من الإيمان) (1) . وقال في موضع آخر: (وهنا أصول تنازع الناس فيها: منها أن القلب هل يقوم به تصديق، أو تكذيب، ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر نقيضه من غير خوف؟ فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس؛ أنه لابد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال: إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه، ولم يتكلم قط بالإسلام، ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف؛ فهذا لا يكون مؤمناً في الباطن، وإنما هو كافر) (2) . وقال كذلك: (وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها؛ مثل أن يؤدي الأمانة، أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه؛ من غير   (1) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 616. (2) (مجموع الفتاوى) ج 14، ص 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم (1) . وقال - أيضاً - رحمه الله: (إذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة؛ كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان؛ فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً، وجود هذا كاملاً؛ كما يلزم من نقص هذا، نقص هذا؛ إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب تام بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع (2) . وقال الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله: (وها هنا أصل آخر: وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد. وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه. وعمل الجوارح.   (1) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 621. (2) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 582. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بكماله. وإذا زال تصديق القلب، لم ينفع بقية الأجزاء؛ فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة. وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق؛ فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة؛ فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده؛ كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه، واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول؛ بل ويرون به سراً وجهراً، ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه، ولا نؤمن به. وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب؛ فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم - كما تقدم تقريره - فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد؛ أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق - كما تقدم بيانه - وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 معرفة الحق وتبيينه؛ بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه، والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى؛ فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء؛ كما أن اعتقاد التصديق، وإن سمي تصديقاً؛ فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته) (1) . وقال العلامة المحقق أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: (ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن؛ فإن كان الظاهر منخرماً؛ حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً؛ حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات؛ بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً، والأدلة على صحته كثيرة جداً، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وطاعة المطيع، وعصيان العاصي، وعدالة العدل، وجرحة المجرح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق، إلى غير ذلك من الأمور؛ بل هو كلية التشريع، وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة) (2) .   (1) (كتاب الصلاة وحكم تاركها) : ص 54 تحقيق تيسير زعيتر. (2) (الموافقات) للشاطبي: ج1، ص 367 تحقيق مشهور حسن السلمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الاستثناء في الإيمان أهل السنة والجماعة: يرون جواز الاستثناء في الإيمان في أحوال، وذهب إلى هذا جمهور أئمتهم من السلف والخلف. أي: قول الإنسان عن نفسه إذا سئل هل (أنت مؤمن؟) فيقول بإجابة ليس فيها ما يوهم الجزم والقطع بكمال الإيمان: (أنا مؤمن إن شاء الله) أو (أرجو ... ) أو نحو ذلك. لأن الذي يقول: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ ينبغي عليه إذا قال (أنا مؤمن) أن يستثني؛ لأنه لا يستطيع أن يجزم بأن معه كمال الإيمان، وإن جزم! فقد زكى نفسه؛ لأن الإيمان شامل للاعتقادات والأقوال والأعمال. وأهل السنة والجماعة: يرون الاستثناء في الإيمان؛ لشدة خوفهم من الله تعالى، وإثباتاً لأقداره، ونفياً لتزكية أنفسهم، لا شكاً فيما يجب عليهم الإيمان به، ولكن خوفاً أن لا يكونوا قاموا بحقائقه، ورجاء أن يأتوا بواجباته وكمالاته. ويمنعون الاستثناء إذا كان على وجه الشك في الإيمان؛ لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الشك في ذلك كفر؛ بل يقصدون من ذلك: نفي الشك في إيمانهم من جهة، وعدم الجزم بكماله من جهة أخرى. - لإن الإيمان النافع هو المتقبل عند الله تعالى، إذ أن من قام بالعمل الصالح وأتى به، لا يدري هل يقبل منه عمله أم لا؟ فالاستثناء هنا معناه عدم العلم بالعاقبة. - فأهل السنة والجماعة لا يجزمون لأنفسهم بالإيمان المطلق؛ لأن الإيمان يشمل فعل جميع الطاعات، وترك جميع المنهيات، ولن يستطيع أحد أن يدعي لنفسه أنه جاء بذلك كله على التمام والكمال، وإن قال؛ فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين، وأولياء الله الصالحين! وضمن لنفسه دخول الجنة ابتداءً، وهذا من التألي على الله تعالى - والعياذ بالله - ولا يقولها مسلم عاقل. - وهم بعيدون عن تزكية أنفسهم، ولا أعظم للنفس تزكية وراء الشهادة لها بالإيمان الشامل لكل شعبة. - الاستثناء - عندهم - في الأمور المتيقنة غير المشكوك فيها؛ فما كان مقطوعاً به؛ فلا يجوز الاستثناء. - ومن حكمتهم وتأدبهم مع الله - جل وعلا - يعلقون الأمور كلها بمشيئته سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 - وهم يفضلون الاستثناء ولم يوجبوه؛ لما في تركه من الإيهام بتزكية النفس، والشهادة لها بالكمال. ويكرهون تركه ولم يحرموه؛ وأجازوه على معنى الدخول في الإيمان، لا على كماله؛ فهم يجوزون الأمرين لعدم ورود الدليل على التحريم، أو الوجوب، والله أعلم. - وهم يرون أن السؤال: (هل أنت مؤمن؟) بدعة أحدثها أهل البدع من المرجئة؛ ليحتجوا بها على قولهم في الإيمان: إنه التصديق، وإن العمل ليس من الإيمان؛ خلافاً لعقيدة السلف الصالح. والأدلة على جواز الاستثناء كثيرة في الكتاب، والسنة، وآثار السلف الصالح، وأقوال الأئمة والعلماء منها: قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (1) . وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} (2) .   (1) سورة الكهف، الآيتان: 23، 24. (2) سورة الفتح، الآية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وقوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (1) . وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (2) . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين يدخل المقبرة: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) (3) . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من شهد على نفسه أنه مؤمن؛ فليشهد أنه في الجنة) (4) . وقال رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه: (أنا مؤمن) . فقال ابن مسعود: (أفأنت في الجنة؟) فقال: (أرجو) . فقال ابن مسعود: (أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟) (5) .   (1) سورة النجم، الآية: 32. (2) سورة المؤمنون، الآية: 60. (3) (رواه مسلم) في (كتاب الجنائز) باب: (ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها) . (4) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1048 (1779) . و (كتاب الإيمان) ابن أبي شيبة: ص 49 (138) . و (السنة) عبد الله بن الإمام أحمد: 1/322 (656) . (5) (كتاب الإيمان) الإمام أبو عبيد القاسم: ص 20 (9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل؛ فيعجبني أن نستثني في الإيمان، نقول: أنا مؤمن إن شاء الله) (1) . وقال الوليد بن مسلم: سمعت أبا عمرو - يعني الأوزاعي - ومالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز؛ لا ينكرون أن يقول: أنا مؤمن، ويأذنون في الاستثناء أن أقول: (أنا مؤمن إن شاء الله) (2) . وقال الإمام يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: (ما أدركت أحداً من أصحابنا ولا بلغنا إلا على الاستثناء) (3) . وعن جرير بن عبد الحميد قال: سمعت منصور بن المعتمر، والمغيرة بن مقسم، والأعمش، وليث بن أبي سليم، وعمارة بن القعقاع، وابن شبرمة، والعلاء بن المسيب، وإسماعيل بن أبي خالد، وعطاء بن السائب، وحمزة بن حبيب الزيات، ويزيد بن أبي زياد، وسفيان الثوري، وابن المبارك، ومن أدركت:   (1) (السنة) الإمام الخلال: 3، 600 (156) . (2) (السنة) عبد الله بن الإمام أحمد: 1/347 (744) . (3) (السنة) الخلال: 3/ 595 (1053) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 (يستثنون في الإيمان، ويعيبون على من لا يستثني) (1) . وقال الإمام البيهقي رحمه الله: (وقد روينا هذا - يعني الاستثناء - عن جماعة من الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين) (2) . وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن الإيمان؟ فقال: (قول وعمل ونية) قيل له: فإذا قال الرجل: مؤمن أنت؟ قال: (هذه بدعة) قيل له: فما يرد عليه؟ قال: (يقول: مؤمن إن شاء الله؛ إلا أن يستثني في هذا الموضع) (3) . وقال الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله: (سؤال الرجل الرجل: أمؤمن أنت؟ بدعة) (4) . وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: (إذا سئل: أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، أو يقول: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، ولا يعنف من قال: إن   (1) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1050 (1785) . (2) (شعب الإيمان) البيهقي: 1/ 212. (3) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1057 (1798) . (4) (الإبانة) ابن بطة: 2/880 (1212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الإيمان ينقص، أو قال: مؤمن إن شاء الله، وليس يكره وليس بداخل في الشك) (1) . وقال الإمام الآجري رحمه الله: (من صفة أهل الحق ممن ذكرنا من أهل العلم: الاستثناء في الإيمان، لا على جهة الشك - نعوذ بالله من الشك في الإيمان - ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان، لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا؟ ... هذا طريق الصحابة والتابعين بهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال لا يكون في القول والتصديق في القلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون، به يتوارثون به، يتناكحون به، تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه لك، وبينه العلماء من قبلنا، روي في هذا سنن كثيرة، وآثار تدل على ما قلنا) (2) .   (1) (الإبانة) ابن بطة: 2/881 (1213) . (2) (كتاب الشريعة) الآجري: 2/656 (باب ذكر الاستثناء من الإيمان من غير شك فيه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن الإيمان المطلق؛ يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها؛ فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهو عنه؛ فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة؛ لكان ينبغي له أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، ولا أحد يشهد لنفسه بالجنة؛ فشهادته لنفسه بالإيمان؛ كشهادته لنفسه بالجنة إذا مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر) (1) . وقال: (والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل؛ يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه) (2) .   (1) (مجموع الفتاوى) ج7، ص 446. (2) (مجموع الفتاوى) ج7، ص 505. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الاستثناء في الإسلام أي: قول الإنسان (أنا مسلم إن شاء الله) . فجمهور أهل السنة والجماعة؛ لا يرون الاستثناء في الإسلام كما يرونه في الإيمان؛ لأن الإسلام غير الإيمان كما علمنا سابقاً. فالإيمان درجات، والناس فيه طبقات: منهم المحسن، ومنهم المؤمن، ومنهم المسلم؛ فالإسلام هو أقل هذه الدرجات، وليس وراءه إلا الكفر؛ فمن لم يكن مسلماً كان كافراً، وأما من لم يكن مؤمناً فقد يكون مسلماً، لأن من نطق بالشهادتين أصبح مسلماً، وتميز عن غيره من الكفار، فتجري عليه أحكام الإسلام. فقد دلت النصوص الشرعية على جواز القول: (أنا مسلم) بدون استثناء؛ كما في قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) . وقوله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا   (1) سورة فصلت، الآية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن هذه الآية: (وهذه الآية مما احتج بها أحمد بن حنبل وغيره على أنه يستثنى في الإيمان دون الإسلام، وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام. قال الميموني: سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في أنا مؤمن إن شاء الله؟ فقال: أقول: مؤمن إن شاء الله، وأقول: مسلم ولا أستثني. قال: قلت لأحمد: تفرق بين الإسلام والإيمان؟ فقال لي: نعم. فقلت له: بأي شيء تحتج؟ قال لي: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} (2) (3) .   (1) سورة الحجرات، الآية: 14. (2) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 253. (3) (() تنبيه لمسألة: ( هل الإيمان مخلوق أم غير مخلوق ؟) تفرعت هذه المسألة من مسألة خلق القرآن التي ابتدعها أهل البدع والأهواء. وأهل السنة والجماعة: اتفقوا على أن القرآن كلام الله تعالى؛ منزل غير مخلوق، والله - سبحانه - لم يزل متكلماً إذا شاء، وكلامه لا نهاية له؛ وهم بهذا أثبتوا ما أثبته الكتاب والسنة، ومن اتبع الوحيين فقد أصاب؛ فعليها إن كان المراد من الإيمان شيئاً من صفات الله تعالى وكلامه، كقول (لا إله إلا الله) فهو غير مخلوق. وإن كان المراد منه شيئاً من أفعال العباد وصفاتهم؛ فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة. للبسط في هذا الموضوع انظر: (مجموع الفتاوى) لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ ج 6، ص 313، وما بعدها. ج 7، ص 652، ج 8، ص 422. فقد فصَّل فيه كعادته، رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين خيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 أركان الإيمان إن معتقد أهل السنة والجماعة في أصول الإيمان؛ يتلخص في التصديق بأركانه الستة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل - عليه السلام - لما جاء يسأله عن الإيمان؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) (1) . فالإيمان يقوم على هذه الأركان الستة؛ إذا سقط منها ركن لم يكن الإنسان مؤمناً البتة؛ لأنه فقد ركناً من أركان الإيمان؛ فالإيمان لا يقوم إلا على أركانه تامة، كما لا يقوم البنيان إلا على أركانه مكتملة. لذا لا يتم الإيمان إلا بأركانه الستة جميعاً على الوجه الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة، ومن جحد شيئاً منها فليس بمؤمن، وإن ادعى الإيمان، وقام ببعض أركان الإسلام.   (1) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة) . و (رواه مسلم) في (كتاب الجنائز) باب: (بيان الإيمان والإٍسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 (1) الإيمان بالله الإيمان بالله سبحانه وتعالى: هو التصديق الجازم بوجود الله وربوبيته - جل وعلا - واتصافه بكل صفات الكمال، ونعوت الجلال، واستحقاقه وحده العبادة، واطمئنان القلب بذلك اطمئناناً تُرى آثاره في سلوك الإنسان، والتزامه بأوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه، وهو أساس العقيدة الإسلامية ولبها؛ فهو الأصل، وكل أركان العقيدة مضافة إليه، وتابعة له. فالإيمان بالله تعالى يتضمن الإيمان بوحدانيته، واستحقاقه للعبادة؛ لأن وجوده - جل وعلا - لا شك فيه ولا ريب، وقد دل على وجوده سبحانه وتعالى: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس. ومن الإيمان بالله تعالى الإيمان بوحدانيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وذلك بالإقرار بأنواع التوحيد الثلاثة، واعتقادها، والعمل بها، وهذه الأنواع هي : (توحيد الربوبية، (توحيد الألوهية) ، (توحيد الأسماء والصفات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 1- توحيد الربوبية (1) : معناه الاعتقاد الجازم والإقرار التام؛ بأن الله تعالى وحده رب كل شيء ومليكه، لا شريك له، وهو الخالق وحده، وهو مدبر العالم والمتصرف فيه والقادر عليه، وأنه خالق العباد، ورازقهم، ومحييهم، ومميتهم، ولا معقب لحكمه، والإيمان بقضاء الله وقدره، وبوحدانيته في ذاته، وخلاصته (توحيد الله تعالى بأفعاله) . وقد قامت الأدلة الشرعية على وجوب الإيمان بربوبية الله تعالى؛ كقوله {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) . وقوله: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) . وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (4) . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (5) . وهذا النوع من التوحيد أقر به كفار قريش، وأكثر أصحاب   (1) (() (الربوبية) : (نسبة لاسم الله جل وعلا: (الرب) ولها عدد معانٍ في اللغة منها: المربي، المالك، السيد، المدبر، الوالي، المنعم، المتمم، القيم. ولا يقال الرب - بالألف واللام - لغير الله تعالى إلا بالإضافة، فيقال: رب كذا..) انظر (لسان العرب) ج1، ص 399. و (تاج العروس) ج2، ص 4. (2) سورة الفاتحة، الآية: 1. (3) سورة الأعراف، الآية: 54. (4) سورة البقرة، الآية: 29. (5) سورة الذاريات، الآية: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الملل والديانات؛ فكلهم يعتقدون أن خالق العالم هو الله وحده، قال الله - تبارك وتعالى - عنهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1) . وذلك لأن قلوب العباد مفطورة على الإقرار بربوبيته - جل وعلا - لذا؛ فلا يصبح معتقده موحدا؛ حتى يلتزم بالنوع الثاني من أنواع التوحيد، وهو: 2- توحيد الألوهية (2) : هو إفراد الله تعالى بالعبادة، ويسمى توحيد العبادة، ومعناه الاعتقاد الجازم؛ بأن الله - سبحانه وتعالى - هو الإله الحق ولا إله غيره، وكل معبود سواه باطل، وإفراده تعالى بالعبادة والخضوع والطاعة المطلقة، وأن لا يشرك به أحد كائنا من كان، ولا يصرف شيء من العبادة لغيره تعالى؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والدعاء، والاستعانة، والنذر، والذبح، والتوكل، والخوف   (1) سورة لقمان، الآية: 25. (2) (() (الألوهية) : (مشتقة من كلمة (إله) بمعنى المعبود المطاع، أي: المألوه، وهو شامل لكل من يعبد: الإله الحق وهو الله تعالى، والآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله، ولكن الإله الحق يجب أن يكون خالقاً قادراً رازقاً مدبراً، وعليه مقتدراً؛ فمن لم يكن كذلك فليس بإله، وإن عبد ظلماً، وسمي إلهاً) انظر (لسان العرب) ج1، ص 399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 والرجاء والحب، والإنابة، والخشية، والتذلل، وغيرها من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، وأن يعبد الله بالحب والخوف والرجاء جميعاً، وعبادته ببعضها دون بعض ضلال، قال الله تبارك وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) . وقال: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (2) . وتوحيد الألوهية هو ما دعا إليه جميع الرسل، وإنكاره هو الذي أورد الأمم السابقة موارد الهلاك. وهو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، ولأجله أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وسلت سيوف الجهاد، وفرق بين المؤمنين والكافرين، وبين أهل الجنة وأهل النار. وهو معنى قوله تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} . قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) .   (1) سورة الفاتحة، الآية: 5. (2) سورة المؤمنون، الآية: 117. (3) سورة الأنبياء، الآية: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ومن كان رباً خالقاً، رازقاً، مالكاً، متصرفاً، محيياً، مميتاً، موصوفاً بكل صفات الكمال، ومنزهاً من كل نقص، بيده كل شيء؛ وجب أن يكون إلهاً واحداً لا شريك له، ولا تصرف العبادة إلا له سبحانه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (1) . فتوحيد الربوبية متضمن توحيد الألوهية؛ لأن المشركين لم يعبدوا إلهاً واحداً، وإنما عبدوا آلهة متعددة، وزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، وهم مع ذلك معترفون بأنها لا تضر ولا تنفع؛ لذلك لم يجعلهم الله - سبحانه وتعالى - مؤمنين رغم اعترافهم بتوحيد الربوبية؛ بل جعلهم في عداد الكافرين بإشراكهم غيره في العبادة. ومن هنا يختلف معتقد أهل السنة والجماعة عن غيرهم في توحيد الألوهية؛ فهم لا يعنون كما يعني البعض أن معناها: أنه لا خالق ولا رازق إلا الله فحسب؛ بل إن توحيد الألوهية عندهم لا يتحقق إلا بوجود أصلين: الأول: أن تصرف جميع أنواع العبادة له - سبحانه - دون   (1) سورة الذاريات، الآية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ما سواه، ولا يعطى المخلوق شيئاً من حقوق الخالق وخصائصه. أي: لا يعبد إلا الله تعالى، ولا يصلي لغير الله، ولا يسجد لغير الله، ولا ينذر ولا يذبح لغير الله، ولا يتوكل على غير الله، ولا يستعان إلا به، ولا يدعى غيره تعالى، إلى غير ذلك من الأمور التي هي من خصائص الله تعالى، والتي لا يقدر عليها إلا الله. وإن توحيد الألوهية يقتضي إفراد الله تعالى وحده بالعبادة. والعبادة: تكون بقول القلب واللسان، وبعمل القلب والجوارح، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (1) . وقال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (2) . الثاني: أن تكون العبادة موافقة لما أمر الله تعالى به، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. فتوحيد الله - سبحانه - بالعبادة والخضوع والطاعة والمحبة: هو تحقيق شهادة أن {لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} .   (1) سورة الأنعام، الآيتان: 162- 163. (2) سورة الزمر، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإذعان لما أمر به، ونهى عنه، والانقياد المطلق له صلى الله عليه وسلم: هو تحقيق أن {مُّحَمَّدٌاً رَّسُولُ اللَّهِ} . فمنهج أهل السنة والجماعة: أنهم يعبدون الله تعالى ولا يشركون به شيئاً؛ فلا يسألون إلا الله، ولا يستعينون إلا بالله، ولا يستغيثون إلا به سبحانه، ولا يتوكلون إلا عليه جل وعلا، ولا يخافون إلا منه، ويتقربون إلى الله تعالى بطاعته، وعبادته، وبصالح الأعمال، قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} (1) . 3- توحيد الأسماء والصفات: معناه الاعتقاد الجازم بأن الله - عز وجل - له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو متصف بجميع صفات الكمال، ومنزه عن جميع صفات النقص، متفرد بذلك عن جميع الكائنات. وأهل السنة والجماعة: يعرفون ربهم بصفاته الواردة في القرآن والسنة، ويصفون ربهم بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يحرفون   (1) سورة النساء، الآية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون (1) في أسمائه وآياته، ويثبتون لله ما أثبت لنفسه من غير تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، وقاعدتهم في كل ذلك قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (2) . وقوله: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (3) . وأهل السنة والجماعة: لا يحددون كيفية صفات الله تعالى؛ لأنه - جل وعلا - لم يخبر عن الكيفية، ولأنه لا أحد أعلم من الله - سبحانه - بنفسه. قال تعالى: {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} (4) .   (1) (() (الإلحاد) : هو الميل عن الحق والانحراف عنه؛ ويدخل فيه (التعطيل، والتحريف والتكييف، والتمثيل) . التعطيل: عدم إثبات الصفات، أو إثبات بعضها ونفي الباقي. التحريف: تغيير النص لفظاً أو معنى، وصرفه عن معناه الظاهر إلى معنى لا يدل عليه اللفظ إلا باحتمال مرجوح؛ فكل تحريف تعطيل، وليس كل تعطيل تحريفا. التكييف: بيان الهيئة التي تكون عليها الصفات. التمثيل: إثبات المثل للشيء؛ مشابهاً له من كل الوجوه. (2) سورة الشورى، الآية: 11. (3) سورة الأعراف، الآية: 180. (4) سورة البقرة، الآية: 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (1) . ولا أحد أعلم بالله بعد الله، من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله في حقه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (2) . وأهل السنة والجماعة: يؤمنون أن الله - سبحانه وتعالى - هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، كما قال سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) . وكما أن ذاته - سبحانه وتعالى - لا تشبه الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه الصفات؛ لأنه - سبحانه - لا سمي له، ولا كفء له ولا ند له، ولا يقاس بخلقه؛ فيثبتون لله ما أثبته لنفسه إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل؛ فحين يثبتون لله ما أثبته لنفسه لا يمثلون، وإذا نزهوه لا يعطلون الصفات التي وصف نفسه بها.   (1) سورة النحل، الآية: 74. (2) سورة النجم، الآيتان: 3- 4. (3) سورة الحديد، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ويؤمنون أن الله - سبحانه وتعالى - محيط بكل شيء، وخالق كل شيء، ورازق كل حي، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) . وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2) . ويؤمنون بأن الله تعالى استوى (3) على العرش فوق سبع سموات، كما يؤمنون بعلو الله عن خلقه وأنه بائن من خلقه، أحاط بكل شيء علماً، كما أخبر عن نفسه في كتابه العزيز في سبع آيات كريمات؛ بلا تكييف (4) . قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) .   (1) سورة الملك، الآية: 14. (2) سورة الذاريات، الآية: 58. (3) (() الاستواء على العرش والعلو؛ صفتان نثبتهما لله تعالى إثباتاً يليق بجلاله، وتفسير كلمة (استوى) عند السلف: (استقر، علا، ارتفع، صعد) والسلف يفسرونها بهذه الكلمات لا يتجاوزونها ولا يزيدون عليها، ولم يرد في تفسير السلف تفسيرها بمعنى: (استولى، ولا ملك، ولا قهر) . والكيف مجهول؛ لا يعلمه إلا الله. والإيمان به واجب؛ لثبوت الأدلة. والسؤال عنه بدعة؛ لأن كيفية الاستواء لا يعلمها إلى الله، ولأن الصحابة أيضاً لم يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكيفية. (4) (() وهي على الترتيب: سورة الأعراف، الآية:54. وسورة يونس، الآية:3. وسورة الرعد، الآية:2. وسورة طه، الآية: 5. وسورة الفرقان، الآية: 59. وسورة السجدة، الآية: 4.وسورة الحديد، الآية: 4. (5) سورة طه، الآية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) . وقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (2) . وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (3) . وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (4) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) (5) (6) . وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بأن الكرسي والعرش حق لا ريب فيه، قال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (7) .   (1) سورة الحديد، الآية: 4. (2) سورة الملك، الآيتان: 16- 17. (3) سورة فاطر، الآية: 10. (4) سورة النحل، الآية: 5. (5) (رواه البخاري) في (كتاب المغازي) باب: (بعثة علي بن أبي طالب إلى اليمن) . (6) (() قال الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه - رحمه الله - عن الآيات الاستواء: (إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة) . رواه الإمام الذهبي - بسند صحيح - في (العلو للعلي الغفار) . (7) سورة البقرة، الآية: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 والعرش لا يقدر قدره إلا الله، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في فلاة وسع السموات والأرض، والله مستغن عن العرش والكرسي، وهو - سبحانه - منزه عن أن يحتاج إلى العرش، وما دونه، فشأن الله - تبارك وتعالى - أعظم من ذلك؛ بل العرش والكرسي محمولان بقدرته وسلطانه. وأن الله تعالى خلق آدم - عليه السلام - بيديه، وأن كلتا يديه يمين، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، كما وصف نفسه سبحانه، فقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} (1) . وقال: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2) . وأهل السنة والجماعة: يثبتون لله سمعاً، وبصراً، وعلماً، وقدرة، وقوة، وعزاً، وكلاماً، وحياةً، ومعيةً، ومحبةً، ورحمةً، وغضباً، ورضاً، وقدماً، وساقاً، ويداً، وغيرها من الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في كتابه العزيز، وعلى لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بكيفية يعلمها الله   (1) سورة المائدة، الآية: 64. (2) سورة ص، الآية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ولا نعلمها؛ لأنه لم يخبرنا عن الكيفية، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (1) . {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2) . {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (3) . {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (4) . {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (5) . {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (6) . {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (7) . {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (8) . {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (9) . {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (10) . وغيرها من آيات الصفات.   (1) سورة طه، الآية:46. (2) سورة التحريم، الآية:2. (3) سورة النساء، الآية:164. (4) سورة الرحمن، الآية:27. (5) سورة المائدة، الآية:199. (6) سورة المائدة، الآية:54. (7) سورة الزخرف، الآية:55. (8) سورة الممتحنة، الآية:13. (9) سورة القلم، الآية:42. (10) سورة البقرة، الآية:255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) . وسيرونه كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته..) (2) . وأن الله - سبحانه وتعالى - ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بجلاله وعظمته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له؟) (3) . ويؤمنون بأن الله تعالى يجيء يوم الميعاد للفصل بين العباد، مجيئاً يليق بجلاله، قال سبحانه وتعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ   (1) سورة القيامة، الآيتان: 22 - 23. (2) (رواه البخاري) في (كتاب مواقيت الصلاة) باب: (فضل صلاة العصر وصلاة الفجر) . (3) (رواه البخاري) في (كتاب التهجد) باب: (الدعاء والصلاة في آخر الليل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا {21} وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (1) . {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} (2) . فمنهج أهل السنة والجماعة في كل ذلك: الإيمان الكامل بما أخبر به الله تعالى، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم والتسليم به؛ كما قال الإمام - التابعي الفقيه - محمد بن مسلم الزهري رحمه الله: (من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) (3) . وكما قال الإمام - الحافظ الحجة - سفيان بن عيينة رحمه الله: (كل ما وصف الله تعالى به نفسه في القرآن فقراءته؛ تفسيره لا كيف، ولا مثل) (4) . وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله) (5) .   (1) سورة الفجر، الآيتان: 21- 22. (2) سورة البقرة، الآية: 210. (3) (سيرة أعلام النبلاء) الإمام الذهبي: ج 5، ص 377. (4) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: ج4/478 (736) . (5) (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد) الإمام ابن قدامة المقدسي: ص 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي، وسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية، فقالوا: (أمروها كما جاءت بلا كيف) (1) . وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: (إياكم والبدع) قيل: وما البدع؟ قال: (أهل البدع هم الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان) (2) . وسأله رجل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً) وأمر به أن يخرج من المجلس) (3) . وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: (لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء؛ بل يصفه بما   (1) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: ج3/582 (930) . (2) (شرح السنة) الإمام البغوي: ج1/217. (3) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: ج3/440 (183) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وصف به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئاً؛ تبارك الله تعالى رب العالمين) (1) . ولما سئل - رحمه الله - عن صفة النزول، فقال: (ينزل بلا كيف) (2) . وقال الإمام الحافظ نعيم بن حماد الخزاعي رحمه الله: (من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيهاً) (3) . وقال بعض السلف: (قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم) (4) . فهذه عقيدة السلف الصالح وأقوال أئمتهم في الإيمان بالله؛ فمن سلك مسلكهم يكون ملتزماً بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه سواء كان السالك في عصرهم، أو في العصور المتأخرة، وكل من خالفهم لا يكون منهم، وإن كان موجوداً بينهم.   (1) (جلاء العينين) الآلوسي: ص 368، و (شرح العقيدة الطحاوية) الإمام ابن أبي العز: ص 427 تحقيق الأرناؤوط. (2) (عقيدة السلف أصحاب الحديث) الإمام الصابوني: ص 42 (3) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: ج4/587 (936) . (4) (شرح السنة) الإمام البغوي: ج1/171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 (2) الإيمان بالملائكة الإيمان بالملائكة: هو الإيمان بوجودهم إيماناً جازماً لا يتطرق إليه شك، ولا ريب، قال الله تبارك وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (1) . لقوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً} (2) . فأهل السنة والجماعة: يؤمنون بهم إجمالاً، وأما تفصيلاً فبمن صح به الدليل ممن سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كجبريل الموكل بالوحي، وميكائيل الموكل بالمطر، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، وملك الموت الموكل بقبض الأرواح، ومالك خازن النار.   (1) سورة البقرة، الآية: 285. (2) سورة النساء، الآية: 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بوجودهم، وأنهم عباد مخلوقون، خلقهم الله تعالى من نور، وهم ذوات حقيقية، وليسوا قوى خفية، وهم خلق من خلق الله تعالى. والملائكة خلقتهم عظيمة، منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك، وثبت أن جبريل - عليه السلام - له ستمائة جناح. وهم جند من جنود الله، قادرون على التمثل بأمثال الأشياء، والتشكل بأشكال جسمانية؛ حسبما تقتضيها الحالات التي يأذن بها الله - سبحانه وتعالى - وهم مقربون من الله ومكرمون. والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، ولا يملون عن عبادة الله تعالى، ولا يفترون، ولا يتعبون، ويتصفون بالحسن، والجمال، والحياء، والنظام. والملائكة يختلفون عن البشر؛ بأنهم جبلوا على الطاعة وعدم العصيان، خلقهم الله لعبادته وتنفيذ أوامره، قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ {26} لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ {27} يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (1) . والملائكة يسبحون الله ليلاً ونهاراً، ويطوفون بالبيت المعمور في السماء السابعة، وهم يخشون الله تعالى ويخافونه. منهم الموكلون بحمل العرش، ومنهم الموكلون بالوحي، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم خزنة الجنة وخزنة النار. ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد، ومنهم الموكلون بقبض أرواح المؤمنين، ومنهم الموكلون بقبض أرواح الكافرين، ومنهم الموكلون بسؤال العبد في القبر. ومنهم من يستغفرون للمؤمنين ويصلون عليهم ويحبونهم، ومنهم من يشهد مجالس العلم وحلقات الذكر؛ فيحفونهم بأجنحتهم، ومنهم من هو قرين للإنسان لا يفارقه، ومنهم من يدعو العباد إلى فعل الخير، ومنهم من يشهد جنائز الصالحين، ويقاتلون مع المؤمنين ويثبتونهم في جهادهم مع أعداء الله. ومنهم الموكلون بحماية الصالحين، وتفريج كربهم، ومنهم   (1) سورة الأنبياء، الآيات: 26 - 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الموكلون بالعذاب. والملائكة لا يدخلون بيتاً فيه تمثال، ولا صورة، ولا كلب، ولا جرس، ويتأذون مما تتأذى منه بنو آدم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة) (1) . وقال: (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة) (2) . والملائكة كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل. قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (3) . وقد حجبهم الله تعالى عنا؛ فلا نراهم في صورهم التي خلقوا عليها، ولكن كشفهم لبعض عباده، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلقه الله عليها مرتين، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى {13} عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} (4) . وقال: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ {22} وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} (5) .   (1) (رواه مسلم) في (كتاب اللباس والزينة) باب: (تحريم تصوير صورة الحيوان) . (2) المرجع السابق. (3) سورة المدثر، الآية: 31. (4) سورة النجم، الآيتان: 13 - 14. (5) سورة التكوير، الآيتان: 22 - 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 (3) الإيمان بالكتب أهل السنة والجماعة: يؤمنون ويعتقدون اعتقاداً جازماً أن الله - عز وجل - أنزل على رسله كتباً فيها أمره، ونهيه، ووعده ووعيده، وما أراده الله من خلقه، وفيها هدى ونور، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (1) . وأن الله أنزل كتبه على رسله لهداية البشرية، قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (2) . ومن هذه الكتب: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، وأعظمها التوراة والإنجيل والقرآن، وأعظم الثلاثة وناسخها وأفضلها هو القرآن. ولم يتكفل الله سبحانه بحفظ شيء من هذه الكتب - عدا   (1) سورة البقرة، الآية: 285. (2) سورة إبراهيم، الآية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 القرآن - بل استحفظ عليها الأحبار والربانيون؛ لكنهم لم يحافظوا عليها، وما رعوها حق رعايتها؛ فحصل فيها تغيير وتبديل. والقرآن العظيم: هو كلام رب العالمين، وكتابه المبين، وحبله المتين؛ أنزله الله على رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليكون منهجاً للأمة، ومخرجاً للناس من الظلمات إلى النور، وهادياً لهم إلى الرشاد، وإلى الصراط المستقيم. وقد بين الله فيه أخبار الأولين والآخرين، وخلق السموات والأرضين، وفصل فيه الحلال والحرام، وأصول الآداب والأخلاق وأحكام العبادات والمعاملات، وسيرة الأنبياء والصالحين، وجزاء المؤمنين والكافرين، ووصف الجنة دار المؤمنين، ووصف النار دار الكافرين،، وجعله شفاء لما في الصدور، وتبياناً لكل شيء، وهدى ورحمة للمؤمنين، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) . ويجب على جميع الأمة اتباعه وتحكيمه مع ما صح من السنة   (1) سورة النحل، الآية: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله بعث رسوله إلى جميع الثقلين؛ ليبين لهم ما أنزله إليهم، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) . وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بأن القرآن كلام الله تعالى - حروفه ومعانيه - منه بدأ وإليه يعود، منزل غير مخلوق، تكلم الله به حقاً، وأوحاه إلى جبريل؛ فنزل به جبريل - عليه السلام - على محمد صلى الله عليه وسلم. أنزله الحكيم الخبير بلسان عربي مبين، ونقل إلينا بالتواتر الذي لا يرقى إليه شك، ولا ريب، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (2) . والقرآن الكريم: مكتوب في اللوح المحفوظ، وتحفظه الصدور، وتتلوه الألسن، ومكتوب في الصحف، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (3) .   (1) سورة النحل، الآية: 44. (2) سورة الشعراء، الآيات: 192 - 195. (3) سورة العنكبوت، الآية: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وقال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ {77} فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ {78} لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ {79} تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (1) . والقرآن الكريم: المعجزة الكبرى الخالدة لنبي الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهو آخر الكتب السماوية؛ لا ينسخ ولا يبدل، وقد تكفل الله بحفظه من أي تحريف، أو تبديل، أو زيادة، أو نقص إلى يوم يرفعه الله تعالى، وذلك قبل يوم القيامة. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) . وأهل السنة والجماعة: يكفرون من أنكر حرفاً منه أو زاد أو نقص، وعلى هذا فنحن نؤمن إيماناً جازماً بأن كل آية من آيات القرآن منزلة من عند الله، وقد نقلت إلينا بطريق التواتر القطعي. والقرآن الكريم: لم ينزل جملة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نزل منجماً، أي مفرقاً حسب الوقائع، أو جواباً عن أسئلة، أو حسب مقتضيات الأحوال في ثلاث وعشرين سنة.   (1) سورة الواقعة، الآيات: 77 - 80. (2) سورة الحجر، الآية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 والقرآن الكريم: يحتوي على (114) سورة، (86) منها نزلت في مكة، و (28) منها نزلت في المدينة، وتسمى السور التي نزلت قبل الهجرة النبوية بالسور المكية، والسور التي نزلت بعد الهجرة بالسور المدنية، وفيه تسع وعشرون سورة افتتحت بالحروف المقطعة. وقد كتب القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبمرأى منه؛ حيث كان للوحي كتبة من خيرة الصحابة - رضي الله عنهم - يكتبون كل ما نزل من القرآن وبأمر من النبي صلى الله عليه وسلم ثم جمع في عهد أبي بكر بين دفتي المصحف، وفي عهد عثمان على حرف واحد؛ رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وأهل السنة والجماعة: يهتمون بتعليم القرآن وحفظه، وتلاوته، وتفسيره، والعمل به. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (1) . ويتعبدون لله تعالى بقراءته؛ لأن في قراءة كل حرف منه حسنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:   (1) سورة ص، الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ولا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) (1) . وأهل السنة والجماعة: لا يجوزون تفسير القرآن بالرأي المجرد؛ فإنه من القول على الله - عز وجل - بغير علم، ومن عمل الشيطان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {168} إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (2) . بل يفسر القرآن بالقرآن وبالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين، ثم باللغة العربية التي نزل بها القرآن.   (1) (رواه الترمذي) في (كتاب فضائل القرآن) باب: (ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن) وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) ج 3، ص9. (2) سورة البقرة، الآيتان: 168- 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 (4) الإيمان بالرسل أهل السنة والجماعة: يؤمنون ويعتقدون اعتقاداً جازماً بأن الله تعالى أرسل إلى عباده رسلاً مبشرين ومنذرين، ودعاة إلى دين الحق؛ لهداية البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور. فكانت دعوتهم إنقاذاً للأمم من الشرك والوثنية، وتطهيراً للمجتمعات من التحلل والفساد، وأنهم بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا أممهم، وجاهدوا في الله حق جهاده، وقد جاؤوا بمعجزات باهرات تدل على صدقهم، ومن كفر بواحد منهم؛ فقد كفر بالله تعالى وبجميع الرسل - عليهم السلام - قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً {150} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا {151} وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (1) .   (1) سورة النساء، الآيات: 150- 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وقد بين الله الحكمة من بعثة الرسل الكرام، فقال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) . ولقد أرسل الله تعالى رسلاً وأنبياء كثيرين منهم من ذكره لنا في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ومنهم من لم يخبرنا عنهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (2) . وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (3) . والمذكور من أسمائهم في القرآن خمسة وعشرون رسولاً ونبياً، وهم: أبو البشر آدم، إدريس، نوح، هود، صالح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، شعيب، أيوب، ذو الكفل، موسى، هارون، داود، سليمان، إلياس، اليسع، يونس، زكريا، يحيى، عيسى، ومحمد خاتم الأنبياء والرسل؛ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.   (1) سورة النساء، الآية: 165. (2) سورة غافر، الآية: 78. (3) سورة النحل، الآيات: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وقد فضل الله - سبحانه وتعالى - بعض الأنبياء والرسل على بعض، وقد أجمعت الأمة على أن الرسل أفضل من الأنبياء، والرسل بعد ذلك متفاضلون فيما بينهم، وأفضل الرسل والأنبياء أولو العزم، وهم خمسة: محمد، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وأفضل أولي العزم نبي الإسلام، وخاتم الأنبياء والمرسلين ورسول رب العالمين؛ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) . وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بهم جميعاً من سمى الله منهم ومن لم يسم، من أولهم آدم.. إلى آخرهم وخاتمهم وأفضلهم نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله؛ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. والإيمان بالرسل إيمان مجمل، والإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إيمان مفصل؛ يقتضي ذلك من المسلمين اتباعه صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من ربه على وجه التفصيل.   (1) سورة الأحزاب، الآية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 (محمد رسول الله) (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) هو: أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وعدنان من ولد نبي الله إسماعيل بن إبراهيم الخليل على نبينا وعليهما السلام. وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسول الله إلى الناس أجمعين، عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، وهو خير الخلائق، وأفضلهم وأكرمهم على الله تعالى، وأعلاهم درجة، وأقربهم إليه وسيلة. وهو المبعوث إلى الثقلين؛ بالحق والهدى، بعثه الله رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (1) . أنزل عليه كتابه وأتمنه على دينه، وكلفه بتبليغ رسالته، وقد عصمه من الزلل في تبليغه لهذه الرسالة، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (2) .   (1) سورة الأنبياء، الآية: 107. (2) سورة النجم، الآيتان: 3 - 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، ومن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (1) . وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2) . وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بأن الله تعالى أيد نبيه صلى الله عليه وسلم بالمعجزات (3) الظاهرة والآيات الباهرة: ومن تلك المعجزات وأعظمها القرآن الذي تحدى الله تعالى به أفصح الأمم وأبلغها، وأقدرها على المنطق (4) .   (1) سورة النساء، الآية: 65. (2) سورة سبأ، الآية: 28. (3) (() (المعجزة) : هي أمر خارق للعادة لا يقدر عليه البشر، يظهره الله على يد النبي وفق دعواه تصديقاً له، وإن وقوع المعجزة أمر ممكن؛ ذلك أن الله الذي خلق الأسباب والمسببات قادر على أن يغير نظامها؛ فلا تخضع لما كانت له من قبل! ولا عجب في ذلك ولا غرابة بالنسبة لقدرة الله التي لا تحد بحدود؛ فهو يفعل ما يريد وبأسرع ما يكون، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . (4) (() انظر الركن الثالث من هذا الكتاب (الإيمان بالكتب) : ص (136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ومن أكبر المعجزات - بعد القرآن - التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم؛ معجزة الإسراء والمعراج. فأهل السنة والجماعة: يؤمنون بأن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به في اليقظة بروحه وجسده إلى السماء، وذلك في ليلة الإسراء، وقد أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بنص القرآن. قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1) . ثم عرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء، حيث صعد حتى السماء السابعة، ثم فوق ذلك حيث شاء الله من العلى، عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه وكلمه، وشرع له خمس صلوات في اليوم والليلة، ودخل الجنة فاطلع عليها، واطلع على النار، ورأى الملائكة، ورأى جبريل على صورته الحقيقة التي خلقه الله عليها، وما كذب فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، بل كان كل ما رآه بعيني رأسه حقاً، تعظيماً له وتشريفاً على سائر الأنبياء وإظهاراً لعلو مقامه صلى الله عليه وسلم فوق الجميع، ثم نزل   (1) سورة الإسراء، الآية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 بيت المقدس وصلى إماماً بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ثم عاد إلى مكة قبل الفجر (1) . قال الله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى {12} وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى {13} عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى {14} عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى {15} إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى {16} مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى {17} لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (2) . ومن معجزاته أيضاً؛ صلى الله عليه وآله سلم: انشقاق القمر: آية عظيمة أعطاها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم دليلاً على نبوته، وكان ذلك في مكة حينما طلب المشركون منه آية. تكثير الطعام له، وقد وقع هذا منه صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة. تكثير الماء ونبعه من بين أصابعه الشريفة، وتسبيح الطعام له وهو يؤكل، وقد وقع هذا الشيء كثيراً من الرسول صلى الله عليه وسلم. إبراء المرضى، وشفاء بعض أصحابه على يديه صلى الله عليه وسلم دون دواء حسي.   (1) (() وقد ثبت في (الصحيحين) وغيرهما من كتب السنن والمسانيد؛ تفاصيل ما كان في تلك الليلة المباركة. (2) سورة النجم، الآيات: 12 - 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 أدب الحيوان معه، وإذعان الأشجار إليه، وتسليم الأحجار عليه؛ صلوات الله وسلامه عليه. الانتقام العاجل من بعض من خانه وعانده صلى الله عليه وسلم. إخباره ببعض الأمور الغيبية، وإخباره عن الأمور التي وقعت بعيداً عنه فور وقوعها، وإخباره عن أمور غيبية قبل حدوثها؛ فحدثت بعد ذلك كما أخبر به صلى الله عليه وسلم. إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم عامة. وحفظ الله تعالى له صلى الله عليه وسلم وكف الأعداء عنه. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم! قال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة؛ عضواً عضواً) (1) .   (1) (رواه مسلم) في (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم) باب: (إن الإنسان ليطغى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 (5) الإيمان باليوم الآخر أهل السنة والجماعة: يعتقدون ويؤمنون باليوم الآخر، ومعناه الاعتقاد الجازم والتصديق الكامل؛ بيوم القيامة، والإيمان بكل ما أخبر به الله تعالى في كتابه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، وحتى يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. لقد أكد الله - سبحانه وتعالى - ذكر اليوم الآخر في كتابه العزيز في مواضع كثيرة، وربط الإيمان به بالإيمان بالله. قال تعالى: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (1) . وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بأن وقت قيام الساعة علمه عند الله - سبحانه وتعالى - لا يعلمه أحد إلا الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (2) . وإذا كان الله قد أخفى وقت وقوع الساعة عن عباده فإنه تعالى   (1) سورة البقرة، الآية: 4. (2) سورة لقمان، الآيات: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قد جعل لها أمارات وعلامات وأشراطاً؛ تدل على قرب وقوعها. ويؤمنون بكل ما وقع وسيقع من أشراط الساعة الصغرى والكبرى التي هي أمارات على قيام الساعة؛ لأنها تدخل في الإيمان باليوم الآخر. علامات الساعة الصغرى : وهي التي تتقدم الساعة بأزمان متفاوتة، وتكون من النوع المعتاد وقد يظهر بعضها مصاحباً للأشراط الكبرى، وعلامات أشراط الساعة الصغرى كثيرة جداً؛ نذكر شيئاً مما صح منها: فمن ذلك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وختم النبوة والرسالة به، وموته صلى الله عليه وسلم وفتح بيت المقدس، وظهور الفتن، واتباع سنن الأمم الماضية من اليهود والنصارى، وخروج الدجالين، وأدعياء النبوة. ووضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفض سنته، وكثرة الكذب، وعدم التثبت في نقل الأخبار، ورفع العلم والتماس العلم عند الأصاغر، وظهور الجهل والفساد، وذهاب الصالحين، ونقض عرى الإسلام عروة عروة، وتداعي الأمم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم غربة الإسلام وأهله. وكثرة القتل، وتمني الموت من شدة البلاء، وغبطة أهل القبور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وتمني الرجل أن يكون مكان الميت من شدة البلاء، وكثرة موت الفجأة والموت في الزلازل والأمراض، وقلة عدد الرجال، وكثرة النساء، وظهورهن كاسيات عاريات، وتفشي الزنا في الطرقات، وظهور أعوان الظلمة الذين يجلدون الناس. وظهور المعازف، والخمر، والزنا، والربا، والحرير، واستحلالها، وظهور الخسف والمسخ والقذف. وتضييع الأمانة، وإسناد الأمر إلى غير أهله، وزعامة الأراذل من الناس، وارتفاع أسافلهم على خيارهم، وولادة الأمة ربتها، والتطاول في البنيان، وتباهي الناس في زخرفة المساجد، وتغير الزمان؛ حتى تعبد الأوثان، ويظهر الشرك في الأمة. والسلام على المعارف فقط، وكثرة التجارة، وتقارب الأسواق ووجود المال الكثير في أيدي الناس مع عدم الشكر، وكثرة الشح، وكثرة شهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور الفحش، والتخاصم والتباغض والتشاحن، وقطيعة الرحم، وسوء الجوار. وتقارب الزمان وقلة البركة في الأوقات، وانتفاخ الأهلة، وحدوث الفتن كقطع الليل المظلم، ووقوع التناكر بين الناس، والتهاون بالسنن التي رغب فيها الإسلام، وتشبه الشيوخ بالشباب. وكلام السباع والجمادات للإنس، وحسر ماء الفرات عن جبل من ذهب، وصدق رؤيا المؤمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وما يقع من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تنفي الخبث، فلا يبقى فيها إلا الأتقياء الصالحون، وعودة جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً، وخروج رجل من قحطان يدين له الناس. وكثرة الروم وقتالهم للمسلمين، وقتال المسلمين لليهود حتى يقول الحجر والشجر: (يا مسلم هذا يهودي؛ فتعال فاقتله) (1) . وفتح روما كما فتحت القسطنطينية.. إلى غير ذلك من علامة الساعة الصغرى الثابتة في الأحاديث الصحيحة. علامات الساعة الكبرى : وهي التي تدل على قرب قيام الساعة؛ فإذا ظهرت كانت الساعة على إثرها، وأهل السنة والجماعة؛ يؤمنون بها كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنها: ظهور المهدي: وهو محمد بن عبد الله من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج من قبل المشرق يملك سبع سنين، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجورا، تنعم الأمة في عهده نعمة لم تنعمها قط، تخرج الأرض نباتها، وتمطر السماء قطرها، ويعطي المال بغير عدد.   (1) (رواه البخاري) في (كتاب الجهاد) باب: (قتال اليهود) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وخروج المسيح الدجال (1) ونزول المسيح عيسى بن مريم - عليه السلام - عند المنارة البيضاء شرقي دمشق الشام، وينزل حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم عاملاً بها، وأنه يقتل الدجال، ويحكم في الأرض بالإسلام، ويكون نزوله على الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق، وتكون مجتمعة لقتال الدجال؛ فينزل وقت إقامة الصلاة يصلي خلف أمير تلك الطائفة. وخروج يأجوج ومأجوج، والخسوفات الثلاثة: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وخروج الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض وتكليمها للناس، والنار التي تسوق الناس إلى أرض المحشر. وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بكل ما يكون من أمور الغيب بعد الموت، مما أخبر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من سكرات الموت، وحضور ملائكة الموت، وفرح المؤمن بلقاء ربه، وحضور الشيطان عند الموت، وعدم قبول إيمان   (1) (() وفتنة المسيح الدجال من أعظم الفتن؛ لأن الدجال هو منبع الكفر والضلال والفتن، ومن أجل ذلك فقد حذر منه الأنبياء أقوامهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من فتنة الدجال دبر كل صلاة، وحذر منه أمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الكافر عند الموت، وعالم البرزخ، ونعيم القبر وعذابه وفتنته للروح والجسد، وسؤال الملكين وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأن أرواح أهل السعادة منعمة، وأرواح أهل الشقاوة معذبة. ويؤمنون بيوم القيامة الكبرى الذي يحيي الله فيه الموتى، ويبعث العباد من قبورهم، ثم يحاسبهم. ويؤمنون بالنفخ في الصور، وهي نفختان، وقيل: ثلاث نفخات: الأولى: نفخة الفزع. الثانية: نفخة الصعق التي يتغير بها العالم المشاهد، ويختل نظامه، وفيها الفناء والصعق، وفيها هلاك من قضى الله إهلاكه. الثالثة: نفخة البعث، والنشور، والقيام لرب العالمين. ويؤمنون بالبعث والنشور، وأن الله يبعث من في القبور؛ فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا، تدنو منهم الشمس؛ فيعرقون على قدر أعمالهم، ومنهم من يلجمه العرق، وأول من يبعث وتنشق عنه الأرض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك اليوم العظيم يخرج الناس من الأجداث كأنهم جراد منتشر، مسرعين مهطعين إلى الداعي، وقد خفتت كل حركة، وخيم الصمت الرهيب، حيث تنشر صحف الأعمال؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فيكشف المخبوء، ويظهر المستور، ويفتضح المكنون في الصدور، ويكلم الله عباده يوم القيامة ليس بينه وبينهم ترجمان، ويدعى الناس بأسمائهم وأسماء آبائهم. ويؤمنون بالميزان الذي له كفتان توزن به أعمال العباد. ويؤمنون بما يكون من نشر الدواوين، وهي صحائف الأعمال، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره. والصراط منصوب على متن جهنم، يتجاوزه الأبرار، ويزل عنه الفجار (1) . والجنة والنار مخلوقتان، وموجودتان الآن، لا تفنيان أبداً، وقد خلقهما الله تعالى قبل الخلق، والجنة دار المؤمنين الموحدين والمتقين، والنار دار المذنبين، والكافرين من المشركين، واليهود، والنصارى، والمنافقين، والملحدين، والوثنيين.   (1) (() (الصراط) : هو الجسر الممدود على ظهر جهنم ليعبر الناس عليه إلى الجنة. ويمرون الناس على الصراط بقدر أعمالهم؛ فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنه من يعدو عدوا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم من يخطف ويلقى في جهنم؛ كل بحسب عمله، حتى يطهر من ذنوبه وآثامه، ومن اجتاز الصراط تهيأ لدخول الجنة؛ فإذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار؛ فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ويؤمنون بأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أولى الأمم محاسبة يوم القيامة، وأولى الأمم في دخول الجنة، وهم نصف أهل الجنة، ويدخل الجنة منهم سبعون ألفاً بغير حساب. ويؤمنون بعدم خلود الموحدين في النار، وهم الذين دخلوا النار بمعاص ارتكبوها غير الإشراك بالله تعالى؛ لأن المشركين خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا، والعياذ بالله. ويؤمنون بحوض نبينا صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وريحه أطيب من المسك، وآنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر وعرضه شهر، من شرب منه لا يظمأ أبدا، ويحرم ذلك على من ابتدع في الدين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبدا) (1) . وقال: (إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً. ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم) . وفي رواية:   (1) (رواه البخاري) في (كتاب الرقاق) باب: (في الحوض) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 (فأقول: إنهم مني؛ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي) (1) . والشفاعة والمقام المحمود لنبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وشفاعته لأهل الموقف لفصل القضاء بينهم هي المقام المحمود، وشفاعته لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة، ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم أول داخل فيها، وشفاعته لعمه أبي طالب أن يخفف عنه من العذاب. وهذه الشفاعات الثلاث خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وليست لأحد غيره. وشفاعته صلى الله عليه وسلم لرفع درجات بعض أمته ممن يدخلون الجنة إلى درجات عليا، وشفاعته صلى الله عليه وسلم لطائفة من أمته يدخلون الجنة بغير حساب. وشفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها. وشفاعته صلى الله عليه وسلم في إخراج عصاة الموحدين من النار؛ فيشفع لهم صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة. وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة، والنبيون، والشهداء،   (1) (رواه البخاري) في (كتاب الرقاق) باب: (في الحوض) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 والصديقون، والصالحون، والمؤمنون (1) . ثم يخرج الله - تبارك وتعالى - من النار أقواماً بغير شفاعة؛ بل بفضله ورحمته. فأما الكفار؛ فلا شفاعة لهم، لقوله تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (2) . وعمل المؤمن يوم القيامة يشفع له أيضاً، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة) (3) . والموت يؤتى به يوم القيامة؛ فيذبح كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، أتي بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار؛ ثم يذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة! لا موت. ويا أهل النار! لا موت؛ فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم) (4) .   (1) (() ويشترط لهذه الشفاعة شرطان: الأول: إذن الله تعالى في الشفاعة، لقوله: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] . الثاني: رضا الله تعالى عن الشافع والمشفوع له، لقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] . (2) سورة المدثر، الآية: 48. (3) انظر (صحيح الجامع الصغير) للألباني برقم: (3882) . (4) (رواه مسلم) في (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها) باب: (النار يدخلها الجبارون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 (6) الإيمان بالقدر أهل السنة والجماعة: يعتقدون اعتقاداً جازماً أن كل خير وشر يكون بقضاء الله وقدره، وأن الله فعال لما يريد؛ فكل شيء بإرادته، ولا يخرج عن مشيئته وتدبيره، وعلم كل ما كان وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وقدر المقادير للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته، وعلم أحوال عباده، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وغير ذلك من شؤونهم؛ فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته. وملخص القول في القدر: هو ما سبق به العلم، وجرى به القلم، مما هو كائن إلى الأبد. قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} (1) . وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2) .   (1) سورة الأحزاب، الآية: 38. (2) سورة القمر، الآية: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) (1) . وأهل السنة يقولون: الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأربعة أمور، وتسمى: مراتب القدر، أو أركانه، وهذه الأمور هي المدخل لفهم مسألة القدر، ولا يتم الإيمان بالقدر إلا بتحقيق جميع أركانه؛ لأن بعضها مرتبط ببعض؛ فمن أقر بها جميعا اكتمل إيمانه بالقدر، ومن انتقص واحداً منها، أو أنكره؛ فقد اختل إيمانه بالقدر. المرتبة الأولى: العلم: الإيمان بأن الله تعالى عالم بكل ما كان، وما يكون، وما لم يكن، لو كان كيف يكون؛ جملة وتفصيلاً، وأنه علم ما الخلق عاملون قبل خلقهم، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وحركاتهم وسكناتهم، وعلم الشقي منهم والسعيد، وذلك بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) .   (1) (رواه الترمذي) في (كتاب القدر) باب: (ما جاء أن الإيمان بالقدر خيره وشره) وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) ج 2، ص 277. (2) سورة التوبة، الآية: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 المرتبة الثانية: الكتابة: وهي الإيمان بأن الله كتب ما سبق به علمه من مقادير المخلوقات في اللوح المحفوظ، وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه من شيء؛ فكل ما جرى وما يجري وكل كائن إلى يوم القيامة؛ فهو مكتوب عند الله تعالى في أم الكتاب، ويسمى: الذكر، والإمام، والكتاب المبين، قال الله تبارك وتعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (1) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد) (2) . المرتبة الثالثة: الإرادة والمشيئة: أي: أن كل ما يجري في هذا الكون فهو بإرادة الله ومشيئته الدائرة بين الرحمة والحكمة، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وسلطانه، وهم   (1) سورة يس، الآية: 12. (2) (رواه الترمذي) في (كتاب القدر) باب: (الرضا بالقضاء) وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) ج 2، ص 299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 يسألون، وما وقع من ذلك؛ فإنه مطابق لعلمه السابق المكتوب في اللوح المحفوظ، فمشيئة الله نافذة، وقدرته شاملة، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ فلا يخرج عن إرادته شيء. قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد؛ يصرفه حيث يشاء) (2) . المرتبة الرابعة: الخلق: وهي الإيمان أن الله خالق كل شيء، لا خالق غيره ولا رب سواه، وأن كل ما سواه مخلوق؛ فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، قال الله تبارك وتعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3) . فهو - سبحانه وتعالى - خالق العباد وأفعالهم، وأن كل ما يجري من خير وشر، وكفر وإيمان، وطاعة ومعصية شاءه الله، وقدره، وخلقه، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} (4) .   (1) سورة التكوير، الآية: 29. (2) (رواه مسلم) في (كتاب القدر) باب: (تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء) . (3) سورة الفرقان، الآية: 2. (4) سورة يونس، الآية: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وقال: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} (1) . وأن الله تعالى الخالق المتفرد بالخلق والإيجاد؛ فهو خالق كل شيء بلا استثناء، لا خالق غيره ولا رب سواه، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (2) . وأن الله يحب الطاعة ويكره المعصية، ويهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله، قال الله تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (3) . ولا حجة لمن أضله ولا عذر له؛ لأن الله قد أرسل الرسل لقطع الحجة، وأضاف عمل العبد إليه، وجعله كسبا له، ولم يكلفه إلا بما يستطيع، قال الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} (4) . وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (5) . وقال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (6) .   (1) سورة التوبة، الآية: 51. (2) سورة الزمر، الآية: 62. (3) سورة الزمر، الآية: 7. (4) سورة غافر، الآية: 17. (5) سورة الإنسان، الآية: 3. (6) سورة النساء، الآية: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (1) . ولكن لا ينسب الشر إلى الله لكمال رحمته؛ لأنه أمر بالخير ونهى عن الشر، وإنما يكون الشر في مقتضياته وبحكمته. قال تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (2) . والله - سبحانه وتعالى - منزه عن الظلم، ومتصف بالعدل؛ فلا يظلم أحداً مثقال ذرة، وكل أفعاله عدل ورحمة. قال الله تعالى: {وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (3) . وقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (4) . وقال: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (5) . والله تعالى لا يسأل عما يفعل وعما يشاء لقوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (6) . فالله تعالى خلق الإنسان وأفعاله، وجعل له إرادة، وقدرة، واختياراً، ومشيئة، وهبها الله له لتكون أفعاله منه حقيقة لا مجازا،   (1) سورة البقرة، الآية: 286. (2) سورة النساء، الآية: 79. (3) سورة ق، الآية: 29. (4) سورة الكهف، الآية: 49. (5) سورة النساء، الآية: 40. (6) سورة الأنبياء، الآية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ثم جعل له عقلاً يميز به بين الخير والشر، ولم يحاسبه إلا على أعماله التي هي بإرادته واختياره؛ فالإنسان غير مجبر بل له مشيئة واختيار؛ فهو يختار أفعاله وعقائده؛ إلا أنه تابع في مشيئته لمشيئة الله، وكل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فالله تعالى هو الخالق لأفعال العباد، وهم الفاعلون لها؛ فهي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً، ومن العبد فعلاً وكسبا، قال تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ {28} وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) . ولقد رد الله تعالى على المشركين حين احتجوا بالقدر، وقالوا: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (2) . فرد الله عليهم كذبهم، بقوله: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} (3) . وأهل السنة والجماعة: يعتقدون أن القدر سر الله في خلقه، لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ضلالة؛ لأن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، قال تعالى:   (1) سورة التكوير، الآيتان: 28 - 29. (2) سورة الأنعام، الآية: 148. (3) المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1) . وأهل السنة والجماعة: يسلمون تسليماً مطلقاً لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (2) . ويحاجون به من خالفهم من الفرق الضالة والمنحرفة. وهذا هو الذي آمن به السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان؛ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.   (1) سورة يس، الآية: 12. (2) سورة النساء، الآية: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 نعمة الإيمان وحالاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 إن الإيمان نعمة عظيمة جليلة في حياة المسلم، تزكي العمر وتبارك الحياة، وتضمن الآخرة، وترفع صاحبها في الدنيا والآخرة؛ لأن فيها الحياة الحقيقية والسعادة الأخروية، وهذه النعمة لا يعرفها إلا من ذاق طعمها، ولا يحس بها إلا من عاشها. والإيمان نور هاد مضيء يهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده، ويصرفه عمن يشاء، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (1) . فالإيمان منحة ربانية يمنها الله تعالى على عباده المؤمنين الصادقين برحمته وبفضله وعطائه، فمن وجده فقد وجد الخير كله، ومن فقده فقد كل شيء، ولم ينفعه أي شيء، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (2) .   (1) سورة الرعد، الآية: 27. (2) سورة الحجرات، الآية: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 والإيمان نعمة يشعر بها من آمن بالله تعالى رباً، وبرسوله صلى الله عليه وسلم نبياً، وأطاع الله، وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل فيما أمر به، وانتهى عما نهي عنه، باطناً وظاهراً؛ فإذا فعل ذلك كان من المؤمنين الصادقين، وحشر في زمرتهم ومع خيرتهم، قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (1) . وللإيمان مع المؤمنين المتقين الصادقين العاملين بأوامر الله تعالى بإخلاص، والمتبعين لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ حالات وصفات يهبها الله تعالى لهم بفضله ورحمته، منها: كتابة الإيمان في القلوب: يكتب الله - سبحانه وتعالى - الإيمان في قلوب عبادة كتابة دائمة ثابتة؛ فلا يفارقهم ما داموا مع الله - جل وعلا - فإذا ثبت ورسخ واستقر في القلوب، لا يقوى أحد على محوه أبداً؛ لأنه هبة الله - جل وعلا - لعباده الصالحين العاملين، قال تعالى:   (1) سورة النساء، الآية: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) . حلاوة الإيمان في القلوب: يجد المؤمن حلاوة الإيمان في قلبه، ويذوقها ويسعد بها، وإذا ذاقها سيبقى يطلبها ويشتاق إليها، وإذا عاش معها تتحول حياته إلى سعادة واستقرار دائم. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله، كما يكره أن يلقى في النار) (2) .   (1) سورة المجادلة، الآية: 22. (2) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (من كره أن يعود في الكفر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 طعم الإيمان في القلوب: الإيمان رغم كونه أمراً معنوياً، له طعم لذيذ حلو طيب؛ يجده ويذوقه المؤمن في قلبه وكيانه. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان: من كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه) (1) . وقال: (ذاق طعم الإيمان؛ من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا) (2) . نور الإيمان في القلوب: الإيمان نور مشرق مضيء؛ يشرق قلب المؤمن، ثم يضيء جوارحه وطريقه، ثم ينعكس على حياته، ويجعله من أسعد   (1) (رواه مسلم) في كتاب (الإيمان) باب: (بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان) . (2) (رواه مسلم) في كتاب (الإيمان) باب: (الدليل على أن من رضي الله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، فهو مؤمن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الناس إطلاقاً، ثم ينير طريقه إلى جنة الخلد التي تجري من تحتها الأنهار، والتي نعيمها دائم لا يفنى. ونور الإيمان ينبع من نور الله جل وعلا، قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {35} فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال {36} رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (1) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (2) .   (1) سورة النور، الآيات: 35- 37. (2) سورة الحديد، الآية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 محبة الإيمان في القلوب: محبة الإيمان غامرة ظاهرة بدهية فطرية؛ جبل الإنسان عليها، وإذ استقرت محبته في قلب المؤمن عكست على ظاهره نوره، ولا يبقى لنقيضه مكان فيه، ونقيضه هو الكفر والفسوق والعصيان. والله - سبحانه وتعالى - هو الذي يحبب الإيمان إلى عباده الصالحين العاملين، ويكره إليهم نقيضه، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (1) . زينة الإيمان في القلوب: الإيمان زينة جميلة لصاحبه في الدنيا والآخرة؛ ولن يبدو صاحبه جميلاً بدونه، وهذه الزينة يهبها الله تعالى لمن يشاء من عباده، ويضاعفها عليهم، ويقذفها في قلوبهم، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ {7} فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2) .   (1) سورة الحجرات، الآية: 7. (2) سورة الحجرات، الآية: 7- 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الإيمان كشجرة راسخة في القلوب: إنه كشجرة طيبة، مباركة، كريمة، خيرة، نافعة، مثمرة، حية، راسخة، قوية، ثابتة، نامية؛ أصلها ثابت، جذورها ضاربة في أعماق الأرض، وهكذا الإيمان في قلب المؤمن؛ يرسخ في أعماق القلب، ويثمر ثماراً يانعة هي الطاعات والحسنات، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} (1) . الإيمان يتبوأ في القلوب: تبوؤ الإيمان في الأصل أمر معنوي، ولكن عندما يتبوأ الإيمان في القلب المؤمن يتحول إلى أمر محسوس يدركه المؤمن ويلمحه، ويصبح له (بيت الإيمان) أي: أن الإيمان يكون له داراً ومنزلاً وقراراً، يقيم فيه.   (1) سورة إبراهيم، الآيات: 24 - 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وقال تعالى عن الأنصار حين تبوؤا الدار قبل المهاجرين فامتلكوها، وتبوؤا الإيمان فتمكنوا منه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) . نداء الإيمان في القلوب: نداء الإيمان محبب إلى قلوب المؤمنين الصادقين العاملين المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نداء الفطرة، ويحمل أعظم رسالة، ويؤدي أفضل وظيفة، إنه الداعي إلى الله - تبارك وتعالى - وإلى الخير كله، وإلى النور والطمأنينة، والحياة السعيدة في الدنيا، ويبشر بالحياة الكريمة الأبدية في الآخرة، قال تعالى: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} (2) .   (1) سورة الحشر، الآيات: 9. (2) سورة آل عمران، الآية: 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الإيمان ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة: ينفع صاحبه في حياة الدنيا؛ وهذا ملحوظ في أهل الإيمان، أهل الطاعة، والفضل، والقيم، والأخلاق؛ من المؤمنين الصالحين. وينفع صاحبه يوم الحساب، يوم الحسرة والندامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم يخسر الكافرون أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ومن حولهم، يومها يتبوأ المؤمنون مكانهم في جنات الخلد خالدين فيها أبداً، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (1) . قال: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (2) .   (1) سورة الأنعام، الآية: 158. (2) سورة يونس، الآية: 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 للإيمان مجالس يزداد فيه ويتجدد: مجالس الإيمان: هي الجلسات الإيمانية المباركة التي يجتمع فيها أهل الإيمان والطاعة من المؤمنين العاملين الصادقين؛ يذكرون فيها الله تعالى، ويتدارسون كتابه ويتدبرونه، ويفقهون سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأحكام شرعه لكي يطبقوها، ويتواصون فيها بالحق والصبر، ويحيون فيها إيمانهم ويعيشونه، فيزدادون إيماناً على إيمانهم، وتنزل عليهم الرحمة والبركة والسكينة، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا 28} } (1) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) (2) .   (1) سورة الكهف، الآية: 28. (2) سور (رواه مسلم) في (كتاب الذكر والدعاء) باب: (فضل الاجتماع على تلاوة القرآن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الإيمان يعلو ولا يعلى عليه: الإيمان الصادق الرباني: هو أساس كل خير، ومنبع العزة، ومصدر الكرامة، والشرف، والسيادة، يعيش صاحبه عزيزاً، سعيداً، قوياً، ثابتاً على طريق الحق، وقد وعد الله - عز وجل - أهل الإيمان والطاعة بالنصر والتمكين في الأرض، قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} 139 {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (1) . الإيمان شعب ودرجات: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) (2) .   (1) سورة آل عمران، الآيات: 139- 141. (2) (رواه مسلم) في (كتاب الإيمان) باب: (بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فوائد الإيمان وثمراته الإيمان الصحيح الصادق له من الفوائد والثمرات العاجلة والآجلة، في حياة الدنيا، وفي الآخرة، منها: أن أهل الإيمان يغتبطون بولاية الله تبارك وتعالى: قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) . أهل الإيمان ينعمون بالحياة الطيبة: قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (2) . أهل الإيمان يحبهم الله تعالى ويحبهم المؤمنون:   (1) سورة البقرة، الآية: 257. (2) سورة النحل، الآية: 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (1) . أهل الإيمان يدافع عنهم الله قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (2) . أهل الإيمان لهم البشرى في الحياة الدنيا والآخرة: قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {62} الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ {63} لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) . أهل الإيمان من أعظم تسليتهم عند المصائب؛ الإيمان: قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) .   (1) سورة مريم، الآية: 96. (2) سورة الحج، الآية: 38. (3) سورة يونس، الآيات: 62-64. (4) سورة التغابن، الآية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أهل الإيمان هم أهل الأمن والاطمئنان: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {81} الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (1) . أهل الإيمان يهرعون إلى إيمانهم ويتقوون به في كل ما يعتريهم من خير وشر، وطاعة ومعصية، ويسر وعسر: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (2) . أهل الإيمان ينتفعون من المواعظ والتذكير: قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ   (1) سورة التغابن، الآية: 11. (2) سورة التغابن، الآية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (1) . أهل الإيمان في معية الله تعالى: قال تعالى: {وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) . وقال: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (3) . أهل الإيمان يحفظهم إيمانهم من الوقوع في الفواحش: قال الله تعالى عن نبيه يوسف عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (4) . أهل الإيمان بنور إيمانهم يميزون بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين البدعة والسنة: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ   (1) سورة التغابن، الآية: 11. (2) سورة التغابن، الآية: 11. (3) سورة التغابن، الآية: 11. (4) سورة التغابن، الآية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1) . أهل الإيمان وعدهم الله تعالى بالنصر والتمكين: قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) . أهل الإيمان هم أهل العز والكرامة: قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (3) . قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (4) . أهل الإيمان تستغفر لهم ملائكة عرش الرحمن جل جلاله: قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ   (1) سورة التغابن، الآية: 11. (2) سورة التغابن، الآية: 11. (3) سورة التغابن، الآية: 11. (4) سورة التغابن، الآية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (1) . أهل الإيمان يهديهم الله تعالى بإيمانهم إلى الصراط المستقيم: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (2) . أهل الإيمان يبشرهم الله تعالى في الدنيا والآخرة بالأمن والسعادة، وبالنعيم الدائم في الآخرة: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ {30} نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ {31} نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} (3) .   (1) سورة التغابن، الآية: 11. (2) سورة التغابن، الآية: 11. (3) سورة التغابن، الآية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 أهل الإيمان وعدهم الله - سبحانه تعالى - جنة الخلد، وما فيها من النعم الذي لا عين رأت ولا أذن سمعت: قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) . وغيرها من ثمرات شجرة الإيمان المباركة التي لا يكاد يمضي على المؤمن زمن قليل حتى يجني ثمرة من ثمراتها، وتبلغ الثمرة كمالها ونضجها، إذا كان الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما، ويصبح العبد يحب ويبغض لله، ويكره أن يعود إلى الكفر، كما يكره أن يقذف في النار. نسأل الله - جلت قدرته - أن يرزقنا حلاوة الإيمان وحقيقته وكماله؛ حتى يحشرنا مع النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا؛ إنه جواد كريم.   (1) سورة التغابن، الآية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 من صفات أهل الإيمان صفات عباد الرحمن المؤمنين الصادقين المتقين المخلصين - أهل الإيمان والطاعة - كثيرة جداً في القرآن والسنة، وتفاوتت هذه الصفات قلة وكثرة؛ فقد عرضها ووصفها لنا الوحيان الشريفان بأنها صفات كريمة، فاضلة، مباركة، خيرة، حميدة، عالية، سامية، عزيزة؛ فهم صفوة خلق الله تعالى بصفاتهم المميزة، وهم الذين يستحقون أن يضافوا إلى الرحمن - سبحانه وتعالى - ويكونوا عباده {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} كيف لا، وقد تكفل الإسلام بتهذيبهم وتربيتهم، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (1) . وقد دعا الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم جميع المؤمنين إلى أن يتصفوا بصفاتهم، ويتخلقوا بأخلاقهم؛ حتى يعيشوا حياة إيمانية   (1) سورة طه، الآيتان: 123 - 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 كريمة مباركة سعيدة؛ ثم ينالوا بذلك ثواب الله تعالى ورضوانه وجنته ونعيمه الأبدي. والمؤمن الصادق مع ربه - جل وعلا - حريص على هذه الصفات الكريمة، والأخلاق الحميدة، لكي يبقى قلبه وحياته في الإيمان ومع الإيمان، وأن يتصف بصفات أهلها، ويحاول جاداً أن يعيها ثم يعيشها؛ حتى ينال بها رضوان الله تعالى والجنة. فهذه بعض صفاتهم كما جاءت في كتاب ربهم وخالقهم وهاديهم، وفي سنة نبيهم ومربيهم ومرشدهم؛ لعلنا نحذو حذوهم، ونتمسك بمنهجهم، ونتصف بصفاتهم؛ حتى نحقق كمال الإيمان، ونكون مع المحسنين السابقين إلى جنات الخلد. فمن صفاتهم التي هي سبب لفلاحهم، والفوز بجنة الفردوس والخلود فيها، ما وصفهم الله - تبارك وتعالى - به في صدر سورة (المؤمنون) ، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ {3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ {4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {5} إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ {6} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ {7} وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {8} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {9} أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ {10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) . ومن صفاتهم الخوف والوجل عند ذكر الله تعالى، وذلك لقوة إيمانهم، ومراقبتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (2) . ومن صفاتهم عدم الشك في إيمانهم، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (3) .   (1) سورة المؤمنون، الآيات: 1- 11. (2) سورة الأنفال، الآيات: 2- 4. (3) سورة الحجرات، الآية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ومن صفاتهم طاعتهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم للمؤمنين، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) . ومن صفاتهم الجليلة ما وصفهم الله - عز وجل - بقوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (2) . ومن صفاتهم العظيمة والمميزة؛ محبتهم لحكم الله تعالى، والتسليم التام لشرعه في كل صغيرة وكبيرة، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (3) .   (1) سورة التوبة، الآية: 71. (2) سورة التوبة، الآية: 112. (3) سورة النساء، الآية: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ومن صفاتهم الحميدة، الكريمة، العالية، والكثيرة ما جمعها الله - جل جلاله - في قوله الكريم: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) . ومن صفاتهم؛ أنهم يقدمون طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ورضاهما على كل شيء، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) . وقال: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} (3) .   (1) سورة البقرة، الآية: 177. (2) سورة النور، الآية: 51. (3) سورة التوبة، الآية: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ومن صفاتهم؛ أنهم يخشون الله تعالى وحده، ولا يخافون أحداً سواه - سبحانه - قال تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} (1) . ومن صفاتهم؛ أنهم يخلصون دينهم لله، قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (2) . ومن صفاتهم؛ أنهم لا تأخذوهم رأفة في إقامة حدود الله - عز وجل - قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (3) . ومن صفاتهم؛ أنهم يردون الأمر إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم عند النزاع والخلاف، قال تعالى:   (1) سورة التوبة، الآية: 13. (2) سورة النساء، الآية: 146. (3) سورة النور، الآية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (1) . ومن صفاتهم؛ أنهم صادقون مع الله تعالى في عهدهم لنصرة الدين، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (2) . ومن صفاتهم؛ أنهم يعملون الصالحات، قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (3) . ومن صفاتهم؛ أنهم إخوة في الله، والمؤمن أخو المؤمن، يحبون لإخوانهم ما يحبونه لأنفسهم، ولا يحملون عليهم حقداً ولا غلاً؛ بل يدعون لهم بظهر الغيب بالمغفرة والهداية والصلاح والتوفيق، والسداد، قال تعالى:   (1) سورة النساء، الآية: 59. (2) سورة الأحزاب، الآية: 23. (3) سورة النساء، الآية: 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (1) . وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (3) . ومن صفاتهم؛ أنهم يحبون النبي صلى الله عليه وسلم محبة قوية، لا تعدلها محبة أحد غيره كائناً من كان: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) (4) .   (1) سورة الحشر، الآية: 10. (2) سورة الحجرات، الآية: 10. (3) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (من الإيمان ما يحب لأخيه ما يحب لنفسه) . (4) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (حب النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ومن صفات المؤمنين {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} : أنهم مبتلون وممتحنون في دينهم ودنياهم، والبلاء والامتحان كفارة لهم من الذنوب والخطايا، ورفعة لهم في الدرجات، والدنيا لهم كالسجن بالنسبة إلى نعيم الآخرة؛ سجن لقلوبهم وجوارحهم من زينتها وفتنها وشهواتها ومعاصيها، قال تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} (1) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله؛ حتى يلقى الله وما عليه خطيئة) (2) . وقال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) (3) . ومن صفاتهم؛ أنهم أحسن الناس أخلاقاً، وأكملهم خلقاً وسيرة؛ لا يتكلمون إلا بالخير، ويكرمون الجار ويحسنون إليه، ويكرمون الضيف؛ بطيب الكلام، وطلاقة الوجه، والخدمة بالنفس، قال الله تعالى عن ضيف خليله إبراهيم عليه السلام:   (1) سورة الأحزاب، الآية: 11. (2) (رواه الترمذي) في (كتاب الزهد) باب: (ما جاء في الصبر على البلاء) . (3) (رواه مسلم) في كتاب (الزهد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} (1) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) (2) . وقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) (3) . من أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في المؤمنين وصفاتهم: قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (المؤمن يطبع على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب) (4) . وقال الصحابي الجليل أبي بن كعب رضي الله عنه: (المؤمن بين أربع: إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل) (5) .   (1) انظر: (الذاريات) الآيات: 24- 30. (2) (رواه أبو داود) في (كتاب السنة) باب: (الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه) . (3) (رواه البخاري) في (كتاب الرقاق) باب: (حفظ اللسان) . (4) (كتاب الإيمان) ابن أبي شيبة: (80) ص 35 وصححه الألباني. (5) (حلية الأولياء) أبو نعيم الأصفهاني: ج 1، ص 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وقال التابعي الجليل الحسن البصري رحمه الله: (الرجاء والخوف مطيتا المؤمن) (1) . وقال الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله: (المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل؛ كلام المؤمن حكم، وصمته تفكر، ونظره عبر، وعمله بر، وإذا كنت كذلك، لم تزل في عبادة) (2) . وقال الإمام الزاهد مالك بن دينار رحمه الله: (مثل المؤمن؛ مثل اللؤلؤة أينما كانت حسنها معها) (3) . وقال التابعي وهب بن منبه رحمه الله: (المؤمن يخالط ليعلم، ويسكت ليسلم، ويتكلم ليفهم، ويخلو لينعم) (4) . وقال الزاهد شقيق بن إبراهيم البلخي رحمه الله:   (1) (كتاب الزهد) الإمام أحمد بن حنبل: ج2، ص 238. (2) (حلية الأولياء) أبو نعيم الأصفهاني: ج 8، ص 98. (3) (حلية الأولياء) أبو نعيم الأصفهاني: ج 2، ص 377. (4) (حلية الأولياء) أبو نعيم الأصفهاني: ج 4، ص 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 (المؤمن مشغول بخصلتين، والمنافق مشغول بخصلتين؛ المؤمن بالعبر والتفكر، والمنافق بالحرص والأمل) (1) . وقال الإمام الزاهد محمد بن المنكدر رحمه الله: (إن الله تعالى يحفظ العبد المؤمن في ولده وولد ولده، ويحفظ في دويرته، وفي دويرات حوله؛ فما يزالون في حفظ وعافية ما كان بين ظهرانيهم) (2) . فهذا قل من كثر من صفات عباد الرحمن؛ فإذا أردنا الفلاح والنجاح والنجاة؛ فعلينا التمسك بما كان عليه هؤلاء العظام، وأن نأتسي بهم؛ فهم اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلقوا بأخلاقه، وامتثلوا أوامره، وكانوا كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} (3) .   (1) (حلية الأولياء) أبو نعيم الأصفهاني: ج 8، ص 71. (2) (حلية الأولياء) أبو نعيم الأصفهاني: ج 3، ص 148. (3) سورة آل عمران، الآية: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 خوارم الإيمان المعاصي وأثرها على الإيمان عند أهل السنة والجماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 المعاصي وأثرها على الإيمان المعاصي والذنوب التي هي دون الكفر أو الشرك عند أهل السنة والجماعة تنقسم إلى قسمين: كبائر، وصغائر. الكبيرة: هي كل معصية يترتب عليها حد في الدنيا، أو عقوبة، أو توعد بالنار، أو عذاب، أو لعنة، أو غضب. الصغيرة: هي كل معصية لا يترتب عليها حد في الدنيا، ولا وعيد في الآخرة. والأعمال الصالحة - عندهم - تكفر صغائر الذنوب. والتوبة الصادقة من المعاصي - أياً كان الذنب - مقبولة عند الله تعالى؛ إذا اجتمعت فيها شروطها، وهي: الإقلاع عن الذنب، والندم على ذلك، والعزم على عدم العودة إليها. واستدلوا على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع (1) .   (1) (() قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر؛ بنص القرآن والسنة وإجماع السلف وبالاعتبار) (مدارج السالكين) ج1، ص 342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} (1) (2) . وقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} (3) . وقال: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} (4) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر) (5) (6) . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال:   (1) سورة النساء، الآية: 31. (2) (() قال القرطبي رحمه الله: (لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر، وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر، وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء) . (الجامع لأحكام القرآن) ج 5، ص 104. (3) سورة النجم، الآية: 32. (4) سورة الكهف، الآية: 49. (5) (رواه مسلم) في كتاب (الطهارة) باب: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ... ) . (6) (() قال الإمام النووي رحمه الله: (فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر، وما لا تكفره كبائر) (شرح النووي على صحيح مسلم) ج 2، ص 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) (1) . حكم الإصرار على المعاصي: أما الإصرار على المعاصي، والاستغراق فيها، والاستمرار عليها، وعدم الإقلاع عنها، وعدم الاستغفار والتوبة منها، وعزم القلب عليها، أو الفرح بفعلها؛ فحكمها عند أهل السنة والجماعة كحكم مرتكب الكبائر، ويخشى على صاحبه من سوء العاقبة؛ لأن المعصية عندهم بريد الكفر، وهي مشتقة منه وآيلة إليه، والإكثار منها ينبت النفاق في القلب، وقد يؤدي إلى الوقوع في الكفر والردة - والعياذ بالله - لأن المعاصي - مع الإصرار والاستغراق فيها - تحيط بصاحبها وتستولي على قلبه وتطمسه؛ حتى لا يبقى فيه من الإيمان شيء. قال تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) .   (1) (رواه البخاري) في كتاب (الوصايا) باب: (قول الله تعالى: وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) . (2) سورة البقرة، الآية: 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) (2) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء؛ فإذا نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي ذكر الله {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ) (3) . وقال حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار) (4) .   (1) سورة آل عمران، الآية: 135. (2) رواه الإمام أحمد في (المسند) ج1، ص 402 (مسند عبد الله بن مسعود) وصحح إسناده العلامة أحمد شاكر في تحقيقه للمسند؛ ج 5، ص 312 (3818) . (3) (رواه الترمذي) في (أبواب تفسير القرآن) باب (سورة ويل للمطففين) وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) ج3، ص 127. (4) (جامع البيان) الإمام الطبري: ج 8، ص 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وقال الصحابي الفقيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه) (1) . والصغائر من المعاصي والذنوب؛ قد تتحول إلى الكبائر لأسباب نذكر منها: 1- الإصرار والمداومة عليها. 2- استصغار المعصية واحتقارها. 3- الفرح بفعل المعصية الصغيرة والافتخار بها. 4- فعل المعصية ثم المجاهرة بها؛ لأن المجاهر غير معافى. 5- أن يكون فاعل المعصية الصغيرة عالماً يقتدى به؛ لأنه إذا ظهر أمام الناس بمعصيته كبر ذنبه. إن المعاصي والذنوب عند أهل السنة والجماعة: تؤثر في الإيمان من حيث نقصه بحسب قلتها وكثرتها، لا من حيث بقاؤه وذهابه؛ فافتراق المعاصي بمفردها والإصرار عليها لا يخرج من الدين إن لم يقترن بها سبب من أسباب الكفر، كاستحلال المعصية، أو الاستهانة بحكمها سواء كان بالقلب، أو اللسان، أو الجوارح.   (1) (رواه البخاري) في (كتاب الدعوات) باب: (التوبة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 آثار المعاصي الوخيمة على العبد: المعاصي والذنوب له من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله تعالى؛ فمنها (1) : 1- حرمان العلم: فإن العلم نور يقذفه الله تعالى في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور. 2- وحشة يجدها العاصي في قلبه، وبينه وبين الله تعالى، لا توازنها ولا تقارنها لذة أصلاً. ووحشة تحصل بينه وبين الناس، ولاسيما أهل الخير منهم. 3- تعسير أموره: فلا يتوجه لأمر؛ إلا يجده مغلقاً دونه، أو متعسراً عليه. 4- ظلمة يجدها في قلبه حقيقة، يحس بها كما يحس بظلمة الليل؛ فتوهن قلبه وبدنه، وتحرمه الطاعة. 5- أن المعاصي تقصر العمر، وتمحق بركته، والعياذ بالله. 6- المعاصي تجر المعاصي، كما أن الطاعات تجر الطاعات. 7- المعاصي تصد عن التوبة، وصاحبه أسير شيطانه.   (1) (() انظر: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) للإمام ابن القيم، بتصرف وتلخيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 8- تكرار المعاصي يورث القلب إلفها ومحبتها؛ حتى يفتخر صاحبه بالمعصية فلا يعافى؛ لأن المعصية تهون أختها وتصغرها. 9- المعاصي تورث صاحبه الهوان عند ربه، وسقوط منزلته. 10- شؤم المعاصي يعم الإنسان والحيوان والنبات. 11- المعاصي تورث الذل. 12- المعاصي تفسد العقل وتذهب بنوره. 13- المعاصي تورث الطبع على القلوب، وتوقع الوحشة فيه؛ فيكون صاحبه من الغافلين. 14- الذنوب تورث العبد لعنة الله تعالى ولعنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 15- الذنوب تورث حرمان دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والملائكة. 16- المعاصي سبب الخسف والزلازل وفساد البلاد والعباد. 17- المعاصي والذنوب تميت غيرة القلب، وتذهب بحياءه، وتطمس نوره، وتعمي بصيرته. 18- المعاصي والذنوب تزيل النعم وتحل النقم. 19- المعاصي والذنوب مواريث الأمم الهالكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 حكم مرتكب الكبيرة: أهل السنة والجماعة لا يسلبون وصف الإيمان من العبد إذا عمل عملاً ما من المحذورات لا يكفر الله فاعله، أو ترك ما لا يكفر تاركه من الواجبات، ولا يخرجونه من الإيمان إلا بفعل ناقض من نواقضه. ومرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان؛ فهو في الدنيا مؤمن ناقص الإيمان؛ مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه. أي: إن مرتكب الكبيرة - عندهم - له حكمان؛ حكم في الدنيا، وحكم في الآخرة. حكمه في الدنيا: أنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يصح أن يعطى اسم الإيمان المطلق؛ بل يكون معه مطلق الإيمان، وهو حد الإسلام. فإن كان الذنب الذي ارتكبه، لا حد فيه، وتاب منه، قبل الله تعالى توبته بفضله ومنه - سبحانه - أو فيه حد، وأقيم عليه الحد؛ فهو كفارة له، ويصبح حكمه حكم عامة المسلمين. حكمه في الآخرة: أنه يكون تحت المشيئة، إن لم يتب من كبيرته؛ فأمره إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة برحمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وفضله، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه وذلك بعدله سبحانه وتعالى؛ لأنه مستحق للعقاب، ولكنه لا يستحق الخلود في النار؛ بل يخرج من النار بما معه من الإيمان، وإن كان مثقال ذرة. لأن الإيمان عند أهل السنة والجماعة؛ يقبل التبعيض والتجزئة، وبقليله يخرج الله من النار من دخلها بفضله ورحمته. ولذلك فإنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بكل ذنب؛ إلا بذنب يزول به أصل الإيمان، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (1) (2) . أي: إن العبد إذا مات على الشرك؛ فإن الله تعالى لا يغفر له، والمشرك مخلد في نار جهنم - والعياذ بالله - وإذا مات على ما دون الشرك من المعاصي من الكبائر؛ فإنه يدخل تحت مشيئة الله سبحانه، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) .   (1) سورة النساء، الآية: 48، 116. (2) (() للبسط في تفسير هذه الآية الكريمة؛ انظر: (تفسير الطبري) و (تفسير ابن كثير) و (فتح الباري) لابن حجر العسقلاني: ج 1، ص 84. (3) سورة الزمر، الآية: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) . فسمى الله المقتول أخاً للقاتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} . وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) (3) . أي: أن القتل كبيرة من الكبائر، ومع ذلك فإن الله تعالى لم يسلب عن هؤلاء المقاتلين اسم الإيمان وسماهم المؤمنين وإخوة في الدين رغم الاقتتال وبغي بعضهم على بعض؛ فالإيمان والأخوة الإيمانية لا يزولان مع القتال كغيره من الكبائر التي هي دون الشرك. وقال الله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ   (1) سورة البقرة، الآية: 178. (2) سورة الحجرات، الآية: 9. (3) (() للبسط في تفسير هذه الآية الكريمة؛ انظر: (تفسير الطبري) و (تفسير ابن كثير) و (فتح الباري) لابن حجر العسقلاني: ج 1، ص 210 و (تفسير البغوي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} (1) (2) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء) (3) . وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - وكان شهد بدراً، وهو أحد النقباء ليلة العقبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وحوله عصابة من أصحابه: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان، تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف؛ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه هـ، وإن شاء عاقبه) فبايعناه على ذلك (4) .   (1) سورة الأنفال، الآية: 38. (2) (() قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: (ومعلوم أن هذا بعد الموت لمن لم يتب؛ لأن الشرك ممن تاب منه - قبل الموت 0 وانتهى عنه غفر له، كما تغفر الذنوب كلها بالتوبة جميعاً، قال الله عز وجل: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (التمهيد) ج 17، ص 16. (3) (رواه مسلم) في (كتاب الإيمان) باب: (تحريم الكبر وبيانه) . (4) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (علامة الإيمان حب الأنصار) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل - عليه السلام - فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة) . قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: (وإن زنى وإن سرق) (1) (2) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؛ لا يلقى الله بهما عبد غير شاك، فيحجب عنه الجنة) (3) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول الله عز وجل:.. من لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً، لقيته بمثلها مغفرة) (4) (5) .   (1) (رواه مسلم) في (كتاب الإيمان) باب: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) . (2) (() (وجه الدلالة من الحديث: أن من مات على التوحيد، وكان عليه بعض الذنوب كالزنا، والسرقة؛ فإنه لا تخرجه من الإيمان بالكلية بل يكون ناقص الإيمان، والدليل على ذلك أنه يدخل الجنة، ولكنه تحت المشيئة) وانظر (شرح مسلم) للنووي: ج2، ص 41 و (فتح الباري) ج3، ص 111. (3) (رواه مسلم) في (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) باب: (أفضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى) . (4) سورة الأنفال، الآية: 38. (5) (() قال الإمام ابن رجب رحمه الله: (فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض، وهو ملؤها أو ما يقارب خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة؛ لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها ثم يدخل الجنة) (جامع العلوم والحكم) : ص 374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (إياكم والكذب؛ فإن الكذب مجانب الإيمان) (1) . وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (الإيمان نزه؛ فمن زنا فارقه الإيمان، فإن لام نفسه وراجع؛ راجعه الإيمان) (2) . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ما الإيمان؛ إلا كقميص أحدكم يخلعه مرة ويلبسه أخرى، والله ما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه فوجد فقده) (3) . وقد ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يدعو غلاماً غلاماً، فيقول: (ألا أزوجك؟ ما من عبد يزني إلا نزع الله منه نور الإيمان) (4) . وسأله عكرمة؛ كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: (هكذا - وشبك بين أصابعه ثم أخرجها - فإن تاب عاد إليه هكذا - وشبك بين أصابعه) (5) .   (1) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: ج6، ص 1090 (1873) . (2) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: ج6، ص 1090 (1870) . (3) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: ج6، ص 1090 (1871) . (4) (فتح الباري) ج12، ص 59، و (شرح أصول الاعتقاد) اللالكائي: (1866) . (5) (رواه البخاري) في (كتاب المحاربين) باب: (إثم الزناة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: (ولا نكفر مسلماً بذنب من الذنوب، وإن كانت كبيرة، إذا لم يستحلها) (1) . وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (لو أن رجلاً ركب الكبائر كلها بعد أن لا يشرك بالله؛ ثم تخلى من هذه الأهواء والبدع؛ دخل الجنة) (2) . وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (من تولى يوم الزحف، لا منحرفاً لقتال، ولا متحيزاً إلى فئة؛ خفت عليه - إلا أن يعفو الله - أن يكون قد باء بسخط من الله) (3) . وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: (يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم، أو برد فريضة من فرائض   (1) (متن الفقه الأكبر) الإمام أبو حنيفة. (2) (حلية الأولياء) أبو نعيم الأصفهاني: ج 6، ص 325. (3) (منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة) الدكتور محمد بن عبد الوهاب العقيل: ج1، ص 202؛ وأحاله إلى كتاب: (الأم) ج4، ص 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الله - عز وجل - جاحداً بها؛ فإن تركها كسلاً، أو تهاوناً كان في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه) (1) . وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى: (إن المعاصي والذنوب لا تزيل إيماناً، ولا توجب كفراً، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه، الذي نعت الله به أهله واشترط عليهم في مواضع من كتابه) (2) . وعقد الإمام البخاري - رحمه الله - باباً في (صحيحه) قطع فيه بأن المعاصي لا يكفر مرتكبها، قال: (باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية) وقول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48] ) (3) . وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي - رحمه الله في عقيدته: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) .   (1) (طبقات الحنابلة) ابن رجب الحنبلي: ج1، ص 343 ضمن رسالة مسدد بن مسرهد. (2) (كتاب الإيمان) : ص 40 تحقيق الألباني. (3) (صحيح البخاري) : (كتاب الإيمان) باب: (المعاصي من أمر الجاهلية..) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: (وندين بأن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه؛ كالزنا والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون. ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر؛ مثل الزنا والسرقة وما أشبهها، مستحلاً لها غير معتقد لتحريمها؛ كان كافراً)) (1) . وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي - رحمه الله - اعتقاد أهل الحديث وأهل السنة والجماعة، وقال: (ويقولون: إن أحداً من أهل التوحيد ومن يصلي إلى قبلة المسلمين؛ لو ارتكب ذنباً، أو ذنوباً كثيرة، صغائر، أو كبائر مع الإقامة على التوحيد لله، والإقرار بما التزمه وقبله عن الله؛ فإنه لا يكفر به، ويرجون له المغفرة، قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} ) (2) .   (1) (الإبانة عن أصول الديانة) الإمام الأشعري: باب: (في إبانة قول أهل الحق والسنة) . (2) (اعتقاد أهل الحديث) الإمام الإسماعيلي: ص 43 تحقيق د. محمد الخميس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وقال الإمام ابن بطة العكبري رحمه الله تعالى: (وقد أجمعت العلماء - لا خلاف بينهم - أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بمعصية؛ نرجو للمحسن، ونخاف على المسئ) (1) . ونقل الإمام أبو إسماعيل الصابوني - رحمه الله - اعتقاد أئمة السلف، أصحاب الحديث، أهل السنة والجماعة، وقال: (ويعتقد أهل السنة: أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر كانت، أو كبائر؛ فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص؛ فإن أمره إلى الله - عز وجل - إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً، غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه من الذنوب، واكتسبه ثم استصحبه - إلى يوم القيامة - من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها؛ بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار) (2) .   (1) (الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة) المسمى بـ (الإبانة الصغرى) : ص 292 تحقيق د. رضا بن نعسان معطي. (2) عقيدة السلف وأصحاب الحديث) : ص 276 تحقيق د. ناصر بن عبد الرحمن الجديع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وقال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: (اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر، إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئاً منها؛ فمات قبل التوبة، لا يخلد في النار؛ كما جاء به الحديث؛ بل هو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته) (1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (من أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وهم مع ذلك: لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي؛ كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} ..   (1) (شرح السنة) الإمام البغوي: ج1، ص 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار، كما تقوله المعتزلة؛ بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} . وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته؛ فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم) (1) . وقال الإمام ابن أبي العز رحمه الله تعالى: (إن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة؛ لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنى والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من   (1) (العقيدة الواسطية) بحاشية الشيخ ابن مانع: ص 81 تحقيق أشرف عبد المقصود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين) (1) .   (1) شرح (العقيدة الطحاوية) ابن أبي العز الحنفي: ص 442 تحقيق شعيب الأرناؤوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 من أسباب سقوط العقوبة عن عصاة الموحدين أهل السنة والجماعة متفقون على أن الله - سبحانه وتعالى - قد جعل لعباده المؤمنين المذنبين الذين يقعون في المعاصي؛ أسباباً لنجاتهم من عقوبة معاصيهم التي توعد الله تعالى عليها في الدنيا والآخرة؛ ففتح لهم أبواب رحمته بهذه الأسباب؛ مناً وتفضلاً وكرماً منه جل وعلا، وقد دل عليها الكتاب والسنة، وأقوال أئمة أهل السنة والجماعة، ومنها: 1- التوبة الصادقة والاستغفار الدائم: إذا كانت توبة نصوحاً وخالصة من القلب، ويصحبها الندم على ما فات من المعاصي، والاستغفار منها، وعزم القلب على عدم العودة إليها، يقبلها الله تعالى بمنه وفضله ورحمته، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا {59} إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (1) .   (1) سورة مريم، الآيتان: 59 -60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (1) . 2- الأعمال الصالحة: إذا كان العمل صالحاً؛ خالصاً لله تعالى وحده، موافقاً لشرعه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويأتي في مكانه وزمانه الذي حدده الشرع؛ فإنه باتفاق أهل السنة والجماعة يكفر الذنوب والمعاصي، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (2) . 3- المصائب التي تصيب العبد في الدنيا: إذا صبر عليها وذكر الله وحمده واستغفره؛ فاز بالثواب، وكفرت خطاياه، وإن سخط اكتسب إثماً، وبقيت خطاياه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم - حتى الشوكة يشاكها - إلا كفر الله بها من خطاياه) (3) .   (1) سورة الأنفال، الآيتان: 33. (2) سورة هود، الآيتان: 114. (3) (رواه البخاري) في (كتاب المرضى) باب: (ما جاء في كفارة المرض) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 4- ما يعمل للميت من أعمال البر: إن أعمال المؤمنين للعبد في حياته وبعد مماته؛ كالصدقة، والدعاء، والاستغفار، والترحم عليه.. ونحوها - شفاعة له عند الله عز وجل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (1) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (2) . 5- عذاب القبر: إن ما يحصل للعبد المؤمن في قبره من الفتنة والضغطة والروعة؛ يكفر به الله تعالى خطاياه. 6- أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها: إن ما يحصل للعبد المؤمن من المحن، من ساعة موته إلى أن ينجيه الله من الحساب يوم القيامة، وإلى دخوله الجنة - كفارة له.   (1) سورة الحشر، الآية: 10. (2) (رواه مسلم) في (كتاب الوصية) باب: (ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 7 - الشفاعة يوم القيامة: وهذه من رحمة الله تعالى لعباده المؤمنين يوم الحسرة والندامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأعظم الشفاعات في ذلك اليوم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ثم شفاعة غيره ممن يأذن الله تعالى لهم بالشفاعة في ذلك اليوم العصيب، والله المستعان. 6 - رحمة الله - الغفور الرحيم - وعفوه ومغفرته: وهذه أهم وأعظم أسباب نجاة العبد المؤمن من النار، وفوزه بالجنة، وذلك بفضل الله ورحمته ومنه وكرمه وإحسانه من غير شفاعة أحد، والحمد لله رب العالمين. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم؛ أن يجعلنا من عباده الصالحين المتقين الذين ينالون رحمته وفضله وجنته. ونسأله - جلت قدرته - أن يعاملنا ويتجاوز عنا يوم القيامة برحمته وفضله، لا بعدله.. اللهم آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 طبقات عصاة الموحدين يوم الدين: فالذي دل عليه الكتاب، والسنة، وأقوال أئمة أهل السنة والجماعة؛ أن عصاة أهل التوحيد يوم القيامة ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: قوم رجحت حسناتهم بسيئاتهم؛ فأولئك يدخلون الجنة من أول وهلة، ولا تمسهم النار أبداً. الطبقة الثانية: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وتكافأت فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، وهؤلاء هم أصحاب الأعراف - في أصح أقوال أهل العلم - الذين ذكر الله تعالى أنهم يوقفون بين الجنة والنار ما شاء الله أن يوقفوا؛ ثم يؤذن لهم في دخول الجنة. الطبقة الثالثة: قوم لقوا الله تعالى مصرين على كبائر الإثم والفواحش، ومعهم أصل التوحيد؛ فرجحت سيئاتهم بحسناتهم؛ فهؤلاء مستحقون للوعيد وهم تحت المشيئة، إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم؛ فمنهم من يشفع له فلا يعذب، ومنهم الذين يدخلون النار بقدر ذنوبهم، فمنهم من تأخذه إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من فوق ذلك؛ حتى إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 منهم من لم يحرم منه على النار إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، وهؤلاء هم الذين يأذن الله تعالى بالشفاعة فيهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء من بعده، والأولياء، والملائكة، ومن شاء الله أن يكرمه؛ فيحد لهم حداً فيخرجونهم، ثم يحد لهم حداً فيخرجونهم، ثم هكذا، فيخرجون من كان في قلبه وزن دينار من خير، ثم من كان في قلبه نصف دينار من خير، ثم برة، ثم خردلة، ثم ذرة، ثم أدنى من ذلك إلى أن يقول الشفعاء: (ربنا لم نذر فيها خيرا) . ويخرج الله تعالى من النار أقواماً لا يعلم عدتهم إلا هو بدون شفاعة الشافعين، ولن يخلد في النار أحد من الموحدين، ولو عمل أي عمل، ولكن كل من كان منهم أعظم إيماناً وأخف ذنباً كان أخف عذاباً في النار وأقل مكثاً فيها وأسرع خروجاً منها، وكل من كان أضعف إيماناً وأعظم ذنباً كان بضد ذلك، والعياذ بالله. وهذا مقام ضلت فيه الأفهام، وزلت فيه الأقدام، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (1) .   (1) انظر (معارج القبول) الشيخ العلامة حافظ الحكمي: ج3، ص 1196 دار ابن الجوزي، بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 نواقض الإيمان عند أهل السنة والجماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 تعريفات لابد منها نرى من الضروري قبل البدء ببيان نواقض الإيمان، أن نبين بعض المفاهيم والقواعد والأسس والضوابط عند أهل السنة والجماعة في باب التكفير؛ حتى تعيننا على فهم هذه النواقض. وتحديد المصطلحات أمر ضروري، ومهم جداً لفهم عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأن الأحكام مبنية على التعريف الصحيح؛ فإذا لم نفهم التعريف الصحيح لمصطلحاتهم وقواعدهم العقدية بوضوح؛ فلن نتفق ابتداء على فهم عقيدتهم. المصطلح: (هو إخراج الشيء عن معنى لغوي إلى معنى آخر لبيان المراد) (1) . المصطلح الشرعي: وهو ما تعارف عليه العلماء في التعبير عن مقاصدهم الشرعية.   (1) (كتاب التعريفات) الجرجاني: ص 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ومصطلحات العقيدة الإسلامية تنقسم إلى قسمين: 1- المصطلحات العقدية الصحيحة: هي تلك الألفاظ التي وردت في الكتاب، والسنة، وأقوال أئمة أهل السنة والجماعة، أو لم ترد ولكن دلت عليها المعاني الصحيحة. 2- المصطلحات العقدية الفاسدة: هي تلك الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة، ولا في أقوال أئمة أهل السنة والجماعة، أو هي من ألفاظ الكتاب والسنة، ولكنها حرفت واستعملت في غير مواضعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 (1) (تعريف الناقض) الناقض في اللغة: المفسد لما أبرم من عقد، أو بناء. فهو بمعنى ناكث الشيء، ومنشر العقد. والنقض ضد الإبرام. ونقيضك؛ الذي يخالفك. قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {91} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} (1) . قال تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (2) (3) .   (1) سورة النحل، الآيتان: 91- 92. (2) سورة الرعد، الآية: 20. (3) انظر معاجم اللغة: (لسان العرب) : ج7، ص 242 و (تهذيب اللغة) ج 8، ص 344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الناقض في الاصطلاح: هو الاعتقاد والقول والفعل المكفر؛ الذي ينتفي به إيمان العبد ويزول، ويخرجه من دائرة الإسلام والإيمان إلى حظيرة الكفر، والعياذ بالله. وفي المصطلح الفقهي عند الفقهاء؛ يطلق اسم المرتد على الذي ينقض إيمانه بهذه المكفرات الثلاث. وفي كتب الفقه باب يسمى: (باب المرتد وأحكامه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 (2) (تعريف الردة) الردة في اللغة: صرف الشيء بذاته، أو بحالة من أحواله، يقال: رددته فارتد، ويقال: رده: أي صرفه. ورد الشيء عليه: لم يقبله منه. والارتداد والردة: الرجوع في الطريق الذي جاء منه لكن الردة تخص بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره، قال الله تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} (1) . أي: لا ترجعوا. والردة اسم من الارتداد، وهو التحول والرجوع عن الشيء إلى غيره، ومنه الرجوع عن الإسلام. والمرتد أي: الراجع، وهو الذي رجع عن دينه، وكفر بعد إسلامه (2) .   (1) سورة المائدة، الآية: 21. (2) انظر معاجم اللغة: (لسان العرب) : ج 3، ص 172 و (المفردات في غريب القرآن) ص 191. و (النهاية في غريب الحديث) ج2، ص 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الردة في الاصطلاح: هي الكفر بعد الإسلام طوعا؛ إما باعتقاد، أو بفعل، أو بقول، أو شك. و (هي قطع الإسلام بنية كفر، أو قول كفر، أو فعل مكفر؛ سواء قاله: استهزاء، أو عناداً، أو اعتقاداً) (1) . قال الله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) (3) . واتفق أهل السنة والجماعة؛ بأن الردة لا تصح إلا من عاقل؛ فأما من لا عقل له؛ كالطفل، والمجنون، ومن زال عقله؛ بإغماء، أو نوم، أو مرض، أو شرب دواء يباح شربه؛ فلا تصح ردته، ولا حكم لكلامه بغير خلاف.   (1) انظر (قليوبي وعميرة) (كتاب الردة) ج 4، ص 174 وهو حاشيتا الشيخين قليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين للنووي في فقه الشافعي. (2) سورة البقرة، الآية: 217. (3) (رواه البخاري) في (كتاب الجهاد) باب: (لا يعذب بعذاب الله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 (3) (تعريف الشرك) الشرك في اللغة: هو المقارنة وخلاف الانفراد، ويطلق على المعاني الآتية: المخالطة, والمصاحبة والمشاركة. تقول: شاركته في الأمر، وشركته فيه أشركته شركاً، ويأتي شركة، ويقال: أشركته، أي جعلته شريكاً (1) . الشرك في الاصطلاح: هو اتخاذ الند مع الله تعالى؛ سواء أكان هذا الند في الربوبية أم في الألوهية أو الأسماء والصفات، أي: جعل شريك مع الله في التوحيد، ولذا يكون الشرك ضد التوحيد، كما أن الكفر ضد الإيمان، قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) . وغالب الشرك عند الناس يقع في الألوهية؛ كالشخص الذي يدعو مع الله تعالى غيره، أو يصرف له شيئاً من أنواع العبادة،   (1) انظر معاجم اللغة: (لسان العرب) : ج7، ص 99 و (تاج العروس) ج 7، ص 148 و (تهذيب اللغة) ج 10، ص 17 و (معجم مقاييس اللغة) ج3، ص 265. (2) سورة البقرة، الآية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 كالذبح والنذر، والخوف والرجاء والمحبة، والخشية، والإنابة، والدعاء، والتوبة، والتعظيم والإجلال، والاستعانة، والطاعة، والتوكل به، وغيرها. والشرك أعظم الذنوب إطلاقاً؛ لأنه تشبيه المخلوق بالخالق في خصائصه؛ ومن الخصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه. التفرد بملك الضرر والنفع والعطاء والمنع. العبودية المطلقة له، بأن تكون العبادة كلها له وحده، مع غاية الحب والذل. فمن أشرك مع الله أحداً فقد شبهه به - سبحانه - وهذا من أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات؛ بالقادر الغني بالذات، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1) . والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه؛ فمن عبد غير الله - سبحانه وتعالى - فقد وضع العبادة في غير موضعها، وصرفها لغير مستحقها، وهذا من أعظم الظلم. والله تعالى يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك؛ لمن لم يتب منه.   (1) سورة لقمان، الآية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (1) . والشرك يحبط جميع الأعمال، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) . والمشرك حرمت عليه الجنة، وهو مخلد في النار، والعياذ بالله، قال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (3) . والمشرك حلال الدم والمال، قال تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (4) . والشرك في الشرع نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر. الشرك الأكبر: هو بمعنى الكفر الأكبر؛ يحبط جميع الأعمال، ويخرج   (1) سورة النساء، الآية: 48. (2) سورة الزمر، الآية: 65. (3) سورة المائدة، الآية: 72. (4) سورة التوبة، الآية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 صاحبه من الإسلام، ويخلده في النار، إذا مات عليه، ولم يتب منه، ولا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة. والشرك الأكبر: هو صرف شيء من العبادة لغير الله تعالى؛ كدعاء غير الله. ومحبة غيره تعالى كمحبته. والخوف من غيره تعالى، والاعتقاد بأن غيره يضر وينفع، أو التسوية بين الله وغيره في الخشية، وكالتقرب بالذبائح والنذور لغير الله. والتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. وطاعة غير الله تعالى في التشريع والحكم. والاعتقاد بقدرة الأنبياء والصالحين والأولياء على التصرف في الكون مع الله تعالى، وغير ذلك من العبادات التي يجب أن تصرف لله تعالى وحده لا شريك له. الشرك الأصغر: هو ما ورد في النصوص الشرعية من تسمية بعض الذنوب شركاً، ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر، ولكنه ذريعة إليه ووسيلة للوقوع فيه، وهو أعظم وأكبر من الكبائر. وهذا النوع لا يخرج صاحبه من الإسلام، ولا ينفي عنه أصل الإيمان، ولكن ينافي كماله الواجب. وحكمه أنه لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة، وإذا مات عليه ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 يتب منه؛ فهو تحت المشيئة، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، ولو عذب لا يخلد في النار، وتناله شفاعة الشافعين بإذن الله تعالى. والشرك الأصغر قسمان: القسم الأول: شرك باللسان والجوارح، وهو ألفاظ وأفعال: فالألفاظ كالحلف بغير الله، وقول: ما شاء الله وشئت، والصواب أن يقال: ما شاء الله ثم شاء فلان. ومنه التسمية: بملك الملوك، أو قاضي القضاة، والتعبيد لغير الله تعالى؛ كتسمية الشخص بعبد النبي، وعبد الحسين، وغيرها. والأفعال: كلبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه، وتعليق التمائم خوفاً من العين، والتطير والتشاؤم من أشياء عند رؤيتها أو سماعها، والامتناع عن العمل المنوي فعله بسبب ذلك، وغيرها من الأعمال التي تخالف ما جاء به الشرع. القسم الثاني: شرك خفي، وهو شرك النية، أي: يقصد بعمله رضا الناس؛ كالرياء والسمعة، وإرادة الدنيا ببعض الأعمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 (4) (تعريف الفسق) الفسق في اللغة: هو الخروج عن الشيء أو القصد، وهو الخروج عن الطاعة. والفسق: الفجور. ويقال إذا خرجت الرطبة من قشرها؛ قد فسقت الرطبة من قشرها، والفأرة عن جحرها (1) . الفسق في الاصطلاح: العصيان وترك أمر الله تعالى، والخروج عن طاعته، وعن طريق الحق. ورجل فاسق: أي عصى وجاوز حدود الشرع. ويقال: فسق عن أمر ربه؛ أي خرج عن طاعته. والفسق أعم من الكفر؛ حيث إنه يشمل الكفر وما دونه من المعاصي كبائرها وصغائرها، وإذ أطلق يراد به أحياناً الكفر المخرج من الإسلام، وأحياناً يراد به الذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر؛ بحسب درجة المعصية، وحال العاصي نفسه (2) .   (1) انظر معاجم اللغة: (لسان العرب) ج10، ص 308 و (معجم مقاييس اللغة) ج4، ص 502 و (مفردات الراغب) : ص 572. (2) انظر (روح المعاني) الآلوسي: ج1، ص 210 و (فتح القدير) الشوكاني: ج1، ص 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 والفسق في الشرع نوعان: فسق أكبر، وفسق أصغر. الفسق الأكبر: هو رديف الكفر الأكبر، والشرك الأكبر؛ يخرج صاحبه من الإسلام، وينفي عنه مطلق الإيمان، ويخلده في النار، إذا مات ولم يتب منه، ولا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (1) . وقال: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) . الفسق الأصغر: هو رديف الكفر الأصغر، والشرك الأصغر، هو فسق دون فسق، وهو المعصية التي لا تنفي عن صاحبها أصل الإيمان، أو مطلق الإيمان، ولا تسلبه صفة الإسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (3) . وقال: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) .   (1) سورة التوبة، الآية: 84. (2) سورة النور، الآية: 55. (3) سورة الحجرات، الآية: 6. (4) سورة البقرة، الآية: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 (5) (تعريف الكفر) الكفر في اللغة: هو الستر والتغطية: يقال لمن غطى درعه بثوبه: قد كفر درعه. والمكفر: الرجل المتغطي بسلاحه. ويقال: كفر الزارع البذر في الأرض: إذا غطاه بالتراب. وسمي الليل كافراً لتغطيته كل شيء. والكفر: ضد الإيمان؛ سمي بذلك لأنه تغطية للحق. والكفر جحود النعمة، وهو نقيض الشكر. والكافر: جاحد لأنعم الله تعالى (1) . الكفر في الاصطلاح: هو الاعتقاد والقول والعمل المنافي للإيمان، وهو على شعب، ومراتب متفاوتة. والكفر: هو نقيض الإيمان، أو عدم الإيمان.   (1) انظر معاجم اللغة: (لسان العرب) ج5، ص 144 و (معجم مقاييس اللغة) مادة: كفر. و (القاموس المحيط) : فصل الكاف، باب الراء. و (تاج العروس) : ج 14، ص 50. و (مفردات القرآن) ص: 714. و (المعجم الوسيط) ص: 791. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 والإيمان: هو الإقرار التام ظاهراً وباطناً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والعمل به ظاهراً وباطناً. أي: هو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة. والكفر: ما يناقض الإيمان؛ من اعتقاد، أو قول، أو عمل. والكفر: هو الكفر بالله - عز وجل - وعدم الإيمان به - سبحانه وتعالى - أو بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من التشريع، أو إنكار شيء من ذلك، أو الإيمان ببعضه دون بعض؛ سواء كان معه تكذيب، أو لم يكن معه تكذيب؛ بل مجرد شك وريب، أو توقف، أو إعراض، أو حسد، أو كبر، أو بغض الدين، أو بغض الرسول صلى الله عليه وسلم أو سبه، أو عداوته، أو اتباع لبعض الأهواء الصادة عن اتباع حكم الله سبحانه وتعالى. ويقع الكفر: باعتقاد القلب، وبالفعل، وبالقول، وبالشك، وبالترك. فالإيمان والكفر نقيضان لا يجتمعان أبداً؛ فمتى وجد أحدهم انتفى الآخر، ومن المقرر في المعقول أن النقيضين لا يجتمعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 والكفر ذو أصول وشعب متفاوتة: منها ما يوجب الخروج من ملة الإسلام، ومنها ما هو دون ذلك. فيرد ذكر الكفر في النصوص الشرعية؛ مراداً به - أحياناً - الكفر الأكبر أي المخرج عن الملة، وأحياناً الكفر الأصغر غير المخرج عن الملة، وذلك أن للكفر شعباً كما أن للإيمان شعباً، وكما أن الإيمان قول وعمل، فكذلك الكفر قول وعمل. والمعاصي والذنوب كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. ومن أصول أهل السنة والجماعة؛ أنه من الممكن أن يجتمع في العبد بعض شعب الإيمان، وبعض شعب الكفر أو النفاق التي لا تنافي أصل الإيمان وحقيقته، قال الله تبارك وتعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} (1) (2) .   (1) سورة آل عمران، الآية: 167. (2) (() قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - عن هذه الآية: (استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال؛ فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان) . قال العلامة ابن السعدي - رحمه الله - عن هذه الآية: (وفي هذه الآيات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة كفر وخصلة إيمان، وقد يكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الأخرى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 والكفار في الشرع صنفان: الصنف الأول: كفار أصليون؛ أي الذين لم يدخلوا في دين الإسلام أصلاً، وهم: الدهريون، والفلاسفة، والمشركون، والمجوس، والوثنيون، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وغيرهم من أمم الكفر؛ فهؤلاء قد دل على كفرهم الكتاب والسنة والإجماع، وموتاهم مخلدون في النار، ويحرم عليهم دخول الجنة، وأمرهم معلوم من الدين بالضرورة. فهؤلاء الكفار؛ يجب على المسلمين دعوتهم إلى الإسلام حتى يستجيبوا؛ فإن لم يستجيبوا وجب قتالهم متى استطاعوا ذلك؛ حتى يدخلوا في الإسلام، أو يدفعوا الجزية وهم صاغرون. الصنف الثاني: المرتدون؛ الذين ينتسبون إلى الإسلام، ولكن يصدر منهم اعتقاد، أو فعل، أو قول، يناقض إسلامهم؛ فيكفرون بذلك، وإن قاموا ببعض شعائر الإسلام؛ كالباطنية، وغلاة الرافضة، والقاديانية، ونحوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 والكفر في الشرع نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر. النوع الأول: كفر أكبر مخرج من الملة: وهو يناقض الإيمان، ويخرج صاحبه من الإسلام، ويوجب الخلود في النار، ولا تناله شفاعة الشافعين، ويكون بالاعتقاد، وبالقول، وبالفعل، وبالشك والريب، وبالترك، وبالإعراض، وبالاستكبار. ولهذا الكفر أنواع كثيرة؛ من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له، ولا تنفعه الشفاعة يوم القيامة، ومن أهمها: 1- كفر الإنكار والتكذيب: وهو ما كان ظاهراً وباطناً، مثل اعتقاد كذب الرسل، وأن إخبارهم عن الحق بخلاف الواقع، أو ادعاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بخلاف الحق، وكذلك من ادعى أن الله تعالى حرم شيئاً أو أحله مع علمه بأن ذلك خلاف أمر الله ونهيه. 2- كفر الجحود الإباء والاستكبار مع التصديق: وهو عدم الانقياد والإذعان لرسول الله ظاهراً مع العلم به ومعرفته باطناً، وذلك بأن يقر أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق من ربه؛ لكنه يرفض اتباعه أشراً وبطراً واحتقاراً للحق وأهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 3- كفر الشك: بأن لا يجزم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ولا كذبه؛ بل يشك في أمره، ويتردد في اتباعه؛ إذ المطلوب هو اليقين بأن ما جاء به الرسول من ربه حق لا مرية فيه؛ فمن شك في الاتباع لما جاء به الرسول، أو جوز أن يكون الحق خلافه؛ فقد كفر كفر شك. 4- كفر الإعراض: بأن يعرض بسمعه وقلبه عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلا يصدق ذلك ولا يكذبه، ولا يوالي الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ماجاء به، ويترك الحق لا يتعلمه ولا يعمل به، ويهرب من الأماكن التي يذكر فيها الحق؛ فهو كافر كفر إعراض. 5- كفر النفاق: هو إظهار الإسلام والخير، وإبطان الكفر والشر. وهو مخالفة الباطن للظاهر، وإظهار القول باللسان، أو الفعل؛ بخلاف ما في القلب من الاعتقاد. والمنافق: يخالف قوله فعله، وسره علانيته؛ فهو يدخل الإسلام من باب، ويخرج من باب آخر، ويدخل في الإيمان ظاهراً، ويخرج منه باطناً؛ فهذا هو النفاق الأكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 6- كفر السب والاستهزاء: وهو استهزاء، أو سخرية أو انتقاص، أو سب بشيء من دين الإسلام مما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ سواء كان هازلاً، أو لاعباً، أو مجاملاً لكفار، أو في حال مشاجرة، أو في حال عضب، ونحوها؛ فقد أجمع الأئمة على كفر فاعله. 7- كفر البغض: وهو كره دين الإسلام، أو شيئاً من أحكامه، أو شيئاً من شرع الله تعالى، أو مما أنزل، أو كره نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم أو ما جاء به من الشرع، أو شيئاً من ذلك، وتمنى أنه لم يكن، أو كره شيئاً مما أجمع أهل العلم عليه أنه من الدين. لأن من تعظيم هذا الدين العظيم محبته، ومحبة الله تعالى ورسوله الأمين صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله من الشرع من أوامره ونواهيه، ومحبة أوليائه، والمحبة: شرط من شروط (لا إله إلا الله) . والبغض يناقض المحبة والقبول والانقياد والتسليم، ويريد العداوة والكراهية للحق ولأوليائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 النوع الثاني: كفر أصغر غير مخرج من الملة: وهو ما لا يناقض أصل الإيمان؛ بل ينقصه ويضعفه، ولا يسلب صاحبه صفة الإسلام وحصانته، وهو المشهور عند العلماء بقولهم: (كفر دون كفر) ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله - عز وجل - إذا لم يتب منه؛ وقد أطلقه الشارع على بعض المعاصي والذنوب على سبيل الزجر والتهديد؛ لأنها من خصال الكفر، وهي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر، وما كان من هذا النوع فمن كبائر الذنوب. وهو مقتض لاستحقاق الوعيد والعذاب دون الخلود في النار، وصاحب هذا الكفر ممن تنالهم شفاعة الشافعين، ولهذا النوع من الكفر صور كثيرة، منها: 1- كفر النعمة: وذلك بنسبتها إلى غير الله تعالى بلسانه دون اعتقاده. قال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} (1) . كقول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي على سبيل إسناد   (1) سورة النحل، الآية: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 النعمة إلى آبائه، أو قول أحدهم: لولا فلان لم يكن كذا.. وغيرها مما هو جار على ألسنة كثير من الناس، والمراد أنهم ينسبونه إلى أولئك، مع علمهم أن ذلك بتوفيق الله. ومن ذلك تسمية الأبناء بعبد الحارث، وعبد الرسول، وعبد الحسين ونحوها؛ لأنه عبده لغيره الله مع أنه هو خالقه والمنعم عليه. 2- كفران العشير والإحسان: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أريت النار؛ فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن) قيل: أيكفرن بالله. قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط) (1) . 3- الحلف بغير الله تعالى: لقوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك) (2) . فإجماع أهل السنة والجماعة على أن هذا الشرك والكفر هما   (1) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (كفران العشير، وكفر بعد كفر) . (2) (رواه الترمذي) في (كتاب الأيمان والنذور) باب: (في كراهية الحلف بغير الله) وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) ج2، ص 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 من الأصغر الذي لا يخرج صاحبه من الإسلام، ما لم يعظم المخلوق به في قلب الحالف كعظمة الله تعالى. 4- قتال المسلم: لقوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) (1) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً؛ يضرب بعضكم رقاب بعض) (2) . فهذا النوع من الكفر غير مخرج من الملة باتفاق الأئمة؛ لأنهم لم يفقدوا صفات الإيمان، لقول الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (3) . 5- الطعن في النسب، والنياحة على الميت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب، والنياحة على الميت) (4) .   (1) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر) . (2) (رواه البخاري) في (كتاب الفتن) باب: (قول النبي صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفاراً) . (3) سورة الحجرات، الآية: 9. (4) (رواه مسلم) : (كتاب الإيمان) باب (إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 6- الانتساب إلى غير الأب: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ترغبوا عن آبائكم؛ فمن رغب عن أبيه فهو كفر) (1) . وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه - وهو يعلمه - إلا كفر، ومن ادعى قوماً ليس له فيهم نسب؛ فليتبوأ مقعده من النار) (2) . وأنواع الكفر الأصغر كثيرة يتعذر حصرها؛ فكل ما جاءت به النصوص الشرعية من تسميته كفراً، ولم يصل إلى حد الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الشرك الأكبر، أو الفسق الأكبر، أو الظلم الأكبر؛ فهو كفر أصغر.   (1) (رواه البخاري) في (كتاب الفرائض) باب: (من ادعى إلى غير أبيه) . (2) (رواه البخاري) في (كتاب الفرائض) باب: (من ادعى إلى غير أبيه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 (6) (تعريف النفاق) النفاق في اللغة: هو مأخوذ من النفق، وهو السرب في الأرض الذي يستتر فيه؛ سمي النفاق بذلك؛ لأن المنافق يستر كفره ويغيبه. وقيل إنه مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو باب جحره؛ لأنه في ظاهره أرض مستوية وباطنه حفرة قد أعدها اليربوع للتخلص من الخطر وقت الحاجة؛ فاستطاع بهذا الفعل أن يخدع الصياد؛ فكذلك المنافق يظهر خلاف ما يبطن) (1) . النفاق في الاصطلاح: هو إظهار الإسلام والخير، وإبطال الكفر والشر. وهو مخالفة الباطن للظاهر، وإظهار القول باللسان، أو الفعل؛ بخلاف ما في القلب من الاعتقاد. أي: هو إظهار متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مع إبائه وجحده بالقلب، فهو مظهر للإيمان ومبطن للكفر.   (1) انظر معاجم اللغة؛ مادة (نفق) : (لسان العرب) ج10، ص 358. (تاج العروس) ج 13، ص 463. و (معجم مقاييس اللغة) ج 5، ص 454. و (مفردات القرآن) ص: 819. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 والمنافق: يخالف قوله فعله، وسره علانيته؛ فهو يدخل الإسلام من باب، ويخرج من باب آخر، ويدخل في الإيمان ظاهراً، ويخرج منه باطناً. والنفاق: هو مصطلح شرعي لم تعرفه العرب بهذا المعنى الخاص، وإن كان أصله الذي أخذ منه في اللغة معروفاً (1) . قال الله - تبارك وتعالى - عن المنافقين في كتابه العزيز: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} (2) . وقال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ {17} صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ {18} أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ {19} يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ   (1) انظر (لسان العرب) ج10، ص 359. و (الإيمان) لابن تيمية: ص 284. (2) سورة البقرة، الآية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) . وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} (2) . وقال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ {64} وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} (3) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {73} يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ   (1) سورة البقرة، الآيات: 17 - 20. (2) سورة المنافقون، الآية: 3. (3) سورة التوبة، الآيات: 64- 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (1) . ولهذا جعل الله - تبارك وتعالى - المنافقين شراً من الكافرين. قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (2) . ولهذا جعل الله - تبارك وتعالى - المنافقين شراً من الكافرين. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (3) . الزنديق والزندقة : وهناك مصطلح آخر عند بعض الفقهاء للمنافق؛ فإنه يطلقون عليه لفظ (الزنديق) وهو في الأصل لفظ أعجمي، ولكنه شاع على ألسن الفقهاء. والزنديق: هو نفس المنافق من حيث إنه يعتقد عقائد كفرية، ويظهر شعائر الإسلام، ولكن الزنديق في الغالب يظهر كفره ويدعو إليه، ويعرف عنه ذلك؛ كطوائف الباطنية ومن كان مثلهم.   (1) سورة التوبة، الآيتان: 73 - 74. (2) سورة النساء، الآية: 145. (3) سورة النساء، الآية: 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 النفاق في الشرع نوعان: النفاق كالكفر والشرك والفسق - درجات ومراتب؛ منها ما هو مخرج من الإسلام، ومنها غير مخرج منه: أولاً - النفاق الأكبر ؛ المخرج من الملة، والموجب للخلود في الدرك الأسفل من النار: هو إبطان الكفر في القلب، وإظهار الإيمان على اللسان والجوارح، ويترتب على هذا النوع ما يترتب على الكفر الأكبر؛ من حيث انتفاء الإيمان عن صاحبه، وخلوده في جهنم؛ لكن المنافق أشد عذاباً من الكافر؛ لأنه في الدرك الأسفل من النار - إذا مات عليه. والمنافق: إذا لم يظهر ما في باطنه من مخالفة الدين، وأظهر الأعمال الظاهرة من الإسلام؛ فهو في الظاهر مسلم، وتجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة في الدنيا، ويعامل معاملة المسلمين؛ لأننا لم نؤمر بالشق عن ما في القلوب، وهذا في الأصل خارج عن نطاق وقدرة ابن آدم. لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان الباطن الذي يكون صاحبه من المؤمنين حقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 والنفاق: إذا أطلق ذكره في القرآن؛ فإن المراد به النفاق الأكبر المنافي للإيمان؛ بخلاف الكفر فإنه يأتي - أحياناً - بمعنى الكفر الأصغر، وكذلك الظلم والفسق والشرك، أما في السنة فقد ورد النفاق الأصغر. والمنافقون شر وأسوأ أنواع الكفار؛ لأنهم زادوا على كفرهم الكذب والمراوغة والخداع للمؤمنين، ولذلك أخبرنا الله تعالى عن صفاتهم في القرآن بالتفصيل، ووصفهم بصفات الشر كلها؛ لكي لا يقع المؤمنون في حبائلهم وخداعهم، ومن صفاتهم: - الكفر وعدم الإيمان. - التولي والإعراض عن حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم. - الاستهزاء بالدين وأهله والسخرية منهم. - الميل بالكلية إلى أعداء الدين، ومظاهرتهم ومناصرتهم على المؤمنين والمسلمين. ومن أنواع النفاق الكثيرة: من أظهر الإسلام وهو مكذب بما جاء به الله، أو بعض ما جاء به الله، أو كذب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بعض ما جاء به الرسول، وكمثل من لم يعتقد وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم، أو أبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو آذى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الانتصار لدين الرسول صلى الله عليه وسلم أو سر بكسر راية الدين، أو الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين؛ لأجل إيمانهم وطاعتهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أو التولي والإعراض عن الشرع.. إلى غير ذلك من الاعتقادات الكفرية المخرجة من الملة. وهذا الصنف من المنافقين موجودون في كل زمان ومكان. ثانياً - النفاق الأصغر ؛ غير المخرج من الملة: هو النفاق العملي، واختلاف السر والعلانية في الواجبات، وذلك بعمل شيء من أعمال المنافقين؛ مع بقاء أصل الإيمان في القلب وصاحبه لا يخرج من الملة، ولا ينفى عنه مطلق الإيمان، ولا مسمى الإسلام، وهو معرض للعذاب كسائر المعاصي، دون الخلود في النار، وصاحبه ممن تناله شفاعة الشافعين بإذن الله. وهذا النوع من النفاق مقدمة وطريق للنفاق الأكبر؛ لمن سلكه وكان ديدنه. وأمثلة ذلك: الكذب في الحديث، وإخلاف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور في الخصومة، والغدر بالعهود، وكالرياء الذي لا يكون في أصل العمل، وإظهار المودة للغير والقيام له بالخدمة مع إضمار عكسه في النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) (1) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) (2) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار) (3) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه؛ مات على شعبة من نفاق) (4) .   (1) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (علامة المنافق) . (2) المرجع السابق. (3) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (علامة الإيمان حب الأنصار) . (4) (رواه مسلم) في (كتاب الإمارة) باب: (ذم من مات ولم يغز) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 (7) (خطورة التكفير) (من ثبت إسلامه فلا يزول بشك) اتفق أئمة أهل السنة والجماعة على هذه القاعدة؛ فكانوا أعظم الناس ورعاً؛ لأن تكفير المسلم مسألة خطيرة، يجب عدم الخوض فيها دون دليل وبرهان، وينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد إلى ذلك سبيلاً، فباب التكفير باب خطير، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر أحد أحداً دون برهان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر. فقد باء بها أحدهما. إن كان كما قال. وإلا رجعت عليه) (1) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر؛ إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك) (2) . ولأن التكفير حكم شرعي يترتب عليه إباحة دم شخص قد ظهر إسلامه، ونطق بالشهادتين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:   (1) (رواه مسلم) في (كتاب الإيمان) باب: (بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر) . (2) (رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (ما ينهى من السباب واللعن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 (من بدل دينه فاقتلوه) (1) . وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الشخص المكفر يترتب على كفره أحكام، منها: 1- عدم حل زوجته - المسلمة - له، وتحريم بقائها، وبقاء أولادها تحت سلطانه؛ لأن المرأة المسلمة لا يصح أن تكون زوجة لكافر بالإجماع. 2- وجوب محاكمته أمام القضاء؛ لتنفيذ حد الردة عليه - وهو القتل - لأنه كفر بعد إسلامه، وذلك بعد استتابته وإقامة الحجة، وإزالة الشبه. 3- أنه إذا مات على ردته وكفره؛ لا تجري عليه أحكام المسلمين؛ فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يورث، كما أنه لا يرث إذا مات له موروث قبله. 4- أنه إذا مات على الكفر؛ وجبت عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، والخلود الأبدي في النار - والعياذ بالله - ولا يدعى له بالرحمة، ولا يستغفر له.   (1) (رواه البخاري) في (كتاب الجهاد) باب: (لا يعذب بعذاب الله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 (8) (التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين) ومن أصول أهل السنة والجماعة: التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين؛ لأنه من الممكن أن يقول المسلم قولاً أو يفعل فعلاً؛ قد دل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أنه كفر وردة عن الإسلام، ولكن لا تلازم عندهم بين القول بأن هذا كفر، وبين تكفير الشخص بعينه؛ فليس كل من فعل مكفراً يحكم بكفره بإطلاق؛ فقد يكون القول أو الفعل كفراً؛ لكن لا يطلق الكفر على القائل، أو الفاعل إلا بشرطه؛ لأنه لابد أن تثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، فالمرء قد يكون حديث عهد بالإسلام، وقد يكون جاهلاً جهلاً يعذر بمثله؛ فإذا بين له رجع، وقد ينكر شيئاً متأولاً أخطأ بتأويله، وغير ذلك من الموانع التي تمنع من التكفير. فأهل السنة والجماعة: يطلقون القول في التكفير، فيقولون: من قال كذا، أو فعل كذا؛ فهو كافر، وعندما يتعلق الأمر بالشخص المعين الذي قاله أو فعله، لا يحكمون على كفره إطلاقاً؛ حتى تجتمع فيه الشروط، وتنتفي عنه الموانع، فعندئذ تقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذه قاعدة عظيمة يتميزون بها عن غيرهم؛ لأن التكفير ليس حقاً لأحد، يحكم به على من يشاء على وفق هواه؛ بل التكفير حكم شرعي، فيجب الرجوع في ذلك إلى ضوابط الشرع؛ فمن كفره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وقامت عليه الحجة؛ فهو الكافر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فقد يكون الفعل أو المقالة كفراً، ويطلق القول بتكفير من قال ذلك؛ فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة؛ فلا يشهد على معين من أهل القبلة بأنه من أهل النار؛ لجواز أن لا يلحقه، لفوات شرط أو لثبوت مانع) (1) . وقال أيضاً: (وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط؛ حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة) (2) .   (1) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 291. (2) (مجموع الفتاوى) ج 7، ص 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 (9) (موانع التكفير) التكفير عند أهل السنة والجماعة له موانع يمنع من تنزيل الحكم على الشخص بعينه؛ إلا بعد توفر الشروط، وانتفاء الموانع التي تمنع تكفير المعين، ومن هذه الموانع وأهمها: الجهل : إن من شروط الإيمان - عند أهل السنة والجماعة - وجود العلم والمعرفة عند الشخص المؤمن به؛ لذا فمن أنكر أمراً من أمور الشرع جاهلاً به، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله؛ فإنه لا يكفر؛ حتى لو وقع في مظهر من مظاهر الشرك أو الكفر: لأنه لم يكن يعلم بهذا المكفر قبل إسلامه. أو يعيش في بلد فاش فيه الجهل، أو بعيد عن ديار العلم وأهله، أو نشأ في بلد انقلبت فيه موازين الشرع؛ فصار الشرك فيه هو التوحيد، والبدعة فيه هي السنة، وكثر فيه الانحراف، وزين فيه الباطل والكفر، ولبس عليهم. أو أنه وقع في المكفر وهو غير قاصد له، أو أن هذا المكفر من المسائل الخفية التي لا يطلع عليها إلا العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فمثل هذا الشخص لا يستحق العقوبة حتى تقام عليه الحجة؛ لأن الجهل ببعض الأمور العقدية قد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض الصحابة - رضي الله عنهم - ومع ذلك لم يكفرهم صلى الله عليه وسلم. وأهل السنة والجماعة؛ يراعون اختلاف أحوال الناس، وأماكنهم وزمانهم؛ من حيث انتشار العلم، أو عدم انتشاره، لأنهم لا يشتركون جميعاً في معرفة الأمور الضرورية على درجة واحدة؛ بل قد يعرف البعض ما لا يعرفه الآخرون؛ أو قد يكون بعض المسائل من المسلمات عند البعض مع أن غيرهم يجهلها. ومع هذا فلا يعني أن الجهل عندهم عذر مقبول لكل من ادعاه؛ فالجهل عندهم درجات مختلفة، فجهل ما هو معلوم من الدين بالضرورة، غير جهل ما دونه. والجاهل العاجز عن السؤال والعلم؛ غير الجاهل المتمكن المفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله تعالى. وكون الرجل يعذر بالجهل - عندهم - لا يعني ذلك إبقاء منزلته كما هي؛ بل تنحط منزلته، وينقص إيمانه بقدر بعده عن الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الخطأ : اتفق أئمة أهل السنة والجماعة؛ على أن الخطأ من موانع التكفير في المسائل العلمية والعملية، إذا كان اجتهاداً لطلب الحق ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وغير مقصود لمخالفة الشرع، وقاعدتهم في ذلك قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (1) . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) (2) . لأن الله تعالى أمر الناس بطلب الحق على قدر وسعهم وإمكانهم؛ فإن لم يصيبوا الحق في اجتهادهم، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.   (1) سورة الأحزاب، الآية: 5. (2) (رواه ابن ماجة) في (كتاب الطلاق) باب: (طلاق المكره والناسي) وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجة) ج 1، ص 347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الإكراه : اتفق أئمة أهل السنة والجماعة على أن الإكراه على الكفر بضوابطه الشرعية يعتبر من موانع التكفير في حق المعين. ومن ضوابط الإكراه - عندهم - أن يقع بسبب التهديد بالضرب والقتل والتعذيب، أو قطع عضو من أعضائه، بالفعل لا بمجرد التهديد اللفظي، وقد رفع السيف فوق رأسه؛ حتى يتحقق الإكراه، وأن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك فوراً لا محالة؛ فحينئذ يجوز له القيام بما دفع إليه بالتهديد، باعتباره في حالة ضرورية شرعية؛ فيباح عندئذ إظهار ما يخالف الدين، ولا يأثم إن نطق بالكفر أو فعل؛ لأن في هذه الحالة ينعدم في الإنسان الرضا، ويفسد الاختيار، وتنتفي الإرادة والقصد، أما ما دون ذلك فيدفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما؛ ففي هذه الحالة لا يكفر المسلم ما دامت الموافقة باللسان دون القلب، وقلبه مطمئن بالإيمان، وموقن بحقيقته، وذلك لظاهر قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) .   (1) سورة النحل، الآية: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 كما أجمعوا على أن من أكره على الكفر، فاختار القتل؛ أعظم أجراً عند الله تعالى ممن اختار الرخصة؛ وذلك لأن الصبر والأخذ بالعزيمة له منزلة رفيعة عند الله تعالى، وأولى من الأخذ بالرخص، ولو كانت مباحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر؛ فأمره ونهاه فقتله) (1) . أما من نطق بالكفر، وقال: قصدت المزاح؛ فهو كافر ظاهراً وباطناً، إذ حكم الكفر يلزم الجاد، والهازل، والمازح على السواء، وفي الآخرة أمرهم إلى الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر؛ فإنه يكفر بذلك ظاهراً وباطناً، ولا يجوز أن يقال: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمناً، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام) (2) .   (1) (صحيح) رواه الحاكم في (المستدرك) . وانظر: (مجموع الزوائد) ج9، ص 268. (2) (الصارم المسلول) ص 532. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 التأويل : هو التلبس والوقوع في الكفر متأولاً من غير قصد لذلك. اتفق أئمة أهل السنة والجماعة على أن التأويل السائغ - الذي له وجه في العلم واللغة العربية - يعتبر من موانع التكفير؛ إذا كان سببه القصور في فهم الأدلة الشرعية، أو الاستناد إلى الشبه التي تصرف عن اتباع الحق دون تعمد للمخالفة، أو المعارضة، أو التكذيب، أو الرد، أو العناد؛ بل اعتقاد العكس بأن الحق معه والتزمه بذلك. وهذا النوع من المتأول إذا أخطأ، وكان من أهل الإيمان؛ فهو معذور حتى تقام عليه الحجة، وتزول عنه الشبهة. وهذا النوع من التأويل مذموم؛ إذا لم يعطل بعض أحكام الشريعة المعلومة من الدين بالضرورة، ولكن يؤدي إلى المخالفة دون القصد؛ فهو من قبيل الخطأ الذي غالباً ما يكون سببه الجهل. وإن كان مما يعطل بعض أحكام الشريعة؛ فهو أشد ذماً؛ لأنه من أصول الضلال والانحراف، وذريعة للغلو في الدين. واتفق أهل السنة والجماعة - أيضاً - على أن هنالك تأويلات لا يعذر بها؛ كتأويلات الباطنية، والفلاسفة، وغيرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 من الغلاة؛ لأن حقيقة أمرهم هي تكذيب للدين جملة وتفصيلاً، أو التكذيب لأصل لا يقوم الدين إلا به، أو عدم عبادة الله وحده؛ كإنكار الفلاسفة لحشر الأجساد، وقولهم إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات، أو القول بتحريف القرآن، أو اعتقاد النفع والضر في الأموات كما يفعله غلاة القبوريين.. ونحو ذلك من الاعتقادات الغالية التي لا تعتمد على أصول شرعية. فالتأويل - عند أهل السنة والجماعة - نوعان: نوع يعذر به الإنسان، ونوع لا يعذر به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 التقليد : هو: (اتباع قول من ليس قوله حجة) . والتقليد لا يكون إلا مع عدم معرفة الدليل الشرعي؛ لأنه اتباع قول الغير من غير معرفة دليله. والاتباع هو الحجة في الإسلام، وهو العلم الصحيح؛ لأنه قول الله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة، وما سوى ذلك يسمى تقليداً. والتقليد نوعان: 1- التقليد المباح: يكون في حق العامي الذي لا يعرف طرق الأحكام الشرعية، ويعجز عن معرفتها، ولا يمكنه فهم أدلتها، ولكن له طلب الدليل الشرعي من المفتي؛ لأن المسلم من حقه أن يستوثق من أمر دينه. 2- التقليد المذموم: هو تقليد رجل واحد معين دون غيره من العلماء في جميع أقواله، أو أفعاله، ولا يرى الحق إلا فيه. ذهب جمهور أئمة أهل السنة والجماعة إلى جواز التقليد في العقائد والأحكام للعامي، والذي يعجز عن فهم الحجة والنظر والاستدلال. ويحرم التقليد على العالم، أو الذي يستطيع النظر والاستدلال؛ إذا اجتهد وبان له الحق في المسألة أن يقلد غيره، سواء كان ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 في العقائد أو الأحكام؛ لورود الأدلة في ذم التقليد والمقلدين. واتفقوا على أن التقليد من موانع التكفير؛ لأن المقلد جاهل لا يفهم الدليل أو الحجة، ولا بصيرة له ولا فقه؛ فهو معذور حتى تقام عليه الحجة ويعلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (والذي عليه جماهير الأمة: أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد؛ فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد، إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور الدليل له؛ فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه، وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء، وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد؛ فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزي والانقسام، فالعبرة بالمقدرة والعجز) (1) .   (1) (مجموع الفتاوى) ج 20، ص 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 العجز : إن الشريعة الإسلامية سهلة ميسرة، ومحكمة شاملة لجميع نواحي الحياة، ومناسبة لجميع أحوال العباد حسب طاقاتهم وقدراتهم، وأحكامها مختلفة حسب حال العبد من السعة والرخاء، والعبد لا يكلف ما لا يطيق ولا يقدر على أدائه. قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (1) . اتفق أئمة أهل السنة والجماعة على أن العجز عن أداء ما شرع الله تعالى أو عن أداء بعضه؛ يعتبر من موانع التكفير؛ إذا كان سببه انتفاء الإرادة وعدم الاختيار والرضا والقصد بذلك، واتقى صاحبه الله ما استطاع؛ فإنه معذور غير مؤاخذ على ما تركه. كالذين بلغتهم دعوة الإسلام وهم في دار الكفر وأسلموا ولكن لم يتمكنوا من الهجرة إلى دار الإسلام، ولا الالتزام بجميع شرائعه؛ لأنهم ممنوعون من إظهار دين الإسلام، أو ليس عندهم من يعلمهم جميع شرائع الدين؛ فهؤلاء معذرون، وإن ماتوا على حالهم فهم من أهل الجنة إن شاء الله.   (1) (مجموع الفتاوى) ج 20، ص 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 (10) (تكفير أهل السنة والجماعة لمن ثبت كفره) علمنا أن أئمة أهل السنة والجماعة كانوا يحترزون من تكفير المعين، وبينوا خطورة الإقدام على تكفير المسلم دون علم، ولكن لم يمنعهم هذا من الحكم بالكفر على من ثبت في حقه الكفر بشروطه الشرعية، ولم يترددوا في تكفير من كفره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لأن النصوص الشرعية دلت على جواز تكفير من ارتكب عملاً أو قولاً مكفراً؛ بل جعلوا تكفير الكافر من أصولهم في الاعتقاد، وحكموا بكفر من لم يكفر الكافر، أو يشك في كفره. ويقول القاضي عياض - رحمه الله - إجماع العلماء على ذلك، فقال: فقالوا: (بالإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود، وكل من فارق دين المسلمين، أو وقف في تكفيرهم، أو شك) (1) . فاهتمامهم في تكفير الكفار والمشركين، أو من ثبت كفره، أو ردته؛ ليس لهوى في النفس؛ وإنما يريدون التعبد لله تعالى   (1) (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) ج2، ص 281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بذلك، والقيام بواجب الولاء والبراء، فمعرفة حال الشخص من إيمان، أو كفر، تحقق للمؤمن التعبد بمحبته إن كان مؤمناً، وكراهيته إن كان كافراً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان) (1) . فتكفير أهل السنة والجماعة للكفار، وعداؤهم لهم وبغضهم إياهم؛ ما هو إلا استجابة لله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (2) . وكذلك حبهم للعبد نفسه إذا دخل في الإيمان بعد الكفر؛ استجابة لله جل وعلا، قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} (3) .   (1) (رواه أبو داود) في (كتاب السنة) باب: (الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه) . (2) سورة البقرة، الآية: 161. (3) سورة الأنفال، الأية: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فموالاة أهل السنة والجماعة ومعاداتهم للعبد مبنية على أساس صفات الإيمان والكفر التي تلازمه، قال الله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} (1) .   (1) سورة آل عمران، الأية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 (11) (ما يمحو الكفر بعد ثبوته على المعين) أجمع أهل السنة والجماعة؛ على أن الكفر إذا ثبت ووقع في حق المعين؛ لم يمحه شيء إلا التوبة الصادقة وبشروطها المعروفة؛ لأن التوبة تمحو جميع الخطايا والسيئات. والتوبة هي المانع الوحيد الذي يمنع إطلاق اسم الكفر على المعين بعد رجوعه عن الكفر الذي وقع فيه؛ بخلاف الموانع السابقة؛ التي تمنع إلحاق الكفر به ابتداء؛ حتى يزول المانع. والله تعالى يقبل توبة العبد الصادق المقبل إليه إقبالاً صادقاً من قلبه، ويغفر جميع الذنوب والخطايا والمعاصي والكفر والشرك وما دونه، وأن كل من تاب وأناب إلى الله في هذه الدنيا؛ تاب الله عليه وغفر له، وليس شيء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) .   (1) سورة الزمر، الآية: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وقال: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73} أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1) . وقال: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (2) . وقال: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} (3) . وقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} (4) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فثبت بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن كل من تاب، تاب الله عليه. ومعلوم أن من سب الرسول من الكفار المحاربين، وقال:   (1) سورة المائدة، الآيتان: 73- 74. (2) سورة التوبة، الآية: 11. (3) سورة الأنفال، الآية: 38. (4) سورة الزمر، الآية: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 هو ساحر، أو شاعر، أو مجنون، أو معلم، أو مفتر، وتاب تاب الله عليه. وقد كان طائفة يسبون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الحرب؛ ثم أسلموا، وحسن إسلامهم، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم: منهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان قد ارتد، وكان يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: أنا كنت أعلمه القرآن؛ ثم تاب، وأسلم، وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك) (1) . أما من مات على الكفر؛ فقد استحق الوعيد والخلود في النار، وتحقق فيه قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (2) .   (1) (مجموع الفتاوى) ج 3، ص 291. (2) سورة النساء، الآية: 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 نواقض الإيمان قد علمنا فيما سبق - من هذه الرسالة - مضمون الإيمان عند أهل السنة والجماعة: تعريفه، وحقيقته، وشروطه، وأركانه، ومراتبه، ودرجاته، وثمراته، وصفات أهله، وخوارمه. وعرفنا كل ذلك على النحو الذي بينه الله تعالى في كتابه العزيز، وبينه لنا رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة، من خلال أقوال وفهم أئمة السنة والجماعة. فتبين أن الملتزمين العاملين بأوامر الله تعالى، والمتباعدين عن نواهيه؛ هم الصادقون حقاً وصدقاً في دعوى الإيمان. والسعيد من تمسك وعمل بهذا الإيمان الذي كان يؤمن به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون ومن تبعهم بإحسان. والشقي من صرف عن هذا الإيمان، وترك العمل، أو ترك بعضه، أو تهاون فيه؛ بمداخل الشيطان وخطواته؛ من جهل، وتأويل، وشبهة، واتباع للهوى؛ فهو في الحقيقة من الكاذبين الغاشين لأنفسهم لا غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فإذا تبينت لنا حقيقة الإيمان على النحو الذي رضيه لنا الله تعالى، وجب علينا أن نعرف أن هذه الحقيقة لها نواقض تنقض عراها، عروة عروة؛ حتى تعري صاحبها منها، فالعبد المسلم قد يتصف بحقيقة الإيمان كما بينها أهل السنة والجماعة، ولكن قد يطرأ عليه اعتقاد أو قول أو عمل أو شك؛ يخرجه من حقيقة الإيمان إلى دائرة الكفر، وهو لا يشعر! ونواقض الإيمان الاعتقادية والقولية والعملية التي يكفر بها صاحبها؛ كثيرة جداً لا يمكن حصرها هنا في هذه الرسالة، ولذلك سأورد أصول هذه النواقض، وبعض الأمثلة عليها (1) . كما يجب أن نعلم قبل ذلك؛ أن الإيمان حقيقة كلية بأركانها ومسماها لا تقبل التجزئة، وتندرج تحتها فروع كثيرة، يجب الإيمان بجميعها جملة واحدة كما أمرنا الله تعالى؛ فإنكار أي فرع من فروعها، أو مسألة منها؛ هو كفر ببقية الفروع والمسائل، وخروج من دائرة الإيمان إلى حظيرة الكفر.   (1) (() ومن شاء البسط في معرفة أدلة نواقض الإيمان أكثر؛ فعليه الرجوع إلى مصادرها في كتب عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي كثيرة ومتوفرة، ولله الحمد والمنة، وقد ذكرت بعضها في نهاية هذه الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 قال الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (1) . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً {150} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} (2) . ففي هذه النصوص - وغيرها كثيرة - دلالة واضحة وصريحة على أن الإيمان والالتزام يجب أن يكون كلياً غير منقوص، والإيمان لا يقبل التجزئة في عناصره وأركانه ومسماه. والإيمان ينتقض بانتقاض عنصر واحد من عناصره، فمن طعن في مسألة جزئية من مسائله، أو استحل المعصية؛ كأنما طعن في الإيمان كله.   (1) سورة البقرة، الآية: 85. (2) سورة النساء، الآيتان: 150- 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فالإيمان ليس أجزاء مفرقة مبعثرة نستطيع أن نأخذ من أركانها وعناصرها ما نشاء، ونترك ما نشاء، ثم نبقي في دائرة الإيمان! فإن من قال قولاً، أو فعل فعلاً، أو اعتقد أمراً؛ يدل على إنكار شيء من عناصر الإيمان أو أجزائه أو أركانه؛ فقد نقض إيمانه، وخرج من دائرة الإسلام، وتنطبق عليه أحكام الردة؛ ولو آت ببعض أجزاء الإيمان. وإذا لم يتب يكون من المخلدين في النار، والعياذ بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 نواقض الإيمان وأنواعها بعد أن علمنا أن هنالك نواقض للإيمان، وجب علينا معرفة أنواعها، وهي التي تكون بالاعتقاد والقول والعمل. ويمكن حصر هذه النواقض وتلخيصها في النقاط التالية: - نواقض توحيد الله تعالى في ربوبيته. - نواقض توحيد الله تعالى في أسمائه وصفاته. - نواقض توحيد الله تعالى في ألوهيته. - نواقض عموم الدين. 1- نواقض توحيد الله تعالى في ربوبيته: فكل اعتقاد، أو قول، أو فعل؛ فيه إنكار لخصائص ربوبية الله تعالى، أو بعضها؛ كفر وردة. أو ادعاء شيء من هذه الخصائص؛ كادعاء الربوبية، كما قال فرعون: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (1) .   (1) سورة النازعات، الآية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 أو ادعاء الملك، أو الرزق، أو التصرف من دون الله تعالى، وغيرها من الأمور التي هي من أفعال الله تعالى وخصائصه، وكذلك يكفر من يصدق بهذه الدعوى، ومن الأمثلة على ذلك: - الاعتقاد بأن لله تعالى شريكاً في الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير. - الاعتقاد بأن الأولياء لهم تصرف في الكون مع الله تعالى. - اعتقاد تأثير وتصرف غير الله تعالى؛ من الأبراج والكواكب ومساراتها ومواقعها على حياة الناس. - الاعتقاد بأن المخلوق يمكنه أن يزرق المخلوق، أو يمنع عنه الرزق، أو يمكنه أن يضر، أو ينفع من دون الله تعالى. - الاعتقاد بأن أحداً دون الله تعالى يعلم الغيب. - اعتقاد حلول الله تعالى في خلقه، أو أن الله في كل مكان. - الاعتقاد بأن الشفاء من الطبيب أو الدواء، أو اعتقاد التوفيق في حياة العبد من ذكائه، أو جهده واجتهاده. - الاعتقاد بأن للمخلوق حقاً في سن القوانين وتشريعها، وهي تلك النظم التي تحكم في أموال الناس وأعراضهم. وغيرها من الاعتقادات التي تناقض الإيمان وتبطله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 2- نواقض توحيد الله تعالى في أسمائه وصفاته: فقد أثبت الله تعالى لنفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صفات وأسماء، ونفى - سبحانه - كذلك عن نفسه صفات؛ فمن انتقص شيئاً مما أثبته الله لنفسه، أو أثبت لله تعالى شيئاً مما نفاه عن نفسه؛ فقد كفر، ومن الأمثلة على ذلك: - إنكار أو جحد أسماء الله، أو صفاته، أو بعض أسمائه، أو بعض صفاته، أو إثبات صفات لله تعالى نفاها الله عن نفسه. - الإلحاد في أسماء الله وصفاته، أو نفيها، أو جحد معانيها، أو تحريفها عن الصواب، وإخراجها عن الحق المراد بالتأويلات الباطلة، أو تعطيل الله - سبحانه وتعالى - عن صفات كماله، ونعوت جلاله؛ الثابتة في الكتاب والسنة. - تشبيه صفات الله - جل وعلا - بصفات خلقه، أو وصفه تعالى بصفة يجب تنزيهه عنها، مثل: أن يزعم أن لله تعالى شريكاً، أو ولداً، أو يصفه - سبحانه - بالنوم، أو السنة، أو الغفلة.. إلى غير ذلك من صفات النقص التي تعتري ابن آدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 3- نواقض توحيد الله تعالى في ألوهيته: توحيد الألوهية: هو إفراد الله تعالى بأفعال العباد، أي: إفراده - جل وعلا - بالعبادة والخضوع والطاعة المطلقة، وأن لا يشرك به أحد كائناً من كان، ولا يصرف شيء من العبادة لغيره تعالى. أي: أن الله تعالى وحده هو المعبود بحق، وأن ما سواه من المعبودات كلها باطل لا تستحق أي شيء من العبادة. فمن اعتقد غير هذا، أو قال قولاً، أو فعل فعلاً، ينافي هذا المعنى، أو أنكر حق الله تعالى في ألوهيته، أو انتقص شيئاً منه، أو صرف شيئاً منه لغيره؛ فقد كفر، وارتد عن الإسلام. فأكثر الأمم السابقة، وأكثر الناس في الإسلام وقعوا في الشرك أو الكفر في توحيد الألوهية؛ لأنهم لم يكونوا ينكرون ربوبية الله تعالى؛ بل أقروا بأن الله تعالى هو الرب والخالق والرازق والمحي والمميت، ولكنهم صرفوا شيئاً من العبادة لغيره تعالى؛ فجعلهم الله في عداد الكافرين بإشراكهم غيره في العبادة. وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له؛ هي غاية الخالق - جل جلاله - من خلق عباده، ولذلك هي موضوع الامتحان للعبادة في الدنيا، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (1) . فكل اعتقاد، أو قول، أو عمل؛ يتضمن أحد هذين الأمرين يخرج صاحبه من الإسلام. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} (2) . وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) . وقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (4) .   (1) سورة الذاريات، الآية: 56. (2) سورة البقرة، الآية: 165. (3) سورة البقرة، الآيتان: 21- 22. (4) سورة يوسف، الآية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الأمثلة من نواقض الإيمان في توحيد الألوهية والعبادة: - عبادة أحد مع الله، أو دون الله، أو يدعي مع الله تعالى، وأن يستغاث بغيره سبحانه؛ في جلب خير، أو دفع ضر، أو يتوكل عليه، أو يستعاذ به، أو يخاف منه، أو يرجى، أو يخضع له، أو يتقرب إليه بأي نوع من أنواع العبادة، أو يطاع الطاعة المطلقة، أو يحب كحب الله تبارك وتعالى، أو يعظم كتعظيم الله تعالى؛ سواء كان هذا المعظم أو المدعو ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو قبراً، أو حجراً، أو شجراً. - الركوع، والسجود، والصوم، والطواف، والذبح، والنذر، والخشوع لغير الله تعالى. - الطاعة والانقياد لغير الله تعالى، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. - الاعتقاد بأن لشخص حق تشريع ما لم يأذن به الله تعالى؛ من التحليل والتحريم وسن القوانين. - الاعتقاد بأن شرع الله تعالى لا يصلح في هذا الزمان. يكفر من أتى شيئاً من هذه النواقض، أو رضي بها، أو عمل بعضها، وإلى غير ذلك من النواقض التي تخص توحيد العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 4- نواقض عموم الدين: الدين الإسلامي هو التشريع الإلهي؛ سواء كان من الاعتقادات، أو العبادات، أو المعاملات، أو الأخلاق، وهو أوامر الله تعالى ونواهيه، وهو - سبحانه وتعالى - الذي يعلم ما يصلح لعباده وما يفسدهم؛ كيف لا وهو خالقهم سبحانه. فالتشريع الإلهي؛ واجب وفرض على كل من يعقل، لا يجوز مخالفته البتة بأي شكل من الأشكال؛ لأنه الغاية والمقصود من خلق العباد، وإلا أصبح خلقهم عبثاً وهملاً. ومخالفة أحد أوامر الله سبحانه، أو مخالفتها بالكلية؛ سواء عند الله تعالى، وكذلك الاعتراض على أوامره، أو على أحدها؛ اعتراض عليه سبحانه وتعالى؛ وهذا كفر وردة. فإن مقتضى الإيمان به تنفيذ أوامره وترك نواهيه سبحانه، وواجب المسلم أمام شرع الله - عز وجل - التسليم والرضى لحكمه تعالى، بقول: (سمعنا وأطعنا، آمنا وصدقنا) لاغير. وهكذا كان شعار الصادقين مع الله تعالى؛ من الصحابة الكرام والتابعين العظام، وشعار من تبعهم من الصالحين الصادقين بإحسان إلى يومنا هذا، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {51} وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (1) . وأما دأب الكافر - ماضياً وحاضراً ومستقبلاً - هو الاعتراض والاستهزاء والطعن في تشريع الله سبحانه، قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {7} يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {8} وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (2) . إذن الاعتراض وعدم الرضا بتشريع الله تعالى؛ كفر وردة. وهذا الاعتراض والطعن يقتضي الاعتراض والطعن في صاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أو إنكار ما جاء وأخبر به؛ وهو ناقض من نواقض الإيمان وردة عن الإسلام. وكذلك الاستهزاء بمن يعمل بهذا التشريع من المسلمين، أو الاستهزاء بهم بسبب تمسكهم بشعيرة من شعائره، أو معاداتهم   (1) سورة النور، الآيتان: 51- 52. (2) سورة الجاثية، الآيات: 7- 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 من أجل ذلك؛ يكون كفراً وردة؛ لأنه محاربة لدين الله تعالى ومحادة له، وصد عن سبيل الله جل وعلا؛ لأن هذا الاستهزاء ينصرف في حقيقة الأمر إلى التشريع نفسه، ومن ثم إلى مبلغه صلى الله عليه وسلم ومن ثم إلى منزله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ {29} وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ {30} وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ {31} وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ {32} وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ {33} فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ {34} عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} (1) . وقال: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) . وهذه النواقض تكون باعتقاد، أو قول، أو فعل أي أمر يمس دين الإسلام، أو تشريعه، أو رسوله، أو سنته صلى الله عليه وسلم؛ بطعن، أو   (1) سورة المطففين، الآيات: 29- 35. (2) سورة البقرة، الآية: 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 تنقيص، أو استهزاء، أو تكذيب، أو شك، أو ريب، كل هذه الأمور تعتبر ناقضاً من نواقض الإيمان، وردة عن الإسلام. وللزيادة في الإيضاح؛ نذكر بعض الأمثلة - على سبيل المثال لا الحصر - لأقسام نواقض الإيمان الثلاثة؛ الاعتقاد، والفعل، والقول. الأول: نواقض الإيمان بالاعتقاد : ويكون بمجرد اعتقاد القلب، وإن لم يتكلم به، وإن لم يفعل شيئاً منه، وأسبابه كثيرة نذكر منها: 1- الجحد، أو الشك في وجود الله سبحانه وتعالى، أو الاعتقاد بأن لله تعالى شريكاً في ربوبيته جل وعلا. 2- التكذيب أو الشك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وجحد عموم رسالته، وختمه للنبوة، أو إنكار بعض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أو الطعن فيه بعد ثبوته. 3- الاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى الله تعالى إليه وهو مأمور بتبليغه، أو بلغه لبعض المسلمين دون بعض. 4- التكذيب أو الشك في شيء من أركان الإسلام الخمسة، أو أركان الإيمان الستة، أو الجنة أو النار، أو الثواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 والعقاب، أو الجن أو الملائكة، أو شيء مما هو مجمع عليه؛ كالإسراء والمعراج، وغيرها. 5- إنكار شيء من القرآن، أو اعتقاد زيادة فيه، أو الاعتقاد أن للقرآن ظاهراً وباطناً، وأن باطنه يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن مخصوص للبعض دون بعض. 6- الإيمان بشريعة غير الإسلام، واعتقاد صلاحيتها للبشر، والعمل بها، وتطبيقها. 7- اعتقاد عدم كفر الكفار من الملحدين والمشركين والمرتدين، أو الشك في كفرهم، أو موالاتهم على حساب الدين. 8- الاعتقاد بأن الكنائس بيوت الله - جل وعلا - وأن الله تعالى يعبد فيها، وأن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله، وطاعة له - سبحانه - ولأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام. 9 - جحد وجوب شيء معلوم من الدين بالضرورة؛ كالصلوات الخمس، والزكاة، والصوم، والحج وغيرها. 10- اعتقاد تحريم مباح معلوم من الدين بالضرورة؛ كالبيع والنكاح، أو اعتقاد إباحة محرم معلوم من الدين بالضرورة؛ كالقتل، والزنا، والربا، أو إعطاء غير الله تعالى حق الأمر والنهي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وحق التحليل والتحريم، وحق التشريع، أو اعتقاد جواز الاحتكام إلى غيره تعالى. 11- تكذيب واحد من رسل الله تعالى، في أي أمر من الأمور الثابتة عنهم. 12- ادعاء النبوة، أو تصديق من يدعيها. 13- الاعتقاد بأن البعض يسعه الخروج عن شريعة الإسلام، وأنه يجوز للشخص أن يلتزم بدين آخر غير الإسلام. 14- الاعتقاد بأن جمهور الصحابة - رضي الله عنهم - ارتدوا، أو فسقوا؛ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. 15- الرضا بالكفر، والعزم على الكفر، أو تعليق الكفر بأمر مستقبل. 16- من ضحك لمن تكلم بالكفر مع الرضا به. 17- من شك في كفر من عمل الأعمال المكفرة الظاهرة التي استبان دليلها واتفق أئمة أهل السنة والجماعة عليها. وغيرها من صور نواقض الإيمان الاعتقادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الثاني: نواقض الإيمان بالقول : 1- سب الله تعالى، أو نسبه العيب إليه - جل وعلا - أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد الرسل - عليهم السلام - أو سب الملائكة، أو سب دين الإسلام. 2- دعاء الأولياء والصالحين، والاستغاثة بهم عند الكرب والشدة، وسؤالهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وكذلك الاستعاذة بهم. 3- الاستهزاء بالله تعالى، أو بكلامه وكتابه (القرآن العظيم) ، أو سائر كتبه، أو بآية من آياته، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم مثل: الطعن في صدقه، أو في أمانته، أو عفته، أو الاستهزاء والاستخفاف به، أو بسنته صلى الله عليه وسلم. وكذلك السخرية من أسماء الله تعالى، أو تنقصه، أو بوعده بالجنة أو وعيده بالنار؛ كقول بعضهم: لو أعطاني الله الجنة ما دخلتها، لو شهد عندي الأنبياء والرسل بكذا ما قبلت شهادتهم، أو ما لحقني خير منذ صليت، أو ما نفعتك صلاتك، وغير ذلك. 4- القول: أنا لا أخاف الله. أو أنا لا أحب الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 5- القول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجب علينا الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج.. إلخ. 6- القول: إن الدين لا صلة له بالدولة، وسائر شؤون الحياة، أو إن تعاليم الإسلام لا تتناسب مع هذا الدين. 7- القول لمن عمل بدين الإسلام: أنت رجعي. 8- القول: إن دين الإسلام وتعاليمه؛ هو سبب تأخر المسلمين، أو بلاد المسلمين. 9- قول شخص عن عدوه: لو كان ربي ما عبدته، أو لو كان نبياً ما آمنت به. 10- قول شخص عن ولده أو زوجته: هو أحب إلي من الله، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. 11- ادعاء الوحي، وإن لم يدع معها النبوة. 12- قول الشخص: إن الله نقص من مالي، وأنا أنقص من حقه ولا أصلي. 13- قول من صلى في رمضان فقط، ثم قال: هذا أيضاً كثير، أو هذا يكفي وزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 14- قول الفاسق إذا قيل له صل حتى تجد حلاوة الصلاة: لا أصلي حتى أجد حلاوة الترك. 15- من طعن في عدالة الصحابة، أو جمهورهم، كأن يقول عنهم: فساق، أو ضلال. 16- من قال بألوهية علي - رضي الله عنه - أو نبوته. 17- ادعاء أن جبريل - عليه السلام - خان الأمانة؛ فأنزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم بدلاً من أن ينزله على علي. 18- قذف أم المؤمنين عائشة بنت الصديق - رضي الله عنها - بما برأها الله تعالى منه من فوق سبع سموات. إلى غير ذلك من الأقوال القبيحة المناقضة للإيمان والإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الثالث: نواقض الإيمان بالفعل : 1- السجود لغير الله تعالى، والنذر لغير الله سبحانه، والذبح لغيره تعالى. 2- السخرية باسم من أسماء الله تعالى، أو بأمره، أو وعيده، أو ذكر اسم الله تعالى عند تعاطي الخمر والزنا والدخان؛ استخفافاً. 3- الاستهانة بالمصحف الشريف، أو إلقاؤه في القاذورات، أو دوسه بالقدم متعمداً، أو الإشارة إليه باليد أو بالقدم أو بالشفة؛ إشارة استهانة، أو قراءته على ضرف الدف على سبيل الاستخفاف، وهكذا فعل أمثال هذه الأشياء بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4- الطواف بالأضرحة وقبور الأولياء والصالحين؛ من أجل التقرب إليهم. 5- إظهار المقت والكراهية عند ذكر الله تعالى، أو عند ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، أو عند ذكر الإسلام، أو عند الدعوة إليه. 6- لبس شيء من شعائر الكفار؛ كالصليب، أو قلنسوة المجوس، ونحوه مما هو خاص بشعائرهم الدينية؛ عالماً، عامداً، راضياً بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 7- مشاركة أهل الكفر في عباداتهم؛ كصلاتهم ونحوها. 8 - هدم معالم الإسلام؛ كهدم المساجد لأجل ما يفعل فيها من العبادة. 9 - بناء دور العبادة للكفار، أو إعانتهم على ذلك؛ كبناء الكنائس ونحوها. 10- أن يعمل فعلاً أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر. 11- تعلم السحر، وتعاطيه، وتعليمه. 12- الإعراض التام عن دين الإسلام لا يتعلمه ولا يعمل به. 13- عدم تكفير الكفار من الملحدين والمشركين والمرتدين، وموالاتهم، أو إظهار موافقتهم على دينهم، والتقرب إليهم بالأقوال والأفعال والنوايا. 14- عدم إفراد الله تعالى بالحكم والتشريع: ك الحكم بغير ما أنزل الله ، أو التشريع المخالف لشرع الله، وتطبيقه، والإلزام به: فمن شرع حكماً غير حكم الله تعالى، وحكمه في عباده، أو بدل شرع الله تعالى، أو عطله، ولم يحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 به، واستبدل به حكماً طاغوتياً وحكم به؛ فهذا كفر أكبر، لأنه ناقض من نواقض الإيمان وردة عن الإسلام. ولا يشترط فيه الاستحلال؛ لأن فعله إباء وامتناع عن الالتزام بشرع الله تعالى، وتشريع من دون الله، وكره واحتقار لما جاء به الله، ودليل على تسويغه اتباع غير شرع الله، ولو لم يصرح بلسانه؛ لأن لسان الحال أقوى من لسان المقال. وذلك لأن التشريع والتحليل والتحريم من خصائص الله تعالى؛ فهو حق خالص لله وحده لا شريك له؛ فالحلال ما أحله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والحرام ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن شرع من دون الله، أو ألزم الناس بغير شرع الله؛ فقد نازع الله فيما اختص به سبحانه وتعالى، وتعدى على حق من حقوقه، وأعاره لنفسه، ورفض شريعة الله؛ فهذا العمل شرك بالله تعالى، وصاحبه مشرك ضال ضلالاً بعيداً. وأما من تحاكم إلى الطاغوت، أو حكمه في نفسه، أو في غيره؛ ثم ادعى الإيمان؛ فهذه دعوى كاذبة لا وزن لها عند رب العالمين؛ لأن الله تعالى جعل طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان ومقتضياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 15- ترك الصلاة - وإن كان مقراً بوجوبها - من الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ لأن باعث الإعراض عن الطاعة بالكلية فقدان عمل القلب الذي هو شرط لصحة الإيمان. والصلاة هي آكد الأعمال التي لا يصح إيمان العبد بدون شيء منها، وهي أعظم الواجبات وأدلها وأجلها. وهي كذلك أعظم قرينة دالة على إسلام المرء؛ تمنع من تكفيره، أو إساءة الظن فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله؛ فلا تخفروا الله في ذمته) (1) . هذه هي بعض نواقض الإيمان الاعتقادية، والقولية، والفعلية؛ التي يعتبر العبد بملابسة أحدهما كافراً كفراً مخرجاً من الملة؛ إذا وقع في أحد صورها. وإن السخرية والاستهزاء بشيء مما سبق من نواقض الإيمان، ولو على سبيل المزاح فهو كفر؛ لأنه يدخل في باب الاحتقار والاستخفاف، مما يجعل التلفظ بتلك الأقوال ردة عن الإسلام.   (1) (رواه البخاري) في (كتاب أبواب القبلة) باب: (فضل استقبال القبلة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فيجب على كل مسلم أن يحتاط لدينه؛ فلا يتلفظ بشيء فيه ما يخرج به من الدين؛ كما يجب على من وقع منه شيء من ذلك؛ النطق بالشهادتين فوراً، والاستغفار والندم على ما صدر منه، والعزم على أن لا يعود لمثله أبداً، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) . قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (2) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً؛ يهوي بها سبعين خريفاً في النار) (3) . وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك؛ فليتصدق) (4) .   (1) سورة ق، الآية: 18. (2) سورة ق، الإسراء، الآية: 36. (3) (رواه الترمذي) في (كتاب الزهد) باب: (ما جاء في من تكلم بالكلمة ليضحك الناس) وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي) ج2، ص 268. (4) (رواه البخاري) في (كتاب التفسير) باب: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 أقوال أئمة أهل السنة والجماعة على أن الكفر يكون بالاعتقاد والقول والفعل قال الإمام سفيان بن عيينة - رحمه الله تعالى - عندما سئل عن الإرجاء: (يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل، والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله؛ مصراً بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارب، وليس بسواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر) (1) . قال الإمام الشافعي - رحمه الله - حين سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى: (هو كافر) واستدل بقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) (3) .   (1) (كتاب السنة) الإمام عبد الله بن أحمد: ج1، ص 347 (745) . (2) سورة التوبة، الآيتان: 65 - 66. (3) (الصارم المسلول) ابن تيمية: ج3، ص 956 رمادي للنشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 قال الإمام عبد الله بن الزبير الحميدي رحمه الله: (أخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، أو يصلي مستدبر القبلة حتى يموت؛ فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً.. إذا كان يقر بالفرائض واستقبال القبلة؛ فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفعل المسلمين، قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (1) . قال الإمام إسحاق بن راهويه رحمه الله: (ومما أجمعوا على تكفيره، وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد؛ فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى، وبما جاء من عنده، ثم قتل نبياً، أو أعان على قتله، وإن كان مقراً، ويقول: قتل الأنبياء محرم؛ فهو كافر، وكذلك من شتم نبياً، أو رد عليه قوله من غير تقية ولا خوف) (2) .   (1) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) الإمام اللالكائي: ج 5، ص 957 (1594) . والآية: 5 من سورة البينة. (2) (تعظيم قدر الصلاة) الإمام المروزي: ج2، ص 930، (991) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 قال الإمام الفقيه أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي رحمه الله: (فاعلم - يرحمنا الله وإياك - أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله - عز وجل - واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق، وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا، ولا أصدق به؛ أنه ليس بمسلم. ولو قال: المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، وقال: لم يعتقد قلبي على ذلك؛ أنه كافر بإظهار ذلك، وليس بمؤمن) (1) . قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - عندما سأله ابنه عبد الله عن رجل قال لرجل: يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك: (هذا مرتد عن الإسلام) وسأله: تضرب عنقه؟ قال: (نعم تضرب عنقه) (2) . قال الإمام محمد بن سحنون المالكي - رحمه الله -: (أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له؛ كافر، والوعيد   (1) (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) الإمام اللالكائي: ج 4/932 (1590) . (2) (مسائل الإمام أحمد) رواية ابنه عبد الله: ج2، ص 1291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة: القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر) (1) . قال الإمام البربهاري رحمه الله: (ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام، حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل، أو يرد شيئاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذبح لغير الله، أو يصلي لغير الله، وإن فعل شيئاً من ذلك؛ فهو مؤمن ومسلم بالاسم لا بالحقيقة) (2) . قال الإمام النووي - رحمه الله - في تعريف الردة: (هي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريحاً؛ كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها. قال الإمام: في بعض التعاليق عن شيخي إن الفعل بمجرده لا يكون كفراً، قال: وهذا زلل عظيم من المعلق ذكرته   (1) (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) القاضي عياض: ج2، ص 214. (2) (شرح السنة) البربهاري: ص 73 (50) دار السلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 للتنبيه على غلطه، وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر؛ سواء صدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء) (1) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن من سب الله، أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً؛ سواءً كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل) (2) . قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية (106 - 109) من سورة النحل: (أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر واطمأن به؛ أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذاباً عظيماً في الدار الآخرة؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق؛ فطبع على قلوبهم، فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم) .   (1) (روضة الطالبين) النووي: ج 10، ص 64 (كتاب الردة) . (2) (الصارم المسلول) ابن تيمية: ج3، ص 955 رمادي للنشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 قال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (فقد يترك دينه، ويفارق الجماعة، وهو مقر بالشهادتين، ويدعي الإسلام؛ كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام، أو سب الله ورسوله، أو كفر ببعض الملائكة، أو النبيين، أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك) (1) . وقال أيضاً - رحمه الله - في شرحه لحديث (بني الإسلام على خمس..) : (وهذا الحديث دل على أن الإسلام مبني على خمسة أركان.. وأن الإسلام مثله كبنيان، وهذه الخمس: دعائم البنيان وأركانه التي يثبت عليها البنيان ... وأما هذه الخمس؛ فإذا زالت كلها سقط البنيان ولم يثبت بعد زوالها، وكذلك إن زال منها الركن الأعظم وهو الشهادتان، وزوالهما يكون بالإتيان بما يضادهما ولا يجتمع معهما. وأما زوال الأربع البواقي: فاختلف العلماء ... وكثير من علماء أهل الحديث يرى تكفير تارك الصلاة.   (1) (جامع العلوم والحكم) ابن رجب: (شرح الحديث الرابع عشر من الأربعين النووية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعاً منهم حتى إنه جعل قول من قال: لا يكفر بترك هذه الأركان مع الإقرار بها من أقوال المرجئة.. وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه. وروي عن عطاء ونافع - مولى ابن عمر - أنهما سئلا عمن قال: الصلاة فريضة ولا أصلي، فقالا: هو كافر. وكذا قال الإمام أحمد. ونقل حرب عن إسحاق قال: غلب المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوماً يقولون: من ترك الصلوات المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره، يرجى أمره إلى الله بعد؛ إذ هو مقر؛ فهؤلاء الذين لا شك فيهم - يعني في أنهم مرجئة. وظاهر هذا: أنه يكفر بترك هذه الفرائض ... وممن قال بذلك: ابن المبارك، وأحمد - في المشهور عنه -، وإسحاق، وحكى عليه إجماع أهل العلم - كما سبق - وقال أيوب: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه. وقال عبد الله بن شفيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. خرجه الترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وقد روي عن علي وسعد وابن مسعود وغيرهم قالوا: من ترك الصلاة فقد كفر ... ) (1) . قال الإمام العلامة مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي - رحمه الله - في تعريف الردة: (وهو من كفر بعد إسلامه، ويحصل الكفر بأحد أربعة أمور: بالقول كسب الله تعالى ورسوله، أو ملائكته، أو ادعاء النبوة، أو الشرك له تعالى، وبالفعل كالسجود للصنم ونحوه وكإلقاء المصحف في قاذورة، وبالاعتقاد كاعتقاده الشريك له تعالى، أو أن الزنا أو الخمر حلال، أو أن الخبز حرام، ونحو ذلك، ومما أجمع عليه إجماعاً قطعياً، وبالشك في شيء من ذلك) (2) .   (1) (فتح الباري) لابن رجب: ج1، ص 22، حديث رقم (8) شرك كتاب الإيمان. (2) (دليل الطالب) : ص 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 أسباب ترك الإيمان والإعراض عنه (1)   (1) نقلت هذا الفصل باختصار وتصرف من (تعليم أصول الإيمان وبيان موانعه) للشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: ص 33. (دار أضواء السلف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 إذا علمنا مما سبق أن الإيمان الصحيح كما جاءنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه السعادة العاجلة والآجلة. وأنه يصلح الظاهر والباطن، والعقائد، والأخلاق، والآداب. وأنه يدعو جميع العباد إلى ما فيه من كل خير وصلاح، ويهدي للتي هي أقوم. فإذا كان الأمر كما ذكرنا؛ فلم أكثر الناس عن الدين والإيمان معرضون، وله محاربون، ومنه ساخرون؟ وهلا كان الأمر بالعكس؛ لأن الناس لهم عقول وأذهان تختار الصالح على الطالح، والخير على الشر، والنافع على الضار؟ نعم كان من المفروض أن يكون الأمر كذلك! واعلم أن الله تعالى قد ذكر هذا الإيراد في كتابه العزيز، وأجاب عنه بذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الأسباب الواقعة، وبالموانع العائقة، وبذكر الأجوبة عن هذا الإيراد فلا يهول العبد ما يراه من إعراض أكثر البشر عنه، ولا يستغرب ذلك؛ فقد ذكر الله - عز وجل - من أسباب عدم الإيمان بالدين؛ موانع عديدة، واقعة من جمهور البشر، منها: 1- الجهل بالإيمان: الجهل به، وعدم معرفته حقيقة، وعدم الوقوف على تعاليمه العالية، وإرشاداته السامية. والجهل بالعلوم النافعة؛ أكبر عائق، وأعظم مانع من الوصول إلى الحقائق الصحيحة، والأخلاق الحميدة، قال الله تبارك وتعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (1) . وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (2) . وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (3) . وقال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (4) .   (1) سورة يونس، الآية: 39. (2) سورة الأنعام، الآية: 111. (3) سورة الأنعام، الآية: 37. (4) سورة الروم، الآية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 والجهل إما أن يكون بسيطاً؛ كحال كثير من دهماء المكذبين للرسول الرادين لدعوته اتباعاً لرؤسائهم وساداتهم. وهم الذين يقولون إذا مسهم العذاب: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (1) . وإما أن يكون الجهل مركباً؛ وهذا على نوعين: أحدهما: أن يكون على دين قومه وآبائه، ومن هو ناشئ معهم فيأتيه الحق فلا ينظر فيه وإن نظر فنظر قاصر جداً لرضاه بدينه الذي نشأ عليه وتعصبه لقومه، وهؤلاء جمهور المكذبين للرسل، الرادين لدعوتهم، الذين قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (2) . وهذا هو التقليد الأعمى؛ الذي يظن صاحبه أنه على حق، وهو على الباطل. ويدخل في هذا النوع: أكثر الملحدين الماديين؛ فإن علومهم عند التحقيق تقليد لزعمائهم؛ إذا قالوا مقالة قبلوها كأنها وحي   (1) سورة الأحزاب، الآية: 67. (2) سورة الزخرف، الآية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 منزل، وإذا ابتكروا نظرية خاطئة سلكوا خلفهم في حال اتفاقهم وحال تناقضهم، وهؤلاء فتنة لكل مفتون لا بصيرة له. النوع الثاني من الجهل المركب: حالة أئمة الكفر وزعماء الملحدين الذين مهروا في علوم الطبيعة والكون. واستجهلوا غيرهم، وحصروا المعلومات في معارفهم الضئيلة الضيقة الدائرة، واستكبروا على الرسل وأتباعهم. وزعموا أن العلوم محصورة فيما وصلت إليه الحواس الإنسانية، والتجارب البشرية، وما سوى ذلك أنكروه، وكذبوه مهما كان من الحق؛ فأنكروا رب العالمين، وكذبوا رسله، وكذبوا بما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب كلها. وهؤلاء أحق الناس بالدخول تحت قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} (1) . ففرحهم بعلومهم - علوم الطبيعة - ومهارتهم فيها هو السبب الأقوى الذي أوجب لهم تمسكهم بما معهم من الباطل،   (1) سورة غافر، الآية: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وفرحهم بها يقتضي تفضيلهم لها، ومدحهم لها وتقديمها على ما جاءت به الرسل من الهدى والعلم؛ بل لم يكفهم هذه الحال؛ حتى وصلوا إلى الاستهزاء بعلوم الرسل واستهجانها، وسيحيق بهم ما كانوا به يستهزؤن. ولقد انخدع لهؤلاء الملحدين كثير من المشتغلين بالعلوم العصرية التي لم يصحبها دين صحيح، والعهدة في ذلك على المدارس التي لم تهتم بالتعاليم الدينية العاصمة من هذا الإلحاد. فإن التلميذ إذا تخرج فيها ولم يمهر في العلوم الدينية، ولا تخلق بالأخلاق الشرعية، ورأى نفسه أنه يعرف ما لا يعرفه غيره؛ احتقر الدين وأهله، وسهل عليه الانقياد لهؤلاء الملحدين الماديين. وهذا أكبر ضرر ضرب به الدين الإسلامي. فالواجب قبل كل شيء على المسلمين نحو المدارس: - أن يكون اهتمامهم بتعليم العلوم الدينية قبل كل شيء. - أن يكون النجاح وعدمه متعلقاً بها لا بغيرها؛ بل يجعل غيرها تبعاً. وهذا من أفرض الفرائض على من يتولاها ويباشر تدبيرها؛ فليتق الله من له ولاية، أو كلام عليها، وليحتسب الأجر عند الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 2- الحسد والبغي: كحال اليهود الذين يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه وحقيقة ما جاء به كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم يكتمون الحق وهم يعلمون؛ تقديماً للأغراض الدنيوية والمطالب السفلية على نعمة الإيمان. وقد منع هذا الداء كثيراً من رؤساء قريش كما هو معروف من أخبارهم وسيرهم، وهذا الداء في حقيقة الأمر ناشئ عن داء آخر، وهو الكبر. 3- الكبر: الذي هو أعظم الموانع من اتباع الحق، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} (1) . فالتكبر - الذي هو رد الحق واحتقار الخلق - منع خلقاً كثيراً من اتباع الحق والانقياد له بعد ما ظهرت آياته وبراهينه، قال تعالى:   (1) سورة الأعراف، الآية: 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (1) . 4 - الإعراض عن الحق والإيمان: الإعراض عن الأدلة السمعية، والأدلة العقلية الصحيحة؛ من أهم موانع الإيمان، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} (2) . وقال: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (3) . فلم يكن لأمثال هؤلاء الذين اعترفوا بعدم عقلهم وسمعهم النافع رغبة في علوم الرسل، والكتب المنزلة من الله، ولا عقول صحيحة يهتدون بها إلى الصواب، وإنما لهم آراء ونظريات   (1) سورة النمل، الآية: 14. (2) سورة الزخرف، الآيتان: 36- 37. (3) سورة الملك، الآية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 خاطئة يظنونها عقليات، وهي جهالات ولهم اقتداء خلف زعماء الضلال منعهم من اتباع الحق؛ حتى وردوا نار جهنم، فبئس مثوى المتكبرين. 5- رد الإيمان بعد معرفته: رد الإيمان بعد ما تبين؛ فيعاقب العبد بانقلاب قلبه ورؤيته الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (1) . لأن الجزاء من جنس العمل، وقد ولاهم الله ما قالوا لأنفسهم: {اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ} (2) . 6- الانغماس في الترف والإسراف في التنعم: فإنه يجعل العبد تابعاً لهواه، منقاداً للشهوات الضارة، كما ذكر الله هذا المانع في عدة آيات، مثل قوله: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} (3) .   (1) سورة الصف، الآية: 5. (2) سورة الأعراف، الآية: 30. (3) سورة الأنبياء، الآية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} (1) . فلما جاءتهم الأديان الصحيحة بما يعدل ترفهم، ويوقفهم على الحد النافع، ويمنعهم من الانهماك الضار في اللذات؛ رأوا ذلك صاداً لهم عن مؤاداتهم. وصاحب الهوى الباطل ينصر هواه بكل وسيلة. لما جاءهم الدين بوجوب عبادة الله، وشكر المنعم على نعمه، وعدم الانهماك في الشهوات، ولو على أدبارهم نفورا. 7- احتقار الحق وأهله: احتقار المكذبين للرسل - عليهم السلام - وأتباعهم، واعتقاد نقصهم، والتهكم بهم، والتكبر عليهم؛ من الموانع الصادة عن وصول الإيمان إلى القلب؛ كما قال نوح عليه السلام: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} (2) . وهذا الداء منشؤه من الكبر؛ فإذا تكبر وتعاظم في نفسه، واحتقر غيره اشمأز من قبول ما جاء به من الحق؛ حتى لو فرض أن هذا الذي رده جاءه من طريق من يعظمه لقبله بلا تردد.   (1) سورة الواقعة، الآية: 45. (2) سورة الشعراء، الآية: 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 8- الفسق: فالفسق أكبر مانع من قبول الحق علماً وعملاً، قال تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (1) . والفسق: هو خروج العبد عن طاعة الله إلى طاعة الشيطان. والله تعالى لا يزكي من كان هذه حاله؛ بل يكله إلى نفسه الظالمة فتجول في الباطل عناداً وضلالاً، وتكون حركاته كلها شراً وفساداً؛ فالفسق يقرنه الباطل، ويصده عن الحق؛ لأن القلب متى خرج عن الانقياد لله والخضوع؛ فلابد أن ينقاد لكل شيطان مريد: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (2) . 9- حصر العلوم والحقائق في دائرة ضيقة: كما فعل ملاحدة الماديين في حصرهم العلوم بمدركات الحس؛ فما أدركوه بحواسهم أثبتوه، وما لم يدركوه بها نفوه،   (1) سورة يونس، الآية: 33. (2) سورة الحج، الآية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ولو ثبت بطرق وبراهين أعظم بكثير، وأوضح وأجلى من مدركات الحس، وهذه فتنة وشبهة؛ ضل بها خلق كثير. ولكن المؤمن البصير يعرف بنور بصيرته أنهم في ضلال مبين. 10- تجرد الماديين ومن تبعهم من المغرورين: زعم هؤلاء الماديون: أن البشر لم يبلغوا الرشد، ونضوج العقل إلا في هذه الأوقات التي طغت فيها المادة، وعلوم الطبيعة، وأنهم قبل ذلك لم يبلغوا الرشد. وهذا فيه من الجراءة والإقدام على السفسطة والمكابرة للحقائق، والمباهتة ما لا يخفى على من له أدنى معقول لم تغيره الآراء الخبيثة. فلو قالوا: إن المادة والصناعة والاختراعات، وتطويع الأمور الطبيعية لم تنضج ولم تتم إلا في الوقت الأخير لصدقهم كل واحد. فإن العقول والعلوم الصحيحة؛ إنما تعرف ويستدل على كمالها، أو نقصها بآثارها وبأدلتها وغاياتها. انظر إلى الكمال والعلو في العقائد، والأخلاق، والدين، والدنيا، والرحمة، والحكمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وأخذها عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 المسلمون وأوصلتهم وقت عملهم بها إلى كل خير ديني ودنيوي، وكل صلاح، وأخضعت لهم جميع الأمم؛ وأنهم وصلوا إلى حالة وكمال؛ يستحيل أن يصل إليه أحد، حتى يسلك طريقهم. ثم انظر إلى ما وصلت إليه أخلاق الماديين الإباحيين الذين أطلقوا السراح لشهواتهم، ولم يقفوا عند حد؛ حتى هبطوا بذلك إلى أسفل سافلين، ولولا القوة المادية تمسكهم بعض التماسك لأردتهم هذه الإباحية والفوضى في الهلاك العاجل: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (1) . ثم لولا بقايا من آداب الأديان بقيت بعض آثارها في الشعوب الراقية صلحت بها دنياهم لم يكن لرقيهم المادي قيمة عاجلة؛ فإن الذين فقدوا الدين عجزوا كل العجز عن الحياة الطيبة، والراحة الحاضرة، والسعادة العاجلة، والمشاهدة أقوى شاهد لذلك. ومشركو العرب ونحوهم ممن عندهم بعض الإيمان، وبعض الاعتراف بالأصول الإيمانية؛ كتوحيد الربوبية والاعتراف بالجزاء؛ خير بكثير من هؤلاء الماديين، بلا ريب ولا شك.   (1) سورة إبراهيم، الآية: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ثم قد علم بالضرورة أن الرسل - عليهم السلام - جاؤوا بالوحي، والهداية جملة وتفصيلاً، وبالنور والعلم الصحيح، والصلاح المطلق من جميع الوجوه، واعترفت العقول الصحيحة بذلك، وعلمت أنها في غاية الافتقار إليه، وخضعت لما جاءت به الرسل، وعلمت العقول أنها لو اجتمعت من أولها إلى آخرها لم تصل إلى درجة الكتب والحقائق النافعة التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب، وأنه لولاها لكانت في ضلال مبين، وعمى عظيم وشفاء وهلاك مستمر، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (1) . فالعقول لم تبلغ الرشد الصحيح، ولم تنضج إلا بما جاءت به الرسل، ومن ذلك انخداع أكثر الناس بالألفاظ التي يزوق بها الباطل، ويرد بها الحق من غير بصيرة، ولا علم صحيح، وذلك لتسميتهم علوم الدين، وأخلاقه العالية رجعية، وتسميتهم العلوم والأخلاق الأخر المنافية لذلك ثقافة وتجديداً.   (1) سورة آل عمران، الآية: 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ومن المعلوم لكل صاحب عقل سليم: أن كل ثقافة وتجديد لم يستند في أصوله إلى هداية الدين، وإلى توجهاته؛ فإنه شر وضرر، عاجل وآجل. ومن تأمل ما عليه حال من يسمون (المثقفين الماديين) من هبوط الأخلاق، والإقبال على كل ضار، وترك كل نافع؛ عرف أن الثقافة الصحيحة تثقيف العقول بهداية الرسل، وعلومهم الصحيحة. ومن تأمل ما جاء به الدين الإسلامي من الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً عرف أنه لا صلاح للبشر إلابالرجوع إلى هدايته وإرشاده، وأنه كما أصلح العقائد والأخلاق والأعمال؛ فقد أصلح أمور الدنيا، وأرشد إلى كل ما يعود إلى الخير والنفع العام والخاص، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328