الكتاب: الرسالة المحمدية المؤلف: السيد سليمان الندوي الحسيني (المتوفى: 1373هـ) الناشر: دار ابن كثير - دمشق الطبعة: الأولى - 1423 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الرسالة المحمدية سليمان الندوي الكتاب: الرسالة المحمدية المؤلف: السيد سليمان الندوي الحسيني (المتوفى: 1373هـ) الناشر: دار ابن كثير - دمشق الطبعة: الأولى - 1423 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة الكتاب الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين وخاتم النّبيّين، محمد وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فإن المكتبة الإسلامية حافلة بالكتب في موضوع السّيرة النّبوية على صاحبها الصلاة والسلام- وإذا استعرضنا اللغات الأكثر تأليفا في هذا الموضوع غير العربية نجد اللغة الأردوية أكثرها تأليفا وأغناها في هذا الموضوع، وهي تحتوي على أقوى وأروع ما كتب في السيرة النبوية في العصر الأخير. ومن جملة تلك الكتب فيها بالأردوية «سيرة النّبي صلّى الله عليه وسلم» للعلامة الباحث المؤرخ الشيخ شبلي النّعماني «1» الّذي بدأ بتأليفه وأكمل جزءين منها إذ عاجلته منيته، فعني بتأليف الأجزاء التالية تلميذه النابغ العبقري العلامة سيد سليمان النّدوي حتى أكمله في سبعة مجلدات ضخمة التي تعتبر اليوم   (1) هو الأستاذ العلامة المؤلف، الباحث المؤرخ العلامة الشيخ شبلي النعماني أحد رجال النهضة الإسلامية وكبار المصلحين في الهند، شارك في تأسيس دار العلوم- ندوة العلماء، وأنشأ دار المصنفين في أعظم كره، كان وثيق الصلة بالعالم الإسلامي ونهضاته السياسية والاجتماعية، توفي سنة 1914 م، ومن مؤلفاته المشهورة بالعربية «انتقاد تاريخ التمدن لزيدان» وبالأردوية «السيرة النبوية» (الجزء الأول والثاني) و «سيرة الفاروق» و «النعمان» ، انظر للاطلاع على ترجمته بكاملها كتاب: «شبلي النعماني علّامة الهند الأديب والمؤرخ الناقد الأريب» للأستاذ محمد أكرم الندوي، طبع دار القلم دمشق، وكتاب المحقق «الإعلام بمن في الهند من الأعلام في القرن العشرين» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 موسوعة في السيرة النبوية بالأردوية، ليس لها نظير في أيّ لغة من لغات العالم الإسلاميّ من أقصاه إلى أقصاه. وقد فاق العلامة سيّد سليمان في تأليفها أستاذه العلامة النّعماني في الاطلاع على أسرار الشريعة، واستكناه وجوه التعويل، ومعرفة السنة النبوية، واستعراض الوقائع والحوادث استعراضا علميا دقيقا يضيق بنا نطاق المقام هنا عن سرد تفاصيل مواضيعها. يقول راوية العصر، وأمين التراث الإسلامي العلامة الكبير الشيخ محمد زاهد الكوثري مشيدا بهذا الكتاب ومقترحا بترجمته إلى العربية على علماء الأزهر: « ... كتاب الأستاذ شبلي النّعماني الهندي وتلميذه وزميله الأستاذ سليمان الندوي في تمحيص السيرة النبوية عن الروايات الزائفة- باللغة الهندية في عدّة مجلدات- قد سدّ فراغا كبيرا في فضح دخيلة المستشرقين والردّ عليهم، وقد ترجم إلى اللغة الإنكليزية ثم إلى اللغة التركية، ولو قام بعض رجال الأدب بترجمته إلى اللغة العربية مع إصلاح بعض مواضع أخطأ فيها لكان هذا عملا نافعا يردّ به كيد أمثال البرنس كيتانو الإيطالي «1» ، وغولد زيهير الهنغاري ... » «2» . وبعد هذا لا نبالغ إذا قلنا: إنّ صاحب هذا الكتاب الضخم العلّامة سيد سليمان الندوي من كبار المؤلفين في السيرة النبوية لعصره، وقد كان من مزاياه أنه بلغ في توسيع نطاق السيرة النبوية من سرد الأحداث، وبيان الشمائل، ووصف العادات إلى الرسالة المحمدية والتعليمات النّبوية والشريعة الإسلامية، وبحث شعبها المختلفة مبلغا لم يبلغه أحد قبله. وهذا الكتاب الّذي بين يديك هو مجموعة من ثماني محاضرات للعلامة الندوي التي ألقاها بالأردوية تلبية لدعوة من هيئة التعليم الإسلامي بمدينة   (1) كتابه في تاريخ الإسلام في مجلداته العشر مترجم إلى بعض اللغات الشرقية، وهو كتاب خطير يسعى المؤلف في طياته إلى وصم الإسلام وتاريخه المقدس تحت ستار البحث العلمي. (2) مقالات الكوثري، ص 628- 629، طبع المكتبة الأزهرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 مداراس (الهند) عام 1925 م، تلقي هذه المحاضرات الضوء على جوانب السيرة النبوية المختلفة، وتقدّم إلى القارئ عصارة أمهات كتب السيرة النبوية وما كتب فيها باللّغات الأجنبية، وخلاصة لمجلّدات ضخمة لكتابه «سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم» يقول فيه فقيد الدّعوة الإسلامية العلّامة السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي: « ... فهو من أقوى الكتب في السّيرة وأروعها في جمال التعبير، وبثّ حلاوة الإيمان، وتوثيق الصلة بذات النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، والكتاب عصارة لمكتبة كاملة في السيرة النبوية، وهو هدية ثمينة لغير المسلمين والمثقفين المسلمين، والباحثين عن الحق للتعريف بالإسلام، ولعرض سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم بإيجاز، وأسلوب مقنع مؤثّر ... » «1» . وقد طبعت مجموعة هذه المحاضرات للمرة الأولى عام 1925 م باسم «خطبات مداراس» في كتاب مستقلّ، ونال تلقيا كبيرا، وإقبالا عظيما لدى القراء، حتى صدرت له عدّة طبعات في مدّة قصيرة، وسرعان ما صار الكتاب أهمّ مرجع في السيرة بالأردوية، قلما تخلو اليوم منه مكتبة من مكتبات ناطقي اللغة الأردوية، ثم ترجم الكتاب للإنكليزية باسم، Mohammad The Ideal Prophet وكان الإقبال عليه مثل صنوه بالأردوية. ثم أراد العلامة المؤلف نقله إلى العربية لرغبة ملحة من الإخوة العرب، لكن كثرة المشاغل وضعف الصحة لم يسمحا له بذلك، فتولّى عملية ترجمته إلى العربية تلميذه الشاعر الأديب الأستاذ محمد ناظم النّدوي وأكمله في مدة قصيرة بأسلوب عربيّ أصيل يترقرق في غضونه وثناياه حلاوة وبهاء؛ من حيث لا يشعر القارئ بأنه مترجم من لغة إلى لغة، وتلك مقدرة فائقة يغتبط بها الأستاذ الكريم أي اغتباط، فصدرت له طبعات عديدة في مصر وسورية، ولكنها كانت في حاجة إلى التنقيح والتحقيق وبعض   (1) «شخصيات وكتب» للعلامة أبي الحسن الندوي، ص 56، طبع دار القلم- دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 التعليقات والتراجم التي لا بدّ منها، فأشار عليّ أحد أساتذتي الندويين أن أقوم بهذا العمل، وكانت لهذا الكتاب منّة عظيمة عليّ كونه من باكورة الكتب التي قرأتها في السّيرة في الصغر. فقمت بهذا العمل ما وسعني فيه من الجهد متهيبا خاشعا أمام جلال الموضوع، ومنزلة العلامة المؤلف، وعلو كعبه، وضلوعه في السيرة النبوية مؤمنا بضالة قدر نفسي، وقلة بضاعتي في علم السيرة النبوية حيث لا أزال طالبا صغيرا في مدرسته الوسيعة، أسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يتقبّله تقبلا حسنا، وأن يجعل عملي فيه خالصا لوجهه، إنّه سميع مجيب. دمشق 14 ذي القعدة 1421 هـ 7 شباط 2001 م كتبه المعتز بالله تعالى عبد الماجد الغوري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ترجمة العلّامة سيّد سليمان الندوي إنّ الذين نعرفهم من رجال العلم الإسلامي، والذين عرفناهم، واتصلنا بهم، ودرسنا سيرهم وتراجمهم من رجال الهند وباكستان تنحصر عظمتهم ونبوغهم في ناحية دون ناحية، أو عدّة نواح من نواحي الحياة وشعب العلم، ولكنا لا نعرف من بينهم من أخذ من كلّ شيء بقسط كالعلامة سيد سليمان الندوي. تخرج العلامة سيد سليمان الندوي في دار العلوم التابعة لندوة العلماء على أساتذتها ومنهم العلامة المحقّق شبلي النعماني. وجعل من بعد ذلك يساعد الأستاذ النعماني في تحرير مجلة «الندوة» التي كان يرأس تحريرها، والتي كانت أمّ المجلات الأردية العلمية يومئذ. ثم عيّن مدرسا للغة العربية في دار العلوم التي تخرج فيها، فظهر من كفاءته، وملكته الأدبية، وتفننه في طرق التدريس ما أنطق الألسنة بالثناء عليه. فظلّ كذلك زهاء ست سنين (1906- 1912) كتب خلالها مقالات في مجلة «الندوة» . ثم التحق بصحيفة «الهلال» الأسبوعية الزاهرة لأبي الكلام «1» - التي لم   (1) هو محيي الدين بن خير الدين، أبو الكلام آزاد، أحد كبار علماء المسلمين وزعمائهم في الهند، وأحد كبار المؤلفين في هذا العصر، اشتغل في تحرير الهند من الاستعمار البريطاني، وتكرر اعتقال البريطانيين له، يقول الأستاذ أنور الجندي: «أمضى في السجن أحد عشر عاما ولم يصرفه عن هدفه في مقاومة الإنجليز، وصنف- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 تصدر صحيفة أسبوعية مثلها باللغة الأردية إلى الآن- فعارض صاحبها المبدع في أسلوبه، وجعل ينشىء مقالات افتتاحية، لم يعرف الناس أبا عذرها وابن بجدتها، فتارة نسبوها إلى أبي الكلام، صاحب الصحيفة ورئيس تحريرها وأخرى عزوها إلى سيد سليمان. وبعد الانقطاع عن دار الهلال أسّس جمعية دار المصنفين الشهيرة التي كان وصّى بها أستاذه شبلي النعماني وعاجلته المنية دون إبراز أمنيته- أمنية تأسيس مجمع علمي- إلى عالم الوجود. تأسس هذا المجمع العلمي- دار المصنفين- سنة 1915 م، 1323 هـ في مدينة أعظم كره «1» مولد الشبلي النعماني، ومنبت أرومته، فعكف السيد سليمان يتعهّد الدار، ويعنى بتدريب الشبان، وتثقيف أحداث الكتّاب، وينشر نتاج قرائحهم بعد تهذيبه إلى أن تكونت جماعة صالحة من أفاضل الكتاب والمؤلفين الذين وقفوا حياتهم لخدمة الدين والعلوم الإسلامية، وأصدر من دار المصنفين مجلة «معارف» الشهرية بالأردوية التي تعتبر أرقى مجلة علمية في الهند. ومن أبرز أعماله العلمية وأرفعها ذكرا إكماله لكتاب (سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم) الذي كان بدأ بتأليفه أستاذه المحقق العلامة شبلي النعماني، وهذا الكتاب هو دائرة معارف في السيرة النبوية، نشرت منه سبعة مجلدات ضخمة لا يقلّ أحدها عن سبعمئة صفحة من القطع الكبير، وهذه المعلمة من عيون ما ألّفه علماء الإسلام منذ قرون، ومن غرر ما أهداه علماء الهند إلى المكتبة الإسلامية العامّة. وله مصنفات علمية نافعة غير هذا الكتاب الضخم، سارت سير الشمس   - في السجن كتابه «التذكرة» بالأردوية. بعد استقلال الهند تولى رئاسة البرلمان، ثم وزارة المعارف إلى أن توفي سنة 1958 م، وله مؤلفات قيمة نافعة، انظر للاطلاع على ترجمته بكاملها كتاب المحقق «الإعلام بمن في الهند من الأعلام في القرن العشرين» . (1) مدينة صغيرة تقع في ولاية «ترابرديش» في شمال الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 - كمحاضراته في السيرة النبوية المعروفة ب (خطبات مداراس «1» ) و (سيرة عائشة) و (أرض القرآن) و (العرب والهند) و (خيّام) وغيرها من آثار قلمه التي تفاخر بها اللغة الأردية. وقد بلغ في المواضيع المختلفة من التحقيق والإجادة ما لم يبلغه أحد من معاصريه في هذه البلاد، وأضرب مثلا لذلك مصنفه الشهير في جغرافية القرآن التاريخية المسمّى (أرض القرآن) فقد تناول فيه بالبحث والتحقيق جميع البلاد والأمم المذكورة في الكتاب العزيز، وأحاط بتاريخهم، وجغرافية أماكنهم التي كانوا يقطنونها. صنفه منذ أربعين سنة، والموضوع بكر لم تطمثه أقلام الباحثين، وقد نقل هذا الكتاب النافع- مثل بعض مؤلفاته الآخرى- إلى اللغة الإنكليزية، وكذلك كتابه عن الشاعر الشهير الخيام، يعدّ من أحسن ما ألف في هذا الباب على كثرة ما ألف في الموضوع ببلاد الغرب، وقد شهد بذلك بعض كبار رجال الهند المطلعين على مصنفات الغرب في هذا الموضوع. وبالنظر إلى هذه المؤلفات القيامة يمكن أن يصدر الحكم بأنّ شخصا واحدا في بعض الظروف ينجز من الأعمال العلمية الهائلة ما لا تستطيع الأكاديميات الكبيرة إنجازه، وقد كتب شاعر الإسلام العلامة محمد إقبال، الذي كان بدوره عالما كبيرا بالفلسفة والعلوم الشرقية، في رسالة له: (إنّ سيد سليمان الندوي يفجّر من الصخرة ينبوعا من العلم، ويمتلك ناصية العلوم الإسلامية) . كان من مزايا شخصية العلّامة سيد سليمان الندوي: الجامعية، والشمول في المعرفة والبحث، فقد كان خبيرا بالعلوم القديمة والعصرية، وكان مؤرخا، وأديبا، وناقدا، ومحققا، وبجانب ذلك كان فقيها ومحدثا في آن واحد، وبالإضافة إلى هذا الاشتغال والشغف بالبحث العلمي كان من كبار القادة لحركة تحرير البلاد والانتفاضة السياسية للمسلمين، فكان يرأس اجتماعات وحفلات أدبية ولغوية، ويرأس مجالس فقهية، ودينية تضمّ العلماء، وكان أحد أعضاء وفد حركة الخلافة الذي توجه إلى إنكلترا   (1) وهو الآن يقدّم محققا ومنقحا لأوّل مرّة باسم «الرسالة المحمدية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 برئاسة زعيم الأحرار مولانا محمد علي في عام (1920 م) ، لشرح مشاعر المسلمين إزاء قضية الخلافة على المسؤولين البريطانيين، والمثقفين، وقادة الفكر في بريطانيا، وترأس أيضا وفد الخلافة الذي اشترك في المؤتمر الإسلامي الأول؛ الذي دعا إليه الملك عبد العزيز بن سعود في عام (1926 م) ، وكان أحد الأعضاء الثلاثة للوفد الذي توجه إلى أفغانستان بناء على دعوة نادر خان ملك أفغانستان لإعداد خطّة جديدة للتعليم في أفغانستان، وكان العضوان الآخران في الوفد الدكتور محمد إقبال، والسر رأس مسعود نائب رئيس الجامعة الإسلامية بعليجرة. وقد انتقل في آخر حياته- قبل انتقاله نهائيا إلى باكستان- إلى إمارة بهوبال، وشغل مناصب رئيس القضاة، وأمير الجامعة الأحمدية، والمستشار للشؤون الدينية، ومكث هناك أربع سنوات، ثم اشترك في إعداد الدستور لجمهورية باكستان الإسلامية، وقام بإرشاد هذا البلد الفتي دينيا. وبقي مشغولا بالذكر والعبادة، والتربية والإفادة، إلى أن وافاه الأجل في غرة ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وثلاثمئة وألف هجرية (1952 م) في كراتشي، وحضر جنازته كبار العلماء وأعيان البلاد، وسفراء الحكومات الإسلامية والعربية، ودفن بجوار الشيخ شبير أحمد العثماني «1» .   (1) انظر: «الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام» للعلامة عبد الحي الحسني، الجزء الثالث، و «شخصيات وكتب» للعلامة أبي الحسن الندوي، ص 56، ومجلة «المسلمون» المجلد الخامس، ص 384، و «الإعلام بمن في الهند من الأعلام في القرن العشرين» للمحقق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدمة المؤلف هذه ثماني خطب في ثماني نواح من السيرة النبوية، على صاحبها الصّلاة والتحية، ألقيتها، سنة 1344 هـ باللغة الأوردية- لغة عامة الهند- على جماعات من شباب المسلمين وطلبة الكليات في مدينة مداراس بالهند، فاستمع لها الحاضرون باذان صاغية، وتلقاها المستمعون بقلوب واعية، وقرّظتها الصّحف والمجلّات بكلمات مشجعة، وامتدحها أهل الفضل بالثناء والإطراء، جزاهم الله خيرا. وكان ذلك مما شجعني على طبعها، ونشرها، فطبعت ونشرت مرّات، وأدخلت في مناهج التعليم في بعض الولايات. ثم نقلها بعض المترجمين إلى الإنكليزية فعمّ نفعها. وقد أحببت أن أنقلها إلى العربية لتردّ البضاعة إلى أهلها، فلم يتيسّر لي ذلك لكثرة المشاغل، فرغبت إلى بعض أصحابي أن يكفوني مؤونة النقل، فاستجاب لذلك الأخ الصالح الأديب الفاضل محمد ناظم النّدوي أستاذ اللغة العربية بدار العلوم لندوة العلماء سابقا، وشيخ الجامعة العباسية في بهاولبور الآن، فأتمّ ذلك في عدة أشهر من سنة 1366 هـ وحالت دون طبعها حوادث سياسية حدثت بالهند. فلما سكنت الزعازع، وأتيح لي الاتصال ببعض الإخوان من العرب المسلمين، سألوني أن أقدم إليهم بعض مؤلفاتي لتنشر على أبناء العربية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بمصر، فلبيت دعوتهم، وأهديت إليهم هذه الخطب لتكون مقدمة لأخواتها. وأسأل الله تعالى أن ينفع بها شباب المسلمين، ويجعلها وسيلة لي يوم الدين. كراتشي (عاصمة باكستان) «1» 20 شعبان 1371 هـ 14 مايو- أيار- 1952 م المخلص الداعي سليمان الندوي   (1) حين كتابة العلامة المؤلف هذه المقدمة كانت «كراتشي» عاصمة باكستان، ثم انتقلت إلى «إسلام آباد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 المحاضرة الأولى سيرة الأنبياء هي الأسوة الحسنة للبشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 خصائص النباتات أكثر من خصائص الجماد، فواجباته أكثر، وخصائص الحيوان أكثر من خصائص النباتات، فواجباته أكثر، ومدارك الإنسان أرقى، فواجباته أعظم. هذا العالم- وإذا سميناه «المتحف الأعظم» لم نعد الحقّ، ولم نرتكب الشطط «1» - يحتوي على أنواع من المخلوقات: ففيه ما شئت من جماد بديع الألوان، غريب الهيئات، وما يقع عليه نظرك من نبات بين أخضر ناضر، وأصفر فاقع، وأحمر قان إلى غير ذلك من شتى الألوان، وفيه ما يخطر أو لا يخطر على بالك من حيوان لو حاول أحدنا أن يحصي أنواعه لأعياه ذلك. ومن أنواعه نوع عجيب يفوق سائر الأنواع في هيئته، ويفضل عليها بعلمه ونشاطه، وهو الإنسان. هذا إذا نظرنا إلى العالم بعين من لا يتبصّر بحكمة ولا يتدبّر بعلم. أما الحكيم الذي ينعم النظر في الأشياء، والعالم الذي يحسن التأمّل في ملكوت الله، فيبدو لهما من الفوارق بين المخلوقات ما يتميّز به كلّ نوع عن غيره، ويكتشفان في كلّ شيء الخصوصية التي يمتاز بها ولا توجد في الأشياء الآخرى؛ لأن البارىء العظيم لما صوّر هذه المخلوقات اختصّ كلّا منها بخصائص، وأودع فيها من القوى ما امتاز به بعضها عن بعض. ومن هنا كانت هذه المخلوقات على غير اطّراد في الطبائع والمواهب، فتراها تتدرّج وترتقي- من أدنى إلى أعلى- على مدارج في الشعور والإدراك والإرادة. وإنّ أول الجماد وهو الهباءة- أو الذرّة كما يسمّونها اليوم- لا تجد فيها أثرا للحياة: من الشعور، والإدراك. ومن الجماد ما تلمح فيه أمارة خفيفة من أمارات الحياة. أما النبات فإن أمارات الحياة بارزة في نمائه واخضراره، بيد أنّه في درجة الصفر من حيث الشعور والإدراك. بينما نجد   (1) الشّطط: بفتحتين مجاوزة القدر في كل شيء. وفي الحديث «لا وكس ولا شطط» هو لابن مسعود أخرجه موقوفا أبو داود والترمذي والنّسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 في الحيوان- مع الإحساس والشعور- إرادة قوية تحمله على الحركة: في القعود، والنهوض، والمشي. وللإنسان إحساس تامّ، وإدراك كامل، وإرادة بالغة، وعزيمة ماضية، وإلى هذه القوى الإنسانية- من شعور تامّ، وإدراك كامل، وإرادة قويّة، وعزيمة صارمة- يرجع تكليف الإنسان، ومن جرّاء ذلك قد حمل أثقال الفرائض، وأعباء الواجبات. وكلّما كان نوع من أنواع المخلوقات أقلّ نصيبا من هذه القوى الموهوبة له من الله، كان أخفّ عبئا في المسؤوليات، وأقلّ واجبات في مناط التكليف. فالجماد ليس عليه واجب قطّ، والنبات قد نال نصيبا من صفات الحياة فأصابه حظّ من الواجبات، أما الحيوان فأكثر حظّا، وأوفر نصيبا من الجماد والنبات في القوى الحيوية، فثقلت عليه أعباؤه من واجبات الحياة وتكاليفها. ولما كان نصيب الإنسان من العقل والمدارك، ومن الذكاء والفطنة، أوفى من سائر المخلوقات وأوفر؛ فقد ازدادت تكاليفه، وواجباته بنسبة ذلك. وتتفاوت الواجبات والتكاليف بين أفراد بني الإنسان بحسب تفاوتهم في مناط هذه الواجبات والتكاليف، أعني العقل والمدارك: فالمجنون، والمعتوه، والأحمق، والصبيّ لا يطالبون بما يطالب به العاقل الفطن، والعالم المثقف، ولا يستطيع أولئك أن يقوموا بما يستطيع أن يقوم به هؤلاء، وكلّ ذلك يرجع إلى تفاوت القوى الباعثة على العلم: بين شعور ناقص، أو إحساس كامل، وخمود الطبيعة، أو توقد القريحة. بل منهم من لا يكلّف بواجب قطّ، ومنهم من يكلّف ببعض الواجبات دون بعضها الآخر، ومنهم من يضطلع بالعبء الأعظم من الواجبات والتكاليف. ثم إذا تأمّلنا المخلوقات وأمعنا النّظر فيها يبدو لنا أنّه مهما يكن عند مخلوق من شعور ناقص، أو إحساس ضعيف، أو إدراك ضئيل؛ فإنّ القدرة الإلهية قد تتولّى تربيته، وترعى نشأته، وتختصّه بعنايتها، حتى إذا امتازت صفاته، وارتقت مميزاته؛ فوّضت إليه الفطرة من أمر نفسه ما تحتمله قواه، وتستحقّه مواهبه. أليس من مواهب الله لبعض أصناف الحجر أن تتحوّل في جبالها ومعادنها إلى ياقوت وزمرّد، وصار لها هذا البريق الذي تتلألأ به أحجارها، بينما باتت الأحجار الآخرى المجاورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 للياقوت والزمرد محرومة هذا الجمال الذي أخذ بالعيون، والصفات التي تحيّر الألباب. ومن ذا الذي يغذو الحيتان في أعماق البحار، والحيوانات في الآجام «1» والصحاري القاحلة؟ ومن ذا الذي يشفي الحيوان إذا مرض، ويقيه عوادي الحرّ والقرّ «2» في شهور القيظ وليالي الشتاء؟ من جرّاء ذلك نرى هذا الاختلاف البادي في صور أفراد نوع واحد من الحيوان، وهو يرجع إلى عوامل مختلفة: من برودة الجوّ، وحرارة البيئة، وطبيعة المناخ. فالكلب الأوربي يختلف عن الكلب الإفريقيّ بقدر ما بين بلاديهما من اختلاف في الجوّ والبيئة، فتختلف بسبب ذلك حاجاتهما، وتتباين لوازم حياتهما. وقد هيأت الفطرة الإلهية لكلّ منهما أسباب العيش، ولوازم الحياة التي تلائم طبعه، وتقضي بها حاجاته. فللكلب الأوربيّ ما ليس لأخيه الكلب الإفريقيّ من الفرو «3» الأثيث الضافي «4» . وهكذا ترى الفرق جليا بين الحيوانات الشرقية والحيوانات الغربية في فرائها، وشعورها، وأوبارها، وبراثنها، ومخالبها، وأظفارها بل ترى الفرق أوضح وأجلى في سحنها، ووجوهها، وهيئات جلودها. ومردّ ذلك إلى حكمة خالقها الحكيم المدبّر، العليم بكل مخلوق، وما يحتاج إليه في غذائه، وبقائه، ولوازم حياته. لقد تبين مما تقدّم: أنّ الخالق القيّوم جلّ جلاله تكفّل بحاجات مخلوقاته المسلوبة الإحساس والشعور، وأنّ المخلوقات التي رزقت الشعور والإحساس قد وكلت إليها الفطرة الإلهية أمر السعي لتحصيل حاجاتها على قدر ما هي حاصلة عليه من الاستعداد الفطريّ لذلك، فالإنسان مكلّف بالسعي في أسباب رزقه، ومتاع حياته، وهو يلقى من   (1) الآجام: (جمع الأجمة) الشجر الكثيف الملتف. (2) القرّ: البرد. (3) الفرو: جلود بعض الحيوان، كالدّببة والكلاب، والثعالب، تدبغ ويتخذ منها ملابس للدّفء وللزينة (ج) فراء. (4) الضافي: التامّ السّابغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 التّعب والعناء ما يلقى في التجارة، والزراعة، والصناعة، وغير ذلك من وسائل الكسب. وليس لجسم الإنسان من الفرو الضّافي، والجلد المتين ما يدفع عنه عوادي البرد القارس، والحرّ اللافح «1» ، لذلك هو مضطرّ إلى أن يعدّ بنفسه ما يقي جسمه حرارة القيظ، ولوافح السموم، وبرودة الشتاء، وسواقع الزّمهرير «2» ، فيصنع مختلف الثياب المناسبة لكلّ جوّ، ويعالج ما يصاب به من أمراض بما هداه إليه إدراكه من عقاقير، وأدوية، ووسائل. ومن كان من المخلوقات أقلّ نصيبا من الإدراك، وأضعف حيلة في الحصول على متع الحياة، وأسباب العيش، تداركته الفطرة الإلهية، فمنحته في نفسه، وجسمه من أسباب الوقاية وأسلحة الجوارح ما يدفع به عن نفسه عادية الكون ومخلوقاته، ويسّرت له سبل العيش: فمن الحيوانات ما وهبه الخلّاق العظيم مخالب قاطعة، وبراثن مرهفة، ومنها المسلح في فمه بأسنان مفترسة، ومنها ذوات القرون، وذوات الأجنحة، والسوابح في اليمّ، والمدافعة عن كيانها بالحمة السّامة، إلى غير ذلك من الأسلحة والجوارح التي عوّض الله بها لبعض خلقه عما فقده من نعمة العقل، ونور البصيرة، ومذاهب الرأي. أما الإنسان المجرّد من مثل خرطوم الفيل، وقرن الثور، وسمّ الأفعى، وحمّة العقرب وسائر أسلحة الدوابّ والهوامّ، فكان لذلك أعزل ضعيفا، إلا أنه قد أوتي من العقل الكامل، والشعور الشامل، والحسّ المرهف، والفهم الثاقب، والبصيرة النافذة، ما لم يؤت أحد من خلق الله مثله. وهذه المواهب التي امتاز الإنسان بها على سائر المخلوقات تغنيه عما فقده من القوى الجسمية التي امتازت عليه بها الحيوانات القويّة، فاستطاع أن يسخّر الفيل العظيم الهيكل ذا الخرطوم الطويل، وأن يستذلّ الأسد الضّاري ذا البراثن الحديدية، وأن يقبض على الأفعى الثائرة، ويصيد الطيور المحلقة في جو السماء، بل صار لا يعييه حوت في لجج البحار الزاخرة، ولا وحش غابة كثيفة من الوحوش   (1) الحرّ اللافح: الحرّ الحارق. (2) الزّمهرير: شدّة البرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 المفترسة الكاسرة؛ لأنه قد اخترع بمواهبه العقلية أسلحة فاق بها على أسلحة سائر المخلوقات مجتمعة بلا استثناء. مسؤولية الإنسان بقدر مواهبه: سادتي: لا بدّ لكم أن تعترفوا- على اختلاف أديانكم، وتباعد أوطانكم، وتنوّع نزعاتكم وأفكاركم- بأنّ الإنسان قد انهالت عليه الواجبات، وتعدّدت المسؤوليات بسبب ما امتاز به من عقل راجح، ورأي حصيف، وفكر ثاقب، وفقه لطيف، وهذه الواجبات والمسؤوليات تسمّى بلغة الشرع «التكاليف» وهي موجهة إليه من ناحية قواه الظاهرة والباطنة، وكأنّ الإنسان قد خاطب الفطرة الإلهية بلسان مواهبه وقواه أن تفرض عليه عملا، فكان بسببها مكلفا بهذه الواجبات التي تملأ وسعه، وتتناسب مع طاقته، قال الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] . وعبّر سبحانه عن هذا التكليف بالأمانة في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب: 72] . ولا يتصف بالظلم والجهل إلا المكلّف بالعدل والعلم، والظلم والجهل من نعوت الإنسان لا ينعت بهما غيره؛ لأنه لم يكلف بالعدل والعلم إلا هو، فهاتان الصفتان من صفات الإنسان: الأولى ضد العدل، والآخرى ضد العلم. وذلك لا يوجد إلا في الإنسان، فالظلم تعدّي الإنسان حدوده، واستعماله قوّته الظاهرة العاملة في غير محلّها. والجهل نقص يتطرّق إلى الإنسان من جهة قواه العلمية. والظلوم يقابله العادل، والجهول يضادّه العالم. والعدل والعلم يتصف الإنسان بهما بالقوة لا بالفعل، فيحتاج إلى العدل لتكميل قوته العملية، وإلى العلم والمعرفة لتكميل قوته العلمية. والقرآن الحكيم قد يسمي العدل بالعمل الصّالح، والعلم بالإيمان. قال الله عز وجل: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [العصر: 1- 3] فمن لم يعمل صالحا؛ فقد ظلم نفسه، ومن لم يؤمن بالله؛ فقد جهل. ولا ينجو من الخسران إلا من آمن وعمل صالحا. وقد أشهد الله الزمان على خسران الإنسان. ومن الظاهر البيّن أنّ المراد بالزمان الحوادث التي حدثت فيه منذ بدء العالم، وقد صدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 كارليل «1» في وصفه التاريخ بأنه «سجل لأعمال العظماء وسيرهم» ، وتاريخ العالم أصدق شاهد على أنّ كلّ أمّة لم تؤمن بالله، ولم تعمل صالحا بأنها قد خسرت، وهلكت، وكذلك الأفراد الذين لم يؤمنوا بالله، ولم يعملوا صالحا أنهم قد خسروا، وهلكوا. والصّحف السّماوية والأسفار القديمة ملأى بأنّ الظلم والجهل ما وجدا في بيئة إلا وجرّا عليها الخراب والدّمار، والعدل والعمل الصّالح ما وجدا في أمة إلا نتج عنهما الحياة والعمران. وتقصّ عليك هذه الكتب وغيرها أنباء الذين آمنوا وعملوا الصالحات كيف أفلحوا، وعمروا الدّنيا، وأخبار الذين طغوا وبغوا كيف بادوا، وهلكوا، وذهبوا أحاديث تروى، وتفرّقوا أيدي سبأ، فلم يبق لهم إلا أثر بعد عين. وتثني هذه الكتب على الذين قاموا أحسن قيام بالواجبات المكلفين بها من قبل فطرتهم، فأدّوا ما عليهم منها خير أداء، كما تذمّ الذين أهملوا فرائضهم، ونبذوها وراء ظهورهم. وحتى الإلياذة «2» ، والشاهنامة «3» ، ومهابهارته «4» ، ورامائن «5» ، وغيتا «6» ، كل هذه الأسفار، تقص علينا أخبار الأمم الذين خلوا من قبل، وتحدّثنا بما وقع من القتال بين الظالمين والعادلين، وبين الكافرين والمؤمنين، وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار ممّن يعتبرون بتجارب الأمم، فينتهون عن الظلم والشر، ويرتدعون عن الكفر والشرك، ويقيمون الحقّ، ويتواصون بالخير ويعملون صالحا.   (1) كارليل توماس (Carlyle ,Tomas) أحد كبار المستشرقين، من أشهر كتبه «الأبطال» وقد عقد فيه فصلا رائعا عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، نقله إلى العربية الأستاذ علي أدهم، مات سنة 1881 م. (2) الإلياذة: ملحمة يونانية عن حرب طروادة، من روائع الشعر العالمي، عرّبها شعرا سليمان البستاني. (3) شاهنامه: ملحمة للفردوسي من 000، 60 بيت في أخبار ملوك فارس وأساطيرهم. (4) مهابهارته: الملحمة القومية السنسكريتية للهندوس، يزيد عدد أشعارها على مئتي ألف بيت. (5) رامائن: ملحمة سنسكريتية تروي قصة إله الهندوس «راما» وفيها قصص وأمور فلسفية وروحيّة. (6) غيتا: كتاب مقدّس عند الهندوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 حكمة إرسال الله الرسل للبشر: أليست سور القرآن الحكيم، وأسفار التوراة والإنجيل ملأى بالقصص، مسجلة بأنّ كلّ أمّة آمنت وعملت صالحا، وعدلت في الحكم وجاءت بالحسنة قد أفلحت، ونجت، وسعدت، وكلّ أمة ظلمت، وكفرت بأنعم الله، وركبت هواها، وعدت طورها، وتعدّت الحدود الفطرية قد هلكت، وانقرضت دولتها، وتقوّض صرح مجدها. إنّ في بعض آيات كتاب الله قصة لمؤمن عادل صالح، وفي البعض الآخر منها قصة لظالم طاغ: كلّ ذلك ليرتدع الطّاغية عن طغيانه، ويكفّ الفاسق عن الفسق، وينتهي الظالم عن الظلم والبغي، فيعودوا جميعا إلى الرشد، ويكونوا عادلين مؤمنين صالحين. لأجل ذلك بعث الله الأنبياء والرسل- قبل محمد صلّى الله عليه وسلم- إلى كلّ بلد، بل إلى كلّ قرية، ليكونوا بسيرتهم الصالحة المستقيمة أسوة لأممهم، فتتبع الشعوب التي بعثوا إليها السنن التي يسنونها لأفرادهم وجماعاتهم، فيستقيموا، ويفلحوا جميعا، أو تهتدي بهدي الأنبياء والرسل طوائف من قومهم على الأقل، فيواصلوا الدّعوة، ويسيروا في طريق الحقّ. وقد بعث الله إلى الإنسانية خاتم رسله محمدا صلّى الله عليه وسلم بشيرا للناس كافة ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، ورحمة للعالمين، لتكون لهم فيه أسوة، ويكون لهم من حياته الشريفة قدوة، ثم يكون مثلا أعلى للذين يأتون بعده إلى أن تقوم الساعة. وقد جاء في القرآن الكريم على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلم: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: 16] ، وذلك أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم ولد فيهم، وترعرع بينهم، ونشأ أمام أعينهم، وعاش بين ظهرانيهم برهة من الدّهر قبل بعثته، فعرفوا أخلاقه كل المعرفة، وجرّبوا عاداته وأعماله، فهو لم يكن فيهم غريبا، ولا خاملا، ولا مجهول الأحوال. والوحي الإلهي في هذه الآية يقدّم حياة الرسول وسيرته الطاهرة قبل البعثة دليلا على نبوّته صلّى الله عليه وسلم وأنّ رسالته هي من عند الله العظيم؛ ليؤمن به العرب، ويصدّقوه فيما يخبر به، أو يدعو إليه، فإنّهم قد علموا مصبحه وممساه، واختبروا أخلاقه وعاداته من صباه ونعومة أظافره إلى أن شبّ واكتهل، وأعلن نبوّته، وخرج إلى الناس يدعوهم برسالة الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الفرق بين دعوة الرسل ودعاوى غيرهم: لقد مضى في سالف الأيام كثير من العظماء، دعوا الناس إلى أن يقتدوا بأخلاقهم وأعمالهم، منهم ملوك جبابرة عاشوا في قصورهم الشامخة بين ندمائهم وجلسائهم وملؤوا القلوب مهابة وجلالة، ومنهم قادة جيوش عاشوا بين ضباطهم وجنودهم، يرهبون الناس، ويخيفونهم بشدّة بأسهم، وضخامة أجسامهم، ورواء هندامهم «1» ، ومنهم حكماء وفلاسفة كانوا إذا نطقوا أبانوا، وإذا خطبوا أبدعوا، ونثروا من درر الحكمة ما شاءت بلاغتهم وطلاقة ألسنتهم، فملكوا القلوب، وبهروا النفوس. وترى بجانب هؤلاء طائفة الشعراء ممّن إذا أنشدوا أطربوا، وإذا رتلت أناشيدهم غلبوا السّامعين على أهوائهم، ولعبوا بالقلوب كيف شاؤوا. وقد خلا كثير من الفاتحين الذين دوخوا البلاد، واستولوا على المماليك، كما مرّ في مواكب التاريخ كثير من المثرين والأغنياء الذين كانت أقدامهم تطأ البسط الناعمة والزرابي «2» الوثيرة، ويمشون على الحرير الفاخر والإستبرق «3» الزاهر، اكتنزوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، واسترعوا أنظار بني آدم بما كانوا فيه من ترف، وعظمة، وسعة. وقد كان هنيبعل القرطاجني «4» ، والإسكندر المقدوني، وقيصر الروم، ودارا «5» الفارسي، ونابليون الفرنسي يملأ كلّ منهم عيون بني آدم بعظمته، وأحداث حياته، ومختلف أعماله، وكذلك نجد سقراط، وأفلاطون، وديوجنس «6» ، وغيرهم من   (1) الهندام: حسن القدّ، وتنظيم الملابس. (2) الزّرابيّ (جمع الزّربية) : الوسادة تبسط للجلوس عليها، وفي القرآن: وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية: 16] . (3) الإستبرق: الديباج الغليظ. (4) هنيبعل القرطاجني: قائد قرطاجني فينيقي الأصل (247- 183 ق. م) أشعل الحرب الفونية ضد روما. (5) دارا: ملك الفرس. (6) هو: ديوجنس لا يرتيوس: فيلسوف يوناني صقلي، مؤلف أول تاريخ للفلسفة اليونانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 حكماء اليونان وغير اليونان مثل: سبنسر «1» وأضرابه، تجتذب سيرتهم النفوس، وتروق القلوب، وإن اختلفت مظاهر عظمتهم عن مظاهر عظمة الآخرين ممّن ذكرت أسماءهم قبلهم. فهل ترى في حياة هؤلاء وأولئك ما يضمن فلاح بني آدم؟ ومن منهم تؤدي سيرته ودعوته إلى صلاح الإنسانية وسعادتها؟ إنّ في هؤلاء وأولئك لقادة فتحوا البلاد، ودوّخوا المماليك، واقتحموا أقصى الأرض، وأدناها، وذلّلوا ما اعترض سبيلهم من صعاب، وسخّروا الملوك بظبا سيوفهم. ولكن من منهم ترك لمن أتى بعده أسوة يؤتسى بها في تعميم الخير؟ ومن منهم إذا اهتدى الناس بهديه ينجون من المهالك، ويسلكون سبيل السعادة والهناء؟ ومن من هؤلاء استعملوا سيوفهم البواتر «2» في قطع حبائل العقائد الفاسدة، وتخليص العقول من الأوهام الواهية والأفكار الباطلة؟ ومن منهم وقف حياته على حلّ معضلات بني آدم، وكان حريصا على عقد أواصر الإخاء بينهم على الحق والتواصي في الخير؟ وهل يوجد في حياة من ذكرنا من هؤلاء العظماء ما يستعين به بنو الإنسان على تخفيف ما يعانونه من الغمرات في حياتهم الاجتماعية؟ أم في أخلاقهم وأعمالهم ما ييسر للإنسانية الشفاء من أمراضها الخلقية وأوصابها النفسية؟ أم في دعوتهم ما يجلو صدأ القلوب ورينها، أو يرتق فتقا في الحياة الاجتماعية؟ لا شكّ أنّ الشعراء نالوا إعجاب الناس بأناشيدهم الرنّانة، وملكوا النفوس، وتصرّفوا فيها بشعرهم البليغ وقصائدهم الغرّ. ولكن هل نعوا الإنسانية وهم يهيمون في أودية الخيال؟ كلّا! ولذلك لم يكن لهم في جمهورية أفلاطون نصيب، ولا منصب. والشعراء- من هوميروس «3» إلى   (1) هو سبنسر هربرت (1820- 1903 م) فيلسوف وعالم اجتماع إنكليزي، صاحب مذهب قائم على التطوّر الطبيعي (أي: مذهب النشوء والارتقاء) . (2) سيوفهم البواتر: سيوفهم القاطعة. (3) هوميروس (Homers) شاعر ملحمي يوناني من القرن التاسع قبل المسيح، نسب- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 امرىء القيس فمن بعده من شعراء الأمم- لم يكن منهم إلا إثارة كامن العواطف، وتنبيه النائم من الأفكار، أو إحداث لذة، أو ألم في النفوس، ولا ينتظر منهم أن يحلّوا معضلات الحياة الإنسانية، وعويصات مشاكلها. وسبب ذلك أنّهم في سيرتهم وأعمالهم لا يقدمون للناس المثل التي تحتذى، والأسوة التي يقتدى بهم فيها. ولقد وصفهم القرآن الكريم الحكيم أصدق وصف عند ما ذكر سيرتهم بقوله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الشعراء: 224- 227] وبهذا سجّل القرآن الحكيم على الشعراء أنّهم لا يؤثّرون بشعرهم اللطيف الحلو على المجتمع البشري؛ لأنهم يهيمون في أودية الأفكار والعواطف بلا إيمان، ولا عمل صالح، ولو اجتمعت لهم هاتان الخصلتان- الإيمان والعمل الصالح- لكان لشعرهم أثر بارز في المجتمع البشري، وعلى كلّ فإنهم ليسوا من الإصلاح في شيء، ولا الإصلاح من شأنهم، ولذلك لا يقدرون على القيام بمهمة إصلاح العالم، وقيادة الناس إلى الرشاد الكامل والفلاح الشامل، ويشهد على صدق هذه الحقيقة تاريخ الأمم في غابرها وحاضرها. وكذلك نرى الفلاسفة والحكماء بهروا عقول الناس بفلسفتهم، وحاولوا تغيير تيار الحياة البشرية، فعرضوا على الناس من طريف الأفكار ومستحدث النظريات ما حيّر العقول، وأدهش النفوس، لكنّهم لم يقدّموا للناس من سيرتهم أسوة يؤتسى بها، ولا أناروا ظلمات الحياة بقبس من أعمالهم تتضح به مشاكل الإنسانية، فتتمكن من حلّ معضلاتها. وهذا أرسطو قد وضع في فلسفة الأخلاق قوانين أسّس بنيانها، ووطّد أركانها، ولا تزال الجامعات وأساتذتها عاكفين على دراستها: يلقون المحاضرات على طلبتهم في فلسفته، ونسمعهم يثنون على ثقوب فكره، وبعد نظره،   - إليه المؤلفون اليونان أشعار «الإلياذة» و «الأوديسة» و «الأغاني الهوميرية» التي أثّرت تأثيرا عميقا على مستقبل الشعر اليوناني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وحصافة رأيه، ورجاحة عقله، ولكنّنا- والحقّ يقال- لم نجد رجلا اهتدى بدراسة فلسفة أرسطو، أو وصل بها إلى السعادة المنشودة. وكذلك نرى في الكلّيات أفاضل من العلماء، وفحول الأساتذة والمدرسين يعجب الطلبة فصيح كلامهم، وبراعة بيانهم، وبليغ حوارهم، وعذب حديثهم، وهم يؤثّرون فيهم بذلاقة ألسنتهم، واتساق أفكارهم، وترتيب معانيهم، لكنّهم لا تعدو محاضراتهم جدران كلياتهم، وقاعات محاضراتهم، وإذا خرجوا منها أصبحوا كعامّة الناس، لا يمتازون عليهم بعمل تتخذه الإنسانية مثالا يحتذى، ولا بخلق يختلفون به عن غيرهم هديا وسمتا. لقد رأينا على مسرح العالم كثيرا من الملوك الجبابرة الذين حكموا العالم، واستولوا على المماليك، واستعبدوا الأمم. وكم من أرض عمروها، ومدينة دمّروها، وكم وضعوا شعوبا، ورفعوا آخرين، وكم سلبوا، ومنحوا، وضرّوا، ونفعوا، فكانوا في سيرتهم كما قال الله عزّ وجلّ على لسان ملكة سبأ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً [النمل: 34] . نعم إنّ السيوف البواتر في أيدي بعض الملوك قد قذفت الرّعب في قلوب المجرمين، فكفّوا عن اقتراف الجرائم علانية، وفي وضح النهار، مستترين وراء مكامن الريب، أو قابعين في بيوتهم. لكنّ سيوف الملوك عجزت عن أن تستلّ الرذائل من قلوب أهلها، وأن تحسم مادة الشرّ في نفوسهم، وأن تطهّر صدورهم من فساد السّرائر، ذلك الفساد الذي يحمل أهله على ارتكاب المعاصي واقتراف السيئات. وأقصى ما يترتّب على رهبة المجرمين والمرجفين من سيف الملوك المسلط عليهم أن يسود الأمن والسّلام سبل البلاد، وأسواق المدن، وشوارعها، وحاراتها، أما إصلاح القلوب، وتهذيب النفوس؛ فمما يخرج عن سلطان السيف، بعجز عن إرادة الملوك. بل الحق- والحقّ أحقّ أن يقال- أنّ رأس كلّ شرّ إنما نجم من قصور بعض الملوك. وإنّ كلّ فساد نبت نابته في فناء حصونهم، بل في قصورهم نبعت عيون الفواحش والجرائم، ومن حصونهم انفجرت ينابيع الظّلم والعدوان، وعلى أيديهم تفاقم كلّ شرّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ومن أخلاقهم سرت العدوى إلى أخلاق الناس، ولفساد قلوبهم وسوء أعمالهم اتّسع الخرق على الراقع، حتّى أعيا الأطباء داء المجتمع البشري. وهل خلف لنا الإسكندر المقدوني، وقيصر روما الأعظم مثالا من أعمالهما يصلح المجتمع إذا اقتدى به، وسار على أثرهما فيه؟ وهل نالت حظّا من البقاء والدّوام أيّة سنّة سنّها عظاماء المفكرين للمجتمع البشري من أمثال سولون «1» وغيره من واضعي الشرائع التي يعتبرونها عادلة قيّمة، مع أنّهم أبدعوا فيها ما شاءت لهم أفكارهم الثاقبة، وأنظارهم البعيدة، وقرائحهم المتوقّدة. ولو سأل سائل عن تلك الشرائع القيّمة والقوانين العادلة كم استمرت؟ لما استطاع أحد من أتباعهم وأنصارهم إلا أن يعترف بأن بقاءها كان قصير الأمد، وأنّ نقّادها أكثروا من نقدها، بل شكّ حتى أتباعهم وأنصارهم في نصح أولئك المفكرين، ونقاء سرائرهم، وصفاء قلوبهم، وفي إخلاصهم للإنسانية وللبشر جميعا؛ لأنهم لم يجدوا فيها الحياد الصّادق، والنّصفة المحضة، والعدل الصريح، وبراءة الذمّة من المحاباة، ومن جرّاء ذلك نشأ بعدهم قوم آخرون نبذ حكامهم تلك الشرائع، ومحوها كما يمحو المصححون أخطاء الحروف في الكتابة، ثم شرع هؤلاء الآخرون في سنّ قوانين غيرها تلائم مصالحهم، وتوافق مطامعهم، فجاءت القوانين الجديدة كأختها التي سبقتها غير مراعى فيها حقوق بني آدم كلّهم، ومصالح الأمم بلا استثناء. وفي أيامنا هذه نرى مجالس التشريع في البلاد المتمدينة لا تفتأ تنسخ قوانين كان معمولا بها، وتسنّ بدلا منها قوانين أخرى جديدة، حتى صارت كلّ يوم شريعة تشرّع في مكان شرعية تنسخ، وقانون يسنّ بدلا من قانون يلغى. كل هذا طمعا في بقاء دولة، وتثبيت أركانها، واستيلاء رجالها على مناصبها، ورغبة منهم في زخرف الدنيا وزينتها ونعيمها، لا تحفزهم إلى ذلك مصالح الناس، ولا منافع الأمة كلّها.   (1) سولون 558 -640) (Solon) ق. م) : مشرّع أثيني، أحد حكماء اليونان السبعة، سنّ قوانين إصلاحية اجتماعية وسياسيّة مهّدت الطريق لظهور ديموقراطية كليستنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 سادتي: لقد حدّثتكم عن الطبقة العليا من بني آدم، ممّن يظنّ بهم أنّهم معقد الرّجاء في إصلاح الحياة الاجتماعية وتوجيهها نحو الإرشاد. وقد علمتم من أحوالهم وسيرهم كيف خابت فيهم الآمال، وأخفق الرجاء. والحقّ أنّ كلّ خير ترون له أثرا في بقعة من بقاع الأرض، وكلّ نور يومض «1» في أيّة أمّة حتى لو كان ضئيلا، وكلّ إثارة من صلاح، أو كرم خلق، أو صفاء سريرة وطهارة قلب، فإن ممّا لا ريب فيه أن مردّه في الأصل إلى رسالات الله، أي إلى هداية النبيين عليهم السلام. فإذا وقعت أنظاركم في بقعة من أرض الله على مظهر من مظاهر العدل يسود الناس، أو رحمة في قلوب طائفة يتبادلونها بينهم، أو وجدتم فئة تتعامل بالتواسي ويساعد أيسارهم ذوي فاقتهم، وأقوياؤهم المظلومين منهم، وأهل العافية فيهم يغيثون الملهوفين، ويطعمون الأيتام، ويعولون الأيامى؛ فاعلموا جازمين غير مرتابين بأنّ هذه الفضائل من آثار تعاليم تلك الطائفة الطاهرة التي تسمّى «الأنبياء» صلاة الله وسلامه عليهم. وذلك لأنّ أقطار الأرض كلّها- على سعتها- قد بلغتها دعوة الأنبياء، وطرقت مسامع أهلها سنن هدايتهم، وأحكام تشريعهم، وحكمة رسالتهم، وما من أمّة إلّا وقد أرسل الله فيها رسله منذرين ومبشرين وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] ولولا الأنبياء لتهارج الناس كالبهائم، ولتهارشوا كالسّباع الضّواري. فحيثما رأيتم شيئا من الصلاح، وقليلا من الخير، أو كثيرا منه؛ فهو من تعاليمهم، وكلّ دعوة للحقّ في مكان ما من الأرض فإنّما هي صدى لرسالات الله. وحتى الهمج في مجال إفريقية، فضلا عن الأمم الغربية المتمدينة، كل أولئك استقوا من منهل النبوات الصّافي، واستضاؤوا بأنوار الله التي بعث بها أنبياءه، ولا يزالون يستنيرون بهم في كل ما يسمّى حقّا، وكل ما تدلّ عليه عناوين الخير.   (1) أومض: لمع خفيفا وظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 خلود دعوة الرسل واضمحلال دعاوى غيرهم: إنّ الصفوة المختارة من أهل الطبقة العليا في البشر هم الذين يحكمون القلوب، وتنقاد لسيادتهم النفوس. وأين هؤلاء من الملوك الذين يحكمون الجسوم، ويملكون الأبدان، ويستولون على البلاد؟ أولئك تجري أوامرهم، وتنفذ أحكامهم حيث تخفق القلوب، وإذا كانوا لا يملكون الأسلحة التي يملكها الملوك وأمراء الأجناد، فإنهم يطهّرون الأنفس من آثامها، ويستأصلون الجرائم قبل وقوعها، حيث يجتثون من القلوب جذور الشرور. وإذا لم يكن لهم ما للشعراء من أناشيد يتغنّى الناس بها؛ فإن الأمم لا تزال تستحلي كلامهم العذب، وتستعذب حديثهم الحلو. لا ريب أنّه لم يكن الرسل رؤساء المجالس التشريعية بالمعنى الحديث، لكنّ سننهم، وتشريعاتهم لا تزال- على تطاول الأيام ومضيّ القرون- نافذة بين الطوائف، يقدّسها علية الناس وسفلتهم، وأحكامهم منقوشة على صفحات القلوب، تذعن لها السّوقة والملوك، ويستسلم لها الفقراء، ويخضع لها الأغنياء. إنّ يد الأيام قد عبثت- كما يشهد التاريخ بالراجا (أشوكا) «1» ملك (باتلي باتر) «2» ولم تبق يد البلى من أوامره وأحكامه إلا صخورا منقوشة، وحجارة منحوتة. أما (بوذا) «3» فإنه لا يزال يحكم القلوب، وسننه وقوانينه لا يزال كثير من الناس يدينون لها ويطأطئون الرؤوس لحرمتها. وإنّ أوامر ملوك (أجّين) «4» و (هستابور) «5» في دهلي   (1) أشوكا: ثالث ملوك سلالة موريا في الهند وأعظمهم (273- 232 ق. م) ، نشر البوذية في الهند وفي جنوب شرقي آسيا. (2) باتلي بوتر: من أعظم ملوك الهند قبل المسيح. (3) بوذا (Buddah) حكيم هندي، أسس مذهب البوذية ضد البرهمية في القرن الخامس قبل المسيح. (4) أجّين (Ujjain) من أقدم المدن المقدسة لدى الهندوس، تقع اليوم في ولاية أترابرديش في الهند. (5) هستابور (Hastapar) من المدن العريقة في الهند كانت تقع قريبا من دلهي (عاصمة الهند اليوم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وقنّوج «1» أمست أثرا بعد عين، بل درست آثارهم، وعفت أعلامهم، وأصبحت ديارهم كأطلال خولة، أما (دهرم شاستر) «2» وهو كتاب العقائد الذي جاء به (منو) فلا زال باقيا نافذا أمره. والملك (حمورابي) من ملوك بابل كان أول من سنّ القوانين، ولكن أين أوامره وأحكامه؟ لقد نسجت عليها العنكبوت منذ زمان طويل، ولم تدع يد البلى من قوانينه وأحكامه شيئا. أما تعاليم نبي الله إبراهيم عليه السلام فما برحت غضّة طرّية. وأين فرعون ودعواه أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] ؟ لقد أصبحت أضحوكة! أما نبيّ الله موسى عليه السلام؛ فإنه يسود نوازع القلوب، ويملك أهواء النفوس، ويدين له كثير من الناس، وتسلم لآياته وبيناته طوائف غير قليلة. وقوانين سولون زال العمل بها وشيكا، بينما التوراة المنزلة من السماء لا تنفكّ أحكامها وقوانينها قسطاس العدل وميزان النصفة. والقانون الرّوماني الذي عدّ عيسى عليه السلام جانيا مجرما بمقتضى أحكامه، واعتبره قد اجترح السوء، وأتى ذنبا، قد خلت القرون تسفيه برياحها فأصبح هشيما مضمحلا. أما عيسى عليه السلام فإنّ تعليمه لا يزال نورا تجلى به ظلمات القلوب، وهدى تطهر به نفوس المذنبين، وتزكى به أرواح المجرمين. وأين أبو جهل «3» وكبرياؤه، وأين كسرى الفرس ودولته وجبروته؟ وأين قيصر الروم وحكومته وطغيانه؟ كلّ أولئك قد طوى الدّهر صحائفهم، وطمست الأقدار دولهم، وتهدّم مجدهم، وذهبوا أدراج الرياح، أمّا   (1) قنوج: بلدة تقع في ولاية أترابرديش، وتعدّ من أقدم مدن الهند. (2) وهو كتاب العقائد عند الهنادك. (3) هو عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، أشدّ الناس عداوة للنبي صلّى الله عليه وسلم في فجر الإسلام، وأحد سادات قريش وأبطالها، وكان يقال له «أبو الحكم» فدعاه المسلمون «أبا جهل» ، قتل في وقعة بدر الكبرى، سنة 2 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإنّ حكمه ما زال ولن يزال باقيا على الدّهر، وأوامره نافذة، وسنته متبعة في كلّ زمان ومكان. ما من طائفة من الناس أصلحت فساد المجتمع إلا الأنبياء: سادتي وأصدقائي: أظنّكم قد استمعتم لما ألقيت عليكم من الأدلة العقلية والبراهين التاريخية، وإخالها قد تركت فيكم أثرا أورث في قلوبكم يقينا بأنّه لم تكن طائفة من الناس أصلحت من فساد الأخلاق، وقوّمت من عوجها، وهذبت النّفوس وهدتها من ضلال البشر مثل الذي قام به الأنبياء عليهم السلام، فهم الذين أصلحوا الحياة الاجتماعية، وعلّموا الناس الاقتصاد في المعيشة والاعتدال في كلّ شيء. وهم الذين أقاموا العدل في الدنيا، وحكموا بالقسط بين الناس، وزكّوا القلوب، وأخذوا بيد الإنسانية إلى الحق والخير، وأنقذوها من حمأة الرذائل. وإنّ الله سبحانه قد بعثهم ليخرجوا الناس من الظلمات- ظلمات العقائد، وظلمات الأخلاق، وظلمات الأعمال- إلى النور: نور الإيمان، ونور الخلق الكريم، ونور العمل الصّالح. وتركوا بعدهم سنة للناس، يتبعها السّوقة، ويعمل بها الملوك، وينتفع بها صغار الناس وكبارهم، ويتمتّع بخيراتها الأغنياء والبؤساء على السّواء. وإن مثل الأسوة بهم كمثل عين ثرّة فيّاضة تروي البلاد، وتسقي العباد، يشرب منها كلّ عطشان بقدر حاجته، ويرتوي بمائها العذب الزلال كلّ ظمان، فينقع غلّته وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 83- 90] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ترون في هذه الآيات ذكر طائفة خاصّة، وسمّي فيها بعض الذين بعثهم الله لهداية الناس، وفوّض إليهم أمر إصلاح المجتمع: فهم الشّفاء لمرضى القلوب، وبهم البرء لسقام النفوس، وهم هداة الغاوين، الآخذون على أيدي الطغاة، والمرشدون لأهل البغي، والناهون عن المنكرات، وهم الطائفة المقدّسة التي عمّ هديها، وجاد غيثها جميع أنحاء المعمورة، فاستضاء الناس كلّهم بنور هؤلاء الرسل في مختلف الأزمنة وشتّى العصور. وإنّ الذي نراه في الأمم من الخير والصلاح، وكرم الخلق، وحسن العمل، وطهارة السيرة، وعلوّ النفس، وزكاء الرّوح، ونزاهة القلب، إنّما هو قطرة من بحر تعاليم الأنبياء عليهم السلام، ولمحة من جمال شرائعهم، وأثارة من بركات سيرتهم. وإنّ الإنسانية القلقة المتألمة لا تزال تفتقد آثارهم، وتحرص على اتباع سننهم، ليذهب بذلك روعها، ويطمئنّ قلبها، فتقر الحياة الاجتماعية، وتجد بعض راحتها. ولو أنّ الناس اتبعوا سنن الأنبياء، واستقاموا على الطريق الذي دلوهم عليه؛ لساد الوئام بين الأمم، وعمّ السلام في العالمين. لقد كان الأنبياء جميعا على خلق عظيم، وقد أوتوا من حميد الخصال، ومعالي الأخلاق ما لم يؤت أحد غيرهم مثله. غير أنّ منهم من تجلّى فيه خلق من الأخلاق، فكان فيه أبرز من غيره وأظهر، فنبيّ الله نوح كان متحمسا في تبليغ الدّين، وإبراهيم كان شديد العناية بأمر التوحيد، وورثه في ذلك إسحاق، وحبب الإيثار إلى إسماعيل، وجاهد موسى جهادا عظيما، وآزره في الحق أخوه هارون، وظهرت الإنابة والاعتراف بالخطأ في يونس، وكان لوط مجاهدا، وغلب على يعقوب التسليم والرضا بأمر الله، وكان داود يرثي للحقّ وخذلانه، وامتلأ قلب سليمان بالحكمة، وكان زكريا متعبدا، وتجلّى في يحيى العفاف، وطهارة النفس، أما عيسى فكان مظهر الزّهد في الدّنيا والرّغبة عن زهرتها، وكان أيوب صبورا على الآلام. وهذه الخصال العالية والأخلاق الفاضلة هي التي يتشرّف بها العالم، وتسعى الأمم للتحلّي بها، وحيثما وجدتم من هذه الخصال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الحميدة والفضائل النبيلة أثرا؛ فكونوا على يقين بأنها من نفثات أولئك الأنبياء، ومن آثار تعليمهم. إنّ تقدّم المدنيّة الصّالحة، وتوفير عوامل الهناء والرّغد للنّاس، وبلوغ الإنسانية مقام الشّرف، قد ساهمت فيه جميع الطوائف التي اشتركت في عمارة العالم: فعلماء الهيئة اكتشفوا للناس نظام سير الكواكب، والحكماء دلّوا على خواص الأعمال وتأثيرها في الأخلاق، ووصف الأطباء النّطاسيّون خواص العقاقير وتأثير الأدوية في الأدواء، وتفنّن المهندسون في تشييد المباني ومرافقها، وإقامة القصور ومعالمها، وعقدوا على الأنهار القناطر والجسور، واتّسع أهل الصناعات في تنويعها، وإتقانها، وتيسير الأعمال للعمال، فكان من مجموع هذه الجهود عمارة الأرض، ولكلّ فريق من أصحاب هذه الجهود يد في اكتمال المدنية، وتقدّم الحضارة، ونحن نذكر لهم ذلك بالثناء والشكر، غير أننا لا نستطيع أن ننسى أنّ أنبياء الله وحملة رسالاته هم الذين غمرونا بالمنن العظمى؛ لأنّهم عملوا لإصلاح فساد القلوب، واستئصال كوامن الشرور، وتطهير النفوس، وتزكيتها من الأهواء الفاسدة، والأطماع السافلة، والميول المهلكة، فنهجوا بذلك منهج السعادة للحياة الاجتماعية، وبيّنوا للناس ما تعلو به نفوسهم، وما تسفل به، وما تكون به شريفة أو منحطة، فكملت الثقافة الإنسانية برسالاتهم، وبلغت الحضارة بذلك مبلغ الكمال، وتيسّر للمجتمع البشري أن يكون صالحا إذا شاء، وقد أصبح من المتعارف عند الناس أنّ الأخلاق الفاضلة، والسيرة الطاهرة هي شرف الإنسانية ومجدها، ومكارم الأخلاق، ومحاسن العوائد أصل الإنسانية وجوهرها. وبتعاليم الأنبياء توثّقت العلاقة بين الخلق وخالقه، وحسنت الرابطة بين العبد ومولاه، فتذكّر الإنسان عهده الأزليّ الذي أخذه على نفسه لربه، ولولا الأنبياء، وتعاليمهم، وتجليتهم أسرار النفوس، وكشفهم عن غرائز الفطرة الإنسانية، وما يسعد به المرء أو يشقى؛ لم تبلغ الإنسانية ما بلغته، ولذلك كانت الإنسانية مثقلة بمنن الرسل سلام الله عليهم، فإنّ لهم علينا من الأيادي البيضاء ما لا كفاء له. ومن عرف هذا عرف معه ما يجب لأنبياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الله جميعا من الشكر العظيم على كلّ فرد من أفراد البشر مهما كانت الطائفة التي تنتسب إليها، وهذا الشكر هو الذي نعبّر عنه نحن المسلمين بالصّلاة عليهم والتسليم لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] ونجهر بذلك، ونعلنه كلّما سمي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. إنّ الهداية والدّعوة لا تثمر ولا تبقى إلا بالقدوة والأسوة: أيها السادة: إنّ هؤلاء الأنبياء بعثوا في أعصار خاصّة، فبلّغوا رسالات الله، ثم مضوا، ولا بقاء لشيء في هذه الدّنيا الفانية، وإن سيرهم مهما تكن طاهرة مقدّسة فإنه لم يتح لها البقاء والدّوام؛ لأنّ يد الأيام قد عبثت بها كما تعبث بكل جديد فتحيله قديما، ثم تجعله رمادا تذروه الرياح. ومن المعلوم أنّ الذي يبقى لمن يأتي بعدهم من بني آدم هو المكتوب فيه سيرهم وهداهم، وهو الذي يصف حياتهم، ويمثّل أخلاقهم، والكتابة هي التي تحصي الأعمال، والأخلاق، وتعصمها من أيدي البلى، ولولاها لم تصل إلينا علوم القرون الخالية، وحكمتها، وفنون الأمم الماضية، وأفكارها، وشؤون الأقوام السّالفة وأخبارها، وما التاريخ إلا سير الرجال وشؤون الحياة الإنسانية ممّا حفظته الكتابة، وصانته من يد الضياع. وإنّ لحياة الإنسان نواحي شتّى، ومن المحتمل أن يعتبر الإنسان- في ناحية من نواحي حياته- بكلّ حادثة حدثت فيما مضى، لكنّ حياة الإنسان الخلقية والروحانية لا تكمل كمالها، ولا تبلغ مرادها، ولا تزكو زكاءها إلا بسنن الأنبياء، وهداهم، واقتفاء آثارهم، والتخلّق بأخلاقهم، ولن يذهب ظمأ الإنسانية فتروي غلّتها إلا بمنهل من سلسبيل هؤلاء الرسل، ولا يرجى خير العالم وصلاحه إلا إذا عمل أهله الأعمال التي هدى إليها الأنبياء، ودعوا إليها وحضّوا عليها؛ لأجل ذلك كان أهمّ الفرائض على أبناء الإنسانية حفظ سيرهم، وإحصاء أخلاقهم، لتبلغ مبلغ الكمال وتزكو زكاءها. إنّ نظرية مهما تبلغ من الصحّة، ودقّة الفكر، وإنّ تعليما مهما يكن رائقا، ويقع من الناس موقع الإعجاب، وإنّ هداية مهما تجمع من صنوف الخير، كلّ أولئك لا يغني غناء، ولا يثمر ثمرة، ولا يبقى على الدّهر إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 إذا كان له من يمثّله بعمله، ويدعو إليه بأخلاقه وفضائله، ويعرفه إلى الناس بالقدوة والأسوة، فيقتدي الناس بدعاته من طريق العمل بعد العلم، معجبين بسجايا هؤلاء الدّعاة، معظمين لأخلاقهم، مكرمين طهارة قلوبهم، وزكاة نفوسهم، وسجاحة أخلاقهم، ورجاحة عقولهم، وحصافة آرائهم، وسداد أفكارهم. وأقصّ عليكم قصة: إنّ الباخرة (كروكوديا) التي ركبناها في عودتنا من مصر والحجاز في أوائل شهر رجب سنة 1342 هـ (شباط 1924 م) اجتمعنا فيها عرضا بالدكتور طاغور «1» الشاعر الذائع الصيت، وكان قافلا من سياحته في أمريكا، فسأله بعض رفقته: «ما بال نحلة (برهمو سماج) «2» أخفقت في مساعيها ولم تنجح، مع أنها أنصفت الأديان، وجمعت الحسنات، وسالمت جميع الملل، ومن مبادئها وأصولها: أنّ الدّيانات كلّها على حق، وأن جميع المصلحين من الأنبياء والرسل والهداة هم خيار الناس وصلحاؤهم، ثم إنّها ليس فيها ما يخالف العقل أو يعارض المدنية الحاضرة أو يناوىء الفلسفة الحديثة، وصاحب هذه النحلة قد راعى فيها الظروف الراهنة والشؤون المألوفة الآن، ومع ذلك كلّه لم تنل من الفوز شيئا، ولم يتح لها من النجاح قليل ولا كثير؟!» وقد أحسن الشاعر في جوابه على هذا السؤال كلّ الإحسان؛ إذ قال: «إنّ النّحلة لم يكن لها داعية يدعو الناس إليها بسيرته الكاملة، وهديه العالي، ولم يكن لها لسان يدعو مؤيدا بعمل يصدقه، فتهوي إليه أفئدة الناس، وتطمح إليه أبصارهم، ويكون لهم من الدعاة أسوة يأتسون بها، وقدوة يقتدون بها» . وكلام طاغور هذا يدلّ على أنّ الدّين لا ينجح، ويعلو، وينتشر إلا بسيرة النّبيّ الذي بعث به، بما عرفه الناس عنه في شؤون حياته، في أخلاقه، وأعماله. وبالجملة: إنّ الجنس الإنسانيّ يحتاج أشدّ الحاجة- في بلوغه الكمال وسلوكه سبيل الرشاد- إلى هداة ودعاة طهرت   (1) هو رابندرناته طاغور، شاعر هندي، يعدّ من أعلام الأدب العالمي، نال جائزة نوبل، امتاز شعره بروح التديّن والوطنية، مات سنة 1941 م. (2) برهموسماج، أي: طبقة البراهمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 حياتهم، وزكت نفوسهم، وصفت قلوبهم من وصمات الذنوب، وشبهات الآثام، وتكون سيرهم كاملة في كلّ ناحية من نواحي الحياة الإنسانية، ولم يجتمع ذلك إلا في أنبياء الله صلوات الله عليهم وسلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المحاضرة الثانية السّيرة المحمّديّة هي العامّة الخالدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 سادتي! هذا اليوم هو اليوم الثاني لحفلتنا هذه. وليكن ما سلف في اليوم الأول على ذكر منكم. وخلاصة ما ذكرت أمس: أنّ ظلمات الأيام المقبلة لا تنجلي إلا بنور من مضى من طوائف المصلحين؛ الذين أحسنوا إلى الإنسانية أيّ إحسان، ولهم جميعا علينا الشكر الجميل، ونخصّ منهم الأنبياء، فإنّهم أسدوا إلى البشر من الجميل ما لم تسده طائفة من المصلحين، فيجب علينا أن نضاعف الشكر لهم، ونعترف بجميلهم، وإحسانهم؛ إذ أنّ كلّ واحد منهم قدّم لأمته من سيرته الطاهرة، وخلقه العظيم، وهديه العالي ما كانت به الأسوة الكاملة التي لا تتأتّى من غيره: فمنهم من صبر على الرزايا، والنوائب، والآلام أعظم صبر وأكمله، فكان أسوة للصّابرين في الضّراء والشّدة، ومن سيرة بعضهم خلق الإيثار، فكان إيثاره مثالا لأمته، ومنهم من اختار مرضاة الله مقدّما نفسه قربانا وأضحية، فكان المثل الأعلى لأمته في إيثار مرضاة الله حتّى على بقاء مهجته، وحفظ حياته. لقد ظهر للناس في سيرة الذين حملوا رسالات الله عند تبليغهم عقيدة التوحيد الإلهي ما كان موضع العجب من العزيمة، والحميّة، والتسليم لأمر الله، والعفّة عن المنهيّات، والزهد في زهرة الحياة الدّنيا، وما كان ولا يزال مثلا أعلى في هذه الفضائل العظمى، ومنارا للسائرين في ظلمات الحياة، وكم من ظلمة في الحياة قد ضلّ بها من ضلّ، ثم أتى على البشر زمان كان فيه بأشدّ الحاجة إلى الهادي الكامل يضيء له الطريق كلّه بقوله، وعمله، ويجلو الدّجى «1» - دجى العقائد، والأعمال، والأخلاق- بنور تعاليمه، وضوء سيرته، وجمال خلقه، وكمال نفسه، فتكون حياته نبراسا بأيدي الناس، فمن اقتبس منه في يمينه سار في ظلمات الحياة آمنا مطمئنا، لا يخاف الزلّة، ولا يخشى العثرة حتى يبلغ غايته، وإنّ ذلك   (1) الدّجى: سواد الليل، وظلمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الهادي الأعظم هو آخر الهداة، وخاتم النبيين الذي لم يرسل بعده رسول، ولن يرسل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45- 46] . إنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم شهد في هذا العالم تعليم الله وهدايته، وبشّر الصّالحين بالنجاح والفلاح، فهو مبشر. وقد نادى الغافلين، وأسمع الصمّ، وحذر المذنبين عاقبة ذنوبهم، وأنذر المشرفين على الهلاك، وأيقظ النائمين، فهو منذر. وقد دعا إلى الله من ضلّ عن سبيله، فهو داع. وإن هو إلا نور يستضاء به إلى يوم القيامة، ونبراس يستنار بأشعته في شعاب الحياة الملتوية، فتنكشف به الظّلمات المتراكمة، فهو السّراج المنير إلى الأبد. نعم إنّ جميع الأنبياء كانوا شهداء، ودعاة، ومبشرين، ومنذرين، بيد أنّ هذه الصفات لم تكن سواسية في جميع الرّسل، بل كان بعضها في بعضهم أظهر من أخواتها، فكان يعقوب، وإسحاق، وإسماعيل عليهم السلام قد غلبت عليهم صفة الشهادة وكانوا شهداء الحقّ، وغلبت على إبراهيم، وعيسى صفة التبشير، فكانا مبشّرين. ومن الأنبياء من غلب عليه وصف الإنذار لمن خالف الحقّ وجحده، فكانوا منذرين، كنوح، وموسى، وهود، وشعيب. ومنهم من غلب عليه صفة الدّعوة إلى الحق، وامتاز بها أكثر ممّا امتاز بسائر النعوت الآخرى، كيوسف، ويونس عليهم الصلاة والسلام جميعا. وأما من كان جامعا لهذه الصفات كلّها، واتصف بها جميعا، فكان مبشرا، ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا، وكانت حياته ملأى بهذه النعوت، والشؤون، وسيرته ممتازة بهذه الخصال والخلال؛ فهو النبيّ الجامع محمد صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه بعث ليختم الله به النبيين والنبوّات، فأعطي الرسالة الأخيرة ليبلغها إلى البشر كافّة، فجاء بالشريعة الكاملة؛ التي لا يحتاج البشر معها إلى غيرها، ولم تنزل من السماء إلى الأرض شريعة على قلب بشر بعد هذه الشريعة. لقد حظيت التعاليم المحمدية بالخلود، واختصّت بالبقاء والدوام إلى يوم القيامة، فكانت نفس محمد صلّى الله عليه وسلم جامعة لجميع الأخلاق العالية، والعادات السنيّة، وقد بعث ليتمّم مكارم الأخلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 السيرة المحمّدية هي السيرة التاريخيّة: إخواني! أنا لا أقول ما أقول جزافا وادّعاء منّي لأجل عقيدة لي خاصّة أعتقدها، وإنما هي حقيقة يشهد لها التاريخ، وتؤيدها البراهين، والدّلائل، وإنّ السيرة التي يحقّ لصاحبها أن يتّخذ الناس من حياته أسوة حسنة، ومثلا أعلى، يشترط لها قبل كل شيء أن تكون سيرة «تاريخيّة» ، أما السيرة القائمة على أساطير، وأحاديث خرافة، لا تدعمها الروايات الموثوق بصحّتها؛ فإنّ من طبيعة الإنسان ألايتأثر بما يحكى له من سيرة لشخصية مفترضة، لا يعرف لها التاريخ أصلا صحيحا، وإنّما اختلق لها المناقب أناس أحسنوا الظنّ بها، فرفعوا مكانها، وقد يخدعون بهذه المناقب بعض الناس أمدا قصيرا حين يعرضونها عليهم في حلّة قشيبة من الألفاظ، وثوب قشيب «1» من العبارات، ثم لا تلبث الحقيقة أن تظهر من وراء غلائل الأوهام، فيعرض الناس عنها إعراضا؛ لأنها قامت على غير أساس من التاريخ. إذا فلا بدّ لكلّ سيرة من سير الكمال الإنسانيّ يدعى الناس إلى الاقتداء بها، واتخاذها أسوة أن يدعمها التاريخ، ويشهد لها المحقّقون، ولهذا نرى النفوس البشرية لا تتأثر بالأساطير والأوهام كتأثرها بحوادث التاريخ والروايات الثابتة عن الثقات الأثبات، وذلك لأنّ سيرة الرجل العظيم الكامل لا تعرض على الناس ليشغلوا بها أوقات فراغهم ويروّحوا بها عن أنفسهم في حالة الملل أو الضجر، بل تعرض عليهم ليدعوا إلى الاقتداء بها واتخاذها نبراسا لحياتهم يسيرون على ضوئها في ظلمات الحياة لاقتحام العقبات، وكم من عقبة تعترض الإنسان في حياته، فيحتاج إلى من يسير أمامه ليأخذ بيده في اجتيازها، فإن لم تكن الشخصية تاريخية كيف يدعى الناس إلى الاقتداء بها، وهي في الواقع مفترضة، والمناقب التي تذكر عنها من الأساطير والأوهام؟! نحن معشر المسلمين نؤمن برسالات الله كلّها وبجميع الرسل،   (1) القشيب: الجديد أو النظيف، يقال: ثوب قشيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ونعظمهم بلا استثناء، مع علمنا بأنّهم متفاضلون* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة: 253] ، وأنّ الدوام والبقاء لم يتح إلا لسيرة آخر المرسلين وخاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وسلم، أمّا غيره من الأنبياء فلم تختم النبوة بأحد منهم، ولم تكن سيرتهم خالدة، بل ولا محفوظة، وقد أرسلوا إلى أممهم خاصّة، وإلى زمن خاصّ بأجل مسمّى، فكانت حياتهم أسوة للذين أرسلوا إليهم في عهدهم، ثم نسيت تلك السيرة، وامّحت بكرّ الليالي ومرور الأيام، وقد جاء في رواية إسلامية أنّ الله أرسل من الأنبياء عشرين ألفا ومئة ألف. إنّه ما من بلاد، ولا أمّة قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم إلا جاء فيهم نبيّ، وإذا كان عدد الأنبياء على ما في تلك الرواية الإسلامية عشرين ألفا ومئة ألف؛ فكم نبيا منهم نعرف أسماءهم؛ هل نعرف من سيرتهم كثيرا أو قليلا؟! سيرة متبوعي الهنادك ليست تاريخيّة: إنّ من أقدم الأمم عهدا هنادك الهند كما يدّعون، وهم ليسوا بمسلمين، وفي تاريخهم مئات من العظماء والنابهين، فهل يؤيد التاريخ سيرة أحد منهم؟ إن التاريخ لا يستطيع ذلك، وكثير منهم لا يعرف الناس من شؤون حياتهم وحقائق أحوالهم إلا أسماءهم، وهم لا يحظون في كتب التاريخ بمكانة، وإنّما تعدّ سيرتهم من علم الأساطير، وخرافات الوثنية. ومن أحظاهم تاريخا، وأحسنهم سمعة رجال «مهابهارتا وراماينا» «1» وأبطالها، ومع ذلك فإنّ سيرة أولئك الرجال لا تعدّ من التاريخ، بل لا يعرف التاريخ زمانهم، فضلا عن أن تتعيّن في الزّمان قرونهم، أو تعرف من قرونهم سنوات حياتهم. لقد درس بعض علماء أوربا تاريخ الهند القديم درسا متواليا، وقاسوا له أقيسة، وذهبوا في ذلك شوطا بعيدا، فصاروا يعيّنون عهد عظاماء الهنادك   (1) «مها بهارتا: (Mahabharata) «و «راماينا (Ramayana) «الملحمتان الهنديتان الكبيرتان اللتان تقصّان وقائع بعض الأبطال من العظام الهنود القدامى، والحروب التي جرت فيما بينهم في العصور القديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وأبطالهم تعيينا، يرى علماء الهنادك وفضلاؤهم أنّه مجازفة، ورجم بالغيب، وأكثر المحققين من علماء أوربا لا يعدّون ذلك من التاريخ، بل لا يعترفون بأنّ هؤلاء قد وجدوا في العالم يوما ما، أو كان لما حيك حولهم من أساطير شبه وجود. وإن «زردشت» صاحب المجوسية لا يزال معظّما عند كثير من أتباعه، لكنّ التاريخ لم يكشف الحجاب عن وجوده الحقيقي بعد، فهو لا يزال سرّا غامضا من أسرار التاريخ، حتى شكّ بعض المؤرخين من الأمريكيين والأوربيين في نفس وجوده، أما المستشرقون الذين يعترفون بوجوده التاريخيّ؛ فإنّهم يثبتون بعض شؤون حياته بظنون متباينة، وأوهام متباعدة إثباتا لا يروي غلّة، ولا يشفي علّة، فكيف يستطيع أحد أن يطمئن إلى اتخاذ حياة زردشت أسوة لنفسه في الحياة مادام الشكّ وتضارب الآراء يحومان حوله زمانه، وبلده، ونسبه، وأسرته، وشريعته، ودعوته، وكتابه، ولغته، وعام وفاته، ومكان موته، والروايات عن ذلك أوهام، وأقيسة، وظنون لا تغني من الحقّ شيئا. ومع ذلك فإنّ المجوس ليس لهم سبيل إلى معرفة هذه الأمور المرتاب فيها إلا ما زعمه بعض المستشرقين والباحثين من أهل أمريكا وأوربا، وإنّ علم المجوس الأصلي بنبيهم وحياته وسيرته لا يعدو ما في «الشاهنامة» للفردوسي، ومن ذا الذي يعذرهم فيما يعتذرون من أن كتبهم الدّينيّة قد ذهبت بها حروبهم مع اليونانيين، وأنّ أعداءهم أبادوها. ونحن ليس من غرضنا إلا أن نثبت أنّها غير موجودة ولا معلومة، ولا يهمّنا كيفية انعدامها، وزوالها، وهذا يدل على أنّ حياة زردشت لم تنل حظّ الدّوام والبقاء حتى أنكر أمثال Kern «1» و «2» Dermeletes وشخصية زردشت، ووجوده التاريخي.   (1) هو فرديخ كيرن (Friedrich Kern) مستشرق ألماني، درس في جامعات أوربا، وسافر إلى القاهرة حيث أتقن اللغة العربية، مات سنة 1921 م، من آثاره: «آثار البوذية في الهند» وتحقيق «اختلاف الفقهاء» للطبري. (Dermetetes) (2) أحد كبار المستشرقين، وله مؤلفات حول تاريخ إيران وحول شخصية زردشت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 سيرة بوذا ليست تاريخيّة: ودين (بوذا) أقدم الأديان، وأوسعها نطاقا، وأكثرها انتشارا في سالف الأيام، وكان له سلطان على الهند، والصين، وآسيا الوسطى، وأفغانستان، وتركستان، ولا يزال إلى الآن في سيام، والصين، واليابان، وتبت، وإنما تقلص ظله وعفي أثره في الهند على أيدي البراهمة، وزال عن آسيا الوسطى بغلبة الإسلام، لكنّه ما برح موجودا في آسيا القصوى تحت ظلّ دولة قويّة ذات مدنيّة وثقافة ناضرتين، وهي اليابان التي لم تخضع بعد لأجنبيّ، ولم يفتح بلادها فاتح «1» . ولسائل أن يسأل: هل يقيم التاريخ وزنا لوجود بوذا؟ وهل يقدر مؤرخ على أن يعرض للناس صورة حقيقية لتاريخه؟ وهل يستطيع كاتب أن يصف ظروفه، وأحواله التي كان عليها في حياته وصفا كاملا لا يغادر شيئا من تحديد زمن ميلاده، ووطنه، وأصول دينه، كما دعا هو إليه، ومبادىء دعوته وأهدافها؟ الذي نعلمه أن ذلك كلّه محجوب عن علم الناس بظلمات كثيفة متراكمة، وكلّ ما أمكن للباحثين أنهم حاولوا تعيين زمان وجوده بحوادث راجوات بلاد (مكده) ولم يكن لهم سبيل سوى ذلك، وتسنّى لمؤرخ أن يقارن زمن هؤلاء الراجوات بملوك اليونان الذين كانت بينهم وبين راجوات عدّة روابط. الذي نعلمه عن كونفوشيوس أقلّ من الّذي نعلمه عن بوذا: وأما دين الصين فلم نعلم عنه إلا قليلا بطريق الحدس، ولم يصل العلم إلى شيء يقينيّ عنه. و (كونفوشيوس) «2» صاحب النّحلة المعروفة في الصين نعلم عنه أقل مما نعلم عن بوذا، مع أن المنتسبين لطريقته الدينية يبلغ عددهم مئات الملايين.   (1) ألقيت هذه المحاضرة لما كانت اليابان في أوج سيادتها قبل الحرب العالمية الثانية. (2) كونفوشيوس: (551- 479 ق. م) فيلسوف صيني، أسس مذهبا أدبيا يدعو إلى حياة عائلية واجتماعية مثالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 والأمم السّامية بعث فيها مئات من الرّسل، لكن التاريخ لم يحفظ لنا عنهم إلا أسماء بعضهم، ولا نعلم عن هؤلاء الرسل- من نوح، وإبراهيم، وهود، وصالح، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وزكريا، ويحيى عليهم السلام- إلا بعض سيرهم، وقليلا من صفحات حياتهم، والذي نعلمه من ذلك لا يكاد يروي غلّة أو يشفي علّة. وحياة العظماء لها نواح وأطراف، وتتخلّلها شعاب وعقبات في أطوار وأدوار. ومادام الذي غاب عن علمنا من ذلك أكثر بكثير من الذي عرفناه، فكيف يتسنّى لمن شاء أن يتّخذ من سيرتهم أسوة كاملة لحياته في جميع أطوارها، وهو لم يبلغه من سيرهم إلا قليل؟ شكوك العلماء المحقّقين في كثير من سير أنبياء بني إسرائيل: إن أسفار اليهود التي تضمنت سير هؤلاء الأنبياء قد خالج المحققين من العلماء ضروب من الشكّ في كلّ سفر من هذه الأسفار، على أننا إذا ضربنا صفحا عن هذه الشكوك نرى سير هؤلاء النبيين في تلك الأسفار ناقصة، مثال ذلك أحوال موسى المذكورة في أسفار التوراة، إنّ مؤلفي «دائرة المعارف البريطانية» أنفسهم توصلوا إلى تحقيق أنّ هذه الأسفار دونت، وجمعت بعد موسى عليه السلام بقرون كثيرة، زد على ذلك أنّ التوراة الموجودة فيها لكلّ حادثة روايتان مختلفتان، وحكايتان متباينتان، كما حقّق ذلك بعض علماء الألمان، وربما دفع بعض هذه الروايات بعضا فتعارضت أولاها بأخراها، ونحن نواجه الوصف المتعارض في سير الرجال والحوادث جميعا، ومن أراد أن يزداد علما بهذا الموضوع فليراجع مادة (بايبل) في الطبعة الأخيرة من دائرة المعارف البريطانية «1» ، وإذا كان الأمر كذلك فبأيّ منزلة من التاريخ ننزل حوادث العالم من آدم إلى موسى عليهما السلام؟ وكيف نقدّر قدر التاريخ الصّحيح الثابت في هذه الأمور.   Encyclopeadia of Britanica. (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الكلام على الأناجيل من ناحية التّاريخ: وأحوال عيسى عليه السلام وسيرته مكتوبة في الأناجيل، والأناجيل كما تعلمون- كثيرة، غير أنّ أكثرية المسيحيين اقتصرت على أربعة أناجيل. أما (إنجيل الطفولة) و (إنجيل برنابا) وغيرهما فلا يعتبرونهما، ومع ذلك فإنّ الأناجيل الأربعة التي اقتصروا عليها لم يلق أحد من الذين جمعوها سيدنا عيسى عليه السلام، وإذا تساءلنا: عمّن رووا هذه الأناجيل؟ نجد التاريخ يجهل ذلك كلّ الجهل. ويزداد المرء شكا إذا توصل إلى حقيقة أخرى، وهي أنّ الرجال الأربعة المنسوبة إليهم هذه الأناجيل الأربعة لا يمكن القطع يقينا بأنهم هم الذين جمعوها في الواقع. فإذا كان الأشخاص المنسوبة إليهم هذه الأناجيل لا يطمئن التاريخ إلى صدورها عنهم فكيف يطمئن إلى صحّتها؟ وزاد الطين بلّة أنّنا لا نعلم يقينا اللغة التي كتبت بها هذه الأناجيل في الأصل، وفي أيّ زمان كتبت. فقد اختلف مفسرو الأناجيل اختلافا شديدا في تعيين زمان جمعها، وتدوينها، فمن قائل: إنها كتبت سنة 60 للميلاد، ومن قائل: إنها جمعت بعد ذلك التاريخ بكثير. وذهب بعض نقدة العلماء الأمريكيين مذهبا بعيدا مستغربا في أمر المسيح، وولادته، ووفاته، ودين التثليث، فأنكر ذلك الناقد الأمريكي وجود المسيح عليه السلام قائلا: إن هذا كلّه من الأساطير، وإنّ ما ذكروه عنه إنما هو بقية من بقايا وثنية الرّوم واليونان؛ إذ أنّ تلك الأمم كانت تدين بمثل هذه الأفكار والعقائد في آلهتهم وأبطالهم القدماء. وقد استمرّ الجدال أشهرا حول وجود عيسى عليه السلام في مجلّة (روبن كورت) التي تطبع في شيكاغو «1» ، ودار البحث عمّا إذا كان للمسيح وجود تاريخيّ أم هو مما ابتدعته أوهام القدماء من الأمم السالفة، واختلقته اختلاقا. أليس كلّ هذا مما يوهن الأمر فيما يتعلّق بعض سيرة المسيح عليه السلام، وموقف التاريخ من ذلك؟ ونعود   (1) شيكاغو (Chicago) مدينة أميركية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فنقول: كيف يمكن اتخاذ الأسوة الكاملة التي تطمئن لها القلوب إن لم تكن جميع نواحي الحياة في الشخصيّة المقتدى بها معلومة، وليس فيها ما يجهله الناس، وما هو مكتوم عنهم وراء حجب التاريخ. إنّ المقتدى به والذي يتّخذ الناس من حياته أسوة لا بدّ أن تكون حياته كلّها واضحة صافية كالمرآة، ليلها كنهارها، لتبين للناس المثل العليا التي يحتذونها في حياتهم بجميع أطوارها ومناحيها. ليس في أصحاب الدّعوات من يمكن التأسّي به إلا محمد صلّى الله عليه وسلم: إذا نظرنا إلى حياة أصحاب النّحل، ودعاة الملل، وهداة البشر من الأنبياء والرسل نظر الناقد البصير، وتأمّلنا هداهم، وسيرهم؛ لم نجد فيمن تقدّم ذكرهم من يمكن أن يتّخذ من حياته مثلا أعلى للحياة الإنسانية إلا محمدا صلّى الله عليه وسلم، وهديه، وسيرته، فهو الذي أرسله الله ليكون فيه أسوة لبني آدم في جميع نواحي حياتهم، وأطوارها، وأحوالها. وقد سبق لنا القول بأنّه ليس في مئات الألوف من المصلحين والنبيين من يشهد لهم التاريخ إلا ثلاثة أو أربعة، ومع ذلك فإنّ التاريخ لا يعرف من تفاصيل أحوالهم، وشؤون حياتهم، ودخائل سيرتهم إلا نزرا يسيرا، وغير كامل، فكيف يتسنّى للإنسان أن يتّخذ من ذلك أسوة لحياته ذات النّواحي المختلفة؟ أليس من المستغرب أنّ بوذا الذي يبلغ عدد المنتسبين إليه ربع سكان المعمورة، ولا يحفظ التاريخ من سيرته إلا عدّة أقاصيص وحكايات، لو أننا نقدناها بمقاييس التاريخ لنتّخذ لأنفسنا قدوة من حياته وسيرته؛ لخرجنا من ذلك خاسرين. إنّ إحدى تلك الأقاصيص تنبئنا بأنّه ولد في زمان غير معلوم في واد من أودية (نيبال) «1» في بيت «راجه» «2» ، فكان ذكيّا، وذا طبيعة متوثبة، وله نفس متدبرة، وقلب حسّاس، فلما بلغ أشدّه، وتزوّج، وصار أبا؛ اتفق أن رأى جماعة من الفقراء والبؤساء، فأثّر فيه منظرهم المؤلم، وأثار في نفسه كامن الرّحمة والشفقة، فخرج من   (1) نيبال (Nepal) دولة في وسط جنوب آسيا بين الصين والهند. (2) راجه، أي: ملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وطنه هائما على وجهه حتى بلغ (بنارس) «1» ثم (كيا) «2» و (بايلي بتر) «3» ثم (راجكير) «4» وتاه فيما بين ذلك من جبال وغابات ومدن وقرى، ولم يزل هائما على وجهه متجولا بين هذه البقاع النائية حتى بلغ في تجواله إلى (كيا) فتجلت له الحقيقة المحجوبة، وهو تحت شجرة من أشجار «بيبل» «5» فرأى نور الحقّ ساطعا، وادّعى أنه أدرك سرّ الحقيقة، فخرج يدعو الناس إلى دينه بين (بنارس) و (بهار) ثم مضى لسبيله. هذه جملة ما نعلم من سيرة «بوذا» وحياته. وزردشت يعدّ واحدا من الذين أسسوا بنيان الدّين وبدؤوا بالدّعوة إليه، وقد أسلفنا أنّ حياته مجهولة كذلك، ولا يتتبع أثرها إلا أهل القياس والاستنتاج من علماء التاريخ. وأنا لا أقول شيئا من عند نفسي في سيرة زردشت، بل أعرض عليكم نبذة مما كتب عنه في «دائرة المعارف البريطانية للقرن العشرين» وهي تعدّ من أوثق المصادر في التاريخ: «إن زردشت الذي عرفناه من أبيات شعرية في (كاثا) «6» غير زردشت الذي نراه في (وستا) الجديدة، فالموصوف في المصدر الأول مباين للمذكور في المصدر الثاني ومضادّ له. وعلى كل فإن الأسطورة التي تشتمل على الحياة المستغربة (وقد نقل الكاتب شؤونا في سيرته من كاثا) لا تدلّنا على حياة زردشت دلالة واضحة، ولا تهديناا السبيل إلى معرفته معرفة تاريخية، بسبب ما نجد من غموض لا ندرك معناه. وأخذ الكاتب يسرد المصنفات التي وضعت في هذا العصر عن حياة   (1) بنارس (Banares) إحدى مدن الهند تقع على نهر غنغا في ولاية أترابرديش، وهي مقدّسة عند الهندوس. (2) كيا (Gaya) : مدينة هندية قديمة تقع في ولاية «بهار» . (3) بايلي بتر: مدينة هندية قديمة تسمّى اليوم ب «بتنه» وهي عاصمة ولاية «بهار» . (4) راجكير: مدينة هندية قديمة تسمّى اليوم ب «بهار» . (5) بيبل: نوع من الأشجار ذات أوراق كبيرة، تكثر في الهند. (6) الأفستا: هو الأسفار المقدسة عند الزرادشتية، كان مفقودا، عثر عالم الآثار الفرنسي دوبرن على قسم منه، وقام بنشره وترجمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 زردشت، وقال: إنّ مولده لم يعيّن بعد، والشهادات على ذلك يناقض بعضها بعضا. والعهد الذي كان فيه زردشت مجهول كذلك، فالمؤرخون من اليونان اختلفوا فيه اختلافا شديدا، كما اختلف علماء عصرنا في تعيين عهده، وانتهى كاتب ترجمته في دائرة المعارف البريطانية إلى القول بأنّنا لا نعلم زمن زردشت البتّة، ونجهله جهلا تامّا. وخلاصة ما نعلمه عن حياة زردشت أنّه ولد في مقاطعة أذربيجان، ونشر دعوته في بلخ وأطرافها، وأنّ الملك هشتاسب دخل في دينه، ثم ظهرت على يده معجزات، وقد تزوّج، وولد له أولاد، ثمّ توفي. فهل يظنّ أحد أنّ هذه المعلومات عن حياة رجل صاحب دعوة تكفي لأن يتّخذ من حياته أسوة، وأن يقتدى به في جميع مراحل الحياة، فيكون للناس سراجا يستضيئون بنوره في تصرّفاتهم، وسلوكهم؟ ما يمكن معرفته من أسفار التوراة عن موسى: ومن أكثر الأنبياء ذكرا وأوضحهم حياة موسى عليه السلام، ترى ماذا تقول أسفار التوراة الخمسة عن حياته؟ ذلك ما نستعرضه بلا أيّ نقد لما فيه من روايات ضعيفة، وغير متعرضين الآن لذكر صحتها، أو سقمها، بل نوردها مفترضين صحّتها: لا نجد في هذه الأسفار الخمسة من التوراة عن حياة موسى إلا أنّه بعد ولادته تربّى في قصر فرعون، ولما بلغ مبلغ الرجال نصر قومه بني إسرائيل على ظلم فرعون مرّة أو مرّتين، ثم هرب من مصر إلى (مدين) من بلاد العرب، وتزوج فيها، وأقام هناك برهة من الزمن، ثم رجع منها إلى مصر، وبينما هو في طريقه إليها أوحي إليه من ربّه، وبعث إلى قومه نبيّا وداعيا، ثم لقي فرعون، وأراه آيات بيّنات، واستأذنه في الخروج ببني إسرائيل من مصر، فلم يأذن له بذلك، فخرج بهم على حين غفلة من فرعون، ووجد في البحر طريقا بإذن الله، وتبعه فرعون فأدركه الغرق. أما موسى فقصد بقومه إلا بلاد العرب، ودخل بهم أرض الشام، وجاهد من كانوا على الشّرك من أهلها، ومازال يقاتل ويجاهد إلى أن هرم، وبلغ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 العمر عتيّا، وأرعشه الكبر، فجاءه الموت وهو على ربوة، وقد اختتم سفر التثنية بهذه الفقرات: «إنّ عبد الله موسى مات بإذن الله في أرض موآب، ودفنه الله في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم. وكان موسى ابن عشرين ومئة سنة حين جاءه الموت ... ولم يقم بعد نبيّ في إسرائيل مثل موسى» «1» . هذه الفقرات نقلناها من سفر التثنية وهو السّفر الخامس من التوراة الموحى إلى موسى عليه السلام، ولا يخفى على ناظر هذا السفر أنّ الكلمات التي نقلناها لم ينطق بها موسى عليه السلام، وهذا يدلّ على أنّ هذا السفر كلّه، أو جزءه الأخير على الأقل، ليس لموسى، وأنّ الدّنيا تجهل كاتب هذه السيرة لموسى. ومما يلفت نظر القارئ قول القائل في هذا السفر «ولم يعرف إنسان قبره (أي قبر موسى عليه السلام) إلى اليوم» وقوله «لم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى» . إنّ هاتين الفقرتين تدلان على أنّ هذا الجزء الأخير من سيرة موسى عليه السلام قد أضيفت إلى كتاب حياته بعد أيام طويلة ذهبت فيها يد الدهر باثار هذا المزار العظيم والمشهد الكبير حتى عمي محلّه عن الأجيال التالية، ونسوه، بل أضيف هذا الجزء من سيرة موسى إلى سفر التثنية بعد زمان طويل كان يرجى فيه أن يقوم في إسرائيل نبيّ يسدّ فراغ موسى، فنوّه كاتب السفر بأنه لم يقم بعد مثله. إنّ موسى عليه السلام عمّر طويلا، وقد نسأ الله من أجله حتى عاش عشرين ومئة سنة، فما الذي نعرفه عن حياته الطويلة، وبأي الأعمال شغل فراغ حياته المباركة، وما هي النواحي التي نعلمها واضحة مفصّلة من سيرته الحافلة بكثير ممّا كان ينبغي أن يعلم؛ لتحسن به الأسوة؟ إننا لا نعلم إلا مولده، وشبابه، وهجرته، وزواجه، وبعثته، ثم قتاله المشركين إلى   (1) سفر التثنية (34: 5- 10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أن لقيناه مرّة أخرى وهو يرتعش من الكبر، وقد أدركه الهرم، وبلغ من العمر عشرين ومئة سنة. وهل يغنينا ذكر ما يتعلق بحياته الخاصّة مما يمرّ بكلّ إنسان في حياته وبيئته العادية؟ إنّ الأمور التي كان يحتاج البشر إلى معرفتها من حياة موسى الاجتماعية هي: الأخلاق، والعادات، والهدي، وكلّ ذلك لا نجده في سيرته. أما ذكر أسماء الرجال، وأنسابهم، وأماكنهم، وبلادهم، وعددهم، فممّا لا يهمّنا علمه في مقام القدوة والأسوة والهداية، مع أنه هو الذي نراه مفصلا في التوراة. وكذلك نرى فيها شيئا كثيرا من القوانين، والمبادئ، والأصول، لكن هذه الأمور والتي سبقتها مهما تكن أهميتها عند علماء الجغرافيا، والأنساب، والحقوق فإنّها لا تعنينا نحن من جهة الأسوة والقدوة في الحياة، ولا تسدّ الخلل الواقع في سيرة موسى عليه السلام من هذه النّاحية؛ التي لا يكمل بيانها إلّا بذكر أخلاقه، وشؤون حياته، وأحواله في معاشرته، وهو ما لا بدّ منه ليتخذه البشر مثالا يعمل به. شؤون حياة المسيح أخفى من غيره وأغمض: ومن أقرب الأنبياء عهدا بالإسلام عيسى عليه السلام الذي يزيد عدد المنتسبين إليه بحسب إحصاآت الأوربيين على عدد المنتسبين إلى الدّيانات الآخرى، وإنّ المرء ليستغرب حين يعلم أنّ شؤون حياته وأحوال معيشته أخفى من غيره، وأغمض، وقد أسدل الزمان عليها حجابا أكثف مما نراه في حياة العظماء الآخرين من الرسل الذين يعدّون من أصحاب الأديان المشهورة. وإنّ أوربا المسيحية قد حملها حافز البحث والكشف على أن تستثير بطون الصّحارى، وقلل الجبال، وأطراف الصّخور والأطلال الدارسة، ومظانّ الآثار، ومجالات الحوادث التي مرّت عليها الأحقاب الطويلة، فكتب المستشرقون التاريخ القديم لبابل، وأشور، والعرب، والشام، ومصر، وإفريقية، والهند، وتركستان، وأخذوا يلائمون بين الحوادث القديمة المجهولة الزّمن، ويعرضونها على الناس واضحة، نقيّة، منسّقة، مرتبطا بعضها ببعض، وطفقوا يعثرون على الصّفحات المفقودة من كتاب التاريخ القديم للبشر، إلا أنهم قد أعياهم البحث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 والفحص، فلم يجدوا الصفحات المفقودة عن حياة نبيهم. وقد استفرغ العلامة رينان «1» جهده، ولقي من العناء والنصب مبلغا عظيما ليقف على حياة عيسى كاملة تامّة، ومع ذلك فإنّ شؤون عيسى عليه السلام وأحواله لا تزال سرا مكنونا في ضمير الزّمن لم يبح به لسانه بعد. إنّ عيسى عليه السلام عاش في هذه الدنيا ثلاثا وثلاثين سنة كما يروي الإنجيل، والأناجيل الموجودة في الأيدي- على ما في رواياتها من ضعف ولبس- مقصورة على ذكر أحواله لمدة ثلاث سنوات من أواخر حياته وحسب، فنحن لا نعلم عن حياته علم اليقين إلا أنّه ولد، وجيء به إلى مصر، وأراه الله آية أو آيتين في صباه، ثم غاب عن الناس، وظهر لهم وهو في الثلاثين من عمره، فنراه قائما يعظ الملّاحين، وصيادي السّمك على الشواطىء، وفي بعض الرّبوات، فصحبه جماعة من حوارييه، وقد جادل اليهود، وناظرهم في بعض الأحيان، إلى أن حمل اليهود الحكام الروميين على القبض عليه، ورفع أمره إلى محكمة يرأسها قاض من الروم، فقضى عليه بالصّلب، وبعد ثلاثة أيام وجد قبره خاليا من جسده عليه السلام. أين قضى عيسى عليه السلام الثلاثين أو الخمس والعشرين سنة على الأقل من حياته؟ وفيم قضاها؟ وبأيّ الأعمال شغل هذا الفراغ الواسع من عمره؟ إنّ الدّنيا لا تعلم عن ذلك شيئا ولن تعلم. والسنوات الثلاث الأخيرة ماذا نجد فيها؟ آيات ومعجزات معدودات، وبعض العظات، ثم قيل: إنّه صلب، فانطوت صحيفة حياته. الحياة المثالية هي التي يبدأ صاحب دعوتها بنفسه فيعمل بما يدعو إليه: من الشروط المحتّمة التي لا بدّ منها لكلّ من يرجّى أن تكون سيرته وهدايته أسوة للبشر: الكمال، والتّمام، والجمع. والمراد بالكمال، والتمام، والجمع: أنّ الطوائف الإنسانية المتفرقة والطبقات البشرية   (1) هو أرنست رينان (Aurnest Renan) مستشرق وفيلسوف فرنسي، تضلّع من اللغات الشرقية، أخذ بمذهب حرية الفكر، فصنف كتابه «حياة يسوع» . عني بالعقائد الإسلامية، مات سنة 1892 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 المختلفة تحتاج إلى أمثلة كثيرة ومتنوعة تتخذها منهاجا لحياتها الاجتماعية. وكذلك الأفراد في المجتمع البشريّ هم في حاجة إلى مثل عليا يقتدون بها في مناحي حياتهم البيتية؛ لتتوثق الروابط بين الأفراد، وتحسن العلاقات بين شتّى الطوائف في داخل الأسرة وخارجها. لذلك ينبغي أن تكون تلك المثل كلّها واضحة في حياة الإنسان العظيم الذي يتّخذ مثالا في الحياة. وإذا صحّت هذه النظرة- وهي صحيحة- لم نجد في سالف الأيام قدوة واضح الحياة غير محمّد خاتم النبيين عليه وعليهم السّلام. والدّين هو طاعة المخلوق للخالق، وبالدّين يتعلّم المرء ما فرضه الخالق على خلقه من فرائض، وما أوجبه من واجبات، فيؤمن بها، ويحقّقها بالعمل. وإذا أردنا أن نعبّر عن الدّين بعبارة أخرى قلنا: هو القيام بحقوق الله، وحقوق خلقه، إذا فيجب على كلّ متّبع لدين أن يتعرّف هذه الحقوق، والفرائض، والواجبات من سيرة نبيه، والأحوال التي كان عليها صاحب ملّته، ثم يقتدي بها، ويفرغ حياته في قالبها. وإذا نظرنا إلى سير الأنبياء هذه النظرة، وحاولنا معرفة حقوق الله، وحقوق خلقه كاملة تامّة من سيرتهم؛ لم نجد ذلك إلا في سيرة محمّد صلّى الله عليه وسلم المبعوث إلى الناس كافّة. والدّيانات إذا تأملناها يبدو لنا أنها على نوعين: نوع لا نجد فيه ذكر الله تعالى البتة، ومن هذا النوع دين «بوذا» ودين الصين، فليس فيهما ذكر الله تعالى، ولا لصفاته، وليس فيهما فرائض وواجبات على الإنسان، ومن باب أولى ليس فيهما ذكر للحبّ في الله، وتوحيده، والإخلاص له، فالذي يبحث فيهما عن هذه الأمور لا يخرج من بحثه بشيء. ونوع آخر ورد فيه ذكر الله عزّ وجل، وسلّموا فيه بوجوده على وجه ما، وآمنوا به إيمانا بالجملة، لكنّك لا ترى في سير أنبيائه، أو في تعاليم دعاته ما يعرف منه الإنسان كيف يعتقد بربه، وكيف يؤمن به، وبأيّ الأوصاف يصفه، وكيف كان هؤلاء يعتقدون بالله، وإلى أيّ حدّ تأثّروا بتلك العقائد في أعمالهم وأخلاقهم، وفي أيّ صورة من صور الأعمال تجلّت عقائدهم، وبرزت للوجود. كلّ هذا لا نرى له أثرا في سير هؤلاء. اقرأ التوراة، واستقص النظر في فصولها، وفقراتها، وتدبّر ذلك ما استطعت فإنك لن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 تجد فيها إلا توحيد الله، وشرائط القربان، وشيئا من الأحكام، أما إذا أردت أن تعرف من الأسفار الخمسة التي تتألف منها التوراة شيئا عمّا كان في قلب موسى عليه السلام من الحبّ لله، والشّوق للقائه، وكيف كان يطيع الله ويعبده، وكيف كان توكّله على الله، ويقينه به، وكم أثرت الصفات الإلهية على قلبه، فإنّك لا تجد فيها شيئا من ذلك. ولو كانت الشرعية الموسوية وأحكامها عامّة للبشر، دائمة بدوام الدّهر؛ لكان واجبا على أتباع موسى عليه السلام أن يقيّدوها بالحفظ والكتابة، وأن يصونوها من عبث الدّهر بها، لكن الله عز وجل لمّا لم يرد أن تكون شريعته عامّة خالدة لم يتح لها هذه العناية في الحفظ والتّخليد. والإنجيل مرآة صافية، تجلّت فيها حياة عيسى عليه السلام، لكننا نجد فيه أن الله (تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا) هو أبو عيسى عليه السلام. أما كيف كانت رابطة الأبوّة بين هذا الولد المقدّس ووالده، فإن الولد يخبرنا بأن أباه كان يحبه حبّا جمّا، لكنّنا لم نعلم إلى أيّ حدّ بلغ حبّ الولد لوالده، وكيف كانت طاعة الابن لأبيه، وهل كان يركع له، ويسجد في النّهار، أو في الليل، وهل سأله شيئا غير خبز يومه، وهل دعا أباه بدعوة في ليلة من الليالي قبل الليلة التي اعتقل في نهارها؟ إنّنا لا نعلم هذا ولا ذاك. ولو أنّ سيرة سيدنا عيسى عليه السلام المذكورة في الإنجيل تحتوي على بيان العلاقة بين المخلوق وخالقه، وتهدي المرء إلى ذلك هداية تامّة؛ لما احتاج أول ملوك المسيحية أن يعقد مجلسا شهده ثلاثمئة حبر من أحبار الكنيسة بعد ثلاثة قرون ونصف قرن من المسيح، ليبتوا الحكم في أمر المسيحية. ومع ذلك بقي أمر سيدنا عيسى عليه السلام سرّا من أسرار الزّمان، وسيبقى سرّا في ضمير الزمان، لا يعرب عنه لسان البحث. هذا فيما يتعلّق بحقوق الله، أما حقوق الخلق؛ فلا تراها مفصّلة أحكامها، محكمة أصولها وأركانها في سيرة أحد من الأنبياء، وتعاليمهم غير محمد صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أما «بوذا» «1» فإنّه منذ هجر أهله وعياله إلى الصحارى والغابات لم يرجع قطّ إلى خليلته التي كانت حبيبة إلى قلبه، ولم ير ولده الوحيد مرّة أخرى، وترك خلانه، وأحباءه، فخفّف عن كاهله أعباء الحكم، وارتضى الموت آخر وسيلة له إلى النجاة، فكان الأجل المحتوم الغاية القصوى للحياة البشرية عنده. فمن ذا الذي يرضى بأن يتّخذ من حياة «بوذا» أسوة في هذه الدّنيا التي لا بقاء لها، ولا عمران إلا بالحياة الاجتماعية، والروابط العمرانية، والأواصر الإنسانية، ولا بدّ فيها من راع يرعى رعيته، وصديق يألف صديقه، ووالد يشفق على ولده، وأمّ تحنّ على فلذة كبدها. وهل في حياة «بوذا» شيء من ذلك يكون به أسوة للجميع: من الرهبان الذين انقطعوا للآخرة، إلى الآباء ذوي العيال وأصحاب الضياع والمزارع والمصانع والأموال؟ كلا ثمّ كلا، لم تكن سيرة «بوذا» قطّ أسوة للهناء العائلي، ولا لأهل الصناعات والمتاجر، ولو اتخذ أتباع «بوذا» قدوة لهم من حياة «بوذا» لما قامت لهم هذه الدّول في «الصّين» و «اليابان» و «سيام» و «تبت» و «برما» ، ولما عمرت للتجارة في بلادهم سوق، ولا دبّت الحياة في صناعاتهم ومصانعهم. ولو اختار أهل تلك البلاد سيرة متبوعهم سيرة لهم، وساروا عليها؛ لأقفرت الأرض العامرة، وتحوّلت إلى صحارى قاحلة، ولأصبحت المدن خرابا، أو أرضا جرداء. وأما موسى عليه السلام فلا نعلم عن حياته- حسب الأسفار الخمسة من التوراة- إلا قتاله وقيادته في الحرب وبسالته فيها. أما النّواحي الآخرى من   (1) هو المفكر الهندي «جوتام بوذا (Gautam Buddah) «يرجع تاريخ ولادته حسب تحديد المؤرخ الغربي أدوارد توماس إلى 536 قبل الميلاد، ووفاته 544 قبل الميلاد، ومن المعلوم أن «بوذا» لم يضع كتابا خاصا، أو دستورا جامعا واضح المعالم يحتوي على تعاليم دعوته، ومبادىء فلسفته، ولكنه نشر فلسفته بطريق خطبه أمام أتباعه وتلاميذته، فقام عدد منهم بتأليف كتب تضم القواعد والمبادىء الدينية التي بشّر بها «بوذا» في مواعظه وخطبه، والحكم والكلمات السّديدة التي لقنها في مختلف المناسبات، وتجلّت منها بوضوح الأهداف المنشودة من هذه الفلسفة ومبادئها الجوهرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 حياته، كالحقوق في أمور الدّنيا، والفرائض، والواجبات؛ فلا نتبيّنها بوضوح وجلاء، لذلك يتعذّر على المرء أن يتّخذ منها أسوة في أعماله. ومن يحاول أن يقف على ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوج وزوجه، والولد ووالده، وشروط الصداقة بين الصديقين، وأساليب الهدنة بين الفريقين المتقاتلين، وكيف ينفق المرء أمواله، وفيم ينفقها؟ وكيف يعامل اليتامى والفقراء والمساكين؟ فإنّ من يحاول معرفة ذلك من سيرة موسى عليه السلام فسيرى: أنّ صحيفة حياته قد خلت من ذكر هذه الأمور، مع أنّ موسى كان له زوج، وإخوة، وأقارب، ولا ريب أنّ موسى كان يعاشرهم أحسن معاشرة، فكان خير زوج لأهله، وأفضل أخ لإخوته، وأوفى صديق لأصدقائه، والأسوة به في ذلك كلّه مرغوب فيها، محمود أثرها، لكن كتبهم التي استعرضت سيرته خالية من ذلك. والتاريخ لم يطرق سمعه شيء عن هذه الأنباء من حياة موسى؛ ليتسنى للناس أن يتّخذوا منها أسوة في الحياة. وكان لعيسى عليه السلام أمّ، والإنجيل يخبرنا بأنّه كان له أخ وأخت، بل كان له والد أيضا كما يكون لعامة الأبناء آباء وأمهات، لكن قصة حياته لا تدلّنا على كيفية معاملته لذويه، وكيف كان يعاشرهم، مع أنّ الدّنيا معمورة بالإخوة، والخلّان، وذوي القربى، وستبقى حافلة بهم، وقد اعتنت الدّيانات بحقوق هؤلاء وأولئك، وفرضت كثيرا من فرائضها المتعلقة بحقوق الأسرة والعائلة، وحثّت على القيام بتلك الفرائض. إنّ عيسى عليه السلام عاش عيشة المغلوبين المحكومين، فلا غرو إذا لم نجد في حياته مثالا من واجبات الحاكم الغالب. ولم يكن له عليه السلام زوجة، لذلك لا نرى في حياته مثالا لما ينبغي أن يتبادله الزّوج والزوجة من واجبات وحقوق، خصوصا وأنّ الذي بين الزوجين من الصلة أوثق، وأشدّ من الذي بين الأولاد وآبائهم كما جاء في سفر التكوين من التوراة «1» : أنّ هذه الدنيا معظم سكانها يعيش عيشة الزواج والمناكحة، فليس له في حياة   (1) لعلّ العلّامة المؤلف يشير إلى ما جاء في سفر التكوين: (1: 27 و 8: 15- 19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 عيسى عليه السلام مثال. وأنّ العالم الذي يحتاج سكانه في حياتهم إلى أسوة تامّة ليعلموا كيف تكون الرابطة بين الزوج وزوجه، وبين الصديق وأصدقائه، والأب وبنيه، والمقاتل وأعدائه، والهدنة بين المتحاربين، وكيف تنعقد، لا يستطيع أن يجد له أسوة في حياة من لا يجد لهذه الأمور ذكرا في سيرته. ولو أنّ الناس في أيامنا هذه آثروا التأسي بحياة عيسى عليه السلام، وأرادوا أن يعيشوا كما عاش؛ لخربت الدّنيا واستحال عمرانها خرابا يبابا، ولأصبحت القرى مقابر تتردّد في أنحائها أصوات البوم. أما الحضارة، وتقدّمها فسرعان ما يعتريهما الزوال، ويمحى اسمهما، وأوربا المسيحية لن تبقى بعد ذلك يوما واحدا. إنّ الحياة المثالية لن تكون أسوة الناس ما لم تكن أعمال صاحبها- الذي يؤسس دينا، ويدعو الناس إليه- مثالا وأنموذجا لمن يدعو إليه، ولا يتطرّق الشكّ إلى الناس بأنّ ما يدعو إليه هو مما يعمل به. ومن السّهل أن يدعو الدّاعي إلى فلسفة تحظى بإعجاب الناس، وإلى فكرة يستحسنونها، أو نظرية جديدة في الحياة تروق لهم. وكلّ ذلك مما يقدر عليه كثير من الناس متى شاؤوا وأين شاؤوا. أما الذي لا يستطاع دائما فهو عمل الدعاة بما يدعون إليه، وليست الأفكار الصّحيحة، والنّظريات الشائقة، والأقوال الحسنة هي التي تجعل الإنسان إنسانا كاملا، وتجعل من حياته أسوة للناس، ومثلا أعلى في الحياة، بل أعمال الدّاعي وأخلاقه هي التي تجعله كذلك. ولولا ذلك لما كان هناك فرق بين الخير والشر، ولما تميّز المصلح عن غيره. ولا متلأت الدّنيا بالثرثارين والمتفيهقين الذين يقولون ما لا يفعلون. وهنا ينبغي لنا توجيه السؤال إلى العالم أجمع: من ذا الذي تعدّ حياته أسوة للبشر، وفيها المثل الأعلى للبشر، من بين مئات الألوف من الرسل والأنبياء، وعظاماء المصلحين ممّن شرعوا للإنسانية دياناتها، وسنّوا السنن للناس؟ «تحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك. أحبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أعداءك. من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا. من سخّرك ميلا فاذهب معه ميلين. من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك؛ فاترك له الرداء أيضا. اذهب وبع أملاكك، وأعط الفقراء. واعف عن أخيك سبعين مرّة. يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السموات» . إنّ هذا وأمثاله لا شكّ أنّه من الموعظة الحسنة المحببة إلى النفوس، لكنّها لا تعدّ سيرة ما لم يقترن بها العمل. نعم إنّها قول ليّن وحديث لذيذ، ولكنّ الذي لا يغلب عدوه كيف يتسنّى له العفو، ومن لا يملك، ومن لا يكون له مال كيف يتصدّق على الفقراء والمساكين واليتامى، وكيف يقضي لهم حاجاتهم؟ ومن لا زوج له، ولا ولد، ولا أهل كيف تكون حياته أسوة للأزواج، وذوي البنين، والمتأهلين، وهم هم الناس الذين تعمر الدنيا بهم؟ ومن لم يتفق له أن يصفح عن أحد في حياته كيف يقتدي به من كان شديد الغضب، سريع البادرة. الحسنات قسمان: قسم سلبي، وآخر إيجابيّ. وأنت إذا اعتزلت الدّنيا في غار بسفح جبل تعبد فيه ربّك، ولم تبرحه طوال حياتك، تصرف فيه أوقاتك بالتبتّل إلى الله، فإنّ أحسن ما يقال في مدحك: إنك اتقيت الشرّ، ولم تقترف سيئة تذمّ عليها، وذلك من الحسنات، إلا أنها حسنات سلبية. ولكن ماذا فعلت من الناحية الإيجابية من خير: هل حملت كلّا، أو نصرت مظلوما، أو كسبت معدما، أو أطعمت جائعا، أو كسوت عاريا، أو ساعدت فقيرا، أو ذدت عن ضعيف، أو هديت ضالّا؟ إن الأخلاق الحسنة ومكارمها من العفو، والسماحة، والقرى، وبذل المال، والصّدق بالحق، والحميّة في قمع الباطل، والجهاد في أداء الواجب لا تعدّ مكارم أخلاق لأجل ترك الدّنيا، والتبتّل في عزلة عن المجتمع، وليست الحسنات من الأمور السلبية فحسب، بل معظم الحسنات ترجع إلى العمل الإيجابيّ الذي يقوم به المرء، ولا يكفي فيها ترك المعاصي، واجتناب السّوء. وهذا كلّه يدلّ على أنّ حياة العظيم لا تكون فيها الأسوة للناس ما لم تصدر عن صاحبها الأعمال الإيجابية المحمودة، والأخلاق النّافعة الكريمة ممّا يوافق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الحياة المثالية، (Idial Life) وأيّ عمل يعمله المتأسّي إن لم ير لمن يأتسي به أعمالا إيجابية تتمّ بها الحياة الصالحة في شتى أطوارها. إنّ الإنسان ينشد مثالا يقتدي به في كلّ عمل يقدم عليه في غناه وفقره، وفي سلمه وحربه، ويتحرّى السبيل الذي يسلكه إذا تزوّج، أو بقي عازبا، ويريد أنموذجا عاليا يأتمّ به إذا عبد ربّه، أو عاشر الناس، ويحاول أن يلمّ بالقوانين التي ينبغي العمل بها بالنسبة إلى الرّاعي والرعية، والحكام والمحكومين. جميع هذه الأمور ينبغي للمرء أن يتّخذ لنفسه القدوة فيها؛ لأنّ الأمم قد التوت عليها هذه المسألة، فأهمّها التماس الطريق الموصل إلى حلّ هذه المعضلات، وتذليل هذه المصاعب. ومعظم الشعوب تشعر بالحاجة الشديدة إلى المثل العليا في ذلك؛ لتخفّف عن الإنسانية آلامها، وتأسو جراحها: وهي متلهفة على مثال لذلك من الأعمال، لا على مثال عليه من الأقوال. ولست بمبالغ إذا قلت: إنّ التاريخ أصدق شاهد على أنّه ليس في الدّنيا أحد يصحّ أن تكون للإنسانية أسوة من سيرته وحياته غير سيرة محمّد صلّى الله عليه وسلم، وحياته. اشتراط أن تكون سيرة المتبوع تاريخية وجامعة وكاملة وعمليّة: وليكن على ذكر منكم ما تحدثت به إليكم من قبل، وهو أنّ حياة العظيم التي يجدر بالناس أن يتّخذوا منها قدوة لهم في الحياة. ينبغي أن تتوفر فيها أربع خصال: 1- أن تكون «تاريخيّة» ، أي: أنّ التاريخ الصحيح الممحص يصدّقها، ويشهد لها. 2- أن تكون «جامعة» أي: محيطة بأطوار الحياة، ومناحيها، وجميع شؤونها. 3- أن تكون «كاملة» أي: أن تكون متسلسلة، لا تنقص شيئا من حلقات الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 4- أن تكون «عملية» أي: أن تكون الدّعوة إلى المبادىء، والفضائل، والواجبات بعمل الدّاعي وأخلاقه، وأن يكون كلّ ما دعا إليه بلسانه قد حقّقه بسيرته، وعمل به في حياته الشخصية، والعائلية، والاجتماعية، فأصبحت أعماله مثلا عليا للناس يأتسون بها. وأنا لا أقول: إنّ الأنبياء صفرت صحائف حياتهم من هذه الميزة مدّة وجودهم في الحياة الدّنيا، بل أقول: إن سيرتهم التي توجد الآن بين أيدي الناس لا تنصّ على هذه الأمور، ويخيّل إليّ أنّ الحكمة الإلهية في ذلك ترجع إلى أن أولئك الأنبياء إنما بعثوا لأزمانهم، وشعوبهم، فكان الموفقون للخير من شعوبهم في أزمانهم يرون سيرتهم فيأتسون بها، ولم يكن هنالك حاجة إلى أن تبقى سيرتهم معلومة للأجيال التالية بعدهم؛ لأنّ النبوّات ستختم برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم الكاملة إلى الناس كافّة في كلّ زمان ومكان، فمسّت الحاجة إلى أن تكون سيرته صلّى الله عليه وسلم معلومة على حقيقتها في كلّ زمان ومكان إلى يوم القيامة؛ ليتيسّر التأسّي بها لجميع أمم الأرض. وهذا من أصدق البراهين على كون محمّد صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولا نبيّ بعده ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المحاضرة الثّالثة السّيرة المحمّديّة من النّاحية التّاريخيّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 امتياز الإسلام بحفظ السيرة النبويّة وتراجم الصّحابة والتابعين والأئمة والمتبوعين: أيها السادة! قلنا فيما سبق: إنّ الحياة المثالية جدير بها أن تكون مشتملة على خصال أربع. وسننظر الآن إلى سيرة محمد صلّى الله عليه وسلم من هذه النواحي، وأولها أن تكون سيرة «تاريخية» . لقد شهدت الدّنيا أصدق شهادة، ثم ازداد ذلك ثبوتا على الأيام بأنّ الإسلام لم يقتصر على حفظ سيرته صلّى الله عليه وسلم، بل توسّع في ذلك إلى ما يتعلّق بها من كلّ النواحي، وصان هذه الأمانة القدسية، فلم تلمسها يد الضّياع، ولم تعبث بها عوامل الدّهر، إلى درجة أنّ العالم كلّه يقف من ذلك موقف العجب والاستغراب. والذين وقفوا حياتهم منذ العصر النّبويّ على حفظ أقوال النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ورواية أحاديثه، وكلّ ما يتعلّق بحياته أدّوها إلى من ضبطوها بعدهم، وكتبوها، وصاروا يسمّون «رواة الحديث» أو «المحدّثين» و «أصحاب السّير» ، وهم طبقات متسلسلة من «الصحابة» و «التابعين» و «تابعي التابعين» حتى وافى القرن الرابع. فلما كملت هذه الذخيرة التاريخيّة جمعا، وكتابة، وتدوينا جعل العلماء يكتبون سير هؤلاء الرّواة من الصّحابة والتابعين، ومن بعدهم من العلماء الذين رووا شيئا مما يتعلّق بحياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكتبوا أسماءهم، وكناهم، وأنسابهم، ومنشأهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، وبالجملة أحصوا شؤون حياتهم كلّها، حتى أصبح ما كتبوا في هذا الباب علما مستقلّا سمّي فيما بعد «علم أسماء الرجال» «1» .   (1) إن العالم الألماني المعروف الدكتور سبرنكر كان في سنة 1854 م وما بعدها موظفا في ديوان من دواوين المعارف في أيالة البنغال وأمين السر للجمعية الآسيوية فيها. وقد عني بكتاب المغازي للواقدي، ونشر بعناية فان كرامر وتصحيحه سنة 1956، وبعنايته طبع كتاب الإصابة في أحوال الصحابة للحافظ ابن حجر العسقلاني. وقد ادّعى أنّه أول أوربي كتب في سيرة محمد صلّى الله عليه وسلم معتمدا على المصادر العربية الأولى، ولم يعتمد في تأليفه إلا عليها. ومع أنه- في الحقيقة- لم يكتب كتابه دفاعا عن صاحب الرسالة صلّى الله عليه وسلم بل كان متحاملا عليه، ومخالفا له، إلا أنه قال في مقدمته- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 عناية الصّحابة بحفظ الحديث النّبويّ وعناية التابعين والأئمة والمتبوعين: وقد بلغ عدد الصحابة رضي الله عنهم في آخر حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم- عند ما حجّ حجّة الوداع- مئة ألف ومن هؤلاء عشرة آلاف صحابي مذكورة أسماؤهم وأحوالهم في كتب التاريخ التي أفردت لتدوين أحوالهم خاصّة. وإن التاريخ لم يهتم بتدوين أحوالهم، ولم يحفظ لنا شؤونهم إلا لأنّ كلّ واحد منهم حفظ شيئا من أقوال النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتصرفاته، وهديه، وسيرته. لقد توفي صلّى الله عليه وسلم سنة 11 من الهجرة النبوية، وبقي فريق من كبار الصحابة بعده إلى سنة 40 هـ، وبقي بعد ذلك من الصحابة الذين كانوا أحداثا في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم عدد غير قليل، فلما انقرض ذلك الجيل لم يبق من الصحابة أحد، وانطفأ كلّ سراج أو قد بنور النبوة. وإليكم أسماء آخر من مات من الصحابة، والبلاد التي ماتوا فيها، وسنوات وفاتهم. آخر الصحابة موتا المدن التي توفوا فيها سنة الوفاة 1- أبو أمامة «1» الشام 86 هـ 2- عبد الله بن الحارث بن جزء «2» مصر 86 هـ 3- عبد الله بن أبي أوفى «3» الكوفة 87 هـ   - بالإنجليزية على كتاب الإصابة المطبوع في كلكته سنة 1853- 1864 م: «لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنّه لا توجد الآن أمّة من الأمم المعاصرة، أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر الذي يتناول أحوال خمسمئة ألف رجل وشؤونهم» . (1) هو صدي بن عجلان بن وهب الباهلي، كان مع سيدنا علي رضي الله عنه في «صفين» ، وسكن الشام، فتوفي في حمص، وهو آخر من مات من الصحابة رضوان الله عليهم- في الشام. (2) هو عبد الله بن الحارث بن جزء الزّبيدي، سكن مصر، وعمي قبل وفاته، وهو آخر من مات من الصحابة بمصر، روى عنه المصريّون أحاديث. (3) هو علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي، شهد الحديبية، وبايع الرضوان، وشهد خيبر وما بعدها من المشاهد، توفي بالكوفة وهو آخر من مات فيها من الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 4- السائب بن يزيد «1» المدينة 91 هـ 5- أنس بن مالك «2» البصرة 93 هـ وأنس بن مالك هذا الذي كان آخر من بقي من الصحابة كان الخادم الخاص لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، استمرّ في خدمته عشر سنوات متوالية. الكلام على التابعين وأساتذتهم من الصحابة: أما التابعون الذين هم تلاميذ الصحابة؛ فيبدأ تاريخ طبقتهم من السنة الأولى للهجرة، ومنهم من ولد في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لكنه لم يتشرّف برؤيته، أو كان في العهد النّبويّ صغير السن فلم يحظ بالصحبة، ولم يقدّر له أن ينال قبسا من مشكاة النبوة، كعبد الرحمن بن الحارث «3» المولود سنة 3 هـ، وقيس بن أبي حازم «4» المولود سنة 4 هـ، وسعيد بن المسيب «5» المولود سنة 14 هـ. وهؤلاء التابعون الذين ينزلون المنزلة الثانية بعد   (1) هو السائب بن يزيد بن سعيد الكندي، مولده قبل السنة الأولى من الهجرة، وكان مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم حجّ النبي صلّى الله عليه وسلم حجة الوداع، واستعمله سيدنا عمر رضي الله عنه على سوق المدينة، وهو آخر من مات من الصحابة- رضوان الله عليهم- بالمدينة، وعنه اثنان وعشرون حديثا مرويا. (2) هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم النجاري الخزرجي الأنصاري، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخادمه، مولده بالمدينة المنورة، أسلم صغيرا وخدم النبي صلّى الله عليه وسلم إلى وفاته، ثم رحل إلى دمشق ومنها إلى البصرة، وهو آخر من مات من الصحابة رضوان الله عليهم- بالبصرة، وعنه ألفان ومئتان وستة وثمانون حديثا مرويا. (3) هو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي القرشي المدني، كان من ثقات التابعين، ومن أشراف قريش، وهو أحد الأربعة الّذين عهد إليهم سيدنا عثمان رضي الله عنه- بنسخ المصاحف توفي بالمدينة عام 43 هـ. (4) هو قيس بن عبد عوف بن الحارث الأحمسي البجلي، تابعي جليل، أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ليبايعه، فقبض صلّى الله عليه وسلم وهو في الطريق، روى عن الأصحاب العشرة، وهو أجود الناس إسنادا، توفي عام 84 هـ. (5) هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته، توفي بالمدينة عام 94 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الصحابة في نشر الإسلام وتبليغ دعوته، وقد حملوا الرسالة المحمدية إلى الأنحاء النائية، والبلاد المترامية الأطراف، ولم يكن لهم همّ في الدنيا إلا حفظ الدين، ونشر أحكامه، وتبليغ الإسلام، وتعميم سننه وآدابه، والتعريف بسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم وهديه. وقد ذكر ابن سعد «1» في الطبقات 139 من التابعين أهل الطبقة الأولى الذين كانوا في المدينة، وأدركوا كبار الصحابة، وسمعوا منهم أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلم، ورووها عنهم. وذكر 129 من الطبقة الثانية الذين لقوا عامّة الصحابة، ورووا عنهم، أما الطبقة الثالثة من التابعين فهم الذين حظي الواحد منهم برؤية صحابي واحد، أو عدّة من الصحابة، وعدد هؤلاء 87، فمجموع عدد التابعين 355 في مدينة واحدة وهي مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقيسوا على ذلك عدد الذين أخذوا عن الصحابة في بقية المدن الإسلامية التي انتشر الصحابة فيها من مكة إلى الطائف، والبصرة، والكوفة، ودمشق، واليمن، ومصر، وغيرها. وهؤلاء- كما علمتم- لم يكن لهم همّ إلا نشر رسالة الإسلام، وتبليغ أقوال النبي صلّى الله عليه وسلم، وهديه، وسيرته. وانظروا إلى اهتمام المؤرخين باستيعابهم، واستقصاء أحوالهم في إحصاء الأحاديث المروية عن الصحابة. وإليكم أسماء بعض الصحابة الذين امتازوا بكثرة ما يحفظونه من الحديث النبويّ، وعدد ما روي عنهم منه: أسماء الرواة من الصحابة عدد مروياتهم سنة وفاتهم 1- أبو هريرة «2» 5374 59 هـ   (1) هو محمد بن سعد بن منيع الزهري، من حفاظ الحديث والثقات، ولد في البصرة، وسكن بغداد وتوفي بها سنة 230 هـ، من أشهر كتبه «طبقات الصحابة» يعرف ب «طبقات ابن سعد» . (2) هو أكثر الصحابة- رضوان الله عليهم- حديثا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو معروف بكثرة ملازمته لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجرأته في السؤال، وحبّه للعلم، ومذاكرته حديث الرسول صلّى الله عليه وسلم في كل فرصة تسنح له. روى له الإمام أحمد في سنده (3848) حديثا (وفيها مكرر كثير باللفظ والمعنى) - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 2- عبد الله بن عباس «1» 1660 68 هـ 3- عائشة الصديقة «2» 2210 58 هـ 4- عبد الله بن عمر «3» 2630 73 هـ 5- جابر بن عبد الله «4» 1540 78 هـ 6- أنس بن مالك «5» 2286 93 هـ 7- أبو سعيد الخدري» 1170 74 هـ وعلى هؤلاء يعتمد في نقل السنة النّبوية، وإلى هؤلاء يرجع الفضل في حفظ الرسالة المحمدية، وإنّ رواياتهم هي التي تدلّ على النبوة الواضحة والمحجّة البيضاء، فإذا نظرنا إلى أعوام وفاتهم بدا لنا أنّ الله عز وجل قد   - وروى له الإمام بقي بن مخلد (201- 276 هـ) في مسنده (5374) حديثا، وله في الصحيحين (325) حديثا، وانفرد البخاري أيضا ب (93) حديثا، ومسلم ب (189) حديثا. (1) وقد روي له (1660) حديثا، أخرج له الشيخان منها (234) حديثا، اتفقا على (75) حديثا منها، وانفرد البخاري ب (110) حديث، ومسلم ب (49) حديثا، وأحاديثه منتشرة في الكتب الستة وكتب السنن. (2) روي لها (2210) أحاديث، لها في الصحيحين (316) حديثا، اتفق الشيخان على (194) حديثا منها، وانفرد البخاري ب (54) حديثا، ومسلم ب (68) حديثا، وأحاديثها في جميع الكتب الستة، وكتب السنن. (3) روي عنه (2630) حديثا، أخرج له الشيخان (280) حديثا، اتفقا على (168) حديثا منها، وانفرد البخاري ب (81) حديثا، ومسلم ب (31) حديثا، وأحاديثه موجودة في الكتب الستة، والسنن، والمسانيد. (4) روي له (1540) حديثا ومنها روى الشيخان (212) حديثا، اتفقا منها على (60) حديثا، وانفرد البخاري ب (26) حديثا، ومسلم (126) حديثا، وله منسك صغير في الحج أخرجه الإمام مسلم في صحيحه. (5) روي عنه (2286) حديثا، وأخرج له الشيخان (318) حديثا، واتفقا منها على (168) حديثا منها، وانفرد البخاري ب (80) حديثا، ومسلم ب (70) حديثا. (6) روي له (1170) حديثا، أخرج له الشيخان منها (111) حديثا، اتفقا على (43) حديثا منها، وانفرد البخاري ب (16) حديثا، ومسلم ب (52) حديثا، أحاديثه موجودة في سائر الكتب الستة، وروى عنه جميع أصحاب المسانيد والسنن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 نسأ في آجالهم، وأطال حياتهم، وأخّر موتهم، حتى تسنّى لكثير من الناس أن يتلقوا عنهم ما حافظوا من أمانات الحديث النّبويّ، ويعوا أقوالهم، وينشروا رواياتهم، ولم يكن العلم يومئذ إلا معرفة هذه الأمور. وبه ينالون شرف الدّين، وعزّة الدّنيا، فكان الآلاف من الصحابة يبلغون إلى الجيل الذي بعدهم ما رأوه بأعينهم، وسمعوه باذانهم من أحوال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأقواله، وتشريعه؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك، فقال: «بلّغوا عنّي» «1» و «ليبلّغ الشّاهد الغائب» «2» ، فكانوا يعلمون أولادهم، وإخوانهم، وأصحابهم، وأقرباءهم من الدّين والعلم كلّ ما كانوا يعلمونه، فكان ذلك شغلهم، وهمّهم آناء الليل وأطراف النهار، وفي الغدوّ والآصال، فتعلم النشء الإسلامي الأول حقائق رسالة الإسلام، وتفاصيل حياة الرسول منذ ترعرعوا في بيئاتهم التي كانت ساحات للعلم، ومدارس يتقلّبون في حجرها، وما لبثوا أن قاموا مقام الصحابة، وسدّوا مسدّهم في حفظ هذه الأحاديث، ووعي هذه المرويات، فكان هؤلاء التابعون يحفظونها كلمة كلمة، ويعيدون روايتها بألفاظها دون أن يخرموا منها كلمة. وكما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحرّض الصحابة على أن يبلغوا عنه، ويفقهوا تشريعه، وينشروا دعوته وأحكامه، كان ينهى الناس عن أن يتقولوا عليه ما لم يقل، أو ينسبوا إليه ما لم يفعل، وكان ينذر من يتعمّد الكذب عليه بأنه سيتبوّأ نار جهنم، لذلك كان كبار الصحابة ترتعد فرائصهم وتمتقع وجوههم عند رواية أحاديث الرسول خوفا من أن يكذبوا عليه أو ينحلوه ما لم يقل «3» . وكان عبد الله بن مسعود إذا قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم» استقلته   (1) عن عبد الله بن عمرو أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «بلّغوا عنّي ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النّار» رواه البخاري في باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3461) . (2) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب «ليبلغ العلم الشاهد الغائب» (104 و 105) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إثبات الحساب (2876) . (3) لذلك نراهم مع كثرة تحملهم عن الرسول صلّى الله عليه وسلم- لا يكثر من الرواية، حتى إنّ منهم من كان لا يحدث حديثا في السنة، ونرى من تأخذه الرعدة، ويقشعر جلده، ويتغيّر لونه- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الرّعدة، وقال «هكذا» أو «نحوذا» «أو قريب من ذا» «1» . ومن المعلوم: أنّ ذاكرة العرب كانت قوية، وكانوا يحفظون آلافا من الشعر، وينشدونها عن ظهر قلب بلا زيادة ولا نقص. ومن طبيعة البشر أنهم إذا أكثروا استعمال قوة من قواهم تزداد هذه القوة قوة وحيوية. وقد مرن الصّحابة والتابعون على حفظ الأحاديث حتى بلغوا في ذلك شأوا بعيدا، وكانوا إذا سمعوا حديثا وعوه، وحفظوه كما يحفظ الصبيان سورة الفاتحة في هذه الأيام. والمحدّثون كانوا يحفظون ألوفا من أحاديث الرسول؛ بل مئات الألوف، ويكتبون بعد ذلك ما كانوا يسمعون ويحفظون، لكنهم لا يبلغون منزلة الإجلال والإكرام بين العلماء وعند الناس إلا بما يخفونه من المرويات عن ظهر قلب، ولذلك كانوا يخفون كراريسهم وصحائفهم عن الناس ويكتمونها؛ لئلا يظنّ الناس بهم أنهم يعتمدون في علمهم على هذه الصحائف، ولا يحفظون محتوياتها في صدورهم. المستشرقون وتشكيكهم في رواية الحديث، والكلام على الحفظ والكتابة: سادتي! إنّ بعض المستشرقين ودعاة المسيحية- وفي مقدمتهم السر وليم ميوروغولد زيهير- أرادوا أن يشكّكوا الناس في رواية الحديث بما   - ورعا واحتراما لحديث الرسول صلّى الله عليه وسلم، ومن هذا ما رواه عمرو بن ميمون قال: «ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، قال: فما سمعته يقول بشيء قط «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم» فلما كان ذات عشية قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم» قال: فنكس، قال: فنظرت إليه، فهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريبا من ذلك، أو شبيها بذلك» (سنن ابن ماجه، ص 8- الجزء الأول) . (1) وقد غفل عن هذا بعض من تصدر للحديث من العصريين حيث عزا أحاديث كثيرة إلى مصادرها بغير لفظها، زاعما أنها «ليست قرآنا نتعبد بلفظه ... !» . ينبغي لمن يروي حديثا بالمعنى أن يراعي جانب الاحتياط وذلك بأن يتبعه بعبارة: «أو كما قال» أو «نحو هذا» وما أشبه ذلك من الألفاظ، فعل ذلك ابن مسعود، وأنس وأبو الدرداء، وغيرهم رضي الله عنهم. (منهج النقد في علوم الحديث) للأستاذ الدكتور نور الدين عتر- حفظه الله تعالى ونفع به- ص: 228- 229 طبعة دار الفكر، (دمشق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 زعموه من أنّ تدوين السنّة بدأ بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم بتسعين سنة، وقد ذكرت لكم فيما سلف كيف كان الصحابة والتابعون يعنون بالأحاديث، ويحفظونها، ويحتاطون في روايتها حتى لا يبقى مجال للشكّ في صحتها وصدقها. والذي دعا الصحابة إلى ألايقيدوا الأحاديث بالكتابة ثلاثة أمور: أولها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهاهم في بداية الأمر عن أن يكتبوا عنه غير القرآن؛ لكيلا يلتبس القرآن بغيره، فلما حفظ القرآن، فصار معروفا، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ أذن للصحابة بأن يكتبوا ما يسمعون منه، ومع ذلك بقي الصحابة يحتاطون في ذلك احتياطا شديدا، وكان معظمهم يتحرّجون في كتابة الحديث. وثانيها: أن الصحابة كانوا يخشون أن يعتمد الناس في الحديث على الكتابة، فيقصّرون في حفظها وتدبّرها مرتكنين على أنّها مكتوبة عندهم، ويمكنهم الرجوع إليها عند الحاجة، وقد وقع الذي ظنوه، فإنه كلّما ازداد الاهتمام بالكتابة والتدوين قلّت العناية بالحفظ، وكذلك كان الصحابة يخشون أن يدّعي كلّ من تكون الأحاديث المكتوبة في متناول يده بأنه عالم، وقد وقع ما كانوا يحذرون. وثالثها: أنّ العرب كانوا يعدون الاعتماد على الكتابة اعترافا بنقص مواهبهم، وضعف حفظهم، وفي ذلك غضّ من شرفهم، فكانوا يعتمدون على حفظهم، وإذا كتبوا شيئا ممّا يحفظون كتموا أمره. كان المحدّثون يرون أنّ الحفظ في الصدور أصون من التدوين في السّطور؛ لأنّ ما يتناقله الناسخون بالكتابة معرّض للتّحريف، وأما ما يتلقّاه الحافظون الضابطون عن الحافظين الضابطين؛ فإنه لا يتطرّق إليه الخطأ، ولا يصيبه أيّ تحريف. وإني لأكشف القناع لأول مرة في ناديكم هذا بأن من زعم أنّ الأحاديث النبوية لم تدوّن إلى مئة سنة أو تسعين سنة قد أخطأ، والتاريخ يعارضه، والسبب في هذا الخطأ ظنهم أنّ أول كتاب في الحديث النبوي كتاب الموطأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 لمالك بن أنس، وأول كتاب في السيرة كتاب المغازي لابن إسحاق «1» ، وهذان الإمامان الجليلان كانا متعاصرين، وتوفي الأول سنة 179 هـ والثاني سنة 151 هـ، فاعتبروا العقود الأولى من القرن الثاني بداية تدوين الأخبار والسير، والأمر ليس كذلك، فإن بواكير التدوين ابتدأت قبل ذلك بكثير، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة 101 هـ عالما جليلا ولي إمارة المدينة، ثم استخلف سنة 99 هـ، وقد عهد إلى القاضي أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم «2» - الذي كان إماما في الحديث والخبر- أن يبدأ في تدوين سنن النبي صلّى الله عليه وسلم وأخباره؛ لأنه خاف على العلم أن يرفع شيئا فشيئا وخاف درس العلم وعفاءه «3» ، وقد ذكر هذا في تعليقات البخاري والموطأ لمالك والمسند للدّارمي. فقام بذلك أبو بكر بن حزم، وكتبت الأحاديث والأخبار والسنن في القراطيس، وأرسلت إلى دار الخلافة بدمشق، ونسخت في الصّحف والكتب، وبعث بها إلى البلاد الإسلامية، وكبريات المدن يومئذ. فأبو بكر هذا الذي علمتم مكانته من العلم والفضل وكان قاضيا بالمدينة المنورة، هو الذي اختاره عمر بن عبد العزيز لهذا العمل الجليل، لعلمه، وفضله، ولأنّ خالته عمرة كانت من كبريات تلاميذ أمّ المؤمنين عائشة، وكان ما روته خالته عمرة عن أمّ المؤمنين عائشة محفوظا عنده، فأوعز إليه عمر بن عبد العزيز بتدوين مرويات خالته، وقد اختصّها بالذكر في كتابه إليه. كتابة الحديث في العهد النّبوي: وإنّي لا أعدو الحقّ إذا قلت: إنّ كتابة الحديث، والسنن، والأخبار،   (1) «مختصر جامع بيان العلم» للحافظ ابن عبد البر ص 138، طبع مصر. (2) هو قاضي المدينة، وأميرها. كان أعلم أهل المدينة بالقضاء، وله خبرة بالسّير. توفي سنة (120 هـ) عن نيّف وثمانين سنة. شذرات الذهب (2/ 90) والعبر؛ للذهبي (1/ 152) . (3) نصّ رسالة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الموجهة إلى القاضي أبي بكر بن محمد بن حزم: «انظر ما كان من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو سنة ماضية، أو حديث عمرة فاكتبه فإني خشيت دروس العلم، وذهاب أهله» (ابن سعد 8: 353) ، والتاريخ الصغير للبخاري (105) وسنن الدارمي (1: 126) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والسيرة قد بدىء بها في عهد النّبي صلّى الله عليه وسلم، فقد جاء في باب كتابة العلم من صحيح البخاري: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر، فكتبت خطبته التي خطبها يوم فتح مكة إجابة لسؤال صحابيّ من اليمن يدعى أبا شاه «1» . وقد أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم رسائله إلى الملوك التي يدعوهم فيها إلى الإسلام، وكلّها كانت مكتوبة، والكتاب الذي أرسله إلى المقوقس ملك مصر قد وجد ملصقا بدفّة كتاب في أحد الأديرة المسيحية في مصر، ويغلب على الظنّ أنه هو أصل الكتاب المرسل من النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وخطّه عربيّ قديم، وعبارته وترتيب كلماته التي في الخاتم هي عين ما يروى في الأحاديث، وهذا من أصدق الأدلّة على صدق الأحاديث المروية وصحتها. ويقول أبو هريرة: ما من أحد أحفظ منّي لخدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا أكثر منّي رواية له، غير عبد الله بن عمرو بن العاص؛ لأنّه كان يكتب كلّ ما يسمع من النّبيّ صلّى الله عليه وسلم ولم أكن أكتب «2» . وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في الغضب والرّضا فأمسكت، حتّى ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «اكتب، فو الّذي نفسي بيده ما خرج منه إلّا حق!» وأومأ بأصبعه إلى فيه حين قال ذلك «3» . وسمى عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفته هذه (الصادقة) «4» وكان يقول: لقد حبّب الحياة إليّ أمران: أحدهما هذه   (1) لما فتح الله على رسوله صلّى الله عليه وسلم مكة، قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخطب خطبته، « ... فقام أبو شاه- رجل من اليمن- فقال: اكتبوا لي يا رسول الله! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه ... » . (البخاري [2434] ) . (2) والحديث في البخاري ومسند الإمام أحمد: (ما من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه منّي إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنّه كان يكتب ولا أكتب) (البخاري [113] ومسند الإمام أحمد (7383) . (3) مسند أحمد: (162) و (192) ، وسنن أبي داود (22) وجامع بيان العلم، الجزء الأول، ص 71. (4) هي «الصحيفة الصادقة» وهي من أشهر الصحف المكتوبة في العصر النبوي، كتبها وجمعها عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنه- من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 «الصّادقة» .. ثم قال: وأما الصادقة فهي صحيفة ما كتبت فيها إلا ما سمعت أذناي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ويقول مجاهد: رأيت عند عبد الله بن عمرو كتابا، فسألته: ما هذا؟ فقال: هذه «الصّادقة» فيها ما سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس في ذلك بيني وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحد «1» . وفي صحيح البخاري: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بعد هجرته إلى المدينة أن يحصى له كم عدد الذين يلفظون بالإسلام، فأحصوا، فكان عددهم خمسمئة وألفا. وأمر صلّى الله عليه وسلم، فكتبت أحكام الزكاة، وما تجب فيه، ومقادير ذلك، فكتبت مشروحة مفصلة في صفحتين، وبعث بصورة ذلك إلى أمراء البلاد وولاتها، وبقيت محفوظة في بيت أبي بكر الصديق، وأبي بكر بن عمرو بن حزم «2» . وكان عند عمال الزكاة رسائل فيها أحكام الزكاة. وكان عند عليّ صحيفة في قراب سيفه، كتبت فيها أحاديث تتعلق بالأحكام، ورآها الناس لما سألوه عن ذلك «3» . وفي هدنة الحديبية التي كانت بين المسلمين ومشركي قريش أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليّا، فكتب كتاب الهدنة في نسختين أعطى المشركين نسخة منها وبقيت النسخة الآخرى عند النبي صلّى الله عليه وسلم «4» . ولما ولّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمرو بن حزم اليمن، وبعثه إليها؛ أعطاه أحكاما مكتوبة في الفرائض والصدقات والدّيات «5» وتلقّى عبد الله بن حكيم   - اشتملت على ألف حديث كما يقول ابن الأثير ( «في أسد الغابة» 3/ 233) ، وإذا لم تصل هذه الصحيفة- كما كتبها عبد الله بن عمرو بخطه فقد وصل إلينا محتواها، لأنها محفوظة في مسند الإمام أحمد [انظر مسند عبد الله بن عمرو بن العاص في مسند أحمد] ، حتى ليصح أن نصفها بأنها أصدق وثيقة تاريخية تثبت كتابة الحديث على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم. (1) طبقات ابن سعد 2/ 2: 125. (2) الدارقطني في كتاب الزكاة 209. (3) البخاري (1084 و: 1020) . (4) ابن سعد في المغازي، ص 71. (5) كنز العمال، الجزء الثالث، ص 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 كتابا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيه أحكام الحيوانات الميتة «1» ولما أراد وائل بن حجر أن يرجع إلى بلاده حضر موت؛ ناوله رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابا فيه أحكام الصلاة، والصوم، والربا، والخمر وغير ذلك «2» ولما وجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب السؤال إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن كان عند أحد منهم سنة عن النبي صلّى الله عليه وسلم في نصيب المرأة من دية زوجها قام الضحّاك بن سفيان «3» فقال: نعم عندنا كتاب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبين فيه ذلك «4» . وكتب عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى المدينة يسأل عن كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أحكام الصدقات، فوجدت نسخته عن آل عمرو بن حزم «5» . وكان مروان «6» قد خطب في الناس، فذكر مكة وحرمتها، فقال رافع بن خديج «7» بصوت يسمعه الناس: والمدينة حرم حرّمها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو مكتوب عندنا في أديم خولاني إن شئت نقرئكه فعلنا. فناداه مروان: أجل قد بلغنا ذلك «8» . وأرسل الضحاك بن قيس «9» كتابا إلى النعمان بن بشير «10» يسأله فيه عن   (1) المعجم الصغير، للطبراني، ص 217. (2) المعجم الصغير، للطبراني، ص 242. (3) هو الضحاك بن سفيان بن عوف بن كعب الكلابي، صحابي، كان نازلا بنجد، وولاه الرسول صلّى الله عليه وسلم على من أسلم هناك من قومه، استشهد في قتال أهل الردة سنة 11 هـ. (4) الدارقطني الجزء الثاني، ص 485. (5) الدارقطني، 451. (6) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، خليفة أموي، وهو أول من ملك من بني الحكم بن أبي العاص، توفي في دمشق بطاعون سنة 65 هـ. (7) هو رافع بن خديج بن رافع الأنصاري الأوسي الحارثي، صحابي، شهد أحدا والخندق، توفي في المدينة سنة 74 هـ، له 78 حديثا مرويا. (8) مسند الإمام أحمد 4: 141. (9) هو الضحاك بن قيس بن خالد الفهري القرشي، أحد الولاة الشجعان في عصره، شهد فتح دمشق وسكنها، قتل في مرج راهط، سنة 65 هـ. (10) هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري، من أجلاء الصحابة، نزل الشام، وشهد «صفين» مع معاوية- رضي الله عنه- وولي القضاء بدمشق. - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 السورة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرؤها في صلاة الجمعة غير سورة الجمعة، فكتب إليه يقول: كان يقرأ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «1» وكتب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن فرقد «2» كتابا ذكر فيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير» «3» . وقد ثبت عندي بالدلائل الواضحة أنّ كبار الصحابة رضي الله عنهم أرادوا أن يدوّنوا السنن والأحكام، بل قد فعل ذلك بعضهم، وقد جمع أبو بكر في خلافته الأحكام والسنن في كتاب، ثمّ بدا له أن يمحوه «4» وعزم عمر بن الخطاب أيام خلافته على جمع السنن ثم بدا له ألا يفعل، وقد ذكرنا آنفا: أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص جمع بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما كان يسمعه منه في صحيفة، وكان الناس يقصدونه ليروها، فيطلعهم عليها «5» ، وأتى عبد الله بن عباس بسجلّ فيه فتاوى عليّ بن أبي طالب «6» وكان لمرويات عبد الله بن عباس كراريس عدّة، وجاء قوم من أهل الطائف بكراسة منها ليرووها عنه «7» وكان سعيد بن جبير يكتب روايات عبد الله بن عباس «8» وبقيت صحيفة عبد الله بن عمرو (الصّادقة) موجودة عند حفيده عمرو بن شعيب «9» وكانوا يضعفون عمرو بن شعيب لأنّه يروي من الصحيفة، وكان   - هو أول مولود ولد في الأنصار بعد الهجرة، قتل يوم مرج راهط سنة 65 هـ، وله 124 حديثا مرويا. (1) مسلم في كتاب الجمعة في باب ما يقرأ في صلاة الجمعة (2030) . (2) هو عتبة بن فرقد بن يربوع، صحابي، غزا مع الرسول صلّى الله عليه وسلم غزوتين، وله رواية عنه صلّى الله عليه وسلم، وروت عنه زوجه أمّ عاصم. (3) البخاري في كتاب اللباس في باب لبس الحرير للرجال (5828، 5829، 5830، 5834، 5835) . (4) تذكرة الحفاظ للذهبي. (5) الترمذي (586) . (6) مقدمة صحيح مسلم. (7) العلل للترمذي، ص 691. (8) الدّارمي ص 690. (9) الترمذي (61، 113) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ينبغي له أن يروي من حفظه. وجمع وهب التّابعي روايات جابر بن عبد الله، وكانت عند إسماعيل بن عبد الكريم، وضعفوه لأجل ذلك «1» ، وروى سليمان بن سمرة بن جندب أنّه كان عند أبيه صحيفة فيها أحاديث، وكذلك روى ابنه حبيب بن سليمان «2» وجمع همام بن منبه روايات أبي هريرة، وهو أكثر الصحابة رواية، وأوعاهم حفظا لأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم، فصارت تعرف صحيفته بين المحدّثين بصحيفة همام «3» ، وقد أوردها الإمام أحمد بن حنبل في الجزء الثاني من مسنده، وكذلك بشير بن نهيك كتب مروياته عن أبي هريرة في كتاب، وقرأه عليه «4» . وذكر ابن حجر في كتابه فتح الباري أنّ أبا هريرة جاء برجل إلى بيته، وأراه أوراقا، وقال: هذه رواياتي. وقال الذي روى ذلك: إنها لم تكن   (1) تهذيب التهذيب، لابن حجر، الجزء الأول 316. (2) تهذيب التهذيب الجزء الرابع، 198. (3) تلفت الصحف الكثيرة التي جمعها الصحابي الجليل أبو هريرة- رضي الله عنه- إلى صحيفة واحدة هي هذه التي رواها عنه تلميذه التابعي همام بن منبه (المتوفى سنة 101 هـ) ثم نسبت إليه فاشتهرت ب «صحيفة همام» وهي في الحقيقة صحيفة أبي هريرة لهمام. ولا يمكننا أن نسلك هذه الصحيفة في عداد ما كتب في العصر النبوي، لأن هماما ولد قبيل سنة 40 هـ وتوفي شيخه أبو هريرة سنة 58 هـ، فلا بدّ أن يكون تدوينه لهذه الصحيفة قبل وفاة شيخه، لأنّ سماعه منه بعد مجالسته إيّاه- أي في منتصف القرن الهجري الأول- وتلك نتيجة علمية باهرة تقطع بتدوين الحديث في عصر مبكر، وتصحح الخطأ الشائع: أنّ الحديث لم يدوّن إلا في أوائل القرن الهجري الثاني. (علوم الحديث ومصطلحه «للدكتور صبحي الصالح» ص 31- 32) . ولهذه الصحيفة مكانة خاصّة في تدوين الحديث؛ لأنها وصلت إلينا كاملة سالمة، كما رواها ودوّنها همام عن أبي هريرة، وعثر على هذه الصحيفة الباحث المحقق الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي- حفظه الله ومدّ عمره- في مخطوطتين متماثلتين في دمشق وبرلين، ونشره محققا، وقد صدرت له الطبعة الأولى من مجمع اللغة العربية بدمشق. (4) كتاب العلل للترمذي، ص 691، والدارمي ص (68) ، والبيهقي ص (681) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 مكتوبة بيده «1» ، وكان أنس بن مالك- وهو معروف بكثرة الرواية- يقول لأولاده: يا بنيّ! اكتبوا العلم وقيّدوه بالكتابة «2» ، وكان تلميذه أبان «3» يكتب رواياته بين يديه «4» ، وروي عن سلمى «5» قالت: رأيت عبد الله بن عباس يستملي أبا رافع «6» خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما كان صلّى الله عليه وسلم يفعل، أو يقول «7» . والواقدي «8» وهو من متقدّمي المصنفين في السيرة النبوية يقول: رأيت عند عبد الله بن عباس الكتاب الذي أرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى «9» سيد البحرين مع كتب أخرى «10» ، وفي تاريخ الطبري: أنّ   (1) فتح الباري، الجزء الأول 184- 185. (2) الدّارمي ص 68. (3) هو أبان بن عثمان الأموي: أول من كتب السيرة النبوية، وهو ابن الخليفة عثمان. كان من رواة الحديث الثقات، ومن فقهاء المدينة أهل الفتوى. توفي سنة (105 هـ) ، العبر (1/ 129) . (4) الدارمي، ص 68. (5) هي سلمى بنت خصفة، زوجة المثنى بن حارثة الشيباني، وتزوجها بعد وفاته سعد بن أبي وقاص، شهدت معه المعارك في القادسية وغيرها، توفيت سنة 60 هـ. (6) كان مولى العباس بن عبد المطلب، فوهبه للنبي صلّى الله عليه وسلم، فأعتقه لما بشّره بإسلام العباس. شهد أحدا وما بعدها. روى عن النبي وعن ابن مسعود، وعنه كثيرون. توفي بالمدينة في خلافة علي. الإصابة (4/ 391) . (7) طبقات ابن سعد 2/ 2: 123. (8) هو محمد بن عمرو بن واقد السهمي الأسلمي، المعروف ب «الواقدي» من أقدم المؤرخين وأشهرهم في الإسلام، ومن حفاظ الحديث، ولي القضاء ببغداد، واستمر فيها إلى أن توفي سنة 207 هـ، من أشهر كتبه «المغازي النبوية» و «أخبار مكة» و «فتوح العراق» و «فتوح الشام» . (9) هو المنذر بن ساوى بن الأخنس العبدي، أمير في الجاهلية والإسلام، كان صاحب «البحرين» وكتب إليه الرسول صلّى الله عليه وسلم رسالة يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، مات قبل ردة أهل البحرين سنة 11 هـ. (10) زاد المعاد، الجزء الثاني، ص 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عروة بن الزبير «1» كتب جميع ما كان في غزوة بدر مفصّلا إلى عبد الملك الخليفة الأموي «2» . وكان عبد الله بن مسعود- وهو الذي كان يكثر الدّخول على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلا ونهارا حتى خيّل إلى الناس أنه من أهل البيت- يشكو الناس أنّهم يكتبون منه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه كان لا يستحلّ أن يكتب غير القرآن الحكيم حرصا منه على القرآن أن يلتبس به غيره «3» ، ويقول سعيد بن جبير التابعي «4» : كنت أكتب على الأقتاب ما أسمعه في الليل من عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، فإذا أصبحت كتبته واضحا «5» . وكان أصحاب البراء بن عازب «6» يكتبون عنده رواياته، وكان نافع «7» - وقد صحب ابن عمر «8» ثلاثين سنة- يملي على الناس «9» ،   (1) هو عروة بن الزبير بن العوّام الأسدي القرشي، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة وكبار علمائها، وهو أخو عبد الله بن الزبير لأبيه وأمه، توفي بالمدينة سنة 93 هـ. (2) هو عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، من أعاظم الخلفاء ودهاتهم، كان فقيها واسع العلم، شديد النسك، كثير العبادة، توفي بدمشق سنة 86 هـ. (3) الدارمي، ص 67. (4) هو سعيد بن جبير الأسدي، من كبار التابعين وأعلمهم، أخذ العلم عن عبد الله بن عباس وعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال الإمام أحمد: «قتل الحجاج سعيدا وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه» (الأعلام للزركلي، 3/ 93) . (5) الدارمي، ص 69. (6) هو البراء بن عازب بن الحارث الخزرجي، صحابي من أصحاب الفتوح، أسلم صغيرا وغزا مع الرسول صلّى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة، عاش إلى أيام مصعب بن الزبير، فسكن الكوفة، وتوفي فيها سنة 71 هـ، وله 305 أحاديث مروية في الصحيحين. (7) هو نافع المدني، من أئمة التابعين بالمدينة، كان علّامة في فقه الدين، كثير الرواية للحديث، من كبار الثقات التابعين، أصابه عبد الله بن عمر صغيرا في بعض مغازيه، فنشأ بالمدينة، أرسله عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلّم أهلها السنن، توفي سنة 117 هـ. (8) أي: عبد الله بن عمر بن الخطاب. (9) الدارمي، ص: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود «1» أخرج كتابا، وقال: وايم الله هذا ما كتبته يد ابن مسعود «2» ! وقال سعيد بن جبير: كنا نختلف في بعض الأمور، فنكتب ذلك، ثم نأتي عبد الله بن عمر، فنعرضه عليه، ونخفي عنه ما كتبنا، ولو علم به لكانت الفيصل بيننا وبينه. أي أنه لا يأذن لهم بحضور مجلسه «3» ويقول الأسود التابعي «4» : وقعت أنا وعلقمة على صحيفة جئنا بها إلى ابن عمر، فمحاها «5» . وأنّ زيد بن ثابت- هو من كتبة الوحي- كان لا يرى كتابة شيء إلا القرآن، فاحتال مروان على أن أجلسه بين يديه، وأجلس كاتبا من وراء الستر يكتب ما يقول، وفعل مثل ذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فاستملاه حديثا، ولكن زيد بن ثابت فطن لذلك، فألحّ بمحوه حتى محي «6» . سادتي! لعلّكم سئمتم سماع الأسماء، وضجرتم بهذه الأخبار، ومللتم ما اقتبسته لكم من هذه النصوص، فمعذرة وعفوا. ولكننا قد بلغنا إلى حيث يتبين لنا الطريق واضحا، وتبدو لنا الحقيقة جلية. لقد حاولت أن أثبت لكم هذه الحقيقة الرّاهنة، وهي أنّه إذا كان لا يوثق إلا بما كتب ودوّن، فأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم كتبوا بأيديهم في عهده صلّى الله عليه وسلم، وجمعوا من أحاديثه في حياته، وتركوا ذلك لمن بعدهم، والذين جاؤوا   (1) أحد الأئمة الكبار، سيىء الحفظ. وثقه أحمد. وقال ابن القطان: اختلط حتى كان لا يعقل، فضعّف حديثه، وكان لا يتميز في الأغلب ما رواه قبل اختلاطه مما رواه بعد. ميزان الاعتدال (2/ 574) . (2) هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، من أكابر الصحابة- رضوان الله عليهم- ومن السابقين إلى الإسلام، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة، وكان خادم الرسول صلّى الله عليه وسلم، توفي بالمدينة سنة 32 هـ، وله 848 حديثا مرويا. (3) جامع بيان العلم، ص 33. (4) هو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، من فقهاء التابعين والحفاظ، كان عالم الكوفة في عصره، توفي سنة 75 هـ. (5) جامع بيان العلم، ص 33. (6) مسند الإمام أحمد: الجزء الخامس، ص 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 بعدهم أدخلوه في كتبهم. ولا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن التابعين رضي الله عنهم جمعوا جميع المرويات في عهد الصحابة، وكتبوا في حياتهم ما وصل إلى علمهم من الأخبار والشؤون، وبحثوا عن ذلك بحثا طويلا، وبذلوا فيه جهودهم، وسافروا له، وطرقوا أبواب العلماء والمحدّثين، حتى لقد كانوا يطوون لأجل الحديث الواحد مسافة طويلة، وشقّة بعيدة، ومن أشهرهم محمد بن شهاب الزّهري «1» ، وهشام بن عروة بن جبير «2» ، وأبو الزناد «3» ، وغيرهم. إن علماء التابعين- وكانوا يعدّون بالمئات- جابوا البلاد، وجالوا خلال الدّيار، وطووا الصحارى والمفاوز، وشدّوا الرّحال إلى أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، وكذلك فعل تلاميذهم، ليرووا أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجمعوا لنا هذه الذخيرة العلمية، وربما سافروا وقطعوا مئات الأميال لحديث واحد. وإنّ محمد بن شهاب الزهري- وهو الإمام في الحديث والسيرة- كتب كل ما سمع ممّا يتعلق برسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى قال عنه أبو الزناد: كنا نكتب الحلال والحرام وكان الزّهري يكتب كل شيء «4» . ويقول طاووس بن كيسان «5» : كنت أنا والزّهري رفيقين في طلب العلم، فقلت: لا أكتب إلا السنن، فكتبت ما يتعلق برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال   (1) هو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، تابعي، من أهل المدينة، أول من دوّن الحديث، كان من أكابر الحفاظ والفقهاء، نزل الشام واستقرّ بها، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: «عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه» توفي بشغب (هو آخر حدّ الحجاز وأول حدّ فلسطين) سنة 124 هـ. (2) هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، تابعي من أئمة الحديث، ولد في المدينة، وعاش فيها، زار الكوفة، فسمع منه أهلها، ودخل بغداد، وتوفي بها سنة 146 هـ. وله نحو أربعمئة حديث مروي. (3) هو عبد الله بن ذكوان القرشي المدني، المعروف ب «أبو الزناد» أحد كبار المحدثين وفقهاء أهل المدينة، كان ثقة في الحديث عالما بالعربية، فصيحا، توفي بالمدينة سنة 131 هـ. (4) جامع بيان العلم، ص 37. (5) هو طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني من أكابر التابعين، أصله من الفرس، ومولده ومنشؤه في اليمن، توفي حاجا بالمزدلفة سنة 106 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الزّهري: أكتب هذا وكلّ ما يتعلق بأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنّه من السنة. فقلت: ليس ذلك من السنة، ولم أكتب ذلك، وكتبه الزهري، ففاز، وخسرت «1» ، وهذا قطرة من بحر. وإن المئتين من التابعين كانوا يكتبون الأحاديث والأخبار، والزّهري واحد منهم، وإنّ ما كتبه الزهري وحده بلغ فيما رواه معمر أنّ الدفاتر من علم الزهري حملت على الدواب بعد قتل الوليد، وكانت في خزانته. التابعون الّذين دوّنوا الحديث: ولد الزهريّ سنة 50 للهجرة وتوفي سنة 124 هـ، وهو قرشيّ نسبا، وقد بذل جهده في جمع الروايات عن سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم، وهديه، وأحاديثه حتى لقي في طلب العلم عناء ونصبا، كما يدل عليه قول المؤرخين: إنّه كان يطوف على بيوت الأنصار في المدينة، ويغشى كلّ بيت منها، ويسأل عن أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلم، وهديه، وسيرته كلّ من يلقاه من نساء، ورجال، وشيوخ، وشباب، حتى كان يسأل العواتق في خدورهن عن أحوال النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأقواله، ويكتبه «2» ، وكان لا يزال بعض الصحابة أحياء في حياة الزهري. ثم تلقّى عن الزهري كثير من تلاميذه العلماء، ويبلغ عددهم المئات، ولم يكن لهم شغل إلا جمع الأحاديث، وأقوال الصحابة، وتعليم الأمّة الإسلاميّة الدّين، ونشر السنّة، وقد انقطعوا كلّهم لهذا العمل، وفرّغوا أنفسهم له. ومن أعظم الخطأ في تاريخ تدوين الحديث دعوى بعض الناس أنه بدأ بعد المئة، وذلك تبعا لخطئهم في تحديد زمن التابعين. فإنّه لمّا بلغهم أنّ التدوين بدأ في عهد التابعين، وهم يعلمون أنّ بعض الصحابة امتد بهم العمر إلى أواخر المئة الأولى للهجرة، ظنّوا أنّ عهد التابعين يبدأ بعد انقضاء زمن الصحابة، فذهبوا إلى أنّ التدوين بدأ بعد المئة، وهذا كله خطأ. والحقّ أنّ عنوان «التابعين» يطلق على الذين لم يدركوا النبي صلّى الله عليه وسلم، أو   (1) طبقات ابن سعد (2/ 2: 135) . (2) انظر ترجمة الزهري في تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ولدوا في أواخر عهده فلم يروه، وإنما رأوا أصحابه، وأخذوا عنهم، وعلى أقل تقدير يعدّ تابعيا من ولد بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم (ربيع الأول سنة 11) ، وأعمال التابعين التي تنسب إليهم يبدأ عهدها من سنة 11 هـ، وليس من المحتم ألا ينسب إلى التابعين إلا ما صدر عنهم بعد وفاة آخر الصحابة بقاء على قيد الحياة، فاخر الصحابة بقاء على قيد الحياة امتدّ زمنه إلى أواخر المئة الأولى للهجرة، وأعمال التابعين- ومنها البدء بتدوين الحديث- ينبغي أن تنسب إلى زمنهم الذي بدأ من بعد سنة 11 هـ التي انتقل فيها النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى الرّفيق الأعلى. جمع الحديث له ثلاثة أطوار: والحق أنّ جمع الأحاديث، والأحكام، والأخبار، وتدوينها عند المسلمين له ثلاثة أطوار: الطور الأول: هو الذي جمع فيه الرجال ما عندهم من العلم. والطور الثاني: هو الذي قام فيه أهل كلّ مصر من الأمصار الإسلامية بتدوين ما عند علماء ذلك المصر من العلم في كتب خاصّة بأهل مصرهم. والطور الثالث: هو الذي جمعت فيه علوم الدّين الإسلاميّ كلّها من جميع الأمصار، ودوّنت في الدواوين الكبرى، والمصنفات الجليلة، وهي التي صارت إلينا، ولا تزال بين أيدينا. والطّور الأول استمرّ إلى سنة 100 هـ، وامتدّ الطّور الثاني إلى سنة 150 هـ، وبدأ الطور الثالث من سنة 150 هـ إلى القرن الثالث للهجرة، أو بعده بقليل. وإنّ الطّور الأول هو الذي كان فيه الصحابة، وكبار التابعين. والطور الثاني هو الذي كان فيه صغار التابعين، وتابعو التابعين. والطور الثالث هو عهد المحدّثين، وأئمة السنة، كالإمام محمد بن إسماعيل البخاري، والإمام مسلم صاحب الجامع الصحيح، والإمام الترمذي، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهم من المحدّثين. وما جمع في الطور الأول دوّن في كتب الطور الثاني، وما دوّن في الطور الثاني جمع، ونظم في كتب الطور الثالث. ونرى أمامنا أكثر ما جمع في الطورين الثاني والثالث مدونا في كتب كثيرة تشتمل على آلاف من الأوراق هي في الواقع من أثمن الذخائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 العلمية في العالم، بل لا يوجد في جميع ذخائر الدنيا العلمية أوثق منها سندا، وأصحّ تاريخا ورواية. ولقد صدق الأستاذ الكبير العلامة الشيخ شبلي النعماني «1» حين قال: (لما أرادت الأمم الآخرى من غير المسلمين أن تجمع في أطوار نهضتها أقوال رجالها، ورواياتهم كان قد فات عليهم زمن طويل، وانقضى بينها وبينهم عهد بعيد، فحاولوا كتابة شؤون أمّة قد خلت، ولم يميزوا بين غثّ ذلك الماضي وسمينه، وصحيحه وسقيمه، بل لم يعلموا أحوال رواة تلك الأخبار، ولا أسماءهم، ولا تواريخ ولادتهم، فاكتفوا بأن اصطفوا من أخبار هؤلاء الرواة المجهولين ورواياتهم ما يوافق هواهم، ويلائم بيئتهم، وينطبق على مقاييسهم. ثم لم يمض غير زمن يسير حتى صارت تلك الخرافات معدودة كالحقائق التاريخية المدوّنة في الكتب، وعلى هذا المنهاج السّقيم صنّفت أكثر الكتب الأوربية مما يتعلق بالأمم الخوالي وشؤونها، والأقوام القديمة وأخبارها، والأديان السالفة، ومذاهبها، ورجالها. أما المسلمون فقد جعلوا لرواية الأخبار والسير قواعد محكمة يرجعون إليها، وأصولا متقنة يتمسّكون بها، وأعلاها ألّا تروى واقعة من الوقائع إلا عن الذي شهدها، وكلّما بعد العهد على هذه الواقعة فمن الواجب تسمية من نقل ذلك الخبر عن الذي نقله عمّن شهد، وهكذا بالتسلسل من وقت الاستشهاد بالواقعة، والتحدّث عنها إلى زمن وقوعها، والتثبت من أمانة هؤلاء الرواة، وفقههم، وعدالتهم، وحسن تحمّلهم للخبر الذي يروونه، وإذا كانوا على خلاف ذلك وجب تبيينه أيضا. وهذه المهمّة من أشقّ الأمور، ومع ذلك فإنّ مئات من المحدّثين تفرّغوا لها، ووقفوا أعمارهم على تحرّي ذلك، واستقصائه وتدوينه، وطافوا لأجله البلاد، ورحلوا بين الأقطار، باحثين دارسين لأحوال الرواة، وكانوا يلقون المعاصرين لهم من الرواة؛ لينقدوا أحوالهم، وإذا اطمأنوا إلى سيرة فريق منهم سألوهم عما   (1) هو أستاذ العلامة المؤلف، كان من كبار الباحثين والمؤرخين المصلحين في الهند، وقد سبقت ترجمته في صفحة (5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 يعرفونه من أحوال الطبقة التي كانت قبلهم، وقد اجتمع من هذا المجهود العلمي العظيم علم مستقلّ من العلوم الإسلامية، أطلق عليه فيما بعد عنوان (أسماء الرجال) فتيسّر لمن أتى بعدهم أن يقفوا على أقدار مئات الألوف من الحفّاظ، والعلماء، والرواة، وغيرهم. علم نقد الحديث من جهة الدراية والفهم: هذا فيما يتعلق بالرواية وحملتها، وهنالك علم نقد الحديث من جهة الدراية والفهم، وأنّ له أصولا محكمة، وقواعد متقنة اتخذوها لنقد المرويات، وتمييز صحيحها من سقيمها، وغثّها من السمين، والرّاجح من المرجوح، وقد تحرّى علماء السّنّة في هذا الأمر الحقّ وحده، وتمسّكوا فيه بالمحجّة البيضاء، وكل ما يؤدي إليه الصدق، فكان عملهم هذا من مفاخر الإسلام، وأنت تعلم أنّ ممّن تحمل الرواية رجالا من الولاة، والحكام، والأمراء الذين يخشى جانبهم، ويحذر الناس بطشهم وجبروتهم، فكان المحدّثون يلتزمون فيهم قول الحقّ، وينزلونهم في المنازل التي يستحقّونها، ولا يبالون بما قد يصيبهم من مكروه بسبب هذه المصارحة بما يرضي الله ويصون أمانات الإسلام. وكان وكيع «1» محدّثا كبيرا، وكان أبوه عاملا للدولة على بيت المال، فكان إذا روى عن أبيه شيئا عضده برواية راو آخر، فإذا انفرد أبوه برواية خبر توقّف وكيع عن الأخذ بذلك حتى تعضده رواية أخرى. فهل رأيت مثل هذا الاحتياط، ومثل هذه المبالغة في التثبت عند أهل ملّة أخرى غير ملّة الإسلام؟ ويقول الإمام معاذ بن معاذ «2» : رأيت المسعودي في سنة 154   (1) هو وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي، أحد حفاظ الحديث، كان محدث العراق في عصره، أراد الرشيد أن يوليه قضاء الكوفة، فامتنع ورعا، قال الإمام أحمد بن حنبل: «ما رأيت أحدا أوعى منه، ولا أحفظ، وكيع إمام المسلمين» . توفي بفيد راجعا من الحجّ سنة 197 هـ. (2) هو معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري التميمي، من الأثبات في الحديث، قال الإمام أحمد بن حنبل: «ما رأيت أعقل من معاذ، كأنه صخرة!» ، توفي بالبصرة سنة 196 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 هـ «1» يطالع كتابا، يعني أنه قد تغيّر حفظه «2» . ومما يثير العجب والاستغراب أنّ الإمام معاذ بن معاذ تقدّم إليه رجل بألف دينار على ألا يكتب في كتابه شيئا عن رجل سماه، فلا يوثقه، ولا يجرحه، بل يسكت عنه، فرفض الإمام ذلك المال بشدّة، وقال: إنّي لا أكتم الحق «3» ، فهل يعرف أحد في تاريخ البشر مثالا للاحتياط في العلم والأمانة للحقّ والاستقامة على منهج الصّدق أعلى من هذا المثال؟ على أنّ جميع مرويات السنة لا تزال محفوظة كما هي إلى زماننا هذا، وإنّ قواعد النقد الموضوعة، وأحوال الرواة الممحّصة، قد يسّرت لكلّ من شاء حتى في زماننا هذا وفي كل زمان أن يميز بها بين الصحيح والسقيم، والغثّ والسمين، والرّاجح والمرجوح، والقويّ والضعيف. ستة مصادر لسيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وهديه: سادتي: لقد شغلت شطرا من وقتكم الثمين بإيراد هذه الأمور العلمية التي قلّما يستطيبها السّامعون، لكنّي فيما أظنّ قد استعرضت لكم أنحاء مختلفة من السّيرة النبوية، ومثلت أمامكم جوانبها التاريخية المتنوعة، وأريد أن ألفت أنظاركم إلى المصادر التي أخذت عنها سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم وهديه، وكيف دوّنت تلك المصادر وجمعت، [ المصدر الأول من مصادر السيرة النبوية: ما اقتبس من القرآن الحكيم ] وإنّ أهمّ ما في سيرته صلّى الله عليه وسلم، وأوثقها، وأكثرها صحة هو ما اقتبس من القرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حميد، وهو الذي لم يشك في صحته العدوّ اللدود فضلا عن الحبيب الودود. والقرآن يقصّ علينا جميع مناحي السيرة النبوية، وطرفا من حياته صلّى الله عليه وسلم قبل النبوة، فيذكر لنا يتمه، وفقره، وتحنثه، كما يذكر لنا شؤونه بعد النبوة من هبوط الوحي الإلهي عليه، وتبليغه إيّاه، والعروج به، وعداوة الأعداء، وهجرته، وغزواته، وفي القرآن الكريم ذكر أخلاقه صلّى الله عليه وسلم، كلّ ذلك تراه مذكورا في   (1) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الملك بن مسعود، توفي سنة 165 هـ. (2) تهذيب التهذيب، الجزء السادس، ص 11. (3) نفس المرجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 القرآن ببيان واضح، وأسلوب متين رائق، ومن ذلك تعلمون أنّه لم تتطرّق أذن التاريخ سيرة رجل بأحسن، ولا أصحّ، ولا أوثق من سيرة محمّد صلّى الله عليه وسلم. والمصدر الثاني من مصادر السيرة النبوية «1» : كتب الحديث ، وهي كتب حفظت لنا من أقوال النبي صلّى الله عليه وسلم، وأفعاله، وأحواله ما يبلغ مئة ألف حديث، وقد امتاز الصحيح منها عن الضعيف والموضوع، والقوي منها عن غير القوي. ومن الكتب المصنفة في الحديث الكتب الستة الصحاح التي محّص العلماء كلّ ما ورد فيها، وذكروا شواهده، ومتابعاته، حتى لم   (1) تأتي كتابة السيرة النبوية- من حيث الترتيب الزمني- في الدرجة الثانية بالنسبة لكتابة السنة النبوية، فلا جرم أن كتابة السنة- أي الحديث النبوي كانت أسبق من كتابة السيرة النبوية عموما، إذا السنة بدأت كتابتها كما هو معلوم، في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بإذن بل بأمر منه عليه الصلاة والسلام، وذلك بعد أن اطمأن إلى أن أصحابه قد تنبهوا للفارق الكبير بين أسلوبي القرآن المعجز والحديث النبوي البليغ، فلن يقعوا في لبس بينهما. أما كتابة حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومغازيه بصورة عامّة فقد جاء ذلك متأخرا عن البدء بكتابة السنة، وإن كان الصحابة يهتمون بنقل سيرته ومغازيه شفاها. ولعلّ أول من اهتم بكتابة السيرة النبوية عموما، هو عروة بن الزبير المتوفى 92 هـ ثم أبان بن عثمان المتوفى 105 هـ، ثم وهب بن منبه المتوفى 110 هـ ثم شرحبيل بن سعد المتوفى سنة 123 هـ، ثم ابن شهاب الزّهري المتوفى 124 هـ. إنّ هؤلاء يعدّون، ولا ريب، في مقدمة من اهتموا بكتابة السيرة النبوية، غير أن جميع ما كتبه هؤلاء قد باد وتلف مع الزمن، فلم يصل إلينا منه شيء، ولم يبق منه إلا بقايا متناثرة، روى بعضها الطبري، ويقال: إنّ بعضها الآخر- وهو جزء مما كتبه وهب بن منبه- محفوظ في مدينة هايدلبرج بألمانيا. ولكن جاء في الطبقة التي تلي هؤلاء من تلقّف كلّ ما كتبوه، فأثبتوا جلّه في مدوناتهم التي وصل إلينا معظمها بحمد الله وتوفيقه، ولقد كان في مقدمة هذه الطبقة محمد بن إسحاق المتوفى عام 152 هـ، وقد اتفق الباحثون على أن ما كتبه محمد بن إسحاق يعدّ من أوثق ما كتب في السيرة النبوية في ذلك العهد ولئن لم يصل إلينا كتابه «المغازي» بذاته، إلا أن أبا محمد عبد الملك المعروف بابن هشام قد جاء من بعده، فروى لنا كتابه هذا مهذبا منقحا، ولم يكن قد مضى على تأليف ابن إسحاق له أكثر من خمسين سنة (فقه السيرة النبوية، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي مع اختصار، ص 226) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 يتركوا في النفوس منزع ظفر لمحقق منصف، بل ولا لمدقق جائز. ويتلو الكتب الستّة كتب المسانيد، وأعظمها مسند الإمام أحمد بن حنبل في ستة مجلدات كبار، كلّ مجلّد منها يحتوي على نحو خمسمئة صفحة من القطع الكبير بحروف دقيقة. وقد تضمّن هذا المسند مرويات كلّ صحابي مجموعة ومذكورة على حدة، وفي هذه المجموعات جميع تعاليم الرسول صلّى الله عليه وسلم، وأحواله، وسيرته غير مرتبة على المواضيع. والمصدر الثالث: كتب المغازي ، ومعظم ما فيها ذكر الغزوات النبوية، وقد تتضمن أمورا أخرى. ومن المصنفات القديمة في المغازي مغازي عروة بن الزبير «1» المتوفى سنة 94 هـ، ومغازي الزهري المتوفى سنة 124 هـ، ومغازي موسى بن عقبة المتوفى سنة 141 هـ، ومغازي ابن إسحاق المتوفى سنة 150 هـ ومغازي زياد البكائي المتوفى سنة 182 هـ، ومغازي الواقدي المتوفى سنة 207 هـ وغيرهم. والمصدر الرابع: كتب التاريخ الإسلامي العام التي تبتدىء بالسيرة النبوية، ومن أوثقها، وأصحها، وأطولها، وأضخمها: طبقات ابن سعد، وتاريخ الرسل والملوك للإمام أبي جعفر الطبري، والتاريخ الصغير، والتاريخ الكبير لمحمد بن إسماعيل البخاري، وتاريخ ابن حيان، وتاريخ ابن أبي خيثمة البغدادي المتوفى سنة 299 هـ، وغيرهم. والمصدر الخامس: [كتب الدلائل] الكتب التي ألفت في المعجزات، وتسمّى بكتب الدلائل، ومنها دلائل النبوة لأبي إسحاق الحربي المتوفى سنة 255 هـ، ودلائل النبوة لابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ، ودلائل النبوة للإمام البيهقي المتوفى سنة 430 هـ، ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني المتوفى سنة 430 هـ، ودلائل النبوة للمستغفري المتوفى سنة 432 هـ، ودلائل   (1) هذا الكتاب كان مفقودا، وقد أخرجه فضيلة الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي بعد عناء طويل وجهد حثيث، وهو الآن على قيد الطباعة في الأكاديمية البريطانية الإسلامية بلندن بتحقيقه وتعليقاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 أبي القاسم إسماعيل الأصفهاني المتوفى سنة 535 هـ، وأضخمها وأبسطها كتائب الخصائص الكبرى للجلال السيوطي المتوفى سنة 911 هـ. والمصدر السادس: كتب الشمائل ، وهي مقصورة على ذكر أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم، وعاداته، وفضائله، وما كان يعمل في يومه من الصباح إلى المساء، وفي ليلة من المساء إلى الصباح. وأشهر هذه الكتب وأولها (كتاب الشمائل) للحافظ الترمذي. وقد كتب كبار العلماء زيادات عليه، أهمّها وأضخمها وأطولها (كتاب الشفا في حقوق المصطفى) للقاضي عياض، وقد شرحه الشهاب الخفاجي، وسمّاه: نسيم الرياض، وصنف في هذا الموضع علماء آخرون، منها: كتاب (شمائل النبي صلّى الله عليه وسلم) لأبي العباس المستغفري المتوفى سنة 432 هـ، و (النور السّاطع) لابن المقري الغرناطي المتوفى سنة 552 هـ، و (سفر السعادة) لمجد الدين الفيروز أبادي المتوفى سنة 812 هـ. يضاف إلى ما ذكرناه الكتب التي صنفها بعض العلماء المتقدمين في أحوال مكّة المعظمة، والمدينة المنورة، وذكروا فيها ما في هذين البلدين الطيبين من بقاع، وأماكن، وأودية، وجبال، وخطط، وذكروا من تولى إماراتهما بادئين بكلّ ما له علاقة بالنبي صلّى الله عليه وسلم. وأقدم كتاب في هذا الموضوع (أخبار مكة) للأزرقي المتوفى سنة 223 هـ و (أخبار المدينة) لعمر بن شبة المتوفى سنة 268 هـ ثم أخبار مكة للفاكهي، وأخبار المدينة لابن زبالة. ساداتي! لقد عرضت عليكم أسماء الكتب في السيرة النبوية، وذكرت لكم ما صنف في هذا الباب من قديم الزمان، ومنه يعلم القارئ مكانة السيرة المحمّدية من التاريخ، وأنّ هؤلاء المحدّثين والخلفاء الإسلاميين لم يقتصروا على حفظ الروايات عن ظهر قلب، وتقييدها بالكتابة وحسب، بل اتخذ الولاة والخلفاء معاهد لكبار العلماء والأئمة يتولّون التدريس فيها، وأقاموا المباني في المساجد ليشتغل فيها المعلمون والمدرسون من كبار العلماء بتعليم المغازي، وكان عاصم بن عمر المتوفى سنة 121 هـ- وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 حفيد قتادة الصحابي- يدرس في المسجد الجامع بدمشق بأمر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. كتب السيرة النّبوية تعدّ بالألوف: والذي ألفه الناس في سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم من عهد الرسالة إلى يومنا هذا في مختلف الأوطان الإسلامية والأجنبية في معظم لغات العالم يعدّ بالألوف، واعتبر ذلك بما صنف باللغة الأوردية الحديثة وحدها في موضوع السيرة النبوية، مع أن الأوردية لم تصر لغة تأليف إلا منذ قرنين على الأكثر، وفي تقديري أنّ ما صنف بها وحدها في السيرة النبوية يبلغ ألفا إن لم يزد عليه «1» . مرجليوث أشدّ المستشرقين تحاملا على الإسلام: ودع عنك المسلمين وما صنفوا في سيرة نبيّهم صلّى الله عليه وسلم، فإنّهم يحبّونه حبّا عظيما، ويقدمون ذلك بين يدي الله فرطا وذخرا لهم يوم القيامة، وتعال ننظر إلى من ألف في سيرته ممّن لا يؤمنون بنبوته، ولا يوقنون برسالته، فإننا نجد في الهند نفسها على اختلاف مللها: من الهنادك، والسيخ، والبرهمو سماج كثيرا من علمائهم قد ألفوا في سيرته صلّى الله عليه وسلم، أما الأوربيون الذين لا يدينون بالإسلام، ولا يؤمنون بالرسالة المحمدية فقد صنّف منهم في سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم حتى المبشرون من دعاة النصرانية والمستشرقون، عناية منهم بالتاريخ، وإرواء لظمئهم العلمي، ويعد ما ألفوه في ذلك بالمئات. وكنت قرأت في مجلة «المقتبس» التي كانت تصدر في دمشق قبل نحو أربعين سنة إحصاء لما صنف في السيرة النبوية بمختلف اللغات الأوربية،   (1) ومن أشهر وأفضل ما ألّف بالأردوية في موضوع السيرة النبوية هو «سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم» (في سبع مجلدات ضخمة) للعلامة شبلي النعماني وتلميذه صاحب هذه المحاضرات العلامة سيد سليمان الندوي، و «سيرة رحمة للعالمين» للقاضي سليمان المنصور فوري في ثلاث مجلدات التي طبعت أخيرا في دار السلام، الرياض نقلها إلى العربية الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم، وهي من أعظم كتب السيرة تأثيرا، و «النبي الخاتم» للشيخ مناظر أحسن الكيلاني و «رسول رحمت» لمولانا أبي الكلام آزاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فبلغ نحو ثلاثمئة كتاب وألف كتاب، ولو أضفنا إلى هذا العدد ما صدر من المطابع الأوربية في السيرة النبوية خلال الأربعين سنة بعد ذلك الإحصاء الذي نشرته مجلة «المقتبس» لأربى على ذلك كثيرا. وإنّ مرجوليوث الذي كان أستاذا للغة العربية في جامعة أوكسفورد أصدر في سنة 1905 م كتابه (محمد) وجعله حلقة في سلسلة «عظاماء الأمم» وهو لم يكتب كتابه هذا ليثني فيه على رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم، بل لعلّه لم يؤلف كاتب بالإنجليزية كتابا أشدّ تحاملا على النبي صلّى الله عليه وسلم مما جاء في هذا الكتاب، وقد حاول مرجليوث أن يشوّه كلّ ما يتعلق بالسيرة الشريفة، وأن يشكّك في أسانيدها، ولم يأل جهدا في نقض ما أبرمه التاريخ، ومعارضة ما حقّقه المحقّقون من المنصفين، لكنه مع كل هذا لم يتمالك عن الاعتراف في مقدمة كتابه بأنّ الذين كتبوا في سيرة محمد صلّى الله عليه وسلم لا ينتهي ذكر أسمائهم، وأنهم يرون أن من الشرف للكاتب أن ينال المجد بتبوّئه مجلسا بين الذين كتبوا في السيرة المحمدية. the biographers of the prophet Mohammad from a Long Series it is impossible to end but in Which Would be honourable to find a plaee. اعترافات كبار المستشرقين حول السيرة النبوية: وقد كتب جون ديون بورت سنة 1870 م كتابا بالإنجليزية في السيرة المحمدية عنوانه (اعتذار من محمد والقرآن Appologey for Mhammad Quran) والذي يقرؤه يخيّل إليه أنّه كتبه بنزعة الإخلاص والإنصاف، ويقول في مقدمته: لا ريب أنه لا يوجد في الفاتحين، والمشرعين، والذين سنوا السنن من يعرف الناس حياته وأحواله بأكثر تفصيلا، وأشمل بيانا مما يعرفون من سيرة محمد صلّى الله عليه وسلم وأحواله. وألقى ريورند باسورث سميث Basworth smith عضو كلية التثليث في أوكسفورد سنة 1874 م محاضرات عن (محمد والمحمدية) في الجمعية الملكية لبريطانيا العظمى، هذا الكتاب أشد تحاملا على النبي صلّى الله عليه وسلم، ومما جاء فيه: «كلّ ما يقال في الدّين يغلب فيه الجهل ببدايته، ومما يؤسف له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أن هذا يصحّ إطلاقه على الدّيانات الثلاث «1» وعلى أصحابها الذين نعدّهم تاريخيين؛ لأننا لا نعمل لهم وصفا أحسن من هذا الوصف، فإنّنا قلّما نعلم عن الذين كانوا في طلائع الدعوة، والذي نعلمه عن الذين جاؤوا بعدهم واجتهدوا في نشر عقائدهم أكثر من الذي نعلمه عن أصحاب الدعوة الأولين. فالذي نعلمه من شؤون زردشت، وكونفوشيوس أقل من الذي نعلمه عن سولون، وسقراط. والذي نعلمه عن موسى، وبوذا أقل مما نعلمه عن أمبرس (Ambrase) «2» وقيصر. ولا نعلم من سيرة عيسى إلا شذرات تتناول شعبا قليلة من شعب حياته المتنوعة والكثيرة. ومن ذا الذي يستطيع أن يكشف لنا الستار عن شؤون ثلاثين عاما هي تمهيد واستعداد للثلاثة أعوام التي لنا علم بها من حياته. إنّه بعث ثلث العالم من رقدته، ولعله يحيي أكثر مما أحيا، وحياته المثالية بعيدة عنّا مع قربها منّا، وإنها تتراوح بين الممكن والمستحيل، بيد أنّ كثيرا من صفحاتها لا نعلم عنها شيئا أبدا، وما الذي نعلمه عن أمّ المسيح، وعن حياته في بيته، وعيشته العائلية، وما الذي نعلمه عن أصحابه الأولين، وحواريه، وكيف كان يعاملهم، وكيف تدرجات رسالته الروحية في الظهور، وكيف فاجأ الناس بدعوته ورسالته. وكم وكم من أسئلة تجيش في نفوسنا، ولن يستطيع أحد أن يجيب عليها إلى يوم القيامة؟! «أما الإسلام فأمره واضح كلّه، ليس فيه سرّ مكتوم عن أحد، ولا غمّة ينبهم أمرها على التاريخ. ففي أيدي الناس تاريخه الصحيح، وهم يعلمون من أمر محمد صلّى الله عليه وسلم كالذي يعلمونه من أمر لوثر، وملتن، وإنّك لا تجد فيما كتبه عنه المؤرخون الأولون أساطير، ولا أوهاما، ولا مستحيلات، وإذا عرض لك طرف من ذلك أمكنك تمييزه عن الحقائق التاريخية الراهنة، فليس لأحد هنا أن يخدع نفسه، أو يخدع غيره، والأمر كلّه واضح وضوح النهار، كأنه الشمس رأد الضّحى يتبين تحت أشعة نورها كلّ شيء» .   (1) يريد ديانات «بوذا» و «كونفوشيوس» و «زردشت» . (2) أمبرس (339- 397 ق. م) رئيس أساقفة ميلانو، هدى القديس أوغسطينس، وله أناشيد دينيّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 السيرة النبوية أوثق رواية وأكثر صحة من كل ما كتب في سيرة النبيين: لقد ألف المسلمون في السيرة النبوية ألوف الكتب، بل أكثر من ذلك، ولا يزالون ماضين في التأليف فيها، وكلّ كتاب في السيرة المحمّدية مهما كان لا ريب أنّه أوضح بيانا، وأوثق رواية، وأكثر صحة من كل ما كتبه الناس في قصص النبيين وسيرهم عليهم السّلام. والكتب الأولى في السيرة المحمدية تلقاها عن أصحابها مئون، وآلاف من تلاميذهم، وأتقنوها فهما، وأحكموها فقها ولم يتركوا فيها كلمة غامضة، ولا عبارة معضلة إلا أوضحوا مبهمها، وحلّوا معضلها. وأول كتاب عندنا في الحديث النبوية كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، وقد سمعه من مؤلفه ستمئة من تلاميذه فيهم: الخلفاء، والولاة، والعلماء، والفقهاء، والأدباء، والزهّاد، والنسّاك. والجامع الصحيح لأبي عبد الله بن إسماعيل البخاري تلقاه ستون ألفا من أهل العلم عن تلميذ واحد من تلاميذه وهو الإمام الفربري «1» . فهل في العالم دين احتاط أهله مثل هذا الاحتياط، واهتمّوا مثل هذا الاهتمام في كلّ ما يتعلّق بأمر نبيهم وهدايته، وهل ألف في هذا الباب تأليف أكثر صحة، وأعظم ثقة، وتثبتا، وهل نال مثل هذه الصحّة التاريخية دين غيره، وهل حفظ التاريخ من تفاصيل حياة نبيّ من الأنبياء عليهم السلام مثل الذي حفظه من سيرة محمّد صلّى الله عليه وسلم؟!   (1) هو محمد بن يوسف: صاحب البخاري. كان ثقة ورعا، رحل إليه الناس، وسمعوا منه صحيح البخاري. وهو أحسن من روى الحديث عن البخاري. توفي سنة (320 هـ) . شذرات الذهب (4/ 101) والعبر (2/ 189) وسير أعلام النبلاء (15/ 10- 13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 المحاضرة الرّابعة في السّيرة المحمّديّة من ناحية كمالها وتمامها وإحاطتها بشؤون الحياة البشريّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 لا تكون حياة أحد كاملة إلا إذا كانت معلومة للناس، وحياة محمد صلّى الله عليه وسلم من ميلاده إلى ساعة وفاته معلومة التفاصيل بجميع دخائلها. سادتي وإخواني! موضوع كلامنا اليوم في أنّ السيرة المحمّدية هي السيرة التامّة الكاملة الشاملة لجميع أطوار الحياة، وما من حياة أحد- مهما بلغت من صحة التاريخ وثبوت الرواية- يصح أن يكون منها للناس أسوة تتبع ومثال يقتدى به إلا إذا كانت متصفة بالكمال، ولا تكون حياة أحد كاملة ومنزهة عن العيوب والمثالب إلا إذا كانت معلومة للناس بجميع أطوارها، ومتجلية لهم دخائلها من كلّ مناحيها. وحياة محمد صلّى الله عليه وسلم من ميلاده إلى ساعة وفاته معلومة للّذين عاصروه، وشهدوا عهده، وقد حفظها التاريخ عنهم لمن بعدهم، وهو في حياته لم يحتجب عن عيون قومه إلا مدّة يسيرة ليعدّ عدّته للمستقبل، وليهيّىء الأسباب لحياته القابلة. إنّ جميع شؤونه وأطوار حياته- من ولادته، ورضاعه، وطفولته إلى أن صار يافعا وشابا- كلّ ذلك ظاهر أمره، معلومة تفاصيله. وقد علم التاريخ عن هذا النبي صلّى الله عليه وسلم باشتغاله في التجارة، وكيفية زواجه، وعلم الناس سجاياه في صداقته، وفي وفائه للناس قبل النبوة، واتصلوا به حين اتخذوه أمينا، وأقاموه حكما فيما اختلفوا فيه من نصب الحجر الأسود في موضعه من الكعبة، ثم وقفوا على أمره حين حبّب الله إليه الخلوة، فاعتزلهم في غار حراء، ثم علموا حاله حين نزل عليه الوحي من ربّ العالمين، وحين بدأ أمر الإسلام يظهر للوجود، فأخذ يدعو الناس إليه، ويبلغ ما أنزل عليه. وقد رأى التاريخ كيف خالفوه وعاندوه. وهل غاب عن التاريخ ما لقي صلّى الله عليه وسلم في نشر الإسلام من جهد وعناء، وما قابله به أهل الطائف حين سار إليهم ينهاهم عن عبادة الأوثان؟ ويأمرهم بعبادة الرحمن. وهل نسي التاريخ حين أخبر أهل مكّة- وهم أقلية قليلة من المسلمين وأكثرية ساحقة من المشركين- بخبر العروج به إلى السماء؟ ثم هل خفي عن التاريخ أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 هجرته، ومع من هاجر، والغزوات التي غزاها، والأسباب الباعثة عليها، وموقفه من الهدنة «1» إذا هادن، وعهوده إذا عاهد؟ وما صلح الحديبية بسرّ. والذين طالعوا كتب السيرة النبوية يعلمون ما ذكرنا، وما لم نذكر، وقد وقفوا على كتبه صلّى الله عليه وسلم إلى الملوك، والأقيال، والولاة، يدعوهم فيها إلى دين الله، دين السلام والوئام، وعرفوا جهاده في سبيل الحق، وما بذله في تبليغ دعوة الإسلام إلى الناس، إلى أن أكمل الله للإنسانية دينها، وحجّ صلّى الله عليه وسلم حجّة الوداع، وتوفاه الله إليه. فهل في شيء من ذلك ما يجهله التاريخ، وهل فيما يتعلق بهذا الرسول الأعظم ورسالته ما أسدل عليه ستار من خفاء؟ إنّ كل ما ينسب إليه صلّى الله عليه وسلم، أو يعزى إليه من حق أو باطل، وصدق أو كذب، وصحيح أو فاسد معلوم بالتفصيل، وواضح أمره للناقدين. وقد يخطر ببال سائل أن يسأل: ما بال المحدّثين حافظوا موضوعات الأحاديث وضعافها، وهلا اكتفوا بالصحيح وأهملوا غيره؟ والذي ينعم النظر في ذلك يبدو له من المصلحة ألايوجه القادحون اللائمة إلى المسلمين بأنّ هنالك مرويات قضوا عليها، وأخبارا نبذوها ليخفوا من أمر نبيهم ما فيه مغمز، كما يطعن الطاعنون في هذه الأيام على الأخبار المسيحية لأجل ذلك. أما المحدّثون الكرام من علماء المسلمين؛ فقد جمعوا كلّ ما له علاقة بالنبي صلّى الله عليه وسلم صحيحا كان أو سقيما، حقا أو باطلا، وجعلوا لنقده قواعد، وأصّلوا لتحقيقه أصولا، يرجع إليها في تمييز الصحيح من الفاسد، والغثّ من السمين. وهم قد حافظوا شؤون حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وأحواله، وأخباره كلّها، ولم يتركوا أمرا من أموره، ولا شأنا من شؤونه إلا ذكروه. حتى لقد وصفوه في قيامه، وجلوسه، ونهوضه من النوم، وهيئته في ضحكه، وابتسامه، وعبادته في ليلة ونهاره، وكيف كان يفعل إذا اغتسل، وإذا أكل، وكيف كان يشرب، وماذا كان يلبس، وكيف يتحدث إلى الناس إذا لقيهم، وما كان يحبّ من الألوان، ومن الطيب، وما هي حليته وشمائله، ووصفوا جسده الطاهر وصفا كاملا كأنك   (1) الهدنة: المصالحة بعد الحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 تراه، ووصفوا حياته العائلية من معاشرة الرجل أهله، وخليلته، وأتبعوا ذلك بذكر الطهارة من الغسل، فوصفوا ذلك كما وصفوا الوضوء للصلاة. مثال من كتب الشمائل لتفاصيل ما يعرفه التاريخ عن محمد صلّى الله عليه وسلم من جليل ودقيق: وأستعرض لكم فهرسة أقدم كتاب في الشمائل للترمذي؛ لتعلموا كيف ضبط المسلمون أحوال النبي صلّى الله عليه وسلم، وأحصوا أخباره جليلها ودقيقها، خطيرها وحقيرها، كثيرها وقليلها: (1) باب ما جاء في حلية النبيّ صلّى الله عليه وسلم، (2) في ذكر شعره، (3) في ترجّله، (4) شيبه، (5) خضابه، (6) كحله، (7) لباسه، (8) عيشه، (9) خفّه، (10) نعله، (11) خاتمه، (12) صفة سيفه، (13) درعه، (14) مغفره، (15) عمامته، (16) إزاره، (17) مشيته، (18) تقنّعه، (19) جلسته، (20) فرشه ووسادته، (21) ما جاء في اتكائه، (22) صفة أكله، (23) خبزه، (24) إدامه، (25) وضوءه، (26) ما يقوله قبل الطعام وبعده، (27) قدحه، (28) فاكهته، (29) شرابه، (30) صفة شربه، (31) تعطره وتطيبه، (32) كيف كان كلامه، (33) إنشاده الشعر، (34) مسامرته وقصصه، (35) نومه، (36) عبادته، (37) ضحكه وتبسمه، (38) مزاحه، (39) عبادته بعد طلوع الشمس، (40) تطوعه في بيته، (41) صومه، (42) تلاوة القرآن، (43) بكاؤه وخشوعه، (44) فراشه، (45) تواضعه، (46) أخلاقه، (47) أسماؤه الكريمة، (48) معاشرته، (49) سنه، (50) وفاته، (51) ميراثه، (52) حجامته. ذلك ممّا يتعلق بنفسه الشريفة، وشخصه الكريم، وهنالك أحاديث عن كلّ طور من أطوار حياته، وناحية من نواحيها، كلّ ذلك في وضوح وجلاء، بحيث لم يبق شيء من حياته مخفيا أمره، مكتوما سرّه، فإذا دخل بيته؛ فهو بين أهله، وعياله، وأولاده، وإن خرج منه؛ فهو بين أصحابه، ورفقائه، وكلّ ذلك محفوظ، مذكور، مشهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 كلمات المستشرقين الكبيرين عما يعرفه التاريخ من دخائل محمد صلّى الله عليه وسلم: إخواني! إنّ أعظم الناس وأجلّهم إذا انقلب إلى بيته كان فيه رجلا من الرجال، وواحدا كاحاد الناس، ولقد صدق فولتير «1» في كلمته المشهورة: «إنّ الرجل لا يكون عظيما في داخل بيته، ولا بطلا في أسرته» يريد أنّ عظمة المرء لا يعترف بها من هو أقرب الناس إليه، لاطّلاعه على دخيلته في مباذله. وهذا الحكم يشذّ عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيقول باسورت سمث: إن ما قيل عن العظماء في مباذلهم لا يصحّ- على الأقل- في محمد رسول الإسلام، واستشهد بقول كبن «2» : «لم يمتحن رسول من الرسل أصحابه كما امتحن محمد أصحابه، إنه قبل أن يتقدّم إلى الناس جميعا، تقدم إلى الذين عرفوه إنسانا المعرفة الكاملة، فطلب من زوجته، وغلامه، وأخيه، وأقرب أصدقائه إليه وأحبّ خلانه أن يؤمنوا به نبيا مرسلا، فكلّ منهم صدّق دعواه، وآمن بنبوّته. وإنّ حليلة المرء أكثر الناس علما بباطن أمره، ودخيلة نفسه، وألصقهم به، فلا يوجد من هو أعرف منها بهناته، ونقائصه، أليس أول من آمن بمحمد رسول الله زوجه الكريمة التي عاشرته خمسة عشر عاما، واطّلعت على دخائله في جميع أموره، وأحاطت به علما ومعرفة، فلما ادّعى النبوّة كانت أول من صدّقه في نبوّته» . تفاصيل أخرى عما يعرفه التاريخ عنه صلّى الله عليه وسلم: إنّ أعظم الناس لا يأذن لزوجه- وإن كانت له زوج واحدة- بأن تحدّث الناس عن جميع ما تراه من حليلها، وأن تعلن كلّ ما شاهدته من أحواله، لكنّ رسول الله كانت له في وقت واحد تسع زوجات، وكانت كلّ منهن في   (1) فولتير، (Voltaire) من كبار المؤلفين الفرنسيين، كتب في الشعر، والتاريخ، والمسرح، والمراسلة، والفلسفة، وأجاد في أكثرها، ومن مؤلفاته المشهورة «محمّد» و «زئير» و «كنديد» و «شارك 12» . مات سنة 1778 م. (2) أحد كبار المستشرقين، وله كتب قيمة في التاريخ، ومن أشهرها The History of Decline and Fall of the Roman Empire.: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 إذن من الرسول بأن تقول عنه للناس كلّ ما تراه منه في خلواته، وهن في حلّ من أن يخبرن الناس في وضح النهار كلّ ما رأين منه في ظلمة الليل، وأن يتحدّثن في الساحات، والمجامع بما يشاهدن منه في الحجرات، فهل عرفت الدّنيا رجلا كهذا الرجل يثق بنفسه كلّ هذه الثقة، ويعتمد عليها إلى هذا الحد، ولا يخاف قالة السّوء عنه من أحد؛ لأنه أبعد الناس عن السوء. هذا ما يتعلق بذات الرسول، وأما ما تحلّت به نفسه من دماثة الخلق، ورجاحة العقل، وحصافة الرأي، وكرم النفس، وعلوّ الهمّة، ورحابة الصدر، فإنّ كتب الحديث ملأى بتفاصيله. وأحسن كتاب في ذلك كتاب (الشفا) للقاضي عياض الأندلسي. وقد قال لي يوما وأنا في فرنسا مستشرق اسمه ماسنيون «1» : يكفي لتعرف أوربا محاسن رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم ومحامده أن ينقل كتاب (الشفا) للقاضي عياض إلى إحدى اللغات الأوربية. إنني بوّبت في الجزء الثاني من السيرة «2» عند ذكر شمائله صلّى الله عليه وسلم هذه الأمور: خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وحليته، وخاتم النبوة، وشعره، ومشيته، وكلامه، وضحكه، وتبسمه، ولباسه، وخاتمه، ومغفره، ودرعه، وطعامه، وصفة أكله، وسنن طعامه، وشارته، واللون المحبب إليه، واللون الذي كان يرغب عنه، وتعطره، وحبه للنظافة والطهارة، وركوبه. وذكرت في أشغاله: ما كان يعمله في نهاره من الصباح إلى المساء، ثم نومه، وتهجّده، ووظائفه في الصلوات، وأسلوب خطبته، وأعماله في السفر، وأعماله في الجهاد، وسنته في عيادة المرضى، وتعزيته أهل الميت، وسنته في لقاء الناس، وعامة أشغاله. وإليكم ما ذكرت عن مجلسه صلّى الله عليه وسلم: مجالس الإرشاد، آداب المجلس، أوقات جلوسه مع الناس، مجالسه الخاصة بالنساء، طريقة هديه وإرشاده، لقاؤه الناس بالبشاشة والبشر، تأثير صحبته فيمن يصحبه، وأسلوب كلامه معهم،   (1) ماسنيون (Massignon) مستشرق فرنسي، عني بالصّوفية، واهتمّ بنشر مؤلفات الحلّاج، وله مؤلفات في الشؤون الإسلاميّة، مات سنة 1962 م. (2) أراد المحاضر كتابه في السيرة النبوية بالأردوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وأنواع خطبه النبوية، وأثرها في السامعين. ومن العناوين التي وردت فيما ذكرته عن عبادته: دعاؤه، صلاته، صومه، زكاته وصدقاته، حجّه، مداومته ذكر الله، ذكره الله عز وجل في مواقف القتال، خشيته من الله، بكاؤه، محبته لله، توكله عليه، صبره، شكره لمفيض النعم جلّ جلاله. ومما جاء في كتابي المذكور عن أخلاقه صلّى الله عليه وسلم: أخلاقه بالتفصيل، مواظبته على العلم، مكارم أخلاقه، حسن معاملته للناس، عدله، جوده وكرمه، إيثاره، ضيافته وقراه، كراهته سؤال الناس، إباؤه لأموال الصدقة، قبوله الهدية، ترفعه عن فضل الغير ومنته، تنزهه عن الفظاظة، وموقفه من التقشف، وكرهه للهجاء والمدح، والتزامه عدم التكلف في الحياة، وبعده عن التأنق في المشرب والمأكل، اجتنابه الرياء والخيلاء، مساواته، تواضعه، كرهه للمبالغة في التعظيم والإطراء، حياؤه، عمله بيده، عزيمته، شجاعته، صدقه في القول، وفاؤه بالوعد، زهده في الدّنيا، قناعته، حلمه، عفوه عن الناس، صفحه عن أعدائه، إحسانه إليهم، معاملته للكافرين والمشركين، معاملته لليهود والنصارى، حبّه الفقراء والمساكين، عفوه عن أشد أعدائه، دعاؤه لأعدائه بالخير، شفقته على الصبيان، معاملته للنساء، رحمته بالحيوان، ما فطر عليه من الرحمة والمحبة بوجه عام، لين قلبه ورقته، عيادته للمرضى، سجاحة خلقه، ودماثته، محبّته لأولاده، معاشرته لأزواجه الطاهرات، هديه في المراسلة، معالجته لأمراض النفس وأمراض البدن. استقصاء ابن القيم في «زاد المعاد» كلّ أحوال النبي صلّى الله عليه وسلم الخاصّة وشؤونه اليومية: وقد استقصى الحافظ ابن القيم في كتابه (زاد المعاد) كل ما ينبغي معرفته عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأحواله، فاستوعب ذلك أكثر من غيره من المؤلفين. وإليكم فهرس ما ورد فيه عن أحواله الخاصّة صلّى الله عليه وسلم وشؤونه اليومية: هديه في إرسال الكتب والرسائل، هديه في الأكل، وذكر كيفيته، هديه في النكاح ومعاشرة الأهل، هديه في نومه وانتباهه، هديه في ركوب الدواب، هديه في العبيد والإماء، هديه في البيع والشراء، والتعامل مع الناس، هديه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 عند قضاء الحاجة، هديه في أمور الفطرة، هديه في قص الشارب، هديه في كلامه، وسكوته، وضحكه، وبكائه، هديه في خطبته، هديه في وضوئه، هديه في مسح الخفين، هديه في التيمم، هديه في الصلاة، هديه في الجلسة بين السجدتين، هديه في السجود، كيفية تورّكه «1» في القعدة الأخيرة بعد السجدة، هديه في جلوسه وإشارته بالتشهد، هيئة تسليمه عند الخروج من الصلاة، دعاؤه بعد التسليم، هديه في سجدة السهو، هديه في السنن الرواتب، وصلاة التطوع في الحضر والسفر، وفي المسجد والبيت، هديه في قيام الليل (التهجد) ، اضطجاعه بعد سنة الفجر، صلاته في الليل ووتره، صلاته جالسا بعد الوتر، قنوت الوتر، هديه في قراءة القرآن، وترتيله، هديه في صلاة الضحى، هديه في سجود الشكر، هديه في سجدات القرآن، هديه في الجمعة، هديه في عبادات الجمعة، هديه في خطبة الجمعة، هديه في العيدين، هديه في صلاة الخوف، وصلاة الكسوف، هديه في الاستسقاء، هديه في السفر، والتطوع فيه، هديه في الجمع بين الصلاتين، هديه في تلاوة القرآن، والاستماع له، هديه في عيادة المرضى، هديه في الجنائز، والإسراع بها، هديه في تسجية الميت، هديه في السؤال عن الميت إذا حضرت جنازته، هديه في الصلاة على الجنازة، هديه في الصلاة على جنازة الصغير، هديه في تركه الصلاة على قاتل نفسه والغالّ، هديه في المشي أمام الجنازة، هديه في الصلاة على الميت الغائب، هديه في قيامه للجنازة إذا مرت به، هديه في التعزية، وزيارة القبور، هديه في الإكثار من العبادة في رمضان، هديه في الصوم عند رؤية الهلال، والإفطار لرؤية الهلال، هديه في قبول الشهادة لرؤية الهلال، هديه في الإفطار في السفر، الإفطار يوم عرفة، صومه أيام الجمعة، والسبت، والإثنين، هديه في صوم الوصال، هديه في صوم التطوع، وإفطاره، وترك قضائه، كراهيته   (1) التورّك: وضع الورك اليمنى على الرجل اليمنى منصوبة مصوّبا أطراف أصابعها إلى القبلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 تخصيص الجمعة للصوم، هديه في الاعتكاف، هديه في الحجّ والعمرة، اعتماره مرتين في سنة واحدة، أداؤه الحج، وهديه في التضحية بيده، هديه في تضحية البدنة، هديه في العقيقة، أذانه في أذن المولود، وتسميته، وختانه، هديه في تسمية الناس، وتكنيتهم، احتياطه في الكلام، وتخيّر الألفاظ، هديه في الذكر والدعاء، هديه في دخول البيت، هديه في لبس الثياب، هديه في الذهاب إلى الخلاء والرجوع منه، هديه في الدعاء عند الوضوء، هديه في ترديد كلمات الأذان، هديه في الدّعاء لرؤية الهلال، والدّعاء قبل الطعام وبعده، هديه في الطعام، وفي السلام، وألايدخل أحد على الناس في بيوتهم إلا بعد الاستئذان، هديه في الدعاء في السفر، وعند النكاح، هديه في كراهية بعض الكلمات، هديه في الغزو والجهاد، معاملته لأسرى الحرب والعبيد، وهديه في معاملة الجواسيس إذا أسروا، هديه في عقد الصلح، وتأمين المحارب، وضرب الجزية، ومعاملته أهل الكتاب والمنافقين. لقد أجملت لكم فيما تقدّم ما جاء في أحوال النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصّة، ليتبين لكم أنه إذا كانت هذه الأمور الدقيقة قد عني المسلمون بحفظها، فما ظنكم بالأمور الجليلة العظيمة الخطر، وكم بذل رواة الشريعة من عنايتهم في إحصاء أمهات السنن، وأصول الرسالة، وإحصائها، وضبطها مفصلة، ويظهر لكم من ذلك: أنّ جميع وجوه الحياة النبوية، ومناحيها، وألوانها قد صينت، وحفظت من أن تعبث بها أيدي الدّهر. إخواني! حسبكم الآن أنكم قد علمتم ما أوردته في أول هذه المحاضرة من وصف السيرة المحمدية بالكمال، والتمام، والإحاطة، وقد تبيّن لكم صدق ما ادعيته لها من أنه ما من أحد من الرسل قد حفظت سيرته، وأحصيت أخباره، وأحواله كما حفظت سيرة محمد صلّى الله عليه وسلم، وأحصيت أخباره وأحواله. إباحة النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه أن يذكروا عنه كل ما يعرفونه بلا تحفّظ: إنّ الوقت ضيق، والذي أريد أن أفضي به إليكم متنوع، ومترامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الأطراف، وكثير المناحي، فأنا أجمل لكم في القول ما استطعت، وأرجو منكم أن تستمعوا له. إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم أذن لأصحابه ولمن يحضر مجالسه أن يبلغوا عنه لمن غاب عنها، وهذا الإذن عامّ لما يكون عنه في بيته، وبين أهله وعياله، أو ما يصدر عنه في حلقته مع أصحابه، أو ما يقفون عليه من أعماله، وأقواله عند تعبده في مسجده، أو قيامه على منبره خطيبا، أو جهاده في ساحة الحرب تجاه أعدائه، وهو يسوّي صفوف المجاهدين في سبيل الله، أو إذا خلا إلى ربه في حجرة منعزلة في بيته يعبد الله ويتضرّع إليه، فكان أزواجه وأصحابه يتحدثون جميعا بكلّ ما يصدر عنه من قول أو عمل. ثم إنّه كان تجاه مسجده صفّة يأوي إليها فقراء الصحابة الذين لم تكن لهم بيوت يأوون إليها، فكانوا يتناوبون الخروج إلى ما بعد بنيان المدينة يحتطبون من أشجار الصحراء والجبل، ويبيعون ما يأتون به ليقتاتوا جميعا بثمنه، ولم يكن لسائرهم عمل غير صحبة النبي صلّى الله عليه وسلم ولزوم مجالسه؛ ليحافظوا عنه ما يقول، وما يعمل، ثم يروونه للناس بعناية، وأمانة، وقد بلغ عدد أهل الصفة هؤلاء سبعين رجلا، كان منهم أبو هريرة الذي لم يكن صحابيّ أكثر منه حديثا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهؤلاء السبعون كانوا كأنهم جواسيس الحكومة وعيونها في نشاطهم وإخلاصهم لما يسّرهم الله له من حفظ كلّ ما يستطيعون حفظه مما يدخل في موضوع الحديث النبوي، ولا يفترون عن ذلك آناء الليل وأطراف النهار، وقد استمرّ الحال بهم على ذلك يوميا مدّة عشر سنوات متوالية، وإذا ارتحل عن المدينة في غزو، أو حجّ كانوا معه، وكذلك غيرهم من الصحابة، حتى لم تخف عنهم خافية من أمره، ولم يغب عنهم معنى من معاني رسالته، ولما كان فتح مكة كان معه من أصحابه عشرة آلاف، ولما سار إلى تبوك كان في معسكره ثلاثون ألفا، ولما حجّ حجّة الوداع حجّ معه في تلك السنة مئة ألف مسلم ينطبق عليهم عنوان الصحابة، وما منهم إلا من يحرص على الوقوف على شيء من هداية نبيه صلّى الله عليه وسلم، أو أيّ أمر من أموره، فيتحدّث عنه. بل هو الذي أمرهم أن يبلغوا عنه ما يسمعون منه، أو يرون من تصرفاته، فما ظنّكم به بعد ذلك؛ هل يخفى عن التاريخ وجه من وجوه حياته، أو ناحية من نواحيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 هذا من جهة أصحابه، وأما أعداؤه؛ فإنهم أفرغوا جهدهم، واستنفذوا سعيهم؛ ليقفوا على دخيلة من دخائله، وليؤاخذوه بحقيقة يعلمونها عنه، فلم يستطع أحد منهم أن يجد له ناحية ضعف، ولا ما يندّد به. وأقصى ما استطاع أعداؤه في كل زمان ومكان أن يقولوه عنه: إنه سلّ سيفه للقتال، وإنّه كان كثير الأزواج، وقد تبين لكم مما سلف أنّ حياته الطاهرة التي فصّلنا حقيقتها تفصيلا، وأحطنا بجوانبها علما، هي حياة العصمة من كلّ نقص، البريئة من كلّ عيب، فأين هذا من حياة لا نعلم عنها شيئا، ولا تزال نواحيها ووجوها سرّا في ضمير الزّمن؟! كان الرسول صلّى الله عليه وسلم معروف الدخائل لأعدائه أيضا فلم ينقلوا عنه إلا خيرا: إخواني! أريد أن ألفت أنظاركم إلى أمر آخر: إنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يقض حياته كلّها بين أحبابه وأصحابه، بل قضى أربعين سنة من عمره في مكة قبل أن يبعث، فكان بين أهلها مشركي قريش، وكان يتعاطى فيهم التجارة، ويعاملهم في أمور الحياة ليل نهار، وهي الحياة اليومية، وما تنطوي عليه من أخذ وعطاء، ومن شأنها أن تكشف عن أخلاق المرء، فيتبين للناس فسادها وصلاحها، وهي عيشة طويل طريقها، كثيرة منعطفاتها، وعرة مسالكها، تعترضها وهدات مما قد يصدر عن المرء من خيانة، وإخفار عهد، وأكل مال بالباطل، وعقبات من الخديعة والخيانة، وتطفيف الكيل، وبخس الحقوق وإخلاف الوعد. وإنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم اجتاز هذه السبيل الشائكة الوعرة، وخلص منها سالما نقيا، لم يصبه شيء مما يصيب عامّة الناس، حتى لقد دعوه «الأمين» . وإنّ قريشا بعد بعثته وادّعائه النّبوّة كانوا يودعون عنده ودائعهم، وأموالهم لعظيم ثقتهم به، وقد علمتم أنّه صلّى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة خلّف فيها عليّا ليردّ ما كان لديه من الودائع إلى أهلها. فقريش خالفوه أشدّ الخلاف في دعوته، ولم يتركوا سبيلا إلى ذلك إلا سلكوه، فقاطعوه، وعاندوه، وصدّوا عن سبيله، وألقوا عليه سلى جزور وهو يصلّي، ورموه بالحجارة، وأرادوا قتله، وكادوا له كيدهم، وسمّوه ساحرا، ودعوه شاعرا، وفنّدوا آراءه، وسخّفوا حلمه، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على أن يقول شيئا في أخلاقه، ولا أن يرميه بالخيانة، أو ينسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 إليه الكذب في القول، أو إخلاف الوعد، أو إخفار الذمّة، أو نقض العهد. وإنّ من ادّعى النبوّة، وقال: إن الله يوحي إليه؛ فكأنه ادّعى العصمة والبراءة من جميع المفاسد، ومساوىء الأعمال. ألم يكن يكفي قريشا في ردّهم على الرسول أن يذكروا أمورا عمل فيها الرسول بغير الحقّ، وأن يشهدوا عليه بأن أخلفهم وعدا، أو خانهم في أموالهم، أو كذبهم في شيء مما قاله لهم؟ إنّ قريشا أنفقوا أموالهم، وبذلوا نفوسهم في عداوة الرسول، وضحوا بفلذات أكبادهم في قتاله حتى قتل منهم وجرح كثيرون، لكنّهم لم يستطيعوا أن يدنسوا ذيله الطّاهر، ولا أن يصموه بشيء في عظيم أخلاقه. وكانت أحوال الرسول وشؤونه وهديه ظاهرة لجميع الناس، معلومة لهم، استوى في ذلك أحبابه وأعداؤه، ولم يخف عليهم شيء من أمره. كان عظاماء قريش مجتمعين ذات يوم في ناديهم، فجرى ذكر الرسول صلّى الله عليه وسلم، وفيهم النضر بن الحارث «1» وكان رجلا داهية محنّكا، وعالما بالأخبار، فقال لهم: يا معشر قريش! لقد أعياكم أمر محمد، وعجزتم عن أن تدبروا فيه رأيا لما أصابكم به. إنّ محمدا قد نشأ فيكم حتى بلغ مبلغ الرجال، وكان أحبّ الناس إليكم، وأصدقهم فيكم، واتخذتموه أمينا، فلما وخطه الشيب، وعرض عليكم هذا الأمر قلتم ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون. تالله لقد سمعت كلامه فليس فيه شيء مما ذكرتم! وأبو جهل كان أشدّ الناس عداوة للرسول، وقد قال له ذات يوم: يا محمد إنّي لا أقول: إنّك كاذب، لكني أجحد الذي جئت به، وما تدعو إليه. فأنزل الله هذه الآية: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] «2» .   (1) هو النضر بن الحارث بن علقمة، كان من شجعان قريش ووجوهها، وهو ابن خالة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولما ظهر الإسلام استمرّ على عقيدة الجاهلية، وآذاه كثيرا، شهد «بدرا» مع مشركي قريش، فأسره المسلمون، وقتلوه. (2) قال السدي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إنّ محمدا لصادق، وما كذب محمّد قط، - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ولما تلقى الرسول أمر ربه بأن يدعو ذوي قرباه إلى الإسلام، وينذر عشيرته الأقربين؛ صعد الجبل؛ ونادى: يا معشر قريش! فلما اجتمعوا؛ قال: هل كنتم مصدّقيّ إن قلت: إن جيشا قد بلغ سفح هذا الجبل؟ قالوا: ما جرّبنا عليك كذبا قطّ (صحيح البخاري: سورة تبّت) . شهادة أبي سفيان (قبل إسلامه) للنبي صلّى الله عليه وسلم عند هرقل: ولما أرسل النبي صلّى الله عليه وسلم كتاب الدعوة إلى هرقل عظيم الروم؛ دعا هرقل أبا سفيان ليسأله عن هذه الدعوة وصاحبه، وأنتم تعلمون أنّ أبا سفيان كان يومئذ على العداوة للإسلام ورسوله مدة ست سنوات متوالية انقضت بحشد المقاتلة، واستنفار المشركين لحرب المسلمين. وانظروا إلى هذا الموقف يدعى فيه عدو ليسأل عن عدوه اللدود الذي يتمنى لو استطاع أن يقتله، ويمحو اسمه، ويخفض من شأنه، ثم يدعى إلى مجلس رجل عظيم صاحب سلطان ليشهد عنده في عدوّه. فسأله هرقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم: كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب. هل قال هذا القول منكم أحد قبله؟ قال أبو سفيان: لا. هل كان من آبائه من ملك؟ قال أبو سفيان: لا. فأشراف النّاس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟   - ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسقاية، والحجابة، والندوة، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال أبو ميسرة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرّ بأبي جهل وأصحابه، فقالوا: يا محمد! إنا والله ما نكذبك، وإنك عندنا لصادق، ولكن نكذّب ما جئت به. فنزلت فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . (أسباب النزول، للنيسابوري، ص 182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. أيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان: بل يزيدون. فهل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه؟ قال أبو سفيان: لا. فهل كنتم تتّهمونه بالكذب؟ قال أبو سفيان: لا. فهل يغدر؟ قال أبو سفيان: لا، ونحن منه في مدّة لا ندري ما هو فاعل فيها. ماذا يأمركم؟ يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصّلاة، والصّدق، والعفاف، والصّلة «1» . فهل تجدون شهادة أعظم من هذه الشهادة؟ إنّ الموقف حرج، والسائل ملك ذو شوكة وقوة، يسأل رجلا ملأ الضغن صدره عن أمر الرسول، فلا يقول فيه إلا الصّدق، والحقّ. فهل تجدون رسولا كاملا أعظم من محمد صلّى الله عليه وسلم، وأيّ شهادة أصدق من هذه الشهادة؟ إنّ تاريخ الرسل أعجز من أن يأتي بمثلها عن غيره. رجاحة عقول العرب تجعلهم لا ينخدعون في أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم فاتبعوه وهم على بينة: سادتي! أريد أن ألفت أنظاركم إلى أمر آخر جدير بأن تهتمّوا له، وتعنوا به، ذلك أنّ الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم أولا لم يكونوا من صيادي الشواطىء، ولا من الذين استعبدهم فرعون مصر، بل كان الذين آمنوا بمحمد أولا   (1) البخاري، كتاب بدء الوحي (7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 رجالا من أمة عريقة في الحرية، ذات عقول ناضجة وفطنة، ولهم حماسة وحميّة، لم تلن قناتهم لحكومة قاهرة، ولا ذلّلت أنفتهم دولة قوية منذ فجر التاريخ، وكانت لهم تجارة واسعة النطاق تصدر فيها، وترد سلعهم وأمتعتهم بين بلاد وبلاد، وكانت مملكة فارس، وبلاد الشام، ومصر، وآسيا الصغرى مضربهم وموارد تجاراتهم، ولاحتكاكهم بالأمم المتمدنة ولقائهم الرجال من مختلف الأمم تفتقت آراؤهم، واتسعت عقولهم، وازدادت تجاربهم. يدلّ على ذلك ما أثر عنهم من الأحكام، وما وصل إلينا من صفحات التاريخ من الأخبار. وكان من هؤلاء من قاد الجيوش، وانتصر بها، فعدّ من أعظم القادة الفاتحين، وكان منهم من ساس البلاد، وحكم الناس، فأحسن الإحسان كلّه في سياسته وحكمه حتى عدّ من أعدل الولاة وأحكم الحكام سياسة وتدبيرا. وهل يسوغ في العقل، أن من أوتي مثل هذا العقل الراجح، والمواهب العظيمة، والرأي الحصيف يخفى عليه شيء من أمر هذا الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو ينخدع به! هؤلاء الرجال هم الذين نقلوا عنه ما شهدوه بأنفسهم، وسمعوه باذانهم، وكانوا يرون الاقتداء به سعادة لهم، والاهتداء بهديه شرفا لهم في الدّنيا، وذخرا لهم في الآخرة، فاقتفوا آثاره، وسلكوا سبيله، واستنوا بسنته، وهذا دليل واضح على أنه الرسول الكامل، وأنّه على الحق، ومما لا يردّه، ولا يجادل فيه إلا مكابر. إنّ رسول الله محمدا صلّى الله عليه وسلم لم يحاول أن يخفي عن الناس أمرا من أموره، ولا أن يكتمهم حالة من حالاته، لذلك عرفوه كما كان في الواقع، وهو الآن في أذهان عارفيه كما كان في أعين مشاهديه. تقول أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقد عاشرته زوجة مدّة تسع سنين: لا تصدّقوا من يزعم أنّ محمّدا رسول الله قد كتم ممّا أوحي إليه، فلم يبده للنّاس؛ إذ يقول الله تعالى: * يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة: 67] «1» . إن من طباع الناس- ولا سيما من يقوم لهم بالإصلاح والهداية   (1) البخاري في كتاب التوحيد (7529) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 والتهذيب- أنّهم لا يحبّون أن يظهر للناس من نفوسهم ما يؤاخذون به، أو يعاب عليهم. وفي القرآن الحكيم عدّة آيات نبه الله فيها رسوله على بعض خطئه، فكان الرسول يتلو هذه الآيات كلّها على الناس، ويدعوهم إلى حفظها وإلى تلاوتها في الصلاة والمساجد، ولا تزال هذه الآيات كأخواتها- تتلى بألسنة أتباع محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحيثما يبلغ انتشار الدّين المحمّديّ، ويدين به كثير أو قليل من الناس تتلى هذه الآيات، ولولا أنّ هذه الأمور ذكرت في القرآن لما انتشر العلم بها هذا الانتشار، وهكذا السيرة الطاهرة، والحياة الكاملة هي التي تتّضح للجميع بمثل وضح النهار أو أشد. لو كتم الرسول شيئا لكتم ما في القرآن من مؤاخذته: كان العرب في الجاهلية ينكرون نكاح الرّجل مطلقة متبناه، وقد تزوج الرسول زينب التي كانت من قبل زوجا لمتبناه زيد بعد أن طلقها، فوردت هذه القصة في القرآن ببيان صريح، وإنّ أمّ المؤمنين عائشة تقول: لو كتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا من القرآن لكتم هذه الآية (أي: قصة طلاق زيد لزوجه زينب وزواج النبي صلّى الله عليه وسلم بها) لكيلا يسيء فهمها الجهلاء وضعاف العقول، لكن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، أليس هذا مما يدل على أنّه صلّى الله عليه وسلم لم يكتم من أمره شيئا ولا خفي على الناس شيء من سيرته. كلمات كبار المستشرقين في المقارنة بين محمد صلّى الله عليه وسلم والذين قبله: وجدير بالذكر شهادة الفاضل الإنجليزي باسورث سميث «1» ؛ إذ يقول: «ترى الشمس هاهنا بارزة بيضاء، تنير أشعتها كلّ شيء، وتصل إلى كل شيء. لا شك أن في الوجود شخصيات لا نعلم عنها شيئا، ولا نتبين حقيقتها أبدا، أو تبقى منها أمور مجهولة، بيد أنّ التاريخ الخارجي لمحمد صلّى الله عليه وسلم نعلم جميع تفاصيله من نشأته إلى شبابه، وعلاقته بالناس، وروابطه، وعاداته، ونعلم أول تفكيره، وتطوره وارتقاءه التدريجي، ثم   (1) هو مستشرق أمريكي، مات سنة 1857 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 نزول الوحي العظيم عليه نوبة بعد نوبة، ونعلم تاريخه الدّاخلي بعد ظهور دعوته وإعلان رسالته، وإنّ عندنا كتابه (القرآن) لا مثيل له في حقيقته وفي كونه محفوظا مصونا، وفي عدم التزام الترتيب في معانيه، وإنّه لم يستطع أحد أن يشك في قيامه على أساس الصدق شكّا يعتدّ به، فهو عندنا ممثل لروح عصره، ومرآة لبيئته، فهو لذلك بريء من كل تصنّع أو تكلف. وإنه بعدم التزام الترتيب فيه، وفي تحدّثه عن الشيء وضدّه معتب لنا، غير أنه عامر بالأفكار العظيمة. فترى منه نفسا ملأى بتلك الرّوحانية، مرتبطة بها، مقصورة عليها، ثملة بأمر الله مع الضعف الإنسانيّ؛ الذي لم يدّع أنه بريء منه، بل أكبر دليل على عظمة محمد أنه لم يدّع قطّ أنه بريء من ذلك» (ص 15) . ويقول جيّبن: «لم ينجح في الامتحان العسير رسول من الرسل الأولين من بداية أمره كما نجح محمّد صلّى الله عليه وسلم حين عرض نفسه بادىء ذي بدء بصفته رسولا يوحى إليه- على الذين عرفوا ضعفه البشري، وعرفوه أكثر مما يعرفه غيرهم، فعرض رسالته على زوجه، وعبده العنيد، وابن عمه، وصديقه القديم؛ الذي لم يتحوّل عنه ولم يخذله، وهؤلاء هم الذين سبقوا الناس إلى الإيمان بنبوّته. إنّ نصيب الأنبياء انقلب في حقّ محمّد وتغيّر عما كان عليه فيمن مضى من الرسل، فلم يكن محمّد غير محبوب إلا من الذين لم يعرفوه» . فهذه الشهادات على أنّ من كان أعرف الناس برسول الله وأقربهم إليه كان أشدّهم إيمانا برسالته، وأما الرسل الآخرون فكان الأجانب والغرباء الذين لم يعرفوهم إلا قليلا هم الذين سبقوا إلى الإيمان بهم، وتأخر عن الإيمان بهم، وتلكأ ذووهم، وأهل بيوتهم، والذين كانوا أكثر معرفة بهم. وهكذا كان المؤمنون برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم هم أعرف الناس بحقيقته، وأكثرهم اطّلاعا على أخلاقه، وسننه، وهديه، وقد بلي كلّ منهم في سبيل هذا الإيمان بلاء عظيما، وامتحن امتحانا شديدا، حتى أنّ خديجة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم قضت معه ثلاث سنوات محصورة في شعب أبي طالب، تقاسي معه الجوع والظمأ، والفاقة المنهكة. وأبو بكر صحب النبي صلّى الله عليه وسلم يوم ضاقت به أرض مكة، فخرج معه مرتديا ظلام الليل خائفا يترقّب، والعدو في أثرهما يتعقّب مواطىء أقدامهما، فقام أبو بكر بحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الصحبة، وكان الوفيّ بعهد الصداقة، أما عليّ فبات على فراش الرسول الذي كان المشركون قد بيتوا الفتك به. وعبده زيد حلّ من النبي الكريم محل الولد بعطفه عليه ورأفته به، فلما جاء أبوه الذي ولد من صلبه يطلب ردّ ابنه عليه خيّره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أن يصحب أباه، أو يبقى تحت جناحين من عطف الرسول ورأفته، فاختار صحبة النبي صلّى الله عليه وسلم على الرجوع مع أبيه إلى قبيلته. يقول هيجنس في كتابه (الاعتذار عن محمد والقرآن (md.and Quran :rof ygoloppAإنّ أتباع عيسى (عليه السلام) ينبغي لهم أن يجعلوا على ذكر منهم أنّ دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم أحدثت في نفوس أصحابه من الحميّة ما لم يحدث مثله في الأتباع الأولين لعيسى (عليه السلام) ، ومن بحث عن مثل ذلك لا يرجع إلا خائبا، فقد هرب الحواريون، وانفضوا عن عيسى حين ذهب به أعداؤه ليصلبوه، فخذله أصحابه، وصحوا من سكرتهم الدّينية، وأسلموا نبيّهم لأعدائه يسقونه كأس الموت، أما أصحاب محمد فالتفوا حول نبيهم المبغيّ عليه، ودافعوا عنه مخاطرين بأنفسهم إلى أن تغلّب بهم على أعدائه» . وحين كرّ مشركو قريش يوم أحد على المسلمين، فاختلّت صفوفهم، وتفرّق جمعهم نادى الرسول صلّى الله عليه وسلم: من يفديني؟ فخرج من الأنصار سبعة دافع كلّ واحد منهم عن الرسول، وما زال يقاتل دونه حتى قتل، وقد قتل لامرأة من الأنصار في هذه الحرب ثلاثة رجال من بيتها: أبوها، وأخوها، وزوجها، وتتابع إليها نعي الثلاثة واحدا بعد واحد، فكانت تسأل أولا عن الرسول صلّى الله عليه وسلم: كيف هو؟ فيقولون لها: إنّه سالم، ثم لما رأت وجهه صلّى الله عليه وسلم سرّي عنها، ولم تتمالك أن صاحت قائلة: «كلّ مصيبة بعدك جلل يا رسول الله!» «2» . إنّ الذين دافعوا عنه، وقتلوا دونه، وفدوه بأنفسهم قد عرفوه حقّ المعرفة، وعلموا سنته، وهديه، وخلقه، ولولا أنّ حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم   (1) انظر الترجمة الأردوية، ص 66- 67، طبع برلين سنة 1873 م. (2) سيرة ابن هشام، ص 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 كانت عظيمة كاملة، ونفسه كانت أحبّ النفوس إليهم، وأعظمها في أعين أصحابه وأحبابه؛ لما فدوه بأنفسهم. ومن أجل ذلك كانت حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أسوة لأصحابه، وإن من طباع الناس- ولا سيما من يقوم لهم بالإصلاح والهداية   (1) البخاري في كتاب التوحيد (7529) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 والتهذيب- أنّهم لا يحبّون أن يظهر للناس من نفوسهم ما يؤاخذون به، أو يعاب عليهم. وفي القرآن الحكيم عدّة آيات نبه الله فيها رسوله على بعض خطئه، فكان الرسول يتلو هذه الآيات كلّها على الناس، ويدعوهم إلى حفظها وإلى تلاوتها في الصلاة والمساجد، ولا تزال هذه الآيات كأخواتها- تتلى بألسنة أتباع محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحيثما يبلغ انتشار الدّين المحمّديّ، ويدين به كثير أو قليل من الناس تتلى هذه الآيات، ولولا أنّ هذه الأمور ذكرت في القرآن لما انتشر العلم بها هذا الانتشار، وهكذا السيرة الطاهرة، والحياة الكاملة هي التي تتّضح للجميع بمثل وضح النهار أو أشد. لو كتم الرسول شيئا لكتم ما في القرآن من مؤاخذته: كان العرب في الجاهلية ينكرون نكاح الرّجل مطلقة متبناه، وقد تزوج الرسول زينب التي كانت من قبل زوجا لمتبناه زيد بعد أن طلقها، فوردت هذه القصة في القرآن ببيان صريح، وإنّ أمّ المؤمنين عائشة تقول: لو كتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا من القرآن لكتم هذه الآية (أي: قصة طلاق زيد لزوجه زينب وزواج النبي صلّى الله عليه وسلم بها) لكيلا يسيء فهمها الجهلاء وضعاف العقول، لكن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، أليس هذا مما يدل على أنّه صلّى الله عليه وسلم لم يكتم من أمره شيئا ولا خفي على الناس شيء من سيرته. كلمات كبار المستشرقين في المقارنة بين محمد صلّى الله عليه وسلم والذين قبله: وجدير بالذكر شهادة الفاضل الإنجليزي باسورث سميث «1» ؛ إذ يقول: «ترى الشمس هاهنا بارزة بيضاء، تنير أشعتها كلّ شيء، وتصل إلى كل شيء. لا شك أن في الوجود شخصيات لا نعلم عنها شيئا، ولا نتبين حقيقتها أبدا، أو تبقى منها أمور مجهولة، بيد أنّ التاريخ الخارجي لمحمد صلّى الله عليه وسلم نعلم جميع تفاصيله من نشأته إلى شبابه، وعلاقته بالناس، وروابطه، وعاداته، ونعلم أول تفكيره، وتطوره وارتقاءه التدريجي، ثم   (1) هو مستشرق أمريكي، مات سنة 1857 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 نزول الوحي العظيم عليه نوبة بعد نوبة، ونعلم تاريخه الدّاخلي بعد ظهور دعوته وإعلان رسالته، وإنّ عندنا كتابه (القرآن) لا مثيل له في حقيقته وفي كونه محفوظا مصونا، وفي عدم التزام الترتيب في معانيه، وإنّه لم يستطع أحد أن يشك في قيامه على أساس الصدق شكّا يعتدّ به، فهو عندنا ممثل لروح عصره، ومرآة لبيئته، فهو لذلك بريء من كل تصنّع أو تكلف. وإنه بعدم التزام الترتيب فيه، وفي تحدّثه عن الشيء وضدّه معتب لنا، غير أنه عامر بالأفكار العظيمة. فترى منه نفسا ملأى بتلك الرّوحانية، مرتبطة بها، مقصورة عليها، ثملة بأمر الله مع الضعف الإنسانيّ؛ الذي لم يدّع أنه بريء منه، بل أكبر دليل على عظمة محمد أنه لم يدّع قطّ أنه بريء من ذلك» (ص 15) . ويقول جيّبن: «لم ينجح في الامتحان العسير رسول من الرسل الأولين من بداية أمره كما نجح محمّد صلّى الله عليه وسلم حين عرض نفسه بادىء ذي بدء بصفته رسولا يوحى إليه- على الذين عرفوا ضعفه البشري، وعرفوه أكثر مما يعرفه غيرهم، فعرض رسالته على زوجه، وعبده العنيد، وابن عمه، وصديقه القديم؛ الذي لم يتحوّل عنه ولم يخذله، وهؤلاء هم الذين سبقوا الناس إلى الإيمان بنبوّته. إنّ نصيب الأنبياء انقلب في حقّ محمّد وتغيّر عما كان عليه فيمن مضى من الرسل، فلم يكن محمّد غير محبوب إلا من الذين لم يعرفوه» . فهذه الشهادات على أنّ من كان أعرف الناس برسول الله وأقربهم إليه كان أشدّهم إيمانا برسالته، وأما الرسل الآخرون فكان الأجانب والغرباء الذين لم يعرفوهم إلا قليلا هم الذين سبقوا إلى الإيمان بهم، وتأخر عن الإيمان بهم، وتلكأ ذووهم، وأهل بيوتهم، والذين كانوا أكثر معرفة بهم. وهكذا كان المؤمنون برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم هم أعرف الناس بحقيقته، وأكثرهم اطّلاعا على أخلاقه، وسننه، وهديه، وقد بلي كلّ منهم في سبيل هذا الإيمان بلاء عظيما، وامتحن امتحانا شديدا، حتى أنّ خديجة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم قضت معه ثلاث سنوات محصورة في شعب أبي طالب، تقاسي معه الجوع والظمأ، والفاقة المنهكة. وأبو بكر صحب النبي صلّى الله عليه وسلم يوم ضاقت به أرض مكة، فخرج معه مرتديا ظلام الليل خائفا يترقّب، والعدو في أثرهما يتعقّب مواطىء أقدامهما، فقام أبو بكر بحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الصحبة، وكان الوفيّ بعهد الصداقة، أما عليّ فبات على فراش الرسول الذي كان المشركون قد بيتوا الفتك به. وعبده زيد حلّ من النبي الكريم محل الولد بعطفه عليه ورأفته به، فلما جاء أبوه الذي ولد من صلبه يطلب ردّ ابنه عليه خيّره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أن يصحب أباه، أو يبقى تحت جناحين من عطف الرسول ورأفته، فاختار صحبة النبي صلّى الله عليه وسلم على الرجوع مع أبيه إلى قبيلته. يقول هيجنس في كتابه (الاعتذار عن محمد والقرآن. (md.and Quran » هـ ئادعأ ى لع م هب بّ لغت ن أى لإ م هسفنأب ن يرطاخم هـ نع اوعفاد و، هـ يلع ّي غبملا م هيبن ل وح اوفتلاف دمحم ب احصأ امأ، ت وملا س أك هـ نوقسي هـ ئادعأل م هّيبن اوملسأ و، ةينيّدلا م هتركس ن م اوحص و، هـ باحصأ هـ لذخف، هـ وبلصيل هـ ؤادعأ هـ ب ب هذ ن يح ى سيع ن ع اوضفنا و، ن ويراوحلا ب ره دقف، ابئاخ لاإ ع جري لا ك لذ ل ثم ن ع ث حب ن م و،) م لاسلا هـ يلع (ى سيعل ن يلوألا ع ابتألا ي ف هـ لثم ث دحي م ل ام ةّيمحلا ن م هـ باحصأ س وفن ي ف ت ثدحأ م لس وهـ يلع هّ للا ىّ لص دمحم ةوعد ّن أم هنم ركذ ى لع اولعجي ن أم هل ي غبني) م لاسلا هـ يلع (ى سيع ع ابتأ ّن إAppology for: وحين كرّ مشركو قريش يوم أحد على المسلمين، فاختلّت صفوفهم، وتفرّق جمعهم نادى الرسول صلّى الله عليه وسلم: من يفديني؟ فخرج من الأنصار سبعة دافع كلّ واحد منهم عن الرسول، وما زال يقاتل دونه حتى قتل، وقد قتل لامرأة من الأنصار في هذه الحرب ثلاثة رجال من بيتها: أبوها، وأخوها، وزوجها، وتتابع إليها نعي الثلاثة واحدا بعد واحد، فكانت تسأل أولا عن الرسول صلّى الله عليه وسلم: كيف هو؟ فيقولون لها: إنّه سالم، ثم لما رأت وجهه صلّى الله عليه وسلم سرّي عنها، ولم تتمالك أن صاحت قائلة: «كلّ مصيبة بعدك جلل يا رسول الله!» «2» . إنّ الذين دافعوا عنه، وقتلوا دونه، وفدوه بأنفسهم قد عرفوه حقّ المعرفة، وعلموا سنته، وهديه، وخلقه، ولولا أنّ حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم   (1) انظر الترجمة الأردوية، ص 66- 67، طبع برلين سنة 1873 م. (2) سيرة ابن هشام، ص 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 كانت عظيمة كاملة، ونفسه كانت أحبّ النفوس إليهم، وأعظمها في أعين أصحابه وأحبابه؛ لما فدوه بأنفسهم. ومن أجل ذلك كانت حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أسوة لأصحابه، ومحبته ذريعة لمحبة الله، فقال الله عزّ وجلّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] فجعل اتّباع الرسول في أخلاقه وأعماله، والاقتداء بسنته وهديه من علامات حبّهم لله، ومن السّهل أن يبذل الإنسان نفسه حميّة لدينه لأمر يعرض له فجأة، ولكن من العسير أن يقتدي المرء مدّة حياته كلّها في جميع أطوارها، وشعبها، ومناحيها بهدي شخص وسننه اقتداء كاملا، لا يحيد عنه، ولا يعدل إلى شيء غيره، أما أصحاب محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فإنهم اتبعوه في جميع أخلاقهم، وأعمالهم، وسائر نواحي حياتهم وطرقها، واقتفوا أثره، وامتحنوا في ذلك امتحانا شديدا، وأبلوا فيه بلاء عظيما، ثم خرجوا من هذا الامتحان فائزين. وإنّ الولع الشديد بالرسول، والمحبّة الصادقة له قد حمل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ثم المحدّثين ومؤلفي السير والمؤرخين، على أن يعنوا عناية كبرى بجمع كلّ ما يتعلق بالرسول صلّى الله عليه وسلم من قول وعمل، وأمر ونهي، وحديث وخلق، وأن يبلغوا ذلك للذين يأتون بعدهم، فأحسنوا كلّ الإحسان ووفوا هذه المهمّة حقها، ليعمل بهذه الهداية كلّ مسلم ما استطاع، ولولا أنّ حياة محمد صلّى الله عليه وسلم كانت كاملة وعظيمة في عيون أصحابه؛ لما اعتبروا اتّباعه شرفا لهم وكمالا، ولما عدّوا الاقتداء به ملاك السّعادة، وأصل الهناء، وقوام الخير. فالإسلام قرّر أنّ حياة محمد هي المثل الكامل لجميع المسلمين، وينبغي بيان جميع نواحيها، وشعبها، ووجوهها للناس كافّة، وقد حقّق المسلمون ذلك، وحرصوا على تعرف ذلك وبيانه، فلم تخف منه خافية، ولم تفقد ولا حلقة واحدة من سلسلة الحياة النبوية المباركة، فجميع أحواله وشؤونه مسطورة في كتب التاريخ، ومن ذلك يستدلّ على أنّها كانت حياة كاملة، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت واضحة ناصعة معلومة من كل وجوهها ونواحيها، جامعة لجميع المحامد، شاملة لأكرم الأخلاق وأحسن التعاليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 سنن الأمم السالفة في الأخلاق بادت ولم يبق إلا سنن الإسلام: لقد كانت لبلاد بابل، والهند، والصين، ولمصر، والشام، واليونان، والرومان حضارات زاهرة، ومدنيّات عظيمة، وثقافات عالية، وقد كانت لأهالي تلك البلاد سنن في الأخلاق اتخذوا منها أصولا، وضوابط للثقافة، وآدابا للمعاشرة: في النهوض، والقعود، والكلام، والطعام، والشراب، واختاروا مناهج خاصّة بمعيشتهم، ووضعوا آدابا لهم في الزّيّ والشارة، وأوضاعا في الملابس، وكان لهم هدي في نومهم، ويقظتهم، وحدود في لقاء الناس، والتعامل معهم، وسنّوا لأنفسهم سننا في الزواج، ورسموا رسوما للتهنئة، والتعزية، وتكفين الموتى، ودفنهم، ولم يتركوا حالا من أحوال الإنسان- من عيادة المريض، ومصافحة الإخوان، ولقاء الخلّان، والاستحمام- إلا اتخذوا لها السنن، والرسوم، والآداب، فنشأت من ذلك أصول وقواعد لمدنيتهم، وثقافتهم. وبديهيّ أنّ هذه السنن والآداب لم تتم لهم إلا في قرون متطاولة، ثم درست آثارها، ومحيت رسومها، وطمست معالمها، فكان قيامها واكتمالها في زمان طويل، وزوالها في مدّة قليلة. أما مدنية الإسلام وثقافته؛ فإن قيامهما، واكتمالهما، وظهور بهائهما في سنوات قليلة، ولا تزال مدنية الإسلام، وثقافته مستمرة، ومعمولا بها في الدّنيا منذ أربعة عشر قرنا بين أمم شتّى، وأقوام مختلفة، يستوي في ذلك العربيّ، والهنديّ، والشرقيّ، والغربيّ؛ لأنّ المسلمين اقتبسوا ذلك من مشكاة نبيهم صلّى الله عليه وسلم، وتأسّوا فيه بحياته الكريمة، فاستنارت بهذا النور حياة الصحابة، وانعكست أضواؤها على حياة التابعين، ومن جاء بعدهم، فنشأت عن ذلك بيئة صالحة زكيّة، وكان منها للعالم الإسلامي كلّه أسوة حسنة في رسومه الفاشية، وآدابه القويمة. ويمكننا أن نقول بعبارة أخرى: إن الحياة المحمدية كانت مركز الدائرة، فجاء الصحابة، فخطّوا حول نقطة المركز خطوطا تمّت بها تلك الدائرة والتف المسلمون بعد ذلك من حولها. وإذا كانت المدنية الإسلامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 لم تبق اليوم في مثل كمالها الأول، وجمالها الأسنى؛ فإن آثارها لا تبرح باقية تلمع، والمسلمون يقتفون تلك الآثار إلى يومنا هذا. وقد علمنا أنّ حياة محمد صلّى الله عليه وسلم كانت في بادىء الأمر قدوة لجميع الصحابة في حياتهم، فكانوا يهتدون بهديه، ويستنّون بسنّته، ثم كان لسائر المسلمين أسوة حسنة بها يتخذونها مثالا كاملا لهم، ولا تنفكّ صورتها معروفة لهم، باقية فيهم. ولو أنّ قبيلة من وثنيي الهند، أو إفريقية تنصّرت، ودخلت في دين المسيح عليه السلام فإنّها تأخذ مسيحيتها من الأناجيل، أما مدنيتها، ومنهاج حياتها في مظاهرها، وأوضاعها؛ فإن تلك القبيلة تأخذه عن مدنية أوربا وثقافتها ومنهاج حياتها، وليس ذلك من المسيحية في شيء. أمّا الإسلام فإذا دخل في هدايته قوم جدد لم يكونوا مسلمين من قبل، فإنهم كما يقتبسون دينهم مما كان يدعو إليه النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنّهم من هديه ومن سنته أيضا يتعلمون آداب المعاشرة، ومنهاج الحياة الاجتماعية، وطرق المعيشة. وإنّ تعاليم الرسول صلّى الله عليه وسلم- من أدب، وخلق، ومعاشرة- هي التي تؤثر في أخلاق المسلمين، فتصاغ في هذه البوتقة حتى تسبك بها في أزكى قالب. وقد قال يهوديّ مرّة لأحد الصحابة وهو يعرّض بالإسلام: إنّ رسولكم يعلمكم كلّ شيء، حتى بعض الأمور الحقيرة، فأجابه الصحابي وهو مغتبط: نعم، إن رسولنا يعلمنا كل شيء، حتى آداب الخروج إلى الخلاء. وكذلك نحن لا نزال نقدّم للناس تلك السيرة الكاملة التي هي لنا سراج وهّاج في جميع شؤون الحياة البشرية، فكأنّ السيرة المحمّدية مرآة صافية للدّنيا كلّها يرى فيها كلّ إنسان صورته وروحه، ظاهره وباطنه، قوله وعلمه، خلقه وأدبه، هديه وسنته، وفي استطاعته أن يصلح أخلاقه، ويثقف عوجه بحسب ما يراه في تلك المرآة الصّافية. المسلمون لا يحتاجون من خارج دينهم إلى أصول وضوابط: لأجل ذلك لا ترى أمّة مسلمة تبحث- في خارج دينها وبمنأى عن سيرة نبيّها- عن أصول وضوابط تقوّم بها اعوجاجها، وتثقف منادها، وتصلح زيغها، لأنها في غنى عمّا هو أجنبيّ عنها، وعندها في هدي سيرة نبيها صلّى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الميزان القويم والقسطاس المستقيم، الذي تتبين به ما في العالم من خير وشرّ، وتميّز به الحقّ من الباطل. وفي الحق إنّ العالم كله لفي حاجة شديدة إلى سيرة بشر كامل تتّخذ من حياته الأسوة العظمى، وليس في الدّنيا إنسان كامل يعرف التاريخ سيرته على التفصيل كما يعرف تفاصيل حياة محمّد صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين. فالناس كلّهم في أمسّ الحاجة إلى أن يتخذوا من السيرة المحمدية منهاج حياتهم، ففيها الأسوة الطّاهرة، وهي الحياة المثاليّة للناس جميعا صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المحاضرة الخامسة السّيرة المحمّديّة من ناحيتها الجامعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الأديان الآخرى تتحرى أقوال أنبيائها والمسلمون يتحرّون أعمال نبيّهم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] . سادتي! إنّ جميع الأديان والنّحل حثّت الناس على اتّباع أصحاب هذه الأديان، وأن يقتفوا آثارهم، ويعملوا بأقوال أنبيائهم، لينالوا بذلك رضاء الله ومحبته. أمّا الإسلام فقد اختار طريقا آخر خيرا من ذلك، وهو أنه قدّم للناس أعمال نبيه، وعرض عليهم التأسّي به في سيرته كاملة ليس فيها خرم، وجعل اتباعهم لتلك السيرة وتأسيهم بصاحبها وسيلة لهم في الحصول على رضاء الله ومحبته؛ لأجل ذلك ترى في الإسلام مرجعين: كتاب الله، وسنة نبيه. فأحكامه تعالى قد جاءتنا في كتابه، وهو القرآن الحكيم، وفي سنة نبيه صلّى الله عليه وسلم. والسنة في اللغة: الطريقة «1» . والمراد بها في اصطلاح الشريعة الإسلامية: الطريقة التي اختارها الرسول وسلكها عاملا بأحكام الله. فمعنى السنة إذا: الأسوة النبوية، وسيرة الرسول الطاهرة التي أثرت عنه، وبلغتنا كاملة في كتب الحديث الصحيحة. والمسلم لا ينجح في دينه، ولا يكمل في إسلامه إلا باتباع السنّة النبوية وحدها. وليس من الممكن أن يكون جميع الداخلين في دين من الأديان من طائفة بشريّة واحدة، أو أن يكونوا من شعب إنسانيّ واحد، لأنّ الدّنيا قد قام بنيانها على التنوع في الأعمال والاختلاف في الأفعال، ولولا أنّ الناس مختلفون في مهنهم، ومكاسبهم، وأشغالهم، ومعايشهم، وهم يتعاونون ويساعد بعضهم بعضا؛ لخربت الدنيا. ولا بدّ للعالم من ملك، أو رئيس جمهورية، أو وال يتولّى أمورهم العامّة، وحاكم يحكم بينهم فيما   (1) والسنة في اصطلاح المحدّثين: ما أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية أو سيرة، سواء أكان قبل البعثة أم بعدها. (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، للدكتور مصطفى السباعي، ص 59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 يختلفون فيه، وكذلك لا تخلو الدنيا من رعية يرعى أمورهم رئيس، ومن محكومين يحكم فيهم حاكم، ومن خصوم يقضي بينهم قاض بالعدل، ليسود الأمان، ويستتب السّلام. وكذلك الأمم تحتاج إلى أن يكون لها جنود يدافعون عن كيانها، وأن يكون على الجنود ضباط وقادة. وتجد فيهم الفقراء الذين يعانون الشدّة والبؤس كما تجد فيهم الأغنياء من أهل التّرف والسّرف. وفيهم عباد لله يقومون بطاعته في جوف الليل، وزهاد تحرروا من متع الدّنيا، وزخارفها، ومجاهدون في سبيل الله يقارعون الباطل، ويقيمون الحقّ في الأرض، وكذلك ترى في الدنيا العائلين الذين يكدحون لمن يعولونهم، وترى فيها لفيف الأصدقاء المتحابّين، وطوائف التّجار والمحترفين، وأصحاب المصانع والمعامل. وهكذا الدّنيا لا تخلو من قادة الأمم، وساسة الشعوب، وزعماء الأحزاب. وعلى شتّى الطوائف ومختلف الفرق قام نظام هذه الدنيا، وكلّ منهم يحتاج في عمله إلى حياة مثاليّة وأسوة كاملة يقتدي بها؛ ليكون سعيدا في الحياة. والإسلام دعا جميع هذه الفرق، والطوائف، والأحزاب لأن يتّبعوا سنّة محمد صلّى الله عليه وسلم، ويقتفوا آثاره، ويسلكوا طريقه. ومن تتبّع ذلك يتبين له أنّ السنّة المحمدية تكفي جميع شعوب البشر، وطوائفهم، وفرقهم إذا اتخذوا منها الأسوة والقدوة، ففيها النور الذي يستضاء به في ظلمات الحياة الاجتماعية، وكم من ظلمة حالكة في الحياة! ومن هنا تعلم أن سيرة محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم جامعة، تجد فيها كلّ طائفة من طوائف البشر المثل الأعلى الذي تقتدي به، والأسوة التي تأتسي بها. ومن الظاهر الواضح أنّ حياة المحكوم لا تصلح لأن تكون قدوة لحياة الحاكم، كما أن حياة الحاكم لا تصلح لأن تكون قدوة لحياة المحكوم. وكذلك الفقير المعدم لا يتسنى له أن يسير في معيشته على ضوء من حياة الغني المثري. ومن ثم مسّت الحاجة إلى أن تكون الحياة المحمدية جامعة يجد فيها الناس كلّهم على اختلاف طوائفهم الأسوة الكاملة في جميع ألوان الحياة وأطوارها. وإنّ مثلها كمثل الباقة الجامعة لكل أصناف الزهور والورود بجميع ألوانها: ففيها الأحمر القاني، والأبيض النّاصع، والأخضر النّاضر، والأصفر الفاقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وفي البشر طوائف مختلفة، وفرق شتّى، تحتاج كلّها إلى حياة مثالية تكون نموذجا لها في حياتها ومعيشتها. ولكلّ إنسان من هذه الطوائف أعمال وأحوال تتقلب عليه بتقلب الظروف: بين قيام، وقعود، ومشي، وأكل، وشرب، ونوم، ويقظة، وضحك، وبكاء، وارتداء الملابس، وخلعها، وأخذ، وعطاء، وتعلّم، وتعليم، وقد يموت حتف أنفه، أو يقتل، ويكون محسنا لغيره، أو محتاجا لإحسان الآخرين إليه، وقد يكون في عبادة ربه، أو في معاملة الناس، ومعاشرتهم، وقد ينزل على غيره ضيفا، أو يستقبل الضيف ويقوم له بحقّ القرى. هذه الأحوال وغيرها تطرأ على الإنسان، وتعرض له فيما يتعلّق بجسمه، وجوارحه، فيحتاج في كلّ حال منها إلى هداية نافعة، وأسوة كاملة. وأعظم من الأسوة في أعمال الإنسان الظاهرة، الأسوة فيما يتعلق بخطرات القلوب، ومجالات الفكر، ونزعات العواطف، فنحن نشعر بين كلّ حين وآخر بنزعات، وعواطف، تخالج قلوبنا وأفكارنا، فنرضى ونسخط، ونفرح ونحزن، وتعترينا السكينة والطمأنينة، أو القلق والضجر. وتترتب على هذه الأحوال عواطف مختلفة، ونوازع متعدّدة. وليس الخلق الحسن إلا التعديل بين هذه الأحوال، وإقامة الوزن بالقسط بين العواطف القوية والنوازع الثائرة، ولا يحظ بنصيبه من مكارم الأخلاق إلا الذي يعرف كيف يكبح النفس عند جموحها، ويحسن التصرّف فيها وقت ثورتها، ومع ذلك فلا بدّ للإنسان من إمام تكون له فيه الأسوة التامة في هذه الأمور، فيأتمّ به في قهر هذه القوى الثائرة، والعواطف المتوثبة إلى أن تسكن ثورة نفسه، ويسلك في ذلك مسلك قدوته الأعظم، وهو النبي صلّى الله عليه وسلم؛ الذي يحمل بين جنبيه قلبا زكيا، ونفسا طاهرة، وروحا عالية نزيهة. حياة محمد صلّى الله عليه وسلم جمعت ما تفرق في الأنبياء مما امتازوا به: وهكذا المرء في كلّ خلّة من خلال العزيمة، والشجاعة، والشكر، والتوكل، والرّضا بالقدر، والصبر على النوائب، والتضحية، والقناعة، والاستغناء، والإيثار، والجود، والتواضع، والمسكنة، وسائر ما يطرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 على البشر في منفسح حياتهم، ومدى عيشهم، وما ربما يعتري هذه الخصال في ساعات مختلفة من مضطرب حياة الإنسان؛ فإنه يحتاج في كل ذلك إلى أسوة، وهداية ممّن سبق له العمل بذلك، وأنّى لنا هذه الأسوة الكاملة والهداية التامة إلا في حياة محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. إنّ حياة موسى عليه السلام تمثّل لنا القوة البشرية العظيمة، والبطش الشديد، ولكنّنا لا نعرف في المأثور عنه ما تكون لنا فيه الأسوة من ناحية دماثة الخلق، وخفض الجناح، وسجاحة النفس، وسماحتها. وفيما نعرفه من حياة المسيح نماذج لسماحة النفس، ورقّة الطبع، ودماثة الخلق، ولين الجانب، لكننا لا نجد فيما وصل إلينا من أخلاقه وأعماله تفاصيل عن شؤون حياته، وأسرته، تحرّك ساكن القوى، وتثير كوامن النفس، وتنبه القوى المتراخية. والإنسان في حياته محتاج إلى هذا وهذا، فكما يحتاج إلى ما يهدىء ثائر قواه، ويسكن جائشها، يحتاج كذلك إلى ما يثير الكامن من هذه القوى، ويهيج ساكنها، وينبه المتراخي منها. إنّه في حاجة إلى حياة يتّخذها قدوة له في هاتين الحالتين المختلفتين، على أن يكون بيد صاحبها ميزان العدل بالقسط تستوي كفّتاه، ولن تجد الجمع بين هاتين الخصلتين المختلفتين جمعا قويما عزيز الوجود إلا في حياة محمّد صلّى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي مثلت حياته أعمالا كثيرة متنوعة، بحيث تكون فيها الأسوة الصّالحة، والمنهج الأعلى للحياة الإنسانيّة في جميع أطوارها؛ لأنها جمعت بين الأخلاق العالية، والعادات الحسنة، والعواطف النبيلة المعتدلة، والنوازع العظيمة القويمة. إذا كنت غنيّا مثريا؛ فاقتد بالرسول صلّى الله عليه وسلم عند ما كان تاجرا يسير بسلعه بين الحجاز والشام، وحين ملك خزائن البحرين. وإن كنت فقيرا معدما؛ فلتكن لك أسوة به وهو محصور في شعب أبي طالب، وحين قدم إلى المدينة مهاجرا إليها من وطنه، وهو لا يحمل من حطام الدّنيا شيئا. وإن كنت ملكا؛ فاقتد بسننه وأعماله حين ملك أمر العرب، وغلب على آفاقهم، ودان لطاعته عظاماؤهم، وذوو أحلامهم. وإن كنت رعيّة ضعيفا؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فلك في رسول الله أسوة حسنة أيام كان محكوما بمكة في نظام المشركين. وإن كنت فاتحا غالبا؛ فلك من حياته نصيب أيام ظفره بعدوّه في بدر، وحنين، ومكة. وإن كنت منهزما- لا قدر الله ذلك- فاعتبر به في يوم أحد وهو بين أصحابه القتلى، ورفقائه المثخنين بالجراح. وإن كنت معلّما؛ فانظر إليه وهو يعلّم أصحابه في صفّة المسجد. وإن كنت تلميذا متعلّما؛ فتصور مقعده بين يدي الروح الأمين جاثيا مسترشدا. وإن كنت واعظا ناصحا ومرشدا أمينا؛ فاستمع إليه وهو يعظ الناس على أعواد المسجد النّبوي. وإن أردت أن تقيم الحقّ، وتصدع بالمعروف، وأنت لا ناصر لك، ولا معين؛ فانظر إليه وهو ضعيف بمكّة، لا ناصر ينصره، ولا معين يعينه، ومع ذلك فهو يدعو إلى الحقّ، ويعلن به. وإن هزمت عدوّك وخضدت شوكته، وقهرت عناده، فظهر الحقّ على يدك، وزهق الباطل، واستتب لك الأمر؛ فانظر إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم دخل مكة، وفتحها. وإن أردت أن تصلح أمورك، وتقوم على ضياعك؛ فانظر إليه صلّى الله عليه وسلم وقد ملك ضياع بني النضير، وخيبر، وفدك؛ كيف دبّر أمورها، وأصلح شؤونها، وفوضها إلى من أحسن القيام عليها. وإن كنت يتيما؛ فانظر إلى فلذة كبد آمنة وزوجها عبد الله وقد توفيا وابنهما صغير رضيع. وإن كنت صغير السنّ؛ فانظر إلى ذلك الوليد العظيم حين أرضعته مرضعته الحنون حليمة السعدية. وإن كنت شابا؛ فاقرأ سير راعي مكّة. وإن كنت تاجرا مسافرا بالبضائع؛ فلاحظ شؤون سيد القافلة التي قصدت بصرى. وإن كنت قاضيا، أو حكما؛ فانظر إلى الحكم الذي قصد الكعبة قبل بزوع الشمس ليضع الحجر الأسود في محله، وقد كاد رؤساء مكة يقتتلون، ثم ارجع البصر إليه مرّة أخرى، وهو في فناء مسجد المدينة يقضي بين الناس بالعدل، يستوي عنده منهم الفقير المعدم، والغنيّ المثري. وإن كنت زوجا؛ فاقرأ السيرة الطاهرة، والحياة النزيهة لزوج خديجة، وعائشة. وإن كنت أبا أولاد؛ فتعلم ما كان عليه والد فاطمة الزهراء، وجدّ الحسن والحسين. وأيا من كنت، وفي أيّ شأن كان شأنك، فإنّك مهما أصبحت، أو أمسيت، وعلى أيّ حال بتّ، أو أضحيت؛ فلك في حياة محمّد صلّى الله عليه وسلم هداية حسنة وقدوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 صالحة تضيء لك بنورها دياجي الحياة، وينجلي لك بضوئها ظلام العيش، فتصلح ما اضطرب من أمورك، وتثقف بهديه أودك، وتقوّم بسنته عوجك. وإنّ السيرة الطيبة الجامعة لشتّى الأمور هي ملاك الأخلاق، وجماع التعاليم لشعوب الأرض، وللناس كافّة في أطوار الحياة كلّها، وأحوال الناس على اختلافها، وتنوّعها. فالسيرة المحمدية نور للمستنير، وهديها نبراس للمستهدي، وإرشادها ملجأ لكلّ مسترشد. انتباه أحد البراهمة لهذه الناحية من الحياة المحمّديّة: كان الواعظ الذائع الصيت الأستاذ حسن علي «1» - رحمه الله- يصدر في (بتنه) قبل خمسين عاما مجلة (نور الإسلام) وقد قال في جزء منها: إن صديقا له من البراهمة قال له: إني أرى رسول الإسلام أعظم رجال العالم، وأكملهم. فقال له الأستاذ حسن علي: وما هي منزلة المسيح عيسى ابن مريم عندك من رسول الإسلام؟ فأجابه: إنّ المسيح ابن مريم عندي في جانب محمّد صلّى الله عليه وسلم كمثل ولد صغير يتكلم بكلام عذب، ويتحدّث حديثا حلوا عند أعقل أهل زمانه، وأكثرهم حزما. ثم سأله حسن علي: وبماذا كان رسول الإسلام عندك أكمل رجال العالم؟ فأجاب: لأني أجد في رسول الإسلام خلالا مختلفة، وأخلاقا جمّة، وخصالا كثيرة لم أرها اجتمعت في تاريخ العالم لإنسان واحد في آن واحد: فقد كان ملكا دانت له أوطانه كلّها، يصرّف الأمر فيها كما يشاء، وهو مع ذلك متواضع في نفسه يرى أنه لا يملك من الأمر شيئا، وأن الأمر كلّه بيد ربه. وتراه في غنى عظيم تأتيه الإبل موقرة بالخزائن إلى عاصمته، ويبقى مع ذلك محتاجا، ولا توقد في بيته نار لطعام في الأيام الطوال، وكثيرا ما يطوي على الجوع. ونراه قائدا عظيما يقود الجند القليل العدد الضعيف العدد، فيقاتل بهم ألوفا من الجند المدجّج بالأسلحة الكاملة، ثم يهزمهم شرّ هزيمة. ونجده محبّا للسلام، مؤثرا للصلح، ويوقع شروط الهدنة على القرطاس بقلب مطمئن، وجأش هادىء، ومعه ألوف من أصحابه كلّ منهم شجاع باسل، وصاحب حماسة   (1) أحد كبار الكتاب والوعاظ في الهند في مطلع القرن العشرين، توفي سنة 1921 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وحميّة تملأ جوانحه، ونشاهده بطلا شجاعا، يصمد وحده لآلاف من أعدائه غير مكترث بكثرتهم، وهو مع ذلك رقيق القلب، رحيم رؤوف، متعفف عن سفك قطرة دم. وتراه مشغول الفكر بجزيرة العرب كلّها، بينما هو لا يفوته أمر من أمور بيته، وأزواجه، وأولاده، ولا من أمور فقراء المسلمين ومساكينهم، ويهتمّ بأمر الناس الذين نسوا خالقهم، وصدّوا عنه، فيحرص على إصلاحهم. وبالجملة: إنّه إنسان يهمه أمر العالم كله، وهو مع ذلك متبتل إلى الله، منقطع عن الدّنيا، فهو في الدّنيا وليس فيها، لأنّ قلبه لا يتعلّق إلا بالله، وبما يرضي الله. لم ينتقم من أحد قطّ لذات نفسه، وكان يدعو لعدوه بالخير، ويريد لهم الخير، لكنّه لا يعفو عن أعداء الله، ولا يتركهم، ولا يزال ينذر الذين قد صدّوا عن سبيل الله، ويوعدهم عذاب جهنم. تراه زاهدا في الدّنيا، عابدا، يقوم الليل لذكر الله ومناجاته. كما تتصور من شمائله: أنّه الجنديّ الباسل المقاتل بالسّيف. وتراه رسولا حصيفا، ونبيا معصوما في الساعة التي تتصوره فيها فاتحا للبلاد، ظافرا بالأمم. وإنّه ليضطجع على حصير له من خوص، ويتكىء على وسادة حشوها من ليف حينما يخطر على بالنا أن ندعوه بسلطان العرب، وننادي به ملكا على بلاد العرب. ويكون أهل بيته في فاقة وشدّة عقب استقباله الأموال العظيمة آتية إليه من أنحاء الجزيرة العربية، فتكون في فناء مسجده أكواما، وتأتيه بنته وفلذة كبده فاطمة تشكو إليه ما تكابده من حمل القربة والطّحن بالرّحى حتى مجلت يداها، وأثّرت القربة في جسمها، والرسول يومئذ يقسم بين المسلمين ما أفاء الله عليهم من عبيد الحرب وإمائها، فلا تنال بنته من ذلك إلا دعاءه لها بكلمات يعلّمها كيف تدعو بها ربّها. وجاءه ذات يوم صاحبه عمر، فأجال بصره في الحجرة فلم يجد إلا حصيرا من خوص قد اضطجع الرسول عليه، وأثر في جنبه، وكل ما في البيت صاع من شعير في وعاء، وعلى مقربة منه شنّ معلّق على وتد. هذا كل ما كان يملك رسول الله يوم دان له نصف العرب. فلما رأى عمر ذلك لم يتمالك نفسه من دموع تذرفها عيناه، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟! فقال: ومالي لا أبكي، إنّ قيصر، وكسرى يتمتعان بالدّنيا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وينعمان بنعيمها، وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يملك إلا ما أرى! فقال له الرسول سلام الله عليه: أما ترضى يا عمر أن يكون ذلك نصيب كسرى وقيصر من نعيم الدّنيا، وتكون لنا الآخرة خالصة من دون الناس؟! وعند ما أحدق النبيّ صلّى الله عليه وسلم بجيوشه ليفتح مكة قام أبو سفيان إلى جانب العباس عمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم ينظران إلى المجاهدين من المسلمين تتقدّمهم الأعلام الكثيرة، وكان أبو سفيان لا يزال على ما كان عليه من المخالفة للإسلام، فراعه ما رأى من كثرة جموع المسلمين ومن انضوى إليهم من القبائل المسلمة، وأنّهم يزحفون على بطحاء مكة كالسيل الجارف لا يصدّه صادّ ولا يمنعه شيء، فقال لصاحبه: يا عباس! إنّ ابن أخيك أصبح ملكا عظيما. فأجابه العباس وهو يرى غير الذي يراه أبو سفيان: ليس هذا من الملك في شيء يا أبا سفيان، هذه نبوّة ورسالة. وعدي الطّائي «1» ، كان سيد طيىء، وحضر مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلم ذات يوم وهو لا يزال على المسيحية، فشاهد إعظام الصّحابة للرسول، وعليهم عدّة الجهاد من الأسلحة واللأمة للدّفاع، فاشتبه عليه أمر النبوة بأمر السّلطان، وتساءل في نفسه: أهذا ملك من الملوك، أم رسول من رسل الله؟ وفيما هو كذلك جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم امرأة فقيرة من إماء المدينة، وقالت له: أريد يا رسول الله! أن أسرّ إليك شيئا. فقال لها: انظري في أي سكك المدينة شئت أخل لك. ثم نهض معها، وقضى لها حاجتها. فلما رأى ابن حاتم الطائي هذا التواضع العظيم من الرسول العظيم، وهو بين أصحابه في مثل عظمة الملك، انجلى عنه ظلام الباطل، وتبيّن له الحقّ واضحا، وأيقن أنّ هذا الأمر من رسالات الله، فعمد إلى صليبه، فنزعه عنه، ودخل مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نور الإسلام.   (1) هو عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، أبوه الذائع الصيت الّذي تضرب به الأمثال في الجود والسخاء، وكان عدي نصرانيا فأسلم سنة تسع، وقد ثبت على الإسلام كما ثبّت قبيلته عليه زمن الردّة، وجاء بصدقة قومه إلى أبي بكر- رضي الله عنه-، شهد فتوح العراق، ثم نزل الكوفة، وتوفي بها سنة 68 هـ، وله ستة وستون حديثا مرويا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وفي الجملة: إنّ كلّ ما ذكرته آنفا ليس من الإطراء في الثناء ولا من المبالغة في المدح، بل هو من حقائق الواقع التي سجّلها التاريخ بأصحّ ما استطاع أن يسجّل به حقائقه. ومما لا ريب فيه أنه لا يستحق إنسان أن يكون قدوة للعالم في جميع مناهج الحياة إلا إذا اجتمعت فيه الخلال الشريفة كلّها، والخصال الإنسانية الكاملة بأجمعها ممّا يحتاج إليه الناس في معايشهم، فتكون لهم في سيرته أمثلة كثيرة، وفي هديه أمور متنوعة، تستنير بها كلّ طائفة من طوائف الناس، وكلّ فرقة في كلّ أمّة من أممهم، فيتخذون في أنفسهم سننا، وآدابا، ومناهج من حياته الشريفة لحياتهم الاجتماعية والعائلية، وبذلك يكون الشخص العظيم المقتدى به هاديا للناس بأعماله، وأخلاقه، وخصاله عند ما يكون في حالات الغضب، أو الرحمة، أو الجود، أو الفاقة، أو الشجاعة، أو رقّة القلب، فيهتدون به في هذه الأحوال بدنياهم كما يهتدون به بصحة الاعتقاد وسلامة العبادة لآخرتهم. فهو يجمع إلى إسعاد الناس في آخرتهم إسعادهم في حياتهم الدّنيا وأحداثها اليومية، فييسر لهم خلافة الله على الأرض كما يدلّهم على مقام الكرامة في ملكوت السّماء. وهو مع ذلك يسنّ لهم السّنن، ويشرّع لهم الأحكام لينظموا حياتهم في الأرض والسماء. وإن العفو، والمسامحة، واللين، وخفض الجناح للآخرين من قوام الحياة الإنسانية، ولا يسعد الإنسان إلا بلين القول، والعفو عن الناس، وخفض الجناح لهم، ومن كان نصيبه وافرا من هذه الخصال كان المعلم العظيم، والمحسن الكبير، وإني أسائلكم فأجيبوني: هل هذه الخصال وحدها هي التي تكون في الإنسان، أم تكون في أضدادها أيضا؟ أليس في خصال الإنسان الغضب بجانب ما فيه من رحمة، والعداوة بجانب الصداقة والخلّة، والطّمع مع القناعة، والشّره مع العفّة. أليس ينزع إلى الثأر كما يميل إلى العفو، أليس هذا كله مما تقتضيه جبلّة الإنسان وغريزته؟ إنّ المعلم الكامل هو الذين يستطيع أن يعتدل بين هذه الأحوال والخصال المتضادّة، ويقيم الميزان في هذه النزعات والعواطف حتى يكسر سورتها، ويخفف من شدّتها، ويكون عادلا معتدلا، فتكون له من سجاياه الطيبة مطية كريمة تبلغ به الغاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 القصوى من الحقّ. أما الذين يزعمون أنّ ملاك أديانهم، وقوام نحلهم العفو واللين فحسب، وليس في سيرة رسلهم إلا المسامحة وخفض الجناح، فأنبئوني- بفضلكم- كم يوما عمل أتباعهم بهذه السيرة في مجتمعهم، وإلى متى استمرّوا على هذا الهدي في حياتهم الاجتماعية بين زمن قسطنطين أول الملوك المسيحيين إلى يومنا هذا، وأيّ ملك مسيحي عمل في دولته بسيرة نبيه؟ لقد قامت للأمّة المسيحية دول كثيرة في بقاع الأرض، فخبروني أيّ دولة مسيحية سنّت لرعيتها قوانين تلائم سيرة رسولها من العفو عن الجناة، واللين لمن أغلظ، وخفض الجناح لمن اشتدّ؟ وإذا لم تكن في سيرة رسول من رسل الله أسوة لأتباع ذلك الرّسول أنفسهم؛ فكيف يكون حالها؟! ما أعطى الله الرسل جميعا متفرقين قد أوتيه محمد صلّى الله عليه وسلم وحده: وإذا رجعت إلى حياة نوح ترى الغيظ، والحنق على الكفر وأهله، وعلى الشرك ومن يدين به. وترى في حياة إبراهيم جهادا في تحطيم الأصنام، وإبطال عبادة الأوثان. وفي حياة موسى قتالا للمشركين بالله، وقد سنّ للمؤمنين به سننا اجتماعية، وقوانين ملكية. وترى المسيح عيسى ابن مريم يعفو، ويصفح، ويلين للناس، ويخفض لهم جناحه، فتمتلىء نفسك إعجابا بعفوه وعفته. وأما سليمان عليه السلام فيعجبك بجلالته، وسلطانه، وأبهة ملكه. وتمثل لك حياة أيوب معاني الصّبر على المكاره، وشكر الله على الرغائب. ويملؤك يونس إعجابا بإنابته إلى الله، وندمه على ما فرط منه. ويوسف عليه السلام يهديك كيف يقوم الإنسان بدعوة الحقّ وهو أسير عان، وكيف يصون نفسه، ويستمسك بعفافه حين تراوده امرأة ذات جمال، وجلال، ومال، وعظمة. وفي حياة داود درس عظمة، وصحيفة عبرة؛ إذ يبكي من خشية الله، ويحمده، ويدعوه متضرعا إليه. وفي سيرة يعقوب أسوة للمرء فيما يرجوه من رحمة الله، والثقة به، والتوكل عليه عند ما تظلم الدنيا في عينيه. أما سيرة محمد صلّى الله عليه وسلم فإنّها تجمع ذلك كلّه، وتشتمل على جميع هذه الخصال، وتعمّ الأخلاق الكريمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 بحذافيرها وما تفرّق منها في سيرة نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وسليمان، وداود، وأيوب، ويونس، ويوسف، ويعقوب عليهم الصلاة والسلام، فكأنّ السيرة المحمدية بحر لجيّ تنصبّ فيه جميع الأنهار، وتتصل به كل البحار من سير الأنبياء والرسل، وهداهم، وسننهم. روى الخطيب البغدادي «1» في تاريخه بإسناد ليّن: أن نداء سمع عند مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن طوفوا بمحمد جميع البلاد، واغطسوه في قعر البحار ليعرف العالم كلّه، ثم اذهبوا به إلى جميع الإنس، والطير، والحيوان، وأعطوه من خلق آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلّة إبراهيم، ولسان إسماعيل، ورضا إسحاق، وبلاغة صالح، وحكمة لوط، وشدّة موسى، وصبر أيوب، وطاعة يونس، وجهاد يوشع، ولحن داود، وحب دانيال، ووقار إلياس، وعفّة يحيى وزهد عيسى، واغمسوه في بحر أخلاق الرّسل كلّهم. والعلماء الذين رووا هذه الرواية في كتبهم أرادوا بها أن يعربوا عن حقيقة سيرة الرسول، وأنّها كاملة جامعة، وأنّ ما أعطي الرسل جميعا متفرقين قد أوتيه محمد صلّى الله عليه وسلم وحده، وأن ما تفرّق من مكارم الأخلاق في الرّسل قد اجتمع فيه صلّى الله عليه وسلم. مقارنات بين النبي صلّى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء: تأمّلوا سيرة محمّد صلّى الله عليه وسلم؛ تجدوا فيها كلّ ما كانت به حياته المثالية كاملة. أليس الرسول المكيّ الذي خرج من بلده مهاجرا إلى يثرب يشبه الرسول الإسرائيليّ الذي خرج من مصر يريد مدين؟ أليس الذي انزوى في غار حراء يعبد ربه كالذي قصد جبل سيناء ليناجي ربّه؟ إن هذا يشبه ذلك مع فارق بينهما، وهو أنّ عيني محمد كانتا مفتوحتين وعيني موسى كانتا مغمضتين،   (1) هو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، المعروف بالخطيب، أحد الحفاظ المؤرخين المقدمين، كان فصيح اللهجة، ولوعا بالمطالعة والتأليف، توفي سنة 463 هـ، ومن أشهر كتبه «تاريخ بغداد» و «الكفاية في علم الرواية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وأنّ رسول الإسلام كان ينظر في داخله، ورسول بني إسرائيل كان ينظر إلى خارجه. إنّ عيسى عليه السلام في ذهابه إلى جبل الزيتون ليلقي عظته يشابه محمدا صلّى الله عليه وسلم وقد ارتقى جبل الصفا لينادي معاشر قريش. والذي قاتل مشركي بلاد العرب في بدر، وحنين، ويوم الأحزاب، وتبوك يشبه موسى الذي قاتل المؤابيين، والعموريين، والآموريين. وإنّ الرسول محمدا صلّى الله عليه وسلم دعا على سبعة رجال من أعيان مكة فهلكوا، وموسى دعا على فرعون ومن التف حوله حين رأوا بأعينهم آية بينة من الله مرّة بعد أخرى، لكنّهم لجّوا في عتوّ ونفور؛ ولم يؤمنوا به، فهلكوا مغرقين في البحر الأحمر، فتشابهت سنة الرسول محمد وسنة الرّسول موسى عليهما الصّلاة والسلام. إنّ محمدا نبيّ الله دعا بالخير لمن أراد قتله من المشركين يوم أحد، وإنّ عيسى عليه السلام لم يدع على أحد وما زال يبغي الخير لأعدائه، أليس هدي محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشابه من هذه الناحية هدي عيسى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ وإنّ محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين تراه في فناء المسجد يقضي بين الناس بالحقّ ويحكم بالعدل، أو في ساحات الحرب يقاتل الكفار والمشركين، فكأنك ترى موسى رسول الله وهو يجاهد أعداءه، ويقاتل الذين يعبدون الأوثان. وحين ترى محمدا رسول الله يعبد ربّه، ويتضرّع إليه في خلوة عن الناس، إمّا في حجرة منفردة، أو في مغارة الجبل، وقد أرخى الليل سدوله، فكأنك ترى عيسى وقد خلا بنفسه يوحّد الله، ويناجيه بالعبودية له. ولو رأيت نبي الإسلام وهو يذكر الله دائما، ويحمده، ويسبّحه في البكور والآصال وفي كلّ حال- فإذا بدأ بالأكل بدأه باسم الله، وإذا فرغ منه حمد الله، وإذا جلس مع أحد كان التذكير بالله من عمله في ذلك المجلس، وإذا نام نام وهو يذكر ربه، ويستعرض آلاءه عليه- فكأنك برؤية نبيّ الإسلام قد رأيت النبيّ صاحب الزبور في ترتيله محامد الله ونعمه. وكأنك ترى سليمان في جنوده وعليه جلال الملك، وأبهة السلطان حينما ترى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 محمدا بين أصحابه، وقد فتح مكة، ودخلها تحت رايات المجاهدين بأيديهم السيوف مصلتة لإقامة الحقّ، والعوالي السمر مشرعة لتقويض دعائم الباطل. أما إذا رأيته وهو محصور مع ذويه في شعب أبي طالب، وقد منع دخول الطعام والشّراب إليه من الخارج، فكأنك ترى يوسف الصديق وهو في سجن مصر يعاني شدائد الظالمين، ويكابدها. إنّ موسى قد جاء بالأحكام، وداود امتاز بدعاء الله، والتغني بمناجاته، وعيسى بعث ليعلم الناس مكارم الأخلاق، والزهد في الدنيا، وأما محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقد جاء بكل ذلك بالأحكام، ودعاء الله، والتوجيه إلى مكارم الأخلاق، والحضّ على الزهد في الدنيا وزينتها، وكلّ هذا تجده في القرآن الحكيم لفظا ومعنى، وفي السيرة المحمدية قدوة وعملا. سادتي! وأحبّ أن ألفت أنظاركم إلى ناحية أخرى من نواحي السيرة المحمدية تدلّ على جامعيتها: إنّ في الدّنيا نوعين من المدارس: نوع يختص بفرع واحد من فروع المعرفة، كالطبّ، أو الهندسة، أو التجارة، أو الصناعة، أو الفنون الحربية، أو الزراعة، أو الحقوق، أو اللغة والآداب. ونوع يجمع هذه المعاهد العلمية كلها، فمن قصده استطاع أن ينتسب إلى أيّ فرع شاء من فروع المعارف الإنسانية. وهذا النوع الثاني هو الذي تهرع إليه طوائف الطلبة من جميع البلاد، فيجد فيه كلّ منهم ما تميل نفسه إلى التخصص فيه من العلوم، وبهذا سمّيت مجموعة هذه المعاهد باسم (الجامعة) ، ومنها يتخرّج قضاة المحاكم، والأطباء، والمهندسون، وقادة الجند، والناهضون بعلوم الزراعة، أو الصناعة، أو التجارة، والمتخصصون بالآداب وعلومها، والثقافة العليا وفنونها. ومن البيّن الواضح للمتأملين أنّ المجتمع الإنساني لا يتمّ كماله، ولا تسعد حياته بضرب واحد من العلوم، ولا بصنف خاصّ من أهل الحرف والصناعات، بل يحتاج إلى مجموع ذلك كلّه. وإذا استقصينا ما يعرفه التاريخ من سير الأنبياء، ولا حظنا ما خلفوه من ثمرات أشجارهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 عملا بقول المسيح: «من ثمارهم تعرفونهم» ، فإننا نجد لهؤلاء المعلمين الربّانيين، والأنبياء والمرسلين تلاميذ ومهتدين، فالواحد منهم يكون له عشرة تلاميذ، وآخر منهم يكون له عشرون تلميذا، ونرى لبعضهم ستين، أو سبعين، ومئة أو مئتين، وألفا أو ألفين، ونادرا ما يكون لأحد الأنبياء من التلاميذ والأصحاب ما يبلغ خمسة عشر ألفا. أما المدرسة الأخيرة من مدارس النبوّة، وهي مدرسة خاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وسلم، فقد كان تلاميذها يعدون بمئات الألوف. وإذا أردت أن تعلم من هم تلاميذ المدارس النبوية الآخرى؟ ومن أين جاؤوا إليها؟ وفي أيّ البلاد ولدوا؟ وما مبلغهم من العلم؟ ثم كيف كانت أخلاقهم؟ وكم أخذوا من أخلاق نبيهم وشمائله؟ وكم كان تأثير تعليم نبيهم فيهم؟ وما هي سيرتهم وهداهم؟ وكم صلحت أعمالهم بإصلاح رسولهم لهم؟ فإنك لن تجد لأسئلتك هذه أجوبة عليها إلا فيما يتعلق باخر مدارس النبوّة، فإنك تجد لها جوابا على كلّ سؤال من هذه الأسئلة كلّها بالتفصيل، وتستطيع أن تقيد في دفترك أسماء تلاميذ هذه المدرسة، وأماكن ميلادهم، ووصف ما تعلموه منها، ومبلغ تأثرهم بأخلاق نبيهم، ومعرفتهم بأحواله وشؤونه- كلّ ذلك تجده مسجلا، مدوّنا، مضبوطا بوضوح وجلاء. وهلم بنا نعرّج على جهة أخرى: إنّ جميع أصحاب الملل والنّحل يدّعون أنّ أبوابهم مفتحة للجميع. فتعالوا نر من منهم كانت دعوته عامة لجميع الناس، وأبوابه مفتحة لمختلف الأمم والطوائف البشرية بلا استثناء. ومن منهم كانت حلقته في عهده مقصورة على رجال من أمة واحدة، وعلى طائفة خاصّة من تلك الأمّة. إنّ جميع أنبياء بني إسرائيل لم تتجاوز دعوتهم بلاد العراق، أو بلاد الشام، أو بلاد مصر، أي أنّهم لم يخرجوا من الأرض التي كانوا يسكنونها، ولم يوجهوا دعوتهم إلا لأمتهم من بني إسرائيل. ولذلك لا ترى في مدارس عيسى عليه السلام رجلا غير إسرائيلي، لأنه إنما كان ينشد الغنم الضالة من بني إسرائيل «1» وإنما اقتصر   (1) متى 7: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 على بني إسرائيل لئلا يلقي رغيف الصبيان إلى كلاب «1» . وأصحاب الأديان في الهند لم يكن يخطر ببالهم أن يخرجوا من أرض الأمة الآرية المقدسة «2» . نعم لقد نشر ملوك البوذية دينهم في خارج الهند، وبلّغوا دعوة بوذا إلى الأمم الآخرى، لكن ذلك جاء بعد زمن الدّعوة من أتباعها المتأخرين عنها، كما فعل الذين نشروا المسيحية فيما بعد خارج دائرة إسرائيل. أما أصحاب الدعوة الأولون فقد خلت صحائف حياتهم من تعميم الدّعوة حتى تشمل جميع بني آدم. مدرسة محمد صلّى الله عليه وسلم كانت جامعة للطوائف وعامة للأمم: والآن تعالوا نشاهد مدرسة الرسول العربيّ الأميّ: أيّ طالب هذا؟ هذا أبو بكر، هذا عمر، ذاك عثمان، وذلك عليّ، وهذان طلحة «3» ، والزبير «4» . ومن هؤلاء؟ هؤلاء تلاميذ من قريش البطاح بطاح مكة، وذانك من غير قريش، إنهما أبو ذر «5» وأنيس «6» من تهامة من قبيلة غفار، وهذان   (1) الإنجيل. (2) باك أريه ورت. (3) هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان التميمي القرشي المدني، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، شهد أحدا وثبت مع الرسول صلّى الله عليه وسلم، وبايعه على الموت، شهد الخندق وسائر المشاهد، قتل يوم الجمل وهو بجانب عائشة- رضي الله عنها- ودفن بالبصرة، وله 38 حديثا مرويا. (4) هو الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي القرشي، صحابي شجاع، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من سلّ سيفه في الإسلام، وهو ابن عمة النبي صلّى الله عليه وسلم، شهد بدرا، وأحدا، وغيرهما، وشهد الجابية مع عمر بن الخطاب، قتل يوم الجمل بوادي السّباع، والواقع قريبا من البصرة سنة 36 هـ. (5) هو جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد، من بني غفار أحد كبار الصحابة، يضرب به المثل في الصدق، وهو أول من حيّا الرسول صلّى الله عليه وسلم بتحية الإسلام، هاجر بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الشام، فسكن دمشق، توفي سنة 32 هـ، روى البخاري ومسلم 281 حديثا له. (6) هو أنيس بن مرثد الغنوي، صحابي، وهو ممن شهد فتح مكة، وكان عين النبي صلّى الله عليه وسلم في غزوة حنين بأوطاس، توفي سنة 20 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أبو هريرة وطفيل «1» ، جاآ من اليمن من إحدى قبائلها، وتسمّى دوس، ومن هذان؟ هذا أبو موسى «2» ، وذاك معاذ بن جبل «3» ، قدما من اليمن من قبيلة أخرى، وهذا ضماد بن ثعلبة «4» من قبيلة الأزد القحطانية، وهذا خبّاب بن الأرت «5» أخو تميم. ومن أي قبيلة هؤلاء القوم؟ منقذ بن حبان «6» ، ومنذر بن عائذ «7» من قبيلة عبد القيس استجابا لهذه الدّعوة، ووفدا إليها من البحرين على الخليج الفارسي. وفيهم عبيد «8» وجيفر «9» من   (1) هو الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص الدوسي الأزدي من أشراف الصحابة، استشهد في اليمامة سنة 11 هـ. (2) هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب، أبو موسى من بني الأشعر، من كبار الصحابة، استعمله الرسول صلّى الله عليه وسلم على زبيد وعدن، توفي بالكوفة سنة 44 هـ، وكان أحسن الصحابة صوتا في التلاوة، وله 355 حديثا مرويا. (3) هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، كان من أعلام الأمة بالحلال والحرام، وهو أحد الستة الّذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم، بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قاضيا ومرشدا لأهل اليمن، توفي سنة 18 هـ، وله 157 حديثا مرويا. (4) هو ضماد بن ثعلبة الأزدي، كان صديقا للنبي صلّى الله عليه وسلم في الجاهلية، وكان رجلا يتطبب، ويرقي، ويطلب العلم، وكان من السابقين إلى الإسلام. (5) هو خباب بن الأرتّ بن جندلة بن سعد التميمي، صحابي، وهو أول من أظهر إسلامه، ولما أسلم عذّبه المشركون ليرجع عن دينه، شهد المشاهد كلها، توفي بالكوفة سنة 37 هـ، وله 32 حديثا مرويا في الصحيحين. (6) هو منقذ بن عمر بن حبان الأنصاري الخزرجي، صحابي، كان يخدع في البيع، وكان لا يدع التجارة، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا ابتعت شيئا فقل: لا خلابة» عاش مئة وثلاثين سنة. (7) هو المنذر بن عائذ بن المنذر بن الحارث، وهو الّذي قال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّ فيك خلقين يحبهما الله ورسوله: «الحلم والأناة» ، قيل: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «يا أشجّ» فهو أول يوم سمي فيه الأشج. (8) انظر الترجمة التالية. (9) هو جيفر بن الجلندى الأزدي، كان رئيس أهل عمان هو وأخوه عبيد بن الجلندى، أسلما على يد عمرو بن العاص، ولم يريا النبيّ صلّى الله عليه وسلم، كان إسلامهما بعد غزوة خيبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 سادة عمان. وفيهم فروة «1» من معان في بلاد الشام. ومن هؤلاء الغرباء؟ هذا بلال «2» من بلاد الحبشة، وهذا الأبيض يدعى صهيبا «3» الرّومي، وهذا اسمه سلمان «4» الفارسي من إيران، وهذا أخو الدّيلم يدعى فيروز الدّيلمي «5» ، وهذا سيخب ومركبود «6» من الأمة الفارسيّة. فها أنتم ترون نماذج لمن تتلمذ على نبيّ الإنسانية النبيّ الأمي العربي خاتم المرسلين، لقد كانت حلقة هدايته مفتوحة لكلّ الأمم من شتّى طوائف البشر. إنّ صلح الحديبية الذي اتفق عليه المسلمون والمشركون في سنة 6 للهجرة كان من شرائطه أن يكفّ كلّ من الفريقين عن القتال، وذلك ما يدعو إليه الإسلام؛ لأنه دين السلام والوئام، وللمسلمين أن يبلغوا دينهم أينما أرادوا. وماذا فعل رسول الإسلام بعد هذه الهدنة العظيمة الخطر الكبيرة الأثر؟ إنّه صلّى الله عليه وسلم أرسل في نفس تلك السنة كتبا إلى ملوك البلاد المجاورة، دعاهم   (1) هو فروة بن عمرو بن النافرة الجذامي كان واليا يقتصر على الشام، أسلم فدعاه قيصر إليه وترك الإسلام، فأنكر فروة ذلك، فحبسه قيصر، ثم أمر بقتله، وقد ضحى بالثروة والحكومة والعزة والجاه والنفس ولم يرض بترك الإسلام، قتل سنة 12 هـ. (2) هو بلال بن رباح الحبشي، مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأحد السابقين للإسلام، شهد المشاهد كلها مع الرسول صلّى الله عليه وسلم، توفي بدمشق سنة 20 هـ، وله 44 حديثا مرويا في الصّحيحين. (3) هو صهيب بن سنان بن مالك، أحد السابقين للإسلام، سبي صهيب بالروم وهو صغير، وعاش مدة في الروم، لذا اشتهر ب «الرومي» ، شهد جميع المشاهد، توفي بالمدينة سنة 38 هـ، وله 307 أحاديث مروية. (4) هو سلمان الفارسي، كان يسمّي نفسه سلمان الإسلام، أصله من مجوس أصبهان. هو الّذي دلّ المسلمين على حفر الخندق في غزوة الأحزاب، توفي بالمدائن سنة 36 هـ، وله 60 حديثا مرويا في كتب الحديث. (5) هو فيروز الدّيلمي، صحابي يماني، فارسي الأصل، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلم وروى عنه أحاديث، وعاد إلى اليمن وأعان على قتل الأسود العنسي، توفي بصنعاء سنة 53 هـ. (6) مركبود: من أبناء الفرس بصنعاء، أسلم في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد ذكره بعض النقلة من كبود، وأظنه صحفه بعض النقلة. (أسد الغابة، للجزري، الجزء الخامس، صفحة 151) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فيها إلى الإسلام، وبلّغهم رسالة الله التي بعث بها إلى الأمم. فبعث صلّى الله عليه وسلم دحية الكلبي «1» إلى هرقل قيصر الروم، وعبد الله بن حذافة السهمي «2» إلى خسرو برويز ملك الفرس، وحاطب بن أبي بلتعة «3» إلى المقوقس عزيز مصر، وعمرو بن أمية «4» إلى النجاشي ملك الحبشة، وشجاع بن وهب الأسدي» إلى الحارث الغساني سيد قومه في الشام، وسليط بن عمرو «6» إلى رؤساء اليمامة. أرسلهم صلّى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الملوك والأقيال بكتب يدعوهم فيها إلى الإسلام، ويبلغهم أنّه أرسل إلى جميع الناس بالهداية العامة الشّاملة. استعراض نماذج من تلاميذ مدرسة محمد صلّى الله عليه وسلم: سادتي! لقد تبين لكم أنّ مدرسة محمّد رسول الله كانت جامعة للناس من جميع الطوائف، وكانت عامّة للأمم على اختلاف ألسنتهم، وألوانهم،   (1) هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبى، صحابي جليل، بعثه الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى «قيصر» يدعوه للإسلام، كان يضرب به المثل في حسن الصورة، شهد معظم المشاهد، نزل دمشق وتوفي بها سنة 45 هـ. (2) هو عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي القرشي، صحابي من الّذين أسلموا قديما، بعثه الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى «كسرى» يدعوه للإسلام، هاجر إلى الحبشة، شهد فتح مصر، وتوفي بها في عهد عثمان رضي الله عنه، سنة 33 هـ. (3) هو حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، أحد الصحابة- رضوان الله عليهم- شهد الوقائع كلها مع الرسول صلّى الله عليه وسلم، بعثه الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى مقوقس صاحب الإسكندرية، توفي بالمدينة سنة 30 هـ. (4) هو عمرو بن أمية بن خويلد بن عبد الله الضمري، صحابي، شهد مع المشركين بدرا وأحدا، ثم أسلم، شهد وقائع كثيرة، توفي بالمدينة في خلافة معاوية سنة 55 هـ، وله 20 حديثا مرويا. (5) هو شجاع بن وهب بن ربيعة الأسدي، صحابيّ قديم الإسلام، حضر المشاهد كلها. بعثه الرسول صلّى الله عليه وسلم رسولا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني (في الشام) يدعوه للإسلام، قتل يوم اليمامة سنة 12 هـ. (6) هو سليط بن عمرو العامري، هو فيمن هاجر إلى الحبشة مرتين، أرسله الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى رؤساء اليمامة سنة 7 هـ، قتل باليمامة سنة 12 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وطبقاتهم في الثقافة والمجتمع، وأنه لم يكن هناك أيّ قيد يمنع أيّ إنسان من الالتحاق بها، فكأنها مأدبة كريم يدعو الجفلى. فتعالوا نلق نظرة أخرى على هذه المدرسة؛ لنصدر حكمنا الصحيح على حقيقتها، ومكانتها، ومنزلتها من معاهد الهداية والحكمة. ولنر إن كانت خاصّة بعلم دون غيره من العلوم، أم هي جامعة كبرى يجد فيها طلاب المعارف أجمعون كلّ ما ينشدون، ويتعطشون إلى معرفته من حقائق الوجود، ليختاروا منها ما يوافق أذواقهم، ويلائم طباعهم، ويروي ظمأهم. انظر إلى مدرسة موسى عليه السلام؛ تجدوا فيها عددا من قادة الجيش، أو قضاة المحاكم، أو طائفة قليلة من ذوي المناصب الدّينية، وابحثوا عن تلاميذ عيسى سلام الله عليه؛ تجدوا فيهم طائفة من الزهّاد والنساك، يتنقلون بين سكك فلسطين، ويتجوّلون في شوارع مدنها. أما الذين دخلوا في الإسلام، واتّبعوا محمدا صلّى الله عليه وسلم؛ فتجدون فيهم أصحمة النجاشي «1» ملك الحبشة، وفروة عظيم معان، وذا الكلاع «2» رئيس حمير، وفيروزا الديلمي، ومركبود من سادة اليمن ورؤسائها، وعبيدا وجيفرا من ولاة عمان. انظروا مرّة أخرى تجدوا يما يقابل هؤلاء الملوك والولاة والرؤساء بلالا، وياسرا «3» ، وصهيبا، وخبّابا، وعمارا «4» ، وأبا فكيهة «5» من العبيد   (1) هو أصحمة بن أبجر الملقب بالنجاشي ملك الحبشة، هو ممن لم ير النبي صلّى الله عليه وسلم. (2) هو ذو الكلاع الحميري، كان حاكما على بعض مناطق اليمن والطائف، وكان ملكا على قبيلة حمير القوية، وكان يدّعي أنه إله ويأمر الناس بالسجود له، ولما أسلم أعتق في يوم واحد ثمانية عشر ألفا من العبيد، وفي عهد عمر الفاروق تخلّى من نفسه عن الحكم، وقدم إلى المدينة المنورة حيث عاش فيها حياة كلها زهد، وتقوى. (3) هو ياسر بن عامر المذحجي: صحابي، من السابقين إلى الإسلام. آمن هو وزوجته وابنه عمار، وعذّبهم مشركو قريش، وقتل أبو جهل سمية (زوجة ياسر) . ومات ياسر في العذاب سنة (7) ق هـ. الإصابة (ت 9209) . (4) هو عمار بن ياسر بن عامر الكناني، هو أحد السابقين إلى الإسلام والجهر به. كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يلقبه «الطيب المطيّب» شهد معظم الوقائع، شهد وقعة الجمل وصفين مع علي رضي الله عنه، وقتل في الثانية سنة 37 هـ. وله 62 حديثا مرويا. (5) هو أبو فكيهة مولى بني عبد الدار، أسلم قديما بمكة، وكان يعذّب ليرجع عن دينه فيمتنع، هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، توفي قبل بدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 والرقيق والضعفاء، وسميّة، ولسنة، وزنيرة، ونهدية، وأم عبيس من الإماء والضعيفات. وترون كذلك في أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم ذوي العقول الرّاجحة، والفكر الثاقب، والرأي الحصيف، وأهل الحنكة والتجربة ممّن عرفوا دخائل الأمور، وجربوا شؤون العالم، ووقفوا على أسرار الدنيا، وأداروا شؤون الملك، وساسوا البلاد، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، فهؤلاء حكموا الأمم، فأحسنوا، وأقاموا شرع الله في أرض الله بين مشرقها ومغربها، فاتسعت دائرة حكومتهم إلى شمال إفريقية وثغور الهند، ونسخوا بعدلهم ورحمتهم سلطان عظاماء الملوك، وقوانين الروم والفرس، ونزلوا من قلوب الناس أكرم منزلة بعدلهم، وإنصافهم، ومن صفحات التاريخ الصّادق المرتبة التي لم يبلغها فيه أحد غيرهم، لا قبلهم، ولا بعدهم. وإلى جانب الخلفاء الراشدين، والملوك العادلين، والسلاطين المنصفين من أتباع الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم ترى طائفة غير قليلة من رؤساء الجند، وقادة الجيوش من أصحاب الرسول كخالد بن الوليد «1» ، وسعد بن أبي وقاص «2» ، وأبي عبيدة بن الجراح «3» ، وعمرو بن العاص «4» ممّن   (1) هو خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي، سيف الله الفاتح الكبير، كان من بين من آمنوا من المشركين، وكان على رأس جيش الكفار في غزوة أحد، فألحق بالمسلمين خسائر فادحة، وخالد بن الوليد هو الّذي بعد إسلامه قاد جيش المسلمين، فهزم مسيلمة الكذاب وفتح بلاد العراق كلها تقريبا ونصف بلاد الشام، توفي بحمص سنة 21 هـ، وله 18 حديثا مرويا. (2) هو سعد بن أبي وقاص، الصحابي الجليل، فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم وهو ابن 17 سنة، شهد بدرا، وافتتح القادسية، توفي بالعقيق والواقع على عشرة أميال من المدينة؛ سنة 55 هـ، وله 271 حديثا مرويا في كتب الحديث. (3) هو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال الفهري القرشي، صحابيّ كبير، فاتح الديار الشامية، وأحد المبشرين بالجنة، وفي الحديث «لكل نبي أمين وأميني أبو عبيدة بن الجراح» شهد المشاهد كلها، توفي بطاعون عمواس سنة 18 هـ، وله 14 حديثا مرويا. (4) هو عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي، فاتح مصر، وأحد عظاماء العرب، - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 دوّخوا الشرق والغرب، وقوّضوا دولتين عظيمتين كانتا سبّة على الإنسانية ووصمة في جبينها بحكمهما الجائر، واضطهادهما لرعاياهما، فكان هؤلاء القواد من أتباع الرسول صلّى الله عليه وسلم من أكبر الفاتحين في العالم، ومن أصلب المحاربين عودا، وأشجعهم قلوبا، وأعلمهم بأمر القتال، وتعبئة الجيوش، وإدارة رحى الحروب، وإن أسماءهم لا تزال رمزا للمهابة والجلال في التاريخ العسكري. فسعد بن أبي وقاص هو الذي فتح العراق، واقتحم مملكة فارس، وانتزع فيها التاج عن مفرق كسرى الظالم، وألقى به تحت قدمي الإسلام. وخالد وأبو عبيدة هما اللذان أخرجا دولة الروم وجيوشها من ديار الشام، وطهّرا منهم أرض إبراهيم، وجعلاها في أيدي الوارثين لها من المسلمين، وعمرو بن العاص الذي انتزع مصر وأرض النيل من أيدي الروم الظالمين، وقذف بهم إلى البحر، وسار على أثره عبد الله بن الزبير «1» ، وعبد الله بن أبي سرح «2» متوغلين في شمال إفريقية فتحا، وهداية، وإصلاحا. هؤلاء هم فاتحو الممالك، وقادة الجيوش الذين اعترف بهم بالكفاءة أعداؤهم، وشهد التاريخ بعظمتهم، وعلو كعبهم، وجلال مجدهم.   - ودهاتهم، وأولي الرأي والحزم والمكيدة فيهم، كان في الجاهلية من الأشداء على الإسلام، وهو الّذي أرسلته قريش رئيسا لوفد المشركين إلى الحبشة، وذلك لعدائه الشديد للمسلمين، وكفاءته العالية في المعاملات الخارجية. وبعد إسلامه فتح مصر، كان إسلام مثل هذا السياسي القدير والفاتح العظيم من معجزات الإسلام، توفي بالقاهرة سنة 43 هـ، وله 39 حديثا مرويا في كتب الحديث. (1) هو عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، شهد فتح إفريقية زمن عثمان رضي الله عنه، وبويع له بالخلافة عقيب موت يزيد بن معاوية، كانت له مع الأمويين وقائع هائلة، قتل سنة 73 هـ، كان من خطباء قريش المعدودين، وله 33 حديثا مرويا في كتب الحديث. (2) هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري، فاتح إفريقية، كان من أبطال الصحابة، وكان من كتّاب الوحي للرسول صلّى الله عليه وسلم، افتتح ما بين طرابلس الغرب وطنجة، ودانت له إفريقية كلّها، وغزا الروم بحرا، وظفر بهم في معركة «ذات الصواري» ، وعاد إلى المشرق، توفي بعسقلان فجأة سنة 37 هـ، وهو يصلّي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وبجانب هؤلاء القادة الفاتحين الباسلين ترى طائفة أخرى من ولاة المدن، وحكام الأقطار من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مثل: باذان بن ساسان «1» في اليمن، وخالد بن سعيد «2» في صنعاء، والمهاجر بن أبي أمية «3» في كندة، وزياد بن لبيد «4» في حضرموت، وعمرو بن حزم «5» في نجران، ويزيد بن أبي سفيان «6» في تيماء، والعلاء بن الحضرمي «7» في   (1) هو باذان الفارسي من الأبناء، وهم من أولاد الفرس الّذين سيرهم كسرى أنوشروان إلى اليمن لقتال الحبشة، فأقاموا باليمن، وكان باذان بصنعاء فأسلم في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وله أثر كبير في قتل الأسود العنسي. (2) هو خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، صحابي قديم الإسلام، هاجر إلى الحبشة، وعاد منها سنة 7 هـ، فغزا مع الرسول صلّى الله عليه وسلم، وحضر فتح مكة، ثم وقعة تبوك، بعثه الرسول صلّى الله عليه وسلم عاملا على اليمن، فأقام إلى أن استخلف أبو بكر رضي الله عنه، فعزله عن اليمن، ودعاه إليه، فجاءه، قتل في وقعة مرج الصفر (قرب دمشق) سنة 14 هـ. (3) هو المهاجر بن أبي أمية سهيل بن المغيرة المخزومي القرشي، صحابي، شهد بدرا مع المشركين، ولما أسلم كان اسمه «الوليد» فسماه الرسول صلّى الله عليه وسلم: «المهاجر» ، تخلّف المهاجر عن وقعة «تبوك» سنة 9 هـ فعتب عليه الرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم رضي عنه بشفاعة أخته، واستعمله أميرا على صدقات كندة والصدف. بعثه أبو بكر رضي الله عنه إلى اليمن لقتال من بقي من المرتدّين بعد قتل «الأسود العنسي» فتولّى إمارة «صنعاء» سنة 11 هـ، توفي سنة 12 هـ. (4) هو زياد بن لبيد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأقام معه بمكة حتى هاجر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، شهد جميع المشاهد، واستعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلم على «حضرموت» ، توفي في أول عهد معاوية- رضي الله عنه-. (5) هو عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري، صحابي، شهد الخندق وما بعدها من المشاهد، استعمله الرسول صلّى الله عليه وسلم على نجران، وكتب له عهدا مطوّلا، فيه توجيه وتشريع، توفي سنة 53 هـ. (6) هو يزيد بن صخر (أبي سفيان) بن حرب الأموي، صحابي، أسلم يوم فتح مكة، واستعمله الرسول صلّى الله عليه وسلم على صدقات بني فراس في تيماء، له وقائع كثيرة، وأثر محمود في فتوح البلاد الشامية، توفي بالطاعون في دمشق سنة 18 هـ. (7) هو العلاء بن عبد الله الحضرمي، صحابي، من رجال الفتوح في فجر الإسلام، ولاه الرسول صلّى الله عليه وسلم البحرين سنة 8 هـ، وجعل له جباية «الصدقة» وأعطاه كتابا فيه- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 البحرين وغيرهم من أتباع الرسول حكموا الأمصار، وتولوا الولايات، فسعد بهم الناس، وذاقوا حلاوة عدلهم، وانتشر بهم السلام، وساد بفضلهم الوئام بين الناس. وبجانب هؤلاء الولاة العادلين الأبرار، والحكام المنصفين الأخيار ترى في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلة من العلماء الربّانيين، والفقهاء المتألهين، كعمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس «1» ، وعبد الله بن مسعود «2» ، وعبد الله بن عمرو بن العاص «3» ، وأمهات المؤمنين: عائشة، وأم سلمة «4» ، وأبي بن كعب «5» ومعاذ بن جبل،   - فرائض الصدقة، وأمره أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم ويردّها على فقرائهم، توفي سنة 21 هـ. (1) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، صحابي جليل، نشأ في بدء عصر النبوة، فلازم الرسول صلّى الله عليه وسلم، وروى عنه الأحاديث، سكن الطائف وتوفي بها سنة 68 هـ، وله 1660 حديثا مرويا في كتب الحديث. (2) هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، من كبار الصحابة، فضلا، وعقلا، وقربا من الرسول صلّى الله عليه وسلم، هو أول من جهر بقراءة القرآن بمكة، وكان خادم الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولّي بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم بيت مال الكوفة، ثم قدم المدينة في عهد عثمان رضي الله عنه، توفي فيها سنة 32 هـ، وله 848 حديثا مرويا في كتب الحديث. (3) هو عبد الله بن عمرو بن العاص، صحابي من أهل مكة، كان يكتب في الجاهلية، أسلم قبل أبيه، استأذن الرسول صلّى الله عليه وسلم في أن يكتب ما يسمع منه، فأذن له. شهد معظم المشاهد، كان كثير العبادة حتى قال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن لجسدك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا» . عمي في آخر حياته، توفي عام 65 هـ، وله 700 حديث مرويّ. (4) هي هند بنت سهيل المعروفة بأم سلمة، من زوجات الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت من أكمل النساء عقلا وخلقا، هاجرت مع زوجها الأول «أبي سلمة بن عبد الأسد» إلى الحبشة، وولدت له ابنه «سلمة» ، تزوجها الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها، توفيت سنة 62 هـ (وفي سنة وفاتها اختلاف) ولها 378 حديثا مرويا. (5) هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد، صحابي من الأنصار، كان قبل إسلامه حبرا من أحبار اليهود، ولما أسلم كان من كتاب الوحي، شهد جميع المشاهد مع- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وزيد بن ثابت «1» ، وابن الزبير رضي الله عنهم، الذين وضعوا فقه الإسلام، وسنّوا للناس قوانين أنزلتهم من واضعي القوانين للعالم منزلة سامية. وهناك جماعة خامسة ممن اعتنوا بالرواية، وحفظ الوقائع والحوادث كأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري «2» ، وأنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري، وعبادة بن الصامت «3» ، وجابر بن عبد الله، والبراء بن عازب «4» ، وغيرهم من أصحاب الرسول الذين رووا سنن الإسلام، وأحكامه، وحافظوا أوامره ونواهيه، وأحصوا الوقائع والأخبار. وبجانب أولئك جماعة سادسة يبلغ عددها سبعين صحابيا من أصحاب الصّفّة الذين لم يكن لهم بيت يأوون إليه إلا فناء المسجد، ولم يكن لهم من متاع الدّنيا إلا ما على أجسادهم من أسمال بالية، فكانوا يخرجون إلى الصحراء يحتطبون منها، ويبيعون ما يجمعونه في السوق، ويقتاتون   - الرسول صلّى الله عليه وسلم، أمره عثمان رضي الله عنه بجمع القرآن، فاشترك في جمعه، توفي بالمدينة سنة 21 هـ، وله 164 حديثا مرويا. (1) هو زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، من أكابر الصحابة، ومن كتاب الوحي، وكان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم من الأنصار، وعرضه عليه، وهو الّذي كتبه في المصحف لأبي بكر رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه حين جهّز المصاحف إلى الأمصار، توفي سنة 45 هـ، وله 92 حديثا مرويا. (2) هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب، أبو موسى، من قبيلة الأشعر، صحابي كبير، استعمله الرسول صلّى الله عليه وسلم على زبيد وعدن، توفي بالكوفة سنة 44 هـ، وله 355 حديثا مرويا. (3) هو عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي، صحابي، شهد العقبة وسائر المشاهد، ثم حضر فتح مصر، توفي ببيت المقدس سنة 34 هـ، ومنه 181 حديثا مرويا، منها 6 ستة متفق عليها عند البخاري ومسلم. (4) هو البراء بن عازب بن الحارث الخزرجي، صحابي من أصحاب الفتوح، أسلم صغيرا وغزا مع الرسول صلّى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة، توفي سنة 71 هـ، وله 305 أحاديث مروية في الصحيحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 بثمنه، وإذا بقي في يدهم شيء أنفقوه في سبيل الله، وفرغوا للدّين، وانقطعوا لتعلم أحكامه وعبادة ربهم. ثم ارجعوا البصر إلى هؤلاء الأصحاب تروا فيهم زاهدا ناسكا متوكلا على الله كأبي ذر الغفاري الذي لم تظلّ السماء، ولم تقلّ الأرض مثله في صدق اللهجة، وكلمة الحق، وكان لا يدّخر الطعام لغده، ويعدّ ادخاره منافيا للتوكل على الله، ولذلك لقبه الرسول صلّى الله عليه وسلم بمسيح الإسلام. وفيهم سلمان الفارسيّ، الزاهد، الورع، والتقيّ الصّالح. وفيهم عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قضى ثلاثين حولا كاملا في عبادة الله، وعرضت عليه الخلافة، فأباها قائلا: لا أتولى خلافة تسفك فيها قطرة من دم المسلمين. وفيهم مصعب بن عمير «1» الذي كان يلبس قبل إسلامه الديباج الثّمين، والحرير الفاخر، ونشأ في حجر النعيم والشرف، وتقلب في بحبوحة العيش ورغده، ثم لبس في الإسلام المسوح، والخشن من الثياب المرقعة، ولما استشهد في سبيل الله لم يكن له ثوب ضاف يستر جسده كلّه، فاضطروا عند دفنه إلى أن يغطوا قدمية بالحشيش. وفيهم عثمان بن مظعون «2» الذي دعي فيما بعد بأنّه أول ناسك في الإسلام. وفيهم محمد بن مسلمة «3» الذي قال أيام الفتن: لو دخل علي مسلم بيده سيف مسلول يريد قتلي لم أكن لأقتله دفعا عن نفسي. وأما أبو الدرداء، وما أدراك من أبو الدرداء! فهو القاضي العالم الذي كان يقضي نهاره صائما وليله قائما. إنّ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قصصت عليك، ومنهم من لم   (1) هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف القرشي: صحابي من السابقين إلى الإسلام، شهد بدرا، وحمل اللواء يوم أحد، فاستشهد، وكان في الجاهلية فتى مكة شبابا، وجمالا، ونعمة، ولما ظهر الإسلام زهد بالنعيم، استشهد في أحد سنة 3 هـ. (2) هو عثمان بن مظعون، صحابي من الشجعان، وذوي الرأي والتقدّم، وممّن هاجر إلى الحبشة، شهد بدرا، توفي سنة 30 هـ. (3) هو محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري، صحابي من الأمراء، شهد سائر المشاهد إلا تبوك، استخلفة الرسول صلّى الله عليه وسلم على المدينة في بعض غزواته، توفي بالمدينة سنة 43 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 أقصص عليك. ومن ذا الذي يستطيع أن يوفي البيان حقه؟! فتعال أرك منهم جماعة من مديري أمور الأمة وساستها المحنكين، كطلحة «1» ، والزبير «2» ، والمغيرة «3» ، والمقداد «4» ، وسعد بن معاذ «5» ، وسعد بن عبادة «6» ، وأسيد بن حضير «7» ، وأسعد بن زرارة «8» ، وعبد الرحمن بن عوف «9» ، وفيهم من التجار أصحاب المال الدثر، والثراء الوافر من أهل مكة، أو من أصحاب الحقول والحدائق الغلب من أهل المدينة.   (1) مرت ترجمته. (2) هو الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي القرشي (مرت ترجمته) . (3) هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أحد دهاة العرب وقادتهم وولاتهم، يقال له: «مغيرة الرأي» شهد الحديبية، واليمامة، وفتوح الشام، ولاه معاوية الكوفة فلم يزل فيها إلى أن توفي بها سنة 50 هـ، وله 136 حديثا مرويا. (4) هو المقداد بن عمرو، ويعرف بابن الأسود، صحابي من الأبطال، وهو أحد السبعة الّذين كانوا أول من أظهر الإسلام، وهو أول من قاتل على فرس في سبيل الله، شهد بدرا وغيرهما من المشاهد. توفي قريبا من المدينة سنة 33 هـ، وله 48 حديثا مرويا. (5) هو سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القيس الأوسي الأنصاري صحابي من الأبطال، كانت له سيادة الأوس، شهد أحدا، فكان ممّن ثبت فيها، ورمي بسهم يوم الخندق، فمات من أثر جرحه وعمره سبع وثلاثون سنة، وحزن عليه الرسول صلّى الله عليه وسلم، وفي الحديث: «اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» دفن بالبقيع. (6) هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الخزرجي، صحابي، كان واحدا من الأمراء الأشراف في الجاهلية والإسلام، شهد العقبة وأحدا، والخندق، لمّا توفي الرسول صلّى الله عليه وسلم رغب في الخلافة، ولم يبايع أبا بكر- رضي الله عنه- خرج إلى الشام مهاجرا، وتوفي بحوران سنة 14 هـ. (7) هو أسيد بن الحضير بن سماك بن عتيك الأوسي، صحابي، يعدّ من عقلاء العرب وذوي الرأي فيهم، شهد جميع المشاهد، وفي الحديث: «نعم الرجل أسيد بن الحضير» ، توفي بالمدينة سنة 20 هـ، وله 18 حديثا مرويا. (8) هو أسعد بن زرارة بن عدس النجاري الخزرجي، صحابي من الشجعان والأشراف، توفي بالمدينة سنة 1 هـ. (9) هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث، من أكابر الصحابة، ومن المبشرين بالجنّة، ومن السابقين إلى الإسلام، كان من الأجواد الشجعان العقلاء، شهد جميع المشاهد، توفي بالمدينة سنة 32 هـ، وله 65 حديثا مرويا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ولا نتقدم في البيان قبل أن نحيي ذكرى الذين قتلوا منهم في سبيل الله لا لجرم ارتكبوه سوى أن قالوا: «ربنا الله» ثم استقاموا، وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالعزيز الحميد. وفيهم من لم يقتل قتلة يستريح بها، بل قطعت لحومه، وكسرت عظامه، وأوذي في سبيل الله، وهذا ما وقع لهالة «1» ابن أم المؤمنين خديجة من زوجها الأول الذي مزق جسمه تمزيقا، وقطعت أوصاله تقطيعا. وسمية أم عمار التي قتلها أبو جهل بالرّمح. وأما ياسر فقد أوذي بأيدي الكفار إيذاء شديدا إلى أن لحق بربه. وخباب الذي صلبه المشركون. وزيد «2» الذي طأطأ رأسه أمام السيف لينال منه كيف يشاء، ويعمل فيه عمله. وكذلك حرام بن ملحان «3» ، وأصحابه التسعة والستون الذين قتلوا في ديار الغربة عند بئر معونة بأيدي أعراب من بني عصية، ورعل، وذكوان. وإن مئة رام من بني لحيان جرحوا عاصما «4» وأصحابه السبعة في يوم الرجيع حتى أثخنتهم الجروح. وقتل أصحاب ابن أبي العوجاء «5» ، وكان عددهم تسعة وأربعين بأيدي بني سليم في السنة السابعة للهجرة. واستشهد كعب بن عمير الغفاري «6» وأصحابه بذات أطلاح. فانظروا كم صلب لذات الله من أبناء هذا الدين الأولين، وكم قتل لوجهه الكريم، وكم سفك من دمائهم   (1) هو هالة بن أبي هالة التميمي الأسدي، أمه خديجة بنت خويلد بن أسد، وفي الحديث أنه دخل على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو راقد، فاستيقظ النبي صلّى الله عليه وسلم فضمّ هالة إلى صدره، فقال: «هالة! هالة! هالة» [الطبراني في المعجم الصغير (1/ 195) ] . (2) هو زيد بن الدثنة بن معاوية بن عبيد البياضي الخزرجي، من فقهاء الصحابة، شهد بدرا، وأحدا، قتله مشركو قريش وصلبوه بالتنعيم (الواقع على مسافة من مكة) سنة 5 هـ. (3) هو حرام بن ملحان الأنصاري النجاري، خال أنس بن مالك- رضي الله عنه-، شهد بدرا، وأحدا، وقتل يوم بئر معونة. (4) هو عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري الأوسي، صحابي من السابقين الأولين من الأنصار، شهد بدرا، وأحدا مع الرسول صلّى الله عليه وسلم، واستشهد يوم الرجيع سنة 4 هـ. (5) انظر الحديث عنه في كتب السيرة النبوية، أحداث سنة (7 هـ) . (6) هو كعب بن عمير الغفاري، من كبار الصحابة، بعثه الرسول صلّى الله عليه وسلم أميرا على سرية، نحو «ذات أطلاح» في البلقاء، فقتل فيها سنة 8 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 في سبيله! فإذا كان من الفخر عند غيرنا أن يصلب واحد في سبيل الله ونجاة خلقه، فنحن قد صلب وقتل مئات من سلفنا الأولين لذات الله تعالى وحده، ولنجاة الإنسانية كلّها من الوثنية، والضلال، والشرك. إنّ النفس إذا ماتت استراحت، سواء في ذلك أقتلت بحدّ السيف أم بسنان الرّمح، أو صلبت، فهي تذوق سكرة الموت لمحة، وتتألّم ببطش المنية، وزهوق النفس، ثم تستريح، وأكبر من ذلك وأشدّ منه عذابا حياة المكابدين للبغي والظلم أعواما، والصابرين على الأذى في سبيل الله صبرا جميلا، فمنهم من ذاق أنواع العذاب لثباته على قول الحق، ومنهم من وضعت الحجارة المحماة على صدورهم، وصرعوا في الرمضاء وحرّ الهاجرة، وكانوا يتقلبون على ذلك، ويتململون، ويسحبون على وجوههم؛ لينصرفوا عن قول الحق، ويصبؤوا عن عقيدة الإسلام فلا يبالون بذلك، ويصرون على توحيد الله والشهادة بالرسالة المحمدية. ثم ألم يأتك نبأ الذين حصروا في شعب أبي طالب جياعا كيف كانوا يبيتون الليالي، ويقضون الأيام وهم يقتاتون بأوراق الطّلح بعد أن فني زادهم، وصفر وطابهم، وأعوزهم القوت. إنّ سعد بن أبي وقاص مسّه ألم الجوع في ليلة شديدة من تلك الليالي، فخرج من شعب أبي طالب يطلب شيئا يتبلّغ به ليذهب بعض ما به من ألم السّغب، فلم يجد إلا قطعة جافة من إهاب، فغسلها، وشواها، وأكلها بالماء. وعتبة بن غزوان «1» أيضا كان من الذين امتحنوا في شعب أبي طالب بأيدي المشركين، وهو يقول: إني وأصحابي السبعة قد دميت أفواهنا من أكل هذه الأوراق والأشياء التي نقتات بها. وخبّاب لما أسلم وعلم بإسلامه المشركون ألقوه على الجمر الملتهب، وأمسكوه عليه حتى انطفأ الجمر بالصّديد والقيح الذي سال من ظهر خباب.   (1) هو عتبة بن غزوان بن جابر بن وهيب الحارثي المازني، صحابي قديم الإسلام، باني مدينة البصرة، هاجر إلى الحبشة، شهد بدرا، وشهد القادسية. بعثه عمر رضي الله عنه- إلى البصرة واليا عليها، توفي سنة 17 هـ، وله 4 أحاديث مروية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وبلال كان يذهب به سيده إلى أرض ذات حجارة تلهبها أشعة الشمس في وسط الهاجرة، فيلقيه عليها، ثم يضع على صدره جندلا ثقيلا حارا، وربما شدّ عنقه بالحبل، فيجره جرّا أليما في سكك مكّة. وكذلك فعل بأبي فكيهة: ربطت رجله بالحبل، وسحب على الأرض، وخنق، وقد وضع مرّة على صدره حجر ثقيل حتى ضاقت أنفاسه، واندلع لسانه. وكذلك عمّار أوذي إيذاء شديدا، فكان يجندل على الرّمضاء، ويضرب ضربا مبرّحا. بل إن الزبير كان عمه يلفه بالحصير، ويدخّن عليه من أسفل. وسعيد بن زيد كان أهله يضربونه فيصبر. وعثمان كان عمه يضربه. فقابل هؤلاء كلهم البلايا والمحن، وذاقوا العذاب الشديد برباطة جأش، وثبات قلب، وقوة إيمان، فأشربت دماؤهم من هذا الرّحيق الإلهي الذي تناولوه من كأس الإسلام، فلا يتحولون عنه مدى الحياة. إخواني! تأملوا! أليس هؤلاء هم العرب الذين كانوا في معزل عن العمران يعبدون الأوثان، ويعكفون على الأصنام، وكانوا في جاهلية ضاربين فيها بجرانهم، فما بالهم انقلبت أحوالهم، وتغيّرت شؤونهم؟ إنّ أرضهم لا تزال هي الأرض، وسماؤهم كما كانت، وبلادهم لم تتغير. فكيف انجلى عنهم ظلام الجهل؟ وكيف نفخ فيهم ذلك الأميّ روح الدّين الحقّ، فأصبح جاهلهم صالحا، ومحاربهم مسالما؟ وماذا علّمهم حتى انقلب الفاسد صالحا، والمفسد مصلحا، والذي لم يكن يحسن شيئا لم يلبث أن صار يدير الملك، ويصرّف شؤون الحكومة، ويسوس أمور الرعايا؟ وكيف نبغ منهم ذوو العقول الراجحة، والآراء السديدة، والأفكار الثاقبة؟ إنّ الرسول الأميّ الأعزل الذي لم يحمل في شبابه سلاحا، ولم يملك من قبل بلادا كيف أقام للأمة العربية- التي لم تكن الأمم تقيم لها في كفّة السياسة العالمية وزنا- دولة ذات عظمة وجلال، واكتشف في نفوس رجالها كنزا من القوة لا ينفد، وكيف جعل هذا الأميّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 من هذه الأمّة- التي لم تكن تعرف الله، ولا تعلم توحيد ربوبيته- عبّادا ناسكين يحيون الليل بذكر الله، ويبلغون رسالاته في النهار. لقد أخذت بأيديكم، فأريتكم مسجد هذا النبي صلّى الله عليه وسلم في المدينة، وزرتم معي جامعته النبوية الكبرى زيارة كاملة، فاجتمعتم بأصناف من تلاميذه، ولقيتم من أصحابه العلماء، والفقهاء، وواضعي النظم والأحكام، وتعرفتم بالجندي الباسل، والقاضي العادل، وتشرفتم بزيارة العظماء من ولاته، وحكامه، وتعرفتم بالفقراء، والمساكين، والملوك، والسلاطين، وقابلتم السادة الأحرار، والعبيد الأبرار. وعرضت عليكم نماذج ممّن استشهدوا في سبيل الله، وماتوا ابتغاء مرضاة الله، من الغزاة والمجاهدين، فما هو رأيكم في كلّ ذلك، وبماذا تحكمون؟ إنّ أكبر ظني فيكم أنّكم حكمتم وقطعتم في حكمكم بأنّ محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان جامعا للكمال البشري، ومثلا أعلى للمحامد الإنسانيّة، والصفات العليا، و: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد كيف لا وهي المحاسن المحمّدية المتنوعة، والمحامد النبوية المختلفة، تراءت في أصحابه جميعا، وظهرت في رفقائه، وتجلّت في جلسائه. فبنوره استنار فؤاد الصدّيق الأعظم، وبحكمته امتلأ قلب الفاروق الأكبر وعقله حكمة، وثقوب فكر، وسداد رأي، ومنه اكتسب ذو النورين عثمان الأنور رحمته، وخيريته، وفضائله، ومن بلاغته تفجّر البيان على لسان عليّ كرّم الله وجهه. وكلّ ما ترى في خالد، وأبي عبيدة، وسعد، وجعفر «1» من تدبير الحرب، وإحكام الرأي في تعبئة الجيوش وزحفها، وما ترى في الصدّيق من العزيمة، والأمانة، وحرية الرأي، وغنى النفس، والزهد في   (1) هو جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، صحابي من الشجعان، يقال له: «جعفر الطيار» وهو أخو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- وهو من السابقين إلى الإسلام، هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، حضر وقعة مؤتة بالبلقاء، واستشهد فيها سنة 8 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الأموال والإعراض عن زينة الدنيا وزخارفها، وما تراه من التبتّل إلى الله، والانقطاع له في ابن عمر، وأبي ذرّ، وسلمان، وأبي الدرداء «1» ، وما تجد في ابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود من علم جمّ، وفقه عميق في الدّين، ورأي في الأحكام سديد، وما تلاحظه على بلال، وصهيب، وعمار، وخبيب من السكينة، والسّلوى، والطمأنينة، وقويّ الإيمان، والحنين إلى لقاء الله، كل أولئك مقتبس من أنوار محمّد نبيّ الله، ومهبط الوحي، ومحط القرآن، صلاة الله وسلامه عليه، فهو كأنّه الشمس المضيئة تشرق، فتنير بأشعتها قلل الجبال، وبطون الأودية، وصحارى الأرض، ووهادها، وبطاحها، وتتلألأ بضوئها لجج الأنهار الجارية ونباتات الحقول السندسية، كما تلمع بها البقاع القاحلة، والرمال التي لا آخر لها، فيأخذ كلّ منها نصيبه من الضوء على قدره، بل كأنه صلّى الله عليه وسلم غيث يهطل من سحابة درور، فيصيب الجبال الشماء، والغابات اللفاء، والصحارى القاحلة، والساحات الواسعة، والبطاح العريضة، والحدائق الزاهية، فيسقي جميع ذلك فينبت نباتات شتّى بالأوراق الجميلة، والأزهار المنعشة، والأشجار المتنوعة. نعم، كان الصحابة- كسائر البشر- متفاوتين في طباعهم، ومواهبهم، وجبلاتهم، لكنهم ائتلفوا جميعا بالإسلام، واتّحدوا، واشتركوا في غاية واحدة، فكانوا يعملون لوجه الله، ويبتغون بعملهم مرضاته عزّ وجلّ. سواء في ذلك قضاتهم، وولاتهم، وفقراؤهم، وأغنياؤهم، ورعاتهم، ورعاياهم، وغزاتهم، وشهداؤهم، وجنودهم، وقوادهم، والمعلمون منهم، والمتعلمون، والتجار، والعبّاد، والنّاسكون، فكان الإخلاص رائدهم، وهداية الخلق أملهم، وإصلاح البشر غرضهم، فالصّحابة هداة حيثما حلّوا، وعاملون لإصلاح المجتمع البشري أينما ذهبوا. فإذا اختلفت   (1) هو عويمر بن مالك بن قيس بن أمية الأنصاري الخزرجي، المعروف «أبو الدرداء» صحابي من الحكماء الفرسان القضاة، وفي الحديث: «عويمر حكيم أمتي» و «نعم الفارس عويمر» وهو أحد الّذين جمعوا القرآن حفظا على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم، توفي بالشام سنة 32 هـ، وله 179 حديثا مرويا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 طبائعهم وتنوعت ألوانهم وتفاوتت مظاهرهم؛ فقد جمعتهم كلمة التوحيد، ووحدة الكتاب العزيز، واتجاههم جميعا إلى قبلة واحدة. فما سلكوا سبيلا، ولا عملوا عملا إلا ابتغوا به إصلاح العالم، وتقويم المجتمع البشريّ، ومواساة بني الإنسان، وإعلاء كلمة الحق، وتقدّم العمران البشريّ نحو السلام، والأمان، ونشر الوئام. إنّ العالم لا تتمّ هدايته إلا بالمصلح الأخير للدّنيا: إخواني وخلاني! لقد بينت لكم في هذه المحاضرة ما كان في الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم من خلال جامعة، وخصال «جامعية» وقد أشرت إلى مظاهرها العديدة، ونواحيها المختلفة، وأخالكم قد ألفيتم ممّا درستم في طبيعة الكون من ألوان مختلفة، وما عرفتم في طبائع البشر من مواهب شتّى وهذه الدّنيا ليست إلا مظهرا من مظاهر الحياة متنوعة الألوان- أنّ العالم لا يمكن أن تكون هدايته إلا بالمصلح الأخير للدّنيا، وهو خاتم رسل الله محمد صلّى الله عليه وسلم؛ الذي اجتمعت فيه خلال الإرشاد كلّها، وخصال الإصلاح للنوع البشري بأجمعه، ولذلك قال له الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] فوجه الرسول صلّى الله عليه وسلم الدّعوة إلى كلّ من يدّعي محبة الله بأن يتبعه، ويطيع أمره، ونادى الملوك في ممالكهم، والرّعاع في شوارعهم، والمعلمين في مدارسهم، والتلاميذ في فصولهم، والفقراء في أكواخهم، والأغنياء في قصورهم، كما دعا المظلومين، والمقهورين، والمخذولين، بل أهاب بالعالم كلّه أن يتبعوا سبيله، ويقتفوا أثره؛ لأن سيرته الشريفة هي المثل الأعلى، وفيها الأسوة الكاملة لكلّ من يحبّ الخير، ويبتغي الصلاح لنفسه. اللهم صلّ وسلّم عليه وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 المحاضرة السّادسة النّاحية العلميّة من السّيرة المحمّديّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 كيف نتّبع الرّسول صلّى الله عليه وسلم وفيم نتبعه؟ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] . كيف نتبع الرسول، وفيم نتبعه؟ ذلك ما أتحدّث لكم عنه في السيرة المحمّدية في ناحيتها العمليّة، وذلك ما خلت منه صحائف حياة الأنبياء عليهم السّلام، أما لو نظرتم إلى هذه الناحية في السيرة المحمّدية؛ فستجدون حياة مليئة بالأعمال الجليلة، عامرة بشتّى الأفعال، وهذا الباب من كتاب سيرته صلّى الله عليه وسلم من أوسع الأبواب، وأعظمها، وبه يحكم من شاء أن يحكم: أيّ نبيّ هو خاتم النّبيين، وسيّد المرسلين، أمّا من سبقه من الأنبياء والرسل فلم يصل إلينا من تفاصيل حياتهم ما يكون لنا أسوة فيه، لأنّ الذي عرفناه من ذلك لا يشفي علّة، ولا يروي غلّة، والأحاديث الحلوة، والمواعظ الحسنة، والتعاليم العالية ليست قليلة في الدّنيا، ولكن الذي يعوز الناس هو العمل بها. وهم إذا بحثوا عن العاملين بالمواعظ البليغة، والحكم الرائعة، والأقوال المأثورة، والأمثال السائرة، كانوا كأنّهم يبحثون عن عنقاء مغرب، أو الكبريت الأحمر. إنّ أخلاق المرء هي المرآة الصافية لسيرته، ومظهر جليّ من مظاهرها، وأيّ كتاب سماويّ غير القرآن يشهد لمن تنزل عليه بأنّه قد تحلّى بالأخلاق الحسنة، والعادات السنيّة، وأنّ صاحب ذلك الكتاب أعلى قدرا، وأرفع مكانة من سائر الناس لما هو عليه من جليل الأعمال، وقويم الأخلاق، أمّا القرآن؛ فقد أذاع بين أعداء الرسول وأوليائه قول الله عز وجل وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 3- 4] «1» وإذا كانت إحدى   (1) قال ابن عباس- رضي الله عنه- في تفسير هذه الآية: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وهو الإسلام» ، وقال عطية: «لعلى أدب عظيم» ، وعن أنس- رضي الله عنه- قال: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفّ قطّ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟ (متفق عليه) عن تفسير ابن كثير (4/ 493) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 هاتين الجملتين معطوفة على الآخرى فإنهما مربوطتان ربط العلّة بالمعلول، فالثانية علّة للأولى، فأجر الرسول لا ينقطع وثوابه من الله لا ينفد؛ إذ الرسول ذو خلق عظيم، وأعماله وأخلاقه بلغت من العلو والسّمو المبلغ الذي لا ينقطع معه أجر صاحبها، ولا يقلّ ثوابه؛ لأنّ معين خلقه فياض لا ينضب، ونبع حسناته فوار لا يغيض، وقد حقّ للنّبيّ الأميّ العربي أن يؤنب الناس بقول الله سبحانه لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2] . مقارنة بين نتائج عظة جبل الزّيتون، ودعوة جبل الصّفا: ادرسوا سيرة الواعظ العظيم عيسى ابن مريم عليه السلام، وصعوده جبل الزيتون؛ ليعظ الناس، وقارنوا ذلك بسيرة الدّاعي الهادي محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصعوده جبل الصفا يدعو أمته، فإن رأيتم أحدهما لم يقدر له العمل بما قال للناس ولم يتمّ ذلك له؛ فإنكم سترون سيرة الآخر عامرة بكلّ ما أمر به الناس، وحثّهم عليه. فالذي يعفو ويصفح مع المقدرة يعدّ حليما حقا، وغفورا صدقا، ويكون عمله هذا من أمثل أخلاق البشر، وأفضلها، أما الذي يسكت عن غيظ لضعف وعجز فلا يعدّ سكوته عفوا، ولا حلما؛ لأنّ العفو ينبغي أن يكون مع القدرة، والذي لا يقتل أحدا، ولا يسيء إلى الغير، ولا يضرب إنسانا، ولا يسلب مالا، ولا ينهب متاعا، ولا يا بني لنفسه بيتا، ولا يدّخر أموالا تعدّ فضائله هذه سلبية، أما إذا كان ينقذ المظلوم من القتل ظلما، وينصر الضعيف، ويدفع عن أموال الناس أيدي السّلب والنّهب، ويؤوي الذين لا بيت لهم، ويتصدّق بالمال على المحتاجين إليه، فإنّ فضائله تعدّ إيجابية، وتسمّى أعمالا صالحة، والدّنيا تحتاج إلى هذه الفضائل الإيجابية، والقرآن يذيع عن النّبيّ الكريم أنه رؤوف رقيق القلب فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] وهذه أكبر شهادة على رقة قلب الرسول ورأفته ورحمته، ومن زعم أنّها دعوى؛ فإنه يرى الدلائل السّاطعة تدعمها، والبراهين الواضحة تؤيدها، ولو لم يكن الرسول صلّى الله عليه وسلم لينا، دمث الأخلاق، عفوا، حليما؛ لتفرقت عنه هذه الجماهير من العرب الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 نشؤوا على العنجهية والإباء والشمم إلى حدّ الإسراف في الصلابة، ولرأفته بهم وحدبه «1» عليهم قال الله عز وجل فيه لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] «2» فمنّ الله على العرب بهذا الرسول، وقال لهم: إنه يعزّ عليه أن تبقوا في ضلال، ويشقّ عليه أن تعمهوا في ظلمات الكفر والشرك، وأن تعرضوا عن الحقّ وتلجّوا في عتوّ ونفور، وهو يبغي صلاحكم، ويودّ خيركم، ويحب فلاحكم، وهذا هو الذي يدعوه إلى نصحكم، ويحفزه لهدايتكم، وإبلاغ الرسالة إليكم، فمن لبّى دعوته، وقبل رسالته، وأقبل على ما عند الرسول من الحق البيّن، والخير الكثير؛ كان أهلا لأن يرعى الرسول جانبه، ويخصه بعنايته، ورحمته، والرسول وإن يكن مبعوثا إلى البشر كافة؛ فإنّ من آمن به، وصدّق بما جاء به؛ فإن له من رأفة الرّسول، ورحمته، وشفقته أوفر حظّ، وأكبر نصيب. هذه هي شهادة القرآن، والقرآن أحكام، وتوجيهات أنزلت على رسول الله محمد ليبلغها للناس، وسيرة الرسول هي تفسير ما في القرآن من تلك الأحكام والتوجيهات، وحياته كلّها، وما صدر عنه فيها من أقوال، وأفعال هي تفصيل لما جاء في القرآن، فكلّ حكم جاء به القرآن قد امتثله الرسول، ومثّله للناس بفعله، وبيّنه بقوله، فما من شيء أمر به الرسول من الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء نسك الحج، وبذل الصدقة، والجهاد، والإيثار، وتوجيه العزيمة، واحتمال الصبر على النوائب، وشكر الله على النعم، والتعامل مع الناس بالفضائل ومكارم الأخلاق- إلا وهو مستمدّ من القرآن، أو من الوحي الإلهي وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3- 4] ، ومامن حكم أو توجيه في   (1) حدبه: عطفه. (2) (من أنفسكم) أي: منكم حسبا ونسبا، فكلّ ما يحصل له من العزّ والشّرف فهو عائد إليكم، أو هو بشر مثلكم جعله الله من جنسكم رحمة بكم، ولو جعله ملكا؛ لشقّ ذلك عليكم، كما قال جلّ شأنه في سورة الأنعام وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ [الأنعام: 8] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 القرآن إلا وقد بينه الرسول للناس بقوله، وعمله، وخلقه هديا وسمتا. جاء بعض الصحابة إلى أم المؤمنين عائشة يسألونها أن تصف لهم أخلاق الرسول، وتصرفاته، فأجابتهم: ألم تقرؤوا القرآن الكريم؟ لقد كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم القرآن «1» . فايات القرآن، وسوره أصوات وكلمات، وعمل الرسول وخلقه معانيها وتفسيرها، وليس في الدنيا إنسان أكثر علما بالرّجل من حليلته، فهي التي تعلم من فضائل زوجها، وأخلاقه، وعاداته ما لا يعلمه أحد غيره، ولما ادّعى الرسول النبوة كان قد مضى على زواجه بخديجة خمسة عشر عاما، وهذه مدّة تكفي المرء أن يعرف أحوال صاحبه، وأخلاقه، وعاداته معرفة تامّة، فحين سمعت خديجة أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي؛ بادرت بتصديقه، وآمنت به، بل إنّ الرسول حين فزع من نزول الوحي عليه، ومجيء الملك إليه- لأنه لم يعهد ذلك من قبل- هدّأت خديجة جأشه، وربطت على قلبه، وخففت عنه ما يلقاه، وقالت له: كلّا، والله! ما يخزيك الله أبدا، فإنّك تصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتنصر المظلوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ «2» ، وهذا الذي ذكرته خديجة هو الذي يتحلّى به الرّسول من مكارم الأخلاق، وفضائل النفس قبل أن يوحى إليه.   (1) أخرج مسلم عن سعد بن هشام- رضي الله عنه- قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها- فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم! فقالت: أما تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، فقالت: «كان خلقه القرآن» [مسلم (1739) ] . أرادت بذلك على ما قيل: إنّ ما في القرآن من المكارم كلّه كان فيه صلّى الله عليه وسلم، وما فيه من الزجر عن سفساف الأخلاق كان منزجرا به عليه الصلاة والسلام، لأنه المقصود بالخطاب بالقصد الأول كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ الآية، قال المرصفي: أرادت بقولها: كان خلقه القرآن: تخلّقه بأخلاق الله تعالى لكنّها لم تصرّح بها تأدّبا منها. (شرح حياة الصحابة، للشيخ محمد إلياس الباره بنكوي، ص 6، الجزء الثالث) . (2) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي، وهذا بعض الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ما شهد به لمحمد صلّى الله عليه وسلم أقرب الناس إليه وأعرفهم به: وإن أم المؤمنين عائشة التي صحبت الرسول تسع سنوات، وكانت أحبّ أزواجه إليه بعد خديجة تقول في وصفه صلّى الله عليه وسلم: إنه لم يكن يعيب أحدا، ولا يجزي على السوء بسوء، بل كان يعفو، ويصفح، وكان بعيدا عن السيئات، إنه لم ينتقم من أحد لنفسه، ولم يضرب غلاما، ولا أمة، ولا خادما قطّ، بل لم يضرب حيوانا، ولم يردّ سائلا إلا إذا لم يكن عنده شيء. وعليّ صحب النبيّ صلّى الله عليه وسلم منذ صباه إلى أن شبّ، فلم يكن أحد من أهل بيته أعلم منه بأخلاقه صلّى الله عليه وسلم، وهو يشهد لرسول الله أنه كان طلق الوجه، ليّن الجانب، خافض الجناح، دمث الأخلاق، رحيما، ولم يكن فظا، ولا جافيا، ولا ينطق بسوء، ولا يتتبع عورات الناس، ولا يتجسّس على عيوبهم، فإن سأله أحد ما لا يرضى؛ سكت، ولم يبد له ما يسخطه، فيفطن من يعلم خلق الرسول ماذا يريد: لأنه لم يكن يحب أن يكسر قلب أحد بل كان يأسر القلوب، ويؤلفها؛ لأنه كان رؤوفا رحيما. فيقول عليّ كرم الله وجهه: إنّه صلّى الله عليه وسلم كان كريما، جوادا، وفياضا سخيا، صادق القول، ليّن العريكة، من جالسه أحبّه، ومن رآه بديهة هابه، ويقول عنه ناعته: لم أر مثله قبله، ولا بعده. وقد أبدى (كبّن) المؤرخ الإنكليزي الذائع الصيت هذا الرأي نفسه حين درس سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم. ويشهد هند- ابن خديجة «1» من زوجها الأول، وهو ربيب الرسول في حجره- أنّه صلّى الله عليه وسلم كان ليّن الطبع، غير جاف ولا فظ، ولم يكن يسيء إلى أحد، ولا يصدر عنه نيل من شرف أحد، أو غضّ من كرامته، وكان يشكر   (1) هو هند بن أبي هالة، وهو ربيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أمّه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وكان أبوه حليف بني عبد الدار. واختلف في اسم أبي هالة، كان زوج خديجة رضي الله عنها قبل النبي صلّى الله عليه وسلم، فولدت له هند بن هند، وابن ابن ابنه هند بن هند بن هند. وشهد هند بن أبي هالة بدرا، وقتل مع علي- رضي الله عنه- يوم الجمل، روى هند بن أبي هالة حديث صفة النبي صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الناس على اليسير من عملهم الطيب، ويأكل ما يقدّم له، ولا يعيبه، وما كان يغضب، أو يقتصّ من أحد لنفسه، بيد أنّه إذا انتهك أحد شيئا من محارم الله؛ لم يقم لغضبه شيء (الشمائل) «1» .   (1) أخرج يعقوب بن سفيان الفسوي الحافظ عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة- وكان وصّافا عن حلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلّق به، فقال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذّب، عظيم الهامة، رجل الشعر، (إن انغرقت عقيقته) فرق، وإلّا فلا، يجاوز شعره شحمة أذنيه (إذا هو وقّره) ، أزهر اللون، واسع الجبين، أزجّ الحواجب، سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدرّه الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمّله أشمّ، كثّ اللحية، أدعج، سهل الخدّين، ضليع الفم، أشنب مفلّج الأسنان، دقيق المسربة، كأنّ عنقه جيد دمية في صفاء الفضّة، معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصّدر، عريض الصّدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرّد، موصول ما بين اللّبّة والسّرّة بشعر يجري كالخط، عاري الثّديين والبطن ممّا سوى ذلك، أشعر الذّراعين، والمنكبين وأعالي الصّدر، طويل الزّندين، رحب الرّاحة، سبط القصب، شثن الكفّين والقدمين، سابل الأطراف، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين، ينبو عنها الماء، إذا زال زال قلعا، يخطو تكفّؤا، ويمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنّما ينحطّ من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطّرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسّلام. قلت: صف لي منطقه. قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، لا يتكلّم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم، كلامه فصل لا فضول ولا تقصير، دمث، ليس بالجافي ولا المهين، يعظّم النّعمة وإن دقّت، لا يذم منها شيئا ولا يمدحه، ولا يقوم لغضبه- إذا تعرّض للحق- شيء حتى ينتصر له، وفي رواية: لا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعرّض للحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفّه كلّها، وإذا تعجّب قلبها، وإذا تحدّث يصل بها، يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض، وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه، جلّ ضحكه التبسّم يفترّه عن مثل حبّ الغمام. (حياة الصحابة، للشيخ يوسف الكاندهلوي، ص 86- 92) ، طبع دار ابن كثير بدمشق. - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 كان صلّى الله عليه وسلم أول من يعمل بما يأمر الناس به: هذه شهادات أقرب الناس إليه صلّى الله عليه وسلم ممّن خالطوه، وعاشروه، وعرفوا دخائله، وهي تدلّ على أن سيرته الطاهرة كانت أعلى ما تكون عليه سيرة أفضل البشر، ومن أفضل سيرته وأعلاها أنه بعد ما أوحي إليه لم يأمر أتباعه وأصحابه بأمر إلا وقد سبقهم إلى العمل به، فدعا الناس إلى ذكر الله ومحبته، ولو راقبت حياته نفسها لرأيتها ملائمة لهذه الدّعوة؛ لأنه لم تكن تمضي عليه ساعة من نهار أو ليل إلا وهو يذكر الله بقلبه، ويحمده بلسانه، فكان لسانه رطبا بذكر الله، لا يفتر عنه طرفة عين، فإذا أكل، أو شرب ذكر اسم الله، وإذا فرغ من ذلك حمد الله، وإذا أخذ مضجعه أو استيقظ من نومه ذكر الله، وإذا نهض، أو جلس سبّح الله، أو حمده، وإذا لبس جديدا شكر الله، حتى أن أذكاره ودعواته التي حفظها الناس عنه في مختلف الأحوال شغلت فراغا واسعا من كتب الحديث، وجمعت في كتاب (الحصن الحصين) الذي يبلغ مئتي صفحة، ومن قرأ هذه الأدعية يقضي العجب؛ ويوقن بأنه صلّى الله عليه وسلم كان يحب الله، ويخشاه، ويهاب جلاله، فكان كما وصف الله في القرآن عباده الصّالحين الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] وكما شهدت عائشة بأنّه صلّى الله عليه وسلم كان يذكر الله، ولا يغافل عن ذكره أبدا. وأمر الناس بالصلاة، وحضّهم على إقامتها والمحافظة عليها أشدّ المحافظة، فماذا تحسبون الرسول كان يعمل في نفسه بما كان يأمر به غيره؟ إنه صلّى الله عليه وسلم كان يقيم الصلاة، ويحافظ عليها أكثر من غيره، كان المسلمون يقيمون الصلوات المفروضة خمسا. وكان صلّى الله عليه وسلم يتطوّع بالزيادة على ذلك في صلاة الضحى، وصلاة الإشراق، وصلاة التهجّد، وكان عامة المسلمين يصلون سبع عشرة ركعة المكتوبة عليهم، وكان هو صلّى الله عليه وسلم يصلي في اليوم   - ومن أراد الاستزادة من قراءة الشمائل فليراجع «سيدنا محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، شمائله الحميدة وخصائله المجيدة» للعلامة المحدّث الشيخ عبد الله سراج الدين، وهو من أنفس الكتب الحديثة في الشمائل، طبع مكتبة دار الفلاح، حلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 والليلة خمسين إلى ستين ركعة من المكتوبة والنوافل. لقد سقطت عن عامة المسلمين فريضة التهجّد بعد ما فرضت عليهم الصلوات الخمس، لكنّ الرسول كان يقوم الليل، ويصلي صلوات لا تسل عن حسنهن وطولهن حتى كانت قدماه تتورمان من طول القيام، فقالت له عائشة يوما- وقد رأت ما يعاني صلّى الله عليه وسلم في قيام الليل-: إن الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، فما بالك يا رسول الله! تلقى العناء، وتتعب هذا التعب الشديد؟ فأجابها صلّى الله عليه وسلم: «أفلا أكون لله عبدا شكورا» «1» وكان في هذه الصلوات معنى محبة الله أغلب عليه صلّى الله عليه وسلم من معنى الخوف، فكان يطيل الركوع حتى يخيل إلى من يراقبه أنه ربما قد نسي السجود، وكان يقيم صلاته من بدء الوحي في فناء بيت الله أمام المشركين الذين كانوا يعادونه، ويؤذونه إيذاء شديدا. وقد هجم عليه بعض المشركين وهو في الصلاة فلم يترك صلاته خوفا منهم. وكان جنباه يتجافيان عن المضجع، وكان قليلا من الليل ما يهجع، ويبيت ساجدا أو قائما والناس نيام، وأشد ما يكون إقام الصلاة حين يلتقي الجمعان في ساحة الحرب، والسيوف مصلتة، والرّماح مشرعة، والقلوب واجفة، ومع ذلك فإنه إذا حان وقت الصلاة صلى منفردا أو صلّى بأصحابه إماما. فيتناوب بعضهم الصلاة، وبعضهم الحرب، وإمامهم ثابت في الحالين إلى أن يؤدوا فريضة الله، لا يمنعهم عنها مانع. أيها القارئ! أحبّ أن أطوي لك من صحائف القرون السالفة ثلاث عشرة ورقة لأعود بك إلى السنة الثانية من الهجرة. فتعال معي تنظر إلى ساحة بدر: هؤلاء مؤمنون، وهؤلاء مشركون، لقد التقى الجمعان، واشتد القتال بين المشركين والمؤمنين، وحمي وطيس الحرب، أين هو الرسول يا ترى؟ هاهو ذا ساجد بين يدي رب العالمين، يدعوه ويسأله   (1) عن المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام حتى تفطّرت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا. [البخاري (152) ومسلم (377) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 النصر المبين بقلب ذاكر، ولسان بالدعاء ناطق، وناصية لعظمة الله ساجدة على الأرض، لقد أقام الصلاة لأوقاتها، ولم يؤخرها إلا مرتين: فقد فاتته مرّة في غزوة الخندق حين تألب عليه المشركون واليهود، ولم يمهلوه حتى يؤديها في وقتها، ومرّة أدلج الليل بطوله، ثم غفا غفوة هو وأصحابه، فطلعت عليهم الشمس، ولم يستيقظوا حتى أيقظتهم بأشعتها، فقضى ما فاته من الصّلاة، ثم لم تفته صلّى الله عليه وسلم حتى في مرضه الذي توفي فيه، بل قد اشتدّ به المرض، ووهنت قوته، فخرج مع ذلك متهاديا بين رجلين من حجرته إلى أن بلغ المسجد، وصلّى مع الجماعة، وقد غشي عليه ثلاث مرات قبل وفاته بثلاثة أيام، فكان كلما همّ أن يذهب إلى المسجد غشي عليه، ففاتته الصلاة مع الجماعة، هذا ما كان عليه الرسول من عبادة الله وذكره، وهذا ما تركه خلفه لم يأتسون به في عبادته، وذكره لله عز وجل. وأمر المسلمين بالصوم، وليس على المسلمين إلا صوم رمضان، ولكن ما ظنّكم بالرسول صلّى الله عليه وسلم وصومه؟ إنه قلّما يمرّ به شهر، أو أسبوع من شهر إلا كان يصوم فيه، تقول عائشة: كان صلّى الله عليه وسلم يصوم حتّى يظنّ أنّه لن يفطر «1» . ونهى المسلمين عن صوم الوصال، لكنه يواصل الصوم يومين بل ثلاثة أيام متوالية، لا يأكل فيهن، ولا يشرب، وذلك الذي يقال له صوم الوصال. وكان بعض الصحابة يحبّ أن يقتدي به في ذلك، فيقول صلّى الله عليه وسلم: «لست كأحدكم، أيّكم مثلي إنّ ربّي يطعمني ويسقيني» «2» وربما كان يصوم شهرين متواليين: شعبان ورمضان. وكثيرا ما كان يصوم الأيام البيض (الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر) من كلّ شهر، وكان يصوم ستّا من شوال، ويوم عاشوراء من المحرم، وكثيرا ما كان يصوم يوم السبت   (1) وفي البخاري، عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان. [البخاري (1969) ] . (2) وفي البخاري: عن أنس- رضي الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تواصلوا» ، قالوا: إنّك تواصل، قال: «لست كأحد منكم، إنّي أطعم وأسقى، أو إنّي أبيت أطعم وأسقى» [البخاري (1961) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ويوم الخميس من كلّ أسبوع، كذلك كان دأبه وهديه في الصّوم. وأمر المسلمين بإيتاء الزّكاة، وإنفاق المال في الخير، لكنّه بدأ ذلك بنفسه. وقد علمت شهادة أم المؤمنين خديجة له في ذلك يوم قالت له: إنك تحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، وتكسب المعدوم، إنه لم يأمر الناس بأن يتبعوه في ترك الدّنيا، ولم يقل لهم ضحّوا بكل ما في أيديكم من أموال، ولم يخبرهم بأنّ ملكوت السّماوات موصدة أبوابه في وجوه الأغنياء، وإنما الذي أوصاهم به أن يتصدقوا ببعض أموالهم كما قال الله عز وجل وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] . هذا بينما رسول الله نفسه لم يكن يدّخر من المال شيئا في بيته، بل كان ينفق في سبيل الله جميع ما كان يملكه، ولم يكن قليلا ما كان يأتيه من خمس الغنائم من ذهب، وفضة، ومتاع، وغيره من عرض الدنيا، فكان يخرج عنه كله لغيره من الفقراء والمساكين، ولم يكن يتمتّع هو ولا أهل بيته بمتع الحياة الدنيا، فكان حظه وحظّ أهل بيته من الدنيا الفقر والتعفف، وكان من سنته بعد أن فتحت أرض خيبر أن يوزّع على أزواجه من الطعام والحبوب ما يكفيهم عاما، لكنه قبل أن ينقضي العام كان ينفد ما وزعه على أزواجه، فيمسهم الجوع والسغب «1» ؛ لأنه كان ينفق على المحتاجين وعلى الضيوف مما يجده في بيوت أزواجه، يقول عبد الله بن عباس: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان أسخانا وأجودنا، وهو أسخى ما يكون في شهر رمضان، ولم يقل لسائل: «لا» قطّ طول حياته، ولم يأكل شيئا وحده مهما كان قليلا، بل يشرك فيه أصحابه، وقد آذن الناس أن «من مات وعليه دين فدينه عليّ أقضيه عنه، وما ترك من ميراث فميراثه لورثته» . جاءه يوما أعرابيّ، فقال: يا محمد! إن هذا المال ليس لك ولا لأبيك، فأوقر منه جملي، فحمله رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الشعير والتمر، ولم يسخط عليه ما أغلظه من القول، ثم قال: إنما أنا قاسم، وخازن، والله هو المعطي. يقول أبو ذر: كنت يوما أمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حرّة المدينة،   (1) السغب: الجوع مع التعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فاستقبلنا جبل أحد، فقال: «أبا ذر!» قلت: لبيك يا رسول الله! قال: «ما يسرّني أنّ عندي مثل أحد ذهبا تمضي عليّ ثلاث ليال، وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدين» «1» . إخواني! لا تحسبوا أن ما قاله صلّى الله عليه وسلم إنما هو كلمات عذبة، وألفاظ يتجمّل بها، بل قال ما قاله عن عزيمة، ولم يظهر للناس إلا ما كان يكنّه صدره، ويعمل به مدّة حياته، جاءه مرة من البحرين ذهب، وفضّة، وأموال جمّة، فأمر بوضع ذلك كله في فناء المسجد، ثم غدا على الناس يصلي بهم الصبح دون أن تقع عينه على ذلك المال في الجهة التي وضع فيها، فلما انصرف من الصلاة دعا الناس، وطفق يوزع المال عليهم حتى فرغ منه، فقام ينفض يديه وثوبه لئلا يكون علق بثوبه الطاهر شيء من غبار ذلك المال، وجاءه من فدك أربعة جمال موقرة بالطعام، فقضى به بعض ديونه، وآتى منه بعض الناس، ثم سأل بلالا: هل بقي من ذلك الطعام شيء؟ فأجابه بلال: لقد بقي منه شيء وليس هاهنا من يأخذه. فقال صلّى الله عليه وسلم: لا أدخل بيتي ما بقي منه شيء. وبات تلك الليلة في المسجد، فلما أصبح بشره بلال قائلا: إنّ الله قد وضع عنك. يعني: أنّ بقية الطعام قد قسمت ولم يبق منه شيء، فشكر الله. ودخل بيته ذات يوم بعد صلاة العصر على غير عادته، ولم يلبث أن خرج منه فاستغرب الناس ذلك، فقال لهم: إني تذكّرت في الصلاة أن في بيتي شذرة من الذهب فخشيت أن يجيء الليل، وهي في بيت محمد. ودخل بيته ذات يوم حزينا كئيبا، فسئل عن ذلك، فقال: يا أمّ سلمة! إنّ ما جاءنا من الدنانير السبعة قد بقي في الفراش، وقد حان المساء. وممّا يدلّ على زهده صلّى الله عليه وسلم في الدّنيا ومتاعها: أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم مرض مرضه الذي توفي فيه، وكان يتقلب على فراشه من شدّة المرض، فتذكر وهو في هذه الحالة أنّ في بيته دنانير، فأمر أن يتصدّق بها، وقال: أيلقى   (1) وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما يسرّني أنّ لي أحدا ذهبا تأتي عليّ ثالثة، وعندي منه دينار، إلّا دينار أرصده لدين عليّ» (أي أعدّه) . [مسلم (2302) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 محمد ربه وقد خلف في بيته دنانير؟! فهذا ما كان عليه صلّى الله عليه وسلم في حياته من إنفاق المال والصّدقة. لقد رغّب محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الآخرة، وزهّد في الدّنيا، وحثّ على القناعة بالقليل منها، والكفاف من العيش، فلننظر إلى عيشه كيف كان يعيش ويحيا، لقد علمتم أنّ الله بسط على المسلمين الدّنيا، ووسع في أرزاقهم، فكانت تجبى إليه الأموال من الخراج، والعشر، والجزية، والزكاة، والصدقات، وكانت قوافل الإبل تحمل الطعام والمال إلى المدينة، أمّا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يكن له حظّ من تلك الأموال الكثيرة، وكان أهل بيته في ضنك وكفاف، تقول عائشة رضي الله عنها: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يشبع يومين متواليين «1» . وتقول: لم يكن في بيته يوم التحق صلّى الله عليه وسلم بالرّفيق الأعلى سوى صاع واحد من شعير، وكانت درعه مرهونة عند يهوديّ بصاع من شعير، كان الرّسول صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما لابن آدم من دنياه غير بيت يأوي إليه، وثوب يلبسه، وخبز جافّ يأكله، وماء يشربه» » . ولم ينطق صلّى الله عليه وسلم بهذه الكلمات في الزهد بالدّنيا إلا وقد رضي لنفسه بهذا القدر، وعمل به طول حياته، ولم يمدّ عينيه إلى زهرة الدنيا وزينتها، فكانت له حجرة مطينة غير مشيدة جدرانها، وكان سقفها من الخوص والوبر. تقول عائشة: لم يطو ثوبه أبدا. تعني أنه لم يكن له ثوب آخر غير الذي على جسده الطّاهر، جاءه مرة سائل يشكو الجوع الشديد، فأرسل إلى أزواجه يطلب للسائل طعاما من بيوتهن، فلم يجد عند إحداهن شيئا غير الماء. ويقول طلحة «3» : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما مضطجعا على فرش المسجد، يتململ من الجوع، وشكا إليه بعض الصحابة الجوع ذات مرة،   (1) رواه البخاري في نفقة نساء النبي صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته (3097) وفي وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم (4467) . (2) رواه الترمذي (2341) في الزهد، باب (30) وقال: حديث حسن صحيح. (3) هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي القرشي، صحابي من الشجعان والأجواد، ومن المبشرين بالجنة، كان من دهاة قريش وعلمائهم، شهد سائر المشاهد، قتل يوم الجمل وهو بجانب عائشة رضي الله عنها، ودفن بالبصرة. وله 38 حديثا مرويا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وكشفوا عن بطونهم، فإذا حجر قد شدّه كلّ واحد على بطنه، وأراهم صلّى الله عليه وسلم بطنه، وقد شدّ عليه حجرين، وكان صوته صلّى الله عليه وسلم يضعف أحيانا من شدة الجوع، وذهب مرّة إلى بيت صاحبه أبي أيوب الأنصاري «1» وهو جائع، فصنع له أبو أيوب طعاما، وقطف له بعض الرّطب من حديقته، فلما قدم إليه الطعام أخذ منه خبزا ووضع عليه شيئا من اللحم، وقال: ابعثوا به إلى فاطمة، فإنها لم تأكل شيئا منذ أيام، وكان يحبّ بنته وسبطيه حبا جما، غير أنّ حبّه لهم لم يحمله على أن يكسوهم لباسا ناعما، أو يحلي بنته حلية ثمينة، ورأى فاطمة قد لبست ذات يوم قلادة من الذهب جاءها بها زوجها عليّ كرّم الله وجهه، فقال صلّى الله عليه وسلم لها: يا فاطمة أتحبين أن يقال أن بنت محمد قد لبست طوقا من نار؟ فنزعت تلك القلادة من عنقها، واشترت بثمنها عبدا وأعتقته، ورأى عائشة قد لبست سوارين من ذهب، فأمرها أن تنزعهما، فنزعتهما حين قال لها: هذا لا ينبغي لآل محمد، وكان يقول: يكفي الإنسان من الدّنيا ما يتزود به الغريب في سفره، هذا قوله، أما عمله فيدلّ عليه ما روي أنّ أحد الصحابة دخل عليه فرآه قد أثر الحصير في جسمه الشريف، فقال: ألا نهدي إليك فراشا وثيرا؟ فأجابه: مالي ولدنياكم، ليس لي إليها حاجة إلا كما يستظلّ الراكب في طريقه؛ ليستريح ساعة من نهار، ثم يمضي قدما. وفي السنة التاسعة للهجرة وكانت رقعة الدولة الإسلامية قد امتدّت إلى اليمن، والشام، ولا ينفذ فيها إلا أمره، حتى أنّه لم يكن يملك إلا إزارا وسريرا خشنا، لا فرش له، ووسادة حشوها ليف، وقليلا من الشعير، وجلد حيوان في ناحية من البيت، وقربة ماء معلقة على وتد، فإذا كان ذلك هو تزهيده الناس في الدنيا، فهذا هو عمله الذي رأيتم.   (1) هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة، أبو أيوب الأنصاري، من أكابر الصحابة، شهد سائر المشاهد، كان شجاعا صابرا تقيّا محبا للغزو والجهاد، كان يسكن المدينة، فرحل إلى الشام، شارك في غزوة القسطنطينية مع يزيد، توفي فدفن في أصل حصن القسطنطينية، له 155 حديثا مرويا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 إخواني! لا شكّ أنّكم سمعتم كثيرا من الناس يخطبون في «الإيثار» ويحثّون الناس عليه، فهل رأيتم مثالا عمليا للإيثار في صحيفة حياة واعظ؟ إذا شئتم أن تروا الأمثلة عليه فالتمسوها في سيرة الرسول الأعظم الذي علم الإنسانية فضائل «الإيثار» وحذرها عواقب «الأثرة» . أنتم تعلمون مبلغ حبه لابنته فاطمة رضي الله عنها، ومع ذلك فإنها كانت تطحن بيدها حتى مجلت، وتحمل قربة الماء على صدرها حتى اخضرّ. فجاءته ذات يوم تسأله خادمة- والإماء يومئذ كثيرة- فقال لها: يا فاطمة! لم أفرغ بعد من حاجات أهل الصّفة، فكيف أقضي حاجتك؟ ويروى أنه قال لها: إن أيتام شهداء بدر سبقوك في أمر الخوادم والعبيد. وأهدت إليه صحابية رداء في أحد الأيام، فنظر إليه أحد الحاضرين، وقال: ما أجمل هذا الرداء! فدفعه إليه. وأراد أحد الصّحابة أن يقيم مأدبة فرح له، ولم يكن عنده ما يقدّمه للأضياف، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلم يستعينه، فأرسله إلى عائشة لتعطيه سلّة دقيق كانت في بيتها، فذهب ورجع بها، ولم يبق في بيت الرسول تلك الليلة ما يأكله. هلمي ما عندك من طعام، فجيء بطعام من نخالة، فلم يشبعهم، فقال لها: هلمي شيئا آخر، فجيء بحساء من تمر، ثم بقدح من لبن، ولم يكن في بيته غير ذلك، فكان اللبن آخر ما قدمه للأضياف، فاثرهم بكلّ ما عنده. وإن شئت أن تشاهد المثل الأعلى للثقة بالله، والاعتماد عليه؛ فشاهد ذلك في بيت هذا الرسول، فإنّ الله أمره بقوله: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف: 35] فامتثل أمر ربه. وأنت تعلم أنّه بعث في أمّة أميّة ذات حميّة وأنفة تمنعها أن تسمع كلمة مخالفة لعقائدها ومزاعمها، وهان عليها أن تموت في سبيل ذلك، لكن الرسول صلّى الله عليه وسلم قام برسالته صابرا مثابرا، فكان يوحّد الله في المسجد الحرام، ويصلّي على أعين المشركين في فناء المسجد الذي كان ناديا لهم ومجتمعهم، فكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 يركع لله ويسجد أمامهم غير مبال بهم، ولما نزل قول الله سبحانه فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] صعد بين جبل الصفا ونادى المشركين، فلما اجتمعوا إليه بلّغهم دعوة الله، وقد امتحنوه بضروب من الأذى، حتى ألقوا عليه مرّة سلى جزور وهو قائم يصلي في فناء البيت الحرام، بل أرادوا مرّة أن يخنقوه بالرداء، وألقوا الشوك في طريقه، لكنه صبر كما صبر أولو العزم من الرسل. ولما همّ عمه أبو طالب أن يخرج من ذمّته، ويمسك يده عن حمايته، قال له وقد حميت أنفته: «يا عم! إنّ قريشا لو وضعوا الشّمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» «1» . وإنّ قريشا قد حصرته وبني هاشم في شعب أبي طالب مدّة ثلاثه أعوام، ومنعوهم الطعام، حتى كان الصبيان يتضورون جوعا، واضطر الرجال أن يقتاتوا بورق الشجر، ثم بيّتوا قتله، لكن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يداخله الخوف، ولم يتردّد في تبليغ الرسالة التي بعث بها، ثم خرج إلى المدينة واختفى في طريقه مع صاحبه أبي بكر في غار ثور، وتتبعه المشركون حتى بلغوا مدخل الغار، واقتربوا منه، ولو نظروا إلى أقدامهم لرأوه، وفزع أبو بكر في تلك الساعة العصيبة، فقال: يا رسول الله! إنما نحن اثنان، فقال له صلّى الله عليه وسلم بصوت تمازجه الطمأنينة: «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إنّ الله معنا» «2» ووعدت قريش من يأتي به جائزة قدرها مئة من الإبل، فخرج سراقة بن جعشم «3» يركض فرسه، وبيده رمحه، حتى اقترب من الرسول، فقال أبو بكر: يا رسول الله! قد أدركنا،   (1) السيرة النبوية «لابن هشام» الجزء الأول، ص 100. (2) رواه البخاري في كتاب التفسير (4663) . وفي ذلك يقول الله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] . (3) هو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، صحابي أسلم بعد غزوة الطائف سنة 8 هـ، أرسلته قريش ليقتاف أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين خرج إلى الغار مع أبي بكر- رضي الله عنه- توفي سنة 24 هـ، وله 19 حديثا مرويا في كتب الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وكان أبو بكر يكثر الالتفات يمينا ويسارا، أما الرسول فكان هادىء النفس، مطمئن القلب، يذكر الله، ولا يلتفت إلى شيء، وبعد أن نجاه الله وبلغ المدينة لم يأمن غوائل قريش، ومكايد اليهود، فكان محاطا بالأخطار من كلّ جانب، حتى كان المسلمون يحرسون بيته في الليل، فنزلت هذه الآية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] فخرج لساعته من الخيمة وقال للذين يحرسونه: اذهبوا فإنّ الله وعدني بعصمته، وتولّى حفظي «1» . ورجع من غزوة نجد «2» ، فاستظلّ بشجرة في ساعة الهاجرة، وتفرّق عنه أصحابه، ولم يبق عنده أحد، ولما غلبته عيناه جاءه أعرابي من المشركين وقد سلّ سيفه، فانتبه الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقال له الأعرابي: «من يعصمك منّي؟» (تأمل حرج هذا الموقف) ، فأجابه صلّى الله عليه وسلم وجأشه رابط، وقلبه مطمئن بالإيمان: «الله!» فما طرقت هذه الكلمة سمع الأعرابي حتى تأثر بها وأغمد سيفه «3» . وخرج المسلمون إلى ساحة بدر في قلّة من العدد والعدد، وهم لا يزيدون على ثلاثمئة وثلاثة عشر مقاتلا بعضهم معه سيف بلا رمح، وبعضهم معه رمح ولا سيف معه، وعدوهم نحو ألف مقاتل في سلاح تامّ وعتاد كامل، فالتقى الجمعان، وحمي وطيس الحرب. ترى أين هو قائد جيش المسلمين؟ انظر، هاهو قد اعتزلهم لاجئا إلى ربه يدعوه تارة،   (1) قالت عائشة- رضي الله عنها-: سهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقلت: يا رسول الله! ما شأنك؟ قال: «ألا رجل صالح يحرسنا الليلة» . فقالت: بينما نحن في ذلك سمعت صوت السلاح، فقال: «من هذا» قال: سعد وحذيفة، جئنا نحرسك. فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه، ونزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم، وقال: «انصرفوا يا أيها الناس، فقد عصمني الله» (أسباب النزول، للواحدي، ص 158) ، طبع دار ابن كثير بدمشق. (2) سميت هذه الغزوة «غزوة ذات الرقاع» . (3) انظر الحديث بكامله في صحيح البخاري في كتاب المغازي، باب «غزوة ذات الرقاع» (4135) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ويستفتح على المشركين، ويسجد لله تارة وهو يقول: «اللهمّ أنشدك عهدك ووعدك! اللهمّ إن شئت لم تعبد بعد اليوم!» «1» . وربما وقع الخلل في صفوف المسلمين، وتفرقوا عن الرسول، فيبقى هو ثابتا في موضعه كالجبل الذي لا يزعزعه شيء واثقا بربه متوكلا على تأييده راجيا نصره، كما وقع في سفح أحد حين تفرق عنه أكثر الصحابة، فثبت هو مكانه، والمشركون تارة يحملون عليه بالسيوف، وأخرى يشدّون عليه بالرماح، ويرمونه أحيانا بالحجارة والسهام، حتى انكسرت ثنيته، وشدخ رأسه، ودخلت في رأسه حلقة المغفر، ففي تلك الساعة الرهيبة كان واثقا بنصر الله الذي وعده بعصمته فلا يخذله، وكذلك وقع في حنين حين كانت سهام المشركين تقع على المجاهدين المسلمين كالمطر، فتفرّق المسلمون، لكنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يبرح مكانه، بل ظلّ ثابتا يدعو الناس إلى الله وهو يقول: أنا النّبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب «2»   (1) راجع السيرة النبوية لابن هشام و «زاد المعاد» لابن قيم الجوزية، ورواه مسلم في كتاب الجهاد والسير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما كان يوم بدر نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاثمئة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلّى الله عليه وسلم القبلة ثم مدّ يديه، فجعل يهتف بربّه «اللهمّ! أنجز لي ما وعدتني! اللهمّ آت ما وعدتني! اللهمّ! إنّك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض!» فما زال يهتف بربّه مادّا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه. [مسلم (4588) ] . لقد شفع الرسول صلّى الله عليه وسلم لهذه العصابة المؤمنة في هذه الساعة الحاسمة الدقيقة، بالكلمة الوجيزة التي تجلت فيها الثقة والاضطراب والسكينة والافتقار جنبا لجنب، فكانت أدق تعريف بهذه الأمة وأدق تحديد لمركزها ومكانتها بين الأمم، وقيمتها وغنائها في هذا العالم، والثغر الّذي ترابط عليه، وهو الدعوة إلى الله، وإخلاص الدين، والعبادة له. وقد أثبت الانتصار الرائع المعجز الّذي أبطل كل تجربة، صدق هذه الكلمة ودقتها، وأنها كانت تصويرا دقيقا لهذه الأمة. (العلامة أبو الحسن علي الحسني الندوي في «السيرة النبوية» ص 223، طبع دار ابن كثير، دمشق) . (2) رواه البخاري في المغازي، باب غزوة حنين (2864) ومسلم في الجهاد والسير، باب غزوة حنين (4615) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ثم ترجل عن مطيته وقال: «أنا عبد الله ورسوله» ورفع يديه يسأل الله ويدعوه. إخواني! هل سمعتم بقائد باسل لا يبالي بقلّة جيشه، ونقص عدّتهم، ولا ينكص على عقبيه، ولا ينسحب من ساحة القتال، وإن تفرّق عنه جنده، ويستغني عن سلاحه باستنجاد ربه، وطلب نصرته؟ ذلك كان مبلغ ثقته بالله، ويقينه بنصرته، واعتماده على مدده «1» . مقارنة بين عظة أحبوا أعداءكم ومعاملة النبي صلّى الله عليه وسلم لأعدائه: وإخالكم سمعتم بواعظ يعظ الناس بأن يحبّوا أعداءهم، ويحثهم على مودة مبغضيهم، وأن يزجروا الطير تمرّ سعدا للذين يزجرون لهم الطير تمرّ نحسا، لكنّي لا أحسبكم رأيتم مثالا عمليّا لاتّعاظ الناس بهذه المبادىء، فتعالوا معي إلى مدينة الرسول؛ لنرى أمثلة رائعة للعمل بالمبادىء، لا أظنكم ترون مثلها في أمكنة أخرى، واتركوا ما جرى في مكّة؛ فإن النبي صلّى الله عليه وسلم لم تكن له فيها قوة، فلا نضرب المثل منها للحلم، والعفو عن مقدرة، لكنّه لما خرج من مكة ومعه صاحبه أبو بكر تعقّبهما سراقة، وهما في طريقهما إلى المدينة، وكان يطمع بجائزة قريش وهي مئة من الإبل لمن يأتيها برأس الرسول، فجعل يركض فرسه والطمع في الجائزة يستفزه حتى دنا منهما، وخاف أبو بكر على الرسول، ودعا الرسول ربه أن يعصمهما من شره، فساخت قوائم فرس سراقة في الرّمل، فاضطر أن يترجّل، وجعل يستقسم بالأزلام كعادتهم في الجاهلية فخرج له الذي يكره ثلاث مرات، ومع ذلك ظلّت قوائم الفرس في الرّمل فأيقن سراقة بالشرّ، وعزم على الرجوع، فنادى الرسول وطلب منه الأمان، وأن يكتب له بذلك كتابا، وألايؤاخذه يوم تعلو كلمته، فيتغلب على قريش، فأمر الرسول أبا بكر، فكتب له كتاب الأمان، فلما فتحت مكة ورأى سراقة بعينه كيف   (1) وكان هذا يعني أن معيار صدقي ليس بانهزام جيش أو انتصار جيش، ولكن معيار صدقي نابع من ذاتي (أي من كونه صلّى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله) [رحمة للعالمين، للشيخ سليمان المنصور فوري، ص 118، طبع دار السلام، الرياض] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 تغلّب الرسول صلّى الله عليه وسلم، وعلت كلمته دخل في الإسلام ولم يؤاخذه الرسول بما كان يريده من قتله، بل لم يسأله عن ذلك البتّة. وقد علمتم أبا سفيان ومكانته من مشركي قريش، ونشاطه في مقاومة الإسلام، حتى لم يدع النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقرّ قراره، ويطمئن باله في المدينة، وهو الذي زحف بالجيوش، وعبأ المشركين في بدر، وأحد، والخندق، وكان قائدهم في معظم الحروب التي قامت بين المسلمين ومشركي العرب، وكم من مسلم قتل، وجريح جرح في تلك المعارك، لكن أبا سفيان هذا مع كلّ ما تقدّم منه جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم مع عمه العباس قبل فتح مكة، ولو أنه قتله لكان بذلك معذورا، لكنّه- وهو الذي بعث رحمة للعالمين- وقد وسعت رحمته أبا سفيان فشمله بعفوه «1» ، ولم يكتف بالعفو حتى أكرمه وأعزّه ونادى في الناس يوم فتح مكة: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . وعرفتم هندا زوج أبي سفيان في الحروب، وهي التي كانت مع لدّاتها من نساء المشركين ترجز، وتحرض على القتال، وتخطب في غزوة أحد، وهي التي مثلت بعمّ النبي صلّى الله عليه وسلم حمزة، فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلم عمه حمزة بعد الحرب، وقد مثّل به، جزع لذلك المنظر المؤلم، ومع كل هذا فقد أتته هند يوم الفتح متنقبة فلم يتعرّض لها، ولم يسألها عما فعلت، بل عفا   (1) انطلق الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى مكة في عشرة آلاف من المسلمين، وبعد أن ساروا مرحلتين لقيهم أبو سفيان وعبد الله بن أمية، وكانوا من الّذين بالغوا في إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلم، وحاولوا كل محاولة للقضاء على الإسلام، فرآهما الرسول صلّى الله عليه وسلم، وأعرض عنهما، فقالت له أم سلمة: يا رسول الله! أبو سفيان ابن عمّك، وعبد الله ابن عمتك، وبعدها قال علي- رضي الله عنه- لأبي سفيان أن يأتي النبي بمثل ما قاله إخوة يوسف وذلك طلبا لعفو الرسول صلّى الله عليه وسلم، فجاء أبو سفيان، وقرأ للنبي الآية: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ [يوسف: 91] فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92] (زاد المعاد، 1/ 413، وابن هشام 2/ 401) . وهاهو أبو سفيان بعد أن ظلّ يؤلب الجيوش ضدّ الرسول صلّى الله عليه وسلم سبع سنوات، ويلهب نار الحرب ضدّ المسلمين في جميع البلاد، يعلن اليوم الإسلام، ويرسل حاكما على منطقة نجران النصرانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 عنها، وصفح. فلما رأت هذا العفو النبيل أكبرته، ولم تتمالك أن صاحت قائلة: يا محمد! لم يكن أهل خباء أبغض إليّ من أهل خبائك قبل اليوم، وأنا اليوم ليس أهل خباء أحبّ إلي من أهل خبائك! وبعد فتح الطائف خرج وحشيّ «1» قاتل حمزة رضي الله عنه هاربا يلتمس مكانا آخر، فاختبأ به، فلما أظلّ سلطان الإسلام هذا المخبأ الذي لجأ إليه وحشيّ قال له قائل: إنك لا تعلم ما نعلم من أمر محمد صلّى الله عليه وسلم، إنك لن تجد لنفسك مأمنا إلا عنده، فحضره خائفا، فلما وقع عليه نظر النبي صلّى الله عليه وسلم غضّ عنه بصره، وتذكر في تلك اللحظة عمه حمزة، وقتله بيد هذا الرجل، فذرفت الدّموع من عينيه الشريفتين، وهاهو القاتل أمامه، ولو أراد أن يقتصّ منه لكان ذلك حقا وعدلا، لكنه عفا عنه، واكتفى بأن صرفه قائلا: «إليك عني! فإني إذا رأيتك تذكرت عمّي حمزة وشهادته» . وهذا عكرمة «2» وأبوه أبو جهل كانا أعدى عدوّ للإسلام، والمسلمين، ولرسول الله خاصّة، فأبو جهل آذى النبي الكريم أذى لم يؤذه أحد مثله، وابنه عكرمة قاتل المسلمين، فلمّا فتح الله مكة لرسوله خاف على نفسه مما فعله هو وأهل بيته بالنّبيّ والمسلمين، ففرّ ناجيا بنفسه إلى اليمن، وكانت زوجه قد أسلمت من قبل، وعرفت الرسول حقّ المعرفة، فذهبت بنفسها إلى اليمن، وربطت على قلب زوجها، وهدّأت روعه، ورجعت به إلى المدينة، فلما بلغ النبي صلّى الله عليه وسلم قدومه سارع إليه يرحب به، حتى سقط عنه رداؤه، ثمّ قال لعكرمة بن أبي جهل وهو فرح مسرور: «مرحبا بالرّاكب المهاجر» وهل تعلمون بمن يرحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومن هو هذا القادم الذي فرح صلّى الله عليه وسلم بقدومه حتى سقط عن منكبه رداؤه، وشمله بعفوه، وصفحه؟   (1) بعد إسلامه كان لا يرفع وجهه أمامه صلّى الله عليه وسلم خجلا وندامة، ثم كفّر عن جريمته السابقة بقتل مسيلمة الكذاب. (2) هو عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام المخزومي القرشي، من صناديد قريش في الجاهلية والإسلام، بعد إسلامه كان من أجلاء الصحابة، وكبار المجاهدين، والفاتحين، استشهد في اليرموك سنة 13 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 إنّ هذا كلّه لرجل سبق منه قبل إسلامه أن قاتل المسلمين وآذاهم، بل هو ابن الذي ألقى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سلى جزور، والذي همّ أن يهجم عليه، وهو يصلي في المسجد الحرام، والذي همّ أن يخنقه بالرداء، والذي أشار في دار الندوة بقتل حامل هذه الرسالة الإلهية إلى الإنسانية، والذي أوقد نار الحرب بساحة بدر، وكاد للإسلام المكايد، ولم يقبل الصلح. هذا ابن ذلك العدو الألدّ، ولم يكن هذا الولد قد اعتزل أباه، بل شاركه في جميع فعلاته، فلما قدم على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو في أوج قوّته هشّ له، وبشّ، ورحّب به، واستقبله بوجه طلق، وصدر رحب. وهبار بن الأسود «1» هو الذي كان في الحقيقة قاتل زينب بنت الرسول صلّى الله عليه وسلم، وله فعلات أخرى، وجرائم شتّى، وقد خالف المسلمين أشدّ الخلاف، فلما فتح الله مكة لنبيه أهدر صلّى الله عليه وسلم دمه، فأراد هبار أن يهرب إلى فارس، ثم عدل عن ذلك، وبدا له أن يحضر مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلم، فلما جاءه قال: يا رسول الله! كنت هممت أن أفرّ إلى بلاد فارس، لكنني تذكرت عفوك العام، وصفحك الشامل، فجئتك معترفا بجميع ما بلغك من ذنوبي، فلما سمع النبي صلّى الله عليه وسلم اعترافه، شمله بعفوه الذي وسع أعداءه جميعا، وفتح له باب رحمته الذي ما زال مفتوحا للجميع. وعمير بن وهب «2» تامر على قتل النّبيّ صلّى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية بعد وقعة بدر، فخرج إلى المدينة يترصّد النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ومعه سيف مسموم، فوقع   (1) هو هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد العزى، هو الذي عرض للسيدة زينب بنت الرسول صلّى الله عليه وسلم وهي تركب الهودج من مكة إلى المدينة فنخس بها البعير حتى سقطت، وأسقطت جنينها، وتوفيت في النهاية من جراء هذه الصدمة. هجا الأسود النبيّ صلّى الله عليه وسلم قبل إسلامه، وقد أسلم فيما بعد وحسن إسلامه. توفي بعد 15 هـ. (2) هو عمير بن وهب بن خلف الجمحي، أبطأ في قبول الإسلام، لكن بعد إسلامه كان من الشجعان، شهد مع المسلمين أحدا وما بعدها، توفي بعد سنة 22 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أسيرا بأيدي المسلمين، وثبتت عليه جرائمه، فخلّى النبيّ صلّى الله عليه وسلم سبيله، ولم يمسه بسوء. وكان صفوان بن أمية «1» لما تامر مع عمير بن وهب على حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وحرّض عميرا على إتمام هذه الجريمة تعهّد لعمير بأن يعول عياله، ويقضي عنه ديونه لو أنه هلك في هذه المغامرة، فلما فتح الله مكة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم فرّ صفوان هاربا من مكة إلى جدة ليركب منها البحر إلى اليمن، فجاء عمير إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم يخبره بذلك، فأعطاه النبي صلّى الله عليه وسلم الأمان لصفوان، فطلب عمير من النبي صلّى الله عليه وسلم أمارة على أمان صفوان فأعطاه عمامته، فلما لقي عمير صفوان، وألحّ عليه بالرّجوع أبدى له الخوف على نفسه، فذكّره عمير بما كان من النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما وقع في أسر المسلمين، وحدّثه بما جبل عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلم من كرم النفس، وسعة الصّدر، وسجاحة الخلق، وعظيم العفو، فانقاد له صفوان، وذهب إلى المدينة، فلما حضر مجلس النبي صلّى الله عليه وسلم؛ قال له: بلغني أنّك قد أعطيتني الأمان، فهل هذا حقّ؟ فأجابه صلّى الله عليه وسلم: نعم. فقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: لست داخلا بيتك حتى تمهلني شهرين، فأجابه: لقد أمهلتك أربعة أشهر. ولم تنقض تلك المدة حتى صلح حال صفوان، وتغيّر قلبه، ودخل في الإسلام. ولما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر معقل اليهود العظيم، وحصنهم المنيع، صنعت يهودية طعاما ودعت إليه النّبي صلّى الله عليه وسلم، فأجاب دعوتها: فقدّمت له لحما مسموما، فلما تناول منه؛ أعلمه الله بذلك، فأمسك يده عنه، ودعا باليهودية، فسألها عن الشاة المسمومة، فاعترفت بجريمتها، وقد بلغ من حلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تجاوز عنها ولم يؤاخذها على ذلك بسوء، وبقي مدة حياته صلّى الله عليه وسلم يشعر بأثر ذلك السّم. وتقدّم آنفا أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم عند منصرفه من نجد استظلّ في الهاجرة   (1) هو صفوان بن أمية بن خلف بن وهب الجمحي، صحابي، فصيح، جواد، كان من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام، أسلم بعد الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، شهد اليرموك، وتوفي بمكة سنة 41 هـ وله 13 حديثا مرويا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 بشجرة، وعلّق فيها سيفه، ثم ساوره النوم، وقد ابتعد عنه الصحابة، وتفرقوا لحاجاتهم؛ إذ جاءه أعرابيّ من المشركين كان يرصده، فأخذ السيف، واخترطه، ودنا من الرسول، فاستيقظ صلّى الله عليه وسلم، فقال له الأعرابيّ: من يعصمك مني؟ فقال له الرسول وقلبه مطمئن وجأشه رابط: الله! فلما سمع المشرك هذا الجواب الذي لم يكن يرتقبه تأثر، وأغمد السيف، وفي غضون ذلك رجع بعض الصحابة والأعرابيّ لابث لم ينصرف، فلم يتعرض له الرسول، ولم يعاقبه على ما كان همّ به. وكذلك وقع في أسر المسلمين أعرابيّ كان راصدا لقتل الرسول، فلما أحضر إليه صلّى الله عليه وسلم ذعر الأسير، فسكّن الرسول روعه وخفف عنه وقال له: لو أردت قتلي؛ ما قدرت عليه. وقبض المسلمون على ثمانين من المشركين يوم فتح مكة، وكانوا ممّن يحرصون على قتل الرسول، فلما بلغه أمرهم؛ أمر بتخلية سبيلهم، ولم يمسسهم بسوء. إخواني! إنكم تعلمون الطائف وأهلها، وكيف قابلوا الرسول بالشرّ والأذى أيام كان في مكة يعاني صنوفا من المصاعب والمعضلات، إنّ أهل الطائف لما عرض عليهم الرسول نفسه ليجيروه؛ جبهوه، وردّوه أقبح ردّ، ولم يصغوا إلى دعوته، إنّ سيد الطائف ورئيسها عبد ياليل «1» استهزأ به هو وعشيرته، وأغرى به طغام أهل الطائف، وسفلتها؛ ليسخروا منه، فلما مر بالطريق وقد اصطفوا صفّين رموه بالحجارة، فجرحت قدماه، وسالت منهما الدّماء على حذائه، وكان صلّى الله عليه وسلم كلما جلس يستجمّ من التعب يمنعونه من الجلوس، وإذا مرّ بهم يرجمونه بالحجارة «2» . وإن ما لقيه من أذى أهل   (1) هو عبد ياليل الثقفي، الّذي كان قد أرسل العبيد والغلمان خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الطائف ليرموه بالحجارة، يحضر في النهاية إلى المدينة، ومنها حمل إلى قومه جواهر الإيمان واليقين. (2) ولكن قلب الرسول صلّى الله عليه وسلم كان مملوآ بحب الله وعظمته بعد ما كابد في هذا السفر من الأذى والألم، فدعا الله بالكلمات التالية: «اللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الطائف لم ينسه طول حياته. ولقد سألته عائشة بعد ذلك بتسع سنين عن أشدّ ما لقيه من بلاء فأخبرها بأنه يوم الطائف، وكان بعد ذلك أن زحف المسلمون على الطائف في السنة الثامنة للهجرة، وحاصروها، فأطالوا حصارها، واستعصى عليهم حصنها الحصين الذي قتل فيه كثيرون منهم، فهمّ الرسول أن يرجع عنهم، لكن أصحابه أبوا إلا الفتح، وسألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يدعو على أهل الطائف، فرفع يديه إلى السماء يدعو فقال: اللهمّ اهد أهل الطّائف، اللهمّ ألن قلوبهم للإسلام، ومكّنه فيها» . هذه هي رحمة الرسول، وسعة صدره، وسجاحة خلقه، وكرم نفسه، يدعو بالخير للذين آذوه بالشرّ أشدّ الأذى، وأبوا أن يجيروه حين استجار بهم، ثم قاتلوه أشدّ القتال، ومع كل هذا لم يسأل الله لهم إلا أعظم ما يعلمه من الخير، وهو الهدى. أرأيتم رجلا آخر في الدنيا بلغت الرحمة من قلبه هذا المبلغ؟ أجيبوني بالله عليكم، ولا تقولوا إلا الصدق. دارت رحى الحرب على المسلمين بعد أن كانت الغلبة لهم، وذلك لأنهم خالفوا أمر الرسول، واستهوتهم أموال المشركين، فاشتغلوا بجمع الغنائم، وحينئذ كرّ عليهم العدوّ، فانهزموا، وزلزلت أقدامهم، فأحاط المشركون بالرسول، ورموه بالسهام والحجارة، وقاتلوه بالسلاح، فانكسرت ثنيته، وشجّ رأسه، ودخل فيه ثلاث حلقات من البيضة، وتضرّج بالدم، فلم يزد صلّى الله عليه وسلم في ذلك الموقف الرهيب على أن قال: «كيف تفلح أمّة تقتل نبيّها؟ اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون!» ، وإذا كان المسيح عيسى ابن مريم قد قال في عظة الجبل «أحبب عدوك» فإن محمّدا رسول الله لم يقتصر على إرشاد الناس بلسانه بأن يحبوا أعداءهم، بل أراهم بسيرته وعمله كيف يكون موقفهم من أعدائهم.   - غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» . وجاء هذا الدعاء في تاريخ الطبري بهذه الألفاظ [الطبري 2/ 230] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 إنّ عبد يا ليل- وأظنكم تذكرون اسمه- قد جبه الرسول هو وعشيرته بالمكروه، وآذوه أذى شديدا. فلما نزل مع قومه على الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة بعد ذلك أنزله في مسجده، وضرب له قبّة فيه، وجعل يزوره بعد كلّ عشاء، ويقصّ عليه ما كان يلقى وهو في مكة من عناء وجهد، ومن هو عبد يا ليل؟ هو الذي استقبل الرسول صلّى الله عليه وسلم في الطائف بالأذى، ورجمه بالحجارة، وسامه الخسف، فهل عهد من أحد فيما مضى أن يحبّ عدوّه، ويعفو عنه بمثل هذه السماحة عند المقدرة؟ ولما فتح المسلمون مكة، ودخلوها أعزة ظافرين؛ اجتمع رجال قريش، وأشرافها بفناء المسجد الحرام، وفيهم من كان قد شتم الرسول، وأذاقه ضروب الأذى، وفيهم من كان قد ائتمر عليه بالقتل، وفيهم من كذب برسالته وافترى عليه، وفيهم من قاتله، وتذرّع بكل وسيلة لمحو الإسلام، وفيهم من طعن النبي بالرمح، وضربه بالسّيف، وفيهم من آذوا فقراء المسلمين، وضعفاءهم، وكووا صدورهم وظهورهم بالجمر الملتهب، كل أولئك من رجال قريش وساداتها كانوا يوم فتح مكة واقفين منكسي رؤوسهم صاغرين، ولعلهم كانوا يتذكرون ما سلف منهم، وتحز ذكراه في ضمائرهم مترقّبين أن يوقع بهم الرسول جزاء ما اقترفوا، وحقّ لهم أن يخافوا، فإن الذي أجلوه عن وطنه، وأخرجوه من داره قد عاد إليهم فاتحا عزيزا، يقود تحت راياته عشرة آلاف من الأبطال الباسلين؛ الذين ينتظرون أوامر سيدهم لينفذوها. في ذلك الموقف الرّهيب سألهم الرّسول: ماذا ترون أنّي فاعل بكم؟ قالوا: خيرا. أخ كريم، وابن أخ كريم. فقال صلّى الله عليه وسلم: أقول اليوم ما قال يوسف لإخوته لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: 92] اذهبوا فأنتم الطّلقاء «1» . هذه هي محبّة الأعداء، والعفو عنهم. وهذا ما حقّقه محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وضرب به المثل للسماحة التي لا عهد للدّنيا بمثلها، فذلك هو العفو والصفح، وتلك هي دماثة الخلق، وسعة الصدر، وكرم   (1) زاد المعاد، ج 1، ص 424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 المعدن. إنّه لم يدع الناس إلى فضيلة إلا بدأ بها بنفسه. لم تكن دعوته كلمات عذبة يرسلها على الناس، ولكنها كانت عملا يتقدّم به إلى الإنسانية؛ ليكون لها منه أسوة وقدوة. إنّ دعاة الديانات الآخرى يسمعون الناس مواعظ حلوة من أقوال أنبيائهم، ومصلحيهم. أما دعاة الإسلام فيقدّمون للإنسان أمثلة عملية من سنة نبيهم وهديه. ولذلك كتب الله الخلود لهذه السنة وهذا الهدى، والدّين الإسلاميّ كما يدعو الأمم إلى كتاب الله يدعوها كذلك إلى سنة نبيه الكريم: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] . إنّ هذا يدلّ على أنّ الرسول نفسه مثال لهذه الدعوة، وحياته حياة مثالية للبشر جميعا، وهذا من خصوصيات الإسلام، فكما سنّ الإسلام للناس القوانين والأحكام، عرض عليهم كذلك حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لتكون مثلا لهم يقتدون بها في حياتهم. ولذلك كان يقول لهم: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» «1» . وكانوا يتداولون أخباره في آداب المعاشرة مع الأولاد، والأزواج، ويروون قوله صلّى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» «2» . ولما وقف بعرفات في حجّة الوداع كان عدد أصحابه من حوله نحو مئة ألف أو يزيدون، فبلغ رسالات ربه الأخيرة، وأعلن فيهم أحكامه، وأبطل بقايا رسوم الجاهلية، ومحا ما بقي عالقا من آثار مفاسدها، واستأصل شرّها، وأزال أسباب الحروب بين الأمة العربية، وأبطل دواعي الملاحم التي لم تكن قبل ذلك تنقطع. لكنّه لما أعلن إبطال دواعي الجاهلية بدأ بنفسه أولا، فقدّم من عمله ما يدعو الناس إلى أن يقتدوا به، فخاطب مئة ألف من العرب الذين شهدوا موسم الحج قائلا لهم:   (1) رواه البخاري عن مالك بن حويرث، في الأذان باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة (631) . (2) رواه الترمذيّ عن عائشة- رضي الله عنها في المناقب باب في فضل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم (3895) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 «إنّ دماء الجاهليّة موضوعة تحت قدمي، وأوّل دم أضعه دم ابن ربيعة ابن الحارث «1» » «2» . وأبطل ربا الجاهلية، وأول ربا أبطله ربا عمه العباس بن عبد المطلب. وتأتي الكرامة والشرف مع النفس والمال. وإنّ معالجة الأمور المتعلقة بأعراض الناس وشرفهم من أشدّ الأمور وأعضلها، وإصلاح ذلك يعد غضّا من كرامات الناس، ونيلا من شرفهم، لذلك قلما اجترأ المصلحون على إصلاح الرسوم الفاسدة المتمكنة من نفوس الناس، والضاربة جذورها في أعماق قلوبهم، حتى إنّها لتجري في عروقهم مجرى الدم. أما الرسول صلّى الله عليه وسلم فإنه علّم الناس المساواة بين جميع الطبقات، ودعاهم إلى الأخوة الإنسانية بأدقّ ما تصل إليه معانيها، حتى إنّ الرقيق الذي كان في اصطلاح الجاهلية   (1) اسم هذا القتيل إياس، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل. (2) هذه قطعة من الخطبة، ونذكر هنا نص الخطبة بكاملها، للموعظة البليغة، والفوائد الكثيرة التي تشتمل عليها وهي: «يا أيها الناس! إني لا أراني وإياكم نجتمع في هذا المجلس أبدا. إنّ دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كلّه، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهم ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهنّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: «اللهمّ اشهد» ثلاث مرات (معدن الأعمال (1107) - عن وابصة رضي الله عنه رواه ابن عساكر- وروى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جابر: ولما فرغ الرسول صلّى الله عليه وسلم من الخطبة نزلت هذه الآية الكريمة في نفس المكان: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أذلّ الناس، وأحقرهم، دعاه صلّى الله عليه وسلم بنفسه، فاتخذ غلامه زيدا بمنزلة الابن، وسوى بين الرقيق والعربي الحرّ الكريم المحتد، الشريف النّجار. وكان قد بلغ الإباء والفخر والخيلاء بالعرب إلى أن كانوا يراعون ذلك في الحرب أشدّ المراعاة، فكانت القبائل تتفاضل في درجات الشرف والكرم، والذي يزعم لنفسه أنه أشرف من غيره، وأرفع قدرا يشمخ بأنفه مترفعا عن أن يدنس «1» سيفه في القتال بدم من يراه دونه شرفا، وكرما، ومنزلة. أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فقد أذّن في الناس: أنّ الناس كلّهم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وبهذا التعليم الجديد أعلن أنّ الناس كلّهم سواسية إلا بالفضائل، فلا تعلو طبقة على طبقة، ولا طائفة من القوم على طائفة أخرى، وأصبح السيد، والمولى، والغني، والفقير سواء، لا يتفاضلون إلا بالنفوس الرضيّة، والأعمال الصالحة. ولم يبق للنسب وزن في ميزان الإسلام. واحتاج هذا التعليم إلى عمل يؤيده، ويقويه، ويقيم له وزنا في أعين الناس. وكان النبي صلّى الله عليه وسلم لما تبنّى «2» زيد بن حارثة زوّجه زينب بنت جحش (وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلّى الله عليه وسلم) وكان المتبنّى في نظام الجاهلية مثل الولد من الصّلب، فكانوا يحرمون على أنفسهم نكاح حلائل من اتخذوه ابنا لهم، كما يحرمون على أنفسهم نكاح حلائل الأبناء من الصلب، وقد جرّ هذا الحكم الجاهلي مفاسد عظيمة في حياة الأسرة عند العرب، فلما جاء الإسلام بإصلاح رسوم الجاهلية الفاسدة؛ أبطل بعضها، وعدّل بعضها، فلما أراد أن يبطل أحكام الجاهلية في المتبنّى، مست الحاجة إلى أن يبطل هذا الحكم الفاسد بعمل من أعمال الرسول، ولا يخفى أنّ الشرف من أشدّ ما يحافظ عليه الناس، ولا سيما العرب، فأقدم الرسول على ما دعا إليه من إبطال حكم التبني، وتزوج زينب حليلة زيد   (1) يدنّس سيفه: يوسّخه. (2) تبنّى فلانا: اتخذه ابنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بعد ما طلقها زيد، وبذلك امّحى هذا الرسم الفاسد، ولم يبق له أثر بعد عين. إنّ حياة الرسول ملأى بالأمثلة، وعامرة بالوقائع التي تدل على أنه صلّى الله عليه وسلم قدّم حياته للإنسانية لتكون أسوة لأبنائها. وأنا طمعا مني في الإيجاز، ووقوفا بالسامعين عند هذا الحدّ لكيلا يسأموا، أمسك عن الإطناب في هذه المحاضرة؛ لأن الوقت قصير، والبحث طويل. مقارنة بينه صلّى الله عليه وسلم وبين الأنبياء من آدم إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام: إخواني! تأمّلوا حياة الأنبياء من آدم إلى عيسى! .... وتفكّروا فيمن سلف من المصلحين، والذين بعثوا بهداية الخلق؛ من الشام إلى أقصى الهند، فهل تعرفون واحدا منهم عمرت حياته بمثل هذه الأعمال الجليلة المتنوعة، وبمثل هذه الأفعال العظيمة الكاملة؛ التي يرى فيها الناس أسوة لهم، ومنهاجا لحياتهم الشخصية والاجتماعية؟ وإليكم الآن كلمة واحدة: إنّ أحد الواعظين والخطباء يذكر في مواعظه وخطبه (الحبّ الإلهي) بكلمات عذبة، وألفاظ فصيحة رائعة، ولكن- كما قيل- إن الشجرة تعرف من ثمرها، فماذا كان أثر الحبّ الإلهي الطاهر في حياته العملية؟ ولكن تعالوا ادرسوا سيرة هذا الرسول العربيّ الذي كان يحبّ الله؛ تجدوه قائما في ظلمات الليل يصلّي والناس نيام. ثم ترونه باسطا ذراعيه إلى السماء يسأل ربه إقامة الحق، وتيسير الخير، وقلبه خاشع، وطرفه دامع، ولسانه رطب بحمد الله، وتسبيحه، وتمجيده، أليست هذه هي صورة الحبّ الإلهي في أكمل حالاتها؟ إنّ نبي الله عيسى ابن مريم لما قبض عليه أعداؤه، وأرادوا صلبه، انطلق لسانه مناديا: «إيلي، إيلي، لم سبقتني!» أي: ربي، ربي، لماذا تركتني، وخذلتني. أما محمد رسول الله فإنه لما دنا من الموت، وأيقن أنّه تارك هذه الدنيا، وكادت روحه الطاهرة تفيض صاعدة إلى ربها، أخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 يناجي ربه قائلا: «اللهمّ إلى الرّفيق الأعلى» «1» ، فهو في حنين شديد إلى لقاء ربه، وفي شوق عظيم إلى رفيقه الأعلى. فأيّ الجملتين أدلّ على الحبّ الإلهيّ، وأيهما أصرح في الحنين إلى لقاء رب العالمين عزّ جلاله، وعظم سلطانه؟ اللهم صلّ عليه، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين.   (1) روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها- كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: «لم يقبض نبي قطّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخيّر» فلما نزل به- ورأسه على فخذي- غشي عليه ساعة، ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف، ثم قال: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» قلت: إذا لا يختارنا، وعلمت أنّه الحديث الّذي كان يحدّثنا وهو صحيح، قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها، «اللهمّ الرّفيق الأعلى» [البخاري (6348) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 المحاضرة السّابعة رسالة رسول الإسلام إلى جميع الأنام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ما هي السّيرة الكاملة الجامعة في الرّسول، وماذا بلغ عن ربّه؟ سادتي! بينت فيما سبق من المحاضرات الستّ أنّ حياة الأنبياء هي التي يجدر أن تتّخذ أسوة، وأنّ سير الرسل هي التي تستحقّ أن تكون قدوة لبني آدم أجمعين من بين سائر الطوائف العليا من الناس، وأنّ السيرة التي تستحقّ أن تكون أسوة لجميع الناس إلى يوم القيامة من بين سير جميع الأنبياء والمرسلين هي سيرة محمّد صلّى الله عليه وسلم في حياته الشريفة. ولما تبيّن أنّ سيرة الرسول العربي هي السيرة «المثالية» وفيها الأسوة الكاملة للعالم كلّه، فإنّ لسائل أن يسأل: ما هي الحياة الكاملة، والسيرة الجامعة في هذا الرسول، وأيّ شيء في رسالته للناس من ربّ العالمين، وماذا بلّغ الناس عن ربّه، وما هي الأحكام اللازمة في رسالته التي بعث لأجلها هذا النبيّ الذي ختم الله به رسالاته، وأغناهم به عن أيّ نبيّ يأتي بعده، وكيف أصلح خاتم الرسل برسالته الأحكام السالفة من الأنبياء السابقين، وأكمل ما كان ناقصا منها بسبب مقتضى البيئة، وطبيعة الحال؟ ولا شكّ أنّ الله سبحانه قد بعث كثيرا من الأنبياء في مختلف العصور، وأنزل للبشر أحكاما على ألسنة رسله، وقد قلنا مرارا، وأثبتنا بدلائل واضحة أنّ أولئك الرسل خصّت رسالاتهم ببعض الأمم ولبعض الأزمان، لذلك لم تمسّ الحاجة إلى حفظها من عوامل التصحيف والتحريف، ولم تتعلق عناية الله بصيانتها من أيدي البلى، وعبث الدّهر، ووجدت بعد ضياعها تراجم دخلها كثير من التغيير والتبديل، فبعدت التراجم عن أصلها كلّ البعد، واختلفت، وألحق بها، وزيد فيها كثير ممّا لا أصل له في الصّحف المنزلة، وأنّ ضياع تلك الأصول الأولى دليل واضح على أنّ تلك الرسالات كانت لزمن محدود قد مضى، ولولا ذلك لاقتضت حكمة الله بقاء أصولها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 كفالة الله حفظ الرسالة المحمّديّة لأنها رسالة الحاضر والمستقبل: أما ما بعث الله به خاتم رسله محمدا صلّى الله عليه وسلم فقد تولى حفظه، وسيبقى محفوظا من كلّ تحريف، أو تصحيف إلى يوم القيامة؛ لأنّه آخر رسالات الله، وسيبقى للبشر ما بقي في الدّنيا بشر، ولذلك أعلن الله صفة الكمال والتمام لهذه الرسالة، ووعد بحفظها، ولم يعلن مثل ذلك، ولم يعد به في أيّ كتاب آخر من كتبه، وأية رسالة من رسالاته، بل على العكس من ذلك نجد النصّ في سفر التثنية من التوراة «1» . على أنّ رسالة موسى مؤقتة، وأنّ الله باعث غيره بغيرها «يقيم لك الربّ إلهك نبيّا من وسطك- من إخوتك- مثلي، له تسمعون» ، وقال: «أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكلّ ما أوصيه به» «2» . وقال: «هذه هي البركة «3» التي بارك بها عبد الله موسى بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الربّ من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران «4» ، وأتى من ربوات القدس، بيمينه نار شريعة لهم» . فهذه الآيات من سفر التثنية في التوراة تدلّ على أنّ الله يبعث نبيّا مثل موسى في يمينه نار شريعة ملتهبة، وأنّ الله يلقي في فمه كلاما، فيكلم الناس بكل ما يوحيه الله إليه. وهذا أوضح دليل على أن شريعة موسى لم تكن آخر الشرائع، ولا أدومها إلى يوم القيامة. وهذا النبي أشعيا يبشر ببعثة نبيّ آخر في الإصحاح 40 من السفر المنسوب إليه، وفي سفر ملاخي بشارة برسول من رسل الله، وكذلك سائر أسفار بني إسرائيل والزّبور تدلّ كلّها على أنّ ما كان عندهم لم يكن آخر رسالات الله، ولا اتصفت شريعتهم بالبقاء والدوام. وادرسوا الأناجيل كذلك؛ فإنكم تجدون في إنجيل يوحنا:   (1) التوراة (18: 15) . (2) التوراة (18: 18) . (3) التوراة (33: 1- 2) . (4) برية فاران هي التي سكنتها هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام- كما في سفر التكوين (21: 21) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 «وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر ليبقى معكم إلى الأبد» «1» وفيه: «إنّ لي أمورا كثيرة أيضا لا أقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما حتى جاء ذاك روح الحق؛ فهو يرشدكم إلى جميع الحقّ، لأنه لا يتكلم من نفسه» «2» . فهذه الآيات من الإنجيل دالة دلالة ليس فيها إيهام على أنّ ما في الإنجيل ليس آخر رسالات الله، ولم تتمّ به رسالات الله، بل سيأتي بعده نبيّ آخر تكمل به رسالة عيسى ابن مريم، أما الرسالة المحمّدية فلا تنبىء بنبيّ آخر يأتي بعدها، ولا بأنها ناقصة ستكمل بشيء يتلوها، إنّ الرسالة المحمدية تنادي بأنّها كاملة، وأنّها تامّة لا نقص فيها الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] . ومحمد صلّى الله عليه وسلم هو القائل «ختم بي النّبيّون» ، «ألا لا نبيّ بعدي» «3» ، وأنّه آخر لبنة في بناء النّبوة «4» . كلّ هذا من الدلائل الساطعة على أنّ رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم هي الرسالة الخالدة من ربّ العالمين لجميع العالمين إلى يوم الدّين. ولذلك تولى الله حفظها، وصيانتها، وعصمتها، فقال عزّ من قائل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] . الإسلام أول رسالة عامّة في تاريخ الإنسانية: إخواني! بقي سؤال آخر لا بدّ من الجواب عليه: هل أتى نبيّ آخر غير محمد صلّى الله عليه وسلم برسالة عامّة لجميع البشر، وهل جاءت من الله رسالة غير الإسلام شملت دعوتها الناس جميعا؟ إن بني إسرائيل قصروا الدّنيا على   (1) التوراة (14: 16) . (2) التوراة (16: 12- 13) . (3) والحديث كما رواه الله أحمد: عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنه سيكون في أمتي كذّابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبيّ، وأنا خاتم النبيّين، لا نبيّ بعدي» [مسند الإمام أحمد: 5/ 278] . (4) والحديث كما رواه البخاري في صحيحه: عن أبي هريرة رضي الله عنه «إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلّا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» [البخاري (3535) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أنفسهم فجعلوها محدودة بحدود بلادهم، بل زعموا أنّ إله العالمين هو إله أمّتهم وحدها، وخصّوه تعالى بأنفسهم من دون الناس. لذلك نرى أنبياء بني إسرائيل وأسفارهم لم تعمّم دعوتها لغيرهم من الأمم، ولا تزال الشريعة الموسوية والدّين اليهوديّ مقصورين على الإسرائيليين، لا يتجاوزونهم إلى غيرهم، وأسفارهم لا تخاطب غيرهم، ولا تدعو لآلهتهم إلا أسباطهم، بل إنّ عيسى المسيح لم يرع إلا غنم بني إسرائيل الضّالة، ولم يبلغ رسالته إلا في قراهم، وأرضهم، والمنسوبين إليهم؟ ولم يرغب في إعطاء خبز الأولاد للكلاب. وكذلك صحائف «ويدا» «1» الهندية، لا تطرق نبرات تلاوتها آذانا غير آذان الأمة الآرية، وجميع النّاس من غير الآريين أنجاس مناكيد، وآذان الشودر «2» (أي الأنجاس) إذا سمعت آيات (ويدا) فليصب فيها الرّصاص المذاب! أما الرسالة المحمّدية فهي الأولى، والأخيرة من رسالات الله التي جعلها الله للناس كافة، أحمرهم، وأصفرهم، وأبيضهم، وأسودهم، عربا كانوا أو عجما، من الصين شرقا إلى أقصى الجزائر البريطانية شمالا،   (1) ويدا: هي الكتب المقدسة التي يدعي الهنادك أنها منزلة على أنبيائهم من السماء، وتجمع مجموعة كتب «ويدا» مبادىء الهندوكية، وهي الكتب الأربعة، منها «ريجي ويدا (Rigveda) «و «ياجورويدا (Yajur veda) «و «ساماويدا (Sama Veda) «و «أترويدا، (Athar Veda) «وكل من هذه الويدات الأربعة يشتمل على أربعة أجزاء هي: «سمهيتا (Samhita) «و «برهمان (Brahman) «و «آرانياك (Aranyaka) «و «أوبانيشاد (Upanis had) «وقد كتبت هذه الويدات الأربعة في لغة سنسكريتية بالأناشيد والأغاني، التي اعتاد الآريون القدماء أن يتغنوا بها، ومن المرجّح أنّ تاريخ تأليفها يرجع إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. (Hinduism p. 7 by:Lowis Renon) . (2) الشودر: ومعنى الكلمة هذه في اللغة السنسكريتية وغيرها في كثير من اللغات الهندية القديمة: المنبوذ، المتروك، المهمل، وتعرف هذه الطبقة في اللغة الهندية الحديثة اليوم، وكذلك في اللغة الأردوية باسم «أجهوت» أي: «المنبوذون» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 يستوي فيهم التتار، والإفرنج؛ ذلك لأنّ إله رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم هو إله جميع الأمم، وهو ربّ العالمين الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] فهو لأجل ذلك مرسل للإنسانية كلّها رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] فرسالة الإسلام رسالة تعمّ جميع البشر إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ [الأنعام: 90] تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 1- 2] ، فمحمّد صلّى الله عليه وسلم نذير للدنيا كلّها، ورسالته تعمّ العالم أجمع، وحينما ينفذ حكم الله فلتكن شريعة الإسلام قائمة ورسالة محمّد نافذة، وقد جاء في سورة الأعراف قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 158] وهذه الآية تعلن عموم الرسالة المحمدية إلى كل من يبلغه نداؤها، وتصل إليه دعوتها وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] . فثبت من هذه النصوص أنّ الإسلام وحده هو الذي أعلن عموم دعوته للإنسانية كلّها، وأنّه هو الدّين التامّ الكامل الجامع للمحاسن، ولن يأتي بعده دين غيره، جاء في صحيح مسلم: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «بعث الأنبياء قبلي إلى أممهم خاصّة، وبعثت إلى الأمم كلّها عامّة» وهذا يؤيد دعواي، والتاريخ يشهد لها شهادة لا ترد، وكما أنّ السيرة المحمّدية كاملة تامّة، وفيها الأسوة لجميع البشر، كذلك دين الإسلام الذي جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلم كامل دائم، وفيه صلاح العالم ورشاده. الدّين إيمان وعمل، ولم يجتمعا إلا في الإسلام: ولسائل أن يقول: دلوني على حقيقة الرّسالة المحمّدية التي أكمل الله بها الأديان، وتمّت بها نعمة الله على العالمين، وبها بعث الله خاتم أنبيائه بالسيرة الكاملة، والأسوة الشاملة لجميع البشر مدى الدّهر، والجواب على ذلك أنّ الدّين يشتمل على أمرين: أمر يتعلّق بقلب الإنسان، ويسمى: (الإيمان) : وآخر يتعلّق بجوارحه، وبما يملكه، ويدعى (العمل) . والعمل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أولها يتعلق بالله وهو العبادة، والثاني يتعلق بما يتعاطاه الناس بعضهم مع بعض وهي المعاملات، ومعظمها القوانين والأصول، والثالث يتعلّق باداب النفس وآداب المجتمع وهي الأخلاق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فالدّين إذا: عقائد، وعبادات. ومعاملات، وأخلاق، وهذه الأقسام الأربعة اكتملت بالرسالة المحمّدية، وتعاليم خاتم المرسلين، فبلغت الغاية التي ليس وراءها غاية. مقارنات بما في رسالة الإسلام والرسالات الآخرى: والآن تعالوا نستعرض الكتب السماوية لنقارن ما فيها من هذه الأقسام الأربعة: أما التوراة، والإنجيل؛ فالذي فيهما من العقائد لا يروي الغليل، ولا يشفي العليل، نعم نجد فيهما ذكرا لوجود الله، وتوحيده، لكننا لا نجد فيهما دليلا يريد ذلك، ولا برهانا يحمل النفوس على التصديق به، كما لا تجد فيهما ذكرا للصفات الإلهية التي تزكو بها الروح الإنسانية، وتطهر بها نفوس البشر، وتنشأ بها محبّة الله، وعرفانه. فقبل البعثة المحمّدية لم يكن الناس يعرفون هذه الأمور، ولا كشفت لهم الحجب عن حقيقة النبوة، والرسالة، والوحي، والإلهام، والصلة بين الله ورسله، ومكانة الأنبياء ومنازلهم، وكيف يؤمن الناس بالنبوة، وما معنى الإيمان بالأنبياء، وما معنى عصمتهم، هذه المسائل كلّها لم ينكشف أمرها، ولم يقف النّاس على بيانها قبل الرسالة المحمّدية؛ لأننا لم نر نبيا من الأنبياء تصدّى لذلك، وأفاض فيه، أما الجزاء على الأعمال، وأمر الجنّة والنار، والحشر، والنشر، والقيامة والحياة بعد الموت، فكلّ ذلك غامض قليل الوضوح في التوراة، ولا نقرأ عنه في الإنجيل إلا فقرتين في جواب يهودي، والجنّة والنار لا نرى عنهما إلا فقرتين كذلك، بينما الرسالة المحمّدية هي التي أفاضت في هذه الأمور بوضوح عظيم. مقارنات بين الوصايا العشر والآيات من سورة الإسراء: وإذا أردت أن تعرف الملائكة من التوراة التبس عليك أمرهم، وقد يشق عليك أن تميّز بين حديث التوراة عن الله وحديثها عن الملائكة «1» . وذكر فيها الملكان، والتبست في الإنجيل حقيقة روح القدس التباسا   (1) انظر سفر التكوين (18: 1 و 19: 1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 تامّا حتى لا يتسنّى للقارئ أن يميز بين الله وروح القدس، بل يصحّ عنده أنه إله، أو ملك، أما الرسالة المحمدية فقد أوضحت أمر الملائكة، وكشفت عنهم الحجب، فأصبح مدلول هذا اللفظ بيّنا واضحا، ومكانة الملائكة وأعمالهم معينة معلومة، وأسماؤهم مذكورة، فهم وسائط بين الله ورسله، وينفذون إرادة الله في تدبير العالم، وتصريف الأمور في الدّنيا، كل ذلك نراه مفصّلا في آي الذكر الحكيم. هذا في العقائد ما قد فصلته الرسالة المحمدية وأوضحت أمره، أمّا في الأعمال ورأسها عبادة الله، فإن التوراة تتوسع في ذكر القرابين، وآدابها، وشرائطها، وفيها ذكر الصّوم، والأدعية، وفيها ذكر بيت إيل، أو بيت الله، ومع ذلك فإنّ هذه الأمور غير واضحة، ولا تسترعي أنظار الناظرين حتى أنّ منهم من جنح إلى إنكارها، وفيما عدا ذلك فإننا لا نجد في التوراة أنواع العبادات وأقسامها، ولا طرقها، ولا آدابها، ولا تعيين أوقاتها، وليس هنالك عناية تامة بتعليم العبادة للناس، وقد أهمل جانب عظيم من كيفية ذكر الله ودعائه، فلا نرى ما يدلّ على تعليم دعاء خاص لرب العالمين، وكيف يدعو الناس ربهم، ويسألونه حاجاتهم. وترى في الزبور أدعية كثيرة، ومناجاة للربّ طويلة، لكن ليس فيه ذكر لآداب العبادات، وشرائطها، وأوقاتها، أما الإنجيل فقلّما ترى فيه ذكرا للعبادات، بل ليس فيه ذكر للعبادة البتّة. نعم تجد في فقرة منه «1» ذكرا لتقشف المسيح، وصيامه أربعين يوما، وفي الإنجيل أيضا اعتراض اليهود على المسيح بأنّ أصحابه لا يصومون. وفيه ذكر دعاء دعا به عيسى عليه السلام في الليلة التي أرادوا صلبه فيها، وفي ذلك الموضع دعاء آخر له، لكننا لا نجد ذكرا لعبادات أخرى. أما الإسلام ففيه: الصّلاة، والصّوم، والحجّ، مفصلة آداب كلّ منها وشرائطه، وموضحة طرق عبادته وسننها، وهو يرشد الناس إلى كيفية ذكر الله، وبأيّ دعاء يدعون، وبأيّ كلمات بليغة يسألون ربّ العالمين، وقد   (1) متى (4: 2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 عيّن لهم مواقيت الصلاة، والصّوم، والحجّ، وأحكام هذه العبادات وسننها، وكيف يسألون ربّهم فيها ليستنزلوا رحمته ويستغفروا ذنوبهم، وكيف يتضرعون إليه ويخشعون له ويناجونه في سرّهم ويذكرونه في علانيتهم، وكيف يتوبون إليه معترفين بزلاتهم، منيبين إليه منها متوخين تزكية نفوسهم، وتنزيه أرواحهم، وتطهير قلوبهم، والتقرب إلى ربهم بكلّ ما ينالون به مرضاته، لتكون روح الدّين قائمة وحقيقته ملموسة. والقسم الثاني من الأعمال: المعاملات، وتستطيع أن تسمّيها قوانين المملكة، وأصول المعاشرة، وهذا الضرب من الأعمال مفصّل تفصيلا وافيا في رسالة موسى عليه السلام، وأقرت الرسالة المحمدية أكثره لكنّها خفّفت من شدة أحكامه، ووسّعت ما ضاق منها، فجعلتها صالحة لتكون قوانين عالمية. وكانت دائرة العمل بها محصورة ببني إسرائيل، فلما أضاف إليها الإسلام ما نقص منها؛ أصبحت جديرة بأن يدعو العالم كله لأنه يتخذها قوانين إنسانية عالمية. ونحن لا نرى ذكرا لقوانين المملكة في الزبور، ولا في الإنجيل، وقد نجد في الإنجيل بعض الأحكام في الطلاق، أما الأمور الآخرى فلا أثر لها فيه، مع أنّ الدّين العالميّ الأبديّ الذي يتكفّل بحاجات المجتمع البشري يتحتّم أن يشمل قوانين الدولة، وأصول المعاشرة، ولما كان دين عيسى المسيح عليه السلام خاليا من هذه القوانين؛ فقد اضطرت الأمم المسيحية إلى استعارة هذه القوانين من الأمم الوثنية كالإغريق والرّوم، بينما الرسالة المحمدية اكتملت فيها هذه القوانين؛ لأنها نظرت إلى هذا الضرب من حاجات الأمم نظرا ثاقبا حكيما، فاستوعبته من جميع نواحيه مستقصية جهاته كلّها، فلم تترك ناحية منه إلا وقد أتمّتها، فسنّت قوانين كلية أقامتها على أصول جامعة استنبط منها الأئمة المجتهدون والأصوليون من فقهاء العلماء أحكاما لحاجات جدّت، ومقتضيات حدثت، ولا يزالون يستنبطون منها، واستمرّ هذا العمل الفقهي في هذه القوانين ألف سنة من أعمار الدول الإسلامية الراقية، ذات المدنيات الزّاهرة، والحضارات الزّاهية، وعمل بذلك المسلمون في مختلف بقاع الأرض وأقطارها، ولا يعرف العالم كلّه إلى الآن قانونا أعدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ولا أرحم بالإنسانية ولا أصلح لها من قوانين الإسلام. والقسم الثالث من الأعمال «الأخلاق» وإنّنا نجد في التوراة أحكاما عديدة تتعلق بالأخلاق، منها سبعة تعد أصولا، وليس في هذه الأصول السبعة إلا أصل واحد إيجابي، وهو الأمر بطاعة الوالدين والبرّ بهما، أمّا الستة الآخرى فكلها سلبية، وهي النواهي: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، لا تشهد على جارك شهادة زور، لا تخادن حليلة جارك، لا تطمع في مال جارك. وبعض هذه الأصول داخل في بعض، فهي في الحقيقة أربعة. والإنجيل ردّد هذه الأحكام السّبعة كما هي في التوراة وزاد عليها الحثّ على محبة الغير، فجاء بزيادة واحدة على ما في التوراة، أمّا الإسلام فقد جاء بأحكام كثيرة في المعاشرة، وبقوانين مفصّلة في المعاملات، وأفاض فيما كان نهرا حتى جعل منه بحرا، وفي الليلة التي أسري فيها بالرّسول صلّى الله عليه وسلم أعطى الله أهل الإسلام اثني عشر حكما أساسيا منها واحد في التوحيد، وكلّها مذكورة في سورة الإسراء. وفيها خمسة إيجابية ندعوها أوامر، وخمسة سلبية تسمّى النواهي: * وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ «1» نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ   (1) خشية إملاق: خوف فقر وفاقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ «1» ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء: 23- 39 ] . 1- بر الوالدين وطاعتهما. و 2- إيتاء كلّ ذي حقّ حقّه. و 3- الإحسان إلى اليتامى. و 4- الوزن بالقسطاس المستقيم. و 5- إيفاء الكيل. و 6- الوفاء بالوعد (هذه أمور خمسة إيجابية) . 1- لا تقتل أولادك. و 2- لا تقتل نفسا. و 3- لا تقرب الزنى. و4- لا تقف ما ليس لك به علم. و 5- لا تبذر في النفقة واقتصد فيها (وهذه أمور خمسة سلبية) . فإذا قارنتم بين ما جاء به القرآن من الأحكام الأساسية، وما جاء به الإنجيل والتوراة؛ تتبين لكم حقيقة الرسالة المحمدية، ويتّضح لكم أنها أكملت ما كان ناقصا في الرسالات السّابقة التي لم تهتمّ بذكر الأحكام الأساسية، ولم تقتصر رسالة الإسلام على تكميل هذا النقص، بل عنيت بحل معضلات المجتمع البشري في الأخلاق، ووجهت الإنسانية إلى الطريق المثلى في قواها، ونبّهت الإنسان إلى نقائصه، وعيوبه، وأمراضه النفسية، ووصفت له دواء كلّ داء من أدواء النفوس، وأخذت بيده إلى الجادة الوسطى في الأعمال، والأخلاق، والمعاملات، هذا ما أكملته الرسالة المحمدية من الناحية العملية. ولو شئنا أن نعبّر عن جميع تعاليم الإسلام بأسلوب موجز، جاز لنا أن   (1) بالقسطاس المستقيم: أي: بالميزان العدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 نعبّر عنها بهاتين الكلمتين الوجيزتين: الإيمان، والعمل الصالح «1» فهاتان الكلمتان تشملان جميع ما جاءت به رسالة محمّد صلّى الله عليه وسلم، وتحيطان بكل ما أكملته من عقيدة، وعمل، وخلق، وحسن معاملة، فهما قوام الإسلام وزبدة ما جاء به محمّد رسول الله، وهما في الواقع قوام الفلاح، والنّجاة، وملاك السعادة. فمن آمن بالله إيمانا لا يزعزعه شيء، وأطاع الله فيما أمر به من حقّ وخير، وعمل بذلك عملا صالحا لا يشوبه سوء، أفلح ونجا. وقد وصف الله في كثير من الآيات شأن المؤمنين الذين يؤمنون بالله، ويعملون عملا صالحا، وبشّرهم تارة بقوله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5] وتارة بأنّهم وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [التوبة: 20] فالفلاح البشريّ، والفوز الإنسانيّ يرجع إلى الإيمان بالله والعمل الصالح بما أمر. وقد كان بودّنا أن نبسط القول في الإيمان والعمل الصالح، ونوفيهما حقهما من البيان والشرح، لولا أنّ هذا الموقف لا يساعد على ذلك. والذي يعنينا الآن من الكلام على الرسالة المحمّدية ناحية الكمال فيها، وإتمامها ما كان ناقصا في الديانات السابقة، مما يرجع إلى العقائد والأعمال، فأصلحت ما كان من قبل فاسدا، وردّت البدع الطارئة، وقمعت المفاسد العظيمة الفاشية التي شوهت وجه الإنسانيّة، وكانت بابا لكلّ شرّ، وأصلا لكل فساد، وبذلك سدّت في أصول الدين جميع الثلمات التي تسرّبت منها المفاسد، فكانت سببا في انحطاط الإنسانية عن مستواها الكريم. عناية الشّرع المحمديّ بكرامة الجنس البشريّ ومكانته من سائر المخلوقات: وأول مسألة عني بها الشّرع المحمديّ كرامة الجنس البشريّ ومكانته من   (1) والإيمان الإسلامي بضع وسبعون شعبة، وقد استقصاها أعلام الإسلام فرأوها تدور حول شيئين لا ثالث لهما: الحق، والخير، وكل شعبة من شعب الإيمان الإسلامي لا ريب أنّها تدخل إما في باب الحق، أو في باب الخير، والعمل الصالح هو عمل المؤمن بما هو مؤمن به، فلا يكون العمل صالحا إلا إذا كان من عمل الحق، أو من عمل الخير، وهذا هو الإسلام. (الأستاذ محب الدين الخطيب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 سائر المخلوقات، وهي مسألة ترجع إلى أمر التوحيد، فالإنسان قبل الإسلام كان يرى نفسه أحطّ منزلة من معظم المخلوقات والموجودات، كان يهاب كلّ ما عظمت جثته، ويطأطىء رأسه لكل ما يبدو له أسود حالكا، أو أبيض لا معا، ولكل ذي لبن سائغ، أو لعاب قاتل، وبلغ خوفه من مظاهر الطبيعة ومن المخلوقات الضّارّة، ورجاؤه من الأشياء التي يرتقب نفعها، أن صار يعبد الحجارة الصمّ والجبال الشّمّ، والبحار الزاخرة، والأنهار الجارية، والأشجار الخضراء، والأمطار الهاطلة، والنيران الملتهبة، والصحارى المخيفة، والأفاعي السّامة، والأسود الزائرة، والبقر الحلوب، والشمس البازغة، والنّجوم الزاهرة، والليالي المظلمة، والأشباح المهيبة، وفي الجملة كان يعبد من المخلوقات كلّ ما يخشى شره، أو يرجو خيره؛ اتقاء لضرره، أو طمعا في خيراته، فلما بعث محمد برسالة الله؛ أعلن لجميع البشر بأنّ هذه المخلوقات كلّها إنما خلقت لهم، ولم يخلقوا لها، وأنّها مسخرة لهم، فلا يليق بهم أن يسجدوا لشيء منها. وقال لهم: أيها الناس، أنتم خلفاء الله في هذا العالم، وقد سخر لكم كلّ ما فيه جميعا، إنّ الدنيا لكم، ولستم لها وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام: 165] . ولأجل استخلاف بني آدم في الأرض سمت منزلتهم بين جميع المخلوقات، وشرّفهم الله وكرّمهم* وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70] فهل يجوز لخليفة الله في الأرض وقد كرمه الله أن يسجد لمن هو دونه، ويعبد ما هو أصغر منه شأنا؟ وكيف يسجد بنو آدم لشيء غير الله والعالم مسخر من الله لهم أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ [الحج: 65] . هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ [النحل: 5] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [النحل: 10- 11] . فلبني آدم الأرض وما فيها من الشجر، والخضر، ومن الثمر، والزهر، وغيرها من المنافع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 والمرافق مما لا يعدّ كثرة، ولا يحصى وفرة، ولهم السماء وما فيها من الشمس، والقمر، والنجوم وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ [النحل: 12] ، ولهم البحر وفيضانه، والنهر وجريانه وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 14] والقرآن الحكيم حافل بكثير من هذه الآيات. الرسالة المحمدية عرفت الناس بأقدارهم وأنزلتهم منازلهم: فدلّت الرسالة المحمدية بذلك على أنّ موقف الإنسان من هذا العالم موقف السيد الكريم ممّا سخّر له، وموقف المتوّج بتاج الخلافة الإلهية من كل ما هو مستخلف فيه، فالإنسان مكلّل بإكليل الجلال والعظمة، لا يفوقه شيء من موجودات الكون، والكون كلّه دون الإنسان، وهو نقطة دائرة العالم، وإنسان عينه، والغاية من خلق العالم، ولأجله جعلت الدّنيا. ومما يثير العجب أن يركع الإنسان لمخلوق، أو يسجد لما هو دونه، أو يعبد شيئا خلقه الله له، وكيف يفعل الإنسان ذلك؛ وقد كرّمه ربه، وشرّفه، وفضله على جميع ما في العالم تفضيلا؟! ولما جهل الإنسان قدر نفسه جعل يرفع رجالا من أمثاله فوق درجاتهم، ويحلّ أناسا في مكانة رفيعة لا يستحقونها، وقد كان يبلغ الأمر بالإنسان إلى أن يعبد الإنسان. أما رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم فقد عرّفت الناس بأقدارهم، وأنزلتهم منازلهم، وأعطت كلّ ذي حقّ حقه، فلم تنقص من حقّه شيئا، ولم ترفع أحدا من الناس فوق مكانته التي يستحقّها، فكما لم تحطّ عزيزا عن عزته الجدير بها؛ لم ترفع أحدا فوق المقام اللائق به، وبذلك دلّت الإنسان على شرفه وعلائه، وعلّمته أنّه مهما كان رفيعا، وذا سلطة وبأس؛ فإنه لن تبلغ به رفعته أن يعبد كما كان يريد الفراعنة أن يعبدوا، ومهما كان طاهرا عابدا متبتلا؛ فلا ينبغي لإنسان أن يركع له، أو يرجو منه ما لا يرجى إلا من الله، أو يخشاه كخشية الله، ومهما حاز من المال الكثير، والثراء العظيم؛ فليس له أن يستعلي بذلك على إخوانه من خلق الله. إنّ رسالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 محمّد صلّى الله عليه وسلم قد قطعت الفساد، واجتثت الشرّ من أصولهما، وأعلنت في الناس بوضوح وجلاء هذه الحقيقة: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 64] . وأذاعت في العالم عن الأنبياء أنفسهم، وهم أسمى مراتب البشر أنّهم لا ينبغي لأحد منهم أن يقول للناس كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 79] . ليس في عالم الشهادة أرفع قدرا من الأنبياء، ولا في عالم الغيب أعلى درجة من الملائكة، ومع ذلك لا يجوز أن يتخذ الناس أحدا من الأنبياء، أو الملائكة معبودين لهم وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً «1» [آل عمران: 80] . فالرسالة المحمّدية رفعت مكانة الإنسان، وقد كانت منحطة من قبل، فصار لا يخضع، ولا يحني رأسه لغير الله، ولا يسجد إلا له، ولا يمدّ يده سائلا غيره؛ إذ لا معطي لمن منعه الله، ولا مانع لمن أعطاه الله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84] ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57] ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الفرقان: 2] . الإسلام وعقيدة التّوحيد: ثمّ تأملوا أمر التوحيد بعد علمكم بأنّ الرسالة المحمدية رفعت درجة الإنسان، وعرفته بقدر نفسه، إنّ هذه الرسالة أوضحت حقيقة التوحيد، ورفعت عن وجهه الحجب الكثيفة، وأزاحت عنه ظلمات الشرك، فتجرّد من كلّ ما نسجته حوله أيدي الأوهام الباطلة، والعقائد الفاسدة، فليس في تعاليم الإسلام ما يدلّ على أنّ الله أشرك قيصر معه في الحكم، وأنّ قيصر حاكم مثله، فالإسلام محض الحكم كلّه لله، ليس لأحد فيه من نصيب، فله الحكم في السموات والأرض، وله الأمر فيهما.   (1) سورة آل عمران: الآية: 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 سادتي! إنّ الإنسان وقد اعتزّ بالخلافة الإلهية على الأرض، وارتشف كأس المحبّة لله وحده، هل يعقل أن يسجد بعد ذلك لغير الله، وهل يخامر قلب المؤمن بالله أيّ خوف من الظلمة، أو النور، ومن المياه، والرياح. وهل يخشى ملكا عظيما، أو يوجس في نفسه خيفة من صحارى واسعة، أو جبال شامخة، أو أرض رحبة، أو بحار زاخرة، حتى يسجد لها، أو يدعو لها خوفا، أو طمعا، إنّ المؤمن لا يخشى إلا الله، ولا يبالي بغير الله، ولا يطمع في ثراء ثريّ، ولا يرجو غني إلا من الله الغنيّ عن كل شيء. انظروا إلى تعاليم الإسلام كيف بلغت بالإنسان ذروة الشرف، وسنام المجد. وتأمّلوا كيف رفعت الرسالة المحمّدية المستوى البشريّ، ووجّهت المجتمع الإنسانيّ نحو الحق والخير. فطرة الإنسان في الإسلام بريئة في الأصل ولم يولد آثما: وأمر آخر، وهو أنّ الرسالة المحمدية أذّنت في البشر أنّ الإنسان نزّاع إلى الخير، وأنّ فطرته بريئة في الأصل، ثم تطرأ عليها أعماله، فتجعله آثما مذنبا، أو تقيّا صالحا، فسيئاته التي يقترفها هي التي تؤثّر فيه، فتجعله شيطانا مريدا، كما أنّ حسناته التي تصدر عنه هي التي تجلو نفسه، وتهذّبها، فيكون بها ملاكا طاهرا، إنّ هذه لبشرى عظيمة هتف بها محمّد صلّى الله عليه وسلم رسول الإسلام في بني آدم، بعد أن كانت الأديان المنتشرة في الهند، والصين من سالف الأيام تنشر الإيمان بالتناسخ وبعث الأرواح- بعد موت أصحابها- في أجساد أخرى أرفع منزلة مما قبلها إذا عملوا أعمالا صالحة، أو في أجساد أذلّ وأحقر ممّا كانت فيه من قبل إذا اجترحوا السيئات، وقد ذهب إلى هذا التناسخ بعض النوكى ممن ينتمون إلى حكماء الإغريق، وجرّ هذا الاعتقاد الفاسد وبالا عظيما على معتقديه، فأصبحت حياته حياة إكراه وإجبار، ولا اختيار له فيما يعمل، فكأنه آلة صغيرة تحرّكها آلة كبيرة، وأنّه ولد مذنبا، بل ولادته في الدنيا نذير له بأنه مجرم آثم. وجاءت المسيحية فثبتت في الناس عقيدة: أنّ كلّ مولود يحمل من ساعة ولادته خطيئة أبيه الأول آدم، فالمولود يولد آثما مخطئا وإن لم يخطىء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الواقع، والمخطىء الآثم بجبلّته يحتاج إلى المغفرة من شخص آخر لم يولد آثما، ولم يخطىء بجبلّته، فيفدي هذا الشخص الأخير بنفسه خطيئة بني آدم ليذهب بسيئاتهم، وهذا ما نشرته المسيحية المعروفة عند الناس داعية بني آدم إلى الإيمان بالفادي. أما محمد رسول الله؛ فقد بشّر الإنسان بأنه يولد غير آثم، ولا مجبول على الخطيئة، ولا مسؤول عن خطيئة أبيه الأول آدم، وأنه يعيش عيشة لا إكراه فيها، ولا إجبار، وهو مخير في حياته بين أن يعمل صالحا إن شاء، فيجني ثمرة صلاحه ونزاهته، وبين أن يعمل عملا سيئا، فيكون بعمله مذنبا آثما وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التين: 1- 6] . فالإسلام بشّر بني آدم بأن قوامهم أحسن، وفطرتهم أفضل، وجبلتهم أعدل، وأنهم بعد هذا الإعداد الإلهي إنما يفسدون، أو يصلحون بأعمالهم، وبما يختارونه لأنفسهم وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 7- 10] . وهل من دليل أوضح على حسن جبلة «1» الإنسان ونزاهة فطرته، وطهارة أصله من قول الله فيه إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً «2» [الإنسان: 2- 3] . يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6- 8] . الدين والفطرة كلمتان لمدلول واحد: وإنّ رسول الله الذي يتحرّك لسانه بالوحي، ويصدر منطقه عن إلهام، قد جعل الدّين والفطرة بمعنى واحد، أي: إنهما كلمتان لمعنى واحد،   (1) الجبلة: الخلقة. (2) أمشاج (جمع: مشج) : أخلاط ممتزجة متباينة الصّفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فأصل الفطرة هي الدين الذي دعي الإنسان إليه، والإثم عارض يعرض للإنسان، ولا حق يطرأ عليه، ويقول الله عز وجل: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 30] . وفد فسّر الرسول هذه الآيات فيما رواه البخاري في تفسير سورة الروم من صحيحه، فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلّا على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما تنتج كلّ بهيمة صحيحة سليمة هل ترون فيها سكاء» «1» . إنّ البشرى التي بشّر بها الرسول صلّى الله عليه وسلم بني آدم أنّ كل إنسان مختار فيما يفعله، غير مكره عليه، ولا مجبر، وليست حياته الحاضرة نتيجة لحياته الماضية، فمن آمن بالرسول؛ فقد تغيّرت وجهة نظره إلى أعماله، فلا هو كئيب واجم ظنّا منه بأنه مكره على عمل هو استمرار لحياة سالفة. فكلّ من آمن بالرسالة المحمّدية أصبح بفضلها حرّا طليقا من الأوهام الباطلة، والعقائد الفاسدة؛ التي قيّدت حياة البشر، وغلّت أيديهم. الناس سواسية في الإسلام والدنيا كلّها لله وحده: إنّ الدنيا قبل بعثة رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلم توزعتها عقائد باطلة، وأوهام سخيفة، فكان أهل كل دير في مملكة من الممالك يحسبون أنّ مملكتهم هي الدّنيا كلّها، فكان براهمة الهند، ومتصوفوها يرون أنّ بلادهم هي أرض الله الممتازة، وما خرج عنها لا نصيب له من رحمة الله، لأنّ الله لا يريد الخير إلا لقطّان بلادهم، وأمر الرسالة الإلهية، والهداية الربانية، قد اختصّ به بعض البيوتات من سدنة المعابد، لا يعدوهم أبدا، وكذلك فإن زردشت يحسب أنّ الإله إنما يعنى بأمر بلاده المقدسة وحدها، وبأهل وطنه الأخيار، ولا تعنيه بلاد أخرى، ولا أمّة أخرى،   (1) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «مامن مولود إلّا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسّون فيها جدعاء؟» ثم يقول أبو هريرة- رضي الله عنه- فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] [البخاري (1358) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وبنو إسرائيل يظنّون أنّ رسالات الله خاصّة ببعض أسباطهم، وأنها حقّهم الموروث. أما الإسلام؛ فقد وسّع على الإنسانية ما ضيّقه الآخرون، وأعلن أنّ الناس كلّهم سواسية، وأنّ دعوة الله غير مخصوصة ببلاد دون أخرى، فمشرق الدّنيا، ومغربها، وشمالها، وجنوبها، وفلسطين، وفارس، والهند، كلّ قد خلا فيها رسول أو نبيّ، وأنّ الله تعالى تستوي عنده الأمم، واللّغات في بعثة الأنبياء، فشمس النبوة أشرقت على البشر جميعا، وتلألأت فيهم أنوار الرسالة وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] . وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ [الروم: 47] فاليهود لا يؤمنون بنبيّ ليس منهم، والنّصارى لا يوجبون على أنفسهم الإيمان بنبيّ من بني إسرائيل أو غيرهم، ولا يرون إذا لم يؤمنوا ببعض الأنبياء أنّ ذلك يخلّ بشيء من دينهم، وكذلك الهنادك لا يعتقدون بأنّ الإلهام الإلهيّ، والوحي الربّانيّ نزل على بلاد غير بلادهم، وهكذا شأن المجوس أتباع زردشت فإنّهم يذهبون إلى أنّ الدّنيا كلّها مظلمة سوداء، فلا نور إلا ببلادهم بلاد النّار. وأنّ سكانها أجمعين من خلق الله، وأنّ الأقوام على اختلافها سواسية في نعمه وآلائه، وكلّهم نالوا نصيبا من دعوته وحظا من رحمته، وما من بلاد عمرتها أمة إلا وقد أضاء فيها نور من هداية الله، وبعث فيها نبيّ دعاها إلى الحق، وبلّغها أوامر الله، ونواهيه. الإسلام سوّى بين جميع الأنبياء ودعا إلى الإيمان بهم جميعا: وقد علمت مما سلف أنّ الإسلام فرض على كلّ من دخل فيه أن يؤمن بجميع أنبياء الله، ورسله، وبالكتب السّماوية؛ التي أوحى الله بها من قديم الزمان، وليس بمسلم من لم يؤمن بالأنبياء كلّهم، وبالكتب المنزلة على الرسل المبعوثين من قبل، فالرّسل الذين سمّاهم الله في القرآن يجب على المسلم أن يؤمن بهم إيمان تفصيل، والذين لم تذكر أسماؤهم يؤمن المسلم بهم إيمان إجمال بأنهم كانوا صادقين، هداة للبشر، وكانوا ينابيع الخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 والحكمة، وقد وصف الله المسلمين بأنّهم وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 4] ، وفي موضع آخر من البقرة وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177] ، وفي سورة البقرة أيضا: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] فليس للمسلم أن يؤمن ببعض الرسل، ويكفر ببعض، وقد خاطب الله المسلمين جميعا بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء: 136] . سادتي! هل تعلمون أحدا علّم مثل هذا التعليم فسوّى بين الهداة من جميع الملل والنحل في إعظامهم، وإكرامهم، والأدب معهم، والاعتراف بجميلهم، وتصديقهم فيما دعوا إليه من حق؟ وأين ترون مثل هذه الرّوحانية العامّة، والإخاء الشامل؟ أجيبوني بصدق: أليس رسول الإسلام رحمة للعالمين، حيث علّم الناس كيف يرعون شرف الهداة، وعظمة حملة الرّسالات الإلهية، فعمّت دعوته، واتّسعت رحمته حتى نال كلّ شعب من شعوب البشر، وكلّ أسرة من أسرهم نصيبا من ذلك، ولقد اتخذ المتدينون بجميع الدّيانات وسائط ووسائل بينهم وبين الله، معتقدين أنّهم لا يصلون إلى الله المعبود إلا أن يتوسط بينهم من زعموه أهلا لذلك، فكانت السّدنة وخدمة المعابد وسائط الناس إلى الله في قديم الزّمان، وحتى اليهود اتخذوا من سبط لاوي، ومن تناسل منه شفعاء بينهم وبين ربهم، والنصارى جعلوا بعض الحواريين، وخلفائهم من الرّهبان والقسيسين وسائل يتوسلون بهم إلى الله، وقد غلوا في رفع مراتبهم، حتى بلغوا بهم مبلغا لم يبلغه مقرّب عند الله، فزعموا أن ما يربطه هؤلاء الشفعاء في الأرض؛ فهو مربوط في السّماء، وما حلّوه في الأرض؛ فهو محلول في السماء، وأنّ لهم أن يغفروا للناس خطاياهم، ويسقطوا عنهم آثامهم، وأنّ العبادة لا تقبل عند الله إلا بوساطتهم، وكذلك براهمة الهند زعموا أنّهم مخلوقون من يمين الله، وأنهم الوسائط بين الخلق والخالق، وأنّ العبادة الهندوكية لا تقبل إلا بهم، وعلى أيديهم، أما الإسلام فلا يعترف بطائفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 خاصّة من سدنة المعابد، وخدّام المساجد، وأحبار الدّين، وليس في الإسلام رهبانية، ولا يرضى أن تكون فيه فئة تتخذ الدّين مهنة، ومصدر رزق، وليس لأحد أن يعطي، أو يمنع، وما بيد أحد شيء من أمر الحلّ والعقد، بل كلّ ذلك بيد الله، فهو الذي يغفر الذنوب وحده، وليس بين العبد ومعبوده والمخلوق وخالقه أيّ تدخّل لأحد في عبادة الله ومناجاته، ولكلّ مسلم أن يصلي بالناس، وأن يؤمّهم، وأن يذبح أضحيته بيده، وأن يعقد النكاح، ويقوم بجميع أمور الإسلام وأوامره، والإسلام يعلّم أتباعه قول الله عز وجل ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وأنّه يجيب دعوة الدّاعين مباشرة، وبلا واسطة، فكلّ مسلم يدعو ربه متى شاء، ويناجيه، ويبثّه حزنه، ويشكو إليه ضرّه بلا أيّ واسطة، فالمسلم هو قسيس نفسه، وهو برهميها حين يعبد ربّه متحرزا من قيود البراهمة والقسيسين. دين الله بين الذين غلوا في الأنبياء والّذين فرّطوا فيهم: لقد بعث الله رسله وأنبياءه إلى البشر بالهداية وإصلاح المجتمع الإنسانيّ، ولكنّ الناس أفرطوا فيهم، أو فرّطوا. فمنهم من غلا في تعظيمهم، فرفعهم من منزلة الرّسل، والأنبياء، والهداية إلى منزلة الإله المعبود، أو إلى منزلة شبيهة بذلك، وإنّك لترى في هياكل الشام، وبابل، ومصر تماثيل الكهنة والأحبار تمثل الله عز وجل، وتنتحل بعض صفاته، وكذلك الهنادك جعلوا الأنبياء المبعوثين فيهم بالهداية والحكمة آلهة متجسّدة، وكذلك فعل أتباع بوذا، والجينيون بصلحاء ملّتهم، وهداة نحلتهم، فاتخذوهم أربابا، وهذا ما فعله النّصارى بنبيّهم عيسى ابن مريم سلام الله عليه، فاتخذوه ربا، ودعوه ابن الله، سبحانه وتعالى عما يقولون علوّا كبيرا، ذلك ما أفرط به الناس في حقّ الأنبياء، وآخرون قصّروا في حقّهم، وفرّطوا، كما فعل بنو إسرائيل في كلّ من تكهن، أو تحدّث عن أمر المستقبل، فجعلوه نبيا. ولا يتوقف مقام النبوّة عندهم إلا على أن يتحدّث أحد كهانهم في أمر المستقبل، أو أن يتوسّم أمرا فيقع، ولا يلزمه أن يكون ممن يتّقي الماثم، فضلا عن أن يكون عند الله معصوما صالحا، لأجل ذلك ترى في صحف بني إسرائيل أمورا منسوبة إلى الأنبياء تنافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 النبوّة، وهي بين أن تكون غير صحيحة، أو يكون من وقعت منهم غير أنبياء. فلمّا ظهر الإسلام وصف مكانة الأنبياء اللائقة بهم، وعيّن منزلتهم عند الله، وأعلن أنّهم عبيد الله، وليسوا أشباهه، ولا أندادا له، وأن الله لا يتجسّم في صورهم، وأنّهم ليسوا أبناء الله، ولا أقرباءه، إن هم إلا بشر بعثوا إلى بشر، وأنّ جميع أنبياء الله كانوا من قديم الزمان بشرا لا غير، وكذلك قال محمد خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلم إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فاستغرب الكفار ذلك، وقالوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 94] فقال الإسلام: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [فصلت: 6] هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 93] وكل هذه آيات من كتاب الله الحكيم. إنّ الأنبياء مع قرب منزلتهم من الله وشرفهم وعلوّ مكانهم عنده لا يملكون من تدبير العالم شيئا، ولا يقدرون على ما لا يقدر عليه إنسان مثلهم، وكلّ ما صدر عنهم مما عجز عنه الآخرون فبإذن الله وأمره. وقد وصفهم الإسلام بأنّهم وإن كانوا بشرا كغيرهم من البشر إلا أنهم أعلى منزلة وأسمى مكانا من سائر الناس، فهم يكلمون الله، ويوحى إليهم، وقد عصمهم الله من الذنوب، وطهّرهم من رجس الآثام، فكانوا أعفة كرام الأخلاق؛ لتكون على أيديهم هداية المجرمين، والآثمين من الناس، وقد يجري الله آياته وبيناته على أيديهم، ليقوموا بتعليم الناس الصّلاح والرشاد، وليزكّوهم، ويطهّروهم، فيجب لهم على الناس أن يكرموهم، ويعظّموهم، ويعملوا بهدايتهم؛ لأنّ الله أرسلهم هداة مصلحين، وشرّفهم برسالته ووحيه وكلامه. هذا ما علّمه الإسلام للناس من الاقتصاد، والاعتدال في أمر الأنبياء وفاء بحقّهم بلا غلوّ، ولا تقصير، وهذا ما كان جديرا بالإسلام، لأنه جاء مكملا لتوحيد ربّ العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 إخواني! لقد طال بنا الحديث، ومضى هزيع من الليل «1» ، وبقي شيء كثير مما أريد أن أقصّه عليكم، فلنختم هذا الحفل بالصّلاة والسّلام على رسول الله الأمين؛ الذي ختم به تعليمه الأخير للناس إلى يوم القيامة.   (1) هزيع من الليل: نحو الثلث أو الربع الأول منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 المحاضرة الثّامنة السّيرة المحمّديّة من النّاحية العلميّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فساد الأديان السابقة بسبب التشبيه وتجسيم الصّفات الإلهية: إخواني! اليوم آخر اجتماعي بكم، بعد أن استمرّ شهرا. ومحاضرة اليوم آخر المحاضرات الثّمان، وقد حاولت في المحاضرتين الماضيتين أن ألمّ بكلّ ما يتعلق بأصول الإسلام، وما يرجع إلى مبادئه، وقواعده، وسننه، ولكن أنّى لي أن أوفي ذلك؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يجمع ضوء الشمس بيده، أو يحصي نجوم السّماء؟! إنّ الأديان السالفة قبل الإسلام، التي كانت دعوتها إلى توحيد الله، قد تطرّق إليها الفساد في أمر التّوحيد لوجوه ثلاثة: الأول التشبيه والتمثيل، أي: أنّهم قد شبهوا الله بغيره من خلقه، والثاني: أنّهم جعلوا صفات منفصلة عنه ومستقلة. والثالث: أنهم اغتروا بكثرة المظاهر في العالم، وخدعوا بضروب من مصنوعات الله، وآثار مقدوراته، فلما منّ الله على الإنسانية بالإسلام أزال به الأوهام، وكشف خفايا الشبهات، فانجلت عن البصائر غياهب التّمثيل، والتشبيه. وإليكم أولا أمر التمثيل: فإن أهل الملل والنّحل من غير الإسلام اختاروا طرقا واتّخذوا وسائل لمعرفة ما لله عزّ وجل من الصفات الجليلة، والصّلة التي بينه وبين خلقه، فشبهوه جلّ جلاله بأجسام مختلفة، ومثّلوا صفاته في ضروب من الصّور والأشكال، فلما طال عليهم الأمد بقيت هذه السّور الممثل بها، وزال عن قلوب الناس اسم الله الذي لم يزل ولا يزال، فصارت المشبّه بها أوثانا، وأصناما، وتماثيل، وطفق الناس يعبدونها، ويسجدون لها ظنّا منهم بأنها مظاهر صفات الله، ومشاهد قدرته، وتفنّنوا في تصور صفات الله بهذه التماثيل المنحوتة، والأوثان المصنوعة، ومن ذا الذي يشكّ في أن الله يحبّ عباده، ويرأف بهم، ويحنّ عليهم؟ لكن الجاهلين جعلوا لحبّ الله عباده، ولرأفته بهم تمثالا من حجر أو غيره، والأمم الآرية اتخذت تمثال المرأة رمزا للحبّ الإلهي، فإنها عندهم مظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الحنان والأمومة، وإلهة الحبّ والغرام، فعبروا عن حبّ الله بنوع من العبادة، وعن حنانه عليهم بحنان الأم على ولدها، فانقلب الإله عندهم أما حنونا، ونحتوا له صورة أمّ حنون، وأخذوا يعبدونها، ويسجدون لها. والطوائف الآخرى من الهنادك قد أظهروا هذا الحبّ الإلهي لعباده وحنانه عليهم بما بين الحليلة وزوجها من المودة والمحبة، فاختار لفيف من الرجال زيّ النّساء وهيئتهن، وتأنثوا، وتخنثوا شكلا وأخلاقا، على زعم أنّ الله يحبّهم كما يحبّ الزوج حليلته. وكما ظهر الإله عند الروم والإغريق في صورة امرأة. أما الأمم السّاميّة فقد تمثل الإله عندها رجلا وأبا؛ إذ كان ذكر المرأة عندها على ملأ من الناس مخالفا للآداب السّاميّة، وكان الأب هو رأس الأسرة وأصلها، ويدلّ عليه ما استخرج من بطون الأرض في بابل، وأثور، وديار الشام من تماثيل تصور الإله بصور الرجال، وكذلك بنو إسرائيل، يظهر أنهم في بدء أمرهم كانوا يتصوّرون الله بصورة الأب، ويحسبونه والدا، ويحسبون الملائكة وسائر الناس أولادا له، ثم ضاق نطاق تفكيرهم، فلم يبق للإله أولاد عندهم سوى بني إسرائيل. ويوجد في بعض صحف بني إسرائيل ما يدلّ على أن الرابطة كانت بين الإله وبني إسرائيل كالرابطة التي تكون بين الزوج وحليلته، وأنّ بني إسرائيل وأورشلم حلائل، والإله زوجهن، تعالى الله عما يقولون ويتصورون!!. وقد أخطأ المنتسبون إلى المسيح عليه السلام، فجعلوا ما كان بادىء بدء استعارة كأنّه حقيقة ثابتة. وانقلب تشبيه الإله بالأب لحنانه على نبيه عيسى عليه السلام، ورأفته به، فاعتبروه حقيقة، والإله الذي لم يلد ولم يولد اعتبروه والدا، وعيسى ولده. وشبيه بذلك ما نجده عند قدماء العرب من ظنّهم بالله أنّه أب، والملائكة بنات له، فلما بزغت شمس الإسلام انكشفت ظلمات التشبيه، والتمثيل كلّها، وانجلى قتام الشّرك، وأهمل استعمال جميع الكلمات التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 تقضي إلى الإشراك بالله، منذ نادى رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ثم نزلت سورة من قصار سور القرآن محت الأوهام الباطلة كلّها، والعقائد الفاسدة التي نسجها الناس حول وجود الله، وهي قول الله عز وجل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 1- 4] فكان الإسلام بذلك طاهرا من دنس الشرك، نقيّا من كلّ شوائبه. إخواني وخلاني! إيّاكم أن تظنّوا أنّ الرسالة المحمدية نفت شيئا ممّا لله عز وجل من عظيم الرأفة، وواسع الرحمة بعباده، أو أبطلت ما لله في عباده من حنان، إنّها لم تفعل ذلك، بل وثقت حبل الله الذي يسّره لعباده وزادته قوة. وإنما أبطلت ما زاد على ذلك من أوهام تفضي إلى تجسيم الله، أو تمثيله بشيء من خلقه، ومحت وسائل كاذبة تجرّ إلى الإشراك بالله ممّا اتخذته الأمم السالفة، فضلّت به، وأضلّت، وفيما عدا ذلك فإنّ الإسلام أشاد بما بين الله وعباده من رابطة هي أشدّ، وأقوى من كلّ ما يمتّ به المخلوقون بعضهم إلى بعض من نسب، ورحم، وآصرة، ودم، فالإنسان الذي يعيش في طاعة الله أقرب إلى الله من قرابة الولد لوالده، وقرابة الزوجة من زوجها. انظروا كيف أراد الله أن يعلّم الصالحين من عباده بأنه يحبّهم كما يحبّ الأب أولاده، فأمرهم أن يذكروه كما يذكرون آباءهم، أو أشدّ ذكرا. فهو عز وجل لم يشبه نفسه بالأب، لكنّه شبه حبّه بحبّ الأب، واجتنب ما يدلّ على القرابة الواشجة، والرّحم الماسّة، فأبقى من هذه العلاقة ما يدلّ على الحبّ، ثم زاد الحثّ على أن يذكروه أشدّ، وأكثر مما يذكرون آباءهم بقوله أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة: 200] لأنّ الصلة بين العبد وخالقه أشدّ، وأسمى من جميع ما يمتّ به المرء إلى أحد من ذوي قرابته، فقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] ، والإسلام لا يسمّي الله أبا للناس، بل يدعوه «رب العالمين» لأنّ الربّ أعلى مكانا من الأب، وإنّ الصّلة بين الابن وأبيه عارض يفنى، والصّلة بين المربوب وربه أثبت وأبقى؛ لأنها مستمرة من أول نشأة المخلوق إلى أن تنتهي حياته بلا انقطاع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فالله ودود، رؤوف، حنّان بأكثر ممّا في الرجال من الودّ لأولادهم، وما في الأب من الشفقة والرأفة نحو بنيه، وما في الأم من الحنان على أولادها، ومع ذلك فإنه سبحانه ليس بأب ولا أمّ، وهو منزّه، ومقدّس عن كلّ شائبة من شوائب البشرية. فساد الأديان بسبب فصل الصفات الإلهية عن الذات: والأمر الثاني الذي أفضى بالأديان القديمة إلى فساد العقائد في معنى التوحيد: مسألة الصفات الإلهية. ومنشأ ذلك أن أتباع الأديان الآخرى قد فصلوا صفات الله عن ذاته، وجعلوها مستقلة عنه، وبذلك تعدّدت الآلهة، وكثرت في جميع الفرق الهندوكية من الدين البرهمي؛ لأنّهم اتخذوا من كلّ صفة إلهية إلها، وجسموا تلك الصفة في صورة أو صاغوها في قالب، ثمّ وسعوا نطاق الشرك، وطبقوه على جميع ما شبّهت به صفات الإله من مختلف التشابيه، ومتنوع التماثيل، وصاغوا هذه الصفات، وما شبهت به في صور وتماثيل وأوثان، وبعد أن كان الله إلها واحدا لا إله غيره، صار لهم ثلاثون وثلاثمئة مليون من الآلهة. وتفصيل ذلك أنهم أرادوا أن يعبّروا عن قوة الله وقدرته، وظاهر أنّ اليد من مظاهر القوة والبطش، فنحتوا لله تعالى يدين قويتين من الحجر، بل سوّلت لهم أنفسهم أن ينحتوا له كثيرا من الأيدي. وحاولوا أن يعبروا عن حكمته البالغة؛ فجعلوا له رأسين، واتخذوا له وثنا ذا رأسين، وإذا تأملنا نحل الهنادك الكثيرة العدد؛ بدا لنا أنّها لم تكثر هذه الكثرة الهائلة، ولم تفترق إلى فرق كثيرة، إلا لأجل تجسيمهم صفات الإله، فإنّ الله عندهم ثلاث صفات عظيمات: الخلق، والقيام على المخلوق، والإماتة، وإن شئت فلك أن تعبّر عن هذه الصفات بالخالقية، والقيومية، والإماتية، وقد جعلت الفرق من الهنادك هذه الصفات الثلاث أشخاصا مستبدين أطلقوا عليهم أسماء: برهما، ووشنو، وشيو، فبرهما رمز للخالق، ووشنو هو القيّوم، وشيو هو المميت. ونجمت عن ذلك ثلاث نحل: نحلة يعبد أتباعها برهما، ونحلة إلهها وشنو، ونحلة معبودها شيو. وقد انفصل بعض هذه الفرق عن بعض. وهناك فرقة منهم تعبد فروج الرّجل والمرأة؛ لأنهم تمثلوا بها صفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الخلق، وأرادوا أن يمثلوها بجسم، كما فعلوا في الصفات الآخرى، فهداهم سوء بصيرتهم إلى أن فروج الرّجال والنساء من أكبر الأسباب للخلق في هذا الكون، فاتخذوا لها صورا، وأوثانا، وجعلوا يسجدون لها، ويتقرّبون إليها. وفي النصرانية صفات إلهية ثلاث: الحياة، والعلم، والإرادة، تمثلوها ذواتا سمّوها الأقانيم الثلاثة: فالأب رمز للحياة، وروح القدس رمز للعلم، والابن رمز للإرادة. ونجد مثل ذلك في عالم الأصنام عند قدماء المصريين والإغريق والروم، وإنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم بعث بتنفيذ آراء الأمم في صفات الله، فأظهر خطأ تلك المذاهب، وفسادها، وبين أنّ الله واحد، وأنّ صفاته الكثيرة ليست أشخاصا منفصلة عنه، وأنّ من جعل الله الواحد اثنين أو أكثر مغترا بتعدد أسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فقد ضلّ وغوى، وحاد عن سواء السبيل. فالقرآن أعلمنا بأنّ الله رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] وأنّ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الروم: 27] وأنه نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] وكان نصارى العرب يدعون الخالق بالرحمن؛ لاتصافه بالرحمة، أما عامة المشركين فكانوا يدعونه «الله» ونزل القرآن تصديقا لهما قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] وفي سورة الشورى فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: 9] وفيها أيضا: أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الشورى: 5] وفي سورة الزخرف وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 84] ، وفي سورة الدخان إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الدّخان: 6- 8 ] أما برهما بمعنى الخالق، ووشنو بمعنى القيوم، وشيو بمعنى المميت فمدلول الثلاثة كلّها واحد هو الله الخالق القيوم المميت، والموصوف لا يتعدّد مهما كثرت صفاته فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجاثية: 36- 37 ] ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ [الحشر: 22] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22- 24] . فالله واحد وإن كثرت أسماؤه، وتعدّدت صفاته، وهذه الكثرة ليست في ذاته بل في صفاته، وإنّما علمنا ذاته الواحدة الموصوفة بالصفات الكثيرة بسبب رسالة محمّد صلّى الله عليه وسلم. أما الأديان الآخرى فقد جعل أتباعها الله الواحد آلهة متعددة بتعدّد صفاته، فسبحان الله عما يشركون. وقد بين الإسلام وأحسن البيان بأنّ القدوس، والخالق، والملك، والمؤمن، والجبار، والعزيز، والمصور، والرحمن، والرحيم هو الله ليس غير. فساد الأديان بسبب تعديد أهلها للفاعل بتعدّد أفعاله: والمنشأ الثالث للشرك كثرة أفعال الله، وتنوّع شؤونه. وحين رأوا أنّ الله تصدر عنه ضروب من الأعمال حسبوا أنّها تصدر عن مصادر متعددة، وأنّ لها فاعلين كثيرين، فحملهم فساد رأيهم على أن جعلوا لكلّ عمل عاملا مستقلّا، فاعتقدوا أن الذي يحيي غير الذي يميت، ومن يحبّ العباد غير الذي يبغضهم، فاتخذوا إلها للعلم، وإلها للثروة والرزق، فتعدّد الواحد بذلك، وصارت الآلهة بعدد الأفعال، أما الإسلام؛ فقد أخبر بأنّ الأفعال وإن كانت كثيرة فإنّ الفعّال هو الله الواحد، العزيز، المتعال. إنّ جميع ما في الدّنيا من الأعمال ينقسم إلى قسمين: الخير، والشر. وقد عجب الذين زاغت بصائرهم كيف أن الواحد يفعل فعلين متضادّين، فذهبوا إلى أن من يصدر عنه الخير لا يأتي منه ضدّه، فعبد أتباع زردشت إلهين اثنين أحدهما للخير، والآخر للشر، وسموا مسدي الخير (يزدان) ومصدر الشر (أهرمن) وتصوروا أنّ هذا العالم ساحة حرب يعترك فيها هذان القرنان المتصارعان. وما حملهم على هذا الفساد في العقيدة إلا خطؤهم في فهم الخير والشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 منشأ الخير والشرّ حسن استعمال الأمور أو سوء استعمالها: والحق أنه ليس في الدّنيا شيء يصحّ أن يطلق عليه اسم الشر، فالنار لا شك أنّها تحرق، ولكنّ الإحراق في نفسه لا يعدّ خيرا ولا يسمى شرا، فإن أوقدتها لتنضج عليها غذاءك، أو لتقتبس منها قبسا تصطلي به من البرد فإنّ عملك هذا هو الذي يعدّ إحسانا، ويطلق عليه اسم الخير. وإذا أضرمت النار لتحرق مأوى يأوي إليه فقير بائس لم يرتكب ذنبا فإنّ عملك هذا هو الذي يعد سيئة وشرّا، بينما النار نفسها ليست بنفسها خيرا محضا لا شرّ فيه، أو شرا محضا لا خير فيه، وأنت الذي جعلتها بعملك خيرا أو شرا. والسيف القاطع لا يعدّ خيرا، ولا شرّا، بل أنت الذي تتّخذ منه ذريعة للخير أو الشر. والظلام لا يعدّ شرا لكنك إن تسترت به في جوف الليل لترتكب فيه السوء، فالشرّ هو عملك لا الظلام، وإن تواريت فيه لتعمل صالحا أو أويت فيه إلى الراحة، والدّعة؛ فهو خير. وقد خلق الله الأرض والسماء، وجعل بينهما أشياء: الريح، والسحاب، والماء، والنار، والطين، وخلق منهنّ أشياء، وخصّ كلّ شيء بخصيصة، وبثّ فيه قوة تناسبه، ثم خلق الإنسان، ووهبه الحكمة البالغة، والبصيرة النافذة، والآراء السديدة، فنظر هذا المخلوق في الكون، وتأمّل حسن تقويمه، وعجيب تنسيقه، وبديع نظامه، فملكه الإعجاب به، وملأ نفسه الاستغراب منه، فلم يتمالك أن انطلق لسانه قائلا فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] ثم نادى في خشوع وخضوع لرب العالمين إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] ، كما فعل إبراهيم خليل الله، وبجانب هذه الطائفة من البشر طوائف أخرى لم يكن لهم من بليغ الحكمة، وسداد الرأي، وثاقب الفكر ما ينقذهم من جحود الله والكفر به، فالتبست عليهم حقائق العالم، واشتبهت لهم خواص الأشياء والقوى المودعة فيها، فجعلوا المادة علّة العالم، وسبب خلقه، وقالوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الهدى والضّلال بما كسبت أيدي الناس: إنّ العالم لا يضل ولا يغوي، ولا يرشد ولا يهدي، ولكنّ الإنسان هو الذي يهتدي بسليم فطرته، وسديد رأيه، وسلامة قلبه، أو يضل بسوء تفكيره، وخطل رأيه «1» ، وقبح تأمله. وإن شئت قلت: إنّ العالم يهدي من يهتدي به، ويضلّ من يضل به. وما أنزل الله من كتبه- التوراة، والإنجيل، والقرآن- يهدي الذين يحسنون تدبره، وتلاوته، فتطمئنّ قلوبهم إلى ما فيه من حقّ، ويؤمنون به، وآخرون يتلون ما أنزل الله من حقّ فيزدادون ريبا به، ولا تسكن نفوسهم إليه، فيجحدون، ويكفرون، مع أنّ الكلام واحد، إلا أن تأثيره في القلوب مختلف: فيخرج هذا منه مؤمنا به، ويخرج ذاك منه كافرا به، وكلاهما من خلق الله الواحد، والذي يستنتج من كثرة الأفعال، وتعدّدها، واختلافها كثرة الفاعلين؛ فقد أخطأ، وإنّ بيد الله تعالى الخير والشرّ، والهداية، والضّلال، وكل ما ترى في الكون، وفي الناس من ضروب العجائب وأنواع الغرائب، فهي من بديع السموات والأرض وجميل صنعته وعظيم قدرته، فهو الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [البقرة: 26- 27] . وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [البقرة: 264] . فهذه الآيات تدلّ على أنّ الضلال والهدى يرجعان إليه عزّ وجل، لكن الإنسان هو الذي يختار بادىء ذي بدء ما يفضي به إلى الضلال أو الهدى، فمن فسق عن أمر ربه، أو قطع الرحم، وأفسد في الأرض، وكفر، جاءه من الله الضلال، والضّلال لا يتقدّم الفسق، والقطيعة، والإفساد في الأرض، بل هو يعقب هذه الخلال، ويتلوها. إنّ الله عزّ وجل خلق بني آدم، ودلّهم على الخير والشرّ، وبصّرهم   (1) الخطل: المنطق الفاسد المضطرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 بالحسن والسيىء، ثم أمرهم بالخير، ونهاهم عن الشر، وهداهم الطريق المستقيم، وحذّرهم سوء العقبى إذا عصوه، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: 3] وهو الذي قد خلق كلّ شيء خيره وشره ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [غافر: 62] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] ثم بيّن لهم الخير من الشر، والحسن من السيىء أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] . ومما تقدّم تعلمون أنّه لا يوجد في الدّنيا خير لذاته ولا شرّ لذاته، وإنما يكون الأمر خيرا أو شرّا باختيار الإنسان، وبعمله، فإذا سلك الصراط المستقيم، كان بذلك راشدا واهتدى، وإذا سدر في الفساد والغيّ، وآثر بنيّات الطريق على الطريق المستقيم ضلّ، وغوى، وإذا صحّ اختياره لما ينفع، ويسعد أصاب الخير، وأتى بالحسن، وإذا ارتكب الشطط في اختيار ما يضرّ أصاب الشرّ، وكان من المخطئين. والذي يظن أنّ للكون إلهين اثنين؛ لأن في الكون خيرا وفيه شرا؛ فقد زاغت بصيرته، وأخطأ الحقيقة أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [فصلت: 6] والله وحده خالق كلّ شيء هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: 3] والله قد بلغ رسالاته وأحكامه بألسنة أنبيائه ومرسليه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32] وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 8- 10 ] . تعبّد الضّالين بتعذيبهم أنفسهم: ما من دين خلا من العبادة لله، لكن الأديان القديمة حسب أتباعها أنّ الدّين يطالبهم بإيذاء أجسامهم وتعذيبها، وأن الغرض من العبادة إدخال الألم على الجوارح، وأنّ الجسم إذا ازدادت آلامه كان في ذلك طهارة للروح، ونزاهة للنفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وعن هذه العقيدة نشأ التبتل «1» عند الهنادك، والرّهبانية عند النّصارى، وابتدعوا من رياضات الجسم أنواعا عجيبة أشدّها على الجسم أفضلها عندهم، وأقربها إلى الله في زعمهم؛ فمنهم من آلى على نفسه ألا يغتسل طول حياته، ومنهم من لا يلبس إلا المسوح والثياب الخشنة، وبعضهم آلى على نفسه أن يعيش عريان إلا من خرقة يستتر بها، ماضيا على ذلك مهما أثرت فيه حمارّة القيظ، أو زمهرير الشتاء، ومنهم من لزم كهفا فلا يبرحه أبدا، وبعضهم اختار لنفسه أن يبقى واقفا في حرّ الشمس طول حياته، ومنهم من يحلف ألا يقتات إلا بورق الشجر، ومنهم من بقي صارورة «2» حصورا لا يتزوج، ومنهم من يعدّ من العبادة والقربة إلى الله منع التناسل، وفيهم من يرفع إحدى يديه في الهواء، ويبقى كذلك طول عمره حتى تيبس يده وتجف، وكان بعضهم يحبس نفسه ما استطاع، وهو يحسب أن ذلك من العبادة، ولا يزال في الهند من يتعلّق بشجرة منكسا رأسه إلى تحت. وهذا كلّه وأمثاله مما كان عليه أتباع الأديان قبل مبعث محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ظانّين أنّ أعمالهم هذه من أقرب الوسائل إلى الله، ومن أفضل ما تزكى به النفوس وتطهر به الأرواح، فأنقذ الله عز وجل الإنسانية من هذا العذاب الأليم والأذى الشديد بالرسالة المحمدية الكاملة، وأرشدهم إلى أنّ ما يحسبونه عبادة من هذا السخف والشرّ إنما هو من الملاهي التي يتعلّل بها من زاغ بصره، والتوى عليه الرأي فظنّ في الله غير الحق، وقد أعلنت الرسالة المحمدية للناس هذه الحقيقة: «إنّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» «3» . وما يفعل الله بتعذيبكم لأجسادكم وجوارحكم. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] وجعل الرهبانية بدعة من عند الناس، لا من عند الله وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ [الحديد: 27] وفي الحديث النبوي «لا صرورة   (1) التبتّل: الانقطاع عن الدنيا إلى الله تعالى، وكذا (التبتيل) ومنه قوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل: 8] . (2) الصّارورة: يقال لمن لم يتزوّج. (3) رواه مسلم في كتاب البر (2564) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 في الإسلام» «1» وأنكر على الذين حرّموا على أنفسهم طيبات الدنيا، فقال عزّ وجل قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] ، وقد أنكر الله على رسوله حين حرم على نفسه العسل، فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: 1] ، والرسالة المحمّدية علّمت الناس لأول مرة أنّ حكمة العبادة إقرار العبد لربه بأنه عبده، ومطيع لأوامره إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 60] فالدّين الإسلاميّ يعلّم المسلمين خاصّة، وغيرهم عامّة: أنّ الله يريد منهم أن يؤمنوا به، ولا يشركوا به شيئا، وأن يطيعوا أوامره، ولا يستكبروا عليه، فلا جرم أن تظهر طاعتهم له في صور وأساليب متعددة من العبادة. وغاية العبادة في الإسلام اعتياد التقوى، والتمرن عليها يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] وثمرة الصلاة في الإسلام الكفّ عن الفحشاء والمنكر إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] أما الصّوم فمن الوسائل إلى نيل التقوى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] . وأما الحجّ فمن حكمته أنه لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ [الحج: 28] والزكاة تزكي القلوب، وتنزع منها رذيلة البخل، وتسدّ حاجات الفقراء، وتقضي ضرورات البائسين؛ لأنها تؤخذ من أغنياء الأمة وتردّ على فقرائها، قال الله عز وجل الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى [الليل: 18- 20] . ومن الدين عند المسلمين النكاح، والزواج، وقد قال لهم نبيهم «النكاح من سنّتي ومن يرغب عن سنّتي فليس منّي» «2» وعدّ القرآن الكريم أولاد الإنسان وأزواجه قرّة أعين له، وأرشدهم إلى أن يسألوا   (1) رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 234) : رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات. (2) رواه مسلم في النكاح (5063) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الله ذلك وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان: 74] . التضحية والأضاحي والقربان: وكان قتل المرء نفسه مما يتقرّب به الأقدمون إلى الآلهة، فكانوا ينذرون لآلهتهم قرابين بشرية تذبح كالأضاحي استرضاء للآلهة، فإذا سفكت دماء البشر لهذا الغرض نثرت دماؤهم على الأوثان، وربما أحرقت لحوم الأضاحي، وجمرت بها الأصنام، وبخرت بدخانها، ولأجل ذلك كان اليهود يحرقون لحوم الأضاحي، أمّا الإسلام فقد بيّن رسوله الكريم الغرض من الأضاحي، وحرّم ذبح الإنسان، وتقديمه قربانا، وأحل تضحية البهائم إلا أنه نهى أن يرش دم الأضاحي، أو تحرق لحومها، وقد ذكر الله عز وجل ما في التضحية من منافع للعباد بقوله وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج: 36- 37] أمّا العقيدة الفاسدة في التضحية فقد حملت الناس على أن يحسبوا أنّهم يملكون حياتهم، وموتهم، ويملكون أولادهم على حياتهم وزعموا أنهم يملكون أزواجهم، حياتهن وموتهن، وهذه العقيدة الفاسدة قد جرّت شرّا عظيما، وفسادا كبيرا في الحياة الاجتماعية، فأباحوا لأنفسهم الانتحار، وقتل الأولاد، ووأد البنات، وذبح الأبناء على النّصب، والأوثان، وانتحار الحلائل، أو إحراقهن أنفسهن بعد موت أزواجهن، وغير ذلك من المفاسد التي محاها الإسلام، واجتثّها من أصولها منذ أذّن في النّاس: أنّ النفوس لله، هو الذي يملكها، ولا يملكها أحد غيره، ولا تقتل نفس إلا بحقّ الله، لذلك لا يحلّ في الإسلام أكل لحم ذبيحة لم يذكر اسم الله عند ذبحها، والذي ينتحر؛ فإن الجنّة محرمة عليه، أما في أوربا المتحضرة وأمريكا المتمدنة فإنّ الانتحار لا يزال أفضل وسائل النجاة من مضائق الحياة وآلامها، والدول التي تحاول عبثا أن تأخذ على أيدي المنتحرين، فتذهب مساعي الحكام، والولاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 أدراج الرياح؛ لأنّ الناس يزعمون أنّهم يملكون أنفسهم، فلهم أن يتصرفوا فيها كما يشاؤون، والانتحار عندهم أفضل وسائل النجاة من آلام الدّنيا، ولا يرون أنّ بعد هذه الحياة حياة يؤاخذون فيها على الانتحار، وحتى لو أيقنوا أنهم يبعثون بعد مماتهم، وينشرون تارة أخرى، فإنهم يستبعدون أن يحاسبوا على انتحارهم وقتلهم أنفسهم، أما الإسلام فقد شدّد في أمر الانتحار، وعدّه جريمة عظيمة، وحذّر عاقبته، وعلّمهم أنّ هذه الوسيلة الذميمة لا يركن إليها في الخلاص من آلام الحياة وشدائدها، وأنّ من انتحر فقد أقدم على ما ليس له به من حق، لأنّ الحياة والموت من أمر الله، ومن تجاوز أمر الله استحقّ سخطه، وغضبه، وسيحلّ به عذاب الله في الحياة الآخرى، وهو أشدّ وأبقى من آلام الدّنيا التي أراد المنتحر أن يخلص منها وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء: 33] وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً [النساء: 29- 30] . النفوس ملك لله، فليس للإنسان أن ينتحر أو يحدّد النّسل: كان قتل البنات ووأدهن فاشيا بين العرب، وبين «الراجبوت» «1» من أهل الهند، وفي كثير من الممالك، فلما ظهر الإسلام أنكر ذلك ومحاه وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير: 8- 9] وقتل الأولاد لم يكن جريمة عند العرب، ولا يزال هذا المنكر باقيا في الأمم المتمدنة: يدفعهم إلى ذلك خشية الإملاق، وضيق النفقة، وربما يبرّرون ذلك بأنّ غلال البلاد وحاصلاتها لا تسدّ حاجات العمران البشري، فيقتلون أولادهم دفعا للأزمات الاقتصادية عن البلاد، والعرب وغيرهم لم يكونوا يرون تبعة على من أجهضت حملها، وقتلت ولدها، وكان الإغريق يتتبعون كلّ مولود يولد في بلادهم، فيقتلون منهم الضعفاء، والمخدجين، وناقصي الخلق، وقد يقذفونهم من قلل الجبال، ويستحيون منهم الأقوياء، وتامّي الخلق.   (1) الراجبوت: قبيلة من قبائل الهند المشهورة، اشتهرت بالبطولة والبسالة في الحروب، تسكن في راجهسان الولاية الشمالية في الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وتحديد النسل (Berth Control) بجميع طرقه المعروفة في هذه الأيام ليس إلا ضربا من ضروب قتل الأولاد، ووأد البنات، وقد نادى الإسلام في الناس أنه ما من أحد يرزق أحدا، وإنما الرزّاق هو الله المتكفل بحاجات خلقه، قال تعالى: * وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] وقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً [الإسراء: 31] . قضاء الإسلام على نظام الطبقات، وعلى التفاضل بالمال والنسب واللون: ومن أكبر الجرائم التي اقترفتها الأمم ولا تزال باقية في بلاد لم تبلغها دعوة الإسلام، ولم تشرق أنواره في أرضها، أنهم جعلوا ثراء المال، ونقاء الدّم، وشرف النّسب، وكرم المحتد، ولون البشرة أساس الكرامة، ورأس ما يتفاضلون به ويتفاخرون. وقد جعلوا لثراء المال، ونقاء الدم، وبياض اللون أصولا يرجعون إليها في هذا التفاضل بين أفراد الأمة، وبين الطوائف من الأمم، وسنّوا لذلك من القوانين والآداب في المعاشرة، والمجتمع ما يلائم أهواءهم ومذاهبهم في النّسب. أما الهند فقد عدّ الهنادك من أهلها كلّ من خرج عنهم من الأمم والناس أنجاسا مناكيد، فإن لمسهم لامس من غيرهم، أو صحافهم، أو مسّ أجسامهم رأوا أنهم قد تنجّسوا، ووجب عليهم أن يغتسلوا؛ لأن من سواهم رجس يجب أن يتطهّروا منه. وقسّم الهنادك أنفسهم أقساما ووزعوا بين هذه الأقسام حظوظا متفاوتة من الشّرف، فرفعوا بعضهم على بعض درجات، لا في الفضائل، والأخلاق، بل في أمور المعيشة، وشؤون الحياة، وأحكام الحكومة. فالشودر (وهم الطبقة السفلى منهم) يعدّون أنجاسا، وعبيدا، وخدّاما، وهم أصحاب المهن الحقيرة، ويرون أنّهم لاحظّ لهم في الدّين أيضا، وكذلك قدماء الفرس تفرقوا إلى أربع طوائف، وهكذا فعل أهل أوربا فخصّوا أنفسهم بأمر الحكومة والسّلطان على الأمم، ولم يتركوا لمن سواهم إلا أن يستعبدوا، ويخضعوا لحكمهم، وبنو إسرائيل عدّوا أنفسهم أبناء الله (تعالى الله عمّا يقولون) ومن سواهم من الأمم أذلة صاغرين. ثم فرقوا بين بني إسرائيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 أنفسهم، فأنزلوا طوائفهم منازل مختلفة، وجعلوا بعضهم فوق بعض، وهذه أوربا الرّاقية التي تدّعي دعاوى عريضة في الإخاء، والمساواة، والمدنية، ألسنا نرى أن الرّجل الأبيض قد أثقل كاهله بأعباء الحكم في العالم، ويرى أن غير الأوربي لا يستأهل السيادة والحكم، فالأبيض المثقف هو الذي اختص بالحضارة والاستعلاء، أما السّود- وكل من عداهم يعدونه من السود- فإنّهم لا يعدلونهم، ولا يساوونهم، بل إنّ بعض البيض يربؤون بأنفسهم أن يركبوا في أسفارهم مع الآسيوي في عربة واحدة من القطار، وترفعوا عن مجالسته، ومساكنته، وقد عزلوا الجنس الأسود (Negro) في إفريقية الجنوبية وأمريكا المتحضرة، فبنوا لهم أحياء منعزلة عن البيض؛ لأنهم لا حقّ لهم بأن يجاوروا البيض، فالأمريكيون الذين يدعون العدالة التامة، والإخاء العظيم يعاملون السود من سكان أمريكا نفسها أسوأ معاملة، ويضيقون عليهم حياتهم، كأنّهم ليسوا من البشر، أو من خلق الله، وفي جنوبي إفريقية وشرقيها ليس للسود، ولا للهنود، ولا للآسيويين عامّة من الحقوق المدنية والإنسانية مثل ما للإنسان في بلاد أخرى، ولم يقصروا جورهم هذا على الأمور الدنيوية، بل إنّهم عدوا طورهم، وجاوزوا الحقّ إلى الأمور الدينية، فبنوا الكنائس للبيض خاصّة وجعلوها بمعزل عن السود، فلا يأذنون للسود بدخول تلك الكنائس، وإنّ الأبيض يشمخ بأنفه، ويربأ بنفسه أن يدخل كنيسة يغشاها السود، أو الآسيويون، والإفريقيون، فليس للأسود أن يركع لله مع الغربي الأبيض أبدا. أمّا الإسلام؛ فقد محا هذه الفوارق والعصبيات الذميمة كلّها، وأنكر أن يكون التفاضل باللون، والدم، والنسب وسوّى بين بني آدم كلهم، وهدم كلّ ما كان يحول بين المرء وأخيه من ثراء المال، ونقاء الدم، ولون البشرة، والجاه العريض، والنسب الأصيل، والمجد الأثيل. وكانت قريش تعتزّ بابائها، وتباهي بأنسابها، فخاطبهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم وقف فيهم خطيبا في فناء المسجد الحرام يوم فتح مكة، فقال لهم: «يا معشر قريش! إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وتعظمها بالآباء، النّاس من آدم وآدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 من تراب» «1» . ثم أعلن الرسول صلّى الله عليه وسلم في جمع عظيم، وحفل هائل يوم حجّة الوداع: أنّ لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ إلا بالتّقوى. كلّكم أبناء آدم، وآدم من تراب. فملاك الشرف والمجد التقوى، والعمل هو الذي يرفع صاحبه أو يضعه. وإنّ الله قد أذهب عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، فالمرء إما مؤمن تقيّ، أو فاجر شقيّ «2» ، وقد خاطب الرسول فيها عامة الناس بلسان الوحي: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وقال سبحانه: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا [سبأ: 37] ثم آخى بين المسلمين وجعلهم إخوة، فقال عزّ من قائل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] وقد نادى الرسول يوم حجة الوداع في جمع من المسلمين عظيم يبلغ عددهم مئة ألف أو يزيدون: «المسلم أخو المسلم» «3» . فهذه المساواة والمؤاخاة قد محتا الفوارق بين الهنديّ، والأفغانيّ، والصينيّ، والتركيّ، والإيرانيّ، والأندنوسيّ، والعربيّ، وبين الشرقي والغربي، بل ذهبتا بكل ما يفرّق بين الأسود والأبيض من فوارق الجنسية، واللون، والدم، وأعلن الله إحسانه إليهم بقوله: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمران: 103] . إنّ أبواب بيوت الله مفتوحة في الإسلام لكلّ مسلم بلا تفريق بينهم في   (1) ثم تلا صلّى الله عليه وسلم هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13] . (زاد المعاد، الجزء الأول، ص 424) . (2) وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله قد أذهب عنكم عبيّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقيّ وفاجر شقيّ، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعنّ رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنّم، أو ليكوننّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النّتن» . [رواه أبو داود (5116) ] . (3) رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» . [البخاري (2442) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 المهن، والأجناس، والمراتب الاجتماعية؛ لأنهم لا يتفاضلون بالثراء، ولا يتفاوتون في الآباء، واختلاف المحتد، وليس في الإسلام نظام طبقات كما بين البراهمة والشودر (المنبوذين) ، فلكلّ مسلم أن يتلو كتاب الله، وأن يؤمّ الناس في الصلاة، من أيّ بيت كان، ومن أيّ قوم كان. والتزاوج مطلق بين طوائف المسلمين وأجناسهم، وباب العلم مفتوح لكل داخل، بل هو نهب مقسم بين الجميع، والناس سواء في الحقوق، وفي أحكام القصاص: الدم بالدم، والنّفس بالنفس. إخواني الأعزاء! كان بودّي أن أذكر عن رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم كل ما أحسنت به إلى الإنسانيّة، وأن أعدّد أفضالها، ونعمها على جميع طبقات البشر، ولكن وقتنا لم يسمح بذلك، ومثل هذا الموضوع العظيم يحتاج إلى وقت أطول، وأوسع من الوقت الذي تحدّثت إليكم فيه، ممّا كنت أحب أن أبسطه لكم فضل الرسالة المحمّدية على الرقيق والمستعبدين في الأرض من بني البشر، والحقوق الممنوحة لهم في الإسلام، والمستوى الذي رفعهم الإسلام إليه لأول مرّة. وكنت أحب أن ألمّ بما للرسالة المحمدية من جميل نحو النّساء، وما حفظت من حقوقهن، وما رعت من كرامتهن. كان بودّي أن أفصّل لكم جميع هذا، وكثيرا غيره تفصيلا تتبيّنوا منه أن أوربا التي تدعي التقدّم الفكريّ لا تزال وراء الإسلام بمسافات طويلة، ولن تضارعه فيما قدّم للإنسانية من رعاية، وما أسدى إليها من حقوق. من أعظم الجرائم فصل الدين عن الدّنيا: إن من أعظم الجرائم التي عمّ بها الضّلال وطمّ الدعوة إلى التفريق بين الدّين والدّنيا، حتى صار يقال: هذا من حكم السلطان، وهذا من حكم الرّحمن، وحتى صاروا يميزون بين ما يكسبون به الدّنيا، وما يكسبون به الدّين، وقد أفردوا لكلّ واحد منهما طريقا غير طريق الآخر. والرسالة المحمدية هي التي كشفت الستار عن وجه الحقيقة في ذلك، فأعلنت في أرجاء الدنيا ما بين أمور الدين وأمور الدنيا من التلازم، وأنّ أعمال الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 التي يراد بها وجه الله، والفوز في الآجلة؛ إنّما هي من صميم الدّين، ومن الدّين أن يقوم الناس بأمور الدّنيا من تجارة، وزراعة، وصناعة، وحرفة، وخدمة بالطريقة السليمة التي هدى إليها الدين، وأرشدت إليها تعاليمه، ومن أعظم الخطأ أن يحسب الناس أنّ الدين منحصر في العبادة من صلاة وصوم، وفي الفرار من الناس واعتزالهم في مغارة، أو جبل للعبادة، بزعم أنّ اشتغال المرء بأمور نفسه وشؤون أولاده وعياله، والمشاركة في مصالح أمته، وبلاده، وأحبابه، وخلانه هو من أمور الدّنيا، لا من أمور الدين، كلّا، بل إنّ هذه العقيدة قد أعلن رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلم فسادها، وأبدى عوارها بدعوته، وبلاغه من جهة، وبحياته المثلى من جهة أخرى، وقد بيّن بقوله وعمله أنّ أمور الدّنيا التي تؤدّى بالطريق الذي هدى إليه الدين تعدّ من الدّين، ويثيب الله عليها كما يثيب على العبادات وغيرها ممّا هو من صميم الدّين. الإسلام إيمان بالحقّ وعمل به: ألا إن ملاك النجاة للإنسان في الإسلام الإيمان، والعمل الصالح. أما الإيمان فهو الإيقان بالله وحده، والإيقان بأنّ رسله إنّما بعثوا لهداية البشر ودلالتهم على طريق الله، والإيقان بالملائكة الذين هم رسل الله بينه وبين من أرسل إليهم من البشر، وبالكتب التي أنزلت على الرسل، وفيها أحكام الله من الأوامر، والنواهي، والإيقان بأنّ الله يحاسب الإنسان على أعماله، ويجزيه خيرا عمّا يعمله من خير، أو شرّا عما يصدر عنه من شرّ، فهذه الخمسة هي أساس الإيمان وملاكه، والإيمان أساس العمل، ومن لا إيمان له لا ينتظر منه الخلاص فيما يصدر عنه من عمل. والمراد بالعمل أن تكون تصرفات الإنسان صالحة، وللأعمال ثلاثة ضروب كما ذكرت في المحاضرة السابقة من هذا الكتاب «1» : الضرب الأول: (العبادات) ، وهي عبارة عن تعظيم الإنسان لإلهه الذي خلقه، وعن خشوعه له وخضوعه لأوامره وإظهار افتقاره له. الضرب الثاني: (المعاملات) وهي ما يتعاطاه الناس فيما بينهم لتبادل مصالحهم،   (1) انظر المحاضرة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 واستعمال مرافقهم، ومنها أحكام الدولة وقوانينها التي يراعيها الإنسان، ويتقيّد بها ليسود الأمن، ويعمّ السلام في البلاد، فلا يقع فيها الفساد والفوضى التي تنتهي إلى الهرج، والمرج، والهلاك، والدّمار. والضرب الثالث: (الأخلاق) وهي القيود التي توجب الآداب التقيّد بها، وإن لم تفرض على الناس بالتشريع وأحكامه القانونية، وباتباعها تطهر القلوب، وتزكو النفوس، ويرتفع مستوى المجتمع البشري، ويتقدّم في إنسانيته. وهذه الأربعة- الإيمان، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق- هي التي تهيىء للمجتمع أسباب النجاة. سادتي وإخواني! سامحوني إذا قلت لكم: إنّ التبتل في الدنيا، والعزلة عن المجتمع، وحبّ الخلوة عن الناس ولو لذكر الله ليست مما يحتمه الإسلام، ويدعو إليه، والإسلام نشاط دائم، وجهاد طويل، لذلك تراه يحثّ المسلمين على أن يكونوا دائما في عمل، وسعي، ونشاط، وذلك ينافي السكون الدائم، والانصراف عن الحركة والعمل وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: 39] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثّر: 38] ، فالعزلة عن الناس ليست من الإسلام، بل من الإسلام الإقدام في معترك الحياة، واقتحام حلبة الحركة، والزّحام لنشر دعوة الحقّ والخير، وإصلاح البشر، وبين أيديكم التأسي برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحابه، فإذا عملتم كما عملوا، وجاهدتم كما جاهدوا، وثابرتم على إقامة الحق، كما ثابروا؛ كنتم مسلمين حقّا، كما كانوا، وكتب الله لكم مثل الذي كتب لهم من الفلاح في الدّنيا، والنّجاة في الآخرة. إن محمدا صلّى الله عليه وسلم لم يدع إلى مثل ما دعا إليه (بوذا) من هجر الدنيا، ومعارضة الفطرة بقمع الشهوات، ومحاولة انتزاعها من النفوس، بل دعا إلى تعديلها، وتسكين ثورتها، والحدّ من شططها، والإسراف فيها. ولم يدع إلى مثل ما يقال عن دعوة المسيح من احتقار الثروة والقوة، بل دعا إلى تحرّي الطرق الصالحة في الحصول عليهما، وفي حسن استعمالهما. إنما الإسلام إيمان بالحقّ، وعمل به، ولذلك تفاصيل، وفروع ومساع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 متنوعة، وجهاد عظيم، وكفاح متواصل، فترك العمل عكس ما جاء به الإسلام، والدّين الذي يأمر بالفرائض لا يعقل أن يرضى بالإعراض عنها. وإن شئتم تفصيل ذلك فاقرؤوا سيرة الرسول، وادرسوا تراجم أصحابه، أليس الله عز وجل قد وصف نبيه صلّى الله عليه وسلم بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً [الفتح: 29] . كان في جهاد عظيم، وكفاح مستمر، وما برح طول حياته الشريفة مختلطا بالناس متحدثا إلى أصحابه، يجالسهم، ويساكنهم، ويؤاكلهم، ويشاركهم، ويلقاهم بوجه طلق، وقلب نقيّ سليم متعلق بالله، وبما يرضى به الله، وقد تراه راكعا ساجدا لله، كما قد تراه عاملا ساعيا يبتغي الفضل من الله، ويكسب رزقه بعمله مع تعلّق قلبه بربه، لا يلهيه عن ذلك شيء رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37] فهو إذا ذكر الله لا يحمله ذلك على ترك الدنيا والعمل فيها، وهجر أهله وعياله، وإذا قام بعمل الدّنيا لا ينقطع مع ذلك عن ذكر الله بقلبه، وتحرّي مرضاته في كلّ ما يعمله. ألم يأتكم نبأ المسلمين وهم يقاتلون الرّوم في بلاد الشام؟ إنّ العدو أرسل عيونا يتجسّسون له أحوال المسلمين في معسكرهم، ولما عادوا إلى قائدهم قالوا: لقد رأينا عجبا، «إنهم بالليل رهبان، وفي النّهار فرسان» «1» . إخواني! اليوم آخر عهدي بكم في هذه المحاضرات. وكنت أحسبني قادرا على أن أصف لكم رسول الإسلام ورسالته وصفا كاملا، وإني سأوفيهما حقهما مبينا سيرة الرسول الطاهرة ومناحيها المختلفة في هذه المحاضرات الثمان، وهاهي ذي المحاضرة الثامنة قد انتهت، وفرغت الآن من إلقائها، ولكن الرسالة المحمّدية قد بقيت منها نواح لم أوفّها حقّها من البيان. اللهمّ صلّ على محمّد وآله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين   (1) قول أسير روميّ في وصف المسلمين أمام هرقل، [البداية والنهاية، ج 7، ص 52] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فهرس الموضوعات مقدمة الكتاب 5 ترجمة العلامة سيد سليمان الندوي 9 مقدمة المؤلف 13 المحاضرة الأولى: سيرة الأنبياء هي الأسوة الحسنة للبشر 15 خصائص النبات أكثر من خصائص الجماد فواجباته أكثر، وخصائص الحيوان أكثر من خصائص النبات فواجباته أكثر، ومدارك الإنسان أرقى فواجباته أعظم 16 مسؤولية الإنسان بقدر مواهبه 20 حكمة إرسال الله الرسل للبشر 22 الفرق بين دعوة الرسل ودعاوى غيره 23 خلود دعوة الرسل واضمحلال دعاوى غيرهم 29 ما من طائفة من الناس أصلحت فساد المجتمع إلا الأنبياء 31 إن الهداية والدعوة لا تثمر وتبقى إلا بالقدوة والأسوة 34 المحاضرة الثانية: السيرة المحمدية هي العامة الخالدة 37 امتياز محمد صلّى الله عليه وسلم كان شاهدا ومبشرا ونذيرا 38 السيرة المحمدية هي السيرة التاريخية 40 سيرة متبوعي الهنادك ليست تاريخية 41 سيرة بوذا ليست تاريخية 43 الذي نعلمه عن كونفوشيوس أقل من الذي نعلمه عن بوذا 43 شكوك العلماء المحققين في كثير من سير أنبياء بني إسرائيل 44 الكلام على الأناجيل من ناحية التاريخ 45 ليس في أصحاب الدعوات من يمكن التأسي به إلا محمد صلّى الله عليه وسلم 46 ما يمكن معرفته من أسفار التوراة عن موسى 48 شؤون حياة المسيح أخفى من غيره وأغمض 50 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الحياة المثالية هي التي يبدأ صاحب دعوتها بنفسه فيعمل بما يدعو إليه 51 الحسنات السلبية والحسنات الإيجابية 57 اشتراط أن تكون سيرة المتبوع تاريخية، وجامعة، وكاملة، وعملية 58 المحاضرة الثالثة: السيرة المحمدية من الناحية التاريخية 60 امتياز الإسلام بحفظ السيرة النبوية وتراجم الصحابة والتابعين والأئمة والمتبوعين 61 عناية الصحابة بحفظ الحديث النبوي وعناية التابعين والأئمة والمتبوعين 62 الكلام على التابعين، وأساتذتهم من الصحابة 63 المستشرقون وتشكيكهم في رواية الحديث والكلام على الحفظ والكتابة 67 كتابة الحديث في العهد النبوي 69 التابعون الذين دونوا الحديث 79 جمع الحديث له ثلاثة أطوار 80 علم نقد الحديث من جهة الدراية والفهم 82 ستة مصادر لسيرة النبي صلّى الله عليه وسلم وهديه 83 كتب السيرة المحمدية تعد بالألوف 87 مرجليوث أشد المستشرقين تحاملا على الإسلام 87 اعترافات كبار المستشرقين حول السيرة النبوية 88 السيرة النبوية أوثق رواية وأكثر صحة من كل ما كتب في سيرة النبيين 90 المحاضرة الرابعة: السيرة المحمدية من ناحية كمالها وتمامها وإحاطتها بشؤون الحياة البشرية 91 لا تكون حياة أحد كاملة إلا إذا كانت معلومة للناس، وحياة محمد صلّى الله عليه وسلم من ميلاده إلى ساعة وفاته معلومة التفاصيل بجميع دخائلها 92 مثال من كتب الشمائل لتفاصيل ما يعرفه التاريخ عن محمد صلّى الله عليه وسلم من جليل ودقيق 94 كلمتا المستشرقين الكبيرين عما يعرفه التاريخ من دخائل محمد صلّى الله عليه وسلم 95 تفاصيل أخرى عما يعرفه التاريخ عنه صلّى الله عليه وسلم 95 استقصاء ابن القيم في زاد المعاد كل أحوال النبي صلّى الله عليه وسلم الخاصة وشؤونه اليومية 97 إباحة النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه أن يذكروا عنه كل ما يعرفونه بلا تحفظ 99 كان الرسول صلّى الله عليه وسلم معروف الدخائل لأعدائه أيضا، فلم ينقلوا عنه إلا خيرا 101 شهادة أبي سفيان قبل إسلامه للنبي صلّى الله عليه وسلم عند هرقل 103 رجاحة عقول العرب تجعلهم لا ينخدعون في أمر الرسول فاتبعوه وهم على بينة 104 لو كتم الرسول شيئا لكتم ما في القرآن من مؤاخذته 106 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 كلمات كبار المستشرقين في المقارنة بين محمد صلّى الله عليه وسلم والذين قبله 106 سنن الأمم السالفة في الأخلاق بادت ولم يبق إلا سنن الإسلام 110 المسلمون لا يحتاجون من خارج دينهم إلى أصول وضوابط 111 المحاضرة الخامسة: السيرة المحمدية من ناحيتها الجامعة 113 الأديان الآخرى تتحرى أقوال أنبيائها والمسلمون يتحرون أعمال نبيهم 114 حياة محمد صلّى الله عليه وسلم جمعت ما تفرق في الأنبياء مما امتازوا به 116 انتباه أحد البراهمة لهذه الناحية من الحياة المحمدية 119 ما أعطى الله الرسل جميعا متفرقين قد أوتيه محمد صلّى الله عليه وسلم وحده 123 مقارنات بين النبي صلّى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء 124 مدرسة محمد صلّى الله عليه وسلم كانت جامعة للطوائف وعامة للأمم 128 استعراض نماذج من تلاميذ مدرسة محمد صلّى الله عليه وسلم 131 إن العالم لا تتم هدايته إلا بالمصلح الأخير للدنيا 145 المحاضرة السادسة: الناحية العملية من السيرة المحمدية 146 كيف نتبع الرسول وفيم نتبعه؟ 147 مقارنة بين نتائج عظة جبل الزيتون، ونتائج دعوة جبل الصفا 148 ما شهد به لمحمد صلّى الله عليه وسلم أقرب الناس إليه وأعرفهم به 151 كان صلّى الله عليه وسلم أول من يعمل بما يأمر الناس به 153 مقارنة بين عظة «أحبوا أعدءكم» ومعاملة النبي صلّى الله عليه وسلم لأعدائه 164 مقارنة بينه صلّى الله عليه وسلم وبين الأنبياء من آدم إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام 175 المحاضرة السابعة: رسالة رسول الإسلام إلى جميع الأنام 177 ما هي السيرة الكاملة الجامعة في الرسول، وماذا بلغ عن ربه 178 كفالة الله حفظ الرسالة المحمدية لأنها رسالة الحاضر والمستقبل 179 الإسلام أول رسالة عامة في تاريخ الإنسانية 180 الدين إيمان وعمل، ولم يجتمعا إلا في الإسلام 182 مقارنات بين رسالة الإسلام والرسالات الآخرى 183 مقارنة بين الوصايا العشر والآيات من سورة الإسراء 183 عناية الشرع المحمدي بكرامة الجنس البشري ومكانته من سائر المخلوقات 188 الرسالة المحمدية عرفت الناس بأقدارهم وأنزلتهم منازلهم 190 الإسلام وحقيقة التوحيد 191 فطرة الإنسان في الإسلام بريئة في الأصل ولم يولد آثما 193 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الدين والفطرة كلمتان لمدلول واحد 193 الناس سواسية في الإسلام، والدنيا كلها لله وحده 194 الإسلام سوى بين جميع الأنبياء ودعا إلى الإيمان بهم جميعا 195 دين الله بين الذين غلو في الأنبياء والذين فرّطوا فيهم 197 المحاضرة الثامنة: السيرة المحمدية من الناحية العملية 200 فساد الأديان السابقة بسبب التشبيه وتجسيم الصفات الإلهية 201 فساد الأديان بسبب فصل الصفات الإلهية عن الذات 204 فساد الأديان بسبب تعديد أهلها الفاعل بتعدد أفعاله 206 منشأ الخير والشر حسن استعمال الأمور أو سوء استعمالها 207 الهدى والضلال بما كسبت أيدي الناس 208 تعبد الضالين بتعذيبهم أنفسهم 209 التضحية والأضاحي والقربان 212 النفوس ملك لله، فليس للإنسان أن ينتحر أو يحدد النسل 213 قضاء الإسلام على نظام الطبقات، وعلى التفاضل بالمال والنسب واللون 214 من أعظم الجرائم فصل الدين عن الدنيا 217 الإسلام إيمان بالحق وعمل به 218 فهرس الموضوعات 222 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224