الكتاب: الرحيق المختوم المؤلف: صفي الرحمن المباركفوري (المتوفى: 1427هـ) الناشر: دار الهلال - بيروت (نفس طبعة وترقيم دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع) الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الرحيق المختوم صفي الرحمن المباركفوري الكتاب: الرحيق المختوم المؤلف: صفي الرحمن المباركفوري (المتوفى: 1427هـ) الناشر: دار الهلال - بيروت (نفس طبعة وترقيم دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع) الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] المدخل بحث في السّيرة النّبويّة على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام تأليف فضيلة الشيخ صفي الرحمن المباركفوري الجامعة السلفيّة- الهند البحث الفائز بالجائزة الأولى لمسابقة السيرة النبويّة التي نظمتها رابطة العالم الاسلامي دار الفكر: طبعة خاصة بدار ومكتبة الهلال بيروت- لبنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 كلمة معالي الشيخ محمد علي الحركان الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الحمد لله رب العالمين، خالق السموات والأرض، وجاعل الظلمات والنور، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والرسل أجمعين، بشّر وأنذر، ووعد وأوعد، أنقذ الله به البشر من الضلالة، وهدى الناس إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور، وبعد: فلما أعطى الله سبحانه وتعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم الشفاعة والدرجة الرفيعة، وهدى المسلمين إلى محبته، وجعل اتباعه من محبته تعالى فقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، فكان هذا من الأسباب التي صيرت القلوب تهفو إلى محبته صلّى الله عليه وسلم، وتتلمس الأسباب التي توثق الصلة فيما بينها وبينه صلّى الله عليه وسلم، فمنذ فجر الإسلام والمسلمون يتسابقون إلى إبراز محاسنه، ونشر سيرته العطرة صلّى الله عليه وسلم، وسيرته صلّى الله عليه وسلم هي أقواله وأفعاله وأخلاقه الكريمة، فقد قالت السيدة عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم رضي الله عنها: «كان خلقه القرآن، والقرآن كتاب الله وكلماته التامة، ومن كان كذلك كان أحسن الناس وأكملهم وأحقهم بمحبة خلق الله جميعا» . ولم يزل المسلمون متمسكين بهذه المحبة الغالية التي انبثق عنها المؤتمر الإسلامي الأول للسيرة النبوية الشريفة الذي عقد بباكستان سنة 1396 هـ، حيث أعلنت الرابطة في هذا المؤتمر عن جوائز مالية مقدارها مائة وخمسون ألف ريال سعودي، توزع على أحسن خمسة بحوث في السيرة النبوية بالشروط الآتية: 1- أن يكون البحث متكاملا مع ترتيب الحوادث التاريخية حسب وقوعها. 2- أن يكون جيدا ولم يسبق نشره من قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 3- أن يذكر الباحث جميع المخطوطات والمصادر العلمية التي اعتمد عليها في كتابة البحث. 4- أن يكتب الباحث ترجمة كاملة ومفصلة عن حياته، مع ذكر مؤهلاته العلمية ومؤلفاته إن وجدت. 5- أن يكتب البحث بخط واضح، ويستحسن نسخه على الآلة الكاتبة. 6- تقبل البحوث باللغة العربية واللغات الحية الآخرى. 7- يبدأ قبول البحوث من غرة ربيع الثاني 1396 هـ، وينتهي موعد القبول بغرة محرم 1397 هـ. 8- تسلم البحوث إلى الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في ظرف مختوم، وتضع الأمانة عليه رقما تسلسليا خاصا. 9- تقوم بفحص البحوث لجنة عليا من كبار العلماء في هذا الشأن. فكان هذا الإعلان حافزا لتسابق العلماء الذين وهبهم الله حب رسوله صلّى الله عليه وسلم، واستعدت رابطة العالم الإسلامي لاستقبال هذه البحوث باللغات العربية والإنجليزية والأردية وأية لغة أخرى. وبدأ الإخوان الكرام في إرسال بحوثهم بهذه اللغات، وقد بلغ عددها واحدا وسبعين ومائة بحث منها: 84 بحثا باللغة العربية، 64 بحثا باللغة الأردية، 21 بحثا باللغة الإنجليزية، وبحث واحد فقط باللغة الفرنسية، وبحث واحد فقط باللغة الهوساوية. وقد كونت الرابطة لجنة من كبار العلماء لدراسة هذه البحوث وترتيبها حسب استحقاق الفائز للجائزة، وقد كان الفائزون بالجوائز حسب الترتيب الآتي: 1- الفائز بالجائزة الأولى الشيخ صفي الرحمن المباركفوري من الجامعة السلفية بالهند، ومقدار جائزته خمسون ألف ريال سعودي. 2- الفائز بالجائزة الثانية الدكتور مجيد علي خان من الجامعة المحلية الإسلامية نيودلهي الهند، ومقدار جائزته أربعون ألف ريال سعودي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 3- الفائز بالجائزة الثالثة الدكتور نصير أحمد ناصر رئيس الجامعة الإسلامية بباكستان، ومقدار جائزته ثلاثون ألف ريال سعودي. 4- الفائز بالجائزة الرابعة الأستاذ حامد محمود محمد منصور ليمود من جمهورية مصر العربية، ومقدار جائزته عشرون ألف ريال سعودي. 5- الفائز بالجائزة الخامسة الأستاذ عبد السلام هاشم حافظ من المدينة المنورة المملكة العربية السعودية، ومقدار جائزته عشرة آلاف ريال سعودي. وقد أعلنت الرابطة أسماء الفائزين في المؤتمر الإسلامي الآسيوي الأول الذي عقد في كراتشي في شهر شعبان سنة 1398 هـ. كما أعلن عن ذلك في جميع الصحف. وبهذه المناسبة أقامت الأمانة العامة للرابطة بمقرها بمكة المكرمة حفلا كبيرا، تحت إشراف صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز، وكيل إمارة منطقة مكة المكرمة، نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير فواز بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة، حيث تفضل سموه بتوزيع الجوائز على أصحابها، وذلك صباح يوم السبت الموافق 12 ربيع الأول سنة 1399 هـ. وفي هذا الحفل أعلنت الأمانة العامة أنها ستقوم بطبع البحوث الفائزة ونشرها بعدة لغات، وتنفيذا لذلك ها هي ذي تضع بين يدي القارئ الكريم باكورة طبعات تلك البحوث، وهو بحث الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، من الجامعة السلفية بالهند لأنه الفائز بالجائزة الأولى، وستوالي طبع بقية البحوث الفائزة حسب ترتيبها، سائلين الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا جميعا أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه نعم المولى ونعم النصير. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد بن علي الحركان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 كلمة المؤلف الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فجعله شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وجعل فيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وفجر لهم ينابيع الرحمة والرضوان تفجيرا. وبعد، فإن من دواعي الغبطة والسرور أن رابطة العالم الإسلامي أعلنت عقب مؤتمر السيرة النبوية الذي انعقد في باكستان في شهر ربيع الأول من سنة 1396 هـ بإقامة مسابقة على مستوى العالم الإسلامي، للبحث حول موضوع السيرة النبوية- على صاحبها ألف ألف صلاة وسلام- تنشيطا للكاتبين، وتنسيقا لجهودهم الفكرية، وإني أرى أن هذا العمل له قيمة كبيرة ربما لا يحيط بوصفها البيان. فإن السيرة النبوية والأسوة المحمدية على صاحبها ما يستحق من الصلاة والسلام- إذا لا حظناها بعين الدقة والإعتبار- هي المنبع الوحيد الذي تتفجر منه ينابيع حياة العالم الإسلامي وسعادة المجتمع البشري. وإن من سعادتي وحسن حظي أني أساهم في تلك المسابقة المباركة، ولكن أين أنا حتى ألقي ضوآ على حياة سيد الأولين والآخرين صلّى الله عليه وسلم. وإنما أنا رجل يرى لنفسه كل السعادة والفلاح أن يقتبس من نوره، حتى لا يتهالك في دياجير الظلمات، بل يحيا وهو من أمته، ويموت وهو من أمته، ويغفر الله له ذنوبه بشفاعته. وكلمة بسيطة أرى أن أقدمها عن منهجي في مقالتي هذه: إني قبل أن آخذ في كتابة المقالة رأيت أن أضعها في حجم متوسط متجنبا التطويل الممل والإيجاز المخل، ولكني كثيرا ما رأيت في المصادر اختلافا كبيرا في ترتيب الوقائع، أو في تفصيل جزئياتها، وفي مثل هذه المواقع قمت بالتحقيق البالغ، وأدرت النظر في جميع جوانب البحث. ثم أثبت في صلب المقالة ما ترجح لدي بعد التحقيق. ولكن احترزت عن إيراد الدلائل والبراهين؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 لأن ذلك يفضي إلى طول غير مطلوب. نعم! ربما أشرت إلى الدلائل حين خفت الإستغراب ممن يقرأ المقالة، أو حين رأيت عامة الكاتبين ذهبوا إلى خلاف الصحيح. اللهم قدر لي الخير في الدنيا والآخرة، إنك أنت الغفور الودود ذو العرش المجيد. الجمعة المباركة 24/ 7/ 1396 هـ 23/ 7/ 1976 م صفي الرحمن المباركفوري الجامعة السلفية بنارس الهند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 موقع العرب وأقوامها إن السيرة النبوية- على صاحبها الصلاة والسلام- عبارة في الحقيقة عن الرسالة التي حملها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المجتمع البشري، وأخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله. وإذن فلا يمكن إحضار صورتها الرائعة بتمامها إلا بعد المقارنة بين خلفيات هذه الرسالة وآثارها. ونظرا إلى ذلك نقدم فصلا عن أقوام العرب وتطوراتها قبل الإسلام، وعن الظروف التي بعث فيها محمد صلّى الله عليه وسلم. موقع العرب العرب لغة: الصحاري والقفار، والأرض المجدبة التي لا ماء فيها ولا نبات. وقد أطلق هذا اللفظ منذ أقدم العصور على جزيرة العرب. كما أطلق على قوم قطنوا تلك الأرض، واتخذوها موطنا لهم. وجزيرة العرب يحدها غربا البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء، وشرقا الخليج العربي وجزء كبير من بلاد العراق الجنوبية، وجنوبا بحر العرب الذي هو امتداد لبحر الهند، وشمالا بلاد الشام وجزء من بلاد العراق على اختلاف في بعض هذه الحدود، وتقدر مساحتها ما بين مليون ميل مربع إلى مليون وثلاثمائة ألف ميل مربع. والجزيرة لها أهمية بالغة من حيث موقعها الطبيعي والجغرافي؛ فأما باعتبار وضعها الداخلي فهي محاطة بالصحاري والرمال من كل جانب، ومن أجل هذا الوضع صارت الجزيرة حصنا منيعا لا يسمح للأجانب أن يحتلوها ويبسطوا عليها سيطرتهم ونفوذهم. ولذلك نرى سكان الجزيرة أحرارا في جميع الشؤون منذ أقدم العصور، مع أنهم كانوا مجاورين لإمبراطوريتين عظيمتين لم يكونوا يستطيعون دفع هجماتهما لولا هذا السد المنيع. وأما بالنسبة إلى الخارج فإنها تقع بين القارات المعروفة في العالم القديم. وتلتقي بها برا وبحرا. فإن ناحيتها الشمالية الغربية باب للدخول في قارة أفريقية، وناحيتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الشمالية الشرقية مفتاح لقارة أوروبا، والناحية الشرقية تفتح أبواب العجم والشرق الأوسط والأدنى. وتفضي إلى الهند والصين، وكذلك تلتقي كل قارة بالجزيرة بحرا، وترسي سفنها وبواخرها على ميناء الجزيرة رأسا. ولأجل هذا الوضع الجغرافي كان شمال الجزيرة وجنوبها مهبطا للأمم ومركزا لتبادل التجارة، والثقافة، والديانة، والفنون. أقوام العرب وأما أقوام العرب فقد قسمها المؤرخون إلى ثلاثة أقسام بحسب السلالات التي ينحدرون منها: 1- العرب البائدة: وهم العرب القدامى الذين لم يمكن الحصول على تفاصيل كافية عن تاريخهم، مثل: عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وسواها. 2- العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان، وتسمى بالعرب القحطانية. 3- العرب المستعربة: وهي العرب المنحدرة من صلب إسماعيل، وتسمى بالعرب العدنانية. [2- العرب العاربة:] أما العرب العاربة- وهي شعب قحطان- فمهدها بلاد اليمن، وقد تشعبت قبائلها وبطونها فاشتهرت منها قبيلتان: أ- حمير ، وأشهر بطونها زيد الجمهور، وقضاعة، والسكاسك. ب- كهلان ، وأشهر بطونها همدان، وأنمار، وطيء، ومذحج، وكندة، ولخم، وجذام، و الأزد، والأوس، والخزرج، وأولاد جفنة ملوك الشام. وهاجرت بطون كهلان عن اليمن، وانتشرت في أنحاء الجزيرة، وكانت هجرة معظمهم قبيل سيل العرم حين فشلت تجارتهم؛ لضغط الرومان وسيطرتهم على طريق التجارة البحرية، وإفسادهم طريق البر بعد احتلالهم بلاد مصر والشام. ولا غرو فقد كانت منافسة بين بطون كهلان وبطون حمير أدت إلى جلاء كهلان، ويشير إلى ذلك بقاء حمير مع جلاء كهلان. ويمكن تقسيم المهاجرين من بطون كهلان إلى أربعة أقسام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 1- الأزد: وكانت هجرتهم على رأي سيدهم وكبيرهم عمران بن عمرو مزيقباء فساروا يتنقلون في بلاد اليمن ويرسلوها الرواد، ثم ساروا بعد ذلك إلى الشمال. وهاك تفصيل الأماكن التي سكنوا فيها بعد الرحلة نهائيا: عطف ثعلبة بن عمرو من الأزد نحو الحجاز، فأقام بين الثعلبية وذي قار، ولما كبر ولده وقوي ركنه سار نحو المدينة، فأقام بها واستوطنها. ومن أبناء ثعلبة هذا: الأوس والخزرج، ابنا حارثة بن ثعلبة. وانتقل منهم حارثة بن عمرو- وهو خزاعة- وبنوه في ربوع الحجاز، حتى نزلوا بمر الظهران، ثم افتتحوا الحرم فقطنوا مكة وأجلوا سكانها الجراهمة. ونزل عمران بن عمرو في عمان، واستوطنها هو وبنوه، وهم أزد عمان، وأقامت قبائل لفر بن الأزد بتهامة، وهم أزد شنوءة. وسار جفنة بن عمرو إلى الشام فأقام بها وهو وبنوه، وهو أبو الملوك الغساسنة. نسبة إلى ماء في الحجاز يعرف بغسان كانوا قد نزلوا بها أولا قبل تنقلهم إلى الشام. 2- لخم وجذام: وكان في اللخميين نصر بن ربيعة أبو الملوك المناذرة بالحيرة. 3- بنو طيء: ساروا بعد مسير الأزد نحو الشمال حتى نزلوا بالجبلين أجا وسلمى، وأقاموا هناك، حتى عرف الجبلان بجبلي طيء. 4- كندة: نزلوا بالبحرين، ثم اضطروا إلى مغادرتها فنزلوا بحضر موت، ولاقوا هناك ما لاقوا بالبحرين، ثم نزلوا نجد، وكونوا هناك حكومة كبيرة الشأن ولكنها سرعان ما فنيت وذهبت آثارها. وهناك قبيلة من حمير مع اختلاف في نسبتها إليه- وهي قضاعة- هجرت اليمن واستوطنت بادية السماوة من مشارف العراق «1» . [3- العرب المستعربة:] وأما العرب المستعربة فأصل جدهم الأعلى- وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام- من بلاد العراق، ومن بلدة يقال لها: «أر» على الشاطئ الغربي من نهر الفرات، بالقرب من الكوفة، وقد جاءت الحفريات والتنقيبات بتفاصيل واسعة عن هذه البلدة وعن أسرة إبراهيم عليه السلام، وعن الأحوال الدينية والإجتماعية في تلك البلاد» .   (1) انظر لتفصيل هذه القبائل وهجراتها: محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 11- 13 وقلب جزيرة العرب ص 231 إلى 235- واختلفت المصادر التاريخية اختلافا كبيرا في تعيين زمن هذه الهجرات وأسبابها وبعد إدارة النظر من جميع الجوانب أثبتنا ما ترجح عندنا في هذا الباب من حيث الدليل. (2) تفهيم القرآن للسيد أبي الأعلى المودودي 1/ 553، 554، 555، 556. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام هاجر منها إلى حاران أو حران، ومنها إلى فلسطين، فاتخذها قاعدة لدعوته، وكانت له جولات في أرجاء هذه البلاد وغيرها «1» وقدم مرة إلى مصر، وقد حاول فرعون مصر كيدا وسوآ بزوجته سارة ولكن الله ردّ كيده في نحره، وعرف فرعون ما لسارة من الصلة القوية بالله، حتى أخدمها ابنته «2» هاجر؛ اعترافا بفضلها، وزوّجتها سارة إبراهيم «3» . ورجع إبراهيم إلى فلسطين، ورزقه الله من هاجر إسماعيل، وغارت سارة حتى ألجأت إبراهيم إلى نفي هاجر مع ولدها الصغير- إسماعيل- فقدم بهما إلى الحجاز، وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم الذي لم يكن إذ ذاك إلا مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فوضعهما عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء. فوضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ورجع إلى فلسطين، ولم تمض أيام حتى نفد الزاد والماء، وهناك تفجرت بئر زمزم بفضل الله، فصارت قوتا لهما وبلاغا إلى حين. والقصة معروفة بطولها «4» . وجاءت قبيلة يمانية- وهي جرهم الثانية- فقطنت مكة بإذن من أم إسماعيل يقال: إنهم كانوا قبل ذلك في الأودية التي بأطراف مكة. وقد صرحت رواية البخاري أنهم نزلوا مكة بعد إسماعيل، وقبل أن يشب، وأنهم كانوا يمرون بهذا الوادي قبل ذلك «4» . وقد كان إبراهيم يرحل إلى مكة بين آونة وأخرى ليطالع تركته، ولا يعلم كم كانت هذه الرحلات، إلا أن المصادر التاريخية حفظت أربعة منها. فقد ذكر الله تعالى في القرآن أنه أرى إبراهيم في المنام أنه يذبح إسماعيل، فقام بامتثال هذ الأمر فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: 103- 107 ] . وقد ذكر في سفر التكوين أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة،   (1) نفس المصدر 1/ 108. (2) المعروف أن هاجر كانت أمة مملوكة، ولكن حقق الكاتب الكبير العلامة القاضي محمد سليمان المنصور فوري أنها كانت حرة، وكانت ابنة فرعون. انظر رحمة للعالمين 2/ 36- 37. (3) نفس المصدر 2/ 34 وانظر في تفصيل القصة: صحيح البخاري 1/ 474. (4) انظر صحيح البخاري، كتاب الأنبياء 1/ 474- 475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وسياق القصة يدل على أنها وقعت قبل ميلاد إسحاق، لأن البشارة بإسحاق ذكرت بعد سرد القصة بتمامها. وهذه القصة تتضمن رحلة واحدة- على الأقل- قبل أن يشب إسماعيل، أما الرحلات الثلاث الآخر فقد رواها البخاري بطولها عن ابن عباس مرفوعا «1» وملخصها أن إسماعيل لما شب وتعلم العربية من جرهم، وأنفسهم وأعجبهم زوجوه امرأة منهم، وماتت أمه، وبدا لإبراهيم أن يطالع تركته فجاء بعد هذا التزوج، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه وعن أحوالهما، فشكت إليه ضيق العيش فأوصاها أن تقول لإسماعيل أن يغير عتبة بابه، وفهم إسماعيل ما أراد أبوه، فطلق امرأته تلك وتزوج امرأة أخرى، وهي ابنة مضاض بن عمرو، كبير جرهم وسيدهم «2» . وجاء إبراهيم مرة أخرى بعد هذا التزوج الثاني فلم يجد إسماعيل فرجع إلى فلسطين بعد أن سأل زوجته عنه وعن أحوالهما فأثنت على الله، فأوصى إلى إسماعيل أن يثبت عتبة بابه. وجاء مرة ثالثة فلقي إسماعيل وهو يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، وكان لقاؤهما بعد فترة طويلة من الزمن، قلما يصبر فيها الأب الكبير الأواه العطوف عن ولده، الولد البار الصالح الرشيد عن أبيه وفي هذه المرة بنيا الكعبة، ورفعا قواعدها، وأذّن إبراهيم في الناس بالحج كما أمره الله. وقد رزق الله إسماعيل من ابنة مضاض اثني عشر ولدا ذكرا «3» وهم: نابت أو بنالوط، قيدار، وأدبائيل، ومبشام، ومشماع، ودوما، وميشا، وحدد، ويتما، ويطور، ونفيس، وقيدمان، وتشعبت من هؤلاء اثنتا عشرة قبيلة، سكنت كلها في مكة مدة، وكانت جل معيشتهم التجارة من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ومصر ثم انتشرت هذه القبائل في أرجاء الجزيرة بل وإلى خارجها. ثم أدرجات أحوالهم في غياهب الزمان، إلا أولاد نابت وقيدار. وقد ازدهرت حضارة الأنباط في شمال الحجاز، وكوّنوا حكومة قوية دان لها من بأطرافها، واتخذوا البطراء عاصمة لهم، ولم يكن يستطيع مناوأتهم أحد حتى جاء الرومان فقضوا عليهم، وقد رجح السيد سليمان الندوي بعد البحث الأنيق والتحقيق الدقيق أن   (1) ج 1/ 475- 476. (2) قلب جزيرة العرب ص 230. (3) نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ملوك آل غسان وكذا الأنصار من الأوس والخزرج لم يكونوا من آل قحطان، وإنما كانوا من آل نابت بن إسماعيل، وبقاياهم في تلك الديار «1» . وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده معد، ومنه حفظت العرب العدنانية أنسابها. وعدنان هو الجد الحادي والعشرون في سلسلة النسب النبوي، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك ويقول: كذب النسّابون، فلا يتجاوزه «2» . وذهب جمع من العلماء إلى جواز رفع النسب فوق عدنان، مضعّفين للحديث المشار إليه، وقالوا إن بين عدنان وبين إبراهيم عليه السلام أربعين أبا بالتحقيق الدقيق «3» . وقد تفرقت بطون معد من ولده نزار- قيل لم يكن لمعد ولد غيره- فكان لنزار أربعة أولاد، تشعبت منهم أربعة قبائل عظيمة: إياد وأنمار وربيعة ومضر، وهذان الأخيران هما اللذان كثرت بطونهما واتسعت أفخاذهما، فكان من ربيعة: أسد بن ربيعة، وعنزة، وعبد القيس، وابنا وائل- بكر، وتغلب- وحنيفة وغيرها. وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين: قيس عيلان بن مضر، وبطون إلياس بن مضر. فمن قيس عيلان: بنو سليم، وبنو هوازن، وبنو غطفان، ومن غطفان: عبس وذبيان، وأشجع وغني بن أعصر. ومن إلياس بن مضر: تميم بن مرة، وهذيل بن مدركة، وبنو أسد بن خزيمة وبطون كنانة بن خزيمة، ومن كنانة: قريش، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. وانقسمت قريش إلى قبائل شتى، من أشهرها: جمح، وسهم، وعدي، ومخزوم، وتيم، وزهرة، وبطون قصي بن كلاب، وهي عبد الدار بن قصي، وأسد بن عبد العزي بن قصي، وعبد مناف بن قصي. وكان من عبد مناف أربع فصائل: عبد شمس، ونوفل، والمطلب، وهاشم وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وسلم «4» . قال صلى الله عليه وسلم «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل   (1) انظر تاريخ أرض القرآن 2/ 78 إلى 86. (2) انظر الطبري ج 2/ 191- 194 والأعلام 5/ 6. (3) رحمة للعالمين ج 2/ 7، 8، 14، 15، 16، 17. (4) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 14، 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» «1» . وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين، ثم تخيّر القبائل، فجعلني من خير القبيلة، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا» «2» . ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا في أنحاء شتى من بلاد العرب، متتبعين. مواقع القطر ومنابت العشب. فهاجرت عبد القيس، وبطون من بكر بن وائل، وبطون من تميم إلى البحرين فأقاموا بها. وخرجت بنو حنيفة بن صعب بن علي بن بكر إلى اليمامة فنزلوا بحجر، قصبة اليمامة. وأقامت سائر بكر بن وائل في طول الأرض من اليمامة إلى البحرين إلى سيف كاظمة إلى البحر، فأطراف سواد العراق، فالأبلة فهيت. وأقامت تغلب بالجزيرة الفراتية، ومنها بطون كانت تساكن بكرا. وسكنت بنو تميم ببادية البصرة. وأقامت بنو سليم بالقرب من المدينة، من وادي القرى إلى خيبر إلى شرقي المدينة إلى حد الجبلين، إلى ما ينتهي إلى الجرة. وسكنت ثقيف بالطائف، وهوازن في شرقي مكة بنواحي أوطاس، وهي على الجادة بين مكة والبصرة. وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغربي الكوفة، بينهم وبين تيماء ديار بحتر من طيء، وبينهم وبين الكوفة خمس ليال. وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران. وبقي بتهامة بطون كنانة، وأقام بمكة وضواحيها بطون قريش، وكانوا متفرقين لا تجمعهم جامعة حتى نبغ فيهم قصي بن كلاب، فجمعهم، وكون لهم وحدة شرفتهم ورفعت من أقدارهم «3» .   (1) رواه مسلم عن وائلة بن الأسقع، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 245 والترمذي 2/ 201. (2) رواه الترمذي، باب ما جاء في فضل النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 201. (3) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 15- 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الحكم والإمارة في العرب حينما أردنا أن نتكلم عن أحوال العرب قبل الإسلام؛ رأينا أن نضع صورة مصغرة من تاريخ الحكومة والإمارة والملل والأديان في العرب، حتى يسهل علينا فهم الأوضاع الطارئة عند ظهور الإسلام. كان حكام الجزيرة حين بزغت شمس الإسلام قسمين: قسم منهم ملوك متوجون، إلا أنهم في الحقيقة كانوا غير مستقلين، وقسم هم رؤساء القبائل والعشائر، لهم ما للملوك من الحكم والإمتياز، ومعظم هؤلاء كانوا على تمام الإستقلال. وربما كانت لبعضهم تبعية لملك متوج، والملوك المتوجون هم ملوك اليمن، وملوك آل غسان، وملوك الحيرة، وما عدا هؤلاء من حكام الجزيرة فلم تكن لهم تيجان. الملك باليمن من أقدم الشعوب التي عرفت باليمن من العرب العاربة قوم سبأ، وقد عثر على ذكرهم في حفريات «أور» بخمسة وعشرين قرنا قبل الميلاد. ويبدأ ازدهار حضارتهم ونفوذ سلطانهم وبسط سيطرتهم بأحد عشر قرنا قبل الميلاد. ويمكن تقسيم أدوارهم حسب التقدير الآتي: 1- القرون التي خلت قبل سنة 650 ق. م ، وكان ملوكهم يلقبون في هذا الزمن ب «مكرب سبأ» وكانت عاصمتهم بلدة «صرواح» التي توجد أنقاضها على مسافة يوم إلى الجانب الغربي من بلدة «مأرب» وتعرب باسم «خريبة» وفي زمنهم بدأ بناء السد الذي عرف بسد مأرب، والذي له شأن كبير في تاريخ اليمن، ويقال إن سبأ بلغوا من بسط سلطتهم إلى أن اتخذوا المستعمرات في داخل العرب وخارجها. 2- منذ سنة 650 ق. م إلى سنة 115 ق. م وفي هذا الزمن تركوا لقب «مكرب» وعرفوا بملوك سبأ، واتخذوا «مأرب» عاصمة لم بدل «صرواح» وتوجد أنقاضها على بعد ستين ميلا من صنعاء إلى جانبها الشرقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 3- منذ سنة 115 ق. م إلى سنة 300 م ، وفي هذا العهد غلبت قبيلة حمير على مملكة سبأ، واتخذت بلدة «ريدان» عاصمة لها بدل «مأرب» . ثم سميت بلدة «ريدان» باسم ظفار، وتوجد أنقاضها على جبل مدور بالقرب من «يريم» وفي هذا العهد بدأ فيهم السقوط والإنحطاط، فقد فشلت تجارتهم إلى حد كبير؛ لبسط سيطرة الأنباط في شمال الحجاز أولا، ثم لغلبة الرومان على طرق التجارة البحرية بعد نفوذ سلطانهم على مصر وسوريا وشمالي الحجاز ثانيا، ولتنافس القبائل فيما بينها ثالثا. وهذه العناصر هي التي سببت في تفرق آل قحطان وهجرتهم إلى البلاد الشاسعة. 4- منذ سنة 300 م إلى أن دخل الإسلام في اليمن. وفي هذا العهد توالت عليهم الإضطرابات والحوادث، وتتابعت الإنقلابات، والحروب الأهلية التي جعلتهم عرضة للأجانب حتى قضت على استقلالهم. ففي هذا العهد دخل الرومان في عدن، وبمعونتهم احتلت الأحباش اليمن لأول مرة سنة 340 م، مستغلين التنافس بين قبيلتي همدان وحمير، واستمر احتلالهم إلى سنة 378 م. ثم نالت اليمن استقلالها، ولكن بدأت تقع الثلمات في سد مأرب، حتى وقع السيل العظيم الذي ذكره القرآن بسيل العرم في سنة 450 م أو 451 م. وكانت حادثة كبرى أدت إلى خراب العمران وتشتت الشعوب. وفي سنة 523 م قاد ذو نواس اليهودي حملة منكرة على المسيحيين من أهل نجران، وحاول صرفهم عن المسيحية قسرا. ولما أبوا خد لهم الأخدود وألقاهم في النيران، وهذا الذي أشار إليه القرآن في سورة البروج بقوله: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ الآيات، وكان من جراء ذلك نقمة النصرانية الناشطة إلى الفتح والتوسع تحت قيادة أمبراطور الرومان على بلاد العرب، فقد حرضوا الأحباش، وهيأوا لهم الأسطول البحري، فنزل سبعون ألف جندي من الحبشة، واحتلوا اليمن مرة ثانية، بقيادة أرياط سنة 525 م، وظل أرياط حاكما من قبل ملك الحبشة حتى اغتاله أبرهة- أحد قواد جيشه- وحكم بدله بعد أن استرضى ملك الحبشة، وأبرهة هذا هو الذي جند الجنود لهدم الكعبة، وعرف هو وجنوده بأصحاب الفيل. وبعد وقعة الفيل استنجد اليمانيون بالفرس، وقاموا بمقاومة الحبشة حتى أجلوهم عن البلاد، ونالوا الإستقلال في سنة 575 م بقيادة معد يكرب بن سيف ذي يزن الحميري، واتخذوه ملكا لهم، وكان معد يكرب أبقى معه جمعا من الحبشة يخدمونه ويمشون في ركابه، فاغتالوه ذات يوم، وبموته انقطع الملك عن بيت ذي يزن، وولى كسرى عاملا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فارسيا على صنعاء، وجعل اليمن ولاية فارسية فلم تزل الولاة من الفرس تتعاقب على اليمن حتى كان آخرهم باذان الذي اعتنق الإسلام سنة 638 م. وبإسلامه انتهى نفوذ فارس على بلاد اليمن «1» . الملك بالحيرة كانت الفرس تحكم على العراق وما جاورها منذ أن جمع شملهم قوروش الكبير (557- 529 ق. م) ولم يكن أحد يناوئهم، حتى قام الإسكندر المقدوني سنة 326 ق. م فهزم ملكهم دارا الأول، وكسر شوكتهم، حتى تجزأت بلادهم وتولاها ملوك يعرفون بملوك الطوائف، واستمروا يحكمون البلاد مجزأة إلى سنة 230 م. وفي عهد هؤلاء الملوك هاجر القحطانيون، واحتلوا جزآ من ريف العراق ثم لحقهم من هاجر من العدنانيين فزاحموهم حتى سكنوا جزآ من الجزيرة الفراتية. وعادت القوة مرة ثانية إلى الفرس في عهد أردشير- مؤسس الدولة الساسانية منذ سنة 226 م- فإنه جمع شمل الفرس، واستولى على العرب المقيمين على تخوم ملكه، وكان هذا سببا في رحيل قضاعة إلى الشام، ودان له أهل الحيرة والأنبار. وفي عهد أردشير كانت ولاية جذيمة الوضاح على الحيرة وسائر من ببادية العراق والجزيرة من ربيعة ومضر، وكان أردشير رأى أنه يستحيل عليه أن يحكم العرب مباشرة، ويمنعهم من الإغارة على تخوم ملكه، إلا أن يملك عليهم رجلا منهم له عصبية تؤيده وتمنعه، ومن جهة أخرى يمكنه الإستعانة بهم على ملوك الرومان الذين كان يتخوفهم، وليكون عرب العراق أمام عرب الشام الذين اصطنعهم ملوك الرومان، وكان يبقي عند ملك الحيرة كتيبة من جند الفرس؛ ليستعين بها على الخارجين على سلطانه من عرب البادية، وكان موت جذيمة حوالي سنة 268 م. وبعد موت جذيمة ولي الحيرة عمرو بن عدي بن لفر اللخمي، أول ملوك اللخميين- في عهد كسرى سابور بن أردشير- ثم لم تزل الملوك من اللخميين تتوالى على الحيرة حتى ولي الفرس قباذ بن فيروز، وفي عهده ظهر مزدك، وقام بالدعوة إلى الإباحية، فتبعه   (1) انظر في تفصيل ذلك: تفهيم القرآن 4/ 195، 196، 197، 198، وتاريخ أرض القرآن ج 1/ من ص 133 إلى نهاية الكتاب، وفي تعيين السنين اختلاف كبير بين المصادر التاريخية، وقد قال بعض الكتاب عن هذه التفاصيل: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 قباذ كما تبعه كثير من رعيته، ثم أرسل قباذ إلى ملك الحيرة- وهو المنذر بن ماء السماء- يدعوه إلى أن يختار هذا المذهب ويدين به، فأبى عليه ذلك حمية وأنفة، فعزله قباذ، وولى بدله الحارث بن عمرو بن حجر الكندي بعد أن أجاب دعوته إلى المذهب المزدكي. وخلف قباذ كسرى أنوشروان، وكان يكره هذا المذهب جدا، فقتل المزدك وكثيرا ممن دان بمذهبه، وأعاد المنذر إلى ولاية الحيرة، وطلب الحارث بن عمرو لكنه أفلت إلى دار كلب، فلم يزل فيهم حتى مات. واستمر الملك بعد المنذر بن ماء السماء في عقبة، حتى كان النعمان بن المنذر، وهو الذي غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها زيد بن عدي العبادي، وأرسل كسرى إلى النعمان يطلبه، فخرج النعمان حتى نزل سرا على هانئ بن مسعود سيد آل شيبان، فأودعه أهله وماله، ثم توجه إلى كسرى، فحبسه كسرى حتى مات وولي على الحيرة بدله إياس بن قبيصة الطائي، وأمره أن يرسل إلى هانئ بن مسعود يطلب منه تسليم ما عنده، فأبى ذلك هانئ حمية، وآذن الملك بالحرب، ولم تلبث أن جاءت مرازبة كسرى وكتائبه في موكب إياس، وكانت بين الفريقين موقعة هائلة عند ذي قار، وانتصر فيها بنو شيبان، وانهزمت الفرس هزيمة منكرة. وهذا أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم، وهو بعد ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم بقليل، فإنه عليه السلام ولد لثمانية أشهر من ولاية إياس ابن قبيصة على الحيرة. وولّى كسرى على الحيرة بعد إياس حاكما فارسيا، وفي سنة 632 م عاد الملك إلى آل لخم، فتولى منهم المنذر الملقب بالمعرور، ولم تزد ولايته على ثمانية أشهر حتى قدم عليه خالد بن الوليد بعساكر المسلمين «1» . الملك بالشام في العهد الذي ماجت فيه العرب بهجرات القبائل صارت بطون من قضاعة إلى مشارف الشام وسكنت بها، وكانوا من بني سليح بن حلوان الذين منهم بنو ضجعم بن سليح المعروفون باسم الضجاعمة، فاصطنعهم الرومان ليمنعوا عرب البرية من العبث، وليكونوا عدة ضد الفرس، وولوا منهم ملكا، ثم تعاقب الملك فيهم سنين، ومن أشهر ملوكهم زياد بن الهبولة، ويقدر زمنهم من أوائل القرن الثاني الميلادي إلى نهايته تقريبا، وانتهت   (1) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 29، 30، 31، 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ولايتهم بعد قدوم آل غسان، الذي غلبوا الضجاعمة على ما بيدهم وانتصروا عليهم، فولتهم الروم ملوكا على عرب الشام، وكانت قاعدتهم دومة الجندل، ولم تزل تتوالى الغساسنة على الشام بصفتهم عمالا لملوك الروم حتى كانت وقعة اليرموك سنة 13 هـ، وانقاد للإسلام آخر ملوكهم جبلة بن الأيهم في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه «1» . الامارة بالحجاز ولي إسماعيل عليه السلام زعامة مكة وولاية البيت طول حياته «2» . وتوفي وله 137 سنة «3» . ثم ولي إثنان من أبنائه نابت ثم قيدار، ويقال العكس، ثم ولي أمر مكة بعدهما جدّهما مضاض بن عمرو الجرهمي، فانتقلت زعامة مكة إلى جدهم، وظلت في أيديهم، وكان لأولاد إسماعيل مركز محترم؛ لما لأبيهم من بناء البيت، ولم يكن لهم من الحكم شيء «4» . ومضت الدهور والأيام ولم يزل أمر أولاد إسماعيل عليه السلام ضئيلا لا يذكر، حتى ضعف أمر جرهم قبيل ظهور بختنصر، وأخذ نجم عدنان السياسي يتألق في أفق سماء مكة منذ ذلك العصر، بدليل ما جاء بمناسبة غزو بختنصر للعرب في ذات عرق، فإن قائد العرب في الموقعة لم يكن جرهميا «5» . وتفرقت بنو عدنان إلى اليمن عند غزوة بختنصر الثانية (سنة 587 ق. م) ، وذهب برمياه النبي بمعد إلى الشام، فلما انكشف ضغط بختنصر رجع معد إلى مكة فلم يجد من جرهم إلا جرشم بن جلهمة، فتزوج بابنته معانة فولدت له نزارا «6» . وساء أمر جرهم بمكة بعد ذلك، وضاقت أحوالهم، فظلموا الوافدين إليها، واستحلوا مال الكعبة «7» ، الأمر الذي كان يغيظ العدنانيين، ويثير حفيظتهم، ولما نزلت خزاعة بمر الظهران، ورأت نفور العدنانيين من الجراهمة استغلت ذلك، فقامت بمعونة من   (1) نفس المصدر 1/ 34، وأرض القرآن 2/ 80، 81، 82. (2) قلب جزيرة العرب ص 230- 237. (3) سفر التكوين 25: 17. (4) قلب جزيرة العرب ص 230- 237، وابن هشام 1/ 111- 113، وذكر ابن هشام ولاية نابت فقط من أولاد إسماعيل عليه السلام. (5) قلب جزيرة العرب ص 230- 237، وابن هشام 1/ 111- 113، وذكر ابن هشام ولاية نابت فقط من أولاد إسماعيل عليه السلام. (6) رحمة للعالمين 2/ 48. (7) قلب جزيرة العرب ص 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بطون عدنان- وهم بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة- بمحاربة جرهم، حتى أجلتهم عن مكة، واستولت على حكمها، في أواسط القرن الثاني للميلاد. ولما لجأت جرهم إلى الجلاء سدوا بئر زمزم، ودرسوا موضعها، ودفنوا فيها عدة أشياء، قال ابن إسحاق: فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي «1» بغزالي الكعبة «2» ، وبحجر الركن الأسود فدفنهما في بئر زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن، فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا، وفي ذلك قال عمرو «3» : كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر ويقدر زمن إسماعيل عليه السلام بعشرين قرنا قبل الميلاد، فتكون إقامة جرهم في مكة واحدا وعشرين قرنا تقريبا، وحكمهم على مكة زهاء عشرين قرنا. واستبدت خزاعة بأمر مكة دون بني بكر، [ خلال قبائل مضر ] إلا أنه كان إلى قبائل مضر ثلاث خلال: الأولى: الدفع بالناس من عرفة إلى المزدلفة ، والإجازة بهم يوم النفر من منى، وكان يلي ذلك بنو الغوث بن مرة من بطون إلياس بن مضر، وكانوا يسمون: صوفة ومعنى هذه الإجازة أن الناس كانوا لا يرمون يوم النفر حتى يرمي رجل من صوفة، ثم إذا فرغ الناس من الرمي، وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بجانبي العقبة، فلم يجز أحد حتى يمروا، ثم يخلون سبيل الناس، فلما انقرضت صوفة ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من تميم. الثانية: الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى ، وكان ذلك في بني عدوان. الثالثة: إنساء الأشهر الحرم. وكان ذلك إلى بني تميم بن عدي من بني كنانة «4» . واستمرت ولاية خزاعة على مكة ثلاثمائة سنة «5» . وفي وقت حكمهم انتشر   (1) هذا غير مضاض الجرهمي الأكبر الذي مضى ذكره في قصة إسماعيل عليه السلام. (2) قال المسعودي: وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالا في صدر الزمان وجواهر، وقد كان ساسان بن بابك أهدى غزالين من ذهب وجواهر وسيوفا وذهبا كثيرا فقذفه (عمرو) في بئر زمزم اه انظر مروج الذهب 1/ 205. (3) ابن هشام 1/ 114- 115. (4) ابن هشام 1/ 44- 119- 120- 122. (5) معجم البلدان لياقوت مادة «مكة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 العدنانيون في نجد وأطراف العراق والبحرين، وبقي بأطراف مكة بطون من قريش وهم حلول وحرم، وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة، وليس لهم من أمر مكة ولا البيت الحرام شيء حتى جاء قصي بن كلاب «1» . ويذكر من أمر قصي أن أباه مات وهو في حضن أمه، ونكحت أمه رجلا من بني عذرة- وهو ربيعة بن حرام- فاحتملها إلى بلاده بأطراف الشام، فلما شب قصي رجع إلى مكة، وكان واليها إذ ذاك حليل بن حبشة من خزاعة، فخطب قصي إلى حليل ابنته حبي، فرغب فيه حليل وزوجه إياها «2» فلما مات حليل قامت حرب بين خزاعة وقريش أدت أخيرا إلى تغلب قصي على أمر مكة والبيت. [ روايات في بيان سبب اندلاع الحرب بين خزاعة وقريش ] وهناك ثلاث روايات في بيان سبب هذه الحرب. الأولى: أن قصيا لما انتشر ولده وكثر ماله وعظم شرفه وهلك حليل رأى أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشا رؤوس آل إسماعيل وصريحهم، فكلم رجالا من قريش وبني كنانة في إخراج خزاعة وبني بكر عن مكة فأجابوه «3» . الثانية: أن حليلا- فيما تزعم خزاعة- أوصى قصيا بالقيام على الكعبة وبأمر مكة» . الثالثة: أن حليلا أعطى ابنته حبى ولاية البيت، واتخذ أبا غبشان الخزاعي وكيلا لها، فقام أبو غبشان بسدانة الكعبة نيابة عن حبى، فلما مات حليل اشترى قصي ولاية البيت من أبي غبشان بزق من الخمر، ولم ترض خزاعة بهذا البيع، وحاولوا منع قصي عن البيت، فجمع قصي رجالا من قريش وبني كنانة لإخراج خزاعة من مكة، فأجابوه. وأيا ما كان، فلما مات حليل وفعلت صوفة ما كانت تفعل أتاهم قصي بمن معه من قريش وكنانة عند العقبة فقال: نحن أولى بهذا منكم، فقاتلوه فغلبهم قصي على ما كان بأيديهم، وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي، فبدأهم قصي، وأجمع لحربهم،   (1) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 35، وابن هشام 1/ 117. (2) ابن هشام 1/ 117- 118. (3) نفس المصدر 1/ 117- 118. (4) نفس المصدر 1/ 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، صار جمع من الفريقين فريسة له، ثم تداعوا إلى الصلح فحكموا يعمر بن عوف أحد بني بكر، فقضى بأن قصيا أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة، وكل دم أصابه قصي منهم موضوع بشدخة تحت قدميه، وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية، وأن يخلي بين قصي وبين الكعبة- فسمي يعمر يومئذ الشداخ «1» - وكان استيلاء قصي على مكة والبيت في أواسط القرن الخامس للميلاد سنة 440 م «2» وبذلك صارت لقصي، ثم لقريش السيادة التامة، والأمر النافذ في مكة، وصار الرئيس الديني لذلك البيت الذي كانت تفد إليه العرب من جميع أنحاء الجزيرة. ومما فعله قصي بمكة أنه جمع قومه من منازلهم إلى مكة، وقطعها رباعا بين قومه، وأنزل كل قوم من قريش منازلهم التي أصبحوا عليها، وأقر النسأة وآل صفوان، وعدوان ومرة بن عوف على ما كانوا عليه من المناصب؛ لأنه كان يراه دينا في نفسه لا ينبغي تغييره «3» . ومن ماثر قصي أنه أسس دار الندوة بالجانب الشمالي من مسجد الكعبة، وجعل بابها إلى المسجد، وكانت مجمع قريش، وفيها تفصل مهام أمورها، ولهذه الدار فضل على قريش؛ لأنها ضمنت اجتماع الكلمة وفض المشاكل بالحسنى «4» . [ رئاسة قصي ] وكان لقصي من مظاهر الرئاسة والتشريف: 1- رئاسة دار الندوة ، ففيها كانوا يتشاورون فيما نزل بهم من جسام الأمور، ويزوجون فيها بناتهم. 2- اللواء ، فكانت لا تعقد راية الحرب إلا بيده. 3- الحجابة وهي حجابة الكعبة، لا يفتح بابها إلا هو، وهو الذي يلي أمر خدمتها وسدانتها. 4- سقاية الحاج ، وهي أنهم كانوا يملأون للحجاج حياضا من الماء، يحلونها بشيء من التمر والزبيب، فيشرب الناس منها إذا وردوا مكة «5» .   (1) ابن هشام 1/ 123- 124. (2) قلب جزيرة العرب ص 232. (3) ابن هشام 1/ 124- 125. (4) ابن هشام 1/ 125، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 36، وأخبار الكرام ص 152. (5) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 5- رفادة الحاج ، وهي طعام كان يصنع للحاج على طريقة الضيافة، وكان قصي فرض على قريش خرجا تخرجه في الموسم من أموالها إلى قصي، فيضع به طعاما للحاج، يأكله من لم يكن له سعة ولا زاد «1» . وكان كل ذلك لقصي، وكان ابنه عبد مناف قد شرف وساد في حياته، وكان عبد الدار بكرة، فقال له قصي: لألحقنك بالقوم وإن شرفوا عليك، فأوصى له بما كان يليه من مصالح قريش، فأعطاه دار الندوة والحجابة واللواء والسقاية والرفادة، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه، وكان أمره في حياته وبعد موته كالدين المتبع، فلما هلك أقام بنوه أمر لا نزاع بينهم، ولكن لما هلك عبد مناف نافس أبناؤه بني عمهم عبد الدار في هذه المناصب، وافترقت قريش فرقتين، وكاد يكون بينهم قتال، إلا أنهم تداعوا إلى الصلح، واقتسموا هذه المناصب، فصارت السقاية والرفادة إلى بني عبد مناف، وبقيت دار الندوة واللواء والحجابة بيد بني عبد الدار، ثم حكم بنو عبد مناف القرعة فيما أصابهم فخرجت لهاشم بن عبد مناف، فكان هو الذي يلي السقاية والرفادة طول حياته، فلما مات خلفه أخوه المطلب بن عبد مناف، وولي بعده عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعده أبناؤه حتى جاء الإسلام والولاية إلى العباس بن عبد المطلب «2» . [ مناصب أخرى لقريش ] وكانت لقريش مناصب سوى ذلك وزعوها فيما بينهم، وكونوا بها دويلة- بل بتعبير أصح: شبه دويلة ديمقراطية. وكانت لها من الدوائر والتشكيلات الحكومية ما يشبه في عصرنا هذا دوائر البرلمان ومجالسها، وهاك لوحة من تلك المناصب: 1- الإيسار: أي تولية قداح الأصنام للإستقسام، كان ذلك في بني جمح. 2- تحجير الأموال ، أي نظم القربات والنذور التي تهدي إلى الأصنام، وكذلك فصل الخصومات والمرافعات. كان ذلك في بني سهم. 3- الشورى ، كانت في بني أسد. 4- الأشناق ، أي نظم الديات والغرامات، كان ذلك في بني تيم. 5- العقاب ، أي حمل اللواء القومي، كانت ذلك في بني أمية.   (1) ابن هشام 1/ 130 وما بعدها. (2) ابن هشام 1/ 130 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 6- القبة، أي نظم المعسكر، وكذلك قيادة الخيل، كانت في بني مخزوم. 7- السفارة ، كانت في بني عدي «1» . الحكم في سائر العرب قد سبق لنا أن ذكرنا هجرات القبائل القحطانية والعدنانية، وأن البلاد العربية اقتسمت فيما بينها، فما كان من هذه القبائل بالقرب من الحيرة كانت تبعا لملك العرب بالحيرة، وما كان منها في بادية الشام كانت تبعا للغساسنة، إلا أن هذه التبعية كانت اسمية لا فعلية. وأما ما كان منها في البوادي في داخل الجزيرة فكانت حرة مطلقة. وفي الحقيقة كان لهذه القبائل رؤساء تسودهم القبيلة، وكانت القبيلة حكومة مصغرة، أساس كيانها السياسي: الوحدة العصبية، والمنافع المتبادلة في حماية الأرض، ودفع العدوان عنها. وكانت درجة رؤساء القبائل في قومهم كدرجة الملوك، فكانت القبيلة تبعا لرأي سيدها في السلم والحرب، لا تتأخر عنه بحال، وكان له من الحكم والإستبداد بالرأي ما يكون لدكتاتور قوي، حتى كان بعضهم إذا غضب غضب له ألوف من السيوف لا تسأله فيما غضب، إلا أن المنافسة في السيادة بين أبناء العم كانت تدعوهم إلى المصانعة بالناس، من بذل الندى، وإكرام الضيف، والكرم، والحلم وإظهار الشجاعة، والدفاع عن الغير؛ حتى يكسبوا المحامد في أعين الناس، ولا سيما الشعراء الذين كانوا لسان القبيلة في ذلك الزمان، وحتى تسمو درجتهم عن مستوى المنافسين. وكان للسادة والرؤساء حقوق خاصة، فكانوا يأخذون من الغنيمة المرباع والصفي والنشيطة والفضول، يقول الشاعر: لك المرباع فينا والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول والمرباع: ربع الغنيمة، والصفي: ما يصفيه الرئيس لنفسه قبل القسمة، والنشيطة: ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى بيضة القوم. والفضول: ما فضل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة، كالبعير والفرس ونحوهما.   (1) تاريخ أرض القرآن 2/ 104، 105، 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الحالة السياسية قد ذكرنا حكام العرب، والآن آن لنا أن نذكر جملة من أحوالهم السياسية، فالأقطار الثلاثة التي كانت مجاورة للأجانب كانت حالتها السياسية في تضعضع وانحطاط لا مزيد عليه، فقد كان الناس بين سادة وعبيد، أو حكام وحكومين، فالسادة- ولا سيما الأجانب- لهم كل الغنم، والعبيد عليهم كل الغرم، وبعبارة أوضح إن الرعايا كانت بمثابة مزرعة تورد المحصولات إلى الحكومات، فتستخدمها في ملذاتها وشهواتها، ورغائبها، وجورها، وعدوانها. أما الناس فهم في عمايتهم يتخبطون، والظلم ينحط عليهم من كل جانب وما في استطاعتهم التذمر والشكوى، بل هم يسامون الخسف، والجور، والعذاب ألوانا ساكتين، فقد كان الحكم استبداديا، والحقوق ضائعة مهدورة، والقبائل المجاورة لهذه الأقطار مذبذبون تتقاذفهم الأهواء والأغراض، مرة يدخلون في أهل العراق، ومرة يدخلون في أهل الشام، وكانت أحوال القبائل داخل الجزيرة مفككة الأوصال، تغلب عليها المنازعات القبلية والاختلافات العنصرية والدينية حتى قال ناطقهم: وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت، وإن ترشد غزية أرشد ولم يكن لهم ملك يدعم استقلالهم، أو مرجع يرجعون إليه، ويعتمدون عليه وقت الشدائد. وأما حكومة الحجاز، فقد كانت تنظر إليها العرب نظرة تقدير واحترام، ويرونها قادة وسدنة المركز الديني، وكانت تلك الحكومة في الحقيقة خليطا من الصدارة الدنيوية والحكومية والزعامة الدينية، حكمت بين العرب باسم الزعامة الدينية، وحكمت في الحرم وما والاه بصفتها حكومة تشرف على مصالح الوافدين إلى البيت، وتنفذ حكم شريعة إبراهيم، وكانت لها من الدوائر والتشكيلات ما يشابه دوائر البرلمان- كما أسلفنا- ولكن هذه الحكومة كانت ضعيفة لا تقدر على حمل العبء كما وضح يوم غزو الأحباش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ديانات العرب كان معظم العرب اتبعوا دعوة إسماعيل- عليه السلام- حين دعاهم إلى دين أبيه إبراهيم- عليه السّلام- فكانت تعبد الله وتوحده وتدين بدينه، حتى طال عليهم الأمد ونسوا حظا مما ذكروا به، إلا أنهم بقي فيهم التوحيد وعدة شعائر من دين إبراهيم، حتى جاء عمرو بن لحي رئيس خزاعة، وكان قد نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة والحرص على أمور الدين، فأحبه الناس، ودانوا له ظنا منهم أنه من أكابر العلماء وأفاضل الأولياء، ثم إنه سافر إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقا، لأن الشام محل الرسل والكتب، فقدم معه بهبل وجعله في جوف الكعبة، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله، فأجابوه. ثم لم يلبث أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة، لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم «1» . ومن أقدم أصنامهم مناة، كانت بالمشلل على ساحل البحر الأحمر بالقرب من قديد، ثم اتخذوا اللات في الطائف، ثم اتخذوا العزى بوادي نخلة، هذه الثلاث أكبر أوثانهم «2» ، ثم كثر الشرك، وكثرت الأوثان في كل بقعة من الحجاز، ويذكر أن عمرو بن لحي كان له رئى من الجن، فأخبره بأن أصنام قوم نوح- ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا- مدفونة بجدة فأتاها فاستثارها، ثم أوردها إلى تهامة، فلما جاء الحج دفعها إلى القبائل، فذهبت بها إلى أوطانها، حتى صار لكل قبيلة ثم في كل بيت صنم. وقد ملأوا المسجد الحرام بالأصنام، ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، فجعل يطعنها حتى تساقطت، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت «3» . وهكذا صار الشرك وعبادة الأصنام أكبر مظهر من مظاهر دين أهل الجاهلية، الذين كانوا يزعمون أنهم على دين إبراهيم.   (1) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 12. (2) صحيح البخاري 1/ 222. (3) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 13، 50، 51، 52، 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وكانت لهم تقاليد ومراسم في عبادة الأصنام، ابتدع أكثرها عمرو بن لحي، وكانوا يظنون أن ما أحدثه عمرو بن لحي بدعة حسنة، وليس بتغيير لدين إبراهيم [ مراسم عبادة العرب للأصنام ] فكان من مراسم عبادتهم للأصنام أنهم: 1- كانوا يعكفون عليها، ويلتجئون إليها ... ويهتفون بها، ويستغيثونها في الشدائد، ويدعونها لحاجاتهم، معتقدين أنها تشفع عند الله، وتحقق لهم ما يريدون. 2- وكانوا يحجون إليها ويطوفون حولها، ويتذللون عندها، ويسجدون لها. 3- وكانوا يتقربون إليها بأنواع من القرابين ، فكانوا يذبحون وينحرون لها وبأسمائها. وهذان النوعان من الذبح ذكرهما الله تعالى في قوله: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] ، وفي قوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121] . 4- وكان من أنواع التقرب أنهم كانوا يخصون للأصنام شيئا من ماكلهم ومشاربهم حسبما يبدو لهم، وكذلك كانوا يخصون لها نصيبا من حرثهم وأنعامهم. ومن الطرائف أنهم كانوا يخصون من ذلك جزآ لله أيضا، وكانت عندهم أسباب كثيرا ما كانوا ينقلون لأجلها إلى الأصنام ما كان لله، ولكن لم يكونوا ينقلون إلى الله ما كان لأصنامهم بحال. قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الأنعام: 136] . 5- وكان من أنواع التقرب إلى الأصنام النذر في الحرث والأنعام، قال تعالى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ [الأنعام: 138] . 6- وكانت منها البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي . قال ابن إسحاق: البحيرة بنت السائبة، هي الناقة إذ تابعت بين عشر إناث ليس بينهم ذكر سيبت، فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، ثم خلى سبيلها مع أمها، فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما فعل بأمها. فهي البحيرة بنت السائبة. والوصيلة: الشاة إذا أثأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر جعلت وصيلة. قالوا: قد وصلت، فكان ما ولد بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم إلا أن يموت شيء فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم. والحامي: الفحل إذا نتج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمي ظهره، فلم يركب، ولم يجز وبره، وخلي في إبله يضرب فيها، لا ينتفع منه بغير ذلك، وفي ذلك أنزل الله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ، وَلا وَصِيلَةٍ، وَلا حامٍ، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة: 103] ، وأنزل: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ [الأنعام: 139] ، وقيل في تفسير هذه الأنعام غير ذلك «1» . وقد صرح سعيد بن المسيب أن هذه الأنعام كانت لطواغيتهم «2» وفي الصحيح مرفوعا: أن عمرو بن لحي أول من سيب السوائب «3» . كانت العرب تفعل كل ذلك بأصنامهم، معتقدين أنها تقربهم إلى الله وتوصلهم إليه، وتشفع لديه كما في القرآن: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] ، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ، وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] . وكانت العرب تستقسم بالأزلام، والزلم: القدح الذي لا ريش عليه، وكانت الأزلام ثلاثة أنواع: نوع فيه «نعم» و «لا» كانوا يستقسمون بها فيما يريدون من العمل من نحو السفر والنكاح وأمثالها. فإن خرج «نعم» عملوا به وإن خرج «لا» أخروه عامه ذلك حتى يأتوه مرة أخرى، ونوع فيه المياه والدية، ونوع فيه «منكم» أو «من غيركم» أو «ملصق» فكانوا إذا شكوا في نسب أحدهم ذهبوا به إلى هبل، وبمائة جزور، فأعطوها صاحب القداح. فإن خرج «منكم» كان منهم وسيطا، وإن خرج عليه «من غيركم» كان حليفا، وإن خرج عليه «ملصق» كان على منزلته فيهم، لا نسب ولا حلف «4» . ويقرب من هذا الميسر والقداح، وهو ضرب من ضروب القمار، وكانوا يقتسمون به لحم الجزور التي يذبحونها بحسب القداح. وكانوا يؤمنون بأخبار الكهنة والعرافين والمنجمين؛ والكاهن: هو من يتعاطى الاخبار عن الكوائن في المستقبل، ويدعي معرفة الأسرار، ومن الكهنة من يزعم أن له تابعا من   (1) ابن هشام 1/ 89، 90. (2) صحيح البخاري 1/ 499. (3) نفس المصدر. (4) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 56، وابن هشام 1/ 152، 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الجن يلقي عليه الأخبار، ومنهم من يدعي إدراك الغيب بفهم أعطيه، ومنهم من يدعي معرفة الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا القسم يسمى عرافا، كمن يدعي معرفة المسروق ومكان السرقة والضالة ونحوهما. والمنجّم: من ينظر في النجوم أي الكواكب، ويحسب سيرها ومواقيتها، ليعلم بها أحوال العالم وحوادثه التي تقع في المستقبل «1» والتصديق بأخبار المنجمين هو في الحقيقة إيمان بالنجوم، وكان من إيمانهم بالنجوم الإيمان بالأنواء، فكانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا «2» . وكانت فيهم الطّيرة (بكسر ففتح) وهي التشاؤم بالشيء، وأصله أنهم كانوا يأتون الطير أو الظبي فينفرونه، فإن أخذ ذات اليمين مضوا إلى ما قصدوا، وعدوه حسنا، وإن أخذ ذات الشمال انتهوا عن ذلك وتشاءموا، وكانوا يتشاءمون كذلك إن عرض الطير أو الحيوان في طريقهم. ويقرب من هذا تعليقهم كعب الأرنب، والتشاؤم ببعض الأيام والشهور والحيوانات والدور والنساء، والاعتقاد بالعدوى والهامة، فكانوا يعتقدون أن المقتول لا يسكن جأشه ما لم يؤخذ بثأره، وتصير روحه هامة أي بومة تطير في الفلوات وتقول: صدى صدى أو أسقوني أسقوني، فإذا أخذ بثأره سكن واستراح «3» . كان أهل الجاهلية على ذلك وفيهم بقايا من دين إبراهيم ولم يتركوه كله، مثل تعظيم البيت والطواف به، والحج، والعمرة، والوقوف بعرفة، والمزدلفة وإهداء البدن، نعم ابتدعوا في ذلك بدعا. منها أن قريشا كانوا يقولون: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت وقاطنو مكة، وليس لأحد من العرب مثل حقنا ومنزلتنا- وكانوا يسمون أنفسهم الحمس- فلا ينبغي لنا أن نخرج من الحرم إلى الحل، فكانوا لا يقفون بعرفة، ولا يفيضون منها وإنما كانوا يفيضون من المزدلفة وفيهم أنزل: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [البقرة: 199] «4» .   (1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 2/ 2، 3. (2) أنظر صحيح مسلم مع شرحه للنووي، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء، من كتاب الإيمان 1/ 59. (3) انظر صحيح البخاري 2/ 851، 857 مع حواشيه للشيخ أحمد علي السهارنفوري. (4) ابن هشام 1/ 199، صحيح البخاري 1/ 226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ومنها أنهم قالوا: لا ينبغي للحمس أن يغطوا الأقط ولا يسلئوا السمن، وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما داموا حرما «1» . ومنها أنهم قالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤوا به من الحل إلى الحرم إذا جاؤوا حجاجا أو عمارا «2» . ومنها أنهم أمروا أهل الحل ألايطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا شيئا فكان الرجال يطوفون عراة، وكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلا درعا مفرجا ثم تطوف فيه وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله وأنزل الله في ذلك: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] ، فإن تكرم أحد من الرجل والمرأة فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها بعد الطواف، ولا ينتفع بها هؤلاء ولا أحد غيره «3» . ومنها أنهم كانوا لا يأتون بيوتهم من أبوابها في حال الإحرام، بل كانوا ينقبون في ظهور البيوت نقبا يدخلون ويخرجون منه، وكانوا يحسبون ذلك الجفاء برا وقد منعه القرآن: كانت هذه الديانة- ديانة الشرك وعبادة الأوثان، والاعتقاد بالوهميات والخرافيات- ديانة معظم العرب، وقد وجدت اليهودية، والمسيحية، والمجوسية والصابئية سبيلا للدخول في ربوع العرب. ولليهود دوران- على الأقل- مثلوهما في جزيرة العرب: الأول: هجرتهم في عهد الفتوح البابلية والأشورية في فلسطين، فقد نشأ عن الضغط على اليهود، وعن تخريب بلادهم وتدمير هيكلهم على يد الملك بختنصر سنة 587 ق. م. وسبي أكثرهم إلى بابل أن قسما منهم هجر البلاد الفلسطينية إلى الحجاز، وتوطن في ربوعها الشمالية «4» . الدور الثاني: يبدأ من احتلال الرومان لفلسطين بقيادة بتطس الروماني سنة 70 م، فقد نشأ عن ضغط الرومان على اليهود، وعن تخريب الهيكل وتدميره أن قبائل عديدة من   (1) نفس المصدر الأول 1/ 202. (2) نفس المصدر الأول 1/ 202. (3) ابن هشام 1/ 202، 203 وصحيح البخاري 1/ 226. (4) قلب جزيرة العرب ص 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 اليهود رحلت إلى الحجاز، واستقرت في يثرب وخيبر وتيماء، وأنشأت فيها القرى والآطام والقلاع، وانتشرت الديانة اليهودية بين قسم من العرب عن طريق هؤلاء المهاجرين، وأصبح لها شأن يذكر في الحوادث السياسية التي سبقت ظهور الإسلام، والتي حدثت في صدره. وحينما جاء الإسلام كانت القبائل اليهودية المشهورة هي: خيبر والنضير والمصطلق وقريظة وقينقاع، وذكر السمهودي في وفاء الوفا (ص 116) أن عدد القبائل اليهودية يزيد على عشرين «1» . ودخلت اليهودية في اليمن من قبل تبان أسعد أبي كرب، فإنه ذهب مقاتلا إلى يثرب واعتنق هناك اليهودية وجاء بحبرين من بني قريظة إلى اليمن، فأخذت اليهودية إلى التوسع والإنتشار فيها، ولما ولي اليمن بعده ابنه يوسف ذو نواس هجم على المسيحيين من أهل نجران ودعاهم إلى اعتناق اليهودية، فلما أبوا خدّ لهم الأخدود، وأحرقهم بالنار، ولم يفرق بين الرجل والمرأة والأطفال الصغار والشيوخ الكبار، ويقال إن عدد المقتولين ما بين عشرين ألفا إلى أربعين ألفا، وقع ذلك في أكتوبر سنة 523 م «2» . وقد أورد القرآن جزآ من هذه القصة في سورة البروج. أما الديانة النصرانية فقد جاءت إلى بلاد العرب عن طريق احتلال الحبشة والرومان، وكان أول احتلال الحبشة لليمن سنة 340 م، واستمر إلى سنة 378 م «3» ، وفي ذلك الزمان دخل التبشير المسيحي في ربوع اليمن، وبالقرب من هذا الزمان دخل رجل زاهد مستجاب الدعوات وصاحب كرامات- وكان يسمى فيميون- إلى نجران، ودعاهم إلى الدين المسيحي، ورأى أهل نجران من أمارات صدقه وصدق دينه ما لبوا لأجله المسيحية واعتنقوها «4» . ولما احتلت الأحباش اليمن كرد فعل لما أتاه ذو نواس، وتمكن أبرهة من حكومتها؛ أخذ ينشر الديانة المسيحية بأوفر نشاط، وأوسع نطاق، حتى بلغ من نشاطه أنه بنى كعبة باليمن، وأراد أن يصرف حج العرب إليها، ويهدم بيت الله الذي بمكة، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى.   (1) قلب جزيرة العرب، ص 151. (2) تفهيم القرآن 6/ 297، 298، وابن هشام 1/ 20، 21، 22، 27، 31، 35، 36. (3) تفهيم القرآن 6/ 297. (4) انظر في ذلك مفصلا ابن هشام 1/ 31، 32، 33، 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقد اعتنق النصرانية العرب الغساسنة وقبائل تغلب وطيء وغيرهما لمجاورة الرومان، بل قد اعتنقها بعض ملوك الحيرة. أما المجوسية فكان معظمها في العرب الذين كانوا بجوار الفرس، فكانت في عراق العرب وفي البحرين- الأحساء- وهجر وما جاورها من منطقة سواحل الخليج العربي، ودان لها رجال من اليمن في زمن الاحتلال الفارسي. أما الصابئية فقد دلت الحفريات والتنقيبات في بلاد العراق وغيرها أنها كانت ديانة قوم إبراهيم الكلدانيين، وقد دان بها كثير من أهل الشام، وأهل اليمن في غابر الزمان، وبعد تتابع الديانات الجديدة من اليهودية والنصرانية تضعضع بنيان الصابئية وخمد نشاطها، ولكن لم يزل في الناس بقايا من أهل هذه الديانة مختلطين مع المجوس، أو مجاورين لهم، في عراق العرب، وعلى شواطئ الخليج العربى «1» . الحالة الدينية كانت هذه الديانات هي ديانات العرب حين جاء الإسلام، وقد أصاب هذه الديانات الإنحلال والبوار، فالمشركون الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم كانوا بعيدين عن أوامر ونواهي شريعة إبراهيم، مهملين ما أتت به من مكارم الأخلاق. فكثرت معاصيهم، ونشأ فيهم على توالي الزمان ما ينشأ في الوثنيين من عادات وتقاليد تجري مجرى الخرافات الدينية، وأثرت في الحياة الإجتماعية والسياسية والدينية تأثيرا بالغا جدا. أما اليهود فقد انقلبت رياء وتحكما، وصار رؤساؤها أربابا من دون الله، يتحكمون في الناس ويحاسبونهم حتى على خطرات النفس وهمسات الشفاه، وجعلوا همهم الحظوة بالمال والرياسة، وإن ضاع الدين وانتشر الإلحاد والكفر والتهاون بالتعاليم التي حض الله عليها وأمر كل فرد بتقديسها. وأما النصرانية فقد عادت وثنية عسرة الفهم، وأوجدت خلطا عجيبا بين الله والإنسان، ولم يكن لها في نفوس العرب المتدينين بهذا الدين تأثير حقيقي، لبعد تعاليمها عن طراز المعيشة التي ألفوها، ولم يكونوا يستطيعون الإبتعاد عنها. وأما سائر أديان العرب فكانت أحوال أهلها كأحوال المشركين، فقد تشابهت قلوبهم، وتواردت عقائدهم، وتوافقت تقاليدهم وعوائدهم.   (1) تاريخ أرض القرآن 2/ 193 إلى 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 صور من المجتمع العربي الجاهلي بعد البحث عن سياسة الجزيرة وأديانها؛ بقي لنا أن نتكلم حول الأحوال الإجتماعية والإقتصادية، والخلقية، وفيما يلي بيانها بإيجاز: الحالة الإجتماعية كانت في العرب أوساط متنوعة، تختلف أحوال بعضها عن بعض، فكانت علاقة الرجل مع أهله في الأشراف على درجة كبيرة من الرقي والتقدم، وكان لها من حرية الإرادة ونفاذ القول القسط الأوفر، وكانت محترمة مصونة تسل دونها السيوف، وتراق الدماء، وكان الرجل إذا أراد أن يمتدح بما له في نظر العرب المقام السامي من الكرم والشجاعة لم يكن يخاطب في أكثر أوقاته إلا المرأة، وربما كانت المرأة إذا شاءت جمعت القبائل للسلام، وإن شاءت أشعلت بينهم نار الحرب والقتال، ومع هذا كله فقد كان الرجل يعتبر بلا نزاع رئيس الأسرة، وصاحب الكلمة فيها، وكان ارتباط الرجل بالمرأة بعقد الزواج تحت إشراف أوليائها ولم يكن من حقها أن تفتات عليهم. بينما هذه حال الأشراف، كان هناك في الأوساط الآخرى أنواع من الإختلاط بين الرجل والمرأة، لا نستطيع أن نعبر عنه إلا بالدعارة والمجون والسفاح والفاحشة، روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فكان منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إن أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح يسمى نكاح الإستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط دون العشرة. فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها. فإذا حملت، ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت، وهو ابنك يا فلان، فتسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها ونكاح رابع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها. وهن البغايا، كنّ ينصبن على أبوابهن رايات، تكن علما لمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت فوضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح الإسلام اليوم «1» . وكانت عندهم اجتماعات بين الرجل والمرأة تعقدها شفار السيوف، وأسنة الرماح، فكان المتغلب في حروب القبائل يسبي نساء المقهور فيستحلها، ولكن الأولاد الذين تكون هذه أمهم يلحقهم العار مدة حياتهم. وكان من المعروف في أهل الجاهلية أنهم كانوا يعددون بين الزوجات من غير حد معروف ينتهي إليه، وكانوا يجمعون بين الأختين، وكانوا يتزوجون بزوجة آبائهم إذا طلقوها أو ماتوا عنها [سورة النساء: 22، 23] وكان الطلاق بين الرجال لا إلى حد معين «2» . وكانت فاحشة الزنا سائدة في جميع الأوساط، لا نستطيع أن نخص منها وسطا دون وسط أو صنفا دون صنف، إلا أفرادا من الرجال والنساء ممن كان تعاظم نفوسهم يأبى الوقوع في هذه الرذيلة، وكانت الحرائر أحسن حالا من الإماء والطامة الكبرى هي الإماء، ويبدو أن الأغلبية الساحقة من أهل الجاهلية لم تكن تحس بعار في الإنتساب إلى هذه الفاحشة، روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قام رجل فقال: يا رسول الله إن فلانا ابني، عاهرت بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية. الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، وقصة اختصام سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة- وهو عبد الرحمن بن زمعة- معروفة «3» . وكانت علاقة الرجل مع أولاده على أنواع شتى فمنهم من يقول: إنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض   (1) أبو داود، كتاب النكاح، باب وجوه النكاح التي كان يتناكح بها أهل الجاهلية. (2) نفس المصدر باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث. وهذا الذي ذكره المفسرون في سبب نزول قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ. (3) أبو داود باب الولد للفراش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ومنهم من كان يئد البنات خشية العار والإنفاق، ويقتل الأولاد خشية الفقر والإملاق (القرآن: 6- 151. 16- 58، 59. 17- 31. 81- 8) ، ولكن لا يمكننا أن نعد هذا من الأخلاق المنتشرة السائدة، فقد كانوا أشد الناس احتياجا إلى البنين، ليتقوا بهم العدو. أما معاملة الرجل مع أخيه وأبناء عمه وعشيرته فقد كانت موطدة قوية، فقد كانوا يحيون للعصبية القبلية، ويموتون لها. وكانت روح الإجتماع سائدة بين القبيلة الواحدة تزيدها العصبية وكان أساس النظام الإجتماعي هو العصبية الجنسية والرحم، وكانوا يسيرون على المثل السائر «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» على المعنى الحقيقي، من غير التعديل الذي جاء به الإسلام من أن نصر الظالم كفه عن ظلمه، إلا أن التنافس في الشرف والسؤدد كثيرا ما كان يفضي إلى الحروب بين القبائل التي كان يجمعها أب واحد، كما نرى ذلك بين الأوس والخزرج، وعبس وذبيان، وبكر وتغلب وغيرها. أما العلاقة بين القبائل المختلفة فقد كانت مفككة الأوصال تماما، وكانت قواهم متفانية في الحروب. إلا أن الرهبة والوجل من بعض التقاليد والعادات المشتركة بين الدين والخرافة ربما كان يخفف من حدتها وصرامتها وفي بعض الحالات كانت الموالاة والحلف والتبعية تفضي إلى اجتماع القبائل المتغايرة، وكانت الأشهر الحرم رحمة وعونا لهم على حياتهم وحصول معايشهم. وقصارى الكلام أن الحالة الإجتماعية كانت في الحضيض من الضعف والعماية فالجهل ضارب أطنابه، والخرافات لها جولة وصولة والناس يعيشون كالأنعام، والمرأة تباع وتشترى وتعامل كالجمادات أحيانا، والعلاقة بين الأمة واهية مبتوتة، وما كان من الحكومات فجل همتها امتلاء الخزائن من رعيتها، أو جر الحروب على مناوئيها. الحالة الإقتصادية أما الحالة الإقتصادية، فتبعت الحالة الإجتماعية، ويتضح ذلك إذا نظرنا في طرق معايش العرب. فالتجارة كانت أكبر وسيلة للحصول على حوائج الحياة، والجولة التجارية لا تتيسر إلا إذا ساد الأمن والسلام، وكان ذلك مفقودا في جزيرة العرب إلا في الأشهر الحرم، وهذه هي الشهور التي كانت تعقد فيها أسواق العرب الشهيرة من عكاظ وذي المجاز ومجنة وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وأما الصناعات فكانوا أبعد الأمم عنها، ومعظم الصناعات التي كانت توجد في العرب من الحياكة والدباغة وغيرها كانت في أهل اليمن والحيرة، ومشارف الشام، نعم كانت في داخل الجزيرة الزراعة، والحرث، واقتناء الأنعام، وكانت نساء العرب كافة يشتغلن بالغزل، لكن كانت الأمتعة عرضة للحروب، وكان الفقر والجوع والعرى عاما في المجتمع. الأخلاق لا ننكر أن أهل الجاهلية كانت فيهم دنايا ورذائل وأمور ينكرها العقل السليم، ويأباها الوجدان، ولكن كانت فيهم من الأخلاق الفاضلة المحمودة ما يروع الإنسان، ويفضي به إلى الدهشة والعجب، فمن تلك الأخلاق: 1- الكرم ، وكانوا يتبارون في ذلك ويفتخرون به، وقد استنفدوا فيه نصف أشعارهم، بين ممتدح به ومثن على غيره، كان الرجل يأتيه الضيف في شدة البرد والجوع، وليس عنده من المال إلا ناقته التي هي حياته وحياة أسرته، فتأخذه هزة الكرم، فيقوم إليها، ويذبحها لضيفه، ومن آثار كرمهم أنهم كانوا يتحملون الديات الهائلة والحمالات المدهشة، يكفون بذلك سفك الدماء، وضياع الإنسان، ويمتدحون بها مفتخرين على غيرهم من الرؤساء والسادات. وكان من نتائج كرمهم أنهم كانوا يتمدحون بشرب الخمور، لا لأنها مفخرة في ذاتها، بل لأنها سبيل من سبل الكرم، ومما يسهل السرف على النفس، ولأجل ذلك كانوا يسمون شجر العنب بالكرم، وخمره ببنت الكرم. وإذا نظرت إلى دواوين أشعار الجاهلية تجد ذلك بابا من أبواب المديح والفخر، يقول عنترة بن شدّاد العبسي في معلقته: ولقد شربت من المدامة بعدما ... ركد الهواجر بالمشوف المعلم بزجاجة صفراء ذات أسرة ... فرنت بأزهر بالشمال مفدم فإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي، وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي ومن نتائج كرمهم اشتغالهم بالميسر، فإنهم كانوا يرون أنه سبيل من سبل الكرم لأنهم كانوا يطعمون المساكين ما ربحوه، أو ما كان يفضل عن سهام الرابحين، ولذلك ترى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 القرآن لا ينكر نفع الخمر والميسر وإنما يقول: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة: 219] . 2- ومن تلك الأخلاق الوفاء بالعهد ، فقد كان العهد عندهم دينا يتمسكون به، ويستهينون في سبيله قتل أولادهم، وتخريب ديارهم، وتكفي في معرفة ذلك قصة هانئ بن مسعود الشيباني، والسموأل بن عاديا، وحاجب بن زرارة التميمي. 3- ومنها عزة النفس وإباء عن قبول الخسف والضيم، وكان من نتائج هذا فرط الشجاعة، وشدة الغيرة، وسرعة الإنفعال، فكانوا لا يسمعون كلمة يشمون منها رائحة الذل والهوان إلا قاموا إلى السيف والسنان، وأثاروا الحروب العوان، وكانوا لا يبالون بتضحية أنفسهم في هذا السبيل. 4- ومنها المضي في العزائم ، فإذا عزموا على شيء يرون فيه المجد، والإفتخار لا يصرفهم عنه صارف، بل كانوا يخاطرون بأنفسهم في سبيله. 5- ومنها الحلم، والأناة، والتؤدة ، كانوا يتمدحون بها إلا أنها كانت فيهم عزيزة الوجود، لفرط شجاعتهم، وسرعة إقدامهم على القتال. 6- ومنها السذاجة البدوية ، وعدم التلوث بلوثات الحضارة، ومكائدها، وكان من نتائجه الصدق والأمانة، والنفور عن الخداع والغدر. نرى أن هذه الأخلاق الثمينة- مع ما كان لجزيرة العرب من الموقع الجغرافي بالنسبة إلى العالم- كانت سببا في اختيارهم لحمل عبء الرسالة العامة، وقيادة الأمة الإنسانية والمجتمع البشري؛ لأن هذه الأخلاق وإن كان بعضها يفضي إلى الشر، ويجلب الحوادث المؤلمة، إلا أنها كانت في نفسها أخلاقا ثمينة، تدر المنافع العامة للمجتمع البشري بعد شيء من الإصلاح، وهذا الذي فعله الإسلام. ولعل أغلى ما عندهم من هذه الأخلاق وأعظمها نفعا بعد الوفاء بالعهد هو عزة النفس والمضي في العزائم، إذ لا يمكن قمع الشر والفساد، وإقامة نظام العدل والخير؛ إلا بهذه القوة القاهرة، وبهذا العزم الصميم. ولهم أخلاق فاضلة أخرى دون هذه التي ذكرناها وليس قصدنا استقصاءها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته نسب النبي صلى الله عليه وسلم لنسب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزء اتفق على صحته أهل السير والأنساب وهو إلى عدنان، وجزء اختلفوا فيه ما بين متوقف فيه وقائل به، وهو ما فوق عدنان إلى إبراهيم عليه السلام، وجزء لا نشك أن فيه أمورا غير صحيحة، وهو ما فوق إبراهيم إلى آدم عليهما السلام، وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذا، وهاك تفصيل تلك الأجزاء الثلاثة: الجزء الأول: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- واسمه شيبة- بن هاشم- واسمه عمرو- بن عبد مناف- واسمه المغيرة- بن قصي- واسمه زيد- بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر- وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة- بن مالك بن النضر- واسمه قيس- بن كنانة بن خزيمة بن مدركة- واسمه عامر- بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان» . الجزء الثاني: ما فوق عدنان، وعدنان هو ابن أد بن هميسع بن سلامان بن عوص بن بوز بن قموال بن أبيّ بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخي بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر بن يثربي بن يحزن بن يلحن بن أرعوي بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد بن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمي بن مزي بن عوضة بن عرام بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام «2» . الجزء الثالث: ما فوق إبراهيم عليه السلام، وهو ابن تارح- واسمه آزر- بن ناحور بن ساروع- أو ساروغ- بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح- عليه السلام- بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ- يقال هو إدريس عليه السلام- ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن آنوشة بن شيث بن آدم عليهما السلام.   (1) ابن هشام 1/ 1، 2، تلقيح فهوم أهل الأثر 5، 6، رحمة للعالمين 2/ 11، 12، 13، 14، 52. (2) قد جمع العلامة محمد سليمان المنصور فوري هذا الجزء من النسب برواية الكلبي، وابن سعد بعد تحقيق دقيق. انظر رحمة للعالمين 2/ 14، 15، 16، 17 وفيه اختلاف كبير بين المصادر التاريخية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الأسرة النبوية تعرف أسرته صلى الله عليه وسلم بالأسرة الهاشمية- نسبة إلى جده هاشم بن عبد مناف- وإذن فلنذكر شيئا من أحوال هاشم ومن بعده. 1- هاشم - وقد أسلفنا أن هاشما هو الذي تولى السقاية والرفادة من بني عبد مناف حين تصالح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار على اقتسام المناصب فيما بينهما، وهاشم كان اسمه موسرا ذا شرف كبير، وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وكان اسمه عمرو «1» فما سمي هاشما إلا لهشمه الخبز، وهو أول من سن الرحلتين لقريش، رحلة الشتاء والصيف، وفيه يقول الشاعر: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف ومن حديثه أنه خرج إلى الشام تاجرا، فلما قدم المدينة تزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وأقام عندها، ثم خرج إلى الشام- وهي عند أهلها قد حملت بعبد المطلب- فمات هاشم بغزة من أرض فلسطين، وولدت امرأته سلمى عبد المطلب سنة 497 م، وسمته شيبة لشيبة كانت في رأسه «2» ، وجعلت تربيه في بيت أبيها في يثرب، ولم يشعر به أحد من أسرته بمكة وكان لهاشم أربعة بنين وهم: أسد، وأبو صيفي، ونضلة، وعبد المطلب. وخمس بنات وهي: الشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقية، وجنة «3» . 2- عبد المطلب - قد علمنا ممّا سبق أن السقاية والرفادة بعد هاشم صارت إلى أخيه المطلب بن عبد مناف، وكان شريفا مطاعا ذا فضل في قومه، كانت قريش تسميه الفياض لسخائه، ولما صار شيبة- عبد المطلب- وصيفا أو فوق ذلك سمع به المطلب. فرحل في طلبه، فلما رآه فاضت عيناه، وضمه، وأردفه على راحلته، فامتنع حتى تأذن له أمه، فسألها المطلب أن ترسله معه، فامتنعت فقال:   (1) ابن هشام 1/ 2، 3، 4، تلقيح فهوم أهل الأثر ص 6، خلاصة السير للطبري ص 6، ورحمة للعالمين 2/ 18 واختلفت هذه المصادر في تلفظ بعض هذه الأسماء، وكذا سقط من بعض المصادر بعض الأسماء. (2) ابن هشام 1/ 137، رحمة للعالمين 1/ 26، 2/ 24. (3) ابن هشام 1/ 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 إنما يمضي إلى ملك أبيه، وإلى حرم الله، فأذنت له، فقدم به مكة مردفه على بعيره، فقال الناس: هذا عبد المطلب، فقال: ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم ... فأقام عنده حتى ترعرع، ثم إن المطلب هلك بردمان من أرض اليمن، فولى بعده عبد المطلب، فأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه، وعظم خطره فيهم «1» . ولما مات المطلب وثب نوفل على أركاح عبد المطلب فغصبه إياها، فسأل رجالا من قريش النصرة على عمه، فقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك. فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياتا يستنجدهم، وسار خاله أبو سعد بن عدي في ثمانين راكبا، حتى نزل بالأبطح من مكة، فتلقاه عبد المطلب، فقال: المنزل، يا خال! فقال: لا والله حتى ألقى نوفلا، ثم أقبل فوقف نوفل، وهو جالس في الحجر مع مشايخ قريش، فسل أبو سعد سيفه وقال: ورب البيت لئن لم ترد على ابن أختي أركاحه لأمكنن منك هذا السيف، فقال: رددتها عليه، فأشهد عليه مشايخ قريش، ثم نزل على عبد المطلب، فأقام عنده ثلاثا، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة، فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبد مناف على بني هاشم، ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب قالوا: نحن ولدناه كما ولدتموه، فنحن أحق بنصره- وذلك أن أم عبد مناف منهم- فدخلوا دار الندوة، وحالفوا بني هاشم على بني عبد شمس ونوفل، وهذا الحلف الذي صار سببا لفتح مكة كما سيأتي «2» . ومن أهم ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت شيئان «3» : حفر بئر زمزم ووقعة الفيل. وخلاصة الأول أنه أمر في المنام بحفر زمزم ووصف له موضعها، فقام يحفر، فوجد فيه الأشياء التي دفنها الجراهمة حين لجأوا إلى الجلاء، أي السيوف والدروع والغزالين من الذهب، فضرب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين، وأقام سقاية زمزم للحجاج. ولما بدت بئر زمزم نازعت قريش عبد المطلب، وقالوا له: أشركنا قال ما أنا بفاعل،   (1) ابن هشام 1/ 137، 138. (2) مختصر سيرة الرسول للشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي ص 41، 42. (3) ابن هشام: 1/ 142- 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 هذا أمر خصصت به، فلم يتركوه حتى خرجوا به للمحاكمة إلى كاهنة بني سعد، ولم يرجعوا حتى أراهم الله في الطريق ما دلهم على تخصيص عبد المطلب بزمزم، وحينئذ نذر عبد المطلب لئن آتاه الله عشرة أبناء، وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة. وخلاصة الثاني أن أبرهة الصباح الحبشي، النائب العام عن النجاشي على اليمن، لما رأى العرب يحجون الكعبة بنى كنيسة كبيرة بصنعاء، وأراد أن يصرف حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلا فلطخ قبلتها بالعذرة. ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظه، وسار بجيش عرمرم- عدده ستون ألف جندي- إلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلا من أكبر الفيلة، وكان في الجيش 9 فيلة أو 13 فيلا، وواصل سيره حتى بلغ المغمس، وهناك عبأ جيشه، وهيأ فيله، وتهيأ لدخول مكة، فلما كان في وادي محسر بين المزدلفة ومنى برك الفيل، ولم يقم ليقدم إلى الكعبة، وكانوا كلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق يقوم يهرول، وإذا صرفوه إلى الكعبة برك، فبينا هم كذلك إذ أرسل الله عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، لا تصيب منهم أحدا إلا صار تتقطع أعضاؤه، وهلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض فتساقطوا بكل طريق، وهلكوا على كل منهل، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء، إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك. وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الشعاب وتحرزوا في رؤوس الجبال، خوفا على أنفسهم من معرة الجيش، فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا إلى بيوتهم آمنين «1» . وكانت هذه الوقعة في شهر المحرم قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين يوما أو بخمسة وخمسين يوما- عند الأكثر- وهو يطابق أواخر فبراير أو أوائل مارس سنة 571 م، وكانت تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته، لأنا حين ننظر إلى بيت المقدس نرى أن المشركين من أعداء الله تسلطوا على هذه القبلة، وأهلها مسلمون كما وقع لبختنصر سنة 587 ق. م، والرومان سنة 70 م، ولكن الكعبة لم يسيطر عليها النصارى- وهم المسلمون إذ ذاك- مع أن أهلها كانوا مشركين.   (1) ابن هشام 1/ 43 إلى 56، تفهيم القرآن 66/ 462 إلى 469. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وقد وقعت هذه الوقعة في الظروف التي يبلغ نبأها إلى معظم المعمورة المتحضرة إذ ذاك، فالحبشة كانت لها صلة قوية بالرومان، والفرس لا يزالون لهم بالمرصاد، يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائهم، ولذلك سرعان ما جاءت الفرس إلى اليمن بعد هذه الوقعة، وهاتان الدولتان كانتا تمثلان العالم المتحضر. فهذه الوقعة لفتت أنظار العالم ودلته على شرف بيت الله، وأنه هو الذي اصطفاه الله للتقديس، فإذن لو قام أحد من أهله بدعوى النبوّة كان ذلك هو عين ما تقتضيه هذه الوقعة، وكان تفسيرا للحكمة الخفية التي كانت في نصرة الله المشركين ضد أهل الإيمان بطريق يفوق عالم الأسباب. وكان لعبد المطلب عشرة بنين، وهم: الحارث والزبير وأبو طالب، وعبد الله، وحمزة، وأبو لهب، والغيداق، والمقوم، وصفار، والعباس، وقيل: كانوا أحد عشر، فزادوا ولدا اسمه قثم، وقيل: كانوا ثلاثة عشر، فزادوا عبد الكعبة وحجلا، وقيل: إن عبد الكعبة هو المقوم، وحجلا هو الغيداق ولم يكن من أولاده رجل اسمه قثم، وأما البنات فست وهن: أم الحكيم- وهي البيضاء- وبرة وعاتكة وصفية وأروى وأميمة «1» . 3- عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم - أمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة، وكان عبد الله أحسن أولاد عبد المطلب، وأعفهم وأحبهم إليه، وهو الذبيح، وذلك أن عبد المطلب لما تم أبناؤه عشرة، وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه، فكتب أسماءهم في القداح، وأعطاهم قيم هبل، فضرب القداح فخرج القدح على عبد الله، فأخذه عبد المطلب، وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى الكعبة ليذبحه، فمنعته قريش ولا سيما أخواله من بني مخزوم وأخوه أبو طالب، فقال عبد المطلب: فكيف أصنع بنذري فأشاروا عليه أن يأتي عرافة فيستأمرها، فأتاها، فأمرت أن يضرب القداح على عبد الله وعلى عشر من الإبل، فإن خرجت على عبد الله يزيد عشرا من الإبل حتى يرضي ربه، فإن خرجت على الإبل نحرها، فرجع وأقرع بين عبد الله وبين عشر من الإبل فوقعت القرعة على عبد الله فلم يزل يزيد من الإبل عشرا عشرا ولا تقع القرعة إلا عليه إلى أن بلغت الإبل مائة فوقعت القرعة عليها، فنحرت عنه، ثم تركها عبد المطلب لا يرد عنها إنسانا ولا سبعا، وكانت الدية في قريش وفي العرب عشرا من الإبل، فجرت بعد هذه   (1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 8، 9، رحمة للعالمين 2/ 56، 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الوقعة مائة من الإبل، وأقرها الإسلام، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا ابن الذبيحين» يعني إسماعيل، وأباه عبد الله «1» . واختار عبد المطلب لولده عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهي يومئذ تعد أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا، وأبوها سيد بني زهرة نسبا وشرفا، فبنى بها عبد الله في مكة، وبعد قليل أرسله عبد المطلب إلى المدينة يمتار لهم تمرا، فمات بها، وقيل: بل خرج تاجرا إلى الشام، فأقبل في عير قريش، فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها، ودفن في دار النابغة الجعدي، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، وكانت وفاته قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه يقول أكثر المؤرخين، وقيل: بل توفي بعد مولده بشهرين «2» . ولما بلغ نعيه إلى مكة رثته آمنة بأروع المراثي، قالت: عفا جانب البطحاء من ابن هاشم ... وجاور لحدا خارجا في الغماغم دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت في الناس مثل ابن هاشم عشية راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه في التزاحم فإن تك غالته المنايا وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم «3» وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال، وقطعة غنم، وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم «4» .   (1) ابن هشام 1/ 151 إلى 155، رحمة للعالمين 2/ 89، 90 مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله ص 12، 22، 23. (2) ابن هشام 1/ 156، 158، فقه السيرة لمحمد الغزالي ص 45، رحمة للعالمين 2/ 91. (3) طبقات ابن سعد 1/ 62. (4) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 12، تلقيح فهوم أهل الأثر ص 4 صحيح مسلم 2/ 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 المولد وأربعون عاما قبل النبوة المولد ولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم شعب بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني وعشرين من شهر أبريل سنة 571 م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان المنصور فوري والمحقق الفلكي محمود باشا «1» . وروى ابن سعد أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاءت له قصور الشام، وروى أحمد عن العرباض بن سارية ما يقارب ذلك «2» . وقد روي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك البيهقي «3» ولا يقره محمد الغزالي «4» . ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد- وهذا الإسم لم يكن معروفا في العرب- وختنه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون «5» . وأول من أرضعته من المراضع- بعد أمه صلى الله عليه وسلم- ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي «6» .   (1) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 62، رحمة للعالمين 1/ 38، 39 واختلافهم في تعيين تاريخ أبريل فرع للإختلاف في التقويمات الميلادية. (2) انظر مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ عبد الله النجدي ص 12 وابن سعد 1/ 63. (3) نفس المصدر الأول. (4) انظر فقه السيرة لمحمد الغزالي ص 46. (5) ابن هشام 1/ 159، 160، ومحاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 62 وقيل: إنه ولد مختونا، انظر تلقيح فهوم أهل الأثر ص 4 وقال ابن القيم: ليس فيه حديث ثابت. انظر زاد المعاد 1/ 18. (6) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 4، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 في بني سعد وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعادا لهم عن أمراض الحواضر؛ لتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الرضعاء، واسترضع له امرأة من بني سعد ابن بكر- وهي حليمة بنت أبي ذؤيب- وزوجها الحارث بن عبد العزى المكنى بأبي كبشة، من نفس القبيلة. وإخوته صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث (وهي الشيماء- لقب غلب على اسمها-) وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عمه حمزة بن عبد المطلب مسترضعا في بني سعد بن بكر، فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند أمه حليمة، فكان حمزة رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين، من جهة ثويبة، ومن جهة السعدية «1» . ورأت حليمة من بركته صلى الله عليه وسلم ما قصّت منه العجب، ولنتركها تروي ذلك مفصلا: قال ابن إسحاق: كانت حليمة تحدث: أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه، في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئا، قالت: فخرجت على أتان لي قمراء، معنا شارف لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده! فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري، فلما أجمعنا الإنطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه، فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما   (1) زاد المعاد 1/ 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم نام، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة! لقد أخذت نسمة مباركة، قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا وركبت أنا أتاني، وحملته عليها معي، فو الله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك! أربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله! إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها شأنا، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبنا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبنا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا، قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا «1» . وهكذا بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني سعد، حتى إذا كانت السنة الرابعة أو الخامسة «2» من مولده وقع حادث شق صدره، روى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- يعني ظئره- فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون «3» .   (1) ابن هشام 1/ 162، 163، 164. (2) هذا ما ذهب إليه عامة أهل السير، ويقتضي سياق رواية ابن إسحاق أنه وقع في السنة الثالثة، انظر ابن هشام 1/ 164، 165. (3) صحيح مسلم، باب الإسراء 1/ 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 إلى أمه الحنون وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين «1» . ورأت آمنة وفاء لذكرى زوجها الراحل أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ خمسمائة كيلو مترا، ومعها ولدها اليتيم- محمد صلى الله عليه وسلم- وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرا، ثم قفلت: وبينما هي راجعة إذ يلاحقها المرض، ويلح عليها في أوائل الطريق، فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة «2» . إلى جده العطوف وعاد به عبد المطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم، الذي أصيب بمصاب جديد نكأ الجروح القديمة، فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره على أولاده، قال ابن هشام: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني هذا فو الله إن له لشأنا، ثم يجلس معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع «3» . ولثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة، ورأى قبل وفاته أنه يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه «4» . إلى عمه الشفيق ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده، وقدمه عليهم، واختصه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه، ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله، وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها.   (1) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 7، ابن هشام 1/ 168. (2) ابن هشام 1/ 168، تلقيح فهوم أهل الأثر ص 7، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 63، فقه السيرة للغزالي ص 50. (3) ابن هشام 1/ 168. (4) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 7، ابن هشام 1/ 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 يستسقي الغمام بوجهه أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب! أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام، كأنه شمس دجن، تجلت عنه سحابة قثماء، حوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق واغدودق، وانفجر الوادي وأخضب النادي والبادي، وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل «1» بحيرا الراهب ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة- قيل وشهرين وعشرة أيام «2» - ارتحل به أبو طالب تاجرا إلى الشام، حتى وصل إلى بصرى- وهي معدودة من الشام وقصبة لحوران، وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان- وكان في هذا البلد راهب عرف ببحيرا واسمه جرجيس فلما نزل الركب خرج إليهم، وأكرمهم بالضيافة، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته، فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أبو طالب: وما علمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخرّ ساجدا، ولا تسجد إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام، خوفا عليه من اليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة «3» . حرب الفجار ولخمس عشرة من عمره صلى الله عليه وسلم كانت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية لمكانته فيهم سنا وشرفا، وكان   (1) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ عبد الله النجدي ص 15، 16. (2) قاله ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر ص 7. (3) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 16، وابن هشام 1/ 180، 181، 182، 183، ووقع في كتاب الترمذي وغيره أنه بعث معه بلالا (تحفة الأحوذي) وهو من الغلط الواضح، فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا، وإن كان موجودا فلم يكن مع عمه ولا مع أبي بكر. زاد المعاد 1/ 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان في وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس. وسميت بحرب الفجار لانتهاك حرمات الحرم والأشهر الحرم فيها، وقد حضر هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينبل على عمومته، أي يجهز لهم النبل للرمي «1» . حلف الفضول وعلى أثر هذه الحرب وقع حلف الفضول في ذي القعدة في شهر حرام، تداعت إليه قبائل من قريش: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي لسنه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألايجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعي به في الإسلام لأجبت» . وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها، ويقال في سبب هذا الحلف إن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمي، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار، ومخزوما، وجمحا، وسهما، وعديا، فلم يكثروا له، فعلا جبل أبي قبيس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك؟ حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلف الفضول، فقاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي بعد ما أبرموا الحلف «3» . حياة الكدح ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عمل معين في أول شبابه، إلا أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنما، رعاها في بني سعد «4» ، وفي مكة لأهلها على قراريط «5» وفي الخامسة والعشرين من   (1) ابن هشام 1/ 184، 185، 186، 187، قلب جزيرة العرب ص 260، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 63. (2) ابن هشام 1/ 113، 135، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 30، 31. (3) نفس المصدر الأخير ص 30، 31. (4) ابن هشام 1/ 166. (5) فقه السيرة لمحمد الغزالي ص 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 سنة خرج تاجرا إلى الشام في مال خديجة رضي الله عنها، قال ابن إسحاق: كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوما تجارا فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال لها ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام «1» . زواجه خديجة ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه صلى الله عليه وسلم من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين. وجدت ضالتها المنشودة- وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها، فتأبى عليهم ذلك- فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منية، وهذه ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم تفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضي بذلك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة، وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين بكرة، وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبا وثروة وعقلا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت «2» . وكل أولاده صلى الله عليه وسلم منها سوى إبراهيم، ولدت له أولا القاسم- وبه كان يكنى- ثم زينب ورقية، وأم كلثوم وفاطمة وعبد الله، وكان عبد الله يلقب بالطيب والطاهر، ومات بنوه كلهم في صغرهم، أما البنات فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن، إلا أنهن أدركتهن الوفاة في حياته صلى الله عليه وسلم، سوى فاطمة رضي الله عنها فقد تأخرت بعده ستة أشهر، ثم لحقت به «3» .   (1) ابن هشام 1/ 187، 188. (2) ابن هشام 1/ 189، 190، فقه السيرة لمحمد الغزالي ص 59، تلقيح فهوم أهل الأثر ص 7. (3) نفس المصدر الأول 1/ 190، 191، والثاني ص 60، وفتح الباري 7/ 507 وبين المصادر اختلاف يسير أخذنا ما هو الراجح عندنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 بناء الكعبة وقضية التحكيم ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة، وذلك لأن الكعبة كانت رضما فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل، ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت- باعتبارها أثرا قديما- للعوادي التي أوهت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم، وانحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الإنهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصا على مكانتها، واتفقوا على ألايدخلوا في بنائها إلا طيبا، فلا يدخلوا فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومي، وتبعه الناس لما رأوا أنه لم يصبه شيء، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء، فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزآ منها، فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذو يبنونها، وتولى البناء بناء رومي اسمه باقوم، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد. فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء، فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده، فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضي به القوم. وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفعوا بابها من الأرض، لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعا سقفوه على ستة أعمدة. وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبا يبلغ ارتفاعه 15 مترا، وطول ضلعه الذي فيه الحجر الأسود والمقابل له 10، 10 م، والحجر موضوع على ارتفاع 50، 1 م من أرضية المطاف، والضلع الذي فيه الباب والمقابل له 12 م وبابها على ارتفاع مترين من الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها، متوسط ارتفاعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 25، 0 م ومتوسط عرضها 30، 0 م وتسمى بالشاذروان، وهي من أصل البيت لكن قريشا تركتها «1» . السيرة الإجمالية قبل النبوة إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازا رفيعا من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظا وافرا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناء الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشؤون الناس وأحوال الجماعات، فعاف ما سواها من خرافة، ونأى عنها، ثم عايش الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجد حسنا شارك فيه، وإلا عاد إلى عزلته العتيدة فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدا، ولا احتفالا، بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى «2» . ولا شك أن القدر حاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لإستطاع بعض متع الدنيا، وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمودة تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها، روى ابن الأثير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب! فقال: أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع. فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس. فعدت إلى صاحبي فسألني، فأخبرته، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة ... ثم ما هممت بسوء» «3» .   (1) انظر في تفصيل بناء الكعبة ابن هشام 12/ 192 إلى 197، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص 62، 63، وصحيح البخاري باب فضل مكة وبنيانها 1/ 215، ومحاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 64، 65. (2) يدل عليه كلامه مع بحيرا. انظر ابن هشام 1/ 128. (3) اختلفوا في صحة هذا الحديث فصححه الحاكم والذهبي وضعفه ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال: إزاري، إزاري، فشد عليه إزاره «1» وفي رواية فما رؤيت له عورة بعد ذلك «2» . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأعزهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وألينهم عريكة، وأعفهم نفسا، وأكرمهم خيرا، وأبرهم عملا، وأوفاهم عهدا، وآمنهم أمانة، حتى سماه قومه: الأمين؛ لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق «3» .   (1) صحيح البخاري باب بنيان الكعبة 1/ 540. (2) نفس المصدر مع شرح القسطلاني. (3) صحيح البخاري 1/ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 في ظلال النبوة والرسالة في غار حراء ولما تقاربت سنه صلى الله عليه وسلم الأربعين، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور، على مبعدة نحو ميلين من مكة- وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد- ومعه أهله قريبا منه، فيقيم فيه شهر رمضان، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه «1» . وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له، وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم. ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى ... لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة، وهموم الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة. وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ: دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عند ما يأذن الله «2» . جبريل ينزل بالوحي ولما تكامل له أربعون سنة- وهي رأس الكمال، وقيل: ولها تبعث الرسل- بدأت آثار النبوة تتلوح وتتلمع له من وراء آفاق الحياة، وتلك الآثار هي الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلا   (1) رحمة للعالمين 1/ 47، وابن هشام 1/ 235، 236، في ظلال القرآن الجزء 29/ 166. (2) نفس المصدر الأخير 29/ 166، 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر، ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة- فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بايات من القرآن «1» . وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الإثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلا، ويوافق 10 أغسطس سنة 610 م، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و 12 يوما، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر و 12 يوما «2» .   (1) قال ابن حجر: وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع في شهر مولده وهو ربيع الأول، بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة في رمضان (فتح الباري 1/ 27) . (2) اختلف المؤرخون اختلافا كبيرا في أول شهر أكرمه الله فيه بالنبوة، وإنزال الوحي، فذهبت طائفة كبيرة إلى أنه شهر ربيع الأول، وذهبت طائفة أخرى إلى أنه رمضان، وقيل هو شهر رجب (انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب النجدي ص 75) ورجحنا الثاني- أي أنه شهر رمضان- لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] ولقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] ومعلوم أن ليلة القدر في رمضان، وهي المرادة بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3] ولأن جواره صلى الله عليه وسلم بحراء كان في رمضان، وكانت وقعة نزول جبريل فيهما كما هو معروف. ثم اختلف القائلون ببدء نزول الوحي في رمضان في تحديد ذلك اليوم، فقيل: هو اليوم السابع، وقيل السابع عشر، وقيل الثامن عشر (انظر مختصر سيرة الرسول المذكور ص 75، ورحمة للعالمين 1/ 49) وقد أصر الخضري في محاضراته على أنه اليوم السابع عشر (محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 69) . وإنما رجحنا أنه اليوم الحادي والعشرون مع أنا لم نر من قال به لأن أهل السيرة كلهم أو أكثرهم متفقون على أن مبعثه صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين، ويؤيدهم ما رواه أئمة الحديث عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: «فيه ولدت فيه أنزل علي، وفي لفظ: ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل عليّ فيه» (صحيح مسلم 1/ 368، أحمد 5/ 297، 299، البيهقي 4/ 286، 300، الحاكم 2/ 602) ويوم الإثنين في رمضان من تلك السنة لا يوافق إلا اليوم السابع، والرابع عشر، والحادي والعشرين، والثامن والعشرين، وقد دلت الروايات الصحيحة أن ليلة القدر لا تقع إلا في وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان وأنها تنتقل فيما بين هذه الليالي، فإذا قارنا بين قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وبين رواية أبي قتادة أن مبعثة صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين وبين حساب التقويم العلمي في وقوع يوم الإثنين في رمضان من تلك السنة تعين لنا أن مبعثة صلى الله عليه وسلم كان في اليوم الحادي والعشرين من رمضان ليلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها تروي لنا قصة هذه الوقعة التي كانت شعلة من نور اللاهوت، أخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال، حتى غيرت مجرى الحياة، وعدلت خط التاريخ. قالت عائشة رضي الله عنها: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ: فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ «1» فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: مالي، وأخبرها الخبر، لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة- وكان امرآ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي- فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي «2» . وروى الطبري وابن هشام ما يفيد أنه خرج من غار حراء بعد ما فوجئ بالوحي ثم رجع وأتم جواره، وبعد ذلك رجع إلى مكة، ورواية الطبري تلقي ضوآ على سبب خروجه وهاك نصها:   (1) كان نزول الآيات إلى قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. (2) صحيح البخاري 1/ 2، 3، وقد أخرجه البخاري مع اختلاف يسير في اللفظ في كتابي التفسير وتعبير الرؤيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر مجيء الوحي: «ولم يكن من خلق الله أبغض على من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت: إن الأبعد- يعني نفسه- شاعر أو مجنون إلا تحدث بها عني قريش أبدا! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها، فلأستريحن! قال: فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد!! أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد! أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مقامي، ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي «1» حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها- ملتصقا بها مائلا إليها- فقالت: يا أبا القاسم! أين كنت؟ فو الله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إليّ، ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عم، واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة «2» ، ثم قامت فانطلقت إلى ورقة وأخبرته. فقال: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت، فرجعت خديجة وأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف- إلى مكة- لقيه ورقة، وقال بعد أن سمع منه خبره: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى» «3» . فترة الوحي أما مدة فترة الوحي فروى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد أنها كانت أياما «4» وهذا الذي يترجح بل يتعين بعد إدارة النظر في جميع الجوانب. وأما ما اشتهر من أنها دامت طيلة ثلاثة سنين أو سنتين ونصف فلا يصح بحال، وليس هذا موضع التفصيل في رده. وقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيبا محزونا، تعتريه الحيرة والدهشة، فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه:   (1) نص الطبري 2/ 207. (2) نص ابن هشام 1/ 237- 238. (3) ملخص من ابن هشام 1/ 238. (4) فتح الباري 1/ 27، 12/ 360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا عدا «1» منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك «2» . جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية قال ابن حجر: وكان ذلك- أن انقطاع الوحي أياما- ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود «3» ، فلما تقلصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أضحى نبيا لله الكبير المتعال، وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء وصار تشوفه وارتقابه لمجيء الوحي سببا في ثباته واحتماله عند ما يعود، وجاءه جبريل للمرة الثانية. روى البخاري عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، قال: «فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله: فَاهْجُرْ، ثم حمي الوحي وتتابع» «4» . استطراد في بيان أقسام الوحي قبل أن نأخذ في تفصيل حياة الرسالة والنبوة، نرى أن نتعرف أقسام الوحي الذي هو مصدر الرسالة ومدد الدعوة. قال ابن القيم- وهو يذكر مراتب الوحي: إحداها: الرؤيا الصادقة ، وكان مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم. الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها. فاتقوا الله، وأجملوا   (1) بالعين المهلة من العدو، وهو الذهاب بسرعة، وفي بعض النسخ «غدا» بالغين المعجمة. (2) صحيح البخاري التعبير باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة 2/ 34. (3) فتح الباري 1/ 27. (4) صحيح البخاري كتاب التفسير باب والرجز فاهجر 2/ 733. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته» . الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا. الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه فيلتبس به الملك، حتى أن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد، وحتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض، إذا كان راكبها، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضّها. الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم. السادسة: ما أوحاه الله إليه، وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها. السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك كما كلّم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن. وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء. وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله له كفاحا من غير حجاب، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف. انتهى مع تلخيص يسير في بيان المرتبة الأولى والثامنة «1» .   (1) انظر زاد المعاد 1/ 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أمر القيام بالدعوة إلى الله، وموادها تلقى النبي صلى الله عليه وسلم أوامر عديدة في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أوامر بسيطة ساذجة في الظاهر، بعيدة المدى والغاية، قوية الأثر والفعل في الحقيقة ونفس الأمر. 1- فغاية القيام بالإنذار ألايترك أحدا ممن يخالف مرضاة الله في عالم الوجود إلا وينذره بعواقبه الوخيمة حتى تقع رجفة وزلزال في قلبه وروعه. 2- وغاية تكبير الرّب ألايترك لأحد كبرياء في الأرض إلا وتكسر شوكتها، وتقلب ظهرا لبطن، حتى لا يبقى في الأرض إلا كبرياء الله تعالى. 3- وغاية تطهير الثياب وهجران الرجز أن يبلغ في تطهير الظاهر والباطن وفي تزكية النفس من جميع الشوائب والألواث إلى أقصى حد وكمال يمكن لنفس بشرية تحت ظلال رحمة الله الوارفة وحفظه وكلئه وهدايته ونوره، حتى يكون أعلى مثل في المجتمع البشري، تجتذب إليه القلوب السليمة، وتحس بهيبته وفخامته القلوب الزائغة، حتى ترتكز إليه الدنيا بأسرها وفاقا أو خلافا. 4- وغاية عدم الإستكثار بالمنة ألايعد فعالاته وجهوده فخيمة عظيمة، بل لا يزال يجتهد في عمل بعد عمل، ويبذل الكثير من الجهد والتضحية والفناء، ثم ينسى كل ذلك، بل يفنى في الشعور بالله بحيث لا يحس ولا يشعر بما بذل وقدم. 5- وفي الآية الأخيرة إشارة إلى ما سيلقاه من أذى المعاندين من المخالفة والإستهزاء والسخرية إلى الجد والإجتهاد في قتله وقتل أصحابه، وإبادة كل من التفّ حوله من المؤمنين، يأمر الله تعالى أن يصبر على كل من ذلك بقوة وجلادة، لا لينال حظّا من حظوظ نفسه، بل لمجرد مرضاة ربه. الله أكبر! ما أبسط هذه الأوامر في صورتها الظاهرة. وما أروعها في إيقاعاتها الهادئة الخلابة، ولكن ما أكبرها وأفخمها وأشدها في العمل، وما أعظمها إثارة لعاصفة هوجاء تحضر جوانب العالم كله، وتتركها يتلاحم بعضها في بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والآيات نفسها تشتمل على مواد الدعوة والتبليغ، فالإنذار نفسه يقتضي أن هناك أعمالا لها عاقبة سوأى يلقاها أصحابها، ونظرا لما يعرفه كل أحد أن الدنيا لا يجازى فيها بكل ما يعمل الناس، بل ربما لا يمكن المجازاة بجميع الأعمال. فالإنذار يقتضي يوما للمجازاة غير أيام الدنيا، وهو الذي يسمى بيوم القيامة ويوم الجزاء والدين، وهذا يستلزم حياة أخرى غير الحياة التي نعيشها في الدنيا. وسائر الآيات تطلب من العباد التوحيد الصريح، وتفويض الأمور كلها إلى الله تعالى، وترك مرضاة النفس، ومرضاة لعباد إلى مرضاة الله تعالى. فإذن تتلخص هذه المواد في: أ- التوحيد. ب- الإيمان بيوم الآخرة. ج- القيام بتزكية النفس بأن تتناهى عن المنكرات والفواحش التي تفضي إلى سوء العاقبة، وبأن تقوم باكتساب الفضائل والكمالات وأعمال الخير. د- تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى. هـ- وكل ذلك بعد الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتحت قيادته النبيلة وتوجيهاته الرشيدة. ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوي- في صوت الكبير المتعال- بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل، وانتزعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، كأنه قيل: إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا، أما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنوم؟ وما لك والراحة؟ وما لك والفراش الدافئ؟ والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح! قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك. قم للجهد والنصب، والكد والتعب. قم فقد مضى وقت النوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل، والجهاد الطويل الشاق. قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد. إنها لكلمة عظيمة رهيبة، تنزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن الدافئ، لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما! لم يسترح ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائما على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى، عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاما. لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد. منذ أن سمع النداء العلوي الجليل، وتلقى منه التكليف الرهيب .... جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء «1» . وليست الأوراق الآتية إلا صورة مصغرة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال هذا الأمد.   (1) في ظلال القرآن تفسير سورتي المزمل والمدثر، ج 29/ 168، 169، 170، 171، 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أدوار الدعوة ومراحلها [أدوار الدعوة] يمكن أن نقسم عهد الدعوة المحمدية- على صاحبها الصلاة والسلام والتحية- إلى دورين يمتاز أحدهما عن الآخر تمام الإمتياز وهما: 1- الدور المكي ، ثلاث عشرة سنة تقريبا. 2- الدور المدني، عشر سنوات كاملة. ثم يشتمل كل من الدورين على مراحل لكل منها خصائص تمتاز بها عن غيرها، ويظهر ذلك جليا بعد النظر الدقيق في الظروف التي مرت بها الدعوة خلال الدورين. [ مراحل الدور المكي ] ويمكن تقسيم الدور المكي إلى ثلاث مراحل: 1- مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنين. 2- مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى أواخر السنة العاشرة. 3- مرحلة الدعوة خارج مكة، وفشوها فيهم، من أواخر السنة العاشرة من النبوة إلى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. أما مراحل الدور المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 المرحلة الأولى جهاد الدعوة [سرا] ثلاث سنوات من الدعوة السرية معلوم أن مكة كانت مركز دين العرب، وكان بها سدنة الكعبة، والقوام على الأوثان والأصنام المقدسة عند سائر العرب، فالوصول إلى المقصود من الإصلاح فيها يزداد عسرا وشدة عما لو كان بعيدا عنها. فالأمر يحتاج إلى عزيمة لا تزلزلها المصائب والكوارث، كان من الحكمة تلقاء ذلك أن الدعوة في بدء أمرها سرية، لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم. الرعيل الأول وكان من الطبيعي أن يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام أولا على ألصق الناس به وآل بيته، وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه خيرا ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الله والحق والخير، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء- الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وجلالة نفسه وصدق خبره- جمع عرفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي «1» وابن عمه علي بن أبي طالب- وكان صبيا يعيش في كفالة الرسول- وصديقه الحميم أبو بكر الصديق. أسلم هؤلاء في أول يوم من أيام الدعوة «2» . ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلا مألفا محببا سهلا، ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه، لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو   (1) كان قد أسر ورق، فملكته خديجة، ووهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءه أبوه وعمه ليذهبا به إلى قومه وعشيرته، فاختار عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبناه حسب قواعد العرب، وكان لذلك يقال: زيد بن محمد، حتى جاء الإسلام فأبطل التبني. (2) رحمة للعالمين 1/ 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان الأموي، والزبير بن العوام الأسدي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهريان، وطلحة بن عبيد الله التيمي. فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس هم الرعيل الأول وطليعة الإسلام. ومن أوائل المسلمين بلال بن رباح الحبشي، ثم تلاهم أمين هذه الأمة «1» أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم المخزوميان، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوي، وامرأته فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت وعبد الله بن مسعود الهذلي وخلق سواهم، وأولئك هم السابقون الأولون، وهم من جميع بطون قريش وعدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفرا» . وفي ذكر بعضهم في السابقين الأولين نظر. قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به «3» . أسلم هؤلاء سرا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم ويرشدهم إلى الدين متخفيا؛ لأن الدعوة كانت لا تزال فردية وسرية، وكان الوحي قد تتابع وحمى نزوله بعد نزول أوائل المدثر. وكانت الآيات وقطع السور التي تنزل في هذا الزمان آيات قصيرة، ذات فواصل رائعة منيعة، وإيقاعات هادئة خلابة تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق، تشتمل على تحسين تزكية النفوس، وتقبيح تلويثها برغائم الدنيا، تصف الجنة والنار كأنهما رؤى عين، تسير بالمؤمنين في جو آخر غير الذي فيه المجتمع البشري آنذاك. الصلاة وكان في أوائل ما نزل الأمر بالصلاة، قال مقاتل بن سليمان: فرض الله في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، لقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ [غافر: 55] وقال ابن حجر: كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلي قطعا، وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل فرض شيء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أم لا؟ فقيل   (1) انظر لتسميته بهذا اللقب صحيح البخاري مناقب أبي عبيدة بن الجراح 1/ 530. (2) انظر سيرة ابن هشام 1/ 245 إلى 262. (3) نفس المصدر 1/ 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. انتهى. وروى الحارث بن أسامة من طريق ابن لهيعة موصولا عن زيد بن حارثة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل، فعلمه الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه. وقد روى ابن ماجة بمعناه. وروى نحوه عن البراء بن عازب وابن عباس وفي حديث ابن عباس؛ وكان ذلك من أول الفريضة «1» . وقد ذكر ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، وقد رأى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وعليا يصليان مرة، فكلمهما في ذلك، ولما عرف جلية الأمر أمرهما بالثبات «2» . الخبر يبلغ إلى قريش إجمالا يبدو بعد النظر في نواح شتى من الوقائع أن الدعوة- في هذه المرحلة- وإن كانت سرية وفردية، لكن بلغت أنباؤها إلى قريش، بيد أنها لم تكترث بها. قال محمد الغزالي: وترامت هذه الأنباء إلى قريش فلم تعرها اهتماما، ولعلها حسبت محمدا أحد أولئك الديانين، الذين يتكلمون في الألوهية وحقوقها، كما صنع أمية بن أبي الصلت، وقس بن ساعدة، وعمرو بن نفيل وأشباههم، إلا أنها توجست خيفة من ذيوع خبره وامتداد أثره، وأخذت ترقب على الأبام مصيره ودعوته «3» . مرت ثلاث سنين والدعوة لم تزل سرية وفردية، وخلال هذه الفترة تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها، ثم تنزل الوحي يكلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالنته قومه، ومجابهة باطلهم ومهاجمة أصنامهم.   (1) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 88. (2) ابن هشام 1/ 247. (3) فقه السيرة ص 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 المرحلة الثانية الدعوة جهارا أول أمر بإظهار الدعوة أول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] والسورة التي وقعت فيها الآية- وهي سورة الشعراء- ذكرت فيها أولا قصة موسى عليه السلام من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل، ونجاتهم من فرعون وقومه، وإغراق آل فرعون معه، وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التي مر بها موسى عليه السّلام خلال دعوة فرعون وقومه إلى الله. أرى أن هذا التفصيل إنما جيء به حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة قومه إلى الله، ليكون أمامه وأمام أصحابه نموذجا لما سيلقونه من التكذيب والإضطهاد حينما يجهرون بالدعوة، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ بداية دعوتهم. ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مال المكاذبين للرسل، من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة- علاوة ما ذكر من أمر فرعون وقومه- ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب بما يؤول إليه أمرهم وبما سيلقون من مؤاخذة الله إن استمروا على التكذيب، وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم لا للمكاذبين. الدعوة في الأقربين وأول ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أنه دعا بني هاشم فحضروا، ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلا. فبادره أبو لهب وقال: وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصبّاة. واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ثم دعاهم ثانية وقال: «الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له. ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدا أو النار أبدا» . فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به. فو الله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب: هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقينا «1» . على جبل الصفا وبعد ما تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته، وهو يبلّغ عن ربه، قام يوما على الصفا فصرخ: «يا صباحاه» فاجتمع إليه بطون قريش، فدعاهم إلى التوحيد والإيمان برسالته وباليوم الآخر. وقد روى البخاري طرفا من هذه القصة عن ابن عباس. قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: «يا بني فهر!. يا بني عدي! لبطون قريش» ، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش. فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» . فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟ فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «2» . وروى مسلم طرفا آخر من هذه القصة عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعم وخص. فقال: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها «3» » .   (1) ابن الأثير، فقه السيرة ص 77، 78. (2) صحيح البخاري 2/ 702، 743، والرواية مخرجة في صحيح مسلم أيضا 1/ 114. (3) صحيح مسلم 1/ 114، صحيح البخاري 1/ 385، 2/ 702، مشكاة المصابيح 2/ 460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 هذه النصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم. وأن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله. الصدع بالحق وردود فعل المشركين ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعكر على خرافات الشرك وترهاته، ويذكر حقائق الأصنام وما لها من قيمة في الحقيقة، يضرب بعجزها الأمثال، ويبين بالبينات أن من عبدها وجعلها وسيلة بينه وبين الله فهو في ضلال مبين. انفجرت مكة بمشاعر الغضب، وماجت بالغرابة والإستنكار، حين سمعت صوتا يجهر بتضليل المشركين وعباد الأصنام، كأنه صاعقة قصفت السحاب، فرعدت وبرقت وزلزلت الجو الهادئ، وقامت قريش تستعد لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة، ويخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها. قامت لأنها عرفت أن معنى الإيمان بنفي الألوهية عما سوى الله، ومعنى الإيمان بالرسالة وباليوم الآخر هو الإنقياد التام والتفويض المطلق، بحيث لا يبقى لهم خيار في أنفسهم وأموالهم، فضلا عن غيرهم. ومعنى ذلك انتفاء سيادتهم وكبريائهم على العرب، التي كانت بالصبغة الدينية، وامتناعهم عن تنفيذ مرضاتهم أمام مرضاة الله ورسوله، وامتناعهم عن المظالم التي كانوا يفترونها على الأوساط السافلة، وعن السيئات التي كانوا يجترحونها صباح مساء. عرفوا هذا المعنى فكانت نفوسهم تأبى عن قبول هذا الوضع «المخزي» لا لكرامة وخير بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ [القيامة: 5] . عرفوا كل ذلك جيدا، ولكن ماذا سيفعلون أمام رجل صادق أمين، أعلى مثل للقيم البشرية ولمكارم الأخلاق، لم يعرفوا له نظيرا ولا مثيلا خلال فترة طويلة من تاريخ الآباء والأقوام؟ ماذا سيفعلون؟ تحيروا في ذلك، وحق لهم أن يتحيروا. وبعد إدارة فكرتهم لم يجدوا سبيلا إلا أن يأتوا إلى عمه أبي طالب، فيطلبوا منه أن يكف ابن أخيه عما هو فيه، ورأوا لإلباس طلبهم لباس الجد والحقيقة أن يقولوا: إن الدعوة إلى ترك آلهتهم، والقول بعدم نفعها وقدرتها سبة قبيحة وإهانة شديدة لها، وفيه تسفيه وتضليل لآبائهم الذين كانوا على هذا الدين، وجدوا هذا السبيل فتسارعوا إلى سلوكها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وفد قريش إلى أبي طالب قال ابن إسحاق: مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافة، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا، وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله، ويدعو إليه «1» . المجلس الإستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة وخلال هذه الأيام أهم قريشا أمر آخر، وذلك أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لا بد من كلمة يقولونها للعرب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، قالوا: فأنت فقل، قال: بل أنتم فقولوا! أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك «2» . وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له، قالوا: أرنا رأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم: أمهلوني حتى أفكر في ذلك، فظل الوليد يفكر ويفكر، حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنفا «3» . وفي الوليد أنزل الله تعالى ست عشرة آية من سورة المدثر (من 11 إلى 16) وفي   (1) ابن هشام 1/ 265. (2) نفس المصدر 1/ 271. (3) انظر في ظلال القرآن 29، 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 خلالها صور كيفية تفكيره، فقال: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه، فجلسوا بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره «1» . والذي تولى كبر ذلك هو أبو لهب، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الناس إذا وافى الموسم في منازلهم وفي عكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى الله، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب «2» . وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها. أساليب شتى لمجابهة الدعوة ولما رأت قريش أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يصرفه عن دعوته هذا ولا ذاك. فكروا مرة أخرى، واختاروا لقمع هذه الدعوة أساليب تتلخص فيما يأتي: 1- السخرية والتحقير ، والإستهزاء والتكذيب والتضحيك، قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي صلى الله عليه وسلم بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] ويصمونه بالسحر والكذب وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم: 51] وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزأوا بهم وقالوا: هؤلاء جلساؤه مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الأنعام: 53] قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام: 53] وكانوا كما قص الله علينا إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذا مَرُّوا   (1) ابن هشام 1/ 271. (2) روى فعله هذا الترمذي عن يزيد بن رومان و ... عن طارق بن عبد الله المحاربى ورواه الإمام أحمد في مسنده 3/ 492، 4/ 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بِهِمْ يَتَغامَزُونَ. وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ [المطففين: 29، 30، 31، 32، 33] . 2- تشويه تعاليمه وإثارة الشبهات ، وبث الدعايات الكاذبة، ونشر الإيرادات الواهية حول هذه التعاليم، وحول ذاته وشخصيته، والإكثار من كل ذلك بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر دعوته، فكانوا يقولون عن القرآن: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان: 4] وكانوا يقولون: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] وكانوا يقولون عن الرسول صلى الله عليه وسلم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 7] وفي القرآن نماذج كثيرة للردود على إيراداتهم بعد نقلها أو من غير نقلها. 3- معارضة القرآن بأساطير الأولين ، وتشغيل الناس بها عنه. فقد ذكروا أن النضر ابن الحارث قال مرة لقريش: يا معشر قريش! والله لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد. قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغية الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر. لا والله ما هو بساحر. لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن. لا والله ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر. لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون. لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم. ثم ذهب النضر إلى الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر، ويقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟! «1» . وتفيد رواية ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قينات، فكان لا يسمع برجل مال إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا سلط عليه واحدة منهن تطعمه وتسقيه، وتغني له، حتى لا يبقى له ميل إلى   (1) ابن هشام 1/ 299، 300، 358، وتفهيم القرآن 4/ 8، 9، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 117، 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الإسلام، وفيه نزل قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «1» [لقمان: 6] . 4- مساومات [ومداهنات أنصاف الحلول] حاولوا بها أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق بأن يترك المشركون بعض ما هم عليه، ويترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض ما هو عليه وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9] فهناك رواية رواها ابن جرير والطبراني تفيد أن المشركين عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم عاما، ويعبدون ربه عاما. ورواية أخرى لعبد بن حميد تفيد أنهم قالوا: لو قبلت آلهتنا نعبد إلهك «2» . وروى ابن إسحاق بسنده، قال: اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو يطوف بالكعبة- الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمي- وكانوا ذوي أسنان في قومهم- فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ السورة كلها «3» . وحسم الله مفاوضتهم المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة. ولعل اختلاف الروايات لأجل أنهم حاولوا هذه المساومة مرة بعد أخرى. الإضطهادات أعمل المشركون الأساليب التي ذكرناها شيئا فشيئا لكف الدعوة بعد ظهورها في بداية السنة الرابعة من النبوة، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهم مقتصرون على هذه الأساليب، لا يتجاوزونها إلى طريق الإضطهاد والتعذيب، ولكنهم لما رأوا أن هذه الأساليب لا تجدي لهم نفعا في كف الدعوة الإسلامية؛ اجتمعوا مرة أخرى، وكونوا منهم لجنة أعضاؤها خمسة وعشرون رجلا من سادات قريش، رئيسها أبو لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد التشاور والتفكر اتخذت هذه اللجنة قرارا حاسما ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضد أصحابه. فقررت ألاتألوا جهدا في محاربة الإسلام، وإيذاء رسوله، وتعذيب الداخلين فيه، والتعرض لهم بألوان من النكال والإيلام «4» .   (1) تفهيم القرآن 4/ 9. (2) تفهيم القرآن 6/ 501، 205. (3) ابن هشام 1/ 362. (4) رحمة للعالمين 1/ 59، 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 اتخذوا هذا القرار وصمموا على تنفيذه. أما بالنسبة إلى المسلمين- ولا سيما المستضعفين منهم- فكان ذلك سهلا جدا. وأما بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان رجلا شهما وقورا ذا شخصية فذة، تتعاظمه نفوس الأعداء والأصدقاء، بحيث لا يقابل مثلها إلا بالإجلال والتشريف، ولا يجترئ على اقتراف الدنايا والرذائل ضده إلا أرذال الناس وسفهاؤهم، ومع ذلك كان في منعة أبي طالب، وأبو طالب من رجال مكة المعدودين، كان معظما في أصله، معظما بين الناس، فما يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته، إن هذا الوضع أقلق قريشا وأقامهم وأقعدهم، ولكن إلام هذا الصبر الطويل أمام دعوة تتشوف إلى القضاء على زعامتهم الدينية، وصدارتهم الدنيوية. وبدأوا الإعتداآت ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم أبو لهب، فقد اتخذ موقفه هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول قبل أن تهم قريش بذلك. وقد أسلفنا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس بني هاشم، وما فعل على الصفا، وقد ورد في بعض الروايات أنه- حينما كان على الصفا- أخذ حجرا ليضرب به النبي صلى الله عليه وسلم «1» . وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة، حتى طلقاهما «2» . ولما مات عبد الله- الابن الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم- استبشر أبو لهب، وهرول إلى رفقائه يبشرهم بأن محمدا صار أبتر «3» . وقد أسلفنا أن أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج والأسواق لتكذيبه، وقد روى طارق بن عبد الله المحاربي ما يفيد أنه كان لا يقتصر على التكذيب، بل كان يضربه بالحجر حتى يدمي عقباه «4» . وكانت امرأة أبي لهب- أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان- لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بابه ليلا، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الإفتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حربا شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب. ولما سمعت ما نزل فيه وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في   (1) روى ذلك الترمذي. (2) في ظلال القرآن 30/ 282، تفهيم القرآن 6/ 522. (3) تفهيم القرآن 6/ 490. (4) جامع الترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فهر (أي بمقدار ملء الكف) من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر! أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة. ثم قالت: مذمما عصينا ... وأمره أبينا ودينه قلينا ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني «1» . وروى أبو بكر البزار هذه القصة. وفيها أنها لما وقفت على أبي بكر قالت: أبا بكر هجانا صاحبك، فقال أبو بكر: لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمصدق. كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاره، كان بيته ملصقا ببيته، كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذونه وهو في بيته. قال ابن إسحاق: كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم ابن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي- وكانوا جيرانه- لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص «2» ، فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا ليستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: يا بني عبد مناف! أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق «3» . وازداد عقبة بن أبي معيط في شقاوته وخبثه، فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد. فانبعث أشقى القوم (وهو عقبة بن أبي معيط) «4» فضاء به فنظر، حتى إذا سجد النبي لله وضع على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر، لا أغني شيئا، لو كانت لي منعة، قال: فجعلوا   (1) انظر سيرة ابن هشام 1/ 335، 336. (2) هو أبو الخليفة الأموي مروان بن الحكم. (3) ابن هشام 1/ 416. (4) صرح بذلك في صحيح البخاري نفسه 1/ 543. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 يضحكون، ويحيل بعضهم على بعض- أي: يتمايل بعضهم على بعض مرحا وبطرا-، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، وقال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط- وعد السابع فلم يحفظه- فو الذي نفسي بيده لقد رأيت الذي عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب، قليب بدر «1» . وكان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه. وفيه نزل: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال ابن هشام: الهمزة: الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه، ويغمز به. واللمزة: الذي يعيب الناس سرا ويؤذيهم «2» . أما أخوه أبيّ بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين. وجلس عقبة مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أبيا أنّبه وعاتبه وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل. وأبيّ بن خلف نفسه فت عظاما رميما ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . وكان الأخنس بن شريق الثقفي ممن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه، وهي في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 10- 11- 12- 13] . وكان أبو جهل يجيء أحيانا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله، ثم يذهب مختالا بما يفعل، فخورا بما ارتكب من الشر، كأنما فعل شيئا يذكر، وفيه نزل: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى إلخ «4» وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلي في الحرم، ومرة مر به وهو يصلي عند المقام فقال: يا محمد ألم أنهك عن هذا،   (1) صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب إذا ألقى على المصلي قذر أو جيفة 1/ 37. (2) ابن هشام 1/ 356، 357. (3) نفس المصدر 1/ 361، 362. (4) في ظلال القرآن 29/ 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وتوعده فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره. فقال: يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا. فأنزل فَلْيَدْعُ نادِيَهُ «1» وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه، وهزه، وهو يقول له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فقال عدو الله: أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا، وإني لأعز من مشى بين جبليها «2» . ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الأنتهار، بل ازداد شقاوة فيما بعد. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم! فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبية ويتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا، وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» . كانت هذه الإعتداآت بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ما لشخصيته الفذة من وقار وجلال في نفوس العامة والخاصة، ومع ما له من منعة أبي طالب أعظم رجل محترم في مكة، أما بالنسبة إلى المسلمين- ولا سيما الضعفاء منهم- فإن الإجراآت كانت أقسى من ذلك وأمر، ففي نفس الوقت قامت كل قبيلة تعذب من دان منها بالإسلام أنواعا من التعذيب، ومن لم يكن له قبيلة فأجرت عليهم الأوباش والسادات ألوانا من الإضطهاد، يفزع من ذكرها قلب الحليم. كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به «4» . وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته «5» . ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشا، فتخشف جلده تخشف الحية «6» . وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، حتى كان يظهر أثر الحبل في عنقه، وكان أمية   (1) نفس المصدر 30/ 208. (2) نفس المصدر 29/ 312. (3) رواه مسلم في صحيحه. (4) ابن هشام 1/ 320. (5) رحمة للعالمين (1/ 57. (6) نفس المصدر 1/ 58، وتلقيح فهوم أهل الأثر ص 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 يشده شدا ثم يضربه بالعصا، وكان يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع، وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى. فيقول: - وهو في ذلك- أحد، أحد، حتى مر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل بسبع أواق أو بخمس من الفضة وأعتقه «1» . وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون- وعلى رأسهم أبو جهل- يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء، فيعذبونهم بحرها. ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال: صبرا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية- أم عمار- في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر أحمر على صدره أخرى، وبالتغريق أخرى. وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدا، أو تقول: في اللات والعزى خيرا، فوافقهم على ذلك مكرها، وجاء باكيا معتذرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ الآية: [النحل: 106] «2» . وكان أبو فكيهة- واسمه أفلح- مولى لبني عبد الدار، فكانوا يشدون برجله الحبل، ثم يجرونه على الأرض «3» . وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية، فكان المشركون يذيقونه أنواعا من التنكيل، يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذبا، ويلوون عنقه تلوية عنيفة وأضجعوه مرات عديدة على فحام ملتهبة، ثم وضعوا عليه حجرا؛ حتى لا يستطيع أن يقوم «4» . وكانت زنيرة والنهدية وابنتها وأم عبيس إماء أسلمن، وكان المشركون يسومونهن من   (1) رحمة للعالمين 1/ 57، تلقيح الفهوم ص 61، ابن هشام 1/ 317، 318. (2) ابن هشام 1/ 319، 320، فقه السيرة لمحمد الغزالي ص 82 وروى بعض ذلك العوفي عن ابن عباس، انظر مختصر السيرة للشيخ عبد الله ص 92. (3) رحمة للعالمين 1/ 57، من إعجاز التنزيل ص 53. (4) نفس المصدر 1/ 57، تلقيح فهوم أهل الأثر ص 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 العذاب أمثال ما ذكرنا. وأسلمت جارية لبني مؤمل- وهم حي من بني عدي- فكان عمر بن الخطاب- وهو يومئذ- مشرك- يضربها، حتى إذا مل قال: إني لم أترك إلا ملالة «1» . وابتاع أبو بكر هذه الجواري فأعتقهن، كما أعتق بلالا وعامر بن فهيرة «2» . وكان المشركون يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر، ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضا آخر درعا من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبة «3» . وقائمة المعذبين في الله طويلة ومؤلمة جدا، فما من أحد علموا بإسلامه إلا تصدوا له وآذوه. دار الأرقم كان من الحكمة تلقاء هذه الإضطهادات أن يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن إعلان إسلامهم قولا أو فعلا، وألايجتمع بهم إلا سرا؛ لأنه إذا اجتمع بهم علنا فلا شك أن المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة، وربما يفضي ذلك إلى مصادمة الفريقين، بل وقع ذلك فعلا في السنة الرابعة من النبوة، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سرا، فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا فسال دمه، وكان أول دم أهريق في الإسلام «4» . ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم، فكان من الحكمة الإختفاء، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين، لا يصرفه عن ذلك شيء، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سرا؛ نظرا لصالحهم وصالح الإسلام، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا. وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، فكان أن اتخذها مركزا لدعوته، ولاجتماعه بالمسلمين من السنة الخامسة من النبوة «5» .   (1) رحمة للعالمين 1/ 57، ابن هشام 1/ 319. (2) ابن هشام 1/ 318، 319. (3) رحمة للعالمين 1/ 58. (4) ابن هشام 1/ 263، مختصر سيرة الرسول لمحمد بن عبد الوهاب ص 60. (5) نفس المصدر الأخير ص 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الهجرة الأولى إلى الحبشة كانت بداية الإضطهادات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة، ثم لم تزل يوما فيوما وشهرا فشهرا حتى اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة، حتى نبا بهم المقام في مكة، وأوعزتهم أن يفكروا في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم، وفي هذه الساعة الضنكة الحالكة نزلت سورة الكهف، ردودا على أسئلة أدلى بها المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها اشتملت على ثلاث قصص، فيها إشارات بليغة من الله تعالى إلى عباده المؤمنين، فقصة أصحاب الكهف ترشد إلى الهجرة من مراكز الكفر والعدوان حين مخافة الفتنة على الدين، متوكلا على الله وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً [الكهف: 16] . وقصة الخضر وموسى تفيد أن الظروف لا تجري ولا تنتج حسب الظاهر دائما، بل ربما يكون الأمر على عكس كامل بالنسبة إلى الظاهر. ففيها إشارة لطيفة إلى أن الحرب القائمة ضد المسلمين ستنعكس تماما، وسيصادر هؤلاء الطغاة المشركون- إن لم يؤمنوا- أمام هؤلاء الضعفاء المدحورين من المسلمين. وقصة ذي القرنين تفيد أن الأرض لله يورثها من عباده من يشاء. وأن الفلاح إنما هو في سبيل الإيمان دون الكفر، وأن الله لا يزال يبعث من عباده- بين آونة وأخرى- من يقوم بإنجاء الضعفاء من يأجوج ذلك الزمان ومأجوجه، وأن الأحق بإرث الأرض إنما هم عباد الله الصالحون. ثم نزلت سورة الزمر تشير إلى الهجرة، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ، إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن أصحمة النجاشي ملك الحبشة ملك عادل، لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم من الفتن. وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة. كان مكونا من اثني عشر رجلا وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما: «إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام» «1» .   (1) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 92، 93، زاد المعاد 1/ 24، رحمة للعالمين 1/ 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 كان رحيل هؤلاء تسللا في ظلمة الليل- حتى لا تفطن لهم قريش- خرجوا إلى البحر، ويمموا ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة وفطنت لهم قريش، فخرجت في آثارهم، لكن لما بلغت إلى الشاطئ كانوا قد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار «1» . وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم، وهناك جمع كبير من قريش، كان فيه ساداتها وكبراؤها، فقام فيهم، وأخذ يتلو سورة النجم بغتة، إن أولئك الكفار لم يكونوا سمعوا كلام الله قبل ذلك، لأن أسلوبهم المتواصل كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضا، من قولهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب- لا يحيط بروعته وجلالته البيان- تفانوا عما هم فيه، وبقي كل واحد مصغيا إليه، لا يخطر بباله شيء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب ثم قرأ: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم: 62] ثم سجد، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدا، وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين «2» . وسقط في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لوى زمامهم، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قال عنها: تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى جاؤوا بهذا الإفك المبين، ليعتذروا عن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يستغرب هذا من قوم كانوا يؤلفون الكذب، ويطيلون الدس والإفتراء «3» . بلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تماما عن صورته الحقيقية، بلغهم أن قريشا أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلما كانوا   (1) رحمة للعالمين 1/ 61، زاد المعاد 1/ 24. (2) روى البخاري قصة السجود مختصرا عن ابن مسعود وابن عباس، انظر باب سجدة النجم وباب سجود المسلمين والمشركين 1/ 146، وباب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة 1/ 543. (3) تفهيم القرآن 5/ 188، وإلى هذا التوجيه جنح المحققون في حديث الغرانقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 دونه مكة ساعة من نهار، وعرفوا جلية الأمر، رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيا، أو في جوار رجل من قريش «1» . ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهم عشائرهم، فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا. وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلا إن كان فيهم عمار، فإنه يشك فيه، وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة «2» . وبالأول جزم العلامة محمد سليمان المنصور فوري «3» . مكيدة قريش بمهاجري الحبشة عزّ على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة- قبل أن يسلما- وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا ثم كلماه، فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه. وقالت البطارقة: صدقا أيها الملك! فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم. ولكن رأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعا، فأرسل   (1) نفس المصدر 5/ 188. زاد المعاد 1/ 24، 2/ 44، وابن هشام 1/ 364. (2) انظر زاد المعاد 1/ 24، رحمة للعالمين 1/ 61. (3) انظر المصدر الأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنا ما كان. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟ قال جعفر بن أبي طالب- وكان هو المتكلم عن المسلمين-: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألانظلم عندك أيها الملك. فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ. فقرأ عليه صدرا من كهيعص، فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون- يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه- فخرجا، وقال عمرو بن العاص لعبد الله بن ربيعة: والله لآتينهم غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن ربيعة: لا تفعل، فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه. فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح، ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائنا ما كان، فلما دخلوا عليه، وسألهم قال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فأخذ النجاشي عودا من الأرض، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم والله. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي- والشيوم: الآمنون بلسان الحبشة- من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم- والدبر الجبل بلسان الحبشة. ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فاخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه. قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاؤوا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار «1» . هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين «2» لكن الأسئلة والأجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وجعفر في الوفادة الثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحاق تقريبا، ثم إن تلك الأسئلة تدل لفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي. أخفقت حيلة المشركين، وفشلت مكيدتهم، وعرفوا أنهم لا يشيعون ضغينتهم إلا في حدود سلطانهم، ونشأت فيهم من أجل ذلك فكرة رهيبة. رأوا أن التفصي عن هذه (الداهية) لا يمكن إلا بكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوته تماما، وإلا فبإعدامه، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وأبو طالب يحوطه ويحول بينه وبينهم؟ رأوا أن يواجهوا أبا طالب في هذا الصدد. قريش يهددون أبا طالب جاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا. وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا والله لا نصبر على هذا، من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين.   (1) ابن هشام ملخصا 1/ 334، 335، 336، 337، 338. (2) مختصر السيرة للشيخ عبد الله النجدي ص 96، 97، 98، وفي تلك الصفحات تفصيل الأسئلة والأجوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 عظم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعف عن نصرته، فقال: يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر- حتى يظهره الله أو أهلك فيه- ما تركته، ثم استعير وبكى، وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب فلما أقبل قال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا «1» . وأنشد: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر وقر بذاك منك عيونا «2» قريش بين يدي أبي طالب مرة أخرى ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماض في عمله؛ وعرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهم في ذلك، فذهبوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة وقالوا له: يا أبا طالب إن هذا الفتى أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال: والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه. هذا والله ما لا يكون أبدا. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا، فقال: والله ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك «3» . لا تذكر المصادر التاريخية زمن هاتين الوفادتين، لكن يبدو بعد التأمل في القرائن والشواهد أنهما كانتا في أواسط السنة السادسة من النبوة، وأن الفصل بين الوفادتين لم يكن إلا يسيرا.   (1) ابن هشام 1/ 265، 266. (2) مختصر سيرة الرسول للشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي ص 68. (3) ابن هشام 1/ 266، 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فكرة الطغاة في إعدام النبي صلى الله عليه وسلم وبعد فشل قريش وخيبتهم في الوفادتين عادوا إلى ضراوتهم وتنكيلهم بأشد مما كان قبل ذلك، وخلال هذه الأيام نشأت في طغاتهم فكرة إعدامه صلى الله عليه وسلم بطريق أخرى، وكانت هذه الفكرة وتلك الضراوة هي التي سببت في تقوية الإسلام ببطلين جليلين من أبطال مكة، وهما: حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. فمن تلك الضراوة أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر ب «النجم إذا هوى» و «بالذي دنا فتدلى» ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه، إلا أن البزاق لم يقع عليه، وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك، وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء، فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام، فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه «1» . ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان «2» . ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل، قال: قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم، ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل   (1) تفهيم القرآن 6/ 522، من الإستيعاب، والإصابة، ودلائل النبوة، والروض الأنف، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 135. (2) نفس المصدر الأخير، ص 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه، مرعوبا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهمّ بي أن يأكلني. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه «1» . وبعد ذلك فجعل أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أدى إلى إسلام حمزة رضي الله عنه وسيأتي. أما طغاة قريش فلم تزل فكرة الإعدام تنضج في قلوبهم، روى ابن إسحاق عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: «أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح» ، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولا. فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه. قال ابن عمرو: فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه، قط «2» . انتهى ملخصا. وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ   (1) ابن هشام 1/ 298- 299. (2) ابن هشام 1/ 289- 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ «1» . وفي حديث أسماء: فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا، وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله؟ فلهوا عنه، وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئا من غدائره إلا رجع معنا «2» . إسلام حمزة رضي الله عنه خلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برق نور للمقهورين طريقهم، ألا وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، أسلم في أواخر السنة السادسة من النبوة، والأغلب أنه أسلم في شهر ذي الحجة. وسبب إسلامه أن أبا جهل مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم يوما عند الصفا، فاذاه ونال منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثم ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فشجه، حتى نزف منه الدم، ثم انصرف عنه إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها على الصفا ترى ذلك، وأقبل حمزة من القنص متوشحا قوسه، فأخبرته المولاة بما رأت من أبي جهل، فغضب حمزة- وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة- فخرج يسعى، لم يقف لأحد، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد قام على رأسه، وقال له: يا مصفر استه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه؟ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من بني مخزوم- حي أبي جهل- وثار بنو هاشم- حي حمزة- فقال: أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سبا قبيحا «3» . وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل أبى أن يهان مولاه. ثم شرح الله صدره، فاستمسك بالعروة الوثقى» ، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز. إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برق آخر أشد بريقا وإضاءة   (1) صحيح البخاري- باب ذكر ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة 1/ 544. (2) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي، ص 113. (3) مختصر سيرة الرسول للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 66، رحمة للعالمين 1/ 68، ابن هشام 1/ 291 292. (4) تدل عليه رواية ذكرها الشيخ عبد الله النجدي في مختصر السيرة ص 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 من الأول، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب، أسلم في ذي الحجة سنة ست من النبوة «1» . بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي الله عنه «2» . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا الله تعالى لإسلامه، فقد أخرج الترمذي عن ابن عمر، وصححه، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام» فكان أحبهما إلى الله عمر رضي الله عنه «3» . وبعد إدارة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلامه يبدو أن نزول الإسلام في قلبه كان تدريجا، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلى ما كان يتمتع به رضي الله عنه من العواطف والمشاعر. كان رضي الله عنه معروفا بحدة الطبع وقوة الشكيمة، وطالما لقي المسلمون منه ألوان الأذى، والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة، احترامه للتقاليد التي سنها الآباء والأجداد، واسترساله مع شهوات السكر واللهو التي ألفها، ثم إعجابه بصلابة المسلمين واحتمالهم البلاء في سبيل عقيدتهم، ثم الشكوك التي كانت تساوره- كأي عاقل- في أن ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره، ولهذا ما إن يثور حتى يخور. قاله محمد الغزالي «4» . وخلاصة الروايات مع الجمع بينها- في إسلامه رضي الله عنه أنه التجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي وقد استفتح سورة «الحاقة» فجعل عمر يستمع إلى القرآن، ويعجب من تأليفه، قال: فقلت- أي في نفسي- هذا والله شاعر كما قالت قريش،. قال: فقرأ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ [الحاقة: 40- 41] قال: قلت: كاهن. قال: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخر السورة. قال فوقع الإسلام في قلبي «5» .   (1) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص 11. (2) ستأتي رواية في ذلك. (3) الترمذي، أبواب المناقب، مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب 2/ 209. (4) فقه السيرة، ص 92، 93. (5) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 6، ويقرب من هذا ما رواه ابن إسحاق عن عطاء ومجاهد. لكن في آخره ما يخالف ذلك. انظر ابن هشام 1/ 346، 347، 348، ويقرب من هذا أيضا ما أورده ابن الجوزي عن جابر، وفي آخره أيضا ما يخالف هذه الرواية انظر تاريخ عمر بن الخطاب ص 9- 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية، والعصبية التقليدية، والتعاظم بدين الآباء هي غالبة على مخ الحقيقة التي كان يتهمس بها قلبه، فبقي مجدا في عمله ضد الإسلام، غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة. وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوما متوشحا سيفه، يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله النحام العدوي «1» ، أو رجل من بني زهرة «2» ، أو رجل من بني مخزوم «3» فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدا قال: كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمدا؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي كنت عليه، قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر! إن أختك وختنك قد صبوا، وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر دامرا حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرث، معه صحيفة فيها طه يقرئهما إياها- وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن- فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة- أخت عمر- الصحيفة، وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فقالا: ما عدا حديثا تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما. فقال له ختنة: يا عمر أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنة فوطئه وطأ شديدا. فجاءت أخته فرفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها- وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها- فقالت- وهي غضبى-: يا عمر إن كان الحق في غير دينك، أشهد ألاإله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فلما يئس عمر، ورأى ما بأخته من الدم ندم واستحى، وقال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: أسماء طيبة طاهرة. ثم قرأ: طه حتى انتهى إلى قوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه؟ دلوني على محمد.   (1) وهذا على رواية ابن إسحاق، انظر ابن هشام 1/ 344. (2) روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه. انظر تاريخ عمر بن الخطاب ص 10، ومختصر سيرة الرسول الشيخ عبد الله بن محمد النجدي ص 103. (3) روى ذلك ابن عباس انظر المصدر الأخير ص 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس (اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام) ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا. فأخذ عمر سيفه، فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار، فضرب الباب، فقام رجل ينظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر، فقال: وعمر، افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه فخرج إلى عمر حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، ثم جبذه جبذة شديدة فقال: أما أنت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة؟ اللهم! هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، فقال عمر: أشهد ألاإله إلا الله، وأنك رسول الله. وأسلم فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد «1» . كان عمر رضي الله عنه ذا شكيمة لا يرام، وقد أثار إسلامه ضجة بين المشركين بالذلة، والهوان، وكسا المسلمين عز وشرفا وسرورا. روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة، قال: قلت: أبو جهل، فأتيت حتى ضربت عليه بابه فخرج إليّ، وقال: أهلا وسهلا، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله ورسوله محمد، وصدقت بما جاء به. قال: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به «2» . وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال، فيضربونه ويضربهم، فجئت- أي حين أسلمت- إلى خالي- وهو العاصي بن هاشم- فأعلمته فدخل البيت، قال: وذهبت إلى رجل من كبراء قريش- لعله أبو جهل- فأعلمته فدخل البيت «3» .   (1) تاريخ عمر بن الخطاب ص 7، 10، 11، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله ص 102، 103، ابن هشام 1/ 343، 344، 345، 346. (2) المصدر الأخير 1/ 349، 350. (3) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وذكر ابن هشام وكذا ابن الجوزي مختصرا، أنه لما أسلم أتى إلى جميل بن معمر الجمحي- وكان أنقل قريش لحديث- فأخبره أنه أسلم، فنادى جميل بأعلى صوته أن ابن الخطاب قد صبأ. فقال عمر: - وهو خلفه- كذب، ولكني قد أسلمت، فثاروا إليه، فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وطلح، أي أعيا عمر، فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا «1» . وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله. روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: بينما هو- أي عمر- في الدار خائفا، إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة سبرة وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له: مالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت، قال لا سبيل إليك- بعد أن قالها أمنت- فخرج العاص، فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال أين تريدون؟ فقالوا: هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ، قال: لا سبيل إليه، فكر الناس «2» وفي لفظ، في رواية ابن إسحاق: والله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه «3» . هذا بالنسبة إلى المشركين، أما بالنسبة إلى المسلمين؛ فروى مجاهد عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب، لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام- ثم قص عليه قصة إسلامه وقال في آخره- قلت: - أي حين أسلمت- يا رسول الله! ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: بلى! والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم، قال: قلت: ففيم الإختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فأخرجناه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إليّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كابة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم «الفاروق» يومئذ «4» . وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر «5» .   (1) نفس المصدر ص 8 وابن هشام 1/ 348، 349. (2) صحيح البخاري، باب إسلام عمر بن الخطاب 1/ 545. (3) ابن هشام 1/ 349. (4) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 6، 7. (5) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وعن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعى إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به «1» . وعن عبد الله بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر «2» . ممثل قريش بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين- حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما- أخذت السحائب تنقشع وأفاق المشركون عن سكرهم في إدلاء العذاب والنكال إلى المسلمين، وحاولوا مساومة مع النبي صلى الله عليه وسلم بإغداق كل ما هو يمكن أن يكون مطلوبا له؛ ليكفوه عن دعوته. ولم يكن يدري هؤلاء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دعوته، فخابوا وفشلوا فيما أرادوا. قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا، قال يوما، وهو في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد؟ فأكلمه، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة «3» في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد اسمع، قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه- أو كما قال له- حتى إذا   (1) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 13. (2) صحيح البخاري، باب إسلام عمر بن الخطاب 1/ 545. (3) هي المنزلة الرفيعة المهيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم «1» . وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فقام مذعورا، فوضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: أنشدك الله والرحم! وذلك مخافة أن يقع النذير، وقام إلى القوم فقال ما قال «2» . أبو طالب يجمع بني هاشم وبني عبد المطلب تغير مجرى الظروف وتبدلت الأوضاع والأحوال، ولكن أبا طالب لم يزل يتوجس من المشركين خيفة على ابن أخيه، إنه كان ينظر في الحوادث الماضية- إن المشركين هددوه بالمنازلة، ثم حاولوا مساومة ابن أخيه بعمارة بن الوليد ليقتلوه، وإن أبا جهل ذهب إلى ابن أخيه بحجر يرضخه، وإن عقبة بن أبي معيط خنق ابن أخيه بردائه وكاد يقتله، وإن ابن الخطاب كان قد خرج بالسيف ليقضي على ابن أخيه- كان أبو طالب يتدبر في هذه الحوادث، ويشم منها رائحة شر يرجف له فؤاده، وتأكد عنده أن المشركين عازمون على   (1) ابن هشام 1/ 293، 294. (2) تفسير ابن كثير 6/ 159، 160، 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 إخفاء ذمته، عازمون على قتل ابن أخيه، وما يغني حمزة أو عمر أو غيرهما إن انقض أحد من المشركين على ابن أخيه بغتة. تأكد ذلك عند أبي طالب، ولم يكن إلا حقا، فإنهم كانوا قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، وإلى هذا الإجماع إشارة في قوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ [الزخرف: 79] فماذا يفعل أبو طالب إذن. إنه لما رأى تألب قريش على ابن أخيه قام في أهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ولدي عبد مناف، ودعاهم إلى ما هو عليه من منع ابن أخيه والقيام دونه، فأجابوه إلى ذلك مسلمهم وكافرهم، حمية للجوار العربي، إلا ما كان من أخيه أبي لهب، فإنه فارقهم، وكان مع قريش «1» .   (1) ابن هشام 1/ 269، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله بن محمد النجدي ص 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 المقاطعة العامة وقعت أربع حوادث ضخمة- بالنسبة إلى المشركين- خلال أربعة أسابيع، أو في أقل مدة، منها: أسلم حمزة، ثم أسلم عمر، ثم رفض محمد صلى الله عليه وسلم مساومتهم، ثم تواثق بنو المطلب، وبنو هاشم كلهم مسلمهم وكافرهم، على حياطة محمد صلى الله عليه وسلم ومنعه، حار المشركون، وحقت لهم الحيرة، إنهم عرفوا أنهم لو قاموا بقتل محمد صلى الله عليه وسلم يسيل وادي مكة دونه بدمائهم، بل ربما يفضي إلى استئصالهم. عرفوا ذلك فانحرفوا إلى ظلم آخر دون القتل، لكن أشد مضاضة عما فعلوا بعد. ميثاق الظلم والعدوان اجتمعوا في خيف بني كنانة من وادي المحصب فتحالفوا، على بني هاشم وبني المطلب ألايناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق «ألايقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه، للقتل» قال ابن القيم: يقال: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: نضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده «1» . تم هذا الميثاق، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم- إلا أبا لهب- وحبسوا في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة. ثلاثة أعوام في شعب أبي طالب واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعاما يدخل مكة ولا بيعا إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من   (1) زاد المعاد 2/ 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا- وكانوا- لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعوا الإشتراء. وكان حكيم بن حزام ربما يحمل قمحا إلى عمته خديجة- رضي الله عنها- وقد تعرض له مرة أبو جهل فتعلق به ليمنعه فتدخل بينهما أبو البختري، ومكنه من حمل القمح إلى عمته. وكان أبو طالب يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يأتي بعض فرشهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يخرجون في أيام الموسم، فيلقون الناس، ويدعونهم إلى الإسلام، وقد أسلفنا ما كان يأتي به أبو لهب. نقض صحيفة الميثاق مرت ثلاثة أعوام كاملة والأمر على ذلك، وفي المحرم «1» سنة عشر من النبوة حدث نقض الصحيفة وفك الميثاق، وذلك أن قريشا كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارها لها. وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي- وكان يصل بني هاشم في الشعب مستخفيا بالليل بالطعام- فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي- وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب- وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، قال: قد وجدت رجلا. قال: فمن هو؟ قال: أنا قال له زهير: ابغنا رجلا ثالثا. فذهب إلى المطعم بن عدي، فذكره أرحام بني هاشم وبني المطلب ابني عبد   (1) الدليل على هذا أن أبا طالب مات بعد نقض الصحيفة بستة أشهر، والصحيح في موت أبي طالب أنه في شهر رجب. ومن يقول: إنه مات في رمضان فهو يقول: إنه مات بعد نقض الصحيفة بثمانية أشهر وأيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 مناف، ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم، فقال المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيا، قال: من هو؟ قال: أنا قال: ابغنا ثالثا. قال قد فعلت. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعا. فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحوا مما قال للمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال: ابغنا خامسا. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم ثم سمى له القوم، فاجتمعوا عند الحجون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل- وكان في ناحية المسجد-: كذبت، والله لا تشق. فقال: زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب. ما رضينا كتابتها حيث كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تشاوروا فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد. إنما جاءهم لأن الله كان قد اطلع رسوله على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة، فأكلت جميع ما فيها من جوى وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذبا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا: «باسمك اللهم» . وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله. ثم نقض الصحيفة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب، وقد رأى المشركون آية عظيمة من آيات نبوته، ولكنهم كما أخبر الله عنهم، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر: 2] أعرضوا من هذه الآية وازدادوا كفرا إلى كفرهم «1» .   (1) جمعنا تفاصيل المقاطعة من صحيح البخاري، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم بمكة 1/ 216، وباب تقاسم المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم 1/ 548، وزاد المعاد 2/ 46، وابن هشام 1/ 350، 351، 374، 375، 376، 377، ورحمة للعالمين 1/ 69، 70 ومختصر السيرة للشيخ عبد الله النجدي ص 106، 107، 108، 109، 110، ومختصر السيرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي ص 68، 69، 70، 71، 72، 73، وبين هذه المصادر اختلاف يسير، أخذنا ما ترجح عندنا بعد النظر في القرائن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 آخر وفد قريش إلى أبي طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعب، وجعل يعمل على شاكلته، وقريش وإن كانوا قد تركوا القطيعة، لكنهم لم يزالوا عاملين على شاكلتهم من الضغط على المسلمين، والصد عن سبيل الله، أما أبو طالب فهو لم يزل يحوط ابن أخيه، لكنه كان قد جاوز الثمانين من سنه، وكانت الآلام والحوادث الضخمة المتوالية منذ سنوات- لا سيما حصار الشعب- قد وهنت وضعفت مفاصله، وكسرت صلبه، فلم يمض على خروجه من الشعب إلا أشهر معدودات، وإذا هو يلاحقه المرض ويلح به- وحينذ خاف المشركون سوء سمعتهم في العرب إن أتوا بعد وفاته بمنكر على ابن أخيه، فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه، ويعطوا بعض ما لم يرضوا إعطاءه قبل ذلك، فقاموا بوفادة هي آخر وفادتهم إلى أبي طالب. قال ابن إسحاق وغيره: لما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشا ثقله، قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ على ابن أخيه، وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا «1» أمرنا، وفي لفظ: فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ، فيكون إليه شيء فتعيرنا به العرب، يقولون تركوه؛ حتى إذا مات عمه تناولوه. مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم- وهم خمس وعشرون تقريبا- فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما نرى، وتخوفنا عليك وقد علمت الذين بيننا وبين ابن أخيك، فادعه، فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب، فجاءه، فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، وليأخذوا منك، ثم أخبره   (1) ابتزه أمره: سلبه إياه وغلبه عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بالذي قالوا له وعرضوا عليه، من عدم تعرض كل فريق للآخر. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، وفي لفظ أنه قال مخاطبا لأبي طالب: أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، وفي لفظ آخر قال: يا عم، أفلا تدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ قال: وإلى ما تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم، ولفظ رواية ابن إسحاق: كلمة واحدة تعطونها، تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فلما قال هذه المقالة، توقفوا وتحيروا، ولم يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إلى هذه الغاية والحد؛ ثم قال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، قال: تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرقوا. وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7] «1» .   (1) ابن هشام 1/ 417، 418، 419، تفهيم القرآن 4/ 316، 317، 318. مختصر السيرة للشيخ عبد الله ص 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 عام الحزن وفاة أبي طالب ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب «1» سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر «2» . وقيل: توفي في رمضان قبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام. وفي الصحيح عن المسيب: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة: 113] ونزلت إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] «3» . ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع، فقد كان الحصن الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، ولكنه بقي على ملة الأشياخ من أجداده، فلم يفلح كل الفلاح. ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار «4» . وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم- وذكر عنده عمه- فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه» .   (1) تاريخ إسلام للشاه أكبر خان النجيب آبادي 1/ 120، وفي المصادر اختلاف كبير في الشهر الذي توفي فيه أبو طالب، وهذا الذي رجحناه إنما رجحناه لأن أكثر المصادر متفقة على أن موته كان بعد ستة أشهر من الخروج من الشعب، وأن الحصار كان ثلاثة أعوام، وأن بدء الحصار كان ليلة هلال المحرم سنة سبع، وإذن فموته في رجب سنة عشر من النبوة. (2) مختصر السيرة للشيخ عبد الله النجدي ص 111. (3) صحيح البخاري، باب قصة أبي طالب 1/ 548. (4) صحيح البخاري، باب قصة أبي طالب 1/ 548. (5) صحيح البخاري، باب قصة أبي طالب 1/ 548. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 خديجة إلى رحمة الله وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة- على اختلاف القولين- توفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها، كانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره «1» . إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر، وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها، وحرم ولد غيرها» «2» . وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه خديجة، قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب «3» . تراكم الأحزان وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه، فقد كانوا تجرأوا عليه، وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غما على غم، حتى يئس منهم وخرج إلى الطائف، رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه وينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصرا، وآذوه مع ذلك أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه. وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم، اشتدت على أصحابه، حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة، فخرج حتى بلغ برك الغماد، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدغنة في جواره «4» .   (1) نص على موتها في رمضان من تلك السنة ابن الجوزي في التلقيح ص 7، والعلامة المنصور فوري في رحمة للعالمين 2/ 164 وغيرهما. (2) رواه الإمام أحمد في مسنده 6/ 118. (3) صحيح البخاري. باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها 1/ 539. (4) صرح الشاه أكبر خان النجيب آبادي بأن هذه الوقعة كانت في هذه السنة انظر تاريخ إسلام 1/ 120، والقصة بطولها مروية في ابن هشام 1/ 372، 373، 374، وفي صحيح البخاري 1/ 552، 553. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قال ابن إسحاق: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا، ودخل بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك. قال: ويقول بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب «1» . ولأجل توالي مثل هذه الآلام في هذا العام سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحزن، وبهذا اللقب صار معروفا في التاريخ. الزواج بسودة رضي الله عنها وفي شوال من هذه السنة- سنة 10 من النبوة- تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة، كانت ممن أسلم قديما، وهاجرت الهجرة الثانية إلى الحبشة، وكان زوجها السكران بن عمرو، وكان قد أسلم وهاجر معها، فمات بأرض الحبشة، أو بعد الرجوع إلى مكة، فلما حلت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها، وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة، وبعد عدة أعوام وهبت نوبتها لعائشة «2» .   (1) ابن هشام 1/ 416. (2) رحمة للعالمين 2/ 165، تلقيح فهوم أهل الأثر ص 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 عوامل الصبر والثبات وهنا يقف الحليم حيران، ويتساءل عقلاء الرجال فيما بينهم: ما هي الأسباب والعوامل التي بلغت بالمسلمين إلى هذه الغاية القصوى، والحد المعجز من الثبات؟ كيف صبروا على هذه الإضطهادات التي تقشعر لسماعها الجلود، وترجف لها الأفئدة؟ ونظرا إلى هذا الذي يتخالج القلوب، نرى أن نشير إلى بعض هذه العوامل والأسباب إشارة عابرة بسيطة: 1- [الإيمان بالله وحده] إن السبب الرئيسي في ذلك أولا وبالذات هو الإيمان بالله وحده ومعرفته حق المعرفة، فالإيمان الجازم إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش، وإن صاحب هذا الإيمان المحكم وهذا اليقين الجازم يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت- يراها في جنب إيمانه- طحالب عائمة فوق سيل جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلاع الحصينة، فلا يبالي بشيء من تلك المتاعب، أمام ما يجده من حلاوة إيمانه وطراوة إذعانه وبشاشة يقينه فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: 17] . ويتفرع من هذا السبب الوحيد أسباب أخرى تقوي هذا الثبات والمصابرة وهي: 2- قيادة تهوي إليها الأفئدة ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم- وهو القائد الأعلى للأمة الإسلامية بل وللبشرية جمعاء- يتمتع من جمال الخلق وكمال النفس، ومكارم الأخلاق، والشيم النبيلة والشمائل الكريمة، بما تتجاذب إليه القلوب، وتتفانى دونه النفوس، وكانت أنصبته من الكمال الذي يعشق لم يرزق بمثلها بشر، وكان على أعلى قمة من الشرف والنبل والخير والفضل، وكان من العفة والأمانة والصدق، ومن جميع سبل الخير على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه فضلا عن محبيه ورفقائه، لا تصدر منه كلمة إلا ويستيقنون صدقها. اجتمع ثلاثة نفر من قريش، كان قد استمع كل واحد منهم إلى القرآن سرا عن صاحبيه ثم انكشف سرهم، فسأل أحدهم أبا جهل- وكان من أولئك الثلاثة- ما رأيك فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: لنا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه «1» . وكان أبو جهل يقول: يا محمد إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ «2» . وغمزه الكفار يوما ثلاث مرات، فقال في الثالثة: يا معشر قريش، جئتكم بالذبح، فأخذتهم تلك الكلمة، حتى إن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده. ولما ألقوا عليه سلا جذور وهو ساجد دعا عليهم، فذهب عنهم الضحك، وساورهم الهم والقلق، وأيقنوا أنهم هالكون. ودعا على عتيبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه، حتى إنه حين رأى الأسد قال: قتلني والله- محمد- وهو بمكة. وكان أبيّ بن خلف يتوعده بالقتل. فقال: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلما طعن أبيا في عنقه يوم أحد- وكان خدشا غير كبير- كان أبي يقول: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك. فو الله لو بصق علي لقتلني «3» - وسيأتي. وقال سعد بن معاذ- وهو بمكة- لأمية بن خلف: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنهم- أي المسلمين- قاتلوك، ففزع فزعا شديدا، وعهد ألايخرج عن مكة، ولما ألجأه أبو جهل للخروج يوم بدر اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار، وقالت له امرأته: يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا والله ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا «4» . هكذا كان حال أعدائه صلى الله عليه وسلم، أما أصحابه، ورفقاؤه فقد حل منهم محل الروح والنفس، وشغل منهم مكان القلب والعين، فكان الحب الصادق يندفع إليه اندفاع الماء إلى الحدور، وكانت النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس. فصورته هيولى كل جسم ... ومغناطيس أفئدة الرجال   (1) ابن هشام 1/ 316. (2) ابن هشام 2/ 84. (3) رواه الترمذي في تفسير سورة الأنعام 2/ 132. (4) انظر صحيح البخاري 2/ 563. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وكان من أثر هذ الحب والتفاني أنهم كانوا ليرضون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر أو يشاك شوكة. وطئ أبو بكر بن أبي قحافة يوما بمكة، وضرب ضربا شديدا، دنا منه عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفين، ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تميم أبا بكر في ثوب، حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله لا علم لي بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت، قالت: نعم فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح، فقال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم قال: فإن لله علي ألاأذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا، حتى إذا هدأت الرجل، وسكن الناس، خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . وسننقل نوادر الحب والتفاني في مواقع شتى من هذه المقالة، ولا سيما ما وقع في يوم أحد، وما وقع من خبيب وأمثاله. 3- الشعور بالمسؤولية - فكان الصحابة يشعرون شعورا تاما ما على كواهل البشر من المسؤولية الفخمة الضخمة، وأن هذه المسؤولية لا يمكن عنها الحياد والإنحراف بحال، فالعواقب التي تترتب على الفرار عن تحملها أشد وخامة وأكبر ضررا عما هم فيه من الإضطهاد، وأن الخسارة التي تلحقهم- وتلحق البشر جمعاء- بعد هذا الفرار لا يقاس بحال على المتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل. 4- الإيمان بالآخرة - وهو مما كان يقوي هذا الشعور - الشعور بالمسؤولية- فقد كانوا على يقين جازم من أنهم يقومون لرب العالمين، يحاسبون بأعمالهم دقها وجلها، صغيرها   (1) البداية والنهاية 3/ 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وكبيرها، فإما إلى النعيم المقيم، وإما إلى عذاب خالد في سواء الجحيم، فكانوا يقضون حياتهم بين الخوف والرجاء يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه، وكانوا: يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ وكانوا يعرفون أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوي جناح بعوضة في جنب الآخرة، وكانت هذه المعرفة القوية تهون لهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها، حتى لم يكونوا يكترثون لها ويلقون إليها بلالا. 5- القرآن- وفي هذه الفترة العصيبة الرهيبة الحالكة كانت تنزل السور والآيات تقيم الحجج والبراهين على مبادئ الإسلام- التي كانت الدعوة تدور حولها- بأساليب منيعة خلابة، وترشد المسلمين إلى أسس قدر الله أن يتكون عليها أعظم وأروع مجتمع بشري في العالم- وهو المجتمع الإسلامي- وتثير مشاعر المسلمين ونوازعهم على الصبر والتجلد، تضرب لذلك الأمثال، وتبين لهم ما فيه من الحكم: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: 1، 2، 3] . كما كانت تلك الآيات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين ردا مفحما، ولا تبقي لهم حيلة، ثم تحذرهم مرة عن عواقب وخيمة- إن أصروا على غيهم وعنادهم- في جلاء ووضوح، مستدلا بأيام الله، والشواهد التاريخية التي تدل على سنة الله في أوليائه وأعدائه، وتلطفهم مرة، وتؤدي حق التفهيم والإرشاد والتوجيه، حتى ينصرفوا عما هم فيه من الضلال المبين. وكان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر، ويبصرهم من مشاهد الكون، وجمال الربوبية، وكمال الألوهية، وآثار الرحمة والرأفة، وتجليات الرضوان ما يحنون إليه حنينا لا يقوم له أي عقبة. وكانت في طي هذه الآيات خطابات للمسلمين، فيها يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، وتصور لهم صورة أعدائهم من الكفرة الطغاة الظالمين، يحاكمون، ويصادرون، ثم يسحبون في النار على وجوههم، ذوقوا مس سقر. 6- البشارات بالنجاح - ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والإضطهاد- بل ومن قبله- أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 والحتوف. بل إن الدعوة الإسلامية تهدف- منذ أول يومها- إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء ونظامها الغاشم، وأن من أهدافها الأساسية بسط النفوذ على الأرض والسيطرة على الموقف السياسي في العالم، لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلى مرضاة الله. وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله. وكان القرآن ينزل بهذه البشارات- مرة بالتصريح وأخرى بالكناية- ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين، وكادت تخنقهم، وتقضي على حياتهم، كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم، وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تماما أحوال مسلمي مكة وكفارها، ثم تذكر هذه الآيات بما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين، وإيراث عباد الله الأرض والديار. فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل، ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية. وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة المؤمنين قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ [الصافات: 171- 177] وقال: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 45] وقال: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص: 11] ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [النحل: 41] وسألوه عن قصة يوسف فأنزل الله في طيها. لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف: 7] أي فأهل مكة السائلون يلاقون ما لاقى إخوانه من الفشل، ويستسلمون كاستسلامهم، وقال وهو يذكر الرسل: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ، ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 13، 14] وحينما كانت الحرب مشتعلة بين الفرس والرومان، وكان الكفار يحبون غلبة الفرس بصفتهم مشركين، والمسلمون يحبون غلبة الرومان بصفتهم مؤمنين بالله والرسل والوحي والكتب واليوم الآخر وكانت الغلبة للفرس، أنزل الله بشارة غلبة الروم في بضع سنين، ولكنه لم يقتصر على هذه البشارة الواحدة، بل صرح ببشارة أخرى وهي نصر الله للمؤمنين حيث قال: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم: 4، 5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يقوم بمثل هذه البشارات بين آونة وأخرى، فكان إذا وافى الموسم، وقام بين الناس في عكاظ ومجنة وذي المجاز، لتبليغ الرسالة، لم يكن يبشرهم بالجنة فحسب، بل يقول لهم بكل صراحة، يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكا في الجنة «1» . وقد أسلفنا ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة حين أراد مساومته على رغائب الدنيا، وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصلاة والسلام. وكذلك ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم آخر وفد جاء إلى أبي طالب، فقد صرح لهم أنه يطلب منهم كلمة واحدة يعطونها، تدين لهم العرب، ويملكون العجم. قال خباب بن الأرت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله، فقعد، وهو محمر وجهه، فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلا الله- زاد بيان الراوي- والذئب على غنمه «2» وفي رواية ولكنكم تستعجلون «3» . ولم تكن هذه البشارات مخفية مستورة، بل كانت فاشية مكشوفة، يعلمها الكفرة، كما كان يعلمها المسلمون، حتى كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا: قد جاءكم ملوك الأرض، سيغلبون على ملوك كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون «4» . وأمام هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا، مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة، كان الصحابة يرون أن الإضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب، والمصائب التي تحيط بهم من كل الأرجاء، ليست إلا: «سحابة صيف عن قليل تقشع» .   (1) رواه الترمذي وقد مضى مرارا. (2) صحيح البخاري 1/ 543. (3) نفس المصدر 1/ 510. (4) فقه السيرة ص 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 هذا ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يغذي أرواحهم برغائب الإيمان، ويزكي نفوسهم بتعليم الحكمة والقرآن، ويربيهم تربية دقيقة عميقة، يحدو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح، ونقاء القلب، ونظافة الخلق، والتحرر من سلطان الماديات، والمقاومة للشهوات، والنزوع إلى رب الأرض والسماوات، ويذكي جمرة قلوبهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس، فازدادوا رسوخا في الدين، وعزوفا عن الشهوات، وتفانيا في سبيل المرضاة، وحنينا إلى الجنة، وحرصا على العلم، وفقها في الدين، ومحاسبة للنفس وقهرا للنزعات، وغلبة على العواطف، وتسيطرا على الثائرات والهائجات، وتقيدا بالصبر والهدوء والوقار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المرحلة الثالثة دعوة الإسلام خارج مكة الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف في شوال «1» سنة عشر من النبوة (في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م) خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلا، سارها ماشيا على قدميه جيئة وذهوبا، ومعه مولاه زيد بن حارثة، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحدة منها، فلما انتهى إلى الطائف عمد ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف، وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة (أي يمزقها) ، إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدا غيرك، وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا، إن كنت رسولا لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك. فقام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمة، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له سماطين (أي صفين) وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء. وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج في رأسه، ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، على ثلاثة أميال من الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حبلة من عنب، فجلس تحت ظلها إلى جدار فلما جلس إليه واطمأن، دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كابة وحزنا مما لقي من الشدة، وأسفا على أنه لم يؤمن به أحد، قال:   (1) صرح بذلك النجيب آبادي في تاريخ الإسلام 1/ 122، وهو الراجح عندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) . فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له عداس، وقالا له: خذ قطفا من هذا العنب واذهب به إلى هذا الرجل. فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مد يده إليه قائلا: «باسم الله» ، ثم أكل. فقال عداس: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟» قال: أنا نصراني، من أهل (نينوى) . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى!» قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي» ، فأكب عداس على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلها. فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عداس قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيبا محزونا كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة. وقد روى البخاري تفصيل القصة- بسنده- عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: «لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت- وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب- وهو المسمى بقرن المنازل- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 لك، وما ردوا عليك. وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين» - أي لفعلت، والأخشبان: هما جبلا مكة، أبو قبيس والذي يقابله وهو قيعقعان-، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا» «1» . وفي هذا الجواب الذي أدلى به الرسول صلى الله عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم الذي لا يدرك غوره. وأفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، واطمأن قلبه لأجل هذا النصر الغيبي الذي أمده الله عليه من فوق سبع سماوات، ثم تقدم في طريق مكة حتى بلغ وادي نخلة، وأقام فيه أياما. وفي وادي نخلة موضعان يصلحان للإقامة- السيل الكبير والزيمة- لما بهما من الماء والخصب، ولم نقف على مصدر يعين موضع إقامته صلى الله عليه وسلم فيه. وخلال إقامته هناك بعث الله إليه نفرا من الجن، ذكرهم الله في موضعين من القرآن، في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا: أَنْصِتُوا، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 29، 30، 31] . وفي سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً إلى تمام الآية الخامسة عشرة. ومن سياق هذه الآيات- وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث- يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف بحضور ذلك النفر من الجن، وإنما علم ذلك حين أطلعه الله عليه بهذه الآيات، وأن حضورهم هذا كان لأول مرة، ويقتضي سياق الروايات أنهم وفدوا بعد ذلك مرارا. وحقا كان هذا الحادث نصرا آخر أمده الله من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي لا يعلمها إلا هو، ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح   (1) صحيح البخاري. كتاب بدء الخلق 1/ 458، مسلم. باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين 2/ 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أي قوة من قوات الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف: 32] وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً [الجن: 12] . أمام هذه النصرة، وأمام هذه البشارات، أقشعت سحابة الكابة والحزن واليأس، التي كانت مطبقة عليه منذ أن خرج من الطائف مطرودا مدحورا، حتى صمم على العود إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله الخالدة بنشاط جديد وجد وحماس. وحينئذ قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعني قريشا. فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من مكة مكث بحراء، وبعث رجلا من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال سهيل: إن بني عارم لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي، فقال المطعم: نعم، ثم تسلح ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدا، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدا فلا يهجه أحد منكم، وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته. وقيل: إن أبا جهل سأل مطعما: أمجير أنت أم متابع- مسلم-؟ قال: بل مجير. قال: قد أجرنا من أجرت «1» . وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال في أساري بدر: لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له «2» .   (1) التقطنا تفصيل حادث الطائف من ابن هشام 1/ 419، 420، 421، 422، وزاد المعاد 2/ 46، 47، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 141، 142، 143، ورحمة للعالمين 1/ 71، 72، 73، 74، وتاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 123، 124. (2) صحيح البخاري 2/ 573. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 عرض الإسلام على القبائل والأفراد في ذي القعدة سنة عشر من النبوة- في أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 619 م- عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليستأنف عرض الإسلام على القبائل والأفراد، ولاقتراب الموسم كان الناس يأتون إلى مكة رجالا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، لقضاء فريضة الحج، وليشهدوا منافع لهم، ويذكروا الله في أيام معلومات، فانتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام، ويدعوهم إليه، كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة ... القبائل التي عرض عليها الإسلام قال الزهري: وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وعرض نفسه عليهم بنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعبس، وبنو نصر، وبنو البكاء، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد «1» . وهذه القبائل التي سماها الزهري لم يكن عرض الإسلام عليها في سنة واحدة، ولا في موسم واحد، بل إنما كان ما بين السنة الرابعة من النبوة إلى آخر موسم قبل الهجرة. ولا يمكن تسمية سنة معينة لعرض الإسلام على قبيلة معينة، نعم هناك قبائل قد جزم العلامة المنصور فوري أن عرض الإسلام عليهم كان في موسم السنة العاشرة «2» . وقد ذكر ابن إسحاق كيفية العرض وردودهم، وهاك ملخصا: 1- بنو كلب - أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطن منهم، يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبد الله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.   (1) روى ذلك الترمذي، انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 149. (2) رحمة للعالمين 1/ 74، وبه جزم النجيب آبادي. انظر تاريخ إسلام 1/ 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 2- بنو حنيفة - أتاهم في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم. 3- وأتى إلى بني عامر بن صعصعة ، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال بحيرة بن فراس (رجل منهم) : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء، فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه. ولما رجعت بنو عامر تحدثوا إلى شيخ لهم لم يواف الموسم، لكبر سنه، وقالوا له: جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب، يزعم أن نبي، يدعونا إلى أن نمنعه، ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، فوضع الشيخ يديه على رأسه، ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف؟ لذناباها «1» من مطلب؟ والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم «2» ؟ [ الأفراد الذين عرض عليهم الإسلام ] المؤمنون من غير أهل مكة وكما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام على القبائل والوفود، عرض على الأفراد والأشخاص، وحصل من بعضهم على ردود صالحة، وآمن به عدة رجال بعد هذا الموسم بقليل. وهناك لوحة منهم: 1- سويد بن صامت - كان شاعرا لبيبا من سكان يثرب، يسميه قومه الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه، جاء مكة حاجا أو معتمرا، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: لعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما الذي معك» . قال: حكمة لقمان. قال: «اعرضها عليّ» . فعرضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليّ، هو هدي ونور» ، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فأسلم، وقال: إن هذا لقول حسن. فلما قدم المدينة لم يلبث أن قتل يوم بعاث «3» . وكان إسلامه في أوائل سنة 11 من النبوة «4» .   (1) مثل يضرب لما فات، وأصله من ذنابي الطائر إذا أفلت من حباله فطلبت الأخذ بذناباه. (2) ابن هشام 1/ 424، 425. (3) نفس المصدر 1/ 425، 426، 427، رحمة للعالمين 1/ 74. (4) تاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 2- إياس بن معاذ - كان غلاما حدثا من سكان يثرب، قدم في وفد من الأوس، جاؤوا يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، وذلك قبيل حرب بعاث في أوائل سنة 11 من النبوة، إذ كانت نيران العداوة متقدة في يثرب بين القبيلتين- وكان الأوس أقل عددا من الخزرج- فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدمهم جاءهم فجلس إليهم، وقال لهم: «هل لكم في خير مما جئتم له؟» فقالوا: وما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله، بعثني إلى العباد، أدعوهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل عليّ الكتاب» ، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع- رجل كان في الوفد- حفنة من تراب البطحاء فرمى بها وجه إياس، وقال: دعنا عنك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة من غير أن ينجحوا في عقد حلف مع قريش. وبعد رجوعهم إلى يثرب لم يلبث إياس أن هلك، وكان يهلل ويكبر ويحمد، ويسبح عند موته، فلا يشكون أنه مات مسلما «2» . 3- أبو ذر الغفاري - وكان من سكان نواحي يثرب، ولما بلغ إلى يثرب خبر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسويد بن صامت وإياس بن معاذ وقع في أذن أبي ذر أيضا، وصار سببا لإسلامه «3» . روى البخاري عن ابن عباس قال: قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار، فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت: لأخي انطلق إلى هذا الرجل وكلمه، وآتني بخبره، فانطلق، فلقيه، ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير، وينهى عن الشر، فقلت له: لم تشفني من الخبر، فأخذت جرابا وعصا، ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد. قال: فمر بي عليّ. فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت: نعم. فقال: فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه، لا يسألني عن شيء ولا أسأله ولا أخبره. فلما أصبحت غدوت إلى المسجد؛ لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء. قال: فمر بي علي فقال: أما زال للرجل يعرف منزله بعد؟ قال: قلت: لا. قال: فانطلق معي، قال: فقال: ما أمرك؟ وما   (2) ابن هشام 1/ 427، 428، وتاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 126. (3) نفس المصدر الأخير 1/ 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: قلت له: بلغنا أنه قد خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي الله، فأرسلت أخي يكلمه، فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال له: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي إليه، ادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض أنت، فمضى، ومضيت معه حتى دخل، ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: اعرض علي الإسلام، فعرضه، فأسلمت مكاني، فقال لي: يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل. فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم، فجئت إلى المسجد وقريش فيه، فقلت: يا معشر قريش، إني أشهد ألاإله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فقاموا، فضربت لأموت، فأدركني العباس، فأكب علي، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم تقتلون رجلا من غفار؟ ومتجركم وممركم على غفار. فأقلعوا عني، فلما أن أصبحت الغد، رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فصنع بي ما صنع بالأمس، فأدركني العباس، فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس «1» . 4- طفيل بن عمرو الدوسي - كان رجلا شريفا شاعرا لبيبا رئيس قبيلة دوس، وكان لقبيلته إمارة أو شبه إمارة في بعض نواحي اليمن، قدم مكة في عام 11 من النبوة، فاستقبله أهلها قبل وصوله إليها، وبذلوا له أجل تحية وأكرم التقدير، وقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنا قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئا. يقول طفيل: فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت ألاأسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا؛ فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا هو قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما   (1) صحيح البخاري باب قصة زمزم 1/ 499، 500 وباب إسلام أبي ذر 1/ 544، 545. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 يقول؟ فإن كان حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، فمكثت حتى انصرف إلى بيته، فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فعرضت عليه قصة مقدمي، وتخويف الناس إياي، وسد الأذن بالكرسف، ثم سماع بعض كلامه، وقلت له: اعرض علي أمرك، فعرض علي الإسلام، وتلا على القرآن، فو الله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت له: إني مطاع في قومي، وراجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية، فدعا. وكانت آيتة أنه لما دنا من قومه جعل الله نورا في وجهه مثل المصباح، فقال: اللهم في غير وجهي، أخشى أن يقولوا: هذه مثلة، فتحول النور إلى سوطه، فدعا أباه وزوجته إلى الإسلام فأسلما، وأبطأ عليه قومه في الإسلام لكن لم يزل بهم حتى هاجر بعد الخندق «1» ومعه سبعون أو ثمانون بيتا من قومه، وقد أبلى في الإسلام بلاء حسنا، وقتل شهيدا يوم اليمامة «2» . 5- ضماد الأزدي - كان من أزد شنوءة من اليمن، وكان يرقي من هذا الريح، قدم مكة فسمع سفهاءها يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني أتيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذا الريح، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد» . فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه «3» . ست نسمات طيبة من أهل يثرب وفي موسم الحج من سنة 11 من النبوة- يوليو سنة 620 م- وجدت الدعوة الإسلامية   (1) بل وبعد الحديبية فقد قدم المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر ابن هشام 1/ 385. (2) ابن هشام 1/ 382، 383، 384، 385، رحمة للعالمين 1/ 81، 82، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 144، تاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 127. (3) رواه مسلم، مشكاة المصابيح، باب علامات النبوة 2/ 525. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 بذورا صالحة، سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات، اتقى المسلمون في ظلالها الوارفة عن لفحات الظلم والطغيان طيلة أعوام. وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم- إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصد عن سبيل الله- أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من أهل مكة المشركين» . خرج كذلك ليلة ومعه أبو بكر وعلي، فمر على منازل ذهل وشيبان بن ثعلبة وكلمهم في الإسلام. وقد دارت بين أبي بكر وبين رجل من ذهل أسئلة وردود طريفة، وأجاب بنو شيبان بأرجى الأجوبة، غير أنهم توقفوا في قبول الإسلام «2» . ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقبة منى، فسمع أصوات رجال يتكلمون «3» ، فعمدهم حتى لحقهم، وكانوا ستة نفر من شباب يثرب، كلهم من الخزرج، وهم: (1) أسعد بن زرارة (من بني النجار) (2) عوف بن الحارث بن رفاعة، ابن عفراء (من بني النجار) (3) رافع بن مالك بن العجلان (من بني زريق) (4) قطبة بن عامر بن حديدة (من بني سلمة) (5) عقبة بن عامر بن نابي (من بني حرام بن كعب) (6) جابر بن عبد الله بن رئاب (من بني عبيد بن غنم) وكان من سعادة أهل يثرب أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة أن نبيا من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان، سيخرج فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم «4» . فلما لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: من أنتم، قالوا: نفر من الخزرج، قال: من موالي اليهود؟ أي حلفائهم، قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فشرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن. فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله يا قوم، إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه فأسرعوا إلى إجابة دعوته وأسلموا.   (1) تاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 129. (2) انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 150، 151، 152. (3) رحمة للعالمين 1/ 84. (4) زاد المعاد 2/ 50، وابن هشام 1/ 429، 541. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وكانوا من عقلاء يثرب، أنهكتهم الحرب الأهلية التي مضت من قريب، والتي لا يزال لهيبها مستعرا، فأملوا أن تكون دعوته سببا لوضع الحرب، فقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ولما رجع هؤلاء إلى المدينة حملوا إليها رسالة الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . استطراد- تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة وفي شوال من هذه السنة- سنة 11 من النبوة- تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة الصديقة رضي الله عنها، وهي بنت ست سنين وبنى بها بالمدينة في شوال في السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين «2» .   (1) نفس المصدر 1/ 428، 429، 430. (2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 10، صحيح البخاري 1/ 551. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الإسراء والمعراج وبينا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة التي كانت دعوته تشق فيها طريقا بين النجاح والإضطهاد، وكانت تتراءى نجوما ضئيلة تتلمح في آفاق بعيدة، وقع حادث الإسراء والمعراج. [ زمن حدوث الإسراء والمعراج ] واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتى: 1- فقيل: كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة ، اختاره الطبري. 2- وقيل: كان بعد المبعث بخمس سنين ، رجح ذلك النووي والقرطبي. 3- وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة ، واختاره العلامة المنصور فوري. 4- وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهرا ، أي في رمضان سنة 12 من النبوة. 5- وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين ، أي في المحرم سنة 13 من النبوة. 6- وقيل: قبل الهجرة بسنة ، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة. وردت الأقوال الثلاثة الأول بأن خديجة رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كانت ليلة الإسراء «1» . أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحدا منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن الإسراء متأخر جدا. وروى أئمة الحديث تفاصيل هذه الوقعة. وفيما يلي نسردها بإيجاز: قال ابن القيم: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبا على البراق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء، إماما وربط البراق بحلقة، باب المسجد.   (1) انظر لهذه الأقوال زاد المعاد 2/ 49، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 148، 149، رحمة للعالمين 1/ 76 وتاريخ إسلام للنجيب آبادي 1/ 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل، ففتح له، فرأى هنالك آدم أبا البشر فسلم عليه، فرحب به، ورد عليه السلام، وأقر بنبوته، وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه، وأرواح الأشقياء عن يساره. ثم عرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه، ورحبا به، وأقرا بنبوته. ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه، ورحب به وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى بن عمران، فسلم عليه ورحب به، وأقر بنبوته. فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلاما بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم عليه السّلام، فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته. ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور. ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مرّ على موسى، فقال له: بم أمرك؟ قال بخمسين صلاة: قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل، كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم، إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه- هذا لفظ البخاري في بعض الطرق- فوضع عنه عشرا، ثم أنزل حتى مر بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل، حتى جعلها خمسا، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكني أرضى وأسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فلما بعد نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي- انتهى «1» . ثم ذكر ابن القيم خلافا في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى، ثم ذكر كلاما لابن تيمية. بهذا الصدد، وحاصل البحث أن الرؤية بالعين لم تثبت أصلا وهو قول لم يقله أحد من الصحابة. وما نقل عن ابن عباس من رؤيته مطلقا ورؤيته بالفؤاد فالأول لا ينافي الثاني. ثم قال: وأما قوله تعالى في سورة النجم: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى [النجم: 8] فهو غير الدنو الذي في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل، وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود، والسياق يدل عليه، وأما الدنو والتدلي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولا تعرض في سورة النجم لذلك، بل فيه أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى. وهذا هو جبريل، رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين: مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. والله أعلم «2» انتهى. وقد وقع حادث شق صدره صلى الله عليه وسلم هذه المرة أيضا، وقد رأى ضمن هذه الرحلة أمورا عديدة: عرض عليه اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل: هديت الفطرة أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك. ورأى أربعة أنهار في الجنة: نهران ظاهران، ونهران باطنان، والظاهران هما: النيل والفرات، ومعنى ذلك أن رسالته ستتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات، وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلا بعد جيل، وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة. ورأى مالك خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر وبشاشة، وكذلك رأى الجنة والنار. ورأى أكلة أموال اليتامى ظلما لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعا من نار كالأفهار، فتخرج من أدبارهم. ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة، لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم.   (1) زاد المعاد 2/ 47، 48. (2) زاد المعاد 2/ 47، 48، وانظر صحيح البخاري 1/ 50، 455، 456، 470، 471، 481، 548، 549، 550، 2/ 684، وصحيح مسلم 1/ 91، 92، 93، 94، 95، 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين. ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن. ورأى عيرا من أهل مكة في الإياب والذهاب، وقد دلهم على بعير ندّ لهم، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون، ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلك دليلا على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء «1» . قال ابن القيم: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورا، وأبى الظالمون إلا كفورا «2» . يقال: سمي أبو بكر رضي الله عنه صديقا لتصديقه هذه الوقعة حين كذبها الناس «3» . وأوجز وأعظم ما ورد في تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الإسراء: 1] وهذه سنة الله في الأنبياء، قال: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75] وقال لموسى: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [طه: 23] وقد بين مقصود هذه الإرادة بقوله: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فبعد استناد علوم الأنبياء إلى رؤية الآيات يحصل لهم من عين اليقين ما لا يقادر قدره، وليس الخبر كالمعاينة، فيتحملون في سبيل الله ما لا يتحمل غيرهم، وتصير جميع قوات الدنيا عندهم كجناح بعوضة لا يعبأون بها إذا ما تدول عليهم بالمحن والعذاب. والحكم والأسرار التي تمكن وراء جزئيات هذه الرحلة إنما محل بحثها كتب أسرار الشريعة، ولكن هنا حقائق بسيطة تتفجر من ينابيع هذه الرحلة المباركة وتتدفق إلى حدائق   (1) المصادر السابقة وابن هشام 1/ 397، 402، 403، 404، 405، 406. (2) زاد المعاد 1/ 48، وانظر أيضا صحيح البخاري 2/ 684، وصحيح مسلم 1/ 96، وابن هشام 1/ 402، 403. (3) نفس المصدر الأخير 1/ 399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 أزهار السيرة النبوية- على صاحبها الصلاة والسلام والتحية- أرى أن أسجل بعضا منها بالإيجاز: يرى القارئ في سورة الإسراء أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط، ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، فربما يظن القارئ أن الآيتين ليس بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك، فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس؛ لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية؛ لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، وأن الله سينقل هذا المنصب فعلا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة، من أمة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات، ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم. ولكن كيف تنتقل هذه القيادة، والرسول يطوف في جبال مكة مطرودا بين الناس، هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى، وهي أن دورا من هذه الدعوة الإسلامية قد أوشك إلى النهاية والتمام، وسيبدأ دور آخر يختلف عن الأول في مجراه، ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد بالنسبة إلى المشركين وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [الإسراء: 16] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً [الإسراء: 17] وبجنب هذه الآيات آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضارة وبنودها ومبادئها التي يبتنى عليها مجتمعهم الإسلامي، كأنهم قد أووا إلى الأرض، تملكوا فيها أمورهم من جميع النواحي، وكونوا وحدة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع، ففيه إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجد ملجأ ومأمنا يستقر فيه أمره، ويصير مركزا لبث دعوته في أرجاء الدنيا. هذا سر من أسرار هذه الرحلة المباركة، يتصل ببحثنا، فاثرنا ذكره. ولأجل هذه الحكمة وأمثالها نرى أن الإسراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الأولى أو بين العقبتين، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 بيعة العقبة الأولى قد ذكرنا أن ستة من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة 11 من النبوة، وواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إبلاغ رسالته في قومهم. وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي- موسم الحج سنة 12 من النبوة يوليو سنة 621- اثنا عشر رجلا، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السابق- والسادس الذي لم يحضر هو جابر بن عبد الله بن رئاب- وسبعة سواهم. وهم: 1- معاذ بن الحارث، ابن عفراء من بني النجار (من الخزرج) 2- ذكوان بن عبد القيس من بني زريق (من الخزرج) 3- عبادة بن الصامت من بني غنم (من الخزرج) 4- يزيد بن ثعلبة من حلفاء بني غنم (من الخزرج) 5- العباس بن عبادة بن نضلة من بني سالم (من الخزرج) 6- أبو الهيثم بن التيهان من بني عبد الأشهل (من الأوس) 7- عويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف (من الأوس) الأخيران من الأوس، والبقية كلهم من الخزرج «1» . اتصل هؤلاء برسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى، فبايعوه بيعة النساء، أي وفق بيعتهن التي نزلت عند فتح مكة. روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعالوا: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله، فأمره   (1) رحمة للعالمين 1/ 85 ابن هشام 1/ 431، 432، 433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. قال: فبايعته- وفي نسخة فبايعناه- على ذلك «1» . سفير الإسلام في المدينة وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء المبايعين أول سفير في يثرب، ليعلم المسلمين فيها شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار لهذه السفارة شابا من شباب الإسلام من السابقين الأولين، وهو مصعب بن عمير العبدري رضي الله عنه. النجاح المغتبط نزل مصعب بن عمير على أسعد بن زرارة، وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب بجد وحماس، وكان مصعب يعرف بالمقرئ. ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يوما يريد دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر، وجلسا على بئر يقال لها بئر مرق، واجتمع إليهما رجال من المسلمين- وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك- فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا. فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه. وجاء أسيد فوقف عليهما متشتما، وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن. قال: فو الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، وفي إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟   (1) صحيح البخاري، باب بعد حلاوة الإيمان 1/ 7، باب وفود الأنصار 1/ 550، 551 واللفظ من هذا الباب، وباب قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ 2/ 727، باب الحدود كفارة 2/ 1003. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قالا له: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. فقام واغتسل، وطهر ثوبه، وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائي رجلا إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن- سعد بن معاذ- ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه، وهم جلوس في ناديهم، فقال سعد: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف أسيد على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ فقال: كلمات الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت. وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه- وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك- ليخفروك، فقام سعد مغضبا للذي ذكر له، فأخذ حربته، وخرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره؟ وقد كان أسعد قال لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد، فقال مصعب لسعد بن معاذ: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال: قد أنصفت، ثم ركز حربته فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه، وتهلله، ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟ قالا: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. ففعل ذلك. ثم أخذ حربته، فأقبل إلى نادي قومه، فلما رأوه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به. فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيماننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة إلا رجل واحد- وهو الأصيرم- تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم ذلك اليوم وقاتل وقتل، ولم يسجد لله سجدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عمل قليلا وأجر كثيرا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وأقام مصعب في بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل، كان فيهم قيس بن الأسلت الشاعر- وكانوا يطيعونه- فوقف بهم عن الإسلام حتى كان عام الخندق سنة خمس من الهجرة. وقبل حلول موسم الحج التالي- أي حج السنة الثالثة عشر- عاد مصعب بن عمير إلى مكة، يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشائر الفوز، ويقص عليه خبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير، وما لها من قوة ومنعة «1» .   (1) ابن هشام 1/ 435، 436، 437، 2/ 90، وزاد المعاد 2/ 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 بيعة العقبة الثانية في موسم الحج في السنة الثالثة عشر من النبوة- يونيو سنة 622 م- حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسا من المسلمين من أهل يثرب، جاؤوا ضمن حجاج قومهم من المشركين، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم- وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق- حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية، أدت إلى إتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الإجتماع في سرية تامة في ظلام الليل. ولنترك أحد قادة الأنصار يصف لنا هذا الإجتماع التاريخي، الذي حول مجرى الأيام في صراع الوثنية والإسلام، يقول كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: (خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام، سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا- وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا- فكلمناه، وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيبا) . قال كعب: (فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لمعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب- أم عمارة- من بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو- أم منيع- من بني سلمة) . فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا، ومعه (عمه) العباس بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 عبد المطلب- وهو يومئذ على دين قومه- إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، وتوثق له، وكان أول متكلم «1» . بداية المحادثة وتشريح العباس لخطورة المسؤولية وبعد أن تكامل المجلس بدأت المحادثات لإبرام التحالف الديني والعسكري، وكان أول المتكلمين هو العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. تكلم ليشرح لهم- بكل صراحة- خطورة المسؤولية التي ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف. قال: (يا معشر الخزرج- وكان العرب يسمون الأنصار خزرجا، خزرجها وأوسها كليهما- إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الإنحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده) . قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت «2» . وهذا الجواب يدل على ما كانوا عليه من عزم وتصميم وشجاعة وإيمان وإخلاص في تحمل هذه المسؤولية العظيمة، وتحمل عواقبها الخطيرة. وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بيانه، ثم تمت البيعة. بنود البيعة وقد روى ذلك الإمام أحمد عن جابر مفصلا. قال جابر: قلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: «1- على السمع والطاعة في النشاط والكسل. 2- وعلى النفقة في العسر واليسر. 3- وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم.   (1) ابن هشام 1/ 440، 441. (2) نفس المصدر 1/ 441، 442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 5- وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة» «1» . وفي رواية كعب- التي رواها ابن إسحاق- البند الأخير فقط من هذه البنود، ففيه قال كعب: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» . فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق (نبيا) لنمنعنك مما نمنع أزرنا «2» منه، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا (عن كابر) . قال: فاعترض القول- والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم «3» . التأكيد من خطورة البيعة وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة، وأجمعوا على الشروع في عقدها قام رجلان من الرعيل الأول ممن أسلموا في مواسم سنتي 11، 12 من النبوة، قام أحدهما تلو الآخر، ليؤكدا للقوم خطورة المسؤولية، حتى لا يبايعوه إلا على جلية من الأمر، وليعرفا مدى استعداد القوم للتضحية ويتأكدا من ذلك. قال ابن إسحاق: لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نضلة: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.   (1) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن، وصححه الحاكم وابن حبان، انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 155، وروى ابن إسحاق ما يشبه هذا عن عبادة بن الصامت، وفيه بند زائد، وهو «ألاننازع الأمر أهله» انظر ابن هشام 1/ 454. (2) العرب تكنى عن المرأة بالإزار وتكنى أيضا بالإزار عن النفس. (3) ابن هشام 1/ 442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: «الجنة» . قالوا: ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه «1» . وفي رواية جابر، قال: فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة- وهو أصغر السبعين- فقال رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله «2» . عقد البيعة وبعد إقرار بنود البيعة، وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالمصافحة، قال جابر- بعد أن حكى قول أسعد بن زرارة-: فقالوا يا أسعد، أمط عنا يدك، فو الله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها «3» . وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية في هذا السبيل، وتأكد منه- وكان هو الداعية الكبير مع مصعب بن عمير، وبالطبع فكان هو الرئيس الديني على هؤلاء المبايعين- فكان هو السابق إلى هذه البيعة. قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده «4» . وبعد ذلك بدأت البيعة العامة، قال جابر: فقمنا إليه رجلا رجلا فأخذ علينا البيعة، يعطينا بذلك الجنة «5» . وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولا. ما صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أجنبية قط «6» .   (1) نفس المصدر 1/ 446. (2) رواه الإمام أحمد من حديث جابر. (3) نفس المصدر. (4) قال ابن إسحاق: وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان، وقال كعب بن مالك: بل البراء بن معرور (ابن هشام 1/ 447) قلت: لعلهم حسبوا ما دار بينهما وبين الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة، وإلا فأحرى الناس بالتقديم إذا ذاك هو أسعد بن زرارة. والله أعلم. (5) مسند الإمام أحمد. (6) أنظر صحيح مسلم باب كيفية بيعة النساء 2/ 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 اثنا عشر نقيبا وبعد أن تمت البيعة طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتخاب اثني عشر زعيما يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسؤولية عنهم في تنفيذ بنود هذه البيعة، فقال للقوم: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا؛ ليكونوا على قومكم بما فيهم. فتم انتخابهم في الحال، وكانوا تسعة في الخزرج وثلاثة من الأوس. وهاك أسماؤهم: نقباء الخزرج 1- أسعد بن زرارة بن عدس. 2- سعد بن الربيع بن عمرو. 3- عبد الله بن رواحة بن ثعلبة. 4- رافع بن مالك بن العجلان. 5- البراء بن معرور بن صخر. 6- عبد الله بن عمرو بن حرام. 7- عبادة بن الصامت بن قيس. 8- سعد بن عبادة بن دليم. 9- المنذر بن عمرو بن خنيس. نقباء الأوس 1- أسيد بن حضير بن سماك. 2- سعد بن خيثمة بن الحارث. 3- رفاعة بن عبد المنذر بن زبير «1» . ولما تم انتخاب هؤلاء النقباء أخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقا آخر بصفتهم رؤساء مسؤولين.   (1) زبير بالباء الموحدة، وقيل: بالنون. وقد قيل بدل رفاعة، أبو الهيثم بن التيهان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 قال لهم: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي- يعني المسلمين- قالوا: نعم «1» . شيطان يكتشف المعاهدة ولما تم إبرام المعاهدة، وكان القوم على وشك الإنفضاض، اكتشفها أحد الشياطين، وحيث جاء هذا الإكتشاف في اللحظة الأخيرة، ولم يكن يمكن إبلاغ زعماء قريش هذا الخبر سرا ليباغتوا المجتمعين وهم في الشعب، قام ذلك الشيطان على مرتفع من الأرض، وصاح بأنفذ صوت سمع قط: يا أهل الأخاشب- المنازل- هل لكم في محمد والصباة معه؟ قد اجتمعوا على حربكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أزب العقبة، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك» . ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم «2» . استعداد الأنصار لضرب قريش وعند سماع صوت هذا الشيطان قال العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» ، فرجعوا وناموا حتى أصبحوا «3» . قريش تقدم الإحتجاج إلى رؤساء يثرب ولما قرع هذا الخبر آذان قريش وقعت فيهم ضجة أثارت القلاقل والأحزان، لأنهم كانوا على معرفة تامة من عواقب مثل هذه البيعة ونتائجها بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم، فما إن أصبحوا حتى توجه وفد كبير من زعماء مكة وأكابر مجرميها إلى مخيم أهل يثرب، ليقدم احتجاجه الشديد على هذه المعاهدة. فقد قال: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم «4» . ولما كان مشركو الخزرج لا يعرفون شيئا عن هذه البيعة، لأنها تمت في سرية تامة، وفي ظلام الليل، انبعث هؤلاء المشركون يحلفون بالله: ما كان من شيء، وما علمناه،   (1) ابن هشام 1/ 443، 444، 446. (2) ابن هشام 1/ 448. (3) زاد المعاد 2/ 51. (4) نفس المصدر 1/ 448. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 حتى أتوا عبد الله بن أبي بن سلول، فجعل يقول: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفتاتوا على مثل هذا، لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني. أما المسلمون فنظر بعضهم إلى بعض، ثم لاذوا بالصمت، فلم يتحدث أحد منهم بنفي أو إثبات. ومال زعماء قريش إلى تصديق المشركين، فرجعوا خائبين. تأكد الخبر لدى قريش ومطاردة المبايعين عاد زعماء مكة وهم على شبه اليقين من كذب هذا الخبر، لكنهم لم يزالوا يتنطسونه- يكثرون البحث عنه ويدققون النظر فيه- حتى تأكد لديهم أن الخبر صحيح، والبيعة قد تمت فعلا. وذلك بعد ما نفر الحجيج إلى أوطانهم، فسارع فرسانهم بمطاردة اليثربيين، ولكن بعد فوات الأوان، إلا أنهم تمكنوا من رؤية سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فطاردوهما، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فألقوا القبض عليه، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجرون شعره حتى أدخلوه مكة، فجاء المطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم. إذ كان سعد يجير لهما قوافلهما المارة بالمدينة، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه، فإذا هو قد طلع عليهم، فوصل القوم جميعا إلى المدينة «1» . هذه هي بيعة العقبة الثانية- التي تعرف ببيعة العقبة الكبرى- وقد تمت في جو تعلوه عواطف الحب والولاء والتناصر بين أشتات المؤمنين، والثقة والشجاعة والإستبسال في هذا السبيل، فمؤمن من أهل يثرب يحنو على أخيه المستضعف في مكة، ويتعصب له، ويغضب من ظالمه، وتجيش في حناياه مشاعر الود لهذا الأخ الذي أحبه بالغيب في ذات الله. ولم تكن هذه المشاعر والعواطف نتيجة نزعة عابرة تزول على مر الأيام، بل كان مصدرها هو الإيمان بالله وبرسوله وبكتابه، إيمان لا يزول أمام أي قوة من قوات الظلم والعدوان، إيمان إذا هبت ريحه جاءت بالعجائب في العقيدة والعمل، وبهذا الإيمان استطاع المسلمون أن يسجلوا على أوراق الدهر أعمالا، ويتركوا عليها آثارا، خلا عن نظائرها الغابر والحاضر، وسوف يخلو المستقبل.   (1) زاد المعاد 2/ 51، ابن هشام 1/ 448، 449، 450. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 طلائع الهجرة وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية، ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة- وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته- أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن. ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاة بالشخص فحسب، مع الإشعار بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان. وبدأ المسلمون يهاجرون، وهم يعرفون كل ذلك، وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم، لما كانوا يحسون من الخطر، وهاك نماذج من ذلك: 1- كان من أول المهاجرين أبو سلمة- هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق- وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم، فقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به. وانطلق أبو سلة وحده إلى المدينة، وكانت أم سلمة بعد ذهاب زوجها، وضياع ابنها تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة- رحلة تبلغ خمسمائة كليومترا- وليس معها أحد من خلق الله، حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى قباء قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة» .   (1) ابن هشام 1/ 468، 469، 470. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 2- ولما أراد صهيب الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب، ربح صهيب «1» . 3- وتواعد عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي بن وائل موضعا يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة، فاجتمع عمر وعياش وحبس عنهما هشام. ولما قدما المدينة ونزلا بقباء قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش- وأم الثلاثة واحدة- فقالا له: إن أمك قد نذرت ألايمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك فرق لها. فقال له عمر: يا عياش، أنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو آذى أمك القمل لا متشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فأبى عياش إلا الخروج معهما؛ ليبر قسم أمه، فقال له عمر: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها. فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا ابن أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة نهارا موثقا، وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا «2» . هذه ثلاثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجرة إذا علموا ذلك. ولكن مع كل ذلك خرج الناس أرسالا يتبع بعضهم بعض. وبعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي- أقاما بأمره   (1) نفس المصدر 1/ 477. (2) بقي هشام وعياش في قيد الكفار حتى إذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما: من لي بعياش وهشام؟ فقال الوليد بن الوليد: أنا لك يا رسول الله بهما، فقدم الوليد مكة مستخفيا، ولقي امرأة تحمل إليهما طعاما فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور الجدار، وقطع قيديهما وحملهما على بعيره حتى قدم المدينة انظر ابن هشام 1/ 474، 475، 476، وكان قدوم عمر المدينة في عشرين من الصحابة (صحيح البخاري 1/ 558) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 لهما- وإلا من احتبسه المشركون كرها. وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج، وأعد أبو بكر جهازه «1» . روى البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين- وهما الحرتان- فهاجر من هاجر قبل المدينة. ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر- وهو الخبط- أربعة أشهر «2» .   (1) زاد المعاد 2/ 52. (2) صحيح البخاري، باب هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه 1/ 553. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 في دار الندوة «برلمان قريش» ولما رأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج، وقعت فيهم ضجة أثارت القلاقل والأحزان، وأخذ القلق يساورهم بشكل لم يسبق له مثيل، فقد تجسد أمامهم الخطر الحقيقي العظيم، الذي يهدد كيانهم الوثني والإقتصادي، فقد كانوا يعلمون ما في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم من غاية قوة التأثير مع كمال القيادة والإرشاد، وما في أصحابه من العزيمة والإستقامة والفداء في سبيله، ثم ما في قبائل الأوس والخزرج من قوة ومنعة، وما في عقلاء هاتين القبيلتين من عواطف السلم والصلاح، والتداعي إلى نبذ الأحقاد فيما بينهما، بعد أن ذاقوا مرارة الحروب الأهلية طيلة أعوام من الدهر. كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الموقع الإستراتيجي بالنسبة إلى المحجة التجارية التي تمر بساحل البحر الأحمر من اليمن إلى الشام. وقد كان أهل مكة يتاجرون إلى الشام بقدر ربع مليون دينار ذهب سنويا، سوى ما كان لأهل الطائف وغيرها. ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار الأمن في تلك الطريق. فلا يخفي ما كان لقريش من الخطر البالغ في تمركز الدعوة الإسلامية في يثرب، ومجابهة أهلها ضدهم. شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجع الوسائل لدفع هذا الخطر، الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم. وفي يوم الخميس 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12 من شهر سبتمبر سنة 622 م «1» - أي بعد شهرين ونصف تقريبا من بيعة العقبة الكبرى- عقد برلمان مكة (دار الندوة) في أوائل النهار «2» أخطر اجتماع له في تاريخه، وتوافد إلى هذا الإجتماع جميع   (1) أخذنا هذا التاريخ بعد مراجعة التحقيقات التي سجلها العلامة محمد سليمان المنصور فوري في رحمة للعالمين 1/ 95، 97، 102، 2/ 471. (2) يدل على انعقاد الإجتماع في أوائل النهار ما رواه ابن إسحاق أن جبريل أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بمؤامرة هذا- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 نواب القبائل القرشية، ليتدارسوا خطة حاسمة تكفل القضاء سريعا على حامل لواء الدعوة الإسلامية، وتقطع تيار نورها عن الوجود نهائيا. وكانت الوجوه البارزة في هذا الإجتماع الخطير من نواب قبائل قريش: 1- أبو جهل بن هشام، عن قبيلة بني مخزوم. 2- جبير بن مطعم، وطعيمة بن عدي، والحارث بن عامر، عن بني نوفل بن عبد مناف. 3- شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، عن بني عبد شمس بن عبد مناف. 4- النضر بن الحارث- وهو الذي كان ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلا جزور- عن بني عبد الدار. 5- أبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام عن بني أسد بن عبد العزي. 6- نبيه ومنبه ابنا الحجاج، عن بني سهم. 7- أمية بن خلف، عن بني جمح. ولما جاؤوا إلى دار الندوة حسب الميعاد اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بتلة، ووقف على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألايعدمكم منه رأيا ونصحا. قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم. النقاش البرلماني والإجماع على قرار غاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أن تكامل الإجتماع بدأ عرض الإقتراحات والحلول، ودار النقاش طويلا. قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على   - الاجتماع وأذن في الهجرة. ثم ما رواه البخاري من حديث عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر في نحر الظهيرة وقال له: «قد أذن في الخروج» وسيأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 حي من العرب، ثم يسير بهم إليكم- بعد أن يتابعوه- حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد، ويروا فيه رأيا غير هذا. قال أبو البختري: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله- زهيرا والنابغة- ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه- كما تقولون- ليخرجن من أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به. حتى يغلبوا على أمركم. ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره. وبعد أن رفض البرلمان هذين الإقتراحين قدم إليه اقتراح آثم وافق عليه جميع أعضائه، تقدم به كبير مجرمي مكة أبو جهل بن هشام. قال أبو جهل: «والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم. قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا أرى غيره. ووافق برلمان مكة على هذا الإقتراح الآثم بالإجماع، ورجع النواب إلى بيوتهم، وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورا «1» .   (1) انظر ابن هشام 1/ 480، 481، 482. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ولما تم اتخاذ القرار الغاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم نزل إليه جبريل بوحي ربه تبارك وتعالى، فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة قائلا: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه «1» . وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة إلى أبي بكر رضي الله عنه، ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها: بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج من عندك» . فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله. قال: «فإني قد أذن لي في الخروج» فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» «2» . وبعد إبرام خطة الهجرة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، ينتظر مجيء الليل «1» . تطويق منزل الرسول صلى الله عليه وسلم أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ الخطة المرسومة التي أبرمها برلمان مكة (دار الندوة) صباحا، واختير لذلك أحد عشر رئيسا من هؤلاء الأكابر، وهم: 1- أبو جهل بن هشام. 2- الحكم بن أبي العاص. 3- عقبة بن أبي معيط. 4- النضر بن الحارث.   (1) ابن هشام 1/ 482، زاد المعاد 2/ 52. (2) صحيح البخاري، باب هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه 1/ 553. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 5- أمية بن خلف. 6- زمعة بن الأسود. 7- طعيمة بن عدي. 8- أبو لهب. 9- أبيّ بن خلف. 10- نبيه بن الحجاج. 11- أخوه منبه بن الحجاج «1» . قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام، فيثبون عليه «2» . وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطبا لأصحابه المطوفين في سخرية واستهزاء: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نارا تحرقون فيها «3» . وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالب على أمره، بيده ملكوت السماوات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجار عليه، فقد فعل ما خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال: 30] . الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته ومع غاية استعداد قريش لتنفيذ خطتهم فقد فشلوا فشلا فاحشا. ففي هذه الساعة الحرجة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: «نم على فراشي، وتسبح ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام «4» .   (1) زاد المعاد 2/ 52. (2) ابن هشام 1/ 482. (3) نفس المصدر 1/ 483. (4) نفس المصدر 1/ 482، 483. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رؤوسهم، وقد آخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 9] فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ومضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلا حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمن «1» . وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا. قال: خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر على رؤوسكم التراب، وانطلق لحاجته، قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم. ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليا، فقالوا: والله إن هذا لمحمد نائما، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. وقام عليّ عن الفراش، فسقط في أيديهم، وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا علم لي به «2» . من الدار إلى الغار غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة الموافق 12/ 13 سبتمبر سنة 622 م «3» . وأتى إلى دار رفيقه- وآمن الناس عليه في صحبته وماله- أبي بكر رضي الله عنه. ثم غادرا منزل الأخير من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشا ستجد في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده تماما، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن. سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال، حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وهذا جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذا أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل كان يمشي في الطريق   (1) نفس المصدر 1/ 483، زاد المعاد 2/ 52. (2) نفس المصدرين السابقين. (3) رحمة للعالمين 1/ 95- ويكون شهر صفر هذا من السنة الرابعة عشر من النبوة إذا فرضنا بداية السنين من شهر محرم، وأما إذا بدأنا السنين من الشهر الذي أكرم الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوة، فيكون شهر صفر هذا من السنة الثالثة عشر قطعا. وعامة من يكتب في السيرة ربما يختار هذا، وربما يختار ذلك، فكثيرا ما يتخبط في ترتيب الوقائع، ويقع في أغلاط ونظرا إلى ذلك. اخترنا بداية السنين من شهر محرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 على أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان، فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهى به إلى غار في قمة الجبل، عرف في التاريخ بغار ثور «1» . إذ هما في الغار ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لك يا أبا بكر؟ قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده «2» . وكمنا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد «3» . وكان عبد الله ابن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة: وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. و (كان) يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث «4» . وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفى عليه «5» . أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما «6» .   (1) رحمة للعالمين 1/ 95، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 167. (2) رواه رزين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه ثم انتقض عليه (أي رجع أثر السم حين موته) وكان سبب موته. انظر مشكاة المصابيح، باب مناقب أبي بكر 2/ 556. (3) انظر فتح الباري 7/ 336. (4) صحيح البخاري 1/ 553، 554. (5) ابن هشام 1/ 486. (6) رحمة للعالمين 1/ 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاؤوا إلى بيت أبي بكر، وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها «1» . وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة، في جميع الجهات تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنا من كان «2» . وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة. وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما، وفي لفظ: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما «3» . وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة. في الطريق إلى المدينة وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة. وكانا قد استأجر عبد الله بن أريقط الليثي، وكان هاديا خريتا- ماهرا بالطريق- وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث   (1) ابن هشام 1/ 487. (2) انظر صحيح البخاري 1/ 554. (3) صحيح البخاري 1/ 516، 558، ولم يكن فزع أبي بكر مخافة على نفسه، بل سببه الوحيد هو ما روي أن أبا بكر لما رأى القافة اشتد حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن قتلت فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فعندها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الإثنين- غرة ربيع الأول سنة 1 هـ/ 16 سبتمبر سنة 622 م- جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين وحينئذ قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت يا رسول الله، خذ إحدى راحلتي هاتين. وقرب إليه أفضلهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن. وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر، فسميت ذات النطاقين «1» . ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وارتحل معهما عامر بن فهيرة، وأخذ بهم الدليل- عبد الله بن أريقط- على طريق السواحل. وأول من سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرا. وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق قال: لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قديدا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما الخرار، ثم سلك بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاح، ثم سلك بهما مرجح محاج، ثم تبطن بهما مرجح ذي الغضوين، ثم بطن ذي كشر، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم، من بطن أعداء مدلجة تعهن، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما الفاجة، ثم هبط بهما العرج، ثم سلك بهما ثنية العائر- عن يمين ركوبة- حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما على قباء «2» . وهاك بعض ما وقع في الطريق: 1- روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكانا بيدي، ينام عليه، وبسطت عليه   (1) صحيح البخاري 1/ 553، 555، وابن هشام 1/ 486. (2) ابن هشام 1/ 491، 492. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فروة، وقلت: نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من أهل المدينة أو مكة. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت: أنفض الضرع من التراب والشعر والقذى. فحلب في كعب كثبة من لبن، ومعي إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم، يرتوي منها، ما يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء على لبن حتى برد أسفله، فقلت: إشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن الرحيل؟ قلت: بلى، قال: فارتحلنا «2» . 2- كان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان شيخا يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديناي الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني سبيل الخير «1» . 3- وتبعهما في الطريق سراقة بن مالك. قال سراقة: بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا، ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم. فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي، وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فعرفتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الإلتفات- ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع   (1) صحيح البخاري 1/ 510. (2) روي ذلك البخاري عن أنس 1/ 556. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له، إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني، ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب لي في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . وفي رواية عن أبي بكر قال: ارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهم أحد غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «2» . ورجع سراقة، فوجد الناس في الطلب، فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما ههنا. وكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما «3» . 4- ومر في مسيره ذلك حتى مر بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة، ثم تطعم وتسقي من مر بها، فسألاها: هل عندها شيء؟ فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى والشاء عازب، وكانت سنة شهباء. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك. فقال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم بأبي وأمي، إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتفاجت عليه ودرت، فدعا بإناء لها يربض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقي أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيا، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا. فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا، فلما رأى اللبن عجب، فقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا، قال: إني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد، فوصفته بصفاته الرائعة بكلام رائع كأن   (1) نفس المصدر 1/ 554- وكان مقر بني مدلج بالقرب من رابغ، وتبعهما سراقة حينما كانا مصعدين من قديد- زاد المعاد 2/ 53- فالأغلب أنه تبعهما في اليوم الثالث من رحيلهما. (2) صحيح البخاري 1/ 516. (3) زاد المعاد 2/ 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 السامع ينظر إليه وهو أمامه- وسننقله في بيان صفاته صلى الله عليه وسلم في أواخر المقالة- فقال أبو معبد: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعونه ولا يرون القائل: جزى الله رب العرش خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به ... وأفلح من أمسى رفيق محمد فيالقصي ما روى الله عنكم ... به من فعال لا يحاذى وسؤدد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد قالت أسماء: ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه، حتى خرج من أعلاها. قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة «1» . 5- وفي الطريق لقي النبي صلى الله عليه وسلم أبا بريدة، وكان رئيس قومه، خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر؛ رجاء أن يفوز بالمكافأة الكبيرة التي كان قد أعلن عنها قريش، ولما واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه أسلم مكانه مع سبعين رجلا من قومه، ثم نزع عمامته، وعقدها برمحه، فاتخذها راية تعلن بأن ملك الأمن والسلام قد جاء ليملأ الدنيا عدلا وقسطا «2» . 6- وفي الطريق لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وهو في ركب المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضاء «3» . النزول بقباء: وفي يوم الإثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة- وهي السنة الأولى من الهجرة- الموافق 23 سبتمبر سنة 622 م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء «4» .   (1) زاد المعاد 2/ 53، 54. (2) رحمة للعالمين 1/ 101. (3) روى ذلك البخاري عن عروة بن الزبير 1/ 554. (4) رحمة للعالمين 1/ 102- وفي هذا اليوم تم عمره صلى الله عليه وسلم ثلاثة وخمسين عاما كاملا لا وكس ولا شطط، وتم- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنظرون، فثار المسلمون إلى السلاح «1» . قال ابن القيم: وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي نزل عليه: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] «2» . قال عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى- وفي نسخة: يجيئ- أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك «3» . وكانت المدينة كلها قد زحفت للإستقبال، وكان يوما مشهودا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، وقد رأى اليهود صدق بشارة حبقوق النبي: إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران «4» . ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على سعد بن خيثمة، والأول أثبت، ومكث علي بن أبي طالب بمكة ثلاثا، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع   - على نبوته ثلاثة عشر عاما كاملا عند من يقول: إنه أكرم بالنبوة في 9 ربيع الأول في سنة 41 من عام الفيل، وأما من يقول: إنه أكرم بالنبوة في رمضان سنة 41 من عام الفيل فعنده يتم على نبوته- في ذلك اليوم- اثني عشرة عاما وخمسة أشهر و 18 يوما أو 22 يوما. (1) صحيح البخاري 1/ 555. (2) زاد المعاد 2/ 54. (3) صحيح البخاري 1/ 555. (4) صحيفة حبقوق (3: 3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيا على قدميه، حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهدم «1» . وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس «2» . وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس- يوم الجمعة- ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار- أخواله- فجاؤوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل «3» . الدخول في المدينة: وبعد الجمعة دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة- ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصرا- وكان يوما تاريخيا أغر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحا وسرورا «4» : أشرق البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع والأنصار إن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عليه. فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فلم تزل سائرة   (1) زاد المعاد 2/ 54، ابن هشام 1/ 493، رحمة للعالمين 1/ 102. (2) هذا ما رواه ابن إسحاق، انظر ابن هشام 1/ 494 وهو الذي اختاره العلامة المنصور فوري انظر رحمة للعالمين 1/ 102، وفي صحيح البخاري أنه أقام بقباء أربعا وعشرين ليلة (1/ 61) وبضع عشرة ليلة (1/ 555) وأربع عشر ليلة (1/ 560) وهذا الأخير هو الذي اختاره ابن القيم، وقد صرح هو نفسه أن نزوله بقباء كان يوم الإثنين وخروجه يوم الجمعة والخروج، ومعهما لا يزيد على اثني عشر يوما إذا كان من أسبوعين. (3) صحيح البخاري 1/ 555، 560، زاد المعاد 2/ 55، ابن هشام 1/ 494 رحمة للعالمين 1/ 102. (4) ذكر ابن القيم أن إنشاد هذه الأشعار كان عند مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، ووهم من يقول: إنما كان ذلك عند مقدمة المدينة (زاد المعاد 3/ 10) لكن ابن القيم لم يأت على هذا التوهم بدليل يشفي، وقد رجح العلامة المنصور فوري أن ذلك كان عند مقدمة المدينة، ومعه دلائل لا يمكن ردها انظر رحمة للعالمين 1/ 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار- أخواله- صلى الله عليه وسلم. وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله، فأدخله بيته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المرء مع رحله، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته، وكانت عنده «1» . وفي رواية أنس عند البخاري، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا رسول الله، هذه داري، وهذا بابي: قال: فانطلق فهيء لنا مقيلا، قال: قوما على بركة الله «2» . وبعد أيام وصلت إليه زوجته سودة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر «3» . قالت عائشة: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت: يا أبه كيف تجدك، ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي أذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حبا، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة» «4» . إلى هنا انتهى قسم من حياته صلى الله عليه وسلم، وتم دور من الدعوة الإسلامية، وهو الدور المكي.   (1) رحمة للعالمين 1/ 106، زاد المعاد 2/ 55. (2) صحيح البخاري 1/ 556. (3) زاد المعاد 2/ 55. (4) صحيح البخاري 1/ 588، 589. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 [2- الدور المدني] الحياة في المدينة يمكن تقسيم العهد المدني إلى ثلاث مراحل: 1- مرحلة أثيرت فيها القلاقل والفتن، وأقيمت فيها العراقيل من الداخل، وزحف فيها الأعداء إلى المدينة لاستئصال خضرائها من الخارج. وهذه المرحلة تنتهي إلى صلح الحديبية في ذي القعدة سنة 6 من الهجرة. 2- مرحلة الهدنة مع الزعامة الوثنية، وتنتهي بفتح مكة، في رمضان سنة ثمان من الهجرة، وهي مرحلة دعوة الملوك إلى الإسلام. 3- مرحلة دخول الناس في دين الله أفواجا، وهي مرحلة توافد القبائل والأقوام إلى المدينة، وهذه المرحلة تمتد إلى انتهاء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة 11 من الهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 المرحلة الأولى الحالة الراهنة في المدينة عند الهجرة لم يكن معنى الهجرة هو التخلص من الفتنة والإستهزاء فحسب، بل كانت الهجرة مع هذا تعاونا على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن. ولذلك أصبح فرضا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه ورفعة شأنه. ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام والقائد والهادي في بناء هذا المجتمع، وكانت إليه أزمة الأمور بلا نزاع. والأقوام التي كان يواجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة كانت على ثلاثة أصناف، يختلف أحوال كل واحد منها بالنسبة إلى الآخر إختلافا واضحا، وكان يواجه بالنسبة إلى كل صنف منها مسائل عديدة غير المسائل التي كان يواجهها بالنسبة إلى الآخرى. وهذه الأصناف الثلاثة هي: 1- أصحابه الصفوة الكرام البررة رضي الله عنهم. 2- المشركون الذين لم يؤمنوا بعد، وهم من صميم قبائل المدينة. 3- اليهود. أ- والمسائل التي كان يواجهها بالنسبة إلى أصحابه هو أن ظروف المدينة بالنسبة إليهم كانت تختلف تماما عن الظروف التي مروا بها في مكة، فهم في مكة وإن كانت تجمعهم كلمة جامعة، وكانوا يستهدفون إلى أهداف متفقة، إلا أنهم كانوا متفرقين في بيوتات شتى، مقهورين أذلاء مطرودين، لم يكن لهم من الأمر شيء، وإنما كان الأمر بيد أعدائهم في الدين، فلم يكن هؤلاء المسلمون يستطيعون أن يقيموا مجتمعا إسلاميا جديدا بمواده التي لا يستغني عنها أي مجتمع إنساني في العالم، ولذلك نرى السور المكية تقتصر على تفصيل المبادئ الإسلامية، وعلى التشريعات التي يمكن العمل بها لكل فرد وحده، وعلى الحث على البر والخير ومكارم الأخلاق، والإجتناب عن الرذائل والدنايا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أما في المدينة فكان أمر المسلمين بأيديهم منذ أول يوم، ولم يكن عليهم سيطرة أحد من الناس، فقد آن لهم أن يواجهوا بمسائل الحضارة والعمران، وبمسائل المعيشة والإقتصاد، وبمسائل السياسة والحكومة، وبمسائل السلم والحرب، وبالتنقيح الكامل في مسائل الحلال والحرام والعبادة والأخلاق وما إلى ذلك من مسائل الحياة. كان قد آن لهم أن يكونوا مجتمعا جديدا، مجتمعا إسلاميا، يختلف في جميع مراحل الحياة عن المجتمع الجاهلي، ويمتاز عن أي مجتمع يوجد في العالم الإنساني، ويكون ممثلا للدعوة الإسلامية التي عانى لها المسلمون ألوانا من النكال والعذاب طيلة عشر سنوات. ولا يخفى أن تكوين أي مجتمع على هذا النمط لا يمكن أن يستتب في يوم واحد، أو شهر واحد، أو سنة واحدة، بل لا بد له من زمن طويل، يتكامل فيه التشريع والتقنين مع التثقيف والتدريب والتربية تدريجيا، وكان الله كفيلا بهذا التشريع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بتنفيذه، والإرشاد إليه، وتربية المسلمين وفقه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة: 2] . وكان الصحابة رضي الله عنهم مقبلين عليه بقلوبهم، يتحلون بأحكامه ويستبشرون بها وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الأنفال: 2] وليس تفصيل هذه المسائل كلها من مباحث موضوعنا فنقتصر منها على قدر الحاجة. كان هذا أعظم ما يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى المسلمين، وهذا الذي كان هو المقصود- على نطاق واسع- من الدعوة الإسلامية، والرسالة المحمدية، ولكن لم يكن هذا قضية طارئة. نعم كانت هناك مسائل- دون ذلك- كانت تقتضي الإستعجال. كانت جماعة المسلمين مشتملة على قسمين: قسم هم في أرضهم وديارهم وأموالهم، لا يهمهم من ذلك إلا ما يهم الرجل وهو آمن في سربه، وهم الأنصار، وكان بينهم تنافر مستحكم وعداء مزمن منذ أمد بعيد. وكان بجانب هؤلاء قسم آخر- وهم المهاجرون- فاتهم كل ذلك، ونجوا بأنفسهم إلى المدينة، ليس لهم ملجأ يأوون إليه، ولا عمل يعملونه لمعيشتهم، ولا مال يبلغون به قواما من العيش، وكان عدد هؤلاء اللاجئين غير قليل، وكانوا يزيدون يوما فيوما، فقد كان أوذن بالهجرة لكل من آمن بالله ورسوله. ومعلوم أن المدينة لم تكن على ثروة طائلة، فتزعزع ميزانها الإقتصادي، وفي هذه الساعة الحرجة قامت القوات المعادية للإسلام بشبه مقاطعة إقتصادية، قلت لأجلها المستوردات، وتفاقمت الظروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ب- أما القوم الثاني- وهم المشركون من صميم قبائل المدينة- فلم تكن لهم سيطرة على المسلمين، وكان منهم من يتخالجه الشكوك، ويتردد في ترك دين الآباء، ولكن لم يكن يبطن العداوة والكيد ضد الإسلام والمسلمين، ولم تمض عليهم مدة طويلة حتى أسلموا وأخلصوا دينهم لله. وكان فيهم من يبطن شديد الإحن والعداوة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولكن لم يكن يستطيع أن يناوئهم، بل كان مضطرا إلى إظهار الودّ والصفاء نظرا إلى الظروف، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبي، فقد كانت الأوس والخزرج إجتمعوا على سيادته بعد حرب بعاث، ولم يكونوا إجتمعوا على سيادة أحد قبله، وكانوا قد نظموا له الخرز، ليتوجوه ويملكوه، وكان على وشك أن يصير ملكا على أهل المدينة إذ باغت مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصراف قومه عنه إليه، فكان يرى أنه استلبه ملكا، فكان يبطن شديد العداوة ضده- ولما رأى الظروف لا تساعده على شركه، وأنه يحرم الفوائد الدنيوية أظهر الإسلام بعد بدر، ولكن بقي مستبطنا الكفر، وكان لا يجد مجالا للمكيدة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين إلا ويأتي بها- وكان أصحابه- من الرؤساء الذين حرموا المناصب المرجوة في ملكه- يساهمونه ويدعمونه في تنفيذ خططه، وربما كانوا يتخذون بعض الأحداث، وضعاف العقول من المسلمين عملاء لهم؛ لتنفيذ خططهم. ج- أما القوم الثالث- وهم اليهود- فقد كانوا انحازوا إلى الحجاز زمن الإضطهاد الأشوري والروماني كما أسلفنا، وكانوا في الحقيقة عبرانيين، ولكن بعد الإنسحاب إلى الحجاز صبغوا بالصبغة العربية في الزي واللغة والحضارة، حتى صارت أسماء قبائلهم أو أفرادهم عربية، وحتى قامت بينهم وبين العرب علاقة الزواج والصهر، إلا أنهم تحافظوا بعصبيتهم الجنسية، ولم يندمجوا في العرب قطعا، بل كانوا يفتخرون بجنسيتهم الإسرائيلية- اليهودية- وكانوا يحتقرون العرب إحتقارا بالغا حتى كانوا يسمونهم أميين بمعنى أنهم وحوش سذج، وأراذل متأخرون، وكانوا يرون أن أموال العرب مباحة لهم، يأكلونها كيف شاؤوا، قالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران: 75] ولم يكن لهم تحمس في نشر دينهم وإنما جل بضاعتهم الدينية هي: الفأل والسحر والنفث والرقية وأمثالهم، وبذلك كانوا يرون أنفسهم أصحاب علم وفضل وقيادة روحانية. وكانوا مهرة في فنون الكسب والمعيشة، فكانت في أيديهم تجارة الحبوب والتمر والخمر والثياب، كانوا يوردون الثياب والحبوب والخمر، ويصدرون التمر، وكانت لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، فكانوا يأخذون المنافع من عامة العرب أضعافا مضاعفة، ثم لم يكونوا يقتصرون على ذلك، بل كانوا أكالين للربا، كانوا يقرضون شيوخ العرب وساداتهم، ليكتسب هؤلاء الرؤساء مدائح من الشعراء، وسمعة بين الناس بعد إنفاقها من غير جدوى ولا طائلة، ثم كانوا يرتهنون أرض هؤلاء الرؤساء وزروعهم وحوائطهم، ثم لا يلبثون إلا أعواما حتى يتملكونها. وكانوا أصحاب دسائس ومؤامرات وعتو وفساد، يلقون العداوة والشحناء بين القبائل العربية المجاورة، ويغرون بعضها على بعض بكيد خفي لم تكن تشعره تلك القبائل، فلا تزال في حروب دامية متواصلة، ولا تزال أنامل اليهود تؤجج نيرانها كلما رأتها تقارب الخمود والإنطفاء، وبعد هذا التحريض والإغراء كانوا يقاعدون على جانب، يرون ساكتين ما يحل بهؤلاء العرب، نعم كانوا يزودونهم بقروض ثقيلة ربوية حتى لا يحجموا عن الحرب لعسر النفقة، وبهذا العمل كانوا يحصلون على منفعتين، كانوا يتحفظون على كيانهم اليهودي، وينفقون سوق الربا؛ ليأكلوه أضعافا مضاعفة، ويكسبوا ثروات طائلة. وكانت في يثرب منهم ثلاث قبائل مشهورة: 1- بنو قينقاع، كانوا حلفاء الخزرج، وكانت ديارهم داخل المدينة. 2- بنو النضير، 3- بنو قريظة، وهاتان القبيلتان كانتا حلفاء الأوس، وكانت ديارهما بضواحي المدينة. وهذه القبائل هي التي كانت تثير الحروب بين الأوس والخزرج منذ أمد بعيد، وقد ساهمت بأنفسها في حرب بعاث، كل مع حلفائها. وطبعا فإن اليهود لم يكن يرجى منهم أن ينظروا إلى الإسلام إلا بعين البغض والحقد، فالرسول لم يكن من جنسهم حتى ليسكن جأش عصبيتهم الجنسية التي كانت متغلبة على نفسياتهم وعقليتهم، ثم دعوة الإسلام لم تكن إلا دعوة صالحة تؤلف بين أشتات القلوب، وتطفئ نار العداوة والبغضاء، وتدعو إلى التزام الأمانة في الشؤون، وإلى التقيد بأكل الحلال من طيب الأموال، ومعنى كل ذلك أن قبائل يثرب العربية ستتالف فيما بينها، وحينئذ لا بد من أن تفلت من براثن اليهود، فيفشل نشاطهم التجاري، ويحرموا أموال الربا الذي كانت تدور عليه رحى ثروتهم، بل ربما يحتمل أن تتيقظ تلك القبائل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 فتدخل في حسابها الأموال الربوية التي أخذها اليهود، فتقوم بإرجاع أرضها وحوائطها التي أضاعتها إلى اليهود في تأدية الربا. كان اليهود يدخلون كل ذلك في حسابهم منذ عرفوا أن دعوة الإسلام تحاول الإستقرار في يثرب، ولذلك كانوا يبطنون أشد العداوة ضد الإسلام وضد رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن دخل يثرب، وإن كانوا لم يتجاسروا على إظهارها إلا بعد حين. ويظهر ذلك جليا بما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها. قال ابن إسحاق: حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي؛ حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب، مغلسين، قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهويني. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي، حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت «1» . ويشهد بذلك أيضا ما رواه البخاري في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقد كان حبرا من فطاحل علماء اليهود، ولما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في بني النجار جاءه مستعجلا، وألقى إليه أسئلة لا يعلمها إلا نبي، ولما سمع ردوده صلى الله عليه وسلم عليها آمن به ساعته ومكانه، ثم قال له: إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت اليهود، ودخل عبد الله بن سلام البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا (وفي لفظ:) سيدنا وابن سيدنا، (وفي لفظ آخر:) خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك (مرتين أو ثلاثا) ، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه. وفي لفظ فقال: يا معشر اليهود إتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق. فقالوا: كذبت «2» .   (1) ابن هشام 1/ 518، 519. (2) انظر صحيح البخاري 1/ 459، 556، 561. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وهذه أول تجربة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود، في أول يوم دخل فيه المدينة. هذا كله من حيث الداخلية، وأما من حيث الخارجية، فإن ألد قوة ضد الإسلام هي قريش، كانت قد جربت منذ عشرة أعوام- حينما كان المسلمون تحت يديها- كل أساليب الإرهاب والتهديد والمضايقة وسياسة التجويع والمقاطعة، وأذاقتهم التنكيلات والويلات، وشنت عليهم حربا نفسية مضنية مع دعاية واسعة منظمة، ثم لما هاجر المسلمون إلى المدينة صادرت أرضهم وديارهم وأموالهم، وحالت بينهم وبين أزواجهم وذرياتهم، بل حبست وعذبت من قدرت عليه، ثم لم تقتصر على هذا، بل تامرت على الفتك بصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم والقضاء عليه، وعلى دعوته، ولم تأل جهدا في تنفيذ هذه المؤامرة. وبعد هذا كله- لما نجا المسلمون إلى أرض تبعد عنها خمسمائة كيلو مترا- قامت بدورها السياسي لما لها من الصدارة الدنيوية والزعامة الدينية بين أوساط العرب، بصفتها ساكنة الحرم ومجاورة بيت الله وسدنته، فأغرت غيرها من مشركي الجزيرة ضد أهل المدينة، حتى صارت المدينة في شبه مقاطعة شديدة، قلت مستورداتها، في حين كان عدد اللاجئين يزيد يوما فيوما. إن «حالة الحرب» قائمة يقينا بين هؤلاء الطغاة من أهل مكة وبين المسلمين في وطنهم الجديد، ومن السفه تحميل المسلمين أوزار هذا الخصام «1» . كان حقا للمسلمين أن يصادروا أموال هؤلاء الطغاة، كما صودرت أموالهم، وأن يدالوا عليهم من التنكيلات بمثل ما أدالوا بها، وأن يقيموا في سبيل حياتهم العراقيل كما أقاموا في سبيل حياة المسلمين، وأن يكال لهؤلاء الطغاة صاعا بصاع، حتى لا يجدوا سبيلا لإبادة المسلمين، واستئصال خضرائهم. هذه هي القضايا والمشاكل التي كان يواجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ورد المدينة بصفته رسولا هاديا وإماما قائدا. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدور الرسالة والقيادة في المدينة، وأدلى إلى كل قوم بما كانوا يستحقونه من الرأفة والرحمة أو الشدة والنكال- ولا شك أن الرحمة كانت غالبة على الشدة والعنت- حتى عاد الأمر إلى الإسلام وأهله في بضع سنوات، وسيجد القارئ كل ذلك جليا في الصفحات الآتية:   (1) الكلمة الأخيرة لمحمد الغزالي في فقه السيرة ص 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 بناء مجتمع جديد قد أسلفنا أن نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في بني النجار كان يوم الجمعة (12 ربيع الأول سنة 1 هـ الموافق 27 سبتمبر سنة 622 م) ، وأنه نزل في أرض أمام دار أبي أيوب، وقال: ههنا المنزل إن شاء الله، ثم انتقل إلى بيت أبي أيوب. بناء المسجد النبوي: وأول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو إقامة المسجد النبوي. ففي المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء هذا المسجد، واشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وساهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة وكان يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في البناء حتى إن أحدهم ليقول: لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل وكانت في ذلك المكان قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعمده الجذوع، وفرشت أرضه من الرمال والحصباء، وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخرة مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريبا من ثلاثة أذرع. وبنى بيوتا إلى جانبه، بيوت الحجر باللبن، وسقفها بالجريد والجذوع، وهي حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب «1» .   (1) صحيح البخاري 1/ 71، 555، 560، زاد المعاد 2/ 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ولم يكن المسجد موضعا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي وتتالف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشؤون وبث الإنطلاقات، وبرلمانا لعقد المجالس الإستشارية والتنفيذية. وكان مع هذا كله دارا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون. وفي أوائل الهجرة شرع الأذان، النغمة العلوية التي تدوي في الآفاق، كل يوم خمس مرات، والتي ترتج لها أنحاء عالم الوجود. وقصة رؤيا عبد الله بن زيد بن عبد ربه بهذا الصدد معروفة. رواها الترمذي وأبو داود وأحمد وابن خزيمة «1» . المؤاخاة بين المسلمين: وكما قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد مركز التجمع والتالف، قام بعمل آخر من أروع ما يأثره التاريخ، وهو عمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. قال ابن القيم: ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلا، نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75] رد التوارث، دون عقد الأخوة. وقد قيل إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية ... والثبت الأول، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار «2» أهـ. ومعنى هذا الإخاء- كما قال محمد الغزالي- أن تذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدا نافذا، لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.   (1) انظر بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني ص 15. (2) زاد المعاد 2/ 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال «1» . فقد روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد ابن الربيع، فقال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم مالي. نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، وأين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوما وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «مهيم؟» قال: تزوجت. قال: «كم سقت إليها؟» قال: نواة من ذهب «2» . وروي عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: «لا» . فقالوا: فتكفونا المؤنة، ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا «3» . وهذا يدلنا على ما كان عليه الأنصار من الحفاوة البالغة بإخوانهم المهاجرين، ومن التضحية والإيثار والود والصفاء، وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا الكرم حق قدره، فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يقيم أودهم. وحقا فقد كانت هذه المؤاخاة حكمة فذة، وسياسة صائبة حكيمة، وحلا رائعا لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون، والتي أشرنا إليها. ميثاق التحالف الإسلامي: وكما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد المؤاخاة بين المؤمنين، قام بعقد معاهدة أزاح بها كل ما كان من حزازات الجاهلية، والنزعات القبلية، ولم يترك مجالا لتقاليد الجاهلية، وهاك بنودها ملخصا: هذا كتاب من محمد النبي- صلى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم: 1- أنهم أمة واحدة من دون الناس. 2- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم   (1) فقه السيرة ص 140، 141. (2) صحيح البخاري. باب إخاء النبيّ صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار 1/ 553. (3) صحيح البخاري- باب إذا قال: اكفنى مؤنة النخل الخ 1/ 312. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وكل قبيلة من الأنصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 3- وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. 4- وأن المؤمنين المتقين على من بغى عليهم، أو ابتغى دسيعة «1» ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين. 5- وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم. 6- ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر. 7- ولا ينصر كافرا على مؤمن. 8- وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم. 9- وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. 10- وأن سلم المؤمنين واحدة، ولا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. 11- وأن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. 12- وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن. 13- وأنه من اعتبط مؤمنا «2» قتلا عن بينة فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول. 14- وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه. 15- وأنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. 16- وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم «3» . أثر المعنويات في المجتمع: بهذه الحكمة، وبهذه الحذاقة أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد مجتمع جديد، ولكن كانت هذه الظاهرة أثرا للمعاني التي كان يتمتع بها أولئك الأمجاد بفضل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم،   (1) الدسع: الدفع كالدسر. والمعنى أي طلب دفع ظلم. لسان العرب بتصرف. (2) اعتبط مؤمنا قتلا: قتله بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله. لسان العرب. (3) ابن هشام 1/ 502، 503. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم بالتعليم والتربية وتزكية النفوس والحث على مكارم الأخلاق، ويؤدبهم باداب الود والإخاء والمجد والشرف والعبادة والطاعة. سأله رجل؟ أيّ الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف «1» . قال عبد الله بن سلام: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جئت، فلما تبينت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما قال: يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام «2» . وكان يقول: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه «3» . ويقول: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده «4» . ويقول: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه «5» . ويقول: المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله «6» . ويقول: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا «7» . ويقول: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام «8» . ويقول: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة «9» . ويقول: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء «10» .   (1) صحيح البخاري 1/ 6، 9. (2) رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي. مشكاة المصابيح 1/ 168. (3) رواه مسلم، مشكاة المصابيح 2/ 422. (4) صحيح البخاري 1/ 6. (5) صحيح البخاري 1/ 6. (6) رواه مسلم، مشكاة المصابيح 2/ 422. (7) متفق عليه، مشكاة المصابيح 2/ 422، صحيح البخاري 2/ 890. (8) صحيح البخاري 2/ 896. (9) متفق عليه مشكاة المصابيح 2/ 422. (10) سنن أبي داود 2/ 335، جامع الترمذي 2/ 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ويقول: ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جانبه «1» . ويقول: سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر «2» . وكان يجعل: إماطة الأذى عن الطريق صدقة، ويعدها شعبة من شعب الإيمان «3» . وكان يحثهم على الإنفاق، ويذكر من فضائله ما تتقاذف إليه القلوب، فكان يقول: الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار «4» . ويقول: أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري، كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقا مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم «5» . ويقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة «6» . وبجانب هذا كان يحث حثا شديدا على الإستعفاف عن المسألة، ويذكر فضائل الصبر والقناعة، كان يعد المسألة كدوحا أو خدوشا أو خموشا في وجه السائل «7» . اللهم إلا إذا كان مضطرا، كما كان يحدث لهم بما في العبادات من الفضائل والأجر والثواب عند الله، وكان يربطهم بالوحي النازل عليه من السماء ربطا موثقا يقرؤه عليهم، ويقرؤونه، لتكون هذه الدراسة إشعارا بما عليهم من حقوق الدعوة، وتبعات الرسالة، فضلا عن ضرورة الفهم والتدبر. وهكذا رفع معنوياتهم ومواهبهم، وزودهم بأعلى القيم والأقدار والمثل، حتى صاروا صورة لأعلى قمة من الكمال عرفت في تاريخ البشر بعد الأنبياء. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم   (1) رواه البيهقي في شعب الإيمان، مشكاة المصابيح 2/ 424. (2) صحيح البخاري 2/ 893. (3) والحديث في ذلك مروي في الصحيحين، انظر مشكاة المصابيح 1/ 12، 167. (4) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، مشكاة المصابيح 1/ 14. (5) سنن أبي داود، وجامع الترمذي، مشكاة المصابيح 1/ 169. (6) صحيح البخاري 1/ 190، 2/ 890. (7) انظر في ذلك أبا داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي، مشكاة المصابيح 1/ 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم «1» . ثم إن هذا الرسول القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم كان يتمتع من الصفات المعنوية والظاهرة، ومن الكمالات والمواهب والأمجاد والفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، بما جعلته تهوى إليه الأفئدة، وتتفانى عليه النفوس، فما يتكلم بكلمة إلا ويبادر صحابته- رضي الله عنهم- إلى إمتثالها، وما يأتي برشد وتوجيه إلا ويتسابقون إلى التحلي به. بمثل هذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يا بني في المدينة مجتمعا جديدا، أروع وأشرف مجتمع عرفه التاريخ، وأن يضع لمشاكل هذا المجتمع حلا تتنفس له الإنسانية الصعداء، بعد أن كانت تعبت في غياهب الزمان ودياجير الظلمات. وبمثل هذه المعنويات الشامخة تكاملت عناصر المجتمع الجديد الذي واجه كل تيارات الزمان حتى صرف وجهتها، وحول مجرى التاريخ والأيام.   (1) رواه رزين، مشكاة المصابيح 1/ 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 معاهدة مع اليهود بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ووثق من رسوخ قواعد المجتمع الإسلامي الجديد، بإقامة الوحدة العقائدية والسياسية والنظامية بين المسلمين، رأى أن يقوم بتنظيم علاقاته بغير المسلمين، وكان همه في ذلك هو توفير الأمن والسلام والسعادة والخير للبشرية جمعاء، مع تنظيم المنطقة في وفاق واحد، فسن في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في عالم مليء بالتعصب والتغالي. وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود- كما أسلفنا- وهم وإن كانوا يبطنون العداوة للمسلمين، لكن لم يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد، فعقد معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة ترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال، ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام. وجاءت هذه المعاهدة ضمن المعاهدة التي تمت بين المسلمين أنفسهم، والتي مر ذكرها قريبا. وهاك أهم بنود هذه المعاهدة: بنود المعاهدة 1- إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، كذلك لغير بني عوف من اليهود. 2- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. 3- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. 4- وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم. 5- وإنه لم يأثم امرؤ بخليفة. 6- وإن النصر للمظلوم. 7- وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 8- وإن يثرب حرام جوفها لأجل هذه الصحيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 9- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 10- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها. 11- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب .... على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم. 12- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم «1» . وبإبرام هذه المعاهدة صارت المدينة وضواحيها دولة وفاقية، عاصمتها المدينة ورئيسها- إن صح هذ التعبير- رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكلمة النافذة والسلطان الغالب فيها للمسلمين، وبذلك أصبحت المدينة عاصمة حقيقية للإسلام. ولتوسيع منطقة الأمن والسلام عاهد النبي صلى الله عليه وسلم قبائل أخرى في المستقبل بمثل هذه المعاهدة، حسب الظروف، وسيأتي ذكرها.   (1) انظر ابن هشام 1/ 503، 504. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الكفاح الدامي استفزازات قريش ضد المسلمين بعد الهجرة واتصالهم بعبد الله بن أبي: قد أسلفنا ما كان يأتي به كفار مكة من التنكيلات والويلات ضد المسلمين، وما فعلوا بهم عند الهجرة، مما استحقوا لأجلها المصادرة والقتال، إلا أنهم لم يكونوا ليفيقوا من غيهم، ويمتنعوا عن عدوانهم، بل زادهم غيظا أن فاتهم المسلمون ووجدوا مأمنا ومقرا بالمدينة، فكتبوا إلى عبد الله بن أبي بن سلول، وكان إذا ذاك مشركا بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة- فمعلوم أنهم كانوا مجتمعين عليه، وكادوا يجعلونه ملكا على أنفسهم لولا أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به- كتبوا إليه وإلى أصحابه المشركين يقولون لهم في كلمات باتة: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم «1» . وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد الله بن أبي ليمتثل أوامر إخوانه المشركين من أهل مكة- وقد كان يحقد على النبي صلى الله عليه وسلم، لما يراه أنه استلبه ملكه- يقول عبد الرحمن بن كعب: فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم، فقال: «لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا «2» . امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن إرادة القتال عند ذاك، لما رأى خورا أو رشدا في أصحابه، ولكن يبدو أنه كان متواطئا مع قريش، فكان لا يجد فرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين، وكان يضم معه اليهود، ليعينوه على ذلك، ولكن تلك هي حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تطفئ نار شرهم حينا بعد حين «3» .   (1) أبو داود باب خبر النضير. (2) أبو داود باب خبر النضير. (3) انظر في هذا الصدد صحيح البخاري 2/ 655، 656، 916، 924. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 إعلان عزيمة الصد عن المسجد الحرام ثم إن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمرا، فنزل على أمية بن خلف بمكة، فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريبا من لقف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة «1» . قريش تهدد المهاجرين ثم إن قريشا أرسلت إلى المسلمين تقول لهم: لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم «2» . ولم يكن هذا كله وعيدا مجردا، فقد تأكد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكيد قريش وإرادتها على الشر ما كان لأجله لا يبيت إلا ساهرا، أو في حرس من الصحابة، فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة، فقال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة، قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: من هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام «3» . ولم تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي بل كان ذلك أمرا مستمرا، فقد روي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلا، حتى نزل: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال: «يا أيها الناس انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل «4» » . ولم يكن الخطر مقتصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل على المسلمين كافة، فقد روى   (1) صحيح البخاري، كتاب المغازي 2/ 563. (2) رحمة للعالمين 1/ 116. (3) مسلم باب فضل سعد بن أبي وقاص 2/ 280 واللفظ له، وصحيح البخاري- باب الحراسة في الغزو في سبيل الله 1/ 404. (4) جامع الترمذي أبواب التفسير 2/ 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أبيّ بن كعب، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه. الإذن بالقتال في هذه الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين بالمدينة، والتي كانت تنبئ عن قريش أنهم لا يفيقون عن غيهم، ولا يمتنعون عن تمردهم بحال، أنزل الله تعالى الإذن بالقتال للمسلمين، ولم يفرضه عليهم قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج: 39] . وأنزل هذه الآية ضمن آيات أرشدتهم إلى أن هذا الإذن إنما هو لإزاحة الباطل، وإقامة شعائر الله، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج: 41] . والصحيح الذي لا مندوحة عنه أن هذا الإذن إنما نزل بالمدينة بعد الهجرة، لا بمكة، ولكن لا يمكن لنا القطع بتحديد ميعاد النزول. نزل الإذن بالقتال، ولكن كان من الحكمة إزاء هذه الظروف- التي مبعثها الوحيد هو قوة قريش وتمردها- أن يبسط المسلمون سيطرتهم على طريق قريش التجارية المؤدية من مكة إلى الشام، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لبسط هذه السيطرة خطتين: الأولى: عقد معاهدات الحلف أو عدم الإعتداء مع القبائل التي كانت مجاورة لهذا الطريق، أو كانت تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة، وقد أسلفنا معاهدته- صلى الله عليه وسلم- مع اليهود، وكذلك كان عقد معاهدة الحلف أو عدم الإعتداء مع جهينة قبل الأخذ في النشاط العسكري، وكانت مساكنهم على ثلاثة مراحل من المدينة، وقد عقد معاهدات أثناء دورياته العسكرية وسيأتي ذكرها. الثانية: إرسال البعوث واحدة تلو الآخرى إلى هذا الطريق. الغزوات والسرايا قبل بدر «1» ولتنفيذ هاتين الخطتين بدأ في المسلمين النشاط العسكري فعلا بعد نزول الإذن بالقتال، وقاموا بحركات عسكرية هي أشبه بالدوريات الإستطلاعية، وكان المطلوب منها   (1) سمى المؤرخون ما خرج فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بنفسه غزوة، حارب فيها أم لم يحارب وما خرج فيه أحد قادته سرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 هو الذي أشرنا إليه من الإستكشاف والتعرف على الطرق المحيطة بالمدينة، والمسالك المؤدية إلى مكة، وعقد المعاهدات مع القبائل التي مساكنها على هذه الطرق، وإشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء، وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم، وإنذار قريش عقبى طيشها، حتى تفيق عن غيها الذي لا تزال تتوغل في أعماقه، وعلها تشعر بتفاقم الخطر على اقتصادها وأسباب معايشها فتجنح إلى السلم، وتمتنع عن إرادة قتال المسلمين في عقر دارهم، وعن الصد عن سبيل الله، وعن تعذيب المستضعفين من المؤمنين في مكة، حتى يصير المسلمون أحرارا في إبلاغ رسالة الله في ربوع الجزيرة. وفيما يلي أحوال هذه السرايا بالإيجاز: 1- سرية سيف البحر ، في رمضان سنة 1 هـ. الموافق مارس سنة 623 م. أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه السرية حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين رجلا من المهاجرين، يعترض عيرا لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص «1» . فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي ابن عمرو الجهني- وكان حليفا للفريقين جميعا- بين هؤلاء وهؤلاء، حتى حجز بينهم، فلم يقتتلوا. وكان لواء حمزة أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبيض، وكان حامله أبا مرثد كناز بن حصين الغنوي. 2- سرية رابغ ، في شوال سنة 1 من الهجرة- أبريل سنة 623 م، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين راكبا من المهاجرين، فلقي أبا سفيان- وهو في مائتين- على بطن رابغ، وقد ترامى الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال. وفي هذه السرية انضم رجلان من جيش مكة إلى المسلمين، وهما المقداد بن عمرو البهراني، وعتبة بن غزوان المازني، وكان مسلمين، خرجا مع الكفار، ليكون ذلك وسيلة للوصول إلى المسلمين. وكان لواء عبيدة أبيض، وحامله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف. 3- سرية الخرّار «2» ، في ذي القعدة سنة 1 هـ الموافق مايو سنة 623 م، بعث   (1) العيص- بالكسر- مكان بين ينبع والمروة ناحية البحر الأحمر. (2) الخرار- بالفتح فالتشديد- موضع بالقرب من الجحفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في عشرين راكبا، يعترضون عيرا لقريش، وعهد إليه أن لا يجاوز الخرار، فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار ويسيرون بالليل حتى بلغوا الخرار صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس. كان لواء سعد رضي الله عنه أبيض، وحمله المقداد بن عمرو. 4- غزوة الأبواء أو ودان «1» - في صفر سنة 2 هـ الموافق أغسطس سنة 623 م، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، بعد أن استخلف على المدينة سعد بن عبادة، في سبعين رجلا من المهاجرين خاصة، يعترض عيرا لقريش حتى بلغ ودان، فلم يلق كيدا. وفي هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مخشى الضمري، وكان سيد بني ضمرة في زمانه، وهاك نص المعاهدة: هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين الله، ما بلّ بحر صوفة، وإن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه «2» . وهذه أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، وكان اللواء أبيض، وحامله حمزة بن عبد المطلب. 5- غزوة بواط ، في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ سبتمبر سنة 623 م، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه، يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ بواطا من ناحية رضوى «3» ولم يلق كيدا. واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سعد بن معاذ، واللواء كان أبيض، وحامله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 6- غزوة سفوان ، في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ سبتمبر سنة 623 م أغار كرز بن جابر الفهري في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا من أصحابه لمطاردته، حتى بلغ واديا يقال له: سفوان من   (1) ودان- بالفتح فالتشديد- موضع بين مكة والمدينة، بينه وبين رابغ مما يلي المدينة تسعة وعشرون ميلا، والأبواء موضع بالقرب من ودان. (2) انظر المواهب اللدنية 1/ 75 وشرحه للزرقاني. (3) بواط (بالضم) ورضوى، جبلان فرعان أصلهما من جبال جهينة: مما يلي طريق الشام، بينه وبين المدينة نحو أربعة برد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ناحية بدر، ولكنه لم يدرك كرزا وأصحابه، فرجع من دون حرب، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى. واستخلف في هذه الغزوة على المدينة زيد بن حارثة، وكان اللواء أبيض، وحامله علي بن أبي طالب. 7- غزوة ذي العشيرة - في جمادى الأولى، وجمادى الآخرة سنة 2 هـ الموافق نوفمبر وديسمبر سنة 623 م، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة ويقال: في مائتين، من المهاجرين، ولم يكره أحدا على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها، يعترضون عيرا لقريش، ذاهبة إلى الشام، وقد جاء الخبر بفصولها من مكة فيها أموال لقريش، فبلغ ذا العشيرة «1» ، فوجد العير قد فاتته بأيام، وهذه هي العير التي خرج لي طلبها حتى رجعت من الشام، فصارت سببا ل غزوة بدر الكبرى . وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في أواخر جمادى الأولى، ورجوعه في أوائل جمادى الآخرة على ما قاله ابن إسحاق، ولعل هذا هو سبب اختلاف أهل السير في تعيين شهر هذه الغزوة. وفي هذه الغزوة عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة. واستخلف على المدينة في هذه الغزوة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وكان اللواء في هذه الغزوة أبيض، وحامله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. 8- سرية نخلة - في رجب سنة 2 هـ الموافق يناير سنة 624 م، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في اثني عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا، وأمره، ألاينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه. فسار عبد الله، ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم» فقال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم، غير أنه لما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه، فتخلفا في طلبه   (1) العشيرة- مصغرا، ويقال: العشيراء بالمد، وقيل: العشيرة بالمهملة- موضع بناحية ينبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وسار عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة وفيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اجتمعوا على اللقاء فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين إلى المدينة، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام. وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه، وقال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، ووقف التصرف في العير والأسيرين. ووجد المشركون فيما حدث فرصة لإتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله، وكثر في ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحي حاسما هذه الأقاويل، وأن ما عليه المشركون أكبر وأعظم مما ارتكبه المسلمون ... يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 217] . فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قد استها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟ لا جرم أن الدعاية التي أخذ ينشرها المشركون دعاية تبتني على وقاحة ودعارة. وبعد ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح الأسيرين، وأدى دية المقتول إلى أوليائه «1» . تلكم السرايا والغزوات قبل بدر، لم يجر في واحدة منها سلب الأموال وقتل الرجال،   (1) أخذنا تفاصيل هذه السرايا والغزوات من زاد المعاد 2/ 83، 84، 85، وابن هشام 1/ 561 إلى 605، ورحمة للعالمين 1/ 115، 116، 2/ 215، 216، 468، 469، 470 وفي المصادر اختلاف في ترتيب هذه الغزوات والسرايا، وفي تعيين عدد الخارجين فيها- واعتمدنا في ذلك على تحقيق العلامة ابن القيم والعلامة المنصور فوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 إلا بعد ما ارتكبه المشركون في قيادة كرز بن جابر الفهري، فالبداية إنما هي من المشركين مع ما كانوا قد أوتوه قبل ذلك من الأفاعيل. وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين، وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريبا، ثم يقتلوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم، لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة- كما فعلت جهينة وبنو ضمرة- ازدادوا حقدا وغيظا، وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل، من إبادة المسلمين في عقر دارهم، وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر. أما المسلمون فقد فرض الله عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش، في شهر شعبان سنة 2 هـ، وأنزل في ذلك آيات بينات وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 190، 191، 192، 193] . ثم لم يلبث أن أنزل الله تعالى عليهم آيات من نوع آخر، يعلم فيها طريقة القتال، ويحثهم عليه، ويبين لهم بعض أحكامه فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها. ذلِكَ، وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد: 4، 5، 6، 7] «1» . ثم ذم الله الذين طفقت أفئدتهم ترجف وتخفق حين سمعوا الأمر بالقتال: فَإِذا   (1) حقق الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي تحقيقا مدللا أن سورة محمد نزلت قبل بدر، راجع تفهيم القرآن 5/ 11، 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الآية [محمد: 20] . وإيجاب القتال والحض عليه، والأمر بالإستعداد له هو عين ما كانت تقتضيه الأحوال، ولو كان هناك قائد يسير أغوار الظروف لأمر جنده، بالإستعداد لجميع الطوارئ، فكيف بالرب العليم المتعال، فالظروف كانت تقتضي عراكا داميا بين الحق والباطل، وكانت وقعة سرية عبد الله بن جحش ضربة قاسية على غيرة المشركين وحميتهم، آلمتهم، وتركتهم يتقلبون على مثل الجمر. وآيات الأمر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي، وأن النصر والغلبة فيه للمسلمين نهائيا، انظر كيف يأمر الله المسلمين بإخراج المشركين من حيث أخرجوهم، وكيف يعلمهم أحكام الجند المتغلب في الأساري، والإثخان في الأرض، حتى تضع الحرب أوزارها، هذه كلها إشارة إلى غلبة المسلمين نهائيا. ولكن ترك كل ذلك مستورا، حتى يأتي كل رجل بما فيه من التحمس في سبيل الله. وفي هذه الأيام- في شعبان سنة 2 هـ/ فبراير 624 م- أمر الله تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وأفاد ذلك أن الضعفاء والمنافقين من اليهود الذين كانوا قد دخلوا في صفوف المسلمين لإثارة البلبلة انكشفوا عن المسلمين، ورجعوا إلى ما كانوا عليه، وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن كثير من أهل الغدر والخيانة. وفي تحويل القبلة إشارة لطيف إلى بداية دور جديد، لا ينتهي إلا بعد إحتلال المسلمين هذه القبلة، أو ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيد أعدائهم، وإن كانت بأيديهم فلا بد من تخليصها يوما ما. وبعد هذه الأوامر والإشارات زاد نشاط المسلمين، واشتدت نزعاتهم إلى الجهاد في سبيل الله ولقاء العدو في معركة فاصلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 غزوة بدر الكبرى أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة سبب الغزوة قد أسلفنا في ذكر غزوة العشيرة أن عيرا لقريش أفلتت من النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابها من مكة إلى الشام، ولما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال، ليقوما باكتشاف خبرها، فوصلا إلى الحوراء، ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير، فأسرعا إلى المدينة، وأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر. كانت العير مركبة من ثروات طائلة من أهل مكة، ألف بغير موقرة بالأموال، لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي، ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلا. إنها فرصة ذهبية لعسكر المدينة، وضربة عسكرية وسياسية واقتصادية قاصمة ضد المشركين لو أنهم فقدوا هذه الثروة الطائلة، لذلك أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين قائلا: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. ولم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، لما أنه لم يكن يتوقع عند هذا الإنتداب أنه سيصطدم بجيش مكة- بدل العير- هذا الإصطدام العنيف في بدر، ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة، وهم يحسبون أن مضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه في السرايا الماضية، ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغزوة. مبلغ قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات واستعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا (313، 314، 317 رجلا) ، 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين، و 61 من الأوس و 170 من الخزرج. ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالا بليغا، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرسان، فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ليعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا واحدا. واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء ردّ أبا لبابة بن عبد المنذر، واستعمله على المدينة. ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض. وقسم جيشه إلى كتيبتين: 1- كتيبة المهاجرين، وأعطى علمها علي بن أبي طالب. 2- كتيبة الأنصار، وأعطى علمها سعد بن معاذ. وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو- وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش كما أسلفنا- وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للجيش. الجيش الإسلامي يتحرك نحو بدر سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجيش غير المتأهب، فخرج من نقب المدينة، ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة، حتى بلغ بئر الروحاء ولما ارتحل منها، ترك طريق مكة بيسار، وانحرف ذات اليمين على النازية- يريد بدرا-، فسلك في ناحية منها، حتى جذع واديا يقال له: رحقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم مر على المضيق، ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء، وهنالك بعث بسيس بن عمر الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتجسسان له أخبار العير. النذير في مكة وأما خبر العير فإن أبا سفيان- وهو المسؤول عنها- كان على غاية من الحيطة والحذر، فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار، وكان يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير، وحينئذ استأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة، مستصرخا لقريش بالنفير إلى عيرهم، ليمنعوه من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخرج ضمضم سريعا حتى أتى مكة، فصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره، وقد جدع أنفه، وحول رحله، وشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث. أهل مكة يتجهزون للغزو فتحفز الناس سراعا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا، والله ليعلمن غير ذلك، فكانوا بين رجلين، إما خارج، وإما باعث مكانه رجلا، وأوعبوا في الخروج، فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عوض عنه رجلا كان له عليه دين، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي، فلم يخرج منهم أحد. قوام الجيش المكي وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره، وكان معه مائة فرس وستمائة درع، وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل بن هشام، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يوما تسعا ويوما عشرا من الإبل. مشكلة قبائل بني بكر ولما أجمع هذا الجيش على المسير، ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر من العداوة والحرب، فخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف، فيكونوا بين نارين، فكاد ذلك يثنيهم، ولكن حينئذ تبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي- سيد بني كنانة- فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. جيش مكة يتحرك وحينئذ خرجوا من ديارهم، كما قال الله: بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وأقبلوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- «بحدهم وحديدهم، يحادون الله ويحادون رسوله» ، وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ، وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لاجتراء هؤلاء على قوافلهم. تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في إتجاه بدر، وسلكوا في طريقهم وادي عسفان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ثم قديد، ثم الجحفة، وهناك تلقوا رسالة جديدة من أبي سفيان يقول لهم فيها: انكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله فارجعوا. العير تفلت وكان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسي، ولكنه لم يزل حذرا متيقظا، وضاعف حركاته الإستكشافية، ولما اقترب من بدر تقدم عيره، حتى لقي مجدي بن عمرو، وسأله عن جيش المدينة، فقال: ما رأيت أحدا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما، ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذا والله علائف يثرب، فرجع إلى عيره سريعا، وضرب وجهها محولا اتجاهها نحو الساحل غربا، تاركا الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار. وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة. هم الجيش المكي بالرجوع ووقوع الإنشقاق فيه ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلا: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا. ولكن على رغم أبي جهل أشار الأخنس بن شريق بالرجوع فعصوه، فرجع هو وبنو زهرة- وكان حليفا لهم ورئيسا عليهم في هذا النفير- فلم يشهد بدرا زهري واحد، وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل، واغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس بن شريق، فلم يزل فيهم مطاعا معظما. وأرادت بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل، وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع. فسار جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهرة- وهو يقصد بدرا- فواصل سيره حتى نزل قريبا من بدر، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادي بدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 حراجة موقف الجيش الإسلامي أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو لا يزال في الطريق بوادي ذفران- خبر العير والنفير، وتأكد لديه بعد التدبر في تلك الأخبار أنه لم يبق مجال للإجتناب عن لقاء دام، وأنه لا بد من إقدام يا بنى على الشجاعة والبسالة، والجراءة، والجسارة، فمما لا شك فيه أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيما لمكانة قريش العسكرية، وامتدادا لسلطانها السياسي، وإضعافا لكلمة المسلمين وتوهينا لها، بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسدا لا روح فيه، ويجرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام في هذه المنطقة. وبعد هذا كله فهل يكون هناك أحد يضمن للمسلمين أن يمنع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة، حتى ينقل المعركة إلى أسوارها، ويغزو المسلمين في عقر دارهم. كلا، فلو حدث من جيش المدينة نكول ما لكان له أسوأ الأثر على هيبة المسلمين وسمعتهم. المجلس الإستشاري ونظرا إلى هذا التطور الخطير المفاجئ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا عسكريا استشاريا أعلى، أشار فيه إلى الوضع الراهن، وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه، وقادته. وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس، وخافوا اللقاء الدامي، وهم الذين قال الله فيهم كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وأما قادة الجيش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: «يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له به. وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرف رأي قادة الأنصار، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش، ولأن ثقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 المعركة سيدور على كواهلهم، مع أن نصوص العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة: «أشيروا عليّ أيها الناس» وإنما يريد الأنصار، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ، فقال: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها ألاتنصرك إلا وفي ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع، حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، وو الله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: «سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين: والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» . الجيش الإسلامي يواصل سيره ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران، فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدية، وترك الحنان بيمين- وهو كثيب عظيم كالجبل- ثم نزل قريبا من بدر. الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بعملية الإستكشاف وهناك قام بنفسه بعملية الإستكشاف مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبينما هما يتجولان حول معسكر مكة إذا هما بشيخ من العرب، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 عن قريش وعن محمد وأصحابه- سأل عن الجيشين زيادة في التكتم- ولكن الشيخ قال: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أخبرتنا أخبرناك» ، قال: أو ذاك بذلك؟ قال: نعم. قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذي به جيش المدينة- وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذي به جيش مكة. ولما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن من ماء» ، ثم انصرف عنه، وبقي الشيخ يتفوه، ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟! الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي وفي مساء ذلك اليوم بعث استخباراته من جديد، ليبحث عن أخبار العدو، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين؛ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه، ذهبوا إلى ماء بدر، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة، فألقوا عليهما القبض وجاؤوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة، فاستخبرهما القوم، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم ورجوا أن يكونا لأبي سفيان- لا تزال في نفوسهم بقايا أمل في الإستيلاء على القافلة- فضربوهما موجعا، حتى اضطر الغلامان أن يقولا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة قال لهم كالعاتب: «إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله، إنهما لقريش» . ثم خاطب الغلامين قائلا: أخبراني عن قريش، قالا: هم وراء هذا الكنيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: كم القوم؟ قالا: كثير. قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف في رجال سمياهم. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» . نزول المطر وأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرا واحدا، فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على قلوبهم. الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية وتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه، ليسبق المشركين إلى ماء بدر، ويحول بينهم وبين الإستيلاء عليه، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر، وهنا قام الحباب بن المنذر كخبير عسكري وقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» ، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم- قريش- فننزله وتغور- أي نخرب- ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأي» . فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش، حتى أتى أقرب ماء من العدو، فنزل عليه شطر الليل، ثم صنعوا الحياض، وغوروا ما عداها من القلب. مقر القيادة وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يا بني المسلمون مقرا لقيادته، استعدادا للطوارئ، وتقديرا للهزيمة قبل النصر، حيث قال: «يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الآخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك، ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير وبنى المسلمون عريشا على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال، ويشرف على ساحة المعركة. كما تم انتخاب فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ، يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم حول مقر قيادته. تعبئة الجيش وقضاء الليل ثم عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه «1» ، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله «2» . ثم بات رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرة هنالك، وبات المسلمون ليلهم هادئ الأنفاس منير الآفاق، غمرت الثقة قلوبهم، وأخذوا من الراحة قسطهم، يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحا إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ [الأنفال: 11] . كانت هذه الليلة ليلة الجمعة، السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكان خروجه في 8 أو 12 من نفس الشهر. الجيش المكي في عرصة القتال ووقوع الإنشقاق فيه أما قريش، فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدوة القصوى، ولما أصبحت أقبلت في كتائبها، ونزلت من الكثيب إلى وادي بدر، وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعوهم، فما شرب أحد منهم يومئذ إلا قتل، سوى حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل، وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان إذا اجتهد في اليمين قال: لا والذي نجاني من يوم بدر، فلما اطمأنت قريش بعث عمير بن وهب الجمحي، للتعرف على مدى قوة جيش المدينة، فدار عمير بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم يرد شيئا، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش   (1) انظر جامع الترمذي أبواب الجهاد، باب ما جاء في الصف والتعبئة 1/ 201. (2) رواه مسلم عن أنس، انظر مشكاة المصابيح 2/ 543. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادكم، فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم. وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل- المصمم على المعركة- تدعو إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس، وأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش، وسيدها والمطاع فيها، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي- المقتول في سرية نخلة- فقال عتبة: قد فعلت، أنت ضامن علي بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله ديته وما أصيب من ماله. ثم قال عتبة لحكيم بن حزام، فأت ابن الحنظلية- أبا جهل، والحنظلية أمه- فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون. وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل- وهو يهيء درعا له- قال يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، فقال أبو جهل: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه- وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديما وهاجر- فتخوفكم عليه. ولما بلغ قول أبي جهل: «انتفخ والله سحره» ، قال عتبة: سيعلم من انتفخ سحره، أنا أم هو؟ وتعجل أبو جهل مخافة أن تقوى هذه المعارضة، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمي- أخي عمرو بن الحضرمي المقتول في سرية عبد الله بن جحش- فقال: هذا حليفك- أي عتبة- يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك، ومقتل أخيك، فقام عامر، فكشف عن أسته، وصرخ: واعمراه، واعمراه فحمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 القوم، وحقب أمرهم، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة. وهكذا تغلب الطيش على الحكمة، وذهبت هذه المعارضة دون جدوى. الجيشان يتراآن: ولما طلع المشركون، وتراآى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة» . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر- «إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا» . وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، فقد كان في يده قدح يعدل به، وكان سواد بن غزية مستنصلا من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال: استو يا سواد، فقال سواد: يا رسول الله أوجعتني فأقدني، فكشف عن بطنه، وقال: استقد، فأعتنقه سواد، وقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير. ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأن لا يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال: إذا أكثبوكم- يعني كثروكم- فارموهم، واستبقوا نبلكم «1» ، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم «2» ، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة، وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش. وأما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، وفي ذلك أنزل الله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 19] .   (1) صحيح البخاري 2/ 568. (2) سنن أبي داود في سل السيوف عند اللقاء 2/ 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ساعة الصفر وأول وقود المعركة: وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي- وكان رجلا شرسا سييء الخلق- خرج قائلا: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه. فلما خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فلما التقيا ضربه حمزة، فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تبر يمينه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض. المبارزة: وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار، عوف ومعوذ ابنا الحارث- وأمهما عفراء- وعبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: أكفاء كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فأخبروهم، فقالوا: أنتم أكفاء كرام، فبارز عبيدة- وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد «1» ، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة، وقد قطعت رجله، فلم يزل صمتا حتى مات بالصفراء بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر، حينما كان المسلمون في طريقهم إلى المدينة. وكان علي يقسم بالله أن هذه الآية نزلت فيهم: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ الآية. الهجوم العام: وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركين، فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة، فاستشاطوا غضبا، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد.   (1) هذا على ما قاله ابن إسحاق، وفي رواية أحمد وأبي داود أن عبيدة بارز الوليد، وعلي بارز شيبة، وحمزة بارز عتبة. مشكاة المصابيح 2/ 343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم، واستغاثوه، وأخلصوا له، وتضرعوا إليه، تلقوا هجمات المشركين المتوالية، وهم مرابطون في مواقعهم، واقفون موقف الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون: أحد أحد. الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه: وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك» . حتى إذا حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة، واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا» . وبالغ في الإبتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك. وأوحى الله إلى ملائكته: أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، وأوحى إلى رسوله: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ- أي أنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضا أرسالا، لا يأتون دفعة واحدة. نزول الملائكة: وأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع، أي: الغبار. وفي رواية إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع» . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب العريش، وهو يثب في الدرع، ويقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 45] ، ثم أخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشا وقال: شاهت الوجوه، ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، وفي ذلك أنزل الله: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] . الهجوم المضاد: وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره بالهجمة المضادة فقال: شدوا، وحرضهم على القتال، قائلا: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، وقال وهو يحضهم على القتال، قوموا إلى جنة عرضها السموات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 والأرض، (وحينئذ) قال العمير بن الحمام: بخ. بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل «1» . وكذلك سأله عوف بن الحارس- ابن عفراء- فقال: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده! قال: «غمسه يده في العدو حاسرا» ، فنزع درعا كانت عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل. وحين أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالهجوم المضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت، وفتر حماسه، فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين، فإنهم حينما تلقوا أمر الشد والهجوم- وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه- قاموا بهجوم كاسح مرير، فجعلوا يقلبون الصفوف، ويقطعون الأعناق، وزادهم نشاطا وحدة أن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول في جزم وصراحة: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، فقاتل المسلمون أشد القتال، ونصرتهم الملائكة، ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال: كان يومئذ يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه، وتندر يد الرجل لا يدري من ضربها، وقال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة «2» . وقال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. وجاء رجل من الأنصار للعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق، وما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: أسكت فقد أيدك الله بملك كريم.   (1) رواه مسلم 2/ 139، مشكاة المصابيح 2/ 331. (2) روى مثل ذلك مسلم 2/ 93 وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 إبليس ينسحب عن ميدان القتال: ولما رأى إبليس- وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي كما ذكرنا، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت- فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه، وتشبث به الحارس بن هشام- وهو يظنه سراقة- فوكز في صدر الحارس فألقاه، ثم خرج هاربا، وقال له المشركون: إلى أين يا سراقة: ألم تكن قلت: إنك جار لنا، لا تفارقنا؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر. الهزيمة الساحقة: وبدأت أمارات الفشل والإضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والإنسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون حتى تمت عليهم الهزيمة. صمود أبي جهل: أما الطاغية الأكبر أبو جهل، فإنه لما رأى أول إمارات الإضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه هذا السيل، فجعل يشجع جيشه، ويقول لهم في شراسة ومكابرة: لا يهزمنكم خزلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا، فو اللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، ولا ألفين رجلا منكم قتل منهم رجلا، ولكن خذوهم أخذا، حتى نعرفهم بسوء صنيعهم. ولكن سرعان ما تبدى له حقيقة هذه الغطرسة، فما لبث إلا قليلا حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين. نعم بقي حوله عصابة من المشركين، ضربت حوله سياجا من السيوف وغابات من الرماح، ولكن عاصفة هجوم المسلمين بددت هذا السياح وأقلعت هذه الغابات، وحينئذ ظهر هذا الطاغية، ورآه المسلمون يجول على فرسه، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين أنصاريين. مصرع أبي جهل: قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، فما تصنع به؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك. قال: وغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: هل مسحتما سيفيكما؟ فقالا: لا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين، فقال: كلاكما قتله، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء «1» . وقال ابن إسحاق: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعت القوم، وأبو جهل في مثل الحرجة- والحرجة: الشجر الملتف، أو شجرة من الأشجار لا يوصل إليها، شبه رماح المشركين وسيوفهم التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجرة- وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، قال: فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنت قدمه- أطارتها- بنصف ساقه، فو الله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها «2» ثم مر بأبي جهل- وهو عقير- معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل. ولما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه، وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني؟ أعمد من رجل قتلتموه «3» ؟ أو هل فوق رجل قتلتموه؟ وقال: فلو غير أكار قتلني، ثم قال: أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال: لله ورسوله، ثم قال لابن مسعود- وكان قد وضع رجله على عنقه- لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة.   (1) صحيح البخاري 1/ 444، 2/ 568، مشكاة المصابيح 2/ 352، وإنما خص بالسلب واحدا منهما لأن الثاني قتل شهيدا في نفس المعركة. (2) بقي معاذ هذا إلى زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه. (3) أي ليس علي عار فلن أبعد أن أكون رجلا قتله قومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال: «الله الذي لا إله إلا هو؟» فرددها ثلاثا، ثم قال: «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبد، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه، فانطلقنا فأريته إياه، فقال: هذا فرعون هذه الأمة» . من روائع الإيمان في هذه المعركة: لقد أسلفنا نموذجين رائعين من عمير بن الحمام وعوف بن الحارث- ابن عفراء- وقد تجلت في هذه المعركة مناظر رائعة، تبرز فيها قوة العقيدة وثبات المبدأ، ففي هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء، والأخوة بالأخوة، خالفت بينهما المبادئ، ففصلت بينهما السيوف، والتقى المقهور بقاهره، فشفي منه غيظه. 1- روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرها، فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه- أو لأجمنه- بالسيف، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: «يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟!» فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فو الله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بامن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيدا. 2- وكان النهي عن قتل أبي البختري، لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه ولا يبلغ عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطلب. ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله، وذلك أن المجذر بن زياد البلوي لقيه في المعركة، ومعه زميل له، يقاتلان سويا، فقال المجذر: يا أبا البختري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك، فقال: وزميلي؟ فقال المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، فقال: والله إذن لأموتن أنا وهو جميعا، ثم اقتتلا، فاضطر المجذر إلى قتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 3- كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة، فلما كان يوم بدر مر به عبد الرحمن، وهو واقف مع ابنه علي بن أمية، آخذا بيده، ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها، وهو يحملها، فلما رآه قال: هل لك فيّ؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ - يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن- فطرح عبد الرحمن الأدراع، وأخذها يمشي بها، قال عبد الرحمن: قال لي أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه: من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن: فو الله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان أمية هو الذي يعذب بلالا بمكة، فقال بلال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا قلت: أي بلال، أسيري قال: لا نجوت إن نجا. قلت: أتسمع يا ابن السوداء. قال: لا نجوت إن نجا. ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة، وأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت أنج بنفسك، ولا نجاء بك، فو الله ما أغني عنك شيئا. قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري. وفي زاد المعاد أن عبد الرحمن بن عوف قال لأمية: أبرك، فبرك، فألقى نفسه عليه، فضربوه بالسيف من تحته حتى قتلوه، وأصاب بعض السيف رجل عبد الرحمن بن عوف «1» . 4- وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة. 5- ونادى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ابنه عبد الرحمن- وهو يومئذ مع المشركين- فقال: أين مالي يا خبيث؟ فقال: عبد الرحمن: لم يبق غير شكة ويعبوب ... وصارم يقتل ضلال الشيب «2» 6- ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحا سيفه، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟» قال: أجل والله يا رسول الله.   (1) زاد المعاد 2/ 89. (2) الشكة: السلاح. واليعبوب: الفرس الكثير الجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلي من استبقاء الرجال. 7- وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن الأسدي، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا من حطب، فقال: قاتل بهذا يا عكاشة، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفا في يده طويل القامة، شديد المتن أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله تعالى للمسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد، حتى قتل في حروب الردة وهو عنده. 8- وبعد إنتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عمير، الذي خاض المعركة ضد المسلمين، مر به وأحد الأنصار يشد يده، فقال: مصعب للأنصاري: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب: أهذه وصاتك بي؟ فقال مصعب: إنه- أي الأنصاري- أخي دونك. 9- ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في القليب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: «يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟» فقال: لا والله، يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرا. قتلى الفريقين: انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة إلى المشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وعامتهم القادة والزعماء والصناديد. ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى، فقال: «بئس العشيرة كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس» ، ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وعن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث. وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى، وأتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، يا فلان ابن فلان، يا فلان ابن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، وفي رواية ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون» «1» . مكة تتلقى نبأ الهزيمة: فر المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة، تبعثروا في الوديان والشعاب، واتجهوا صوب مكة مذعورين، لا يدرون كيف يدخلونها خجلا. قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف في رجال من الزعماء سماهم. فلما أخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا، فاسألوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية قال: ها هو ذا جالس في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا. وقال أبو رافع- مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم-: كنت غلاما للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا، وكنت رجلا ضعيفا أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فو الله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة «2» ، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب: هلم إلي، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه. فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا   (1) متفق عليه، مشكاة المصابيح 2/ 345 [ط. دار الفكر] . (2) طنب الحجرة: طرفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق «1» شيئا، ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته، فضربته به ضربة فعلت في رأسه شجة منكرة، وقالت: إستضعفته أن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته [وهي قرحة تتشاءم بها العرب، فتركه بنوه، وبقي ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه] . هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر، وقد أثر ذلك فيهم أثرا سيئا جدا، حتى منعوا النياحة على القتلى، لئلا يشمت بهم المسلمون. ومن الطرائف أن الأسود بن المطلب أصيب ثلاثة من أبنائه يوم بدر، وكان يحب أن يبكي عليهم، وكان ضرير البصر، فسمع ليلا صوت نائحة، فبعث غلامه، وقال: انظر هل أحل النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة- ابنه- فإن جوفي قد احترق، فرجع الغلام وقال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فلم يتمالك الأسود نفسه وقال: أتبكي أن يضل لها بعير ... ويمنعها من النوم السهود فلا تبكي على بكر ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود على بدر سراة بني هصيص ... ومخزوم ورهط أبي الوليد وبكي إن بكيت على عقيل ... وبكي حارثا أسد الأسود وبكيهم، ولا تسمي جميعا ... وما لأبي حكيمة من نديد ألا قد ساد بعدهم رجال ... ولولا يوم بدر لم يسودوا المدينة تتلقى أنباء النصر: ولما تم الفتح للمسلمين أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرين إلى أهل المدينة، ليعجل لهم   (1) لا تبقي شيئا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 البشرى، أرسل عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية، وأرسل زيد بن حارثة بشيرا إلى أهل السافلة. وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة، حتى أنهم أشاعوا خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رأى أحد المنافقين زيد بن حارثة راكبا القصواء- ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فلّا «1» . فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى تأكد لديهم فتح المسلمين، فعمت البهجة والسرور، واهتزت أرجاء المدينة تهليلا وتكبيرا، وتقدم رؤوس المسلمين- الذين كانوا بالمدينة- إلى طريق بدر، ليهنئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الفتح المبين. قال أسامة بن زيد: أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان. الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر بعد انتهاء المعركة ثلاثة أيام، وقبل رحيله من مكان المعركة وقع خلاف بين الجيش حول الغنائم، ولما اشتد هذا الخلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرد الجميع ما بأيديهم، ففعلوا، ثم نزل الوحي بحل هذه المشكلة. عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدت معه بدرا فالتقى الناس، فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحرزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحق بها منا، نحن نحينا منها العدو وهزمناه، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1] فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين «2» .   (1) فلا: منهزما. (2) أخرجه أحمد 5/ 323، 324، والحاكم 2/ 326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وبعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه الأسارى من المشركين، واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل عليه عبد الله بن كعب، فلما خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية، وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء، بعد أن أخذ منها الخمس. وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث- وكان هو حامل لواء المشركين يوم بدر، وكان من أكابر مجرمي قريش، ومن أشد الناس كيدا للإسلام، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم- فضرب عنقه علي بن أبي طالب. ولما وصل إلى عرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، وقد أسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي كان ألقى سلا جزور على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، وهو الذي خنقه بردائه، وكاد يقتله لولا أن يعترض أبو بكر رضي الله عنه، فلما أمر بقتله قال: من للصبية يا محمد؟ قال: النار «1» . قتله عاصم بن ثابت الأنصاري. ويقال علي بن أبي طالب. وكان قتل هذين الطاغيتين واجبا من حيث وجهة الحرب، فلم يكونا من الأسارى فحسب، بل كانا من مجرمي الحرب بالإصطلاح الحديث. وفود التهنئة: ولما وصل إلى الروحاء لقيه رؤوس المسلمين- الذي كانوا قد خرجوا للتهنئة والإستقبال حين سمعوا بشارة الفتح من الرسولين- يهنئونه بالفتح. وحينئذ قال لهم سلمة بن سلامة: ما الذي تهنئوننا به؟ فو الله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «يا ابن أخي أولئك الملأ» . وقال أسيد بن حضير: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرك، وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوا، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت» . ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مظفرا منصورا، قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها. فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي وأصحابه في الإسلام ظاهرا.   (1) روى ذلك أصحاب الصحاح، انظر سنن أبي داود مع حاشيته ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقدم الأسارى بعد بلوغه المدينة بيوم، فقسمهم على أصحابه، وأوصى بهم خيرا، فكان الصحابة يأكلون التمر، ويقدمون لأسرائهم الخبز عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. قضية الأسارى: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة استشار أصحابه في الأسارى، فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهداهم الله، فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر- وهما يبكيان- فقلت يا رسول الله أخبرني ما يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للذي عرض عليّ أصحابك: من أخذهم الفداء، فقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة- شجرة قريبة- «1» » . وأنزل الله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 67، 68] . والكتاب الذي سبق من الله هو قوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: 4] ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسارى ولذلك لم يعذبوا، وإنما نزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، ثم إنهم قبلوا الفداء من أولئك المجرمين الذين لم يكونوا أسرى حرب فقط، بل كانوا أكابر مجرمي الحرب الذين لا يتركهم قانون الحرب الحديث إلا ويحاكمهم، ولا يكون الحكم في الغالب إلا بالإعدام أو بالحبس حتى الموت. واستقر الأمر على رأي الصديق فأخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف   (1) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 درهم، إلى ثلاثة آلاف درهم، إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء. ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدة من الأسارى، فأطلقهم بغير فداء، منهم: المطلب بن حنطب، وصيفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجمحي، وهو الذي قتله أسرا في أحد، وسيأتي. ومنّ على ختنه أبي العاص بشرط أن يخلي سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بمال، بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيل زينب، فخلاها، فهاجرت، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، فقال: «كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها» فخرجا حتى رجعا بها، وقصة هجرتها طويلة مؤلمة. وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيبا مصقعا، فقال عمر: يا رسول الله، أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه، فلا يقوم خطيبا عليك في موطن أبدا، بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض هذا الطلب، إحترازا عن المثلة، وعن بطش الله يوم القيامة. وخرج سعد بن النعمان معتمرا فحبسه أبو سفيان، وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في الأسرى، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد. القرآن يتحدث حول موضوع المعركة: وحول موضوع هذه المعركة نزلت سورة الأنفال، وهذه السورة تعليق إلهي- إن صح هذا التعبير- على هذه المعركة، يختلف كثيرا عن التعاليق التي ينطق بها الملوك والقواد بعد الفتح. إن الله تعالى لفت أنظار المسلمين- أولا- إلى التقصيرات والتقاريظ الأخلاقية التي كانت قد بقيت فيهم، وصدرت بعضها منهم، ليسعوا في تكميل نفوسهم وتزكيتها عن هذه التقاريظ. ثم ثنى بما كان في هذا الفتح من تأييد الله وعونه ونصره بالغيب للمسلمين. ذكر لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ذلك لئلا يغتروا بشجاعتهم وبسالتهم، فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبرياء، بل ليتوكلوا على الله ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليه الصلاة والسلام. ثم بين لهم الأهداف والأغراض النبيلة التي خاض الرسول صلى الله عليه وسلم لأجلها هذه المعركة الدامية الرهيبة، ودلهم على الصفات والأخلاق التي تسببت في الفتوح وفي المعارك. ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة، وعظهم موعظة بليغة، تهداهم إلى الإستسلام للحق والتقيد به. ثم خاطب المسلمين حول موضوع الغنائم، قنّن لهم مبادئ وأسس هذه المسألة. ثم بين وشرع لهم من قوانين الحرب والسلم ما كانت الحاجة تمس إليها بعد دخول الدعوة الإسلامية في هذه المرحلة، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية، ويقوم لهم التفوق في الأخلاق والقيم والمثل، ويتأكد للدنيا أن الإسلام ليس مجرد وجهة نظرية، بل إنه يثقف أهله عمليا على الأسس والمبادئ التي يدعو إليها. ثم قرر بنودا من قوانين الدولة الإسلامية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها، والذين يسكنون خارجها. وفي السنة الثانية من الهجرة فرض صيام رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وبينت أنصبة الزكاة الآخرى، وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الآخرى، تخفيفا لكثير من الأوزار التي يعانيها عدد كبير من المهاجرين اللاجئين، الذين كانوا فقراء لا يستطيعون ضربا في الأرض. ومن أحسن المواقع وأروع الصدفات أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هو العيد الذي وقع في شوال سنة 2 هـ. إثر الفتح المبين الذي حصلوا عليه في غزوة بدر، فما أروع هذا العيد السعيد الذي جاء به الله بعد أن توج هامتهم بتاج الفتح والعز، وما أروق منظر تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبة إلى الله، وحنينا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم من النعم، وأيدهم به من النصر، وذكرهم بذلك قائلا: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 النشاط العسكري بين بدر وأحد إن معركة بدر كانت أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، وكانت معركة فاصلة، أكسبت المسلمين نصرا حاسما شهد له العرب قاطبة، والذين كانوا أشد استياء لنتائج هذه المعركة هم أولئك الذين منوا بخسائر فادحة مباشرة، وهم المشركون، أو الذين كانوا يرون عزة المسلمين وغلبتهم ضربا قاصما على كيانهم الديني والإقتصادي، وهم اليهود. فمنذ أن انتصر المسلمون في معركة بدر كان هذان الفريقان يحترقان غيظا وحنقا على المسلمين لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82] وكانت في المدينة بطانة للفريقين دخلوا في الإسلام حين لم يبق مجال لوقارهم، وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه، ولم تكن هذه الفرقة الثالثة أقل غيظا من الأوليين. وكانت هناك فرقة رابعة، وهم البدو الضاربون حول المدينة، لم يكن يهمهم مسألة الكفر والإيمان، ولكنهم كانوا أصحاب سلب ونهب، فأخذهم القلق، واضطربوا لهذا الإنتصار، وخافوا أن تقوم في المدينة دولة قوية تحول بينهم وبين اكتساب قوتهم عن طريق السلب والنهب، فجعلوا يحقدون على المسلمين وصاروا لهم أعداء. وهكذا أحاطت الأخطار بالمسلمين من كل جانب، ولكن هذه الفرق تباينت في سلوكها إزاء المسلمين، وأخذ كل فريق الطريقة التي رآها كفيلة ببلوغ غايته. فبينما كانت المدينة وما حولها تظاهر بالإسلام، وتأخذ في طريق المؤامرات والدسائس والتحرشات والإستفزازات، كانت فرقة من اليهود تعلن بالعداوة، وتكاشف عن الحقد والغيظ. وكانت مكة تهدد بالضرب القاصم وتعلن بأخذ الثأر والنقمة، وتهتم بالتعبئة العامة جهارا، وترسل إلى المسلمين بلسان حالها، تقول بأنه: ولا بد من يوم أغر محجل ... يطول استماعي بعده للنوادب وفعلا، فقد قادت غزوة قاصمة إلى أسوار المدينة عرفت في التاريخ بغزوة أحد، والتي كان لها أثر سيء على سمعة المسلمين وهيبتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وقد لعب المسلمون دورا هاما للقضاء على هذه الأخطار، تظهر فيه عبقرية قيادة النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من غاية التيقظ حول هذه الأخطار وما كان من حسن التخطيط للقضاء عليها، ونذكر في السطور الآتية صورة مصغرة منها. غزوة بني سليم بالكدر أول ما نقلت إستخبارات المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن بني سليم من قبائل غطفان تحشد قواتها للغزو على المدينة فباغت النبي صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب هذه القبائل المحتشدة في عقر دارها، وبلغ إلى منازلهم في موضع يقال له الكدر «1» . ففر بنو سليم وتركوا في الوادي خمسمائة بعير إستولى عليها جيش المدينة، وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخراج الخمس فأصاب كل رجل بعيرين، وأصاب غلاما يقال له: «يسار» فأعتقه. وأقام النبي صلى الله عليه وسلم في ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة. وكانت هذه الغزوة في شوال سنة 2 هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام، واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سباع بن عرفطة. وقيل: ابن أم مكتوم «2» . مؤامرة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن استشاطوا غضبا، وجعلت مكة تغلي كالمرجل ضد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تامر بطلان من أبطالها أن يقضوا على مبدأ هذا الخلاف والشقاق، ومثار هذا الذل والهوان في زعمهم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر بعد وقعة بدر بيسير- وكان عمير من شياطين قريش، ممن كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة- وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان والله إن في العيش بعدهم خير. قال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء، وعيال   (1) الكدر، بالضم فالسكون: طير في لونها كدرة، وهو ماء من مياه بني سليم يقع في نجد على الطريق التجارية الشرقية الحيوية بين مكة والشام. (2) زاد المعاد 2/ 90، ابن هشام 2/ 43، 44، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة، ابني أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان وقال: عليّ دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي، أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم. فقال له عمير: فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل. ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم به المدينة، فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب- وهو في نفر من المسلمين يتحدثون ما أكرمهم الله به يوم بدر- فقال عمر: هذا الكلب عدو الله عمير ما جاء إلا لشر، ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحا سيفه، قال: فأدخله علي، فأقبل عمير فلببه بحمالة سيفه، وقال لرجل من الأنصار: أدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقة- قال: «أرسله يا عمر، أدن يا عمير» ، فدنا وقال: أنعموا صباحا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام، تحية أهل الجنة» . ثم قال: «ما جاء بك يا عمير؟» قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: «فما بال السيف في عنقك؟» قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا؟ قال: «أصدقني ما الذي جئت له؟» قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني والله حائل بينك وبين ذلك» . قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فو الله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقهوا أخاكم في دينه، وأقرؤوه القرآن، وأطلقوا له أسيره» . وأما صفوان فكان يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر. وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكب عن إسلامه، فحلفه صفوان ألايكلمه أبدا، ولا ينفعه بنفع أبدا. ورجع عمير إلى مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام فأسلم على يديه ناس كثير «1» . غزوة بني قينقاع قدمنا بنود المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود. وقد كان حريصا كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة، وفعلا لم يأت من المسلمين ما يخالف حرفا واحدا من نصوصها. ولكن اليهود الذي ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود، لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والإضطراب في صفوف المسلمين. وهاك مثالا من ذلك: نموذج من مكيدة اليهود قال ابن إسحاق: مرشاس بن قيس- وكان شيخا (يهوديا) قد عسا «2» عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة- يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم- وغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة- والظاهرة: الحرة- السلاح السلاح، فخرجوا إليها، وكادت تنشب الحرب. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن   (1) ابن هشام 1/ 661، 662، 663. (2) عسا الشيخ: كبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟» . فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس «1» . هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثارة القلاقل والتحريشات في المسلمين، وإقامة العراقيل في سبيل الدعوة الإسلامية. وقد كان لهم خطط شتى في هذا السبيل، كانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره، ليزرعوا بذور الشكوك في قلوب الضعفاء، وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مالي، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه، وكانوا يقولون: إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل «2» . كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر، على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك، حرصا على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة. بنو قينقاع ينقضون العهد لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصرا مؤزرا في ميدان بدر، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب الأقاصي والأداني، تميزت قدر غيظهم وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذى. وكان أعظمهم حقدا وأكبرهم شرا كعب بن الأشرف- وسيأتي ذكره- كما أن أشر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة- في حي باسمهم- وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحروب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود.   (1) ابن هشام 1/ 555، 556. (2) ذكر المفسرون نماذج لفعلاتهم هذه في تفسير سورة آل عمران وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين، حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم. وعند ما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدى، وحذرهم مغبة البغي والعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم. روى أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر، وقدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع. فقال: «يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا» . قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: 12، 13] «1» . كان معنى ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر بالحرب، ولكن كظم النبي صلى الله عليه وسلم غيظه، وصبر وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليالي. وازداد اليهود- من بني قينقاع- جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقا واضطرابا، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة. روى ابن هشام عن أبي عون أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته، في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها- وهي غافلة- فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله- وكان يهوديا- فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع «2» . الحصار ثم التسليم ثم الجلاء وحينئذ عيل صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر،   (1) سنن أبي داود مع عون المعبود 3/ 115، ابن هشام 1/ 552. (2) ابن هشام 2/ 47، 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وأعطى لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب، وسار بجنود الله إلى بني قينقاع، ولما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف الله في قلوبهم الرعب- الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذف في قلوبهم- فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا. وحينئذ قام عبد الله بن أبيّ بن سلول بدوره النفاقي، فألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدر عنهم عفوا، فقال: يا محمد: أحسن في موالي- وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج- فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكرر ابن أبي مقالته، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني، وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: ويحك، أرسلني» . ولكن المنافق مضى على إصراره، وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، وتحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. وعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المنافق- الذي لم يكن مضى على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب- عامله بالمراعاة، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام، فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قسي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخمس غنائمهم، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة «1» . غزوة السويق بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم، كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهر الأثر، يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، وكان قد نذر ألايمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا، فخرج في مائتي راكب ليبر يمينه، حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له: نيب، من المدينة على بريد أو نحوه، ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهارا، فقام بعمل هو أشبه بأعمال   (1) زاد المعاد 2/ 71، 91، ابن هشام 2/ 47، 48، 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 القرصنة، فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفيا تحت جنح الظلام، فأتى حيي ابن أخطب، فاستفتح بابه، فأبى وخاف فانصرف إلى سلام بن مشكم- سيد بني النضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك، فاستأذن عليه فأذن، فقراه وسقاه الخمر، وبطن له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها: «العريض» ، فقطعوا وأحرقوا هناك أسوارا من النخل، ووجدوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقا كثيرا من أزوادهم وتمويناتهم يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعا، وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق، وقعت في ذي الحجة سنة 2 هـ بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد المنذر «1» . غزوة ذي أمر وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 3 هـ. وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا كبيرا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلا ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلا لجيش المسلمين إلى أرض العدو. وتفرق الأعداء في رؤوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمى: «بذي أمر» فأقام هناك صفرا   (1) ابن هشام 2/ 44، 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 كله- من سنة 3 هـ- أو قريبا من ذلك، ليشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجع إلى المدينة «1» . قتل كعب بن الأشرف كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حنقا على الإسلام والمسلمين، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرا بالدعوة إلى حربه. كان من قبيلة طيء- من بني نبهان- وأمه من بني النضير، وكان غنيا مترفا معروفا بجماله في العرب، شاعرا من شعرائها، وكان حصنه في شرق جنوب المدينة في خلفيات ديار بني النضير. ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال: أحق هذا؟ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها. ولما تأكد لديه الخبر، انبعث عدو الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويمدح عدوهم، ويحرضهم عليهم، ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلى قريش فنزل على المطلب ابن أبي وداعة السهمي، وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القليب من قتلى المشركين، يثير بذلك حفائظهم، ويذكي حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعوهم إلى حربه، وعند ما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلا؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلا، وأفضل، وفي ذلك أنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء: 51] . ثم رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة ويؤذيهم بسلاطة لسانه أشد الإيذاء. وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله» فانتدب له محمد بن مسلمة، وعباد بن بشر، وأبو نائلة- واسمه سلكان بن سلامة، وهو أخو كعب من   (1) ابن هشام 2/ 46، زاد المعاد 2/ 91، ويذكرون أن محاولة اغتيال النبيّ صلى الله عليه وسلم من قبل دعثور أو غورث المحاربي كانت في هذه الغزوة. والصحيح أنها في غير هذه الغزوة انظر صحيح البخاري 2/ 593. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الرضاعة- والحارث بن أوس، وأبو عبس بن حبر، وكان قائد هذه المفرزة محمد بن مسلمة. وتفيد الروايات في قتل كعب بن الأشرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله» ، فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فاذن لي أن أقول شيئا. قال: قل. فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا. قال كعب: والله لتملنه. قال محمد بن مسلمة: فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه؟ وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. قال كعب: نعم أرهنوني. قال ابن مسلمة: أي شيء تريد؟ قال: أرهنوني نساءكم. قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فترهنوني أبناءكم. قال: كيف نرهنك أبناءنا، فيسب أحدهم، فيقال: رهن بوسق أو وسقين. هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأمة، يعني السلاح. فواعده أن يأتيه. وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة، فقد جاء كعبا فتناشد معه أطراف الأشعار سويعة، ثم قال له: ويحك يا ابن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني. قال كعب: أفعل. قال أبو نائلة: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة، وقال أبو نائلة أثناء حديثه: إن معي أصحابا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك. وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصدا، فإن كعبا لن ينكر معهما السلاح والأصحاب بعد هذا الحوار. وفي ليلة مقمرة- ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 3 هـ- اجتمعت هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 المفرزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشيعهم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم قائلا: «انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم» ، ثم رجع إلى بيته، وطفق يصلي ويناجي ربه. وانتهت المفرزة إلى حصن كعب بن الأشرف، فهتف به أبو نائلة، فقام لينزل إليهم، فقالت له امرأته- وكان حديث العهد بها: أين تخرج هذه الساعة؟ أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم. قال كعب: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة أجاب، ثم خرج إليهم وهو متطيب ينفخ رأسه. وقد كان أبو نائلة قال لأصحابه، إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت منه من رأسه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة، ثم قال أبو نائلة: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا؟ قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فقال أبو نائلة وهو في الطريق: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط، وزهى كعب بما سمع، فقال: عندي أعطر نساء العرب، قال أبو نائلة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم أصحابه. ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال كعب: نعم، فعاد لمثلها، حتى اطمأن. ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه، فلما استمكن منه قال: دونكم عدو الله، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تغن شيئا، فأخذ محمد بن مسلمة معولا فوضعه في ثنته، ثم تحامل عليه حتى بلغ عانته، فوقع عدو الله قتيلا، وكان قد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران. ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذباب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف الدم، فلما بلغت المفرزة حرة العريض، رأت أن الحارث ليس معهم فوقفت ساعة حتى أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه، حتى إذا بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر، فلما انتهوا إليه قال: أفلحت الوجوه، قالوا: ووجهك يا رسول الله. ورموا برأس الطاغية بين أيديه، فحمد الله على قتله، وتفل على جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده «1» . ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم   (1) أخذنا تفاصيل هذه الوقعة من ابن هشام 2/ 51، 52، 53، 54، 55، 56، 57، وصحيح البخاري 1/ 341، 425، 2/ 577، وسنن أبي داود مع عون المعبود 2/ 42، 43، وزاد المعاد 2/ 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 العنيدة، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يرى أن النصح لا يجدي نفعا لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الإضطرابات وعدم احترام المواثيق، فلم يحركوا ساكنا لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبئ فيها. وهكذا تفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم- إلى حين- لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها خارج المدينة، وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم كثير من المتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها، ويشمون رائحتها بين آونة وأخرى. غزوة بحران وهي دورية قتال كبيرة، قوامها ثلاثمائة مقاتل، قادها الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الآخر سنة 3 هـ إلى أرض يقال لها بحران- وهي معدن بالحجاز في ناحية نزع- فأقام بها شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى (من السنة الثالثة من الهجرة) ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حربا «1» . سرية زيد بن حارثة وهي آخر وأنجح دورية للقتال قام بها المسلمون قبل أحد، وقعت في جمادى الآخرة سنة 3 هـ. وتفصيلها أن قريشا بقيت بعد بدر يساورها القلق والإضطراب، وجاء الصيف واقترب موسم رحلتها إلى الشام، فأخذها همّ آخر. قال صفوان بن أمية لقريش- وهو الذي انتخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها إلى الشام-: إن محمدا وصحبه عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا، فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا   (1) ابن هشام 2/ 50، 51، وزاد المعاد 2/ 91، واختلفت المصادر في تعيين سبب هذه الغزوة فقيل: إن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني سليم يحشدون قوات كبيرة لغزو المدينة أو أطرافها، وقيل: بل خرج يريد قريشا، وهذا الثاني هو الذي ذكره ابن هشام واختاره ابن القيم- حتى لم يذكر الأول رأسا- وهو الموجه، وذلك لأن ديار بني سليم لم تكن بناحية الفرع، وإنما هي في نجد بعيدة عن ناحية الفرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء. ودارت المناقشة حول هذا الموضوع، فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان: تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق- وهي طريق طويلة جدا تخترق نجدا إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل- فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فرات بن حيان- من بني بكر بن وائل- دليلا له، يكون رائده في هذه الرحلة. وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن أنباء هذه القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة. وذلك أن سليط بن النعمان- وكان قد أسلم- اجتمع في مجلس شرب- وذلك قبل تحريم الخمر- مع نعيم بن مسعود الأشجعي- ولم يكن أسلم إذ ذاك- فلما أخذت الخمر من نعيم تحدث بالتفصيل عن قضية العير وخطة سيرها، فأسرع سليط إلى النبي صلى الله عليه وسلم يروي له القصة. وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب في قيادة زيد بن حارثة الكلبي، وأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتة- على حين غرة- وهي تنزل على ماء في أرض نجد يقال له قردة- بالفتح فالسكون- فاستولى عليها كلها، ولم يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إلا الفرار بدون أي مقاومة. وأسر المسلمون دليل القافلة- فرات بن حيان، وقيل: ورجلين غيره- وحملوا غنيمة كبيرة من الأواني والفضة كانت تحملها القافلة، قدرت قيمتها بمائة ألف، قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس، وأسلم فرات بن حيان على يديه صلى الله عليه وسلم «1» . وكانت مأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشا بعد بدر، اشتد لها قلق قريش، وزادتها هما وحزنا. ولم يبق أمامها إلا طريقان، إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها، وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين، أو تقوم بحرب شاملة تعيد لها مجدها التليد وعزها القديم، وتقضي على قوات المسلمين، بحيث لا يبقى لهم سيطرة على هذا ولا ذاك، وقد اختارت مكة الطريق الثانية، فازداد إصرارها على المطالبة بالثأر، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، وتصميمها على الغزو في ديارهم، فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد القوي لمعركة أحد.   (1) ابن هشام 2/ 50، 51، فقه السيرة ص 190، رحمة للعالمين 2/ 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 غزوة أحد استعداد قريش لمعركة ناقمة كانت مكة تحترق غيظا على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة الهزيمة وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر، حتى إن قريشا كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من الإستعجال، في فداء الأسارى، حتى لا يتفطن المسلمون مدى مأساتهم وحزنهم. وعلى أثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين، تشفي غيظها، وتروي غلة حقدها، وأخذت في الإستعداد للخوض في مثل هذه المعركة. وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطا وتحمسا لخوض المعركة. وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان والتي كانت سببا لمعركة بدر، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرا، فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، وفي ذلك أنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال: 36] . ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعا من طرق التحريض، حتى إن صفوان بن أمية أغرى أبا عزة الشاعر- الذي كان قد أسر في بدر فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بأن لا يقوم ضده- أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حيا يغنيه، وإلا يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم، كما اختاروا شاعرا آخر- مسافع بن عبد مناف الجمحي- لنفس المهمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وكان أبو سفيان أشد تأليبا على المسلمين بعد ما رجع عن غزوة السويق، خائبا لم ينل ما في نفسه، بل أضاع مقدارا كبيرا من تمويناته في هذه الغزوة. وزاد الطينة بلّة- أو زاد النار إذكاء، إن صح هذ التعبير- ما أصاب قريشا أخيرا في سرية زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها، وزودها من الحزن والهم ما لا يقادر قدره، وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين. قوام جيش قريش وقيادته ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، ورأى قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء، حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير ومن سلاح الفرسان مائتا فرس «1» جنبوها طول الطريق، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع. وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد، يعاونه عكرمة بن أبي جهل، أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار. جيش مكة يتحرك تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت التارات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير. الإستخبارات النبوية تكشف حركة العدو وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ضمنها جميع تفاصيل الجيش. وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجدّ في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة- التي تبلغ مسافتها إلى خمسمائة كيلو مترا- في ثلاثة أيام، وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء.   (1) زاد المعاد 2/ 92 وهو المعروف، وفي فتح الباري مائة فرس 7/ 346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قرأ الرسالة على النبيّ صلى الله عليه وسلم أبيّ بن كعب، فأمره بالكتمان، وعاد مسرعا إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار. استعداد المسلمين للطوارئ: وظلت المدينة في حالة استنفار عام، لا يفارق رجالها السلاح، حتى وهم في الصلاة، استعدادا للطوارئ. وقامت مفرزة من الأنصار- فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حصير، وسعد بن عبادة- بحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح. وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها، خوفا من أن يؤخذوا على غرة. وقامت دوريات من المسلمين- لاكتشاف تحركات العدو- تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين. الجيش المكي إلى أسوار المدينة: وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسة المعتادة، ولما وصل إلى الأبواء اقترحت هند بنت عتبة- زوج أبي سفيان- بنبش قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيد أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب، وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحوا هذا الباب. ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العقيق ثم انحرف منه إلى ذات اليمين، حتى نزل قريبا بجبل أحد في مكان يقال له عينين، في بطن السبخة، من قناة على شفير الوادي- الذي يقع شمالي المدينة- فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة. المجلس الإستشاري لأخذ خطة الدفاع: ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبرا بعد خبر، حتى الخبر الأخير عن معسكره، وحينئذ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا استشاريا عسكريا أعلى، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف، وأخبرهم عن رؤيا رآها، قال «إني قد رأيت والله خيرا، رأيت بقرا يذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، وتأول البقر بنفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته وتأول الدرع بالمدينة» . ثم قدم رأيه إلى صحابته ألايخرجوا من المدينة. وأن يتحصنوا بها، فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بشر مقام وبغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبيّ بن سلول- رأس المنافقين- وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج. ويبدو أن موافقته لهذا الرأي لم تكن لأجل أن هذا هو الموقف الصحيح من حيث الوجهة العسكرية، بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد، وشاء الله أن يفتضح هو وأصحابه- لأول مرة- أمام المسلمين، وينكشف عنهم الغطاء الذي كان كفرهم ونفاقهم يكمن وراءه، ويتعرف المسلمون في أحرج ساعتهم على الأفاعي التي كانت تتحرك تحت ملابسهم وأكمامهم. فقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، فأشاروا على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، حتى قال قائلهم: يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم وندعوا الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنّا عنهم. وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم- الذي كان قد رأى فرند سيفه في معركة بدر- فقد قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة «1» . ورفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه أمام رأي الأغلبية، واستقر الرأي على الخروج من المدينة، واللقاء في الميدان السافر. تكتيب الجيش الإسلامي وخروجه إلى ساحة القتال: ثم صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد والإجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك. ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العوالي، ثم دخل بيته، ومعه   (1) السيرة الحلبية 2/ 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه، وظاهر بين درعين- أي لبس درعا فوق درع- وتقلد السيف، ثم خرج على الناس. وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فردوا الأمر إليه، فندموا جميعا على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته- وهي الدرع- أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه «1» » . وقسم النبيّ صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب: 1- كتيبة المهاجرين، وأعطى لواءها مصعب بن عمير العبدري. 2- كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطى لواءها أسيد بن حضير. 3- كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن المنذر. وكان الجيش متألفا من ألف مقاتل، فيهم مائة دارع وخمسون فارسا «2» ، وقيل لم يكن من الفرسان أحد، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، وأذن بالرحيل، فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمام النبيّ صلى الله عليه وسلم يعدوان دراعين. ولما جاوز ثنية الوداع رأى كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسأل عنها، فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج «3» ، يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين، فسأل: هل أسلموا؟ فقالوا: لا. فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك. استعراض الجيش: وعندما وصل إلى مقام يقال له: (الشيخان) استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره مطيقا للقتال، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأسامة بن زيد، وأسيد بن   (1) رواه أحمد والنسائي ومحاكم وابن إسحاق. (2) قاله ابن القيم في الهدى 2، 92. وقال ابن حجر: هو غلط بين. وقد جزم موسى بن عقبة بأنه لم يكن معهم في أحد شيء من الخيل، ووقع عند الواقدي كان معهم فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرس لأبي بردة (فتح الباري 7/ 350) . (3) روى ذلك ابن سعد وفيه أنهم من بني قينقاع (2/ 34) ومعلوم أن بني قينقاع كان قد تم إجلاؤهم عقب بدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ظهير، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حبة، ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب، لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم. وأجاز رافع بن خديج، وسمرة بن جندب على صغر سنهما، وذلك أن رافع بن خديج كان ماهرا في رماية النبل فأجازه، فقال سمرة: أنا أقوى من رافع. أنا أصرعه، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه، فتصارعا، فصرع سمرة رافعا، فأجازه أيضا. المبيت بين أحد والمدينة: وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك، وانتخب خمسين رجلا لحراسة المعسكر يتجولون حوله، وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف، وتولى ذكوان بن عبد قيس حراسة النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة. تمرد عبد الله بن أبيّ وأصحابه: وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج، حتى إذا كان بالشوط صلى الفجر، وكان بمقربة جدا من العدو فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر- ثلاثمائة مقاتل- قائلا: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومتظاهرا بالإحتجاج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره. ولا شك أن سبب هذا الإنعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معنى. بل لو كان هذا هو السبب لا نعزل عن الجيش منذ بداية سيره، بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد- في ذلك الظرف الدقيق- أن يحدث البلبلة والإضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم، حتى ينحاز عامة الجيش عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتنهار معنويات من يبقى معه، بينما يتشجع العدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه. وكان المنافق ينجح في تحقيق بعض ما يهدف إليه، فقد همت طائفتان- بنو حارثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج- أن تفشلا، ولكن الله تولاهما، فثبتتا بعد ما سرى فيهما الإضطراب وهمتا بالرجوع والإنسحاب، وعنهما يقول الله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 122] . وحاول عبد الله بن حرام- والد جابر بن عبد الله- تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلا: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه. وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا، وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا، قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا، قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ، هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ [آل عمران: 167] . بقية الجيش الإسلامي إلى أحد: وبعد هذا التمرد والإنسحاب قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ببقية الجيش- وهم سبعمائة مقاتل- ليواصل سيره نحو العدو، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثيرة، فقال: من رجل يخرج بنا على القوم من كثب (أي من قريب) من طريق لا يمر بنا عليهم؟. فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، ثم اختار طريقا قصيرا إلى أحد يمر بحرة بني حارثة وبمزارعهم، تاركا جيش المشركين إلى الغرب. ومر الجيش في هذا الطريق بحائط مربع بن قيظي- وكان منافقا ضرير البصر- فلما أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول: لا أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدره القوم ليقتلوه، فقال: «لا تقتلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصر» . ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي، فعسكر بجيشه مستقبلا المدينة، وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد، وعلى هذا صار جيش العدو فاصلا بين المسلمين وبين المدينة. خطة الدفاع: وهناك عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفا للقتال، فانتخب منهم فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلا، وأعطى قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة- وعرف فيما بعد بجبل الرماة- جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالي مائة وخمسين مترا من مقر الجيش الإسلامي. والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاء الرماة فقد قال لقائدهم: نضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتون من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك لا نؤتين من قبلك «1» . ثم قال للرماة: احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا «2» ، وفي رواية البخاري أنه قال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم «3» . وبتعيين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الإلتفاف وعملية التطويق. أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف. ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جدا، تتجلى فيها عبقرية قيادة النبيّ صلى الله عليه وسلم العسكرية- وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا- فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فقد حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمى ميسرته وظهره- حين يحتدم القتال- بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي، واختار لمعسكره موضعا مرتفعا يحتمي به- إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين- ولا يلتجئ إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم، ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلال معسكره   (1) ابن هشام 2/ 65، 66. (2) روى ذلك أحمد والطبراني والحاكم عن ابن عباس. انظر فتح الباري 7/ 350. (3) صحيح البخاري، كتاب الجهاد 1/ 426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وتقدموا إليه، وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جدا أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين، كما أنه عوض النقص العددي في رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحابه الشجعان البارزين. وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3 هـ. الرسول صلى الله عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش: ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم، وظاهر بين درعين، وحرض أصحابه على القتال، وحضهم على المصابرة والجلاد عند اللقاء، وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه، حتى جرد سيفا باترا ونادى أصحابه: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال ليأخذوه- منهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب- حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني. قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه. وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت. فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة، وجعل يتبختر بين الصفين، وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن. تعبئة الجيش المكي: أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف، فكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان صخر بن حرب الذي تمركز في قلب الجيش، وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد- وكان إذ ذاك مشركا- وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وعلى المشاة صفوان بن أمية، وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة. أما اللواء فكان إلى مفرزة من بني عبد الدار، وقد كان ذلك منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف المناصب التي ورثوها من قصي بن كلاب- كما أسلفنا في أوائل المقالة- وكان لا يمكن لأحد أن ينازعهم في ذلك، تقيدا بالتقاليد التي ورثوها كابرا عن كابر، بيد أن القائد العام- أبا سفيان- ذكرهم بما أصاب قريشا يوم بدر حين أسر حامل لوائهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 النضر بن الحارث، وقال لهم ليستفز غضبهم ويثير حميتهم: يا بني عبد الدار، قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه. ونجح أبو سفيان في هدفه، فقد غضب بنو عبد الدار لقول أبي سفيان أشد الغضب، وهموا به وتواعدوه، وقالوا له: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع. وقد ثبتوا عند احتدام المعركة حتى أبيدوا عن بكرة أبيهم. مناورات سياسية من قبل قريش: وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين. فقد أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم: خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم، فلا حاجة لنا إلى قتالكم ولكن أين هذه المحاولة أمام الإيمان الذي لا تقوم له الجبال، فقد رد عليه الأنصار ردا عنيفا، وأسمعوه ما يكره. واقتربت ساعة الصفر، وتدانت الفئتان، فقامت قريش بمحاولة أخرى لنفس الغرض، فقد خرج إليهم عميل خائن يسمى أبا عامر الفاسق- واسمه عبد عمرو بن صيفي، وكان يسمى الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وكان رأس الأوس في الجاهلية. فلما جاء الإسلام شرق به، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه، ومالوا معه- فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى قومه وتعرف عليهم، وقال: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر. فقالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ولما بدأ القتال قاتلهم قتالا شديدا وراضخهم بالحجارة. وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل الإيمان ويدل عملهم هذا على ما كان يسيطر عليهم من خوف المسلمين وهيبتهم، مع كثرتهم وتفوقهم في العدد والعدة. جهود نسوة قريش في التحميس: وقامت نسوة قريش بنصيبهن من المشاركة في المعركة، تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، فكن يتجولن في الصفوف، ويضربن بالدفوف، يستنهضن الرجال، ويحرضن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 على القتال، ويثرن حفائظ الأبطال، ويحركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال، فتارة يخاطبن أهل اللواء فيقلن: ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار ضربا بكل بتار وتارة يأزن قومهن على القتال وينشدن: إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق أول وقود المعركة: وتقارب الجمعان، وتدانت الفئتان، وبدأت مراحل القتال، وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أشجع فرسان قريش، يسميه المسلمون كبش الكتيبة، خرج وهو راكب على جمل، يدعو إلى المبارزة، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته، ولكن تقدم إليه الزبير، ولم يمهله بل وثب وثبة الليث، حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه عنه وذبحه بسيفه. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع، فكبر وكبر المسلمون، وأثنى على الزبير، وقال في حقه: «إن لكل نبي حواريا، وحواريي الزبير» «1» . ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته: ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين. فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال وهو يقول: إن على أهل اللواء حقا ... أن تخضب الصعدة أو تندقا فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته. ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب   (1) ذكره صاحب السيرة الحلبية 2/ 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 حنجرته، فأدلع لسانه ومات لحينه، وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى البزار، فتقدم إليه علي بن أبي طالب، فاختلفا ضربتين، فضربه علي فقتله. ثم رفع اللواء مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقتله، فحمل اللواء بعده أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، فانقض عليه الزبير ابن العوام حتى قتله، ثم حمل اللواء أخوهما الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته، وقيل: بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضى عليه. هؤلاء ستة نفر من بيت واحد، بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار، قتلوا جميعا حول لواء المشركين، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل: حمزة بن عبد المطلب، ثم حمله شريح بن قارظ فقتله قزمان- وكان منافقا قاتل مع المسلمين حمية، لا عن الإسلام- ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري، فقتله قزمان أيضا، ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضا. فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار- من حملة اللواء- أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء، فتقدم غلام لهم حبشي- اسمه صواب- فحمل اللواء، وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله، فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه، لئلا يسقط حتى قتل وهو يقول: اللهم هل أعذرت؟ يقول أعذرت «1» . وبعد أن قتل هذا الغلام- صواب- سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطا. القتال في بقية النقاط: وبينما كان ثقل المعركة، يدور حول لواء المشركين، كان القتال المرير يجري في سائر نقاط المعركة، وكانت روح الإيمان قد سادت صفوف المسلمين، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تتقطع أمامه السدود، وهم يقولون: (أمت، أمت) ، كان ذلك شعارا لهم يوم أحد.   (1) كان بلسانه لكنه يقلب الذال إلى الزاي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 أقبل أبو دجانة معلما بعصابته الحمراء، آخذا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم مصمما على أداء حقه، فقاتل حتى أمعن في الناس، وجعل لا يلقى مشركا إلا قتله، وأخذ يهد صفوف المشركين هدّا. قال الزبير بن العوام: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت أي في نفسي: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه، فسألته إياه قبله فاتاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع؟ فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء، فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فخرج وهو يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل ألاأقوم الدهر في الكيول «1» ... أضرب بسيف الله والرسول فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله، كان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلا زفف عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فعضت بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله «2» . ثم أمعن أبو دجانة في هدّ الصفوف، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش، وهو لا يدري بها. قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة. قال الزبير بن العوام رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها، فقلت: الله ورسوله أعلم «3» . وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامرة منقطعة النظير، ينكشف عنه الأبطال كما تتطاير الأوراق أمام الرياح الهوجاء: فبالإضافة إلى مشاركته الفعالة في إبادة حاملي لواء المشركين، فعل الأفاعيل بأبطالهم الآخرين حتى صرع وهو في مقدمة المبرزين، ولكن لا كما تصرع الأبطال وجها لوجه في ميدان القتال، وإنما كما يغتال الكرام في حلك الظلام.   (1) الكيول: آخر الصفوف. يعني أنه لا يقاتل في مؤخرة الصفوف. بل يظل أبدا في المقدمة. (2) ابن هشام 2/ 68، 69. (3) نفس المصدر 2/ 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب يقول قاتل حمزة وحشي بن حرب: كنت غلاما لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة ابن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير: إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس- وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئا- فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهد الناس هدا ما يقوم له شيء، فو الله إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال له: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور- وكانت أمه ختانة- قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه «1» . قال: وهززت حربتي، حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت في ثنته- أحشائه- حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى العسكر، فقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت «2» . السيطرة على الموقف وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله، فقد قاتل يومئذ أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالا فلّ عزائم المشركين، وفتت في أعضادهم. من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة وكان من الأبطال المغامرين يومئذ حنظلة الغسيل- وهو حنظلة بن أبي عامر، وأبو عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق، والذي مضى ذكره قريبا- كان حنظلة حديث عهد بالعرس، فلما سمع هواتف الحرب- وهو على امرأته- انخلع من أحضانها، وقام من   (1) أخطأ رأسه، يقال عند المبالغة في الإصابة. (2) ابن هشام 2/ 69، 70، 71، 72، صحيح البخاري 2/ 583- أسلم وحشي هذا بعد معركة الطائف، وقتل مسيلمة الكذاب بحربته تلك، وشهد اليرموك ضد الرومان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فوره إلى الجهاد، فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال، أخذ يشق الصفوف، حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان، فلما استعلاه وتمكن منه رآه شداد ابن الأسود فضربه حتى قتله. نصيب فصيلة الرماة في المعركة: وكانت للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق، ثلاث مرات ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر، حتى يستربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والإرتباك في صفوفهم، وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث «1» . الهزيمة تنزل بالمشركين: هكذا دارت رحى الحرب الزبون، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطرا على الموقف كله، حتى خارت عزائم أبطال المشركين، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال والأمام والخلف، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم، لا بضع مئات قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين. وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور، وانكسرت همتها، حتى لم يجترئ أحد منها أن يدنو من لوائها، الذي سقط بعد مقتل صواب، فيحمله ليدور حوله القتال- فأخذت في الإنسحاب، ولجأت إلى الفرار، ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والإنتقام، وإعادة العز والمجد والوقار. قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها. روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم- سوق- هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، مادون أخذهن قليل ولا كثير ... إلخ «2» وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح: فلما لقيناهم هربوا، حتى رأيت النساء يشتدون في الحبل، يرفعن سوقهن قد   (1) انظر فتح الباري 7/ 346. (2) ابن هشام 2/ 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بدت خلاخيلهن «1» . وتبع المسلمون المشركين، يضعون فيهم السلاح، وينتهبون الغنائم. غلطة الرماة الفظيعة: وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخرى نصرا ساحقا على مكة لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماما، وأدت إلى الحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، وكادت تكون سببا في مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم، والهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر. لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة، لكن على رغم هذه الأوامر المشددة، لما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو، غلبت عليهم، أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟ أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكرهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالا، وقالت: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة «2» . ثم غادر أربعون رجلا من هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسواد الجيش، ليشاركوه في جمع الغنائم، وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه، التزموا مواقفهم، مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا. خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي: وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فاستدار بسرعة خاطفة، حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه، ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف المشركون المنهزمون بالتطور الجديد، فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم- وهي عمرة بنت علقمة الحارثية- فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركون ولاثوا به، وتنادى بعضهم   (1) صحيح البخاري 2/ 579. (2) روى ذلك البخاري من حديث البراء بن عازب 1/ 426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 بعضا، حتى اجتمعوا على المسلمين، وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شقي الرحى. موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة- تسعة نفر من أصحابه «1» - في مؤخرة المسلمين «2» ، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان، إما أن ينجو- بالسرعة- بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشة المطوق إلى هضاب أحد. وهناك تجلت عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير، فقد رفع صوته ينادي أصحابه: «عباد الله» ، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطرا بنفسه في هذا الظرف الدقيق. وفعلا فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون. تبدد المسلمين في الموقف أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى فوق الجبل، ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران، فلم يتميزوا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض. روى البخاري عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم- أي احترزوا من ورائكم- فرجعت أولاهم، فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله أبي أبي. قالت: فو الله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، قال عروة: فو الله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله «3» .   (1) في صحيح مسلم (2/ 107) أنه صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد فدى سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. (2) يدل عليه قوله تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ. (3/ 153) . (3) صحيح البخاري 1/ 539، 2/ 581، وفتح الباري 7/ 351، 362، 363 وذكر غير البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يديه. فقال حذيفة: تصدقت بديته على المسلمين، فزاد ذلك حذيفة خيرا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم. انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها إرتباك شديد، وعمتها الفوضى، وتاه منها الكثيرون، لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحا يصيح: إن محمدا قد قتل. فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية، أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقى بأسلحته مستكينا، وفكر آخرون في الإتصال بعبد الله بن أبيّ- رأس المنافقين- ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان. ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته- بعد نهاية المعركة- ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم «1» . ونادى ثابت بن الدحداح قومه، فقال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد، فما زال يقاتلهم، حتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه «2» . ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم «3» . وبمثل هذا الإستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الإستسلام أو الإتصال بابن أبيّ، وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مختلق، فزادهم ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة.   (1) زاد المعاد 2/ 93، 96 صحيح البخاري 2/ 579. (2) السيرة الحلبية 2/ 22. (3) زاد المعاد 2/ 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل التطويق في بدايته، وفي مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم رضي الله عنهم كانوا في مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة- عليه الصلاة والسلام والتحية- صاروا في مقدمة المدافعين. إحتدام القتال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينما كانت تلك الطوائف تتلقى أواصر التطويق، تطحن بين شقي رحى المشركين، كان العراك محتدما حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدأوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة نفر، فلما نادى المسلمين: هلم إليّ، أنا رسول الله، سمع صوته المشركون وعرفوه، فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجرى بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف، ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة. روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: «من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة؟» فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه- أي القرشيين- «ما أنصفنا أصحابنا «1» » . وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السكن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط «2» . أحرج ساعة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول صلى الله عليه وسلم في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص «3» وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم،   (1) صحيح مسلم، باب غزوة أحد 2/ 107. (2) وبعد لحظة فاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فئة من المسلمين فأجهضوا الكفار عن عمارة، وأدنوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ابن هشام 2/ 81) . (3) صحيح البخاري 1/ 527، 2/ 581. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا حملتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وطمعوا في القضاء عليه، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكلمات شفته السفلى، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري، فشجه في جبهته، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قمئة فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة، شكا لأجلها أكثر من شهر، إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه وسلم ضربة أخرى عنيفة كالأولى، حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له وهو يمسح الدم عن وجهه: «أقمأك الله» «1» . وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله، فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «2» . وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ: إشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله، ثم مكث ساعة ثم قال: اللهم إغفر لقومي فإنهم لا يعلمون «3» . وكذا في صحيح مسلم أنه كان يقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون «4» ، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال: اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون «5» . ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا- وهما اثنان فحسب- سبيلا إلى نجاح المشركين في هدفهم، وكان من أمهر رماة العرب، فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته، وقال: إرم فداك أبي   (1) وقد سمع الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عائذ أن ابن قمئة «انصرف إلى أهله، فخرج إلى غنمه، فوافاها على ذروة جبل، فدخل فيها، فشد عليه تيسها فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل فتقطع (فتح الباري 7/ 373) وعند الطبراني فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة (فتح الباري 7/ 366) . (2) صحيح البخاري 2/ 582، وصحيح مسلم 2/ 108. (3) فتح الباري 7/ 373. (4) صحيح مسلم باب غزوة أحد 2/ 108. (5) كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وأمي «1» . ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد «2» . وأما طلحة بن عبيد الله فقد روى النسائي عن جابر قصة تجمع المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار. قال جابر: فأدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من للقوم، فقال طلحة: أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحدا بعد واحد بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة، قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حسن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون» ، قال: ثم رد الله المشركين «3» . ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعا وثلاثين، أو خمسا وثلاثين، وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها «4» . وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء، وقي بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد «5» . وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ: «من ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله» «6» . وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة «7» . وقال فيه أبو بكر أيضا: يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت ... لك الجنان وبوأت المها العينا «8» وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب، ففي الصحيحين عن سعد. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض، كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. وفي رواية يعني جبريل وميكائيل «9» .   (1) صحيح البخاري 1/ 407، 2/ 580، 581. (2) صحيح البخاري 1/ 407، 2/ 580، 581. (3) فتح الباري 7/ 361. وسنن النسائي 2/ 52، 53. (4) نفس المصدر الأول 7/ 361. (5) صحيح البخاري 1/ 527، 2/ 581. (6) مشكاه المصابيح 2/ 566، [ط. دار الفكر] ابن هشام 2/ 86. (7) فتح الباري 7/ 361. (8) مختصر تاريخ دمشق 7/ 82 (من هامش شرح شذور الذهب ص 114) . (9) صحيح البخاري 2/ 580. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى الله عليه وسلم وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة. وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم- الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال- لم يكادوا يرون تطور الموقف، أو يسمعون صوته صلى الله عليه وسلم، حتى أسرعوا إليه، لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات- وستة من الأنصار قد قتلوا، والسابع قد أثبتته الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح- فلما وصلوا أقاموا حوله سياجا من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماتهم، وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه. روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه، قتل: كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير، حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دونكم أخاكم فقد أوجب» ، وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وجنته، حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني. قال: فأخذ بفيه، فجعل ينضضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني، قال: فأخذه فجعل ينضضه حتى استله، فندرت ثنية أبي عبيدة الآخرى، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دونكم أخاكم، فقد أوجب» ، قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه. وقد أصابته بضع عشرة ضربة «1» . وهذا أيضا يدل على مدى كفاءة طلحة ذلك اليوم في الكفاح والنضال. وخلال هذه اللحظات الحرجة إجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين، منهم أبو دجانة، ومصعب بن عمير، وعلي بن أبي طالب، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، وقتادة بن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وسهل بن حنيف، وأبو طلحة.   (1) زاد المعاد 2/ 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 تضاعف ضغط المشركين كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم، وزاد ضغطهم على المسلمين، حتى سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجحشت ركبته، وأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، وقال نافع بن جبير: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا، فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله أنه منا ممنوع. فخرجنا أربعة. فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك «1» . البطولات النادرة وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة، لم يعرف لها التاريخ نظيرا. كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه عن سهام العدو. قال أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له، وكان رجلا راميا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: أنثرها لأبي طلحة. قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك «2» . وعنه أيضا قال: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى تشرف النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إلى موقع نبله «3» . وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترس عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك. وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص- الذي كسر الرباعية الشريفة- فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه، وسيفه. وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه- عتبة هذا- إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب.   (1) زاد المعاد 2/ 97. (2) صحيح البخاري 2/ 581. (3) نفس المصدر 1/ 406. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وكان سهل بن حنيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها «1» ، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما. وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج. وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه. فقال: مجه. فقال: والله لا أمجه أبدا. ثم أدبر يقاتل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» فقتل شهيدا. وقاتلت أم عمارة، فاعترضت لابن قمئة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحا أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحا. وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله- لشبهه به- فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح: إن محمدا قد قتل «2» . إشاعة مقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأثره على المعركة ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم في المشركين والمسلمين، وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضى والإضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من   (1) سيتها: ما عطف من طرفيها. (2) انظر ابن هشام 2/ 73، 80، 81، 82، 83، وزاد المعاد 2/ 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 مضاعفة هجمات المشركين؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين. الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف ولما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب، فقاتل قتالا شديدا، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة يقاتلون ويدافعون. وحينئذ استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم، فعرفه كعب بن مالك- وكان أول من عرفه- فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن أصمت وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون، إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالي ثلاثين رجلا من الصحابة. وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم، لعرقلة الإنسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام. تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة- أحد فرسان المشركين- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لا نجوت إن نجا. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لمواجهته. إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصمة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذفف عليه، وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعطف عبد الله بن جابر- فارس آخر من فرسان مكة- على الحارث بن الصمة، فضرب بالسيف على عاتقه، فجرحه حتى حمله المسلمون، ولكن انقض أبو دجانة- البطل المغامر ذو العصابة الحمراء- على عبد الله بن جابر، فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه. وأثناء هذا القتال المرير، كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه «1» . وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة- في انسحاب منظم- إلى شعب الجبل وشق   (1) صحيح البخاري 2/ 582. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 لبقية الجيش طريقا إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله صلى الله عليه وسلم. مقتل أبيّ بن خلف قال ابن إسحاق: فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد لا نجوت إن نجا؟. فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه. فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله، وأبصر ترقوته من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدأدأ- تدحرج- منها عن فرسه مرارا، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدم قال: قتلني والله محمد. قالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك «1» فو الله لو بصق عليّ لقتلني، فمات عدو الله بسرف، وهم قافلون به إلى مكة «2» ، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: أنه كان يخور خوار الثور ويقول: والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعا «3» . طلحة ينهض بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وفي أثناء انسحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل، فنهض إليها ليعلوها، فلم يستطع، لأنه كان قد بدّن وظاهر بيت الدرعين، وقد أصابه جرح شديد. فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها وقال: أوجب طلحة «4» ، أي الجنة. آخر هجوم قام به المشركون ولما تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب، قام المشركون باخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين. قال ابن إسحاق: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت   (1) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة كان يلقاه أبي هذا، فيقول: يا محمد إن عندي العود فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة، أقتلك عليه، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أنا أقتلك إن شاء الله. (2) ابن هشام 2/ 84، زاد المعاد 2/ 97. (3) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ عبد الله النجدي ص 250. (4) ابن هشام 2/ 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 عالية من قريش الجبل- يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا» فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل «1» . وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: أجبنهم- يقول: ارددهم- فقال: كيف أجبنهم وحدي؟ فقال ذلك ثلاثا، فأخذ سعد سهما من كنانته، فرمى به رجلا فقتله، قال: ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي. فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه «2» . تشويه الشهداء وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئا- بل كانوا على شبه اليقين من قتله- رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة، واشتغل من اشتغل منهم- وكذا اشتغلت نساؤهم- بقتلى المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون، وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة، فلاكتها فلم تستطيع أن تسيغها، فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خدما- خلاخيل- وقلائد «3» . مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان، تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال، ومدى استماتتهم في سبيل الله. 1- قال كعب بن مالك: كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول: استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم «4» ، وإذا رجل من المسلمين ينتظره، وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة «5» .   (1) نفس المصدر. (2) زاد المعاد 2/ 95. (3) ابن هشام 2/ 90. (4) أي استجمعوا وانضموا. (5) البداية والنهاية 4/ 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 2- جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة، قال أنس: لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وأنهما لمشمرتان- أرى خدم سوقهما- تنقزان القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنهما، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم «1» . وقال عمر: كانت (أم سليط) تزفر لنا القرب يوم أحد «2» . وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن، إنها لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة، أخذت تحثو في وجوههم التراب، وتقول لبعضهم: هاك المغزل، وهلم سيفك. ثم سارعت إلى ساحة القتال، فأخذت تسقي الجرحى، فرماها حبان (بالكسر) ابن العرقة بسهم، فوقعت وتكشفت، فأغرق عدو الله في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له، وقال: ارم به، فرمى به سعد، فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقيا حتى تكشف، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجزه، ثم قال: استقاد لها سعد، أجاب الله دعوته «3» . بعد انتهاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشعب ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقره من الشعب خرج علي بن أبي طالب، حتى ملأ درقته ماء من المهراس- قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيرا وقيل: اسم ماء بأحد- فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحا فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمّى وجه نبيه «4» . وقال سهل: والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء وبما دووي؟ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها، فاستمسك الدم «5» . وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ، فشرب منه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعا له بخير «6» ، وصلى الظهر قاعدا من أثر الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعودا «7» .   (1) صحيح البخاري 1/ 403، 2/ 581. (2) نفس المصدر 1/ 401. (3) السيرة الحلبية 2/ 22. (4) ابن هشام 2/ 85. (5) صحيح البخاري 2/ 2/ 584. (6) السيرة الحلبية 2/ 30. (7) ابن هشام 2/ 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر ولما تكامل تهيؤ المشركين للإنصراف، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه- وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة- ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك، فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم قال: أعل هبل. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل» . ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم» . ثم قال أبو سفيان: أنعمت فعال، يوم بيوم بدر، والحرب سجال. فأجاب عمر، وقال: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. ثم قال أبو سفيان: هلم إلي يا عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائته فانظر ما شأنه؟ فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر «1» . مواعدة التلاقي في بدر قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد «2» . التثبت من موقف المشركين ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة.. وإن   (1) ابن هشام 2/ 93، 94، زاد المعاد 2/ 94، صحيح البخاري 2/ 579. (2) ابن هشام 2/ 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة «1» . تفقد القتلى والجرحى وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرف قريش. قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو باخر رمق، وفيه سبعون ضربة: ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته «2» . ووجدوا في الجرحى الأصيرم- عمرو بن ثابت- وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هو من أهل الجنة. قال أبو هريرة: ولم يصل لله صلاة قط «3» . ووجدوا في الجرحى قزمان- وكان قد قاتل قتال الأبطال، قتا وحده سبعة أو ثمانية من المشركين- وجدوه قد أثبتته الجراحة، فاحتملوه إلى دار بني ظفر، وبشره المسلمون فقال: والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. فلما اشتد به الجراح نحر نفسه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ذكر له، إنه من أهل النار «4» - وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوى إعلاء كلمة الله، وإن قاتلوا تحت لواء الإسلام، بل وفي جيش الرسول والصحابة.   (1) ابن هشام 2/ 94، وفي فتح الباري أن الذي خرج في آثار المشركين هو سعد بن أبي وقاص (7/ 347) . (2) زاد المعاد 2/ 96. (3) نفس المصدر 2/ 94، وابن هشام 2/ 90. (4) نفس المصدر الأول 2/ 97، 98، وابن هشام 2/ 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة، قال لقومه: يا معشر يهود والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد، يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود «1» . جمع الشهداء ودفنهم وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء، فقال: «أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة، يدمي جرحه اللون لون الدم، والريح ريح المسك» «2» . وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة، فأمر أن يردوهم فيدفنوهم في مضاجعهم، وألايغسلوا، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود، وكان يدفن الإثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد، ويقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة «3» . وفقدوا نعش حنظلة، فتفقدوه، فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال: «سلوا أهله ما شأنه؟» فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر. ومن هنا سمي حنظلة: غسيل الملائكة «4» . ولما رأى ما بحمزة- عمه وأخيه من الرضاعة- اشتد حزنه، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنها الزبير أن يصرفها، لا ترى ما بأخيها، فقالت: ولم؟ وقد بلغني أن قد مثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فأتته، فنظرت إليه، فصلت عليه- دعت له- واسترجعت واستغفرت له. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفنه مع عبد الله بن جحش- وكان ابن أخته، وأخاه من الرضاعة. قال ابن مسعود: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حمزة بن   (1) ابن هشام 2/ 88، 89. (2) نفس المصدر 2/ 98. (3) زاد المعاد 2/ 98، وصحيح البخاري 2/ 584. (4) زاد المعاد 2/ 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 عبد المطلب، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشع من البكاء «1» والنشع: الشهيق. وكان منظر الشهداء مريعا جدا يفتت الأكباد. قال خباب: (إن) حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء، إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر «2» . وقال عبد الرحمن بن عوف: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وروي مثل ذلك عن خباب، وفيه: فقال لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم: «غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر» «3» . الرسول صلى الله عليه وسلم يثني على ربه عز وجل ويدعوه روى الإمام أحمد، لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي عز وجل، فصاروا خلفه صفوفا، فقال: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت. اللهم: ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك» . «اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول. اللهم: إني أسألك العون يوم العلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق «4» » . الرجوع إلى المدينة، ونوادر الحب والتفاني ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن الشهداء والثناء على الله والتضرع إليه انصرف راجعا   (1) رواه ابن شاذان، انظر مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ عبد الله النجدي ص 255. (2) رواه أحمد، مشكاة المصابيح 1/ 140. (3) صحيح البخاري 2/ 579، 584. (4) رواه البخاري في الأدب المفرد، والإمام أحمد في مسنده 3/ 424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 إلى المدينة، وقد ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات، كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة. لقيته في الطريق حمنة بنت جحش، فنعي إليها أخوها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب، فاسترجعت واستغفرت، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن زوج المرأة منها لبمكان «1» . ومر بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير إليها، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل- تريد صغيرة «2» . وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو، وسعد آخذ بلجام فرسه، فقال: يا رسول الله أمي، فقال: مرحبا بها. ووقف لها. فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ. فقالت: أما إذا رأيتك سالما، فقد اشتويت المصيبة أي: استقللتها. ثم دعا لأهل من قتل بأحد وقال: يا أم سعد أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا، وقد شفعوا في أهلهم جميعا. قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: يا رسول الله، ادع لمن خلفوا منهم، فقال: «اللهم اذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، واحسن الخلف على من خلفوا» «3» . الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء ذلك اليوم- يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3 هـ- إلى المدينة. فلما انتهى إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: «اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فو الله لقد صدقني اليوم» وناولها علي بن أبي طالب سيفه فقال: وهذا أيضا فاغسلي عنه دمه، فو الله لقد صدقني اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن كنت صدقت القتال، لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة «4» . قتلى الفريقين اتفقت جل الروايات على أن قتلى المسلمين كانوا سبعين، وكانت الأغلبية الساحقة   (1) ابن هشام 2/ 98. (2) نفس المصدر 2/ 99. (3) السيرة الحلبية 2/ 47. (4) ابن هشام 2/ 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 من الأنصار، فقد قتل منهم خمسة وستون رجلا، واحد وأربعون من الخزرج، وأربع وعشرون من الأوس، وقتل رجل من اليهود. وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط. وأما قتلى المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلا، ولكن الإحصاء الدقيق- بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير، والتي تتضمن ذكر قتلى المشركين في مختلف مراحل القتال- يفيد أن عدد قتلى المشركين سبعة وثلاثون، لا اثنان وعشرون. والله أعلم «1» . حالة الطوارئ في المدينة بات المسلمون في المدينة- ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ بعد الرجوع عن معركة أحد- وهم في حالة الطوارئ، باتوا- وقد أنهكهم التعب، ونال منهم أي منال- يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها، ويحرسون قائدهم الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، إذ كانت تتلاحقهم الشبهات من كل جانب. غزوة حمراء الأسد وبات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يفكر في الموقف، فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في أنهم لم يستفيدوا شيئا من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال، فلا بد من أن يندموا على ذلك، ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مرة ثانية، فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي. قال أهل المغازي ما حاصله: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم نادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدو- وذلك صباح الغد من معركة أحد، أي يوم الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ- وقال: لا يخرج معنا إلا من شهد القتال، فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك؟ قال: لا، واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد، والخوف المزيد، وقالوا: سمعا وطاعة، واستأذنه جابر بن عبد الله، وقال: يا رسول الله، إني أحب أن لا تشهد مشهدا إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته، فأذن لي، أسير معك، فأذن له. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، حتى بلغوا حمراء الأسد، على بعد ثمانية أميال من المدينة فعسكروا هناك.   (1) انظر ابن هشام 2/ 122، 123، 124، 125، 126، 127، 128، 129، فتح الباري 7/ 351، وغزوة أحد لمحمد أحمد باشميل ص 278، 279، 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وهناك أقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم- ويقال: كان على شركه، ولكنه كان ناصحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كان بين خزاعة وبني هاشم من الحلف، فقال: يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك- فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق أبا سفيان فيخذله. ولم يكن ما خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفكير المشركين في العودة إلى المدينة إلا حقا، فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلاثين ميلا من المدينة تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم. ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحيا ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهم تقديرا صحيحا، ولذلك خالفهم زعيم مسؤول «صفوان بن أمية» قائلا: يا قوم، لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج- أي من المسلمين في غزوة أحد- فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة، وأجمع جيش مكة علي المسير نحو المدينة، ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن بي معبد الخزاعي، ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد- وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة-: محمد، قد خرج في أصحابه، قبلكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما ضيعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال أبو سفيان: ويحك، ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل- أو- حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة. فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة؟؟؟ عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل، فإني ناصح. وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي، وأخذه الفزع والرعب، فلم ير العافية إلا في مواصلة الإنسحاب والرجوع إلى مكة، بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي، لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة، وطبعا فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ينجح في الإجتناب عن لقائه، فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة: وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟. قالوا: نعم. قال: فأبلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الكرة؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه. فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبرهم بالذي قاله أبو سفيان، وقالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم أي زاد المسلمين قولهم ذلك- إيمانا وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد بعد- مقدمة يوم الأحد- الإثنين والثلاثاء والأربعاء- 9/ 10/ 11 شوال سنة 3 هـ- ثم رجع إلى المدينة. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الرجوع إلى المدينة أبا عزة الجمحي- وهو الذي كان قد من عليه من أسارى بدر؛ لفقره وكثرة بناته، على ألايظاهر عليه أحدا، ولكنه نكث وغدر، فحرض الناس بشعره على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كما أسلفنا، وخرج لمقاتلتهم في أحد- فلما أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد أقلني، وامنن علي، ودعني لبناتي، وأعطيك عهدا ألاأعود لمثل ما فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم «لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمدا مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه» . كما حكم بالإعدام في جاسوس من جواسيس مكة، وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، جد عبد الملك بن مروان لأمه، وذلك أنه لما رجع المشركون يوم أحد جاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فاستأمن له عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتله، فلما خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثر من ثلاث يتجسس لحساب قريش، فلما رجع الجيش خرج معاوية هاربا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعمار بن ياسر، فتعقباه حتى قتلاه «1» .   (1) أخذنا تفصيل غزوة أحد، وحمراء الأسد من ابن هشام 2/ 60 إلى 129، وزاد المعاد 2/ 91 إلى 108، وفتح الباري 7/ 345 إلى 377 مع صحيح البخاري، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي من ص 242 إلى 257، وقد أحلنا على المصادر الآخرى في مواضعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ومما لا شك فيه أن غزوة حمراء الأسد ليست بغزوة مستقلة، إنما هي جزء من غزوة أحد وتتمة لها، وصفحة من صفحاتها. تلك هي غزوة أحد بجميع مراحلها وتفاصيلها، وطالما بحث الباحثون حول مصير هذه الغزوة، هل كانت هزيمة أم لا؟ والذي لا يشك فيه أن التفوق العسكري في الصفحة الثانية من القتال كان للمشركين، وأنهم كانوا مسيطرين على ساحة القتال، وأن خسارة الأرواح والنفوس كانت في جانب المسلمين أكثر وأفدح، وأن طائفة من المؤمنين انهزمت قطعا، وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي، لكن هناك أمورا تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح. فمما لا شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلال معسكر المسلمين، وأن المقدار الكبير من الجيش المدني لم يلتجئ إلى الفرار- مع الإرتباك الشديد والفوضى العامة- بل قاوم بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته، وأن كفته لم تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي، وأن أحدا من جيش المدينة لم يقع في أسر الكفار، وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين، وأن الكفار لم يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل في معسكره، وأنهم لم يقيموا بساحة القتال يوما أو يومين أو ثلاثة أيام- كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان- بل سارعوا إلى الإنسحاب وترك ساحة القتال، قبل أن يتركها المسلمون، ولم يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب الذراري والأموال، مع أنها على بعد عدة خطوات فحسب، وكانت مفتوحة وخالية تماما. كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة، نجحوا فيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة الجيش الإسلامي بعد عمل التطويق- وكثيرا ما يلقى الفاتحون بمثل هذه الخسائر التي نالها المسلمون- أما أن ذلك كان نصرا وفتحا فكلا وحاشا. بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في الإنسحاب والإنصراف، أنه كان يخاف على جيشه المعرة والهزيمة لو جرت صفحة ثالثة من القتال، ويزداد ذلك تأكدا حين ننظر إلى موقف أبي سفيان من غزوة حمراء الأسد. وإذن فهذه الغزوة إنما كانت حربا غير منفصلة، أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والخسارة، ثم حاد كل منهما عن القتال، من غير أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لاحتلال العدو، وهذا هو معنى الحرب غير المنفصلة. وإلى هذا يشير قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ [النساء: 104] فقد شبه أحد العسكرين بالآخر في التألم وإيقاع الألم، مما يفيد أن الموقفين كانا متماثلين، وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب. القرآن يتحدث حول موضوع المعركة ونزل القرآن يلقي ضوآ على جميع المراحل المهمة من هذه المعركة مرحلة مرحلة، ويدلي بتعليقات تصرح بالأسباب التي أدت إلى هذه الخسارة الفادحة، وأبدى النواحي الضعيفة التي لم تزل موجودة في طوائف أهل الإيمان بالنسبة إلى واجبهم في مثل هذه المواقف الحاسمة، وبالنسبة إلى الأهداف النبيلة السامية التي أنشئت للحصول عليها هذه الأمة، التي تمتاز عن غيرها بكونها خير أمة أخرجت للناس. كما تحدث القرآن عن موقف المنافقين، ففضحهم، وأبدى ما كان في باطنهم من العداوة لله ولرسوله، مع إزالة الشبهات والوساوس التي كانت تختلج بقلوب ضعفاء المسلمين، والتي كان يثيرها هؤلاء المنافقون وإخوانهم اليهود- أصحاب الدس والمؤامرة- وقد أشار إلى الحكم والغايات المحمودة التي تمخضت عنها هذه المعركة. نزلت حول موضوع المعركة ستون آية من سورة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران: 121] وتترك في نهايتها تعليقا جامعا على نتائج هذه المعركة وحكمتها قال تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 179] . الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة قد بسط ابن القيم الكلام على هذا الموضوع بسطا تاما «1» . وقال ابن حجر: قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ألايبرحوا منه. ومنها أن عادة الرسل أن تبتلى   (1) انظر زاد المعاد 2/ 99 إلى 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائما دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيا عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة، وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحا، وعرف المسلمون أن لهم عدوا في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. ومنها: أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضما للنفس، وكسرا لشماختها، فلما ابتلى المؤمنون صبروا، وجزع المنافقون. ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الإبتلاء والمحن ليصلوا إليها. ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم. ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين «1» .   (1) فتح الباري 7/ 347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب كان لمأساة أحد أثر سيء على سمعة المؤمنين، فقد ذهبت ريحهم، وزالت هيبتهم عن النفوس، وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين، وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب، وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر، وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين، بل طمعت في أن تقضي عليهم، وتستأصل شأفتهم. فلم يمض على هذه المعركة شهران حتى تهيأت بنو أسد للإغارة على المدينة، ثم قامت قبائل عضل وقارة في شهر صفر سنة 4 هـ بمكيدة، سببت في قتل عشرة من الصحابة، وفي نفس الشهر قامت بنو عامر بمكيدة مثلها، سببت في قتل سبعين من الصحابة، وتعرف هذه الوقعة بوقعة بئر معونة، ولم تزل بنو نضير خلال هذه المدة تجاهر بالعداوة حتى قامت في ربيع الأول سنة 4 هـ بمكيدة تهدف إلى قتل النبي صلى الله عليه وسلم: وتجرأت بنو غطفان، حتى همت بالغزو على المدينة في جمادى الأولى سنة 4 هـ. فريح المسلمين التي كانت قد ذهبت في معركة أحد تركت المسلمين- إلى حين- يهددون بالأخطار، ولكن تلك هي حكمة محمد صلى الله عليه وسلم: التي صرفت وجوه التيارات وأعادت للمسلمين هيبتهم المفقودة، وأكسبت لهم العلو والمجد من جديد، وأول ما أقدم عليه بهذا الصدد هي حركة المطاردة التي قام بها إلى حمراء الأسد، فقد حفظ بها مقدارا كبيرا من سمعة جيشه، واستعاد بها من هيبتهم ومكانتهم ما ألقى اليهود والمنافقين في الدهش والذهول، ثم قام بمناورات أعادت للمسلمين هيبتهم، بل زادت فيها، وفي الصفحة الآتية شيء من تفاصيلها: سرية أبي سلمة أول من قام ضد المسلمين بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزيمة، فقد نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما، يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلا من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أبا سلمة وعقد له لواء، وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلا وشاء لهم، فاستاقوها، وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حربا. كان مبعث هذه السرية حين استهل هلال المحرم سنة 4 هـ، وعاد أبو سلمه وقد نغر عليه جرح كان قد أصابه في أحد، فلم يلبث حتى مات «1» . بعث عبد الله بن أنيس وفي اليوم الخامس من نفس الشهر- المحرم سنة 4 هـ- نقلت الإستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس ليقضي عليه. وظل عبد الله بن أنيس غائبا عن المدينة ثماني عشرة ليلة، ثم قدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم، وقد قتل خالدا «2» وجاء برأسه، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطاه عصا، وقال: هذه آية بيني وبينك يوم القيامة، فلما حضرته الوفاة أوصى أن تجعل معه في أكفانه «3» . بعث الرجيع وفي شهر صفر من نفس السنة- أي الرابعة من الهجرة- قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عضل وقارة، وذكروا أن فيهم إسلاما. وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم ستة نفر- في قول ابن إسحاق وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة- وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي- في قول ابن إسحاق وعند البخاري أنه عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب- فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع- وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز بين رابغ وجدة- استصرخوا عليهم حيا من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقرب من مائة رام، واقتصوا آثارهم حتى لحقوهم، فأحاطوا بهم- وكانوا قد لجأوا إلى فدفد- وقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألانقتل منكم رجلا. فأما عاصم فأبى من النزول، وقاتلهم في أصحابه، فقتل منهم سبعة بالنبل، وبقي خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخرى، فنزلوا إليهم، ولكنهم   (1) زاد المعاد 2/ 108. (2) أي خالد بن سفيان الهذلي. (3) نفس المصدر 2/ 109، وابن هشام 2/ 619، 620. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 غدروا بهم وربطوهم بأوتار قسيهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، وأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة، وكانا قتلا من رؤوسهم يوم بدر، فأما خبيب فمكث عندهم مسجونا، ثم أجمعوا على قتله، فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم، فلما أجمعوا على صلبه قال: دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوه فصلاهما، فلما سلم قال: والله لولا أن تقولوا: إن ما بي جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، ثم قال: لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وقد قربوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما جمع الأحزاب لي عند مضجعي فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد بؤس مطمعي وقد خيروني الكفر والموت دونه ... فقد ذرفت عيناي من غير مدمع ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مضجعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع فقال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدا عندنا نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه. ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بخدعة ليلا، فذهب به فدفنه، وكان الذي تولى قتل خبيب هو عقبة بن الحارث وكان خبيب قد قتل أباه حارثا يوم بدر. وفي الصحيح أن خبيبا أول من سن الركعتين عند القتل، وأنه رئي وهو أسير يأكل قطفا من العنب، وما بمكة تمرة. وأما زيد بن الدثنة فأتبعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه. وبعثت قريش إلى عاصم ليؤلئوا بشيء من جسده يعرفونه- وكان عاصم قتل عظيما من عظامائهم يوم بدر- فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر- الزنابير- فحمته من رسلهم؛ فلم يقدروا منه على شيء. وكان عاصم أعطى الله عهدا ألايمسه مشرك، ولا يمس مشركا، وكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته «1» .   (1) ابن هشام 2/ 169 إلى 179، وزاد المعاد 2/ 109، صحيح البخاري 2/ 568، 569، 585. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 مأساة بئر معونة وفي نفس الشهر الذي وقعت فيه مأساة الرجيع وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى، وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة. وملخصها أن أبا براء عامر بن مالك (المدعو بملاعب الأسنة) قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، فقال: يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك، لرجوت أن يجيبوهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا جار لهم، فبعث معه أربعين رجلا- في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين، والذي في الصحيح هو الصحيح- وأمر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة الملقب بالمعتق ليموت، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم، فساروا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن، ويصلون بالليل، حتى نزلوا بئر معونة- وهي أرض بين بني عامر وحرة بني سليم- فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلا فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حرام: الله أكبر، فزت ورب الكعبة. ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عصية ورعل وذكوان، فجاؤا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد بن النجار، فإنه ارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين، فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه. ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملا معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين، تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد، إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح، وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة. ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقرقرة من صدر قناة، نزل في ظل شجرة وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، فقال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما وانشغل بجمع دياتهم من المسلمين وحلفائهم اليهود «1» ، وهذا الذي صار سببا ل غزوة بني النضير كما سيذكر. وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة «2» تألما شديدا، وتغلب عليه الحزن والقلق «3» ، حتى دعا على هؤلاء القوم والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه، ففي الصحيح عن أنس قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحا، يدعو في صلاة الفجر على رعل وذكوان ولحيان وعصية، ويقول: عصية عصت الله ورسوله، فأنزل الله تعالى على نبيه قرآنا قرأناه حتى نسخ بعد: «بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه» فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قنوته «4» . غزوة بني النضير قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على الإسلام والمسلمين، إلا أنهم لم يكونوا أصحاب حرب وضرب، بل كانوا أصحاب دس ومؤامرة، فكانوا يجاهرون بالحقد والعداوة، ويختارون أنواعا من الحيل، لإيقاع الإيذاء بالمسلمين دون أن يقوموا للقتال، مع ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق، وأنهم بعد وقعة بني قينقاع، وقتل كعب بن الأشرف خافوا على أنفسهم، فاستكانوا والتزموا الهدوء والسكوت. ولكنهم بعد وقعة أحد تجرؤوا، فكاشفوا بالعداوة والغدر، وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سرا، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين «5» . وصبر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرجيع وبئر معونة، حتى قاموا بمؤامرة تهدف القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم. وبيان ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية   (1) انظر ابن هشام 2/ 183 إلى 188، وزاد المعاد 2/ 109، 110، صحيح البخاري 2/ 584، 586. (2) ذكر الواقدي أن خبر أصحاب الرجيع وخبر أصحاب بئر معونة أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة. (3) روى ابن سعد عن أنس ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة «مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 260» . (4) البخاري 2/ 586، 587، 588. (5) يؤخذ ذلك مما رواه أبو داود في باب خبر النضير 3/ 116، 117 «عون المعبود شرح سنن أبي داود» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري- وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة- فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس ههنا حتى نقضي حاجتك. فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه. وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسوّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتامروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ ... فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فو الله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، لكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم. ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلى الله عليه وسلم يعلمه بما هموا به، فنهض مسرعا، وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همت به يهود. وما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم: «اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرا، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه» . ولم يجد يهود مناصا من الخروج، فأقاموا أياما يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين- عبد الله بن أبي- بعث إليهم أن اثبتوا وتمنعوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. وهناك عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. ولا شك أن الموقف كان حرجا بالنسبة إلى المسلمين، فإن اشتباكهم بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأيت كلب العرب عليهم، وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إن يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفا بالمكاره، إلا أن الحال التي جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفرادا، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثم قرروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 أن يقاتلوا بني النضير- بعد همهم باغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم- مهما تكن النتائج ... فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم جواب حيي بن أخطب كبر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزة القوم، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وسار إليهم، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهى إليهم فرض عليهم الحصار. والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عونا لهم في ذلك، فأمر بقطعها وتحريقها، وفي ذلك يقول حسان: وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير البويرة: اسم لنخل بني النضير، وفي ذلك أنزل الله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر: 5] . واعتزلتهم قريظة، وخانهم عبد الله بن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيرا، أو يدفع عنهم شرا، ولهذا شبه سبحانه وتعالى قصتهم، وجعل مثلهم: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ [الحشر: 16] . ولم يطل الحصار- فقد دام ست ليال فقط، وقيل: خمس عشرة ليلة- حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فاندحروا وتهيأوا للإستسلام ولإلقاء السلاح، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن نخرج عن المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح. فنزلوا على ذلك، وخربوا بيوتهم بأيديهم، ليحملوا الأبواب والشبابيك، بل حتى حمل بعضهم الأوتاد وجذوع السقف، ثم حملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير، فترحل أكثرهم وأكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلان فقط يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاح بني النضير، واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا. وكانت أموال بني النضير وأرضهم وديارهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يضعها حيث يشاء، ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليه، ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، فقسمها بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصاريين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 لفقرهما، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة 4 من الهجرة، أغسطس 635 م. وأنزل الله في هذه الغزوة سورة الحشر بأكملها، فوصف طرد اليهود، وفضح مسلك المنافقين، وبين أحكام الفيء، وأثنى على المهاجرين والأنصار، وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض، وأوصى المؤمنين بالتزام التقوى والإستعداد للآخرة، ثم ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته. وكان ابن عباس يقول عن سورة الحشر: قل: سورة النضير «1» . غزوة نجد وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون- في غزوة بني النضير- دون تضحيات توطد سلطانهم في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتفرغ لقمع الأعراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد، وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذلة وكفران «2» ، وبلغت بهم الجرأة إلى أن أرادوا القيام بجر غزوة على المدينة. فقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بتأديب أولئك الغادرين نقلت إليه استخبارات المدينة بتحشد جموع البدو والأعراب من بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، فسارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج، يجوس فيافي نجد، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساوة، حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبوها مع المسلمين. وأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال. وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغيرة وخلطوا بمشاعرهم الرعب، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين. وقد ذكر أهل المغازي والسير بهذا الصدد غزوة معينة غزاها المسلمون في أرض نجد في شهر ربيع الثاني أو جمادى الأولى سنة 4 هـ، ويسمون هذه الغزوة بغزوة ذات   (1) ابن هشام 2/ 190، 191، 192، زاد المعاد 2/ 71، 110، صحيح البخاري 2/ 574، 575. (2) كلمة لمحمد الغزالي في فقه السيرة ص 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الرقاع. أما وقوع الغزوة خلال هذه المدة فلا شك فيه. وهذا الذي كانت تقتضيه ظروف المدينة، فإن موسم غزوة بدر التي كان قد تواعد بها أبو سفيان حين انصرافه من أحد كان قد اقترب، وإخلاء المدينة، مع ترك البدو والأعراب على تمردهم وغطرستهم، والخروج لمثل هذا اللقاء الرهيب- لم يكن من مصالح سياسة الحروب قطعا، بل كان لا بد من خضد شوكتهم، وكف شرهم قبل الخروج لمثل هذه الحرب الكبيرة التي كانوا يتوقعون وقوعها في رحاب بدر. وأما أن تلك الغزوة التي قادها الرسول صلى الله عليه وسلم في ربيع أو جمادى الأولى سنة 4 هـ هي غزوة الرقاع فلا يصح، فإن غزوة ذات الرقاع شهدها أبو هريرة وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما. وكان إسلام أبي هريرة قبل غزوة خيبر بأيام، وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وافى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر. وإذن فغزوة ذات الرقاع بعد خيبر، ويدل على تأخرها عن السنة الرابعة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها صلاة الخوف، وكانت أول شرعية صلاة الخوف في غزوة عسفان، ولا خلاف أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق، وكانت غزوة الخندق في أواخر السنة الخامسة. غزوة بدر الثانية ولما خضد المسلمون شوكة الأعراب، وكفكفوا شرهم، أخذوا يتجهزون لملاقاة عدوهم الأكبر، فقد استدار العام، وحضر الموعد المضروب مع قريش- في غزوة أحد- وحق لمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه أن يخرجوا؛ ليواجهوا أبا سفيان وقومه، وأن يديروا رحى الحرب كرة أخرى، حتى يستقر الأمر لأهدى الفريقين وأجدرهما بالبقاء «1» . ففي شعبان سنة 4 هـ يناير سنة 626 م، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة وانتهى إلى بدر، فأقام بها ينتظر المشركين. وأما أبو سفيان، فخرج في ألفين من مشركي مكة، ومعهم خمسون فرسا، حتى انتهى إلى مر الظهران على بعد مرحلة من مكة فنزل بمجنة- ما في تلك الناحية. خرج أبو سفيان، من مكة متثاقلا، يفكر في عقبى القتال مع المسلمين، وقد أخذه الرعب، واستولت على مشاعره الهيبة، فلما نزل بمر الظهران خار عزمه، فاحتال للرجوع،   (1) كلمة محمد الغزالي في فقه السيرة 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وقال لأصحابه: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا. ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر الجيش أيضا، فقد رجع الناس ولم يبدوا أي مصادمة لهذا الرأي وأي إصرار وإلحاح على مواصلة السير للقاء المسلمين. وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام ينتظرون العدو، وباعوا ما معهم من التجارة فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيبتهم في النفوس وسادوا على الموقف. وتعرف هذه الغزوة ببدر الموعد، وبدر الثانية، وبدر الآخرة وبدر الصغرى «1» . غزوة دومة الجندل عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، وقد ساد المنطقة الأمن والسلام، واطمأنت دولته، فتفرغ للتوجه إلى أقصى حدود العرب حتى تصير السيطرة للمسلمين على الموقف، ويعترف بذلك الموالون والمعادون. مكث بعد بدر الصغرى في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل- قريبا من الشام- تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وأنها قد حشدت جمعا كبيرا تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الأول سنة 5 هـ، وأخذ رجلا من بني عذرة دليلا للطريق يقال له مذكور. خرج يسير الليل ويكمن النهار، حتى يفاجئ أعداءهم وهم غارون، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب. وأما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحدا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام، وبث السرايا وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحدا، ثم رجع إلى المدينة، ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن. ودومة: بالضم، موضع معروف بمشارف الشام، بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة.   (1) نظر لتفصيل هذه الغزوة ابن هشام 2/ 209، 210، زاد المعاد 2/ 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 بهذه الإقدامات السريعة الحاسمة، وبهذه الخطط الحكيمة الحازمة نجح النبي صلى الله عليه وسلم في بسط الأمن، وتنفيذ السلام في المنطقة والسيطرة على الموقف، وتحويل مجرى الأيام لصالح المسلمين، وتخفيف المتاعب الداخلية والخارجية التي كانت قد توالت عليهم، وأحاطتهم من كل جانب، فقد سكت المنافقون واستكانوا، وتم إجلاء قبيلة من اليهود، وبقيت الآخرى تظاهر بإيفاء حق الجوار وبإيفاء العهود والمواثيق، واستكانت البدو والأعراب، وحادت قريش عن مهاجمة المسلمين، ووجد المسلمون فرصة لإفشاء الإسلام وتبليغ رسالات رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 غزوة الأحزاب عاد السلام والأمن، وهدأت الجزيرة العربية بعد الحروب والبعثات التي استغرقت أكثر من سنة كاملة، إلا أن اليهود- الذين كانوا قد ذاقوا ألوانا من الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتهم ودسائسهم- لم يفيقوا من غيهم، ولم يستكينوا ولم يتعظوا بما أصابهم نتيجة الغدر والتامر، فبعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين نتيجة المناوشات التي كانت قائمة بين المسلمين والوثنيين. ولما تحول مجرى الأيام لصالح المسلمين، وتمخضت الليالي والأيام عن بسط نفوذهم، وتوطد سلطانهم، تحرق هؤلاء اليهود أي تحرق. وشرعوا في التامر من جديد على المسلمين، وأخذوا يعدون العدة، لتهيئة ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها. ولما لم يكونوا يجدون في أنفسهم جرأة على مناورة المسلمين مباشرة، خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة. خرج عشرون رجلا من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، وقريش قد أخلفت وعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذ سمعتها والبر بكلمتها. ثم خرج هذا الوفد إلى غطفان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشا، فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك، فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبيّ صلى الله عليه وسلم ودعوته والمسلمين. وفعلا خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة- وقائدهم أبو سفيان- في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت من الشرق قبائل غطفان: بنو فزارة، يقودهم عيينة بن حصن، وبنو مرة، يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع يقودهم مسعر بن رخيلة كما خرجت بنو أسد وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 واتجهت هذه الأحزاب، وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه. وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عرمرم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ. ولو بلغت هذه الأحزاب المحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظم خطر على كيان المسلمين مما يقاس، ربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء، ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة، لم تزل واضعة أناملها على العروق النابضة، تتجسس الظروف، وتقدر ما يتمخض عن مجراها، فلم تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها بهذا الزحف الخطير. وسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس استشاري أعلى، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشورى، اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي رضي الله عنه. قال سلمان: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا- وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك-. وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الخطة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعا. وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا، ففي البخاري عن سهل بن سعد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا «1» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للمهاجرين والأنصار «2» وعن أنس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرين والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم. فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له:   (1) أكتادنا: بالمثناة جمع كتد وهو ما بين الكاهل إلى الظهر. (2) صحيح البخاري باب غزوة الخندق 2/ 588. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا «1» وفيه عن البراء بن عازب قال: رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب، ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا قال: ثم يمد بها صوته باخرها، وفي رواية: إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا «2» كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع، ما يفتت الأكباد قال أنس: (كان أهل الخندق) يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهالة سنخة «3» توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن. وقال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين «4» . وبهذه المناسبة وقع في حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، رأى جابر بن عبد الله في النبي صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا، فذبح بهيمة وطحنت امرأته صاعا من شعير ثم التمس من رسول الله صلى الله عليه وسلم سرا أن يأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بجميع أهل الخندق، وهم ألف فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت برمة اللحم تغط به كما هي، وبقي العجين يخبز كما هو «5» . وجاءت أخت النعمان بن بشير بحفنة من تمر إلى الخندق ليتغدى أبوه وخاله، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منها التمر وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق فجعلوا يأكلون منه. وجعل التمر يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثوب «6» .   (1) نفس المصدر. (2) نفس المصدر 2/ 589. (3) نفس المصدر 2/ 588. والإهالة: الدهن الذي يؤتدم به سواء كان زيتا أو سمنا أو شحما سنخة: أي تغير طعمها ولونها من قدمها. (4) رواه الترمذي مشكاة المصابيح 2/ 448. (5) روى ذلك البخاري 2/ 588، 589. (6) ابن هشام 2/ 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر- ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقا- فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم «1» ، أي صار رملا لا يتماسك. وقال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: «بسم الله ثم ضرب ضربة، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصار قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصار أبواب صنعاء من مكاني «2» » . وروى ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي الله عنه «3» . ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوى الشمال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم كخبير عسكري حاذق أن زحف مثل هذا الجيش الكبير، ومهاجمة المدينة- لا يمكن إلا من جهة الشمال، اتخذ الخندق في هذا الجانب. وواصل المسلمون عملهم في حفره، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهم في المساء، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة «4» . وأقبلت قريش في أربعة آلاف، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزعابة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب: 22] . وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش وَإِذْ يَقُولُ   (1) صحيح البخاري 2/ 588. (2) سنن النسائي 2/ 56، وأحمد في مسنده واللفظ ليس للنسائي، وفيه عن رجل من الصحابة. (3) ابن هشام 2/ 219. (4) نفس المصدر 3/ 330، 331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 12] . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الكفار. وكان شعارهم: «هم لا ينصرون؛ واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة. ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة، وجدوا خندقا عريضا يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة- كما قالوا- مكيدة ما عرفتها العرب، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأسا. وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضابا، يتحسسون نقطة ضعيفة، لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل، حتى لا يجترئوا على الإقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه، أو يهيلوا عليه التراب، ليبنوا به طريقا يمكنهم من العبور. وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوى في ترقب نتائج الحصار، فإن ذلك لم يكن من شيمهم، فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، فتيمموا مكانا ضيقا من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، ودعا عمرو إلى المبارزة، فانتدب له علي بن أبي طالب، وقال كلمة حمي لأجلها- وكان من شجعان المشركين وأبطالهم- فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على عليّ، فتجاولا وتصاولا، حتى قتله علي رضي الله عنه، وانهزم الباقون حتى اقتحموا من الخندق هاربين، وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو. وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة، لاقتحام الخندق، أو لبناء الطرق فيها، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة، ورشقوهم بالنبل وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم. ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش. فقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا والله ما صليتها، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب «1» . وقد استاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين، ففي البخاري عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» «2» . وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فصلاهن جميعا. قال النووي: وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها. انتهى «3» . ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين، والمكافحة المتواصلة من المسلمين دامت أياما، إلا أن الخندق لما كان حائلا بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر وحرب دامية، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة. وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين، يعدون على الأصابع ستة من المسلمين وعشرة من المشركين، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف. وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكحل، رماه رجل من قريش يقال له حبان العرقة، فدعا سعد: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم، حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها «4» . وقال في آخر دعائه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة «5» . وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتامر تتقلب في جحورها، تريد إيصال السم داخل أجسادهم. انطلق كبير مجرمي بني   (1) صحيح البخاري 2/ 590. (2) نفس المصدر. (3) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 287، وشرح مسلم للنووي 1/ 227. (4) صحيح البخاري 3/ 591. «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 النضير إلى ديار بني قريظة، فأتى كعب بن أسد القرظي- سيد بني قريظة، وصاحب عقدهم وعهدهم، وكان قد عاقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب كما تقدم- فضرب عليه حيي الباب، فأغلقه كعب دونه، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه، فقال حيي: إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألايبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، ليس فيه شيء، ويحك يا حيي! فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا: لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيا بني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين «1» . وفعلا قد قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب. قال ابن إسحاق: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في غور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت، قالت: فقلت يا حسان، إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأنزل إليه فاقتله. قال: والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فاحتجزت «2» ثم أخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن، وقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. قال: ما لي بسلبه من حاجة «3» .   (1) ابن هشام 2/ 220، 221. (2) احتجزت: شدة وسطها. (3) ابن هشام 2/ 228، يحمل هذا الحديث على أن حسانا كان جبانا، وقد دفع هذا بعض العلماء وأنكره، - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول صلى الله عليه وسلم أثر عميق في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصون في منعة من الجيش الإسلامي- مع أنها كانت خالية عنهم تماما- فلم يجترئوا مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين بالمؤن كدليل عملي على إنضمامهم إليهم ضد المسلمين، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملا. وانتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فبادر إلى تحقيقه، حتى يستجلي موقف قريظة، فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية، وبعث لتحقيق الخبر السعدين: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير، وقال: «انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس» . فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد. فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحنوا له، وقالوا: عضل وقارة، أي أنهم على غدر، كغدر عضل وقارة بأصحاب الرجيع. وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر، فتجسد أمامهم خطر رهيب. وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الإنصراف، عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما يقول الله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الأحزاب: 10، 11] ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه: إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج المدينة، وحتى همت بنو سلمة بالفشل وفي هؤلاء أنزل الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي   - وذلك أن الحديث ينقطع الإسناد، ولو صح لهجي به حسان، وإن صح الحديث فربما كان حسان معتلا في ذلك اليوم، وهذا أولى ما تأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً [الأحزاب: 12، 13] . أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غدر قريظة، فاضطجع ومكث طويلا، حتى اشتد على الناس البلاء، ثم غلبته روح الأمل، فنهض يقول: «الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره» ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن، وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة، لئلا يؤتى الذراري والنساء على غرة، ولكن كان لا بد من إقدام حاسم، يفضي إلى تخاذل الأحزاب، وتحقيقا لهذا الهدف أراد أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفا بقومهما، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة على قريش التي اختبروا مدى قوتها وبأسها مرارا، وجرت المراوضة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا: يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فصوّب رأيهما وقال: «إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة» . ثم إن الله عز وجل- وله الحمد- صنع أمرا من عنده خذل به العدو، وهزم جموعهم، وفل حدهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلا من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي- رضي الله عنه- جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة» فذهب من فوره إلى بني قريظة- وكان عشيرا لهم في الجاهلية- فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت. قال: فإن قريشا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة إنتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمدا فانتقم منكم، قالوا فما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش، وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا: نعم، قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك. فلما كان ليلة السبت من شوال- سنة 5 هـ- بعثوا إلى يهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا، فأرسل إليهم اليهود إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن. فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى يهود: إنا والله لا نرسل إليكم أحدا، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدا. فقالت قريظة: صدقكم والله نعيم. فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم. وكان المسلمون يدعون الله تعالى: «اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، إهزم الأحزاب، اللهم أهزمهم وزلزلهم» «1» . وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين، وسرى بينهم التخاذل، أرسل الله عليهم جندا من الريح، فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدرا إلا كفأتها، ولا طنبا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جندا من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظه لم ينالوا خيرا، وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة. وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين شهرا أو نحو شهر، ويبدو بعد الجمع بين   (1) صحيح البخاري كتاب الجهاد 1/ 411، وكتاب المغازي 2/ 590. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 المصادر أن بداية فرض الحصار كانت في شوال، ونهايته في ذي القعدة، وعند ابن سعد أن انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق كان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة. إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر؛ بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع إستئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة، لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجلى الله الأحزاب: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم» «1» .   (1) صحيح البخاري 2/ 590. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 غزوة بني قريظة وفي اليوم الذي رجع فيه رسول الله إلى المدينة، جاءه جبريل عليه السلام عند الظهر، وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال: أو قد وضعت السلاح؟ فإن الملائكة لم تضع أسلحتهم، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب، فسار جبريل في موكبه من الملائكة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطى الراية علي بن أبي طالب، وقدّمه إلى بني قريظة فسار علي حتى إذا دنا من حصونهم سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موكبه من المهاجرين والأنصار، حتى نزل على بئر من آبار قريظة يقال لها بئر أنا، وبادر المسلمون إلى امتثال أمره، ونهضوا من فورهم، وتحركوا نحو قريظة، وأدركتهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا، حتى أن رجالا منهم صلوا العصر بعد العشاء الآخرة، وقال بعضهم: لم يرد منا ذلك، وإنما أراد سرعة الخروج، فصلوها في الطريق، فلم يعنف واحدة من الطائفتين. هكذا تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالا، حتى تلاحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ثلاثون فرسا، فنازلوا حصون بني قريظة، وفرضوا عليهم الحصار. ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال: إما أن يسلموا: ويدخلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم- وقد قال لهم: والله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم- وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم، ويخرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف مصلتين، يناجزونه حتى يظفروا بهم، أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ويكبسوهم يوم السبت، لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث، وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد، في إنزعاج وغضب، ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما. ولم يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين، لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لبابة نستشيره، وكان حليفا لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم! وأشار بيده إلى حلقه، يقول إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضى على وجهه، ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى المسجد النبوي بالمدينة، فربط نفسه بسارية المسجد، وحلف ألايحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره- وكان قد استبطأه- قال: أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه. وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كان باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل؛ لتوفر المواد الغذائية والمياه والآبار ومناعة الحصون، ولأن المسلمين كانوا يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وهم في العراء، مع شدة التعب الذي اعتراهم، لمواصلة الأعمال الحربية من قبل بداية معركة الأحزاب، إلا أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب، فقد قذف الله في قلوبهم الرعب، وأخذت معنوياتهم تنهار، وبلغ هذا الإنهيار إلى نهايته أن تقدم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وصاح علي: يا كتيبة الإيمان، والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم. وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتقال الرجال، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن سلمة الأنصاري، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية، وقامت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم، فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. قال: فذاك إلى سعد بن معاذ. قالوا: قد رضينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 فأرسل إلى سعد بن معاذ، وكان في المدينة، لم يخرج معهم؛ للجرح الذي كان أصاب أكحله في معركة الأحزاب، فأركب حمارا، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يقولون وهم كنفيه: يا سعد، أجمل في مواليك فأحسن فيهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئا، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ألاتأخذه في الله لومة لائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعى إليهم القوم. ولما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة: قوموا إلى سيدكم. فلما أنزلوه قالوا: يا سعد، إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك. قال: وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا: نعم. قال: وعلى المسلمين؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ - وأعرض بوجهه، وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له وتعظيما- قال: نعم وعليّ. قال: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات» . وكان حكم سعد في غاية العدل والإنصاف، فإن بني قريظة بالإضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع- كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين ألفا وخمسمائة سيف، وألفين من الرماح، وثلاثمائة درع، وخمسمائة ترس وجحفة، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبست بني قريظة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة، ثم أمر بهم فجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالا أرسالا، وتضرب في تلك الخنادق أعناقهم. فقال من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد: ما تراه يصنع بنا؟ فقال: أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع؟ والذاهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل. وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، فضربت أعناقهم. وهكذا تم إستئصال أفاعي الغدر والخيانة، والذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد، وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياتهم- وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام-. وقتل مع هؤلاء شيطان بني النضير، وأحد أكابر مجرمي معركة الأحزاب حيي بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، كان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان؛ وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيام غزوة الأحزاب، فلما أتي به- وعليه حلة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئلا يسلبها- مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله ما لمت نفسي في معاداتك، ولكن من يغالب الله يغلب. ثم قال: أيها الناس، لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. وقتل من نسائهم امرأة واحدة، كانت قد طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته، فقتلت لأجل ذلك. وكان قد أمر رسول الله بقتل من أنبت، وترك من لم ينبت، فكان ممن لم ينبت عطية القرظي، فترك حيا، فأسلم، وله صحبة. واستوهب ثابت بن قيس الزبير بن باطا وأهله وماله- وكانت للزبير يد عند ثابت- فوهبهم له ثابت بن قيس وقال: قد وهبك رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك. فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه: سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود، واستحيا ثابت من ولد الزبير بن باطا عبد الرحمن بن الزبير، فأسلم، وله صحبة. واستوهبت أم المنذر سلمى بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي، فوهبه لها، فاستحيته، فأسلم، وله صحبة. وأسلم منهم تلك الليلة نفر من قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم. وخرج تلك الليلة عمرو- وكان رجلا لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم- فرآه محمد بن سلمة قائد الحرس النبوي، فخلى سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب. وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، سهمان للفرس وسهم للفارس، وأسهم للراجل سهما واحدا، وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاري. فابتاع بها خيلا وسلاحا. واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة، فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه، هذا ما قاله ابن إسحاق «1» وقال الكلبي: إنه صلى الله عليه وسلم أعتقها، وتزوجها سنة 6 هـ، وماتت مرجعه من حجة الوداع فدفنها بالبقيع «2» . «1»   (2) تلقيح فهوم أهل الأثر ص 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ولما أتم أمر قريظة أجيبت دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه- التي قدمنا ذكرها في غزوة الأحزاب- وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما تم أمر قريظة انتقضت جراحته. قالت عائشة: فانفجرت من لبته فلم يرعهم- وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا يأتينا من قبلكم، فإذا سعد يغذوا جرحه دما، فمات منها «1» . وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ «2» . وصحح الترمذي من حديث أنس: قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة كانت تحمله» «3» . قتل في حصار بني قريظة رجل واحد من المسلمين، وهو خلاد بن سويد، الذي طرحت عليه الرحى امرأة من قريظة، ومات في الحصار أبو سنان بن محصن أخو عكاشة. أما أبو لبابة، فأقام مرتبطا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، ثم نزلت توبته على رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرا، وهو في بيت أم سلمة، فقامت على باب حجرتها، وقالت لي: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، فثار الناس يطلقوه، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه. وقعت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة 5 هـ، ودام الحصار خمسا وعشرين ليلة «4» . وأنزل الله تعالى في غزوة الأحزاب وبني قريظة آيات من سورة الأحزاب، علق فيها على أهم جزئيات الوقعة بين حال المؤمنين والمنافقين، ثم تخذيل الأحزاب، ونتائج الغدر من أهل الكتاب.   (1) صحيح البخاري 2/ 591. (2) صحيح البخاري 1/ 536، وصحيح مسلم 2/ 294، وجامع الترمذي 2/ 225. (3) جامع الترمذي 2/ 225. (4) ابن هشام 2/ 227، 228، وانظر لتفصيل هذه الغزوة ابن هشام 2/ 233 إلى 273 وصحيح البخاري 2/ 590، 591، زاد المعاد 2/ 72، 73، 74، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 287، 288، 289، 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 النشاط العسكري بعد هذه الغزوة مقتل سلام بن أبي الحقيق كان سلام بن أبي الحقيق- وكنيته أبو رافع- من أكابر مجرمي اليهود، الذي حزبوا الأحزاب ضد المسلمين وأعانهم بالمؤن والأموال الكثيرة «1» ، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ المسلمون من أمر قريظة استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، وكان قتل كعب بن الأشرف على أيدي رجال من الأوس، فرغبت الخزرج في إحراز فضيلة مثل فضيلتهم؛ فلذلك أسرعوا إلى هذا الإستئذان. وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، ونهى عن قتل النساء والصبيان، فخرجت مفرزة قوامها خمسة رجال، كلهم من بني سلمة من الخزرج، قائدهم عبد الله بن عتيك. خرجت هذه المفرزة، واتجهت نحو خيبر، إذ كان هناك حصن أبي رافع، فلما دنوا منه- وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم- قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب. قال عبد الله بن عتيك: فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على ود «2» قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل. قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت. قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئا، وصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه، فقلت: وما هذا الصوت يا أبا رافع؟   (1) انظر فتح الباري 7/ 343. (2) أي المفاتيح على وتد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فقال: لأمك الويل، إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله. ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي، وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب. فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك صاح الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته فقال: ابسط رجلك، فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط «1» . هذه رواية البخاري، وعن ابن إسحاق أن جميع النفر دخلوا على أبي رافع، واشتركوا في قتله، وأن الذي تحامل عليه بالسيف حتى قتله هو عبد الله بن أنيس، وفيه أنهم لما قتلوه ليلا، وانكسرت ساق عبد الله بن عتيك حملوه، وأتوا منهرا من عيونهم، فدخلوا فيه، وأوقد اليهود النيران، واشتدوا في كل وجه، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم، وإنهم حين رجعوا احتملوا عبد الله بن عتيك حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . كان مبعث هذه السرية في ذي القعدة أو ذي الحجة سنة 5 هـ «3» . ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وقريظة، واقتص من مجرمي الحروب أخذ يوجه حملات تأديبية إلى القبائل والأعراب، الذين لم يكونوا يستكينون للأمن والسلام إلا بالقوة القاهرة. سرية محمد بن مسلمة كانت أول سرية بعد الفراغ من الأحزاب وقريظة، وكان عدد قوات هذه السرية ثلاثين راكبا. تحركت هذه السرية إلى القرطاء، بناحية ضرية بالبكرات من أرض نجد، وبين ضرية والمدينة سبع ليال، تحركت لعشر ليال خلون من المحرم سنة 6 هـ إلى بطن بني بكر بن كلاب، فلما أغارت عليهم هرب سائرهم، فاستاق المسلمون نعما وشاء، وقدموا   (1) صحيح البخاري 2/ 577. (2) ابن هشام 2/ 274، 275. (3) رحمة للعالمين 2/ 223 مع ما يؤخذ من المصادر الآخرى المذكورة في غزوة الأحزاب وقريظة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، كان قد خرج متنكرا لإغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب «1» ، فأخذه المسلمون، فلما جاؤوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه. ثم مرّ به مرة أخرى، فقال له مثل ذلك، فرد عليه كما رد عليه أولا، ثم أمر مرة ثالثة فقال: بعد ما دار بينهما الكلام السابق- أطلقوا ثمامة، فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم جاءه فأسلم، وقال: والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، وو الله ما كان على وجه الأرض دين أبغض عليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحبّ الأديان إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريش قالوا: صبأت يا ثمامة، قال: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت يمامة ريف مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي إليهم حمل الطعام، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . غزوة بني لحيان بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة، والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، لم يكن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأى أن الوقت قد آن لأن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، فخرج إليهم في ربيع الأول أو جمادى الأولى سنة 6 هـ في مائتين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران- واد بين أمج وعسفان، حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم- وسمعت به بنو لحيان، فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث   (1) السيرة الحلبية 2/ 297. (2) زاد المعاد 2/ 119، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 292، 293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 عشرة فوارس إلى كراع الغميم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة، وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة. متابعة البعوث والسرايا ثم تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إرسال البعوث والسرايا. وهاك صورة مصغرة منها: 1- سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر ، في ربيع الأول أو الآخر سنة 6 هـ. خرج عكاشة في أربعين رجلا إلى الغمر، ماء لبني أسد، ففر القوم، وأصاب المسلمون مائتي بعير ساقوها إلى المدينة. 2- سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة ، في ربيع الأول أو الآخر سنة 6 هـ. خرج ابن مسلمة في عشرة رجال إلى القصة في ديار بني ثعلبة فكمن القوم لهم- وهم مائة فلما ناموا قتلوهم إلا ابن مسلمة فإنه أفلت منهم جريحا. 3- سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر سنة 6 هـ وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة، فخرج ومعه أربعون رجلا إلى مصارعهم، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوا بني ثعلبة مع الصبح، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هربا في الجبال، وأصابوا رجلا واحدا فأسلم، وغنموا نعما وشاء. 4- سرية زيد بن حارثة إلى الجموم ، في ربيع الآخر سنة 6 هـ. والجموم ماء لبني سليم في مر الظهران، خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من بني سليم أصابوا فيها نعما وشاء وأسرى، فلما قفل بما أصاب، وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزينية نفسها وزوجها. 5- سرية زيد أيضا إلى العيص ، في جمادى الأولى سنة 6 هـ، في سبعين ومائة راكب، وفيها أخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفلت أبو العاص، فأتى زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم رد أموال العير عليه، ففعلت، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس برد الأموال من غير أن يكرههم، فردوا الكثير والقليل والكبير والصغير، حتى رجع أبو العاص إلى مكة، وأدى الودائع إلى أهلها، ثم أسلم وهاجر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، زينب بالنكاح الأول بعد ثلاث سنين ونيف. كما ثبت في الحديث الصحيح «1» ردها بالنكاح الأول، لأن آية تحريم المسلمات على الكفار   (1) انظر سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 لم تكن نزلت إذ ذاك، وأما ما ورد من الحديث من أنه رد عليه بنكاح جديد أو رد عليه بعد ست سنين فلا يصح معنى، كما أنه ليس بصحيح سندا «1» . والعجب ممن يتمسكون بهذا الحديث الضعيف، فإنهم يقولون: إن أبا العاص أسلم في أواخر سنة ثمان قبيل الفتح، ثم يناقضون أنفسهم، فيقولون: إن زينب ماتت في أوائل سنة ثمان. وقد بسطنا الدلائل في تعليقنا على بلوغ المرام، وجنح موسى بن عقبة أن هذا الحادث وقع في سنة 7 من قبل أبي بصير وأصحابه، ولكن ذلك لا يطابق الحديث الصحيح ولا الضعيف. 6- سرية زيد أيضا إلى الطرف أو الطرق ، في جمادي الآخرة سنة 6 هـ. خرج زيد في خمسة عشر رجلا إلى بني ثعلبة، فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا، وغاب أربع ليال. 7- سرية زيد أيضا إلى وادي القرى في رجب سنة 6 هـ. خرج زيد في اثني عشر رجلا إلى وادي القرى، لاستكشاف حركات العدو إن كانت هناك، فهجم عليهم سكان وادي القرى، فقتلوا تسعة، وأفلت ثلاثة فيهم زيد بن حارثة «2» . 8- سرية الخبط - تذكر هذه السرية في رجب سنة 8 هـ، ولكن السياق يدل على أنها كانت قبل الحديبية، قال جابر: بعثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيرا لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط، فسمي جيش الخبط، فنحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فألقى إلينا البحر دابة يقال لها: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، وأدهنا منه، حتى ثابت منه أجسامنا، وصلحت، وأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه، فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل، فحمل عليه، ومر تحته، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا له ذلك، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا؟» فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه «3» . وإنما قلنا: إن سياق هذه السرية يدل على أنه كانت قبل الحديبية؛ لأن المسلمين لم يكونوا يتعرضون لعير قريش بعد صلح الحديبية.   (1) انظر الكلام على الحديثين في تحفة الأحوذي 2/ 195/ 196. (2) رحمة للعالمين 2/ 226، وانظر لهذه السرايا المصدر المذكور، وزاد المعاد 2/ 120، 121، 122، وحواشي تلقيح فهوم أهل الأثر ص 28، 29. (3) صحيح البخاري 2/ 625، 626، صحيح مسلم 2/ 145، 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع (في شعبان سنة 6 هـ) وهذه الغزوة وإن لم تكن طويلة الذيل، عريضة الأطراف، من حيث الوجهة العسكرية، إلا أنها وقعت فيها وقائع أحدثت البلبلة والإضطراب في المجتمع الإسلامي، وتمخضت عن افتضاح المنافقين، والتشريعات التعزيرية التي أعطت المجتمع الإسلامي صورة خاصة من النبل والكرامة وطهارة النفوس. ونسرد الغزوة أولا، ثم نذكر تلك الوقائع. كانت هذه الغزوة في شعبان سنة ست من الهجرة على أصح الأقوال «1» . وسببها. أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله، فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي، لتحقيق الخبر، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر. وبعد أن تأكد لديه صلى الله عليه وسلم صحة الخبر ندب الصحابة، وأسرع في الخروج، وكان خروجه لليلتين خلتا من شعبان، وخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وقيل أبا ذر، وقيل ثميلة بن عبد الله الليثي، وكان   (1) والدليل على ذلك ما ثبت في حديث الإفك من أن القضية كانت بعد ما أنزل الحجاب، وآية الحجاب نزلت في شأن زينب، وزينب إذ ذاك كانت تحته، فإنه صلى الله عليه وسلم سألها عن عائشة فقالت: أحمي سمعي وبصري. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما ما وقع في حديث الإفك من أن سعد بن معاذ وسعد بن عبادة تنازعا في أصحاب الإفك، ومعلوم أن سعد بن معاذ مات عقب غزوة بني قريظة، فالظاهر أن هذا وهم الراوي، فقد روى ابن إسحاق حديث الإفك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة، فلم يذكر فيه سعد بن معاذ بل ذكر أسيد بن حضير، قال أبو محمد بن حزم: وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه، وذكر سعد بن معاذ وهم (وانظر زاد المعاد 2/ 115) والعجب من محمد الغزالي أنه نسب إلى ابن القيم أنه يعتبر هذه الغزوة من حوادث السنة الخامسة (فقه السيرة ص 223) مع أن كلامه في الهدى (2/ 115) يأبى عن ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الحارث بن ضرار قد وجه عينا، ليأتيه بخبر الجيش الإسلامي، فألقى المسلمون عليه القبض وقتلوه. ولما بلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله عينه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع- بالضم فالفتح مصغرا، اسم لماء من مياههم في ناحية قديد إلى الساحل- فتهيؤوا للقتال، وصفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملوا حملة رجل واحد، فكانت النصرة. وانهزم المشركون، وقتل من قتل، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذراري والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، قتله رجل من الأنصار ظنا منه أنه من العدو. كذا قال أهل المغازي والسير، قال ابن القيم: وهو وهم، فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء فسبى ذراريهم وأموالهم كما في الصحيح: أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وذكر الحديث «1» انتهى. وكان من جملة السبي جويرية بنت الحارث سيد القوم، وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها، فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . وأما الوقائع التي حدثت في هذه الغزوة، فلأجل أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد الله بن أبي وأصحابه، نرى أن نورد أولا شيئا من أفعالهم في المجتمع الإسلامي. دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق قدمنا مرارا أن عبد الله بن أبي كان يحنق على الإسلام والمسلمين، ولا سيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم حنقا شديدا. لأن الأوس والخزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته، وكانوا ينظمون له الخرز، ليتوجوه إذ دخل فيهم الإسلام، فصرفهم عن ابن أبي، فكان يرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي استلبه ملكه. وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجرة قبل أن يتظاهر بالإسلام، وبعد أن تظاهر   (1) وانظر صحيح البخاري كتاب العتق 1/ 345، وانظر أيضا فتح الباري 7/ 341. (2) زاد المعاد 2/ 112، 113، ابن هشام 2/ 289، 290، 294، 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 به. ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على حمار، ليعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبي، فحمر ابن أبي أنفه وقال: لا تغيروا علينا. ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجلس القرآن، قال: اجلس في بيتك، ولا تغشنا في مجلسنا «1» . وهذا قبل أن يتظاهر الإسلام، ولما تظاهر به بعد بدر، لم يزل إلا عدوا لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يكن يفكر إلا في تشتيت المجتمع الإسلامي، وتوهين كلمة الإسلام، وكان يوالي أعداءه، وقد تدخل في أمر بني قينقاع كما ذكرنا، وكذلك جاء في غزوة أحد من الشر والغدر والتفريق بين المسلمين، وإثارة الإرتباك والفوضى في صفوفهم بما مضى. وكان من شدة مكر هذا المنافق وخداعه بالمؤمنين، أنه كان بعد التظاهر بالإسلام، يقوم كل جمعة حين يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للخطبة، فيقول: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه، وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس، فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخطب، وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قام في يوم الجمعة التي بعد أحد- مع ما ارتكبه من الشر والغدر الشنيع- قام ليقول ما كان يقوله من قبل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا له: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره، فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد فقال: ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي «2» . وكانت له اتصالات ببني النضير يؤامر معهم ضد المسلمين، حتى قال لهم: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم. وكذلك فعل هو وأصحابه في غزوة الأحزاب من: إثارة القلق والإضطراب، وإلقاء الرعب والدهشة في قلوب المؤمنين ما قد قص الله تعالى في سورة الأحزاب وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً إلى قوله: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ، وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. بيد أن جميع أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيدا من   (1) ابن هشام 1/ 584، 587. صحيح البخاري 2/ 924، وصحيح مسلم 2/ 9. (2) ابن هشام 2/ 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 سبب غلبة الإسلام ليس هو التفوق المادي، وكثرة السلاح والجيوش والعدد، وإنما السبب هي القيم والأخلاق والمثل التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي، وكل من يمت بصلة إلى هذا الدين، وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيض إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو المثل الأعلى- إلى حد الإعجاز- لهذه القيم. كما عرفوا بعد إدارة دفة الحروب طيلة خمس سنين، أن القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن بطريق استخدام السلاح، فقرروا أن يشنوا حربا دعائية واسعة ضد هذا الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأن يجعلوا شخصية الرسول أول هدف لهذه الدعاية. ولما كان المنافقون هم الطابور الخامس في صفوف المسلمين، ولكونهم سكان المدينة، كان يمكن له الإتصال بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم كل حين. تحمل فريضة الدعاية هؤلاء المنافقون، وعلى رأسهم ابن أبيّ. وقد ظهرت خطتهم هذه جلية بعد غزوة الأحزاب، حينما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، كان من تقاليد العرب أنهم كانوا يعتبرون المتبني مثل الابن الصلبي، فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبني على الرجل الذي تبناه، فلما تزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم بزينب وجد المنافقون ثلمتين- حسب زعمهم- لإثارة المشاغب ضد النبيّ صلى الله عليه وسلم: الأولى: أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج؟. الثانية: أن زينب كانت زوجة ابنه- متبناه- فالزواج بها من أكبر الكبائر، حسب تقاليد العرب- وأكثروا من الدعاية في هذا السبيل، واختلقوا قصصا وأساطير، قالوا: إن محمدا رآها بغتة، فتأثر بحسنها فشغفه حبا، وعلقت بقلبه، وعلم بذلك ابنه زيد فخلى سبيلها لمحمد، وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة نشرا بقيت آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذا الزمان، وقد أثرت تلك الدعاية أثرا قويا في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآن بالآيات البينات، فيها شفاء لما في الصدور، وينبئ عن سعة نشر هذه الدعاية أن الله استفتح سورة الأحزاب بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الأحزاب: 1] . وهذه إشارات عابرة، وصورة مصغرة مما اقترفه المنافقون قبل غزوة بني المصطلق، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكابد كل ذلك بالصبر واللين والتلطف، وكان عامة المسلمين يحترزون عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 شرهم، أو يتحملونه بالصبر، إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخرى، حسب قوله تعالى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة: 126] . دور المنافقين في غزوة بني مصطلق ولما كانت غزوة بني المصطلق، وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ فقد وجدوا متنفسين للتنفس بالشر فأثاروا الإرتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهاك بعض التفصيل عنها. 1- قول المنافقين: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الغزو مقيما على المريسيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له جهجاه الغفاري، فازدحم هو وسنان بن وبر الجهني على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة. وبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فغضب- وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث- وقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر: مر عباد بن بشر فليقتله. فقال: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا، ولكن أذّن بالرحيل» . وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال: لقد رحت في ساعة منكرة؟ فقال له: «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟» يريد ابن أبي، فقال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله، تخرجه منها إن شئت، هو والله لذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه يرى أنك استلبته ملكا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ثم مشى بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض، فوقعوا نياما. فعل ذلك؛ ليشغل الناس عن الحديث. أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمات به، وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، فصدقه، قال زيد: فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إلى قوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا إلى لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فأرسل إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليّ، ثم قال: إن الله قد صدقك «1» . وكان ابن هذا المنافق- وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي- رجلا صالحا من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له: والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أذن له، فخلى سبيله، وكان قد قال عبد الله بن عبد الله بن أبي: يا رسول الله إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه «2» . 2- حديث الإفك وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك، وملخصها أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها، ففقدت عقدا لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها فظنوها فيه فحملوا الهودج، ولا ينكرون خفته، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها، وأيضا فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته، ولو كان الذي حمله واحدا أو اثنين لم يخف عليهما الحال، فرجعت عائشة إلى منازلهم، وقد أصابت العقد، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في   (1) انظر صحيح البخاري 1/ 499، 2/ 728، 729، وابن هشام 2/ 290، 291، 292. (2) نفس المصدر الأخير، ومختصر السيرة للشيخ عبد الله النجدي ص 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها، والله غالب على أمره، يدبر الأمر، فوق عرشه كما يشاء، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛- وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم، فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب، فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها، حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة، فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته، وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفسا، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه، ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، ثم استشار أصحابه- لما استلبث الوحي طويلا- في فراقها، فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها، ويأخذ غيرها، تلويحا لا تصريحا، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وألايلتفت إلى كلام الأعداء، فقدم على المنبر يستندر من عبد الله بن أبي، فأظهر أسيد بن حضير سيد الأوس رغبته في قلبه، فأخذت سعد بن عبادة- سيد الخزرج وهي قبيلة ابن أبي- الحمية القبلية، فجرى بينهما كلام تثاور له الحيان، فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سكتوا وسكت. أما عائشة، فلما رجعت مرضت شهرا، وهي لا تعلم عن حديث الإفك شيئا، سوى أنها كانت لا تعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نقهت خرجت مع أم مسطح إلى البراز ليلا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فدعت على ابنها، فاستنكرت ذلك عائشة منها، فأخبرتها الخبر، فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتأتي أبويها وتستيقن الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويوما، لم تكن تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، حتى ظنت أن البكاء فاتق كبدها، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فتشهد وقال: «أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه» . وحينئذ قلص دمعها، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا، فلم يدريا ما يقولان، فقالت: والله لقد علمت، لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة- والله يعلم أني بريئة- لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر- والله يعلم إني منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 بريئة- لتصدقني والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف. قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ. ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: يا عائشة، أما الله فقد برأك، فقالت لها أمها: قومي إليه.. فقالت عائشة- إدلالا ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم-: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. والذي أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ. العشر الآيات. وجلد من أهل الإفك مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، جلدوا ثمانين، ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، والذي تولى كبره، إما لأن الحدود تخفيف لأهلها، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها قتله «1» . وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك الإرتياب والقلق والإضطراب عن جو المدينة، وافتضح رأس المنافقين افتضاحا لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك، قال ابن إسحاق: وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له أنف، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري «2» .   (1) صحيح البخاري 1/ 364، 2/ 696، 697، 698، زاد المعاد 2/ 113، 114، 115، وابن هشام 2/ 297 إلى 307. (2) ابن هشام 2/ 293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 البعوث والسرايا بعد غزوة المريسيع 1- سرية عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني كلب بدومة الجندل ، في شعبان سنة 6 هـ. أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، وعممه بيده، وأوصاه بأحسن الأمور في الحرب، وقال له: إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم، فمكث عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ، وهي أم أبي سلمة، وكان أبوها رأسهم وملكهم. 2- سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك ، في شعبان سنة 6 هـ. وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بها جمعا يريدون أن يمدوا اليهود، فبعث إليهم عليا في مائتي رجل، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عينا لهم، فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر، ودل العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعن، وكان رئيسهم وبرا بن عليم. 3- سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي القرى ، في رمضان سنة 6 هـ. كان بطن فزارة يريد اغتيال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق. قال سلمة بن الأكوع: وخرجت معه، حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة، فوردنا الماء، فقتل أبو بكر من قتل، ورأيت طائفة وفيهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم، ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، فيهم امرأة هي أم قرفة عليها قشع من أديم، معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر ابنتها، فلم أكشف لها ثوبا، وقد سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أم قرفة، فبعث بها إلى مكة، وفدي بها أسرى من المسلمين هناك «1» . وكانت أم قرفة شيطانة تحاول اغتيال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجهزت ثلاثين فارسا من أهل بيتها لذلك، فلاقت جزاءها وقتل الثلاثون.   (1) رواه صحيح مسلم 2/ 89 ويقال: إن هذه السرية كانت سنة سبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 4 - سرية كرز بن جابر الفهري «1» إلى العرنيين ، في شوال سنة 6 هـ وذلك أن رهطا من عكل وعرينة أظهروا الإسلام، وأقاموا بالمدينة فاستوخموها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذود في المرعى، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل وكفروا بعد إسلامهم، فبعث في طلبهم كرزا الفهري في عشرين من الصحابة، ودعا على العرنيين: «اللهم أعم عليهم الطريق، واجعلها عليهم أضيق من مسك، فعمى الله عليهم السبيل» ، فأدركوا، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، جزاء وقصاصا بما فعلوا، ثم تركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا «2» وحديثهم في الصحيح عن أنس «3» . ويذكر أهل السير بعد ذلك سرية عمرو بن أمية الضمري مع سلمة بن أبي سلمة، في شوال سنة 6 هـ، أنه ذهب إلى مكة لاغتيال أبي سفيان، لأن أبا سفيان كان أرسل أعرابيا لاغتيال النبيّ صلى الله عليه وسلم، بيد أن المبعوثين لم ينجحا في الإغتيال، لا هذا، ولا ذاك، ويذكرون أن عمرا قتل في الطريق ثلاثة رجال، ويقولون إن عمرا أخذ جثة الشهيد خبيب في هذا السفر، والمعروف أن خبيبا استشهد بعد الرجيع بأيام أو أشهر، ووقعة الرجيع كانت في صفر سنة 4 هـ، فلا أدري هل اختلط السفران على أهل السير، أو كان الأمران في سفر واحد في السنة الرابعة، وقد أنكر العلامة المنصور فوري أن تكون هذه السرية سرية حرب أو مناوشة. والله أعلم. هذه هي السرايا والغزوات بعد الأحزاب، وبني قريظة، لم يجر في واحدة منها قتال مرير، وإنما وقعت فيما وقعت مصادمة خفيفة، فليست هذه البعوث إلا دوريات استطلاعية، أو تحركات تأديبية، لإرهاب الأعراب والأعداء الذين لم يستكينوا بعد. ويظهر بعد التأمل في الظروف أن مجرى الأيام كان قد أخذ في التطور بعد غزوة الأحزاب، وأن أعداء الإسلام كانت معنوياتهم في انهيار متواصل، ولم يكن بقي لهم أمل في نجاح كسر الدعوة الإسلامية وخضد شوكتها، إلا أن هذا التطور ظهر جليا بصلح الحديبية، فلم تكن الهدنة إلا الإعتراف بقوة الإسلام، والتسجيل على بقائها في ربوع الجزيرة العربية.   (1) هذا هو الذي كان قد أغار على سرح المدينة قبل بدر في غزوة صفوان ثم أسلم وقتل شهيدا يوم فتح مكة. (2) زاد المعاد 2/ 122. (3) صحيح البخاري 2/ 602. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وقعة الحديبية في ذي القعدة سنة 6 هـ سبب عمرة الحديبية ولما تقدم التطور في الجزيرة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئا فشيئا، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام. أري رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو بالمدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر. استنفار المسلمين واستنفر العرب ومن حوله من البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثير من الأعراب، وغسل ثيابه، وركب ناقته القصواء، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم أو نميلة الليثي، وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدة سنة 6 هـ، ومعه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح، إلا سرح المسافر، السيوف في القرب. المسلمون يتحركون إلى مكة وتحرك في اتجاه مكة، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريبا من عسفان أتاه عينه، فقال: إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. واستشار النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 «أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟» فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجيء لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فروحوا، فراحوا. محاولة قريش صد المسلمين عن البيت وكانت قريش لما سمعت بخروج النبيّ صلى الله عليه وسلم عقدت مجلسا استشاريا، قررت فيد صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن، فبعد أن أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأحابيش، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشا نازلة بذي طوى، وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكراع الغميم، في الطريق الرئيسي الذي يوصل إلى مكة. وقد حاول خالد صد المسلمين، فقام بفرسانه إزاءهم يتراءى الجيشان، ورأى خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون فقال: لقد كانوا في غرة، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ثم قرر أن يميل على المسلمين- وهم في صلاة العصر- ميلة واحدة، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف، فقاتت الفرصة خالدا. تبديل الطريق ومحاولة الإجتناب عن اللقاء الدامي وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقا وعرا بين شعاب، وسلك بهم ذات اليمين بين ظهري الخمش، في طريق على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم مارا بالتنعيم، تركه إلى اليسار، فلما رأى خالد قرة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذيرا لقريش. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» ثم قال: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد «1» قليل الماء، إنما يتبرضه «2» الناس تبرضا، فلم يلبث أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا.   (1) ثمد: حوض. (2) يتبرض: يأخذ منه القليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 بديل يتوسط بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة «1» نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل «2» ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤا ماددتهم، ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاؤا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن أبوا إلا القتال فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره» . قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فبعثت قريش مكرز بن حفص، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجل غادر، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم. رسل قريش ثم قال رجل من كنانة- اسمه الحليس بن علقمة-: دعوني آته. فقالوا: آته فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك. قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا، وجرى بينه وبين قريش كلام أحفظه. فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته فقالوا: آته، فاتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال له عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الآخرى فو الله إني لأرى وجوها، وأرى أوباشا من الناس خلقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: أمصص بظر اللات، أنحن نفر عنه،؟ قال: من ذا؟ قالوا:   (1) عيبة نصح الرجل: موضع سره. (2) استعار العوذ المطافيل للنساء مع أولادهن، والعوذ: الإبل حديثة النتاج، والمطافيل: التي معها أولادها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجزك بها لأجبتك. وجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبيّ صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه وقال: من ذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر، أو لست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء (وكان المغيرة ابن أخي عروة) . ثم إن عروة جعل يمرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلاقتهم به، فرجع إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فذلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. هو الذي كف أيديهم عنكم ولما رأى شباب قريش الطائشون، والطامحون إلى حرب، رغبة زعمائهم في الصلح، فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرروا أن يخرجوا ليلا ويتسللوا إلى معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثا تشعل نار الحرب، وفعلا قد قاموا بتنفيذ هذا القرار، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلا فهبطوا من جبل التّنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن سلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعا. ورغبة في الصلح أطلق سراحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وفي ذلك أنزل الله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24] . عثمان بن عفان سفيرا إلى قريش وحينئذ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث سفيرا يؤكد لدى قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم، فاعتذر قائلا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه، وأرسله إلى قريش، وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وادعهم إلى الإسلام. وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان. فانطلق عثمان حتى مر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك، وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به ثم أسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، وأجاره وأردفه حتى جاء مكة، وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش. فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، لكنه رفض هذا العرض، وأبى أن يطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم. إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان واحتبسته قريش عندها- ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع الراهن، ويبرموا أمرهم، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة- وطال الإحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما بلغته تلك الإشاعة: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ثم دعا أصحابه إلي البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألايفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيد نفسه وقال: «هذه عن عثمان» ، ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له: جد بن قيس. أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذا بيده، ومعقل بن يسار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] . إبرام الصلح وبنوده وعرفت قريش حراجة الموقف، فأسرعت إلى بعث سهيل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له ألايكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه عليه السلام قال: «قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» فجاء سهيل فتكلم طويلا، ثم اتفقا على قواعد الصلح وهي هذه: 1- الرسول- صلى الله عليه وسلم- يرجع من عامه، فلا يدخل مكة وإذا كان العام القابل دخلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 المسلمون فأقاموا بها ثلاثا، معهم سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تتعرض قريش لهم بأي نوع من أنواع التعرض. 2- وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض. 3- من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزآ من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدوانا على ذلك الفريق. 4- من أتى محمدا من قريش من غير إذن وليه- أي هاربا منهم- رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد- أي هاربا منه- لم يرد عليه. ثم دعا عليا ليكتب الكتاب، فأملى عليه «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: أما الرحمن فو الله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم. فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليا بذلك. ثم أملى: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك. ولكن أكتب محمد بن عبد الله فقال: إني رسول الله وإن كذبتموني، وأمر عليا أن يكتب محمد بن عبد الله، ويمحو لفظ رسول الله، فأبى علي أن يمحو هذا اللفظ، فمحاه صلى الله عليه وسلم بيده، ثم تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب كما قدمنا في أوائل المقالة، فكان دخولهم في هذا العهد، تأكيدا لذلك الحلف القديم- ودخلت بنو بكر في عهد قريش. رد أبي جندل وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد. فقال: فو الله إذا لا أقاضيك على شيء أبدا. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي. قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره، ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل أصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم» . فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية. النحر والحلق للحل عن العمرة ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال: قوموا، فانحروا، فو الله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ أخرج، ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا كان لأبي جهل، وكان في أنفه برة من فضة، ليغيظ به المشركين، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا بالمغفرة وللمقصرين مرة. وفي هذا السفر أنزل الله فدية الأذى لمن حلق رأسه بالصيام، أو الصدقة، أو النسك في شأن كعب بن عجرة. الإباء عن رد المهاجرات ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في الحديبية، فرفض طلبهم هذا، بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا البند هي: (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته علينا) «1» فلم تدخل النساء في العقد رأسا. وأنزل في ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً إلخ، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها: قد بايعتك. ثم لم يكن يردهن.   (1) صحيح البخاري 1/ 380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم. فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. تزوج بإحداهما معاوية، وبالآخرى صفوان بن أمية. ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة هذه هي هدنة الحديبية، ومن سبر أغوار بنودها مع خلفياتها لا يشك أنها فتح عظيم للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهدف استئصال شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يوما ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصى قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية، وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشا لا تقدر على مقاومتهم، ثم البند الثالث يدل لفحواه على أن قريشا نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وأنها لا تهمها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلا يهم ذلك قريشا، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل. أليس هذا فشلا ذريعا بالنسبة إلى قريش؟ وفتحا مبينا بالنسبة إلى المسلمين؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها- بالنسبة إلى المسلمين- مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناء الناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحرية الكاملة للناس في العقيدة والدين فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ. لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات، وقد حصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحا كبيرا في الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة، صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف. أما البند الثاني؛ فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها، وصدها عن سبيل الله، وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفريقين يعمل على شاكلته فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على فشل من بدأ الحرب وضعفه وانهياره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 أما البند الأول، فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، فهو أيضا فشل لقريش، وليس فيه ما يشفي قريشا سوى أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط. أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط، وهي ما في البند الرابع، ولكن تلك الخلة تافهة جدا، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلما لا يفر عن الله ورسوله، وعن مدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهرا أو باطنا، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، وهذا الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله «1» وأما من أسلم من أهل مكة- فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل- لكن أرض الله واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئا؟ وهذا الذي أشار إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا» «2» . والأخذ بمثل هذا الإحتفاظ، وإن كان مظهر الإعتزاز لقريش، لكنه في الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخورهم، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جرف هار، لا بد له من الأخذ بمثل هذا الإحتفاظ. وما سمح به النبيّ صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا دليلا على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الإعتماد، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط. حزن المسلمين ومناقشة عمر مع النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه هي حقيقة بنود هذه الهدنة، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين كابة وحزن شديد، الأولى: أنه كان قد أخبرهم أن سنأتي البيت فنطوف به، فماله يرجع ولم يطف له؟ الثانية: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الحق، والله وعد إظهار دينه، فماله قبل ضغط قريش، وأعطى الدنية في الصلح؟ كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون. وصارت مشاعر المسلمين لأجلهما جريحة، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح. ولعل أعظمهم حزنا كان عمر بن الخطاب، فقد جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلان   (1) صحيح مسلم باب صلح الحديبية 2/ 105. (2) نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم، قال: «يا ابن الخطاب إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري، ولن يضيعني أبدا» قال: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، «فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به» . ثم انطلق عمر متغيظا فأتى أبا بكر، فقال له كما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر، كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق. ثم نزلت: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً إلخ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: نعم. طابت نفسه ورجع. ثم ندم عمر على ما فرط منه ندما شديدا. قال عمر: فعملت لذلك أعمالا، ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمات به، حتى رجوت أن يكون خيرا «1» . انحلت أزمة المستضعفين ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأطمأن بها، انفلت رجل من المسلمين، ممن كان يعذب في مكة، وهو أبو بصير رجل من ثقيف حليف لقريش، فأرسلوا في طلبه رجلين وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم العهد الذي جعلت لنا، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا. فاستله الآخر، فقال: أجل. والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد. وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير وقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم،   (1) انظر لتفصيل هذه الغزوة والهدنة، فتح الباري 7/ 439 إلى 458، صحيح البخاري 1/ 378، 379، 380، 381، 2/ 598، 600، 717، صحيح مسلم 2/ 104، 105، 106، ابن هشام 2/ 308 إلى 322، زاد المعاد 2/ 122، 123، 124، 125، 126، 127، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 207 إلى 305، تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 39، 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 قال رسول الله: «ويل أمه، مسعر حرب لو كان له أحد» ، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة. فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقدموا عليه المدينة «1» . إسلام أبطال من قريش وفي أوائل سنة 7 من الهجرة بعد هذه الهدنة أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، ولما حضروا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها «2» .   (1) المصادر السابقة. (2) اختلفوا كثيرا في تعيين السنة التي أسلم فيها هؤلاء الصحابة، وعامة كتب أسماء الرجال تصرح أنها سنة ثمان، ولكن قصة إسلام عمرو بن العاص عند النجاشي معروفة، وأسلم خالد وطلحة حين رجع عمرو بن العاص من الحبشة فإنه بعد الرجوع قصد المدينة فلقياه في الطريق، وحضر الثلاثة عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وأسلموا فلهذا يقتضي أنهم أسلموا في أوائل سنة سبع. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 المرحلة الثانية طور جديد إن هدنة الحديبية كانت بداية طور جديد في حياة الإسلام، والمسلمين، فقد كانت قريش أقوى قوة وأعندها وألدها في عداء الإسلام، وبانسحابها عن ميدان الحرب إلى رحاب الأمن والسلام، انكسر أقوى جناح من أجنحة الأحزاب الثلاثة- قريش وغطفان واليهود- ولما كانت قريش ممثلة للوثنية وزعيمتها في ربوع جزيرة العرب؛ انخفضت حدة مشاعر الوثنيين، وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد كبير، ولذلك لا نرى لغطفان استفزازا كبيرا بعد هذه الهدنة، وجل ما جاء إنما جاء من قبل إغراء اليهود. أما اليهود فقد كانوا جعلوا خيبر بعد جلائهم عن يثرب وكرا للدس والتامر، كانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ، وتؤجج نار الفتنة، وتغري الأعراب الضاربة حول المدينة، وتبيت للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أو لإلحاق الخسائر الفادحة بهم، ولذلك كان أول إقدام حاسم من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهدنة هو شن الحرب الفاصلة على هذا الوكر. ولكن هذه المرحلة التي بدأت بعد الهدنة أعطت للمسلمين فرصة كبيرة، لنشر الدعوة الإسلامية وإبلاغها، وقد تضاعف نشاط المسلمين في هذا المجال، برز نشاطهم في هذا الوجه على نشاطهم العسكري. ولذلك نرى أن نقسم هذه المرحلة على قسمين: 1- النشاط في مجال الدعوة، أو مكاتبة الملوك والأمراء . 2- النشاط العسكري. وقبل أن نتابع النشاط العسكري في هذه المرحلة، نتناول موضوع مكاتبة الملوك والأمراء، إذ الدعوة الإسلامية هي المقدم طبعا، بل ذلك هو الهدف الذي عانى له المسلمون ما عانوه من المصائب والآلام، والحروب والفتن، والقلاقل والإضطراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 مكاتبة الملوك والأمراء في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك قيل له: إنهم لا يقبلون إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة، نقشه: محمد رسول الله، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر: محمد سطر، رسول سطر، والله سطر، هكذا: محمد رسول الله «1» . واختار من أصحابه رسلا لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزم العلامة المنصور فوري أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام «2» . وفيما يلي نصوص هذه الكتب، وبعض ما تمخضت عنه. 1- الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة وهذا النجاشي اسمه أصحمة بن الأبجر، كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضمري في آخر سنة ست أو في المحرم سنة سبع من الهجرة. وقد ذكر الطبري نص الكتاب، ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد المكي، فقد ورد في آخر الكتاب ذكر هؤلاء المهاجرين بهذا اللفظ «وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرا ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر» . وروى البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي وهو هذا: هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله فأسلم   (1) صحيح البخاري 2/ 872، 873. (2) رحمة للعالمين 1/ 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 تسلم، يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، فإن أبيت فإن عليك إثم النصارى من قومك. وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد الله (باريس) نص كتاب قد عثر عليه في الماضي القريب- كما أورده ابن القيم مع الاختلاف في كلمة فقط- وبذل الدكتور في تحقيق ذلك النص جهدا بليغا واستعان في ذلك كثيرا باكتشافات العصر الحديث، وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا. بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته. ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعو إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى «1» . وأكد الدكتور المحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي بعد الحديبية، أما صحة هذا النص فلا شك فيها بعد النظر في الدلائل، وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب بعد الحديبية فلا دليل عليه، والذي أورده البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك وأمراء النصارى بعد الحديبية، فإن فيه الآية الكريمة: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ إلخ كما كان دأبه في تلك الكتب، وقد ورد فيه اسم الأصحمة صريحا، وأما النص الذي أورده الدكتور حميد الله، فالأغلب عندي أنه نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته، ولعل هذا هو السبب في ترك الاسم. وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوى الشهادات الداخلية التي تؤديها نصوص هذه الكتب. والعجب من الدكتور حميد الله أنه جزم أنه النص الذي أورده البيهقي   (1) انظر رسول أكرم كي سياسي زندكي (بالأردو) ص 108، 109، 122، 123، 124، 125، وفي زاد المعاد: أسلم أنت بدل والسلام على من اتبع الهدى. انظر زاد المعاد 3/ 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 عن ابن عباس هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته مع أن اسم أصحمة وارد في هذا النص صريحا والعلم عند الله «1» . ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أخذه النجاشي، ووضعه على عينه ونزل عن سريره على الأرض، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب. وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاك نصه. بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء، والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقا، أنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت بها إلينا، وقد قربنا ابن عمك وأصحابك فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين «2» . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفرا ومن معه من مهاجري الحبشة، فأرسلهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، فقدم بهم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر «3» . توفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من الهجرة بعد تبوك، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، وصلى عليه صلاة الغائب. ولما مات وتخلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابا آخر ولا يدري هل أسلم أم لا «4» ؟ 2- الكتاب إلى المقوقس ملك مصر وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جريج بن متى «5» ، الملقب بالمقوقس ملك مصر والإسكندرية: «بسم الله الرحمن الرحيم» من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام   (1) انظر لهذه المباحث كتاب الدكتور حميد الله «رسول أكرم كي سياسي زندكي» ص 108، إلى 114 ومن 121 إلى 131. (2) زاد المعاد 3/ 61. (3) ابن هشام 2/ 359. (4) ربما يؤخذ هذا مما رواه مسلم عن أنس 2/ 99. (5) هذا على رأي العلامة المنصور فوري في كتابه رحمة للعالمين 1/ 178؛ وقال الدكتور حميد الله: «إن اسمه بنيامين» انظر: رسول أكرم كي سياسي زندكي ص 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط. يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «1» . واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بلتعة، فلما دخل حاطب على المقوقس قال له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك. فقال المقوقس: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه. فقال حاطب: ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فكل نبي أدرك قوما فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به. فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر. وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حق من عاج، وختم عليه ودفع به إلى جارية له، ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. «بسم الله الرحمن الرحيم» لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك. ولم يزد على هذا ولم يسلم، والجاريتان مارية، وسيرين، والبلغة دلدل بقيت إلى   (1) هذا النص أورده ابن القيم في زاد المعاد 3/ 61 والذي أورده الدكتور حميد الله أخذا من صورة الكتاب الذي عثر عليه في الماضي القريب يختلف بعض كلماته عن هذا النص، ففيه: «فأسلم تسلم يؤتك الله» الخ. وفيه: «إثم القبط» بدل قوله: «إثم أهل القبط» انظر: رسول أكرم كي سياسي زندكي ص 136، 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 زمن معاوية «1» ، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مارية سرية له، وهي التي ولدت له إبراهيم. وأما سيرين فأعطاها لحسان بن ثابت الأنصاري. 3- الكتاب إلى كسرى ملك فارس وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى مالك فارس: «بسم الله الرحمن الرحيم» من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك «2» . واختار لحمل هذا الكتاب عبد الله بن حذافة السهمي، فدفعه السهمي إلى عظيم البحرين، ولا ندري هل بعث عظيم البحرين رجلا من رجالاته، أم بعث عبد الله السهمي، وأيا ما كان فلما قرئ الكتاب على كسرى مزقه، وقال في غطرسة: عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مزق الله ملكه، وقد كان كما قال: فقد كتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن: ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين عندك جلدين، فليأتياني به. فاختار باذان رجلين ممن عنده، وبعثهما بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معه إلى كسرى، فلما قدما المدينة، وقابلا النبي صلى الله عليه وسلم قال أحدهما: إن شاهنشاه (ملك الملوك) كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وبعثني إليك لتنطلق معي، وقال قولا تهديديا، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاقياه غدا. وفي ذلك الوقت كانت قد قامت ثورة كبيرة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لاقت جنوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقد قام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله، وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الوحي، فلما غدوا عليه أخبرهما بذلك: فقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر، أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك. قال: نعم أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى! وينتهي إلى منتهى الخف والحافر. وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك من الأبناء،   (1) زاد المعاد 3/ 61. (2) فتح الباري 8/ 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر، وبعد قليل جاء كتاب بقتل شيرويه لأبيه، وقال له شيرويه في كتابه: انظر الرجل الذي كان كتب فيه أبي إليك، فلا تهجه حتى يأتيك أمري. وكان ذلك سببا في إسلام باذان ومن معه من أهل فارس باليمن «1» . 4- الكتاب إلى قيصر ملك الروم وروى البخاري ضمن حديث طويل نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم هرقل، وهو هذا: «بسم الله الرحمن الرحيم» من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «2» . واختار لحمل هذا الكتاب دحية بن خليفة الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري، ليدفعه إلى قيصر، وقد روى البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء «3» ، فدعاهم في مجلسه وحوله عظاماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا، فقال: ادنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه.   (1) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 147، فتح الباري 8/ 127، 128 وانظر رحمة للعالمين أيضا ج. (2) صحيح البخاري 1/ 4، 5. (3) كان قيصر جاء إذ ذاك في إيلياء- بيت المقدس- من حمص، شكرا لما من الله عليه من إلحاق الهزيمة الساحقة بالفرس (انظر صحيح مسلم 2/ 99) ، وكانت الفرس قد قتلوا كسرى أبرويز، وصالحوا الروم على استسلام جميع ما كانوا قد احتلوا من بلاد قيصر، وردوا إليه الصليب الذي تزعم النصارى أن المسيح عليه السلام كان قد صلب عليه، فكان قيصر قد جاء إلى إيلياء (بيت المقدس) سنة 629 م (أي سنة 7 هـ) يضع الصليب في موضعه، ويشكر الله على هذا الفتح المبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ثم قال: أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، قلت: لا. قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها- قال: ولم تمكنني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة- قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا. قلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، فقلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال: فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا، قال: فقلت لأصحابه حين أخرجنا، لقد أمرّ أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام «1» .   (1) صحيح البخاري 1/ 4، صحيح مسلم 2/ 97، 98، 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على قيصر، وقد كان من أثره عليه أنه أجاز دحية بن خليفة بن الكلبي، حامل كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بمال وكسوة، ولما كان دحية بحسمى في الطريق لقيه ناس من جذام، فقطعوها عليه، فلم يتركوا معه شيئا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل بيته، فأخبره، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمى، وهي وراء وادي القرى في خمسمائة رجل، فشن زيد الغارة على جذام، فقتل فيهم قتلا ذريعا، واستاق نعمهم ونساءهم، فأخذ من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف، والسبي مائة من النساء والصبيان. وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قبيلة جذام موادعة، فأسرع زيد بن رفاعة الجذامي أحد زعماء هذه القبيلة بتقديم الإحتجاج إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد أسلم هو ورجال من قومه ونصروا دحية حين قطع عليه الطريق، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وأمر برد الغنائم والسبي. وعامة أهل المغازي يذكرون هذه السرية قبل الحديبية، وهو خطأ واضح، فإن بعث الكتاب إلى قيصر كان بعد الحديبية. ولذا قال ابن القيم: هذا بعد الحديبية بلا شك «1» . 5- الكتاب إلى المنذر بن ساوي وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي حاكم البحرين كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث إليه العلاء بن الحضرمي بذلك الكتاب، فكتب المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدث إلى في ذلك أمرك، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو «2» ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي، ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب، فاقبل   (1) انظر زاد المعاد 2/ 122، وحاشية تلقيح فهوم أهل الأثر ص 29. (2) زاد المعاد 3/ 61، 62، والنص الذي أورده الدكتور حميد الله آخذا من صورة الكتاب الذي عثر عليه في الماضي القريب يختلف في كلمة واحدة، ففيه «لا إله غيره» بدل قوله: «لا إله إلا هو» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 منهم، وإنك مهما تصلح فلم نعز لك عن عملك ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية» . 6- الكتاب إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك» «1» . واختار لحمل هذا الكتاب سليط بن عمرو العامري، فلما قدم سليط على هوذة بهذا الكتاب مختوما أنزله، وحياه، وقرأ عليه الكتاب، فرد عليه ردا دون رد، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك، وأجاز سليطا بجائزة، وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه فقال: لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت، باد، وباد ما في يديه، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبى، يقتل بعدي، فقال قائل: يا رسول الله من يقتله؟ فقال: أنت وأصحابك، فكان كذلك. 7- الكتاب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن به وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك» . واختار لحمل هذا الكتاب شجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة، ولما أبلغه الكتاب قال: من ينزع ملكي مني؟ أنا سائر إليه، ولم يسلم «2» .   (1) زاد المعاد 3/ 63. (2) نفس المصدر 3/ 62، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 8- الكتاب إلى ملك عمان وكتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى ملك عمان جيفر وأخيه عبد ابني الجلندي، ونصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فإنكما أن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل، وخيل تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما» . واختار لحمل هذا الكتاب عمرو بن العاص رضي الله عنه. قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد- وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا- فقلت: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم علي بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: يا عمرو، إنك ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة. قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ووددت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام. قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبا. فسألني أين كان إسلامك؟ قلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم، قال: وكيف صنع قومه بملكه. فقلت: أقروه واتبعوه. قال: والأساقفة والرهبان اتبعوه؟ قلت: نعم. قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في الخصل أفضح له من الكذب. قلت: ما كذبت، وما نستحله في ديننا، ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي. قلت: بلى، قال: فبأي شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج له خرجا، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال: لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله فقال له النياق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا، ويدين بدين غيرك دينا محدثا؟ قال هرقل: رجل رغب في دين، فاختاره لنفسه، ما أصنع به؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع. قال: أنظر ما تقول يا عمرو؟ قلت: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصدق به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا، قلت: إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه. فأخذ الصدقة من غنيهم فيردها على فقيرهم، قال: إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل. قال: يا عمرو، وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه؟ فقلت: نعم، فقال: والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون لهذا. قال: فمكثت ببابه أياما، وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يوما فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي، فقال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختوما، ففض خاتمه، وقرأ حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت أخاه أرق منه، قال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه إما راغب في الدين، وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال، فلما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الخرجة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتبعته توطئك الخيل وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال قال: دعني يومي هذا، وارجع إلى غدا. فرجعت إلى أخيه فقال: يا عمرو، إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه. حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبى أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي، وهو لا تبلغ خيله ههنا، وإن بلغت خيله لقت قتالا ليس كقتال من لاقى. قلت: أنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه، فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إلي، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم وخليا بيني وبين الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونا على من خالفني «1» . وسياق هذه القصة تدل على أن إرسال الكتاب إليهما تأخر كثيرا عن كتب بقية الملوك، والأغلب أنه كان بعد الفتح. وبهذه الكتب كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ دعوته إلى أكثر ملوك الأرض. فمنهم من آمن به ومنهم من كفر. ولكن شغل فكره هؤلاء الكافرين، وعرف لديهم باسمه ودينه.   (1) زاد المعاد 3/ 62، 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 النشاط العسكري بعد صلح الحديبية غزوة الغابة أو غزوة ذي قرد هذه الغزوة حركة مطاردة ضد فصيلة من بني فزارة قامت بعمل القرصنة في لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، وقبل خيبر. ذكر البخاري في ترجمة باب أنها كانت قبل خيبر بثلاث، وروى ذلك مسلم مسندا من حديث سلمة بن الأكوع. وذكر الجمهور من أهل المغازي أنها كانت قبل الحديبية وما في الصحيح أصح مما ذكره أهل المغازي. وخلاصة الروايات عن سلمة بن الأكوع بطل هذه الغزوة أنه قال «1» : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع غلامه رباح، وأنا معه بفرس أبي طلحة، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على الظهر، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، فقلت: يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نمت على أكمة، واستقبلت المدينة، فناديت ثلاثا: يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز، أقول: أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع فو الله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إلي فارس جلست في أصل الشجرة، ثم رميته فتعفرت به، حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته، فجعلت أرديهم بالحجارة، فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحا يستخفون، ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة، يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. حتى أتوا متضايقا من ثنية فجلسوا يتغدون، وجلست على رأس   (1) انظر صحيح البخاري باب غزوة ذات قرد 2/ 603، وصحيح مسلم باب غزوة ذي قرد وغيرها 2/ 113، 114، 115، وفتح الباري 7/ 460، 461، 463، زاد المعاد 2/ 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 قرن، فصعد إلي منهم أربعة في الجبل، قلت: هل تعرفونني؟ أنا سلمة بن الأكوع، لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني فيدركني، فرجعوا. فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر. فإذا أولهم أخرم، وعلى أثره أبو قتادة، وعلى أثره المقداد بن الأسود، فالتقى عبد الرحمن وأخرم، فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه ولحق قتادة بعبد الرحمن فطعنه فقتله، وولى القوم مدبرين، نتبعهم، أعدو على رجلي، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذا قرد، ليشربوا منه، وهم عطاش، فأجليتهم عنه، فما ذاقوا قطرة منه، ولحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيل عشاء، فقلت: يا رسول الله إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما عندهم من السرج، وأخذت بأعناق القوم، فقال: يا ابن الأكوع. ملكت فأسجح «1» ، ثم قال: إنهم ليقرون الآن في غطفان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة. وأعطاني سهمين، سهم الراجل وسهم الفارس، وأردفني وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة. استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في هذه الغزوة ابن أم مكتوم، وعقد اللواء للمقداد بن عمرو «2» .   (1) اسجح: أي سهل واعف. (2) انظر المصدرين السابقين، وزاد المعاد 2/ 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بعد ستين أو ثمانين ميلا من المدينة في جهة الشمال، وهي الآن قرية في مناخها بعض الوخامة. سبب الغزوة ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوى أجنحة الأحزاب الثلاثة، وأمن منه أمنا باتا بعد الهدنة أراد أن يحاسب الجناحين الباقيين- اليهود وقبائل نجد- حتى يتم الأمن والسلام، ويسود الهدوء في المنطقة، ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه. ولما كانت خيبر هي وكرة الدس والتامر، ومركز الإستفزازات العسكرية ومعدن التحرشات وإثارة الحروب، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولا. أما كون خيبر بهذه الصفة، فلا ننسى أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الإتصالات بالمنافقين- الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي- وبغطفان وأعراب البادية- الجناح الثالث من الأحزاب- وكانوا هم أنفسهم يهيئون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراآتهم هذه في محن متواصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متوالية، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتامرين، مثل سلام بن أبي الحقيق، وأسير بن زارم، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك. وإنما أبطأوا في القيام بهذا الواجب، لأن قوة أكبر وأقوى وألد وأعند منهم- وهي قريش- كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين، واقترب لهم يوم الحساب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الخروج إلى خيبر قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر. قال المفسرون: إن خيبر كانت وعدا وعدها الله تعالى بقوله: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [الفتح: 20] يعني صلح الحديبية، وبالمغانم الكثيرة خيبر. عدد الجيش الإسلامي ولما كان المنافقون وضعفاء الإيمان تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم قائلا: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ، قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا، كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ، فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الفتح: 15] . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر، أعلن ألايخرج معه إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة. واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وقال ابن إسحاق: نميلة بن عبد الله الليثي، والأول أصح عند المحققين «1» . وحينئذ قدم أبو هريرة المدينة مسلما، فوافى سباع بن عرفطة في صلاة الصبح فلما فرغ من صلاته أتى سباعا فزوده، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانهم. اتصال المنافقين باليهود وقد قام المنافقون يعملون لليهود، فقد أرسل رأس المنافقين عبد الله بن أبي إلى يهود خيبر: أن محمدا قصد قصدكم وتوجه إليكم، فخذوا حذركم، ولا تخافوا منه، فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، عزّل لا سلاح معهم إلا قليل. فلما علم ذلك أهل خيبر، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم؛ لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر، ومظاهرين لهم على المسلمين. وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا على المسلمين.   (1) انظر فتح الباري 7/ 465، زاد المعاد 2/ 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الطريق إلى خيبر وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جبل عصر (بالكسر وقيل بالتحريك) ثم على الصهباء، ثم نزل على واد يقال له الرجيع، وكان بينه وبين غطفان مسيرة يوم وليلة، فتهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر، لإمداد اليهود، فلما كانوا ببعض الطرق سمعوا من خلفهم حسا ولغطا، فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر «1» . ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيش- وكان اسم أحدهما حسيل- ليدلاه على الطريق الأحسن، حتى يدخل خيبر من جهة الشمال- أي جهة الشام- فيحول بين اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشام كما يحول بينهم وبين غطفان. قال أحدهما: أنا أدلك يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأقبل حتى انتهى إلى مفرق الطرق المتعددة وقال: يا رسول الله هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى المقصد، فأمر أن يسميها له واحدا واحدا. قال: اسم واحد منها حزن فأبى النبي صلى الله عليه وسلم من سلوكه، وقال: اسم الآخر شاش، فامتنع منه أيضا وقال: اسم آخر حاطب، فامتنع منه أيضا، وقال حسيل: فما بقي إلا واحدا قال عمر: ما اسمه قال: مرحب، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم لوكه. بعض ما وقع في الطريق 1- عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال: رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ - وكان عامر رجلا شاعرا- فنزل يحدو بالقوم. يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اتقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أبينا وبالصياح عولوا علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من هذا السائق؟» قالوا: عامر بن الأكواع. قال: يرحمه الله. قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به.   (1) صحيح البخاري باب غزوة خيبر 2/ 603، صحيح مسلم باب غزوة ذي قرد وغيرها 2/ 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وكانوا يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لإنسان يخصه إلا استشهد «1» ، وقد وقع في حرب خيبر. 2- وفي الطريق أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا» «2» . 3- وبالصهباء من أدنى خيبر صلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق فأمر به فثرى، فأكل وأكل الناس، ثم قام إلى المغرب، فمضمض، ومضمض الناس. ثم صلى ولم يتوضأ «3» ، ثم صلى العشاء «4» . الجيش الإسلامي إلى أسوار خيبر بات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبا من خيبر، ولا تشعر بهم اليهود، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى قوما بليل لم يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح صلى الفجر بغلس، وركب المسلمون، فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم، ولا يشعرون، بل خرجوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش قالوا: محمد، والله محمد والخميس، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «الله أكبر، خربت خيبر، الله أكبر خربت خيبر. إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين «5» » . وكان النبي صلى الله عليه وسلم اختار لمعسكره منزلا، فأتاه حباب بن المنذر فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله، أم هو الرأي في الحرب؟ قال: «بل هو الرأي» فقال: يا رسول الله إن هذا المنزل قريب جدا من حصن نطاة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا، ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا. وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وأيضا هذا بين النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه معسكرا. قال صلى الله عليه وسلم «الرأي ما أشرت، ثم تحول إلى مكان آخر» . ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال: «قفوا: فوقف الجيش فقال: «اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن،   (1) نفس المصدر الأخير. (2) صحيح البخاري 2/ 605. (3) نفس المصدر 2/ 603. (4) مغازي الواقدي (غزوة خيبر ص 112) . (5) صحيح البخاري باب غزوة خيبر 2/ 603، 604. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فإنا لنسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا بسم الله «1» » . التهيؤ للقتال وحصون خيبر ولما كانت ليلة الدخول قال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها فقال: «أين علي بن أبي طالب، فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه «2» . قال: فأرسلوا إليه» . فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرىء، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. قال: «أنفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم «3» » . وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون: 1- حصن ناعم. 2- حصن الصعب بن معاذ. 3- حصن قلعة الزبير. 4- حصن أبي. 5- حصن النزار. والحصون الثلاثة الأولى تقع في منطقة يقال لها (النطاة) ، وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمى بالشق. أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط: 1- حصن القموص (كان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير) . 2- حصن الوطيح. 3- حصن السلالم.   (1) ابن هشام 2/ 329. (2) وكان لأجل هذه الشكوى تخلف في أول المسير، ثم لحق بالجيش. (3) صحيح البخاري باب غزوة خيبر 2/ 505، 606، ويؤخذ من بعض الروايات أن إعطاء الراية لعلي كان بعد فشل عدة محاولات لفتح حصن من حصونهم. والراجح عند المحققين هو ما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها. والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول منها، أما الشطر الثاني فحصونها الثلاثة مع كثرة المحاربين فيها سلمت دونما قتال. بدء المعركة وفتح حصن ناعم وأول حصن هاجمه المسلمون من هذه الحصون الثمانية هو حصن ناعم، وكان خط الدفاع الأولى لليهود لمكانه الإستراتيجي، وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد بالألف. خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمسلمين إلى هذا الحصن، ودعا اليهود إلى الإسلام، فرفضوا هذه الدعوة، وبرزوا إلى المسلمين ومعهم ملكهم مرحب، فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة. قال سلمة بن الأكوع: فلما أتينا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فبرز له عمي عامر فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر، وذهب عامر يسفل له، وكان سيفه قصيرا، فتناول به ساق يهودي ليضربه، فيرجع ذباب سيفه، فأصاب عين ركبته فمات منه، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «إن له لأجرين وجمع بين إصبعيه، إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله «1» » . ويبدو أن مرحبا دعا بعد ذلك إلى البراز مرة أخرى، وجعل يرتجز بقوله: قد علمت خيبر أني مرحب ... إلخ فبرز له علي بن أبي طالب. قال سلمة بن الأكوع: فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره   (1) صحيح مسلم باب غزوة خيبر 2/ 122، باب غزوة ذي قرد وغيرها 2/ 115، صحيح البخاري باب غزوة خيبر 2/ 603. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 أوفيهم بالصاع كيل السندره فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه «1» . ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن، وقال: من أنت، فقال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى. ثم خرج ياسر أخو مرحب وهو، يقول: من يبارز؟ فبرز إليه الزبير؟ فقالت صفية أمه: يا رسول الله، يقتل ابني؟ قال: «بل ابنك يقتله» . فقتله الزبير. ودار القتال المرير حول حصن ناعم، قتل فيه عدة سراة من اليهود، إنهارت لأجله مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين، ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دام أياما لاقى المسلمون فيها مقاومة شديدة، إلا أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصعب، واقتحم المسلمون حصن ناعم. فتح حصن الصعب بن معاذ وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، قام المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليه الحصار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح هذا الحصن دعوة خاصة. وروى ابن إسحاق: أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء، فقال: «اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء، وأكثرها طعاما وودكا» «2» . فغدا الناس ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه. ولما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة، ودار البراز والقتال أمام الحصن. ثم فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات.   (1) بين المصادر اختلاف كبير في الرجل الذي قتل مرحبا، وفي اليوم الذي قتل فيه، وفتح هذا الحصن. وبعض هذا الإختلاف موجود في سياق روايات الصحيحين أيضا، وهذا الترتيب أخذناه بعد ترجيح سياق رواية البخاري. (2) ابن هشام ملخصا 2/ 332 والودك: دسم اللحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق كان رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير، ونصبوا القدور على النيران، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك نهى عن لحوم الحمر الإنسية. فتح قلعة الزبير وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود من كل حصون النطاة إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس قلة، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصار، وأقام محاصرا ثلاثة أيام. فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، إن لهم شرابا وعيونا تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك. فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح قلعة أبي وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه، وفرض المسلمون عليهم الحصار، وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة، وقد قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء، وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة، واقتحم معه الجيش الإسلامي، وجرى قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من القلعة، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الأول. فتح حصن النزار كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصارى جهدهم في هذا السبيل، ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قد أخلوا منها القلاع الأربعة السابقة. وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار، وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلا للإقتحام فيه، أما اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فلم يجترئوا للخروج من الحصن، للإشتباك مع قوات المسلمين، لكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة. وعند ما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصب آلات المنجنيق، ويبدو أن المسلمين قذفوا بها القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه، ودار قتال مرير في داخل الحصن، انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الآخرى، بل فروا- من فروا- من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم. وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر الأول من خيبر، وهي ناحية النطاة والشق، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخرى، إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون، وهربوا إلى الشطر الثاني من بلدة خيبر. فتح الشطر الثاني من خيبر ولما فتح ناحية النطاة والشق، تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكتيبة والوطيح والسلالم حصن أبي الحقيق من بني النضير، وجاءهم كل فل كان انهزم من النطاة والشق، وتحصن هؤلاء أشد التحصن. واختلف أهل المغازي هل جرى هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص. بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للإستسلام «1» . أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاثة إنما أخذت بعد المفاوضة ، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال. وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال. ومهما كان فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية- الكتيبة- فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يوما، واليهود لا يخرجون من حصونهم، حتى همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح. المفاوضة وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انزل فأكلمك؟ قال: نعم فنزل، وصالح   (1) ابن هشام 2/ 331، 336، 337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض وعلى الصفراء والبيضاء- أي الذهب والفضة- والكراع والحلقة إلا ثوبا على ظهر إنسان «1» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا» فصالحوه على ذلك «2» . وبعد هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين، وبذلك تم فتح خيبر. قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد وعلى رغم هذه المعاهدة غيب ابنا أبي الحقيق مالا كثيرا، غيبا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير. قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتى رجل من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: «أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟» قال: نعم! فأمر بالخربة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبى أن يؤديه. فدفعه إلى الزبير، وقال: «عذبه حتى نستأصل ما عنده» ، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن سلمة، فضرب عنقه بمحمود بن سلمة (وكان محمود قتل تحت جدار حصن ناعم ألقي عليه الرحى، وهو يستظل بالجدار فمات) . وذكر ابن القيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابني أبي الحقيق، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة. وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، وكانت عروسا حديثة عهد بالدخول. قسمة الغنائم وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلي اليهود من خيبر، فقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا   (1) ولكن صرح في رواية أبي داود أنه عاهد على المسلمين يسمحون لليهود عند جلائهم عن خيبر أن يأخذوا من الأموال ما حملت ركابهم (انظر سنن أبي داود، باب ما جاء في حكم أرض خيبر 2/ 76) . (2) زاد المعاد 2/ 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون يقومون عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم. وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم. وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهما، وجمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر وهو ألف وثمانمائة سهم، سهم لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم، لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد. «1» ويدل على كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وما رواه عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر «2» . ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل. «3» قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعرين وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون أبو موسى وأصحابه. قال أبو موسى: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه- أنا وأخوان لي- في بضع وخمسين رجلا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفرا وأصحابه عنده، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم. «4»   (1) زاد المعاد 2/ 137، 138. (2) صحيح البخاري 2/ 609. (3) زاد المعاد 2/ 148، صحيح مسلم 2/ 96. (4) صحيح البخاري 1/ 443، وانظر أيضا فتح الباري 7/ 484، 485، 486، 487. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه وقبله، وقال: «والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر» . «1» وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري، يطلب توجيههم إليه، فأرسلهم النجاشي على مركبين، وكانوا ستة عشر رجلا، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم، وبقيتهم جاؤا إلى المدينة قبل ذلك. «2» الزواج بصفية ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها كنانة بن أبي الحقيق لغدره، ولما جمع السبي جاء دحية بن خليفة الكلبي، فقال: يا نبي الله، أعطني جارية من السبي. فقال: اذهب فخذ جارية. فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة وبني النضير، لا تصلح إلا لك، قال: ادعوه بها. فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذ جارية من السبي غيرها» ، وعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت، فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، حتى إذا كان بسد الصهباء راجعا إلى المدينة حلت، فجهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فأصبح عروسا بها، وأولم عليها بحيس من التمر والسمن والسويق، وأقام عليها ثلاثة أيام في الطريق يا بني بها. «3» ورأى بوجهها خضرة، فقال: ما هذا؟ قالت: يا رسول الله، رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه، وسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا، فقصصتها على زوجي، فلطم وجهي. فقال: تمنين هذا الملك الذي بالمدينة «4» . أمر الشاة المسمومة ولما أطمأن رسول الله بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب بنت الحارث، - امرأة سلام ابن مشكم- شاة مصلية، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي   (1) زاد المعاد 2/ 139. (2) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 128. (3) صحيح البخاري 1/ 54، 2/ 604، 606، زاد المعاد 2/ 137. (4) نفس المصدر الأخير، وابن هشام 2/ 336. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فلاك منها مضغة، فلم يسغها، ولفظها، ثم قال: «إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم. ثم دعا بها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك؟» قالت: قلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فتجاوز عنها. وكان معه بشر بن البراء بن معرور، أخذ منها أكلة، فأساغها، فمات منها. واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أولا، فلما مات بشر قتلها قصاصا «1» . قتلى الفريقين في معارك خيبر وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلا، أربعة من قريش وواحد من أشجع، وواحد من أسلم، وواحد من أهل خيبر، والباقون من الأنصار. ويقال: إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 18 رجلا. وذكر العلامة المنصور فوري 19 رجلا، ثم قال: إني وجدت بعد التفحص 23 اسما، واحد منها في الطبري فقط، وواحد عند الواقدي فقط، وواحد مات لأجل أكل الشاة المسمومة، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر. والصحيح أنه قتل في بدر «2» . أما قتلى اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلا. فدك ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، بعث محيصة بن مسعود إلى يهود فدك، ليدعوهم إلى الإسلام فأبطأوا عليه، فلما فتح الله خيبر قذف الرعب في قلوبهم، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصالحونه على النصف من فدك، بمثل ما صالح عليه أهل خيبر، فقبل ذلك منهم، فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، لأنه لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب. «3»   (1) انظر زاد المعاد 2/ 139، 140، فتح الباري 7/ 497، وأصل القصة مروية في البخاري مطولا ومختصرا، 1/ 449، 2/ 610، 860، وفي ابن هشام 2/ 337، 338. (2) رحمة للعالمين 2/ 268، 269، 270. (3) ابن هشام 2/ 337، 353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وادي القرى ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، انصرف إلى وادي القرى، وكان بها جماعة من اليهود، وانضاف إليهم جماعة من العرب. فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي وهم على تعبئة، فقتل مدعم عبدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا» . فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «شراك من نار أو شراكان من نار» . «1» ثم عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال، وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عبادة بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلا، كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى الإسلام. وكانت الصلاة تحضر هذا اليوم، فيصلي بأصحابه، ثم يعود، فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا، وغدا عليهم، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم، وفتحها عنوة، وغنمه الله أموالهم، وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، وقسم على أصحابه ما أصاب بها، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها «2» ، كما عامل أهل خيبر. تيماء ولما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فدك ووادي القرى لم يبدوا أي مقاومة ضد المسلمين، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح. فقبل ذلك منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بأموالهم «3» ، وكتب لهم بذلك كتابا، وهاك نصه: هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا، إن لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء، الليل مد، والنهار شد، وكتب خالد بن سعيد «4» .   (1) صحيح البخاري 2/ 608. (2) زاد المعاد 2/ 146، 147. (3) نفس المصدر 2/ 147. (4) ابن سعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 العود إلى المدينة ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العودة إلى المدينة، وفي مرجعه ذلك سار ليلة، ثم نام في آخر الليل ببعض الطريق، وقال لبلال: اكلأ لنا الليل فغلبت بلالا عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ أحد، حتى ضربتهم الشمس، وأول من استيقظ بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من ذلك الوادي، وتقدم، ثم صلى الفجر بالناس، وقيل: إن هذه القصة في غير هذا السفر. «1» وبعد النظر في تفصيل معارك خيبر يبدو أن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم كان في أواخر صفر أو في ربيع الأول سنة 7 هـ. سرية أبان بن سعيد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أكثر من كل قائد عسكري أن إخلاء المدينة تماما بعد انقضاء الأشهر الحرم ليس من الحزم قطعا، بينما الأعراب ضاربة حولها تطلب غرة المسلمين للقيام بالنهب والسلب وأعمال القرصنة، ولذلك أرسل سرية إلى نجد لإرهاب الأعراب، تحت قيادة أبان بن سعيد، بينما كان هو إلى خيبر، وقد رجع أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجبا عليه، فوافى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقد افتتحها. والأغلب أن هذه السرية كانت في صفر سنة 7 هـ. ورد ذكر هذه السرية في البخاري. «2» قال ابن حجر: لم أعرف حال هذه السرية. «3»   (1) ابن هشام 2/ 340، والقصة معروفة مروية في عامة كتب الحديث: وانظر زاد المعاد 2/ 147. (2) انظر صحيح البخاري باب غزوة خيبر 2/ 608، 609. (3) فتح الباري 7/ 491. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة غزوة ذات الرقاع ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسر جناحين قويين من أجنحة الأحزاب الثلاثة؛ تفرغ تماما للإلتفات إلى الجناح الثالث، أي إلى الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخرى. ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة، ولم يكونوا يقطنون الحصون والقلاع، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تماما تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر، ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب والإرهاب، وقام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخرى. ولفرض الشوكة- أو لاجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطراف المدينة- قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحملة تأديبية عرفت بغزوة ذات الرقاع. وعامة أهل المغازي يذكرون هذه الغزوة في السنة الرابعة، ولكن مساهمة أبي موسى الأشعري وأبي هريرة رضي الله عنهما في هذه الغزوة تدل على وقوعها بعد خيبر، والأغلب أنها وقعت في شهر ربيع الأول سنة 7 هـ. وملخص ما ذكره أهل السير حول هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع باجتماع أنمار أو بني ثعلبة وبني محارب من غطفان، فأسرع بالخروج إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه، واستعمل على المدينة أبا ذر أو عثمان بن عفان، وسار فتوغل في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له نخل على بعد يومين من المدينة، ولقي جمعا من غطفان فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلى بهم يومئذ صلاة الخوف. وفي البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع، لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا «1» . وفيه عن جابر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين، فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتخافني؟ قال: «لا. قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله. قال جابر: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فها هو ذا جالس» . ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الآخرى ركعتين، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع، وللقوم ركعتان «2» . وفي رواية أبي عوانة: فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ. قال: تشهد ألاإله إلا الله وأني رسول الله؟» قال الأعرابي: أعاهدك ألاأقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلى سبيله. فجاء إلى قومه، فقال جئتكم من عند خير الناس «3» . وفي رواية البخاري قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث «4» قال ابن حجر: ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة أن اسم الأعرابي دعثور، وأنه أسلم. لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين والله أعلم «5» . وفي مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من المشركين، فنذر زوجها ألايرجع حتى يهريق دما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فجاء ليلا، وقد أرصد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين ربيئة «6» للمسلمين من العدو، وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر، فضرب عبادا وهو قائم يصلي   (1) صحيح البخاري باب غزوة ذات الرقاع 2/ 592، وصحيح مسلم باب غزوة ذات الرقاع 2/ 118. (2) صحيح البخاري 1/ 407، 408، 2/ 593. (3) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 264، وانظر فتح الباري 7/ 416. (4) صحيح البخاري 2/ 593. (5) فتح الباري 7/ 428. (6) ربيئة: أي مراقب وراصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 بسهم فنزعه، ولم يبطل صلاته، حتى رشقة بثلاثة أسهم، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ صاحبه، فقال: سبحان الله، هلا نبهتني، فقال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها. «1» كان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، وإذا نظرنا إلى تفاصيل السرايا بعد هذه الغزوة، نرى أن هذه القبائل من غطفان لم تجترئ أن ترفع رأسها بعد هذه الغزوة، بل استكانت شيئا فشيئا حتى استسلمت، بل وأسلمت، حتى نرى عدة قبائل من هذه الأعراب، تقوم مع المسلمين في فتح مكة، وتغزو حنينا، وتأخذ من غنائمها، ويبعث إليها المصدقون فتعطي صدقاتها بعد الرجوع من غزوة الفتح، فبهذا تم كسر الأجنحة الثلاثة التي كانت ممثلة في الأحزاب، وساد المنطقة الأمن والسلام، واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض القبائل، بل بعد هذه الغزوة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبيرة، لأن داخل البلاد كانت الظروف قد تطورت لصالح الإسلام والمسلمين. [ سرايا النبي ص في السنة السابعة ] وبعد الرجوع من هذه الغزوة أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شوال سنة 7 هـ. وبعث في خلال ذلك عدة سرايا. وهاك بعض تفصيلها: 1- سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بقديد ، في صفر أو ربيع الأول سنة 7 هـ. كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سويد، فبعثت هذه السرية لأخذ الثأر. فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا، وساقوا النعم، وطاردهم جيش كبير من العدو، حتى إذا قرب من المسلمين نزل مطر، فجاء سيل عظيم حال بين الفريقين. ونجح المسلمون في بقية الإنسحاب. 2- سرية حسمي في جمادي الثانية سنة 7 هـ، وقد مضى ذكرها في مكاتبة الملوك. 3- سرية عمر بن الخطاب إلى تربة في شعبان سنة 7 هـ. ومعه ثلاثون رجلا، كانوا يسيرون الليل ويستخفون في النهار، وأتى الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم، فلم يلق أحدا فانصرف راجعا إلى المدينة. 4- سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بناحية فدك في شعبان سنة 7 هـ، في   (1) زاد المعاد 2/ 112، وانظر لتفصيل مباحث هذه الغزوة ابن هشام 2/ 203، إلى 209، زاد المعاد 2/ 110، 111، 112، فتح الباري 7/ 417 إلى 428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ثلاثين رجلا. خرج إليهم واستاق الشاء والنعم، ثم رجع فأدركه الطلب عند الليل، فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه، فقتلوا جميعا إلا بشير فإنه ارتث إلى فدك، فأقام عند يهود، حتى برأت جراحه، فرجع إلى المدينة. 5- سرية غالب بن عبد الله الليثي في رمضان سنة 7 هـ إلى بني عوال، وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، وقيل إلى الحرقات من جحفية في مائة وثلاثين رجلا، فهجموا عليهم جميعا، وقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء، وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد مرداس بن نهيك بعد أن قال: لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟ 6- سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر في شوال سنة 7 هـ في ثلاثين راكبا. وذلك أن أسيرا أو بشيرا بن زرام كان يجمع غطفان لغزو المسلمين، فأخرجوا أسيرا في ثلاثين من أصحابه، وأطمعوه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستعمله على خيبر، فلما كانوا بقرقرة نيار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضى إلى قتل أسير وأصحابه الثلاثين. 7- سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجبار (بالفتح، أرض لغطفان وقيل لفزارة وعذرة) في شوال سنة 7 هـ في ثلاثمائة من المسملين، للقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة. فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا، وأصاب بشير نعما كثيرة، وأسر رجلين، فقدم بهما إلى المدينة، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما. 8- سرية أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة . ذكرها ابن القيم في سرايا السنة السابعة قبل عمرة القضاء . وملخصها أن رجلا من جشم بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة، يريد أن يجمع قيسا على محاربة المسلمين. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حدرد مع رجلين فاختار أبو حدرد خطة حربية حكيمة، وهزم العدو هزيمة منكرة، واستاق الكثير من الإبل والغنم «1» .   (1) زاد المعاد 2/ 149، 150، وانظر لتفصيل هذه السرايا رحمة للعالمين 2/ 229، 230، 231، زاد المعاد 2/ 148، 149، 150، تلقيح فهوم أهل الأثر مع حواشيها ص 31 ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 322، 323، 324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 عمرة القضاء قال الحاكم: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما هلّ ذو القعدة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وألايتخلف منهم أحد شهد الحديبية، فخرجوا إلا من استشهد، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سوى النساء والصبيان. أهـ. «1» واستخلف على المدينة عويف أبا رهم الغفاري، وساق ستين بدنة، وجعل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وأحرم للعمرة من ذي الحليفة، ولبى، ولبى المسلمون معه، وخرج مستعدا بالسلاح والمقاتلة، خشية أن يقع من قريش غدر، فلما بلغ يأجج وضع الأداة كلها، الحجف، والمجان، والنبل، والرماح، وخلف عليها أوس بن خولي الأنصاري في مائتي رجل، ودخل بسلاح الراكب والسيوف في القرب «2» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدخول راكبا على ناقته القصواء، والمسلمون متوشحو السيوف، محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون. وخرج المشركون إلى جبل قعيقعان- الجبل الذي في شمال الكعبة- ليروا المسلمين، وقد قالوا فيما بينهم: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرسلوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين. ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرسلوا الأشواط كلها إلا الإبقاء، وإنما أمرهم بذلك ليري المشركين قوته «3» ، كما أمرهم بالإضطباع، أي أن يكشفوا المناكب اليمنى، ويضعوا طرفي الرداء على اليسرى. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على الحجون- وقد صف المشركون ينظرون إليه- فلم يزل يلبي حتى استلم الركن بمحجنة، ثم طاف، وطاف المسلمون، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتجز متوشحا بالسيف: خلوا بني الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير في رسوله   (1) فتح الباري 7/ 700. (2) نفس المصدر وزاد المعاد 2/ 151. (3) صحيح البخاري 1/ 218، 2/ 610، 611، صحيح مسلم 1/ 412. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 قد أنزل الرحمن في تنزيله ... في صحف تتلى على رسوله يا رب إني مؤمن بقيله ... إني رأيت الحق في قبوله بأن خير القتل في سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن نصيله ... ويذهل الخليل عن خليله «1» وفي حديث أنس فقال عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «خل عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل «2» » . ورمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا «3» . ولما فرغ من الطواف سعى بين الصفا والمروة، فلما فرغ من السعي، وقد وقف الهدي عند المروة، قال: «هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر» ، فنحر عند المروة وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون، ثم بعث ناسا إلى يأجج، فيقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقفون نسكهم ففعلوا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا، فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا عليا، فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا، فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل بسرف فأقام بها. ولما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة، تنادى، يا عم يا عم، فتناولها علي، واختصم فيها علي وجعفر وزيد، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر، لأن خالتها كانت تحته. وفي هذه العمرة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة، فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوجها إياه، فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي فبنى بها بسرف «4» . وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء، إما لأنها كانت قضاء عن عمرة الحديبية، أو لأنها وقعت حسب المقاضاة أي المصالحة التي وقعت في الحديبية، والوجه الثاني رجحه   (1) اضطربت الأشعار وترتيبها في الروايات فجمعنا بين شتيتها. (2) رواه الترمذي، أبواب الإستئذان، والأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر 2/ 107. (3) صحيح مسلم 1/ 412. (4) زاد المعاد 2/ 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 المحققون «1» وهذه العمرة تسمى بأربعة أسماء: القضاء، والقضية، والقصاص، والصلح «2» . [ سرايا النبي ص بعد عمرة القضاء ] وبعد الرجوع من عمرة القضاء بعث عدة سرايا، هاك تفصيلها: 1- سرية ابن أبي العوجاء ، في ذي الحجة سنة 7 هـ، في خمسين رجلا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سليم، ليدعوهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا، ثم قاتلوا قتالا شديدا، جرح فيه أبو العوجاء، وأسر رجلان من العدو. 2- سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك في صفر سنة 8 هـ. بعث في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعما، وقتلوا منهم قتلى. 3- سرية ذات أطلح في ربيع الأول سنة 8 هـ. كانت بنو قضاعة قد حشدت جموعا كبيرة للإغارة على المسلمين، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الأنصاري في خمسة عشر رجلا، فلقوا العدو، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، وأرشقوهم بالنبل حتى استشهدوا كلهم إلا رجل واحد، فقد ارتث من بين القتلى «3» . 4- سرية ذات عرق إلى بني هوازن في ربيع الأول سنة 8 هـ. كانت بنو هوازن قد أمدت الأعداء مرة بعد أخرى، فأرسل إليه شجاع بن وهب الأسدي في خمسة وعشرين رجلا، فاستاقوا نعما من العدو، ولم يلقوا كيدا «4» .   (1) انظر زاد المعاد 1/ 172، فتح الباري 7/ 500. (2) انظر نفس المصدر الأخير. (3) رحمة للعالمين 2/ 231. (4) نفس المصدر وتلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي ص 33 حاشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 معركة مؤتة وهذه المعركة أكبر لقاء مثخن، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصارى، وقعت في جمادى الأولى سنة 8 هـ، وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 629 م. ومؤتة (بالضم فالسكون) هي قرية بأدنى بلقاء الشام، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان. سبب المعركة وسبب هذه المعركة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني- وكان عاملا على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر- فأوثقه رباطا، ثم قدمه، فضرب عنقه. وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نقلت إليه الأخبار، فجهز إليهم جيشا قوامه ثلاثة ألف مقاتل «1» ، وهو أكبر جيش إسلامي، لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب. أمراء الجيش ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة «2» . وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة «3» . وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم: «اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر   (1) زاد المعاد 2/ 155، فتح الباري 7/ 511. (2) صحيح البخاري باب غزوة مؤتة من أرض الشام. (3) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 بالله، لا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة، ولا كبيرا فانيا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تقطعوا نخلا ولا شجرة، ولا تهدموا بناء «1» » . توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، ودعوا أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلموا عليهم، وحينئذ بكى أحد أمراء الجيش، عبد الله بن رواحة، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا [مريم: 71] فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة. لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع «2» تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقال إذا مروا على جدثي «3» ... أرشده الله من غاز، وقد رشدا ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودعهم «4» . تحرك الجيش الإسلامي، ومباغتته حالة رهيبة وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل معان، من أرض الشام، مما يلي الحجاز الشمالي، وحينئذ نقلت إليهم الإستخبارات بأن هرقل نازل بماب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف. المجلس الإستشاري بمعان لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذ الجيش العرمرم، الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة- وهل يهجم جيش صغير، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب، على   (1) نفس المصدر، ورحمة للعالمين 2/ 271. (2) الفرغ: السعة. (3) الجدث: القبر. (4) ابن هشام 2/ 273، 374، زاد المعاد 2/ 156، مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 جيش كبير عرمرم، مثل البحر الخضم، قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون، وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون، ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي، وشجع الناس، قائلا: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد، ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. وأخيرا استقر الرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة. الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو وحينئذ بعد أن قضى الجيش الإسلامي ليلتين في معان، تحركوا إلى أرض العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها: (مشارف) ، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال، فجعلوا، على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري. بداية القتال، وتناوب القواد وهناك في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل. معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب. أخذ الراية زيد بن حارث- حب رسول الله صلى الله عليه وسلم- وجعل يقاتل بضراوة بالغة، وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإسلام، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخر صريعا. وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالا منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعا إياها حتى قتل. يقال: إن روميا ضربه ضربة قطعته نصفين، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء، ولذلك سمي: بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 روى البخاري عن نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره. يعني ظهره «1» . وفي رواية أخرى قال ابن عمر: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية «2» . وفي رواية العمري عن نافع زيادة: (فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده) «3» . ولما قتل جعفر بعد القتال بمثل هذه الضراوة والبسالة أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد حتى حاد حيدة، ثم قال: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... كارهة أو لتطاوعنه إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... ما لي أراك تكرهين الجنه ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل. الراية إلى سيف من سيوف الله وحينئذ تقدم رجل من بني عجلان- اسمه ثابت بن أرقم- فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالا مريرا، فقد روى البخاري عن خالد بن الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية «4» . وفي لفظ آخر: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية «5» . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة- مخبرا بالوحي، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من   (1) صحيح البخاري، باب غزوة مؤتة من أرض الشام 2/ 611. (2) نفس المصدر 2/ 611. (3) انظر فتح الباري 7/ 512، وظاهر الحديثين التخالف في العدد، وجمع بأن الزيادة باعتبار ما وجد فيه من رمي السهام، انظر المصدر المذكور. (4) صحيح البخاري باب غزوة مؤتة من أرض الشام 2/ 611. (5) نفس المصدر 2/ 611. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ساحة القتال-: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب- وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم «1» . نهاية المعركة ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين كان مستغربا جدا أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أمام تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم، ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه. واختلفت الروايات كثيرا فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيرا. ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار، في أول يوم من القتال، وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية، تلقي الرعب في قلوب الرومان، حتى ينجح في الإنحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة، فقد كان يعرف جيدا أن الإفلات من براثنهم صعب جدا لو انكشف المسلمون، وقام الرومان بالمطاردة. [القتال التراجعي] فلما أصبح اليوم الثاني غير أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته، ساقة، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالد- بعد أن تراآى الجيشان، وتناوشا ساعة- يتأخر بالمسلمين قليلا قليلا، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظنا منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء. وهكذا انحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين، ونجح المسلمون في الإنحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة «2» .   (1) نفس المصدر 2/ 611. (2) انظر فتح الباري 7/ 513، 514، زاد المعاد 2/ 156، وتفصيل المعركة مأخوذ من هذين المصدرين والتي قبلهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قتلى الفريقين واستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلا، أما الرومان، فلم يعرف عدد قتلاهم غير أن تفصيل المعركة يدل على كثرتهم. أثر المعركة وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها لأجله، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظلف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير- ثلاثة آلاف مقاتل- مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير- مائتا ألف مقاتل- ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر، كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقا، ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سليم وأشجع وغطفان وذبيان وفزارة وغيرها. وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان، فكانت توطئة وتمهيدا لفتوح البلدان الرومانية، واحتلال المسلمين الأراضي البعيدة النائية. سرية ذات السلاسل ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقف القبائل العربية التي تقطن مشارف الشام في معركة مؤتة، من اجتماعهم إلى الرومان ضد المسلمين، شعر بمسيس الحاجة إلى القيام بحكمة بالغة توقع الفرقة بينها وبين الرومان، وتكون سببا للإئتلاف بينها وبين المسلمين، حتى لا تتحشد مثل هذه الجموع الكبيرة مرة أخرى. واختار لتنفيذ هذه الخطة عمرو بن العاص، لأن أم أبيه كانت امرأة من بلي، فبعثه إليهم في جمادى الآخرة سنة 8 هـ. على إثر معركة مؤتة ليستألفهم، ويقال: بل نقلت الإستخبارات أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا، يريدون أن يدنوا من أطراف المدينة، فبعثه إليهم، ويمكن أن يكون السببان اجتمعا معا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرسا، وأمره أن يستعين بمن مر به من بلي وعذره وبلقين، فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين وعقد له لواء، وبعث له سراة المهاجرين والأنصار- فيهم أبو بكر وعمر- وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا، فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مددا، وأنا الأمير، فأطاعه أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. وسار حتى وطىء بلاد قضاعة، فدوخها حتى أتى أقصى بلادهم، ولقي في آخر ذلك جمعا، فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا. وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقفولهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم. وذات السلاسل (بضم السين الأولى وفتحها: لغتان) بقعة وراء وادي القرى، بينها وبين المدينة عشرة أيام. وذكر ابن إسحاق أن المسلمين نزلوا على ماء بأرض جذام يقال له السلسل، فسمي ذات السلاسل «1» . سرية أبي قتادة إلى خضرة كانت هذه السرية في شعبان سنة 8 هـ. وذلك لأن بني غطفان كانوا يتحشدون في خضرة- وهي أرض محارب بنجد- فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة في خمسة عشر رجلا فقتل منهم، وسبا وغنم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة «2» .   (1) انظر ابن هشام 2/ 623، 624، 625، 626، زاد المعاد 2/ 157. (2) رحمة للعالمين 2/ 233، تلقيح فهوم أهل الأثر ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 غزوة فتح مكة قال ابن القيم: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، وأشرف به وجه الأرض ضياء وابتهاجا أه «1» . سبب الغزوة قدمنا في وقعة الحديبية أن بندا من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد- صلى الله عليه وسلم- وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزآ من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدوانا على ذلك الفريق. وحسب هذا البند دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الآخرى، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وثارات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلا، وهم على ماء يقال له: (الوتير) فأصابوا منهم رجالا، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك. فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، وإلى دار مولى لهم يقال له رافع.   (1) زاد المعاد 2/ 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال: يا رب إني ناشد محمدا ... حلفنا وحلف أبيه الأتلدا «1» قد كنتم ولدا وكنا والدا «2» ... ثمة أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر، هداك الله، نصرا أيدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله، قد تجردا ... أبيض مثل البدر، يسمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل، وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا «3» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم، ثم عرضت له سحابة من السماء فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب. ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة. أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدرا محضا ونقضا صريحا للميثاق لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلسا استشاريا، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلا لها، ليقوم بتجديد الصلح. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم. قال: «كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة» . وخرج أبو سفيان- حسب ما قررته قريش- فلقي بديل بن ورقاء بعسفان- وهو راجع   (1) الأتلد: القديم، يشير إلى الحلف الذي كان بين خزاعة وبين بني هاشم منذ عهد عبد المطلب. (2) يشير إلى أم عبد مناف- وهي حبي زوجة قصي- كانت من خزاعة. (3) يقول: قتلنا وقد أسلمنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 من المدينة إلى مكة- فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ - وظن أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمدا؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيها النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا. وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أن بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن غلام يدب بين يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائبا، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحينئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلي بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط: يا أب الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني. قال: والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة، فقم فاجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق. ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته، فو الله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 أدنى العدو، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، قد أشار علي بشيء صنعته، فو الله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمدا؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك. التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة- قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام- أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يا بنية ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم لي. وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا، وارتجز: يا رب إني ناشد محمدا ... الأبيات. فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل ثم أبو سفيان وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة. وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية رجال تحت قيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم فيما بين ذي خشب وذي المروة على ثلاثة برد من المدينة، وفي أول شهر رمضان سنة 8 هـ، ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته «1» . وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والمقداد، فقال: «انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش» ، فانطلقا تعادي بهما   (1) وهذه السرية لقيت عامر بن الأضبط، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فقتله محلم بن جثامة لشيء كان بينهما، وأخذ بعيره ومتبعه، فأنزل الله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً الآية، وجاؤوا بمحلم ليستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام بين يديه قال: اللهم لا تغفر لمحلم، وقالها ثلاثا، فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه، قال ابن إسحاق: وزعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك. انظر زاد المعاد 2/ 150، وابن هشام 2/ 626، 627، 628. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 خيلهما حتى وجد المرأة بذلك المكان، فاستنزلاها، وقالا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشا رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض. فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا، فقال: ما هذا يا حاطب؟ فقال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش، لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم «1» . وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيؤهم للزحف والقتال. الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك سنة 8 هـ غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة متجها إلى مكة، في عشرة آلاف من الصحابة رضي الله عنهم واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري. ولما كان بالجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلما مهاجرا، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك. وقال علي لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا، وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ [يوسف: 91] . فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَثْرِيبَ   (1) انظر صحيح البخاري 1/ 422، 2/ 612. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92] فأنشده أبو سفيان أبياتا منها: لعمرك إني حين أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى فأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلني ... على الله من طردته كل مطرد فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد «1» . الجيش الإسلامي ينزل بمر الظهران وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ الكديد- وهو ماء بين عسفان وقديد- فأفطر وأفطر الناس معه «2» ، ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران- وادي فاطمة- نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركب العباس- بعد نزول المسلمين بمر الظهران- بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطابة أو أحدا يخبر قريشا، ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها. وكان الله قد عمى الأخبار عن قريش، فهم على وجل وترقب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار. قال العباس: والله إني لأسير عليها- أي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا. قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة، خمشتها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حنظلة؟ فعرف صوتي، فقال: أبا الفضل؟   (1) حسن إسلام أبي سفيان هذا بعد ذلك، ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وشهد له بالجنة، وقال: أرجو أن يكون خلفا من حمزة. ولما حضرته الوفاة قال: لا تبكوا علي، فو الله ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت. زاد المعاد 2/ 162، 163. (2) صحيح البخاري 2/ 613. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 قلت: نعم. قال: ما لك؟ فداك أبي وأمي. قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه. قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان، عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر، فو الله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، قال: مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به» فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟» قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد. قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟» قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئا. فقال له العباس: ويحك أسلم، وأشهد ألاإله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق. قال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا. قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة وفي هذا الصباح- صباح يوم الأربعاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ- غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فيقول: - مثلا- سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فيقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال: ما لي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، قال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. ثم قال: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ابن أخيك اليوم عظيما. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذن. وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا. فلما حاذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: وما قال؟ فقال: كذا كذا. فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا» ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد. وقيل: بل دفعه إلى الزبير. قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال له العباس: النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأخمش الساقين، قبح من طليعة قوم. قال أبو سفيان: ويلكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنك دارك؟ قال: ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وبشوا أوباشا لهم، قالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فتجمع سفهاء قريش وأخفاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين، وكان فيهم رجل من بني بكير- حماس بن قيس- كان يعد قبل ذلك سلاحا، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم. ثم قال: إن يقبلوا اليوم فما لي علّه ... هذا سلاح كامل وآله وذو غرارين سريع السله «1» فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة. الجيش الإسلامي بذي طوى أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى حتى انتهى إلى ذي طوى- وكان يضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكره الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل- وهناك وزع جيشه وكان خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى- وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب- فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال: إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا، حتى توافوني على الصفا. وكان الزبير بن العوام على المجنبة اليسرى، وكان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها- من كداء- وأن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه. وكان أبو عبيدة على الرجالة والحسر- وهم الذين لا سلاح معهم- فأمره أن يأخذ بطن الوادي، حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجيش الإسلامي يدخل مكة وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه، وقتل من أصحابه من المسلمين كرز بن جابر الفهري وخنيس بن خالد بن ربيعة، كانا قد شذا عن الجيش، فسلكا طريقا   (1) قوله: سريع السلّه: أي سريع الاستلال والسحب وقوله: الفرارين أي الحدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 غير طريقه فقتلا جميعا، وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخندمة فناوشوهم شيئا من قتال، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلا فانهزم المشركون، وانهزم حماس بن قيس- الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين- حتى دخل بيته، فقال لامرأته: أغلقي علي بابي. فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فر صفوان وفر عكرمة واستقبلتنا بالسيوف المسلمة ... يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فلا يسمع إلا غمغمة ... لهم نهيت خلفنا وهمهمه «1» لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا. وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم. الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: 81] جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ [سبأ: 49] والأصنام تتساقط على وجوهها. وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرما يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت، فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- يستقسمان بالأزلام، فقال: «قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط. ورأى في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت» . الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب، حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف، وجعل عمودا عن يساره، وعمودا عن يمينه، وثلاثة   (1) أي أصوات وجلبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أعمدة وراءه- وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة- ثم صلى هناك، ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحّد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضادتي الباب، وهم تحته، فقال: «لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد- السوطا والعصا- ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13] » . لا تثريب عليكم اليوم ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ اذهبوا فأنتم الطلقاء. مفتاح البيت إلى أهله ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه عليّ رضي الله عنه، ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك، وفي رواية: أن الذي قال ذلك هو العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال له: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال حين دفع المفتاح إليه: خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. بلال يؤذن على الكعبة وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا ألايكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث: أما والله لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أعلم أنه حق لاتبعته، فقال أبو سفيان: أما والله لا أقول شيئا، لو تكلمات لأخبرت عني هذه الحصباء، فخرج عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «قد علمت الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم» فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك. صلاة الفتح أو صلاة الشكر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها، وكان ضحى، فظنها من ظنها صلاة الضحى وإنما هذه صلاة الفتح، وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لها ذلك. إهدار دماء رجال من أكابر المجرمين وأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن خطل، كانتا تغنيان بهجو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهي التي وجد معها كتاب حاطب. فأما ابن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشفع فيه فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه، رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة. وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فتبعته فرجع معها وأسلم، وحسن إسلامه. وأما ابن خطل فكان متعلقا بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال: «اقتله» فقتله. وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين. وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقتله علي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار يوم مكة، ثم أسلم وحسن إسلامه. وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للآخرى، فأسلمت، كما استؤمن لسارة وأسلمت. قال ابن حجر: وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي، فقتله علي، وذكر الحاكم أيضا ممن أهدر دمه كعب بن زهير، وقصته مشهورة وقد جاء بعد ذلك، وقد أسلمت، وأرنب مولاة ابن خطل أيضا قتلت، وأم سعد، قتلت فيما ذكر ابن إسحاق، فكملت العدة ثمانية رجال وست نسوة، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد القينتان، اختلف في اسمهما، أو باعتبار الكنية واللقب «1» . إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير لم يكن صفوان ممن أهدر دمه، لكنه بصفته زعيما كبيرا من زعماء قريش خاف على نفسه وفر، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر من جدة إلى اليمن فرده، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلني بالخيار شهرين. قال: أنت بالخيار أربعة أشهر. ثم أسلم صفوان، وقد كانت امرأته أسلمت قبله، فأقرهما على النكاح الأول. وكان فضالة رجلا جريئا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الطواف، ليقتله فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بما في نفسه فأسلم. خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من الفتح ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات الأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب.   (1) فتح الباري 8/ 11، 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وفي رواية: لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط ساقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال: إلا الإذخر. وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد: يا معشر خزاعة، ارفعو أيديكم عن القتل فلقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله. وفي رواية: فقام رجل من أهل اليمن يقال له: (أبو شاة) فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتبوا لأبي شاه» «1» . تخوف الأنصار من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ولما تم فتح مكة على الرسول صلى الله عليه وسلم- وهي بلده ووطنه ومولده- قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها- وهو يدعو على الصفا رافعا يديه- فلما فرغ من دعائه قال: «ماذا قلتم؟» قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم» . أخذ البيعة وحين فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين تبين لأهل مكة الحق، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له، واجتمعوا للبيعة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يبايع الناس، وعمر بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس، فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا. وفي المدارك «2» : روى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره، ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبايعكن على ألاتشركن بالله شيئا، فبايع عمر النساء على ألايشركن   (1) انظر لهذه الروايات صحيح البخاري 1/ 22، 216، 247، 328، 329، 2- 2/ 615، 617، وصحيح مسلم 1/ 437، 438، 439، وابن هشام 2/ 415، 416، وأبو داود 1/ 276. (2) انظر مدارك التنزيل للنسفي تفسير آية البيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 بالله شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تسرقن. فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من ماله هنات؟ فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال: وإنك لهند؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبيّ الله، عفا الله عنك. فقال: ولا يزنين. فقالت: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا يقتلن أولادهن. فقالت: ربيناهم صغارا، وقتلتموهم كبارا، فأنتم وهم أعلم- وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر- فضحك عمر حتى استلقى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ولا يأتين ببهتان. فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: ولا يعصينك في معروف. فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك. ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور. إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة، وعمله فيها وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما، يجدد معالم الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الأيام أمر أبا أسيد الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره. السرايا والبعوث 1- ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بعث خالد بن الوليد إلى العزى ، لخمس ليال بقين من شهر رمضان (سنة 8 هـ) ليهدمها، وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانة، وهي أعظم أصنامهم، وكان سدنتها بني شيبان، فخرج إليها خالد في ثلاثين فارسا حتى انتهى إليها، فهدمها، ولما رجع سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل رأيت شيئا؟» قال: لا قال: فإنك لم تهدمها» ، فارجع إليها فاهدمها، فرجع خالد متغيظا قد جرد سيفه، فخرجت إليه إمرأة عريانة سوداء ناشزة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: نعم، تلك العزى، وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 2- ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه، وهو صنم لهذيل برهاط، وعلى ثلاثة أميال من مكة، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن: ما تريد؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قال: لم؟ قال: تمنع. قال: حتى الآن أنت على الباطل؟ ويحك، فهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيه شيئا، ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله. 3- وفي نفس الشهر بعث سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسا إلى مناة ، وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليها قال له سادتها: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل إليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصاتك، فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا في خزانته شيئا. 4- ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان من نفس السنة (8 هـ) إلى بني جذيمة ، داعيا إلى الإسلام، لا مقاتلا. فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم، فانتهى إليهم، فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: «صبأنا صبأنا» فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم، ودفع إلى كل رجل ممن كان معه أسيرا، فأمر يوما أن يقتل كل رجل أسيره، فأبى ابن عمر وأصحابه حتى قدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكروا له، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» - مرتين- «1» . وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والأنصار، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم، وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك، فبلغ صلى الله عليه وسلم فقال: «مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فو الله لو كان أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته «2» » .   (1) صحيح البخاري 1/ 450، 2/ 622. (2) أخذنا تفاصيل هذه الغزوة من ابن هشام 2/ 389 إلى 437، وصحيح البخاري 1/ كتاب الجهاد وكتاب المناسك و 2/ 612، إلى 615، 622، فتح الباري 8/ 3 إلى 27، وصحيح مسلم 1/ 437، 438، 439، 2/ 102، 103، 130، وزاد المعاد 2/ 160 إلى 168، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 322 إلى 351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 تلك هي غزوة فتح مكة، وهي المعركة الفاصلة والفتح الأعظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باتا، لم يترك لبقائها مجالا ولا مبررا في ربوع الجزيرة العربية، فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراك والإصطدام الذي كان دائرا بين المسلمين والوثنيين، وكانت تلك القبائل تعرف جيدا أن الحرم لا يسيطر عليه إلا من كان على الحق، وكان قد تأكد لديهم هذا الإعتقاد الجازم أي تأكد قبل نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيت، فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول. وكان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به وكلم بعضهم بعضا، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام، حتى إن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على ثلاثة آلاف إذا هو يزخر في هذه الغزوة في عشر آلاف. وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعين الناس، وأزالت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها وبين الإسلام. وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي والديني كليهما معا في طول جزيرة العرب وعرضها، فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية. فالطور الذي كان قد بدأ بعد هدنة الحديبية لصالح المسلمين قد تم، وكمل بهذا الفتح المبين، وبدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تماما، وكان لهم فيه السيطرة على الموقف تماما. ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيعتنقوا الإسلام، ويحملوا دعوته إلى العالم، وقد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 المرحلة الثالثة وهي آخر مرحلة من مراحل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، تمثل النتائج التي أثمرتها دعوته الإسلامية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلاقل وفتن واضطرابات ومعارك وحروب دامية، واجهتها طيلة بضعة وعشرين عاما. وكان فتح مكة هو أخطر كسب حصل عليه المسلمون في هذه الأعوام، تغير لأجله مجرى الأيام، وتحول به جو العرب، فقد كان الفتح حدا فاصلا بين المدة السابقة عليه وبين ما بعده، فإن قريشا كانت في نظر العرب حماة الدين وأنصاره، والعرب في ذلك تبع لهم، فخضوع قريش يعتبر القضاء الأخير على الدين الوثني في جزيرة العرب. ويمكن أن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين. 1- صفحة المجاهدة والقتال. 2- صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام. وهاتان الصفحتان متلاصقتان تناوبتا في هذه المرحلة، ووقعت كل واحدة منهما خلال الآخرى، إلا أنا اخترنا في الترتيب الوضعي، أن نأتي على ذكر كل من الصفحتين متميزة عن الآخرى، ونظرا إلى أن صفحة القتال ألصق بما مضى، وأكثر مناسبة من الآخرى قدمناها في الترتيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 [1- صفحة المجاهدة والقتال.] غزوة حنين إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة شد لها العرب، وبوغتت القبائل المجاورة بالأمر الواقع، الذي لم يكن يمكن لها أن تدفعه، ولذلك لم تمتنع عن الإستسلام إلا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة، وفي مقدمتها بطون هوازن وثقيف، واجتمعت إليها نصر وجشم وسعد بن بكر وناس من بني هلال- وكلها من قيس عيلان- رأت هذه البطون من نفسها عزا وأنفه أن تقابل هذا الإنتصار بالخضوع، فاجتمعت إلى مالك بن عوف النصري، وقررت المسير إلى حرب المسلمين. مسير العدو ونزوله بأوطاس ولما أجمع القائد العام- مالك بن عوف- المسير إلى حرب المسلمين ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فسار حتى نزل بأوطاس- وهو واد في دار هوازن بالقرب من حنين، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين، وحنين واد إلى جنب ذي المجاز، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات «1» . مجرب الحروب يغلط رأي القائد ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمة- وهو شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب، وكان شجاعا مجربا- قال دريد: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصبي وثغاء الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم، فدعا مالكا وسأله عما حمله على ذلك، فقال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيئا؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم سأل عن بعض البطون والرؤساء. ثم قال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم بيضة   (1) انظر فتح الباري 8/ 27، 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم ألق الصباة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. ولكن مالكا- القائد العام- رفض هذا الطلب قائلا: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعني هوازن أو لأتكأن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني. يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع أقود وطفاء الدمع ... كأنها شاة صدع سلاح استكشاف العدو وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للإستكشاف عن المسلمين، جاءت هذه العيون وقد تفرقت أوصالهم. قال: ويلكم، ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى. سلاح استكشاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقلت الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسير العدو، فبعث أبا حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، ففعل. الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر مكة إلى حنين وفي يوم السبت- السادس من شهر شوال سنة 8 هـ- غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة- وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله في مكة- خرج في اثني عشر ألفا من المسلمين، عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة، وألفان من أهل مكة، وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام، واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد. ولما كان عشية جاء فارس، فقال: إني طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله» ، وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مرثد الغنوي «1» .   (1) انظر سنن أبي داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وفي طريقهم إلى حنين رأوا سدرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط، كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها ويعكفون، فقال بعض أهل الجيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال: «الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم «1» » . وقد كان بعضهم قال نظرا إلى كثرة الجيش: لن نغلب اليوم، وكان قد شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجيش الإسلامي يباغت الرماة والمهاجمين انتهى الجيش الإسلامي إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوال، وكان مالك ابن عوف قد سبقهم، فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي، وفرق كمناءه في الطرق والمداخل، والشعاب والأخباء والمضايق، وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول؟؟؟ طلعوا، ثم يشدوا شدة رجل واحد. وبالسحر عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، وعقد الألوية والرايات وفرقها على الناس،؟؟؟ عماية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين، وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بو؟؟؟ كمناء العدو في مضايق هذا الوادي، فبينما هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد، فانشمر المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانت هزيمة منكرة، حتى قال أبو سفيان بن حرب، وهو حديث عهد بالإسلام: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر- الأحمر- وصرخ جبلة أو كلدة ابن الجنيد: ألا بطل السحر اليوم. وإنحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم جهة اليمين وهو يقول: هلموا إليّ أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين وأهل بيته. وحينئذ ظهرت شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نظير لها. فقد طفق يركز بغلته قبل الكفار وهو يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب   (1) روى ذلك الترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجام بغلته، والعباس بركابه، يكفانها، أن لا تسرع. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنصر ربه قائلا: اللهم أنزل نصرك. رجوع المسلمين واحتدام المعركة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس- وكان جهير الصوت- أن ينادي الصحابة قال العباس: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فو الله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك «1» . ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا. وصرفت الدعوة إلى الأنصار، يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الآخرى كما كانوا تركوا الموقعة. وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال: «الآن حمي الوطيس» . ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب الأرض، فرمى بها في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة، فلم يزل حدهم كليلا وأمرهم مدبرا. إنكسار حدة العدو، وهزيمته الساحقة وما هي إلا ساعات قلائل- بعد رمي القبضة- حتى انهزم العدو هزيمة منكرة، وقتل من ثقيف وحدهم نحو السبعين، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاح وظعن. وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ [التوبة: 25، 26] . حركة المطاردة ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نخلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامر الأشعري،   (1) صحيح مسلم 2/ 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فتناوش الفريقان القتال قليلا، ثم انهزم جيش المشركين، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري. وطاردت طائفة أخرى من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة، فأدركت دريد بن الصمة فقتله ربيعة بن رفيع. وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف؛ فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن جمع الغنائم . الغنائم وكانت الغنائم: السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمعها، ثم حبسها بالجعرانة، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف . وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية، أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فلما جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت له نفسها فعرفها بعلامة فأكرمها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ثم منّ عليها، وردّها إلى قومها. غزوة الطائف وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، وذلك أن معظم فلول هوازن وثقيف دخلوا الطائف مع القائد العام- مالك بن عوف النصري- وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين وجمع الغنائم في الجعرانة في نفس الشهر- شوال سنة 8 هـ. وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على النخلة اليمانية، ثم على قرن المنازل، ثم على لية، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه، ثم واصل سيره حتى انتهى إلى الطائف فنزل قريبا من حصنه، وعسكر هناك، وفرض الحصار على أهل الحصن. ودام الحصار مدة غير قليلة، ففي رواية أنس عند مسلم أن مدة حصارهم كانت أربعين يوما، وعند أهل السير خلاف في ذلك، فقيل: عشرين يوما، وقيل: بضعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر «1» .   (1) فتح الباري 8/ 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ووقعت في هذه المدة مراماة ومقاذفات فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رميا شديدا كأنه رجل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا، واضطروا إلى الإرتفاع عن معسكرهم إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك. ونصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، حتى وقعت شدخة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة «1» ، ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالا. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم- كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الإستسلام- أمر بقطع الأعناب وتحريقها. فقطعها المسلمون قطعا ذريعا، فسألته ثقيف أن يدعها لله والرحم، فتركها لله والرحم. ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون «2» رجلا فيهم أبو بكرة- تسور حصن الطائف وتدلى منه ببكرة مستديرة يستقي عليها، فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبا بكرة» - فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة. ولما طال الحصار، واستعصى الحصن، وأصيب المسلمون بما أصيبوا من رشق النبال وبسكك الحديد المحماة- وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة- استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلي فقال: هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، وحينئذ عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس: إنا قافلون غدا إن شاء الله فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغدوا على القتال، فغدوا فأصابهم جراح، فقال: إنا قافلون غدا إن شاء الله، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. ولما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا: «آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون» .   (1) لم تكن الدبابة كدبابتنا اليوم، وإنما كانت تصنع من الخشب، كان الناس يدخلون في جوفها ثم يدفعونها في أصل الحصن لينقبوه وهم في جوفها، أو ليدخلوا من النقبات. (2) صحيح البخاري 2/ 620. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وقيل: يا رسول الله ادع على ثقيف، فقال: «اللهم اهد ثقيفا وآت به» . قسمة الغنائم بالجعرانة ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف، مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأنى بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين، فيحرزوا ما فقدوا، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال، ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي وحظي بالأنصبة الجزلة. وأعطي أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل، فقال: ابني يزيد؟ فأعطاه مثلها، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه مثلها، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه إياها. وأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل ثم مائة ثم مائة- كذا في الشفاء «1» ، وأعطى الحارث بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل، وكذلك أعطى من رؤساء قريش وغيرها مائة مائة من الإبل، وأعطى آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين حتى شاع في الناس أن محمدا يعطي عطاء ما يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال: «أيها الناس ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا» . ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه، ثم رفعها، فقال: «أيها الناس، والله مالي من فيئكم، ولا هذه الوبرة إلى الخمس، والخمس مردود عليكم» . وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم فرضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارسا أخذ اثني عشر بعيرا ومائة شاة. كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة، فإن في الدنيا أقواما كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم، لا من عقولهم، فكما تهدي الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظل تمد إليها حتى تدخل حظيرتها آمنة، فكذلك هذه الأصناف من البشر تحتاج إلى فنون من الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهش له «2» .   (1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 1/ 86. (2) كلمة لمحمد الغزالي في فقه السيرة ص 298، 299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الأنصار تجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه السياسة لم تفهم أول الأمر، فأطلقت ألسنة شتى بالإعتراض، وكان الأنصار ممن وقعت عليهم مغارم هذه السياسة، لقد حرموا جميعا أعطية حنين، وهم الذين نودوا وقت الشدة فطاروا يقاتلون مع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تبدل الفرار انتصارا، وها هم أولاء يرون أيدي الفارين ملأى، وأما هم فلم يمنحوا شيئا قط «1» . روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي: قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة» فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟» قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: آتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فاويناك، وعائلا فاسيناك» . «أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من   (1) كلمة لمحمد الغزالي في فقه السيرة ص 298، 299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» . فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا «1» . قدوم وفد هوازن وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلما، وهم أربعة عشر رجلا، ورأسهم زهير ابن صرد، وفيهم أبو برقان عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فسألوه أن يمن عليهم بالسبي والأموال، وأدلوا إليه بكلام ترق له القلوب، فقال: «إن معي من ترون، وإن أحب الحديث إلي أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقال: إذا صليت الغداة- أي صلاة الظهر- فقوموا فقولوا: «إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا سبينا» فلما صلى الغداة قاموا فقالوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس» فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأقرع بن حابس، أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا. وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. فقال بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال العباس بن مرداس: وهنتموني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هؤلاء القوم قد جاؤا مسلمين، وقد كنت استأنيت سبيهم، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا. فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا» فقال الناس: قد طيبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض. فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت في يديه منهم، ثم ردها بعد ذلك، وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم السبي قبطية قبطية.   (1) ابن هشام 2/ 449، 500، وروى مثل ذلك البخاري 2/ 620، 621. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 العمرة والإنصراف إلى المدينة ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قسمة الغنائم في الجعرانة أهلّ معتمرا منها، فأدى العمرة، وانصرف بعد ذلك راجعا إلى المدينة بعد أن ولي على مكة عتاب بن أسيد، وكان رجوعه إلى المدينة لست ليال بقيت من ذي القعدة سنة 8 هـ. قال محمد الغزالي: لله ما أفسح المدى الذي بين هذه الآونة الظافرة بعد أن توج الله هامته بالفتح المبين، وبين مقدمة إلى هذا البلد النبيل منذ ثمانية أعوام؟ لقد جاءه مطاردا يبغي الأمان، غريبا مستوحشا ينشد الإيلاف والإيناس، فأكرم أهله مثواه، وآووه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، واستخفوا بعداوة الناس جميعا من أجله، وها هو ذا بعد ثمانية أعوام يدخل المدينة التي استقبلته مهاجرا خائفا، لتستقبله مرة أخرى وقد دانت له مكة، وألقت تحت قدميه كبرياءها وجاهليتها فأنهضها، ليعزها بالإسلام، وعفا عن خطيئاتها الأولى إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90] «1» .   (1) فقه السيرة ص 303، وانظر لتفصيل هذه الغزوات- فتح مكة وحنين والطائف، وما وقع خلالها- زاد المعاد ج 2 ص 160 إلى 201، وابن هشام ج 2 من ص 389 إلى 501، وصحيح البخاري أبواب غزوة الفتح وحنين وأوطاس والطائف وغيرها ج 2 من ص 612، إلى 622، وفتح الباري ج 8 من ص 3 إلى 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 البعوث و السرايا بعد الرجوع من غزوة الفتح وبعد الرجوع من هذا السفر الطويل الناجح أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يستقبل الوفود، ويبعث العمال، ويبث الدعاة، ويكبت من بقي فيه الإستكبار عن الدخول في دين الله، والإستسلام للأمر الواقع الذي شاهدته العرب. وهاك صورة مصغرة من ذلك: المصدقون قد عرفنا مما تقدم أن رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان في أواخر أيام السنة الثامنة فما هو إلا أن استهل هلال المحرم من سنة 9 هـ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المصدقين إلى القبائل. وهذه هي قائمتهم: 1- عيينة بن حصن إلى بني تميم. 2- يزيد بن الحصين إلى أسلم وغفار. 3- عباد بن بشير الأشهلي إلى سليم ومزينة. 4- رافع بن مكيث إلى جهينة. 5- عمرو بن العاص إلى بني فزارة. 6- الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب. 7- بشير بن سفيان إلى بني كلاب. 8- ابن اللتبية الأزدي إلى بني ذبيان. 9- المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء. (وخرج عليه الأسود العنسي وهو بها) . 10- زياد بن لبيد إلى حضر موت. 11- عدي بن حاتم إلى طيء وبني أسد. 12- مالك بن نويرة إلى بني حنظلة. 13- الزبرقان بن بدر إلى بني سعد. (إلى قسم منهم) . 14- قيس بن عاصم إلى بني سعد (إلى قسم آخر منهم) . 15- العلاء بن الحضرمي إلى البحرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 16- علي بن أبي طالب إلى نجران (لجمع الصدقة والجزية كليهما) . وليس هؤلاء العمال كلهم بعثوا في المحرم سنة 9 هـ، بل تأخر بعث عدة منهم إلى اعتناق الإسلام من تلك القبائل التي بعثوا إليها. نعم كانت بداية بعث العمال بهذا الإهتمام البالغ في المحرم سنة 9 هـ. وهذا يدل على مدى نجاح الدعوة الإسلامية بعد هدنة الحديبية، وأما بعد فتح مكة فقد دخل الناس في دين الله أفواجا. السرايا وكما بعث المصدقون إلى القبائل، مست الحاجة إلى بعث عدة من السرايا، مع سيادة الأمن على عامة مناطق الجزيرة. وهاك لوحة تلك السرايا: 1- سرية عيينة بن حصن الفزاري - في المحرم سنة 9 هـ- إلى بني تميم، في خمسين فارسا، لم يكن فيهم مهاجري ولا أنصاري، وسببها أن بني تميم كانوا قد أغروا القبائل، ومنعوهم عن أداء الجزية. وخرج عيينة بن حصن يسير الليل ويكمن النهار، حتى هجم عليهم في الصحراء، فولى القوم مدبرين، وأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبيا، وساقهم إلى المدينة، فأنزلوا في دار رملة بنت الحارث. وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم، فجاؤا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم، فنادوا: يا محمد اخرج إلينا، فخرج فتعلقوا به، وجعلوا يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى حتى صلى الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، فأظهروا رغبتهم في المفاخرة والمباهاة، وقدموا خطيبهم عطارد ابن حاجب فتكلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس- خطيب الإسلام- فأجابهم، ثم قدموا شاعرهم الزبرقان بن بدر فأنشد مفاخرا، فأجابه شاعر الإسلام حسان بن ثابت على البديهة. ولما فرغ الخطيبان والشاعران قال الأقرع بن حابس: خطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا، وأقوالهم أعلى من أقوالنا، ثم أسلموا فأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحسن جوائزهم، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم «1» .   (1) هكذا ذكره أهل المغازي إن هذه السرية كانت في المحرم سنة 9 هـ. وفيه نظر ظاهر، فإن السياق يشعر بأن الأقرع بن حابس لم يكن قبلها، وقد ذكروا أن الأقرع بن حابس هو الذي قال حين استرد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني هوازن: أما أنا وبنو تميم فلا. وهذا يقتضي إسلامه قبل هذه السرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 2- سرية قطبة بن عامر إلى حي من خثعم بناحية تبالة، بالقرب من تربة، في صفر سنة 9 هـ. خرج قطبة في عشرين رجلا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فشن الغارة، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعا، وقتل قطبة مع من قتل، وساق المسلمون النعم والنساء والشاء إلى المدينة. 3- سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب في ربيع الأول سنة 9 هـ. بعثت هذه السرية إلى بني كلاب؛ لدعوتهم إلى الإسلام، فأبوا وقاتلوا، فهزمهم المسلمون وقتلوا منهم رجلا. 4- سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى سواحل جدة في شهر ربيع الآخر سنة 9 هـ في ثلاثمائة. بعثهم إلى رجال من الحبشة كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جدة للقيام بأعمال القرصنة ضد أهل مكة. فخاض علقمة البحر حتى انتهى إلى جزيرة. فلما سمعوا بمسير المسلمين إليهم هربوا «1» . 5- سرية علي بن أبي طالب إلى صنم لطيء. يقال له القلس - ليهدمه- في شهر ربيع الأول سنة 9 هـ. بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة على مائة بعير وخمسين فرسا، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنوا الغارة على محلة حاتم مع الفجر، فهدموه وملأوا أيديهم من السبي والنعم والشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، ووجد المسلمون في خزانة القلس ثلاثة أسياف وثلاثة أدرع، وفي الطريق قسموا الغنائم، وعزلوا الصفي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يقسموا آل حاتم. ولما جاؤا إلى المدينة استعطفت أخت عدي بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: يا رسول الله، غاب الوافد وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة، مابي من خدمة، فمنّ عليّ، منّ الله عليك. قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: «الذي فر من الله ورسوله؟» ثم مضى، فلما كان الغد قالت مثل ذلك، وقال لها مثل ما قال أمس. فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك، فمنّ عليها، وكان إلى جنبه رجل- ترى أنه علي- فقال لها: سليه الحملان. فسألته، فأمر لها به. ورجعت أخت عدي بن حاتم إلى أخيها عدي بالشام، فلما لقيته قالت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغبا أو راهبا فجاءه عدي بغير أمان   (1) فتح الباري 8/ 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ولا كتاب، فأتى به إلى داره، فلما جلس بين يديه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما يفرك؟ أيفرك أن تقول: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله سوى الله؟ قال: لا. ثم تكلم ساعة ثم قال: إنما تفر أن يقال: الله أكبر فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ قال: لا. قال: فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضالون. قال: فإني حنيف مسلم. فانبسط وجهه فرحا، وأمر به فنزل عند رجل من الأنصار، وجعل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم طرفي النهار «1» . وفي رواية ابن إسحاق عن عدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلسه بين يديه في داره قال له: «إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن ركوسيا؟» قال: قلت: بلى. قال: «أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟» قال: قلت: بلى. قال: «فإن ذلك لم يحل لك في دينك» . قال: قلت أجل والله. قال: وعرفت أنه نبي مرسل، يعرف ما يجهل «2» . وفي رواية لأحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عدي أسلم تسلم» . فقلت إني من أهل دين. قال: «أنا أعلم بدينك منك» . فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: «نعم، ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟» فقلت: بلى قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك. قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها «3» . وروى البخاري عن عدي قال: «بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدا إلا الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة ويطلب من يقبله، فلا يجد أحدا يقبله منه- الحديث-» وفي آخره: قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. «يخرج ملء كفه» «4» .   (1) زاد المعاد 2/ 205. (2) ابن هشام 2/ 581. (3) مسند الإمام أحمد. (4) صحيح البخاري انظر مشكاة المصابيح 2/ 524. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 غزوة تبوك في رجب سنة 9 هـ إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بين الحق والباطل: لم يبق بعدها مجال للريبة والظن في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عند العرب، ولذلك انقلب المجرى تماما، ودخل الناس في دين الله أفواجا- كما سيظهر ذلك مما تقدمه في فصل الوفود، ومن العدد الذي حضر في حجة الوداع- وانتهت المتاعب الداخلية واستراح المسلمون، لتعليم شرائع الله، وبث دعوة الإسلام. سبب الغزوة إلا أنها كانت هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر، وهي قوة الرومان- أكبر قوة عسكرية ظهرت على وجه الأرض في ذلك الزمان- وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم- الحارث بن عمير الأزدي- على يدي شرحبيل بن عمرو الغساني، حينما كان السفير يحمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظيم بصرى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداما عنيفا في مؤتة، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم وبعيدهم. ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر، ومواطأتهم للمسلمين، إن هذا كان خطرا يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاوز العرب، فكان يرى أنه يجب القضاء على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان. ونظرا إلى هذه المصالح لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة، حتى أخذ يهيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 الجيش من الرومان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة. الأخبار العامة عن استعداد الرومان وغسان وكانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين، لا يسمعون صوتا غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان، ويظهر ذلك جليا مما وقع لعمر بن الخطاب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا في هذه السنة (9 هـ) وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له، ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته فظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقهن، فسرى فيهم الهم والحزن والقلق، يقول عمر بن الخطاب- وهو يروي هذه القصة-: وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتيه أنا بالخبر- وكانا يسكنان في عوالي المدينة، يتناوبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم- ونحن نتخوف ملكا من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال: افتح، افتح، فقلت: جاء الغساني؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه. الحديث «1» . وفي لفظ آخر (أنه قال) : وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاء، فضرب بابي ضربا شديدا، وقال: أنائم هو؟ ففزعت، فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم. فقلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم منه وأطول، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. الحديث «2» . وهذا يدل على خطورة الموقف. الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان. ويزيد ذلك تأكدا ما فعله المنافقون حينما نقلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان، فبرغم ما رآه هؤلاء المنافقون من نجاح رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل الميادين، وأنه لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض، بل يذيب كل ما يعترض في طريقه من عوائق، برغم هذا كله طفق هؤلاء المنافقون يأملون في تحقق ما كانوا يخفونه في صدورهم، وما كانوا يتربصونه من الشر بالإسلام وأهله. ونظرا إلى قرب تحقق آمالهم أنشأوا وكرة للدس والتامر، في صورة مسجد، وهو مسجد الضرار، أسسوه كفرا وتفريقا بين المؤمن وإرصادا لمن حارب الله   (1) صحيح البخاري 2/ 730. (2) نفس المصدر 1/ 334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ورسوله، وعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه، وإنما مرامهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين، فلا يفطنوا ما يؤتي به في هذا المسجد من الدس والمؤامرة ضدهم، ولا يلتفتوا إلى من يرده ويصدر عنه، فيصير وكرة مأمونة لهؤلاء المنافقين ولرفقائهم في الخارج، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة فيه- إلى قفوله من الغزوة- لشغله بالجهاز، ففشلوا في مرامهم وفضحهم الله، حتى قام الرسول صلى الله عليه وسلم بهدم المسجد بعد القفول من الغزو، بدل أن يصلي فيه. الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان كانت هذه هي الأحوال والأخبار التي يواجهها ويتلقاها المسلمون، إذ بلغهم من الأنباط الذي يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشا عرموما قوامه أربعون ألف مقاتل، وأعطى قيادته لعظيم من عظاماء الروم، وأنه أجلب معهم قبائل لخم وجزام وغيرهما من متنصرة العرب، وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء. وهكذا تمثل أمام المسلمين خطر كبير. زيادة خطورة الموقف والذي كان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد، وكان الناس في عسرة وجدب من البلاء وقلة من الظهر، وكانت الثمار قد طابت، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال، من الزمان الذي هم فيه، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة، والطريق وعرة صعبة. الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر القيام بإقدام حاسم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله. إنه كان يرى أنه لو توانى وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة، وترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه، وتزحف إلى المدينة؛ كان له أسوأ أثر على الدعوة الإسلامية، وعلى سمعة المسلمين العسكرية، فالجاهلية التي تلفظ نفسها الأخير بعد ما لقيت من الضربة القاسمة في حنين ستحيا مرة أخرى، والمنافقون الذي يتربصون الدوائر بالمسلمين، ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجون بطون المسلمين بخناجرهم من الخلف، في حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الأمام، وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 هو وأصحابه في نشر الإسلام، وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة ... تذهب هذه المكاسب بغير جدوى. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف كل ذلك جيدا، ولذلك قرر القيام- مع ما كان فيه من العسرة والشدة- بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام. الإعلان بالتهيؤ لقتال الرومان ولما قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم، وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إلا ورّى بغيرها، ولكنه نظرا إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان، وجلى للناس أمرهم، ليتأهبوا أهبة كاملة، وحضهم على الجهاد، ونزلت قطعة من سورة براءة تثيرهم على الجلاد، وتحثهم على القتال. ورغبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بذل الصدقات، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل الله. المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة- إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر- حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليخرجوا إلى بقتال الروم، فإذا قال لهم: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» [التوبة: 92] . كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات. كان عثمان بن عفان قد جهز عيرا للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» «1» ، ثم تصدق وتصدق، حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود. وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله، ولم يترك   (1) جامع الترمذي. مناقب عثمان بن عفان 2/ 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 لأهله إلا الله ورسوله- وكانت أربعة آلاف درهم، وهو أول من جاء بصدقته، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاؤا بمال، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مدا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها؛ وبعثت النساء ما قدرن عليه من مسك ومعاضد وخلاخل وقرط وخواتم. ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ، وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ [التوبة: 79] . الجيش الإسلامي إلى تبوك وهكذا تجهز الجيش، فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل سباع بن عرفطة، وخلف على أهله علي بن أبي طالب، وأمره بالإقامة فيهم، وغمص عليه المنافقون، فخرج فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرده إلى المدينة وقال: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» . ثم تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الشمال يريد تبوك، ولكن الجيش كان كبيرا- ثلاثون ألف مقاتل، لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط- فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزا كاملا. بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمراكب، فكان ثمانية عشر رجلا يعتقبون بعيرا واحدا، وربما أكلوا أوراق الأشجار حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح العير- مع قلتها- ليشربوا ما في كروشها من الماء، ولذلك سمي هذا الجيش: جيش العسرة. ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحجر- ديار ثمود الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ، أي وادي القرى- فاستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا منه للصلاة. وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح عليه السلام» . وفي الصحيحين عن ابن عمر قال؛ لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي» «1» .   (1) صحيح البخاري باب نزول النبيّ صلى الله عليه وسلم الحجر 2/ 637. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجاتهم من الماء. ولما قرب من تبوك قال: «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك، وإنكم لم تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي» . قال معاذ: فجئنا وقد سبق إليها رجلان، والعين تبض بشيء من مائها، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل مسستما من مائها شيئا؟ قالا: نعم. وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرف من العين قليلا قليلا حتى اجتمع الوشل، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويده، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جنانا» «1» . وفي الطريق أو لما بلغ تبوك- على اختلاف الروايات- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله» ، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طىء «2» . وكان دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع التقديم وجمع التأخير كليهما. الجيش الإسلامي بتبوك نزل الجيش الإسلامي بتبوك، فعسكر هناك، وهو مستعد للقاء العدو، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم خطيبا، فخطب خطبة بليغة، أتى بجوامع الكلم، وحض على خير الدنيا والآخرة، وحذر وأنذر، وبشر وأبشر، حتى رفع معنوياتهم، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من حيث قلة الزاد والمادة والمؤنة. وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذهم الرعب فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية، في داخل الجزيرة وأرجائها النائية. وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة خطيرة، بما لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين. جاء يحنة بن روبة صاحب أيلة، فصالح الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأهل أذرح، فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فهو عندهم، وكتب   (1) رواه مسلم عن معاذ بن جبل 2/ 246. (2) نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 لصاحب أيلة: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن روبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر» . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة الجندل في أربعمائة وعشرين فارسا، وقال له: «إنك ستجده يصيد البقر» فأتاه خالد، فلما كان من حصنه بمنظر العين، خرجت بقرة، تحك بقرونها باب القصر، فخرج أكيدر لصيده- وكانت ليلة مقمرة- فتلقاه خالد في خلية، فأخذه وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن دمه، وصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء الجزية، فقاضاه مع يحنة على قضية دومة وتبوك وأيلة وتيماء. وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه، فانقلبت لصالح المسلمين، وهكذا توسعت حدود الدولة الإسلامية، حتى لاقت حدود الرومان مباشرة، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلى حد كبير. الرجوع إلى المدينة ورجع الجيش الإسلامي من تبوك مظفرين منصورين، لم ينالوا كيدا، وكفى الله المؤمنين القتال، وفي الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر رجلا من المنافقين الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته، وحذيفة بن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمحجن كان معه، فأرعبهم الله، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمى بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول الله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا. ولما لاحت للنبي صلى الله عليه وسلم معالم المدينة من بعيد قال: «هذه طابة، وهذا أحد، جبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 يحبنا ونحبه» وتسامع الناس بمقدمة، فخرج النساء والصبيان والولائد يقابلن الجيش بحفاوة بالغة ويقلن «1» : طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع وكان خروجه صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في رجب وعوده في رمضان، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوما. أقام منها عشرين يوما في تبوك. والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهوبا. وكانت هذه الغزوة آخر غزواته صلى الله عليه وسلم. المخلفون وكانت هذه الغزوة- لظروفها الخاصة بها- اختبارا شديدا من الله تعالى، امتاز به المؤمنون من غيرهم. كما هو دأبه تعالى في مثل هذه المواطن، حيث يقول: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179] فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمنا صادقا، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «دعوه، فإن يكن فيه خير سيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه» ، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذبا، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا. نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر. وهم الذين أبلاهم الله، ثم تاب عليهم. ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون- وهم بضعة وثمانون رجلا «2» - فجاؤوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين- وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية- فاختاروا الصدق، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة ألايكلموا هؤلاء   (1) هذا رأي ابن القيم وقد مضى البحث عليه. (2) ذكر الواقدي أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار. وأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضا اثنين وثمانين رجلا من بني غفار وغيرهم. وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه كانوا من غير هؤلاء ذكر عدد كبير (انظر فتح الباري 8/ 119) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الثلاثة، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة، وتغير لهم الناس، حتى تنكرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وبلغت بهم الشدة أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة، ثم أنزل الله توبتهم وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 118] . وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة فرحا لا يقاس مداه وغايته، فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم. وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، الآيتين [التوبة: 91، 92] وقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دنا من المدينة: «إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر» ، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة. أثر الغزوة وكان لهذه الغزوة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب، فقد تبين للناس أنه ليس لأي قوة من القوات أن تعيش في العرب سوى قوة الإسلام، وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك في قلوب بقايا الجاهلين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وكانوا قد عقدوا آمالهم بالرومان، فقد استكانوا بعد هذه الغزوة، واستسلموا للأمر الواقع، الذي لم يجدوا عنه محيدا ولا مناصا. ولذلك لم يبق للمنافقين أن يعاملهم المسلمون بالرفق واللين، وقد أمر الله بالتشديد عليهم، حتى نهى عن قبول صدقاتهم، وعن الصلاة عليهم، والاستغفار لهم، والقيام على قبرهم، وأمر بهدم وكرة دسهم وتامرهم التي بنوها باسم المسجد، وأنزل فيهم آيات افتضحوا بها افتضاحا تاما، لم يبق في معرفتهم بعدها أي خفاء، كأن الآيات قد نصت على أسمائهم لمن يسكن المدينة. ويعرف مدى أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت في التوافد إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة فتح مكة؛ بل وما قبلها؛ إلا أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إلى القمة بعد هذه الغزوة «1» . نزول القرآن حول موضوع الغزوة نزلت آيات كثيرة من سورة براءة حول موضوع الغزوة، نزل بعضها قبل الخروج، وبعضها بعد الخروج- وهو في السفر- وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة، وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة، وفضح المنافقين، وفضل المجاهدين والمخلصين، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين، الخارجين منهم في الغزوة والمتخلفين، إلى غير ذلك من الأمور. بعض الوقائع المهمة في هذه السنة وفي هذه السنة وقعت عدة وقائع لها أهمية في التاريخ: 1- بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وقع اللعان بين عويمر العجلاني وامرأته. 2- رجمت المرأة الغامدية التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة، رجمت بعد ما فطمت ابنها. 3- توفي النجاشي أصحمة، ملك الحبشة، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب. 4- توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فحزن عليها حزنا شديدا، وقال لعثمان: لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها. 5- مات رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول بعد مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصلاة عليه، وقد نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر.   (1) أخذنا تفاصيل هذه الغزوة من ابن هشام 2/ 515 إلى 537، وزاد المعاد 3/ 2 وصحيح البخاري 2/ 633، 634، 635، 636، 637، و 1/ 252، 414 وغيرها وصحيح مسلم مع شرحه للنووي 2/ 246، وفتح الباري 8/ 110 إلى 126 ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي من ص 391 إلى 407. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 حج أبي بكر رضي الله عنه وفي ذي القعدة أو ذي الحجة من نفس السنة (9 هـ) بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج؛ ليقيم بالمسلمين المناسك. ثم نزلت أوائل سورة براءة بنقض المواثيق ونبذها على سواء، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ليؤدي عنه ذلك، وذلك تمشيا منه على عادة العرب في عهود الدماء والأموال، فالتقى علي بأبي بكر بالعرج أو بضجنان، فقال أبو بكر: أمير أو مأمور؟ قال علي: لا، بل مأمور ثم مضيا، وأقام أبو بكر للناس حجهم، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب عند الجمرة، فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأجل لهم أربعة شهور، وكذلك أجل أربعة أشهر لمن لم يكن له عهد، وأما الذين لم ينقصوا المسلمين شيئا، ولم يظاهروا عليهم أحدا، فأبقى عهدهم إلى مدتهم. وبعث أبو بكر رضي الله عنه رجالا ينادون في الناس: ألا لا يحج بعد هذ العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وكان هذا النداء بمثابة إعلان نهاية الوثنية في جزيرة العرب، وأنها لا تبدئ ولا تعيد بعد هذا العام «1» .   (1) صحيح البخاري 1/ 220، 451، 2/ 626، 671، زاد المعاد 3/ 25، 26، ابن هشام 2/ 543، 544، 545، 546. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 نظرة على الغزوات إذا نظرنا إلى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه، لا يمكن لنا ولا لأحد ممن ينظر في أوضاع الحروب وآثارها وخلفياتها- لا يمكن لنا إلا أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكبر قائد عسكري في الدنيا، وأسدهم وأعمقهم فراسة وتيقظا، إنه صاحب عبقرية فذة في هذا الوصف، كما كان سيد الرسل وأعظمهم في صفة النبوة والرسالة، فلم يخض معركة من المعارك إلا في الظرف ومن الجهة اللذين يقتضيهما الحزم والشجاعة والتدبير، ولذلك لم يفشل في أي معركة من المعارك التي خاضها لغلطة في الحكمة وما إليها من تعبئة الجيش، وتعيينه على المراكز الاستراتيجية، واحتلال أفضل المواضع وأوثقها للمجابهة، واختيار أفضل خطة لإدارة دفة القتال، بل أثبت في كل ذلك أن له نوعا آخر من القيادة غير ما عرفتها وتعرف الدنيا في القواد. ولم يقع ما وقع في أحد وحنين إلا من بعض الضعف في أفراد الجيش- في حنين- أو من جهة معصيتهم أوامره، وتركهم التقيد والالتزام بالحكمة والخطة اللتين كان أوجبهما عليهم من حيث الوجهة العسكرية. وقد تجلت عبقريته صلى الله عليه وسلم في هاتين الغزوتين عند هزيمة المسلمين، فقد ثبت مجابها للعدو، واستطاع بحكمته الفذة أن يخيبهم في أهدافهم- كما فعل في أحد- أو يغير مجرى الحرب حتى يبدل الهزيمة انتصارا- كما في حنين- مع أن مثل هذا التطور الخطير، ومثل هذه الهزيمة الساحقة تأخذان بمشاعر القواد، وتتركان على أعصابهم أسوأ أثر، لا يبقى لهم بعد ذلك إلا هم النجاة بأنفسهم. هذه هي من ناحية القيادة العسكرية الخالصة. أما من نواح أخرى، فإنه استطاع بهذه الغزوات فرض الأمن وبسط السلام، وإطفاء نار الفتنة، وكسر شوكة الأعداء في صراع الإسلام والوثنية، وإلجائهم إلى المصالحة، وتخلية السبيل لنشر الدعوة، كما استطاع أن يتعرف على المخلصين من أصحابه ممن هو يبطن النفاق، ويضمر نوازع الغدر والخيانة. وقد أنشأ طائفة كبيرة من القواد الذين لاقوا بعده الفرس والرومان في ميادين العراق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 والشام، ففاقوهم في تخطيط الحروب وإدارة دفة القتال، حتى استطاعوا إجلاءهم من أرضهم وديارهم وأموالهم من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين. كما استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل هذه الغزوات، أن يوفر السكنى والأرض والحرف والمشاغل للمسلمين، حتى تفصى من كثير من مشاكل اللاجئين الذين لم يكن لهم مال ولا دار، وهيأ السلاح والكراع والعدة والنفقات، حصل على كل ذلك من غير أن يقوم بمثقال ذرة من الظلم والطغيان والبغي والعدوان على عباد الله. وقد غير أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطرم نار الحرب لأجلها في الجاهلية، فبينما كانت الحرب عبارة عن النهب والسلب والقتل والإغارة والظلم والبغي والعدوان، وأخذ الثأر، والفوز بالوتر، وكبت الضعيف، وتخريب العمران، وتدمير البنيان، وهتك حرمات النساء، والقسوة بالضعاف والولائد والصبيان وإهلاك الحرث والنسل، والعبث والفساد في الأرض- في الجاهلية- إذ سارت هذه الحرب- في الإسلام- جهادا في تحقيق أهداف نبيلة، وأغراض سامية وغايات محمودة، يعتز بها المجتمع الإنساني في كل زمان ومكان، فقد صارت الحرب جهادا في تخليص الإنسان من نظام القهر والعدوان. إلى نظام العدالة والنصف، من نظام يأكل فيه القوي الضعيف، إلى نظام يصير فيه القوي ضعيفا حتى يؤخذ منه وصارت جهادا في تخليص المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا. واجعل لنا من لدنك نصيرا، وصارت جهادا في تطهير أرض الله من الغدر والخيانة، والإثم والعدوان إلى بسط الأمن والسلامة والرأفة والرحمة ومراعاة الحقوق والمروءة. كما شرع للحروب قواعد شريفة ألزم التقيد بها على جنوده وقوادها، ولم يسمح لهم الخروج عنها بحال. روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله عز وجل، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، فلا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا ... الحديث. وكان يأمر بالتيسير ويقول: يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا «1» . وكان إذا جاء قوما بليل لم يغر عليهم حتى يصبح، ونهى أشد النهي   (1) صحيح مسلم 2/ 82، 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 عن التحريق في النار، ونهى عن قتل الصبر، وقتل النساء وضربهن، ونهى عن النهب حتى قال: «إن النهبى ليست بأحل من الميتة» ونهى عن إهلاك الحرث والنسل وقطع الأشجار إلا إذا اشتدت إليها الحاجة، ولا يبقى سواه سبيل. وقال عند فتح مكة: «لا تجهزن على جريح، ولا تتبعن مدبرا، ولا تقتلن أسيرا» وأمضى السنة بأن السفير لا يقتل، وشدد في النهي عن قتل المعاهدين حتى قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاما» .. إلى غير ذلك من القواعد النبيلة التي طهرت الحروب من أدران الجاهلية، حتى جعلتها جهادا مقدسا «1» .   (1) انظر ذلك مفصلا في زاد المعاد 2/ 64، 65، 66، 67، 68، والجهاد في الإسلام للأستاذ أبي الأعلى المودودي ص 216 إلى 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 [2- صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام.] الناس يدخلون في دين الله أفواجا كانت غزوة فتح مكة- كما قلنا- معركة فاصلة، قضت على الوثنية قضاء باتا، عرفت العرب لأجلها الحق من الباطل، وزالت عنهم الشبهات، فتسارعوا إلى اعتناق الإسلام. قال عمرو بن سلمة: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ - أي النبي صلى الله عليه وسلم- فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أوحى إليه. أوحى الله كذا، فكنت أحفظ ذاك الكلام، فكأنما يقرأ في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقا. فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، لا وليؤمكم أكثركم قرآنا. الحديث «1» . وهذا الحديث يدل على مدى أثر فتح مكة في تطوير الظروف، وتعزيز الإسلام، وتعيين الموقف للعرب، واستسلامهم للإسلام، وتأكد ذلك أي تأكد بعد غزوة تبوك، ولذلك نرى الوفود تقصد المدينة تترى في هذين العامين- التاسع والعاشر- ونرى الناس يدخلون في دين الله أفواجا، حتى إن الجيش الإسلامي الذي كان قوامه عشرة آلاف مقاتل في غزوة الفتح، إذا هو يزخر في ثلاثين ألف مقاتل في غزوة تبوك، قبل أن يمضي على فتح مكة عام كامل، ثم نرى في حجة الوداع بحرا من رجال الإسلام- مائة ألف من الناس أو مائة وأربعة وأربعون ألفا منهم- يموج حول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد تدوي له الآفاق، وترتج له الأرجاء. الوفود والوفود التي سردها أهل المغازي يزيد عددها على سبعين وفدا، ولا يمكن لنا استقصاؤها، وليس كبير فائدة في بسط تفاصيلها، وإنما نذكر منها إجمالا ما له روعة أو   (1) صحيح البخاري 2/ 615، 616. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 أهمية في التاريخ. وليكن على ذكر من القارئ أن وفادة عامة القبائل وإن كانت بعد الفتح؛ ولكن هناك قبائل توافدت قبله أيضا: 1- وفد عبد القيس - كانت لهذه القبيلة وفادتان: الأولى سنة خمس من الهجرة أو قبل ذلك. كان رجل منهم يقال له منقذ بن حيان، يرد المدينة بالتجارة، فلما جاء المدينة بتجارته بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم بالإسلام أسلم وذهب بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه فأسلموا، فتوافدوا إليه في شهر حرام في ثلاثة أو أربعة عشر رجلا، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان كبيرهم الأشج العصري الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» . والوفادة الثانية كانت في سنة الوفود، وكان عددهم فيها أربعين رجلا، وكان فيهم الجارود بن العلاء العبدي، وكان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه «1» . 2- وفد دوس - كانت وفادة هذه القبيلة في أوائل سنة سبع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقد قدمنا حديث إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي، وأنه أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم رجع إلى قومه، فلم يزل يدعوهم إلى الإسلام، ويبطئون عليه، حتى يئس منهم، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منه أن يدعو على دوس، فقال: «اللهم اهد دوسا» . ثم أسلم هؤلاء، فوفد الطفيل بسبعين أو ثمانين بيتا من قومه إلى المدينة في أوائل سنة سبع ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فلحق به. 3- رسول فروة بن عمرو الجذامي - كان فروة قائدا عربيا من قواد الرومان، عاملا لهم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حوله من أرض الشام، أسلم بعدما رأى من جلاد المسلمين وشجاعتهم، وصدقهم اللقاء في معركة مؤتة سنة 8 هـ. ولما أسلم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، ولما علم الروم بإسلامه أخذوه فحبسوه، ثم خيروه بين الردة والموت، فاختار الموت على الردة، فصلبوه بفلسطين على ماء يقال له: عفراء، وضربوا عنقه «2» . 4- وفد صداء - جاء هذا الوفد عقب انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة سنة 8 هـ. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هيأ بعثا من أربعمائة من المسلمين، وأمرهم أن يطأوا ناحية من   (1) شرح صحيح مسلم للنووي 1/ 33، فتح الباري 8/ 85، 86. (2) زاد المعاد 3/ 45، تفهيم القرآن 2/ 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 اليمن فيها صداء، وبينما ذلك البعث معسكر بصدر قناة علم به زياد بن الحارث الصدائي، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئتك وافدا على من ورائي، فاردد الجيش وأنا لك بقومي، فرد الجيش من صدر قناة، وجاء الصدائي إلى قومه فرغبهم في القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه خمسة عشر رجلا منهم، وبايعوه على الإسلام، ثم رجعوا إلى قومهم، فدعوهم، ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة رجل في حجة الوداع. 5- قدوم كعب بن زهير بن أبي سلمى - كان من بيت الشعراء، ومن أشعر العرب، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الطائف سنة 8 هـ. كتب إلى كعب بن زهير أخوه بجير بن زهير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه، ومن بقي من شعراء قريش هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحدا جاء تائبا، وإلا فانج إلى نجاتك. ثم جرى بين الأخوين مراسلات ضاقت لأجلها الأرض على كعب، وأشفق على نفسه، فجاء المدينة، ونزل على رجل في جهينة، وصلى معه الصبح، فلما انصرف أشار عليه الجهني، فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه، فوضع يده في يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال: يا رسول الله. إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال: نعم. قال: أنا كعب بن زهير. فوثب عليه رجل من الأنصار يستأذن ضرب عنقه، فقال: دعه عنك، فإنه قد جاء تائبا نازعا عما كان عليه. وحينئذ أنشد كعب قصديته المشهورة التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها، لم يفد، مكبول قال فيها- وهو يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمدحه-: نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذن بأقوال الوشاة ولم ... أذنب، ولو كثرت في الأقاويل لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل لظل يرعد، إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل حتى وضعت يميني ما أنازعه ... في كف ذي نقمات قيله القيل فلهو أخوف عندي إذ أكلمه ... وقيل: إنك منسوب ومسؤول من ضيغم بضراء الأرض مخدرة ... في بطن عثير غيل دونه غيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول ثم مدح المهاجرين من قريش؛ لأنهم لم يكن تكلم منهم رجل في كعب حين جاء إلا بخير، وعرض في أثناء مدحهم على الأنصار لاستئذان رجل منهم في ضرب عنقه، قال: يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل فلما أسلم وحسن إسلامه مدح الأنصار في قصيدة له، وتدارك ما كان قد فرط منه في شأنهم، قال في تلك القصيدة: من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار 6- وفد عذرة - قدم هذا الوفد في صفر سنة 9 هـ. وهم اثنا عشر رجلا فيهم حمزة بن النعمان. قال متكلمهم حين سئلوا من القوم: نحن بنو عذرة، أخوة قصي لأمه، نحن الذين عضدوا قصيا، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، لنا قرابات وأرحام، فرحب بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبشرهم بفتح الشام، ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها. أسلموا وأقاموا أياما ثم رجعوا. 7- وفد بلي - قدم في ربيع الأول سنة 9 هـ، وأسلم وأقام بالمدينة ثلاثا، وقد سأل رئيسهم أبو الضبيب عن الضيافة هل فيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة، وسأل عن وقت الضيافة، فقال: ثلاثة أيام، وسأل عن ضالة الغنم فقال: هي لك أو لأخيك، أو للذئب، وسأل عن ضالة البعير، فقال: ما لك وله؟ دعه حتى يجده صاحبه. 8- وفد ثقيف - كانت وفادتهم في رمضان سنة 9 هـ. بعد مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك. وقصة إسلامهم أن رئيسهم عروة بن مسعود الثقفي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من غزوة الطائف في ذي القعدة سنة 8 هـ قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم عروة، ورجع إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام- وهو يظن أنهم يطيعونه، لأنه كان سيدا مطاعا في قومه، وكان أحب إليهم من أبكارهم- فلما دعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل من كل وجه حتى قتلوه، ثم أقاموا بعد قتله أشهرا، ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب- الذين كانوا قد بايعوا وأسلموا- فأجمعوا أن يرسلوا جلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلموا عبد ياليل بن عمرو، وعرضوا عليه ذلك فأبى، وخاف أن يصنعوا به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 إذا رجع مثل ما صنعوا بعروة، وقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا، فبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فصاروا ستة فيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان أحدثهم سنا. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد، لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، ومكثوا يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدعوهم إلى الإسلام، حتى سأل رئيسهم أن يكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية صلح بينه وبين ثقيف. يأذن لهم فيها بالزنا وشرب الخمور وأكل الربا، ويترك لهم طاغيتهم اللات، وأن يعفيهم من الصلاة، وألايكسروا أصنامهم بأيديهم، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل شيئا من ذلك، فخلوا وتشاوروا، فلم يجدوا محيصا عن الإستسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستسلموا وأسلموا، واشترطوا أن يتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم اللات، وأن ثقيفا لا يهدمونها بأيديهم أبدا، فقبل ذلك، وكتب لهم كتابا، وأمر عليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، لأنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم الدين والقرآن. وذلك أن الوفد كانوا كل يوم يغدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وقالوا بالهاجرة عمد عثمان بن أبي العاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقرأه القرآن، وسأله عن الدين، وإذا وجده نائما عمد إلى أبي بكر لنفس الغرض، (وكان من أعظم الناس بركة لقومه في زمن الردة، فإن ثقيفا لما عزمت على الردة قال لهم: يا معشر ثقيف كنتم آخر الناس إسلاما، فلا تكونوا أول الناس ردة، فامتنعوا على الردة، وثبتوا على الإسلام) . ورجع الوفد إلى قومه فكتمهم الحقيقة، وخوفهم بالحرب والقتال، وأظهر الحزن والكابة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألهم الإسلام وترك الزنا والخمر والربا وغيرها وإلا يقاتلهم، فأخذت ثقيفا نخوة الجاهلية، فمكثوا يومين أو ثلاثة يريدون القتال، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب، وقالوا للوفد: ارجعوا إليه فأعطوه ما سأل، وحينئذ أبدى الوفد حقيقة الأمر، وأظهروا ما صالحوا عليه، فأسلمت ثقيف. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا لهدم اللات، أمر عليهم خالد بن الوليد، فقام المغيرة بن شعبة، فأخذ الكرزين وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف. فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف، وقالوا: أبعد الله المغيرة، قتلته الربة، فوثب المغيرة فقال: قبحكم الله، إنما هي لكاع حجارة ومدر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا أعلى سورها، وعلا الرجال فهدموها وسووها بالأرض حتى حفروا أساسها، وأخرجوا حليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 ولباسها، فبهتت ثقيف، ورجع خالد مع مفرزته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليها وكسوتها، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمد الله على نصرة نبيه وإعزاز دينه «1» . 9- رسالة ملوك اليمن - وبعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك قدم كتاب ملوك حمير، وهم الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان بن قيل ذي رعين، وهمدان ومعافر، ورسولهم إليه صلى الله عليه وسلم مالك بن مرة الرهاوي، بعثوه بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، وكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين فيه ما للمؤمنين وما عليهم، وأعطى فيهم المعاهدين ذمة الله وذمة رسوله إذا اعطوا ما عليهم من الجزية، وبعث إليهم رجالا من أصحابه أميرهم معاذ بن جبل. 10- وفد همدان - قدموا سنة 9 هـ بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا أقطعهم فيه ما سألوه، وأمر عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وبعث إلى سائرهم خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه، ثم بعث علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالدا، فجاء علي إلى همدان، وقرأ عليهم كتابا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعا، وكتب علي ببشارة إسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان، السلام على همدان. 11- وفد بني فزارة - قدم هذا الوفد سنة 9 هـ بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، قدم في بضعة عشر رجلا جاؤوا مقرين بالإسلام، وشكوا جدب بلادهم، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فرفع يديه واستسقى، وقال: اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا، مغيثا، مريحا، مريعا، طبقا، واسعا، عاجلا، غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا غرق، ولا محق، اللهم اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء «2» . 12- وفد نجران - (نجران، بفتح النون وسكون الجيم: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، كان يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع «3» ، وكان يؤلف مائة ألف مقاتل كانوا على دين المسيحية) . وكانت وفادة أهل نجران سنة 9 هـ، وقوام الوفد ستون رجلا، منهم أربعة وعشرون   (1) زاد المعاد 3/ 26، 27، 28، ابن هشام 3/ 537 إلى 542. (2) زاد المعاد 3/ 48. (3) فتح الباري 8/ 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 من الأشراف، فيهم ثلاثة كانت إليهم زعامة أهل نجران، أحدهم العاقب، كانت إليه الإمارة والحكومة واسمه عبد المسيح، والثاني السيد، كانت تحت إشرافه الأمور الثقافية والسياسية واسمه الأيهم أو شرحبيل، والثالث الأسقف وكانت إليه الزعامة الدينية، والقيادة الروحانية، واسمه أبو حارثة بن علقمة. ولما نزل الوفد بالمدينة، ولقي النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وسألوه، ثم دعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، وسألوه عما يقول في عيسى عليه السلام، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى نزل عليه: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آل عمران: 59، 60، 61] . ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرهم بقوله في عيسى ابن مريم في ضوء هذه الآية الكريمة، وتركهم ذلك اليوم؛ ليفكروا في أمرهم، فأبوا أن يقروا بما قال في عيسى. فلما أصبحوا وقد أبوا عن قبول ما عرض عليهم من قوله في عيسى، وأبوا عن الإسلام دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، وأقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له، وفاطمة تمشي عند ظهره، فلما رأوا منه الجد والتهيؤ خلوا وتشاوروا، فقال كل من العاقب والسيد للآخر: لا تفعل فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك، ثم اجتمع رأيهم على تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرهم، فجاؤوا وقالوا: إنا نعطيك ما سألتنا. فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الجزية، وصالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر، ومع كل حلة أوقية، وأعطاهم ذمة الله وذمة رسوله، وترك لهم الحرية الكاملة في دينهم، وكتب لهم بذلك كتابا، وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلا أمينا، فبعث عليهم أمين هذه الأمة أبا عبيدة بن الجراح؛ ليقبض مال الصلح. ثم طفق الإسلام يفشو فيهم، فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعد ما رجعا إلى نجران، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عليا، ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، ومعلوم أن الصدقة إنما يؤخذ من المسلمين «1» . 13- وفد بني حنيفة - كانت وفادتهم سنة 9 هـ. وكانوا سبعة عشر رجلا فيهم مسيلمة   (1) فتح الباري 8/ 94، 95، زاد المعاد 3/ 38، 39، 40، 41، وقد اضطربت الروايات في بيان كيفية وفد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الكذاب «1» - وهو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة- نزل هذا الوفد في بيت رجل من الأنصار، ثم جاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا، واختلفت الروايات في مسيلمة الكذاب، ويظهر بعد التأمل في جميعها أن مسيلمة صدر منه الإستنكاف والأنفة والإستكبار والطموح إلى الإمارة، وأنه لم يحضر مع سائر الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أراد إستئلافه بالإحسان بالقول والفعل أولا، فلما رأى أن ذلك لا يجدي فيه نفعا تفرس فيه الشر. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أري قبل ذلك في المنام أنه أتي بخزائن الأرض، فوقع في يديه سواران من ذهب، فكبرا عليه وأهماه، فأوحى إليه أن انفخهما، فنفخهما، فذهبا، فأولهما كذابين يخرجان من بعده، فلما صدر من مسيلمة ما صدر من الإستنكاف- وقد كان يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته- جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده قطعة من جريد، ومعه خطيبه ثابت بن قيس بن شماس، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فكلمه فقال له مسيلمة: إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، فقال: «لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، والله إني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت يجيبك عني. ثم انصرف «2» . وأخيرا وقع ما تفرس فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن مسيلمة لما رجع إلى اليمامة بقي يفكر في أمره، حتى ادعى أنه أشرك في الأمر مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فادعى النبوة، وجعل يسجع السجعات، وأحل لقومه الخمر والزنا، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي، وافتتن به قومه فتبعوه، وأصفقوا معه، حتى تفاقم أمره، فكان يقال له رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم. وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا قال فيه: إني أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب قال فيه: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «3» . وعن ابن مسعود قال: جاء ابن النواحة، وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال   - نجران، حتى جنح بعض المحققين إلى أن وفادة وأهل نجران كانت مرتين، وقد ذكرنا- ملخصا- ما ترجح عندنا في هذا الوفد. (1) فتح الباري 8/ 87. (2) انظر صحيح البخاري وفد بني حنيفة، وباب قصة الأسود العنسي 2/ 627، 628 وفتح الباري 8/ 87 إلى 93. (3) زاد المعاد 3/ 31، 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 لها: أتشهدان أني رسول الله؟ فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «آمنت بالله ورسوله. لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما «1» » . كان ادعاء مسيلمة النبوة سنة عشر، وقتل في حرب اليمامة في عهد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه في ربيع الأول سنة 12 هـ، قتله وحشي قاتل حمزة. وأما المتنبىء الثاني، وهو الأسود العنسي الذي كان باليمن، فقتله فيروز، واحتز رأسه قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة، فأتاه الوحي فأخبر به أصحابه، ثم جاء الخبر من اليمن إلى أبي بكر رضي الله عنه «2» . 14- وفد بني عامر بن صعصعة - كان فيهم عامر بن الطفيل عدو الله وأربد بن قيس- أخو لبيد لأمه- وخالد بن جعفر، وجبار بن أسلم، وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم، وكان عامر هو الذي غدر بأصحاب بئر معونة، فلما أراد هذا الوفد أن يقدم المدينة تامر عامر وأربد، واتفقا على الفتك بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما جاء الوفد جعل عامر يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودار أربد خلفه، واخترط سيفه شبرا، ثم حبس الله يده فلم يقدر على سله، وعصم الله نبيه، ودعا عليهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما رجعا أرسل الله على أربد وجمله صاعقة فأحرقته، وأما عامر فنزل على امرأة سلولية، فأصيب بغدة في عنقه فمات وهو يقول: أغدة كغدة البعير، وموتا في بيت السلولية. وفي صحيح البخاري: أن عامرا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أخيرك بين خصال ثلاث: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، فطعن في بيت امرأة، فقال: أغدة كغدة البعير، في بيت امرأة من بني فلان، إيتوني بفرسي. فركب، فمات على فرسه. 15- وفد تجيب - قدم هذا الوفد بصدقات قومه مما فضل عن فقرائهم وكان الوفد ثلاثة عشر رجلا، وكانوا يسألون عن القرآن والسنن يتعلمونها، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء فكتب لهم بها، ولم يطيلوا الليث، ولما أجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوا إليه غلاما كانوا خلفوه في رحالهم، فجاء الغلام، وقال: والله ما أعملني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي، فدعا له بذلك، فكان أقنع الناس، وثبت في الردة على الإسلام، وذكر قومه؛ ووعظهم فثبتوا عليه، والتقى أهل الوفد بالنبيّ صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في حجة الوداع سنة 10 هـ. 16- وفد طيء - قدم هذا الوفد وفيهم زيد الخيل، فلما كلموا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعرض   (1) رواه الإمام أحمد، مشكاة المصابيح 2/ 347. (2) فتح الباري 8/ 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 عليهم السلام أسلموا وحسن إسلامهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد: ما ذكر لي رجل من لعرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه، وسماه زيد الخير. وهكذا تتابعت الوفود إلى المدينة في سنتي تسع وعشر، وقد ذكر أهل المغازي والسير منها وفود أهل اليمن، والأزد وبني سعد هذيم من قضاعة، وبني عامر بن قيس، وبني أسد، وبهراء، وخولان، ومحارب، وبني الحارث بن كعب، وغامد، وبني المنتفق، وسلامان، وبني عبس، ومزينة، ومراد، وزبيد، وكندة، وذي مرة، وغسان، وبني عيش، ونخع- وهو آخر الوفود، توافد في منتصف محرم سنة 11 هـ في مائتي رجل- وكانت وفادة الأغلبية من هذه الوفود سنة 9 و 10 هـ، وقد تأخرت وفادة بعضها إلى سنة 11 هـ. وتتابع هذه الوفود يدل على مدى ما نالت الدعوة الإسلامية من القبول التام، وبسط السيطرة والنفوذ على أنحاء جزيرة العرب وأرجائها، وأن العرب كانت تنظر إلى المدينة بنظر التقدير والإجلال، حتى لم تكن ترى محيصا عن الإستسلام أمامها، فقد صارت المدينة عاصمة لجزيرة العرب، لا يمكن صرف النظر عنها، إلا أننا لا يمكن لنا القول بأن الدين قد تمكن من أنفس هؤلاء بأسرهم؛ لأنه كان وسطهم كثير من الأعراب الجفاة الذين أسلموا تبعا لسادتهم، ولم تكن أنفسهم قد خلصت بعد ما تأصل فيها من الميل إلى الغارات، ولم تكن تعاليم الإسلام قد هذبت أنفسهم تمام التهذيب، وقد وصف القرآن بعضهم بقوله في سورة التوبة: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ، عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 97، 98] وأثنى على آخرين منهم فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ، أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ، سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 99] . أما الحاضرون منهم في مكة والمدينة وثقيف، وكثير من اليمن والبحرين؛ فقد كان الإسلام فيهم قويا، ومنهم كبار الصحابة وسادات المسلمين «1» .   (1) كلمة للخضري في محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية 1/ 144. وانظر في تفاصيل الوفود إلى ذكرناها أو أشرنا إليها، صحيح البخاري 1/ 13، 2/ 626، 627، 628، 629، 630، وابن هشام 2/ 501، 502، 503، 510، 511، 512، 513، 514، 537، 538، 539، 540، 541، 542، 560 إلى 601، وزاد المعاد 3/ 26 إلى 60، وفتح الباري 8/ 83 إلى 103 ورحمة للعالمين 1/ 184 إلى 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 نجاح الدعوة وأثرها وقبل أن نتقدم خطوة أخرى إلى مطالعة أواخر أيام حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ينبغي لنا أن نلقي نظرة إجمالية على العمل الجلل الذي هو فذلكة حياته، والذي امتاز به عن سائر الأنبياء والمرسلين، حتى توج الله هامته بسيادة الأولين والآخرين. إنه صلى الله عليه وسلم قيل له: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا الآيات. ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ الآيات، فقام، وظل قائما أكثر من عشرين عاما، يحمل على عاتقه عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى. حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها، والمكبل بأوهان الشهوات وأغلالها، حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية، بدأ معركة أخرى في ميدان آخر، بل معارك متلاحقة.. مع أعداء دعوة الله المتألبين عليها، وعلى المؤمنين بها، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة، وفروعها في الفضاء، وتظل مساحات أخرى.. ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية؛ حتى كانت الروم تعد لهذه الأمة الجديدة، وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية. وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى- معركة الضمير- قد انتهت، فهي معركة خالدة، الشيطان صاحبها، وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني، ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة الله هناك، وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة، في شظف من العيش، والدنيا مقبلة عليه، وفي جهد وكد، والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة؛ وفي نصب دائم لا ينقطع، وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيام الليل، وفي عبادة لربه، وترتيل لقرآنه، وتبتل إليه كما أمره أن يفعل «1» . وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاما، لا يلهيه شأن في   (1) كلمة سيد قطب في ظلال القرآن 29/ 168، 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 خلال هذا الأمد، حتى نجحت الدعوة الإسلامية على نطاق واسع تتحير له العقول، فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت غبرة الجاهلية عن آفاقها، وصحّت العقول العليلة، حتى تركت الأصنام؛ بل كسرت، وأخذ الجو يرتج بأصوات التوحيد، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواز الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان الجديد، وانطلق القراء شمالا وجنوبا، يتلون آيات الكتاب، ويقيمون أحكام الله. وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة الله، فليس هناك قاهر ومقهور، وسادات وعبيد، وحكام ومحكومون، وظالم ومظلوم، وإنما الناس كلهم عباد الله، إخوان متحابون، متمثلون لأحكامه، أذهب الله عنهم عيّبّة الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبق هناك فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب. وهكذا تحققت- بفضل هذه الدعوة- الوحدة العربية، والوحدة الإنسانية والعدالة الإجتماعية، والسعادة البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية، وفي مسائلها الآخروية، فتقلب مجرى الأيام، وتغير وجه الأرض، وانعدل خط التاريخ، وتبدلت العقلية. إن العالم كانت تسيطر عليه روح الجاهلية- قبل الدعوة- ويتعفن ضميره، وتأسن روحه، وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية، وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية الكفر والضلال والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي كانت قد أدركها التحريف، وسرى فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوسا جامدة لا حياة فيها ولا روح. فلما قامت هذه الدعوة بدورها في حياة البشرية؛ خلصت روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والإنحلال، وخلصت المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والإنهيار، ومن فوارق الطبقات، واستبداد الحكام، واستذلال الكهان، وقامت ببناء العالم على أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والحرية والتجدد، ومن المعرفة واليقين، والثقة والإيمان والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب؛ لتنمية الحياة، وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه في الحياة «1» . وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزيرة العربية نهضة مباركة لم تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة من عمرها.   (1) من كلمة سيد قطب في مقدمة ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 حجة الوداع تمت أعمال الدعوة، وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد على أساس إثبات الألوهية لله، ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن هاتفا خفيا انبعث في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذا على اليمن سنة 10 هـ قال له فيما قال: «يا معاذ، إنك عسى ألاتلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري» فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشاء الله أن يرى رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته، التي عانى في سبيلها ألوانا من المتاعب بضعا وعشرين عاما، فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة. أعلن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . وفي يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة تهيأ النبيّ صلى الله عليه وسلم للرحيل «2» ، فترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه وقلد بدنه، وانطلق بعد الظهر، حتى بلغ ذا الحليفة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح، فلما أصبح قال لأصحابه: «أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة «3» » . وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص الطيب يرى في مفارقه ولحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه، وقرن بينهما ثم خرج، فركب القصواء، فأهل أيضا، ثم أهل لما استقلت به على البيداء.   (1) روى ذلك مسلم عن جابر، باب حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم 1/ 394. (2) حقق ذلك ابن حجر تحقيقا أنيقا، مع تصحيح ما ورد من أنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة انظر فتح الباري 8/ 104. (3) رواه البخاري عن عمر 1/ 207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ثم واصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بذي طوى، ثم دخل مكة بعد أن صلى الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10 هـ- وقد قضى في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى- فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل، لأنه كان قارنا قد ساق معه الهدي، فنزل بأعلى مكة عند الحجون، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج. وأمر من لم يكن معه هدي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحلوا حلالا تاما، فترددوا، فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت، فحل من لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا. وفي اليوم الثامن من ذي الحجة- وهو يوم التروية- توجه إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر- خمس صلوات- ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفا من الناس، فقام فيهم خطيبا، وألقى هذه الخطبة الجامعة: «أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا «1» » . «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث- وكان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله» . «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألايوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.   (1) ابن هشام 2/ 603. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله «1» » . «أيها الناس، إنه لا نبيّ بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم «2» » . «وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: «اللهم اشهد» . ثلاث مرات» . وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو بعرفة- ربيعة بن أمية بن خلف «4» . وبعد أن فرغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان «5» . وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصلّ بينهما شيئا، ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة، ودفع حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبّح بينهما شيئا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصل الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا. فدفع- من المزدلفة إلى منى- قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس حتى   (1) صحيح مسلم باب حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم 1/ 397. (2) معدن الأعمال، ورواه ابن ماجة وابن عساكر، رحمة للعالمين 1/ 263. (3) مسلم 1/ 397. (4) ابن هشام 2/ 605. (5) رواه البخاري عن ابن عمر ... أنظر رحمة للعالمين 1/ 265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 أتى بطن محسر، فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة- وهي الجمرة الكبرى نفسها، كانت عندها شجرة في ذلك الزمان، وتسمى بجمرة العقبة وبالجمرة الأولى- فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر- وهي سبع وثلاثون بدنة، تمام المائة- وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى على بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوا فشرب منه «1» . وخطب النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر- عاشر ذي الحجة- أيضا حين ارتفع الضحى، وهو على بغلة شهباء، وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد «2» . وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، فقد روى الشيخان عن أبي بكرة قال: خطبنا النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» . وقال: «أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى. فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا» . «وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض» .   (1) رواه مسلم عن جابر، باب حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم 1/ 397، 398، 399، 400. (2) روى ذلك أبو داود، باب أي وقت يخطب يوم النحر 1/ 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 «ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع» «1» . وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة: «ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به» «2» . وأقام أيام التشريق بمنى يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر الله، ويقيم سنن الهدي من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها، وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضا، فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن سراء بنت نبهان قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرؤس، فقال: أليس هذا أوسط أيام التشريق «3» . وكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر. وفي يوم النفر الثاني- الثالث عشر من ذي الحجة- نفر النبيّ صلى الله عليه وسلم من منى، فنزل بخيف بني كنانة من الأبطح، وأقام هناك بقية يومه ذلك، وليلته، وصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم ركب إلى البيت، فطاف به طواف الوداع. ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظا من الراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح لله وفي سبيل الله «4» .   (1) صحيح البخاري، باب الخطبة أيام منى 1/ 234. (2) رواه الترمذي 2/ 38، 135، وابن ماجة في الحج، مشكاة المصابيح 1/ 234. (3) أبو داود. باب أي يوم يخطب بمنى 1/ 269. (4) انظر لتفصيل حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيح البخاري كتاب المناسك ج 1 و 2/ 631 وصحيح مسلم باب حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم وفتح الباري ج 3 من شرح كتاب المناسك وج 8/ 103 إلى 110 وابن هشام 2/ 601 إلى 605، زاد المعاد 1/ 196، 218 إلى 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 آخر البعوث كانت كبرياء دولة الروم قد جعلتها تأبى عليه حق الحياة، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه، كما فعلت بفروة بن عمرو الجذامي الذي كان واليا على معان من قبل الروم. ونظرا إلى هذه الجراءة والغطرسة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز جيشا كبيرا في صفر سنة 11 هـ، وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبنّ أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب. وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه، واستبطأوا في بعثه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليّ، وإن هذا من أحب الناس إلي بعده «1» » . وانتدب الناس يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشه، حتى خرجوا ونزلوا الجرف، على فرسخ من المدينة، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرهتهم على التريث، حتى يعرفوا ما يقضي الله به، وقد قضى الله أن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق «2» .   (1) صحيح البخاري. باب بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أسامة 2/ 612. (2) المصدر السابق وابن هشام 2/ 606، 650. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 إلى الرفيق الأعلى طلائع التوديع لما تكاملت الدعوة، وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله عليه وسلم، وتنضح بعباراته وأفعاله. إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوما، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع: «إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا» ، وقال وهو عند جمرة العقبة: «خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا» ، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، وأنه نعيت إليه نفسه. وفي أوائل صفر سنة 11 هـ خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: «إني فرطكم، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها «1» » . وخرج ليلة- في منتصفها- إلى البقيع فاستغفر لهم، وقال: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. وبشرهم قائلا: إنا بكم للاحقون» . بداية المرض وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11 هـ وكان يوم الإثنين- شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، فلما رجع- وهو في الطريق- أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون سورتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه. وقد صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوما، وجميع أيام المرض كانت 13 أو 14 يوما.   (1) متفق عليه، صحيح البخاري 2/ 585. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 الأسبوع الأخير وثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه: «أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟» ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة، يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصبا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته. وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة. قبل الوفاة بخمسة أيام ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال: «هريقوا علي سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم» فأقعدوه في مخضب، وصبوا عليه الماء، حتى طفق يقول: «حسبكم، حسبكم» . وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد- وهو معصوب الرأس- حتى جلس على المنبر، وخطب الناس- والناس مجتمعون حوله- فقال: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» - وفي رواية «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد «1» - وقال: لا تتخذوا قبري وثنا يعبد» «2» . وعرض نفسه للقصاص قائلا: «من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه» . ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها، فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: أعطه يا فضل، ثم أوصى بالأنصار قائلا: «أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» وفي رواية أنه قال: «إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه   (1) صحيح البخاري 1/ 62، موطأ الإمام مالك ص 360. (2) موطأ الإمام مالك ص 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم» «1» . ثم قال: «إن عبدا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده» قال أبو سعيد الخدري: فبكى أبو بكر. قال: فديناك بابائنا وأمهاتنا فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بابائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا «2» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين نفي المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر «3» » . قبل أربعة أيام ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال- وقد اشتد به الوجع-: «هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده» - وفي البيت رجال فيه عمر- فقال عمر: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبك كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا عني» «4» . وأوصى ذلك اليوم بثلاث: أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزه، أما الثالث فنسيه الراوي، ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي: الصلاة وما ملكت أيمانكم. والنبيّ صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم- يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام- وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفا «5» .   (1) صحيح البخاري 1/ 536. (2) متفق عليه، مشكاة المصابيح 2/ 546. (3) متفق عليه. مشكاة المصابيح 2/ 548، صحيح البخاري 1/ 22، 429، 449، 2/ 638. (4) رواه البخاري عن أم الفضل باب مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم 2/ 637. (5) متفق عليه مشكاة المصابيح 1/ 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد. قالت عائشة: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أصلى الناس؟» قلنا: لا يا رسول الله، قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك. قال: «ضعوا لي ماء في المخضب» . ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: «أصلى الناس؟» - ووقع ثانيا وثالثا ما وقع في المرة الأولى من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء- فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام «1» ؛ 17 صلاة في حياته صلى الله عليه وسلم. وراجعت عائشة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر، حتى لا يتشاءم به الناس، فأبى، وقال: «إنكن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس» . قبل يوم أو يومين ويوم السبت أو الأحد وجد النبيّ صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمع الناس التكبير «2» . قبل يوم وقبل يوم من الوفاة- يوم الأحد- أعتق النبيّ صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من الشعير. آخر يوم من الحياة روى أنس بن مالك: أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر يوم الإثنين- وأبو بكر يصلي بهم- لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة. فقال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر «3» .   (1) صحيح البخاري 1/ 99. (2) صحيح البخاري 1/ 98، 99. (3) نفس المصدر، باب مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم 2/ 640. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ثم لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى. ولما ارتفع الضحى، دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة فسارها بشيء فبكت. ثم دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة، فسألنا عن ذلك- أي فيما بعد- فقالت: سارت النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت «1» . وبشر النبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين «2» . ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه، فقالت: واكرب أباه. فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم «3» » . ودعا الحسن والحسين قبلهما، وأوصى بهما خيرا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن. وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله يخبر حتى كان يقول: يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم «4» . وأوصى الناس، فقال: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» ، كرر ذلك مرارا «5» . الاحتضار وبدأ الإحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. دخل عبد الرحمن- بن أبي بكر- وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته. فأمره- وفي رواية أنه استن بها كأحسن ما كان مستنا- وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، يقول: «لا إله إلا الله، إن للموت سكرات- الحديث- «6» » .   (1) صحيح البخاري 2/ 638. (2) ويدل بعض الرواة أن هذا الحوار والبشارة لم يكن في آخر يوم من حياته بل في آخر أسبوع. رحمة للعالمين 1/ 282. (3) صحيح البخاري 2/ 641. (4) نفس المصدر 2/ 637. (5) نفس المصدر 2/ 637. (6) صحيح البخاري. باب مرضي النبيّ صلى الله عليه وسلم 2/ 640. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: «مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى «1» » . كرر الكلمة الأخيرة ثلاثا، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى. إنا لله وإنا إليه راجعون. وقع هذا الحارث حين اشتدت الضحى من يوم الإثنين 12 ربيع الأول سنة 11 هـ. وقد تم له صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام. تفاقم الأحزان على الصحابة وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على المدينة أرجاؤها وآفاقها. قال أنس: ما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب ربا دعاه. يا أبتاه، من أنة الفردوس مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه «3» . موقف عمر ووقف عمر بن الخطاب- وقد أخرأه الخبر عن وعيه- يقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجعت إليهم بعد أن قيل قد مات. وو الله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات «4» . موقف أبي بكر وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم   (1) نفس المصدر والباب، آخر ما تكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم 2/ 638، 639، 640، 641. (2) رواه الدارمي. مشكاة المصابيح 2/ 547. (3) صحيح البخاري باب مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم 2/ 641. (4) ابن هشام 2/ 655. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها. ثم خرج أبو بكر وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر. فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله، فإن الله حي لا يموت. قال الله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] قال ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها. قال ابن المسيب: قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعفرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد مات» . التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض ووقع الخلاف في أمر الخلافة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلى الله عليه وسلم، فجرت مناقشات ومجادلات وحوار وردود بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، وأخيرا اتفقوا على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومضى في ذلك بقية يوم الإثنين حتى دخل الليل، وشغل الناس عن جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان آخر الليل- ليلة الثلاثاء- مع الصبح، وبقي جسده المبارك على فراشه، مغشى بثوب حبرة، قد أغلق دونه الباب أهله. ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، وكان القائمون بالغسل العباس وعليا، والفضل وقثم ابني العباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسامة بن زيد، وأوس بن خولي. فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله، وأوس أسنده إلى صدره. ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة «2» . أدرجوه فيها إدراجا.   (1) صحيح البخاري 2/ 640، 641. (2) متفق عليه، صحيح البخاري 1/ 169، صحيح مسلم 1/ 306. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبيّ إلا دفن حيث يقبض، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحدا. ودخل الناس الحجرة أرسالا عشرة فعشرة، يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولا أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان. ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملا، حتى دخلت ليلة الأربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء «1» .   (1) مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 471، وانظر لتفصيل لحوقة بالرفيق الأعلى: صحيح البخاري، باب مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم وعدة أبواب بعده مع فتح الباري وصحيح مسلم ومشكاة المصابيح باب وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم وابن هشام 2/ 649 إلى 665 وتلقيح فهوم أهل الأثر ص 38، 39 ورحمة للعالمين 1/ 277 إلى 286 وتعيين عامة الأوقات من المصدر الأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 البيت النبوي 1- كان البيت النبوي في مكة قبل الهجرة يتألف منه عليه الصلاة والسلام، ومن زوجته خديجة بنت خويلد ، تزوجها وهو في خمس وعشرين من سنه، وهي في الأربعين، وهي أول من تزوجها من النساء، ولم يتزوج عليها غيرها، وكان له منها أبناء وبنات، أما الأبناء، فلم يعش منهم أحد، وأما البنات فهن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، فأما زينب فتزوجها قبل الهجرة ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، وأما رقية وأم كلثوم فقد تزوجهما عثمان بن عفان رضي الله عنه الواحدة بعد الآخرى، وأما فاطمة فتزوجها علي بن أبي طالب بين بدر وأحد، ومنها كان الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم. ومعلوم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ممتازا عن أمته بحل التزوج بأكثر من أربع زوجات لأغراض كثيرة، فكان عدد من عقد عليهن ثلاث عشرة امرأة، منهن تسع مات عنهن، واثنتان توفيتا في حياته، إحداهما خديجة، والآخرى أم المساكين زينب بنت خزيمة، واثنتان لم يدخل بهما. وها هي أسماؤهن وشيء عنهن. 2- سودة بنت زمعة ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة عشر من النبوة، بعد وفاة خديجة بأيام، وكانت قبله عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو، فمات عنها. 3- عائشة بنت أبي بكر الصديق ، تزوجها في شوال سنة إحدى عشرة من النبوة، بعد زواجه بسودة بسنة، وقبل الهجرة بسنتين وخمسة أشهر، تزوجها وهي بنت ست سنين، وبنى بها في شوال بعد الهجرة بسبعة أشهر في المدينة، وهي بنت تسع سنين، وكانت بكرا ولم يتزوج بكرا غيرها، وكانت أحب الخلق إليه، وأفقه نساء الأمة، وأعلمهن على الإطلاق. 4- حفصة بنت عمر بن الخطاب ، تأيمت من زوجها خنيس بن حذافة السهمي بين بدر وأحد، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 3 هـ. 5- زينب بنت خزيمة من بني هلال بن عامر بن صعصعة ، وكانت تسمى أم المساكين، لرحمتها إياهم ورقتها عليهم، كانت تحت عبد الله بن جحش، فاستشهد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 أحد، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 4 هـ. ماتت بعد الزواج بشهرين أو ثلاثة أشهر. 6- أم سلمة هند بنت أبي أمية ، كانت تحت أبي سلمة، فمات عنها في جمادي الآخرى سنة 4 هـ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال من نفس السنة. 7- زينب بنت جحش بن رباب من بني أسد بن خزيمة ، وهي بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تحت زيد بن حارثة- الذي كان يعتبر ابنا للنبيّ صلى الله عليه وسلم- فطلقها زيد، فأنزل الله تعالى يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها، وفيها نزلت من سورة الأحزاب آيات فصلت قضية التبني- وسنأتي على ذكرها- تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة. 8- جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق من خزاعة ، كانت في سبي بني المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها في شعبان سنة 6 هـ. 9- أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ، كانت تحت عبيد الله بن جحش، هاجرت معه إلى الحبشة، فارتد عبيد الله وتنصر، وتوفي هناك، وثبتت أم حبيبة على دينها وهجرتها، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري بكتابه إلى النجاشي في المحرم سنة 7 هـ. خطب عليه أم حبيبة فزوجها إياه وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة. 10- صفية بنت حيي بن أخطب من بني إسرائيل ، كانت من سبي خيبر، فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، فأعتقها وتزوجها بعد فتح خيبر سنة 7 هـ. 11- ميمونة بنت الحارث ، أخت أم الفضل لبابة بنت الحارث، تزوجها في ذي القعدة سنة 7 هـ، في عمرة القضاء، بعد أن حل منها على الصحيح. فهؤلاء إحدى عشرة سيدة تزوج بهن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبنى بهن وتوفيت منهن اثنتان- خديجة وزينب أم المساكين- في حياته، وتوفي هو عن التسع البواقي. وأما الإثنتان اللتان لم يبن بهما، فواحدة من بني كلاب، وأخرى من كندة، وهي المعروفة بالجونية، وهناك خلافات لا حاجة إلى بسطها. وأما السراري فالمعروف أنه تسرى باثنتين إحداهما: مارية القبطية، أهداها له المقوقس، فأولدها ابنه إبراهيم، الذي توفي صغيرا بالمدينة في حياته صلى الله عليه وسلم، في 28/ أو 29 من شهر شوال سنة 10 هـ وفق 27 يناير سنة 632 م. والسرية الثانية هي: ريحانة بنت زيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 النضرية أو القرظية، كانت من سبايا قريظة، فاصطفاها لنفسه، وقيل: بل هي من أزواجه صلى الله عليه وسلم، أعتقها فتزوجها. والقول الأول رجحه ابن القيم. وزاد أبو عبيدة اثنتين أخريين، جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش «1» . ومن نظر إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم عرف جيدا أن زواجه بهذا العدد الكثير من النساء في أواخر عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلاثين عاما من ريعان شبابه وأجود أيامه مقتصرا على زوجة واحدة شبه عجوز- خديجة ثم سودة- عرف أن هذا الزواج لم يكن لأجل أنه وجد بغتة في نفسه قوة عارمة من الشبق، لا يصبر معها إلا بمثل هذا العدد الكثير من النساء؛ بل كانت هناك أغراض أخرى أجل وأعظم من الغرض الذي يحققه عامة الزواج. فاتجاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصاهرة أبي بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة- وكذلك تزويجه ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنته رقية ثم أم كلثوم بعثمان بن عفان- يشير إلى أنه يبغي من وراء ذلك توثيق الصلات بالرجال الأربعة، الذين عرف بلاءهم وفداءهم للإسلام في الأزمات التي مرت به، وشاء الله أن يجتازها بسلام. وكان من تقاليد العرب الإحترام للمصاهرة، فقد كان الصهر عندهم بابا من أبواب التقرب بين البطون المختلفة، وكانوا يرون مناوأة ومحاربة الأصهار سبة وعارا على أنفسهم، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بزواج عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر سورة عداء القبائل للإسلام، ويطفئ حدة بغضائها، كانت أم سلمة من بني مخزوم- حي أبي جهل وخالد بن الوليد- فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقف خالد من المسلمين موقفه الشديد بأحد، بل أسلم بعد مدة غير طويلة طائعا راغبا، وكذلك أبو سفيان لم يواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي محاربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة، وكذلك لا نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواجه بجويرية وصفية؛ بل كانت جويرية أعظم النساء بركة على قومها، فقد أطلق الصحابة أسر مائة بيت من قومها حين تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يخفى ما لهذا المن من الأثر البالغ في النفوس. وأكبر من كل ذلك وأعظم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتزكية وتثقيف قوم لم يكونوا يعرفون شيئا من آداب الثقافة والحضارة والتقيد بلوازم المدينة، والمساهمة في بناء المجتمع وتعزيزه.   (1) انظر زاد المعاد: 1/ 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 والمبادئ التي كانت أسسا لبناء المجتمع الإسلامي، لم تكن تسمح للرجال أن يختلطوا بالنساء، فلم يكن يمكن تثقيفهن مباشرة مع المراعاة لهذه المبادئ، مع أن مسيس الحاجة إلى تثقيفهن لم يكن أهون وأقل من الرجال، بل كان أشد وأقوى. وإذن فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم سبيل إلا أن يختار من النساء المختلفة الأعمار والمواهب ما يكفي لهذا الغرض، فيزكيهن ويربيهن، ويعلمهن الشرائع والأحكام، ويثقفهن بثقافة الإسلام حتى يعدهن لتربية البدويات والحضريات، العجائز منهن والشابات، فيكفين مؤنة التبليغ في النساء. وقد كان لأمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحواله- صلى الله عليه وسلم- المنزلية للناس، خصوصا من طالت حياته منهن كعائشة، فإنها روت كثيرا من أفعاله وأقواله. وهناك نكاح واحد كان لنقض تقليد جاهلي متأصل، وهي قاعدة التبني. وكان للمتبنى عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للابن الحقيقي سواء بسواء. وكانت قد تأصلت تلك القاعدة في القلوب، بحيث لم يكن محوها سهلا، لكن كانت تلك القاعدة تعارض معارضة شديدة للأسس والمبادئ التي قررها الإسلام في النكاح والطلاق والميراث وغير ذلك من المعاملات، وكانت تلك القاعدة تجلب كثيرا من المفاسد والفواحش التي جاء الإسلام ليمحوها عن المجتمع. ولهدم تلك القاعدة أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينكح ابنة عمته زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد، ولم يكن بينهما توافق، حتى هم زيد بطلاقها، وذلك في ساعة تألب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف دعاية المنافقين والمشركين واليهود، وما يثيرونه من الوساوس والخرافات ضده، وما يكون له من الأثر السيئ في نفوس ضعفاء المسلمين، فأحب ألايطلق زيد؛ حتى لا يقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الإمتحان. ولا شك أن هذا التردد والإنحياز كان لا يطابق مطابقة تامة للعزيمة التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاتبه الله على ذلك وقال: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: 37] . وأخيرا طلقها زيد، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام فرض الحصار على بني قريظة بعد أن انقضت عدتها. وكان الله قد أوجب عليه هذا النكاح، ولم يترك له خيارا ولا مجالا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 حتى تولى الله ذلك النكاح بنفسه يقول: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً [الأحزاب: 37] وذلك ليهدم قاعدة التبني فعلا كما هدمها قولا: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. [الأحزاب: 5] . ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] . وكم من التقاليد المتأصلة الجازمة لا يمكن هدمها أو تعديلها لمجرد القول، بل لا بد له من مقارنة فعل صاحب الدعوة، ويتضح ذلك بما صدر من المسلمين في عمرة الحديبية، كان هناك أولئك المسلمون الذين رآهم عروة بن مسعود الثقفي، لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا في يد أحدهم، ورآهم يتبادرون إلى وضوئه حتى كادوا يقتتلون عليه، نعم كان أولئك الذين تسابقوا إلى البيعة على الموت أو على عدم الفرار تحت الشجرة، والذين كان فيهم مثل أبو بكر وعمر، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الصحابة المتفانين في ذاته- بعد عقد الصلح- أن يقوموا فينحروا هداهم لم يقم لامتثال أمره أحد، حتى أخذه القلق والإضطراب، ولكن لما أشارت عليه أم سلمة أن يقوم إلى هديه فينحر، ولا يكلم أحدا ففعل، تبادر الصحابة إلى إتباعه في فعله، فتسابقوا إلى نحر جزورهم. وبهذا الحادث يتضح جليا ما هو الفرق بين أثري القول والفعل لهدم قاعدة راسخة. وقد أثار المنافقون وساوس كثيرة، وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح، أثر بعضها في ضعفاء المسلمين، لا سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعرف المسلمون حل الزواج بأكثر من أربع نسوة، وأن زيدا كان يعتبر ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم، والزواج بزوجة الابن كان من أغلظ الفواحش، وقد أنزل الله في سورة الأحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى، وعلم الصحابة أن التبني ليس له أثر عند الإسلام، وأن الله تعالى وسع لرسوله صلى الله عليه وسلم في الزواج ما لم يوسع لغيره لأغراضه النبيلة الممتازة. هذا، وكانت عشرته صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن، كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيام بحقوق الزواج، مع أنه كان في شظف من العيش لا يطيقه أحد. قال أنس: ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط «1» . وقالت   (1) صحيح البخاري 2/ 956. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 عائشة: إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقال لها عروة: ما كان يعشيكم؟ قالت: الأسودان؛ التمر والماء «1» . والأخبار بهذا الصدد كثيرة. ومع هذا الشظف والضيق لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إلا مرة واحدة- حسب مقتضى البشرية، وليكون سببا لتشريع الأحكام- فأنزل الله آية التخيير يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 28، 29] وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن الله ورسوله، ولم تمل واحدة منهن إلى اختيار الدنيا. وكذلك لم يقع منهن ما يقع بين الضرائر مع كثرتهن إلا شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء البشرية، ثم عاتب الله عليه فلم يعدن له مرة أخرى، وهو الذي ذكره الله في سورة التحريم بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إلى تمام الآية الخامسة. وأخيرا أرى أنه لا حاجة إلى البحث في موضوع مبدأ تعدد الزوجات، فمن نظر في حياة سكان أوروبا الذين يصدر منهم النكير الشديد على هذا المبدأ، ونظر إلى ما يقاسون من الشقاوة والمرارة، وما يأتون من الفضائح والجرائم الشنيعة، وما يواجهون من البلايا والقلاقل لانحرافهم عن هذا المبدأ كفى له ذلك عن البحث والإستدلال، فحياتهم أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ، وإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.   (1) نفس المصدر والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الصفات والأخلاق كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من كمال خلقه وكمل خلقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه وأحبوه إلى حد الهيام، ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يعشق عادة لم يرزق بمثلها بشر- وفيما يلي نورد ملخص الروايات في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الإحاطة. جمال الخلق قالت أم معبد الخزاعية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهي تصفه لزوجها، حين مر بخيمتها مهاجرا-: ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه تجله، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطع، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فضل، لا نزر، ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة، لا تقحمه عين من قصر ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند «1» . وقال علي بن أبي طالب- وهو ينعت رسول الله صلى الله عليه وسلم-: لم يكن بالطويل الممّغط، ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسّبط، وكان جعدا   (1) زاد المعاد 2/ 54. الثجلة: ضخامة البدن. الصعلة: صغر الرأس. وسيم قسيم: حسن جميل. الدعج: سواد العين. وفي أشفاره وطف: في شعر أجفانه طول. صحل. بحة وخشونة. سطع: طول. أزج: الحاجب الرقيق في الطول. لا نزر ولا هذر: أي وسط لا قليل ولا كثير. محفود: الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسرعون في طاعته. المحشود: الذي يجتمع إليه الناس. ولا مفند: لا يفند أحدا أي يهجنه ويستقل عقله بل جميل المعاشرة حسن الصحبة، صاحبه كريم عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 رجلا، ولم يكن بالمطهّم ولا بالمكلثم، وكان في الوجه تدوير، وكان أبيض مشربا، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، دقيق المسربة، أجرد، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلّع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم «1» . وفي رواية عنه: أنه كان ضخم الرأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة، إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب «2» . وقال جابر بن سمرة: كان ضليع الفم، أشكل العين، منهوس العقبين «3» . وقال أبو الطفيل: كان أبيض، مليح الوجه، مقصدا «4» . وقال أنس بن مالك: كان بسط الكفين. وقال: كان أزهر اللون، ليس بأبيض أمهق، ولا آدم، قبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء «5» . وقال: إنما كان شيء- أي من الشيب- في صدغيه. وفي رواية: وفي الرأس نبد «6» . وقال أبو جحيفة: رأيت بياضا تحت شفته السفلى: العنفقة «7» .   (1) ابن هشام 1/ 401، 402، وجامع الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/ 303. والممغّط: المتناهي في الطول. الجعد: ملتوي ومنقبض الشعر. القطط: شديد الجعودة. السبط: المسترسل. المطهم: منتفخ الوجه وقيل الفاحش المسن، وقيل النحيف الجسم. المكلثم: هو اجتماع لحم الوجه بلا جهومة. أهدب الأشفار: طويل شعر الأجفان. جليل المشاش: أي عظمي رؤوس العظام كالمفرقين والكتفين والركبتين. الكتد: مجتمع الكتفين وهو الكاهل. أجرد: هو الذي ليس على بدنه شعر. المسربة: الشعر الدقيق الذي هو كأنه قضيب من الصدر إلى السرة. الشّثن: الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين. البديهة: المفاجأة. (2) نفس المصدر الأخير. الكراديس: رؤوس العظام وقيل: هي ملتقى كل عظمين ضخمين كالركبتين والمرفقين والمنكبين أراد أنه ضخم الأعضاء. (3) صحيح مسلم 2/ 258 ضليع الفم: عظيم الفم. أشكل العين: طويل العين. منهوس العقب: قليل اللحم. (4) نفس المصدر. مقصدا: هو الذي ليس بجسيم ولا نحيف ولا طويل ولا قصير.. (5) صحيح البخاري 1/ 502. أزهر اللون: أبيض مشرب بحمرة. الأبيض الأمهق: شديد البياض كلون الجص. الآدم: الأسمر والمعنى: ليس بأسمر ولا بأبيض كريه البياض بل أبيض بياضا نيرا مشربا. (6) نفس المصدر، وصحيح مسلم 2/ 259، والنبذ: بضم النون وفتح الباء أو بفتح النون وتسكين الباء ومعناها: شعرات متفرقة. (7) صحيح البخاري 1/ 501، 502. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وقال عبد الله بن بسر: كان في عنفقته شعرات بيض «1» . وقال البراء: كان مربوعا بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه «2» . وكان يسدل شعره أولا لحبه موافقه أهل الكتاب، ثم فرق رأسه بعد «3» . قال البراء: كان أحسن الناس وجها، وأحسنهم خلقا «4» . وسئل أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. وفي رواية: كان وجهه مستديرا «5» . وقالت الربيع بنت معوذ: لو رأيته رأيت الشمس طالعة «6» . وقال جابر بن سمرة: رأيته في ليلة إضحيان، فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر- وعليه حلة حمراء- فإذا هو أحسن عندي من القمر «7» . وقال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما الأرض تطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث «8» . وقال كعب بن مالك: كان إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر «9» . وعرق مرة وهو عند عائشة، فجعلت تبرك أسارير وجهه، فتمثلت له بقول أبي كبير الهذلي: وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل «10»   (1) نفس المصدر 1/ 502. (2) نفس المصدر. (3) صحيح البخاري 1/ 503. (4) نفس المصدر 1/ 502، صحيح مسلم 2/ 258. (5) صحيح البخاري 1/ 502، وصحيح مسلم 2/ 259. (6) رواه الدارمي ... مشكاة المصابيح 2/ 517. (7) رواه الترمذي في الشمائل ص 2، والدارمي ... مشكاة المصابيح 2/ 518. (8) جامع الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/ 306، مشكاة المصابيح 2/ 518. (9) صحيح البخاري 1/ 502. (10) رحمة للعالمين 2/ 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وكان أبو بكر إذا رآه يقول: أمين مصطفى بالخير يدعو ... كضوء البدر زايله الظلام «1» وكان عمر ينشد قول زهير في هرم بن سنان: لو كنت من شيء سوى البشر ... كنت المضيء ليلة البدر ثم يقل كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . وكان إذا غضب أحمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنته حب الرمان «3» . وقال جابر بن سمرة: كان في ساقيه حموشة، وكان لا يضحك إلا تبسما، وكنت إذا نظرت إليه قلت: أكحل العينين، وليس بأكحل «4» . قال ابن العباس: كان أفلج الثنيتين، إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه «5» . وأما عنقه فكأنه جيد دمية في صفاء الفضة، وكان في أشفاره غطف، وفي لحيته كثافة، وكان واسع الجبين، أزج الحواجب في غير قرن بينهما، أقنى العرنين، سهل الخدين، من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، أشعر الذراعين والمنكبين، سواء البطن والصدر، مسيح الصدر عريضه، طويل الزند، رحب الراحة، سبط القصب، خمصان الأخمصين، سائل الأطراف، إذا زال زال قلعا، يخطو تكفيا ويمشي هونا «6» . وقال أنس: ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا شمت ريحا قط   (1) خلاصة السير ص 20. (2) خلاصة السير ص 20. (3) مشكاة المصابيح 1/ 22، ورواه الترمذي في أبواب القدر: باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر 2/ 53. (4) جامع الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/ 306. والحموشة: أي دقة ولطافة متناسبة لسائر أعضائه. (5) رواه الدارمي ... مشكاة المصابيح 2/ 518. الأفلج: الذي بين أسنانه تباعد. والثنايا: أسنان مقدمة الفم. (6) خلاصة السير ص 19، 20. الجيد: العنق. الدمية: الصورة المصورة. الأقنى: الذي ارتفع أعلى أنفه واحدودب وسطه وضاق منخراه. والعرنين: الأنف وما صلب منه. سبط القصب: الممتد الذي ليس فيه تعقد ولا نتوء، والقصب يريد بها ساعديه وساقيه. الأخمص من القدم: الموضع الذي لا يلصق بالأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 أو عرفا قط، وفي رواية: ما شممت عنبرا قط ولا مسكا ولا شيئا أطيب من ريح أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . وقال أبو جحيفة: أخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك «2» . وقال جابر بن سمرة- وكان صبيا-: مسح خدي فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جونة عطار» . وقال أنس: كأن عرقه اللؤلؤ. وقالت أم سليم: هو من أطيب الطيب «4» . وقال جابر: لم يسلك طريقا فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه، أو قال: من ريح عرقه «5» . وكان بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده، وكان عند ناغض كتفه اليسرى، جمعا عليه خيلان كأمثال الثاليل «6» . كمال النفس ومكارم الأخلاق كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي. وكان الحلم والإحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفات أدبه الله بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، قالت عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا   (1) صحيح البخاري 1/ 503، صحيح مسلم 2/ 257. (2) صحيح البخاري 1/ 502. (3) صحيح مسلم 2/ 256. جونة عطار: التي يعد فيه الطيب ويحرز. (4) نفس المصدر. (5) رواه الدارمي ... مشكاة المصابيح 2/ 517. (6) صحيح مسلم 2/ 259، 260. الثاليل: هو هذه الحبة التي تظهر في الجلد كالحمصة فما دونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها «1» ، وكان أبعد الناس غضبا، وأسرعهم رضا. وكان من صفة الجود والكرم على ما لا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة «2» . وقال جابر. ما سئل شيئا قط فقال: لا «3» . وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذي لا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة، وحفظت عنه جولة سواه، قال علي: كنا إذا حمي البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه «4» . قال أنس: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عرى، في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا «5» . وكان أشد الناس حياء وإغضاء، قال أبو سعيد الخدري: كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وإذا كره شيئا عرف في وجهه «6» ، وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، لا يشافه أحدا بما يكره حياء وكرم نفسه، وكان لا يسمي رجلا بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول: ما بال أقوام يصنعون كذا. وكان أحق الناس بقول الفرزدق: يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم وكان أعد الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك محاوروه وأعداؤه، وكان يسمى قبل نبوته الأمين، ويتحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روى الترمذي عن علي أن أبا جهل قال له: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به،   (1) صحيح البخاري 1/ 503. (2) نفس المصدر 1/ 502. (3) نفس المصدر 1/ 502. (4) انظر الشفاء للقاضي عياض 1/ 89 ومثل ذلك روى أصحاب الصحاح والسنن. (5) صحيح مسلم 2/ 252، وصحيح البخاري 1/ 407. (6) صحيح البخاري 1/ 504. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 فأنزل الله تعالى فيهم فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ «1» [الأنعام: 33] وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. وكان أشد الناس تواضعا، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة: كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشرا من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه «2» . وكان أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدبا، وأبسط الناس خلقا، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا لعانا، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خدمه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيرا لفقره. كان في بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: علي ذبحها وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر: علي طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم: وعلي جمع الحطب، فقالوا: نحن نكفيك. فقال: قد علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه، وقام وجمع الحطب «3» . ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال هند فيما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه- لا بأطراف فمه- ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئا، ولم يكن يذم ذواقا- ما يطعم- ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها- سماحة- وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام. وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم،   (1) مشكاة المصابيح 2/ 521. (2) نفس المصدر 2/ 520. (3) خلاصة السير ص 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره. يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر على الحق، ولا يجاوزه إلى غيره.. الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن- لا يميز لنفسه مكانا- إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه؛ حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجته صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم- لا تخشى فلتاته- يتعاطفون بالتقوى، ويوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب. كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافىء «1» . وقال خارجة بن زيد: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم من غير جميل، كان ضحكة تبسما، وكلامه فصلا، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيرا له واقتداء به «2» .   (1) انظر الشفا للقاضي عياض 1/ 121، 122، 123، 124، 125، 126، وانظر أيضا شمائل الترمذي. (2) نفس المصدر 1/ 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وعلى الجملة فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم محلى بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنيا عليه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب، وصيره قائدا تهوى إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه بعد الإباء، حتى دخلوا في دين الله أفواجا. وهذ الخلال التي أتينا علنى ذكره خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائلب فأمر لا يدرك كنهه، ولا يسبر غوره، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن؟. اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. صفي الرحمن المباركفوري الجامعة السلفية 13/ 11/ 1396 هـ بنارس الهند 6/ 11/ 1976 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 ثبت المراجع 1- إخبار الكرام بأخبار المسجد الحرام: شهاب الدين أحمد بن محمد الأسدي المكي (م 1066 هـ) . المطبعة السلفية بنارس الهند 1396/ 1976 م. 2- الأدب المفرد: محمد بن إسماعيل البخاري (356 هـ) . طبع استامبول 1304 هـ. 3- الأعلام: خير الدين الزركلي. الطبعة الثانية القاهرة 1954 م. 4- البداية والنهاية: إسماعيل بن كثير الدمشقي مطبعة السعادة مصر 1932 م. 5- بلوغ المرام من أدلة الأحكام: أحمد بن حجر العسقلاني (773- 854 هـ) المطبع القيومي كانفور الهند 1323 هـ. 6- تاريخ أرض القرآن: السيد سليمان الندوي (1373 هـ) معارف بريس أعظم كده- الهند 1955 م (الطبعة الرابعة) . 7- تاريخ إسلام: شاه أكبر خان نجيب آبادي مكتبة رحمت ديوبند يوبي الهند. 8- تاريخ الأمم والملوك: 9- تاريخ عمر بن الخطاب: أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. 10- تحفة الأحوذي: أبو العلى عبد الرحمن المباركفوري (م 1353 هـ- 1935 م) جيد برقي بريس دهلي الهند 1346- 1353 هـ. 11- تفسير ابن كثير: إسماعيل بن كثير الدمشقي. 12- تفهيم القرآن: الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي مركزي مكتبة جماعت إسلامي الهند. 13- تلقيح فهوم أهل الأثر: أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (م 597 هـ) جيد برقي بريس دهلي الهند. 14- جامع الترمذي: أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (209 هـ- 279 هـ) المكتبة (الرشيدية دهلي الهند) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 15- الجهاد في الإسلام (الأردو) : الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي، إسلامك ببليكشنز لميد لاهور (باكستان) الطبعة الرابعة 1967 م. 16- خلاصة السير: محب الدين أبو جعفر أحمد بن عبد الله الطبري م 674 هـ دلي برنئينك بريس دهلي الهند 1343 هـ. 17- رحمة للعالمين: محمد سليمان سلمان المنصور فوري (م 1930 م) حنيف بكديودلي. 18- رسول أكرم كي سياسي زندكي: الدكتور حميد الله، باريس سالم كمبيني ديوبنديو- بي الهند 1963 م. 19- الروض الأنف: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي (508- 581 هـ) المطبعة الجمالية بمصر 1332 هـ/ 1914 م. 20- زاد المعاد: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن بكر بن أيوب المعروف بابن القيم (691- 751 هـ) . 21- سفر التكوين: 22- سنن ابن ماجة: أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (209- 273 هـ) . 23- سنن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني 202- 275 هـ ج/ 1 المطبع المجيدي كانفور الهند 1375 هـ 2 المكتبة الرحيمية ديوبنديو بي الهند. 24- سنن النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (215- 303 هـ) المكتبة السلفية لاهور (باكستان) . 25- السيرة الحلبية: ابن برهان الدين. 26- السيرة النبوية: أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري (213 أو 218 هـ) 1955 م. 27- شرح شذور الذهب: أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف المعروف بابن هشام الأنصاري (708- 761) . 28- شرح صحيح مسلم: أبو زكريا محي الدين بن شرف النووي (676 هـ) . المكتبة الرشيدية دهلي الهند 1376 هـ. 29- شرح المواهب اللدنية: الزرقاني نسخة عتيقة مخرومة الأوائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 30- الشفا بتعريف حقوق المصطفى: القاضي عياض مطبعة عثمانية استانبول 1312 هـ. 31- صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ) المكتبة الرحيمية (ديوبند الهند) 1384- 1387 هـ. 32- صحيح مسلم: مسلم بن الحجاج القشيري المكتبة الرشيدية دهلي الهند 1376 هـ. 33- صحيفة حبقوق. 34- صلح الحديبية: محمد أحمد باشميل (الطبعة الثانية دار الفكر 1391 هـ 1971 م) . 35- الطبقات الكبرى: محمد ب سعد مطبعة بريل ليدن 1322 هـ، 36- عون المعبود شرح أبي داود: أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي (الطبعة الأولى الهندية) . 37- غزوة أحد: محمد أحمد باشميل (الطبعة الثانية) . 38- غزوة بدر الكبرى: محمد أحمد باشميل (الطبعة الثالثة) 1376 هـ- 1976 م. 39- غزوة خيبر: محمد أحمد باشميل (الطبعة الثانية) دار الفكر 1391 هـ- 1971 م. 40- غزوة بني قريظة: محمد أحمد باشميل (الطبعة الأولى) 1376 هـ- 1966 م. 41- فتح الباري: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773- 852 هـ) . 42- فقه السيرة: محمد الغزالي. دار الكتاب العربي بمصر الطبعة الثانية 1375 هـ- 1955 م. 43- في ظلال القرآن: سيد قطب. 44- القرآن الكريم: 45- قلب جزيرة العرب: فؤاد حمزة. 46- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي. القاهرة 1381 هـ 1961 م. 47- محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية: الشيخ محمد الخضري بك، 1382 هـ. 48- مختصر سيرة الرسول: شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي (م 1206) . 49- مختصر سيرة الرسول: الشيخ عبد الله بن محمد النجدي آل الشيخ (م بمصر 1242 هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 50- مدارك التنزيل، تفسير النسفي: للنسفي. 51- مرقاة المفاتيح ج 2: الشيخ أبو الحسن عبيد الله الرحماني المباركفوري نامي بريس لكنؤ الهند 1378 هـ 1958 م. 52- مروج الذهب: أبو الحسن علي المسعودي مطبعة الشرق الإسلامية القاهرة. 53- المستدرك: أبو عبد الله محمد الحاكم النيسابوري دائرة المعارف العثمانية حيد آباد. الهند. 54- مسند أحمد: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (264 هـ) . 55- مسند الدارمي: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (181- 255 هـ. 56- مشكاة المصابيح: ولي الدين محمد بن عبد الله التبريزي، المكتبة الرحيمية ديوبند يوبي- الهند. 57- معجم البلدان: ياقوت الحموي. 58- المواهب اللدنية: للقسطلاني. 59- موطأ الإمام مالك: الإمام مالك بن أنس الأصبحي (م 169 هـ) المكتبة الرحيمية ديوبند يوبي- الهند. 60- وفاء الوفا: علي بن أحمد السمهودي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 فهرس الكتاب الموضوع الصفحة كلمة معالي الشيخ محمد علي الحركان 3 كلمة المؤلف 7 موقع العرب وأقوامها 9 موقع العرب 9 أقوام العرب 10 الحكم والإمارة في العرب 16 الملك باليمن 16 الملك بالحيرة 18 الملك بالشام 19 الإمارة بالحجاز 20 الحكم في سائر العرب 25 الحالة السياسية 26 ديانات العرب 27 الحالة الدينية 33 صور من المجتمع العربي الجاهلي 34 الحالة الاجتماعية 34 الحالة الاقتصادية 36 الأخلاق 37 نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته 39 نسب النبي صلى الله عليه وسلم 39 الأسرة النبوية 40 المولد وأربعون عاما قبل النبوة 45 المولد 45 في بني سعد 46 إلى أمه الحنون 48 إلى جده العطوف 48 إلى عمه الشفيق 48 يستسقي الغمام بوجهه 49 بحيرا الراهب 49 حرب الفجار 49 حلف الفضول 50 حياة الكدح 50 زواجه خديجة 51 بناء الكعبة وقضية التحكيم 52 السيرة الإجمالية قبل النبوة 53 في ظلال النبوة والرسالة 55 في غار حراء 55 جبريل ينزل بالوحي 55 فترة الوحي 58 جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية 59 استطراد في بيان أقسام الوحي 59 أمر القيام بالدعوة إلى الله، وموادها 61 أدوار الدعوة ومراحلها 64 المرحلة الأولى: جهاد الدعوة 65 ثلاث سنوات من الدعوة السرية 65 الرعيل الأول 65 الصلاة 66 الخبر يبلغ إلى قريش إجمالا 67 المرحلة الثانية: الدعوة جهارا 68 أول أمر بإظهار الدعوة 68 الدعوة في الأقربين 68 على جبل الصفا 69 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 الصدع بالحق وردود فعل المشركين 70 وفد قريش إلى أبي طالب 71 المجلس الإستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة 71 أساليب شتى لمجابهة الدعوة 72 الإضطهادات 74 دار الأرقم 80 الهجرة الأولى إلى الحبشة 81 مكيدة قريش بمهاجري الحبشة 83 قريش يهددون أبا طالب 85 قريش بين يدي أبي طالب مرة أخرى 86 فكرة الطغاة في إعدام النبي صلى الله عليه وسلم 87 إسلام حمزة رضي الله عنه 89 إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه 89 ممثل قريش بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم 94 أبو طالب يجمع بني هاشم وبني عبد المطلب 95 المقاطعة العامة 97 ميثاق الظلم والعدوان 97 ثلاثة أعوام في شعب أبي طالب 97 نقض صحيفة الميثاق 98 آخر وفد قريش إلى أبي طالب 101 عام الحزن 103 وفاة أبي طالب 103 خديجة إلى رحمة الله 104 تراكم الأحزان 104 الزواج بسودة رضي الله عنها 105 عوامل الصبر والثبات 106 المرحلة الثالثة: دعوة الإسلام خارج مكة 113 الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف 113 عرض الإسلام على القبائل والأفراد 117 القبائل التي عرض عليها الإسلام 117 المؤمنون من غير أهل مكة 118 ست نسمات طيبة من أهل يثرب 121 استطراد- تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة 123 الإسراء والمعراج 124 بيعة العقبة الأولى 129 سفير الإسلام في المدينة 130 النجاح المغتبط 130 بيعة العقبة الثانية 133 بداية المحادثة وتشريح العباس لخطورة المسؤولية 134 بنود البيعة 134 التأكيد من خطورة البيعة 135 عقد البيعة 136 اثنا عشر نقيبا 137 نقباء الخزرج 137 نقباء الأوس 137 شيطان يكتشف المعاهدة 138 استعداد الأنصار لضرب قريش 138 قريش تقدم الإحتجاج إلى رؤساء يثرب 138 تأكد الخبر لدى قريش ومطاردة المبايعين 139 طلائع الهجرة 140 في دار الندوة «برلمان قريش» 143 النقاش البرلماني والإجماع على قرار غاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم 144 هجرة النبي صلى الله عليه وسلم 146 تطويق منزل الرسول صلى الله عليه وسلم 146 الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته 147 من الدار إلى الغار 148 إذ هما في الغار 149 في الطريق إلى المدينة 150 الدخول في المدينة 156 الحياة في المدينة 158 المرحلة الأولى: الحالة الراهنة في المدينة عند الهجرة 160 بناء مجتمع جديد 166 بناء المسجد النبوي 166 بناء المسجد بين المسلمين 167 المؤاخاة بين المسلمين 167 ميثاق التحالف الإسلامي 168 أثر المعنويات في المجتمع 169 معاهدة مع اليهود 173 بنود المعاهدة 173 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 الكفاح الدامي 175 استفزازات قريش ضد المسلمين بعد الهجرة واتصالهم بعبد الله بن أبي 175 إعلان عزيمة الصد عن المسجد الحرام 176 قريش تهدد المهاجرين 176 الإذن بالقتال 177 الغزوات والسرايا قبل بدر 177 غزوة بدر الكبرى 184 أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة 184 سبب الغزوة 184 مبلغ قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات 184 الجيش الإسلامي يتحرك نحو بدر 185 النذير في مكة 185 أهل مكة يتجهزون للغزو 186 قوام الجيش المكي 186 مشكلة قبائل بني بكر 186 جيش مكة يتحرك 186 العير تفلت 187 هم الجيش المكي بالرجوع ووقوع الإنشقاق فيه 187 حراجة موقف الجيش الإسلامي 188 المجلس الإستشاري 188 الجيش الإسلامي يواصل سيره 189 الرسول صلى الله عليه وسلم بقوم بعملية الإستكشاف 189 الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي 190 نزول المطر 191 الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية 191 مقر القيادة 191 تعبئة الجيش وقضاء الليل 192 الجيش المكي في عرصة القتال ووقوع الإنشقاق فيه 192 الجيشان يتراآن 195 ساعة الصفر وأول وقود المعركة 196 المبارزة 196 الهجوم العام 196 الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه 197 نزول الملائكة 197 الهجوم المضاد 197 إبليس ينسحب عن ميدان القتال 199 الهزيمة الساحقة 199 صمود أبي جهل 199 مصرع أبي جهل 199 من روائع الإيمان في هذه المعركة 201 قتلى الفريقين 203 مكة تتلقى نبأ الهزيمة 204 المدينة تتلقى أنباء النصر 205 الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة 206 وفود التهنئة 207 قضية الأسارى 208 القرآن يتحدث حول موضوع المعركة 209 النشاط العسكري بين بدر وأحد 211 غزوة بني سليم بالكدر 212 مؤامرة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم 212 غزوة بني قينقاع 214 نموذج من مكيدة اليهود 214 بنو قينقاع ينقضون العهد 215 الحصار ثم التسليم ثم الجلاء 216 غزوة السويق 217 غزوة ذي أمر 218 قتل كعب بن الأشرف 219 غزوة بحران 222 سرية زيد بن حارثة 222 غزوة أحد 224 استعداد قريش لمعركة ناقمة 224 قوام جيش قريش وقيادته 225 جيش مكة يتحرك 225 الإستخبارات النبوية تكشف حركة العدو 225 استعداد المسلمين للطوارىء 226 الجيش المكي إلى أسوار المدينة 226 المجلس الإستشاري لأخذ خطة الدفاع 226 تكتيب الجيش الإسلامي وخروجه إلى ساحة القتال 227 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 استعراض الجيش 228 المبيت بين أحد والمدينة 229 تمرد عبد الله بن أبي وأصحابه 229 بقية الجيش الإسلامي إلى أحد 230 خطة الدفاع 230 الرسول صلى الله عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش 232 تعبئة الجيش المكي 232 مناورات سياسية من قبل قريش 233 جهود نسوة قريش في التحميس 233 أول وقود المعركة 234 ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته 234 القتال في بقية النقاط 235 مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب 237 السيطرة على الموقف 237 من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة 237 نصيب فصيلة الرماة في المعركة 238 الهزيمة تنزل بالمشركين 238 غلطة الرماة الفظيعة 239 خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي 239 موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق 240 تبدد المسلمين في الموقف 240 إحتدام القتال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم 242 أحرج ساعة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم 242 بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى الله عليه وسلم 245 تضاعف ضغط المشركين 246 البطولات النادرة 246 إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأثره على المعركة 247 الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف 249 مقتل أبي بن خلف 250 طلحة ينهض بالنبي صلى الله عليه وسلم 250 آخر هجوم قام به المشركون 250 تشويه الشهداء 251 مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة 251 بعد انتهاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشعب 252 شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر 253 مواعدة التلاقي في بدر 253 التثبت من موقف المشركين 253 تفقد القتلى والجرحى 254 جمع الشهداء ودفنهم 255 الرسول صلى الله عليه وسلم يثني على ربه عز وجل ويدعوه 256 الرجوع إلى المدينة، ونوادر الحب والتفاني 256 الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة 257 قتلى الفريقين 257 حالة الطوارىء في المدينة 258 غزوة حمراء الأسد 258 القرآن يتحدث حول موضوع المعركة 262 الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة 262 السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب 264 سرية أبي سلمة 264 بعث عبد الله بن أنيس 265 بعث الرجيع 265 مأساة بئر معونة 267 غزوة بني النضير 268 غزوة نجد 271 غزوة بدر الثانية 272 غزوة دومة الجندل 273 غزوة الأحزاب 275 غزوة بني قريظة 288 النشاط العسكري بعد هذه الغزوة 293 مقتل سلام بن أبي الحقيق 293 سرية محمد بن مسلمة 294 غزوة بني لحيان 295 متابعة البعوث والسرايا 296 غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع 298 دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق 299 دور المنافقين في غزوة بني المصطلق 302 1- قول المنافقين: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل 302 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 2- حديث الإفك 303 البعوث والسرايا بعد غزوة المريسيع 306 وقعة الحديبية في ذي القعدة سنة 6 هـ 308 سبب عمرة الحديبية 308 استنفار المسلمين 308 المسلمون يتحركون إلى مكة 308 محاولة قريش صد المسلمين عن البيت 309 تبديل الطريق ومحاولة الإجتناب عن اللقاء الدامي 309 بديل يتوسط بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش 310 رسل قريش 310 هو الذي كف أيديهم عنكم 311 عثمان بن عفان سفيرا إلى قريش 311 إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان 312 إبرام الصلح وبنوده 312 رد أبي جندل 313 النحر والحلق للحل عن العمرة 314 الإباء عن رد المهاجرات 314 ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة 315 حزن المسلمين ومناقشة عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم 316 انحلت أزمة المستضعفين 317 اسلام أبطال من قريش 318 المرحلة الثانية: طور جديد 319 مكاتبة الملوك والامراء 320 1- الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة 320 2- الكتاب إلى المقوقس ملك مصر 322 3- الكتاب إلى كسرى ملك فارس 324 4- الكتاب إلى قيصر ملك الروم 325 5- الكتاب إلى المنذر بن ساوي 327 6- الكتاب إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة 328 7- الكتاب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق 328 8- الكتاب إلى ملك عمان 329 النشاط العسكري بعد صلح الحديبية 331 غزوة الغابة أو غزوة ذي قرد 331 غزوة خيبر ووادي القرى 333 سبب الغزوة 333 الخروج إلى خيبر 334 عدد الجيش الإسلامي 334 اتصال المنافقين باليهود 334 الطريق إلى خيبر 335 بعض ما وقع في الطريق 335 الجيش الإسلامي إلى أسوار خيبر 336 التهيؤ للقتال وحصون خيبر 337 بدء المعركة وفتح حصن ناعم 338 فتح حصن الصعب بن معاذ 339 فتح قلعة الزبير 340 فتح قلعة أبي 340 فتح حصن النزار 340 فتح الشطر الثاني من خيبر 341 المفاوضة 341 قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد 342 قسمة الغنائم 342 قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعرين 343 الزواج بصفية 344 أمر الشاة المسمومة 344 قتلى الفريقين في معارك خيبر 345 فدك 345 وادي القرى 346 تيماء 346 العودة إلى المدينة 347 سرية أبان بن سعيد 347 بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة 348 غزوة ذات الرقاع 348 عمرة القضاء 352 معركة مؤتة 355 سبب المعركة 355 أمراء الجيش ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم 355 توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة 356 تحرك الجيش الإسلامي، ومباغتته حالة رهيبة 356 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 المجلس الإستشاري بمعان 356 الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو 357 بداية القتال، وتناوب القواد 357 الراية إلى سيف من سيوف الله 358 نهاية المعركة 359 [القتال التراجعي] 359 قتلى الفريقين 360 أثر المعركة 360 سرية ذات السلاسل 360 سرية أبي قتادة إلى خضرة 361 غزوة فتح مكة 362 سبب الغزوة 362 أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح 363 التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء 365 الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة 366 الجيش الإسلامي ينزل بمر الظهران 367 أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم 367 الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة 369 قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي 369 الجيش الإسلامي بذي طوى 370 الجيش الإسلامي يدخل مكة 370 الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام 371 الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش 371 لا تثريب عليكم اليوم 372 مفتاح البيت إلى أهله 372 بلال يؤذن على الكعبة 372 صلاة الفتح أو صلاة الشكر 373 إهدار دماء رجال من أكابر المجرمين 373 إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير 374 خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من الفتح 374 تخوف الأنصار من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة 375 أخذ البيعة 375 إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة، وعمله فيها 376 السرايا والبعوث 376 المرحلة الثالثة 379 غزوة حنين 380 مسير العدو ونزوله بأوطاس 380 مجرب الحروب يغلط رأي القائد 380 سلاح استكشاف العدو 381 سلاح استكشاف رسول الله صلى الله عليه وسلم 381 الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر مكة إلى حنين 381 الجيش الإسلامي يباغت الرماة والمهاجمين 382 رجوع المسلمين واحتدام المعركة 383 إنكسار حدة العدو، وهزيمته الساحقة 383 حركة المطاردة 383 الغنائم 384 غزوة الطائف 384 قسمة الغنائم بالجعرانة 386 الأنصار تجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم 387 قدوم وفد هوازن 388 العمرة والإنصراف إلى المدينة 389 البعوث والسرايا بعد الرجوع من غزوة الفتح 390 المصدقون 390 السرايا 391 غزوة تبوك في رجب سنة 9 هـ 394 سبب الغزوة 394 الأخبار العامة عن استعداد الرومان وغسان 395 الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان 396 زيادة خطورة الموقف 396 الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر القيام بإقدام حاسم 396 الإعلان بالتهيؤ لقتال الرومان 397 المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو 397 الجيش الإسلامي إلى تبوك 398 الجيش الإسلامي بتبوك 399 الرجوع إلى المدينة 400 المخلفون 401 أثر الغزوة 402 نزول القرآن حول موضوع الغزوة 403 بعض الوقائع المهمة في هذه السنة 403 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 حج أبي بكر رضي الله عنه 404 نظرة على الغزوات 405 الناس يدخلون في دين الله أفواجا 408 الوفود 408 نجاح الدعوة وأثرها 418 حجة الوداع 420 آخر البحوث 425 إلى الرفيق الأعلى 426 طلائع التوديع 426 بداية المرض 426 الأسبوع الأخير 427 قبل الوفاة بخمسة أيام 427 قبل أربعة أيام 428 قبل يوم أو يومين 429 قبل يوم 429 آخر يوم من الحياة 429 الأحتضار 430 تفاقم الأحزان على الصحابة 431 موقف عمر 431 موقف أبي بكر 431 التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض 432 البيت النبوي 434 الصفات والأخلاق 440 جمال الخلق 440 كمال النفس ومكارم الأخلاق 444 ثبت المراجع 449 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459