الكتاب: التعليق الممجد على موطأ محمد (شرح لموطأ مالك برواية محمد بن الحسن) المؤلف: محمد عبد الحي بن محمد عبد الحليم الأنصاري اللكنوي الهندي، أبو الحسنات (المتوفى: 1304هـ) تعليق وتحقيق: تقي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف بجامعة الإمارات العربية المتحدة الناشر: دار القلم، دمشق الطبعة: الرابعة، 1426 هـ - 2005 م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- التعليق الممجد على موطأ محمد اللكنوي، أبو الحسنات الكتاب: التعليق الممجد على موطأ محمد (شرح لموطأ مالك برواية محمد بن الحسن) المؤلف: محمد عبد الحي بن محمد عبد الحليم الأنصاري اللكنوي الهندي، أبو الحسنات (المتوفى: 1304هـ) تعليق وتحقيق: تقي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف بجامعة الإمارات العربية المتحدة الناشر: دار القلم، دمشق الطبعة: الرابعة، 1426 هـ - 2005 م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [مقدمات الطبع والتحقيق] تقدِيم بقَلم سَمَاحَةِ الشَّيخ أبي الحَسَن عَلي الحَسَني النَّدوي - الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده. وبعد، فأبدأ هذا التقديم المتواضع لكتاب "التعليق الممجَّد على موطأ الإمام محمد" للإمام أبي الحَسَنات عبد الحي اللَّكنَويّ رحمه الله تعالى، تحقيق وأخراج أخينا الفاضل فضيلة الشيخ الدكتور تقيّ الدين النَّدْوي، بما قاله حكيمُ الإسلام الإمام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشيخ وليّ الله الدهلوي (1114 هـ - 1176 هـ) في مقدمة كتابه "المصفّى شرح الموطأ" بالفارسية ما معناه بالعربية، قال - بعدَ ما ذكر حِيرتَه بسبب اختلاف مذاهب الفقهاء وكثرة أحزاب العلماء وتجاذيهم كلّ واحد عن الآخر إلى جانب - قال رحمه الله: (أُلهمت الإشارة إلى كتاب "الموطأ" تأليف الإمام الهُمام حجة الإسلام مالك بن أنس، وعَظُم ذلك الخاطر رويداً فرويداً، وتيقَّنْتُ أنه لا يوجد الآن كتابٌ ما في الفقه أقوى من موطأ الإمام مالك، لأن الكتب تتفاضل فيما بينها: إما من جهة فضل المصنف، أو من جهة التزام الصحة، أو من جهة شهرة أحاديث، أو من جهة القبول لها من عامة المسلمين، أو من جهة حُسن الترتيب واستيعاب المقاصد المهمة أو نحوها، وهذه الأمور كلها موجودة في الموطأ على وجه الكمال بالنسبة إلى جميع الكتب الموجودة على وجه الأرض الآن) (نقلاً من "تسهيل دراية الموطّأ في كتاب المسوّي شرح الموطّأ"، إخراج دار الكتب العلمية - بيروت، ص 17 - 18) . ومن كلامه فيه في نفس مقدمة المصفى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 (لقد انشرح صدري وحصل لي اليقين بأن الموطأ أصح كتاب يوجد على وجه الأرض بعد كتاب الله، كذلك تيقَّنْت أن طريق الإجتهاد وتحصيل الفقه (بمعنى معرفة أحكام الشريعة من أدلتها التفصيلية) مسدود اليوم (على من رام التحقيق) إلاَّ من وجه واحد، وهو أن يجعل المحقِّق الموطّأ نصب عينيه ويجتهد في وصل مراسيله ومعرفة مآخذ أقوال الصحابة والتابعين (بتتبُّع كتب أئمة المحدثين) ، ثم يسلك طريق الفقهاء المجتهدين (في المذاهب) من تحديد مفهوم الألفاظ، وتطبيق الدلائل، وتبيين الركن والشرط والآداب، واستخلاص القواعد الكلية الجامعة المانعة، ومعرفة عِلَل الأحكام وتعميمها وتحقيقها، وفقاً لعموم العِلّة وخصوصها، وأمثال ذلك، ويجتهد في فَهْم تعقّبات الإمام الشافعيّ وغيره (كتفقّبات الإمام محمد في موطّئه، وكتاب الحجج) ، ثم يجتهد في تطبيق المختلفات أو ترجيح الأحسن منها، ويتمكَّن من تحصيل اليقين بدلالة الدلائل على تلك المسائل، وبغالب الظن للرأي لمعرفة أحكام الله تعالى) (المرجع السابق: ص 29) . أما ما يتصل بمكانة الموطّأ للإمام محمد رحمه الله تعالى بالنسبة إلى موطّأ مالك برواية يحيى الأندلسي الليثي المصمودي وهو المتبادر بالموطّأ عند الإطلاق، وأكبّ عليه العلماء في القديم والحديث بالتدريس والشرح، فحسب القارئ ما يقوله الإمام عبدُ الحيّ بن عبد الحليم اللَّكنَوي صاحب "التعليق الممجَّد" في مقدمته لهذا الكتاب: (له ترجيح على الموطّأ برواية يحيى وتفضيل عليه لوجوه مقبولة عند أولي الأفهام) (التعليق الممجّد، ص 35 طبع المطبع المصطفائي 1297 هـ) . ثم ذكر هذه الأسباب وتوسَّع في عِّدها وشرحها (يُرجع إلى البحث في المقدمة، من ص 35 إلى ص 40) . وقد كان الإمام عبد الحيّ اللَّكْنَويّ من أقدر الناس وأجدرهم بالتعليق على موطّأ الإمام محمد، لأنه كان يجمع بين الصلة العلمية القوية بالحديث والصلة العلمية القوية بفقه المذاهب الأربعة، وبصفة خاصة بالمذهب الحنفي، الذي كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الإمام محمد من أعلامه البارزين ومؤسِّسيه الأصيلين، فكان بذلك يجمع بين نسب علميّ معنوي قريب بصاحب الموطّأ إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس، ونسب معنوي علمي كذلك بالإمام محمد بن الحسن تلميذ الإمام مالك وصاحب الإمام أبي حنيفة. والنسب العلمي والمعنوي ليس أقلَّ قيمةً ولا أضعف تأثيراً من النسب الجسدي الظاهر، وبذلك استطاع أن يتغلب على ما يعتبره كثير من التناقض والجمع بين الأضداد واستطاع أن ينصف كل الإنصاف لصاحب الكتاب الأول الإمام مالك وراويه وناقله الراشد البار الفقيه المجتهد، والمحدث الواعي، الإمام محمد. هذا عدا ما اتصف به من اتِّساع الأُفق العلمي ورحابة الصدر، وسلامة الفكر، والذكاء النادر. يقول سَمِيُّه العلامة عبد الحيّ بن فخر الدين الحسني (م 1341 هـ) ، في كتابه المشهور: "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر" في ترجمة الإمام عبد الحيّ اللَّكْنَوي يحكي قوله: (ومن مِنَحِه أنه جعلني سالكاً بين الإفراط والتفريط لا تأتي مسألة معركة الآراء بين يديّ إلاَّ أُلهمت الطريق الوسط فيها، ولست ممّن يختار التقليد البَحْت بحيث لا يترك قول الفقهاء وإنْ خالَفَتْه الأدلة الشرعية، ولا ممن يطعن عليهم ويحقِّر الفقه بالكلّيّة) ("نزهة الخواطر" 8/235) . وصاحب كتاب "نزهة الخواطر" قد أدرك الإمامَ عبدَ الحيّ اللَّكْنوي وحضر مجالسه أكثر من مرة، فشهادته له شهود عيان وانطباع معاصر خبير، يقول: (كان متبحراً في العلوم معقولاً ومنقولاً، مطَّلعاً على دقائق الشرع وغوامضه، تبحّر في العلوم، وتحرَّى في نقل الأحكام، وحرَّر المسائل وانفرد في الهند بعلم الفتوى، فسارت بذكره الرُّكبان، بحيث إن كل علماء إقليم يُشيرون إلى جلالته، وله في الأصول والفروع قوة كاملة وقدرة شاملة، وفضيلة تامة وإحاطة عامة ... والحاصل أنه كان من عجائب الزمن ومن محاسن الهند، وكان الثناء عليه كلمة إجماع، والاعتراف بفضله ليس فيه نزاع) ("نزهة الخواطر": 8/234 - 235) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 و"التعليق الممجَّد" للإمام عبد الحيّ اللكنوي، يمثّل ما وُصف به من الجمع بين إتقان صناعة الحديث والاطّلاع على مراجعه، وبين المعرفة الدقيقة الواسعة بالمذاهب الفقيه، ثم ما اتّصف به من سعة الصدر من سعة العلم وإعطاء الحديث حقَّه من الإجلال والترجيح، والفقه من التقدير والاهتمام، والخروج من كل ذلك بكلام متَّزن مقتصد لا إفراط فيه ولا تفريط. وقد اتفق لكاتب هذه السطور الاطّلاع على هذا الكتاب أيام طلبه لعلم الحديث وأيام التدريس، فأُعجب بسلامة فكره ورحابة صدره. وقد كان هذا الكتاب "التعليق الممجد" في حاجة إلى أن يتناوله أحد المتوفِّرين على دراسة الحديث الشريف وتدريسه، بالعناية به تعليقاً وتصحيحاً، ونشره بالحروف العربية الحديثة حتى تتيسر قراءتُه لمن اعتاد ذلك من العلماء في العام العربي، فقد كان كتابُه بالخط الفارسي مطبوعاً كلَّ مرة على الحجر، غير واضح وغير شائق للمشتغلين بالحديث والفقه من العلماء الشباب والكهول والشيوخ في المشرق العربي. وقد وُفِّق لذلك أخونا العزيز فضيلة الشيخ الدكتور تقيّ الدين النَّدْوي أستاذ الحديث بجامعة الإمارات العربية المتّحدة، وعُني بتصحيح نُسخ الكتاب والتعليق على مواضع كثيرة من الكتاب، والرجوع إلى المصادر التي نقل منها المؤلف عند التردد، ووضع الفهرس العام للكتاب، وقام بذلك بعمل علمي جليل وإحياء مأثرة من مآثر عالم مخلصٍ ربَّاني خادمِ العلوم الدينية وناشرها في ربوع الهند، ومؤلِّف كتب يبلغ عددُها إلى مئة وعشرة (110) كتب منها 86 كتاباً بالعربية، فاستحق بذلك الأخ العزيز الفاضل شكر المقدِّرين لكتاب الموطّأ، والمشتغلين بعلم الحديث والفقه، وثناء الجميع وتقديرهم، تقبَّل الله عمله ونفع به الداني والقاصي. أبو الحسن علي الحسني الندوي 15 من ذي الحجة الحرام سنة 1409 هـ دار العوم ندوة العلماء - الهند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 المجلد الأول تَقدمة بقلم الأستاذ عَبد الفتاح أبو غُدّة - وهي تتضمن بإيجاز: كلماتٍ عن حفظ الله تعالى للسنة، وتميز المدينة المنورة بأوفى نصيب منها، وسبق علماء المدينة في تدوين الحديث، وعن تأليف مالك للموطأ، وتأريخ تأليف الموطأ، وأن الموطأ أوَّل ما صُنِّفَ في الصحيح، وعن مكانة الموطأ وصُعوبة الجمع بين الفقه والحديث، وعن كبار الحفاظ الأقدمين وحدود معرفتهم بالفقه، وأنَّ الإمامة في علم تجتمع معها العامية في علم آخر، وعن يُسر الرواية وصُعوبة الفقه والاجتهاد. وكلماتٍ عن مزايا الموطأ، وعن روايات الموطأ عن مالك، وكلماتٍ في ترجمة محمد بن الحسن راوي الموطأ، وكلماتٍ في رد الجَرح للراوي بالعمل بالرأي، وعن ظلم جملةٍ من المحدِّثين للإمامين: أبي يوسف ومحمد الفقيهين المحدِّثين، وكلماتٍ للإمام ابن تيمية في دفع الجَرح بالعمل بالرأي، وعن تحجُّرِ جُلِّ الرُّواةِ وضِيقِهم من المشتغل بغير الحديث، والردِّ على من قَدَح في أبي حنيفة بدعوى تقديمه القياسَ على السُّنَّة، وكلماتٍ في ترجمة الشارح الإمام اللَّكنوي، وأهمية طبع كتاب "التعليق المُمَجَّد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بسم الله الرحمن الرحيم كلمَةٌ وتقدِمةٌ إمَامَ مُوطّأ الإمام مَالك برواية الإمام محمَّد بن الحَسَن وَهوَ المشْهُور بمُوطأ الإِمام محمَّد: حفظ الله تعالى للسنة: - لقد حَظِيَتْ سُنَّةُ النبي صلى الله عليه وسلم - وهي أحاديثه الشريفة: أقوالُه، وأفعاله، وتقريراتُه - من أول يوم بالعناية التامة، والحفظ والرعاية، والعمل بها من الصحابة الكرام والتابعين الأخيار، فحُفِظَت حفظاً تاماً، ونُقلتْ نقلاً دقيقاً، تحقيقاً لقول الله تعالى: {إنَّا نحنُ نَزَّلنا الذكرَ وإنّا لَهُ لَحافظون} . فمن حفظِ الذكر والكتابِ الكريم حِفظُها، فإنها مفسِّرة له ومُعرِّفة بأحكامه ومَراميه، قال سبحانه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّنَ للناس ما نُزِّل إليهم} . ولقد أقام الله سبحانه في القرون الثلاثة الأولى الخيِّرة: رجالاً تلقَّوْا هذا الدين بفَهم وبصيرة، وحُبِّ وولاء، وإعزاز وتكريم، فآثروه على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وديارهم، وهاجروا في سبيل تحصيله وضبطه، وتلقيهِ وتبليغه، وهجروا الراحة والأوطان، وطافوا القرى والبلدان، لتحصيل الحديث النبوي الواحد وما يتصل به من آثار السلف الصالح، فبَلَغوا الغاية، وأتَوْا على النهاية، وكانوا بحق {خيرَ أُمَّة أُخرِجَتْ للناس} . نصيب المدينة من السنة أوفى نصيب وسَبْقُها في تدوين السنة: - وكان لكل بلد من البلدان التي فتحها الإسلامُ الحنيف واستقرَّ فيها المسلمون، نصيبٌ من العلم، يختلف عن الآخر قلةً وكثرة، بحسب كثرة الصحابة الواردين عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والمقيمين فيه، فكان نصيبُ دارِ الهجرة النبوية: المدينةِ المنوَّرة أوفَى نصيب، لتوفر وجود الصحابة الكرام فيها، إذ كانت هي ومكةُ المكرَّمةُ بعدَ فتحها دارَ الإسلام الأولى ومَهْوَى أفئدة المؤمنين. فعاشت فيها السنة وجاشت، وانتشرت في آفاق الإسلام، وتوارثها الناس جيلاً عن جيل، وقبيلاً عن قبيل، وكثر في دار الهجرة الفقهاء والمحدثون كثرة بالغة، فقد نُقل عن مالك، أنه قال: عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة. فلمَّا نشأ مالك، كانت السنة قد أخذت طريقها إلى التدوين. وكان تدوينها في المدينة المنورة قبلَ كل الأمصار، فألَّف فيها الإمام محمد بن شهاب الزهريُّ المدني، شيخ مالك، المتوفى سنة 124، وموسى بن عقبة المدني شيخ مالك أيضا المتوفي سنة 141، ومحمد بن إسحاق المُطَّلبي المدني، المتوفى سنة 151، وابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن المدني، المتوفى سنة 158. وألَّف في زمن هؤلاء وبعدَهم غيرُهم من أئمة الحديث والسنَّة، في مكة المكرمة، والكوفة، والبصرة، وخراسان، ولكنَّ السَّبْقَ الأول في تدوين السنَّة كان لعلماء المدينة الأعلام، ويأتي تأليفُ الإمام مالكٍ "الموطأ" في عِداد الكتب التي دَوَّنَتْ السنَّة في المدينة وغيرها: (الكتاب العاشر) تدويناً، والأولَ تصنيفاً على الأبواب الفقهية، كما يُستفاد من "الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنَّة المشرَّفة" (للعلامة السيد محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله تعالى، ص 327، وص 4 من الطبعة الرابعة) ، فجاء الإمام مالك وقد تعقَّد التأليف في السنَّة بعضَ الشيء، وبَلَغ مالكٌ في الإمامة للمسلمين مبلغاً رفيعاً، فألَّف كتابَه العظيم: "الموطأ". تأليف مالك الموطأ: - وقد ذكر العلماء أن تأليف الإمام مالك "الموطأ"، إنما كان باقتراحٍ من الخليفة العباسي إبي جعفر المنصور - عبد الله بن محمد، ولد سنة 95، وتوفي سنة 158 رحمه الله تعالى -، في قَدْمَةٍ من قَدَماتِهِ إلى الحج، دعاه المنصور لزيارته فزاره، فأكرمه أبو جعفر وأجلسه بجانبه، وسأله أسئلة كثيرة، فأعجبه سَمْتُه وعلمه وعقله وسدادُ رأيه، وصِحةُ أجوبتهِ، فعَرَف له مقامَهُ في العلم والدين وإمامةِ المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فقد جاء أنَّ أبا جعفر قال لمالك: ضَعْ للناس كتاباً أَحمِلُهم عليه، فكَلَّمه مالك في ذلك - أي مانَعَه مالك في حملِ الناس على كتابة -، فقال ضَعْهُ فما أحدٌ اليومَ أعلمَ منك، فوضع"الموطأ"، فلم يَفرُغ منه حتى مات أبو جعفر. وفي روايةٍ: قال مالك: دخلت على أبي جعفر بالغداة حين وقعت الشمسُ بالأرض، وقد نزل عن سريره إلى بساطه، فقال لي: حقيقٌ أنت بكل خير، وحقيقٌ بكل إكرام، فلم يزل يسألني حتى أتاه المؤذِّن بالظهر، فقال لي: أنت أعلمُ الناس، فقلت: لا واللهِ يا أمير المؤمنين، قال: بلى، ولكنك تكتمُ ذلك، فما أحدٌ أعلمَ منك اليومَ بعدَ أمير المؤمنين. يا أبا عبد الله - كنية الإمام مالك -، ضَعْ للناس كُتُباً، وجنِّب فيها شدائدَ عبد الله بن عُمَر، ورُخَصَ ابن عباس، وشواذَّ ابن مسعود، واقصِد أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأمَّةُ والصحابة، ولئن بقيتُ لأكتبنَّ كتبك بماء الذهب، فأحمِلُ الناسَ عليها. فقلت له: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورَوَوْا روايات، وأخذ كلُّ قوم بما سَبَقَ إليهم، وعملوا به، ودانوا له، من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهِم، وإنَّ رَدَّهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناسَ وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فقال: "لَعَمْري لو طاوعتني على ذلك لأمرتُ به". انتهى (هذا وما قبله من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض 2: 71 - 73) . وقال العلامة المؤرخ القاضي الإمام ابن خلدون، في أوائل "مقدمته" (ص 17 - 18، و"انتصار الفقير السالك"، للراعي الأندلسي ص 208) ، "وقد كان أبو جعفر لمكانٍ من العلم والدين قَبلَ الخلافةِ وبعدَها (أطال الإمام ابن جرير الطبري في ترجمة أبي جعفر المنصور أيَّ إطالة، في سنة تاريخ وفاته سنة 158، فترجم له وذكر أخباره ووصاياه ... في 54 صفحة، من 8: 54 - 108. قال العلامة الزرقاني في مقدمته لشرح "الموطأ"1: 9، "وذكروا أنَّ المهديَّ والهادي سَمِعا "الموطأ" من مالك، وأنَّ الرشيدَ وبنيه الأمينَ والمأمونَ والمؤتَمن، أخذوا عن مالكٍ "الموطأ أيضاً" انتهى. فهكذا كانت نشأةُ الملوك في العلم في القرون الخَّيرة الأولى، ومنه تُدرَكُ نشأةُ جَدِّهم أبي جعفر المنصور في القرن الأفضل والأعلم، التي أشار إليها الإمام ابن خلدون) ، وهو القائل لمالكٍ حين أشار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 عليه بتأليف "الموطأ": يا أبا عبد الله، إنه لم يَبق على وجه الأرض أعلَمُ مني ومنك، وإني قد شغَلَتني الخلافة، فضَعْ أنت للناس كتاباً ينتفعون به، تجنَّبْ فيه رُخَص ابن عباس، وشدائدَ ابن عمر - وشوادَّ ابن مسعود -، ووطِّئْهُ للناس توطئة، قال مالك: فوالله لقد علَّمني التصنيف يومئذ". انتهى. فألف مالك "الموطأ"على هذا المنهج، فالموطأ معناه: المسهَّل الميسَّر (يقال في اللغة: وَطُؤَ الموضعُ يَوْطُؤُ وَطاءةً ووُطوءةً: لانَ سَهُل، فهو وطيءٌ، ووطَّأ الموضعَ صَيَّرهُ وطيءاً، ووطَّأ الفرِاشَ: دَمَّثَهُ ودَثَّرهُ، والموطَّأ: المسهَّلُ الميسَّر. كما في "القاموس" و"المعجم الوسيط") . وذكر العلماء أن الإمام ابنَ أبي ذئب مُعاصِرَ الإمام مالك وبلديَّه - قد صنَّف موطّأً أكبرَ من موطأ مالك، حتى قيل لمالك: ما الفائدة في تصنيفك؟ فقال: ما كان لله بقي (من "الرسالة المستطرفة" ص 9) . تأريخ تأليف الموطأ: - ذكر العلماء أن أبا جعفر المنصور حين حَجَّ بالناس أيام خلافته، طَلَب من الإمام مالك أن يُدوِّن كتاب "الموطأ". وقد استقرأت حجات أبي جعفر بعد خلافته، في "تاريخ الطبري"، فتبيَّن أنها كانت خمسَ حجات، أولُها في سنةِ 140 ثم سنة 144، ثم سنةِ 147، ثم سنةِ 152، ثم سنةِ 158، التي توفي فيها بمكة حاجاً محرماً. ولم يتعرض الإمام ابن جرير عند ذكره هذه الحجات لأبي جعفر، للحديث عن تدوين كتاب "الموطأ". نعم تعرَّض لذلك ابن جرير في كتابه "ذيل المذيَّل" المطبوع بآخر تاريخه 11: 659، فذكر القصة عن المهدي أولاً، ثم ذكرها عن أبي جعفر ثانياً برواية الواقدي. وتابعه على ذكرِ ذلك كذلك: بتقديم رواية أن المهدي هو المُقترحُ لتأليف "الموطأ"، على رواية أن المنصور هو المقترح تأليفه: الإمامُ ابن عبد البر في "الانتقاء" ص 40، فساق الروايتين من طريق ابن جرير، الأولى بسنده إلى إبراهيم بن حماد الزهري المدني، عن مالك. والثانية بسنده إلى محمد بن عمر الواقدي، عن مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وعلَّق عليه شيخنا العلامة الكوثري رحمه الله تعالى، ما يلي: "وصنيعُ ابن جرير في "ذيل المذيَّل" كما هنا، يُؤذِنُ بترجيحِهِ الروايةَ الأولى، وتحاميهِ عن رواية الواقدي - أن القصة مع المنصور -، لكن ابن عساكر خرَّج في "كشف المغطَّا من فضل الموطَّا" بطرقٍ عن مالك ما يُؤيدُ روايةَ الواقدي، وإن لم تخلُ واحدُ منها عن مقال. وفيه - أي في "كشف المغطى" - سماعٌ الرشيد "الموطأ" عن مالك لمَّا حَجَّ مع أبي يوسف. والذي يُستخلص من مختلِفِ الروايات في ذلك، أنَّ المنصور تحادث مع مالك في تدوين عِلم أهل المدينة عامَ ثمانية وأربعين ومئة محادثةً إجمالية، ولمَّا حَجَّ قَبْلَ حجتِهِ الأخيرة، أوصاه أن يتجنب فيما يدونه شدائدَ ابن عُمَر، ورُخَصَ ابن عباس، وشَوَاذَّ ابن مسعود رضي الله عنهم. وأما إخراجهُ للناس ففي سنة تسع وخمسين ومئة في عهد المهدي، فلا تثبُتُ روايتُهُ ممَّن تقدَّم على ذلك". انتهى. وقال شيخنا الكوثري أيضاً رحمه الله تعالى، في مقدمته لجزء "أحاديث الموطأ واتفاق الرواه عن مالك واختلافُهم فيها" للدار قطني، ما يلي: "ألَّف عبد العزيز بن عبد لله بن أبي سلمة الماجِشُون كتاباً فيما اجتمع عليه أهل المدينة، ولما اطلع عليه مالك بن أنس رضي الله عنه، استحسن صنيعَه، إلى أنه أخَذ عليه إغفاله ذكر الأخبار والآثار في الأبواب، حتى قرر أن يقوم هو بنفسه بجمع كتابٍ تحتوي أبوابُهُ صِحاحَ الأخبار وعملَ أهل المدينة، في أبواب الفقه، فيدأ يمهُدُ السبيل لذلك. وكان المنصور العباسي بلغه شيء مما عَزَم عليه مالك، فاجتمع به في حجته - قَبْلَ - الأخيرة في التحقيق، وأوصاه أن يدون علمَ أهل المدينة، مجتنباً رُخَصَ ابن عباس، وشدائدَ ابن عمر، وشواذَّ ابن مسعود رضي الله عنهم، حيث كان جماعة من أصحاب هؤلاء ينشرون علومهم في المدينة المنورة، منهم الفقهاء العَشَرة في أيام عمر بن عبد العزيز، ولهم أصحابٌ وأصحابُ أصحاب أدركهم مالك. فتقوَّتْ عزيمة مالك حتى تجرَّد لجمع الصفوة من الأحاديث والآثار المروية عند أهل المدينة، ولجمع العملِ المتوارثِ بينهم، مقتصراً في الرواية على شيوخ أهل المدينة سوى ستة، وهم: أبو الزبير من مكة، وإبراهيم بن أبي عَبْلَةَ من الشام، وعبد الكريم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 مالك من الجزيرة، وعطاء بن عبد الله من خراسان، وحُمَيدٌ الطويل وأيوبُ السِّختياني من البصرة، إلى أن أتم عملَه في عهد المهدي العباسي، كما بينتُ ذلك فيما علقتُ على "الانتقاء" لابن عبد البر". انتهى. وهذا الذي رجحه شيخنا من أن المنصور تحدث مع مالك في سنة 148، بشأن تدوين علم أهل المدينة، وأوصاه قبل حجته الأخيرة أن يتجنب في التأليف شدائد ابن عمر.. غير ظاهر فإن حجته الأخيرة التي توفي فيها كانت سنة 158، والحجة التي قبلها كانت سنة 152 والتي قبلها سنة 147، والتي قبلها سنة 144، والتي قبلها سنة 140، كما أسلفته عن "تاريخ ابن جرير". ولم يحج المنصور في سنة 148، وإنما حج بالناس ابنُهُ جعفر كما في غير كتاب فتكون سنةُ 148 سَبْقَ قلم عن 147. ثم قوله: إن المنصور تحدث مع مالك في تلك السنة، وأوصاه بتجنبِ ما أوصاه بتجنبه في الحجة التي قبل الأخيرة، وهي - كما عند ابن جرير - سنة 152، فيه بُعدٌ أيضاً فإن المتبادر أن يقع ذلك من المنصور في أول حجة له بعد توليه الخلافة سنة 140، أو في ثاني حجة سنة 144، ويمكن أن يكون ذلك في ثالث حجة سنة 147، أما في رابع حجة سنة 152، ففيه بُعدٌ شديد لأنه يلزم أن يكون مالك ألَّف "الموطأ" بأقلَّ من سبع سنوات، لأنه قد سمعه منه المهدي سنة 159، على ما ذكره شيخنا، في حين أن المهديَّ إنما حجَّ بالناس سنة 160، وحجَّ الهادي سنة 161، كما عند ابن جرير. والمذكور أن مالكاً ألَّف "الموطأ" في سنين كثيرة، ذُكر أنها أربعون، وذُكر أنها دون ذلك، وعلى كل حال يستبعد أن تكون مدة التأليف نحو سبع سنوات، لما عُرف من إتقان مالك وضبطه وانتقائه، وقلة تحديثه بالأحاديث في مجالسه، فلم يكن يحدث في مجلسه إلا ببضعة أحاديث معدودة فتأليفه "الموطأ" بعد سنة 140 جزماً أو بعد سنة 147، وفراغه منه بعد سنة 158 جزماً، والله تعالى أعلم. وهكذا تم تأليف هذا الكتاب "الموطأ" فقد جمع فيه الإمام مالك - كما سبق نقلُ قوله - حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين، ورأياً هو إجماعُ أهل المدينة، لم يخرج عنها، فجمع الحديثَ بأوسع معانيه - وما يتصلُ به من آثار الصدر الأول، لأنها كانت المرجع الأكبَر في الأحكام العملية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الموطأ أوَّلُ ما صُنِّف في الصحيح: - قال العلامة الزرقاني في مقدمته لشرح "الموطأ" (12: 1) : "وأطلق جماعة على الموطأ اسم الصحيح، واعترضوا قول ابن الصلاح: أوَّلُ من صنَّف فيه البخاري، وإن عبر بقوله: الصحيح المجرَّد، للاحتراز عن الموطأ، فلم يُجرد فيه الصحيح بل أدخل المرسل والمنقطع والبلاغات، فقد قال الحافظ مُغُلْطاي: لا فرق بين الموطأ والبخاري في ذلك، لوجوده أيضاً في البخاري من التعاليق ونحوها. ولكن فرَّق الحافظ ابن حجر: بأن ما في الموطأ كذلك مسموعٌ لمالك غالباً، قال: "وما في البخاري قد حَذَف إسنادَه عمداً، لأغراضٍ قررتها في "التغليق"، تظهر أن ما في البخاري من ذلك لا يخرجه عن كونه جّرَّد فيه الصحيح، بخلاف الموطأ" بل قال الحافظ مغلطاي: أوَّل من صَنَّف الصحيح مالك. وقولُ الحافظ: هو صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظرُه من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما، لا على الشرط الذي استقر عليه العمل في حد الصحة: تعقَّبَهُ السيوطي بأن ما فيه من المراسيل - مع كونها حجةً عنده بلا شرط، وعند من وافقه من الأئمة - هي حجةٌ عندنا أيضاً لأن المرسل حجة عندنا إذا اعتضد وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد فالصوابُ إطلاقُ أن الموطأ صحيح لا يُستثنى منه شيء. وقد صنف ابن عبد البر كتاباً في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل، وقال: وجميعُ ما فيه من قوله: بلغني، ومن قوله: عن الثقة عنده، مما لم يُسنده أحدٌ وستون حديثاً كلُّها مسندة من غير طريق مالك، إلا أربعةً لا تعرف: أحدها: إني لا أَنسى ولكن أُنَسَّى لأسُنَّ. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ أعمارَ الناس قبلهُ أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر والثالث قول معاذ: آخرُ ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد وضعتُ رجلي في الغَرز - أن قال: حَسِّن خُلُقَك إلى الناس. والرابع: إذا نشأت بَحريَّةً ثم تشاءَمَتْ فتلك عين غَدِيقة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وتعقَّب الحافظ ابن حجر أيضاً الشيخُ صالحٌ الفُلاَّنيُّ فقال (كما في "الرسالة المستطرفة" ص 5 - 6) : "وفيما قاله الحافظ ابن حجر من الفرق بين بلاغات الموطأ ومعلَّقات البخاري: نظر، فلو أمعن الحافظُ النظر في الموطأ كما أمعن النظر في البخاري لعلم أنه لا فرق بينهما، وما ذكره من أن مالكاً سمعها كذلك، غيرُ مسلَّم، لأنه يذكر بلاغاً في رواية يحيى مثلاً أو مرسلاً، فيرويه غيرُهُ عن مالك موصولاً مسنداً. وما ذكَرَ من كون مراسيل الموطأ حجةً عند مالك ومن تبِعَه دون غيرهم: مردودٌ بأنها حجة عند الشافعي وأهلِ الحديث، لاعتضادها كلِّها بمسندٍ ذكره ابن عبد البر والسيوطي وغيرُهما. وما ذكره العراقي أن من بلاغاته ما لا يعرف: مردودٌ بأن ابن عبد البر ذكر أن جميعَ بلاغاته ومراسليه ومنقطعاته كلَّها موصولةٌ بطرق صحاح إلا أربعة، فقد وَصَل ابن الصلاح الأربعة بتأليف مستقل وهو عندي وعليه خطه، فظهر بهذا أنه لا فرق بين "الموطأ والبخاري"، وصَحَّ أن مالكاً أوَّل من صَنَّف في الصحيح، كما ذكره ابن العربي وغيرُه". مكانة "الموطأ" وصعوبة الجمع بين الفقه والحديث: - تأليفُ الحديث وجمعه في كتاب على الأبواب الفقهية، لا ينهض به إلا فقيه يدري معاني الأحاديث، ويفقه مداركها ومقاصدها، ويميز بين لفظ ولفظ فيها، وهذا النمط من العلماء المحدِّثين الفقهاء يُعَدُّ نَزْراً يسيراً بالنظر إلى كثرة المحدثين الرواة والحفاظ الأثبات، إذ الحفظُ شيء والفقه شيء آخرُ أميَزُ منه وأشرف، وأهم وأنفع، فإن الفقه دِقَّةُ الفهم للنصوص من الكتاب والسنَّة - عبارةً أو إشارةً، صراحةً أو كنايةً - وتنزيلها منازلها في مراتب الأحكام، لا وَكسَ ولا شطط، ولا تهوُّر ولاجمود. وهذه الأوصاف عزيزةُ الوجود في العلماء قديماً فضلاً عن شدة عزتها في الخلف المتأخر، ويخطئُ خطأ مكعباً من يظن أويزعم أن مجرد حفظ الحديث أو اقتناء كتبه والوقوف عليه، يجعل من فاعل ذلك فقيهاً عارفاً بالأحكام الشرعية ودقيق الاستنباط. قال محمد بن يزيد المستملي: سألت أحمد بن حنبل عن - شيخه - عبد الرزاق - صاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المصنف المطبوع في أحد عشر مجلداً -: أكان له فقه؟ فقال: ما أقلَّ الفقه في أصحاب الحديث (كما في ترجمة (محمد بن يزيد المستملي) في "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى 329: 1) . وجاء في "تقدمة الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (ص 293) ، في ترجمة (أحمد بن حنبل) ، وفي "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص 63) ، وفي "تاريخ الإسلام" للذهبي - مخطوط - من طريق ابن أبي حاتم، في ترجمة (أحمد بن حنبل) أيضاً، ما يلي: "قال إسحاق بن راهويه: كنتُ أجالس بالعراق أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأصحابَنا، فكنا نتذاكرُ الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا، فأقول: أليس قد صح هذا بأجماع منا؟ فيقولون: نعم، فأقول: ما مرادُهُ؟ ما تفسيرُهُ؟ ما فقهه؟ فيَبقون - أي يسكتون مُفحَمين - كلُّهم! إلا أحمد بن حنبل". انتهى. كبار الحفاظ الأقدمين وحدود معرفتهم بالفقه: - قال عبد الفتاح: هذا النص يفيدنا بجلاء أن المعرفة التامة بعلم الحديث - ولو من أولئك الأئمة الكبار أركان علم الحديث في أزهى عصور العلم - لا تجعل المحدث الحافظ (فقيهاً مجتهداً) إذ لو كان الاشتغال بالحديث يجعل (الحافظَ) : (فقيهاً مجتهداً) ، لكان الحفاظ الذين لا يُحصى عددهم، والذين بَلَغَ حفظ كل واحد منهم للمتون والأسانيد ما لا يحفظه أهل مصر من الأمصار اليوم: أولى بالاجتهاد ولكنهم صانهم الله تعالى فما زعموه لأنفسهم. بل إن سيد الحفاظ الإمام (يحيى بن سعيد القطان) البصري، إمام المحدثين وشيخ الجرح والتعديل: كان لا يجتهد في استنباط الأحكام، بل يأخذ بقول الإمام أبي حنيفة، كما في ترجمة (وكيع بن الجراح) في "تذكرة الحفاظ" للحافظ الذهبي (307: 1) . وفي "تهذيب التهذيب" (450: 10) في ترجمة (أبي حنيفة النعمان بن ثابت) : "قال أحمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 سعيد القاضي: سمعتُ يحيى بن معين - تلميذ يحيى القِطان - يقول: سمعتُ يحيى بن سعيد القطان يقول: لا نَكذِبُ اللَّهَ، ما سمعنا رأياً أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله". انتهى. وكان إمام أهل الحفظ في عصره وكيع بن الجراح الكوفي، محدثُ العراق، لا يجتهدُ أيضاً، ويفتي برأي الإمام أبي حنيفة الكوفي، ففي "تذكرة الحفاظ" للحافظ الذهبي (307: 1) ، و"تهذيب التهذيب" (126: 11 - 127) : "قال حسين بن حبان، عن ابن معين - تلميذ وكيع -: "ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويَسرُدُ الصوم، ويُفتي بقول أبي حنيفة". وكذلك هؤلاء الحفاظ الأئمة الأجلة، الذين عناهم الإمام إسحاق بن راهويه في كلمته المذكورة، ومنهم يحيى بن معين، كانوا لا يجتهدون، وقد أخبر عنهم أنهم كانوا يفيضون في ذكر طرق الحديث الواحد إفاضةً زائدة، فيقول لهم: ما مُرادُ الحديث؟ ما تفسيره؟ ما فقهه؟ فيبقون كلُّهم إلا أحمد بن حنبل. وهذا عنوان دينهم وأمانتهم وحصافتهم وورعهم، إذ وقفوا عند ما يُحسنون، ولم يخوضوا فيما لا يُحسنون، وذلك لصعوبة الفقه الذي يعتمد على الدراية وعُمق الفهم للنصوص من الكتاب والسنَّة والآثار، وعلى معرفة التوفيق بينها، وعلى معرفة الناسخ والمنسوخ، وما أُجمعَ عليه، وما اختلف فيه، وعلى معرفة الجرح والتعديل، وقُدرةِ الترجيح بين الأدلة، وعلى معرفة لغة العرب، ألفاظاً وبلاغةً ونحواً ومجازاً وحقيقةً ... ومن أجلِ هذا قال الإمام أحمد، لمَّا سأله محمد بن يزيد المستملي - كما تقدم -، عن المحدث الحافظ الكبير (عبد الرزاق بن همام الصنعاني) صاحب التصانيف التي منها "المصنف"، وشيخ الإمام أحمد نفسِه، وشيخ إسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، ومحمد بن يحيى الذهلي، أركان علم الحديث وروايته في ذلك العصر، وشيخ خلق سواهم، المتوفى سنة 211 عن 85 سنة: "أكان له فقه؟ فقال الإمام أحمد: ما أقلَّ الفقه في أصحاب الحديث! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وروى الإمام البيهقي في "مناقب الشافعي" (152: 2) : "عن الربيع المُرادي قال: سمعت الشافعي يقول لأبي علي بن مِقلاص - عبد العزيز بن عمران، المتوفى سنة 234، الإمام الفقيه -: تريد تحفظ الحديث وتكونُ فقيهاً؟ هيهات! ما أبعَدك من ذلك - ولم يكن هذا لبلادة فيه حاشاه -. قلت - القائل البيهقي -: وإنما أراد به حفظه على رَسم أهل الحديث، من حفظ الأبواب والمذاكرة بها، وذلك علم كثير إذا اشتغل به، فربما لم يتفرغ إلى الفقه، فأما الأحاديث التي يحتاج إليها في الفقه، فلا بد من حفظها معه، فعلى الكتاب والسنة بناء أصول الفقه، وبالله التوفيق. وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - هو الحاكم النيسابوري - قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المؤذن، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن الحسن يقول: سمعت إبراهيم بن محمد الصيدلاني يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - هو إسحاق بن راهويه - يقول: ذاكرت الشافعي، فقال: لو كنتُ أحفظ كما تحفظ لغلبت أهل الدنيا. وهذا لأن إسحاق الحنظلي كان يحفظه على رسم أهل الحديث، ويَسرد أبوابه سرداً وكان لا يهتدي إلى ما كان يهتدي إليه الشافعي من الاستنباط والفقه، وكان الشافعي يحفظُ من الحديث ما كان يحتاج إليه، وكان لا يستنكف من الرجوع إلى أهله فيما اشتَبَه عليه، وذلك لشدة اتقائهِ لله عز وجل، وخشيته منه، واحتياطه لدينه". انتهى. قال عبد الفتاح: وفي كلٍ من هذين النصين الغاليين فوائد عظيمة جداً، ففيه أن الجمع بين الفقه والحديث على رسم أهل الحديث متعذر - إلا لمن أكرمه الله بذلك - إذ قال الشافعي في هذا: هيهات!. وفيه بيانُ الإمام البيهقي لهذا المعنى بجلاء ووضوح وهو إمام محدث وفقيه، فلكلامه مَقامٌ رفيع في هذا الباب. وفيه دَعم الإمام البيهقي رحمه الله تعالى هذا الذي قاله في تفسير كلمة الشافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 لابن مقلاص، بكلمة الشافعي لإسحاق بن راهويه رضي الله عنهما، بشكل يَقطع لسان كل مشاغب على الفقهاء من رواة الحديث، بدعوى أنه أهل للاستنباط والفقه والاجتهاد في الأحكام. فهذا يحيى بن معين إمامُ الحفظ للحديث، وإمامُ الجرح والتعديل، يقفُ ساكتاُ في مسألة جواز تغسيل المرأة الحائض للمرأة الميتة، حتى يأتيَ الإمام أحمد بن حنبل فيُفتيَهم بجواز ذلك، ويذكُرَ لهم دليلَه مما هو محفوظ لديهم كل الحفظ من عِدَّة طرق. كما سيأتي نقلُه قريباً. وهذا الإمام الشافعي يقول لإسحاق بن راهويه: لو كنتُ أحفظ ما تحفظ لغلبتُ أهل الدنيا. وفيه بيانً تميُّز الشافعي بالفقه، وتميُّزِ ابن راهويه بالحفظ، ولكنه لم يُمكِّي ابنَ راهويه أن يبلغ مبلغ الشافعي بالفقه، مع إقرار الشافعي له بالتفوق العظيم الباهر في الحفظ، لأنه كما قال البيهقي: كان يَسردُ الحديثَ سرداً، مع أنه قد ذكره بعضُهم في عدادِ من كان له مذهب فقهي. فسَرْد الحديث وحفظه وروايتُه: غيرُ فهمه واستنباط معنايه على وجهها، إذْ خلق الله تعالى لكل علم أهلاً ينهضون به ويتميزون على سواهم. الإمامة في علم تجتمع معها العامية في علم آخر: - ولا غضاضة في هذا، فالعلم رزقٌ وعطاء من الله تعالى، وهو كثير وكبير وثقيل، ولا يَملك كلُّ إمام ناصيةَ كل علم أراد معرفَته، فقد قال الإمام أبو حامد الغزالي، وتَبِعَهُ الإمام ابن قدامة الحنبلي، في بعض مباحث الإجماع، في كتابيهما: "المستصفَى" و"روضة الناظر"، ما معناه: كم من عالم إمامٌ في علم، عاميٌّ في علم آخر. قال الإمام أبو حامد الغزالي في آخر رسالته: "قانون التأويل": "واعلم أنَّ بضاعتي في علم الحديث مُزجاة". انتهى. ومثلُ هذه الكلمة المملوءة بالتواضع، لا يقولها هذا الإمامُ العظيم والمحجاجُ الفريد حُجَّةُ الإسلام، لولا ما كان عليه من السلوك السَّنِي والخُلُق السَّنِي والخُلُق السُّنِّي: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فهل رأيت في هؤلاء الأدعياء المدَّعين للاجتهاد، من يُنصف الواقع والحق، فيقولُ عن نفسِهِ فيما لا يُحسنه مثلَ هذا؟! خلق الله للعلوم رجالاً * ورجالاً لنَفْشَةٍ ودَعَاوي! وقال الحافظ الإمام أبو عًمَر بن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (160: 2) ، تعقيباً على قول الإمام أحمد: "من أين يَعرفُ يحيى بنُ معين الشافعي؟! هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقول الشافعي قال أبو عمر: صدق أحمد بن حنبل رحمه الله، إنَّ ابن معين لا يَعرفُ الشافعي. وقد حُكي عن ابن معين أنه سُئل عن مسألةٍ من التيمم، فلم يعرفها! حدثنا عبدُ الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا ابن زهير، قال: سُئل يحيى بن معين وأنا حاضر، عن رجل خيَّر امرأتَه، فاختارت نفسَها؟ فقال: "سَلْ عن هذا أهلَ العلم". انتهى. وجاء في "ذيل طبقات الحنابلة" للحافظ ابن رجب (131: 1) ، و"المنهج الأحمد" للعُلَيمي (208: 2) ، في ترجمة (يحيى بن منده الأصبهاني) : "قال فُوْرَان: ماتت امرأة لبعض أهل العلم، فجاء يحيى بن معين والدَّوْرَقي، فلم يجدوا امرأةً تغسِلُها إلاَّ امرأةً حائضاً، فجاء أحمد بن حنبل وهو جلوس، فقال: ما شأنكم؟ فقال أهلُ المرأة: ليس يجدُ غاسلةً إلاَّ امرأةً حائضاً، فقال أحمد بن حنبل: أليس تَرْوُون عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، ناولِيني الخمْرة، قالت: إني حائض، فقال: إنَّ حَيضَتَك ليست في يدكِ"، يجوزُ أن تغسِلَها، فخجلوا وبَقُوا! ". انتهى. يُسر الرواية وصعوبة الفقه والاجتهاد: - فلا شك في يُسر الرواية بالنظر لمن توجه للحفظِ والتحملِ والأداء، وآتاه الله حافظةً واعية، فلهذا كان المتأهلون للرواية أكثَرَ جداً من المتأهلين للفقه والاجتهاد، روى الحافظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الرامَهُرْمُزِي، في كتابه "المحدِّث الفاصِل بين الراوي والواعي" (ص 560) ، بسنده عن أنس بنِ سِيرين، قال: "أتيتُ الكوفة، فرأيتُ فيها أربعةَ آلافٍ يطلبون الحديث، وأربعَ مئةٍ قد فَقهُوا". انتهى. وفي هذا ما يدل على أن وظيفة الفقيه شاقةٌ جداً، فلا يكثُرُ عدَدُه كثرةَ عَدَدِ النَّقَلَةِ الرواة، وإذا كان مثلُ (يحيى القطانِ) ، و (وكيع بن الجراح) ، و (عبدا الرزاق) ، و (يحيى بن معين) ، وأضرابِهم، لم يجرؤوا أن يخوضوا في الاجتهاد والفقه، فما أجرأ المدَّعين للاجتهاد في عصرنا هذا؟! مع تجهيل السلف بال حياءٍ ولا خجل، نعوذ بالله من الخذلان. وإنما أكثرت من هذه الوقائع، لأولئك الحفاظ الكبار والمحدثين الأئمة، التي تبين منها أن الحفظ شيء، والفقه وفهم النصوص شيء آخر، لأن عدداً من الناس في عصرنا، يخيَّل إليهم أن كثرة الكتب التي تَقذِفُ بها المطابع اليوم، ووفرة الفهارس التي تُصنَعُ لها: تجعل (الإجتهاد) أمراً ميسوراً لمن أراده، وهو خيال باطل، وتوهم خادع. فالحفظ العجيب الذي كان عليه هؤلاء المحدثون الأكابر في القرون الأولى الزاهرة، مع سيلان أذهانهم المسعفة - وليست كالكتب الجامدة الصماء - والبيئة التي كانت تجيش فيها من حولهم حلقات التحديث والتفقيه، والسماع والتدريس ووفرة المحدثين والفقهاء، كل ذلك لم يخولهم أن يجتهدوا ويغالطوا أنفسهم فصدقوا مع الله ومع أنفسهم، ومع الناس. ولم يكونوا بحال من الأحوال أقل ذكاء من (المتمجهدين) في هذا العصر، بل كانوا أهل ذكاء مشهور، وفطنة بالغة، ووعي شديد وانقطاع للعلم، ولكنهم لم يدخلوا أنفسهم فيما لا يحسنون، واقتصروا على ما يحسنون فحُمِدَتْ سِيرتُهم، وعَظُمَتْ مكانتهم في النفوس، ودل ذلك على حُسن إسلامهم وفَهمهم لواقعهم، فرحمة الله تعالى عليهم ورضوانه العظيم. قال الحافظ الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (81: 2) : "وليُعلم أن الإكثار من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 كتب الحديث وروايته، لا يصيرُ بها الرجل فقيهاً، إنما يتفقه باستنباط معانيه، وإنعام التفكر فيه" وساق الشواهد الكثيرة الناطقة، على ذلك. فكتاب "الموطأ" تأليفُ محدث فقيه، وإمام مجتهد بارع كبير تميز بمزايا لا توجد في سواه من الكتب المصنفة في الحديث الشريف. مزايا "الموطأ": - لكتاب "الموطأ" مزايا كثيرة تميز بها عن سواه من كتب الحديث الشريف، أتعرض هنا إلى جملة منها باختصار: فمزية"الموطأ" أولاً: أنه تأليفُ إمام فقيه محدث مجتهد متقدم كبير متبوع شهد له أئمة عصره ومن بعدهم بالإمامة في الفقه والحديث دون منازع. روى الحافظ ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/1: 25) "عن علي بن المديني قال: كان حديث الفقهاء أحبَّ إليهم من حديث المَشيَخَة". وقال الإمام ابن تيمية في "منهاج السنَّة النبوية" (115: 4 من طبعة بولاق) : "قال أحمد بن حنبل: معرفة الحديثِ والفقهِ فيه أحبُّ إليَّ من حفظِه. وقال علي بن المديني: أشرَفُ العلم الفقهُ في متون الأحاديث، ومعرفةُ أحوال الرواة". انتهى. وفي "تدريب الراوي للحافظ السيوطي (ص 8) : "قال الأعمش: حديثٌ يتداوله الفقهاء خيرٌ من حديث يتداوله الشيوخ". وعقد الحافظ الرامَهرْمُزِي باباً طويلاً في (فضل من جَمَع بين الرواية والدراية) (ص 238 وما بعدها) ، وعقد بعده الحافظ الخطيب البغدادي في آخر كتابه "الكفاية" (ص 433) : (بابَ القول في ترجيح الأخبار) ، وذكر فيه ما يتصل بتفضيل حديث الفقيه على غيره. ومزيتُهُ ثانياً: أنه أطبق العلماء على الثناء عليه وتبجيله، وكثر كلامهم في مدحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وتقريظه، وأكتفي هنا بكلمات قالها إمام الأئمة الفقيه المحدث المجتهد المتبوع الإمام الشافعي رضي الله عنه، وحسبك به وكفى. قال: ما على ظهر الأرض كتابُ أصحُّ بعد كتاب الله من كتاب مالك. وفي لفظ آخر: ماعلى الأرض كتابٌ هو أقرَبُ إلى القرآن من كتاب مالك. وفي لفظ آخر: ما بعدَ كتاب الله تعالى أكثَرُ صواباً من موطأ مالك. وفي لفظ آخر: ما بعدَ كتابِ الله كتابٌ أنفعُ من الموطأ. وتنوُّعُ هذه العبارات يفيدُ تكرارَ ثناء الإمام الشافعي رضي الله عنه على كتاب الموطأ، أكثر من مرة في أوقات متعددة. ومزيته ثالثاً: أنه من مؤلفات منتصف القرن الثاني من الهجرة، فهو سابقٌ غيرٌ مسبوق بمثله، إذ هو أوَّلُ كتاب في بابه، وللسابق فضل ومزية، إذ هو الإمامُ الذي سَنَّ التأليفَ الحديثيَّ على أبواب الفقه، واقتدى به المؤتمُّون من ورائه مثلُ عبد الله بن المبارك، والبخاريِّ، ومسلم، وسعيد بن منصور، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه وسواهم. فهو بسَبْقٍ حائزٌ تفضيلا * مُستوجِبٌ ثناءنا الجميلا ومزيتُهُ رابعاً: أنه يرويه عن مؤلفِهِ إمامٌ فقيه محدِّثٌ مجتهدٌ كبير متبوع، مشهود له بالإمامةِ في الفقه والحديث والعربية، الإمامُ محمد بن الحسن الشيباني، لازَمَ شيخَه مالكاً ثلاث سنين، وسمع منه الكتاب بلفظه، فتملأَ وتروَّى، ونَهَل وعَبَّ من فقهه وعلمه وروايته، مع ما كان عليه من الذكاء النادر، والفطنة التامة، وفقاهةِ النفس والبدن. ومزيتُهُ خامساً: أنه من رواية الإمام محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف، وشيخ الإمام الشافعي، وقد أتقن روايتَهُ عن شيخه مالك، وأضاف بعدَ روايتِهِ أحاديثَ الباب بيانَ مذهبه في المسألة موافقاً أو مخالفاً، وبيانَ مذهب شيخة الإمام أبي حنيفة فيها، وموافَقَتَهُ له أو مخالفتَه، وبيانَ مذهب شيخة الإمام مالك أحياناً، ومذهبَ عامَّةِ فقهائنا أيضاً. ويُعقِّبُ في كثير من الأبواب ببيان معنى الحديث، وتوجيهه، وما يستحسنه أو يستحبه أو يكرهه من وجوه المسألة. وقد يُفصِّلُ تفصيلاً وافياً الأقوال والفروق بين مذهبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ومذهب شيخة الإمام أبي حنيفة، أو مذهب شيخِهِ الإمام مالك، ويُبَيِّنُ أحوالَ المسألة وأحكامَها، كما في الباب 18 (باب الوضوء من الرٌّعَاف) . وقد يسوقُ تأييداً لما ذهب إليه مخالفاً جملةَ أحاديث في الباب - عن غير مالك - عن أبي حنيفة وغيره. وذكر في بعض الأبواب 16 ستة عشر حديثاً من غير طريق مالك، كما في الباب 5 (باب الوضوء من مَسِّ الذكر) ، تأييداً لمذهبه من عدم نقض الوضوء بمَسِّه. وهذا عدد كبيرٌ جداً في الباب. وقد يورد في بعض الأبواب - لتأييد مذهبه - ستةَ أحاديث أو سبعةَ أحاديث أو أكثَر أو أقل، من غير طريق مالك أيضاً، كما تراه في الباب 17 (باب الاغتسال يوم الجمعة) , وهذا عددٌ كبير في الباب أيضاً. ولكثرة ما رواه من الأحاديث فيه، من غير طريق مالك، ولكثرة ماذكره فيه أيضاً من اجتهادِه وفقهِهِ، وفقهِ أبي حنيفة وغيره في كل باب تقريياً ومذاهبِ بعض الصحابة في بعض الأبواب، اشتَهَر هذا الكتاب باسم (موطأ الإمام محمد) . ولا غرابة في ذلك، إذ لم يكن (موطأ محمد) مجرَّدَ كتاب يُروَى بحروفه، كما سَمِعَهُ راويه من مؤلفه دون زيادة أو تعليق أو استدراك، بل هو كتاب فيه فقهُ الإمام محمد، وفقهُ شيخه الإمام أبي حنيفة، وفقهُ عامَّةِ أصحابنا الحنفية قبلَ الإمام محمد، ومذاهبُ بعض الصحابة، ومناقَشَتُهُ أيضاً لما ذهب إليه مالك أو غيرُه. فهو مدوَّنَةٌ من فقهِ أهل الحديث والاجتهاد والرأي، في الحجاز والعراق، مع الموازنة بين تلك الآراء والمذاهب في المسألة. وهذه ميزة غالية جداً عند من يدركها ويعرفُ قيمتها، فلا غرابة أن يُضاف (الموطأ) هذا، إلى روايه، لأنه من طريقه يُروَى، ولأنه أضافَ إليه أحاديث كثيرة، وأدخل فيه علماً زائداً غيرَ قليل، يتصل بفقه الحديث، وأحكامِ الباب، ومقابلة الاجتهاد بمثله. كلمةٌ عن روايات الموطأ عن مالك: - قال شيخنا العلاَّمة الكوثري رحمه الله تعالى، في المقدمة التي كتبها لجزء الحافظ الدارقطني المسمّى: "أحاديثُ الموطأ واتفاقُ الرواة عن مالك، واختلافُهم فيها زيادةً ونقصاً"، ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 "ألَّفَ عبدُ العزيز بن عبد الله بن أبي سَلَمة الماجِشُون كتاباً فيما اجتمع عليه أهل المدينة، ولما اطلع عليه مالك بن أنس رضي الله عنه استحسن صنعه إلا أنه أخذ عليه إغفاله ذكر الأخبار والآثار في الأبواب، حتى قرر مالك أن يقوم هو بنفسه بجمع كتاب تحتوي أبوابه صحاح الأخبار، وعمل أهل المدينة، في أبواب الفقه، فألَّف الموطأ، وأَخَذ يلقيه على أصحابه فيتلقونَهُ منه سماعاً. ولم يكن تأليفُه الكتاب ليعطيَهُ الناسَ فينسخوه ويتداولوه بينهم، كعادة أهل الطبقات المتأخرة في تصانيفهم، بل كان التعويل حينذاك على السماع فقط. وكان تأليفُهُ الكتابَ لنفسِهِ خاصة، لئلا يَغلَطَ فيما يُلقيه على الجماعة، كعادة أهل طبقته من العلماء في تآليفهم، ولذا كان يَزيدُ فيه وينقُصُ منه حسبَ ما يبدو له في كل دَورٍ من أدوار التسميع المختلِفة، فاختلفت نُسَخُ الموطأ ترتيباً وتبويباً وزيادة ونقصاً وإسناداً وإرسالاً على اختلاف مجالس المستملين. فأصبح رواتُها على اختلاف الخَتَمات هم مُدوِّنُوها في الحقيقة، فمنهم من سَمِعَ عليه الموطأ سبعَ عشرةَ مرة، أو أكثرَ أو أقل، بأن لازَمَه مُدَداً طويلةً تَسَعُ تلك المرات، ومنهم من جالسه نحو ثلاثِ سنوات، حتى تمكن من سماع أحاديثه من لفظه ومنهم من سَمِعَهُ عليه في ثمانية أشهر، ومنهم من سَمِعَهُ في أربعين يوما؟ ً، ومنهم من سَمِعَه عليه في أيام هرمه في مدة قصيرة، ومنهم من سَمِعَه في أربعة أيام، إلى آخِرِ ما فُصِّل في موضعه. ومنازلُ هؤلاء المستملين تتفاوَتُ فهماً، وضبطاً، وضعفاً، وقوةً، فتكونُ مواطنُ اتفاقهم في الذروة من الصحة عن مالك، ومواضعُ اختلافهم وانفرادهم متنازلةَ المنازلِ إلى الحضيض حسبَ مالهم من المقام في كتب الرجال. وقد ذكر أبو القاسم الغافقي اثني عشر راوياً من رواة الموطأ في "مسند الموطأ" له، فيهم عبد الله بن يوسف التِّنِّيسِي، ومحمدُ بن المبارك الصُّورِي، وسليمان بن بُرْدَة. واستدرك السيوطيُّ عليه راويين نسختاهما من أشهر النُّسخ. وساق ابنُ طولون في "الفهرس الأوسط" أسانيد الموطأ من أربع وعشرين طريقاً، وكذلك أبو الصَّبر أيوبُ الخَلْوَتي، حيثُ ساق أسانيده في "ثَبَتِه" من طريق ابن طولون ومن غير طريقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قال عبد الفتاح بن محمد بن بشير أبو غدة - غفر الله لمشايخه، ولوالديه وتاب عليهم وعليه وأحسن إليهم وإليه -: إني أروي الموطأ إجازةً بطريق شيخنا الحافظ المحدِّث الناقد العلاَّمة محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى، وهو يروي إجازةً بطريق الحَجَّار روايات: -1 - محمد بن الحسن. -2 - ويحيى بن يحيى النيسابوري. -3 - وقتيبة بن سعيد. -4 - وعبد الله بن عُمر بن غانم. -5 - وعبد العزيز بن يحيى الهاشمي. -6 - وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجِشُون. -7 - وابن القاسم. -8 - وعبد الله بن نافع الزبيري. وبطريق أبي هريرة بن الذهبي روايات: -9 - مُطَرِّف بن عبد الله اليَسَاري. -10 - ومصعب بن عبد الله الزبيري. -11 - وعلي بن زياد التونسي. -12 - وأشهب. وبطريق محمد بن عبد الله بن المحب روايةَ: -13 - عبد الله بن وَهب وروايةَ: -14 - إسحاق بن عيسى الطباع. وبطريق إبراهيم بن محمد الأُرْمَوي رواية: -15 - عبد الله بن مَسْلَمة القَعْنَبِي. وبطريق زينب بنت الكمال المقدسية رواياتِ: -16 - الشافعي. -17 - ومحمد بن معاوية الأَطْرَابُلُسي. -18 - وأَسَد بن الفُرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وبطريق ابن حَجَر رواياتِ: -19 - يحيى بن يحيى الليثي. -20 - وأبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري. -21 - ويحيى بن عبد الله بن بُكَير المصري. -22 - وسُوَيد بن سعيد. -23 - وسعيد بن كَثِير بن عُفَير. -24 - ومَعْن بن عيسى القَزَّاز. قال شيخنا الكوثري: "وهؤلاء أربعة وعشرون راوياً من أصحاب مالك. وأحمدُ يُكثِرُ من طريق ابن مَهْدِي. وأبو حاتم من طريق مَعْن بن عيسى. والبخاري من طريق عبد الله بن يوسف التِّنِّيسِي. ومسلم من طريق يحيى بن يحيى النيسابوري. وأبو داود من طريق القَعْنَبي. والنسائي من طريق قتيبة بن سعيد. وقد أوصل الحافظ محمد بن عبد الله الدمشقي المعروفُ بابن ناصر الدين رواةَ الموطأ، إلى ثلاثةٍ وثمانين راوياً، في كتابه "إتحاف السالك برواة الموطأ عن مالك". وأشهَرُ رواياته في هذا العصر روايةُ محمد بن الحسن بين المشارقة، وروايةُ يحيى الليثي بين المغاربة. فالأولى: تمتازُ ببيان ما أخَذَ به أهلُ العراق من أحاديث أهل الحجاز المدونة في الموطأ، وما لم يأخذوا به لأدلةٍ أخرى ساقها محمد في موطئه، وهي نافعة جداً لمن يريد المقارنة بين آراءِ أهلِ المدينة وآراء أهل العراق، وبين أدلةِ الفريقين. والثانية: تمتاز عن نُسَخ الموطأ كلِّها باحتوائها على آراءِ مالك، البالغةِ نحوَ ثلاثةِ آلاف مسألة في أبواب الفقه. وهاتان الروايتان نُسَخُهما في غاية الكثرة في خزانات العالم شرقاً وغرباً. وتوجَدُ رواية ابن وَهْب في مكتبتَي فيض الله وولي الدين بالآستانة. وروايةُ سُوَيد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 سعيد، وروايةُ أبي مصعب الزهري في ظاهرية دمشق. وأطرافُ الموطأ للداني في مكتبة الكبريلي في الآستانة. وطالبُ الحديث إذا عُني بادئَ ذي بدء بمدارسة أحوال رجال الموطأ، فاحصاً عن الأسانيد والمتون فيه، تدرَّجَ - عن دوقٍ وخبرة - في مدارج معرفة الحديثِ والفقه في آن واحد بتوفيقِ الله سبحانه، فيصبحُ على نور من ربه في باقي بحوثه في الحديث، راقياً على مَرَاقي الاعتلاءِ في العلم نافعاً بعلمة منتفِعاً به، واللهُ سبحانه وليُّ التسديد". كلمات في ترجمة محمد بن الحسن راوي الموطأ وكلمات في العمل بالرأي الذي يُغمَزُ به: سيظهر للمطالع من قراءة هذا الموطأ وفرةُ شيوخ الإمام محمد بن الحسن ومكانته في الحديث، إلى جانب مكانته في الفقه والاجتهاد، فقد ظلمه جملةُ من المحدِّثين ظلماً شديداً، لما كان عليه من الاجتهاد والعمل بالرأي، والرأيُ عند الكثير منهم أو أكثرهم من خوارم الثقة بالراوي يذكرونه في ترجمة الراوي في جملة المغامز له ولو كان إماما ثقة كل الثقة في الحديث! مع أنه لا فقه بلا رأي، ولا أحد من الأئمة المتبوعين والمعتبرين لم يعمل بالرأي، فهم في نقد الراوي الذي لديه رأي يمشون على طريقة من لم يكن مثلَنا، فهو خصمٌ لنا، إنا لله! فأذكُرُ هنا جُملاً يسيرة أقطِفها من ترجمة الإمام محمد بن الحسن، في "الجزء" المطبوع مع جزء "مناقب أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن" للحافظ الذهبي (ص 79، 80، 81، 82، 84، 93، 94، من الطبعة الثالثة في بيروت سنة 1408) ، للتعريف بَطَرَفٍ من سيرة هذا الإمام الجليل. "انتهًتْ إليه رياسةُ الفقه بالعراق بعدَ أبي يوسف، وتفقَّهَ به أئمة، وصنَّف التصانيف، وكان من أذكياء العالم. وُلِّي قضاءَ القُضاة للرشيد، ونال من الجاه والحِشمة ما لا مزيد عليه. احتَجَّ به الشافعي في الحديث، يُحكَى عنه ذكاءٌ مفرط، وعقلٌ تام، وسُؤْدُد، وكثرةُ تلاوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 (في "الآداب الشرعية" لابن مفلح الحنبلي 2: 165 بالسند إلى الربع المُرادي: "سمعتُ الشافعي يقول: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا عنه، لكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمُهُ") . محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيرُه، ثنا الشافعي، قال: قال محمد بن الحسن: أقمتُ على باب مالك ثلاث سنين، وسمعتُ منه لفظاً سبعَ مئةِ حديث ونيفاً لفظاً. الربيعُ بن سليمان المُزني، سمعتُ الشافعي يقول: لو أشاءُ أن أقول: نَزَل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلته، لفصاحته، وسمعتُ الشافعي يقول: مارأيتُ سميناً أخفَّ روحاً من محمد بن الحسن، وما رأيت أفصحَ منه، كنتُ إذا رأيته يقرأ القرآن كأن القرآن نزل بلغته. إدريس بن يوسف القراطيسي، سمعتُ الشافعي يقول: ما رأيت أعلمَ بكتاب الله من محمد بن الحسن، كأنه عليه نزل. الطحاويُّ، سمعتُ أحمد بن أبي داود المكي، سمعتُ حرملة بن يحيى، سمعت الشافعي يقول: ما سمعتُ أحداً قط كان إذا تكلم رأيتُ أن القرآن نزل بلغته غيرَ محمد بن الحسن وقد كتبتُ عنه حِمْلَ بُخْتِيّ. محمدُ بن إسماعيل الرَّقِّي، ثنا؟؟ الربيع ثنا الشافعي قال: حملتُ عن محمد الحسن حِمْلَ بُخْتِي كتباً، وما ناظرتُ أحداً إلاَّ تغيَّر وجههُ ما خلا محمد بنَ الحسن. ابنُ أبي حاتم، ثنا الربيع سمعتُ الشافعي يقول: حملتُ عن محمد بن الحسن، حِمْلَ بُخْتي، ليس عليه إلا سَمَاعِي قال عبد الفتاح: كم يكون من الأحاديث في حِمل هذا البُختي: الجمل الطويل العنق الضخم الجسم؟ وكم هي قيمة هذه الشهادة الغالية من الشافعي؟ عباسُ بن محمد، سمعتُ ابن مَعين يقول: كتبتُ عن محمد بن الحسن "الجامع الصغير". أبو خَازم القاضي، ثنا بَكرٌ العَمِّيُّ، سمعتُ محمد بن سَماعة يقول: كان محمد بن الحسن قج انقطع قلبُهُ مِن فكرِهِ في الفقه - يعني يقعُ له استغراق فكرٍ وخاطرٍ في مسائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الفقه يأخذه عمن حَوْلَه - حتى كان الرجلُ يُسَلِّمُ عليه، فيدعو له محمد، فيزيدُه الرجل في السلام، فيردُّ عليه ذلك الدعاءَ بعينه، الذي ليس من جواب الزيادة في شيء. محمد بن سَمَاعة قال: كان محمد بن الحسن كثيراً ما يَتمثَّلُ بهذا البيت: "مُحَسَّدون وشَرُّ منزلةً * مَن عاشَ في الناس يوماً غير محسود" انتهى ما قطفتُه من جزء الحافظ الذهبي في ترحمة محمد بن الحسن رحمهما الله تعالى. ومصداقاً لما وصفه به الإمام الشافعي، من سعة الصدر وكثرة الحِلم في المناظرة وعلى المخالفين والمعارضين، أوردُ هذه الواقعة، وفيها أكثرُ من شاهد وفائدة. روى الحافظ الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (158: 11، وفي "أخبار أبي حنيفة وأصحابه" للقاضي أبي عبد الله الصيمري ص 128) ، في ترجمة (عيسى بن أبان) المحدِّث الفقيه، عن "محمد بن سَمَاعة قال " كان عيسى بن أبان يصلي معنا، وكنتُ أدعوه أن يأتي - مجلسَ - محمد بن الحسن، فيقول: هؤلاء قوم يخالقون الحديث، وكان عيسى حسَنَ الحفظ للحديث، فصلَّى معنا يوماً الصبح، وكان يومَ مجلسِ محمد، فلم أفارقه حتى جلس في المجلس. فلما فرغ محمد - من المجلس - أدنيتُهُ إليه وقلتُ: هذا ابن أخيك أبانُ بنُ صدقة الكاتب، ومعه ذكاءٌ ومعرفةٌ بالحديث، وأنا أدعوه إليك فيأبى ويقول: إنَّا نخالفُ الحديث، فأقبَلَ عليه - محمد - وقال له: يابُنَيَّ، ما الذي رأيتنَا نخالفُهُ من الحديث، لا تَشهَد علينا حتى تَسمع منا. فسأله يومئذٍ عن خمسةٍ وعشرين باباً من الحديث، فجعل محمد بن الحسن يُجيبه عنها، ويُخبره بما فيها من المنسوخ، ويأتي بالشواهد والدلائل. فالتفَتَ إليَّ عندما خرجنا فقال: كان بيني وبين النُّور سِتر، فارتفع عني، ما ظننتُ أنَّ في مُلكِ الله مِثلَ هذا الرجلِ يُظهِرُهُ للناس، ولَزِمَ محمد بن الحسن لزوماً شديداً حتى تفقَّه به". انتهى. هذه لَمْعَةٌ من ترجمة محمد بن الحسن راوي"الموطأ" عن الإمام مالك رضي الله عنهما وجزاهما عن العلم والدين والمسلمين خيرَ الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 كلماتٌ في العمل بالرأي الذي يُغمزُ به محمد بن الحسن والحنفيةُ وغيرهم: - أشرتُ في أول الترجمة الموجزة لمحمد بن الحسن أنه كان يُغمَزُ بالعمل بالرأي. وأقول: العملُ بالرأي مع العدالة والضبط لا يَجرح صحة الرواية، ولا يُضعفها، ولا يُخلُّ بصدق الراوي، لأن الأمانة في النقل منه قائمة تامة، وورَعُ العدل يمنعُهُ أن يزيد حرفاً أو يَنقُصَ حرفاً في الحديث الذي يرويه، لديانته بروايته، ولحفظِ سُمعتِهِ بسلامته. وقد عَمِلَ بالرأي من لا يحصى كثرة من المحدثين والفقهاء من أهل المدينة والكوفة والبصرة والعراق وغيرها. بل اشتهر بعضهم بقَرْن الرأي في اسمه نَعتاً له، مثلُ الإمام ربيعةَ الرأي (أبي عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن) التابعي المَدَني، شيخ مالكٍ والثوري وشعبة والليث بن سعد وهذه الطبقة، المتوفى سنة 136. وأمَّا غمزُ الحنفية بالعمل بالرأي فقال الإمام فخر الدين البَزْدَوي في مقدمة كتابه "أصول الفقة" للحنفية أصحابَ الرأي: "وأصحابُنا هم السابقون في هذا الباب - أي الفقه -، وهم الربَّانيُّون في علم الكتابِ والسنَّة وملازمة القدوة، وهم أصحاب الحديث والمعاني. أما المعاني فقد سَلَّم لهم العلماء، حتى سَمَّوهم أصحابَ الرأي، والرأيُ اسم للفقه - قال ابن تيمية: وتسمَّى كتبَ الفقه كتبَ الرأي، كما في "مجموع الفتاوي" 74: 18 -. وهم أولى بالحديث أيضاً، ألا ترى أنهم جوَّزوا نسخ الكتاب بالسنَّة، لقوة منزلة السنَّة عندهم، وعملوا بالمراسيل تمسكاً بالسنَّة والحديث، ورأوا العمل بها مع الإرسال أولى من الرَّأي، ومَنْ رَدَّ المراسيل فقد رَدَّ كثيراً من السنة، وعَمِلَ بالفرع بتعطيل الأصل، وقدَّموا روايةَ المجهول على القياس، وقدَّموا قول الصحابي على القياس. وقال محمد رحمه تعالى في كتاب "أدب القاضي": لا يستقيمُ الحديثُ إلا بالرأي، ولا يستقيمُ الرأيُ إلا بالحديث". انتهى. كلام البزدوي. قال العلاَّمة علاء الدين البخاري في شرحه: "كشف الأسرار" 17: 1: "معناه لا يستقمً الحديثُ إلاَّ باستعمال الرأي فيه، بأن يدرك معانيه الشرعية التي هي مناط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الأحكام. ولا يستقيمُ إلاَّ بالحديث أي لا يستقيمُ العمل بالرأي والأخذ به إلاَّ بانضمام الحديث إليه". قال عبد الفتاح: وقد أطلق هذا اللقب: (أصحابُ الرأي) على علماءِ الكوفة وفقهائها، من قِبَل أناس من رواة الحديث، كان علمهم أن يخدموا ظواهرَ ألفاظ الحديث، ولا يرومون فهمَ ما وراءَ ذلك من استجلاءِ دقائق المعاني وجليل الاستنباط، وكان هؤلاء الرواة يَضِيقُون صدراً من كل من أعملَ عقله في فهم النص وتحقيق العلة والمناط، وأَخَذَ يَبحثُ في غير ما يبدو لأمثالهم من ظاهر الحديث، ويَرَونه قد خرج عن الجادة، وتَرَك الحديثَ إلى الرأي، فهو بهذا - في زعمهم - مذمومٌ منبوذُ الرواية. وقد جرحوا بهذا اللقب طوائف من الرواة الفقهاء الأثبات، كما تراه في كثير من تراجم رجال الحديث، وخذ منها بعض الأمثلة: -1 - جاء في ترجمة (محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري) عند الحافظ ابن حجر في "هدي الساري" (161: 2) ، قولُ الحافظ: "من قُدَماءِ شيوخ البخاري، ثقة، وثَّقه ابن معين وغيرُه، قال أحمد: ما يُضعفه عند أهل الحديث إلا النظرُ في الرأي، وأما السماع فقد سَمِع" انتهى. قلت: انظر ترجمته في "تذكرة الحفاظ" للذهبي، (371: 1) و"تهذيب التهذيب" (274: 9 - 276) . -2 - وقال الحافظ ابن حجر أيضاً في "هَدْي الساري" (170: 2) ، في ترجمة (الوليد بن كثير المخزومي) : "وثقه إبراهيم بن سعد وابنُ معين وأبو داود، وقال الساجي: قد كان ثقةً ثبتاً، يُحتَجُّ بحديثه، لم يُضعفه أحد، إنما عابوا عليه الرأي". -3 - وقال الحافظ الذهبي في "المغني" (670: 2) : "مُعَلَّى بن منصور الرازي، إمامٌ مشهور، موثق، قال أبو داود: كان أحمد لا يروي عنه للرأي، وقال أبو حاتم: قيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 لأحمد: كيف لم تكتب عنه؟ قال: كان يكتب الشروط، من كتبها لم يَخْلُ أن يكذب". قلتُ: انظر ترجمته في "تذكرة الحفاظ" (377: 1) ، و"تهذيب التهذيب" (238: 10 - 240) ، وفي آخر ترجمته فيه: "قال أحمد بن حنبل: مُعلَّى بن منصور من كبار أصحاب أبي يوسف ومحمد، ومن ثقاتهم في النقل والرواية". أنتهى. فيكون أحمد ترك الكتابة عنه من أجل الرأي فقط. وقد كثر هذا النبذُ لأهل الرأي، والنَّبذُ لروايات كثيرٍ منهم، حتى أثار مثل الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي وغيره من أئمة الحنابلة، أن يُتكلَّم بسبب هذا القول فيهم، أو بأويله على وجه محتمل، جاء في "مسودة آل تيمية في أصول الفقه" ص 265: "وقال والد شيخنا في قول أحمد: (لا يُروَى عن أهل الرأي) ، تكلَّم عليه ابن عقيل بكلام كثير، قال في رواية عبد الله: (أصحابُ الرأي لا يُروى عنهم الحديث) ، قال القاضي - أبو يعلى -: وهذا محمول على أهل الرأي من المتكلمين كالقدرية ونحوهم. قلتُ - القائل الشيخ ابن تيمية -: ليس كذلك بل نصوصُه في ذلك كثيرة، وهو ما ذكرتُه في (المبتدع) (ص 264 في "المسودة") ، أنه نوع من الهجرة، فإنه قد صرَّح بتوثيق بعض من تَرَك الرواية عنه كأبي يوسف ونحوه، ولذلك لم يُرْوَ لهم في الأمَّهات كالصحيحين". انتهى. ظلم جملة من المحدثين لأبي يوسف ومحمد الفقيهين المحدثين: - قال العلاّمة الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى، في كتابه: "الجرح والتعديل" (ص 24) : وقد تجافى أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي، فلا تكاد تجد اسماً لهم في سند من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن، كالإمام أبي يوسف والإمام محمد بن الحسن، فقد ليّنهما أهل الحديث! كما ترى في "ميزان الاعتدال"! ولعمري لم ينصفوهما وهما البحران الزاخران، وآثارهما تشهد بسعة علمهما وتبحرهما، بل بتقدمهما على كثير من الحفاظ، وناهيك كتاب "الخراج" لأبي يوسف، و"موطأ" الإمام محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وإن كنتُ أَعُدُّ ذلك في البعض تعصباً، إذ يَرى المنصفُ عند هذا البعض من العلم والفقه ما يَجدرُ أن يُتحمّل عنه، ويستفاد من عقله وعلمه، ولكن العصبية!! ولقد وُجد لبعض المحدثين تراجمُ لأئمة أهل الرأي، يخجل المرء من قراءتها فضلاً عن تدوينها وما السبب إلاّ تخالُفُ المشرب، على توهم التخالف ورفض النظر في المآخذ والمدارك، التي قد يكون معهم الحقُ في الذهاب إليها، فإن الحق يستحيل أن يكون وقفاً على فئة معيّنة دون غيرها، والمنصفُ من دقّق في المدارك غاية التدقيق ثم حكم. نعم، كان وَلَعُ جامعي السنة بمن طوَّفَ البلاد، واشتَهَر بالحفظ، والتخصص بعلم السنّة وجمعها، وعلماءُ الرأي لم يشتهروا بذلك، وقد أُشيع عنهم أنهم يُحكِّمون الرأي في الأثر! وإن كان لهم مرويات مسندةٌ معروفة رضي الله عن الجميع، وحشرنا وإياهم مع الذين أنعم الله عليهم". انتهى. وقال شيخنا العلاّمة أحمد شاكر، رحمه الله تعالى في تعليقه على "مسند الإمام أحمد" (11: 13) : "أبو يوسف القاضي: ثقة صدوق، تكلموا فيه بغير حق، ترجمه البخاري في "الكبير" 4/397: 2، وقال: تركوه! وقال في "الضعفاء" ص 38: تركه يحيى وابن مهدي وغيرُهما وترجمه الذهبي في "الميزان" 447: 4، والحافظ في "لسان الميزان" 300: 6، والخطيبُ في "تاريخ بغداد" ترجمة حافلة 242: 14 - 262، وأعدلُ ما قيل فيه قول أحمد بن كامل عند الخطيب: ولم يَختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني في ثقته في النقل" انتهى. كلمات للإمام ابن تيمية في دفع الجرح بالعمل بالرأي: - قال عبد الفتاح "وقد رأيت للشيخ الإمام ابن تيمية كلاماً حسناً، جلّى فيه شأنَ الرأي، وما يُذَمُّ منه وما لا يُذَمُّ، فأحببتُ إيراده هنا استيفاءً للمَقام وإن طال الكلام، فإنه قاطع للشغب على العمل بالرأي من كل مشاغب. قال رحمه الله تعالى في كتابه: "إقامة الدليل على إبطال التحليل" (227: 3، ضمنَ "الفتاوى الكبرى") : "ما ورد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الحديث والأثر من ذم الرأي وأهله، فإنما يتناوَلُ الحيل، فإنها أُحدِثَتْ بالرأي، وإنها رأيٌ محض، ليس فيه أثر عن الصحابة، ولا له نظير من الحِيَل ثَبَت بأصل فيقاسُ عليه بمثله، والحكمُ إذا لم يَثُبت بأصل ولا نظير، كان رأياً محضاً باطلاً. وفي ذم الرأي آثار مشهورة عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عُمَر وغيرهم، وكذلك عن التابعين بعدَهم بإحسان، فيها بيان أن الأخذ بالرأي يُحلِّلٌ الحرام، ويُحرِّم الحلال. ومعلوم أن هذه الآثار الذَامة للرأي، لم يُقصَد بها اجتهادُ الرأي على الأصولِ من الكتاب والسنة والإجماع، في حادثة لم توجد في كتاب ولا سنَّة ولا إجماع، ممن يَعرف الأشباه والنظائر، وفقهَ معاني الاحكام، فيقيسُ قياسَ تشبيه وتمثيل، أو قياسَ تعليل وتأصيل، قياساً لم يعارضه ما هو أولى منه، فإنَّ أدلة جواز هذا للمفتي لغيره والعاملِ لنفسِه، ووجوبه على الحاكم والإمام أشهَرُ من أن تُذكَر هنا، وليس في هذا القياس تَحليلٌ لما حرَّمه الله سبحانه، ولا تحريم لما حللَّه الله. وإنما القياسُ والرأي الذي يَهدِمُ الإسلام، ويُحلِّل الحرام، ويُحرِّم الحلال: ما عارض الكتابَ والسنَّة، أو ما كان عليه سلفُ الأمة، أو معانيَ ذلك المعتبرة. ثم مخالفتُه لهذه الأصول على قسمين: أحدُهما: أن يخالف أصلاً مخالفةً ظاهرة، بدون أصل آخر. فهذا لا يقعُ من مفتٍ إلاَّ إذا كان الأصل مما لم يبلغه علمُه، كما هو الواقع لكثير من الأئمة، لم يبلغهم بعض السُّنَن، فخالفوها خطأً. وأما الأصولُ المشهورة، فلا يخالفها مسلم خلافاً ظاهراً، من غير معارضة بأصل آخر، فضلاً عن أن يخالفها بعضُ المشهورين بالفتيا. الثاني: أن يخالف الأصل بنوعِ تأويلٍ وهو فيه مخطئ، بأن يضَعَ الإسمَ على غير موضعه، أو على بعض موضعه، ويُراعي فيه مجرَّدَ اللفظِ دون اعتبار المقصود لمعنىً أو غيرِ ذلك. وإنَّ من أكثر أهل الأمصار قياساً وفقهاً أهلَ الكوفة، حتى كان يقال: فقهٌ كوفي، وعبادةٌ بصريَّة. وكان عِظَمُ علمهم مأخوذاً عن عمر وعلى وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وكان أصحابُ عبد الله، وأصحابُ عمر، وأصحابُ علي، من العلم والفقهِ بالمكان الذي لا يخفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ثم كان أفقَههم في زمانه إبراهيمُ النخعي؟؟، كان فيهم بمنزلة سعيد بن المسيب في أهل المدينة، وكان يقول: إني لأسمعُ الحديث الواحد، فأقِيسُ به مئة حديث. ولم يكن يَخرج عن قول عبد لله وأصحابه. وكان الشعبيُّ أعلم بالآثار منه. وأهلُ المدينةِ أعلمُ بالسنةِ منهم. وقد يوجد لقدماء الكوفيين أقاويلُ متعددة، فيها مخالفةٌ لسنة لم تبلغهم، ولم يكونوا مع ذلك مطعوناً فيهم، ولا كانوا مذمومين، بل لهم من الإسلام مكانٌ لا يخفى على من عَلِمَ سيرة السلف، وذلك لأن مثل هذا قد وُجِدَ لأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، لأن الإحاطة بالسنَّة كالمتعذر على الواحِد أو النفرِ من العلماء. ومَنْ خالف ما لم يبلغه فهو معذور". انتهى. قال عبد الفتاح: ولله دَرُّ الإمام ابن تيمية كيف جَلَّى هذه المسألة، واستوفاها ورَدَّ قول الجارح بها بمتانة وإقناع. وبهذه البيان الشافي الوافي يتبيَّنُ أن جرح الراوي بأنه (من أهل الرأي) مردود، ولا يصح غمزُ الثقات الأثبات والأعلام الكبار به. تحجُّر الرواة وضيقهم من المشتغل بغير الحديث: - ومأتى جَرحهم الراوي بهذا الجرح المردود: أنه كانت هِمّةُ أكثر أهل الحديث متوجهة إلى الرواية والسماع، ويرفضون النظر في المآخذ والمدارك، كما أشار إليه الشيخ القاسمي رحمه الله تعالى فيما تقدم من كلامه. بل كان أولئك الرواة يَرون العلم كل العلم رواية الحديث ومتناً لا بحثاً وفقياً، ويرون إعمال الرأي في فهم الأثر خروجاً عليه، فإذا بلغهم عن فقيه أنه تكلّم في مسألةٍ باحثاً مجتهداً، أو عن متكلّم قال في صفةٍ من صفات الله تعالى قولاً، أو عن مُذكّرٍ تحدث عن حال النفس كاشفاً مُنَقّباً، أو عن محدثٍ روى شعراً: ثارَتْ لذلك حفيظتُهم، ونقموا عليه ما صنع، وقالوا فيه من الجرح ما يرونه ملاقياً للجارح الذي اتصف به في نظرهم. وقد جاء في ترجمة الإمام الشافعي رضي الله عنه، في "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (299: 17) ، ما نصه: "عن مصعب الزبيري قال: كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الشافعي على شعر هُذيل حفظاً، وقال: لا تُعلِم بهذا أحداً من أهل الحديث، فإنهم لا يحتملون هذا". انتهى. قلتُ: بل إنّ أهل الحديث لم يحتملوا أقل من هذا بكثير! لم يحتملوا تصنيفَ الحديث على الأبواب! جاء في "الحلية" لأبي نعيم (165: 8) ، في ترجمة الإمام الجليل القدوة عالِم خراسان الفقيه المحدث العابد المجاهد: (أبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك) المتوفى سنة 181 رحمه الله تعالى، ما يلي: "قال أحمد بن أبي الحَوَارى: سمعتُ أبا أسامة - هو الحافظ الإمام الحجة حماد بن أسامة الكوفي - يقول: مررت بعبد الله بن المبارك بطرَسوس -ثغر من ثغور الجهاد في وجه الأعداء - وهو يُحدِّث، فقلتُ: يا أبا عبد الرحمن، إني لأنكر هذه الأبوابَ والتصنيف الذي وضعتمون ما هكذا أدركنا المشيخة! " انتهى. فإذا كان هذا شأن أحد كبار المحدثين، مع شيخ المحدِّثين والزهاد، وإمام المجاهدين والعُبَّاد: عبد الله بن المبارك، وكلُّ الذي صنَعَهُ هو أنه جمع الأحاديث تحت عناوين (الأبواب والتصنيف عليها) ! فلا شك أنَّ شأنهم أشدُّ إنكاراً مئةَ مرةً مع الذي يُعمل رأيَه في فهم النص أو يؤوله لدليلٍ يقتضي ذلك عنده! وقال الإمام الغزالي في "الإحياء" (79: 1 في مبحث (آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء)) : "كان الأولون يَكرهون كَتبَ الأحاديث وتصنيف الكتب، لئلا يشتغل الناس بها عن الحفظ، وعن القرآن، وعن التدبر والتذكر، وكان أحمد بن حنبل ينكر على مالك في تصنيفه "الموطأ"، ويقول: ابتدع ما لم يفعله الصحابة رضي الله عنهم". انتهى. وانظر أقوالاً أخرى للإمام أحمد - في هذا الصدد أيضاً وعلى غِرار ما نقله الإمام الغزالي - في "مناقب الإمام أحمد " لابن الجوزي في (الباب الثامن والعشرون في ذكر كراهيته وَضْعَ الكتبِ المشتملة على الرأي، ليتوافر الالتفات إلى النقل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 (وذلك في ص 249 من الثانية المحققة، وص 192 من الطبعة الأولى) . الردُّ على من قدح في أبي حنيفة بدعوى تقديمه القياس على السنة: - قال الإمام المحقق ابن حجر المكي الهَيتَمي الفقيه الشافعي رحمه الله تعالى، في كتابه: "الخيرات الحِسَان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان" (ص 98) : (الفصلُ السابع والثلاثون في الرد على من قدح في أبي حنيفة، لتقديمه القياس على السنة) : قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر [الإمامُ المحدِّث الفقيه المالكي الأندلسي، في "جامع بيان العلم وفضله" (148: 2 وما تراه بين هاتين المعكوفتين [] هو من زيادتي على كلام ابن حجر الهيتمي من "جامع بيان العلم") ، في (باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والظن والقياس على غير أصل) بعد أن نَقَل طائفةً من أقوال بعض المحدثين في الغَمز بأبي حنيفة] ، ما يلي: أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي، وتجاوزوا الحد في ذلك، لتقديمه الرأي والقياس على الآثار. وأكثَرُ أهل العلم يقولون: إذا صح الحديث بَطَل الرأي والقياس. وكان رَدُّهُ لما من أخبار الآحاد بتأويلٍ محتَمل. وكثيرٌ منه قد تقدَّمه إليه غيرُه، وتابَعَهُ عليه مثلُه [ممن قال بالرأي] . وجُلُّ ما يُوجَدُ له من ذلك تَبِعَ فيه أهلَ علم بلدِه، كإبراهيم النخعي، وأصحاب ابن مسعود، إلاَّ أنه أكثَرَ من ذلك هو وأَصحابُه. وغيرُهُ إنما يوجد له ذلك قليلاً. [وما أعلمُ أحداً من أهل العلم إلاَّ وله تأويلٌ في آية، أو مَذْهَبٌ في سُنة، فرَدَّ من أجل ذلك المذهب سُنَّةً أخرى بتأويلٍ سائغ، أو ادّعاء نَسخ، إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيراً، وهو يوجَدُ لغيره قليلاً] . قال الليث بن سعد: أَحصيتُ على مالك سبعين مسألةً، قال فيها برأيه، وكلُّها مخالفةٌ لسنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كتبتُ إليه أعِظُهُ في ذلك. ومِن ثمة لمَّا قيل لأحمد بن حنبل: ما الذي نَقَمتُم على أبي حنيفة؟ قال الرأي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 قيل: أليس مالكٌ تكلَّم بالرأي؟ قال: بلى، ولكن أبو حنيفة أكثَرُ رأياً منه، قيل: فهلاَّ تكلَّمتم في هذا بحصته وهذا بحصته؟ فسكت أحمد. قال أبو عمر: ولم نجد أحداً من علماء الأمة أثبَتَ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رَدَّه إلاَّ بحُجَّة، كادِّعاءِ نسخ بأثرٍ مِثلِه، أو بإجماع، أو بعملٍ يجبُ على أصلِهِ الانقيادُ إليه، أو طعنٍ في سند. ولو رَدَّهُ أحدٌ من غير حجة لسقطَتْ عدالتُه فضلاً عن إمامتِه، ولَزِمَهُ اسمُ الفِسْق، ولقد عافاهم الله من ذلك. ولقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم من اجتهاد الرأي والقولِ بالقياس على الأصول، ما يطولُ ذكرُه، وكذلك التابعون. وعدَّدَ ابنُ عبد البر منهم خلقاً كثيرين. انتهى كلامُ ابن عبد البر، وفيه جوابٌ شافٍ عن ذلك القَدْح. والحاصلُ أنَّ أبا حنيفة لم ينفرد بالقولِ بالقياس، بل على ذلك عمَلُ فقهاء الأمصار كما قاله ابن عبد البر، وبَسَط الكلامَ عليه رَدَّاً على من جَهِلَ فجعَلَ ذلك عَيْباً". انتهى كلام ابن حجر الهَيْتَمي. وهذا القَدْرُ من كلام الإمامين: ابنِ حجر المكي الشافعي، ابن عبد البر الأندلسي المالكي - إلى جانب كلام الإمام ابن تيمية الحَرَّاني الحنبلى - كافٍ في تجليةِ رَدِّ جرح الراوي بالعمل بالرأي، والله سبحانه وتعالى أعلم. كلمات في ترجمة الشارح الإمام اللكنوي: - ترجَمَ الإمام اللكنوي رحمه الله تعالى لنفسه، في ستة كتب من كبار تآليفه، في خاتمة " النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير"، وفي مقدمة كتابه هذا: "التعليق الممجد" في آخر الفائدة التاسعة، وفي مقدمة "السعاية لكشف ما في شرح الوقاية"، وفي مقدمة "عمدة الرعاية لحل شرح الوقاية"، وفي "التعليقات السَّنِيَّة على الفوائد البهية"، وفي مقدمة "الهداية" للإمام المَرْغِيناني. وقد جمعتُ له ترجمةً مطولة مستفيضة من هذه الكتب الستة، وأثتبُّها في أول كتابه "الرفع والتكميل في الجرح والتعديل"، الذي خدمتُه في طبَعاته الثلاث، وأوفاها ترجمةً له في الطبعة الثالثة، كما ترجمتُ له بتراجم منقولة عن بعض معاصريه أو تلامذته، ومنها الترجمة في أول كتابه "الأجوبة الفاضلة عن الأسئلة العشرة الكاملة"، في مباحث هامة شائكة من علوم مصطلح الحديث الشريف. ومنها في أول كتابه "تحفة الأخيار بإحياء سُنَّة سيد الأبرار" - صلى الله عليه وسلم - الذي قريب الصدور إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وقد تحقق عندي واستقَرَّ في نفسي، من تتبعي لكتب الإمام محمد عبد الحي اللكنوي رحمه الله تعالى ومؤلَّفاته: رسائلَ صغيرة في صفحات، أو كتباً كبيرة في مجلدات: أنَّ تصانيفَهُ دائماً - على اختلاف مواضيعها - تتميَّزُ بمزايا لا تجتمع عند غيره. ففيها التميُّزُ بالضبط التام الدقيق للألفاظ المقتضية ذلك، والشرحُ الوافي للمعاني، وتبيينُ الأحكام الفقهية - إن كان الموضوع فقهاً - بما يكفي ويشفي. وفيها تراجم العلماء الذين يأتي ذكرُهم في سياق البحثِ عنده، لزيادة التعريف بهم، بإيجاز في محله، وباستيعابٍ في محله. وفيها الحديثُ عن رجال الإسناد أو بيانُ حاله إذا كان المقامُ يقتضي ذلك. وفيها تنوُّع مَعارفه المتوازِنُ المتينُ، في التفسير، والحديث وعلومهما، والفقه، والأصول، والفتاوي، والكلام، والتاريخ، والسِّيَر، والتراجم، والأنساب، واللغة، والنحو، والصرف، والمنطق، والمناظرة، والحكمة. وقلَّ أن يجتمع هذا كلُّه في العلماء. وفيها التمكن التام من الولوج في كل علم أو فن يؤلِّفُ فيه، بل فيه التفوُّقُ والمهارة البارزة والإتقان الظاهر في كل ما يكتبه، وفيها من التواضع البالغ عند عرض المسائل والآراء، التي يختارها أو يرجحها أو يجزم بها ويخطِّئ سواها، فلا انتفاخ ولا صُراخ، ولا استكبار ولا استعلاء، ولا تكلف ولا مغالاة. وفيها الإنصاف والاعتدال، والبعدُ عن التعصب لمذهب أو رأيٍ معيَّن، بوضوح وجلاء، اتباعاً منه للدليل ولوجاهة الرأي المختار. وفيها استيعابُ الاستدلال للمسألة التي يحققها حتى ينتهي بالقارئ إلى الحكم الذي قرَّره ويُقنعَه به. وفيها الصبر والجَلَدُ القوي على مناقشة ما يَحتاج إلى المناقشة بتروٍّ وأناة، ليتميَّز الصوابُ من الخطأ في الموضوع. وفيها كثرةُ المصادر المعروفة وغيرِ المعروفة، يَسردُها بلا كلل ولا ملل، وكأنها كلَّها كالخاتم في يده، أو السطورِ أمامَ عينيه، فينقلُ منها ما يريد، لدعم ما انتهى إلى تقريره بكل أمانة ودقة واستيفاء، وكثير من تلك المصادر التي ينقل منها ما سمع جلَّة العلماء المشتغلين في العلم بأسمائها فضلاً عن معرفتهم بذواتها وقراءتها، فلذا يَكثُر الجديدُ والمفيدُ في كل ما يكتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وإني لأتعجَّبُ كيف نَقَل تلك النقول من مكامنها، وهي في بطون الكتب البعيدة عن الأيدي والأنظار، التي لا فهارس لها ولا أدلةً على مضامِينها، وإني أتصور أنَّ بينه وبين تلك النقول شعاعاً مرشداً إليها ومغناطيساً دالاً عليها أصدَق الدلالة وأدقِّها. نعم الأمرُ كذلك في تصوري، وذلك الشعاع والمغناطيس هو الذَّهنُ الفريدُ المتقد، العجيب، الذي أكرمه الله به، فهو يرشده إلى كل شاذة وفاذة في الباب، فتراهُ يُوردُها في تأليفه دِراكاً تباعاً، حتى كأنه قد استظهرها حفظاً، وتمثَّلها لفظاً. وقد صار طابَعُ الوَلُوع بالتحقيق والتدقيق، وترجيح الراجح وتضعيفِ الواهي في المسألة: عفوياً في حجاه وسِمَةً بارزة في جميع كتبه ومؤلفاته، فقد أَلِفَ واستلذَّ التحقيق واستطعمه حتى صار طبعاً في خاطره وتفكيره، وأُوتيَ الصبرَ عليه، على أنه لم يَسلم من الخطأ الذي ما تنزه عنه إلا الأنبياء الكرامُ عليهم الصلاة والسلام، الذي عصمهم الله تعالى بفضله وكرمه. وكنتُ في أول أمري لمَّا أُطالعُ في كتابه المتميز المفيد: "الفوائد البهية في تراجم الحنفية"، وأراه يقول في تراجم من يترجمهم: (وقد طالعت من كتبه كتاب كذا، وكتاب كذا، وكتاب كذا) . كنتُ أقول هذا القول على التجوُّز، أي أنه يتصفح الكتاب وينظر فيه بالإجمال، لأن الكتب التي يذكر مطالعته لها كثيرة جداً جداً، وبعضها في مجلدات كبار، فهي إلى ندرة وجودها، وأنها من المخطوطات: واسعةٌ متسعة، لا يَصبُر على قراءة الكتاب الواحد منها أمثالُنا! إلا إذا دَفَعَتْه إلى ذلك رغبة حبٍّ وشوق، أو إلزام أتاه من فوق. فلما قرأتُ جملةً من كتبه، واستنرتُ بتآليفه ومداركه العالية عملاً بوصية شيخي الإمام العلامة المحقن محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى، تبيَّن لي أن قوله: (طالعت من كتبه كتاب كذا، وكتاب كذا .... ) : حقيقةٌ لا تجوُّز فيها، وأنها مطالعةُ العالم الذكي اللوذعي الذي يفهم ويعي، ويحفظ ما قرأ وطالع. ويكون ما قرأهُ من سنين بعيدة منصوباً بين عينيه، ففي كثير من المواضِع والموضوعات، التي يكتبُ أو يؤلفُ فيها، تجدُهُ ينقلُ الكلمة القصيرة الصغيرة من الكتاب الطويل الكبير، فانبهرتُ من حَذَاقته وزكانته وشدةِ استيعابه للموضوع، الذي لا يصلُ إليه المطالعُ المطَّلعُ في مَظِنَّتِه إلى بصعوبة، تراهُ هو قد تناوله بسهولة ويُسر وانسجام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ومما أذكره مثالاً لهذه السِّمَةِ الساميةِ في كتبه: الكتابُ الكبيرُ الذي سمَّاه "ظفر الأماني في شرح مختصر السيد الجُرجاني"، في علم المصطلح الحديثي ومن أكبر ما أُلِّف فيه، فقد هالني حين حققته واعتنيت به لطبعه كثرةُ النقول فيه من مصادر بعيدة متباينة المواضيع والعلوم. فتراه ينقل الجملة والجملتين، والكلمةً والكلمتين، ثم يُعَرِّحُ على كتاب آخر فينقل منه الصفحة أو نصفَها أو مثيلها، ثم ينتقل إلى كتاب آخر لا يُظَنُّ ولا يَرِدُ إلى الذهن أن يكون فيه الجملةُ التي يلتقطها منه، وتكون هي في موضعها الذي أثبتها فيه كحجرة الخاتم الثمينة في الخاتم النفيس. فللَّه دَرُّه ما أعلمَهُ بالنصوص ومظانها وغيرِ مظانها، وما أصبرَهُ على نقلها وأنقَدَه لاختيارها، والكتبُ أغلبها لديه مخطوطة! وإذا كان هذا شأنَه في الكتاب الكبير الضخم فلا يستغرب أن يكون هكذا شأنُه أيضاً في الكتب الصغيرة والرسائل اللطيفة، كرسالته: "تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار"، وهي من آخر ما اعتنيت بخدمته وتقديمه للطبع، فهذه الرسالةُ على لطافتها حجماً، نَقَل فيها من مصادر مخطوطة ما سمعتُ بأسماءِ كثيرٍ منها فضلاً عن رؤيتها، في الفقه الحنفي وفي غيره، فقد كان لديه مكتبة عامرة جامعة، تستجيبُ لكل علم يريدُ تحقيقَهُ والتأليفَ فيه. فهذا الرجل إمامٌ في العلم، وإمام في كثرة التآليف المفيدة المتقنة، مع قِصَر العمر، فقد عاش تسعاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وخلَّفَ أكثر من خمسة عشر ومئةِ كتاب ورسالة، في مواضيع شتى في المنقول والمعقول، شرحاً أو تحشيةً أو تأليفاً مبتكراً مستأنفاً. ولو حُسِبَتْ أيامُ حياته، وقُسِّمَتْ على صفحات مؤلفاته، لأتت بالمدهش العجاب، من وفرة ما يصنِّفُه كلَّ يوم، فأين وقتُ المطالعة والتفكير والنسخ والتسويد والتبييض إن كان لديه تسويد، والأكل والشرب والنوم والأسفار عنده؟ ولكنَّ هناك أناساً آتاهم الله تعالى المواهبَ النادرة الفَذَّة، والقدرةَ العجيبة الباهرة عل احتواء العلم، وتحقيقه، وتدوينه عَذْباً مُضيئاً وَضِيئاً، من شعاع الخاطر إلى رأس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 القلم، دون تردُّد أو تعثُّر، أو وهنِ ذهنٍ أو عبارة أو تكدُّر، أو فُتورِ بيان، فأنفاسُهم وخواطرهم تحمِلُ العلم مستقيماً، وأقلامُهم تستقبله كذلك فيَخرجُ عَسَلاً مصفَّى، وتأليفاً قويماً، ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، والإمام اللَّكْنَويُّ الشابُّ منهم، جزاهم الله عن العلم والدين والمسلمين خيرَ الجزاء. أهميةُ طبع كتاب التعليق الممجد: - هذا الكتاب العظيم والشرح الجليل أحَدُ الكتب الكبار التي ألَّفها الإمامُ عبد الحيّ اللَّكنوي، من كتبه الكثيرة البالغة 115 كتاب، وقد بدأ بتأليفه أواخر سنة 1292، وكانت سنه 27 سنة، ثم اعترضَتْهُ أسفار وأعراض وأشغال، فأتمَّ تأليفَه في شعبانِ سنة 1295. فهي موهبة عجيبة، وقُدرة غريبة، أن يتسنم كتابَ الموطأ شابٌّ هنديٌّ اللغةِ والدارِ في هذه السن، وقد ضمَّنه زاهي علمه وأرقى معرفته في الحديث الشريف وعلومه، وفي الفقه الحنفي والمذاهب الأخرى وسائر ما يتصل بذلك من العلوم من بعيد أو من قريب، فجاء هذا الكتاب درة فريدة من درر العم، وجوهرةً نفيسة من أنفس الجواهر. وسيجدُ القارئ المطالع فيه المزايا التي تميَّز بها الإمامُ اللكنوي وأشرتُ إليها قريباً، وسيُدهَشُ من قُوَّةِ ملكته ناصية التحقيق والتدقيق، والضبطِ والإتقان، ومناقشة المذاهب والآراء، والترجيح والتضعيف، والتجرُّد والإنصاف، دُونَ ليٍّ للنصوصِ ولا اعتساف. هذا الكتاب النفيس طُبح أكثر من خمس مرات في الهند وباكستان، الطباعة الهندية الحجرية، ذات الحواشي الغواشي! والسطورِ المنمنمة، والعبارات المستديرة على جوانب الصفحة الثلاث، والعبارات القصيرة المتداخلة بين السطور، لضبط اسم أو كلمة، أو بيان عطفٍ على معطوف أو إعراب، أو لغة أو رواية، أو اختلاف فيها أو ما إلى ذلك. وبعضُ هذه العبارات القصيرة كُتبَتْ تحت السطر على امتداده ومستواه، وبعضها كُتبَتْ فوق السطر مقلوبة عليه مع قرب السطور وتداخل الكلمات، كما يراه القارئ المتأمل في الصورة المأخوذة عن النسخة المطبوعة في هذه التقدمة، فصارت قراءتُه - مع نفاسة مضمونه في كل جملة شارحة، أو تعليقةٍ موضَّحة - عسيرةً، لا يَصبرُ عليها إلا سادتُنا ومشايخثنا العلماءُ الهنود والباكستانيون، الذي ألِفوا هذه الطريقة في الطباعة الحجرية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وفي تداخل الكلمات في السطور، وإلا أفرادٌ قليلون من العلماء العرب، الذين يستهويهم التحقيق العلمي والفتوحات الربانية في المطبوعات الهندية، النفيسة المضمون والعلم. وأمَّا عامَّةُ القراء العرب فما أبعدَهم من الصبر على قراءة مثلِ هذا الكتاب، ومن المطبوعات الهندية القديمة، فلذا حُرم من هذا الكتاب وأمثاله كثيرون من إخواننا العلماء العرب، وحيلَ بينهم وبين ما يشتهون. وقد كنتُ منذ ثلاثين سنة نوَّهْتُ بفضل هذا الكتاب ومزاياه، في بعض تعليقاتي على كتاب "الرفع والتكميل"، وقلتُ: إنَّ خُلُوَّ مكتبة العالم منه حِرمانٌ كبير، فأخذت هذا الكلمةُ مأخذها من عَزائم كثير من العماء وبعض الجهات العلمية الرسمية، التي اعتادت نشر الكتب النادرة النفيسة النافعة، فعزمَتْ وزارة الأوقاف في دولة الإمارات العربية المتحدة على طبعه، واهتمت به، وكلَّفتني بتحقيق دولة مقدمته التي قدَّم بها المؤلف قبل الدخول في الشرح، والتي تبلغ كتاباً مستقلاً غير صغير، ونسخَتْها وبعثتها إليَّ، ثم توقَّفَتْ لبعض الأسباب، فوقف الكتاب كما هو! ثم عزَمَتْ مؤسسة شهيرة كبيرة قديرة من دور النشر، على نشره، ونسخته إلى منتصفه، وقدَّمته لي وكلَّفتني بتحقيقه والعناية به، وكنتُ حينئذ في ارتباط علمي ودراسي جامعي ومشاغل زاحمة! لا يمكنني معها أن أتفرغ له كما أحب، ليَخرج كما يَستحق أن يُخرَج به، فتوقفَ نشرُه أيضاً! وأخيراً توجهَتْ هِمَّةُ الأخ الفاضل الشيخ الدكتور تقي الدين النَّدْوي، الهنديُّ المنشأ والدار، العربيُّ المُقام والقرار، إلى نسخه وكتابته والصبر على خدمته بكل دقة وأمانة، ليَخرج إلى القراء بالطباعة الفائقة، والعناية الطبية، وتنزيلِ شروحه وتعليقاته في منازلها، وربطها بالألفاظ المتصلة بها، مع الضبط والإتقان. وكان مما أعانه وشجّعه على ذلك اهتمامُ الأخ الأستاذ محمد على دولة، ناشِرِ الكتب النافعة المختارة المنتقاة، السليمة القويمة، فاستقبل هذا الكتابَ بترحاب واستعداد كامل لنشره، عملاً بثنائي عليه وحَضِّي على طبعه وإخراجه. فلهذين الأخوين الأستاذين الفاضلين يعودُ فضلُ إخراج هذا الكتاب العظيم، ولهما مِنَّةٌ على من يقرأه بهذا العرض الرائق القشيب، وهذا الطبع الفصيح الجميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وإني لأقدم شكري الجزيل لهما على تحقيق هذا الأمنية الغالية، التي كانت في نفسي، فحقَّقَاها على خير ما يُستطاع، جزاهما الله خيراً، وتقبل منهما هذا العمل الصالح الثمين بإخراج هذا الكتاب وأمثاله. وحينما تتناولُهُ أيدي القراء العلماء العرب، سيعرفون منه نبوغ العالمِ الشابِّ الهندي عبد الحي اللكنوي، صاحب التصانيف الزائدة على 115 مؤلَّف، ومانتهُ في صفوف العلماء الكبار والمؤلِّفين المكثرين الأخيار، رحماتُ الله تعالى عليه ورضوانُه العظيم. في الرياض يوم الجمعة 27 من صفر سنة 1412 وكتبه عبدَ الفتَّاح أبو غُدَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 & بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقِّق [د. تقي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف بجامعة الإمارات العربية المتحدة] الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فيَسُرّ المحقِّق ويسعده أن يقدِّم للقراء الكرام كتاب "التعليق الممجد على موطأ محمد" للإمام أبي الحسنات عبد الحي اللكنوي - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - في الطبعة القشيبة المشرقة. كتاب الموطّأ من أشهر ما دُوِّن في النصف الأول من القرن الثاني، هو تأليف إمام دار الهجرة - على صاحبها الصلاة والسلام - أبي عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأَصبحي الحمريري القحطاني، أحد أعلام الإسلام، وأحد أعيان هذه الأمة، وأحد أركان الملَّة، وأحد من وُضع له القَبول في الأرض، وأحد من سلَّمت له الأمة الإمامة في الحديث والفقه معاً. وكتاب الإمام أبي عبد الله البخاري "الجامع الصحيح المسند من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُننِه وأيامه" وإن كان أصبح أصح كتاب بعد كتاب الله العزيز عند جمهور العلماء لما له من مزايا في التزام أمور وشروط، وآداب وعادات، في تخريجه الحديث، وانتقائه ما لم يشاركه فيه أحد من معاصريه، ولا ممن سبقه، مع ذلك فإن موطَّأ الإمام مالك أصبح قدوة وأسوة للبخاري، ولمن جاء بعده، فهو الذي انتهج هذا المنهج، وسلك مسلك الانتقاء والاصطفاء، وفتح هذا الباب من الجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 بين الحديث والفقه، وآثار الصحابة وأقوال التابعين، فللإمام مالك ولكتابه منَّة على رقاب الأمة جميعاً. وتهافت على روايته وسماعه عن المؤلف الإمام محدِّثون وأئمة فقهاء، وعلماء وملوك، كما لم يتفق لغيره من الكتب ذلك، وقد أفرد له القاضي عياض باباً في المدارك ("ترتيب المدارك": 2/170) . واشتهر من رواته جماعة نُسبت إليهم نُسَخ الموطَّأ: منهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني الكوفي، صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان، والإمام يحيى بن يحيى المصمودي الأندلسي، ونسخة يحيى هي المعروفة بين أهل العلم، قد شرحها جمع من المتقدمين والمتأخرين، ومنهم شيخنا المحدِّث الكبير محمد زكريا الكاندهلوي المتوفَّى سنة 1982 بالمدينة المنورة، على صاحبها الصلاة والسلام، وأسمى شرحه "أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك"، طُبع في القاهرة في خمسة عَشَرَ مجلداً. وقد قام باستيفاء من شرحه قديماً وحديثاً من أقدم عهد إلى عهده في الفائدة العاشرة من الفصل الثاني من مقدمة الكتاب. وأما نسخة محمد بن الحسن الشيباني، فلم يشرحها إلا الشيخ بيرى زاده، والشيخ علي القاري، ثم جاء بعدهما الإمام عبد الحي اللّكنَوي، فقام بشرح الكتاب فكفى وشفى. والكتاب كان بالخط الفارسي، وطُبع في الهند مراراً طباعة حجرية دقيقة بحيث لا تكاد تبدو للناظر، وقد كان ذلك من أسباب زهد كثير من فضلاء العرب في الاستفادة منه، وانصرافهم عنه، وقد طال طلب إخواننا طبْع هذا الكتاب على الحروف الجديدة وفي الحروف العربية وحدها كما ذكر الشيخ عبد الفتاح أبو غُدّة في هامش "الرفع والتكميل" (في ص 65) ، وقد طُبع هذا الكتاب العظيم مرات كثيرة، وكلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 في الهند نسأل اللَّه أن ييسِّر لنا طبعه في بلادنا، فإن خلوَّ مكتبة العالم منه لَحِرمان كبير. وقد أمرني سماحة الأستاذ الكبير أبو الحسن علي الندوي بتحقيق هذا الكتاب العظيم، وانتساخ هوامشه ووضعها في محلها، فاشتغلت به متوَكِلاً على الله تعالى. إن هذا الشرح لموطأ مالك برواية الإمام محمد بن حسن الشيباني زينة الشروح، وصاحبه كان آية من آيات الله في العلم والإخلاص والتقوى، {واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (سورة البقرة: آية 282) . هذا ويرى القارئ في الكتاب مسلكَ مالكٍ في السنن، وروحَ أبي حنيفة في الاستنباط، وعلمَ الشافعي في التأصيل والتفريع، وورع أحمد في الاحتياط. عملي في هذا الكتاب: -1 - انتسختُ هوامش الكتاب ووضعتها في محلها. -2 - صحَّحتُ الكتاب وإذا وجدت فيه تحريفاً أو تغايراً ذا بال، نبَّهت إليه. -3 - علَّقتُ على مواضع كثيرة من الكتاب بما يستكمل مقاصده ويزيد فرائده وفوائده. -4 - وإذا ترددت في كلمة من الشرح رجعت إلى المصادر التي نقل منها المؤلف، وتأكّدتُ من صحتها. -5 - كان المؤلف عليه الرحمة والرضوان - كعادته في أكثر كتبه - قد علَّق في حواشي الكتاب تراجم لكثير ممَّن ذَكَرَهم من العلماء وختمها بقوله: (منه) . فإني وضعت محله (ش) إيذاناً بأنها من المؤلف الشارح. -6 - وضعت فِهْرساً عامّاً للكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وفي الختام أسأله تعالى أن يتقبَّل منا ومن جمع من ساهم في إخراج هذا الكتاب، وأن يوفِّقنا لخدمة السُّنَّة المطهرة وعلومها، وأن يحسن ختامنا ويرحم والدينا ومشايخنا وسائر المسلمين، إنه وليُّنا ومولانا، ونعم النصير. د. تقي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف بجامعة الإمارات العربية المتحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 تَرجمَة "العَلاّمة فَخر الهِند عبد الحَي اللَّكنَوي" (من "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواطر"، للشيخ السيد عبد الحيّ الحَسَني (م 1341 هـ) : 8/234) . الشيخ العالِم الكبير العلاّمة، عبد الحيّ، بن عبد الحليم، بن أمين الله بن محمد أكبر أبي الرحم، بن محمد يعقوب، بن عبد العزيز، بن محمد سعيد، بن الشيخ الشهيد قطب الدين الأنصاري السهالوي اللَّكْنوي: العالمُ الفاضلُ النحرير، أفضل من بثَّ العلوم، فأروى كلَّ ظمآن. وُلد في سنة أربع وستين ومئتين وألف ببلدة باندا، وحفظ القرآن، واشتغل بالعلم على والده وقرأ عليه الكتب الدرسية معقولاً ومنقولاً، ثم قرأ بعض كتب الهيئة على خال أبيه المفتي نعمة الله بن نور الله اللكهنوي، وفرغ من التحصيل في السابع عشر من سنِّه، ولازم الدرس والإفادة ببلدة حيدر آباد مدّةً من الزمان، وفَّقه الله سبحانه للحج والزيارة مرتين: مرة في سنة تسع وسبعين مع والده، ومرة في سنة ثلاث وتسعين بعد وفاته، وحصلت له الإجازة عن السيد أحمد بن زيني دحلان الشافعي، والمفتي محمد بن عبد الله بن حميد الحنبلي بمكة المباركة، وعن الشيخ محمد بن محمد الغربي الشافعي، والشيخ عبد الغني بن أبي سعيد العمري الحنفي الدهولي بالمدينة المنورة، ثم إنه أخذ الرخصة (أي التقاعد من الوظيفة) من الولاة بحيدر آباد وقَنِع بمئتين وخمسين ربّيّة بدون شرط الخدمة، وقدم بلدته لكهنوء، فأقام بها مدة عمره، ودرّس وأفاد وصنّف وذكّر. وإني حضرت بمجلسه غير مرة، فألفيته صبيح الوجه أسود العينين، نافذ اللحظ، خفيف العارضين، مسترسل الشعر، ذكيّاً فَطِناً، حادَّ الذهن، عفيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 النفس، رقيق الجانب، خطيباً مصقعاً، متبحراً في العلوم معقولاً ومنقولاً، مطّلعاً على دقائق الشرع وغوامضه، تبحّر في العلوم، وتحرّى في نقل الأحكام، وحرّر المسائل، وانفرد في الهند بعلم الفتوى، فسارت بذكره الرُّكبان، بحيث إن علماء كل إقليم يشيرون إلى جلالته. وله في الأصول والفروع قوة كامة، وقدرة شاملة، وفضيلة تامة، وإحاطة عامّة، وفي حسن التعليم صناعة لا يقدر عليها غيره، وكان إذا اجتمع بأهل العلم وجرت المباحثة في فنّ من فنون العلم لا يتكلم قط، بل ينظر إليهم ساكتاً، فيرجعون إليه بعد ذلك، فيتكلم بكلام يقبله الجميع، ويقنع به كل سامع، وكان هذا دأبه على مرور الأيام، لا يعتريه الطيش والخِفّة في شيء كائناً ما كان. الحاصل أنه كان من عجائب الزمن، ومن محاسن الهند، وكان الثناء عليه كلمةَ إجماع، والاعترافُ بفضله ليس فيه نزاع. وكان على مذهب أبي حنيفة في الفروع والأصول، ولكنّه كان غير متعصِّب في المذهب، يتتبع الدليل، ويترك التقليد إذا وَجد في مسألة نصّاً صريحاً مخالفاً للمذهب، قال في كتابه "النافع الكبير": (ومن مِنَحه - أي منح الله سبحانه - أني رُزقت التوجُّه إلى فن الحديث وفقه الحديث، ولا أعتمد على مسألة مالم يوجد أصلها من حديث أو آية، وماكان خلاف الحديث الصحيح الصريح أتركه، وأظن المجتهد فيه معذوراً، بل مأجوراً، ولكني لست ممّن يُشوّش العوام الذين هم كالأنعام، بل أُكلّم الناس على قدر عقولهم ... ) . انتهى. وقال بُعَيْدَ ذلك: (ومن مِنَحه أنه جعلني سالكاً بين الإفراط والتفريط، لا تأتي مسألة معركة الآراء بين يديّ إلاَّ أُلهمت الطريق الوسط فيها، ولست ممن يختار التقليد البحت بحيث لا يترك قول الفقهاء وإن خالفته الأدلة الشرعية، ولا ممّن يطعن عليهم، ويهجر الفقه بالكلية) . انتهى. وقال في "الفوائد البهيّة" في ترجمة عصام بن يوسف: (ويُعلم أيضاً أن الحنفي لو ترك في مسألةٍ مذهبَ إمامه بقوة دليل خلافاً لا يخرج به عن ربقة التقليد، بل هو عين التقليد في صورة ترك التقليد، ألا تري أن "عصام بن يوسف" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ترك مذهب أبي حنيفة في عدم الرفع، ومع ذلك هو معدود في الحنفية (قال الإمام وليّ الله الدهلوي - رحمه الله تعالى - في كتابه "حجة الله البالغة" (1/126) : "قيل لعصام بن يوسف رحمه الله: إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة رحمه الله؟ قال: لأن أبا حنيفة أُوتي من الفهم ما لم نُؤتَ، فأدرك بفهمه ما لم ندرك! ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم") . ويؤيِّده ما حكاه أصحاب الفتاوى المعتمدة من أصحابنا من تقليد أبي يوسف يوماً الشافعيَّ في طهارة القُلَّتَيْن، وإلى الله المشتكى من جهلة زماننا حيث يطعنون على من ترك تقليد إمامه في مسألة واحدة لقوة دليلها، ويُخرجونه عن مقلِّديه! ولا عجب منهم فأنهم من العوامّ، وإنما العجب ممن يتشبّه بالعلماء، ويمشي مشيهم كالأنعام) . انتهى. وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصيرته في الفقه له بسطة كثيرة في علم النسب والأخبار، وفنون الحكمة، وكان ذا عناية تامّة بالمناظرة، يُنبِّه كثيراً في مصنفاته على أغلاط العلماء، ولذلك جرت بينه وبين العلامة عبد الحق بن فضل حق الخير آبادي مباحثات في تعليقات حاشية الشيخ غلام يحيى على "ميرزاهد رسالة" وكان الشيخ عبد الحق يأنف من مناظرته، ويريد أن لا يُذاع رده عليه. وكذلك جرت بينه وبين السيد صِدِّيق حسن الحسني القِنَّوجي فيما ضَبَط السيد في "إتحاف النبلاء" وغيره من وَفَيَات الأعلام نقلاً عن "كشف الظنون" وغيره، وانجرّت إلى ما تأباه الفطرة السليمة، ومع ذلك لمّا توفي الشيخ عبد الحي المترجَم له تأسف بموته تأسَّفاً شديداً، وما أكل الطعام في تلك الليلة، وصلى عليه صلاة الغيبة، نظراً إلى سعة إطّلاعه في العلوم والمسائل. وكذلك جرت بينه وبين العلاّمة محمد بشير السَّهسَواني في مسألة شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن مصنفاته رحمه الله تعالى ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 (سَرَد المؤلف هنا مصنفات الإمام اللكنوي ويأتي ذكر أكثرها في (ترجمته في هذه المقدمة بقلمه) سوى أني زدت ما فات ذكرها في ترجمته: في فن الصرف: 1 - تكملة الميزان، 2 - شرحها. وفي فن المنطق والحكمة: 1 - الكلام الوهبي المتعلق بالقطبي، 2 - حاشية على شرح تهذيب المنطق لعبد الله اليزدي. وفي فن المناظرة: 1 - حاشية على شرح الشريفية المشتهر بالرشيدية. وفي علم التاريخ: 1 - مقدمة السعاية، 2 - ومقدمة عمدة الرعاية، 3 - وإبراز الغَيّ في شفاء العَيّ، 4 - وتذكرة الراشد بردّ تبصرة الناقد، 5 - وطربُ الأماثل بتراجم الأفاضل، 6 - ورسالة في الرؤيا المنامية التي وقعت لي، 7 - وفرحة المدرسين بذكر المؤلّفات والمؤلفين. وفي فن الفقه والحديث: 1 - القول الجازم في سقوط الحد بنكاح المحارم، 2 - وتعليقه، 3 - وردع الإخوان عمّا أحدثوه في آخر جمعة رمضان، 4 - وعمدة الرعاية بحل شرح الوقاية، 5 - وجمع المواعظ الحسنة لخطب شهور السنة، 6 - والآيات البينات على وجود الأنبياء في الطبقات، 7 - وجمع الغرر في الرد على نَثر الدرر، 8 - ونفع المفتي والسائل بجمع متفرقات المسائل، 9 - والآثار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة 10 - وغيث الغمام على حواشي إمام الكلام، 11 - ومجموعة الفتاوى (ثلاثة مجلدات كبار) ، 12 - وحاشية على شرح السيد الجرجاني للسراجية في الفرائض، 13 - وحاشية على الهداية، 14 - وظفر الأماني في شرح المختصر المنسوب للجرجاني في المصطلح، 15 - والرفع والتكميل في الجرح والتعديل، 16 - وتعليق على الجامع الصغير. ومن مصنفاته التي لم تتم: منها 1 - خير العمل بذكر تراجم علماء فرنكي محلّ (لم يتم) ، 2 - والنصيب الأوفر في تراجم علماء المائة الثالثة عشر (لم يتم) . وقال سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه: "المسلمون في الهند" (ص 40) : ويبلغ عدد مؤلفات علامة الهند فخر المتأخرين الشيخ عبد الحيّ اللكنوي (110) منها (86) كتاباً بالعربية. وكانت وفاته لليلة بقيت من ربيع الأول سنة أربع وثلاثمئة وألف. ودفن بمقبرة أسلافه، وكنتُ حاضراً ذلك المشهد، وكان ذلك اليوم من أنحس الأيام، اجتمع الناس في المدفن من كل طائفة وفِرقة أكثر من أن يُحصروا، وقد صلُّوا عليه ثلاث مرات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 مقَدِّمَة الشَّارح الحمد لله الذي اصطفى من عباده رسلاً وأنبياء، وجعل أفضلهم وأكملهم خاتَمَ الأنبياء، فهدى بهم الأمم الطاغيَة والفِرَق الباغِيَة، أحمده حمداً كثيراً، وأشكره شكراً جميلاً على أن اختار لأفضل أنبيائه وزراء ونقباء وخلفاء وأبدالاً ونجباء، من اقتدى بأحدهم اهتدى، ومن ترك سبيلهم ولم يتمسَّك بسننهم استحق الحفرة الحامية. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسولُه، صاحب المعجزات الباهرة، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه وتَبَعه إلى يوم الآخرة. وبعد فيقول عبده الراجي عفو ربه (في الأصل: عفوه القوي، والظاهر عفو ربه القوي) القوي، معدن السيئات ومخزن المخالفات المكنّى بأبي الحسنات، المدعو بعبد الحي اللَّكنَوي، ابن مولانا الحاج الحافظ محمد عبد الحليم، أدخله الله دار النعيم: لا يخفى على أولي الألباب أنّ أفضل العلوم علمُ السُّنَّة والكتاب، وأن أفضل الأعمال القيام بخدمتها ونشر أسرارهما، وكثيراً ما كان يختلج في قلبي أن أشرح كتاباً في الحديث وأكشف أسراره بالكشف الحثيث، باعثاً لرضا نبينا شفيع المذنبين، ورضاه رضا رب العالمين، عسى الله أن يجعلني ببركته من الصالحين، ويحشرني في زمرة الحدِّثين مع الأنبياء والصديقين. إلاَّ أن ضيق باعي قد كان يثبّطني عن القيام في هذا المقام إلى أن أشار إلىَّ (في الأصل: "إليه" والظاهر "إليَّ") بعضُ من أمْرُهُ حتم وإرشاده غنم أن أحشِّيَ موطَّأ الإمام مالك الذي قال الإمام الشافعيُّ في حقه: (ما على ظهر الأرض كتابٌ بعد كتاب الله أصحّ من كتاب مالك) (تزيين الممالك: ص 43) ، وأعلق عليه حاشية وافية وتعليقات كافية. فتذكّرتُ ما رأيت في المنام في السنة الثامنة والثمانين والمائتين (في الأصل: "والمائتين" ساقطة) بعد الألف من الهجرة - على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم والتحية - كأنِّي دخلت في المسجد النبوي بالمدينة الطيبة، فإذا أنا بالإمام مالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 جالساً فيه، فحضرت عنده، وصافحته، وقلت له: كتابكم "الموطأ" لي فيه اختلاجات وشكوك، أرجو أن أقرأه عليكم لتحل تلك الشكوك، فقال فرحاً ومسروراً: هات به واقرأه عندي، فقمت من هناك لآتي به من بيتي، فاستيقظتُ، وحمدت الله على هذه الرؤيا الصالحة، وشكرته. فكأنّ في هذه الرؤيا إشارة من الإمام مالك إلى توجُّهي إلى مؤطئه (في الأصل "بموطئه" وهو تحريف، والصواب: "إلى موطئه") والاشتغال بدرسه وتدريسه وشرحه. فلما تذكَّرتُ هذا صمَّمت عزمي بتعليق تعليق عليه، وشدَّدت مِئزري لكتابة حاشية عليه، وكان في بلادنا في أعصارنا من نسخه نسختان متداولتان: نسخة يحيى الأندلسي، ونسخة محمد بن الحسن الشيباني من أجل تلامذة الإمام أبي حنيفة، لا زال مغبوطاً بالفضل الرحماني، فاخترت لتعليق التعليق النسخة الثانية لوجهين: أحدهما: أن النسخة الأولى قد شرحها جمع من المتقدمين والمتأخرين، ونسخة محمد لم يشرحها إلاّ الفاضلان الأكملان بيرى زاده، وعلي القاري فيما بَلَغَنا، وأنا ثالثهما إن شاء ربنا، فاحتياجها إلى التحشِّي والشرح أكثر ونفعه أكمل وأظهر. وثانيهما: أن نسخة محمد مرجَّحة على موطّأ يحيى لوجوه سيأتي ذكرها في المقدِّمة، ونافعة غاية النفع لأصحابنا الحنفية خصّهم بالألطاف الخفية. فشرعت في كتابة تعليق عليه مسمّىً (في الأصل: "مسمِّياً") بـ "التعليق الممجَّد على موطّأ الإمام محمد"، وفي شهر شوال من السنة الحادية والتسعين حين إقامتي بحيدر أباد - الدكن، صانه الله عن البدع والفتن، وكتبت قريباً من النصف، وبلغت إلى كتاب الحج، ثم ببركته يسَّر الله لي سفر الحجّ وسافرت في شوال من السنة الثانية والتسعين إلى الحرمين الشريفين مرة ثانية، رزقنا الله العودة إليهما مرة ثالثة، ومرة بعد مرة إلى أن أُتوفَّى في المدينة الشريفة، ثم رجعت في الربيع الأول من السنة الثالثة والتسعين إلى الوطن - حُفظ عن شرور الزمن - وابتليت مدة بالأمراض العديدة التي ابتليت بها في تلك الأماكن الشريفة إلى أن رزقني الله النجاة منها ببركة الأدعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 والأذكار المأثورة، لا بالأدوية المعمولة، فاشتغلت بإتمامه مع زيادات لطيفة فيما أسلفته، فجاء بفضل الله وعونه بحيث تنشرح به صدور الأفاضل، وتنشط به آذان الأماثل، وأرجو من إخوان الصفا وخِلاّن الوفا أن يطالعوه بنظر الإنصاف، لا بنظر الاعتساف، ويصلحوا ما وقع فيه من الخطأ والخلل، وما أبرِّئ نفسي من السهو والزلل، فإن البراء من كلِّ خطأ ليس من شأن البشر، إنما هو شأن خالق القوى والقَدَر، وأستغفر الله من زلّة القَدَم وطغيان القلم، مما علمتُ وما لم أعلم، ورحم الله امرءاً أصلح السهو والنسيان أو دعاني بخير الدنيا والآخرة بحضرة المَلِك المنَّان، وقد جنحتُ في هذا التعليق إلى أمور يُحسنها أرباب الشعور: أحدها: أني لم أُبال بتكرار بعض المطالب المفيدة في المواضع المتفرقة ظناً مني أن الإعادة لا تخلو عن الإفادة، مع أني كلما أعدت أمراً ذكرتُهُ لم أجعله خالياً عن أمرٍ مفيدٍ زدته. وثانيها: أني التزمتُ بذكر مذاهب الأئمة المختلفة مع الإشارة إلى دلائلها بقدر الضرورة وترجيح بعض على بعض، ولعمري إنها طريقة حسنة، قلَّ من يسلكها في زماننا، وإلى الله المشتكى من عادات جهلاء بلادنا، بل من صنيع كثير من فُضَلاء أعصارنا، حيث يظن بعضهم أن المذهب الذي تمذهب به مرجَّح في جميع الفروع، وأن كل مسألة منه بريئة عن الجروح، وبعضهم يسعى في هَدم بنيان المذاهب المشهورة، وينطق بكلمات التحقير في حق الأئمة المتبوعة، وأبرأ إلى الله من هؤلاء وهؤلاء، ضلَّ أحدهما بالتقليد الجامد، وثانيهما بالظن الفاسد والوهم الكاسد، يتنازعون فيما لا ينفعهم بل يضرّهم، ويبحثون في ما لا يعنيهم، وينادي منادي كلٍّ منهما في حق آخرهما بالتكفير والتضليل والتفسيق والتجهيل، ومع ذلك يحسبون أنهم يحسنون {وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (سورة الشعراء: آية 227) {إنَّما أَمرُهُم إلَى اللَّه ثُمَّ يُنَبِّئُهم بِما كانُوا يَفْعَلونَ} (سورة الأنعام: آية 159) ، ولعلمي أنّ (في الأصل: "هذه الاختلافات" بدون "أن") هذه الاختلافات الواقعة بين الأئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 في الفروع الفقهية المأخوذة من اختلافات الصحابة والروايات النبوية ليس فيها تفسيق ولا تضليل، ومن نطق بذلك فهو أحقّ بالتضليل. وثالثها: أني أسندتُ البلاغات والأحاديث المرسلة وشيّدت الموقوفة بالمرفوعة. ورابعها: أني أكثرت من ذكر مذاهب الصحابة والتابعين ومَن بعدَهم من الأئمة المجتهدين والمعتَبرين ليتنبه الهائم ويتيقّظ النائم، ويعلم أن اختلاف الأئمة رحمة، وأن لكل منهم قدوة. وخامسها: أني ذكرت تراجم الرواة وأحوالهم وما يتعلق بتوثيقهم وتضعيفهم من دون عصبيَّة مذهبية وحميَّة جاهلية، وربما تجد فيه تكراراً لا يخلو عن الإفادة، فإن الإعادة لا يخلو عن ذكر اختلاف أو زيادة. وسادسها: أني قد وجدت نسخ الموطأ مختلفة كثيرة الاختلاف، فذكرت اختلافها، وبينت الغير (هكذا جاء في الأصل، وهو استعمال خاطئ وغلط شائع، لما جمع فيه من إدخال "أل" على "غير" مع الإضافة إلى ما فيه "أل"، وصوابه أن يقال "غير الصحيح") ، الصحيح والصحيح منها من دون اعتساف. وسابعها: أني نبَّهت على السهو والزلاَّت التي صدرت من عليٍّ القاريّ في "شرحه" في شرح المقصود أو تنقيد الرواة خوفاً من أن ينظره أحد ممن ليس له حظ في هذه الفنون، فيقع في الخطأ وسيء الظنون، لا تحقيراً لشأنه وكشفاً لنسيانه، فإني من بحار علمه مغترِف وبفضله معترِف، والمتأخر وإن كان علمه أوسع وكلامه أنفع إلاَّ أن الفضل للمتقدم والشرف للأقدم. هذا، وأسأل الله تعالى خاشعاً متضرِّعاً أن يتقبَّل منِّي هذا التأليف وسائر تأليفاتي، ويجعلها خالصة لوجهه وذريعة لإقبال نبيه وسبباً لنجاتي، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وكان ذلك حين كنت مغبوطاً بين الأقران والأماثل ومحسوداً للأماجد والأفاضل بالمنن الفائضة عليّ، والإنعامات الواصلة إليّ من حضرة من هو قمر أقمار الوزارة، نور حديقة الرئاسة، سحاب ماطر الإنعام والإحسان، بحرُ زاخر الإكرام والامتنان، سدّته الرفيعة ملجأ للأماجد والأفاضل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وعتبته العلية محط الرجال (في الأصل: "رجال"، وهو تحريف.) الأماثل، يأتون إليه من كل مَرمَى سحيق، ويستفيضون من بحر فضله العميق، بأن ينشد في حقه ما أنشده التَّفْتازاني في حق ملكه: أقامت في الرقاب له أيادي * هي الأطواق والناس الحمام باسط بساط العدل والإنصاف، هادم قصر الجَور والاعتساف، هو الذي ضرب به (في الأصل: "ضربه" وهو تحريف) المثل في حسن الانتظام والأفضال، وذكر اسمه عند أرباب الإقبال آصف السلطنة النظامية، وزير الدولة الآصفية: النواب مختار الملك سالار جنك تراب عليخان بهادر، لا زالت أقمار دولته طالعة، وشموس إقباله بازغة، اللهم كما منحت على عبادك بفضله ولطفه فامنن عليه بعلوّ درجة في الدنيا والآخرة، واحفظه بحفاظتك من بليات الدنيا والآخرة بحرمة نبيك سيِّد الأنبياء وآله رؤوس الأتقياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 مقَدمة: فيهَا فوائد مُهمَّة [الفائدة] الأولى: في كيفية شيوع كتابة الأحاديث وبَدْء تدوين التصانيف، وذكر اختلافها مَقصِداً، وتنوّعها مسلكاً، وبيان أقسامها وأطوارها. - قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (إمام الحفّاظ أحمد بن علي بن محمد العسقلاني المصري الشافعي، المتوفى سنة 852 هـ وقد ذكرت ترجمته في التعلقيات السنية على الفوائد البهية في تراجم الحنفية (ش)) : في "هدي الساري" (1/17 - 18 وفي الأصل: "الهدي الساري" وهو تحريف) . مقدمة شرحه لصحيح البخاري المسمّى بفتح الباري. أعلم - علمني الله وإياك - أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر أصحابه وكبار تَبَعِهم مدوّنة في الجوامع ولا مرتَّبة، لوجهين: أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نُهوا عن ذلك، كما ثبت في "صحيح مسلم" خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم، والثاني: سعة حفظهم وسيلان ذهنهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار لمّا انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عَروبة وغيرهما، فكانوا يصنّفون كلّ باب على حدة إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة في منتصف القرن الثاني فدوّنوا الأحكام، فصنف الإمام مالك الموطأ، وتوخّى فيه القويّ من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وصنّف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج بمكة، وأبو عمرو عبد الرحمن الأَوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وابن المبارك بخراسان، وجرير بن عبد الحميد بالريّ، وكان هؤلاء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 عصر واحد، فلا يدرى أيهم سبق، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم الى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المئتين، فصنفوا المسانيد، فصنف عبد الله بن موسى العبسي مسندا، ثم صنف نعيم بن حامد الخزاعي نزيل مصر مسندا، ثم اقتفى الأئمة أثرهم في ذلك، فقلّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه في المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل واسحاق ابن راهويه وعثمان ابن أبو شيبة وغيرهم، ومنهم من صنف على الأبواب والمسانيد معا" كأبي شيبة، فلما رأى البخاري هذة التصانيف، ووجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين، والكثير منها يشتمل على الضعيف، فحّرك همتّه لجمع الحديث الصحيح. انتهى كلامه (ليس غرض الحافظ أن كتابة الحديث لم تبدأ إلا في أواخر عصر النابعين، بل غرضه أن الكتابة بصورة الكتب والرسائل لم يشرع فيها إلى ذاك الوقت، وإلا فمجرد الكتابة كان من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك روايات كثيرة صريحة في زمنه صلى الله عليه وسلم، واستقر الأجماع على جوازها انظر: مقدمة "أوجز المسالك". 1/13، 14) . وقال ابن الأثير الجزري (هو مبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الجزري، نسبة الى جزيرة ابن عمر بلدة الشافعي، مؤلف "جامع الأصول" و "النهاية" في غريب الحديث، وله أخ معروف بابن الأثير مؤلف "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" وهو أبو الفتح نصر الله المتوفي سنة 627 هجري، وأخ آخر مؤلف "أسد الغابة في أخبار الصحابة" اسمة عز الدين علي المتوفي سنة 62. هجري، وكثيراً ما يشتبه أحدهم بالآخر، وقد سقطت تراجمهم في التعليقات (ش) ، في مقدمة كتابه "جامع الأصول" (1/43ـ46) : والناس في تصانيفهم التي جمعوها مختلفو الأغراض، فمنهم من قصر همته على تدوين الحديث مطلقا ليحفظ لفظه وليستنبط له الحكم، كما فعله عبيد الله بن موسى العبسي وأبو داود الطيالسي وغيرهما من أئمة الحديث أولاً، وثانياً الإمام أحمد بن حنبل ومن بعده، فإنهم أثبتوا الأحاديث في مسانيد رواتها، فيذكرون مسند أبي بكر الصديق مثلاً، ويثبتون فيه كل ما روي عنه، ثم يذكرون بعده الصحابة واحداً بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 واحد على هذا النسق، ومنهم من يثبت الأحاديث في الأماكن التي هي دليل عليها، فيضعون لكل حديث باباً يختص به، فان كان في معنى الصلاة ذكروه (في الأصل: فيه ذكروه) في باب الصلاة، وإن كان في معنى الزكاة ذكروه في باب الزكاة كما فعله مالك بن أنس في (الموطأ) ، إلا أنه لقلة ما فيه من الأحاديث قلت أبوابه، ثم اقتدى به من بعده، فلما انتهى الأمر إلى البخاري ومسلم وكثرت الأحاديث المودعة في كتابيهما كثرت أبوابهما وأقسامهما، واقتدى بهما من جاء من بعدهما وهذا النوع أسهل مطلباً من الأول، لوجهين: الأول: أن الإنسان قد يعرف المعنى الذي يطلب الحديث من أجله وإن لم يعرف راويه ولا في مسند من هو، بل ربما لا يحتاج الى معرفة راويه. والوجه الثاني: أن الحديث إذا ورد في كتاب الصلاة علم الناظر فيه أن هذا الحديث هو دليل ذلك الحكم من أحكام الصلاة، فلا يحتاج إلى أن يتفكر به. ومنهم من استخرج أحاديث تتضمن ألفاظاً لغوية ومعاني مشكلة، فوضع لها كتاباً على حدة، قصره على شرح الحديث وشرح غريبه وإعرابه ومعناه، ولم يتعرض لذكر الأحكام، كما فعله أبو عبيدة القاسم بن سلام وعبد الله بن مسلم بن قتيبة وغيرهما ومنهم من ضاف الى هذا ذكر الأحكام وآراء الفقهاء مثل أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي وغيره. ومنهم من قصد ذكر الغريب دون متن الحديث، واستخرج الكلمات الغريبة دونها كما فعله ابو عبيدة أحمد بن محمد الهروي وغيره. ومنهم من قصد استخراج أحاديث تتضمن ترغيبا وترهيبا وأحاديث تتضمن أحكاماً شرعية فدونها وأخرج متونها وحدها كما فعله أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في كتاب "المصابيح". وغير هؤلاء المذكورين من أئمة الحديث لو رمنا أن نستقصي ذكر كتبهم واختلاف أغراضهم ومقاصدهم لطال الخطب ولم ينتهي إلى حد انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وقال أيضاً قبيل ذلك (1/ 40 - 43) : لما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وتفرقت الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوح، ومات معظم الصحابة وتفرق أصحابهم وأتباعهم، وقل الضبط، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقيده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخاطر يغفل، والذهن يغيب، والذكر يمل، والقلم يحفظ ولا ينسى، فانتهى الأمر إلى زمان جماعة من الأئمة مثل عبد الملك بن جريج ومالك بن أنس وغرهما ممن كان في عصرهما، فدونوا الحديث حتى قيل: إن أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج، وقيل موطأ مالك، وقيل: إن أول من صنف وبوب الربيع بن صبيح في البصرة، ثم انتشر جمع الحديث وتدوينه وسطره في الأجزاء والكتب، وكثر ذلك، وعظم نفعه إلى زمن الامامين أبي عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، فدّونا كتابيهما، وأثبنا من الحديث ما قطعا بصحته، وثبت عندهما نقله، وسمياّ كتابيهما الصحيح من الحديث، وأطلقا هذا الإسم عليهما، وهما أوّل من سمىّ كتابه بذلك. ولقد صدقا فيما قالا وبرا فيما زعما، ولذلك رزقهما الله من حسن القبول في شرق الأرض وغربها وبرها بحرها والتصديق لقولهما والانقياد لسماع كتابيهما ما هو ظاهر مستغن عن البيان، ثم ازداد انتشار هذا النوع من التصنيف والجمع والتأليف وتفرقت أغراض الناس وتنوعت مقاصدهم إلى أن انقرض ذلك العصر الذي كانا فيه، وجماعة من العلماء قد جمعوا وألفوا مثل أبي عيسى الترمزي وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي وغيرهم من العلماء الذين لا يحصون، وكان ذلك العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا العلم، وإليه المنتهى، ثم من بعده نقص هذا الطلب، وقل ذلك الحرص وفترت تلك الهمم، وكذلك كل نوع من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرها فإنه يبتدئ قليلا قليلا، ولا يزال ينمي ويزيد ويعظم إلى أن يصل إلى غاية هي منتهاه ويبلغ إلى أمد أقصاه، فكان غاية هذا العلم إلى زمن البخاري ومسلم ومن كان في عصرهما، ثم نزل وتقاصر إلى زماننا هذا، وسيزداد تقاصراً والهمم قصوراً. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وقال السيوطي في كتابه "الوسائل إلى معرفة الاوائل" (ص 100 - 101) : أول من دون الحديث ابن شهاب الزهري في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره ذكره الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، وأخرج أبو نعيم في"حلية الأولياء" (حلية الأولياء: 3/ 363) عن مالك بن أنس، قال: أول من دوّن العلم ابن شهاب، وقال مالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن: أخبرنا يحيى بن سعيد بن عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى أَبِي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ سُنَّتِهِ أَوْ حَدِيثِ عُمَرَ أَوْ نَحْوِ هَذَا فَاكْتُبْهُ لِي، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (انظر سنن الدارمي: 1/126؛ وتقييد العلم ص 105) . وأول من صنف في الحديث ورتبه على الأبواب مالك في المدينة وابن جريج بمكة، والربيع بن صبيح أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة، وسفيان الثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وجرير بن عبد الحميد بالريّ، وابن مبارك بخراسان، قال الحافظان بن حجر والعراقي: وكان هؤلاء في عصر واحد، فلا يدرى أيهم سبق، وذلك في سنة بضع وأربعين ومائة. وأول من أفرد الأحاديث المسندة دون الموقوفات والمقاطيع على رأس المائتين عبيد الله بن موسى بالكوفة، ومسدّد بالبصرة، وأسد بن موسى الأموي بمصر، ونعيم بن حماد الخزاعي (في الأصل: "الخراعي"، وهو تحريف) . واختلف في أول من صنف المسند من هؤلاء، فقال الدارقطني: نعيم، وقال الخطيب: أسد بن موسى، وقال الحاكم: عبيد الله، وقال العقيلي: يحيى الحماني، وقال ابن عدي: أول من صنف المسند بالكوفة عبيد الله، ومسدد أول من صنف المسند بالبصرة، وأسد أول من صنف المسند بمصر، وهو قبلهما، وأقدمهما موتاً (انظر الرسالة المستطرفة ص 36 - 37؛ وتدريب الراوي ص 89؛ ومنهج ذوي النظر ص 18) وأول من صنف في الصحيح المجرد البخاري، ذكره ابن الصلاح، واحترز بالمجرد الذي زاده عن الموطأ، فإنه أيضا صحيح لكنه محتوي على الموقوفات والمقاطيع. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وفي (تنوير الحوالك على الموطأ مالك للسيوطي) (1/4 - 5) : أخرج الهروي في "ذمم الكلام" من طريق الزهري، قال: أخبرني عروة ابن الزبير أن عمر ابن الخطاب أراد أن يكتب السنن، واستشار فيها أصحاب رسول الله، فأشار إليه عامتهم بذلك. فلبث عمر شهراً يستخير الله في ذلك شاكاً فيه، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: إني كنت ذكرت لكم في كتاب السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت، فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً، فأكبّوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء، فترك كتاب السنن. وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا قبيصة بن عقبة، أنا؟؟ سفيان، عن معمر، عن الزهري، قال: أراد عمر أن يكتب السنن، فاستخار الله شهراً، ثم أصبح وقد عزم له، فقال: ذكرت قوماً كتبوا كتابا فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله، وأخرج الهروي من طريق يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دينار، قال: لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الحديث، إنما كانوا يؤدونها لفظاً، ويأخذونها حفظاً إلا كتاب الصدقات، والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس، وأسرع في العلماء الموت، فأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أبي بكر الحزمي فيما كتب إليه أن انظر ما كان من سنة أو حديث عمر فاكتبه. وقال مالك في "الموطأ" برواية محمد بن الحسن عن يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيز كتب إلى أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم أن انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ أو سنته (في الأصل: "سنة"، وهو تحريف) أَوْ نَحْوِ هَذَا فَاكْتُبْهُ لِي، فَإِنِّي قَدْ خفت دروس العلم وذهاب العلماء، علَّقه البخاري في صحيحه، وأخرجه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث (في الأصل: "أحاديث"، وهو تحريف) رسول الله فاجمعوه، واخرج ابن عبد البر في "التمهيد" من طريق ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: كان عمر بن عبد العزيز يكتب الى الأمصار يعلمهم الفقه والسنن، وكتب الى المدينة يسالهم عما مضى، وأن يعلموا بما عندهم، ويكتب الى ابي بكر بن حزم أن يجمع السنن، ويكتب إليه بها، فتوفي عمر، وقد كتب ابن حزم كتابا قبل أن يبعث بها إليه. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وفي "تنوير الحوالك" (1/6) أيضاً: قال أبو طالب المكي في "قوت القلوب": هذة المصنفات من الكتب حادثة بعد سنة عشرين أو ثلاثين ومئة، ويقال: إن أول ما صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الأثار، وحروف من التفاسير، ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن، جمع فيه سنن منثورة مبوبة، ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك؟، ثم جمع ابن عيينة كتاب الجامع والتفسير في أحرف من القرآن وفي الأحاديث المتفرقة، وجامع سفيان الثوري صنفه أيضاً في هذة المدة، وقيل أنها صنفت سنة ستين ومئة. انتهى. الفائدة الثانية: في ترجمة الإمام مالك - (انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء: 8/48، ترتيب المدارك: 1/102، 254؛ وفيات الأعيان: 4/135، 139؛ تهذيب التهذيب: 10/5 وطبقات الحفاظ ص 89؛ وتهذيب الكمال: 7/139؛ ومقدمة أوجز المسالك 1/17، 55. وليس في الإمكان حصر الكتب التي ألفت في سيرته، أو ترجمت له، ولي كتاب "الإمام مالك ومكانة كتابه الموطأ" مطبوع) . وما أدراك ما مالك؟! إمام الأئمة، مالك الأزمة، رأس أجلة دار الهجرة، قدوة علماء المدينة الطيبة، يعجز اللسان عن ذكر أوصافه الجليلة، ويقصر الإنسان عن ذكر محاسنه الحميدة. وقد أطنب المؤرخون في تواريخهم والمحدثون في تواليفهم في ذكر ترجمته وثنائه، وصنف جمع منهم رسائل مستقلة في ذكر حالاته كأبي بكر أحمد بن مروان المالكي الدينوري المصري المتوفى سنة عشر وثلاث مائة على ما في "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون " (2/1841) ، وأبو الروح عيسى بن مسعود الشافعي المنوفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة، والجلال السيوطي الشافعي المصري صنف رسالة سماها "تزيين الأرائك بمناقب الإمام مالك" ولنذكر ههنا نبذاً من أحواله ملخصا من "معدن اليواقيت الملتمعة، في مناقب الأئمة الأربعة" وغيره من كتب ثقات الأمة قاصداً فيه الاختصار، فالتطويل يقتضي الأسفار الكبار. فأما اسمه ونسبه، فهو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 عمرو بن الحارث بن غيمان - بغين معجمة وياء تحتية - ويقال عثمان (قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: 8/71: وهذا لم يصح) بن جثيل بجيم وثاء مثلثة ولام - وقيل خثيل بخاء معجمة - بن عمرو بن الحارث الأصبحي المدني، نسبة إلى أصبح بالفتح قبيلة من يعرب بن قحطان. وجده الأعلى أبو عامر ذكره الذهبي في"تجريد الصحابة". وقال: كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولابنه مالك رواية عن عثمان وغيره. وأما ولادته ووفاته. فذكر اليافعي في "طبقات الفقهاء" أنه ولد سنة أربع وتسعين، وذكر ابن خلِّكان وغيرُه انه ولد سنة خمسة وتسعين، وقيل سنة تسعين (قال الذهبي في المصدر السابق 8/49: الأصح في سنة ثلاثة وتسعين) ، وذكر المزِّي في "تهذيب الكمال" وفاته سنة تسعة وسبعون ومائة ضحوة رابع عشر من ربيع الأول، وحمل به في بطن أمه ثلاث سنين وكان دفنه بالبقيع وقبره يزار ويتبرك به. وأما مشايخه وأصحابه فكثيرون فمن مشايخه: إبراهيم بن أبي عبلة المقدسي، وإبراهيم بن عقبة، وجعفر بن محمد الصادق، ونافع مولى بن عمر، ويحيى بن سعيد، والزهري، وعبد الله بن دينار وغيرهم. ومن تلامذته سفيان الثوري، وسعيد بن منصور، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن الأوزاعي وهو أكبر منه، وليث بن سعد من أقرانه، والإمام الشافعي محمد بن ادريس، ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهم. وأما ثناء الناس عليه ومناقبه فهو كثير: قال أبو عمر (ذكر بعضهم في كنيته، أبو عمرو بالواو، وذكر الزرقاني في "شرح المواهب" أن كنيته أبوعمر بضم العين بدون الواو (ش)) بن عبد البَرّ في كتاب "الأنساب": أن الإمام مالك بن أنس كان إمام دار الهجرة، وفيها ظهر الحق وقام الدين، ومنها فُتحت البلاد وتواصلت الأمداد، وسمي عالم المدينة، وانتشر علمه في الأمصار، واشتهر في سائر الأقطار، وضربت له أكباد الإبل، وارتحل الناس إليه من كل فج عميق، وانتصب للتدريس، وهو ابن سبعة عشر سنة، وعاش قريباً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 تسعين، ومكث يفتي الناس ويعلم الناس سبعين سنة، وشهد له التابعون بالفقه والحديث. انتهى. وفي "الروض الفائق" أنه العالم الذي يشير إليه (في الأصل: "به"، وهو خطأ) النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمزي (أخرجه الترمزي في كتاب العلم، رقم الحديث 2680) وغيره، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ينقط العلم فلا يبقى عالم أعلم من عالم المدينة". وفي حديث آخر عن أبي هريرة: "يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل، فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة". قال سفيان بن عيينة: كانوا يرون مالكاً، وقال عبد الرزاق: كنا نرى أنه مالك فلا يعرف هذا الإسم لغيره، ولا ضربت أكباد الإبل إلى أحد مثل ما ضربت إليه. وقال مصعب: سمعت مالكاً يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون شيخاً أني أهلٌ لذلك، وقال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز. وقال رجل للشافعي: هل رأيت أحداً ممن أدركت مثل مالك؟ فقال: سمعت من تقدّمنا في السن والعلم يقولون: ما رأينا مثل مالك، فكيف نرى مثله؟ وقال حماد بن سلمة: لو قيل لي اختر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من يأخذون عنه العلم لرأيت مالك بن أنس لذلك موضعاً ومحلاً. وقال محمد بن ربيع حججت مع أبي وأنا صبي فنمت في مسجد رسول الله فرأيت في النوم رسول الله كأنه خرج من قبره وهو متّكئ على أبي بكر وعمر، فقمت، وسلّمت، فردّ السلام، فقلت: يا رسول الله، أين أنت ذاهب؟ قال: أقيم لمالك الصراط المستقيم، فانتبهت وأتيت أنا وأبي إلى مالك، فوجدت الناس مجتمعين على مالك وقد أخرج لهم الموطّأ، وقال محمد بن عبد الحكيم: سمعت محمد بن السري، يقول: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقلت: حدّثني بعلم أحدّث به عنك. فقال: يا ابن السري، إني قد وصلت بمالك بكنز يفرقه عليكم، ألا وهو "الموطّأ"، ليس بعد كتاب الله ولا سنتي في إجماع المسلمين حديث أصح من "الموطأ"، فاستمعه تنتفع به. وقال يحيى بن سعيد: ما في القوم أصح حديثاً من مالك، ثم سفيان الثوريّ وابن عيينة. وقال أبو مسلم الخزاعي: كان مالك إذا أراد أن يجلس (أي للتحديث) توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، وتطيّب، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فقال: أوقّر به حديث رسول الله. وقال ابن المبارك: كنت عند مالك وهو يحدثنا بحديث رسول الله، فلدغته عقرب ستّ عشرة مرة، وهو يتغير لونه، ويصفر وجهه، ولا يقطع الحديث، فلما تفرق الناس عنه قلت له: لقد رأيت اليوم منك عجباً، فقال: صبرت إجلالاً لحديث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه، وينحني، فقيل له في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم. وذكر ابن خلّكان (وفيات الأعيان: 4/136) : كان مالك لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنّه، يقول: لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفونة. الفائدة الثالثة: في ذكر فضائل الموطّأ وسبب تسميته به وما اشتمل عليه. - قال السيوطي في "تنوير الحوالك" (1/6، 8) : قال القاضي أبو بكر بن العربي في "شرح الترمزي": الموطّأ هو الأصل الأول واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بنى الجميع كمسلم والترمزي. وذكر ابن الهيّاب (في الأصل: ابن الهباب، وهو تحريف) أن مالكاً روى مئة ألف حديث، جمع منها في الموطّأ عشر آلاف حديث، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة، ويختبرها بالآثار والأخبار حتى رجعت إلى خمسمائة. وقال إِلْكيَا الهَرَّاسي في تعليقه في الأصول: إن موطّأ مالك كان اشتمل على تسعة ألاف حديث، ثم لم يزل ينتقي حتى رجع إلى سبعمائة. وأخرج أبوالحسن بن فهر في "فضائل مالك" عن عتيق بن يعقوب، قال: وضع مالك الموطّأ على نحو من عشرة آلاف حديث، فلم يزل ينظر فيه في كل سنة، ويسقط منه حتى بقي منه هذا ... وأخرج ابن عبد البّر عن عمر بن عبد الواحد صاحب الأوزاعي، قال: عرضنا على مالك الموطّأ في أربعين يوماً فقال كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما، ما أقل ما تفقهون فيه! ... وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الكناني الأصفهاني: قلت لأبي حاتم الرازيّ: لم سُمِّي موطّأ مالك بالموطّأ؟ فقال شيء قد صنّفه ووطّأه للناس، حتى قيل موطّأ مالك، كما قيل جامع سفيان، وقال أبو الحسن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فهر: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن فراس، سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أحمد الخلنجي، يقول: سمعت بعض المشايخ يقول: قال مالك: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة، فكلُّهم واطأني عليه فسَّميتُه الموطأ، قال ابن فهر: لم يسبق مالكاً أحداً إلى هذه التسمية، فإن من ألف في زمانه سمى بعضهم بالجامع، وبعضهم بالمصنف، وبعضهم بالمألف، والموطأ: الممهد المنقح، وفي القاموس وطّأه هيّأه ودمّثه وسهَّله، ورجل الموطأ الأكناف سهل دمث كريم مضياف، أويتمكَّن في ناحيته صاحبه، غير مؤذ ولا ناب (وفي الأصل: "ثاب" وهو تحريف) به موضعه، وموطأ العقب سلطان يتبع، وهذه المعاني كلها تصلح في هذا الاسم على سبيل الاستعارة، وأخرج ابن عبد البر عن المفضل بن محمد بن حرب المدني، قال أول من عمل كتاباً بالمدينة على معنى الموطأ من ذكر ما اجتمع عليه أهل المدينة عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وعمل ذلك كلاماً بغير حديث فأتي به مالك فنظر فيه، فقال: ما أحسن ماعمل هذا، ولو كنت أنا الذي عملت لابتدأت الآثار، ثم شدّدت ذلك بالكلام، ثم إنه عزم على تصنيف الموطأ، فصنفه، فعمل من كان بالمدينة يومئذ من العلماء الموطآت، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله، فقال: ائتوني بماعملوا به، فأتي به فنظر في ذلك ثم نبذه وقال: لتعلمنّ أنه لا يرتفع إلا ما أريد به وجه الله، قال: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وقال الشافعي: ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك، أخرجه ابن فهر من طريق يونس بن عبد الأعلى عنه، وفي لفظ: ما وضع على الأرض كتاب هو أقرب إلى القرآن من كتاب مالك، وفي لفظ: ما في الأرض بعد كتاب الله أكثر صواباً من موطّأ مالك، وفي لفظ: ما بعد كتاب الله أنفع من الموطّأ، وقال الحافظ مغلطاي أول من صنف الصحيح مالك (شرح الزرقاني: 1/8) . وقال الحافظ بن حجر: كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما، قلت: ما فيه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 المراسيل فإنها مع كونها حجة عنده بلا شرط، وعند من وافقه من الأئمة على الإحتجاج بالمرسل، فهي أيضا حجة عندنا، لأن المرسل عندنا حجة إذا اعتضد، وما من مرسل في الموطّأ إلا وله عاضد أو عواضد، فالصواب إطلاق أن الموطّأ صحيح كله، لا يستثنى منه شيء، وقد صنف ابن عبد البر كتاباً في وصل ما في الموطّأ من المرسل والمنقطع والمعضل، قال: وجميع ما فيه من قوله: بلغني، ومن قوله: عن الثقة عنده، مما لم يسنده: أحد وستون حديثاً كلها مسندة، من غير طريق مالك إلا أربع لا تعرف: أحدها: حديث إنِّي لأَنسى أَو أُنَسَّى لأَسُنَّ (وفي الأصل: "لا أنسى ولكن أنسى"، وهو تحريف؛ وأخرجه مالك في كتاب السهو: 1/100) ، والثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، والثالث: قول معاذ آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضعت رجلي في الغرزان، قال: حسّن خلقك للناس، والرابع: إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة. انتهى. وفي "سير النبلاء" للذهبي (هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان التركماني الدمشقي المتوفي سنة 748 هـ (ش)) في ترجمة الشيخ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح الشهير بابن حزم الظاهري الأندلسي القرطبي (سِيَر أعلام النبلاء: 18/184) المتوفى في شعبان سنة 456 هـ ست وخمسين بعد أربعمائة بعد ما ذكر مناقبة ومعائبة: وإني أنا أميل إلى محبة أبي محمد لمحبته بالحديث الصحيح، ومعرفة به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير مسألة، ولكن لا أكفره، ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علمه، ورأيته ذكر قول من يقول: أجل المصنفات الموطّأ، فقال: بل أولى الكتب بالتعظيم صحيحا البخاري ومسلم، وصحيح ابن السكن، ومنتقى ابن الجارود، والمنتقى لقاسم ابن أصبغ، ثم بعدها كتاب أبي داود، وكتاب النسائي، ومصنف القاسم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أصبغ، ومصنف أبي جعفر الطحاوي، قلت: ما ذكر سنن ابن ماجه ولا جامع أبي عيسى الترمزي، فإنه ما رآهما ولا أدخلا إلى الأندلس إلا بعد موته، قال: ومسند البزار، ومسند ابن أبي شيبة، ومسند أحمد بن حنبل، ومسند إسحق، ومسند الطيالسي، ومسند الحسن بن سفيان، ومسند ابن سنجر، ومسند عبد الله بن محمد المسندي، ومسند يعقوب بن شيبة، ومسند علي بن المديني، ومسند ابن أبي غرزة، وما جرى مجرى هذه الكتب التي أفردت بكلام رسول الله صرفاً، ثم الكتب التي فيها كلامه وكلام غيره، ثم مصنف عبد الرزاق، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة، ومصنف بقيّ بن مخلد، وكتاب محمد بن نصر المروزي، وكتاب ابن المنذر الأكبر والأصغر، ثم مصنف حماد بن سلمة، وموطّأ مالك بن أنس، وموطّأ ابن أبي ذئب، وموطّأ ابن وهب، ومصنف وكيع، ومصنف محمد بن يوسف الفريابي، ومصنف سعيد بن منصور، ومسائل أحمد، وفقه أبي عبيد، وفقه أبي ثور، قلت ما أنصف ابن حزم، بل رتبة الموطّأ أن يذكر تلو الصحيحين مع سنن أبي داود النسائي (تدريب الراوي ص 54، والأجوبة الفاضلة ص 47. عدّ الجمهور الموطّأ في الطبقة الأولى من كتب الحديث منهم الإمام ولي الله الدهلوي وابنه العلامة عبد العزيز الدهلوي. مقدمة أوجز المسالك 1/32) ، لكنه تأدب، وقدم المسندات النبوية الصرفة، وإن للموطّأ لوقعاً في النفوس ومهابةً في القلوب، لا يوازيها شيء. انتهى كلام الذهبي (سِيَر أعلام النبلاء: 18/201 - 203) . الفائدة الرابعة: قد يُتَوَهَّم التعارض بين ما مرَّ نقله عن الشافعي أن أصح الكتب بعد كتاب الله الموطّأ، وقول جمهور المحدثين أن أصح الكتب كتاب البخاري، ثم كتاب مسلم، وأن أعلى الأحاديث من حيث الأصحية ما اتفقا عليه ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما كان على شرط مسلم، ثم باقي الصحاح على حسب مراتبها، ومنهم من فضل صحيح مسلم على صحيح البخاري فإن كان مراده من حيث الأصحية، فهو غلط، وأن كان من وجه آخر، فهو أمر خارج عن البحث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ولإبن الهمام في "فتح القدير" (3/186) حاشية الهداية كلام في هذا المقام، لكنه مدفوع بعد دقة النظر عند الأعلام، وتفصيل هذا البحث مذكور في شروح الألفية وشروح شرح النخبة ودراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب، وجوابه على ما في "فتح المغيث شرح ألفية الحديث" للسخاوي (هو شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي: نسبة إلى سخا قرية من أعمال مصر، تلميذ الحافظ ابن حجر، المتوفى سنة 902 هـ بالمدينة المنورة. (ش)) ، و"تدريب الراوي شرح تقريب النواوي" للسيوطي، وغيرهما أن قول الشافعي كان قبل وجود كتاب البخاري ومسلم (فتح المغيث 1/27، وتدريب الراوي 1/91) . وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة " فتح الباري" (ص 10) نقلاً عن"مقدمة ابن الصلاح": أما ما روينا عن الشافعي أنه قال: ما أعلم في الأرض كتاباً في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك، ومنهم من رواه بغير هذا اللفظ أصح من الموطّأ، فإنما قال ذلك قبل وجود كتابي البخاري ومسلم، ثم أن كتاب البخاري أصح الكتابين، وأكثرهما فوائد. انتهى. وقال أيضاً: قد استشكل بعض الأئمة إطلاق تفضيل البخاري على كتاب مالك مع اشتراكهما في اشتراط الصحة والتثبّت والمبالغة في التحري، وكون البخاري أكثر حديثاً لا يلزم منه أفضلية الصحة، والجواب عن ذلك أن ذلك محمول على شرائط الصحة، فمالك لا يرى الانقطاع في الإسناد قادحاً، فلذلك يخرج المراسيل والمنقطعات والبلاغات في أصل موضوع كتابه، البخاري يرى أن الانقطاع علّة، فلا يخرج ما هذا سبيله إلا في غير أصل موضوع كتابه، كالتعليقات والتراجم، ولا شك أن المنقطع وإن كان عند قوم مما يحتج به فالمتصل أقوى منه إذا اشترك رواتهما في العدالة والحفظ، فبان بذلك فضيلة صحيح البخاري، واعلم أن الشافعي إنما أطلق على الموطّأ فضيلة الصحة بالنسبة إلى الجوامع الموجودة في زمانه، كجامع سفيان الثوري ومصنف حماد بن سلمة وغير ذلك، وهو تفضيل مسلم لا نزاع فيه. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الفائدة الخامسة: من فضائل الموطّأ اشتماله كثيراً على الأسانيد التى حكم المحدثون عليها بالأصحية. - وقد اختلف فيه، فقيل: أصح الأسانيد ما رواه محمد بن مسلم بن عبد الله بن شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهذا مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، صرّح به ابن الصلاح، وقيل: أصحّها محمد بن سيرين، عن عبيدة بن عمرو السّلماني، عن علي بن أبي طالب، قاله علي بن المديني، وعمرو ابن علي الفلاّس. وقيل إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قاله يحيى بن معين والنسائي. وقيل: الزهري عن زين العابدين علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب حكاه ابن الصلاح عن أبي بكرٍ بن أبي شيبة، والعراقي عن عبد الرازق، وقيل مالك عن نافع، عن ابن عمر، وهذا قول البخاري، وبه صدق العراقي كلامه وهو أمر تميل إليه النفوس، وتنجذب إليه القلوب، وبناءً على هذا قال أبو منصور عبد القاهر التميمي البغدادي: إن أجل الأسانيد: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، لأنه لم يكن في الرواه عن مالك أجل من الشافعي، (انظر مقدمة ابن الصلاح ص 86، طبع بتحقيق الدكتور عائشة عبد الرحمن على هامشها محاسن الاصطلاح) . وبنى عليه بعضهم أن أجلَّها أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك عن نافع عن إبن عمر، لكون أحمد أجلَّ من أخذ عن الشافعي، وتسمى هذه الترجمة سلسلة الذهب. وتعقب الحافظ مغلطاي أبا منصور التميمي في ذكره الشافعي، برواية أبي حنيفة، عن مالك إن نظرنا إلى الجلالة، وابن وهب والقَعْنَبِي إن نظرنا إلى الإتقان، وقال البلقيني في "محاسن الإصطلاح" (ص 86) : أما أبو حنيفة، فهو وإن روى عن مالك كما ذكره الدارقطني، لكن لم تشتهر روايته عنه كاشتهار رواية الشافعي، وقال العراقي: رواية أبي حنيفة عن مالك فيما ذكره الدارقطني في (غرائبه) ليست من روايته عن نافع ابن عمر، والمسألة مفروضة في ذلك، نعم ذكر الخطيب حديثا كذلك في روايته عن مالك، وقال الحافظ ابن حجر: أما اعتراضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 بأبي حنيفة فلا يحسن، لأن أبا حنيفة لم يثبت روايته عن مالكك، وإنما أوردها الدارقطني ثم الخطيب لروايتين وقعتا لهما عنه، بإسنادين فيهما مقال، وأيضاً فإن رواية أبي حنيفة عن مالك إنما هي فيما ذكره في المذاكرة، ولم يقصد الرواية عنه كالشافعي الذي لازمه مدة طويلة، وقرأ عليه الموطأ بنفسه. وأما اعتراضه بابن وهب والقَعنَبي (ينسب إلى جده قعنب - بفتح القاف وسكون العين وفتح النون - وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة، أحد رواة الموطّأ عن مالك، توفي بالبصرة سنة 221 هـ) ، فلا شك أن الشافعي أعلم منهما، وقال غير واحد: إن ابن وهب غير جيد التحمُّل، فيحتاج إلى صحة النقل عن أهل الحديث أنه كان أتقن الرواية عن مالك، نعم كان كثير اللزوم به. انتهى ملخّصاً. وقيل: أصح الأسانيد شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب يعني عن شيوخه، وقيل: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة، ذكره الخطيب عن ابن معين، وقيل يحيى بن أبي كثير بن أبي سلمة عن أبي هريرة، قاله سليمان بن داود الشاذكوني، وقيل: أيوب عن نافع عن ابن عمر، رواه خلف بن هشام البزار عن أحمد، وقيل: شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة عن أبي موسى الأشعري نقله الخطيب عن وكيع، وقيل: سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود، قاله ابن مبارك والعجلي. هذا ما في "تدريب السيوطي" (انظر تدريب الراوي ص 74 - 77) و "شرح شرح نخبة الفكر" لملاّ أكرم السندي (ص 50 - 51) . وفي المقام تفصيل ليس هذا موضع ذكره. الفائدة السادسة: قال السيوطي: في "تنوير الحوالك" (ص 1/10 - 12) : الرواة عن مالك فيهم كثرة جداً بحيث لا يعرف لأحد من الأئمة رواة كرواته، وقد أفرد الحافظ أبو بكر الخطيب كتاباً في الرواة عن مالك، أورد فيه ألف رجل إلا سبعة، وذكر القاضي عياض أنه ألف في رواته كتاباً، وذكر فيه نيفاً على ألف اسم وثلاثمائة، وأما الذين رووا عنه الموطّأ، فعقد لهم القاضي في المدارك باباً، وسمّى منهم غير الأربعة المشهورين - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وسيأتي ذكرهم - الشافعي، ومطرف بن عبد الله، وعبد الله بن عبد الحكم، وبكار بن عبد الله الزبيري، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وزياد بن عبد الله الأندلسي، وسبطون (هكذا في الأصل، والصحيح شبطون بشين معجمة موحدة وطاء مهملة: شرح الزرقاني 1/6) بن عبد الله الأندلسي، ومحمد بن شروس الصنعاني، وأبا قرة السكسكي، وأبا (في الأصل: "أبو فلان"، وهو تحريف) فلان السهمي البغدادي، وأحمد بن منصور النامزاني، وقتيبة بن سعيد وعتيق بن يعقوب الزبيري، وأسد بن الفرات القروي، وإسحق بن عيسى الطباع، وبديرةَ المغني البغدادي، وحفص بن عبد السلام الأندلسي وأخاه حسان، وحبيب بن أبي حبيب، وخلف بن جرير بن فضالة، وخالد بن نزارة الإيلي، والغازي بن قيس الأندلسي، وقرعوس بن العباس الأندلسي، ومحرزّ المدني، وسعيد ابن عبد الحكم الأندلسي، وسعيد بن أبي هند الأندلسي، وسعيد بن عبدوس الأندلسي، وعبد الأعلى بن مسهر الدمشقي، وعبد الرحيم بن خالد المصري، وإسماعيل بن أبي أويس وأخاه أبا بكر، وعلي بن زياد التونسي، وعباس بن ناصح الأندلسي، وعيسى بن شجرة التونسي، وأيوب بن صالح المدني، وعبد الرحمن بن هند الطليطلي (في الأصل: "الطيطلي"، وهو تحريف) ، وعبد الرحمن بن عبد الله الأندلسي، وعبيد بن حبان الدمشقي، وسعيد بن داود المدني، قال القاضي: فهؤلاء الذين حقّقنا أنهم رووا عنه الموطّأ، ونص على ذلك أصحاب الأثر والمتكلمون في الرجال، وقد ذكروا أيضاً أن محمد بن عبد الله الأنصاري البصري أخذ الموطّأ عنه كتابةً، وإسماعيل بن إسحق أخذه مناولة، وأما القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة فرواه عن رجل عنه، وذكروا أن هارون الرشيد وبنيه الأمين والمأمون والمؤتمن أخذوا عنه الموطّأ، وقد ذكر عن المهدي والهادي أنهما سمعا منه ورويا عنه، ولا مرية في أن رواة الموطّأ أكثر من هؤلاء، ولكن إنما ذكرنا منهم من بلغنا نصاً سماعه منه وأخذه له عنه، أو من اتصل إسنادنا له فيه منه، والذي اشتهر من نسخ الموطّأ عنه مما رويته أو وقفت عليه، أو كان في رواية شيوخنا أو نقل منه أصحاب اختلافات الموطّآت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 نحو عشرين نسخة، وذكر بعضهم أنها ثلاثون، وقد رأيت الموطأ برواية محمد بن حميد بن عبد الرحيم بن سروس الصنعاني عن مالك، وهو غريب ولم يقع لأصحاب اختلاف الموطَّآت. هذا كله كلام القاضي (تنوير الحوالك: ص 9) . وذكر الخطيب ممن روى عن مالك الموطأ: إسحاق بن موسى الموصلي مولى بني مخزوم. وقال الخليلي في الإرشاد وقال أحمد بن حنبل كنت سمعت الموطأ من بضعة عشر رجلا من حفاظ أصحاب مالك فأعدته على الشافعي لأني وجدته (في الأصل وجدت والظاهر وجدته) أقومهم وقال أبو بكر بن خزيمة: سمعت نصر بن مرزوق يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: وسألته عن رواة الموطأ، فقال أثبت الناس في الموطأ عبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الله بن يوسف التنّيسي بعده، قال الحافظ: وهكذا أطلق المديني والنسائي، وقال أبو حاتم أثبت أصحاب مالك وأوثقهم معن بن عيسى. وقال بعض الفضلاء: اختار أحمد في "مسنده" رواية عبد الرحمن بن مهدي، والبخاري رواية عبد الله بن يوسف التِّنِّيسي، ومسلم رواية يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري، وأبو داوود رواية القعنبي، والنسائي رواية قتيبة بن سعيد. قلت: يحيى المذكور ليس هو صاحب الرواية المشهورة، وهو يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن النيسابوري أبو زكريا مات سنة ستة وعشرين ومائتين في صفر، وأما يحيى صاحب الرواية المشهورة فهو يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس أبو محمد الليثي الأندلسي مات في رجب سنة أربع وثلاثين ومئتين. انتهى ملخصاً. الفائدة السابعة: [نسخ الموطأ] - قد أورد بعض أعيان دهلي (هو الشيخ عبد العزيز المحدث الدهلوي المتوفي 1239 هجري. في الاصل: "الدهلي"، وهو تحريف) في كتابه "بستان المحدثين" المؤلف باللسان الفارسي في ذكر حال الموطَّأ، وترجمة مؤلِّفه، واختلاف نسخه، تفصيلاً حسناً. وخلاصة ما ذكره فيه معرّباً أن نسخ الموطأ التي توجد في ديار العرب في هذه الأيام متعددة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 النسخة الأولى: المروجة في بلادنا، المفهومة من الموطَّأ عند الإطلاق في عصرنا، هي نسخة يحيى بن يحيى المصمودي (انظر ترجمته في الإنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ص 58 60، وشذرات الذهب 2/83) ، هو أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس بفتح الواو وسكون السين المهملة، ابن شملل، بفتح الشين المعجمة والللام الأولى بينهما ميم، ابن منقايا، بفتح الميم وسكون النون، المصمودي، بالفتح نسبة إلى مصمودة، قبيلة من بربر وأول من أسلم من أجداده منقايا على يد يزيد بن عامر الليثي، وأول من سكن الأندلس منهم جده كثير، وأخذ يحيى الموطّأ أولاً من زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بالشبطون، وكان زياد أول من أدخل مذهب مالك في الأندلس، ورحل إلى مالك للإستفادة مرتين، ورجع إلى وطنه واشتغل بإفادة علوم الحديث، وطلب منه أمير قرطبة قبول قضاء قرطبة فامتنع، وكان متورعاً زاهداً مشاراً إليه في عصره، وفاته في السنة التي مات فيها الإمام الشافعي، وهي سنة أربع ومائتين، وارتحل يحيى إلى المدينة، فسمع الموطّأ من مالك بلا واسطة إلا ثلاثة أبواب من كتاب الإعتكاف: باب خروج المعتكف إلى العيد، وباب قضاء الاعتكاف، وباب النكاح في الاعتكاف، وكانت ملاقاته وسماعه في السنة التي مات فيها مالك، يعني سنة تسع وسبعين بعد المائة، وكان حاضراً في تجهيزه وتكفينه، وأخذ الموطّأ أيضاً من أجل تلامذة مالك عبد الله بن وهب وأدرك كثيراً من أصحابه، وأخذ العلم عنهم، ووقعت له رحلتان من وطنه، ففي الأولى أخذ عن مالك، وعبد الله بن وهب، وليث بن سعد المصري، وسفيان بن عيينة، ونافع بن نعيم القاري وغيرهم، وفي الثانية أخذ العلم والفقه عن ابن القاسم صاحب المدونة من أعيان تلامذة مالك، وبعدما صار جامعاً بين الرواية والدراية عاد إلى أوطانه وأقام بالأندلس يدرس ويفتي على مذهب مالك، وبه وبعيسى بن دينار تلميذ مالك انتشر مذهبه في بلاد المغرب، وكانت وفاة يحيى في سنة أربعة وثلاثين بعد المائتين، وأول نسخته بعد البسملة، "وقوت الصلاة"، مالك ابن شهاب، أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوماً، فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوماً، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 بالكوفة، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري، فقال: ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى معه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صلى ... الحديث. النسخة الثانية: نسخة ابن وهب (أنظر ترجمته في: ترتيب المدارك 2/ 421، تهذيب التهذيب 6/73، الديباج المذهب 133، طبقات الحفاظ ص 126) : أولها: أخبرنا مالك عن أبي الزناد، وعن الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... الحديث، وهذا الحديث من متفردات ابن وهب، ولا يوجد في الموطآت الأُخر إلاّ موطأ ابن القاسم. وهو أبو محمد عبد الله بن سلمة الفهري المصري، ولد في ذي القعدة سنة خمس وعشرين بعد مائة، وأخذ عن أربع مائة شيخ، منهم مالك، وليث بن سعد، ومحمد بن عبد الرحمن، والسفيانان وابن جريج، وغيرهم، وكان مجتهداً لا يقلد أحداً، وكان تعلم طريق الاجتهاد والتفقه من مالك وليث، وكان في عصره كثير الرواية للحديث، وذكر الذهبي وغيره أنه وجد في تصانيفه مائة ألف حديث وعشرون ألف من رواياته، ومع هذا لا يوجد في أحاديثه منكر فضلاً عن ساقط وموضوع، ومن تصانيفه كتاب مشهور بجامع ابن وهب، وكتاب المناسك وكتاب المغازي، وكتاب تفسير الموطأ، وكتاب القدر وغير ذلك، وكان صنف كتاب أهوال القيامة، فقُرئ عليه يوماً، فغلب عليه الخوف، حتى عرض له الغشي، وتوفي في تلك الحالة يوم خامس شعبان سنة سبع وتسعين بعد مائة. النسخة الثالثة: نسخة ابن القاسم، ومن متفرداتها: مالك عن العلاء بن عبد الرحمن، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري فهو له كلّه، أنا أغنى الشركاء". قال أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث لا يوجد إلا في موطأ ابن القاسم وابن عفير. وهو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد المصري (انظر ترجمته في: وفيات الاعيان 1/276، الديباج المذهب 146، حسن المحاضرة 1/303، تذكرة الحفاظ 1/356، طبقات السيوطي 148.) ، ولد سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 اثنتين وثلاثين بعد مائة، أخذ العلم عن كثير من الشيوخ منهم مالك، وكان زاهداً، فقيهاً، متورعاً، كان يختم القرآن كل يوم ختمتين، وهو أول من دون مذهب مالك في"المدونة" وعليها اعتمد فقهاء مذهبه، وكانت وفاته في مصر سنة إحدى وتسعين بعد مائة. النسخة الرابعة: معن بن عيسى، ومن متفرداتها: مالك، عن سالم أبي النضر، عن أبي سلمة، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فإذا فرغ من صلاته، فإن كنت يقظانة تحدث معي، وإلاّ اضطجع حتى يأتيه المؤذن. وهو أبو يحيى معن (له ترجمة في: الانتقاء لابن عبد البر ص 61، تهذيب التهذيب 10/ 252، والديباج 347) ، بالفتح، ابن عيسى بن دينار المدني القّزاز، يعني بائع القز، الأشجعي، مولاهم، من كبار أصحاب مالك، ومحققيهم، ملازماً له، ويقال له: عصا مالك، لأن مالك كان يتكئ عليه حين خروجه من المسجد بعدما كبر وأسن، وتوفي بالمدينة سنة ثمانية وتسعين ومائة في شوال. النسخة الخامسة: نسخة القعنبي، ومن متفرداتها: أخبرنا مالك عن ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبده ورسوله. وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي القعنبي (له ترجمة في: تذكرة الحفاظ 1/ 383، والديباج المذهب 131، والعبر 1/382) ، بفتح القاف وسكون العين، نسبة إلى جده. كان أصله من المدينة، وسكن البصرة، ومات بمكة، في شوال سنة إحدى وعشرون بعد المائتين، وكانت ولادته بعد ثلاثين ومائة، وأخذ عن مالك والليث وحماد وشعبة وغيرهم، قال ابن معين: ما رأينا من يحدث لله إلا وكيعاً، والقعنبي، له فضائل جمّة، وكان مجاب الدعوات، وعُدّ من الأبدال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 النسحة السادسة: نسخة عبد الله بن يوسف (له ترجمة في: تهذيب التهذيب 6/88، تقريب التهذيب 1/463) الدمشقي الأصل التِّنِّيسي المسكن إلى تنّيس، بكسر التاء المثناة الفوقية وكسر النون الممشددة بعدها ياء مثناة تحتية آخره سين مهملة، بلدة من بلاد المغرب، وذكر السمعاني أنها من (في الأصل: "من بلاد"، وهو خطأ) بلاد مصر. وثقه البخاري وأبو حاتم، وأكثر عنه البخاري في كتبه، ومن متفرداتها إلاَّ بالنسبة إلى موطّأ ابن وهب: مالك عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة عن عروة: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ... الحديث. النسخة السابعة: نسخة يحيى بن يحيى بن بكير أبو زكريا المعروف بابن بكير المصري (له ترجمة في: تذكرة الحفاظ 2/420، حسن المحاضرة 1/437، شذرات الذهب 2/71) ، أخذ عن مالك والليث وغيرهما، وروى عنه البخاري ومسلم بواسطة في صحيحيهما، ووثقه جماعة، ومن لم يوثقه لم يقف على مناقبه، مات في صفر سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين. ومن متفرداتها: مالك عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنّه". قلت: هذا الحديث موجود في موطّأ محمد أيضاً برواية مالك عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن حزم، عن عمرة، عن عائشة كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى (رقم الحديث 935) . النسخة الثامنة: نسخة سعيد بن عفير (له ترجمة في: تذكرة الحفاظ 2/427، وتهذيب النهذيب 4/74، وميزان الاعتدال 2/155) ، وهو سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري، أخذ عن مالك والليث وغيرهما، وروى عنه البخاري وغيره، ولد سنة ست وأربعين بعد مائة، توفي في رمضان سنة ست وعشرين بعد المائتين. ومن متفرداتها: مالك عن ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ ثابت بن قيس بن شمّاس، عن جده، أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: نَهَانَا الله أن نُحمَد بما لم نفعل، وأجدني أحب أن نحمد ... الحديث. قلت: هذا موجود في موطّأ محمد أيضاّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 النسخة التاسعة: نسخة أبو مصعب الزهري (له ترجمة في: شذرات الذهب 2/100، والانتقاء ص 62، وترتيب المدارك 3/347) ، أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، من شيوخ أهل المدينة وقضاتها، ولد سنة خمسين مائة، ولازم مالكاً وتفقَّه، وأخرج عنه أصحاب الكتب الستة إلاَّ أن النسائي روى عنه بواسطة، توفي في رمضان سنة اثنتين وأربعين بعد المائتين، وقالوا موطّأه آخر الموطآت التي عرضت على مالك، ويوجد في موطّئه وموطّأ أبو حذافة السهمي نحو مائة حديث زائداً على الموطّأت الأخر، ومن متفرداتها: مالك عن هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرقاب أيها أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها. وقال ابن عبد البر: هذا الحديث موجود في موطّأ يحيى أيضاً. النسخة العاشرة: نسخة مصعب بن عبد الله الزبيري (له ترجمة في: ترتيب المدارك 3/170 - 172، توفي سنة 236 هـ، وطبقات ابن سعد 5/439) ، قال بعضهم من متفرداتها: مالك عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأَصْحَابِ الْحِجْر: "لا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ المعذّبين الإ أن تكونوا باكين ... " الحديث، وقال ابن عبد البر: هذا موجود في موطّأ يحيى بن بكير وسليمان أيضاً، قلت: وفي موطّأ محمد أيضاً. النسخة الحادية عشر: نسخة محمد بن مبارك الصوري (له ترجمة في: تهذيب التهذيب 9/424، تقريب التهذيب 1/204) . النسخة الثانية عشرة: نسخة سليمان بن برد (له ترجمة في: ترتيب المدارك 2/460) . النسخة الثالثة عشرة: نسخة أبي حذافة السهمي أحمد بن إسماعيل (تهذيب التهذيب 1/16، وميزان الاعتدال 1/83) ، آخر أصحاب مالك موتاً، كانت وفاته ببغداد سنة تسع وخمسين بعد المائتين يوم عيد الفطر، لكنه لم يكن معتبراً في الرواية، ضعّفه الدارقطني وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 النسخة الرابعة عشرة: نسخة سويد بن سعيد أبي محمد الهروي (تهذيب التهذيب 4/272) ، روى عنه مسلم وابن ماجه وغيرهما، وكان من الحفاظ المعتبرين، مات سنة أربعين بعد المائتين، ومن مفرداتها: مالك عن هشام عن عروة، عن أبيه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يقبض العلم إنتزاعاً.." الحديث. النسخة الخامسة عشر: نسخة محمد بن حسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة، ومن مفرداته على ما سيأتي ذكره حديث "إنما الأعمال بالنية". هذا خلاصة ما في "البستان" مع زيادات عليه. وقد ذكر في "البستان" أيضا. النسخة السادسة عشر: وهي نسخة يحيى بن يحيى التميمي، وقال إنّ آخر أبوابه باب ما جاء في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيه مالك، عن ابن الشهاب، عن محمد بن جببير بن مطعم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لي خمسة أسماءٍ: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب. وهو يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن التميمي الحنظلي النيسابوري المتوفَّي سنة اثنتين وعشرين بعد المائتين (قال الحافظ في تهذيب التهذيب 11/296: مات في آخر صفر سنة ست وعشرين بعد المائتين. وله ترجمة في المدارك 2/408، والديباج 349، والانتقاء ص 13، وتذكرة الحفاظ 2/415. قال السيوطي في "االتنوير": ويحيى بن يحيى هذا ليس هو صاحب الرواية المشهورة الآن. مقدمة "أوجز المسالك" 1/39) ، روى عنه البخاري ومسلم وغيرهما. قلت: هذا هو آخر (أي آخر أبواب نسخة المصمودي أيضاً) نسخة المصمودي الأندلسي المتعارفة في ديارنا وشرح عليها الزرقاني وغيره كما لا يخفى على من طالعه. وقد ذكر السيوطي في "تنوير الحوالك" (1/10) أربعة عشر نسخة، حيث قال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 مقدمة "تنوير الحوالك": قال الحافظ صلاح الدين العلائي: روى الموطأ عن مالك جماعات كثيرة، وبين رواياتهم اختلاف في تقديم وتأخير، وزيادة ونقص، وأكثرها زيادةً رواية القعنبي، ومن أكبرها وأكثرها زيادة رواية أبي مصعب، فقد قال ابن حزم: في موطأ أبي مصعب زيادة عن سائر الموطآت نحو مائة حديث، وقال الغافقي في "مسند الموطأ" أي أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الفقيه المالكي، المتوفي سنة إحدى وثمانين بعد ثلاث مائة (تزين الممالك ص 48، الديباج المذهب ص 148) : اشتمل كتابنا هذا على ستة مائة حديث وستة وستين حديثا، وهو الذي انتهى إلينا من مسند موطأ مالك، وذلك أني نظرت الموطأ من ثنتي عشرة رواية رويت عن مالك وهي رواية عبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وعبد الله بن مسلمة القعبني، وعبد الله بن يوسف التّنيسي، ومعن بن عيسى، وسعيد بن عفير، ويحيى بن عبد الله بن بكير، وأبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، ومصعب عبد الله الزبيري، ومحمد بن المبارك الصوري، وسليمان بن برد، ويحيى بن يحيى الأندلسي، فأخذت الأكثر من رواياتهم، فذكرت اختلافهم في الحديث والألفاظ، وما أرسله بعضهم، أو أوقفه، وأسنده غيرهم، وما كان من المرسل اللاحق بالمسند وعدة رجال مالك الذين روى عنهم في هذا المسند خمسة وتسعون، وعدة من روي له فيه من رجال الصحابة خمسة وثمانون رجلاً، ومن نسائهم ثلاث وعشرون إمرأ ةً، ومن التابعين ثماني وأربعون رجلاً، كلهم من أهل المدينة إلا ستة رجالٍ: أبو الزبير من أهل مكة، وحميد الطويل وأيوب السختياني من أهل البصرة، وعطاء بن عبد الله من أهل خراسان، وعبد الكريم من أهل الجزيرة، وإبراهيم بن أبي عبلة من أهل الشام،. هذا كله كلام الغافقي. قلت: وقد وقفت على الموطأ من روايتين أخريين سوى ما ذكره الغافقي، أحدهما: رواية سويد بن سعيد، والأخرى برواية محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وفيها أحاديث يسيرة زائدة على سائر الموطآت، منها حديث "إنما الأعمال بالنية"، وبذلك تبين صحة قول ما عزا روايتة إلى الموطّأ، ووهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 خطّأه في ذلك، وقد بنيت في "الشرح الكبير" على هذه الروايات الأربعة عشر. انتهى كلام السيوطي. قال الزرقاني في مقدمة شرحه (1/6) بعد نقل قوله: وفيها أحاديث يسيرة ... إلخ: مراده الرد على قول "فتح الباري": هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا صاحب الموطأ (في الأصل: "إلا الموطأ"، وهو خطأ) ، ووهم من زعم أنه في الموطأ مغتراً بتخريج الشيخين له، والنسائي بطريق مالك. انتهى. وقال في "منتهى الأعمال": لم يهم، فإنه وإن لم يكن في الروايات الشهيرة، فإنه في رواية محمد بن الحسن، أورده في آخر "كتاب النوارد" قبل آخر الكتاب بثلاث ورقات، وتاريخ النسخة التي وقفت عليها مكتوبة في صفر سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وفيها أحاديث يسيرة زائدة عن الروايات المشهورة، وهي خالية من عدة أحاديث ثابتة في سائر الروايات. وانتهى كلام الزرقاني. وفي "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" (لمصطفى بن القسطنطيني عبد الله الشهير بملاّ كاتب الجلبي المتوفي سنة 1067 هجري. (ش)) : قال أبو القاسم محمد بن حسين الشافعي (كشف الظنون 2/1908) : الموطآت المعروفة عن مالك إحدى عشر معناها متقارب، والمستعمل منها أربعة: موطأ يحيى بن يحيى، وابن بكير، وأبي مصعب الزهري، وابن وهب، ثم ضعف الإستعمال إلا في موطأ يحيى، ثم في موطأ ابن بكير. وفي تقديم الأبواب وتأخيرها اختلاف في النسخ، وأكثر ما يوجد فيها ترتيب الباجي، وهو أن يعقب الصلاة بالجنائز ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم اتفقت النسخ إلى الحج، ثم اختلفت بعد ذلك، وقد روى أبو نعيم في "حلية الأولياء" عن مالك أنه قال: شاوَرَني هارون الرشيد في أن يعلّق الموطأ على الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكلٌّ مصيب، فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله. وروى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ابن سعد في"الطبقات" عن مالك أنه لما حجّ المنصور قال لي: عزمت على أن آمر بكتبك هذة التي وضعتها، فتُنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوا إلى غيرها فقلت لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم الأقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، ودانوا به، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم. كذا في عقود الجمان. انتهى. الفائدة الثامنة: [عدد أحاديثه] - قال الأبهري أبو بكر: جملة ما في الموطّأ من الآثار، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثاً المسند منها ستمائة حديث، والمرسل مائتان واثنان وعشرون، والموقوف ستمائة وثلاثة عشر، ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون. وقال ابن حزم في كتاب "مراتب الديانة" أحصيت ما في موطّأ مالك، فوجدت من المسند خمسمائة ونيفاً، وفيه ثلاث مائة ونيف مرسلاً، وفيه نيف وسبعون حديثاً قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيه أحاديث ضعيفة وهّاها جمهور العلماء. كذا أورده السيوطي (تنوير الحوالك 1/8) . قلت: مراده بالضعف الضعف اليسير كما يعلم مما قد مر، وليس فيه حديث ساقط ولا موضوع كما لا يخفى على الماهر. الفائدة التاسعة: في ذكر من علق على موطّأ الإمام مالك. - لا يخفى أنه لم يزل هذا الكتاب مطرحاً لأنظار النبلاء، ومعركة لآراء الفضلاء، فكم من شارح له، ومحشٍّ، وكم من ملخص له، ومنتخب. - فمنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن السّيد بكسر السين البطليوسي المالكي نزيل بلنسية، ذكره أبو نصر الفتح بن محمد بن عبد الله بن خاقان - المتوفى سنه خمس وثلاثين وخمسمائة على ما في "روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر"، لمحمد بن الشحنة الحلبي - في كتابه "قلائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 العقيان" (ص 221) . وبالغ في وصفه بعبارات رائقة كما هو دأبه في ذلك الكتاب، وذكر له كثيراً من النظم والنثر يدل على جودة طبعه وقوة بلاغته، وقال السيوطي أحد شراح الموطّأ - وسيأتي ذكره - في "بغية الوعاة في طبقات النحاة" في ترجمته: كان عالماً باللغات والآداب، متّبحراً فيهما، انتصب لإقراء علم النحو، وله يد طولى في العلوم القديمة، وكان لابن الحجاج صاحب قرطبة ثلاثة من الأولاد من أجمل الناس صورة، رحمون وعزون وحسون، فأولع بهم، وقال فيهم: أخفيت سقمي حتى كاد يخفيني * وهمت في حب عزون فعزوني ثم ارحموني برحمون فإن ظمئت * نفسي إلى ريق حسون فحسوني ثم خاف على نفسه، فخرج من قرطبة، صنّف: 1 - شرح أدب الكاتب، 2 - شرح الموطّأ، 3 - شرح سقط الزند، 4 - شرح ديوان المتنبي، 5 - إصلاح الخلل الواقع في الجمل، 6 - الخلل في شرح أبيات الجمل، 7 - المثلث، 8 - المسائل المنثورة في النحو، 9 - كتاب سبب اختلاف الفقهاء، ولد سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ومات في رجب سنة إحدى عشرة وخمسمائة. ومن شعره: أخو العلم حيٌّ خالد بعد موته * وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى * يُظَنّ من الأحياء وهو عديم انتهى ملخصاً. ونسبته إلى بطليوس: بفتح الباء الموحدة والطاء المهملة وسكون اللام وضم الياء المثناة التحتية بعدها واو بعدها سين مهملة: مدينة بالأندلس، وهو بفتح الألف وسكون النون وفتح الدال المهملة وضم اللام آخره سين مهملة، إقليم بلاد المغرب، مشتمل على بلاد كثيرة، كذلك ذكره أبو سعد السمعاني (هو أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبار المتوفي سنة 563 هجري (ش)) في كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 "الأنساب" (2/241، 242) ، والسيوطي في "لب اللباب في تحرير الأنساب" (1/ 160) . وذكر السيوطي في مقدمة شرحه "تنوير الحوالك" نقلا عن القاضي عياض أن اسم شرح البطليوسي "المقتبس". وقال: هو، في حواشيه على تفسير البيضاوي المسماة بنواهد الأبكار وشواهد الأفكار، في تفسير سورة البقرة: قد رأيت في "تذكرة الإمام تاج الدين" مكتوباً بخطه: قال الإمام أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي في كتاب "المقتبس شرح موطأ مالك بن أنس": قد اختلف الناس في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "اشتكت النار إلى ربِّها"، فجعله قوم حقيقة، وقالوا: إن الله قادر على أن ينطق كل شيء إذا شاء، وحملوا جميع ما ورد من نحوه في القرآن والحديث على ظاهره، وهو الحق والصواب، وذهب قوم إلى أن هذا كلَّه مجاز، وما تقدم هو الحق من حمل الشيء على ظاهره حتى يقوم دليل على خلافه، هذا لفظه بحروفه، مع أن البطليوسي المذكور كان من الأئمة المتبحرين في المعقولات والعلوم الفلسفية والتدقيقات، وهؤلاء هم الذين يقولون بالتأويل وإخراج الأحاديث عن ظواهرها، ويرون أن ذلك من التحقيق والتدقيق، انتهى كلامه. - ومنهم: ابن رشيق القَيرواني المالكي المتوفّي سنة 456 هجري ذكره صاحب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون"، وهو العلامة البليغ الشاعر أبو علي حسن بن رشيق، على وزن كريم، صاحب "العمدة في صناعة الشعر" و "الأنموذج في شعراء القيروان"، و "والشذوذ في اللغة"، قال ياقوت: كان شاعراً نحويا لغوياً أديباً حاذقاً، كثير التصنيف حسن التأليف، تأدب على محمد بن جعفر القيرواني النحوي، ولد سنة تسعين وثلاث مائة، ومات بالقيروان سنة ست وخمسين وأربع مائة. كذا في بغية الوعاة (2/109) . وذكره أبو عبد الله الذهبي في "سير النبلاء" (18 /325) ، وقال علمه أبوه صناعة الشعر، فرحل إلى قيروان، ومدح ملكها، فلما أخذته العرب واستباحوه دخل إلى صقلية، وسكن مازرا (من مدن صقلية "معجم البلدان" 5/ 40) إلى أن مات سنة ثلاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وستين وأربعمائة، ويقال: في ذي القعدة سنة ست وخمسين (وقد صحح ابن خلكان القول الأول، أما الثاني فقد قاله ياقوت في "معجمه" 8/ 111، وذكر أنه مات بالقيروان وتابعه على ذلك السيوطي في "بغية الوعاة" 2/ 109، وقال القفطي في "أنباه الرواة" 1/ 303، مات بمأزر في حدود سنة خمسين وأربعمائة) . انتهى. ونسبته إلى القيروان، قال السمعاني (5/ 130) : بفتح القاف وسكون الياء المنقوطة باثنتين من تحت وفتح الراء المهملة والواو، في آخرها النون، بلدة في المغرب عند إفريقية. - ومنهم: أبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان القرطبي نسبة إلى قرطبة: بضم القاف والطاء المهملة بينهما راء مهملة ساكنة، مدينة بالأندلس، المالكي (له ترجمة في: الديباج المذهب 154، ومرآة الجنان 2/122، وطبقات السيوطي 237) قال السيوطي في "البغية" (2/109) ذكره الزبيدي في الطبقة الثانية من نحاة اندلس، وقال في "البلغة": إمام في النحو واللغة والفقه والحديث، وقال ابن الفرضي: كان نحوياً شاعراً حافظاً للأخبار والأنساب متصرفاً في فنون العلم حافظاً للفقه ولم يكن له في الحديث ملكة ولا يعرف صحيحه من سقيمه، صنف "الواضحة" و"إعراب القرآن" و"غريب الحديث" و"تفسير الموطأ" و"طبقات الفقهاء" وغير ذلك، مات سنة ثمان، وقيل سنة تسع وثلاثين ومائتين عن أربع وستين سنة. انتهى. - ومنهم: الحافظ ابن عبد البرّ قد طالعت شرحه "الاستذكار" وهو نفيس جداً، يستحسنه الأخيار، مبسوط كاف مع اختصاره وبسيط واف مغن عن غيره، وقد بسط في ترجمته شيخ الإسلام الذهبي في "سير النبلاء" و"تذكرة الحفاظ" وغيرهما، وغيره في غيره، ولم يزل من جاء بعده من المحدثين يقرون بفضله، ويستمدون من تصانيفه. قال في "سير النبلاء" (سير أعلام النبلاء 18/153) : الإمام العلامة حافظ المغرب شيخ الإسلام أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الأندلسي القرطبي المالكي، صاحب التصانيف الفائقة، مولده سنة ثمان وستين وثلاث مائة في الربيع الآخر، وقيل: في جمادى الأولى، وطلب العلم بعد سنة 390 هـ، وأدرك الكبار، وطال عمره، وعلا سنده وتكاثر عليه الطلبة، وجمع وصنف، ووثق وضعَّف، وسارت بتصانيفه الركبان، وخضع لعلمه علماء الزمان، وكان فقيهاً، عابداً، متهجِّداً، إماماً ديِّناً، ثقة، متقناً، علاّمة، متبحراً، صاحب سنة واتباع، وكان أولاً أثرياً ظاهراً فيما قيل، ثم تحولّ مالكياً مع ميل بيِّن إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا ينكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمة المجتهدين، ومن نظر في مصنفاته بان له منزلته من سعة العلم وقوة الفهم وسيلان الذهن. وقال الحميدي: فقيه حافظ مكثر عالم بالقراآت والخلاف، وبعلوم الحديث والرجال. وقال أبو علي الغساني: لم يكن أحد ببلدنا في الحديث مثل قاسم بن محمد وأحمد بن خالد، ولم يكن ابن عبد البر بدونهما، وكان من النمر بن قاسط طلب، وتقدم ولزم أبا عمر أحمد بن عبد الملك الفقيه وأبا الوليد بن الفرضي، ودأب في الحديث وبرع براعة فاق بها من تقدم من رجال الأندلس، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه والمعاني له بسطةٌ كثيرةٌ في علم النسب والأخبار، جلا عن وطنه، فكان في المغرب مدة، ثم تحول إلى شرق الأندلس فسكن دانية وبلَنسِية وشاطبية (كذا في الأصل: وفي "سير أعلام النبلاء": "شاطبية"، قال ياقوت: هي مدينة في شرقي الأندلس وشرقي قرطبة، وهي مدينة كبيرة قديمة، يجوز أن يقال إن اشتقاقها من الشطبة، وهي السعفة الخضراء الرطبة") وبها توفي (انظر "الصلة" 2/ 678، و"وفيات الأعيان" 7/66 - 66) . وقال أبو داود المقرئ: مات ليلة الجمعة سلخ الربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة. قال أبو علي الغساني، ألف أبو عمر في "الموطّأ" كتباً مفيدة، منها: كتاب "التمهيد لما في الموطّأ من المعاني والأسانيد"، فرتبّه على أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله، وهو سبعون جزءً. قلت: هي أجزاء ضخمة جداً، قال ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه. ثم صنع كتاب "الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطّأ من معاني الرأي والأثار" هو مختصر التمهيد شرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فيه الموطّأ على وجهه، وجمع كتاباً جليلاً مفيداً، وهو "الاستيعاب في أسماء الصحابة"، وله "كتاب جامع في بيان فضائل العلم وما ينبغي في حمله وروايته" إلى غير ذلك، وكان موفقاً في التأليف معاناً عليه، ونفع الله بتواليفه. وله كتاب "الكافي" في مذهب مالك خمسة عشر مجلداً (قد طبع في جزأين باسم "كتاب الكافي في فقه أهل المدينة المالكي" في مكتبة الرياض) ، وكتاب "الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو"، وكتاب "التقصي في اختصار الموطّأ"، وكتاب "الإنباه عن قبائل الرواة"، وكتاب "الانتقاء لمذاهب علماء مالك وأبي حنيفة والشافعي"، وكتاب "البيان في تلاوة القرآن"، وكتاب "الكنى"، وكتاب "المغازي"، وكتاب "القصد والأمم في نسب العرب والعجم"، وكتاب "الشواهد في إثبات خبر الواحد"، وكتاب "الإنصاف في أسماء الله"، وكتاب "الفرائض"، وكتاب "أشعار أبو العتاهية". انتهى ملتقطاً. وذكره السمعاني في "الأنساب" (10/98) في نسبة القرطبي وقال: هو بضم القاف وسكون الراء، وضم الطاء المهملة في آخره الباء، هذة النسبة إلى قرطبة وهي بلدة كبيرة من بلاد المغرب بالأندلس، وهي دار ملك السلطان. انتهى. - ومنهم: أبو الوليد الباجي سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التجيبي (نسبة إلى تجيب بالضم وكسر الجيم، قبيلة من كندة، قاله في "لب اللباب" (ش)) الأندلسي، القرطبي الباجي الذهبي المالكي، أصله من مدينة بطليوس فتحول جده إلى باجة (وهي من أقدم مدن الأندلس، وتقع اليوم في البرتغال على بعد 140 كم إلى الجنوب الشرقي من لشبونة) ، بليدة بقرب إشبيلية فنسب إليها وما هو من باجة المدينة التي بإفريقية التي ينسب إليها الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي الباجي، وابنه أحمد. ولد أبو الوليد سنة ثلاث وأربعمائة، وأخذ عن جماعة، وارتحل سنة ست وعشرين فحجّ، ولو مد الرحلة إلى أصفهان والعراق لأدرك إسنادا عالياً، ولكنه جاور بمكة ثلاثة أعوام ملازماً للحافظ أبي ذر الهروي، فأكثر عنه، ثم ارتحل إلى دمشق، وأخذ عن جماعة، وتفقه بالقاضي أبي الطيب، والقاضي أبي عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الصيمري، وذهب إلى الموصل، فأقام بها على القاضي جعفر السمناني المتكلم، فبرز في الحديث والفقه والكلام والأصول والأدب، فرجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة بعلم غزير، حصله مع الفقر والتقنع اليسير، حدث عنه أبو عمر بن عبد البر وأبو بكر الخطيب وغيرهما، وتفقه به أئمة، واشتهر اسمه، وصنف كتاب "المنتقى" في الفقه، وشرح الموطّأ، فجاء في عشرين مجلداً عديم النظير، وكتاباً كبيراً سماه "الاستيفاء"، وله كتاب "الإيماء" في الفقه خمس مجلدات، وكتاب "السراج" في الفقه ولم يتم، وكتاب "اختلاف الموطّآت" وكتاب "الجرح والتعديل"، وكتاب"التسديد إلى معرفة التوحيد"، وكتاب "الإشارة" في أصول الفقه، وكتاب "أحكام الفصول في إحكام الأصول"، وكتاب "الحدود"، وكتاب "سنن الصالحين وسنن العابدين"، وكتاب "سبل المهتدين"، وكتاب "فرق الفقهاء"، وكتاب "سنن المنهاج وترتيب الحجاج"، وغير ذلك. وقد وَلِيَ قضاء الأندلس وهنئت الدنيا به وعظم جاهه وكان يستعمله الأعيان في ترسيلهم، ويقبل جوائزهم، وحصل له مال وافر إلى أن توفي في المرية تاسع عشر رجب سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وقال الإمام أبو نصر: أما الباجي ذو الوزارتين، فقيه، متكلم، أديب، شاعر، درس الكلام وصنّف، وكان جليل القدر، رفيع الخطر. هذا خلاصة ما في "سير النبلاء" ومن شاء الاطلاع على أزيد منه فليرجع إليه (سير أعلام النبلاء 18/535) - ومنهم: القاضي أبو بكر بن العربي المالكي (له ترجمة في سير أعلام النبلاء 20/197) ، سمى شرحه "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس". قال إبن خلِّكان (المتوفي سنة 681 هجري على مافي كشف الظنون، وترجمته مع وجه شهرته بابن خلكان مبسوطة في تعليقاتي على "الفوائد البهية في تراجم الحنفية" المسماة بالتعليقات السنية. (ش)) أبو العباس أحمد في تاريخه المسمى بـ "وفيّات الأعيان في أنباء أبناء الزمان"، مترجماً له: أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن العربي المعافري الأندلسي الإشبيلي الحافظ المشهور، ذكره ابن بشكوال في كتاب الصلة (2/591) ، فقال: هو الحافظ المتبحِّر ختام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 علماء الأندلس وآخر أئِمتها وحُفّاظها، لقيته بمدينة إشبيلية ضحوة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة ست عشرة وخمسمائة، فأخبرني أنه رحل مع أبيه إلى المشرق يوم الأحد مستهل الربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وأنه دخل الشام، ولقي بها أبا بكر محمد بن الوليد الطرطوشي، وتفقه عنده، ودخل بغداد، وسمع بها جماعة من أعيان مشايخها، ثم دخل الحجاز، فحج في موسم سنة 489 هـ، ثم عاد إلى بغداد، وصحب بها أبا بكر الشاشي وأبا حامد الغزالي، ولقي بمصر والإسكندرية جماعة من المحدثين، فكتب عنهم، ثم عاد إلى الأندلس سنة 493 هـ، وقدم إلى إشبيليا بعلم كثير لم يدخل أحد قبله بمثله ممن كانت له رحلة بالمشرق، وكان من أهل التفنن في العلوم والجمع لها، مقدَّماً في المعارف، متكلّماً في أنواعها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، ويجمع إلى ذلك كلِّه آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف، واستُقضي ببلده فنفع الله به أهله، ثم صُرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثِّه، وسألته عن مولده، فقال: ليلة الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة، وتوفي بالعدوة، ودفن بمدينة فاس في الربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. انتهى كلام ابن بشكوال، قلت أنا: وهذا الحافظ له مصنفات، منها "عارضة الأحوذي في شرح جامع الترمذي" (طبع بمصر في (13) مجلداً سنة 1931 م؛ وطبع في الهند سنة 1299 هـ، ضمن مجموعة فيها أربعة شروح على جامع "الترمذي". انظر"معجم المطبوعات" (1977) وغيره، والعارضة: القدرة على الكلام، والأحوذي: الخفيف في الشيء لحذقه. انتهى كلام ابن خلكان بتلخيصه (وفيات الأعيان 4/296، 297) . ونسبته إلى إشبيلية بكسر الهمزة وسكون الشين المعجمة وكسر الباء الموحدة، بلدة من أمهات بلاد الأندلس. والمعافري: نسبة إلى معافر، بفتح الأول، وكسر الرابع، بطن من قحطان. كذا في "الأنساب". (2/19، 20) . فائدة: رأيت في بعض شروح"مناسك النووي" أن ابن عربي اشتهر به اثنان: أحدهما: القاضي أبو بكر هذا، وثانيهما: صاحب الولاية العظمى والرواية الكبرى، محيي الدين بن عربي، مؤلف "الفتوحات المكية"، و"فصوص الحِكَم" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وغيرهما من التصانيف الجليلة، ويُفَرَّق بينهما بأنه يقال للقاضي ابن العربي بالألف واللام، وللشيخ الأكبر ابن عربي بغيره (مقدمة أوجز المسالك 1/48) . - ومنهم: الخطابي مؤلف "معالم السنن" شرح سنن أبي داود، وغيره، ذكره صاحب كشف الظنون ممن انتخب الموطأ، ولخّصه وهو بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الطاء المهملة، نسبة إلى الجد، فإنه حَمْد بن محمد بن إبراهيم البُستي، بالضم، نسبة إلى بُست بلدة من بلاد كابل، بين هراة وغزنة، أبو سليمان الخطابي الشافعي، وهو إمام فاضل كبير الشأن، جليل القدر، له "شرح صحيح البخاري"، و"شرح سنن أبي داود"، وكتاب "غريب الحديث"، وغيرها، سمع أبا سعيد بن الأعرابي بمكة، وأبا بكر بن داسة بالبصرة، وإسمعيل بن محمد الصفّار ببغداد وغيرهم، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله الحافظ، وأبو الحسين عبد الغافر الفارسي، وجماعة كثيرة، وذكره الحاكم أبو في "تاريخ نيسابور"، وتوفي سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة. كذا في "أنساب" السمعاني (5/175، 159. وله ترجمة في وفيات الأعيان 2/214، ومعجم المؤلفين 1/450) . وفي "تاريخ ابن خلكان" (2/214) : كان فقيهاً محدثاً أديباً، له التصانيف المفيدة، منها: "غريب الحديث" (طبع الكتاب في جامعة أم القرى - مكة - سنة 1402 هـ، بتحقيق عبد الكريم إبراهيم العزباوي) ، و"معالم السنن في شرح سنن أبي داود" (طبع الكتاب في حلب 1920 - 1934، وطبع في القاهرة بتحقيق أحمد محمد شاكر وحامد الفقي) ، و"أعلام السنن في شرح صحيح البخاري"، وكتاب "الشجاج" (وقع في وفيات الأعيان 2/214، (الشحاح) بالحاء المهملة في الحرفين) ، وكتاب "شأن الدعاء" (طبع الكتاب في دار المأمون للتراث دمشق سنة 1404 هـ 1984 م) ، وكتاب"إصلاح غلط المحدثين" (طبع الكتاب في دمشق، بتحقيق الدكتور محمد علي عبد الكريم الرّديني سنة 1987 م) ، وغير ذلك، وكانت وفاته في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الربيع الأول سنة 388 هـ بمدينة بست، والخطابي نسبة إلى جده، وقيل: إنه من ذرية عمر بن الخطاب، وقد سُمع في اسمه أحمد أيضاً بالهمزة، والصحيح الأول، قال الحاكم: سألت أبا القاسم المظفر بن طاهر بن محمد البستي الفقيه عن اسم أبي سليمان أحمد أو حمد، فقال: قال: اسمي الذي سُمِّت به حمد، ولكن الناس كتبوا أحمد فتركته عليه. انتهى ملخَّصاً. وقد ذكر السيوطي في "تنوير الحوالك" نقلاً عن القاضي عياض جمعاً كثيراً ممن اعتنى بالموطأ شرحاً أو تلخيصاً أو غير ذلك ممن ذكرناه ومن لم نذكره، حيث قال: قال القاضي عياض في "المدارك": لم يُعتَنَ بكتاب من كتب الحديث والعلم اعتناء الناس بالموطأ، فممن شرحه ابن عبد البر في "التمهيد" و "الاستذكار"، وأبو الوليد بن الصفّار وسماه "الموعب"، والقاضي محمد بن سليمان بن خليفة، وأبو بكر بن سابق الصقلي وسماه "المسالك"، وابن أبي صفرة، والقاضي أبو عبد الله بن الحاج، وأبو الوليد بن الفؤاد، وأبو محمد السِّيْد البطليوسي النحوي وسماه "المقتبس"، وأبو القاسم بن أمجد الكاتب، وأبو الحسن الإشبيلي، وابن شراحيل، وابن عمر الطلمنكي، والقاضي أبو بكر بن العربي وسماه "القبس"، وعاصم النحوي، ويحيى بن مزين وسماه "المستقصية"، ومحمد بن أبي زمنين وسماه "المقرب"، وأبو الوليد الباجي، وله ثلاثة شروح: "المنتقى"، و "الإيماء" والاستيفاء"، وممّن ألف في شرح غريبه: البرقي، وأحمد بن عمران الأخفش، وأبو القاسم العثماني المصري، وممن ألف في رجاله: القاضي أبو عبد الله بن الحذَّاء، وأبو عبد الله بن مفرح، والبرقي، وأبو عمر الطلمنكي، وألّف "مسند الموطأ" قاسم بن أصبغ، وأبو القاسم الجوهري، وأبو الحسن القابسي في كتابه "الملخص"، وأبو ذر الهروي، وأبو الحسن علي بن حبيب السجلماسي، والمطرز، وأحمد بن بهزاد الفارسي، والقاضي ابن مفرج، وابن الأعرابي، وأبو بكر أحمد بن سعيد بن فرضخ الأخميمي، وألّف القاضي إسماعيل "شواهد الموطأ"، وألف أبو الحسن الدارقطني كتاب "اختلاف الموطآت"، وكذا القاضي أبو الوليد الباجي، وألَّف "مسند الموطأ" رواية القعنبي: أبو عمرو الطليطلي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وإبراهيم بن نصر السرقسطي، ولابن جوصا "جمع الموطأ" من رواية ابن وهب وابن القاسم، ولأبي الحسن بن أبي طالب كتاب "موطأ الموطأ"، ولأبي بكر بن ثابت الخطيب كتاب "أطراف الموطأ"، ولابن عبد البر "التقصي في مسند حديث الموطأ ومرسله"، ولأبي عبد الله بن عيشون الطليطلي "توجيه الموطأ"، ولحازم بن محمد بن حازم "السافر عن آثار الموطأ"، ولأبي محمد بن يربوع كتاب في الكلام على أسانيده، سماه، "تاج الحلية وسراج البغبة". انتهى كلام القاضي (2/80) والسيوطي (ص 12) . وذكر صاحب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" من شرّاح الموطأ زين الدين عمر بن الشماع الحلي. ولإِبراهيم بن محمد الأسلمي المتوفِّى سنة 784 هـ موطأ أضعاف موطأ مالك، ولخص موطأ مالك أبو الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي، وهو المشهور بملخص الموطأ، مشتمل على خمسمائة وعشرين حديثاً متصل الإِسناد، واقتصر على رواية عبد الرحمن بن القاسم المصري من رواية أبي سعيد سحنون بن سعيد عنه. انتهى ملخصاً. ومن المعتنين بالموطأ الجلال السيوطي الشافعي، فإنه أفرد لرجاله كتاباً سماه "إسعاف المبطَّأ برجال الموطَّأ"، وقد طالعته واستفدتُ منه، وصنّف شرحاً كبيراً سماه "كشف المغطا" وشرحاً آخر مختصراً منه، سماه "تنوير الحوالك" وقد طالعته، قال فيه: هذا تعليق لطيف على موطأ الإمام مالك على نمط ما علقته على صحيح البخاري المسمى "بالتوشيح"، وما علقته على صحيح مسلم المسمى بالديباج، وأوسع منهما قليلاً لخَّصته من شرحي الأكبر الذي جمع فأوعى، وعمد إلى الجَفْلى حين دعا، وقد سمَّيْت هذا التعليق "تنوير الحوالك على موطَّأ مالك". انتهى. وهو خاتمة الحفاظ عبد الرحمن جلال الدين السُّيُوطي (انظر: حسن المحاضرة 1/335 - 344. وله ترجمة في: شذرات الذهب 8/51 - 55، البدر الطالع 1/328 - 335، معجم المؤلفين 5/128) بضم الأَوَّلَيْن، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 يقال: الأُسيوطي، بضم الهمزة وسكون السين المهملة، نسبة إلى بلدة أسيوط من البلاد المصرية، ابن كمال الدين أبي بكر بن محمد بن سابق الدين بن الفخر عثمان بن ناظر الدين محمج بن يوسف الدين خضر بن نجم الدين أبي الصلاح أيوب بن ناصر الدين محمد ابن الشيخ همام الدين الهمام الخضيري كذا ساق نسبة هو في كتابه "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" وترجم لنفسه ترجمة طويلة، وذكر فيها (قد ذكر بعض الفضلاء المعاصرين في رسالته "الجنة بالأسوة الحسنة بالسنة" وغيرُه أنه من تلامذة ابن حجر العسقلاني، وتعقبتُه في منهيات "النافع الكبير" أن وفاة ابن حجر سنة 852 هـ وولادة السيوطي سنة 849 هـ فأنَّى يَصِحّ له التلمذة؟ ثم أصرّ على ما كتبه في رسالة أظنها "هدية السائل إلى أجوبة المسائل"، وكتب في منهيته: هكذا ذكره الشوكاني فقط. وهو أمر ليس بدافع للتعقّب، فإن التواريخ تكذّب الشوكاني، ثم ذكر في رسالة أخرى نحوه، وكتب في منهيّته عبارة لعلّي القاري في "المرقاة شرح المشكاة" دالّة على أن السيوطي روى عن الحافظ، وهو أيضاً لم يشفِ العليل، فإنَّ مثل هذا الإيراد وارد عليه أيضاً، ولو اكتفى على النقل عن الشوكاني أو القاري أولاً لسلم من الإيراد، فإن الناقل من حيث إنه ناقل لا يرد عليه شيء، والقول الفيصل أن السيوطي ليس له تلامذة ولا إجازة خاصة من الحافظ، بل لم يكن له قابلية لذلك عند وفاة الحافظ، لكنه أحضره والده مرة مجلس الحافظ، وهو ابن ثلاث سنين كما ذكره في "النور السافر"، ولعل الحافظ في ذلك المجلس أجاز إجازة عامَّة لمن فيه فدخل السيوطي فيها، ويشهد لما ذكرنا أن السيوطي ترجم نفسه في "حسن المحاضرة" وذكر أساتذته ومراتبه، ولم يذكر تلمذة من الحافظ مع أنه فخر عظيم أي فخر (ش)) أن ولادته كانت ليلة الأحد مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثمان مائة، وحفظ القرآن، وله دون ثمان سنين، وشرع في الاشتغال بالعلم من سنة 864 هـ، فأخذ الفقه والنحو عن جماعة من الشيوخ، والفرائض عن فرضيّ زمانه شهاب الدين الشارمساحي، ولازم في الفقه شيخ الإسلام علم الدين البُلقيني إلى أن مات، ثم لازم ولده، وبعد وفاته سنة 878 هـ لازم شرف الدين المُناوي، ولزم في الحديث والعربية التقيّ الشُمُنِّي الحنفي شارح "مختصر الوقاية" وأخذ عن محيي الدين الكافِيَجي الحنفي جميعاً من الفنون، ولازمه أربع عشرة سنة، وذكر أن له إلى الآن ثلاث مائة تأليف سوى ما غسلت عنه ورجعت عنه، ثم ذكر تصانيفه في التفسير كالإتقان، والدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 المنثور، وحاشية تفسير البيضاوي، وغيرها. وفي الحديث تعليقات الصحاح الستة وغيرها، وفي الفقه كثيراً من الرسائل المشتَّتة في المسائل المتفرقة، وفي فن العربية والتاريخ والأدب، وجملة ما ذكرها فيه: في التفسير خمسة وعشرون تأليفاً، وفي الحديث ومتعلَّقاته تسع وثمانون، وفي الفقه ومتعلَّقاته أربع وستون، وفي فن العربية ومتعلَّقاته اثنان وثلاثون، وفي الأصول والبيان والتصوُّف اثنان أو ثلاث وعشرون، وفي الأدب والتاريخ سبع وأربعون تصنيفاً. وقد طالعت كثيراً من هذه التصانيف وغيرها، وكلُّها مشتملة على فوائد لطيفة، وفرائد شريفة، وله تصانيف كثيرة لم يذكرها ههنا حتى إنه ذكر بنفسه في بعض رسائله أن مصنفاته بلغت خمسمائة. وتآليفه كلها تشهد بتبحُّره وسعة نظره، ودقة فكره، وأنه حقيق بأن يُعَدّ من مجدِّدي الملة المحمدية في بدء المائة العاشرة، وآخر التاسعة كما ادَّعاه بنفسه في "شرح سنن أبي داود" وغيره، وشهد بكونه حقيقاً به من جاء بعده كعليّ القاري المكي في "المرقاة شرح المشكاة" وغيره. وقال عبد القادر العَيْدَروس (هو ابن عبد الله بن عبد الله أبو بكر اليمني الحضْرمَوْتي الهندي المتوفَّى بأحمد آباد سنة 1130 هـ) في "النور السافر في أخبار القرن العاشر" (ص 51 - 54. انظر ترجمته في: الضوء اللامع 4/65 - 70، شذرات الذهب 8/51 - 55، البدر الطالع 1/328 - 335، حسن المحاضرة 1/188 - 195) : في يوم الجمعة سنة إحدى عشرة أي بعد تسعمائة، وقت العصر تاسع الجمادى الأولى توفي الشيخ العلاّمة الحافظ أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن عثمان السيوطي الشافعي، ودُفن بشرقي باب القرافة، مرض ثلاثة أيام، وجد بخطه أنه سمع ممن يوثق به أن والده كان يذكر أن جده الأعلى كان عجمياً، أو من المشرق، وأمه أم ولد تركية، وكان يلقَّب بابن الكتب، لأن أباه كان من أهل العلم، واحتاج إلى مطالعة كتاب فأمر امرأته أن تأتي به من بين كتبه، فذهبت لتأتي به، فأجاءها المخاض، وهي بين الكتب، فوضعته، ثم سمّاه والده بعبد الرحمن، ولقَّبه جلال الدين، وكنّاه شيخه قاضي القضاة عز الدين أحمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 إبراهيم الكناني، لما عرض عليه، وقال له: ما كنيتك؟ فقال: لا كنية لي، فقال: أبو الفضل، وتوفي والده ليلة الاثنين خامس صفر من سنة 865 هـ، وجعل الشيخ كمال الدين بن الهُمام وصيّاً عليه، فلحظه بنظره. وأحضره والده وعمره ثلاث سنين مجلس شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر وحضر هو وهو صغير مجلس المحدث زين الدين رضوان العقبي، ثم اشتغل بالعلم على عدة مشايخ، وحج سنة 869 هـ، ووصلت مصنفاته نحو ستمائة سوى ما رجع عنه وغسله، وَوُلِّيَ المشيخة في مواضع متعددة من القاهرة، ثم إنه زهد في جميع ذلك، وانقطع إلى الله بالروضة، وكانت له كرامات، وكان بينه وبين السخاوي منافرة كما يكون بين الأكابر. انتهى كلامه. وقد ترجمه شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي المصري تلميذ الحافظ ابن حجر في كتاب "الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع" (4/65 - 70) ، بترجمة طويلة مشتملة على حطّ مرتبته ونقص رتبته، ولن يُقبل كلامه وكذا كلام تلميذه أحمد القسطلاني، صاحب "المواهب اللدنَّية" و"إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" وغيرهما فيه، كما لا يُقبل كلامه على السخاوي في مقامته المسماة بـ"الكاوي على السخاوي" لما عُلم من المنافرة بينهم، ولا يُسمع كلام الأقران بعضهم في بعضهم. ومن المعتنين به الزرقاني (انظر ترجمته في: هدية العارفين 2/311، سلك الدرر 4/32 - 33، فهرس الفهارس 1/342 - 343) المالكي، محمد بن عبد الباقي بن يوسف تلميذ أبي الضياء علي الشَّبْرَامَلِّسي، بشين معجمة فموحدة فراء مهملة، على وزن سَكْرى، مضافاً إلى مَلِّس، بفتح الميم وكسر اللام المشدَّدة والسين المهملة، نسبة إلى شبراملس، قرية بمصر، المتوفَّي سنة سبع وثمانين بعد الألف. وشَرْحه للموطأ شرح نفيس مشتمل على ما لا بُدَّ منه، ذكر في أوائله أنه ابتدأه سنة تسع بعد مائة وألف. وقال في آخره (شرح الزرقاني على الموطأ: 4/436) : وقد أنعم الله الجواد الكريم الرؤوف الرحيم بتمام هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الشرح المبارك على الموطأ لجامعه العبد الفقير الحقير محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد شهاب الدين بن محمد الزرقاني المالكي، ووافق الفراغ من تسويده وقت أذان العصر يوم الاثنين حادي عشر ذي الحجة سنة ثنتي عشرة بعد مائة وألف ... إلخ. وله شرح نفيس على "المواهب اللدنَّية" وكانت وفاته على ما في كشف الظنون في السنة الثانية والعشرين بعد ألف ومائة. - ومنهم: الشيخ سلام الله الحنفي، من أولاد الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي، له شرح على الموطأ برواية يحيى، سماه "المحلَّى بأسرار الموطَّا" (فرغ من تأليفه في سنة 1215 هـ، لم يُطبع بعد، ونصفه الأخير موجود في مكتبة المدرسة العلية مظاهر علوم في سهارنفور - الهند. توفي - رحمه الله - سنة 1229 هـ على الراجح، وقيل سنة 1223 هـ. مقدمة أوجز المسالك 1/51) ، وله شرح شمائل الترمذي، وغير ذلك. - ومنهم: الشيخ ولي الله المحدث الحنفي الدهلوي (انظر ترجمته في الجزء اللطيف، وأنفاس العارفين، والإمام الدهلوي تأليف سماحة الشيخ الندوي. طبع دار القلم - الكويت - سنة 1985 م) ، قطب الدين أحمد بن عبد الرحيم بن وجيه الدين الشهيد بن معظم بن منصور بن أحمد، وتنتهي سلسلة نسبه إلى عمر الفاروق رضي الله عنه. وُلِدَ رحمه الله كما ذكر في بعض رسائله يوم الأربعاء رابع شوال من سنة أربع عشرة بعد ألف ومائة، وختم حفظ القرآن وسنُّه سبع سنين، واشتغل بتحصيل العلوم على حضرة والده، وكان من تلامذة السيد الزاهد الهروي ولأجله صنف السيد الزاهد حواشيه المشهورة على "شرح المواقف"، وفرغ من جميع الفنون الرسمية حين كان عمره خمس عشرة سنة، وتوفي والده حين كان عمره سبع عشرة سنة، فجلس مجلسه في التدريس والإفادة، وراح إلى الحرمين الشريفين سنة ثلاث وأربعين، وأخذ عن جمع من المشائخ، منهم: الشيخ أبو طاهر المدني، وعاد إلى الوطن سنة خمس وأربعين، وكانت وفاته سنة ست وسبعين بعد مائة وألف، وقيل أربع وسبعين، وله تصانيف كثيرة كلها تدل على أنه كان من أَجِلَّة النبلاء وكبار العلماء، موفّقاً من الحق سبحانه بالرشد والإنصاف، متجنِّباً التعصب والاعتسافِ، ماهراً في العلوم الدينية متبحِّراً في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 المباحث الحديثية، منها: 1 - "إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء"، كتاب عديم النظير في بابه، 2 - و"حجة الله البالغة"، 3 - و"قرة العينين في تفضيل الشيخين"، 4 - و "الفوز الكبير في أصول التفسير"، 5 - و "عقد الجيد في أحكام التقليد"، 6 - و "الإنصاف في بيان سبب الاختلاف"، 7 - و "البدور البازغة" في الكلام، 8 - و "سرور المحزون"، 9 - و "فتح الرحمن ترجمة القرآن"، 10 - و "فتح الخبير"، 11 - و "فيوض الحرمين"، 12 - و "إنسان العين في مشائخ الحرمين"، 13 - و "الانتباه في سلاسل أولياء الله"، 14 - و "الدر الثمين في مبشرات النبي الأمين"، 15 - و "النوادر من أحاديث سيد الأوائل والأواخر"، 16 - و "القول الجميل"، 17 - و "الهمعات"، 18 - و "التفهيمات الإلهية"، 19 - و "ألطاف القدس"، 20 - و "المقالة الوضيئة في النصيحة"، 21 - و "تأويل الأحاديث"، 22 - و "اللمعات"، 23 - و "السطعات"، 24 - و "المقدمة السنية في انتصار الفرقة السنّية"، 25 - و "أنفاس العارفين"، 26 - و "شفاء القلوب"، 27 - و "الخير الكثير"، 28 - و "الزهراوين".. وغير ذلك. وقد شرح الموطَّأ برواية يحيى شرحين: 29 - أحدهما باللسان الفارسية سمّاه "المصفى"، جرّد فيه الأحاديث والآثار، وحذف أقوال مالك وبعض بلاغاته، وتكلم فيه ككلام المجتهدين، 30 - وثانيهما بالعربية وسمّاه بـ "المسوى"، اكتفى فيه على ذكر اختلاف المذاهب، وعلى قدر من شرح الغريب وغيره مما لابدَّ منه، كذا قاله ابنُهُ الشيخ عبد العزيز الدهلوي، صاحب التصانيف الشهيرة والفتاوى المشهورة، كتفسير فتح العزيز والتحفة الاثنا عشرية في الرد على الشيعة وغير ذلك، المتوفَّى على ما قيل سنة تسع وثلاثين بعد الألف والمائتين. وكانت ولادته في سنة تسع وخمسين بعد مائة وألف في كتابه "بستان المحدثين". - ومنهم العلامة إبراهيم الشهير ببيرى زاده الحنفي، شرح الموطَّأ برواية محمد شرحاً حسناً، قال الفاضل محمد بن فضل الله المحبي الدمشقي في كتابه "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر" (خاصة الأثر 2/219 - 220، هدية العارفين 1/34، معجم المؤلفين 221) : الشيخ إبراهيم بن حسين بن أحمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 محمد بن أحمد بن بيرى، مفتي مكة، أحد أكابر الفقهاء الحنفية وعلمائهم المشهورين، ومن تبحَّر في العلم وتحرَّى في نقل الأحكام وحرَّر المسائل، وانفرد في الحرمين بعلم الفتوى، وجدَّد من مآثر العلم مادثَر، له الهمة العلية في الانهماك على مطالعة الكتب، سارت بذكره الرُّكبان بحيث إن علماء كل إقليم يشيرون إلى جلالته، أخذ عن عمِّه العلاّمة محمد بن بيرى، وعبد الرحمن المرشدي، وغيرهما، وأخذ الحديث عن ابن علان، وأجازه كثير من المشائخ، وله مؤلفات ورسائل تنيف على السبعين، منها حاشية على الأشباه والنظائر، سمّاه "عمدة ذوي البصائر"، وشرح الموطَّأ رواية محمد بن الحسن (في مقدمة أوجز المسالك (1/53) قلت: وقد رأيت هذا الشرح الوجيز في البلدة الطاهرة الطيبة، سمي بالفتح الرحماني، أكثر فيه الأخذ عن العلامة العيني، وقد أخذت منه في بعض المواضع، وهو موجود في المكتبة المحمودية بالبلدة الطاهرة بخط المؤلف) في مجلدين، وشرح تصحيح القدوري للشيخ قاسم، وشرح "المنسك الصغير" لملاّ علي القاري رحمه الله، ورسالة في جواز العمرة في أشهر الحج، وشرح منظومة ابن الشحنة في العقائد، والسيف المسلول في دفع الصدقة لآل الرسول، ورسالة في المنسك والزيارة، وأخرى في جمرة العقبة، وأخرى في الإشارة في التشهد، ورسالة في بيض الصيد إذا أدخل الحرم، ورسالة جليلة في عدم جواز التلفيق ردّ فيها على عصريِّة مكي بن فروخ وغير ذلك، وكانت ولادته في المدينة المنورة في نيِّف وعشرين وألف، وتوفي يوم الأحد سادس عشر شوال سنة تسع وتسعين وألف، ودُفن بمعلاة قرب السيدة خديجة وكان قلقاً من الموت، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول له: يا إبراهيم مت، فإن لك بي أسوة حسنة، فقال: يارسول الله على شرط أن يُكتب لي ثواب الحج في كل سنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك ذلك. انتهى ملخَّصاً. - ومنهم: صاحب العلم الباهر والفضل الظاهر الشيخ علي القاري الهروي ثم المكي (خلاصة الأثر 3/186، سمط النجوم 4/394، البضاعة المزجاة لمن يريد مطالعة المرقاة شرح المشكاة، وأفراده الأستاذ خليل إبراهيم قوتلاي بتأليف كتاب "الإمام علي القاري وأثره في علم الحديث"، طبع في دار البشائر - بيروت - سنة 1987 م) ، له شرح على موطَّأ محمد في مجلدين مشتمل على نفائس لطيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وغرائب شريفة إلاّ أن فيه في تنقيد الرجال مسامحات كثيرة، كما ستطَّلع عليها إن شاء الله تعالى في مواضعها، وله تصانيف كثيرة، فمنها ما طالعته: 1 - "شرح المشكاة المسمَّى بالمرقاة"، 2 - و "شرح الشمائل المسمَّى بجمع الوسائل"، 3 - و "شرح الشفاء"، 4 - و"شرح شرح نخبة الفكر"، 5 - و "شرح الحصن الحصين" المسمّى بالحرز الثمين، 6 - و "شرح الشاطبية" في القراءة، 7 - و "سند الأنام شرح مسند الإِمام الأعظم الهمام"، 8 - و "شرح مختصر الوقاية" في الفقه، 9 - و "الأثمار الجنَّية في طبقات الحنفية"، 10 - و "رسالة في الاقتداء بالمخالف" مسمّاة بالاهتداء، 11 - و "رسالة في الرد على إمام الحرمين وصلاة القفال المسماة بتشييع الفقهاء الحنفية بتشنيع السفهاء الشافعية"، 12 - و "رسالة في نصب أول في حديث البخاري أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أول ما قدم المدينة نزل على أجداده"، 13 - ورسالة مسمّاة بـ "إعراب القاري على أول باب البخاري"، 14 - و "المشرب الوردي في مذهب المهدي"، 15 - و"المقالة العَذْبَة في العِمامَة والعَذَبَة"، 16 - و "الإِنباء بأن العصا من سنن الأنبياء"، 17 - و "رفع الجناح في أربعين حديثاً في النكاح"، 18 - ورسالة في البسملة أول براءة، 19 - ورسالة في حب الهرة من الإِيمان، 20 - ورسالة في الإِشارة في التشهد مسمّاة بـ "تزيين العبارة لتحسين الإِشارة"، 21 - وأخرى فيه مسمّاة بـ "التدهين للتزيين"، 22 - و "الحظ الأوفر في الحج الأكبر"، 23 - و "التجريد في إعراب كلمة التوحيد"، 24 - و "أربعون حديثاً في القرآن"، 25 - و "أربعون في جوامع الكَلِم"، 26 - و "فرائد القلائد البهية تخريج أحاديث شرح العقائد النسفية"، 27 - و "تذكرة الموضوعات"، 28 - ورسالة مختصرة في الموضوع مسسمّاة بالمصنوع، 29 - و "تبعيد العلماء عن تقريب الأمراء"، 30 - وشم العوارض في ذم الروافض، 31 - و "المورد الروي في المولد النبوي"، 32 - و "الدرر المضيئة في الزيارة المصطفية"، 33 - و "المقدمة السالمة في خوف الخاتمة"، 34 - و "فعل الخير إذا دخل مكة مَنْ حَجَّ عن الغير"، 35 - و"تحقيق الاحتساب في الانتساب"، 36 - و "النافعة للنُّساك في الاستياك"، 37 - والمعدن العدني في فضل أويس القرني"، 38 - و "الاعتناء بالفناء"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 39 - و "كشف الخِدْر (في الأصل: "الحذر"، وهو تحريف) عن أمر الخضر"، 40 - و "فرّ العون من مدعي إيمان فرعون"، 41 - ورسالة في النية، 42 - ورسالة في وحدة الوجود، 43 - وأخرى في تكفير الحج الذنوب، 44 - وأخرى في ليلة البراءة وليلة القدر، 45 - و "شرح المنسك المتوسط لملاّ رحمة الله السندي المسمَّى بالمسلك المتقسِّط"، 46 - وشرح الفقه الأكبر، 47 - وله شرح ثلاثيات البخاري، 48 - وشرح المقدمة الجزرية، 49 - و "الناموس ملخص القاموس"، 50 - و "نزهة الخاطر في ترجمة الشيخ عبد القادر"، 51 - ورسالة في إبطال إرسال اليدين في الصلاة، وغير ذلك. وتصانيفه كلها جامعة مفيدة حاوية على فوائد لطيفة، ولولا ما في بعضها من رائحة التعصب المذهبي لكان أجود وأجود. قال في "خلاصة الأثر" (3/186) مترجماً له: علي بن محمد سلطان الهروي المعروف بالقاري الحنفي نزيل مكة، وأحد صدور العلم، فرد عصره، الباهر السمت في التحقيق وتنقيح العبارات، وشهرته كافية عن الإِطراء في وصفه، ولد بهراة ورحل إلى مكة، وأخذ بها عن الأستاذ أبي الحسن البكري والسيِّد زكريا الحسيني، والشهاب أحمد بن حجر المكي الهيثمي، والشيخ أحمد المصري تلميذ القاضي زكريا، والشيخ عبد الله السندي، والعلامة قطب الدين المكي، وغيرهم، واشتهر ذكره، وطار صيته، وألَّف التآليف الكثيرة اللطيفة، وكانت وفاته بمكة في شوال سنة أربع عشرة وألف، ودفن بالمعلاة، ولما بلغ خبرُ وفاته علماءَ مصر صلَّوا عليه بجامع الأزهر صلاة الغيبة في مجمع حافل يجمع أربعة آلاف نسمة فأكثر. انتهى ملخَّصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ترجَمة الشَّارح ترجمة العبد الضعيف جامع هذه الأوراق، أُوردها ليكون مذكِّراً ومعرِّفاً عن أحوالي، لمن غاب عني أو يأتي بعدي، فيذكرني بدعاء حسن الخاتمة، وخير الدنيا والآخرة، وقد ذكرت نُبَذاً منها في مقدمة "الجامع الصغير" للإمام محمد في الفقه الحنفي المسمّاة "النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير" بعد ما ذكرتُ تراجم شُرّاحه، ليحشرني ربي معهم، ويجعلني معهم، ولست منهم، والبسط فيها مفوَّض إلى كتاب تراجم علماء الهند، الذي أنا مشتغل بجمعه وتأليفه، وفقني الله لختمه، ونذكر قدراً منها ههنا من غير اختصار مُخِلّ ولا تطويل مُمِلّ، رجاء أن يحشرني ربي في زمرة الشُرّاح السابقين، ويجعلني في الدنيا والآخرة في عداد المحدثين ويناديني معهم يوم يدعو كلَّ أناس بإمامهم، فأقول: أنا الراجي عفو ربه القوي، كنيتي أبو الحسنات، كناني به والدي بعد بلوغي، واسمي عبد الحي، سمّاني به والدي في اليوم السابع من ولادتي، وحين سمّاني به قال له بعض الظرفاء: حذفتم من اسمكم حرف النفي (يعني: حرف لم) ، فصار هذا فألاً حسناً، لأن يطول عمري، ويحسن عملي، أرجو من الله تعالى أن يصدق هذا الفأل، ويرزقني ببركة اسمه المضاف إليه حياة طويلة، مع حسن الأعمال، وعيشاً مرضياً يوم الزلزال. ووالدي مولانا محمد عبد الحليم صاحب التصانيف الشهيرة والفيوض الكثيرة، الذي كان بفتخر بوجوده أفاضلُ الهند والعرب والعجم، ويستند به أماثل العالم، الفائق على أقرانه وسابقيه في حسن التدريس والتأليف، البارع السابق على أهل عصره ومن سبقه في قبول التصنيف، المتوفّى في السنة الخامسة والثمانين بعد الألف والمائتين، من هجرة رسول الثقلين، ابن مولانا محمد أمين الله، ابن مولانا محمد أكبر، ابن المفتي أحمد أبي الرحم، ابن المفتي يعقوب، ابن مولانا عبد العزيز، ابن مولانا محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 سعيد ابن ملاّ قطب الدين الشهيد السهالوي، وينتهي نسبه إلى سيدنا أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم. وقد ذكرته في رسالتي التي ألفتها في ترجمة الوالد المرحوم المسماة بحسرة العالم في وفاة مرجع العالم، وتراجم كثير من أجدادي وأعزّتي مبسوطة في رسالتي "إنباء الخلان أنباء علماء هندوستان" فلتُطْلَب منها. وكانت ولادتي في بلدة باندا، حين كان والدي مدرِّساً بمدرسة النواب ذي الفقار الدولة المرحوم، في السادس والعشرين من ذي القعدة، يوم الثلاثاء، من السنة الرابعة والستين بعد الألف والمائتين. واشتغلت بحفظ القرآن المجيد من حين كان عمري خمس سنين، وقرأت في أثنائه بعض كتب الإِنشاء والخط وغير ذلك، وفرغت من الحفظ حين كان عمري عشر سنين، وصلَّيْتُ إماماً في التراويح حسب العادة عند ذلك، وكان ذلك في جونفور، حين كان والدي المرحوم مدرِّساً بها في مدرسة الحاج إمام بخش المرحوم. ثم شرعت على حضرة الوالد في تحصيل العلوم، ففرغت من تحصيلها منقولاً ومعقولاً حين كان عمري سبع عشرة سنة، ولم أقرأ شيئاً من كتب العلوم على غيره إلاِّ كتباً عديدة من العلوم الرياضية قرأتها على خال والدي وأستاذه مولانا محمد نعمت الله ابن مولانا نور الله المرحوم، المتوفى في بنارس في المحرم سنة تسعين. وقد ألقى الله في قلبي محبة التدريس والتأليف من بدء التحصيل، فصنفت الدفاتر الكثيرة في الفنون العديدة، ففي علم الصرف: 1 - "امتحان الطلبة في الصيغ المشكلة"، 2 - ورسالة أخرى مسماة بجاركَل، 3 - و "التبيان في شرح الميزان"، وفي علم النحو: 4 - "خير الكلام في تصحيح كلام الملوك ملوك الكلام"، 5 - و "إزالة الجمد عن إعراب أكمل الحمد"، وفي المنطق والحكمة: 6 - تعليقاً قديماً على حواشي غلام يحيى المتعلقة بالحواشي الزاهدية المتعلقة بالرسالة القطبية مسمى بهداية الورى إلى لواء الهدى، 7 - وتعليقاً جديداً عليها مسمّى بمصباح الدجى في لواء الهدى، 8 - وتعليقاً أجدّ مسمّى بنور الهدى لحملة لواء الهدى، 9 - و "التعليق العجيب لحل حاشية الجلال الدَّوَّاني على التهذيب"، 10 - و "حل المغلق في بحث المجهول المطلق"، 11 - و "الكلام المتين في تحرير البراهين" أي براهين إبطال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 اللاتناهي، 12 - و "ميسِّر العسير في بحث المثناة بالتكرير"، 13 - و "الإِفادة الخطيرة في بحث سبع عرض شعيرة"، 14 - وتكملة حاشية الوالد المرحوم على النفيسي شرح الموجز في الطب، وفي علم المناظرة: 15 - "الهدية المختارية شرح الرسالة العضدية"، وفي علم التاريخ: 16 - "حسرة العالم بوفاة مرجع العالم"، 17 - و "الفوائد البهية في تراجم الحنفية"، 18 - و"التعليقات السنية على الفوائد البهية"، 19 - ومقدمة الهداية، 20 - وذيله المسمى بمذيلة الدراية، 21 - ومقدمة الجامع الصغير المسماة بالنافع الكبير، وفي علم الفقه والحديث: 22 - هذه الحاشية المسماة بالتعليق الممجَّد، 23 - و "القول الأشرف في الفتح عن المصحف"، 24 - و "القول المنشور في هلال خير الشهور"، 25 - وتعليقه المسمى بالقول المنثور، 26 - و "زجر أرباب الريان عن شرب الدخان"، 27 - وجعلته جزءاً لرسالة أخرى مسماة بترويح الجنان بتشريح حكم شرب الدخان، 28 - و"الإِنصاف في حكم الاعتكاف"، 29 - و "الإِفصاح عن حكم شهادة المرأة في الرضاع"، 30 - و "تحفة الطلبة في مسح الرقبة"، 31 - وتعليقه المسمى بتحفة الكملة، 32 - وسباحة الفكر في الجهر بالذكر، 33 - و"أحكام القنطرة في أحكام البسملة"، 34 - و "غاية المقال في ما يتعلق بالنعال"، 35 - وتعليقه ظفر الأنفال، 36 - و "السهسهة بنقض الوضوء بالقهقهة"، 37 - و"خير الخبر بأذان خير البشر"، 38 - و "رفع الشر عن كيفية إدخال الميت وتوجيهه إلى القبلة في القبر"، 39 - و "قوت المغتذين بفتح المقتدين"، 40 - و "إفادة الخير في الاستياك بسواك الغير"، 41 - و"التحقيق العجيب في التثويب"، 42 - و "الكلام الجليل فيما يتعلق بالمنديل"، 43 - و "تحفة الأخيار في إحياء سنة سيد الأبرار"، 44 - وتعليقه المسمى بنخبة الأنظار، 45 - و "إقامة الحجة على أن الإِكثار في التعبُّد ليس ببدعة"، 46 - و "تحفة النبلاء فيما يتعلق بجماعة النساء"، 47 - و"الفلك الدوّار فيما يتعلق برؤية الهلال بالنهار"، 48 - و "زجر الناس على إنكار أثر ابن عباس"، 49 - و "الفلك المشحون في انتفاع المرتهن بالمرهون"، 50 - و "الأجوبة الفاضلة للأسئلة العَشَرة الكاملة"، 51 - و"إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإِمام"، 52 - و "تدوير الفلك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 حصول الجماعة بالجن والملك"، 53 - و "نزهة الفكر في سبحة الذكر الملقَّبة بهدية الأبرار في سبحة الأذكار"، 54 - وتعليقه المسمى بالنفحة بتحشية النزهة، 55 - و "آكام النفائس في أداء الأذكار بلسان فارس"، 56 - و "الكلام المبرم في نقض القول المحقق المحكم"، 57 - والكلام المبرور في رد القول المنصور"، 58 - و "السعي المشكور في رد المذهب المأثور"، هذه الرسائل الثلاثة ألّفتُها ردّاً على رسائل من حج ولم يزر قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وافترى على علماء العالم، 59 - و "هداية المعتدين في فتح المقتدين"، 60 - و "دافع الوسواس في أثر ابن عباس رضي الله عنهما"، 61 - و "الآيات البيّنات على وجود الأنبياء في الطبقات"، وهذه الرسائل الستة باللسان الهندية. هذه تصانيفي المدوَّنة إلى هذا الآن، وأما تصانيفي التي لم تتم إلى الآن، وفَّقني الله لاختتامها كما وفقني لبَدْئها: 1 - "المعارف بما في حواشي شرح المواقف"، 2 - و "دافع الكلال عن طلاب تعليقات الكمال على الحواشي الزاهدية المتعلقة بشرح التهذيب للجلال"، 3 - و "تعليق الحمائل على حواشي الزاهد على شرح الهياكل"، 4 - وحاشية بديع الميزان، 5 - ورسالة في تفصيل اللغات، 6 - ورسالة مسماة بتبصرة البصائر في الأواخر، 7 - ورسالة في الأحاديث المشتهرة، 8 - ورسالة في تراجم فضلاء الهند، 9 - ورسالة في الزجر عن الغيبة، 10 - وشرح شرح الوقاية المسمى بالسعاية. وأما تعليقات المتفرقة على الكتب الدرسية، فهي كثيرة، أسأل الله أن يجعل جميع تصنيفاتي وتحريراتي خالصة لوجهه الكريم، ينفع بها عباده، ويجعلها ذريعة لفوزي بالنعيم. وقد أجازني بجميع كتب الحديث، ومنها هذا الكتاب وجميع كتب المعقول والمنقول والفروع والأصول، كثير من المشائخ العظام والفضلاء الأعلام، فمنهم والدي المرحوم أجازني بجميع ما أجازه شيخ الإسلام ببلد الله الحرام مولانا الشيخ جمال الحنفي، المتوفّى في سنة أربع وثمانين بعد الألف والمائتين، ومفتي الشافعية بمكة المعظمة مولانا السيد أحمد بن زيني دحلان، والمدرِّس بالمسجد النبوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 مولانا الشيخ محمد بن محمد الغرب الشافعي، ونزيل المدينة الطيبة مولانا الشيخ عبد الغني ابن الشيخ أبي سعيد المجددي المتوفَّى في سادس المحرم من السنة السادسة والتسعين، ومولانا الشيخ علي ملك باشلي الحريري المدني، ومولانا حسين أحمد المحدث المليح آبادي المتوفي السنة السادسة والسبعين في ومضان، من تلامذة الشيخ عبد العزيز الدهلوي، وغيرهم، عن شيوخهم، وأساتذتهم على ما هو مبسوط في قراطيس إجازاتهم ودفاتر أسانيدهم، وأجازني أيضاً بلا واسطة مولانا السيد أحمد دحلان، عن شيوخه في السنة التاسعة والسبعين حين تشرفت بزيارة الحرمين (في الأصل: "بالحرمين") الشريفين، مع الوالد المرحوم، ومولانا الشيخ علي الحريري المدني شيخ الدلائل أجازني بدلائل الخيرات في أوائل المحرم من سنة ثمانين، حين دخلت المدينة الطيبة، وأيضاً مولانا الشيخ عبد الغني المرحوم تشرفت بملاقاته مرة ثانية في أوائل المحرم من السنة الثالثة والتسعين، ولم يتيسَّر لي طلب الإِجازة منه فلما وصلت إلى الوطن كتبت إليه رقعة بطلب الإِجازة، فكتب إليَّ إجازة بما أجازه به الشيخ مولانا محمد إسحق، والشيخ مخصوص الله ابن مولانا رفيع الدين، ومحدث المدينة مولانا الشيخ عابد السندي مؤلف "حصر (في الأصل: "الحصر الشارد"، وهو خطأ) الشارد" والشيخ إسماعيل أفندي، ووالده مولانا الشيخ أبو سعيد المجددي، وأيضاً أجازني مفتي الحنابلة بمكة المعظمة مولانا محمد بن عبد الله بن حميد المتوفى السنة الخامسة والتسعين، تشرفت بملاقاتة بمكة في ذي القعدة من السنة الثانية والتسعين، وبعث إليَّ ورقة إجازة في السنة الثالثة والتسعين بما أجازه السيد الشريف محمد بن علي السنوسي الحسني عن شيوخه، على ما هو مثبت في كتابه "البدور الشارقة في أثبات ساداتنا المغاربة والمشارقة"، والسيد محمد الأهدل، والسيد محمود أفندي الآلوسي، مفتي بغداد مؤلِّف التفسير المشهور بروح البيان، وغيرهم، وتفصيل أسانيد مشائخي وشيوخ مشائخي، موكول إلى رسالتي "إنباء الخلان بأنباء علماء هندوستان"، وفقني الله لإتمامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الفائدة العاشرة: في نشر مآثر الإِمام محمد وشيخيه أبي يوسف وأبي حنيفة: - وهم المراد بأئمتنا الثلاثة في كتب أصحابنا الحنفية، ويعرف الأوّلان بالصاحبين، والثانيان بالشيخين، والأول والثالث بالطرفين، وقد ذكرت تراجمهم في كثير من الرسائل، كمقدمة الهداية، ومقدمة الجامع الصغير، وطبقات الحنفية، وغيرها، والآن نذكر قدراً ضرورياً منها. - أما محمد، فهو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني (انظر ترجمته في: وفيات الأعيان 1/574، تهذيب الأسماء واللغات 1/80، البداية والنهاية 1/202، الكامل في التاريخ 6/14، طبقات الفقهاء للشيرازي 114، تاريخ بغداد 2/172 - 182، الفوائد البهية 163) نسبة ولاء إلى شيبان، بفتح الشين المعجمة، قبيلة معروفة، الكوفي، صاحب الإمام أبي حنيفة، أصله من دمشق، من أهل قرية يُقال لها حَرسَتا، بفتح الحاء المهملة وسكون الراء المهملة وفتح السين المهملة، قدم أبوه العراق، فوُلد له محمد بواسط، ونشأ بالكوفة، وتلمذ لأبي حنيفة، وسمع الحديث عن مسعر بن كدام، وسفيان الثوري، وعمرو بن دينار، ومالك بن مغول، والإمام مالك بن أنس، والأَوزاعي، وربيعة بن صالح، وبكير، والقاضي أبي يوسف، وسكن بغداد وحدّث بها، وروى عنه الإمام الشافعي محمد بن إدريس، وأبو سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني، وهشام بن عبيد الله الرازي، وأبو عبيد القاسم بن سلاّم، وعلي بن مسلم الطوسي، وأبو حفص الكبير، وخلف بن أيوب. وكان الرشيد ولاّه القضاء بالرقة، فصنف كتاباً مسمّى بالرقيات، ثم عزله، وقدم بغداد، فلما خرج هارون الرشيد إلى الري الخرجة الأولى، أمره، فخرج معه، فمات بالري، سنة تسع وثمانين ومائة. وحُكي عنه أنه قال: مات أبي، وترك ثلاثين ألف درهم، فأنفقت خمسة عشرة ألفاً على النحو والشعر، وخمسة عشر ألفاً على الحديث والفقه، وقال الشافعي: ما رأيت سميناً أخف روحا من محمد بن الحسن، وما رأيت أفصح منه، كنت أظنّ إذا رأيتُه يقرأ القرآن كأن القرآن نزل بلغته، وقال أيضاً: ما رأيت أعقل من محمد بن الحسن، وروي عنه أن رجلاً سأله عن مسألة فأجابه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فقال الرجل: خالفك الفقهاء: فقال له الشافعي: وهل رأيتَ فقيهاً قط؟ اللهم إلاَّ أن يكون رأيت محمد بن الحسن. ووقف رجل على المزني، فسأله عن أهل العراق، فقال: ما تقول في أبي حنيفة؟ فقال: سيدهم، قال" أبو يوسف؟ قال: أتبعهم للحديث، قال: فمحمد بن الحسن؟ قال: أكثرهم تفريعاً؟ قال: فزفر أحدُّهم قياساً، وروي عن الشافعي أنه قال: ما ناظرتُ أحداً إلاَّ تغَّير وجهه ما خلا محمد بن الحسن، ولو لم يعرف لسانهم لحكمنا أنهم من الملائكة، محمد في فقهه، والكِسَائي في نحوه، والأصمعي في شعره، وروي عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا كان في المسألة قول ثلاثة لم يُسمع مخالفتهم، فقيل له: من هم؟ قال: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، فأبو حنيفة أبصرهم بالقياس وأبو يوسف أبصر الناس بالآثار، ومحمد أبصر الناس بالعربية. هذا كله أورده السمعاني في "كتاب الأنساب" (7/431 ط بيروت) . وقال أبو عبد الله الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/513) : محمد بن الحسن الشيباني أبو عبد الله أحد الفقهاء ليَّنه النسائي وغيره من قِبَل حفظه، يروي عن مالك بن أنس وغيره، وكان من بحور العلم والفقه، قوياً في مالك. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (5/121 - 122) : هو محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني مولاهم، ولد بواسط، ونشأ بالكوفة، وتفقّه على أبي حنيفة، وسمع الحديث من الثوري ومسعر وعمر بن ذر، ومالك بن مغول، والأوزاعي، ومالك بن أنس، وربيعة بن صالح، وجماعة، وعنه الشافعي، وأبو سليمان الجوزجاني، وهشام الرازي، وعلي بن مسلم الطوسي، وغيرهم، ولي القضاء في أيام الرشيد، وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال محمد: أقمت على باب مالك ثلاث سنين، وسمعت منه أكثر من سبعمائة حديث، وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: حملت عن محمد وِقْر بعير كتباً، وقال عبد الله بن علي المديني، عن أبيه في حق محمد بن الحسن: صدوق. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وفي "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (هو يحيى بن شرف بن حسن النووي الدمشقي شارح "صحيح مسلم" المتوفى سنة 677 هـ) : قال الخطيب: وُلد محمد بواسط ونشأ بالكوفة، وسمع الحديث بها من أبي حنيفة ومسعر بن كدام وسفيان الثوري وعمر بن ذر، ومالك بن مغول، وكتب أيضاً عن مالك بن أنس، وربيعة بن صالح، وبكير بن عامر، وأبي يوسف، وسكن بغداد، وحدث بها، وروى عنه الشافعي وأبو سليمان الجوزجاني، وأبو عبيد وغيرهم، وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي: كان أصل محمد من الجزيرة، وكان أبوه من جند الشام، فقدم واسطاً، فولد له (في الأصل: "فولد بها"، وهو تحريف) محمد سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ونشأ بالكوفة، وطلب الحديث، وسمع سماعاً كثيراً، وجالس أبا حنيفة وسمع منه، ونظر في الرأي فغَلب (في الأصل: "فغلبت"، وهو تحريف) عليه، وعُرف به، وتقدم فيه، وقدم بغداد، فنزل بها، واختلف إليه الناس وسمعوا منه الحديث والرأي، وخرج إلى الرقة، وهارون الرشيد فيها، فولاه قضاءها، ثم عزله، فقدم بغداد، فلما خرج هارون إلى الريّ أمره فخرج معه، فمات فيها سنة تسع وثمانين. ثم روى الخطيب بإسناده إلى الشافعي، قال: قال محمد بن الحسن: أقمت على باب مالك ثلاث سنين وكسراً، قال: وكان يقول إنه سمع لفظاً أكثر من سبعمائة حديث، وكان إذا حدثهم عن مالك امتلأ منزله، وكثر الناس حتى يضيق عليهم الموضع، وبإسناده عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، قال: كان محمد يجلس في مسجد الكوفة وهو ابن عشرين سنة، وبإسناده عن الشافعي، قال: ما رأيت مبدناً قط أذكى من محمد بن الحسن، وعنه: كان إذا أخذ في المسألة كأنه قرآن ينزل، لا يقدّم حرفاً ولا يؤخِّره، وعنه كان محمد يملأ العين والقلب، وعنه قال: حملت عنه وِقْري بختي كتباً، وعن يحيى بن معين قال: كتبت "الجامع الصغير" عن محمد بن الحسن، وعن أبي عبيد: ما رأيت أعلم في كتاب الله منه، وعن إبراهيم الحربي، قال: قلت لأحمد: من أين لك هذه المسائل الدقيقة؟ قال: من كتب محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الحسن، وبإسناده عن أبي رجاء عن محموية، قال: وكنا نُعدّه من الأبدال، قال: رأيت محمد بن الحسن في المنام، فقلت: يا أبا عبد الله، إلاَم صرتَ؟ قال: قال لي ربي: إني لم أجعلك وعاء للعلم وأنا أريد أن أعذّبك، قلت: ما فعل أبو يوسف؟ قال: فوقي (أي فوق محمد بن الحسن) قلت: فأبو حنيفة؟ قال: فوقه بطبقات كثيرة. انتهى (الأسماء واللغات 1/80 - 82) ملخصاً. قلت: بهذه العبارات الواقعة من الأثبات وغيرها من كلمات الثقات التي تركنا ذكرها خوفاً من التطويل، يظهر جلالة قدره وفضله الجميل، فمن طعن عليه كأنه لم تَقْرَع سمْعَه هذه الكلمات، ولم يصل بصره إلى كتب النقاد الأثبات، وكفاك مدح الشافعي له بعبارات رشيقة وكلمات لطيفة، وروايته عنه. وقد أنكر ابن تيمية (يعني أحمد بن عبد الحليم الحَرَّاني الدمشقي المتوفى سنة 728 هـ. (ش)) في "منهاج السنة" الذي ألَّفه في ردّ "منهاج الكرامة" للحِلِّي (يعني الحسن بن يوسف بن مطهَّر الحِلِّي تلميذ الطوسي المتوفى سنة 726 هـ. (ش)) الشيعي تلمذَ الشافعي منه، وقد كذّبه مَنْ قبله كالنووي والخطيب والسمعاني وغيرهم وهم أعلم منه بحال إمامهم. - أما أبو يوسف: فهو القاضي يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الكوفي، ذكره الذهبي في حفاظ الحديث في كتابه "تذكرة الحفاظ" (1/292 - 294. وله ترجمة في: وفيات الأعيان 6/378، الجواهر المضيّة 2/220، ومرآة الجنان 1/382، البداية والنهاية 10/180، وبروكلمان 3/245، وعبر الذهبي 1/284، النجوم الزاهرة 2/107) ، وقال في ترجمته: سمع هشام بن عروة، وأبا إسحق الشيباني، وعطاء بن السائب وطبقتهم، وعنه محمد بن الحسن الفقيه، وأحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد، ويحيى بن معين وعلي بن الجعد، وعلي بن مسلم الطوسي، وخلق سواهم، نشأ في طلب العلم، وكان أبوه فقيراً، فكان أبو حنيفة يتعاهده، قال المزني: أبو يوسف أتبع القوم للحديث، وروى إبراهيم بن أبي داود عن يحيى بن معين، قال: ليس في أهل الرأي أحد أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 حديثاً ولا أثبت منه، وروى عباس عنه قال: أبو يوسف صاحب حديث، وصاحب سنة، وقال ابن سماعة: كان أبو يوسف يصلي بعدما ولي القضاء في كل يوم مائتي ركعة، وقال أحمد: كان منصفاً في الحديث، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة، وله أخبار في العلم والسيادة، وقد أفردته وأفردت صاحبه محمد بن الحسن في جزء. انتهى ملخصاً. قال السمعاني (ص 439 ط قديم) : سمع أبا إسحق الشيباني، وسليمان التيمي، ويحيى بن سعيد (في الأصل: "سعد"، وهو تحريف) ، وسليمان الأعمش، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر العمري، وعطاء بن السائب، ومحمد بن إسحق، وليث بن سعد، وغيرهم، وتلمذ لأبي حنيفة، وروى عنه محمد بن الحسن، وبشر بن الوليد الكندي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وغيرهم، وكان قد سكن بغداد، وولي قضاء القضاة، وهو أول من دُعي بقاضي القضاة في الإسلام، ولم يختلف يحيى بن معين وأحمد وابن المديني في كونه ثقة في الحديث، وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، ونشر علمه في أقطار الأرض. انتهى. - وأما أبو حنيفة: فله مناقب جميلة، ومآثر جليلة، عقل الإِنسان قاصر عن إدراكها، ولسانه عاجز عن تبيانها، وقد صنّف في مناقبه جمع من علماء المذاهب المتفرقة، ولم يطعن عليه إلاَّ ذو تعصُّبٍ وافرٍ أو جهالة مبيّنة، والطاعن عليه إن كان محدثاً أو شافعياً نعرض عليه كتب مناقبه التي صنفه علماء مذهبه، ونبرز عنده ما خفي عليه من مناقبه التي ذكرها فضلاء مسلكه، كالسيوطي مؤلِّف "تبييض الصحيفة في مناقب الإِمام أبي حنيفة"، وابن حجر المكي مؤلِّف "الخيرات الحسان في مناقب النعمان"، وكالذهبي ذكره في "تذكرة الحفاظ" و "الكاشف"، وأثنى عليه وأفرد في مناقبه رسالة (قد طُبعت هذه الرسالة بعنوان مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، بتحقيق الشيخ محمد زاهد الكوثري، والشيخ أبي الوفاء الأفغاني في بيروت سنة 1408 هـ) ، وابن خَلِّكان ذكر مناقبه في تاريخه، واليافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 مؤلِّف "مرآة الجنان" ذكر مناقبه فيه، والحافظ ابن حجر العسقلاني ذكره في "التقريب" وغيره، وأثنى عليه، والنووي شارح صحيح مسلم أثنى عليه في "تهذيب الأسماء واللغات"، والإِمام الغزالي أثنى عليه في "إحياء العلوم"، وغيرهم، وإن كان مالكياً نوقفه على مناقبه التي ذكرها علماء مشربه كالحافظ ابن عبد البر وغيره، وإن كان حنبلياً نطلعه على تصريحات أصحاب مذهبه كيوسف بن عبد الهادي الحنبلي مؤلف "تنوير الصحيفة في مناقب أبي حنيفة"، وإن كان من المجتهدين المرتفع عن درجة المقلّدين نسمعه ما جرى على لسان المجتهدين والمحدثين من ذِكْر مفاخره وسرد مآثره، وإن كان عامياً لا مذهب له، فهو من الأنعام، بل هو أضل نقوم عليه بالنكير، ونجعله مستحقاً للتعزيز. وكفاك من مفاخره التي امتاز بها بين الأئمة المشهورين كونه من التابعين، وهو وإن كان مختلَفاً فيه كما قال ابن نجيم المصري في "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" في بحث عدم قبول شهادة من يُظهر سب السلف: السب، الشتم، والسلف كما في "النهاية": الصحابة والتابعون وأبو حنيفة. انتهى. وزاد في "فتح القدير"، وكذا العلماء، والفرق بين السلف والخلف، أن السلف الصالح الصدر الأول من الصحابة والتابعين، والخلف: بفتح اللام، مَنْ بعدهم في الخير، وبالسكون في الشر. كذا في "مختصر النهاية" وعَطْفُ أبي حنيفة على التابعين إما عطف خاص على عام بناءً على أنه منهم كما في "مناقب الكردري"، وصرح به في "العناية"، أو ليس منهم بناء على ما صرح به شيخ الإِسلام ابن حجر، فإنه جعله من الطبقة السادسة ممن عاصر صغار التابعين، ولكن لم يثبت له لقاء أحد من الصحابة، ذكره في "تقريب التهذيب". انتهى كلام البحر، لكن الصحيح المرجَّح هو كونه من التابعين، فإنه رأى أنساً رضي الله عنه بناءً على أن مجرَّد رؤية الصحابة كافٍ للتابعية كما حققه الحافظ ابن حجر في غير "التقريب" والذهبي والسيوطي وابن حجر المكي وابن الجوزي والدارقطني وابن سعد والخطيب والولي العراقي وعلي القاري وأكرم السندي وأبو معشر وحمزة السهمي واليافعي والجزري والتوربشتي والسراج وغيرهم من المحدثين والمؤرخين المعتبرين، ومن أنكره فهو محجوج عليه بأقوالهم، وقد ذكرت تصريحاتهم وعباراتهم في رسالتي "إقامة الحجة على أن الإِكثار في التعبد ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ببدعة" (طُبعت هذه الرسالة في حلب 1386 هـ) . قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (1/168) : أبو حنيفة الإِمام الأعظم فقيه العراق النعمان بن ثابت هو زوطا التيمي الكوفي، مولده سنة ثمانين، رأى أنس بن مالك غير مرة لما قدم عليهم الكوفة، رواه ابن سعد عن سيف بن جابر عن أبي حنيفة أنه كان يقوله، وحدث عن عطاء ونافع وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وسلمة بن كهيل وأبي جعفر محمد بن علي وقتادة وعمرو بن دينار وأبي إسحق وخلق كثير، تفقّه به زفر بن هذيل وداود الطائي والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو والحسن بن زياد ونوح الجامع وأبو مطيع البلخي، وعدة، وكان تفقه بحماد بن أبي سليمان وغيره، وحدّث عنه وكيع ويزيد بن هارون وسعد بن الصلت وأبو عاصم وعبد الرزاق وعبيد الله بن موسى، وبشر كثير، وكان إماماً، ورِعاً، عالماً، عاملاً، متعبّداً، كبير الشأن، لا يقبلُ جوائز السلطان، بل يتّجر ويتكسب، قال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس، وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، وروى أحمد بن محمد بن القاسم عن يحيى بن معين، قال: لا بأس به، ولم يكن متّهماً، ولقد ضربه يزيد بن هبيرة على القضاء، فأبى أن يكون قاضياً، وقال أبو داود: إن أبا حنيفة كان إماماً، وقال بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، قال: كنت أمشي مع أبي حنيفة، فقال رجل لآخر: هذا أبو حنيفة، لا ينام الليل، فقال: والله لا يتحدث الناس عني بما لم أفعل، فكان يُحيي الليل صلاةً ودعاءً وتضرُّعاً. قلت: مناقب هذا الإمام قد أفردتها في جزء. انتهى كلامه. وقد ذكر النووي في "تهذيب الأسماء" (1/216 - 223) كثيراً من مناقبه في أربع ورقات، نقلاً عن الخطيب وغيره، وذكر أنه وُلد سنه ثمانين، وتوفي ببغداد سنة خمسين ومائة، على الصحيح المشهور بين الجمهور، وفي رواية غريبة أنه توفي سنة إحدى وخمسين، وعن مكي بن إبراهيم أنه توفي سنة ثلاث وخمسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وقال ابن حجر المكي في "الخيرات الحسان" (ص 74) ، بعدما ذكر محاسنه ومحامده في ستةٍ وثلاثين فصلاً، في الفصل السابع والثلاثين، قال الحافظ ابن عبد البر ما حاصله: إنه أفرط بعض أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة، وتجاوزوا الحد في ذلك، لتقديمه القياس على الأثر، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الحديث بطل الرأي والقياس، لكنه لم يرو إلاَّ بعض أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره وتابعه عليه مثله كإبراهيم النخعي وأصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، إلاَّ أنه أكثر من ذلك هو وأصحابه، وغيره إنما يوجَد له ذلك قليلاً، ومن ثَمّ لما قيل لأحمد: ما الذي نُقم عليه؟ قال: الرأي، قيل: أليس مالك تكلم بالرأي، قال: بلى، ولكن أبو حنيفة أكثر رأياً منه، قيل: فهل أتكلم في هذا بحصته وهذا بحصته؟ فسكت أحمد، وقال الليث بن سعد: أحصيت على مالك سبعين مسألة، قال فيها برأيه، وكلها مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم نجد أحداً من علماء الأمة أثبت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردَّه إلاَّ بحجة كادِّعاء نسخ أو بإجماع أو طعن في سنده، ولو ردَّه أحد من غير حجة لسقطت عدالته، فضلاً عن إمامته، ولزمه اسمُ الفسق، وعافاهم الله عن ذلك، وقد جاء عن الصحابة اجتهادهم بالرأي، القول بالقياس على الأصول ما سيطول ذكره، وكذلك التابعون. انتهى كلام ابن عبد البَرّ. والحاصل أن أبا حنيفة لم ينفرد بالقول بالقياس، بل على ذلك عامة عمل فقهاء الأمصار. انتهى. وفي الخيرات الحسان، في الفصل الثامن والثلاثين (ص 84) : قال أبو عمر يوسف ابن عبد البر (في جامع بيان العلم وفضله 2/149) : الذين رَوَوْا عن أبي حنيفة، ووثّقوه، وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلّموا فيه، والذين تكلموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس، أي وقد مرّ (أي عند ابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/148) أن ذلك ليس بعيب، وقد قال الإمام علي بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 المديني: أبو حنيفة روى عنه الثوري، وابن المبارك، وحماد بن زيد، وهشام، ووكيع، وعباد بن العوام، وجعفر بن عون وهو ثقة لا بأس به، وكان شعبة حسن الرأي فيه، وقال يحيى بن معين: أصحابنا (يعني: أهل الحديث) يفرطون في أبي حنيفة وأصحابه، فقيل له: أكان يكذب؟ قال: لا. وفي "طبقات شيخ الإسلام التاج السبكي" (1/188) ، الحذر كل الحذر أن تفهم أن قاعدتهم أن الجرح مقدَّم على التعديل، على إطلاقها، بل الصواب أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه وندر جارحه، وكانت هناك قرينة دالّة على سبب جرحه من تعصب مذهبيّ أو غيره لم يُلتفت إلى جرحه، ثم قال أي التاج السبكي (طبقات الشافعية 1/190) بعد كلام طويل: قد عرفناك أن الجارح لا يُقبل فيه الجرح وإن فسّره في حقّ من غلبت طاعاته على معصيته، ومادحوه على ذامِّيه، ومزكُّوه على جارحيه، إذا كانت هناك قرينة تشهد بأن مثلها حامل على الوقيعة فيه من تعصب مذهبي أو مناقشة دنيوية، وحينئذ فلا يلتفت لكلام الثوري (قول الثوري وغيره في أبي حنيفة غير موجود في "الطبقات" المطبوعة، وهو موجود في "الخيرات الحسان": (ص 74) نقلاً عن "الطبقات" فلعلها في بعض النسخ!) في (أبو حنيفة) ، وابن أبي ذئب وغيره في (مالك) ، وابن معين في (الشافعي) ، والنسائي في (أحمد بن صالح) ونحوه، قال: ولو أطلقنا تقديم الجرح لما سلم لنا أحد من الأئمة إذ ما من إمام إلاَّ وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون. انتهى. وفيه (الخيرات الحسان في مناقب النعمان ص 76) أيضاً في الفصل التاسع والثلاثين في رد ما نقله الخطيب في تاريخه من القادحين فيه (أي في أبي حنيفة رحمه الله تعالى (ش)) : علم أنَّه لم يقصد بذلك إلاَّ جمعَ ما قيل في الرجل على عادة المؤرِّخين، ولم يقصد بذلك انتقاصه، ولا حطّ مرتبته بدليل أنّه قدم كلام المادحين، وأكثر منه ومِن نَقْل مآثره، ثم عقبه بذكر كلام القادحين، ومما يدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ذلك أيضاً أن الأسانيد التي ذكرها للقدح لا يخلو غالبها من متكلَّم فيه أو مجهول، ولا يجوز إجماعاً ثلمُ عِرض مسلم بمثل ذلك، فكيف بإمام من أئمة المسلمين، وبفرض صحة ما ذكره الخطيب من القدح عن قائله لا يُعتدّ به، فإنه إن كان من غير أقران الإمام فهو مقلِّد لما قاله أو كتبه أعداؤه، وإن كان من أقرانه فكذلك لما مرّ أن قول الأقران بعضهم في بعض غير مقبول، وقد صرح الحافظان: الذهبي وابن حجر بذلك، قالا: لا سيما إذا لاح أنه لعداوة أو لمذهب، إذ الحسد لا ينجو منه إلاَّ من عصمه الله، قال الذهبي: وما علمت أن عصراً سلم أهله من ذلك إلاَّ عصر النبيين والصدقين، وقال التاج السبكي: ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلُكَ سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض، إلاَّ إذا أُتي ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وحسن الظن، فدونك، وإلاَّ فاضربْ صفحاً عما جرى بينهم، وإياك، ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري، أو بين مالك وابن أبي ذئب، أو بين النسائي وأحمد بن صالح، أو بين أحمد والحارث بن أسد المحاسبي، وهلمّ جرّاً، إلى زمان العز بن عبد السلام والتقيّ بن الصلاح، فإنك إذا اشتغلت بذلك وقعت على الهلاك، فالقوم أئمة أعلام، ولأقوالهم محامل، وربما لم نفهم بعضها فليس لنا إلاَّ التراضي والسكوت عما جرى بينهم، كما نفعل فيما جرى بين الصحابة. انتهى. وفيه أيضاً في "الفصل السادس": صح كما قاله الذهبي أنه رأى أنس بن مالك وهو صغير، وفي رواية مراراً، وكان يخضب بالحمرة، وأكثر المحدثين على أن التابعي من لقي الصحابي، وإن لم يصحبه، وصححه النووي كابن الصلاح، وجاء من طرق أنه روى عن أنس أحاديث ثلاثة (انظر أسماء الصحابة الذين سمع منهم أبو حنيفة في "الجواهر المضية في طبقات الحنفية" للقرشي 1/28) ، لكن قال أئمة الحديث: مدارها على من اتهمه الأئمة بالأحاديث، وفي "فتاوى شيخ الإِسلام ابن حجر" أنه أدرك جماعة من الصحابة كانوا بالكوفة، لأن مولده بها سنة ثمانين، فهو من طبقة التابعين، ولم يثبت ذلك لأحد من أئمة الأمصار المعاصرين له، كالأوزاعي بالشام، والحمّادَيْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 بالبصرة، والثوري بالكوفة، ومالك بالمدينة، والليث بن سعد بمصر. انتهى كلام الحافظ، فهو من أعيان التابعين الذين شملهم قوله تعالى: (والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإحْسَانٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَرَضُواعنه) (سورة التوبة: آية 100) . انتهى. قلت: فهذه العبارات الواردة عن الثقات، لعلها لم تقرع سمع جهلاء عصرنا حيث يطعنون على أبي حنيفة ويحطّون درجته عن المراتب الشريفة، ويأبى الله إلاَّ أن يتم نوره ولو كره الكارهون: {وسيعلمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي مُنقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (سورة الشعراء: آية 227) . وخلاصة ما اشتهر بينهم، والعجب أنه أدرج بعضَها بعضُهُم في تصانيفهم، أمور: منها: أنه كان يقدم القياس على السنن النبوية، وهذا فرية بلا مرية، ومن شك في ذلك، فليطالع "الخيرات الحسان" و "الميزان" يظهر له أن زعمه موقع له في خسران. ومنها: أنه كان كثير الرأي ولذا سمَّى المحدثون أصحابه بأصحاب الرأي. وهذا ليس بطعن بالحقيقة، فإن كثرة الرأي والقياس دالّة على نباهة الرجل ووفور عقله عند الأكياس، ولا يفيد العقل بدون النقل ولا النقل بدون العقل، واعتقادنا واعتقاد كل منصف في حقه أنه لو أدرك زماناً كثرت فيه رواية الأحاديث وكشف المحدثون عن جمالها القناع بالكشف الحثيث لقل القياس في مذهبه، كما حققه عبد الوهاب الشعراني في ميزانه (1/53) ، وملاّ معين في كتابه "دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب". ومنها: أنه قليل الرواية للأخبار النبوية، وهذا أيضاً ليس بطعن في الحقيقة، فإن مرتبته في هذا تُشابه المرتبة الصِّدِّيقّية، فإن كان هذا طعناً، كان أبو بكر الصديق أفضل البشر بعد الأنبياء بالتحقيق مطعوناً، فإنه أيضاً قليل الرواية بالنسبة إلى بقية الصحابة، حاشاهم، ثم حاشاهم عن هذه الوسمة. ومنها: أنه كان كثير التعبُّد حتى إنه كان يُحيي الليل كلَّه، وهو بدعة ضلالة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وهذا قول صدر عن غفلة، ولقد قفَّ شعري من سماعه، ووقعت في التعجب من قائله، فإن كثرة العبادة حسب الطاقة كإحياء الليلة كلها وختم القرآن في ليلة، وأداء ألف ركعة، ونحو ذلك منقول بالنقول الصحيحة عن كثير من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الفقهاء والمحدثين، كعثمان، وعمر، وابن عمر، وتميم الداري، وعلي، وشداد بن أوس رضي الله عنهم، ومسروق، والأسود النخعي، وعروة بن الزبير، وثابت البناني، وزين العابدين علي بن الحسين، وقتادة، ومحمد بن واسع، ومنصور بن زاذان، وعلي بن عبد الله بن عباس، والإِمام الشافعي، وسعد بن إبراهيم الزهري، وشعبة بن الحجاج، والخطيب البغدادي، وغيرهم ممن لا يُحصى عددهم، فيلزم أن يكون هؤلاء كلُّهم من المبتدعين، ومن التزمه فهو أكبر المبتدعين الضالِّين، وقد حققت المسألة مع ما لها وما عليها في "إقامة الحجة" (طبع من حلب: كتاب "إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبُّد ليس ببدعة" بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة) . ومنها: أنه قد جرحه سفيان الثوري والدارقطني والخطيب والذهبي وغيرهم من المحدثين. وهذا قول صدر عن الغافلين، فإن مطلق الجرح إن كان عيباً يُترك به المجروح، فليترك البخاري ومسلم والشافعي، وأحمد ومالك ومحمد بن إسحق صاحب المغازي، وغيرهم من أجلّة أصحاب المعاني، فإن كلاًّ منهم مجروح ومقدوح، بل لم يسلم من الجرح أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل يقول قائل: بقبول الجرح فيهم؟ كلا، والله لا يقول به من هو من أرباب العقول، وإن كان بعض أقسام الجرح موجباً لترك المجروح، فالإِمام بريء عنه عند أرباب الإِنصاف والنصوح، فإن بعض الجروح التي جرح بها (في الأصل: "به"، وهو تحريف) مبهم، كقول الذهبي في "ميزان الاعتدال" (ميزان الاعتدال: 1/226) : إسماعيل بن حماد بن الإِمام أبي حنيفة ثلاثتهم ضعفاء. انتهى. وقد تقرر في الأصول أنه لا يُقبل الجرح المبهم، لا سيما في حق من ثبتت عدالته، وفسرت تعديلاته، واستقرت إمامته، وقد بسطت الكلام في هذه المسألة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 في رسالتي "الكلام المبرور والسعي المشكور على رغم أنف من خالق الصحيح والجمهور"، وبعض الجروح صدر من معاصريه وقد تقرر في مقرِّه أن جرح المعاصر لا يُقبل في حق المعاصر، لا سيما إذا كانت لتعصب أو عداوة (قد بسطه المؤلف في كتابه الجرح والتعديل ص 189) ، وإلاَّ فليقبل جرح ابن معين في الشافعي، وأحمد في الحارث المحاسبي، والحارث في أحمد، ومالك في محمد بن إسحق صاحب حديث القُلّتين (قد استوفى المؤلف رحمه الله توثيق (محمد بن إسحاق) في كتابه (إمام الكلام) كل الاستيفاء حتى استوعب عشر صفحات: (ص 192 - 201)) ، والقراءة خلف الإِمام وغيرهم. كلا، والله لا نقبل كلامهم فيهم ونوفيهم حظهم، وبعض الجروح صدر من المتأخرين المتعصِّبين كالدارقطني، وابن عدي، وغيرهما، ممن تشهد القرائن الجلية بأنه في هذا الجرح من المتعسفين، والتعصب أمر لا يخلو منه البشر إلاَّ من حفظه خالق القُوى والقُدَر، وقد تقرر أن مثل ذلك غير مقبول من قائله، بل هو موجب لجرح نفسه، ولقد صدق شيخ الإِسلام بدر الدين محمود العيني في قوله في بحث قراءة الفاتحة من "البناية شرح الهداية"، في حق الدارقطني: من أين له تضعيف أبي حنيفة؟ وهو مستحِقّ للتضعيف، فإنه روى في "مسنده" أحاديث سقيمة، ومعلولة، ومنكرة، وغريبة، وموضوعة. انتهى، وفي قوله في بحث إجارة أرض مكة ودورها: وأما قول ابن القطان: وعلّته ضعف أبي حنيفة، فإساءة أدب، وقلة حياء منه، فإن مثل الإِمام الثوري، وابن المبارك وأضرابهما وثّقوه وأثَنْوا عليه خيراً فما مقدار من يضعّفه عند هؤلاء الأعلام. انتهى. وهناك خلق لهم تشدّد في جرح الرواة يجرحون الرواة من غير مبالاة ويدرجون الأحاديث الغير الموضوعة في الموضوعات، منهم: ابن الجوزي، والصغاني، والجوزقاني، والمجد الفيروزآبادي، وابن تيمية الحَرَّاني الدمشقي، وأبو الحسن بن القطان وغيرهم كما بسطته في "الكلام المبرم" و "الأجوبة الفاضلة" فلا يجترئ على قبول قولهم من دون التحقيق إلاَّ من هو غافل عن أحوالهم، ومنهم من عادتُهُ في تصانيفه كابن عدي في "كامله"، والذهبي في "ميزانه" أنه يذكر كل ما قيل في الرجل من دون الفصل بين المقبول والمهمل، فإيّاك، ثم إيّاك أن تجرح أحداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 بمجرد قولهم من دون تنقيده بأقوال غيرهم، كما ذكرتُ كل ذلك في "السعي المشكور في ردّ المذهب المأثور"، وبعض الجروح لا تثبت برواية معتبرة كروايات الخطيب في جرحه، وأكثر من جاء بعده عيال على روايته، فهي مردودة ومجروحة. ومنها: أن كثيراً من تلامذته كانوا من الوضّاعين والمجروحين: كنوح الجامع، وأبي مطيع البلخي، والحسن اللؤلؤي. وهذا جرح مخالف لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ولو كان هذا جرحاً لكان كثير من سادات أهل البيت كجعفر الصادق، ومحمد الباقر، ومن فوقهما من المجروحين، فإن كثيراً من تلامذتهم كانوا رفاضاً كذابين. ومنها: أنه روى كثيراً عن الضعفاء. وهذا أمر مشترك بين العلماء، فإن كثيراً من رواة الشافعي ومالك وأحمد والبخاري ومسلم ومن يحذو حذوهم كانوا ضعفاء. ومنها: أنه كان قليل العربية، وهذا الطعن أدرجه بعضهم في تصانيفهم، مع كونه غير قادح عند أهل الحديث وحَمَلة الأخبار، ومع تصريح الثقات بجوابه والاعتذار كما في "تاريخ" ابن خَلَّكان بعد ذكر كثير من مناقبه، وكثير من مدائحه: وقد ذكر الخطيب في "تاريخه" شيئاً كثيراً منها، ثم أعقب ذلك بذكر ما كان الأليق تركه والإِضراب عنه، فمثل هذا الإِمام لا يُشَكّ في دينه، ولا في ورعه ولا تحفّظه، ولم يكن يُعاب بشيء سوى قلة العربية، فمن ذلك ما رُوي أن أبا عمرو بن العلاء المُقرئ النَّحْوي سأله عن القتل بالمُثَقَّل: هل يوجب القَوَد أم لا؟ كما هو عادة مذهبه خلافاً للشافعي، فقال له أبو عمرو: ولو قتله بحجر المنجنيق؟ فقال: ولو قتله بأبا قبيس يعني الجبل المُطِلّ بمكة، وقد اعتذروا عن أبي حنيفة أنه قال ذلك على لغة من يقول: إن الكلمات الست المعربة بالحروف وهي أبوه وأخوه وحَمُوه وهَنُوه وفُوه وذو مال، إعرابها يكون في الأحوال الثلاث بالألف، وأنشدوا في ذلك: إن أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها انتهى. وبالجملة فمناقب الإِمام لا تُحصى ولا تعد، ومعائبه وجروحه غير مقبولة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 المعتمد، وما مَثَله في ذلك إلاَّ كمثل خاتم أنبياء بني إسرائيل سيدنا عيسى وخاتم الخلفاء الأربعة عليٍّ المرتضى، حيث هلك فيهما مُحِبٍّ مفرط ومبغض مفرط، وكمثل سعد حيث شكاه عند عمر أهلُ الكوفة في كل شيء، حتى قالوا: إنه لا يحسن يصلي، فبرّأه الله مما قالوا، وهلكوا بدعائه المستجاب، وخسروا كما لا يخفى على ناظر كتب الصحاح والسنن المسانيد. ومن أراد الاطلاع على التفصيل في محاسنه، فليرجع إلى كتب مناقبه وغيرها فتندفع بها المعائب التي توهَّمها، وفيما ذكرناه كفاية لأرباب الإِنصاف، وأما أهل الاعتساف، فهم مطروحون خامدون، لا يليق أن يخاطَب بهم أرباب الانتصاف، ولا حاجة لنا إلى أن نمدحه بمدائح كاذبة ومحاسن غير ثابتة كما ذكر جماعة من المحبَّين المفرطين أنه تعلم منه الخضر على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأن عيسى حين ينزل في زمن الدجّال، والإِمام مهدي، يحكمان بمذهبه، وأنه بشّر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "يكون في أمتي رجل يُكنى بأبي حنيفة ويسمّى بالنعمان ... " الحديث، فإن أمثال هذه الأخبار كلها موضوعة، وأشباه تلك المناقب كلها مكذوبة كما حققه علي القاري في "المشرب الوردي بمذهب المهدي"، والسيوطي في "الإِعلام بحكم عيسى عليه السلام"، وابن حجر في "الخيرات الحسان في مناقب النعمان". الفائدة الحادية عشرة: [أهمية رواية محمد، وترجيحها على رواية يحيى المشهورة] - قد كثر الاعتماد على موطأ مالك برواية يحيى الأندلسي الليثي المصمودي الذي شرحه الزرقاني وغيره، ومر أنه المتبادر بالموطأ عند الإِطلاق، واشتهر فيما بين الموطأ (أي بين روايات الموطأ) اشتهاراً كثيراً في الآفاق، وأكبّ عليه العلماء ممن هو في عصرنا، وكثير ممن سبقنا بتدريسه ومدُّوا إليه الأعناق، وظن كثير منهم أن الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني (اختلف العلماء في تسمية هذا الكتاب فمنهم من قال موطأ محمد، ومنهم من قال موطأ مالك برواية محمد بن حسن الشيباني، وهذا هو الأنسب عندي، وقد حقق ذلك أخونا الدكتور الفاضل محمد بن علوي المالكي الحسني في كتابه "أنوار المسالك إلى روايات موطأ مالك ص 172" طبع بدولة قطر) ليست بذاك، وأنها ليست معتبرة، ولا داخلة في ما هنالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 والذي أقول طالباً الإنصاف من نقاد الفحول: أن الوجوه التي تخطر بالأوهام باعثة على عدم الاعتماد عليه (في الأصل: "إليه"، والصواب: "عليه") كلها غير مقبولة عند الأعلام، بل له ترجيح على الموطّأ برواية يحيى، وتفضيل علية، لوجوه مقبولة عند أولي الإفهام. الأول: أن يحيى الأندلسي إنما سمع الموطّأ بتمامه من بعض تلامذة مالك، وأما مالك فلم يسمعه عنه بتمامه، بل بقي قدر منه، وأما محمد فقد سمع منه بتمامه كما مرّ فيما مر، ومن المعلوم أن سماع الكل من مثل هذا الشيخ بلا واسطة أرجح من سماعه بواسطة. الثاني: أنه قد مرّ أن يحيى الأندلسي حضر عند مالك في سنة وفاته، وكان حاضراً في تجهيزه، وأن محمداً لازمه ثلاث سنين من حياته ومن المعلوم أن رواية طويل الصحبة أقوى من رواية قليل الملازمة. الثالث: أن موطّأ يحيى اشتمل كثيراً على ذكر المسائل الفقهية، واجتهادات الإمام مالك المرضية، وكثير من التراجم ليس فيه إلاّ ذكر اجتهاده واستنباطه، من دون إيراد خبر، ولا أثر، بخلاف موطأ محمد، فإنه ليست فيه ترجمة باب (في الأصل: "الباب"، والصواب: "باب") خالية عن رواية مطابقة لعنوان الباب، موقوفة كانت أو مرفوعة، ومن المعلوم أن الكتاب المشتمل على نفس الأحاديث من غير اختلاط الرأي أفضل من المخلوط بالرأي. الرابع: أن موطّأ يحيى اشتمل على الأحاديث المروية من طريق مالك لا غيره، وموطّأ محمد مع اشتماله عليه مشتمل على الأخبار المروية من شيوخ أخر غيره، ومن المعلوم أن المشتمل على الزيادة أفضل من العاري عن هذه الفائدة. الخامس: وهو بالنسبة إلى الحنفية خاصةً، أن موطّأ يحيى مشتمل كثيراً على اجتهاد مالك المخالفة لآراء أبي حنيفة وأصحابه، وعلى الأحاديث التي لم يعمل بها أبو حنيفة وأتباعهم بادعاء نسخ، أو إجماع على خلافه أو إظهار خلل في السند، أو أرجحيّة غيره، وغير ذلك من الوجوه التي ظهرت لهم، فيتحير الناظر فيها ويبعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ذلك العامي على (في الأصل: "إلى"، والصواب: "على") الطعن عليهم، أو عليها، بخلاف موطّأ محمد، فإنه مشتمل على ذكر الأحاديث التي عملوا بها بعد ذكر ما لم يعملوا به (في الأصل: "بعد ما ذكر ما لم يعملوا بها"، وهو خطأ) ، كما لا يخفي على من طالع بحث رفع اليدين، والقراءة خلف الإمام، وغيرها. وهذا نافع للعامي وللخاص، أما العامي فيصير محفوظاً عن سوء الظنون، وأما الخاص فيبرز بتنقيد أحاديث الطرفين الترجيح المكنون، وستطّلع في كتابي هذا إن شاء الله تعالى على ذكر الترجيح في مواضعه فيما بين المذاهب المختلفة، من دون الحميّة حميّة الجاهلية. فإن قلت: إن موطّأ يحيى هو المتبادر (في الأصل: "هي المتبادرة"، وهو خطأ) من الموطّأ عند الإطلاق، وهذا آية ترجيحه على سائر الموطآت بخلاف موطّأ محمد، فإنه لا يتبادر منه عند الإطلاق. قلت: يلزم منه ترجيح موطّأ يحيى على موطأ القعنبي والتنيسي أيضاً، وهما أثبت الناس في الموطأ عند ابن معين وابن المديني والنسائي، وموطأ معن بن عيسى أيضاً وهو أثبت الناس في الموطأ عند أبي حاتم كما مر ذكره في الفائدة السادسة، وليس كذلك. فإن قلت موطأ يحيى هو المشهور (في الأصل: "هي المشهورة"، وهو خطأ) في الآفاق، وموطأ محمد ليس كذلك. قلت: هذا لا يستلزم الترجيح في الشيء، فإن وجه شهرته على ما ذكره الزرقاني في شرحه أن يحيى لما رجع إلى الأندلس انتهت إليه رئاسة الفقه بها، وانتشر به المذهب وتفقّه به من لا يحصى وعرض عليه القضاء فامتنع، فعلت رتبته على القضاة، وقبل قوله عند السلطان، فلا يُولِّي أحداً قاضياً في أقطاره إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلاَّ بأصحابه، فأكب الناس عليه لبلوغ أغراضهم، وهذا سبب اشتهار الموطّأ بالمغرب من روايته دون غيره. انتهى. فإن قلت: موطّأ مالك برواية يحيى مشتمل على الأحاديث التي من طريقه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وموطأ محمد مشتمل عليه وعلى غيره، فبهذا السبب موطأ يحيى صار مرجحاً على موطأ محمد. قلت: هذا يقتضي ترجيح موطأ محمد كما مرَّ معنا ذكره، وإنما يصلح هذا سبباً لتبادر موطأ يحيى عند الإطلاق بالموطأ بالنسبة إلى موطأ محمد لا لترجيحه عليه. فإن قلت: يحيى الأندلسي ثقة، فاضل، ومحمد ليس كذلك. قلت: إن أريد به أنه لم يطعن على يحيى بشيء، فهو غير صحيح، لما قال الزرقاني في ترجمته: فقيه، ثقة، قليل الحديث، وله أوهام، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين. انتهى. وإن أريد به أن الطعن عليه لا يقدح في وثاقته، فكذلك محمد لا يوجب طعن من طعن عليه تركه، والجواب عن الطعن عليه كالجواب عن الطعن على شيخه، على أنه مر عن "الميزان"، أنه كان من بحور العلم والفقه، قوياً في مالك: فإن ثبت ضعفه عن غير مالك فلا يضر فيما هنالك. فإن قلت: كثير من شيوخ الأسانيد التي أوردها محمد ضعفاء (في الأصل: "ضعيفة"، وهو تحريف) . قلت: أما الأسانيد التي أوردها من طريق مالك فشيوخها هم المذكورون في موطأ يحيى وغيره، فلا يضر الكلام فيهم، وأما التي أوردها من طريق غيره، فليس أن جميع رجالها ضعفاء، بل أكثرهم ثقات أقوياء، وكون بعضهم من الضعفاء لا يقدح في المرام، فإن هذا ليس أول قارورة كسرت في الإسلام، ومن ادّعى أن كلَّهم ضعفاء فليأت بالشهداء. فإن قلت: جماعة من المتحدثين لا يعدّون موطأ محمد في عداد الموطآت، ولا يعتمدون عليه كاعتمادهم على سائر الموطآت. قلت: إن كان ذلك لوجه وجيه، فعلى الرأس والعين، وإلاَّ فإيراد هذا الكلام خارج عن البين، وهناك جماعة من المحدثين قد عدُّوه في عداد الموطآت ونقدوا روايته كسائر الروايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فإن قلت: كان يحيى وغيره من رواة الموطأ من المحدثين، ومحمد كان من أصحاب الرأي، لا من المحدثين. قلت: ليس كذلك، فإن لمحمد تصانيف عديدةَ في الفقه والحديث منها: هذا الكتاب، وكتاب الآثار، وغيرهما، ويحيى لم يشتهر له تأليف سوى هذا الموطأ، وكلامنا فيه، لا في غيرهما (في الأصل: "كلامنا فيهما، لا في غيرهما"، وهو خطأ) ، وأما الطعن عليه بأنه كان من أصحاب الرأي، فغير مقبول عند أرباب العقل، وسلامة الرأي كما مرّ ذكره عند ذكر شيخه. الفائدة الثانية عشرة: في تعداد الأحاديث والآثار التي في موطأ الإمام محمد [بالتفصيل] : - وقد اجتهدت في جمعها وسهرت في عدّها، فأن كان وقع فيه الخطأ فأرجو من ربي العفو والعطاء. من ابتداء الكتاب إلى باب الأذان والتثويب مائة (100) بعضها من طريق مالك وبعضها عن غير مالك. أما من طريق مالك: فالمرفوعة اثنان وعشرون (22) ، وآثار أبي هريرة رضي الله عنه أربعة (4) ، وآثار أنس رضي الله عنه ثلاثة (3) ، وأثر عبد الله بن زيد رضي الله عنه واحد (1) ، وكذلك أثر عامر العدوي رضي الله عنه واحد (1) وأثر أبي بكر الصديق واحد (1) وأثر جابر رضي الله عنه واحد (1) ، وأثر صفية زوجة ابن عمر واحد (1) ، وأثر زيد بن ثابت رضي الله عنه واحد (1) ، وأثر أُبي بن كعب رضي الله عنه واحد (1) ، وأثر زيد بن أسلم مولى عمر واحد (1) ، وأثر إبنة زيد بن ثابت واحد (1) ، وأثر أبي قتادة رضي الله عنه واحد (1) ، وآثار عمر بن الخطاب رضي الله عنه سبعة (7) ، وآثار سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه اثنان (2) ، وآثار ابن عمر أحد عشر (11) ، وآثار عثمان اثنان (2) ، وآثار سعيد بن المسيب ثلاثة (3) ، وآثار سالم بن عبد الله بن عمر اثنان (2) ، وآثار سليمان بن يسار اثنان (2) ، وكذلك آثار عروة بن الزبير بن العوام اثنان (2) ، وآثار عائشة رضي الله عنها خمسة (5) ، وجملتها خمسة وسبعون (75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وأما من غير طريق مالك، فالمرفوعة أربعة (4) : من طريق أيوب بن عتبة اليمامي واحد (1) ، وطريق الإمام أبي حنيفة (1) ، ومن طريق الربيع بن صبيع (1) ، وبلاغاً (1) ، من غير ذكر السند. وآثار عبد الله بن العباس رضي الله عنه أربعة (4) ، أيضاً: من طريق طلحة المكي (1) ، وطريق إبراهيم المدني (1) ، وطريق أبي العوام البصري (1) ، وطريق محمد بن أبان (1) ، وآثار علي بن أبي طالب رضي الله عنه اثنان (2) : من طريق الإمام أبي حنيفة (1) ، وطريق مسعر بن كدام (1) . وآثار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ثلاثة (3) : من طريق أبي حنيفة (1) ، وطريق سلآّم بن سليم (1) ، وطريق أبي كدنية (1) ، وآثار حذيفة رضي الله عنه إثنان (2) من طريق سلام (1) وطريق مسعر (1) وآثار إبراهيم النخعي اثنان: من طريق محلّ الضبي (1) ، وطريق محمد بن أبان (1) . وكذلك آثار عائشة رضي الله عنه: اثنان (2) من طريق عباد بن العوام (1) وبلا سند. وأثر ابن المسيب واحد (1) من طريق إبراهيم المديني. وكذلك أثر عمار بن ياسر رضي الله عنه (1) من طريق مسعر، وأثر سعد رضي الله عنه (1) من طريق يحيى بن المهلّب. وأثر أبي الدرداء رضي الله عنه من طريق إسماعيل بن عياش، وأثر مجاهد (1) من طريق سفيان الثوري. وأثر علقمة بن قيس من طريق سلاّم (1) . وجملتها: خمسة وعشرون (25) . ومن باب الأذان إلى باب الجلوس في الصلاة تسعة وستون (69) . أما من طريق مالك فالمرفوعة أربعة عشر (14) ، وآثار عمر رضي الله عنه أربعة (4) ، وآثار ابن عمر رضي الله عنه ستة عشر (16) ، وآثار جابر رضي الله عنه اثنان (2) ، وآثار أبي هريرة ثلاثة (3) ، وأثر عثمان رضي الله عنه واحد (1) ، وكذلك أثر عبد الله بن عمرو بن العاص (1) ، وأثر عائشة رضي الله عنها (1) ، وأثر كعب الأحبار (1) ، وأثر أبي بكر بن عبد الرحمن (1) . وجملتها أربعة وأربعون (44) . وأما من غيره، فالمرفوعة أربعة (4) : من طريق القاضي أبي يوسف (1) ، وطريق أبي حنيفة (1) ، وطريق أبي علي (1) ، وطريق إسرائيل (1) . وآثار علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 رضي الله عنه اثنان (2) : من طريق محمد بن أبان (1) ومن طريق أبي بكر النهشلي (1) . وآثار ابن عمر رضي الله عنه أربعة (4) : من طريق ابن أبان (1) ، وطريق عبيد الله العمري (1) ، وطريق عبد الرحمن المسعودي (1) ، وطريق أسامة المدني (1) . وآثار ابن مسعود ستة (6) : من طريق الثوري اثنان (2) ، وطريق ابن عيينة (1) ، وطريق ابن أبان (1) ، وطريق محلّ الضبي (1) ، وبلا سند (1) . وأثر سعد رضي الله عنه واحد (1) من طريق داود بن قيس. وكذلك أثر عمر رضي الله عنه من طريقه (1) . وأثر زيد من طريقه (1) . وأثر أنس رضي الله عنه من طريق يحيى بن سعيد (1) . وأثر القاسم بن محمد بن أبي بكر (1) من طريق أسامة. وأثر علقمة (1) من طريق بكير بن عامر. وآثار إبراهيم النخعي ثلاثة (3) : من طريق أبان (1) ، وطريق أبي يوسف (1) ، وطريق إسرائيل (1) . وجملتها خمسة وعشرون (25) . ومن باب الجلوس إلى باب وقت الجمعة ستة وسبعون (76) . أما من طريق مالك، فالمرفوعة ثمانية وعشرون (28) ، وآثار ابن عمر اثنان وعشرون (22) ، وآثار عمر ستة (6) ، وأثر أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها واحد (1) ، وكذلك أثر أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها (1) ، وأثر معاذ رضي الله عنه (1) ، وأثر أبي هريرة رضي الله عنه (1) ، وأثر عائشة رضي الله عنها (1) ، وأثر زيد بن ثابت رضي الله عنه (1) ، وأثر أنس رضي الله عنه (1) ، وأثر أبي أيوب رضي الله عنه (1) ، وأثر سالم (1) ، وأثر ابن المسيّب (1) ، وجملتها ستة وستون (66) . وأما من غيره، فالمرفوعة اثنان (2) : من طريق بشر، أو بسر، أو محمد بن بشر (1) على اختلاف النسخ، وطريق ابن أبان (1) . وآثار ابن عمر ستة (6) : بلاغاً (1) ، ومن طريق أبي حنيفة (1) ، وطريق عمر بن ذر (1) ، وطريق ابن أبان (1) ، وطريق خالد الضبي (1) ، وطريق الفضل بن غزوان (1) . وأثر عمر واحد (1) بلاغاً. وكذلك أثر عروة (1) عن ابن عيّاش وجملتها عشرة (10) . ومن باب وقت الجمعة لإلى باب أمر القبلة سبعون (70) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أما من طريق مالك فالمرفوعة ثمانية عشرة (18) ، وآثار عمر ثمانية (8) ، وآثىر عثمان ثلاثة (3) ، وآثار ابن عمرثلاثة (3) ، وآثار أبي هريرة ثلاثة (3) ، وأثر علي واحد (1) ، وكذلك أثر أبي بكر (1) ، وأثر عبد الله بن عامر بن ربيعة (1) ، وأثر مسعود (1) ، وأثر ابن عباس (1) ، وأثر بن الصامت رضي الله عنه (1) ، وأثر كعب (1) ، وأثر الزهري (1) ، وآثار القاسم ثلاثة (3) ، وجملتها ستة وخمسة (56) . وأما من غير طريق مالك، فالمرفوعة ثلاثة: بلا سند (1) ، ومن طريق أبي حنيفة (1) ، ومن طريق سعيد بن عروة (1) ، وآثار عمر اثنان (2) : بلا سند (1) ، ومن طريق أبي حنيفة (1) ، وآثار ابن مسعود خمسة (5) : بلا سند (1) ، ومن طريق عبد الرحمن المسعودي (1) ، ومن طريق أبي معاوية المكفوف (1) ، ومن طريق أبي يوسف (1) ، ومن طريق سلاّم (1) . وأثر ابن عمر (1) بلا سند. وكذلك أثر عمّار (1) بلاغاً. وأثار ابن عباس اثنان (2) : بلا سند (1) ومن طريق اسماعيل (1) . وجملتها أربعة عشر (14) . ومن باب القبلة إلى فضل الجهاد ثمانية عشر (18) . اثنتا عشرة (12) مرفوعة من طريق مالك، واثنان (2) من أثار ابن عمر من طريقه وأثر عمر واحد (1) من طريقه، وكذلك أثر زيد (1) . والمرفوعة لمحمد اثنان (2) ، من طريق المبارك بن فضالة (1) ، ومن طريق بكير (1) . ومن باب فضل الجهاد إلى كتاب الزكاة سبعة وعشرون (27) . فالمرفوعة تسعة (9) ، وآثار ابن عمر ثمانية (8) ، وأثر أبي هريرة ثلاثة (3) ، وأثر أسماء زوجة أبي بكر واحد (1) ، وكذلك أثر عبد الله بن عمر (1) ، وأثر الخلفاء (1) ، وأثر عمر (1) ، وأثر عائشة (1) ، فهذه خمسة وعشرون (25) ، كلها من طريق مالك. وأثر أبي هريرة (1) ، وأثر علي (1) كلاهما بلاغاً من محمد. ومن كتاب الزكاة إلى أبواب الصيام ثلاثون (30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فالمرفوعة ستة (6) ، وآثار عثمان ثلاثة (3) ، وآثار ابن عمر أربعة (4) ، وآثار عمر خمسة (5) ، وأثر أبي بكر رضي الله عنه واحد (1) ، وكذلك أثر عائشة (1) ، وأثر أبي هريرة (1) ، وأثر سليمان بن يسار (1) ، وأثر ابن المسيّب (1) ، وأثر عمر بن عبد العزيز (1) ، وأثر ابن شهاب (1) ، فهذه خمسة وعشرون (25) ، كلها من طريق مالك. ولمحمد من المرفوعة ثلاثة (3) : اثنان (2) بلاغاً، واحد (1) بلا سند. وأثر عمر اثنان (2) بلا سند. ومن كتاب الصيام إلى كتاب الحج تسعة وثلاثون (39) . فالمرفوعة عشرون (20) ، وآثار أبي هريرة اثنان (2) ، وكذلك آثار عمر اثنان (2) ، وأثار ابن عمر ستة (6) ، وأثر سعد واحد (1) ، وكذلك أثر ابن عباس (1) ، وأثر عثمان (1) ، وأثر عمرو بن العاص (1) ، وأثر الزهري (1) ، وأثر عروة (1) ، وأثر عائشة (1) ، فهذه سبعة وثلاثون (37) من طريق مالك ولمحمد مرفوعان (2) بلاغاً. ومن كتاب الحج إلى كتاب النكاح مائة وستة وسبعون (176) . أما من طريق مالك فالمرفوعة تسعة وأربعون (49) ، وآثار ابن عمر ثلاثة وخمسون (53) ، وأثرعمر أو ابن عمر على الشك من المؤلف واحد (1) ، وآثار عائشة ستة (6) ، وآثار عمر ثلاثة وعشرون (23) ، وآثار ابن عباس أربعة (4) ، وآثار ابن المسيّب ثلاثة (3) ، وأثر الضحاك بن قيس واحد (1) ، وكذا أثر سعد (1) ، وأثر عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة (1) ، وأثر سالم (1) ، وأثر خارجة بن زيد بن ثابت (1) ، وأثر عروة (1) ، وأثر نافع (1) ، وأثر عثمان (1) ، وأثر المسور بن مخرمة (1) ، وأثر أبي أيوب (1) ، وأثر أبان بن عثمان (1) ، وأثر أبي الزبير المكي (1) ، وأثر أبي هريرة (1) ، وأثر كعب الأحبار (1) ، وأثر الزبير بن العوام (1) ، وأثر ابنه عبد الله (1) ، وأثر عمرة (1) ، وأثر علي (1) ، وأثر معاوية (1) ، وآثار القاسم ثلاثة (3) ، وجملتها مائة وواحد وستون (161) . وأما عن غير مالك فالمرفوعة عشرة (10) : ثلاثة (3) بلا سند، وستة (6) بلاغاً، وواحد (1) من طريق أبي يوسف، وآثار عمر اثنان (2) بلا سند وأثر علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 واحد (1) بلا سند وكذلك أثر زيد (1) ، وأثر ابن مسعود (1) . جملتها خمسة عشر (15) . ومن كتاب النكاح إلى الطلاق ثمانية وثلاثون (38) . أما من طريق مالك، فالمرفوعة تسعة (9) ، وآثار زيد ثلاثة (3) ، وآثار عمر ستة (6) ، وأثر عثمان (1) ، وكذا أثر سعد (1) ، وأثر أبي أيوب (1) ، وأثر عليّ (1) ، وأثر القاسم (1) ، وأثر عروة (1) ، وآثار ابن المسيب أربعة (4) ، وجملتها ثمانية وعشرون (28) . وأما عن غيره فالمرفوع واحد (1) من طريق أبي حنيفة. وآثار عمر ثلاثة (3) : من طريق الحسن بن عمارة (1) ، وطريق محمد بن أبان (1) ، وطريق يزيد بن عبد الهاد (1) . وأثر علي واحد (1) من طريق الحسن بن عمارة. وكذا أثر ابن مسعود (1) من طريق أبي حنيفة. وأثر زيد بلاغاً (1) . وأثر عمار بن ياسر (1) بلا سند. وقول مسروق بلا سند (1) . وجملتها عشرة (10) . ومن كتاب الطلاق إلى الرضاع ثمانون (80) . فالمرفوعة ثمانية (8) ، وآثار ابن عمرسبعة عشر (17) ، وآثار عمر سبعة (7) ، وآثار عثمان أيضاً سبعة (7) ، وآثار زيد أربعة (4) ، وكذا آثار عائشة (4) ، وآثار ابن المسيّب (4) ، وآثار أم المؤمنين حفصة (1) ، وكذا أثر رافع بن خديج (1) ، وأثر أبي هريرة (1) ، وأثر ابن عباس (1) ، وأثر عمرو بن العاص (1) ، وأثر علي (1) ، وأثر صفية زوجة ابن عمر (1) ، وأثر مروان (1) ، وأثر القاسم (1) ، وأثر أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بن هشام (1) ، وهذه كلها من طريق مالك. وجملتها واحد وستون (61) . ومن غير طريقه آثار عمر ثلاثة (3) : من طريق هشيم بن بشير (1) ، ومن طريق أبي حنيفة (1) ، وبلاغاً (1) ، وآثار علي أربعة (4) : من طريق الحسن بن عمارة (1) ، وطريق إبراهيم المكي (1) ، وطريق ابن عيينة (1) ، وبلا سند (1) . وآثار ابن مسعود ثلاثة (3) : اثنان (2) ، من طريق أبي حنيفة، وواحد (1) بلاغاً. وآثار ابن عمر اثنان (2) : بلا سند (1) ، ومن طريق عيسى الخيَّاط (1) . وآثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 عثمان اثنان (2) : من غير سند (1) ، وبلاغاً (1) . وكذا آثار ابن عباس، بلا سند (1) ، وبلاغاً (1) . وأثر زيد واحد (1) بلاغاً. وكذا أثر ثلاثة عشر من الصحابة من طريق عيسى الخيَّاط. وأثر ابن المسيب (1) من طريقه. وجعلتها تسعة عشرة (19) . ومن كتاب الرضاع إلى الأضحية أربعة عشر (14) . كلها من طريق مالك، فالمرفوعة ثلاثة (3) ، وكذا آثار عائشة (3) ، وأثر ابن عباس اثنان (2) ، وكذا آثار ابن المسيّب (2) ، وأثر ابن عمر واحد (1) ، وكذا أثر عروة (1) ، وحفصة (1) ، وعمر (1) . وفي كتاب الأضحية والذبائح، أربعة عشرة (14) . أيضاً كلها عن مالك، فالمرفوعة ثمانية (8) ، وآثار ابن عمر أربعة (4) ، وأثر أبي أيوب واحد (1) ، وكذا قول ابن المسيّب (1) . وفي كتاب الصيد والعقيقة اثنان وعشرون (22) . المرفوعة ستة (6) ، وكذا آثار ابن عمر (6) ، وآثار فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم اثنان (2) ، وأثر عمر واحد (1) ، وكذا أثر ابن المسيّب (1) ، وأثر عبد الله بن عمرو (1) ، وأثر زيد (1) ، وأثر ابن عباس (1) ، وأثر أبي هريرة (1) ، هذه من طريق مالك عشرون (20) . وأثر علي واحد من طريق عبد الجبار، ومرفوع من طريق أبي حنيفة. وفي أبواب الدِّيات والقسامة اثنان وعشرون (22) أيضاً فالمرفوعة سبعة (7) ، وآثار عمر أربعة (4) ، ,آثار ابن عباس اثنان (2) ، وآثار ابن المسيّب ثلاثة (3) ، وآثار سليمان بن يسار اثنان (2) ، وأثر زيد واحد (1) ، وكذا قول ابن شهاب (1) ، هذه من طريق مالك عشرون (20) . وأثر ابن مسعود (1) ، وأثر عمر كلاهما لمحمد بلا سند. وفي كتاب الحدود في السرقة ثلاثة عشر (13) . فالمرفوعة أربعة (4) ، وأثر عمر (1) ، وعائشة (1) ، وعثمان (1) ، وأبي بكر الصديق (1) ، وابن عمر (1) ، وزيد واحد (1) ، هذه من طريق مالك عشرة (10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وآثار عمر وعلي وأبي بكر (3) ، وبلاغاً لمحمد. وفي أبواب الحدود في الزنا ثلاثة وعشرون (23) . فالمرفوعة ثمانية (8) ، وآثار عمر ستة (6) ، وآثار عثمان اثنان (2) ، وآثار أبي بكر (1) ، وابن عامر أو عمر (1) على اختلاف النسخ، وأثر علي (1) ، وأثر عبد الملك بن مروان (1) ، وأثر عمر بن عبد العزيز (1) ، وقول ابن شهاب واحد (1) ، هذه اثنان وعشرون من طريق مالك. وأثر علي لمحمد بلا سند (1) . وفي أبواب الأشربة ثلاثة عشر (13) . كلهاعن مالك، فالمرفوعة سبعة (7) ، وآثار عمر ثلاثة (3) ، وأثر علي (1) ، وابن عمر (1) ، وأنس واحد (1) . وفي أبواب الفرائض والوصايا ثلاثة وعشرون (23) ، فالمرفوعة خمسة (5) ، وآثار عمر ستة (6) ، وأثر عثمان واحد (1) ، وكذا أثر أبان بن عثمان (1) ، وأثر علي بن حسين (1) ، وأبي بكر (1) ، وقول سعيد بن المسيّب (1) ، هذه ستة عشر من طريق مالك. وآثار عمر وعلي وابن مسعود لمحمد بلا سند (3) ، وكذا آثار أبي بكر وابن عباس وقول ابن شهاب (3) ، ومرفوع له بلا سند (1) . وفي أبواب الأيمان والنذور عشرون (20) . فالمرفوعة أربعة (4) ، وكذا آثار ابن عمر (4) وآثار عائشة اثنان (2) ، وكذا آثار ابن عباس (2) ، وآثار ابن المسيّب وابن يسار وعطاء بن أبي رباح كل منها واحد (1) ، هذة عن مالك خمسة عشر (15) . وآثار عمر لمحمد ثلاثة (3) : من طريق سلاّم (1) ، ويونس (1) ، وسفيان (1) . أثر مجاهد واحد (1) من طريق سفيان. وكذا أثر علي من طريق شعبة (1) . ومن كتاب البيوع إلى باب القضاء ستون (60) . فمن طريق مالك المرفوعة ثلاثة وعشرون (23) ، وآثار عمر أربعة (4) ، وآثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ابن عمر ثلاثة (3) ، وكذا آثار عثمان ثلاثة (3) ، وآثار ابن المسيّب خمسة (5) ، وآثار زيد اثنان (2) ، وأثر عبد الرحمن بن عبد يغوث واحد (1) ، وكذا أثر سعد (1) ، وأثر علي (1) ، وأثر عمرة (1) ، وأثر القاسم (1) ، واثر محمد بن عمرو بن حزم (1) ، وأثر أبان (1) ، وأثر هشام بن اسماعيل (1) ، وأثر سليمان بن يسار (1) ، وأثر عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - (1) ، هذه خمسون. ومن طريقه المرفوع اثنان (2) ، بلا سند، وأثر ابن عباس (1) بلا سند، وكذا أثر الحسن البصري (1) ، وقول عمر (1) ، وقول ابن عمر (1) ، وقول سعيد بن جبير (1) ، وأثر زيد (1) ، وأثر عمر من طريق يونس (1) ، وأثر علي من طريق ابن أبي ذئب (1) . ومن باب القضاء إلى أبواب العتق ثمانية وثلاثون (38) . فالمرفوعة خمسة عشر (15) ، وآثار عمر - رضي الله عنه - تسعة (9) ، وآثار ابن عمر ثلاثة (3) ، وآثار ابن المسيّب ستة (6) ، وأثر أبي بكر الصديق واحد (1) ، وكذا أثر عثمان (1) ، وأثر رافع بن خديج رضي الله عنه (1) ، هذه ستة وثلاثون (36) من طريق مالك. وأثر شريح لمحمد بلاغاً (1) ، أثر ابن جبير (1) بلا سند. ومن أبواب العتق إلى أبواب السِّير اثنان وثلاثون (32) . فالمرفوعة سبعة (7) ، وآثار عائشة اثنان (2) ، وكذا آثار عمر (2) ، وآثار عثمان (2) ، وآثار ابن المسيّب (2) ، وآثار ابن عمر ثلاثة (3) ، وأثر الصديق واحد (1) ، وكذا أثر أم سلمة (1) ، وأثر مروان (1) ، وأثر زيد (1) ، وأثر عروة (1) ، وأثر عبد الملك بن مروان (1) ، وأثر سليمان بن يسار (1) ، هذة خمسة وعشرون (25) ، من طريق مالك. والمرفوعة لمحمد اثنان (2) ، بلاغاً واحد (1) ، ومن طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلَى (1) ، وأثر ابن عباس واحد (1) بلاغاً، وكذا أثر زيد (1) بلا سند، وأثر ابن عمر (1) بلا سند، وأثر ابن شهاب (1) ، وأثر عطاء (1) . ومن أبواب السِّير إلى آخر الكتاب مائة وثلاثة وستون (163) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فالمرفوعة اثنان وتسعون (92) ، وآثار ابن عباس أربعة (4) ، وآثار عمر أربعة عشر (14) ، وآثارابنه أحد عشر (11) ، وآثار عثمان اثنان (2) ، وكذا آثار الصديق (2) ، وآثار عمر بن عبد العزيز (2) ، وآثار ابن المسيّب ثمانية (8) ، وآثار عائشة خمسة (5) ، وأثر علي واحد (1) ، وكذا أثر سعد (1) ، وأثر أبي هريرة (1) ، وأثر زيد (1) ، وأثر أبي طلحة (1) ، وأثر سهل بن حنيف (1) ، وأثر أبي أيوب (1) ، وأثر عبد الرحمن بن يغوث (1) ، وأثر عامر (1) ، وأثر جمع من الصحابة لم يسمَّوا (1) ، وأثر عمر بن عبد الله (1) ، وأثر سيدنا عيسى على نبينا وعليه السلام (1) ، وأثر أبي الدرداء (1) ، وأثر حفصة (1) ، وأثر القاسم (1) ، وأثر مالك الأصبحي (1) ، هذه كلها من طريق مالك مائة وستة وخمسون (156) . وأثر زيد من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد (في الأصل: (الرتاد) ، وهو تحريف) (1) . وأثر ابن مسعود (1) من طريق الثوري. وأثر عمر (1) بلاغاً. وأثر سعيد بن جبير كذلك، ومرفوع (1) كذلك، وأثر ابن مسعود (1) بلا سند، وكذلك أثر ابن عمر (1) . فجميع ما في هذا الكتاب من الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة على الصحابة ومن بعدهم مسندة كانت أو غير مسندة ألف ومائة وثمانون (1180) ، منها عن مالك ألف وخمسة (1005) ، وبغير طريقه مائة وخمسة وسبعون (175) ، منها عن أبي حنيفة ثلاثة عشر (13) ، ومن طريق أبي يوسف أربعة (4) ، والباقي عن غيرهما. وليعلم أني أدخلت في هذا التعداد كل ما في هذا الكتاب من الأخبار والآثار سواء كانت مسندة أو غير مسندة بلاغية أو غير بلاغية، وكثيراً ما تجد فيه آثاراً متعددة عن رجل واحد أو عن رجال الصحابة وغيرهم بسند واحد، وتجد أيضاً كثيراً المرفوع والآثار بسند واحد، فذكرت في هذا التعداد كل واحد على حدة، فليحفظ ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الفائدة الثالثة عشر: في عادات الإمام محمد في هذا الكتاب وآدابه: منها: أنه يذكر ترجمة الباب، ويذكر متصلاً به رواية عن الإمام مالك موقوفة كانت أو مرفوعة. ومنها: أنه لا يذكر في صدر العنوان إلاَّ لفظ الكتاب أو الباب، وقد يذكر لفظ الأبواب، وليس فيه في موضع لفظ الفصل إلاَّ في موضع اختلفت فيه النسخ، ولعله من أرباب النسخ. ومنها: أنه يذكر بعد ذكر الحديث أو الأحاديث مشيراً إلى ما أفادته: وبهذا نأخذ، أو به نأخذ، ويذكر بعده تفصيلاً ما، وقد يكتفي على أحدهما، ومثل هذا دال على اختياره والإفتاء به (في الأصل: "عليه"، وهو تحريف) . كما قال السيد أحمد الحموي في "حواشي الأشباه والنظائر" في جامع المضطرات والمشكلات: أما العلامات المعلمة على الفتوى، فقوله: وعليه الفتوى، وبه يفتى، وبه يعتمد، وبه نأخذ، وعليه الاعتماد، وعليه عمل الأمة، وعليه العمل اليوم، وهو الصحيح، وهو الأصح، وهو الظاهر، وهو الأظهر، وهو المختار في زماننا، وفتوى مشائخنا، وهو الأشبه، وهو الأوجه. انتهى. ومنها: أنه ينبّه على ما يخالف مسلكه مما (في الأصل: "ما"، والظاهر: "مما") أفادته روايته عن مالك، ويذكر سند مذهبه من غير طريق مالك. ومنها: أنه لا يكتفي فيما يرويه عن غير مالك على شيخ معين كالإمام أبي حنيفة، بل يسند عنه وعن غيره، وعادته في "كتاب الآثار" أنه يسند كثيراً عن أبي حنيفة وعن غيره قليلاً. ومنها: أنه لا يقول في روايته عن شيوخه إلاَّ أخبرنا، لا سمعت، ولا حدثنا، ولا غير ذلك، والشائع في اصطلاح المتأخرين الفرق بين حدثنا وأخبرنا بأن الأول خاص بما سمع من لفظ الشيخ، كسمعت، والثاني بما إذا قرأه بنفسه على الشيخ. قيل: هو مذهب الأوزاعي والشافعي ومسلم والنسائي وغيرهم، وعند جمع هما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 على نهج واحد، وهو مذهب الحجازيين والكوفيِّين ومالك وابن عيينة والبخاري وغيرهم، كذا في شروح شرح النخبة، وتفصيل هذا البحث ليطلب من رسالتي "ظفر الأماني". ومنها: أنه يذكر بعد ذكر مختاره موافقة مع شيخه، بقوله: وهو قول أبي حنيفة إلاَّ نادراً فيما خالفه فيه أبو حنيفة. ومنها: أنه يذكر كثيراً بعد قول أبي حنيفة، والعامة من فقهائنا، ويريد بالفقهاء، فقهاء العراق والكوفة، والعامة يستعمل في استعمالهم بمعنى الأكثر، قال ابن الهمام في "فتح القدير" في بحث إدراك الجماعة: ذهب جماعة من أهل العربية إلى أن العامة بمعنى الأكثر، وفيه خلاف، وذكر المشائخ أنه المراد في قولهم: قال به عامة المشائخ ونحوه. انتهى. والظاهر أنه لا يريد في كل موضع من هذا اللفظ معنى الأكثر، بل يريد به معنى الجماعة والطائفة، فإن بعض المواضع التي وسمه به ليس بمسلك للأكثر. ومنها: أنه قد يصّرح بذكر مذهب إبراهيم النخعي أيضاً، لكونه مدار مسلك الحنفية. قال المحدث الدهلوي مؤلف "حجة الله البالغة"، وغيره في رسالته "الإنصاف في بيان سبب الاختلاف" (ص 11) : ولعمري إنها حقيقة بما سميت به، ومن طالعها بنظر صحيح خرج عن اعتسافه إذا اختلفت مذاهب الصحابة والتابعين في مسألة، فالمختار عند كل عالم مذهب أهل بلده وشيوخه، لأنه أعرف في الصحيح من أقاويلهم في السقيم. فمذهب عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأصحابهم مثل سعيد بن المسيّب - فإن هكان أحفظهم لقضايا عمر وحديث أبي هريرة وسالم وعكرمة وعظاء وأمثالهم - أحق بالأخذ من غيره، عند أهل المدينة. ومذهب عبد الله بن مسعود وأصحابه وقضايا عليّ، وشريح، والشعبي، وفتاوى إبراهيم النخعي أحق بالأخذ عند أهل الكوفة من غيره. فإن اتفق أهل البلد على شيء أخذوا عليه بنواجذهم، وهو الذي يقول في مثله مالك: السنة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 لا اختلاف فيها عندنا كذا، وإن اختلفوا أخذوا بأقواها، وأرجحها. انتهى كلامه ملخَّصاً. وقال أيضاً في تلك الرسالة (الإنصاف في بيان سبب الاختلاف: ص 13) : كان مالك أعلمهم بقضايا عمر وعبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة، وكان أبو حنيفة ألزمهم بمذهب إبراهيم حتى لا يجاوزه إلاَّ ما شاء الله. وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه، دقيق النظر في وجوه التخريجات، مقبلاً على الفروع أتم إقبال، وإن شئت أن تعلم حقيقة ما قلنا، فلخص أقوال النخعي من كتاب "كتاب الآثار" لمحمد، و "جامع" عبد الرزاق، و"مصنف" ابن أبي شيبة، ثم قايسه بمذهبه تجده لا يفارق تلك المحجة إلاَّ في مواضع يسيرة، وهو في تلك اليسيرة أيضاً لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة، وكان أشهر أصحابه أبو يوسف. تولى قضاء القضاة أيام هارون الرشيد، فكان سبباً لظهور مذهبه، والقضاء به في أقطار العراق، وخرسان، وما وراء النهر، وكان أحسنهم تصنيفاً وألزمهم درساً محمد بن الحسن، وكان من خبره أنه تفقه بأبي حنيفة وأبي يوسف، ثم خرج إلى المدينة، فقرأ الموطّأ على مالك، ثم رجع إلى نفسه، فطبق مذهب أصحابه على الموطّأ مسألة مسألة، فإن وافق فيها وإلاَّ فإن رأى طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه، فكذلك وإن وجد قياساً ضعيفاً أو تخريجاً ليناً يخالفه حديث صحيح مما عمل به الفقهاء، ويخالفه عمل أكثر العلماء تركه إلى مذهب من مذاهب السلف مما يراه أرجح مما هنالك، وهما لا يزالان على محجة إبراهيم ما أمكن كما كان أبو حنيفة يفعل ذلك، وإنما كان اختلافهم في أحد شيئين: إما أن يكون لشيخهما تخريج على مذهب إبراهيم يزاحمانه فيه أو يكون هناك لإبراهيم ونظرائه أقوال مختلفة يخالفان في ترجيح بعضها على بعض، فصنف محمد، وجمع رأي هؤلاء الثلاثة. ونفع كثيراً من الناس، فتوجه أصحاب أبي حنيفة إلى تلك التصانيف تلخيصاً وتقريباً وتخريجاً وتأسيساً واستدلالاً، ثم تفرقوا إلى خرسان، وما وراء النهر، فسمّي ذلك مذهب أبي حنيفة، وإنما عدّ مذهب أبي يوسف ومحمد واحداً مع أنهما مجتهدان مطلقان، لأن مخالفتهما غير قليلة في الأصول والفروع، لتوافقهم في هذا الأصل.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ولتدوين مذهبهم حميعاً في "المبسوط" و"الجامع الكبير". انتهى كلامه ملتقطاً. ومنها: أنه لا يذكر في هذا الكتاب وكذا في "كتاب الآثار" مذهب صاحبه أبي يوسف لا موافقاً ولا مخالفاً، فإيَّاك أن تفهم باقتصاره على ذكر مذهبه ومذهب شيخه على سبيل مفهوم المخالفة مخالفته كما فهمه القاري في بعض رسائله على ما ستطلع عليه في موضعه، أو بناءً على أنه لو كان مخالفاً لذكره موافقته، وعادته في "الجامع الصغير" وغيره من تصانيفه بخلافه. ومنها: أن كثيراً ما يقول: هذا حسن، أو جميل، أو مستحسن، وأمثال ذلك، ويريد به معنى أعم مقابل الواجب بقرينة أنه يقول في بعض مواضعه: هذا حسن، وليس بواجب، فيشمل السنة المؤكدة وغير المؤكدة، فإياك أن تفهم في كل أمر وسمه به استحبابه وعدم سنيته. ومنها: أنه قد يقول في بعض السنن: لفظة (لا بأس) كما في بحث التراويح وغيره، ويريد به نفس الجواز، لا غيره، وهو عند المتأخرين مستعمل غالباً في المكروه تنزيهاً، فإياك أن لا تفرق بين الاستعمالين وتقع في الشين. ومنها: أنه كثيراً ما يقول: ينبغي كذا وكذا، فلا تفهم منه نظراً إلى استعمالات المتأخرين أن كل أمر صدَّره به مستحب، ليس بسنّة ولا واجب، فإن هذه (في الأصل: "هذا" وهو خطأ) اللفظة تستعمل في عرف القدماء في المعنى الأعم الشامل للسنة المؤكدة والواجب، ومن ثمَّ لما قال القدوري في مختصره: ينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين أي من شعبان، فسّره ابن الهمام بقوله: أي يجب عليهم، وهو واجب على الكفاية. انتهى. وقال ابن عابدين الشامي في "رد المحتار" حاشية الدر المختار في كتاب الجهاد: المشهور عند المتأخرين استعمال ينبغي بمعنى يندب، ولا ينبغي بمعنى يكره تنزيهاً، وإن كان في عرف المتقدمين استعماله في أعمّ من ذلك، وهو في القرآن كثير، لقوله تعالى: {ما كان ينبغي لنا أن نتَّخذ من دونك من أولياء} (سورة الفرقان: آية 25) . وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 في "المصباح": ينبغي أن يكون كذا وكذا، معناه يجب أو يندب بحسب ما فيه من الطلب. انتهى كلامه. ومنها: أنه قد يذكر مذهب شيخه مالك أيضاً موافقاً أو مخالفاً، ومذاهب الصحابة مسندة أو غير مسندة. ومنها: أنه يطلق لفظ الأثر، ويريد معنى أعم شاملاً للحديث المرفوع والموقوف على الصحابة ومن بعدهم، وهو كذلك في عرف القدماء، وخصه بعض من خلفهم بالموقوف، وهو مشهور عند متأخري الفقهاء كما حقّقه النووي في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" وفصَّلته أنا في "ظفر الأماني بشرح المختصر المنسوب إلى الجرجاني" وفّقني الله لختمته كما وفّقني لبدئه. ومنها: أنه يذكر بعض الآثار والأخبار غير مسندة، ويصدّر بعضها بقوله: بلغنا، وقد ذكروا كما في "رد المحتار" وغيره أن بلاغاته مسندة. خاتمة: - ليس في هذا الكتاب حديث موضوع، نعم فيه ضعاف، أكثرها يسيرة الضعف المنجبر بكثرة الطرق، وبعضها شديدة الضعف لكنه غير مضر أيضا لورود مثل ذلك في صحاح الطرق، وستطّلع على جميع ذلك إن شاء الله تعالى في مواضعها. هذا آخر المقدمة، ومن الله أرجو حسن الخاتمة، وعيش الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 أبواب الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم (1)   (1) قوله: بسم الله الرحمن الرحيم، مقتصراً عليها كأكثر المتقدِّمين دون الحمد والشهادة مع ورود قوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله أقطع"، وقوله: "كل خُطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء"، أخرجهما أبو داود (انظر سنن أبي داود. كتاب الأدب 4/261) وغيره من حديث أبي هريرة. قال الحافظ (فتح الباري 1/8) : لأن الحديثين في كل منهما مقال، سلَّمنا صلاحتهما للحجة. لكن ليس فيهما أن ذلك متعِّين بالنطق والكتابة معاً، فلعلَّه حمد وتشهَّد نطقاً عند وضع الكتاب، ولم يكتب ذلك اقتصاراً على البسملة، لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله وقد حصل بها، ويؤيَّده أن أول شيء نزل من القرآن: {اقْرَأ بِاسمِ رَبِّكَ} (سورة العلق: آية 1) . فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها. ويؤيِّده أيضاً وقوع كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون الحمدلة وغيرها. هذا من "شرح موطأ مالك" (1/10. وفي بعض النسخ بعد التسمية: "أبواب الصلاة"، فأثبتناه في العنوان) ، للزرقاني محمد بن عبد الباقي المالكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 1 - (بَابُ (1) وُقُوتِ الصَّلاةِ) (2) 1 - قَالَ محمدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا مالكُ بنُ أَنَسٍ، عَنْ يزيدَ (3) بْنِ زِيَادٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (4) بنِ رافعٍ مَوْلَى أمِّ سَلَمَة (5) رَضِيَ اللَّهُ عنها   (1) قدَّمه لأنها أصل في وجوب الصلاة، فإذا دخل الوقت وجب الوضوء وغيره، قاله الزرقاني (1/11) . (2) قوله: وقوت الصلاة، في رواية ابن بكير أوقات، جمع قلة، وهو أظهر لكونها خمسة: لكن وجه رواية الأكثرين وقوت جمع كثرة، وإنها وإن كانت خمسة، لكن لتكرارها كل يوم صارب كأنها كثيرة، كقولهم شموس وأقمار، ولأن الصلاة فُرضت خمسين وثوابها كثواب الخمسين، ولأن كل واحد من الجَمْعين قد يقوم مصام الآخر توسُّعاً أو لأنهما يشتركان في المبدأ من ثلاثة، ويفترقان في الغاية على ما ذهب إليه بعض المحقِّقين، أو لأن لكل صلاة ثلاثة أوقات: اختباري، وضروري، وقضاء. قاله الزرقاني (1/11) . (3) قوله: عن يزيد، قال ابن حجر في "تقريب التهذيب" (2/364) : يزيد بن زياد أو ابن أبي زياد قد يُنسب إلى جدِّه مولى بني مخزوم مدنّي، ثقة. (4) قوله عن عبد الله، قال ابن حجر (تقريب التهذيب 1/413) : عبد الله بن رافع المخزومي أبو رافع المدني مولى أم سلمة، ثقة. (5) قوله: مولى أم سلمة، هي هند بنت أبي أمية، واسمه حذيفة، القرشية المخزومية، تزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب وقعة بدر، وماتت في شوال سنة 62، كذا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 زوجِ (1) النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَبِي هريرةَ (2) أنَّه (3) سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصلاةِ (4) فَقَالَ أبو هُريرة (5)   = في "إسعاف السيوطي" (ص 50) . (1) قوله زوج النبي ... إلخ، الزوج: البعل والمرأة أيضاً، ومنه قوله تعالى: {اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} (سورة البقرة: آية 35) ، وقوله تعالى: {قُلُ لأزْوَاجِكَ} (سورة الأحزاب: آية 28) . كذا في جواهر القرآن لمحمد بن أبي بكر الرازي. (2) قوله: عن أبي هريرة، هو حافظ الصحابة، اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرة، أرْجحها عند الأكثر عبد الرحمن بن صَخْر، مات سنة 59 هـ، وقيل: قبلها بسنة أو سنتين، كذا في "التقريب" (2/484) . (3) أي أن أبا رافع سأل أبا هريرة. (4) الواحدة أو الجنس. (5) قوله: فقال أبو هريرة ... إلخ، هذا الحديث موقوف (الموقوف من الحديث مايُروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم أو أفعالهم أو تقريرهم. وسُمِّي موقوفاً لأنه وقف عليهم، ولم يتجاوزهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (قال ابن عبد البر بعدما ذكر أثر أبي هريرة المذكور وفقه رواة الموطأ، والمواقيت لا تُؤخذ بالرأي ولا تُدرك إلاَّ بالتوقيف. يعني فهو موقوف لفظاً، مرفوع حكماً. أماني الأحبار 2/275) . من رواية مالك عن أبي هريرة، وقد ذُكر عنه مرفوعاً (المرفوع من الحديث: ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله أو أفعاله أو تقريره) في "التمهيد". واقتَصر فيه على ذكر أواخر الأوقات المستحبة دون أوائلها، فكأنَّه قال: الظهر من الزوال إلى أن يكون ظلُّك = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أنا أُخْبِرُكَ: صلِّ الظهرَ (1) إذا كان   = مثلك، والعصر من ذلك الوقت إلى أن يكون ظلك مثليك، وجعل للمغرب وقتاً واحداً، وذكر من العشاء أيضاً آخر الوقت المستحب، كذا في "الاستذكار" (1/69) ، لابن عبد البر المالكي. (1) قوله صَلِّ الظُّهر .... إلخ، أجمع علماء المسلمين على أنَّ أول وقت صلاة الظهر زوال الشمس عن كبد السماء ووسط الفلك إذا استوقن ذلك في الأرض بالتأمل، واختلفوا في آخر وقت الظهر، فقال مالك وأصحابه: أخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت عليه الشمس وهو أول وقت العصر بلا فصل. وبذلك قال ابن المبارك وجماعة. وفي الأحاديث الواردة بإمامة جبريل ما يوضِّح لك أن آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر، وقال الشافعي وأبو ثور وداود: آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله، إلاّ أن بين آخر وقت الظهر وأول وقت العصر فاصلة، وهو أن يزيد الظل أدنى زيادة على المثل، وقال الحسن بن صالح بن حَيّ والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري: آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله، ثم يدخل وقت العصر ولم يذكروا فاصلة. وقال أبو حنيفة: آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثليه. وخالفه أصحابه في ذلك، وذكر الطحاوي رواية أخرى عنه أنه قال: آخر وقت الظهر أن يصير ظل كل شيء مثله مثل قول الجماعة، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، وهذا لم يتابع عليه. وأما أول وقت العصر، فقد تبيَّن من قول مالك ما ذكرناه فيه، ومن قول الشافعي ومن تابعه ما وصفناه، وقال أبو حنيفة: أول وقت العصر من حين يصير = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = الظل مثلين، وهذا خلاف الآثار (حديث أبي هريرة المذكور في الباب صريح فيما ذهب إليه الإمام الأعظم أبي حنيفة - رضي الله عنه - في ظاهر الرواية عنه أنه يخرج وقت الظهر ويدخل وقت العصر بالمثلين، وبهذا الأثر استدلَّ الإمام محمد على مسلك الإمام، لأنه أمر بصلاة الظهر إذا تحقَّق المثل والعصر إذا صار المثلان، فما قال صاحب "الاستذكار"، أنه اقتصر على أواخر الأوقات تأويل لتاييد مذهبه وتوهم من نقله من الحنفيه في شرح كلام محمد رحمه الله تعالى، فإنه يخالف صريح قول الإمام محمد، ويكون من تأويل الكلام بما لا يرضى به قائله. أوجز المسالك 1/159) وخلاف الجمهور، وهو قول عند الفقهاء من أصحابه وغيرهم مهجور. واختلفوا في آخر وقت العصر، فقال مالك: آخره حين يصير ظلّ كل شيء مثليه، وهو عندنا محمول على وقت الاختيار وما دامت الشمس بيضاء نقية فهو وقت مختار أيضاً للعصر عنده وعند سائر العلماء. وقال ابن وهب، عن مالك: الظهر والعصر آخر وقتهما غروب الشمس وهذا كله لأهل الضرورة كالحائض تطهر. وقال أبو يوسف ومحمد: وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله إلى أن تتغير الشمس، وقال أبو ثور: إلى أن تصفر الشمس، وهو قول أحمد بن حنبل، وقال إسحاق: آخر وقته أن يدرك المصلِّي منها ركعة قبل الغروب، وهو قول داود لكل الناس معذور وغير معذور. واختلفوا في آخر وقت المغرب بعدما اتَّفقوا على أن أول وقتها غروب الشمس، فالظاهر من قول مالك أنه عند مغيب الشفق، وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف والحسن بن صالح وأبو ثور، والشفق عندهم الحمرة. وقال الشافعي في وقت المغرب قولين، أحدهما: أنه ممدود إلى مغيب الشفق، والثاني: أن وقتها وقت واحد في حالة الاختيار. وأجمعوا على أن أول وقت العشاء مغيب الشفق، واختلفوا في آخر وقتها، فالمشهور من مذهب مالك لغير أصحاب الضرورات ثلث الليل، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تفوت إلاَّ بطلوع الفجر. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ظِلُّكَ مِثْلَكَ (1) ،   = وأجمعوا على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر وانصداعه، وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي. وروى القاسم, عن مالك أن آخر وقتها الإسفار، وقال ابن وهب، عن مالك: آخر وقتها طلوع الشمس، وهو قول الثوري والجماعة، إلاَّ أن منهم من شرط إدراك ركعة منها قبل الطلوع. هذا ملخَّص من الاستذكار (1/26، 46) شرح الموطأ لابن عبد البر رحمه الله. (1) قوله: إذا كان ظلك مثلك، قال الزرقاني (شرح الزرقاني: 1/23) : أي مثل ظلك يعني قريباً منه بغير فيء الزوال. انتهى. ووجه تفسيره أنه إذا كان الظل مثلاً يخرج وقت الظهر، فلذا فسَّره بالقرب، وهذا الوقت هو الذي صلّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بجبريل في اليوم الثاني من يومَيْ إمامته، وصلّى في ذلك اليوم العصر إذا صار الظل مثلين، وأما في اليوم الأول، فصلّى الظهر حين زالت الشمس وصار الفيء مثل الشراك، والعصر حين كان ظل كل شيء مثله، وهكذا ورد في رواية أبي داود والحاكم، وصحَّحه من حديث ابن عباس، وفي روايتهم من حديث جابر، وفي رواية البيهقي والطبراني وإسحاق بن راهويه، من حديث أبي مسعود الأنصاري، وفي رواية البزار والنسائي من حديث أبي هريرة، وفي رواية عبد الرزاق من حديث عمرو بن حزم، وفي رواية أحمد من حديث أبي سعيد الخدري وغيرهم. وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (شرح معاني الآثار 1/89) ، بعد ذكر الروايات: ذُكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلّى الظهر حين زالت الشمس، وعلى ذلك اتفاق المسلمين أن ذلك أول وقتها. وأما آخر وقتها، فإن ابن عباس وأبا سعيد وجابراً وأبا هريرة روَوْا أنه صلاّها في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، فاحتمل أن يكون ذلك = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = بعدما صار ظل كل شيء مثله، فيكون هو وفت الظهر، ويحتمل أن يكون ذلك على قرب أن يصير ظل كل شيء مثله. وهذا جائز في اللغة، فما روي أنه صلّى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، يحتمل أن يكون على قرب أن يصير ظل كل شيء مثله، فيكون الظل إذا صار مثله فقد خرج وقت الظهر، والدليل على ما ذكرنا من ذلك أن الذين ذكروا هذا عنه قد ذكروا عنه أيضاً أنه صلّى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، ثم قال: ما بين هذين وقت، فاستحال أن يكون مابينهما وقت، وقد جمعهما في وقت واحد، وقد دلَّ على ذلك أيضاً ما في حديث أبي موسى، وذلك أنه قال في ما أخبر عن صلاته صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني: "ثم أخَّر الظهر حتى كان قريباً من العصر"، فأخبر أنه صلاّها في ذلك اليوم في قرب دخول وقت العصر لا في وقت العصر، فثبت بذلك إذا أجمعوا في هذه الروايات أن بعدما يصير ظل كل شيء مثله وقت العصر، وأنه محال أن يكون وقت الظهر. وأما ما ذُكر عنه في صلاة العصر، فلم يختلف عنه أنه صلاّها في اليوم الأول في الوقت الذي ذكرناه عنه، فثبت بذلك أنه أول وقتها، وذكر عنه أنه صلاّها في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، فاحتمل أن يكون هو آخر وقتها الذي خرج، واحتمل أن يكون هو الوقت الذي لا ينبغي أن يؤخِّر الصلاة عنه، وأن من صلاّها بعده إن كان قد صلاّها في وقتها مفرِّط، وقد دلَّ عليه ما حدَّثنا ربيع المؤذِّن، نا أسد، نا محمد بن الفضل، عن الأعمش، عن أبي صالح، علن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفرُّ الشمس". ففي هذا أن آخر وقتها حين تصفر الشمس، غير أن قوماً ذهبوا إلى أنَّ آخر وقتها إلى غروب الشمس، واحتجّوا بما حدَّثنا ابن مرزوق، نا وهب بن جرير، نا شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً: من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فقد أدرك = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَالْعَصْرَ (1) إِذَا كَانَ ظِلُّك مِثلَيْكَ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَمسُ (2) ، والعِشاء مَا بَيْنَكَ (3)   = الصبح، ومن أدرك ركعة مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسِ فَقَدْ أدرك العصر. انتهى كلام الطحاوي ملخَّصاً. (1) بالنصب، أي وصلِّه. (2) قوله: إذا غربت الشمس، قال الطحاوي (شرح معاني الآثار 1/91، 92) وقد ذهب قوم (قال العلامة العيني: وذهب طاوس وعطاء ووهب بن منبِّه إلى أن أول وقت المغرب حين طلوع النجم، وقال أبو بكر الجصاص الرازي: وقد ذهب شواذ من الناس إلى أنَّ أول وقت المغرب حين يطلع النجم. أماني الأحبار 2/921) . إلى خلاف ذلك، فقالوا: أول وقت المغرب حين يطلع النجم، واحتجّوا بما حدَّثنا فهد، نا عبد الله بن صالح، أخبرني الليث بن سعد، عن جبير بن نعيم، عن ابن هبيرة الشيباني، عن أبي تميم، عن أبي نصر الغفاري، قال: صلّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فقال: "إن هذه الصلاة عُرضت على من كان قبلكم فضيَّعوها، فمن حافظ عليها منكم أوتي أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد، ويحتمل أن يكون الشاهد هو الليل، وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي المغرب إذا توارت الشمس بالحجاب. (3) قوله: ما بينك وبين ثلث الليل، تكلم الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/93، باب مواقيت الصلاة) ها ههنا كلاماً حسناً ملخَّصه، أنه قال: يظهر من مجموع الأحاديث أن آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر، وذلك أن ابن عباس وأبا موسى وأبا سعيد رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّرها إلى ثلث الليل، وروى أبو هريرة وأنس أنه أخَّرها حتى انتصف الليل، وروى ابن عمر أنه أخَّرها حتى ذهب ثلث الليل، وروت عائشة أنه أعتم بها حتى ذهب عامة الليل، وكل هذه الروايات في "الصحيح"، قال: فثبت بهذا كله أن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وبَيْنَ ثُلُثِ اللَّيْلِ (1) ، فَإنْ نِمْتَ إِلَى نصفِ اللَّيلِ فَلا نامَتْ عَيْنَاكَ (2) ، وَصَلِّ (3) الصُّبْحَ بِغَلَسٍ (4) .   = الليل كله وقت لها، ولكنه على أوقات ثلاثة، فأما من حين يدخل وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل فأفضل وقت صُلِّيت فيه، وأما بعد ذلك إلى نصف الليل ففي الفضل دون ذلك، وأما بعد نصف الليل فدونه، ثم ساق بسنده، عن نافع بن جبير، قال: كتب عمر إلى أبي موسى: وصلِّ العشاء أيَّ الليل شئت ولا تغفلها. ولمسلم في قصة التعريس (صحيح مسلم بشرح النووي 5/184، باب قضاء الفائتة، ط دار الفكر) ، عن أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط أن يؤخِّر صلاةً حتى يدخل وقت الأخرى"، فدلَّ على أن بقاء وقت الأولى إلى أن يدخل وقت الأخرى، كذا في "نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية"، للزيلعي (1/234، 235) . (1) قوله: ثلث الليل، بضمتين وقد يسكَّن الوسط، وقد جاءت على الوجهين أخواته إلى العشر، ذكره النووي في شرح صحيح مسلم. (2) قوله: فلا نامت عيناك، وهو دعاء بنفي الاستراحة على من يسهو عن صلاة العشاء وينام قبل أدائها، كذا في "مجمع البحار" (4/804) لمحمد طاهر الفَتَّني. (3) أعاد العامل اهتماماً أو لطول الكلام فصلاً. (4) قوله: بغَلَس، هو بفتح الغين المعجمة والباء الموحَّدة وشين معجمة في رواية يحيى بن يحيى وزاد يعني الغلس، وفي رواية يحيى بن بكير والقعنبي وسويد بن سعيد بغلس، قال الرافعي: هي ظلمة آخر الليل، وقيل اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل. وقال الخطابي: الغبش بالباء والشين المعجمة قيل الغبس = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا قولُ أَبِي حنيْفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (1) في وَقْتِ   = بالسين المهملة وبعده الغلس باللام، وهي كلها في آخر الليل، كذا في "تنوير الحوالك على موطأ مالك" (1/18، 20) ، للسيوطي رحمه. (1) قوله: هذا قول أبي حنيفة ... إلخ، إشارة إلى ما يشهد به ظاهر حديث أبي هريرة، فأنه يدل على بقاء وقت الظهر إلى المثل حيث جوَّز الظهر عند كون الظل بقدر المثل، وعلى أن وقت التصر حين يدخل ظل كل شيء مثليه حيث أخبر عن وقت العصر بأنه إذا صار ظل كل شيء مثليه، والذي يقتضيه النظر، أنه ليس غرض أبي هريرة من هذا الكلام بيان أوائل أوقات الصلاة ولا بيان أواخرها، فإنه لو حمل على الأول لم يصح كلامه في الظهر، فإن أول وقته عند دلوك الشمس ولو حمل على الثاني لم يصح كلامه في العصر والصبح، فإن صيرورة الظل مثلين ليس آخر وقت العصر، ولا الغلس آخر وقت الصبح، بل غرضه بيان الأوقات التي صلّى فيها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بجبريل في اليوم الثاني من يومَيْ إمامته ليعرف به منتهى الأوقات المستحبة، فإنه قد ورد في روايات من أشرنا إليه سابقاً وغيرهم أن جبريل أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم في يومين، فصلَّى معه الظهر في اليوم الأول حين زوال الشمس، والعصر حين صار ظل كل شيء مثله، والمغرب عند الغروب، والعشاء عند غيبوبة الشفق، والصبح بغَلَس، ثم صلَّى معه في اليوم الثاني الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، والعصر حين صار ظل كل شيء مثليه، والمغرب في الوقت الأول، والعشاء عند ثلث الليل، والصبح بحيث أسفر جداً، فبيَّن أبو هريرة تلك الأوقات مشيراً إلى ذلك، وزاد في العشاء ما يشير إلى أن وقته إلى نصف الليل، آخذاً ذلك مما سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للصلاة أوَّلاً وآخراً، وأن أول وقت العشاء حين يغيب الشفق، وأن آخر وقتها حين ينتصف الليل، أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (أخرجه الطحاوي في باب مواقيت الصلاة، 1/93) من حديثه، والترمذي أيضاً في جامعه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الْعَصْرِ، وكان يَرى الإِسْفَارَ في الْفَجْرِ (1) ،   = (أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، رقم 151) ، وأما الصبح فإن كان قد صلاّها جبريل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني حين أسفر، لكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم داوم على الغلس بعد ذلك إلاَّ أحياناً أشار إلى كونه مستَحبّاً واكتفى بذكره. وإذا تحقَّق هذا فليس في هذا الأثر ما يفيد مذهب أبي حنيفة، أنه يجوز الظهر إلى الظل، ولا يدخل وقت العصر إلاَّ عند الظلين. (1) في نسخة: بالفجر، قوله: وكان يرى الإسفار بالفجر، أي كان يعتقد أبو حنيفة استحباب الإسفار بالفجر، وقد اختلفت فيه الأخبار القولية والفعلية والآثار، أما اختلاف الأخبار فمنها ما ورد في الإسفار، ومنها ما ورد في التغليس. أما أحاديث الإسفار، فأخرج أصحاب السنن الأربعة (أخرجه أبو داود في المواقيت 1/162، والترمذي في باب ما جاء في الإسفار بالفجر 1/290، والنسائي 1/94، وابن ماجه، في باب وقت الفجر 1/119، الطحاوي 1/105، والبيهقي في السنن الكبرى 1/277، والتلخيص الحبير: 1/182) وغيرهم من حديث محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان بلفظ: "أسفروا بصلاة الصبح، فإنه أعظم للأجر". وفي لفظٍ له: "فكلما أصبحتم بالصبح، فإنه أعظم لأجوركم"، وفي لفظ للطبراني: "وكلما أسفرتم بالفجر، فإنه أعظم للأجر". وأخرجه أحمد في مسنده "من حديث محمود بن لبيد مرفوعاً، والبزار في مسنده من حديث بلال نحوه. وأخرجه البزار من حديث أنس بلفظ: "أسفروا بصلاة الفجر، فإنه أعظم للأجر". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = وأخرجه الطبراني والبزَّار من حديث قتادة بن النعمان، والطبراني أيضاً من حديث ابن مسعود، وابن حبان في "كتاب الضعفاء" من حديث أبي هريرة، والطبراني من حديث حوّا الأنصارية بنحو ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والطبراني، عن رافع بن خديج سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: "يا بلال، نوِّرْ بصلاة الصبح حتى يُبْصر القوم مواضع نَبْلهم من الإسفار". وأخرجه أيضاً ابن أبي حاتم في "علله" وابن عَدِيّ في "كامله"، وأخرج الإمام أبو محمد القاسم بن ثابت السرقسطي في "غريب الحديث"، عن أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح حين يفسح البصر". وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من حديث رافع مرفوعاً: "نوّروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر، وعن بلال مثله، وعن عاصم بن عمرو، عن رجال من قومه من الأنصار من الصحابة أنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصبحوا الصبح فكلما أصبحتم فهو أعظم للأجر". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة: أنَّه صلى الله عليه وسلم كان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه". وأخرجا أيضاً، عن ابن مسعود، قال: "مارأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةً لغيرِ وقتها إلاَّ بجَمْعٍ، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجَمْع، وصلّى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها، يعني وقتها المعتاد، فإنه صلّى هناك في الغلس. وأخرج أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبيد، عن أبي الدرداء مرفوعاً: "أسفروا بالفجر تغنموا". وأما أحاديث الغلس، فأخرج ابن ماجة، عن مغيث: صليت بعبد الله بن الزبير الصبح بغلس، فلما سلَّمت أقبلتُ على ابن عمر، فقلت: ما هذه الصلاة؟ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = قال: هذه كانت صلاتنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر، فلما طُعن عمر أسفر بها عثمان. وأخرج مالك والبخاري ومسلم وغيرهم، عن عائشة: كنَّ نساءَ المؤمنين يصلِّين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم ينصرفن متلفِّفات بمروطهن ما يُعْرَفْن من الغَلَس. وأخرج أبو داود وابن حبان في "صحيحه" والحازمي في "كتاب الناسخ والمنسوخ"، عن أبي مسعود أنه صلى الله عليه وسلم صلّى الصبح بغلس، ثم صلّى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك بالغلس إلى أن مات، ولم يعد إلى أن يسفر. وأخرج الطبراني في "معجمه" من حديث جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حيَّة، والمغرب إذا وجبت الشمس، والعشاء إذا كثر الناس عجَّل، وإذا قلّوا أخَّر، والصبح بغلس. وفي الباب أحاديث كثيرة مرويَّة في كتب شهيرة. وأما اختلاف الآثار، فأثر أبي هريرة المذكور في الكتاب يدل على اختيار الغلس. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/106) ، عن قرة بن حبان: تسحَّرنا مع عليّ، فلما فرغ من السحور أمر المؤذن، فأقام الصلاة. وعن داود بن يزيد الأودي، عن أبيه: كان علي يصلي بنا الفجر ونحن نتراءى بالشمس مخافة أن يكون قد طلعت. وعن عبد خير: كان عليّ ينوِّر بالفجر أحياناً ويغلس بها أحيانا. وعن حرشة: كان عمر بن الخطاب ينوِّر بالفجر ويغلِّس، ويصلّي في ما بين ذلك، ويقرأ بسورة يوسف ويونس وقصار المثاني والمفصّل. وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = صلينا وراء عمر بن الخطاب صلاة الصبح، فقرأ فيها بسورة يوسف والحج قراءة بطيئة فقلت: والله إذاً لقد كان يقوم حين يطلع الفجر؟ قال: أجل. وعن السائب: صلَّيت خلف عمر الصبح، فقرأ فيها بالبقرة، فلما انصرفوا استشرفوا الشمس، فقالوا: طلعت، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. وعن زيد بن وهب: صلى بنا عمر صلاة الصبح، فقرأ بني إسرائيل والكهف حتى جعلتُ أنظر إلى جدار المسجد هل طلعت الشمس. وعن محمد بن سيرين، عن المهاجر، أن عمر كتب إلى أبي موسى: أن صلِّ الفجر بسواد، أو قال فغلّس، وأطِل القراءة. وعن أنس بن مالك: صلّى بنا أبو بكر صلاة الصبح، فقرأ بسورة آل عمران، فقالوا: كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. وعن عبد الرحمن بن يزيد: كنا نصلّي مع ابن مسعود، فكان يسفر بصلاة الصبح. وعن جبير بن نفير: صلّى بنا معاوية الصبح فغلّس فقال أبو الدرداء: أسفروا بهذه الصلاة. وعن إبراهيم النخعي، قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير. وفي الباب آثار كثيرة، وقد وقع الاختلاف باختلاف الأخبار والآثار. فذهب الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه والثوريُ والحسن بن حَيّ وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار أفضل من التغليس في الأزمنة كلها، وذهب مالك والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود بن علي وأبو جعفر الطبري إلى أن الغلس أفضل، كذا ذكره ابن عبد البر (الاستذكار 1/51) . وقد استدلَّ كل فرقة بما يوافقها وأجابه عما يخالفها، فمن المغلِّسين من قال: تأويل الإسفار حصول اليقين بطلوع الصبح، وهو تأويل باطل يردّه اللغة. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = ويردُّه أيضاً بعض ألفاظ الخبر الدالة صريحاً على التنوير كما مر ومنهم من قال: الإسفار منسوخ، لأنه صلى الله عليه وسلمـ أسفر، ثم غلَّس إلى أن مات، وهذا أيضاً باطل، لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال والاجتهاد ما لم يوجد نص صريح على ذلك ويتعذَّر الجمع ومنهم من قال: لو كان الإسفار أفضل لما داوم النبي صلى الله عليه وسلم على خلافه، وهذا جواب غير شافٍ بعد ثبوت أحاديث الإسفار. ومنهم من ناقش في طرق أحاديث الإسفار، وهي مناقشة لا طائل تحتها، إذ لا شك في ثبوت بعض طرقها، وضَعْفُ بعضها لا يضرّ، على أن الجمع مقدَّم على الترجيح على المذهب الراجح. ومن المُسفرين من قال: التغليس كان في الابتداء ثم نُسخ، وفيه أنه نَسْخٌ اجتهاديّ مع ثبوت حديث الغلس إلى وفاته صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال: لو كان الغلس مستحباً لما اجتمع الصحابة على خلافه، وفيه أن الإجماع غير ثابت لمكان الاختلاف فيما بينهم. ومنهم من ادعى انتفاء الغلس عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذاً من حديث ابن مسعود وغيره. وهذا كقول بعض المغلِّسين أن الإسفار لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم باطل، فإن كلاًّ منهما ثابت، وإن كان الغلس أكثر. ومنهم من قال: لمّا اختلفتْ الأحاديث المرفوعة تركناها، ورجعنا إلى الآثار في الإسفار، وفيه أن الآثار أيضاً مختلفة، ومنهم من سلك مسلك المناقشة في طرق أحاديث الغلس، وهي مناقشة أخرى (في نسخة: أخزى) من المناقشة الأولى. ومنهم من سلك مسلك الجمع باختيار الابتداء في الغلس والاختتام في الإسفار بتطويل القراءة، وبه يجتمع أكثر الأخبار والآثار. وهذا الذي اختاره الطحاوي (شرح معاني الآثار 1/109) ، وحكم بأنه المستحب، وأن أحاديث الإسفار محمولة على الاختتام في الإسفار، وأحاديث الغلس على الابتداء فيه، وقال: هذا هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وهو جَمع حسن لولا ما دلَّ عليه حديث عائشة من انصراف النساء بعد الصلاة بمروطهن لا يُعرَفنَ من الغلس، إلا أن يقال إنه كان أحياناً = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وَأَمَّا فِي قولِنا فإِنّا نقوْل: إِذَا زَادَ الظِّلُّ عَلَى المِثْلِ فَصَارَ مِثْلَ الشَّيْءِ وَزِيَادَةً (1) مِن حِينَ زَالتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ دخلَ (2) وَقْتُ العَصْرِ. وَأَمَّا أَبو حنيفةَ فَإنَّه قَالَ (3) : لاَ يَدْخُلُ وَقْتُ العصرِ حتَّى يَصِيرَ الظلُّ مِثلَيْهِ (4) .   = والكلام في هذا المبحث طويل لا يتحمَّله هذا التعليق، بل المتكفِّل له شرحي لشرح الوقاية. (1) التنوين للتحقير والتقليل، وهي كمية الفيء باختلاف الفصول والأمكنة. (2) قوله: فقد دخل وقت العصر، به قال أبو يوسف والحسن وزفر والشافعي وأحمد والطحاوي وغيرهم، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة على ما في عامة الكتب، ورواية محمد عنه على ما في "المبسوط"، كذا في "حلية المحلّى شرح منية المصلّى" (هكذا في الأصل: هنا وفيما سيأتي مراراً، وهو تحريف قطعاً، والصواب: "حَلْبَة المجلّي شرح منية المصلي" بفتح الحاء من "حَلبة" وسكون اللام، يليها باء موحدة، والمجلي بضم الميم وفتح الجيم وكسر اللام المشددة، انظر هامش الأجوبة الفاضلة: ص 197) . لمحمد بن أمير حاج الحلبي، وفي "غرر الأذكار:: هو المأخوذ به، وفي "البرهان شرح مواهب الرحمن": هو الأظهر، وفي "الفيض" للكركي: عليه عمل الناس اليوم، وبه يُفتى. كذا في "الدر المختار" والاستناد لهم بأحاديث: منها أحاديث التعجيل التي ستأتي في الكتاب. ومنها أحاديث إمامة جبريل التي مرَّت الإشارة إليها، وهي أصرح من أحاديث التعجيل. ومنها حديث جابر المرويّ في سنن النسائي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله. وفي الباب آثار وأخبار كثيرة تدل على ذلك مبسوطة في موضعها. (3) قد ذكر جمع من الفقهاء رجوعه عنه إلى المثل. (4) قوله: حتى يصير الظل مثليه، أي سوى فيء الزوال في بلدة يوجد هو فيها، واستدلاله أحاديث: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 2 - أخبرَنا مالك، أخبرني ابن شهابٍ (1)   = منها حديث علي بن شيبان: قَدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان يؤخِّر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية. رواه أبو داود وابن ماجة. وهذا يدلُّ على أنه كان يصلي عند المثلين. ومنها حديث جابر: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صار ظل كل شيء مثليه. رواه ابن أبي شيبة بسند لا بأس به، كذا ذكره العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (5/33) . وفيه أنهما إنما يدلاّن على جواز الصلاة عند المثلين، لا على أنه لا يدخل وقت العصر إلاَّ عند ذلك. ومنها أثر أبي هريرة المذكور في الكتاب، وقد مرَّ ما له وما عليه. والإنصاف في هذا المقام أن أحاديث المثل صريحة صحيحة. وأخبار المثلين ليست صريحة في أنه لا يدخل وقت العصر إلى المثلين، وأكثر من اختار المثلين إنما ذكر في توجيهه أحاديث استنبط منها هذا الأمر، والأمر المستنبط لا يعارض الصريح، ولقد أطال الكلام في هذا المبحث صاحب "البحر الرائق" فيه وفي رسالة مستقلَّة، فلم يأتِ بما يفيد المدَّعى ويُثبت الدعوى فتفطَّنْ. (1) قوله: ابن شهاب الزهري، قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/90) : محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهرة بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤيّ أبو بكر القرشي الزهري المدني. سكن الشام وكان بأَيْلة، ويقولون: تارة الزهري، وتارة ابن شهاب، ينسبونه إلى جدّ جدّه، تابعي صغير، سمع أنساً وسهلَ بنَ سعد والسائبَ بن زيد وأبا أمامة وأبا الطفيل، وروى عنه خلائق من كبار التابعين وأتباعهم، روينا عن الليث بن سعد، قال: ما رأيت قطّ عالماً أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علماً منه، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الزُّهْري (1) ، عَن عُروةَ (2) قَالَ: حَدَّثَتْنِي عائشةُ (3) رضيَ الله عَنْها، أنَّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ والشمسُ (4) فِي حُجْرَتِهَا (5)   = وقال الشافعي: لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة، توفي في رمضان سنه 124 هـ، ودُفن بقرية أطراف الشام، يقال لها شغب. انتهى ملخَّصاً. (1) بضم الزاي وسكون الهاء نسبة إلى زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، كذا في "الأنساب". (2) قوله: عن عروة، هو ابن الزبير بن العَوَّام الأسدي أبو عبد الله المدني، قال ابن عُيَيْنة: أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم وعروة وعَمْرة بنت عبد الرحمن، مات سنة 94 هـ، كذا في "إسعاف السوطي" (ص 29) . (3) قوله: حدَّثتني عائشة، هي بنت أبي بكر الصدِّيق زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحبَّ أزواجه إليه، تزوجها وهي ابنة ست سنين قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث وبنى بها بالمدينة وهي ابنة تسع، وتوفيت سنة 57 هـ، وقيل: سنة 58 هـ، قال الزهري: لو جُمع علم عائشة إلى جميع علم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل، كذا في "استيعاب ابن عبد البر". (4) قوله: والشمس، المراد من الشمس، ضَوْءُها، لا عينها، والواو في قوله والشمس للحال، كذا في "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسطلاني. (5) أي: في داخل بيتها، قال السيوطي: الحُجْرة: بضم الحاء وسكون الجيم: البيت سُمِّي به لمنعها المال. قوله: في حجرتها، أي بيت عائشة، كأنها جرّدت واحدة من النساء وأثتتت لها حجرة وأخبرت بما أخبرت به، وإلاَّ فالقياس التعبير "بحجرتي"، كذا في "إرشاد الساري". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 قَبْلَ (1) أَنْ تَظْهَرَ (2) . 3 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابنُ شهابٍ (3) الزُّهْرِيُّ، عَنْ أنسِ (4) بنِ مالكٍ أنَّه قال:   (1) قوله: قبل ... إلخ، فإن قال قائل: ما معنى قولها قبل أن تظهر الشمس، والشمس ظاهرة على كل شيء من طلوعها إلى غروبها، فالجواب أنها أرادت: والفيء في حجرتها قبل أن تعلو على البيوت، فكنَّتْ بالشمس عن الفيء، لأن الفيء عن الشمس كما سمِّي المطر سماء، لأنه ينزل من السماء، وفي بعض الروايات لم يظهر الفيء، كذا في "الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري" للكرماني. (2) أي: قبل أن يعلو على الجدار، كذا في "الكواكب الدراري"، يقال ظهرت السطح، أي: علوته. قوله: تظهر، قال الطحاوي: لا دلالة فيه على التعجيل لاحتمال أن الحجرة كانت قصيرة الجدار، فلم تكن الشمس تحتجب (في الأصل: "فلم يكن الشمس يحتجب"، وهو خطأ) عنها إلاَّ بقرب غروبها، فيدل على التأخير. وتُعَقِّب بأن الذي ذكره من الاحتمال إنما يتصوَّر مع اتساع الحجرة، وقد عرف بالاستفاضة والمشاهدة أن حُجَر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن متَّسعة، ولا يكون ضوء الشمس باقياً في قعر الحجرة الصغيرة إلاَّ والشمس قائمة مرتفعة، كذا في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" (2/21. ولكن ردَّ عليه العيني في عمدة القاري (2/539) ، بقوله: قلت لا وجه للتعقُّب فيه، لأن الشمس لا تحتجب عن الحجرة الصغيرة الجدار إلاَّ بقرب غروبها، وهذا يُعلم بالمشاهدة، فلا يُحتاج إلى المكابرة ولا دخل لاتِّساع الحجرة ولا لضيقها، وإنما الكلام في قصر جدرها) للحافظ ابن حجر. (3) هو محمد بن مسلم الزهري. (4) قوله: عن أنس بن مالك، هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 كنّا نصلِّي العصرَ (1) ثمَّ يَذْهَبُ الذاهبُ (2)   = ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللَّهم أكثِرْ مالَه وولدَه، وأدخِلْه الجنة"، مات سنه 102 هـ وقيل سنة 92 هـ وقد جاوز المئة، كذا في "إسعاف المبطأ، برجال الموطأ" (ص 7) للسيوطي. (1) قوله: كنا نصلي العصر، قال ابن عبد البر: هكذا هو في "الموطأ"، ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه عبد الله بن نافع وابن وهب في رواية يونس بن عبد الأعلى عنه؛ وخالد بن مخلد وابنه عامر العقدي كلهم عن مالك، عن الزهري، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي العصر، ثم يذهب الذاهب ... الحديث. وكذلك رواه عبد الله بن المبارك عن مالك، عن الزهري وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة جميعاً عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قباء، قال أحدهما: فيأتيهم وهم يصلون، وقال الآخر: فيأتيهم والشمس مرتفعة. ورواه أيضاً كذلك معمر وغيره من الحفاظ عن الزهري، فهو حديث مرفوع. قلت: هو كذلك عند البخاري من طريق شعيب عن الزهري، وعند مسلم وأبي داود وابن ماجه من طريق الليث عن الزهري، وعند الدارقطني من طريق إبراهيم بن أبي عَبْلة عن الزهري، كذا في "تنوير الحوالك على موطأ مالك" (1/26) للسيوطي. (2) أي ممن صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ثم يذهب الذاهب، قال الحافظ ابن حجر: أراد نفسه لما أخرجه النسائي والطحاوي من طريق أبي الأبيض عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا العصر والشمس بيضاء محلّقة؛ ثم أرجع إلى قومي فأقول لهم: قوموا فصلوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلّى. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 إلى (1) قُباء (2)   = قلت: بل أعم من ذلك لما أخرجه الدارقطني والطبراني من طريق عاصم بن عمر بن قتادة عن أنس قال: كان أبعد رجلين من الأنصار من رسول الله صلى الله عليه وسلم داراً أبو لبابة بن عبد المنذر، وأهله بقباء، وأبو عبس بن جبر، ومسكنه في بني حارثة، فكانا يصلّيان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يأتيان قومهما، وما صلّوا لتعجيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، كذا في "تنوير الحوالك" (1/26) . (1) إلى قُبا، قال النسائي: لم يتابَع مالك على قوله "إلى قبا" والمعروف "إلى العوالي". وقال الدارقطني: رواه إبراهيم بن أبي عبلة عن الزهري فقال إلى العوالي، وقال ابن عبد البر: الذي قاله جماعة أصحاب ابن شهاب عنه "إلى العوالي" وهو الصواب عند أهل الحديث، وقول مالك "إلى قبا" وهم لا شك فيه إلاَّ أن المعنى متقارب، فإن العوالي مختلفة المسافة، فأقربها إلى المدينة ما كان على ميلين أو ثلاثة، ومنها ما يكون على ثمانية أميال، ومثل هذا هي المسافة بين قبا والمدينة. وقد رواه خالد بن مخلد عن مالك، فقال: إلى العوالي، وسائر رواة "الموطأ" يقولون: إلى قباء، وقال الحافظ ابن حجر: نسبه الوهم فيه إلى مالك منتقد، فإنه إن كان وهماً احتمل أن يكون منه، وأن يكون من الزهري حين حدث به مالكاً، فإن الباجيّ نقل عن الدارقطني أن ابن أبي ذئب رواه عن الزهري "إلى قبا" كذا في "تنوير الحوالك" (1/26 - 27) . (2) قوله: قباء، قال النووي: يُمَدّ ويُقصر ويُصرف ولا يُصرف ويُذكَّر ويؤنَّث، والأفصح التذكير والصرف والمدّ، وهو على ثلاثة أميال من المدينة، كذا في "تنوير الحوالك" (1/26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فيأتيهم (1) و (2) الشمسُ مُرْتَفِعَةٌ (3) . 4 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إسحاقُ بنُ عبدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ (4) ، عَنْ أَنَسِ بنِ مالك (5) ، قال: كنا (6)   (1) أي يأتي الذاهب إلى أهل قبا. (2) الواو حالية. (3) أي ظاهرة عالية. قوله: والشمس مرتفعة، المعنى الذي أدخل مالك هذا الحديث في "موطَّئه" تعجيل العصر خلافاً لأهل العراق الذي يقولون بتأخيرها، نقل ذلك خَلَفُهم عن سلفهم بالبصرة والكوفة، قال الأعمش: كان إبراهيم يؤخِّر الصلاة جدَّاً، وقال أبة قلابة: وإنما سمِّيت العصر لتعصر. وأما أهل الحجاز فعلى تعجيل العصر سَلَفُهم وخَلَفُهم، كذا في "الاستذكار" (1/70) . (4) قوله: أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قال السيوطي (الإسعاف: ص 6) : وثَّقه أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، وقال ابن معين: ثقة حجة، مات سنة 134 هـ. (5) هذا الحديث قد أخرجه البخاري ومسلم من طريق مالك والنسائي وغيرهم. (6) قوله: كنا نصلي العصر .... إلخ، قال ابن عبد البر: هذا يدخل عندهم في المسند، فصرَّح برفعه ابن المبارك وعتيق بن يعقوب الزهري، كلاهما عن مالك بلفظ كنا نصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وهذا اختيار الحاكم أن قول الصحابي كنا نفعل كذا مسند ولو لم يصرِّح بإضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 نُصَلِّي (1) الْعَصْرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ الإِنْسَانُ (2) إِلَى بَنِي عمرِو بنِ عَوْفٍ (3) فيجدُهم (4) يُصَلُّونَ الْعَصْرَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: تَأخِيْرُ الْعَصْرِ (5) أَفْضَلُ (6)   = الدارقطني والخطيب: وهو موقوف، قال الحافظ عبد الحق: إنه موقوف لفظاً مرفوع حكماً، قاله الزرقاني (1/24) . (1) أي في مسجد المدينة. (2) ممن صلَّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. (3) قال العيني في "عمدة القاري شرح البخاري" (5/36) كانت منازلهم على ميلين بقبا. (4) قوله: فيجدهم يصلون، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجِّل (في الأصل: "يعجل"، والظاهر: "يعجل العصر") في أوَّل وقتها، ولعلَّ تأخيرهم لكونهم كانوا أهل أعمال في زروعهم وحوائطهم، فإذا فرغوا من أعمالهم تأهَّبوا للصلاة بالطهارة وغيرها، ثم اجتمعوا لها فتأخَّرت صلاتهم إلى وسط الوقت. قال النووي: هذا الحديث حجة على الحنفية حيث قالوا: لا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، كذا في "الكواكب الدراري". (5) أي لا في يوم غيم. (6) قوله: أفضل، علَّله صاحب "الهداية" وغيره من أصحابنا بأن في تأخيره تكثير النوافل لكراهتها بعده، وهو تعليل في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = الدالَّة على فضيلة التعجيل، وهو كثيرة مرويَّة في الصحاح الستَّة وغيرها (إن تعليل صاحب "الهداية" بتكثبر النوافل ليس بمقابلة النصوص الصحيحة الصريحة في أفضلية التعجيل، وما روي منها في الصحاح الستة وغيرها ليس شيء منها مما يُشير إلى أفضلية أول الوقت، وما روى أبو داود عن شيبان بن علي صريح في التأخير ونفي التعجيل، وأنه يُقطع منه بالتأخير الكامل إلى آخر الوقت المستحب، وأنه غير مستحب عندنا حتى يحتمل وقوعها في شيء من الوقت المكروه على أنّا بصدد المنع. (تنسيق النظام ص 43)) ، وقد مرَّ نُبَذٌ منها في الكتاب، وذكر العيني في "البناية شرح الهداية" لأفضلية التأخير أحاديث: الأول: ما أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن عليّ بن شيبان، عن أبيه، عن جده، قال: قَدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان يؤخِّر العصر مادامت الشمس بيضاء نقية. والثاني: ما أخرجه الدارقطني عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتأخير هذه الصلاة يعني العصر. والثالث: ما أخرجه الترمذي عن أم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ تعجيلاً للظهر منه. والرابع: ما أخرجه الطحاوي عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي العصر والشمس بيضاء. ولا يخفى على الماهر ما في الاستناد بهذه الأحاديث. أما الحديث الأول، فلا يدل إلاَّ على أنه كان يؤخر العصر ما دام كون الشمس بيضاء، وهذا أمر غير مستنكر، فإنه لم يقل أحد بعدم جواز ذلك، والكلام إنما هو في أفضلية التأخير وهو ليس بثابت منه. لا يقال: هذا الحديث يدل على أن التأخير كان عادته يشهد به لفظ "كان" = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = المستعمل في أكثر الأحاديث لبيان عادته المستمرة، لأنا نقول: لو دلَّ على ذلك لعارضه كثير من الأحاديث القويَّة الدالَّة على أن عادته كانت التعجيل، فالأوْلى أن لا يُحمل هذا الحديث على الدوام دفعاً للمعارضة واعتباراً لتقديم الأحاديث القوية. وأما الثاني فقد رواه الدارقطني في "سننه" عن عبد الواحد بن نافع قال: دخلت مسجد الكوفة فأذَّن مؤذَّن بالعصر وشيخ جالس، فلامه وقال: إنَّ أبي أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتأخير هذه الصلاة، فسألت عنه، فقالوا: هذا عبد الله بن رافع بن خديج. ورواه البيهقي في "سننه" وقال: قال الدارقطني في ما أخبرنا عنه أبو بكر بن الحارث: هذا حديث ضعيف الإسناد، والصحيح عن رافع ضده، ولم يروه عن عبد الله بن رافع غير عبد الواحد بن نافع، وهو يروي عن أهل الحجاز المقلوبات، وعن أهل الشام الموضوعات، لا يحل ذكره في الكتب إلاَّ على سبيل القدح فيه. انتهى. ورواه البخاري في "تاريخه الكبير" في ترجمة عبد الله بن رافع: حدثنا أبو عاصم، عن عبد الواحد بن نافع، وقال..لا يُتابَع عليه يعني عن عبد الله بن رافع، وقال ابن القطان: عبد الواحد بن نافع مجهول الحال مختلف في حديثه (في الجوهر النقي (1/441 - 442) : قلت: ذكر ابن حبان في ثقات التابعين عبد الله بن رافع، وذكر في ثقات أتباع التابعين عبد الواحد بن نافع، وأخرجه الحاكم بسنده، وقال: صحيح على شرط البخاري) . كذا ذكره الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية". وأما الثالث فإنما يدل على كون التعجيل في أظهر أشد من التعجيل في العصر لا على استحبابه تأخير العصر. وأما الرابع فلا يدل أيضاً على استحباب التأخير. ومن الآثار المقتضية للتأخير ماروي عن زياد بن عبد لله النخعي: كنا جلوساً = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 عِنْدَنا (1) مِنْ تَعْجِيلِها إِذَا صَلَّيْتَهَا (2) وَالشَّمسُ (3) بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ (4)   = مع عليّ رضي الله عنه في المسجد الأعظم فجاء المؤذِّن فقال: الصلاة، فقال اجلس، فجلس، ثم عاد فقال له ذلك، فقال عليّ: هذا الكلب يعلِّمنا الصلاة، فقام عليّ، فصلَّى بنا العصر، ثم انصرفنا فرجعنا إلى المكان الذي كنّا فيه جلوساً، فجثَوْنا للرُّكَب لنزول الشمس للغروب نتراآها. أخرجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأخرجه الدارقطني، وأعلَّه بأن زياد بن عبد الله مجهول (ذكره ابن حبان في ثقات التابعين: الثقات لابن حبان 4/256) ، ومما يدل على التأخير ما أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" عن عكرمة قال: كنا في جنازة مع أبي هريرة، فلم يصلِّ العصر حتى رأينا الشمس على رأس أطول جبل بالمدينة. وقد أورد الطحاوي آثاراً أخر أثبت بها ألتأخير، وأجاب عن أحاديث التعجيل بجوابات، لا يخلو واحد منها عن مناقشة، وليس هذا موضع بسطه (قلت: أحاديث التبكير والتعجيل ليست بألفاظها مفسّرة، بل نصوصاً في الأداء لأول وقتها، بل ظاهرة فيه لولا قرائن صارفة عن هذا المعنى، بل التعمق يرشد إلى أن المراد منها التعجيل والتقدم على صفرة الشمس ودخول وقت الكراهة، وبيان التبكير والتأكيد فيه لأنه لا يقع في هذا الوقت المكروه، أو ينقضي وقتها كما يشير إليه كثير من ألفاظ الأحاديث كحديث صلاة المنافق فيه فنقر أربعاً، وغير ذلك، وذلك لأن الأخبار بعد الاستقصاء في باب التعجيل عامتها ترجع إما إلى ما فيه ألفاظ مبهمة ككون الشمس حيَّة ونقيَّة بيضاء وككونها في حجرة عائشة وغير ذلك مما لا قاطع فيه بالأداء في أول الوقت، بل هو شامل إلى آخر مايدخلها الصفرة أي آخر الوقت المستحب، "تنسيق النظام" ص 43) . (1) معاشر الحنفية أو معاشر أهل الكوفة. (2) أيها المصلِّي. (3) الواو حالية. (4) أي مطهَّرة من اختلاط الاصفرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 لَمْ تَدْخُلْهَا صُفْرَةٌ (1) ، وَبِذَلِكَ (2) جَاءَتْ عَامَّةُ الآثارِ (3) ، وهو (4) قولُ أبي حَنِيفةَ (5) .   (1) قوله: لم تدخلها صفرة، فإن دخلتها صفرة كرهت الصلاة. ذكره الطحاوي في "شرح معاني الآثار". واختلفوا في مقدار تغير الشمس، فقدَّره بعضهم بأنه إذا بقي مقدار رمح لم يتغير، ودونه يتغير، وعن إبراهيم النخعي وسفيان الثوري الأوزاعي أنه يعتبر التغير في ضوئها، وبه قال الحاكم الشهيد، وعليه ظاهر ما في "محيط رضي الدين" وذكر محمد في "النوادر" عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يُعتبر التغير في قرص الشمس، لا في الضوء، ونسبه شمس الأئمة السرخسي إلى الشعبي، كذا في "حلبة المجَلّي شرح مُنْيَة المصلّي". (2) أي بالتأخير. (3) قوله: عامة الآثار، أي أكثر الأخبار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه، فإن الأثر (1/63. وانظر تدريب الراوي 1/43) في عرف القدماء يَكلق على كلِّ مروي مرفوعاً كان أو موقوفاً، ومن ثم سمِّى الطحاويٌّ كتابه "شرح معاني الآثار" وكتاباً آخر سمّاه "مشكل الآثار" مع أنه ذكر فيه الأحاديث المرفوعة أكثر، وقال النووي في شرح صحيح مسلم: المذهب المختار الذي قاله المحدثون وغيرهم واصطلح عليه السلف وجماهير الخلف أن الأثر يُطلق على المروي مطلقاً، وقال الفقهاء الخراسانيون: الأثر: ما يُضاف إلى الصحابي موقوفاً عليه. انتهى. وقد بسطتُ الكلام فيه في شرح رسالة أصول الحديث المنسوبة إلى السيد الشريف المسمَّى بـ"ظفر الأماني (ص 4، 5) في المختصر المنسوب إلى الجُرْجاني"، فليُطالَع. (4) أي التأخير. (5) قوله: قول أبي حنيفة، وبه قال أبو قلابة محمد بن عبد الملك وإبراهيم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وَقَدْ قَالَ (1) بَعْضُ الفُقَهَاءِ (2) : إِنَّما سُمِّيتِ العَصْرٌ لأَّنَّها (3) تُعْصَرُ وَتُؤَخَّر (4) .   = النخعي والثوري وابن شبرمة وأحمد في رواية، وهو قول أبي هريرة وابن مسعود، وقال الليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وغيرهم: إن الأفضل التعجيل، كذا في "البناية" للعيني، وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/115) عن صالح بن عبد الرحمن، نا سعيد بن منصور، نا هشيم، أنا خالد، عن أبي قلابة: إنما سميت العصر لتعصر وتؤخر ثم قال الطحاوي: فأخبر أبو قلابة أن اسمها هذا لأن سببها أن تعصر، وهذا الذي استحسنّاه من تأخير العصر من غير أن يكون ذلك إلى وقت قد تغيَّرت فيه الشمس، أو دخَلَتْها صفرة، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وبه نأخذ. انتهى. وأخرج أيضاً عن أبراهيم النخغي استحباب التأخير، وأن أصحاب عبد الله بن مسعود كانوا يؤخِّرون. (1) تأييد لما ذهب إليه بالاستنباط من لفظ العصر التأخير. (2) المراد به أبو قلابة كما يُعلم من "الاستذكار" (1/70) . (3) أي صلاة العصر. (4) قوله: لأنها تعصر وتؤخر، قد يقال: إنما سمِّي العصر عصراً لأنها تعصر وتقع في آخر النهار، فهي مؤخّرة عن جميع صلوات النهار ووقتها مؤخر عن جميع أوقات صلوات النهار لا لأنها تُعصر عن أول وقتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 2 - (بَابُ ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ) 5 - أَخْبَرْنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَمرو (1) بنُ يَحْيى بنِ عُمَارة (2) بنِ أَبِي حَسَنٍ المازِنيُّ (3) ، عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى (4) أنَّه سَمِعَ (5) جدَّهُ أبا حَسَن (6) يَسألُ (7)   (1) بفتح العين، وثَّقه النّسائي وأبو حاتم، قاله السيوطي. (2) بضم العين وخفَّة الميم. (3) بكسر الزاي من بنى مازن، صفة لعمرو. (4) وثَّقه النسائي، قاله السيوطي. (5) قوله: سمع، وقع في رواية يحيى الأندلسي، عن مالك أنه - أي: يحيى بن عمارة - قال لعبد الله بن زيد، فنسب السؤال إليه وهو على المجاز. (6) قوله: جدَّه أبا حسن، قيل: اسمه كنيته، لا اسم له غير ذلك، وقيل اسمه تميم بن عبد عمرو، وهو جد يحيى بن عمارة والد عمرو بن يحيى شيخ مالك، مدني له صحبة، يقال: إنه ممَّن شهد العقبة وبدراً، كذا في "الاستيعاب في أحوال الأصحاب" لابن عبد البر (الاستيعاب 7/43) . (7) قوله: يسأل .... إلخ، كذا ساقه سحنون في "المدوَّنة"، ولأبي مصعب وأكثر رواة الموطأ أن رجلاً قال لعبد الله، ولمعن بن عيسى، عن عمرو، عن أبيه يحيى، أنه سمع أبا حسن وهو جدّ عمرو بن يحيى، وعند البخاري من طريق وهيب، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد، وعنده أيضاً من طريق سليمان بن (كذا في الأصل والصواب "عن") عمرو بن يحيى، عن أبيه قال: كان عمرو يكثر الوضوء، فقال لعبد الله، وفي المستخرج لأبي نعيم من طريق = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 عبدَ اللَّهِ بنَ زَيْد بْنِ عَاصِمٍ (1) وَكَانَ (2) مِنْ أصحابِ رسولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: هل تستطيعُ (3)   = الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عمه عمرو بن أبي حسن. قال الحافظ ابن حجر: الذي يجمع هذا الاختلاف أن يقال: اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه يحيى، فسألوه عن صفة الوضوء وتولّى السؤال منهم عمرو بن أبي حسن، فحيث نُسب إليه السؤال كان على الحقيقة، وحيث نُسب إلى أبي حسن فعلى المجاز لكونه أكبر، وحيث نُسب ليحيى، فعلى المجاز أيضاً، كذا في "تنوير الحوالك" (1/39، 40 وفي "أوجز المسالك" 1/189: والأوجه عندي أن يرجع الضمير إلى جد عمرو المذكور، إذ كون عبد الله بن زيد من الصحابة ظاهر، وكون السائل من الصحابة في حيِّز الخفاء بعد، مع أنه قريب لفظاً، وكونه سائلاً لصفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أيضاً يوهم عدم صحبته، فإذاً التنبيه على كونه صحابياً أشدّ احتياجاً من التنبيه على بيان صحبة عبد الله، والله أعلم) . (1) قوله: عبد الله بن زيد بن عاصم، وقع في رواية يحيى الأندلسي، عن مالك ها هنا: وهو جد عمرو بن يحيى، فظنوا أن الضمير يعود إلى عبد الله، وبناءً عليه قال صاحب الكمال وتهذيب الكمال في ترجمة عمرو بن يحيى بن عمارة أنه ابن بنت عبد الله بن زيد بن عاصم وليس كذلك، بل الضمير يعود إلى السائل، عن عبد الله، كذا في "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر. (2) قوله: وكان، أي: عبد الله بن زيد بن عاصم وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه راوي حديث الأذان، ووهم من قال باتحادهما، وذكر السيوطي أن عبد الله المازني هذا مات سنة 63 هـ. (3) قوله: هل تستطيع أن تريني، أي: أرني، قال الحافظ: فيه ملاطفة الطالب للشيخ، وكأنه أراد الإراءة بالفعل ليكون أبلغ في التعليم، وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون نسي ذلك لبُعد العهد، قاله الزرقاني (1/43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أَنْ تُرِيَني (1) كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ قَالَ عبدُ اللَّه بنُ زَيْدٍ: نَعْمَ (2) ، فَدَعَا بِوَضُوْءٍ (3) فَأَفْرَغَ (4) عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْن (5) ، ثُمَّ مَضْمَضَ (6) (7) (8) ،   (1) من الإراءة، أي: تبصرني وتعلِّمني. (2) أي: أستطيع. (3) قوله: بوضوء، هو بالفتح الماءُ الذي يُتَوَضَّأ به، وبالضم إذا أردت الفعل. وقال الخليل: الفتح في الوجهين، ولم يعرف الضم، وكذا عندهم الطُّهور والطَّهور والغُسل والغَسل، وحكى غسلا وغُسلاً بمعنى، وقال ابن الأنباري: الأوجه هو الأوَّل، أي: التفريق بينهما وهو المعروف الذي عليه أهل اللغة، كذا في "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض. (4) أي: صبّ. (5) قوله: مرتين، قال الحافظ: كذا لمالك، ووقع في رواية وهيب عند التخاري، وخالد بن عبد الله عند مسلم، والدراوردي عند أبي نعيم: "ثلاثاً" فهؤلاء حفاظ وقد اجتمعوا، ورواياتهم مقدَّمة على رواية الحافظ الواحد، وفي رواية أبي مصعب "يده" بالإفراد على إرادة الجنس، كذا في "التنوير" (1/40 وانظر منتقى الباجي: 1/64) . (6) المضمضة تحريك الماء، وفي الاصطلاح استيعاب الماء في الفم (قال النووي: وأقلها أن يجعل الماء في فيه، ولا يُشترط الإدارة على المشهور عند الجمهور. شرح صحيح مسلم 1/505 باب صفة الوضوء) . (7) يحتمل مرتين نظراً لما قبله، ويحتمل ثلاثاً اعتباراً بما بعده. (8) قوله: ثم مضمض، واستنثر كذا في رواية يحيى، وفي رواية أبي مصعب بدله استنشق. قال الشيخ ولي الدين: فيه إطلاق الاستنثار على = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثَاً، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إلَى المِرْفَقَيْن (1) مَرَّتَيْن (2) ، ثُمَّ مَسَحَ (3)   = الاستنشاق، وفي "شرح مسلم" للنووي: الذي عليه الجمهور من أهل اللغة وغيرهم أن الاستننثار غير الاستنثاق، وأنه إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف، وأما الاستنشاق: فهو إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنَّفَس إلى أقصاه، كذا في "التنوير" (1/40) . (1) تثنية مرفق بكسر الميم وفتح الفاء وبالعكس: العظم الناتئ في آخر الذراع. (2) قوله: مرتين مرتين، قال الشيخ وليّ الدين: المنقول في علم العربية أن أسماء الأعداد والمصادر والأجناس، إذا كُرِّرت كان المراد حصولها مكرَّرة لا التوكيد اللفظي، فإنه قليل الفائدة. مثال ذلك: جاء القوم اثنين اثنين أو رجلاً رجلاً، وهذا الموضع منه، أي: غسلهما مرتين بعد مرتين، أي: أفرد كل واحدة منهما بالغسل مرتين، وقال الحافظ: لم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين ولكن في مسلم من طريق حبان بن واسع، عن عبد الله بن زيد، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وفيه وغسل يده اليمنى ثلاثاً ثم الأخرى ثلاثاً، فيُحمل على أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديثين غير متَّحد، كذا في "تنوير الحوالك" (1/41) . (3) قوله: ثم مسح .... إلخ، قال ابن عبد البر: روى سفيان هذا الحديث فذكر فيه مسح الرأس مرتين (قال النووي: مسح جميع الرأس مستحب باتفاق العلماء. شرح مسلم 1/520. والمشهور عند المالكية أن الاستيعاب واجب، وبعض الرأس عند الشافعي، وهما روايتان عن أحمد، وقال الموفق: ظاهر مذهب أحمد الاستيعاب في حق الرجل، ويكفي المرأة أن تمسح مقدَّم رأسها، وربع الرأس أو مقدار الناصية عند الحنفية. أوجز المسالك 1/193) وهو خطأ لم يذكره أحد غيره، وقال القرطبي: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 مِنْ مُقَدَّمِ رأسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا (1) إِلَى قَفَاه (2) ، ثُمَّ رَدّهُما إِلَى المكانِ الَّذِي مِنْهُ بَدَأَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْه (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا حَسَنٌ (4) والوُضوءُ ثَلاثاً ثلاثاً (5) أفْضَلُ (6)   = لم يجيء في حديث عبد الله بن زيد للأذنين ذكر، ويمكن أن يكون ذلك لأن اسم الرأس يضمهما، وتعقَّبه الشيخ ولي الدين بأن الحاكم والبيهقي أخرجا من حديثه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ فأخذ ماءً لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه. وقالا صحيح، كذا في "التنوير" (1/42) . (1) أي: اليدين. (2) بالفتح منتهى الرأس من المؤخر. (3) زاد وهيب في روايته عند البخاري إلى الكعبين. (4) قوله: هذا حسن، إشارة إلى ما ورد في رواية عبد الله بن زيد من تثليث غسل بعض الأعضاء وتثنية غسل بعضها، وقد اختلفت الروايات، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك باختلاف الأحوال: ففي بعضها تثليث غسل الكُلّ، وفي بعضها تثنية غسل الكُلّ، وفي بعضها إفراد غسل الكُلّ، وفي بعضها تثليث البعض وتثنية البعض، وكذا مسح الرأس ورد في بعضها الإفراد، وفي بعضها التعدّد، والكل جائز ثابت، غاية ما في الباب أن يكون بعضها أقوى ثبوتاً من بعض. (5) أي: في المغسولات دون المسح. (6) قوله: أفضل، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال: هذا وضوءٌ لا يقبل الله الصلاة إلا به، وتوضأ مرتين مرتين وقال: هذا وضوءُ مَن يُضاعَفُ له الأجر مرتين، وتوضأ ثلاثاً وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، أخرجه الدارقطني والبيهقي، وروى نحوه ابن ماجه وأحمد والطبراني وابن حبان وغيرهم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وَالاثْنَانِ يُجْزِيان، والواحدةُ إِذَا أَسْبَغَتْ (1) تُجزئ أَيْضًا (2) وَهُوَ (3) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. 6 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أبو الزِّناد (4) ،   = بأسانيد يقوِّي بعضها بعضاً، والمتكفّل لبسطه شرحي شرح الوقاية المسمّى "بالسعاية في كشف ما في شرح الوقاية" (1/49) . (1) قوله: أسبغت، بصيغة الخطاب أو بالتأنيث مجهولاً، أي: إذا استوعبت، كذا في "شرح الموطأ" لعليّ القارئ. (2) قوله: تجزئ أيضاً (والكل جائز إذا استوعب ولا إثم عليه، لأن الإثم بترك الواجب دون السنَّة، واختاره صاحب الهداية 1/6 وقال القاري: إن الواجب هو المرة الواحدة وتثليث الغسل سنَّة، مرقاة المفاتيح 2/15) ، أي: بلا كراهة كما في "جامع المُضْمَرَات" عن شرح الطحاوي، أو مع كراهة كما هو ظاهر كلام الجمهور حيث عدّوا التثليث من السنن المؤكدة، وذُكر في "البناية" و"جامع المضمرات" و"المجتبى" و"الخلاصة" وغيرها أنه إ، اعتاد الاكتفاء بالواحدة أو الاثنين أثم وإلا لا. (3) قوله وهو، كون الثلاث أفضل، وجواز الاكتفاء بالواحدة والثِّنْتَين. (4) قوله: أبو الزِّناد، بكسر الزاي، هو عبد الله بن ذكوان وأبو الزناد لقبه، وكان يغضب منه لما فيه من معنى يلازم النار، ولكنه اشتهر به لجودة ذهنه، قال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة: أبو الزناد عن الأعرج عنه، قال الواقدي: مات سنة 130 هـ، كذا قال السيوطي وغيره (إسعاف المبطأ ص 22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1) الأعْرَج (2) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِذَا توضَّأ أحدُكُم فلْيَجْعَلْ فِي أنفِهِ (3) ، ثُمَّ لِيَستَنثِر (4) . 7 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، حَدَّثنا الزُّهري، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ (5) الخَولانيِّ (6) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "من توضَّأ فَلْيَسْتَنثِر (7)   (1) هو عبد الرحمن بن هرمز، اشتهر بالأعرج، وثَّقه يحيى والعجلي، مات سنة 117 هـ بالإسكندرية، كذا قال السيوطي وغيره (إسعاف المبطأ ص 27) . (2) قوله: الأعرج: قال السَّمعاني في "الأنساب": الأعرج بفتح الألف وسكون العين المهملة وفتح الراء في آخره جيم، هذه النسبة إلى العرج، والمشهور بها أبو حازم عبد الرحمن بن هرمز بن كيسان الأعرج مولى محمد بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يروي عن أبي هريرة روى عنه الزهري وأبو الزِّناد. (3) رواه القعنبي وابن بكير وأكثر الرواة، فقالوا: في أنفه ماء، قاله السيوطي. (4) في نسخة: لينتثر. قال الفراء: يقال نثر وانتثر واستنثر إذا حرّك النثرة في الطهارة، وهي طرف الأنف. (5) قوله: أبي إدريس، اسمه عائذ الله بن عمرو القاري العابد أبوه صحابي، وُلد هو في العهد النبوي ثقة حجة، مات سنة 80 هـ، قاله السيوطي وغيره. (6) نسبة إلى قبيلة بالشام. (7) أي فليبالغ في استنشاقه فإن الشيطان يبيت على خياشيمه. استنبطوا منه أن الاستنثار سنّة على حدة غير الاستنشاق. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وَمَنِ اسْتَجْمَرَ (1) فَلْيُوتِر (2) ". قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (3) نأخُذُ، ينبغي (4)   = وليس في الموطأ في حديث مسند لفظ الاستنشاق ولا يكون الاستنثار إلا بعد الاستنشاق، كذا في "الاستذكار". (1) الاستجمار المسح بالجمار، وهي الأحجار الصغار. (2) قوله: فليوتر، أي ندباً لزيادة أبي داود وابن ماجة بإسناد حسن: من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج. وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة في أن الإيتار مستحب لا شرط، كذا قال الزرقاني. (3) أي بما أفاده هذا الخبر. (4) قوله: ينبغي .... إلخ، المضمضة والاستنشاق سنتان في الوضوء، فرضان في الجنابة عند أبي حنيفة وأصحابه والثوري، وعند الشافعي ومالك والأوزاعي والليث بن سعد والطبري سنتان فيهما، وعند ابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه فرضان فيهما، وعند أبي ثور وأبي عبيد المضمضة سنة والاستنشاق واجب، كذا في "الاستذكار" (1/159) ، وذكر ابن حجر في "فتح الباري": أن ظاهر أمر الاستنثار للوجوب فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق لورود الأمر به القول بوجوبه، وهو ظاهر كلام "المغني" من الحنابلة. وصرح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوبه. انتهى. إذا عرفت هذا فنقول: استعمال محمد "ينبغي" هاهنا مبنيّ على أنه أراد به المعنى الأعم لا الذي شاع في المتأخرين من كونه بمعنى "يُستحب". القدماء في ما هو أعلم من الاستحباب والاستنان والوجوب، وقس عليه أكثر المواضع التي استعمل فيها محمد "ينبغي" فتفسير ينبغي ها هنا بيُستحب كما صدر عن القارئ ليس كما ينبغي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 للمتوضِّئ أَنْ يَتَمَضْمَضَ ويَسْتَنْثِرَ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَسْتَجمر (1) . والاستجمارُ: الاسْتِنْجَاءُ (2) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (3) . 8 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نُعَيْمُ (4) بْنُ عَبْدِ الله المُجْمر (5) ،   (1) قبل أن يشرع في التوضؤ. (2) قوله: الاستنجاء، هو إزالة النجو أي الأذى من المخرج بالماء أو الأحجار. وقال ابن القصار: يجوز أن نقول: إنه مأخوذ من الاستجمار (أو المراد بالاستجمار التبخر كما يكون في الأكفان، وكان مالك يقوله أولاً ثم رجع عنه، انظر هامش "بذل المجهود" 1/85) بالبُخور الذي به يطيب الرائحة. وقد اختلف قول مالك في معنى الاستجمار المذكور في الحديث، فقيل: الاستنجاء، وقيل: المراد به في البخور أن يأخذ منه ثلاث قطع، أو يأخذ ثلاث مرات يستعمل واحدة بعد الأخرى. قال عياض: والأول أظهر، وقال النووي: إنه الصحيح المعروف، كذا في "التنوير". (3) وهو قول أبي حنيفة، اختلف الفقهاء في الاستنجاء: هل هو واجب أم سنة؟ فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن ذلك ليس بواجب، وأنه سنة لا ينبغي تركها، فإن صلى كذلك فلا إعادة عليه، إلاّ أن مالكاً يستحب الإعادة في الوقت وأبو حنيفة يراعي ما خرج على فم المخرج مقدار الدرهم على أصله، وقال الشافعي وأحمد: الاستنجاء واجب لا يجزئ صلاة من صلى من دون أن يستنجي بالاحجار أو بالماء، كذا في "الاستذكار" (1/173) . (4) هو أبو عبد الله المدني، وثّقه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما، قاله السيوطي. (5) قوله: المُجْمر، بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم صفة لنُعيم، بضم النون، لأنه كان يأخذ المجمر قُدّام عمر رضي الله عنه إذا خرج إلى الصلاة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ (1) : مَنْ توضَّأَ فَأَحْسَنَ (2) وَضَوءَهُ ثمَّ خَرَجَ (3) عَامِداً (4) إِلَى الصلاةِ (5) فهو في صلاةٍ (6)   = في رمضان، قاله ابن حبان، وقال ابن ماكولا: كان يُجمر المسجد، لزم نعيم أبا هريرة عشرين سنة، وروى عنه كثيراً، كذا في "أنساب السمعاني" وفي "فتح الباري": وُصف (في الأصل: "وصنف" وهو خطأ، والصواب: "وصف") هو وأبوه عبد الله بذلك لأنهما كانا يبخران مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم بعض العلماء أنه وصف أبيه حقيقة ووصف ابنه نعيم بذلك مجاز، وفيه نظر. (1) قوله: يقول، أي موقوفاً، قال ابن عبد البر: كان نعيم يوقف كثيراً من حديث أبي هريرة، ومثل هذا لا يقال بالرأي فهو مسند، وقد ورد معناه من حديث أبي هريرة وغيره بأسانيد صحاح، كذا قال علي (في الأصل: "العلي القاري"، وهو تحريف) القاري. (2) قوله: فأحسن وضوءَه، بإتيانه بفرائضه وسننه وفضائله وتجنّب منهياته. (3) أي من بيته، وفيه دلالة على فضل الوضوء قبل الخروج، (4) أي قاصداً لها دون غيرها. (5) قوله: إلى الصلاة، فإن قلت: لو أراد الاعتكاف هل يدخل في هذا الحكم أم لا؟ قلت: نعم، إذ المراد أنه لا يريد إلا العبادة، ولما كان الغالب منها الصلاة فيه ذكر لفظ الصلاة، كذا في "الكواكب الدراري". (6) قوله: فهو في صلاة، أي في حكمها من جهة كونه مأموراً بترك العبث وفي استعمال الخشوع، وللوسائل حكم المقاصد، وهذا الحكم مستمر "ما دام يَعْمِد" بكسر الميم يقصد، وزناً ومعنىً، وما ضيه عَمَد كقَصَد، وفي لغة قليلة من باب فرح، ثم المراد أن يكون باعث خروجه قصد الصلاة وإنْ عرض له في خروجه أمر دنيوي فقضاه، والمدار على الإخلاص، وفي معناه ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 مَا كَانَ يَعْمِدُ (1) وَأَنَّهُ (2) تُكْتَبُ (3) لَهُ بِإِحدى (4) خَطْوَتَيْهِ (5) حَسَنَةٌ، وتُمحى (6) عنه بالأخرى (7)   = يرجع فلا يفعل هكذا وشبّك بين أصابعه. وروى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن كعب بن عجرة مرفوعاً: إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءَه ثم خرج عامداً إلى الصلاة فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة، كذا قال الزرقاني. (1) قوله: ما كان يعمد، أي ما دام مستمراً على ما يريده، وفيه إشارة إلى ما ورد أن الحسنة تكتب بقصدها ونيتها وإن لم يفعلها، فإذا خرج عامداً إلى الصلاة فهو في صلاة حيث الثواب ما لم يبطل قصدها بعمل آخر مناف له. (2) بفتح الهمزة وكسرها. (3) مجهول من الكتابة. (4) هي اليمنى. (5) قوله: خطوتيه، بضم الخاء ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة، قاله الجوهري، وجزم اليعمري أنها ها هنا بالفتح، والقرطبي والحافظ بالضم، كذا قال الزرقاني. (6) قوله: وتمحي عنه .... إلخ، قال الباجي: يحتمل أن يريد أنّ لخُطاه حكمين فيكتب له ببعضها حسنات، ويمحى عنه ببعضها سيآت، وأن حكم زيادة الحسنات غير حكم محو السيآت، وهذا ظاهر اللفظ، ولذلك فرّق بينهما، وقد ذكر قوم أن معنى ذلك واحد، وأن كتابة الحسنات بعينه محو السيآت، كذا في "التنوير". (7) قوله: بالأخرى، فيه إشعار بأن هذا الجزاء للماشي لا للراكب، أي بلا عذر، وروى الطبراني والحاكم وصححه البيهقي عن ابن عمر رفعه: إذا توضأ أحدكم، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا ينزعه إلاّ الصلاة لم تزل رجله اليسرى تمحو عنه سيئة وتكتب له اليمنى حسنة حتى يدخل المسجد، كذا قال الزرقاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 سيِّئة، فإنْ سَمِعَ أحدُكم (1) الإقامةَ فَلا يَسْعَ (2) (3) ، فإنَّ أعظَمَكم أَجْراً (4) أبعَدُكُم داراً (5) قالوا (6) :   (1) وهو ماشٍ إليها. (2) أي لا يسرع، بل يمشي على هيئته. (3) قوله: فلا يسع، فإن قلت قال الله تعالى: {فَاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} ، وهو يشعر بالإسراع، قلت: المراد بالسعي الذهاب، يقال: سعيت إلى كذا أي ذهبت إليه، كذا في "الكواكب". (4) قوله: فإن أعظمكم .... إلخ، تعليل لما حكم به من عدم السعي لما يستبعد ذلك من أجل أن الإسراع والرغبة إلى العبادة أحسن، وحاصله أن أعظمكم أجراً من كان داره بعيدة من المسجد، وما ذلك إلا لكثرة خطاه الباعثة لكثرة الثواب فلهذا الوجه بعينه يحكم بعدم السعي لئلا تقلّ خطاه فيقلّ ثوابه، وقد ورد في "صحيح مسلم" من طريق جابر، قال: خَلَتْ البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟ قالوا: نعم، قال: يا بني سلمة، دياركم تُكْتَبْ آثارُكُم، ديارَكم تُكْتَب آثارُكم. وورد مثله من حديث أنس في "صحيح البخاري" وغيره. وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم بأتموا. هذا لفظ البخاري. (5) قوله: أبعدكم داراً، ولا ينافيه ما ورد من قوله عليه السلام: "شؤم الدار بُعدُها عن المسجد"، لأن شؤمها من حيث أنه قد يؤدي إلى تفويث الصلاة بالمسجد، وفضلها بالنسبة إلى من يتحمّل المشقة ويتكلّف المسافة، فشؤمها وفضلها أمران اعتباريان، قاله علي القاري. (6) أي الحاضرون في مجلسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 لِمَ (1) يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: مِنْ أَجْلِ كَثْرةِ (2) الخُطَا (3) . 3 - (بَابُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ (4) فِي الْوُضُوءِ) (5) 9 - أخبرنا مالك، أخبرنا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة (6) أنَّ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُم (7) من نومِهِ (8)   (1) أي لأي شيء بُعد الدار أعظم أجراً؟ (2) أي بسبب كثرة الأقدام في المشي. (3) بضم الخاء وفتح الطاء جمع خطوة بالضم. (4) قوله غسل اليدين، بفتح الغين بمعنى إزالة الوسخ ونحوه بإمرار الماء عليه، وأما بالضم، فهو اسم للاغتسال، وهو غسل تمام الجسد، واسم للماء الذي يُغتسل به، وبالكسر، اسم لما يُغسل به الرأس، كذا في "المُغْرب". (5) أي: في اتبدائه، وهو غسلهما إلى الرسغين. (6) قوله: عن أبي هريرة، هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة الطحاوي وأحمد وغيرهم من حديثه بألفاظ متقاربة، وأخرج بنحوه ابنُ ماجه والدارقطني من حديث ابن عمر وجابر. وقد استنبط الفقهاء من هذا الحديث استنان تقديم غسل اليدين إلى الرسغين عند بداية الوضوء، وقالوا: قيد الاستيقاظ من النوم اتِّفاقي. (7) فيه رمز إلى أن نوم النبي صلى الله عليه وسلم غير ناقض للوضوء. (8) قوله: من نومه، أخذ بعمومه الشافعيُّ والجمهور، فاستحبوه عقيب كل نوم، وخصَّه أحمد بنوم الليل لقوله في آخر الحديث: "باتت يده"، لأن حقيقة المبيت تكون بالليل، وفي رواية لأبي داود ساق مسلمٌ إسنادها: "إذا قام أحدكم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فَلْيَغْسِل يَدَه (1)   = من الليل"، وكذا للترمذي من وجه آخر صحيح، ولأبي عَوَانة في روايةٍ ساق مسلمٌ إسنادَها أيضاً: "إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح". لكن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خُصَّ نوم الليل بالذكر للغلبة، قال الرافعي في "شرح المسند": يمكن أن يقال: الكراهة في الغمس لمن نام ليلاً أشدّ منها لمن نام نهاراً، لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادةً. ثم الأمر عند الجمهور للندب، وحمله أحمد على الوجوب في نوم الليل دون النهار، وعنه في روايةٍ استحبابُهُ في نوم النهار. واتفقوا على أنه لو غمس يده لم يضر الماء، وقال إسحاق وداود والطبري: ينجس. واستُدِلَّ لهم بما ورد من الأمر بإراقته. لكنه حديث أخرجه ابن عَدِيّ، والقرينة الصارفة للأمر عن الوجوب للجمهور التعليل بأمر يقتضي الشك، لأن الشك لا يقتضي وجوباً في الحكم استصحاباً لأصل الطهارة. واستَدلَّ أبو عَوَانة على عدم الوجوب بوضوئه صلى الله عليه وسلم من الشنّ المعلَّق بعد قيامه من النوم. وتُعُقِّب بأن قوله: "أحدكم" يقتضي اختصاصَه بغيره صلى الله عليه وسلم. وأجيب بأنه صحَّ عنه غسل يديه قبل إدخالهما الإناء في حال اليقظة، فاستحبابه بعدم النومِ أَوْلى، ويكون تركه لبيان الجواز. وأيضاً فقد قال في هذا الحديث، في روايات مسلم وأبي داود وغيرهما: "فليغسِلْها ثلاثاً"، وفي رواية: "ثلاث مرات" والتقييد بالعدد في غير النجاسة العينية يدل على النَّدْبِيَّة. ووقع في رواية همّام، عن أبي هريرة عند أحمد: "فلا يضع يده في الوضوء حتى يغسِلَها" والنهيُ فيه للتنزيه. والمراد باليد ها هنا الكفّ دون مازاد عليها، كذا في "فتح الباري". (1) قوله: فليغسل يده، في هذا الحديث من الفقه إيجاب الوضوء من النوم لقوله: "فليغسل يده قبل أن يدخلها". وهذا أمر مجمع عليه في النائم والمضطجع إذا غلب عليه النوم واستثقل نوماً أن الوضوء عليه واجب، كذا في "الاستذكار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَها (1) فِي وَضُوئِهِ (2) ، فإنَّ أَحَدَكم (3) لا يَدري (4) أين باتت يَدُه (5) .   (1) قوله: قبل أن يدخلها، لمسلم وابن خُزيمة وغيرهما من طرق: "فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسِلَها"، وهو أبين في المراد من رواية الإدخال لأن مطلق الإدخال لا يترتَّب عليه كراهة كمن أدخل يده في إناء واسع، فاغترف منه بإناء صغير من غير أن يلامس يده الماء، كذا في "فتح الباري". (2) قوله: في وضوئه، أي: الماء الذي أُعدَّ للوُضوء، وفي رواية مسلم: "في الإناء" ولابن خزيمة: "في إنائه أو وضوئه" على الشك. والظاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء، ويلتحق به إناء الغسل وكذا باقي الآنية قياساً، وخرج بذكر الإناء الحياضُ التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها. كذا في "الفتح". (3) قوله: فإن أحدكم، قال البيضاوي: فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة، لأن الشارع إذا ذكر حكماً وعقبه بعلَّة دلَّ على أن ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله في حديث المُحْرِم الذي سقط فمات، "فإنه يُبعث مُلَبِّياً" بعد نهيهم عن تطييبه، فنبَّه على علة النهي. وعبارة الشيخ أكمل الدين: إذا ذكر الشارع حكماً وعقبه أمراً مصدَّراً بالفاء كان ذلك إيماءً إلى أن ثبوت الحكم لأجله. نظيره الهرة ليست بنجسة، فإنها من الطوّافين عليكم والطوّافات. وقال الشافعي: كانوا يستجمرون وبلارهم حارَّة، فربما عرق أحدهم إذا نام، فيحتمل أن تطوف يده على المحل أو على بثرة أو دم حيوان أو قذر أو غير ذلك. وذكر غير واحد أن "باتت" في هذا الحديث، بمعنى صارت، منهم ابن عصفور كذا في التنوير. (4) أي: لا يدري تعيين الموضع الذي باتت يده فيه، فلعلها أصابتها نجاسة. (5) زاد ابن خزيمة والدارقطني "منه"، أي: من جسده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا (1) حَسَن (2) ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يفعَلَ (3) وَلَيْسَ مِنَ الأَمْرِ الْوَاجِبِ الَّذِي إنْ تركه تاركٌ أَثِم (4) ،   (1) قوله: هذا حسن، أي: تقديم غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء عند الاستيقاظ على ما دلَّ عليه الحديث (وذكر العينيُّ في عمدة القاري (1/755 إلى 761) عشرين فائدة مستنبطة من هذا الحديث) . (2) أي: مستحسن. (3) قوله: وهكذا ينبغي أن يفعل، إشارة إلى أن الأمر محمول على الندب كما صرَّح به، بقوله: وليس من الأمر الواجب، ولذا روى سعيد بن منصور في "سننه"، عن ابن عمر: أنه أدخل يده في الإناء قبل أن يغسل. وروى ابن أبي شيبة، عن البراء: أنه أدخل يده في المطهرة قبل أن يغسلها. وروى عن الشَّعبي: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدخِلون أيدِيَهم في الماء قبل أن يغسلوها. وهذا عند عدم تيقُّن النجاسة على يده وظنها، وأما عند ذلك، فلا يجوز إدخال اليد قبل الغسل لئلا يتنجَّس الماء. (4) قوله: الذي إن تركه تاركٌ أثم، قد زعم بعض من في عصرنا بأن الإثم منوط بترك الواجب وما فوقه، ولا يلحق الإثم بترك السنَّة المؤكَّدة، واغترَّ بهذه العبارة وأمثالها، وليس كذلك فقد صرَّح الأصوليّون كما في "كشف أصول البزدوي" وغيره أن تارك السنَّة المؤكَّدة يلحقه إثم دون إثم تارك الواجب، وصرَّح صاحب "التلويح" وغيره بأن ترك السنَّة قريب من الحرام. وهذا هو الصحيح لما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس، ومسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "من رغب عن سنَّتي فليس مني"، وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" وابن حبّان والحاكم، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستَّة لعنتهم: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلِّط على أمتي بالجَبَرُوت ليُذلَّ من أعزَّه الله ويعزَّ من أذلَّه الله، والمستحِلّ لحرم الله، والمستحلّ من عِترتي، والتارك لسنَّتي"، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = وأخرج مسلم، عن ابن مسعود: (من سرَّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث يُنادى بهنّ ... الحديث، وفيه ولو أنَّكم صلَّيتم في بيوتكم كما يُصلِّي هذا الرجل المتخلِّف في بيته لتركتم سنَّة نبيكم، ولو تركتم سنَّة نبيكم لَضَلَلْتُم) ، وأخرج أبو نعيم في "حلية الأولياء"، عن معاذ بن جبل: (لا تقل إن لي مصلَّى في بيتي، فأصلّي فيه، فإنكم إن فعلتم ذلك تركتم سنَّة نبيكم، ولو تركتم سنَّة نبيكم لضللتم) . والأخبار المفيدة لهذا المطلب كثيرة شهيرة، وقد سلك ابن الهُمام في "فتح القدير" على أن الإثم منوط بترك الواجب، وردّه صاحب "البحر الرائق" وغيره بأحسن ردّ. وإذا عرفت هذا كلَّه، فنقول: المراد من الواجب في الكتاب اللازمُ، أعمُّ من أن يكون لزومَ سنَّة أو لزومَ وجوب أو لزومَ افتراض، فإن اللزوم مختلف، فلزوم الفرض أعلى، ولزوم الواجب أوسط، ولزوم السنَّة أدنى، وعلى هذا الترتيت ترتيب الإثم، لا الوجوب الاصطلاحي الذي جعلوه قسيماً للافتراض والاستنان، وحينئذٍ فلا دلالة لكلام محمد على قصر الإثم على الواجب. أو نقول: بعد تسليم أن المراد بالواجب في كلامه هذا مايشمل الفرض، والواجب دون السنَّة، إن التنوين في قوله "تاركٌ" للتنكير فلا يُستفاد منه، إلاَّ أن الواجب يَلحق تاركَهُ أيَّ تاركٍ كان، ولو تركه مرة: إثمٌ، وهو أمر لا ريب فيه، فإن الفرض والواجب يلزم من تركهما ولو مرَّة بشرط أن يكون لغير عذر إثم، ولا كذلك السنَّة، فإنَّه لو تركها (في الأصل: "تركه"، والظاهر: "تركها") مرة أو مرَّتين لا بأس به، لكن إن اعتاد ذلك أو جعل الفعلَ وعدمَه متساويَيْن أَثِم كما صرَّح به في "شرح تحرير الأصول" لابن أمير الحاج. فلا يفيد حينئذٍ كلامُه إلاَّ قصْرَ الإثم على سبيل العموم والإطلاق على الواجب لا قصر مطلق الإثم عليه. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وهو (1) قول أبي حنيفة رحمه الله. - (باب الْوُضُوءِ (2) فِي الاسْتِنْجَاءِ) 10 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى (3) بنُ مُحَمَّدِ بنِ طَحلاء (4) ، عَنْ عثمانَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَاهُ (5) أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ عمرَ بنَ الخطاب (6)   = أو نقول: المراد بالإثم مقابل الملامة التي تلزم بترك السنَّة المؤكَّدة، فلا يفيد كلامُه حينئذٍ إلاَّ قصر الإثم العظيم على الواجب لا مطلق الإثم. وهذا كلُّه إذا سُلِّم دلالة كلامه على القصر، وإلاَّ فالافتراض (في الأصل: "فالاغترار"، وهو تحريف، والصواب: "فالافتراض") ساقط من أصله، وقد استدلَّ من لم يوجب بترك السنَّة إثماً بأحاديث لا تفيد مدَّعاه عند الماهر، ولولا خشيةُ التطويل لطوًّلتُ الكلام في ما له وما عليه. (1) أي: كونه حسناً لا واجباً. (2) قوله: الوضوء، بالفتح قد يُراد به غسل بعض الأعضاء، من الوضاءة وهي الحسن، كذا في "النهاية" وهو المراد ها هنا، والمقصود به غسل موضع الاستنجاء بالماء. (3) قوله: يحيى ... إلخ، هو يحيى بن محمد بن طَحلاء المدني التيمي روى عن أبيه وعثمان، وعنه مالك والدَّراوردي وآخرون، ذكره ابن حبّان في ثقات التابعين، كذا ذكره الزرقاني. (4) بفتح الطاء ممدوداً. (5) قوله: أن أباه، هو عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي المدني، صحابي قتل مع ابن الزبير، وابنه عثمان من الخامسة ثقة، كذا في "التقريب". (6) قوله: عمر بن الخطاب، هو أبو حفص عمر بن الخطاب العَدَويّ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَوَضَّأُ (1) (2) وُضُوءً (3) لِمَا تَحْتَ إِزَارِهِ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخَذُ وَالاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ أحبُّ (5) إلينا من غيره (6)   = القرشي أحد العشرة، وأحد الخلفاء الراشدين الملقّب بالفاروق، أسلم سنة ست من النبوة، وقيل سنة خمس، وظهر الإسلام بإسلامه، قال ابن مسعود: والله إني لأحسب لو أن علم عمر وُضع في كفة الميزان ووُضع علم سائر أهل الأرض في كفة لرجِّح علم عمر. له فضائل كثيرة، استُشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. كذا في "أسماء رجال المشكاة"، لصاحب المشكاة. (1) أي: يتطهَّر. (2) قوله يتوضأ، أدخل مالك هذا الحديث في "الموطأ" ردّاً على من قال: إن عمر كان لا يستنجي بالماء، وإنما كان استنجاؤه وسائر المهاجرين بالأحجار، وذَكَرَ قول سعيد بن المسيّب في الاستنجاء بالماء: إنما ذلك وضوء النساء، وذَكَرَ أبو بكر بن أبي شيبة: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همّام، عن حذيفة: أنه سئل عن الاستنجاء بالماء؟ فقال: إذاً لا يَزال في يدي نتن. وهو مذهب معروف عند المهاجرين. وأما الأنصار، فالمشهور عنهم أنهم كانوا يتوضَّؤون بالماء، ومنهم من كان يجمع بين الطهارتين، فيستنجي بالأحجار ثم يُتبع بالماء، كذا في "الاستذكار". (3) زاد يحيى "بالماء". (4) كناية عن موضع الاستنجاء، أي: إنه بالماء أفضل منه بالحجر. (5) والجمع بينهما أفضل إجماعاً خلافاً للشيعة حيث لم يكتفوا بغير الماء. (6) قوله: من غيره، أي من الاكتفاء بالأحجار خلافاً للبعض أخذاً مما أخرجه ابن أبي شيبة عن حذيفة أنه سئل عن الاستنجاء بالماء؟ فقال: إذن لا يزال = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وَهُوَ (1) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.   = في يدي نتن. وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء. وعن ابن الزبير: ما كنا نفعله. ووجه كون الاستنجاء بالماء أفضل كونه أكمل في التطهير، وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء يعني يستنجي به. وللبخاري أيضاً عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا تَبَرَّزَ لحاجته أتيتُه بماء فيغسل به. ولابن خزيمة عن جرير: أنه صلى الله عليه وسلم دخل الغيضة فقضى حاجته فأتاه جرير بأداوة، فاستنجى بها. وللترمدي عن عائشة قال: مُرْن أزواجَكُنَّ أن يغسلوا أثر البول والغائط: فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. ولابن حبان من حديث عائشة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من غائط قط إلاَّ استنجى من ماء. وبهذه الأحاديث يُرَدُّ على من أنكر وقوع الاستنجاء بالماء من النبي صلى الله عليه وسلم، كذا في "فتح الباري" و"إرشاد الساري". وأما الجمع بين الماء والحجر فهو أفضل الأحوال، وفيه نزلت {فيه} أي في مسجد قُبا {رجالٌ يُحبون أن يتطَّهروا} وكان أهل قُبا يجمعون بينهما. أخرجه ابن خزيمة والبزار وغيرهما. وقد سقت الأخبار فيه في رسالتي "مذيلة الدراية لمقدمة الهداية" والمعلوم من الأحاديث المروية في الصحاح أن الجمع كان غالب أحواله صلى الله عليه وسلم وهذا كله في الاستنجاء من الغائط، وأما الاستنجاء من البول فلم نعلم فيه خبراً يدل على الإنقاء بالحجر إلا ما يحكىعن عمر أنه بال ومسح ذكره على التراب، وقد فصَّلته في رسالتي المذكورة. (1) أي كونه أحبّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 5 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ مسِّ الذَّكر) 11 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (1) بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ مصعبِ (2) بنِ سَعْدٍ (3) قَالَ: كنتُ أمسكُ (4) (5)   (1) قال ابن معين: ثقة حجة مات سنة 134 هـ، كذا قال السيوطي. (2) قوله عن مصعب بن سعد، هو مصعب بن سعد بن أبي وقّاص الزّهري أبو زرارة المدني، ثقة مات سنة 103 هـ، وأبوه سعد بن أبي وقّاص مالك بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري أبو إسحاق أحج العشرة المبشّرة بالجنة، مناقبه كثيرة، وهو آخر العشرة وفاة، مات على المشهور سنة 55 هـ وابن ابنه إسماعيل بن محمد بن سعد أبو محمد المدني ثقة حجة من التابعين، مات سنة 134 هـ، كذا في "تقريب التهذيب". (3) ابن أبي وقّاص. (4) أي آخذه. (5) قوله: قال كنت أمسك .... إلخ، هذا الأثر أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" عن أبي بكرة، عن أبي داود، ثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت مصعب بن سعد بن أبي وقّاص يقول: كنت أمسكُ المصحف على أبي فمسست فرجي فأمرني أن أتوضأ، ثم روى عن إبراهيم بن مرزوق. نا أبو عامر، نا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمد، عن مصعب بن سعد: كنت أمسك المصحف على أبي، فاحتككت فأصبت فرجي، فقال: أصبتَ فرجك؟ قلت: نعم، قال: اغمس يَدَك بالتراب، ولم يأمرني أن أتوضأ. ثم روى عن خزيمة، نا عبد الله بن رجاء، نا زائدة، عن إسماعيل، عن أبي خالد، عن الزبير ابن عدي، عن مصعب بن سعد مثله غير أنه قال: قُم فاغسل يدك، ثم قال الطحاوي: فقد يجوز أن يكون الوضوء الذي رواه الحكم في حديثه عن مصعب هو غسل اليد على ما بيَّنَه عنه الزبير حتى لا تتضاد الروايتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 المصحفَ عَلَى سَعْدٍ (1) فَاحْتَكَكْتُ (2) فَقَالَ: لعلّكَ مسستَ (3) ذَكَرَكَ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: قُمْ فَتَوَضَّأْ (4) قَالَ: فقُمتُ فتوضَّأتُ (5) ثُمَّ رَجَعْتُ. 12 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي ابن شهاب، عن سالمِ (6) بن عبد الله (7) ، عَنْ أَبِيهِ (8) أَنَّهُ كَانَ يغتسِلُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ،   (1) أي لأجله حال قراءته. (2) أي تحت إزاري. (3) بكسر السين الأولى وفتحها أي لمست بكف يدك. (4) لأنه لا يمس القرآن إلا طاهر. (5) قوله: فتوضأت، يحتمل أن يُراد به الوضوء اللغوي دفعاً لشبهة ملاقاة النجاسة، قاله القاري وهو مستبعد. (6) قوله: عن سالم، هو سالم بن عبد الله بن عمر أبو عمرو، أو أبو عبد الله، المدني الفقيه، قال مالك: لم يكن أحد في زمانه أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل منه، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: أصح الأسانيد ابن شهاب الزهري عن سالم، عن أبيه، وقال العِجلي: مدني تابعي ثقة، مات سنة 106 هـ على الأصح. وأبوه علد الله بن عمر بن الخطاب بن نُفَيل القرشي أبو عبد الرحمن، أسلم قديماً وهو صغير وهاجر مع أبيه، وشهد الخندق والمشاهد كلّها، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبد الصالح، وله مناقب جمّة، مات سنة 73 هـ وقيل 74 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر. (7) ابن عمر. (8) قوله: عن أبيه، هذا الأثر يكشف أن ابن عمر كان يرى الوضوء من مسّ الذكر، ويشيده ما رواه مالك في "الموطأ" عن نافع، عن سالم قال: كنت مع = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فَقَالَ (1) لَهُ: أَمَا يُجْزيك الغُسلُ مِنَ الْوُضُوءِ (2) ؟ قال: بلى (3)   = ابن عمر في سفر فرأيته بعد أن طَلَعَتْ الشمس توضَّأ ثم صلّى، فقلت له: إن هذه الصلاة ما كنت تصليها، قال: إني بعد أن توضأت لصلاة الصبح مسست فرجي، ثم نسيت أن أتوضأ، فتوضأت وعدتُ لصلاتي. وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار": لم نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتى بالوضوء منه غير ابن عمر وقد خالفه في ذلك أكثر الصحابة. انتهى. أقول: ليس كذلك فقد علمنا أن جمعاً من الصحابة أفتى بمثله، منهم عمر بن الخطاب، وأبو هريرة على اختلافٍ عنه، وزيد بن خالد الجُهني، والبراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص في رواية أهل المدينة عنه، كذا في "الاستذكار" وفيه أيضاً: ذهب إليه من التابعين سعيد بن المسيب في رواية عبد الرحمن بن حرملة رواه عنه ابن أبي ذئب وحاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن عنه: أن الوضوء واجب على من مسّ ذكره، وروى ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب: أنه كان لا يتوضأ منه. وهذا أصح عندي من حديث ابن حرملة، لأنه ليس بالحافظ عندهم كثيراً. وكان عطاء بن أبي رباح، وطاووس، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، وأبان بن عثمان، ومجاهد، ومكحول، الشّعبي، وجابر بن زيد، والحسن، وعكرمة، وجماعة من أهل الشام والمغرب كانو يَرَون الوضوء من مسّ الذكر وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد الشافعي وأحمد وإسحاق، واضطرب قول مالك، والذي تقرر عنه عند أهل المغرب من أصحابه أن من مَسّ ذَكره أمره بالوضوء ما لم يصلِّ، فإن صلى أمره بالإعادة في الوقت فإن خرج فلا إعادة عليه. انتهى. (1) أي ابنه سالم. (2) أي أما يكفيك لا سيما مع سبق الوضوء الذي هو السنة. (3) أي يجزي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وَلَكِنِّي أَحْيَانًا (1) أَمَسُّ ذَكَرِي فَأَتَوَضَّأُ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا وضوءَ فِي مسِّ الذَّكَرِ (3) وَهُوَ (4) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (5) ، وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ (6) كَثِيرَةٌ. 13 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ (7) بْنُ عُتبة التَّيْميّ قَاضِي   (1) أي في بعض الأوقات بعد الغسل. (2) لا لأن الغسل لا يُجزي. (3) أي لا يجب، نعم يُستحب اعتباراً لموضع الخلاف. (4) أي عدم الوضوء. (5) قوله: قول أبي حنيفة، وإليه ذهب أصحابه وجمهور علماء العراق، وروي ذلك عن علي وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وأبي الدرداء وعمران بن حصين، لم يُختلف عنهم في ذلك، واختلف في ذلك عن أبي هريرة وسعد، وبه قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن وسفيان الثوري وشريك والحسن بن صالح بن حيّ، كذا في الاستذكار. وفي جعله ابن عباس ممن لم يُختلف عنه نظر، فقد روى الطحاوي عن سليمان بن شعيب، نا عبد الرحمن بن زياد نا شعبة عن قتادة كان ابن مسعود وابن عباس يقولا في الرجل يمس ذكره يتوضأ، فقلت لقتادة: عمّن هذا؟ قال: عن عطاء ابن أبي رباح. ثم روى بإسناده عن ابن عباس: أنه كان لا الوضوء منه. فثبت الاختلاف عنه. وروى الطحاوي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أيضاً أنهما كانا لا يريان الوضوء. (6) المراد بالأثر أعمّ من المرفوع والموقوف كما مرّ. (7) قوله: أيوب، هو أيوب بن عُتبة - بضم العين - أبو يحيى قاضي اليمامة من بني قيس بن ثعلبة، مختلف في توثيقه وتضعيفه، قال ابن حجر في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 اليَمَامة (1) ، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ (2) أَنَّ أَبَاهُ (3) حدَّثه: أَنَّ رَجُلا (4) سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عن رجلٍ   = "تهذيب التهذيب": روى عن يحيى بن أبي كثير وعطاء وقيس بن طلث الحنفي وجماعة، وعنه أبو داود الطيالسي وأسود بن عامر ومحمد بن الحسن وأحمد بن يونس وغيرهم، قال حنبل، عن أحمد: ضعيف، وقال في موضع آخر: ثقة إلا أنه لا يقيم حديث يحيى بن أبي كثير، وقال الدُّوري عن ابن معين: قال أبو كامل: ليس بشيء، وقال ابن المديني والجوزجاني وعمرو بن على ومسلم: ضعيف، زاد عمرو: وكان سيِّئ الحفظ، وهو من أهل الصدق، وقال العجلي: يُكتب حديثه وليس بالقويّ، وقال البخاريّ: هو عندهم ليِّن. انتهى ملخَّصاً. وشيخ أيوب قيس بن طلق من التابعين صدوق، وأبوه طلق بن علي بن المنذر الحنفي نسبة إلى قبيلة بني حنيفة أبو على اليمامي معدود في الصحابة، ذكره ابن حجر في "التقريب" وغيره. (1) بالفتح اسم بلدة. (2) ابن علي. (3) أي: طلق. (4) قوله: أن رجلاً .... إلخ، قال محيي السُّنَّة البغويّ في "المصابيح": حديث طَلْق منسوخ، لأن طلقاً قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد النبوي وذلك في السنة الأولى، وقد روى أبو هريرة وهو أسلم سنةَ سبع، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدُكُم بيده إلى ذكَرِه ليس بينه وبينها شيء فليتوضأ. انتهى. وتعقَّبه شارح "المصابيح" فضل الله التوربشتي على ما نقله الطيبي في "شرح المشكاة" بأن ادِّعاء النسخ فيه مبنيّ على الاحتمال، وهو خارج عن الاحتياط إلاّ أن يثبت أن طلقاً توفي قبل إسلام أبي هريرة أو رجع إلى أرضه ولم يبقَ له صحبة بعد ذلك، وما يدري أن طلقاً سمع هذا الحديث بعد إسلام أبي هريرة. وقد ذكر الخطابي أن أحمد بن حنبل كان يرى الوضوء من مس الذكر، وكان ابن معين يرى خلاف ذلك، وفي ذلك = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = دليل ظاهر على أن لا سبيل إلى معرفة الناسخ والمنسوخ منهما. انتهى. قلت: فيه ما فيه، فإن احتمال أن يكون طلقاً سمع هذا الحديث بعد إسلام أبي هريرة مردود بما جاء في رواية النِّسائي عن هناد، عن ملازم، نا عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق بن علي، عن أبيه، قال: خرجنا وفداً حتى قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه وصلَّينا معه، فلما قضى الصلاة جاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا رسول الله ما تَرى في رجلٍ مسَّ ذَكَرَه في الصلاة؟ قال: "وهل هو إلاّ مضغة منك أو بَضعة منك". ومثله في رواية ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهما. فظاهر هذه الروايات أن سماع طلق هذا الحديث كان عند قدومه في المجلس النبوي، ومن المعلوم أن قدومه كان في السنة الأولى من الهجرة، ولم يثبت أنه قدم مرة ثانية أيضاً وسمع الحديث عند ذلك. وتَعَقَّبَ العينيُّ في "البناية" كلامَ محيي السُّنَّة، بأن دعوى النسخ إنما يصح بعد ثبوت صحة حديث أبي هريرة ونحن لا نسلم صحته. انتهى. وفيه أيضاً ما فيه، فإن حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم في "المستدرك" وصحَّحه، وأحمد في "مسنده" والطبراني، والبيهقي، والدارقطني، وفي سنده يزيد بن عبد الملك متكلَّم فيه، لكن ليس بحيث يُترك حديثه، مع أن حديث النقض مرويّ من طرق عن جماعة الصحابة، منهم أم حبيبة، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وبُسْرة، وأبو أيوب، بل قد روي عن طلق بن علي راوي عدم النقض، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مسَّ ذكره فليتوضأ". أخرجه الطبراني في "معجمه"، عن الحسن بن على، عن حماد بن محمد الحنفي، عن أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه، والأَوْلى أن يُتَعَقَّب كلام محيي السُّنَّة بما في "فتح المنان" وغيره أن رواية الصحابي المتأخر الإسلام لا يستلزم تأخُّر حديثه، فيجوز أن يكون المتأخِّر سمعه من صحابي متقدم، فرواه بعد ذلك، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 مسَّ ذَكَرَه، أَيَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: هَلْ هُوَ إِلا بَضْعة (1) من جسدك (2) .   = والإنصاف في هذا البحث أن يُقال: لا سبيل إلى الجزم بالنسخ في هذا البحث في طرف من الطرفين، لكن الذي يقرب أنه إن كان هناك نسخ فهو لحديث طلق لا بالعكس. (1) هو بالفتح: القطعة من اللحم. وقد تُكسر، ومنه "فاطمة بَضعة مني"، ومنه: "وهل هو إلاَّ بضعة"، كذا في "مجمع البحار". (2) قوله: من جسدك، هذا الحديث رواه عن قيس بن طلق الحنفي جماعة، منهم أيوب بن عتبة، كما أخرجه محمد ها هنا، وأخرجه الطحاوي أيضاً، عن محمد بن العباس اللؤلؤي، نا أسد، نا أيوب. ومنهم محمد بن جابر، أخرجه ابن ماجه، عن على بن محمد، نا وكيع، نا محمد بن جابر، سمعت قيس بن طلق الحنفي، عن أبيه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن نس الذكر" قال: "ليس فيه وضوء إنما هو منك". وأخرج الطحاوي، عن يونس، نا سفيان، عن محمد بن جابر، عن قيس، وعن أبي بكرة، نا مسدد، نا محمد بن جابر. ومنهم الأسود أخرجه الطحاوي، عن أبي أمية، نا الأسود عن عامر، وخلف بن الوليد وأحمد بن يونس وسعيد بن سليمان، عن أسود عن قيس. وذكر أبو داود أنه قد رواه هشام بن حسان وسفيان الثوري وشعبة، وابن عيينة وجرير الرازي، عن محمد بن جابر، عن قيس. ومنهم عبد الله بن بدر، أخرجه النسائي عن هناد، عن ملازم عنه، عن قيس، عن أبيه: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه وصلَّينا معه، فلما قضى الصلاة جاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا رسول الله ما ترى في رجلٍ مسَّ ذكره في الصلاة؟ قال: "وهل هو إلاَّ مضغة منك أو بضعة منك". وأخرج الترمذي، عن هناد بإساند النسائي، وقال: هذا الحديث أحسن شيء في الباب. وقد روى هذا الحديث أيوب بن عتبة ومحمد بن جابر، عن جابر. وقد تكلَّم أهل الحديث في أيوب ومحمد، وحديث ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس، عن أبيه: أصح وأحسن. انتهى. ورواه أبو داود، عن مسدد، عن ملازم بالسند المذكور = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = ولفظه: قدمنا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا نبيّ الله، ما ترى في مسِّ الرجل ذكَرَه بعدما يتوضأ؟ فقال: "هل هو إلاّ مضغة منك أو بضعة منك؟ " وقال الطحاوي: حديث ملازم مستقيم الإسناد غير مضطرب في إسناده ولا في متنه. انتهى. وفي رواية ابن أبي شيبة وعبد الرزاق، عن طلق: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه وصلَّينا معه، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله، ماترى في مسِّ الذكر في الصلاة؟ فقال: "وهل هو إلاّ بضعة منك". وفي رواية ابن حبّان عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أحدنا يكون في الصلاة فيحك فيصيب بيده ذكره قال لا بأس به، إنه كبعض جسدك، فهذه طرق حديث طلق وألفاظه، ومما يشيِّده ما أخرجه ابن منده من طريق سلام بن الطويل، عن إسماعيل بن رافع، عن حكيم بن سلمة، عن رجل من بني حنيفة يقال له خُريسة: أن رجلاً أتيى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أكون في صلاتي، فتقع يدي على فرجي، فقال: "امضِ في صلاتك". قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة في أحوال الصحابة": سلام ضعيف، وكذا إسماعيل. انتهى. وأخرج ابن ماجه، عن أبي أمامة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسِّ الذكر؟ فقال: "إنما هو جزء منك". وفي طريقه جعفر بن الزبير الراوي، عن القاسم الراوي، عن أبي أمامة. قال شعبة: كذّاب، وقال النسائي والدارقطني متروك الحديث كذا في تهذيب التهذيب، وأخرج الدارقطني عن عِصْمة بن مالك الخَطْميّ (في الأصل: "الحطمي"، وهو تحريف) رضي الله عنه أن رجلاً قال يا رسول الله، إني احتككت في الصلاة، فأصابت يدي فرجي، فقال: وأنا أفعل ذلك، وفي سنده الفضل بن مختار، قال ابن عَدي: أحاديثه منكرة، كذا قال الزيلعي، وأخرج أبو يعلى في مسنده، عن سيف بن عبد الله، قال: دخلت أنا ورجل معي على عائشة، فسألناها عن الرجل، يمس فرجه أو المرأة؟ فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أبالي إياه مسست أو أَنْفي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 14 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو المكِّي (1) ، أَخْبَرَنَا عطاءُ بنُ أَبِي رَباح (2) ، عَنِ ابْنِ عباس (3) قال: في مسِّ   (1) قوله: أخبرنا طلحة بن عمرو .... إلخ، هو طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي متكلَّم فيه، قال في "تهذيب التهذيب": روى عن عطاء بن أبي رباح ومحمد بن عمرو بن علقمة وابن الزبير وسعيد بن جبير وغيرهم، وعنه جرير بن حازم والثوري وأبو داود الطيالسي ووكيع وغيرهم، قال أحمد: لا شيء، متروك الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء ضعيف، وقال الجوزجاني: غير مرضيّ في حديثه، وروى له ابن عدي أحاديث، وقال: روى عنه قوم ثقات وعامة ما يرويه لا يُتابَع عليه، وقال عبد الرزاق: سمعت معمراً يقول: اجتمعت أنا وشعبة والثوري وابن جريح، فقَدِم علينا شيخ، فأملى علينا أربعة آلاف حديث عن ظهر قلب، فما أخطأ إلاَّ في موضعين ونحن ننظر الكتاب، ولم يكن الخطأ منّا ولا منه، إنما كان من فوق، وكان الرجل طلحة بن عمرو. انتهى ملخَّصاً. وهذا الضعف لا يضر في أصل المقصود، فقد تابعه عن عطاء وعكرمةُ بن عمار، وتابع عطاء سعيد بن جبير في رواية الطحاوي. (2) قوله: عطاء بن أبي رباح، بفتح الراء المهملة، هو عطاء بن أبي رباح أسلم، أبو محمد القُرشي المكي، روى عن عائشة وابن عباس وأبي هريرة وخلق، وعنه الأَوزاعي وابن جريج وأبو حنيفة والليث وغيرهم، ثقة، فقيه، فاضل، مات سنة 114 هـ على المشهور، كذا في "كاشف" الذهبي و"تقريب" ابن حجر. (3) قوله: عن ابن عباس، هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له الحبر والبحر لكثرة علمه، وله فضائل شهيرة مذكورة في كتب الصحابة، "كأسد الغابة" و"الإصابة" وغيرهما، مات سنة 68 هـ، وقيل سنة 69 هـ، وقيل سنة سبعين، ذكره في "التهذيب". قال العيني في "البناية شرح الهداية" في كتاب الحج في بحث الوقوف بمزدلفة: إذا أطلق ابن عباس لا يُراد به إلاَّ عبد الله بن عباس. انتهى. وذكر أيضاً = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الذكرِ وأنتَ (1) فِي الصَّلاةِ، قَالَ: مَا أُبالي (2) مسستُهُ أَوْ مَسَسْتُ أَنْفي. 15 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إبراهيم (3)   = في "البناية" في كتاب "الحظر والإباحة": أن المحدثين اصطلحوا على أنهم إذا ذكروا عبد الله من غير نسبة يريدون به عبد الله بن مسعود، وإن كان يتناول غيره بحسب الظاهر، وكذلك يقولون: قال ابن عمر ويريدون به عبد الله بن عمر، مع أن عمر له أولاد غير عبد الله. انتهى. وقال عليّ القاري المكي في "جمع الوسائل بشرح الشمائل" أي: شمائل الترمذي: اصطلاح المحدثين على أنه إذا أُطلق عليّ في آخر الأسماء فهو علي بن أبي طالب، وإذا أُطلق عبد الله فهو ابن مسعود، وإذا أُطلق الحسن فهو الحسن البصري، ونظيره إطلاق أبي بكر وعمر وعثمان، انتهى. وقال القاري أيضاً في كتابه "الأثمار الجنية في طبقات الحنفية": إذا أُطلق ابن عباس لا يُراد به إلاَّ عبد الله، وكذا إذا أطلق ابن عمر وابن الزبير، وأما إذا أطلق عبد الله، فهو ابن مسعود في اصطلاح العلماء من الفقهاء والمحدثين. انتهى. فَلْيُحفظ هذا، فإنه نافع. (1) خطاب عام. (2) قوله: ما أبالي، متكلِّم من المبالاة، أي: لا أخاف، يعني مسّ الذكر ومس الأنف متساويان في عدم انتقاض الوضوء به، فلا أُبالي مسست ذَكَري أو أنفي. وبمثله أخرج الطحاوي عن أبي بكرة، نا يعقوب بن إسحاق. نا عكرمة بن عمار، نا عطاء، عن ابن عباس، أنه قال: ما أبالي إياه مسست أو أنفي، وأخرج أيضاً، عن صالح بن عبد الرحمن، نا سعيد بن منصور، نا هشيم، أنبأنا الاعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه كان لا يرى في مس الذكر وضوء. (3) قوله: إبراهيم بن محمد، هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، واسمه سمعان الأسلمي، أبو إسحاق المدني مختلف في توثيقه وتضعيفه. قال في "تهذيب = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ابن محمد المَدَني (1) (2) ، أخبرنا صالح (3)   = الكمال" و"تهذيب التهذيب": روى عن الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وصالح مولى التَّوأمة، ومحمد بن المنكدر، وغيرهم، وعنه الثوري والشافعي، وأبو نعيم، قال أبو طالب، عن أحمد: لا يُكتب حديثه، كان يروي أحاديث منكرة لا أصل لها، وقال الشافعي: ثقة في الحديث، وقال ابن عدي: سألت أحمد بن محمد بن سعيد، يعني ابن عقدة: هل تعلم أحداً أَحسن القول في إبراهيم غير الشافعي، فقال: نعم، نا أحمد بن يحيى، سمعت حمدان بن الأصبهاني قلت: أتدين بحديث إبراهيم؟ قال: نعم، قال لي أحمد بن محمد بن سعيد: نظرت في حديث إبراهيم كثيراً وليس بمنكر الحديث، قال ابن عدي: وهذا الذي قاله كما قال، وقد نظرت أنا أيضاً في حديثه الكثير، فلم أجد فيه منكراً إلاَّ عن شيوخ يحتملون، وهو في جملة من يُكتب حديثه، وله "الموطأ" أضعاف "موطأ مالك" مات سنة 184 هـ، وقيل: سنة 191 هـ. انتهى ملخصاً. (1) وفي نسخة محمد بن المدني. (2) هو بفتحتين نسبة إلى المدينة السكنية. (3) قوله: صالح، هو صالح بن أبي صالح نبهان المديني، روى عن ابن عباس، وعائشة، وأبي هريرة، وغيرهم، وعنه ابن أبي ذئب، وابن جريج، والسفيانان، وغيرهم، قال بشر بن عمر: سألت مالكاً عنه، فقال: ليس بثقة، وقال أحمد بن حنبل: كأن مالكاً أدركه وقد اختلط، فمن سمع منه قديماً فذاك، وقد روى عنه أكابر أهل المدينة وهو صالح الحديث ما أعلم به بأساً، وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم: سمعت ابن معين يقول: صالح مولى التوأمة ثقة حجة، قلت إن مالكاً ترك السماع منه، فقال: إن مالكاً إنما أدركه بعد أن كَبِرَ وخرَّف، وقال الجوزجاني: تغيَّر أخيراً، فحديث ابن أبي ذئب عنه، مقبول لسماعه القديم، والثوري جالسه بعد التغيُّر، وقال ابن عدي: لا بأس به، إذا روى القدماء عنه مثل = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 مولى التَّوأَمة (1) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَيْسَ (2) فِي مَسِّ الذَّكَرِ وُضُوءٌ. 16 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ (3) بْنُ أَبِي ذُبَابٍ (4) ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ (5) بْنَ المسيِّب (6) يَقُولُ: لَيْسَ في مسِّ الذَّكَر وضوء.   = ابن أبي ذئب وابن جريج، وزياد بن سعد، وقال العجلي: تابعي ثقة، مات سنة 125 هـ. كذا في "تهذيب التهذيب". (1) قوله: مولى التوأمة، بفتح التاء المثناة الفوقية، ثم الواو الساكنة بعدها همزة بعدها ميم ثم تاء، هي بنت أمية بن خلف المدني أخت ربيعة بن أمية بن خلف، وكانت معها أخت لها في بطنها، فسُمِّيَت تلك باسم التوأمة، وإليها يُنسب صالح نبهان المدني، كذا قال أبو سعد السمعاني في كتاب "الأنساب". (2) أي: لا يجب. (3) قوله: الحارث بن أبي ذباب، هو الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد، وقيل المغيرة بن أبي ذباب الدَّوْسي المدني، روى عن أبيه وعمه وسعيد بن المسيب، ومجاهد وغيرهم، وعنه ابن جريج وإسماعيل بن أمية وغيرهم، قال أبو زرعة: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من المُتْقنين، مات سنة 126 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب". (4) بضم الذال المعجمة، كذا في "التقريب". (5) قوله: سعيد بن المسيب، هو أبو محمد القرشي المدني، من سادات التابعين، قال مكحول: طفتُ الأرض كلَّها فلم ألقَ أعلم من ابن المسيب، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، ومات سنة 93 هـ، كذا ذكره صاحب المشكاة في "أسماء رجال المشكاة". (6) بفتح الياء أشهر من كسرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 17 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو العوَّام الْبَصْرِيُّ (1) ، قَالَ: سَأَلَ رجلٌ عطاءَ بنَ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ (2) رَجُلٌ مسَّ فرجَه (3) بَعْدَ مَا تَوَضَّأَ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ (4) : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ: إن كنتَ   (1) قوله: ابو العوام البصري، قال ابن حجر في "التقريب": عبد العزيز بن الرُّبَيِّع - بالتشديد - الباهلي أبو العَوَّام البصري ثقة من السابعة، وفي "تهذيب التهذيب": عبد العزيز بن الرُّبَيِّع الباهلي أبو العوّام البصري، روى عن أبي الزبير المكي وعطاء، وعنه الثوري والنضر بن شميل ووكيع وروح بن عبادة، قال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". انتهى. وظن بعض أفاضل عصرنا أن أبا العوّام البصري المذكور في هذه الرواية هو عمران بن دَاوَرَ أبو العوّام القطّان البصري، قال في " تهذيب التهذيب" في ترجمته: روى عن قتادة ومحمد بن سيرين وأبي إسحاق الشيباني وحُمَيد الطويل، وعنه ابن مهدي وأبو داود الطيالسي وأبو علي الحنفي وغيرهم، قال عبد الله عن أبيه أحمد: أرجو أنه صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري: صدوق يهم، وقال العجلي: بصري، ثقة. انتهى ملخصاً. (2) كنية لعطاء. (3) قوله: مسَّ فرجَه، بفتح الفاء وسكون الراء، قال النووي في "التهذيب"، قال أصحابنا: الفرج يُطلق على القبل والدبر من الرجل والمرأة، ومما يُستدل به لإطلاق الفرج على قُبُل الرجل حديث عليّ قال: أرسلنا المقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن المذي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضَّأ وانضح فرجك" رواه مسلم. (4) أي الحاضرين في ذلك المجلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 تَسْتَنْجِسُه (1) (2) فاقطَعْهُ، قَالَ عَطَاءُ (3) بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هَذَا واللهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. 18 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ حَمَّادٍ (4) ، عن إبراهيم (5) النَّخعي،   (1) أي الفرج. (2) أي تعتقده نجساً ذاته. (3) لما سمع من الرجل هذا الكلام. (4) قوله: عن حماد، هو حماد بن أبي سليمان مسلم الأشعري أبو إسماعيل الكوفي الفقيه، قال معمر: ما رأيت أحداً أفقه من هؤلاء الزهري وحماد وقتادة، وقال ابن معين: حماد ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال العجلي: كوفي ثقة كان أفقه أصحاب إبراهيم، وقال النِّسائي: ثقة إلاّ أنه مرجئ، مات سنة 120 هـ، وقيل سنة 119 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب". (5) قوله إبراهيم النَّخَعي، بفتح النون والخاء المعجمة بعدها عين مهملة، نسبة إلى نخَع قبيلة من العرب نزلت الكوفة، ومنها انتشر ذكرهم، قال ابن ماكولا: من هذه القبيلة علقمة والأسود وإبراهيم، كذا في "أنساب" السمعاني، وذكر في "تهذيب التهذيب": إن إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو أبو عمران النخعي الكوفي مفتي أهل الكوفة كان رجلاً صالحاً فقيهاً، قال الأعمش: كان خيراً في الحديث، وقال الشعبي: ما ترك أحداً أعلم منه، وقال أبو سعيد العلائي: وهو مكثر من الإرسال وجماعة من الأئمة صحَّحو امراسيله، وقال الأعمش قلت لإبراهيم: أَسْنِدْ لي عن ابن مسعود فقال: إذا حدَّثتكُم عن رجل عن عبد الله فهر الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله فهو عن غير واحج، وقا لا, حاتم: لم يلق النخعي أحداً من الصحابة إلاَّ عائشة ولم يسمع منها، وأدرك أنساً ولم يسمع منه، مات سنة 96 هـ، وولادته سنة 55 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 عَنْ عَلِيِّ (1) بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مسِّ الذَّكَر، قَالَ: مَا أُبَالِي (2) مسستُهُ أَوْ طرفَ أَنْفِي (3) . 19 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّ ابنَ مَسْعُودٍ (4) سُئِلَ عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ مسِّ الذكر؟   (1) قوله: عن عليّ، هو ابن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، له مناقب كثيرة، استشهد سنة 40 هـ كما في "أسد الغابة" وغيره، وبه يُعلم أن رواية إبراهيم النخعي عنه مرسلة لأنه لم يدرك زمانه. (2) قوله: ما أبالي، هكذا رواه محمد في كتاب "الآثار" أيضاً. وأخرج الطحاوي بسنده عن قابوس عن أبي ظبيان عن علي أنه قال: ما أبالي أنفي مسست أو أذني أو ذكري. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" عن قيس بن السكن أن علياً وابن مسعود وحذيفة وأبا هريرة لا يَرَوْن من مَس الذكر وضوء. (3) أي حيث هما عضوان طاهران وفي حق المسِّ متساويان. (4) قوله: أن ابن مسعود..إلخ، وكذا أخرجه الطحاوي عن قيس بن السكن قال: قال ابن مسعود: ما أبالي ذكري مسست في الصلاة أم أذني أم أنفي. وأخرج ابن أبي شيبة عن وكيع، عن سفيان، عن أبي قيس، عن هذيل أن أخاه سأل ابن مسعود، فقا: إنّي أحكّ بيدي إلى فرجي فقال: إنْ علمتَ أنَّ منك بضعة نجسة فاقطعها. وأخرج عن قيس بي السكن قال: قال عبد الله: ما أبالي مسست ذكري أو أذني أو إبهامي أو أنفي. وابن مسعود هو عبد الله بن مسعود أبو عبد الرحمن الهذلي من خواصّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب نعليه وسواكه، هاجر الحبشة وشهد بدرا وما بعدها، وولي قضاء الكوفة في خلافة عمر إلى صدر خلافة عثمان، ثم صار إلى المدينة فمات بها سنة 32 هـ، كذا في "أسماء رجال المشكاة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فَقَالَ: إنْ كَانَ نَجِسًا (1) فاقْطَعْه. 20 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحلٌّ (2) الضَّبِّي (3) ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي فِي مسِّ الذَّكَرِ فِي الصَّلاةِ، قَالَ: إِنَّمَا هُوَ بَضْعة منك (4) .   (1) قوله: نجساً، بفتح الجيم هو المشهور عند الفقهاء ويُراد به عين النجاسة بخلاف كسرها فإنه المتنجس عندهم وهما مصدران في أصل اللغة. (2) قوله: محل الضبي، قال القاري في "شرحه" بكسر الميم والحاء المهملة كسجل اسم جماعة من المحدثين. انتهى. وهذا القدر لا يكفي في هذا المقام، وفي "التقريب" مُحِلّ - بضم أوله وكسر ثانيه وتشديد اللام - ابن خليفة الطائي الكوفي، ثقة من الرابعة، ومُحِل بن مُحرز الضَّبي الكوفي لابأس به، من السادسة، سنة 53 هـ أي بعد المائة. انتهى. وهو يؤذن أن محل الضبي بضم أوله وكسر الثاني وتشديد الثالث، وبه صرَّح محمد طاهر الفَتَّني حيث قال في "المغني": محل بن خليفة بمضمومه وكسر حاء مهملة، وقيل بفتحها وشدة لام، وكذا محل بن محرز. انتهى. وبه ظهر خطأ القاري والعلم عند الباري، وفي "كاشف" الذهبي: محل بن خليفة الطائي عن جده عدي بن حاتم وأبي السمح، وعنه شعبة وسعد أبو مجاهد، فأما محل بن محرز الضبي عن الشعبي فإنه أصغر منه. انتهى. (3) بتشديد الموحدة. (4) قوله: إنما هو بضعة منك، هذه الآثار كلها تشهد بصحة حديث طلق وتوافقه، وهناك أحاديث مرفوعة معارضة لها. فمن ذلك ما أخرجه ابن ماجة عن أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مس فرجه فليتوضأ. ونقل الترمذي عن أبي زرعة أنه قال: إن حديث أم حبيبة أصح في هذا الباب، وهو حديث العلاء، عن مكحول، عن عنبسة، عن أم حبيبة، ونقل صاحب "الاستذكار" عن أحمد بن حنبل أنه قال: هو حسن الإسناد، وأعلَّه الطحاوي بأن فيه انقطاعاً فإن مكحولاً لم يسمعه عن عنبسة، بل سمع أبا مسهر عنه. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = ومنها ما أخرجه ابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "المستدرك" وصححه وأحمد والطبراني والدارقطني من حديث أبي حريرة مرفوعاً " من أفضى (هكذا في الأصل وفي "المستدرك" (1/136) : إذا أفضى..إلخ) أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حائل فليتوضأ. ولفظ البيهقي: من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فعليه وضوء الصلاة. وفي سنده يزيد بن عبد الملك، قال البيهقي: تكلموا فيه، وقال أحمد: لا بأس به، وقال الطحاوي: هو منكر الحديث لا يساوي حديثه شيئاً. ومنها ما أخرجه ابن ماجة عن أبي أيوب مرفوعاً: من مسّ فرجه فليتوضأ. وفيه إسحاق بن أبي فروة، قال أحمد لا تحل الرواية عنه، وقال النسائي: متروك الحديث، كذا في "تهذيب التهذيب". ومنها ما أخرجه ابن ماجة عن جابر مرفوعاً: إذا مس أحدكم ذكره فعليه الوضوء. ولفظ البيهقي: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ. ومنها ما أخرجه أبو نعيم وابن منده والدارقطني عن أروى بنت أنيس مرفوعاً: من مسّ فرجه فليتوضأ وفي سنده هشام بن زياد ضعيف، كذا في "الإصابة". ومنها ما أخرجه الدارقطني عن عائشة مرفوعاً: ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضَّؤون، قالت بأبي وأمي هذا للرجال أفرأيت النساء؟ قال: إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ للصلاة. وفي سنده عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العمري، قال النسائي: متروك، كذا في "ميزان الاعتدال". ومنها ما أخرجه الدارقطني والطحاوي عن ابن عمر مرفوعاً: من مسّ ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة. وفي سنده صدقة بن عبد الله ضعيف، قاله الطحاوي. ومنها ما أخرجه أحمد والبزار والطبراني عن زيد بن خالد مرفوعاً: من مسّ فرجه فليتوضأ. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = ومنها ما أخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" عن طلق بن علي مرفوعاً: من مسّ ذكره فليتوضأ. وفيه حماد بن محمد الحنفي ضعيف. ومنها ما أخرجه أحمد والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: أيما رجل مسّ فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مسّت فرجها فلتتوضأ. وقد أخرج ابن عدي من حديث ابن عباس، والحاكم من حديث سعد بن أبي وقاص وأم سلمة. وأحاديثهم لا تخلو من علة، ذكره العيني. ومنها - وهو أجودها - ما أخرجه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلت على مروان بن الحكم فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومن مسّ الذكر الوضوء، قال عروة " ما علمتُ بهذا، فقال مروان: أخبرتني بُسْرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مَسّ أحدكم ذكره فليتوضأ. وأخرجه ابن ماجة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة (في الأصل: "البسرة" وهو تحريف) بنت صفوان مثله، وأخرجه الترمذي بلفظ: من مسّ ذكره فلا يصل حتى يتوضأ. وقال هذا حديث حسن صحيح، ونقل عن البخاري أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة. وأخرج حديث بسرة أبو داود والنسائي والطبراني والدارقطني وابن حبان والبيهقي وغيرهم بألفاظ متقاربة، وذكر ابن عبد البر في "الاستذكار" أن أحمد كان يصحح حديث بسرة، وأن يحيى بن معين صححه أيضاً. وفي الباب أخبار أُخَر توافق هذه الأحاديث لولا قصد الاختصار لأتيتُ بها، وقد طال الكلام في هذا المبحث من الجانبين والنزاع من الفريقين، أما الكلام من القائلين بعدم الانتقاض على قائلين الانتقاض فمن وجوه: منها: أن أحاديث النقض ضعيفة. وفيه أن ضعف أكثرها لا يضرّ بعد صحة بعضه وضعف الكل ممنوع. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = ومنها أن حديث بسرة الذي صححوه مروي من طريق مروان، ومعاذ الله أن نحتج به. وفيه أنه صرّح ابن حجر في مقدمة "فتح الباري" أنه كان لا يتهم (في الأصل: "لا يهتم في الحديث" وهو خطأ) في الحديث. ومنها: أن بسرة مجهولة. وفيه أنها بسرة بنت صفوان بن نوفل القرشية الأسدية، لها سابقة قديمة وهجرة، وروى عنها جماعة من الصحابة وغيرهم كما لا يخفى على من طالع"الإصابة" وغيره من الكتب المصنفة في أحوال الصحابة. ومنها: أن خبر الآحاد فيما يعم به البلوى غير مقبول. وفيه أنه قد رواه جمع من الصحابة مع أن في ثبوت هذه القاعدة نظراً. ومنها: أن الحكم بالنقض منسوخ بحديث طلق، وفيه أن النسخ لا يُحكم به بالاحتمال، بل إذا ثبت أن حديث طلق مؤخر، وليس كذلك بل الأمر بالعكس لأن قدوم طلق كان أول سنة من الهجرة كما صرح به ابن حبان وغيره، وكان سماعه الحديث في عدم النقض في ذلك المجلس، وحديث النقض رواه أبو هريرة الذي أسلم سنة سبع، وغيره من أحداث الصحابة. ومنها: أن النقض خلاف القياس. وفيه أنه لا دخل له بعد ورود الأخبار. أما الكلام من القائلين بالنقض فمن وجوه أيضاً: منها: تضعيف رواة أخبار عدم النقض كأيوب ومحمد بن جابر، وفيه أنه لا عبرة به بعد ثبوت طريق عبد الله بن بدر. ومنها: كثرة طرق أحاديث النقض وهي من وجوه الترجيح. ومنها: كون حديث طلق منسوخاً. وفيه أن رواية الصحابي المتأخر الإسلام لا تدل على النسخ لجواز أن يكون سمع من متقدم الإسلام، فيجوز أن تكون أحاديث النقض. مقدمة على حديث العدم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 21 - قال محمد: أخبرنا سلام بن سُلَيْم الحنفي (1) ،   = هذا ملخص الكلام فيما بينهم، وقد سلك جماعة مسلك الجمع: فمنهم: من حمل الوضوء في أحاديث النقض على غسل اليدين، وفيه أنه يأباه صريح ألفاظ بعض الروايات. ومنهم من قال: مسُّ الذكر كناية عن البول. وفيه أنه يُنكره صريح كثير من الروايات. ومنهم من قال: أمر التوضُّؤ للاستحباب، وفيه أيضاً ما فيه. وسلك جماعة أخرى مسلك التعارض وقالوا: إذا تعارضت الأخبار المرفوعة تركناها ورجعنا إلى آثار الصحابة، وفيه أن آثار الصحابة أيضاً مختلفة، والإنصاف في هذا المبحث أنه إن اختير طريق النسخ فالظاهر انتساخ حديث طلق لا العكس، وإن اختير طريق الترجيح ففي أحاديث النقض كثرة وقوة، وإن اختير طريق الجمع فالأَولى أن يُحمل الأمر على العزيمة، وعدم النقض على الضرورة (ويمكن التطبيق بينهما بأن الأمر للاستحباب تنظيفاً والنفي لنفي الوجوب فلا حاجة إلى النسخ، كما قال في الدر المختار (1 - 152) ولكن يندب للخروج من الخلاف لا سيما للإمام) . (1) قوله: سلاّم بن سُليم الحنفي، الاسم الأول بتشديد اللام وفتح السين، والثاني بضم السين وفتح اللام، والنسبة إلى بني حنيفة قبيلة، قال السمعاني في "الأنساب": الحنفي بفتح الحاء المهملة والنون نسبة إلى بني حنيفة، هم قوم أكثرهم نزلوا اليمامة وكانوا تبعوا مُسَيْلَمة الكذاب المتنبئ، ثم أسلموا زمن أبي بكر، والمشهور بالنسبة إليها جماعة كثيرة. انتهى. وفي "تهذيب التهذيب": سلام بن سليم الحنفي مولاهم أبو الأحوص الكوفي، روى عن أبي إسحاق السبيعي وسماك بن حرب وزياد بن علاقة والأسود بن قيس ومنصور وغيرهم، وعنه وكيع وابن مهدي وأبو نعيم وسعيد بن منصور وغيرهم، قال العجلي: كان ثقةً صاحب سنَّة واتِّباع، وقال أبو زرعة والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ (1) ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ (2) ، عن أرقمَ (3) بنِ شُرَحْبِيل،   = قال البخاري: حدَّثني عبد الله بن أبي الأسود قال: مات سنة 79 هـ يعني ومائة. انتهى ملخَّصاً. وفي "مغني" الفَتَّني: سلام كله بالتشديد إلاَّ عبد الله بن سلام، وأبو عبد الله محمد بن سلام شيخ البخاري، وشدَّده جماعة، وفي غير الصحيحين ثلاثة أيضاً: سلام بن محمد، ومحمد بن عبد الوهاب بن سلام، وسلام بن أبي الحقيق. انتهى. وفيه أيضاً: سليم كله بالضم إلاَّ سليم بن حيان. انتهى. ورأيت في "شرح القاري" أنه وجّه نسبة الحنفي بقوله: منسوب إلى أبي حنيفة بحذف الزوائد كالفرضي. انتهى. وهو خطأ واضح، الظن أنه من نُساخ كتابه لامنه. (1) قوله: عن منصور بن المعتمر، بضم الميم وسكون العين وفتح التاء وكسر الميم الثانية، هو أبو عَتّاب بفتح العين وتشديد التاء السلمي الكوفي ثقة ثبت، مات سنة 132 هـ، روى عنه الثوري وشعبة وسليمان التيمي وغيرهم، كذا في "جامع الاصول" لابن الأثير الجزري "وتقريب" ابن حجر. (2) قوله: عن أبي قيس، اسمه عبد الرحمن بن ثروان الأَودي، بفتح الهمزة وسكون الواو في آخرها دال مهملة، نسبة إلى أود قبيلة من مذحج، كذا في "الأنساب"، وفي "كاشف" الذهبي: عبد الرحمن بن ثروان أبو قيس الأودي عن شريح، وعنه شعبة وسفيان ثقة. انتهى. وفي "التقريب": عبد الرحمن بن ثروان بمثلثة مفتوحة وراء ساكنة أبو قيس الأودي الكوفي، صدوق مات سنة عشرين ومائة. (3) قوله: عن أرقم بن شرحبيل، الاسم الأول بفتح الهمزة وسكون الراء المهملة وفتح القاف، والثاني بضم الشين وفتح الراء وسكون الحاء وكسر الباء وسكون الياء بعدها لام، كذا ضبطه الفتَّني وغيره، وقال في "تهذيب التهذيب": أرقم بن شرحبيل الكوفي الأودي روى عن ابن عباس وابن مسعود، وعنه أبو إسحاق وأخوه هذيل بن شرحبيل، قال أبو زرعة: ثقة، واحتج أحمد بن حنبل بحديثه، وقال ابن عبد البَرّ: هو حديث صحيح وأرقم ثقة جليل، وأورد العقيلي بسند صحيح عن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 قَالَ: قلتُ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: إِنِّي أحكُّ جسدي و (1) أنا فِي الصَّلاةِ فأمسُّ ذَكَرِي، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ بَضْعةٌ (2) منك. 22 - قال محمد: أخبرنا سلاَّم بن سُلَيم، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنِ السَّدُوسيِّ (3) ، عَنِ الْبَرَاءِ (4) بْنِ قيسٍ، قَالَ: سألتُ حذيفةَ (5)   = أبي إسحاق السَّبيعي قال: كان هذيل وأرقم ابنا شُرحبيل من خيار أصحاب ابن مسعود. انتهى ملخصاً. (1) الواو حالية. (2) بفتح الباء. (3) قوله: عن السدوسي، هو بالفتح فضم نسبة إلى سدوس بن شيبان، وبضمتين إلى سدوس بن أصبغ بن أبي عبيد بن ربيعة بن نضر بن سعد الطائي، وليس في العرب سدوس بالضم غيره، كذا ذكره السيوطي في كتابه "لب اللباب في تحرير الأنساب"، والمراد به ههنا هو إياد بن لَقيط كما صرح به في الرواية الآتية، ضبطه الفَتَّني في "المغني" بكسر الهمزة وفتح الياء المثنّاة التحتية في آخره دال مهملة، واسم أبيه بفتح اللام، وقال في "تهذيب التهذيب": إياد ين لقيط السدوسي، روى عن البراء بن عازب والحارث بن حسان العامري وأبي رمثة وغيرهم، وعنه ابنه عبيد الله والثوري ومسعر وغيرهم، قال ابن معين والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". انتهى. (4) قوله: عن البراء بن قيس، قال ابن حبان في ثقات التابعين: البراء بن قيس أبو كبشة الكوفي، عداده في أهل الكوفة يروي عن حذيفة وسعد، وروى عنه الناس. (5) قوله: حُذَيفة بن اليمان، بضم الحاء المهملة بعدها ذال مفتوحة، واسم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ابن اليمانِ (1) ، عَنِ الرجُلِ مسَّ ذكَرَه، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ كمسِّه رأسَه. 23 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مِسعَرُ (2) بْنُ كِدَام، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ (3) النَّخَعي، قَالَ: كنتُ فِي مجلسٍ فِيهِ عَمّارُ بنُ ياسر (4) فذكر مسَّ الذَّكر،   = اليمان حِسْل بكسر الحاء وإسكان السين المهملتين، ويقال حُسَيْل - بالتصغير - بن جابر بن عمرو بن ربيعة العبسي حليف بني عبد الأشهل من الانصار، ولُقِّب والده باليمان لأنه أصاب دماً في قومه فهرب إلى المدينة وحالف الأنصار فسماه قومه اليمان لأنه حالف الأنصار وهم من اليمن، أسلم حذيفة وأبوه وشهدا أحداً وقُتل اليمان في غزوة أحد، قتله المسلمون خطأً، فوهب حذيفة لهم دمه، وكان حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وله مناقب كثيرة، مات بالمدائن سنة ست وثلاثين، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي. (1) كذا أخرجه عنه الطحاوي وابن أبي شيبة أيضاً. (2) قوله: مِسعَر بنِ كِدام، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين بعدها راء وبكسر الكاف وفتح الدال، ابن ظهير الهلالي أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل، مات سنة 153 هـ وقيل سنة 155 هـ، كذا في "التقريب" وغيره. (3) قوله: عن عمير بن سعد، وقيل سعيد النخعي الصُّهباني - بضم الصاد المهملة وسكون الهاء - نسبة إلى صُهبان بطن من النخع، كنيته أبو يحيى، ثقة ثبت، مات سنة سبع وقيل خمس عشرة ومائة، كذا في "الأنساب" و"التقريب". (4) قوله: عمار بن ياسر، هو أبو اليقظان عَمَّار - بفتح العين وتشديد الميم - ابن ياسر - بكسر السين - ابن عامر بن مالك بن كنانة، أسلم وهاجر إلى الحبشة والمدينة، وشهد بدراً والمشاهد كلَّها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتلك الفئة الباغية، فقُتل بالصفّين مع علي رضي الله عنه، قتله أصحاب معاوية سنة سبع ثلاثين، كذا في "جامع الأصول" لابن الأثير (في الأصل: "أثير") الجزري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ بَضْعةٌ مِنْكَ (1) وإنَّ لكَفَّك لَمَوْضِعًا غَيْرَهُ (2) . 24 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مِسْعَر بْنُ كِدام، عَنْ إِيَادِ بنِ لَقيط (3) ، عَنِ الْبَرَّاءِ بنِ قيسٍ قَالَ: قَالَ حذيفةُ بنُ الْيَمَانِ فِي مسِّ الذَّكَرِ مِثْلُ أَنْفِكَ. 25 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مِسْعَرُ بنُ كِدام، حَدَّثَنَا قَابُوسُ (4) ، عَنْ أَبِي ظَبيان (5) ، عَنْ عليِّ بنِ أَبِي طالبٍ رضي الله عنه، قال: ما   (1) وفي رواية الطحاوي: إنما هو بضعة منك مثل أنفي وأنفك. (2) يعني الأَولى أن لا يمس من غير ضرورة. (3) على وزن كريم. (4) قوله: حدثنا قابوس، قال الحافظ ابن حجر في "التقريب": قابوس بن أبي ظبيان - بفتح المعجمة وسكون الموحدة بعدها تحتانية - الجَنْبي - بفتح الجيم وسكون النون بعدها باء موحدة - الكوفي، فيه لين. انتهى. وفي "أنساب" السمعاني: الجنبي بفتح الجيم وسكون النون في آخرها الباء المنقوطة بواحدة، نسبة إلى جنب عدة قبائل، وقيل قبيلة من مذحج، والمنتسب إليه أبو ظبيان الجنبي، واسمه حُصَين بن جندب، يروي عن علي رضي الله عنه وابن مسعود، وابنه قابوس بن أبي ظبيان الجنبي، انتهى ملخَّصاً. (5) قوله: عن أبي ظبيان، قال عبد الغَنيّ وابن ماكولا: هو بكسر الظاء المعجمة وسكون الباء الموحدة بعدها ياء تحتانية مثناة. وقال الحازمي: أكثر أهل الحديث واللغة يقولونه بفتح الظاء وسكون الباء، اسمه حُصَين - بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة - ابن جندب بن عمرو بن الحارث بن وحشي بن مالك بن ربيعة الجَنْبي المَذْحِجِي - بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة - نسبة إلى مذحج قبيلة من أهل الكوفة، تابعي مشهور سمع علياً = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أُبَالِي إِيَّاهُ (1) مسستُ أَوْ أَنْفِي أَوْ أُذُني. 26 - قال محمد: أخبرنا أو كُدَيْنة (2) يَحْيَى بنُ المُهَلَّب، عَنْ أَبِي إسحاقَ الشَّيْباني (3) ،   = وعماراً وأسامة بن زيد، وروى عنه ابنه قابوس والأعمش، مات بالكوفة سنة 90 هـ، كذا ذكره ابن الأثير الجزري في "جامع الأصول"، وفي "تهذيب التهذيب": روى عن عمر وعلي وابن مسعود وسلمان وأسامة بن زيد وعمار وحذيفة وأبي موسى وابن عباس وابن عمر وعائشة، ومن التابعين عن علقمة وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم، وعنه ابنه قابوس وأبو إسحاق السَّبيعي وسلمة بن كهيل والأعمش وسماك بن حرب، قال ابن معين والعجلي وأبو زرعة والنسائي والدارقطني: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وسُئل الدارقطني: " أَلَقي أبو ظبيان عمر وعليّاً؟ قال: نعم، قال ابن أبي عاصم: مات سنة 89 هـ، وقال ابن سعد وغيره: مات سنة 90 هـ، وقيل غير ذلك انتهى. (1) أي الذَّكَر. (2) قوله: أبو كُدّيْنة، بضم الكاف وفتح الدال المهملة وسكون المثناة التحتية بعدها نون يحيى بن المُهّلَّب بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام المفتوحة، كذا ضبطه الفَتَّني في "المغني"، قال في " التقريب": يحيى بن المهلب أبو كدينة البجلي الكوفي ثقة صدوق من أثبات التابعين. (3) قوله: عن أبي إسحاق الشيباني، نسبة إلى شيبان بفتح الشين المعجمة وسكون الباء المثَّناة التحتية بعدها باء موحدة، قبيلة في بكر بن وائل، ذكره السمعاني في "الأنساب"، وهو سليمان بن أبي سليمان أبو إسحاق الشيباني مولاهم الكوفي، روى عن عبد الله بن أبي أوفى، وزرّ بن حُبَيش، وأبي بردة بن أبي موسى، وعبد الله بن شدّاد بن الهاد، وعبد العزيز بن رفيع، وعكرمة، وإبراهيم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 عَنْ أَبِي قَيسٍ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ ثَرْوان (1) ، عَنْ عَلْقَمَةَ (2) ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنِّي مسستُ ذَكَرِي وأنا في   = النخعي، وغيرهم، وعنه ابنه إسحاق، وأبو إسحاق السبيعي، وإبراهيم بن طهمان، وابن عيينة، وغيرهم. قال ابن معين: ثقة حجة، وقال ابن أبي حاتم: صدوق صالح الحديث، وقال العجلي: كان ثقة من كبار أصحاب الشعبي، قال يحيى بن بكير: مات سنة 129 هـ، وقال ابن نمير: مات سنة 139 هـ، واسم أبيه فيروز، ويقال: خاقان، وقيل: مهران، كذا في "تهذيب التهذيب". (1) بفتح الثاء المثلثة وسكون الراء المهملة بعدها واو ثم ألف ثم نون، كذا ضبطه الحافظ عبد الغني في كتاب "مشتبه النسبة". (2) عن علقمة، قال القاري في "شرحه": هو علقمة بن أبي علقمة بلال مولى عائشة أم المؤمنين، روى عن أنس بن مالك عن أمه، وعنه مالك بن أنس وغيره. انتهى. والذي في ظني أنه غيره، لأن علقمة بن بلال عداده في أهل المدينة، والرواة في هذا السند من تقدم ومن تأخر كلُّهم من أهل الكوفة، فالظنّ أن علقمة هذا أيضاً من أهل الكوفة، وقد ذكر في "تهذيب التهذيب" و"تقريب التهذيب" رجالاً من أهل الكوفة مسمَّوْن بعلقمة، أحدهم: علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي الكندي الكوفي، روى عن أبيه، والمغيرة بن شعبة، وعنه أخوه عبد الجبار، وابن أخيه سعيد، وعبد الملك بن عمير، وعمر بن مرة، وسماك بن حرب، وسلمة بن كهيل ... وغيرهم، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وثانيهم: علقمة بن مرثد الحضرمي أبو الحارث الكوفي، روى عن سعد بن عبيدة، وزرّ بن حبيش، وكارق بن شهاب، والمستورد بن الأحنف، وسليمان بن بريدة، وحفص بن عبد الله بن أنيس، والقاسم بن مخيمرة.. وغيرهم. وروى عنه شعبة، والثوري، ومسعر، المسعودي، وإدريس بن يزيد الأودي، والحكم بن ظهير، وأبو حنيفة، وحفص بن سليمان القاري.. وغيرهم. قال = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثَبْت في الحديث، وقال أبو حاتم: صالح في الحديث، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". وثالثهم: علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة أبو شبيل النخعي الكوفي عم الأسود النخعي، وُلد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وحذيفة، وأبي الدرداء، وابن مسعود، وأبي موسى، وخالد بن الوليد، وسلمة بن يزيد الجعفي، وعائشة.. وغيرهم. وعنه ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي، وابن أخته إبراهيم بن يزيد النخعي، وابراهيم بن سويد النخعي، وعامر الشعبي، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم، قال ابن المديني: أعلم الناس بعبد الله بن مسعود علقمة والأسود وعبيدة والحارث، وثَّقه ابن معين وشعبة وابن سيرين وغيرهم وأثثَوْا عليه خيراً، وهو من أجلّ أصحاب ابن مسعود. مات سنة 161 هـ، وقيل سنة 162 هـ، وقيل سنة 163 هـ، وقيل سنة 165 هـ، وقيل سنة 172 هـ، وقيل بعده. هذا فلينظر في أن علقمة المذكور في هذه الرواية أيّهم، ولم يظهر لي إلى الآن تشخيصه، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً، والظاهر أنه علقمة بن قيس وإن "عن" في الكتاب من النُّسَّاخ، وعبارته علقمة بن قيس كما هو في بعض النسخ، وإن كان عن قيس كما وجدنا في أكثر النسخ، فالظاهر أن المراد بقيس هو قيس ابن السكن الكوفي بدليل ما في "شرح معاني الآثار": حدثنا أبو بكرة، ثنا يحيى بن حماد، نا أبو عوانة، عن سليمان، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، قال عبد الله بن مسعود: ما أبالي مسست في الصلاة ذَكَري أم أُذُني أم أَنْفي. حدثنا بكر بن إدريس، قال نا آدم بن أبي إياس، نا شعبة، نا أبو قيس، قال: سمعت هُذَيلاً يحدث عن عبد الله نحوه. حدثنا صالح، نا سعيد، نا هشيم، أنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الصَّلاةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَلا قطعتَه؟ (1) ، ثُمَّ قال: وهل ذكَرُكَ إلاَّ كسائر (2)   = قيس بن السكن، عن عبد الله مثله. انتهى. قال في "التهذيب" و"تهذيبه": قيس بن السكن الأسدي الكوفي روى عن ابن مسعود والأشعث بن قيس، وعنه ابن النعمان وأبو إسحاق السبيعي، وعمارة بن عمير، وسعد بن عبيدة، والمنهال بن عمرو وأبو الشعثاء المحاربي، قال ابن معين: ثقة، وعدّه أبو الشَّعثاء في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: توفي في زمن مصعب بن الزبير، له عندهما حديث واحد في صوم عاشوراء، وقال ابن سعد: توفي في زمن مصعب بالكوفة وله أحاديث، وكان ثقة. انتهى. قوله: عن علقمة، بعدما كتبت ما كتبت سالفاً مَنَّ الله عليَّ بمطالعة كتاب الحج، فإذا فيه هذا الأثر بعينه سنداً ومتناً وفيه: عن علقمة بن قيس فظهر قطعاً صحة ما في بعض النسخ، وأن المراد بعلقمة هو ثالث الثلاثة الذين ذكرناهم، وتُيقِّن أنَّ ما فسَّره به القاري خطأ بلا شبهة. ولله الحمد على إظهاره ما تمنَّيْتُ ظهوره. (1) أي إنْ كنتَ تزعم أنه نجس العين فإن وجوده مانع لصحة الصلاة. (2) قوله: إلاَّ كسائر جسدك، قد يعارض ما يفيده هذا الأثر وغيره من الآثار المتقدمة من تسوية الذكَر مع سائر الأعضاء وكونه كسائر الجسد بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا بال أحدكم فلا يأخذنَّ ذَكَرَه بيمينه. أخرجه البخاري وأبو داود وغيرهما. فلو كان الذكر بمنزلة الإبهام والأنف والأذن وسائر الجسد بكان لا بأس علينا أن نمسَّه بأيماننا. ويُجاب عنه بأنَّ النهي عن مَسّ الذكَر باليمين ليس مطلقاً بل إذا بال، بناء على أن مجاور الشيء يُعطى حكمه، وما ورد من الأحاديث المطلقة في النهي محمول على ذلك، كذا حقَّقه ابن أبي جمرة في "بهجة النفوس" شرح مختصر صحيح البخاري، واستدل على الإباحة في غير حالة البول بحديث طلق "إنما هو بضعة منك". لكن قد ذهب جماعة من العلماء إلى أن النهي عنه مطلق غير مقيَّد بحالة البول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 جَسَدِكَ (1) ؟ 27 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ المهلَّب، عَنْ إسماعيلَ بنِ أَبِي خَالِدٍ (2) ، عَنْ قيسِ بنِ أَبِي حَازِمٍ (3) ، قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى سعدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: أيحلُّ لِي أَنْ أمسَّ ذَكَري وَأَنَا فِي الصَّلاةِ؟ فَقَالَ: إنْ علمتَ أنَّ مِنْكَ (4) بِضْعَةً نَجِسَةً فَاقْطَعْهَا (5) .   (1) لا بأس بمسّه. (2) قوله: عن إسماعيل، هو إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم الكوفي، نسبة إلى أَحْمس - بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة - طائفة من بجلة نزلوا الكوفة كما ذكره السَّمعاني، روى عن أبيه وأبي جحيفة وعبد الله بن أبي أوفى، وقيس بن أبي حازم - وأكثر عنه - وغيرهم، وعنه شعبة، والسفيانان، وابن المبارك، ويحيى القطان، وغيرهم. قال ابن معين، وابن مهدي، والنسائي: ثقة، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وقال أبو حاتم: لا أقدم عليه أحداً من أصحاب الشعبي، وهو ثقة مات سنة 126 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب". (3) قوله: عن قيس بن أبي حازم، هو أبو عبد الله البجلي الكوفي تابعي كبير، هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفاتته الصحبة بليالٍ، وروى عن أبي بكر، وعمر، وغيرهما، وعنه بيان بن بشر، وإسماعيل بن أبي خالد وخلق، وثقوه. ويقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشَّرة، مات بعد التسعين أو قبلها وجاوز المائة، كذا في "التقريب والكاشف"، وذكر ابن الأثير في "جامع الأصول"، أنه روى عن العشرة المبشرة إلاَّ عن عبد الرحمن بن عوف، قال ابن عيينة: ما كان بالكوفة أروى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قيس بن أبي حازم، واسم أبي حازم - بكسر الزاي - حصين بن عون، ويقال عبد عوف بن الحارث، وقيل عوف بن الحارث من بني أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار الأحمسي البجلي. (4) أي: من جملة أعضائك. (5) وفي رواية الطحاوي، عن إسماعيل بن قيس سُئل سعد عن مسّ الذكر، فقال: أن كان نجساً فاقطعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 28 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إسماعيلُ بنُ عيَّاش (1) ، قَالَ: حدثني جَريرُ بنُ عثمان (2) ، عن حبيب (3) ،   (1) قوله إسماعيل بن عياش، هو إسماعيل بن عياش - بفتح العين وتشديد الياء - العنبسي أبو عتبة الحمصي، قال يعقوب بن سفيان: تكلم فيه قوم وهو ثقة، عدل أعلم الناس بحديث أهل الشام (في الأصل: "الشام"، والظاهر: "أهل الشام") ، وأكثر ما قالوا: يُغرب عن ثقات المدنيين والمكيين، وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أحفظ من إسماعيل بن عياش، ما أدري ما سفيان الثوري، وقال عثمان الدارمي: أرجو أن لا يكون به بأس، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن معين: ثقة فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز فإنّ كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم، مات سنة 181 هـ، وقيل سنة 182 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب". (2) قوله: حدَّثني جرير بن عثمان، بفتح الجيم وكسر الراء المهملة الأولى، ذكره السمعاني في "الأنساب" في نسبة الرَّحَبي - بفتحتين - نسبة إلى بني رَحَبة بطن من حمير، فقال: ومن المنتسبين إليه أبو عثمان جرير بن عثمان بن جبر بن أحمر بن أسعد الرحبي الحمصي، ويقال أبو عون، سمع عبد الله بن بسر الصحابي، وراشد بن سعد، وعبد الرحمن بن ميسرة وغيرهم، وروى عنه بقية، وإسماعيل بن عيَّاش، وعيسى بن يونس، ومعاذ بن معاذ العنبري، والحكم بن نافع، وجماعة سواهم، كان ثقة ثَبْتاً، قال العجلي: جرير شاميّ ثقة، وحَكى عنه أنه كان يشتمُ عليَّ بن أبي طالب: وحكَى رجوعَه عنه، وُلد سنة 80 هـ، ومات سنة 163 هـ. انتهى ملخَّصاً. (3) قوله: عن حبيب، قال في "تهذيب التهذيب": حبيب بن عبيد الرحبي أبو حفص الحمصي، روى عن العرباض بن سارية، والمقدام بن معديكرب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 عن عُبيد (1) ، عَنْ أَبِي الدَّردَاءِ (2) أَنَّهُ سُئل عَنْ مسِّ الذكر، فقال: إنما هو بَضعَةٌ منك.   وجبير بن نفير، وبلال بن أبي الدرداء، وغيرهم، وعنه جرير بن عثمان، وثور بن يزيد، ومعاوية بن صالح، قال النسائي: ثقة، وقال حبيب بن عبيد أركت سبعين رجلا من الصحابة وقال العجلي ثقة وذكره ابن حبان في الثقات. انتهى ملخَّصاً. (1) قوله: عن عبيد، بضم العين، لعله والد حبيب أو غيره، وفي كتاب "ثقات التابعين" لابن حبان كثير من الكوفيين والشاميين ممَّن اسمه عبيد ولم أدرِ إلى الآن تعيينه ها هنا، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. وهذا على ما وجدنا في بعض النسخ ولا أظنه صحيحاً، والصحيح ما في بعض النسخ المعتمدة "عن حبيب بن عبيد"، فالراوي عن أبي الدرداء هو حبيب بلا واسطة. (2) قوله: عن أبي الدرداء، بفتح الدالين المهملتين بينهما راء مهملة ساكنة عويمر بن عامر، وقيل عامر من بني كعب بن الخزرج الأنصاري، الخزرجي، وقد اختلفوا كثيراً في اسمه ونسبه، واشتهر بكنيته، والدرداء بنته، كان فقيهاً عالماً، شهد ما بعد أُحُد، وسكن الشام ومات بدمشق سنة 32 هـ، وقيل 31 هـ، وقيل سنة 34 هـ، كذا في "جامع الأصول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 6 - (بَابُ الْوُضُوءِ (1) مِمَّا غيَّرت النَّارُ) (2) 29 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا وَهْبُ (3) بْنُ كَيْسان، قَالَ: سمعتُ جابرَ (4) بن عبد الله يقول: رأيتُ (5)   (1) قوله: الوضوء مما غيَّرت النار، قد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فبعضهم ذهب إلى الوضوء مما مسَّت النار، وممن ذهب إلى ذلك: ابن عمر، وأبو طلحة، وأنس، وأبو موسى، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وعمر بن عبد العزيز، وأبو مجلز، وأبو قلابة، والحسن البصري، والزهري. وذهب أكثر أهل العلم وفقهاء الأمصار إلى ترك الوضوء مما مسَّت النار، ورأوْه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممَّن لم برَ منه وضوءاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وعامر بن ربيعة، وأُبَيّ بن كعب، وأبو أمامة، وأبو الدرداء، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين: عَبيدة السَّلْماني، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، ومالك، والشافعي، وأهل الحجاز عامَّتهم، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، كذا في "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأخبار" للحازمي. (2) أي: طعام غيَّرته النار، ووصل فيه أَثَرُه. (3) قوله: وهب بن كَيسان، بفتح الكاف، قال في "الإسعاف": وهب بن كيسان القرشي مولاهم أبو نعيم المدني، وثَّقه النسائي وابن سعد، مات سنة 127 هـ. (4) قوله: جابر، هو أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرَام بن عمرو بن سواد بن سلمة الأنصاري، من مشاهير الصحابة، شهد بدراً - على ما قيل - وما بعدها، وأبوه أحد النقباء الاثني عشر، وكُفَّ بصر جابر آخر عمره، مات بالمدينة سنة 74 هـ وقيل سنة 77 هـ، وقيل سنة 78 هـ، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، كذا في "جامع الأصول". (5) قوله: رأيت .... إلخ، أعلم مالكٌ الناظر في موطَّئه، أن عمل الخلفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 أَبَا بكرٍ (1) الصِّدِّيق أَكَلَ لَحْمًا (2) ثُمَّ صلَّى وَلَمْ يتوضَّأْ. 30 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زيدُ (3) بنُ أَسْلَمَ، عَنْ عطاءِ (4) بنِ يَسار، عَنِ ابْنِ عباس: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أكل (5)   الراشدين بترك الوضوء مما مسَّته النار دليل على أنه منسوخ، وقد جاء هذا المعنى، عن مالك نصاً: روى محمد بن الحسن، عن مالك، أنه سمعه يقول: إذا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثان مختلفان وبَلَغَنا أنَّ أبا بكر وعمر عَمِلا بأحد الحديثين وتركا الآخر، كان ذلك دليلاً على أن الحق في ما عملا به، كذا في "الاستذكار". (1) قوله: أبا بكر الصدّيق، هو أبو بكر عبد الله بن عثمان أبي قُحافة - بضم القاف - ابن عامر بن عمرو بن كعب، الملقَّب بالعتيق، رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، الشاهد معه المشاهد كلّها، وهو أول من أسلم من الرجال، وله مناقب مشهورة، مات سنة 13 هـ، كذا في "أسماء رجال المشكاة". (2) أي: مطبوخاً. (3) قوله: زيد بن أسلم، هو أبو أسامة، وقيل أبو عبد الله زيد بن أسلم المدني الفقيه مولى عمر، قال أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وابن خراش: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالماً بالتفسير، مات سنة 136 هـ وقيل غير ذلك، كذا في "تهذيب التهذيب". (4) قوله: عطار بن يَسار، بفتح الياء أبو محمد الهلالي المدني مولى ميمونة أمّ المؤمنين، ثقة فاضل صاحب عبادة ومواعظ، من التابعين، مات سنة 94 هـ، وقيل بعد ذلك، كذا في "التقريب". (5) قوله: أكل جَنْب شاة، أي: لحمه، وللبخاري في الأطعمة "تعرق"، أي: أكل ما على العَرْق - بفتح العين وسكون الراء - هو العظم، وأفاد القاضي إسماعيل أن ذلك كان في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه كان في بيت ميمونة، كما عند البخاري من حديثها أنه صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 جَنْبَ (1) شاةٍ، ثُمَّ صلَّى وَلَمْ يتوضَّأ (2) . 31 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا محمدُ بنُ المُنْكَدِر (3) ، عَنْ محمدِ (4) بنِ إبراهيم التَّيمي،   أكل عندها كتفاً ثم صلّى ولم يتوضَّأ، وهو خالة ابن عباس، كما أن ضباعة بنت عمه، كذا في "فتح الباري". (1) بفتح الجيم: القطعة من الشيء. (2) قوله: ولم يتوضأ، كان الزهري يرى أن الأمر بالوضوء مما مسَّت النار ناسخ لأحاديث الإباحة، والإباحة سابقة، واعتُرض عليه بحديث جابر: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسَّت النار"، رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، لكن قال أبو داود وغيره: إن المراد بالأمر ههنا الشأن والقصة لا مقابل النهي، وإن هذا الحديث مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة، فأكل منها ثم توضأ وصلى الظهر، ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ، فيحتمل أن تكون القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مسّت النار، وأن وضوء الظهر كان لأجل حدث لا لأكل الشاة. وحكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب ولم يتبيَّن الراجح نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون، فرجحنا به أحد الجانبين. وجمع الخطَّابي بأن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب، كذا في "الفتح". (3) قوله: محمد بن المنكدر، بضم الميم وسكون النون وفتح الكاف وكسر الدال المهملة، ابن عبد الله بن الهُدَير - بالتصغير - التيمي المدني ثقة فاضل، مات سنة 130 هـ أو بعدها، كذا في "التقريب". (4) قوله: عن محمد بن إبراهيم، ابن الحارث بن خالد التيمي أبو عبد الله المدني، ثقة، مات سنة 120 هـ على الصحيح، كذا في "التقريب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 عن ربيعةَ (1) ، عن عبدِ اللَّهِ (2) : أَنَّهُ تعشَّى (3) (4) مَعَ عُمَرَ بنِ الخطاب (5) ،   (1) قوله: عن ربيعة، هو ربيعة بن عبد الله بن الهُدَير - بالتصغير - التيمي المدني، روى عن عمر، وطلحة، وأبي سعيد الخدري، وعنه ابنا أخيه محمد وأبو بكر ابنا المنكدر بن عبد الله، وابن أبي مليكة، ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال ابن سعد: وُلد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ثقة قليل الحديث، وقال العجلي: تابعي مدني ثقة، مات سنة 93 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب" والدليل على أن المراد بربيعة المذكور ههنا هو هذا كلام الطحاوي في "شرح معاني الآثار": نا يونس، قال: نا ابن وهب، أن مالكاً حدَّثه، عن محمد بن المنكدر وصفوان بن سليم أنهما أخبراه، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن ربيعة بن عبد الله بن الهُديْر أنه تعشى مع عمر بن الخطاب ثم صلّى ولم يتوضَّأ، انتهى. وقد أخطأ القاري حيث فسره بربيعة الرأي شيخ مالك حيث قال عن ربيعة أي ابن أبي عبد الرحمن تابعي جليل القدر أحد فقهاء المدينة سمع أنس بن مالك والسائب بن يزيد وروى عنه الثوري ومالك مات سنة 136 هـ انتهى. (2) عن عبد الله هكذا في بعض النسخ، وعليه كتب القاري: "إذا أُطلق عبد الله عند المحدثين، فهو عبد الله بن مسعود. انتهى. فأشار إلى أنّ المتعشي مع عمر بن الخطاب هو ابن مسعود وأن ربيعة روى عنه ذلك، وفي بعض النسخ الصحيحة ربيعة بن عبد الله، أنه تعشى مع عمر، وهو الموافق لما ذكره الطحاوي من رواية مالك، فحينئذ يكون المتعشي مع عمر هو ربيعة بن عبد الله بن الهدير. (3) أي: أكل العشاء، وهو بفتح العين، الطعام الذي يؤكل في المساء، كذا في "النهاية". (4) طعاماً مسَّته النار. (5) قوله: مع عمر بن الخطاب ... إلخ، قد أخرج الطحاوي، عن جابر: أكلنا مع أبي بكر خبزاً ولحماً ثم صلّى ولم يتوضأ، وأكلنا مع عمر خبزاً ولحماً ثم قام إلى الصلاة ولم يمس ماءاً، وأخرج عن إبراهيم، أن ابن مسعود وعلقمة خرجا من بيت عبد الله بن مسعود يريدان الصلاة، فجيء بقصعة من بيت علقمة فيها ثريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ثمَّ صَلَّى (1) وَلَمْ يتوضَّأ. 32 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي ضَمْرَةُ (2) بنُ سعيدٍ المازنيّ، عن أبانَ (3)   ولحم فأكلا، فمضمض ابن مسعود وغسل أصابعه، ثم قام إلى الصلاة. وأخرج عن عبيد، قال: رأيت عثمان أتي بثريد فأكل، ثم تمضمض ثم غسل يديه، ثم قام فصلّى بالناس ولم يتوضأ. أخرج عن أبي نوفل: رأيت ابن عباس أكل خبزاً ولحماً حتى سال الودك على أصابعه فغسل يديه وصلّى المغرب. وأخرج عن سعيد بن جبير أن ابن عباس أتي بجفنة من ثريد ولحم عند العصر، فأكل فغسل أطراف أصابعه، ثم صلّى ولم يتوضأ. أخرج عنه: دخل قوم على ابن عباس فأطعمهم طعاماً، ثم صلّى بهِم على طنفسة، فوضعوا عليها وجوههم وجباههم وما توضؤوا. وأخرج عن مجاهد، عن ابن عمر قال: لا نتوضأ من شيء نأكله. وأخرج عن أبي أمامة: أنه أكل خبزاً ولحماً، فصلّى ولم يتوضأ، وقال: الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل. وأخرج عن أنس: أكلنا أنا وأبو طلحة وأبو أيوب طعاماً قد مسَّته النار، فقمت لأتوضَّأ، فقال: أتتوضأ من الطيِّبات لقد جئت بها عراقية. وأخرج عن ابن مسعود، قال: لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إليَّ من أن أتوضأ من اللقمة الطيبة. فهذه الآثار ونحوها تشيّد عدم انتقاض الوضوء مما مسَّته النار. (1) أي: عمر. (2) قوله: ضمرة بن سعيد، بفتح الضاد المعجمية، ابن أبي حَنَّة بالفتح والنون المشددة، عمرو بن غزية الأنصاري المازني، نسبة إلى مازن بكسر الزاي قبيلة من الأنصار، وثقه ابن معين والنسائي، وأبو حاتم والعجلي، وذكره ابن حبّان في "الثقات" كذا في "تهذيب التهذيب". (3) قوله: عن أبان، بفتح الهمزة وخفة الباء الوحَّدة، هو ابن عثمان بن عفان أمير المؤمنين ثالث الخلفاء المهديين، أبو عبد الله المدني، تابعي له روايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ابن عُثْمَانَ: أَنَّ عُثْمَانَ بنَ عفّانَ أَكَلَ لَحْمًا وخُبزاً (1) فتمضمضَ وغسَلَ يَدَيْهِ (2) ، ثُمَّ مَسَحَهُمَا (3) بِوَجْهِهِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. 33 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى (4) بنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عامرِ (5) بنِ ربيعة   كثيرة، ثقة مات سنة 105 هـ. وأبوه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ذو النورين، له مناقب جمَّة، استشهد في ذي الحجة، 35 هـ، كذا في "التقريب" و"جامع الأصول". (1) بالضم. (2) قوله: غسل يديه، في استحباب غسل اليدين بعد الفراغ من الأكل، وورد استحبابه أيضاً عند بَدْء الأكل في عدة روايات، وأخطأ من أنكر استحبابه. (3) قوله: ثم مسحهما بوجهه، لعله خشي أن يعلق به شيء من الطعام. (4) قوله أخبرنا يحيى بن سعيد، هو شيخ الإسلام أبو سعيد يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري المدني قاضي المدينة، حدث عن أنس، والسائب بن يزيد، وأبي أمامة، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد وغيرهم، وعنه شعبة، ومالك، والسفيانان، والحمّادان، وابن المبارك وخلق سواهم، قال أيوب السختياني: ما تركت بالمدينة أفقه منه، وقال يحيى القطان: هو مقدَّم على الزهري، وقال أبو حاتم: ثقة يوازي الزهرن، وقال العجلي: ثقة فقيه فاضل، مات بالهاشمية سنة 143 هـ، كذا في "تذكرة الحفاظ" للذهبي. (5) قوله: عبد الله بن عامر بن ربيعة، هو عبد الله بن عامر بن ربيعة بن عامر بن مالك بن ربيعة بن حجير بن سلامان بن مالك بن ربيعة بن رُفيدة - بالضم مصغراً - بن عَنز - بالفتح ثم السكون - بن وائل بن قاسط العنزي، وفي نسبه خلاف، أبو محمد، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وله أربع أو خمس سنين، وله أخ أكبر منه يسمى بعبد الله واستشهد الأكبر يوم الطائف، ومات الأصغر سنة 85 هـ وقيل سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 العَدَوي (1) ، عَنِ الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يُصِيبُ الطَّعَامَ (2) قَدْ مسَّته النَّارُ (3) أَيَتَوَضَّأُ (4) مِنْهُ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَبِي (5) يفعلُ ذَلِكَ (6) ، ثُمَّ لا يَتَوَضَّأُ. 34 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن بُشَير بْنِ يَسَارٍ (7) مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ (8) ، أَنَّ سُويد (9)   70 هـ، وأبوهما عامر كان حليفاً لبني عدي بن كعب، ولذلك يقال له العدوي، هاجر الهجرتين وشهد بدراً وما بعده، مات سنة 32 هـ وقيل سنة 33 هـ وقيل سنة 35 هـ، كذا في "جامع الأصول" لابن الأثير الجزري. (1) بفتحتين نسبة إلى بني عدي. (2) أي: يأكله. (3) صفة للطعام بجعل لامه للعهد الذهني. (4) بهمزة الاستفهام. (5) أي: عامر بن ربيعة، وهو ممن هاجر الهجرتين. (6) أي: يأكل ما مسّته النار. (7) قوله: عن بشير، هو بشير - بالضم - بن يَسار - بالفتح - الحارثي الأنصاري مولاهم المدني، قال ابن معين: ثقة، وقال ابن سعد: كان شيخاً كبيراً فقيهاً قد أدرك عامة الصحابة وكان قليل الحديث، وقال النسائي: ثقة، كذا في "تهذيب التهذيب". (8) من الأنصار. (9) قوله: سويد، هو بالضم ابن نعمان بن مالك بن عائد بن مجدعة بن حشم بن حارثة الأنصاري الأوسي، شهد بَيْعة الرضوان، وقيل أحداً وما بعدها، يُعَدّ في أهل المدينة وحديثه فيهم، كذا في "جامع الأصول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ابن نُعْمَانَ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ (1) خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَر (2) (3) حَتَّى إِذَا كَانُوا بالصَّهباء (4) - وَهِيَ (5) أَدْنَى خَيْبَرَ - صلَّوا الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا (6) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَزْوَادِ (7) ، فَلَمْ يُؤْتَ إلاَّ بالسَّويق، فَأَمَرَ بِهِ (8) فثُرِّيَ (9) لَهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَكَلَ (10) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكَلنا، ثُمَّ قام إلى المغرب، فمضمض (11)   (1) أي: سويد. (2) أي: عام غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي سنة سبع من الهجرة. (3) قوله: خيبر، بخاء معجمية مفتوحة وتحتية ساكنة وموحدة مفتوحة وراء، غير منصرف، مدينة كبيرة على ثمانية بُرد من المدينة إلى جهة الشام. (4) بفتح المهملة والمدّ. (5) قوله: وهي أدنى خيبر، أي: طرفها مما يلي المدينة، وقال أبو عبيد البكري في "معجم البلدان": هي على بريدين من خيبر، وبيَّن البخاري من حديث ابن عبيد أن هذه الزيادة من قول يحيى بن سعيد أدرجت، كذا في "فتح الباري". (6) فيه جمع الرفقاء على الزاد في السفر وإن كان بعضهم أكثر أكلاً. (7) جمع زاد: وهو ما يؤكل في السفر. (8) أي: بالسويق. (9) قوله: فثُرِّي، بلفظ مجهول الماضي من التثرية، أي: بُلَّ، يقال: ثريت السويق إذا بلَّلته، والسويق: ما يؤخذ من الشعير والحنطة وغيرها للزاد، كذا في "الكواكب الدراري". (10) أي: منه. (11) قوله: فمضمض، أي: قبل الدخول في الصلاة، وفائدة المضمضة من السويق وإن كان لا دسم له أنه يحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشغله، كذا في "الفتح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ، لا وُضُوءَ مِمَّا مسَّته النَّارُ وَلا مِمَّا دَخَلَ (3) (4) ، إِنَّمَا الوضوءُ (5) مِمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَدَثِ (6) ، فَأَمَّا مَا دَخَلَ مِنَ الطَّعَامِ مِمَّا مسَّته النَّارُ أَوْ لَمْ تمسَسه فَلا وضوءَ فيه (7) ،   (1) قوله: ولم يتوضأ: قال الخطابي: فيه دليل على أن الوضوء مما مسَّت النار منسوخ لأنه متقدم. وخيبر كانت سنة سبع، قلت: لا دلالة فيه، لأن أبا هريرة حضر بعد فتح خيبر وروى الأمر بالوضوء كما في "صحيح مسلم"، وكان يُفتي به بعد النبي صلى الله عليه وسلم كذا في "الفتح". (2) أي بما أفادته (في الأصل: "أفاده"، والظاهر: "أفادته") هذه الأخبار. (3) في جوف الآدمي. (4) من غير ما مسَّته النار. (5) قوله: إنما الوضوء مما خرج، كأنه يشير إلى ماروي عن عباس، أنه قال: الوضوء مما خرج وليس مما دخل، أخرجه الدارقطني، وأخرج أيضاً في كتاب "غرائب مالك" عن ابن عمر مرفوعاً: لا ينقض الوضوء إلاَّ ما خرج من قُبُل أو دبر. قال ابن الهُمام في "فتح القدير": ضُعِّف بشعبة مولى ابن عباس، وقال في الكمال: بل بالفضل بن المختار، وقال سعيد بن منصور: إنما يحفظ هذا من قول ابن عباس، وقال البيهقي: رُوي عن عليّ من قوله. انتهى. (6) قوله: من الحدث، كالغائط والبول والدم السائل والمذي والقيء وغير ذلك مما هو مبسوط في كتب الفقه. (7) قوله: فلا وضوء فيه، لما مرَّ من الأخبار المرفوعة والآثار الموقوفة، ويعارضها أحاديث الأمر بالوضوء مما مسَّته النار، فروى ابن ماجه، عن أبي هريرة مرفوعاً: توضَّؤوا مما غيَّرت النار، فقال ابن عباس: أتوضأ من الحميم؟ فقال: يا ابن أخي إذا سمعتَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضربْ له الأمثال. وروي عن عائشة مرفوعاً: توضؤوا مما مسَّت النار. وروى أبو داود، عن أبي هريرة مرفوعاً: الوضوء مما أنضجت النار. وروي عن سعيد بن المغيرة: أنه دخل على أم حبيبة، فسقته قدحاً من سويق فدعا بماء، فمضمض، فقالت: يا ابن أختي ألا توضأ؟ إن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: توضَّؤوا مما غيَّرت النار. وروى الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: الوضوء مما مسَّت النار ولو من ثور أقط. فقال له ابن عباس: أنتوضأ من الدهن، أنتوضأ من الحميم؟ فقال: يا ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   أخي، إذا سمعت حديثاً فلا تضرب له مثلاً. وروى النسائي عن المطلب بن عبد الله، قال: قال ابن عباس: أنتوصَّأ من طعام أجده حلالاً في كتاب الله، لأن النار مسَّته؟ فجمع أبو هريرة حَصى وقال: أشهد عدد هذا الحصى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "توضؤوا مما مسَّت النار". وروى النسائي، عن أبي أيوب مرفوعاً: توضؤوا مما غيَّرت النار. وعن أبي طلحة مرفوعاً مثله. وعن زيد بن ثابت مرفوعاً: توضؤوا مما مسَّت النار. وروى الطحاوي، عن أبي طلحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ثور أقط، فتوضأ منه. وروى عن زيد بن ثابت مرفوعاً: توضؤوا مما غيَّرت النار. وعن أم حبيبة مرفوعاً: توضؤوا مما مسَّتْ النار. وعن القاسم مولى معاوية: أتيتُ المسجد، فرأيت الناس مجتمعين على شيخ يحدِّثهم، قلت: من هذا؟ قالوا: سهل بن الحنظلة، فسمعته يقول: قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل لحماً فليتوضأ". وعن أبي قلابة، عن رجل من الصحابة قال: كنا نتوضَّأ مما غيَّرت النار، ونمضمض من اللبن. وعن أبي هريرة بأسانيد متعددة نحو ما مرَّ. وعن جابر أن رجلاً قال: يا رسول الله، أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فعلت وإن شئت لا تفعل"، قال: يا رسول، أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم". وروى ابن ماجه، عن البراء: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: "توضؤوا منها". ورُوي عن جابر: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوضأ من لحوم الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم. ومثله في سنن أبي داود وغيره، عن البراء وغيره. ولاختلاف الأخبار في هذا الباب اختلف العلماء فيه، فمنهم من جعله ناقضاً، بل جعله الزهري ناسخاً لعدم النقض، ومنهم من لم يجعله ناقضاً وحكموا بأنَّ الأمر منسوخ بحديث جابر وغيره وعليه الأكثر، ومنهم من قال: من أكل لحم الإبل خاصة وجب عليه الوضوء وليس عليه الوضوء في غيره أخذاً من حديث البراء وغيره، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث وهو مذهب قوي من حيث الدليل، وقد رجَّحه النووي وغيره. وقد سلك بعض العلماء مسلك الجمع، فاختار بعضهم أن الأمر للاستحباب، واختار بعضهم أن الأمر عزيمة والترك رخصة، واختار بعضهم أن الوضوء في أحاديث الأمر محمول على غسل اليدين. وهو قول باطل أبطله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وهو (1) قول أبي حنيفة رحمه الله. 7 - (باب الرجل والمرأة يتوضأان (2) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ) 35 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ (3) ،   ابن عبد البَرّ وغيره، والكلام في هذا المبحث طويل (انظر السعاية في كشف ما في "شرح الوقاية" 1/268) . (1) أي: عدم الوضوء فيه. (2) بأن يكون الماء موضوعاً في إناء واحد ويغترفان منه. (3) قوله: حدَّثنا نافع، قال شيخ الإسلام الذهبي في "تذكرة الحفاظ": نافع أبو عبد الله العدوي المدني حدَّث عن مولاه ابن عمر، وعن عائشة، وأبي هريرة، وأم سلمة، ورافع بن خديج، وطائفة، وعنه أيوب، وعبيد الله، وابن جريج، والأوْزاعي، ومالك، والليث، وخلق، قال البخاري وغيره: أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال ابن وهب: حدَّثني مالك، قال: كنت آتي نافعاً وأنا غلام حديث السنّ فيحدِّثني، وكان يجلس بعد الصبح في المسجد لا يكاد يأتيه أحد، قال حماد بن زيد ومحمد بن سعد: مات نافع سنة 117 هـ، وقال يحيى بن معين: نافع ديلمي، وعن نافع، قال: خدمت ابن عمر ثلاثين سنة، فأُعطي ابن عمر فيَّ ثلاثين ألفاً، فقال: إني أخاف أن تفتني دراهم، فأعتقني. انتهى ملخَّصاً. وفي "جامع الأصول": نافع بن سَرْجِس - بفتح السن المهملة الأولى وسكون الراء المهملة وكسر الجيم - مولى ابن عمر كان ديلمياً من كبار التابعين المدنّيين من المشهورين بالحديث، ومن الثقات الذي يُجمع على حديثهم ويُعمل به، ومعظم حديث ابن عمر عليه دار، قال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع، عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من أحد، مات سنة 117 هـ، وقيل سنة 120 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 عن ابنِ عمر (1) :   انتهى. ومثله في "إسعاف المبطَّأ برجال الموطأ" للسيوطي، فإنه قال: نافع بن سرجس الديلمي مولى ابن عمر المدني عن مولاه، ورافع بن خديج، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وطائفة، وعنه بنوه عبد الله، وأبو بكر، وعمر، والزهري، وموسى بن عقبة، وأبو حنيفة، ومالك، والليث، وخلق. قال البخاري: أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر، مات سنة 117 هـ. انتهى. والذي يعلم من ثقات ابن حبان أن نافعاً مولى ابن عمر ليس بابن سرجس بل هو غيره، فإنه قال أولاً في حرف النون نافع مولى ابن عمر، أصابه ابن عمر في بعض غزواته، كنيته أبو عبد الله، اختُلف في نسبه ولم يصح فيه عندي شيء فأذكره، يروي عن ابن عمر، وأبي سعيد، روى عنه الناس، مات سنة 117 هـ. انتهى. ثم قال: نافع بن سرجس الحجازي مولى بني سباع كنيته أبو سعيد، يروي عن أبي واقد الليثي، روى عنه عبد الله بن عثمان بن خشيم. انتهى وذكر صاحب المشكاة في "أسماء رجال المشكاة" في نسبه مثل ما في "جامع الأصول"، حيث قال: نافع بن سرجس - بفتح السين الأولى وسكون الراء وكسر الجيم - كان ديلمياً من كبار التابعين، سمع ابن عمر وأبا سعيد، وعنه خلق كثير، منهم مالك والزهري. انتهى. وذكر في "التقريب" و"التهذيب" و"تهذيبه" و"الكاشف": نافع أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر، مات سنة 117 هـ، من غير ذكر نسبه. (1) قوله: عن ابن عمر، المراد به حيث أُطلق عبد الله بن عمر بن الخطاب وإن كان له أبْناء آخرون أيضاً، كما أنه يُراد بابن عباس وابن مسعود وابن الزبير عند الإطلاق هو عبد الله. ترجمته مبسوطة في "تذكرة الحفاظ" للذهبي وغيره، وفي "الإسعاف" عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي أبو عبد الرحمن المكي، أسلم قديماً مع أبيه وهو صغير، بل روي أنه أوَّل مولود وُلد في الإسلام، واستُصغر يوم أحد، وشهد الخندق وما بعدها، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه رجل صالح"، ورى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 كان الرجالُ (1) والنساءٌ يتوضَّؤون (2) جميعاً (3)   عنه بنوه: سالم، وحمزة، وعبد الله، وبلال، وعبيد الله، وعمر، وزيد، وحفيده محمد بن زيد، وأبو بكر بن عبيد، ومولاه نافع، وزيد بن أسلم، وعطاء، وخلق، ومسنده عند بقيّ بن مخلد ألفا حديث وستمائة وثلاثون حديثاً، توفي سنة 73 هـ وقيل سنة 74 هـ. انتهى. (1) قوله: كان الرجال .... إلخ، فإن قلت: يعارضه ما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وَضوء المرأة، قلت: حديث الإباحة أصح، كذا في "الكواكب الدراري". (2) قوله: يتوضؤون، قال الرافعي: يريد كل رجل مع امرأته، وأنهما كانا يأخذان من إناء واحد، وكذلك ورد في بعض الروايات. قلت: ما تكلم على هذا الحديث أحسن من الرافعي، فلقد خلط فيه جماعة، كذا في "التنوير". (3) زاد ابن ماجه، عن هشام بن عروة، عن مالك في هذا الحديث: من إناء واحد. وزاد أبو داود من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: ندلي فيه أيدينا. وظاهر قوله "جميعاً" أنهم كانوا يتناولون الماء في حالة واحدة، وحكى ابن التِّين عن قوم أن معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون جميعاً في موضع واحد، هؤلاء على حده وهؤلاء على حده، والزيادة المتقدمة في قوله: من إناء واحد تردّ عليه. وإن كان هذا القائل استبعد اجتماع الرجال والنساء الأجانب، فقد أجاب ابن التِّين عنه بما حكاه عن سحنون أن معناه: كان الرجال يتوضؤون فيذهبون، ثم تأتي النساء فتتوضأن. وهو خلاف الظاهر من قوله جميعاً، وقد وقع مصرَّحاً بوحدة الإناء في صحيح ابن خزيمة في هذا الحديث من طرق معتمر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهَّر منه، والأَولى في الجواب أن يقال: لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب، وأما بعده بالزوجات والمحارم، كذا في "فتح الباري". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فِي زمنِ (1) رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ (3) بِأَنْ تتوضَّأ المرأةُ وتغتسلُ مع الرجلُ من   (1) قوله: في زمن ... إلخ، يُستفاد منه أن الصحابي إذا أضاف فعلاً إلى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون حكمه الرفع وهو الصحيح، كذا في "الفتح". (2) وفي نسخة زيادة " من إناء واحد". (3) قوله: لا بأس..إلخ، قد وردت بذلك أخبار كثيرة: فمن ذلك ما أخرجه أصحاب السنن والدارقطني وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما من حديث ابن عباس، عن ميمونة قالت: أجنبتُ فاغتسلتُ من جفنة، فبقيَتْ فيها فضلة، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يغتسل منه، فقت له، فقال: الماء ليس عليه جنابة واغتسل منه. هذا لفظ الدارقطني، وقد أعلَّه قوم بأن فيه سماك بن حرب الراوي عن عكرمة، وكان يَقبل التلقين. وردَّه ابن حجر في "فتح الباري" بأنه قد رواه عنه شعبة وهو لا يحمل عن مشايخه إلاَّ صحيح حديثهم. وروى الشيخان وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونه كانا يغتسلان من إناء واحد. وأخرج الطحاوي، عن عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد. وعن أم سلمة: كنت إغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من مركن واحد نفيض على أيدينا حتى ننقيها، ثم نفيض علينا الماء. وعن عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يبدأ قبلي، وفي رواية: من إناء واحد تختلف فيه أيدينا من الجنابة. وعن عروة: أن عائشة والنبي صلى الله عليه وسلم كانا يغتسلان من إناء واحد يغترف قبلها وتغترف قبله. وعن ابن عباس، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: اغتسلتُ من جنابة، فجاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فقالت له، فقال: "إن الماء لا ينجسه شيء". وهناك أخبار وردت بالمنع عن الوضوء بفضل المرأة: ففي سنن أبي داود والنسائي، عن داود بن عبد الله قالت: لقيتُ رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة أربع سنين، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعاً. وفي سنن أبي داود، عن الحكم، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طَهور المرأة. ولابن ماجه، عن عليّ: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهله يغتسلون من إناء واحد، ولا يغتسل أحدهما بفضل صاحبه. وله، عن عبد الله بن سَرْجِس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة، والمرأة بفضل وضوء الرجل (وفي الأصل: "الرجل"، والظاهر: "وضوء الرجل") ، ولكن يشرعان جميعاً. ولاختلاف الأخبار اختلفت الآراء على خمسة أقوال: الأول: كراهة تطهُّر المرأة بفضل الرجل وبالعكس. والثاني: كراهة تطهر الرجل بفضل طهور المرأة وجواز العكس. والثالث: جواز التطهر إذا اغترفا جميعاً وإذا خلت المرأة فلا خير في الوضوء بفضلها. والرابع: أنه لا بأس بتطهُّر كل منهما بفضل الآخر شَرَعا (في الأصل: "شرعاً"، وهو خطأ، والصواب: "شَرَعا") جميعاً أو تقدّم أحدهما وعليه عامة الفقهاء. والخامس: جواز ذلك ما لم يكن الرجل جنباً والمرأة حائضاً. وقد رُوي عن ابن عباس وزيد وجمهور الصحابة والتابعين جواز الوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 إناءٍ (1) واحدٍ (2) إِنْ بدأتْ قَبْلَهُ أَوْ بَدَأَ قَبْلَهَا (3) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (4) رَحِمَهُ اللَّهُ.   بفضل المرأة إلاَّ ابن عمر، فإنه كره فضل وضوء الجنب والحائض، كذا في "الاستذكار". والجواب للجمهور عن أحاديث النهي بوجوه: أحدها: أنها ضعيفة بالنسبة إلى أحاديث الإباحة، والثاني: أن المراد النهي عن فضل أعضائها، أي: المتساقط منها. والثالث: أن النهي للاستحباب والأفضل، كذا قال النووي في شرح صحيح مسلم. (1) بأن يأخذا الماء منه لا أنهما يتوضأان فيه. (2) قوله: من إناء واحد، نقل الطحاوي ثم القرطبي والنووي الاتفاق على جواز اغتسال المرأة والرجل من الإناء الواحد، وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر، عن أبي هريرة أنه كان ينهى عنه، ونقل النوويّ أيضاً الاتفاق على جواز وضوء المرأة بفضل الرجل دون العكس، وفيه نظر أيضاً، فقد أثبت الخلاف فيه الطحاوي، وثبت عن ابن عمر والشعبي والأوزاعي المنع، لكن مقيَّداً بما إذا كان جنباً، وأما عكسه فصحَّ عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحسن البصري أنهم منعوا عن التطهير بفضل المرأة، وبه قال أحمد وإسحاق، لكن قيَّده بما إذا خَلَتْ به، كذا في "الفتح". (3) أي: سواء كانت بداية المرأة قبل الرجل أو بالعكس. (4) وأبي يوسف، ذكره الطحاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 8 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنَ الرُّعاف) (1) 36 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا رعفَ (2) رَجَعَ فتَوَضَّأَ (3) وَلَمْ يتكلَّمْ، ثُمَّ رَجَعَ (4) فَبَنَى عَلَى مَا صَلَّى. 37 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا يزيدُ (5) بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ قُسيط، أَنَّهُ رَأَى سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رَعَفَ وَهُوَ يصلِّي فَأَتَى حُجْرة (6) أمِّ سَلَمَةَ زوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأُتي (7) بوَضوءٍ (8) فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَجَع فَبَنَى عَلَى مَا قَدْ صَلَّى. 38 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الَّذِي يَرْعُفُ فيَكْثُرُ (9) عَلَيْهِ الدَّمُ كَيْفَ يصلِّي؟ قَالَ: يُومئ إيماءً   (1) قوله: الرعاف، قال المجد: رعف كنصر ومنع وكرم وعني وسمع، وخرج من أنفه الدم رعفاً ورعافاً كغراب، والرعاف أيضاً الدم بعينه. (2) بفتح العين وضمها. (3) حالية، ولو تكلم بال عذر بطلت صلاته. (4) إلى مُصَلاَّه. (5) قوله: يزيد، قال في "التقريب": يزيد بن عبد الله بن قسيط - بقاف وسين مهملتين مصغَّراً - ابن أسامة الليثي أبو عبد الله المدني الأعرج ثقة، مات سنة 122 هـ. انتهى. (6) لأنها أقرب موضع إلى المسجد ليقلّ المشي. (7) أي: أتاه آتٍ بالماء. (8) بالفتح ماء الوضوء. (9) أي: يكثر سيلانه ولا يحتبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 بِرَأْسِهِ (1) فِي الصَّلاةِ. 39 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ المُجَبَّر (2) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ رَأَى سَالِمَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ يُدْخِلُ إِصْبَعَهُ فِي أَنْفِهِ أَوْ (3) إِصْبَعَيْهِ ثُمَّ يُخْرِجُهَا وَفِيهَا (4) شَيْءٌ من دم (5) فيَفْتِلُهُ (6)   (1) مخافة تلويث ثيابه وتنجيس موضع سجوده. (2) قوله: المُجَبَّر، بضم الميم وفتح الجيم وتشديد موحدة مفتوحة فراء، وإنما قيل له المجبَّر لأنه سقط فتكسَّر فجُبِّر، كذا قاله ابن عبد البر، وفي "جامع الأصول": المجبر بن عبد الرحمن الأصغر بن عمر، يقال اسمه عبد الرحمن. انتهى. وفي "مشتبه النسبة" للحافظ عبد الغني: مجبر بالجيم والباء، والمجبر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، روى مالك عن ابنه عبد الرحمن. وفي "شرح الموطأ" للزرقاني: عبد الرحمن بن المجبر القرشي العدوي، روى عن أبيه وسالم، وعنه ابنه محمد ومالك وغيرهما، ووثقه الفلاس وغيره، وقال ابن ماكولا: لا يُعرف في الرواة عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن، ثلاثة في نسق واحد إلاَّ هذا، فإن اسم المجبر عبد الرحمن، وأبوه عبد الرحمن الأصغر. قال الزبير بن بكار: إنه مات وهو حمل، فلما وُلد سمته حفصة باسم أبيه وقالت: لعل الله يجبره. وقال في "الاستيعاب": كان لعمر ثلاثة أولاد كلهم عبد الرحمن، أكبرهم صحابي، وأوسطهم يكنى أبا شحمة، وهو الذي ضربه أبوه عمر في الخمر، والثالث والد المجبر بالجيم والموحدة الثقيلة. انتهى ملتقطاً. (3) شك من الراوي. (4) أي: في الأصبع. (5) خرج من أنفه. (6) بكسر التاء، أي: يحرّكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ثُمَّ يصلِّي وَلا يتوضَّأ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه (2) نَأْخُذُ، فَأَمَّا الرُّعَاف فَإِنَّ مالكَ بْنَ أَنَسٍ كَانَ لا يَأْخُذُ بِذَلِكَ (3) ، وَيَرَى (4) إِذَا رَعَفَ الرجُلُ في صلاته أن   (1) قوله: ولا يتوضَّأ، لأنه دم غير سائل. ونظيره ما ذكره البخاري تعليقاً أن عبد الله بن أبي أوفى بزق دماً فمضى في صلاته، وذكر أيضاً عن الحسن أنه قال: ما زال المسلمون يُصَلُّون في جراحاتهم، وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن يونس، عن الحسن: أنه كان لا يرى الوضوء من الدم إلاَّ ما كان سائلاً. قال العيني في "عمدة القاري": وإسناده صحيح وهو مذهب الحنفية وحجة لهم على الخصم. (2) من انتقاض الوضوء بالرعاف والبناء به إذا حدث في الصلاة والاكتفاء بالإيماء إذا كثر، وعدم نقض غير السائل. (3) قوله: بذلك، أي: بانتقاض الوضوء بالرعاف، فإن عنده لا يُتَوَضَّأ من رعاف ولا قيء ولا قيح يسيل من الجسد، ولا يجب الوضوء إلاَّ من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو قبل، ومن نوم، وعليه جماعة أصحابه. وكذلك الدم عنده يخرج من الدبر لا وضوء فيه، لأنه يَشترط الخروج المعتاد، وقول الشافعيّ في الرعاف وسائر الدماء الخارجة من الجسد كقوله إلاَّ ما يخرج من المخرجين سواءٌ كان دماً أو حصاةً أو دوداً أو غير ذلك، وممن كان لا يرى في الدماء الخارجة من غير المخرجين الوضوء طاووس ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو ثور، كذا قال ابن عبد البر في "الاستذكار". وذكر العيني في "البناية شرح الهداية" أنه قول ابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى وجابر وأبي هريرة وعائشة. (4) أي: يعتقد ويظن مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 يغسل (1) الدَّمَ ويستقبِلَ الصلاة (2) .   (1) قوله: إن يغسل الدم، وحمل الآثار الواردة في ذلك على أن المراد بالوضوء غسل الدم، فإنه يسمّى وضوءاً لكونه مشتقاً من الوضاءة، بمعنى النظافة. وأيَّده أصحابه بأنه نُقل عن ابن عباس أنه غسل الدم وصلى، فحَملُ أفعالهم على الاتفاق منهم أَوْلى، كذا قال ابن عبد البر. ثم قال: وخالفهم أهل العراق في هذا التأويل فقالوا: إن الوضوء إذا أُطلق ولم يقيَّد بغسل دم أو غيره، فهو الوضوء المعلوم للصلاة وهو الظاهر من إطلاق اللفظ مع أنه معروف من مذهب ابن عمر وأبيه عمر إيجاب الوضوء من الرعاف، وأنه كان عندهما حدثاً من الاحداث الناقضة للوضوء إذا كان سائلاً، وكذلك كل دم سائل من الجسد. انتهى ("الاستذكار" 1/287) . (2) قوله: ويستقبل الصلاة، ظاهره أنه لا يجوِّز مالك البناء مطلقاً وليس كذلك لما يظهر من كلام ابن عبد البر، حيث قال: أما بناء الراعف على ما قد صلّى ما لم يتكلم، فقد ثبت ذلك عن عمر، وعليّ، وابن عمر، ورُوي عن أبي بكر أيضاً، ولا يخالف لهم من الصحابة إلاَّ المسور بن مخرمة وحده، ورُوي أيضاً البناء للراعف على ما قد صلّى ما لم يتكلم عن جماعة من التابعين بالحجاز والعراق والشام، ولا أعلم بينهم خلافاً إلاّ الحسن البصري، فإنه يذهب في ذلك مذهب المسور أنه لا يبني من استدبر القبلة في الرعاف ولا في غيره، وهو أحد قولي الشافعي، وقال مالك: من رعف في صلاته قبل أن يصلّي بها ركعة تامَّة، فإنه ينصرف فيغسل عنه الدم، فيرجع فيبتدئ الإقامة والتكبير والقراءة، ومن أصابه الرعاف في وسط صلاته أو بعد أن يركع منها ركعة بسجدتيها، انصرف فغسل الدم وبنى على ما صلّى حيث شاء إلا الجمعة، فإنه لا يصلّيها إلاّ في الجامع، قال مالك: ولولا خلاف من مضى لكان أحب إليّ للراعف أن يتكلَّم ويبتدئ صلاته من أولها، قال مالك: ولا يبني أحد في القيء ولا في شيء من الأحداث ولا يبني إلاَّ الراعف وحده، وعلى ذلك جمهور أصحابه. وعن الشافعي في الراعف روايتان: إحداهما يبني والأخرى لا يبني. انتهى كلامه، فهذا يوضِّح أن مالك بن أنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فَأَمَّا أَبُو حنيفةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِمَا رَوَى (1) مالكٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّه (2) ينصرفُ فيتوضّأ (3) ،   يجوز البناء للراعف في بعض الصور. (1) أي: مستنداً بما روى. (2) فاعل يقول. (3) قوله فيتوضأ، بناءً على أن الخارج من غير السبيلين ناقض للوضوء إذا كان سائلاً، وبه قال العشرة المبشرة، وابن مسعود، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء، وثوبان، كذا ذكر العيني في "البناية"، وهو قول الزهري، وعلقمة، والأسود، وعامر الشعبي، وعروة بن الزبير، والنخعي، وقتادة، والحكَم بن عيينة، وحماد، والثوري، والحسن بن صالح بن حَيّ، وعبيد الله بن الحسين، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، كذا ذكره ابن عبد البر. ويشهد له من الأخبار ما أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم، عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضَّأ، قال معدان بن أبي طلحة الراوي، عن أبي الدرداء: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فذكرت ذلك له، فقال: صدق، وأنا صببت له وضوءاً. قال الترمذي: هو أصح شيء في الباب، وحملُ الوضوء في هذا الحديث على غسل الفم، كما نقل البيهقي عن الشافعي غيرُ مسموع، إذ الظاهر من الوضوء الوضوء الشرعي، ولا يُصرف عنه الكلام إلاَّ عن ضرورة، وهي مفقودة ههنا. ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجه، عن عائشة مرفوعاً: من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي، فلينصرف فليتوضأ، ثم ليبنِ على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم. وفي سنده إسماعيل بن عياش متكلَّم فيه (وأجاب عنه الحافظ الزيلعي بأنَّ إسماعيل بن عياش قد وثقه ابن معين، وزاد في الإسناد "عن عائشة" والزيادة من الثقة مقبولة. نصب الراية (1/37)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ثُمَّ يَبني (1) عَلَى مَا صلَّى إنْ لَمْ يتكلَّم (2) (3) ،   ومن ذلك، ما أخرجه الدارقطني، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: إذا قاء أحدكم أو رعف وهو في الصلاة، فلينصرف فليتوضأ، ثم ليجئْ فليبنِ على ما مضى، وفي طريقه ضعف (قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/275، رقم 430) : رواه الدارقطني وإسناده حسن) حقَّقه ابن الجوزي في "التحقيق". ومن ذلك ما أخرجه الدارقطني عن علي مرفوعاً: القلس حدث. وفي سنده سوار بن مصعب متروك. ومن ذلك ما أخرجه ابن عدي في "الكامل" عن زيد مرفوعاً: الوضوء من كل دم سائل، وأعلَّه بأحمد بن الفرج الحمصي (قال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل": أحمد بن الفرج كتبنا عنه ومحلّه عندنا الصدق. نصب الراية (1/37)) . وفي الباب أحاديث كثيرة أكثرها ضعيفة السند، لكن بجمعها تحصل القوة، كما حقَّقه ابن الهُمام في "فتح القدير" والعيني في "البناية"، والمتكفِّل للبسط في ذلك شرحي لشرح الوقاية المسَّى بالسعاية. (1) قوله: ثم يبني، وكذلك في سائر الأحداث العارضة في أثناء الصلاة، وبه قال ابن أبي ليلى وداود والزهري وغيرهم، ذكره ابن عبد البر. (2) قوله: إن لم يتكلم، وأما إذا تكلم فسدت صلاته لما مرَّ من حديث عائشة. وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عمر، أنه قال: من رعف في صلاته فلينصرف، فليتوضأ، فإن لم يتكلم بنى على صلاته، وإن تكلم استأنف، وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر مثله، وذكر عن سعيد بن المسيب، أنه قال: إن رعفت في الصلاة فاشدد منخريك، وصلِّ كما أنت، فإن خرج من الدم شيء فتوضأ وأتم على مامضى ما لم تتكلم. (3) ولو قرأ القرآن في طريقه فسدت صلاته أيضاً، كذا في "الذخائر الأشرفية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وَهُوَ (1) قولُنا (2) . وَأَمَّا إِذَا كَثُرَ (3) الرُّعَاف (4) عَلَى الرجُل فَكَانَ إنْ أَوْمَأَ (5) بِرَأْسِهِ إِيمَاءً، لَمْ يَرْعَُفُ وَإِنْ سَجَدَ رَعَفَ. أَوْمَأَ (6) (7) برأسِهِ إِيمَاءً،   (1) أي: قول أبي حنيفة. (2) أي: أصحاب أبي حنيفة. (3) شرط. (4) بحيث لم يمكنه دفعه. (5) أي: إن أشار. (6) جزاء. (7) قوله: أومأ برأسه، هذه المسألة من فروع قاعدة من ابتُلي ببليَّتين يختار أهونهما، فمن كثر رعافه وصار بحال لا ينقطع رعافه إذا سجد، فلو سجد يلزم انتقاض الوضوء به من غير خلف، ولو أومأ يلزم ترك السجدة لكن بخلف وهو الإيماء، فيختار الأهون وهو الإيماء، فإن في اختيار السجدة انتقاض الوضوء وتلويث الثياب والمكان، وفي اختيار الإيماء نجاة من كل ذلك، وقد وافَقَنا مالك في هذه المسألة كما قال ابن عبد البر في شرح أثر سعيد بن المسيب إذ أجاز لمن في الطين والماء الميحط به أن يصلي إيماء من أجل الطين، فالدم أولى بذلك. ولا أعلم مالكاً اختلف قوله في الراعف الذي لا ينقطع رعافه أنه يصلي بالإيماء، واختلف قوله في الصلاة، في الطين والماء الغالب، وفي الصلاة في الطين حديث مرفوع من حديث يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم وحضرت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذن، فإذَّن وأقام وتقدَّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى بهم على راحلته وهم على رواحلهم يومئ إيماءً ويجعل السجود أخفض من الركوع، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وَأَجْزَاهُ (1) ، وَإِنْ كَانَ يَرْعَُفُ كُلَّ حَالٍ (2) سَجَدَ. وَأَمَّا إِذَا أَدْخَلَ الرجُلُ إصبَعَهُ فِي أَنْفِهِ فَأَخْرَجَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ دَمٍ فَهَذَا لا وضوءَ فِيهِ (3) لأَنَّهُ غَيْرُ سَائِلٍ (4) وَلا قَاطِرٍ، وَإِنَّمَا الْوُضُوءُ فِي الدَّمِ مِمَّا سَالَ أَوْ قطر، وهو قولُ أبي حنيفة (5) .   ذكرناه بإسناده في التمهيد. وعن أنس بن مالك وجابر بن زيد وطاووس أنهم صلّوا في الماء والطين بالإيماء. والدم أحرى بذلك، وذكر ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: إذا غلبه الرعاف، فلم يقدر على القيام والركوع والسجود أومأ برأسه إيماءً. انتهى. (1) أي: الإيماء. (2) في نسخة: على كل. أي: سواء أومأ أو سجد. (3) قوله: فهذا لا وضوء فيه، وكذا إذا عرض شيئاً بأسنانه، فرأي أثر الدم فيه، أو استنثر فخرج من أنفه الدم علقاً علقاً، وكذا إذا بزق ورأى في بزاقه أثر الدم، بشرط أن لا يكون الدم غالباً، إلى غير ذلك من الفروع المذكورة في كتب الفقه، وفيه خلاف زفر، فإنه يوجب الوضوء من غير السائل أيضاً لظاهر بعض الأحاديث، وقد ردَّه الحنفية في كتبهم بأحسن ردّ. (4) من مخرجه. (5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، بل هو قول الكل إلاّ مجاهداً كما قال ابن عبد البر، فإن كان الدم يسيراً غير خارج ولا سائل فإنه لا ينقض الوضوء عند جميعهم، وما أعلم أحداً أوجب الوضوء من يسير الدم إلاّ مجاهداً وحده، واحتجَّ أحمد بن حنبل في ذلك بأن عبد الله بن عمر عصر بثرة فخرج منها دم ففتله بإصبعه، ثم صلّى ولم يتوضأ، قال: وقال ابن عباس: إذا فحش، وعبد الله بن أبي أوفى بصق دماً ثم صلَّى ولم يتوضأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 9 - (بَابُ الغَسل (1) مِنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ) (2) 40 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (3) بْنِ عَبْدِ الله، عن أمِّ قيس (4)   (1) بفتح الغين، أي غسل ما أصابه بوله. (2) قوله: بول الصبي، قال ابن عبد البر: أجمع المسلمون على أن بول كل صبي يأكل الطعام ولا يرضع نجس كبول أبيه، واختلفوا في بول الصبي والصبية إذا كانا يرضعان ولا يأكلان الطعام، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما: بول الصبيّ والصبية كبول الرجلين مرضعين كانا أو غير مرضعين، وقال الأوزاعي: لا بأس ببول الصبيّ ما دام يشرب اللبن، وهو قول عبد الله بن وهب صاحب مالك. وقال الشافعي: بول الصبيّ الذي لم يأكل الطعام ليس بنجس حتى يأكل الطعام، وقال الطبري: بول الصبية يغسل غسلاً، وبول الصبيّ يُتبع ماءً، وهو قول الحسن البصري، وذكر عبد الرزاق عن معمر وابن جريج، عن ابن شهاب، قال: مضت السنَّة أن يُرش بول الصبي ويُغسل بول الجارية، وقد أجمع المسلمون على أنه لا فرق بين بول المرأة والرجل في القياس، فكذلك بول الغلام والجارية، وقد رُويت التفرقة بينهما في أن بول الصبي لا يُغسل، وبول الصبية يُغسل في آثار ليست بالقوية، وقد ذكرتها في التمهيد. انتهى. وفيه ما فيه. (3) قوله: عن عبيد الله بن عبد الله، هو عبيد الله بن عبد الله بن عبتة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، روى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، والنعمان بن بشير، وعنه الزهري، وسالم أبو النضر، وطائفة، وثقه أبو زرعة، والعجلي وغير واحد، مات سنة أربع أو خمس وتسعين، وقيل ثمان وتسعين، كذا في "إسعاف المبطأ برجال الموطأ". (4) قوله: أم قيس، هو أخت عكاشة، أسلمت قديماً وهاجرت إلى المدينة، روى عنها مولاها عدي بن دينار، ووابصة بن معبد وغيرهما كذا في "الإسعاف"، وقال الزرقاني: اسمها جذامة وقيل: آمنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 بنتِ مِحْصَن (1) : أَنَّهَا جاءتْ بابنٍ لَهَا (2) صغيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطعامَ (3) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَضَعَهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْره (4) ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ (5) فدعا بماءٍ فنضح (6) (7)   (1) بكسر الميم وإسكان الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان الأسدي. (2) قوله: بابن لها صغير، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسميته، قال: وروى النسائي أن ابنها هذا مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير. (3) قوله: لم يأكل الطعام، المراد بالطعام ماعدا اللبن التي ترضعه، والتمر الذي يُحنَّك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة، وغيرها، فكأنّ المراد لم يحصل له الإغتذاؤ بغير اللبن على الاستقلال، هذا مقتضى كلام النووي في شرح صحيح مسلم وشرح المهذب، وقال ابن التين: يحتمل أنها أرادت أنه لم يتقوّت بالطعام ولم يستغن عن الرضاع. (4) بفتح الحاء على الأشهر، تكسر وتضم: الحضن. (5) قوله: ثوبة، أي ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، وأغرب ابن شعبان من المالكية، فقال: المراب به ثوب الصبي، والصواب الأول، قاله ابن حجر. (6) النضح هو رش الماء من غير دَلْك، والغسل إنما يكون بصب الماء من غير مبالغة. (7) قوله: فنضح، قال النووي في شرح صحيح مسلم: قد اختلف العلماء في كيفية طهارة بول الصبي والجارية على ثلاثة مذاهب وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا، الصحيح المشهور المختار أنه يكفي النضح في بول الصبي، ولا يكفي في بول الجارية، بل لا بد من غسله كسائر النجاسات، والثاني أنه يكفي النضح فيهما، والثالث لا يكفي النضح فيهما، وهذان الوجهان حكاهما صاحب "التتمة" من أصحابنا، وهما شاذّان، وممن قال بالفرق: عليّ وعطاء بن أبي رباح والحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 عليه (1) ولم يَغْسِلْه (2) .   البصري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وجماعة من السلف وأصحاب الحديث، وابن وهب من أصحاب مالك، وروي عن أبي حنيفة، وممن قال بوجوب غسلهما أبو حنيفة ومالك في المشهور عنهما. واعلم أن هذا الخلاف إنما هو في كيفية تطهير الشيء الذي بال عليه الصبيّ، ولا خلاف في نجاسته، ونَقل بعض العلماء الإجماع على نجاسة بول الصبي، وأنه لم يخالف فيه إلاَّ داود الظاهريّ، قال الخطابيّ وغيره: وليس تجويز في جوّز النضح في الصبي من أجل أن بوله ليس بنجس، ولكنه من أجل التخفيف في إزالته، فهذا هو الصواب، وأما ما حكاه أبو الحسن بن بطّال ثم القاضي عياض عن الشافعية وغيرهم أنهم قالوا بطهارة بول الصبي فيُنضح فحكاية باطلة، وأما حقيقة النضح ههنا فقد اختلف أصحابنا فيها، فذهب الشيخ أبو محمد الجويني والبغوي إلى أن معناه أن الشيء الذي أصابه البول يُغمر بالماء كسائر النجاسات بحيث لو عُصر لا يُعصر، قالوا: وإنما يخالف هذا غيره في أن غيره يُشترط عصره على أحد الوجهين وهذا لا يُشترط، وذهب إمام الحرمين والمحققون إلى أن النضح أني غمر ويكاثر بالماء مكاثرة لا يبلغ جريان الماء وتقاطره، وهذا هو الصحيح المختار، ويدلّ عليه "فنضحه ولم يغسله" (انظر "شرح مسلم" للنووي (باب حكم بول الرضيع) (1/139)) . (1) قوله: عليه، لمسلم من طريق الليث عن ابن شهاب فلم يزد على أن نضح بالماء، وله من طريق ابن عيينة عن ابن شهاب: فرشّه، وزاد أو عَوانة (في الأصل: "ابن عَوانة"، وهو خطأ) في صحيحه: "عليه". (2) قوله: ولم يغسله، قال ابن حجر: ادّعى الأصيلي أن هذه الجملة من كلام ابن شهاب وأن الحديث انتهى عند قوله: "فنضحه"، قال: وكذلك روى معمر عن ابن شهاب، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، قال: فرشّه، ولم يزد على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ جَاءَتْ رخصةٌ (1) فِي بَوْلِ الغلام إذا كان لم يأكل الطعام،   انتهى. وليس في سياق معمر ما يدل على ما ادّعاه من الإدراج، وقد أخرجه عبد الرزاق عنه بنحو سياق مالك، لكنه لم يقل: ولم يغسله، وقد قالهما مع مالك: الليثُ وعمرو بن الحارث ويونس بن يزيد، كلهم عن ابن شهاب، أخرجه ابن خزيمة والإسماعيلي وغيرهما من طريق ابن وهب عنهم، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب هي أوجه للشافعية، أصحها الاكتفاء بالنضح في بول الصبي لا الجارية، وهو قول علي، وعطاء، والحسن، والزهري، وأحمد، وإسحاق، ورواه الوليد بن مسلم عن مالك، وقال أصحابه: هي رواية شاذة. والثاني يكفي النضح فيهما، وهو مذهب الأوزاعي وحكي عن مالك والشافعي. والثالث هما سواء في وجوب الغسل وبه قال الحنفية والمالكية: قال ابن دقيق العيد: اتبعوا في ذلك القياس وقالوا: المراد بقولها: لم يغسله أي غسلاً مبالغاً فيه، وهو خلاف الظاهر. ويُبعده ورود الأحاديث الأُخر في التفرقة، وقال الخطابي: ليس تجويز من جوّز النضح من أجل أن بول الصِّبيان غير نجس، وأثبت الطحاوي الخلاف، وكذا جزم به ابن عبد البَرّ وابن بطّال ومن تبعهما عن الشافعي وأحمد وغيرهما، ولم يعرف ذلك الشافعية ولا الحنابلة، وكأنهم أخذوا ذلك من طريق اللازم، وأصحاب المذهب أعلم بمرادهم من غيرهم. (1) قوله: قد جاءت رخصة، أي بالنضح في بول الغلام ما لم يطعم الطعام دون الجارية كما في حديث أم قيس: "فنضحه ولم يغسله"، وفي سنن ابن ماجة من حديث علي مرفوعاً: يُنضح بول الغلام ويُغسل بول الجارية، وفيه عن لبابة قالت: بال الحسين بن علي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أعطني ثوبك والبَس ثوباً غيره، فقال: إنما يُنضح من بول الذكر ويُغسل من بول الأنثى، وفي سنن أبي داود عن علي ولبابة مثل ما مر، وعن أبي السَّمح قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولّني قفاك فأستره به، فأتي بحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وَأَمَرَ بغَسْلِ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وغَسْلُهما (1) جَمِيعًا أحبُّ إلينا وهو   أو حسين فبال على صدره، فجئت أغسله، فقال: يُغسل من بول الجارية ويُرشّ من بول الغلام، وللنسائي من حديث أبي السمح مثله. فهذه الأحاديث وأمثالها تشهد بالرخصة في بول الغلام بالنضح، والفرق (في الأصل: و"الرق"، وهو خطأ) بينه وبين بول الجارية، وحَمَل أصحابُنا النضحَ والرشَّ على الصبّ الخفيف بغير مبالغة ودَلك، والغسل على الغسل مبالغة، فاستويا في الغسل. وقالوا: النضح يُستعمل في الغسل كما في حديث عليٍّ في المذي من قوله صلى الله عليه وسلم: "فينضح فرجه"، أي يغسله، ويؤيده ما روى أبو داود عن الحسن عن أمه أنها أبصرت أم سلمة تصب على بول الغلام ما لم يطعم فإذا طعم غسلَته، وكانت تغسل من بول الجارية. (1) قوله: وغسلهما جميعاً أحب إلينا، لأنه يحتمل أن يكون المراد بالنضح صبّ الماء عليه، فقد يُسمى ذلك نضحاً، وإنما فُرِّق بينهما لأن بول الغلام يكون في موضع واحد لمخرجه، وبول الجارية يتفرَّق لسعة مخرجه، فأمر في الغلام بالنضح أي صب الماء عليه في موضع واحد، وأراد بغسل بول الجارية أن ينقع في الماء لأنه يقع في مواضع متفرقة، كذا ذكره الطحاوي وأيّده بما أخرجه عن سعيد بن المسيب أنه قال: الرش بالرش، والصب بالصب، ثم أخرج حديث عائشة وفيه: فأتبعه الماء، وقال: وإتباع الماء حكمه حكم الغسل، ألا يرى أن رجلاً لو أصاب ثوبه نجاسة فأتبعه الماء طهر ثوبه، ثم أخرج عن أم الفضل قالت: لما وُلد الحسين أتيت (في الأصل: "أتيتُه به"، والظاهر"أتيتُ") ، به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعته على صدره فبال عليه، فأصاب إزاره، فقلت: يا رسول الله أعطني إزارك أغسله، فقال: إنما يُصَبّ من بول الغلام، ويغسلُ من بول الجارية، ثم قال: فثبت أن النضح أراد به الصب حتى لا يتضاد الحديثان المختلفان (انظر: "عمدة القاري" للعيني (1/893)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (1) . 41 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هشامُ (2) بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ (3) ، عَنْ عَائِشَةَ (4) رَضِيَ الله عنها، أنها قالت:   (1) وكذا أبي يوسف، ذكره الطحاوي. (2) قوله: هشام بن عروة، هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي المدني، عن أبيه وعمِّه عبد الله بن الزبير، وعنه مالك وأبو حنيفة وشعبة، وثّقه أبو حاتم وغيره، مات سنة خمس وأربعين ومائة، كذا في "إسعاف المبطّأ برجال الموطأ" للسيوطي. (3) قوله: عن أبيه، عروة بن الزبير أبو عبد الله، عن أبيه وأخيه عبد الله، وعلي، وابنيه، وعائشة، وعنه بنوه عبد الله ومحمد وعثمان وهشام، مات سنة أربع وتسعين، كذا في "الإسعاف". (4) قوله: عن عائشة، بنت أبي بكر الصديق زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أمها أمّ رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس، تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين، هذا قول أبي عبيدة: بثلاث سنين، وابتنى بها بالمدينة وهي بنت تسع، وقال أبو الضحى عن مسروق: رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض، وقال عطاء: كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس، توفيت سنة سبع وخمسين، وقيل سنة ثمانية وخمسين، لسبع عشرة خَلَتْ من رمضان، كذا في "الاستيعاب في أحوال الأصحاب" لابن عبد البر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أُتي (1) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ (2) فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فأَتْبَعَه (3) (4) إِيَّاهُ (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ: تُتْبِعُه (6) إِيَّاهُ غَسْلا (7) حَتَّى تُنْقِيَهُ (8) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله.   (1) مجهول. (2) قوله: بصبيّ، يظهر لي أن المراد به ابن أم قيس، ويحتمل أن يكون الحسن بن عليّ أو الحسين، كذا في "الفتح". (3) بإسكان المثناة. (4) الضمير المتصل للبول والمنفصل للماء، ويجوز العكس. (5) قوله: إيّاه، زاد مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن هشام: "ولم يغسله". ولابن المنذر من طريق الثوري عن هشام: "فصبّ عليه الماء". وللطحاوي "فنضحه عليه". (6) بصيغة الخطاب وكذا قرينه والخطاب عام، وفي بعض النسخ ننقيه ونتبعه بصيغة المتكلم. (7) أي غسلاً خفيفاً. (8) من الإنتقاء أو التنقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 10 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْيِ) (1) 42 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ (2) (3) أَبُو النَّضر (4) مَوْلَى عُمَرَ (5) بْنِ عُبَيْدِ بْنِ معمرِ التَّيمي (6) ، عَنْ سُلَيْمَانَ (7) بنِ يَسَار، عن المِقدادِ (8) بنِ الأسود،   (1) قوله: من المذي، بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء على الأفصح، ثم بكسر الذال وشدّ الياء، ثم الكسر مع التخفيف، ماء أبيض رقيق لَزِج يخرج عند الملاعبة، أو تذكّر الجماع، أو إرادته. (2) ابن أبي أمية القرشي. (3) قوله: سالم أبو النضر، المدني، روى عن أنس والسائب بن يزيد، وعنه مالك والليث والسفيانان، وثّقه أحمد وغيره، مات سنة 129 هـ، كذا في "الإسعاف". (4) بالضاد المعجمة. (5) بضم العين. (6) قوله: ابن معمر، بن عثمان بن عمرو بن سعد بن تيم القرشي، كان أحد وجوه قريش وأشرافها، مات بدمشق سنة اثنين وثمانين، وجدُّه معمر صحابي ابن عم أبي قحافة والد أبي بكر الصديق، قاله الزرقاني. (7) قوله: سليمان بن يسار، أحد الأعلام، قال النسائي: كان أحد الأئمة، وقال أبو زرعة: ثقة مأمون فاضل، مات سنة 107 هـ، كذا في "الإسعاف". (8) قوله: عن المقداد، بن عمرو بن ثعلبة الكندي، المعروف بابن الأسود كان الأسود بن عبد يغوث، قد تبناه وهو صغير فعُرف به، شهد بدراً والمشاهد كلّها، مات سنة 33 هـ كذا في "الإسعاف". وقال ابن عبد البر: هذا الإسناد ليس بمتصل لأن سليمان بن يسار لم يسمع من المقداد ولا من علي، ولم يرَ واحداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أَنَّ عليَّ (1) بنَ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَهُ (2) أنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ إِذَا دَنَا (3) مِنْ أَهْلِهِ فَخَرَجَ مِنْهُ المَذْيُ مَاذَا عَلَيْهِ (4) ؟ فإن عندي (5)   منهما، فإنه ولد سنة أربع وثلاثين، ولا خلاف أن المقداد توفي سنة ثلاث وثلاثين، وبين سليمان وعلي في هذا الحديث ابن عباس أخرجه مسلم، كذا في "التنوير". (1) قوله: أن عليّ بن أبي طالب، اسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، نشأ عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى معه أول الناس، وشهد المشاهد كلها سوى تبوك، ومناقبه كثيرة، قُتل ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقيت من رمضان سنة 40 هـ بالكوفة، كذا في "الإسعاف". (2) قوله: أمره، وللنسائي أن عليّاً أمر عمّاراً أن يسأل، ولابن حبان أن عليّاً، قال: سألت (وبسط العيني اختلاف الروايات في ذلك (عمدة القاري 2/36) . واختلف العلماء في الجمع بينها بأقوال: فجمع ابن حبان بأن علياً رضي الله عنه أمر عماراً أن يسأل ثم أمر المقداد بذلك ثم سأل بنفسه، قال الحافظ في الفتح (1/263) وهو جمع جيد إلا آخره فيخالفه قوله: "وأنا أستحيي" فتعيَّن حملهُ على المجاز بأن بعض الرواة أطلق أنه سأله لكونه الآمر بذلك، وبه جزم الإسماعيلي والنووي. وجمع بعضهم بأن السؤال بالواسطة كان لخصوص نفسه وباشر بنفسه عن مطلق حكم المذي، وقيل غير ذلك. انظر "الكوكب الدرّيّ على جامع الترمذي 1/146") . (3) أي قرب. (4) أي ما يجب عليه. (5) أي تحت عقدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ابنَته (1) (2) وأنا أَستَحي (3) أَنْ أسأَلهُ، فَقَالَ المِقداد: فسألتُه، فَقَالَ: إِذَا وَجَدَ أحدُكم ذَلِكَ فلينضَح (4) فَرْجَهُ، وليتوضَّأ وُضوءَهُ (5) لِلصَّلاةِ (6) . 43 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي زيدُ (7) بنُ أسلَمَ،   (1) فاطمة. (2) علة لأمره بالسؤال وعدم سؤاله بنفسه. (3) قوله: وأنا أستحيي ... إلخ، ذكر اليافعي في "الإرشاد والتطريز بفضل تلاوة القرآن العزيز" أن الحياء على أقسام: حياء جناية كآدم لما قيل له أفِراراً منا؟ قال: بل حياء منك، وحياء التقصير كحياء الملائكة يقولون: ما عبدناك حق؟؟ عبادتك، وحياء الإجلال كإسرافيل تسربل بجناحه حياءً من الله، وحياء الكرم كحياء النبي عليه السلام كان يستحيي من أمته أن يقول: اخرجوا، فقال الله: {ولاَ مُسْتَأنسين لِحَديثٍ} . وحياء حشمة كحياء عليّ حين أمر المقداد بالسؤال عن المذي لمكان فاطمة. وحياء الاستحقار كموسى قال: لتعرض لي الحاجة من الدنيا فأستحيي أن أسألك يارب. فقال له: سلني حتى ملح عجينك وعلف شاتك. وحياء هو حياء الرب جل جلاله حين يستر على عبده يوم القيامة. هذا ما نقله اليافعي، عن "رساله" القشيري. (4) قوله: فلينضح، ضبطه النووي بكسر الضاد، وقال الزركشي: كلام الجوهري يشهد له (في الأصل: "يشهده"، والظاهر: "يشهد له") ، لكن نقل عن صاحب الجامع أن الكسر لغة والأفصح الفتح. (5) أي مثل وضوئه. (6) قوله: للصلاة، قال الرافعي: لقطع احتمال حمل التوضؤ على الوضاءة الحاصلة بغسل الفرج. (7) قوله: زيد، أبو عبد الله، قال يعقوب بن شيبة: ثقة من أهل الفقه والعلم، كان عالماً بالتفسير له فيه كتاب، توفي سنة 136 هـ، كذا في "الإسعاف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 عَنْ أَبِيهِ (1) ، عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنِّي لأَجِدُهُ (2) يتحدَّرُ (3) مِنِّي مثلَ الخُرَيْزة (4) ، فَإِذَا وَجَدَ أَحدُكم ذَلِكَ فليَغْسِلْ فَرْجَهُ وليتوضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ: يَغْسِلُ موضعَ (5) المذْيِ (6) وَيَتَوَضَّأُ (7) وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.   (1) أسلم، مولى عمر ثقة مخضرم، مات سنة 87 هـ، كذا في "الإسعاف" وغيره. (2) أي المذي. (3) من الحدور ضد الصعود. (4) تصغير الخرزة وهو الجوهرة، وفي رواية عنه مثل الجمانة وهي اللؤلؤة. (5) الذي خرج منه المذي. (6) قوله: موضع المذي، يشير إلى أن المراد بغسل الفرج هو موضع المذي لا غسل الفرج كاملاً (قد ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد إلى غسل موضع النجاسة من الذكر، وعن مالك وأحمد رواية غسل كل الذكر، وعن أحمد رواية ودوب غسل الذكر والإنثيين كما في "المغني" (1/166) و"شرح المهذب" (2/144)) ، وإنما أطلق بناءً على أنه غالباً يتفرّق في مواضع من الذكر فيغسل كله احتياطاً، وأما إذا علم موضعه فيكتفي بغسله. (7) قوله: ويتوضأ، لا رخصة لأحد من علماء المسلمين في المذي الخارج على الصحة، وكلهم يوجب الوضوء منه، وهي سنة مجمع عليها بلا خلاف، فإذا كان خروجه لفساد أو علة فلا وضوء فيه عند مالك (خلافاً للأئمة الثلاثة إذ قالوا بنقض الوضوء إلاَّ أن الشافعي يقول: يتوضأ لكل صلاة، وقالت الحنفية: يتوضأ لوقت كل صلاة. انظر (أوجز المسالك 1/267)) ولا عند سلفه وعلماء بلده لأن ما لا يرقأ ولا ينقطع فلا وجه للوضوء منه، كذا في "الاستذكار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 44 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الصَّلْتُ (1) بنُ زُيَيْد أَنَّهُ سَأَلَ سليمانَ (2) بنَ يَسَارٍ عَنْ بللٍ (3) يَجِدُهُ فَقَالَ: انْضَحْ (4) مَا تَحْتَ ثوبِكَ (5) والْهَ (6) عَنْهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (7) نَأْخُذُ، إِذَا كَثُرَ ذَلِكَ (8) مِنَ الإِنْسَانِ، وَأَدْخَلَ الشيطانُ عَلَيْهِ فِي الشَّكِّ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.   (1) الصلت، بفتح الصاد المهملة وسكون اللام ابن زُيَيْد مصغر زيد أو زياد الكندي، وثقه العجلي وغيره. قاله الزرقاني. (2) أبو أيوب الهلالي المدني. (3) أراد به المذي. وفي نسخة: البلل. (4) أي اغسل. (5) أي إزارك أو سروالك. (6) قوله: والْهَ، أمر من لهي يلهى كرضي يرضى: اشتغل عنه بغيره دفعاً للوسواس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأت فانتضح". رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، أي لدفع الوسواس حتى إذا أحسّ ببلل قدّر أنه بقية الماء لئلا يشوِّش الشيطان فكره ويتسلّط عليه بالوسوسة. (7) أي بنضح الماء والإعراض عنه. (8) أي خروج المذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 11 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ السِّبَاعُ (1) وَتَلِغُ فِيهِ) (2) 45 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (3) ، عَنْ محمدِ بنِ إبراهيمَ (4) بنِ الْحَارِثِ التَّيْمي، عَنْ يَحْيَى (5) بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حاطبِ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ (6) أنَّ عُمَرَ (7) بنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه خرج في ركبٍ (8)   (1) قوله: السباع، هي ما يفترس الحيوان ويأكله قهراً كالأسد والنمر والذئب ونحوها، كذا في "النهاية". (2) يقال: ولغ يلغ ولغاً وولوغاً أي شرب منه بلسانه وأكثر ما يكون الولوغ في السباع، كذا في "النهاية". (3) قوله: يحيى بن سعيد، بن قيس الأنصاري أبو سعيد المدني قاضيها، عن أنس وعدي بن ثابت وعلى بن الحسين، وعنه وأبو حنيفة ومالك وشعبة، قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، حجة ثبت، مات سنة 143 هـ، كذا في "الإسعاف". (4) قوله: محمد بن إبراهيم، وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وغيرهم، وقال أحمد: في حديثه شيء، يروي مناكير، مات سنة 120 هـ، وهو راوي حديث: "إنما الأعمال بالنيات" في رواية محمد بن الحسن، كذا في "الإسعاف". (5) ثقة من التابعين، مات سنة 104 هـ، روى له مسلم والأربعة، قاله الزرقاني. (6) قوله: بلتعة، بفتح الباء وسكون اللام بعده تاء فوقية مثناة مفتوحة ثم عين مهملة. (7) منقطع فإن يحيى لم يدرك عمر. (8) الركب اسم جمع كنفر ورهط، وقيل هو جمع راكب كصاحب وصحب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فِيهِمْ عمرُو (1) بنُ الْعَاصِ، حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا، فَقَالَ عمرُو بنُ الْعَاصِ: يَا صاحبَ الحوضِ هل تَرِدُ (2) حوضَكَ السباع (3) ؟   (1) قوله: فيهم عمرو بن العاص، هو عَمرو - بالفتح - ابن العاص بن وائل السهمي الصحابي، أسلم عام الحديبية، وولي إمرة مصر مرتين، ومات بها سنة نيّف وأربعين، وقيل: بعد الخمسين، كذا ذكره الزرقاني في "شرح المرطأ"، وقال هو في "شرح المواهب اللدنية": العاص بالياء وحذفها، والصحيح الأول عند أهل العربية، وهو قول الجمهور، كما قال النووي وغيره. وفي "تبصير المنتبه": قال النحاس: سمعتُ الأخفش يقول: سمعت المبرد يقول: هو بالياء لا يجوز حذفها، وقد لهجت العامة بحذفها، قال النحاس: هذا مخالف لجميع النحاة، يعني أنه من الأسماء المنقوصة، فيجوز فيه إثبات الياء وحذفها، والمبرد لم يخالف النحويين في هذا، وإنما زعم أنه سمي العاصي لأنه أعيص بالسيف، أي: أقام السيف مقام العصا، وليس هو من العصيان، كذا حكاه الآمدي هنا، قلت: وهذا إن مشى في العاصي بن وائل، لكنه لا يطرّد لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم غيَّر اسم العاصي بن الأسود والد عبد الله، فسمَّاه مطيعاً، فهذا يدل على أنه من العصيان، وقال جماعة: لم يسلم من عصاة قريش غيره، فهذا يدل لذلك أيضاً. (2) قوله: هل ترد، أي: هل تأتي إليه فتشرب منه سباع البهائم كالذئب، والضبع، والثعلب، ونحوها، فإن سؤرها نجس كسؤر الكلب لاختلاطه بلعاب نجس متولِّد من لحمٍ حرامٍ أكلُهُ، ولعله كان حوضاً صغيراً يتنجَّس بملاقاة النجاسة، وإلاَّ فلو كان كبيراً لما سأل، ومعنى قوله "لا تخبرنا"، أي: ولو كنتَ تعلم أنه ترده السباع، لأنّا نحن لا نعلم ذلك، فالماء طاهر عندنا، فلو استعملناه استعملنا ماءً طاهراً، كذا في "الحديقة النديَّة" لعبد الغني النابلسي شرح "الطريقة المحمدية" للبركلي. (3) لأجل الشرب حتى تمتنع منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فَقَالَ عمرُ بْنُ الخطابْ: يَا صاحبَ الْحَوْضِ، لا تُخْبِرْنا (1) ، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّباع (2) وتَرِدُ علينا (3) .   (1) قوله: لا تخبرنا، الأظهر أن يُحمل على إرادة عدم التنجيس وبقاء الماء على طهارته الأصلية، ويدل عليه سؤال الصحابي، وإلاَّ فيكون عبثاً، ثم تعليله بقوله: "فإنّا" إشارة إلى أنَّ هذا الحال من ضرورات السفر، وما كُلِّفنا بالتحقيق، فلو فتحنا هذا الباب على أنفسنا لوقعنا في مشقة عظيمة، كذا في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لعلي القاري رحمه الله. (2) هذا بظاهره يؤيِّد مذهب مالك أن الماء طهور لا ينجسه شيء إلاَّ ما غيَّر لونه أو طعمه أو ريحه. (3) قوله: وترد .... إلخ، قال ابن الأثير في "جامع الأصول": زاد رزين قال: زاد بعض الرواة في قول عمر: "وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لها ما أخذت في بطونها، وما بقي فهو لنا طهور وشراب. انتهى. ونظيره ما رواه ابن ماجه، عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تَرِدُها السباع والكلاب والحمر، وعن الطهارة منها، فقال: "لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غبر (معناه: "بقي". انظر مجمع بحار الأنوار 4/3) طهور". وروى الدارقطني في سننه، عن جابر، قيل: يا رسول الله، أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: "نعم، وبما أفضلت السباع". وفي سندهما متكلم فيه. وبهذه الأحاديث ذهب الشافعية والمالكية إلى أن سؤر السباع طاهر لا يضر مخالطته بالماء، وأما أصحابنا الحنفية فقالوا بنجاسته (سؤر السباع طاهر عند مالك، وكذلك عند الشافعي، وسؤر سباع الوحش نجس عند الإمام وهما روايتان عن الحنابلة (أوجز المسالك: 1/211)) ، وحملو أثر عمر على أن غرضه من قوله: "لا تخبرنا" أنك لو أخبرتنا لضاق الحال فلا تخبرنا، فإنا نرد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا كَانَ الحوضُ عَظِيمَا إنْ (1) حُرِّكتْ (2) مِنْهُ ناحيةٌ (3) لَمْ تتحرَّكْ بِهِ الناحيةُ الأُخْرَى لَمْ يُفسِدْ (4) ذَلِكَ الماءَ مَا وَلِغَ فِيهِ مِنْ سَبُع، وَلا مَا وَقَعَ فِيهِ من قَذَر (5)   السباع وترد علينا، ولا يضرنا ورودها عند عدم علمنا، ولا يلزمنا الاستفسار عن ذلك. ولو كان سؤر السبع طاهراً لما منع صاحب الحوض عن الإخبار، لأن إخباره حينئذٍ لا يضر، وأما حمله على أن كل ذلك عندنا سواء أخبرتنا أو لم تخبرنا، فلا حاجة إلى إخبارك كما ذكره المالكية والشافعية فهو وإن كان محتملاً لكن ظاهر سياق الكلام يأباه. وأما قول ابن عبد البر: المعروف عن عمر في احتياطه في الدَّين أنه لو كان ولوغ السباع والحمير والكلب يفسد ماء الغدير لسأل عنه، ولكنه رأى أنه لا يضرّ الماء. انتهى. فمنظور فيه بأن مقتضى الاحتياط ليس أن يسأل عن كل أمر عن نجاسته وطهارته، فإنَّ في الدين سعة (قلت: وإذا كان الغدير عظيماً فولوغ السباع لا يفسده اتفاقاً، فلا حجة فيه لهم ما لم يثبت كون الغدير صغيراً) . (1) الجملة صفة مبيِّنة لمعنى العِظَم. (2) بصيغة الخطاب العام، وما بعده مفعول، أو بصيغة المجهول وما بعده فاعل. (3) أي: جانباً. (4) قوله: لم يفسد، أي: لم ينجسه شيء من النجاسات الواقعة فيه، لأنه كالماء الجاري لعدم وصول النجاسة من جانب وقع فيه إلى جانب آخر، فيجوز الوضوء من الجانب الآخر، ووسّع متأخِّرو أصحابنا، فجوَّزوا الوضوء من كل جوانبه إلحاقاً له بالجاري. (5) بفتحتين، أي: عين النجاسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 إلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى رِيحٍ أَوْ طَعْمٍ (1) ، فَإِذَا كَانَ حَوْضاً صَغِيرًا إنْ حُرِّكت مِنْهُ نَاحِيَةٌ تحرَّكَتْ الناحيةُ الأُخْرَى فَوَلَغَ (2) فِيهِ السِّبَاعُ أَوْ وَقَعَ فِيهِ الْقَذَرُ لا يَتَوَضَّأُ (3) مِنْهُ، أَلا يُرَى (4) (5) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَ أَنْ يُخْبِرَهُ وَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ (6) ، وَهَذَا كلُّه قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله (7) .   (1) قوله: أو طعم، وكذا لون لحديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلاَّ ما غير طعمه أو لونه أو ريحه"، أخرجه الدارقطني والطحاوي وغيرهما من طريق راشد بن سعد مرسلاً، فإن هذا الحديث محمول عند أصحابنا على الماء الجاري أو ما في حكمه. (2) أي: شربت منه بلسانها. (3) قوله: لا يتوضأ منه، لاختلاط النجاسة به، وقد قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: آية 157) والنجاسة من الخبائث، ولم يفرِّق بين حالَتيْ انفرادها واختلاطها، فوجب تحريم استعمال كل ما تيقَّنَا فيه اختلاط النجاسة، وورد في السنَّة: "لا يبولّنَّ أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه"، ومعلوم أن البول في الماء الكثير لا يغيِّر طعمه ولونه وريحه، كذا في "البحر الرائق". (4) في نسخة "ألا ترى". (5) قوله: ألا يرى ... إلخ، سند لعدم جواز التوضّؤ من الحوض الصغير عند وقوع النجاسة فيه بأن عمر منع صاحب الحوض عن الإخبار لئلاّ يشكل عليه الأمر، وما ذلك إلاَّ لأنه لو أخبر به لَلَزمه (في الأصل: "لزمه"، والظاهر "لَلَزمه") تركه. (6) أي: عن الإخبار. (7) قوله: قول أبي حنيفة، المذاهب في هذا الباب خمسة عشر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الأول: مذهب الظاهرية: أن الماء لا يتنجَّس مطلقاً وإن تغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه، لحديث: "الماء طهور لا ينجِّسه شيء". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. والثاني: مذهب المالكية: أنه لا يتنجَّس إلاَّ ما تغيَّر لونه أو طعمه أو ريحه، لما مرَّ من حديث فيه الاستثناء. والثالث: مذهب الشافعية: أنه إن كان قلتين لا يتنجَّس وإلاَّ يتنجَّس لحديث: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث. أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما. هذه ثلاثة مذهب والباقية لأصحابنا. الأول: ما ذكره محمد ههنا، وهو التحديد بالتحريك، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه القدماء، وغلط من نسب إليه غيره. والثاني: التحديد بالكدرة. والثالث: التحديد بالصبغ. والرابع: التحديد بالسبع في السبع. والخامس: التحديد بالثمانية في الثمانية. والسادس: عشرين في عشرين. والسابع: العشر في العشر، وهو مذهب جمهور أصحابنا المتأخِّرين. والثامن: خمسة عشر في خمسة عشر. والتاسع: اثنا عشر في اثنا عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 12 - (بَابُ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ) (1) 46 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا صفوانُ بنُ سُلَيم، عَنْ سعيدِ بنِ سلمةَ بنِ (2) الأَزْرَقِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي بُردة، عن أبي هريرة (3) : أن   وفي المذهب الأول ثلاث روايات: التحريك باليد، والتحريك بالغسل، والتحريك بالوضوء. فالمجموع اثنا عشر مذهباً لأصحابنا، فإذا ضممته إلى ما تقدَّم، صار المجموع خمسة عشر، ولقد خضت في بحار هذه المباحث وطالعت لتحقيقها كتب أصحابنا المبسوطة، وكتب غيرهم المعتمدة، فوضع لنا ما هو الأرجح منها، وهو الثاني، ثم الثالث، ثم الرباع، وهو مذهب قدماء أصحابنا وأئمتنا، والباقية مذاهب ضعيفة، وقد أشبعنا الكلام فيها في السعاية (ص 280) . (1) قوله: بماء البحر، قد جاء عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو كراهة الوضوء بماء البحر، وليس فيه لأحد حجة مع خلاف السنَّة، وقد روى قتادة عن موسى بن سلمة الهذلي: سألت ابن عباس، عن الوضوء بماء البحر، قال: هما البحران لا تبالي بأيهما توضَّأت. كذا في "الاستذكار". (2) في نسخة آل بني. (3) قوله: عن أبي هريرة، هذا الحديث أخرجه الشافعي من طريق مالك، وأصحابُ السنن الأربعة، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وصححه البخاري، وتعقَّبه ابن عبد البر بأنه لو كان صحيحاً لأخرجه في صحيحه، وردَّه ابن دقيق العيد وغيره بأنه لم يلتزم استيعاب كل الصحيح، ثم حكم ابن عبد البر بصحته لتلقّي العلماء له بالقبول. فقبله من حيث المعنى وردَّه من حيث الإسناد، وقد حكم بصحة جملة من الأحاديث التي لا تبلغ درجة هذا، ورحج ابن مَنْدَهْ صحته، وصحَّحه الضياء وابن المنذر والبغوي، ومداره على صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   أبي هريرة. قال الشافعي: في إسناده من لا أعرفه، قال البيهقي: يحتمل أنه يريد سعيداً، أو المغيرة، أو كليهما، مع أنه لم يتفرَّد به سعيد، فقد رواه عن المغيرة يحيى بن سعيد الأنصاري، إلاَّ أنه اختلف عليه، فرواه ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن رجل من العرب يقال له المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، أن ناساً من بني مدلج أتَوْا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكره، وقيل: عنه، عن المغيرة، عن رجل من بني مدلج، وقيل: عنه، عن المغيرة عن أبيه، وقيل: عنه، عن المغيرة بن عبد الله أو عبد الله بن المغيرة، وقيل عنه عن عبد الله بن المغيرة عن أبيه عن رجل من بني مدلج اسمه عبد الله وقيل عنه عن المغيرة عن عبد الله بن المغيرة عن أبي بردة مرفوعاً، وقيل: عنه، عن المغيرة، عن عبد الله المدلجي، ذكر هذا كلَّه الدراقطني، وقال: أشبهها بالصواب قول مالك، فأما المغيرة فقد روى عن أبي داود، أنه قال: المغيرة، عن أبي بردة معروف، وقال ابن عبد البر: وجدت اسمه في مغازي موسى بن نصير، ووثَّقه النسائي، فمن قال: إنه مجهول لا يعرف فقد غلط. واما سعيد بن سَلَمة - بفتحتين - فقد تابع صفوان على روايته له عنه أبو كثير الجلاّح، رواه عنه الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث وغيرهما، ومن طريق الليث رواه أحمد والحاكم والبيهقي، وسياقه أتم، واختُلف في اسم السائل في هذا الحديث، فوقع في بعض الطرق التي ذكرها الدارقطني أن اسمه عبد الله المدلجي، وأورده الطبراني في من اسمه عبد، وتبعه أبو موسى فقال: اسمه عبد بن زمعة البلوي، وقال ابن مَنيع: بلغني أن اسمه عبد، وقيل: عبيد - مصغراً -، وقال السمعاني في الأنساب إن اسمه العركي وهو غلط فإنما العركي وصف له وهو ملاح السفينة، وقال البغوي: اسمه حميد بن صخر. هذا ملخَّص ما في: "التلخيص الحبير (في الأصل: "تلخيص الحبير"، وهو تحريف) في تخريج أحاديث شرح الرافعي الكبير" للحافظ ابن حجر العسقلاني. وفي "إسعاف المبطأ": صفوان بن سُليم - بالضم - المدني الزهري مولاهم الفقيه، روى عن مولاه حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وأنس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 رجلا سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نركبُ البَحْرَ (1) ونحمِلُ معنا القليلَ من الماء،   وجماعة، وعنه مالك وزيد بن أسلم ومحمد بن المنكدر والليث والسفيانان، قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث عابداً، وقال: هو رجل يستشفى بحديثه، وينزل القطر من السماء بذكره، مات سنة 184 هـ، وسعيد بن سلمة - بفتحتين - المخزومي روى عنه صفوان والجلاح، وثقه النسائي، والمغيرة بن أبي بردة حجازي من بني عبد الدار، وثقه النسائي. انتهى. وقال الترمذي في جامعه: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: صحيح، فقلت. إن هشيماً يقول: فيه المغيرة بن بَرْزة - أي: بفتح الباء الموحَّدة وسكون الراء المهملة ثم زاي معجمة - فقال: وهم فيه، إنما هو المغيرة بن أبي بردة - أي بضم الباء وسكون الراء المهلمة بعدها دال مهملة. انتهى. وفي الإكمال: سئل أبو زرعة عن اسم والد المغيرة، فقال: لا أعرفه. انتهى. وفي "الإلمام بأحاديث الأحكام" لابن دقيق العيد: ذكرنا في كتاب "الإمام" وجوهَ التعليل التي يُعلَّل بها هذا الحديث، وحاصلها راجع إلى الاضطراب في الإسناد. والاختلاف في بعض الرواة، ودعوى الجهالة في سعيد بن سلمة، لكونه لم يروِ عنه إلاَّ صفوان فيما زعم بعضهم، وفي المغيرة بن أبي بردة، وأيضاً فمن العلل الاختلاف في الإسناد والإرسال. ويقدم الأحفظ المرسل على المسند الأقل حفظاً. وهذا الأخير إذا ثبتت عدالة المسند غير قادح على المختار عند أهل الأصول، وأما الجهالة المذكورة في سعيد، فقد قدمنا من كلام ابن منده ما يقتضي رواية الجلاّح عنه مع صفوان، وذلك - على المشهور عند المحدثين - يرفع الجهالة عن الراوي، وأما المغيرة، فقد ذكرنا من كلام ابن منده أيضاً موافقة يحيى بن سعيد لسعيد بن سلمة في الرواية، عن المغيرة أيضاً، ووقع لنا ثالث يروي عن المغيرة، وهو يزيد بن يحيى القرشي، وأما الاختلاف والاضطراب، فقد ذكرنا ما قيل في الجواب عنه في "الإمام". (1) المَلِح لأنه المتوهَّم فيه، لأنه مالح وريحه منتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فإنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشنا (1) (2) ، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُوَ (3) الطَّهورُ (4) مَاؤُهُ الحَلالُ مَيْتَتُهُ (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخُذُ: ماءُ البحرِ طهورٌ كغيرِه (6) مِنَ المياه،   (1) بكسر الطاء. (2) أي: نحن ورفقاؤنا. (3) قوله: هو الطهور ... إلخ، كذا أخرجه النسائي والترمذي وأبو داود وابن ماجة وابن حبّان، وفي رواية الدارمي في سننه من حديثه: أتى رجال من بني مُدلِج، فقالوا: يا رسول الله، إنّا أصحاب هذا البحر نعالج الصيد على رمث فنغرب فيه الليلة والليلتين والثلاث والأربع، ونحمل معنا من العَذب لشفاهنا، فإن نحن توضَّأنا خشينا على أنفسنا، وإن نحن آثرنا بأنفسنا وتوضأنا من البحر وجدنا في أنفسنا من ذلك، فقال: "توضؤوا منه، فإنه الطاهر ماؤه الحلال ميتته"، أخرج نحوه ابن ماجة والحاكم وابن حبان والدارقطني وأحمد وأبو نعيم من حديث جابر والحاكم من حديث علي، وعبد الرزاق من حديث أنس، والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس، وابن عبد البر من حديث الفِرَاسي، والدارقطني والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو، وابن حبان والدارقطني من حديث أبي بكر. (4) أي: الطاهر في ذاته المطهِّر لغيره. (5) قوله: الحلال ميتته، قال الرافعي: لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكمُ ميتته، وقد يُبتلى بها راكب البحر فعقَّب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة، كذا في "التنوير". (6) قوله: كغيره من المياه، من ماء السماء والثلج والبرَد وغير ذلك، وأما كراهة التوضّؤ به كما هو منقول عن ابن عمر وابن عمرو فليس لأمر في طهارته، بل لأن تحت البحر ناراً، البحار تسجر يوم القيامة ناراً، كما ذكره عبد الوهاب الشعراني في "اليواقيت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ (1) . 13 - (بَابُ الْمَسْحِ (2) عَلَى الخُفَّين) 47 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهابٍ الزُّهري، عَنْ عبَّادِ بنِ زِيَادٍ (3) مِن وُلْدِ (4)   (1) أي: عامة العلماء. (2) قوله: المسح على الخفين، نقل ابن المنذر، عن ابن المبارك: ليس في مسح الخفين عن الصحابة اختلاف، فإنَّ كلّ من رُوي عنه إنكاره رُوي عنه إثباته، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً أنكره إلاَّ مالكاً في رواية، أنكرها أكثر أصحابه، والروايات الصحيحة عنه مصرّحة بإثباته، وموطؤُه يشهد للمسح، وعليها جمع أصحابه وجميع أهل السنَّة، كذا قال الزرقاني. (3) أبو حرب، وثَّقه ابن حبان، ولاّه معاوية سجستان، ومات سنة 100 هـ، كذا في "الإسعاف". (4) قوله: من وُلد ... إلخ، وهم من مالك وإنما هو مولى المغيرة، قاله الشافعي ومصعب الزبيري وأبو حاتم والدارقطني وابن عبد البر، قال: وانفرد يحيى وعبد الرحمن بن مهدي بوهم ثانٍ فقالا "عن أبيه" ولم يقُله من رواة الموطأ غيرهما. وإنما يقولون عن المغيرة بن شعبة ثم هو منقطع فعبّاد لم يسمع المغيرة ولا رآه وإنما يرويه الزهري، عن عباد، عن عروة حمزة ابنَي المغيرة، عن المغيرة، وربما حدَّث الزهري، عن عرو وحده. قال الدارقطني: فوهم مالكٌ في إسناده في موضعين، أحدهما قوله عباد من وُلد المغيرة، والثاني إسقاطه عروة وحمزة، كذا في "تنوير الحوالك". وههنا وهم آخر من صاحب هذا الكتاب أو من نسّاخه، وهو إسقاط المغيرة بن شعبة، فإن هذا الحديث معروف من حديثه، ومرويّ كذلك في جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 المغيرةِ (1) بنِ شُعْبَةَ: أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَب لحاجتِهِ (2) فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ (3) ، قال (4) : فذهبت معه بماء (5) ، قال: فجاء   كتب الحديث، ونُسَخ هذا الكتاب على ما رأينا ستّ نُسخ، والسابعة التي عليها شرح القاري ليس فيها ذكر المغيرة بل عبارتها عن عباد بن زيد مِنْ وُلْد المغيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم .... الحديث، مع أن نفس عبارة الحديث تشهد بأن القصة مع صحابيّ لا مع عباد، كما يُستفاد بسبب سقوط ذكر المغيرة. (1) قوله: المغيرة: هو ابن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب الثقفي، يُكنى أبا عبد الله أو أبا عيسى، أسلم عام الخندق وقدم مهاجراً، وقيل: أول مشاهده الخندق، توفي سنة خمسين بالكوفة، كذا في "الاستيعاب". (2) أي: لقضاء حاجة الإنسان. (3) قوله: في غزوة تبوك، زاد مسلم وأبو داود "قبل الفجر" وكانت غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وهي من أطراف الشام المقاربة للمدينة، وقيل: سمِّيت بذلك لأنه عليه السلام رأى أصحابه يبوكون عين تبوك، أي يُدخلون فيها القدح ويحرِّكون ليخرج الماء، فقال: ما زلتم تبوكونها بوكاً. (4) أي: الراوي وهو المغيرة. (5) قوله: بماء، وللبخاري في الجهاد: أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره أن يتبعه بالإداوة وأنه انطلق حتى توارى عني، فقضى حاجته، ثم أقبل فتوضأ، وعند أحمد عن المغيرة أن الماء الذي توضأ به أخذه المغيرة من أعرابية من قربة كانت جلد ميتة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: سلها إن كانت دبغتها فهو طهورها، وأنها قالت: والله دبغتها، كذا في "ضياء الساري" شرح "صحيح البخاري" لعبد الله بن سالم البصري المكيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، فسكبتُ (2) عَلَيْهِ (3) ، قَالَ: فغسَلَ وجْهَهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُخْرِجُ (4) يَدَيْهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ (5) مِنْ ضيقِ كُمَّي (6) جُبَّتِهِ (7) فَأَخْرَجَهُمَا (8) مِنْ تَحْتِ (9) جُبَّتِهِ فغسَلَ يَدَيْهِ ومسَحَ برأسهِ (10) ومسَحَ عَلَى الخفَّين، ثُمَّ جَاءَ (11) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ يؤمُّهم (12) قَدْ صلى بهم   (1) بعد قضاء حاجته. (2) سكب الماء يسكبه: صبّه. (3) فيه جواز الاستعانة في الوضوء. (4) أي: من كُمَّيْه. (5) قوله: فلم يستطع، فيه لُبس الضَّيِّق من الثياب، بل ينبغي أن يكون ذلك في الغزو مستحباً لما في ذلك من التأهُّب والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في لباسه مثل ذلك في السفر، وليس به بأس في الحضر، وفيه أن العمل الذي لا طول فيه جائز في أثناء الوضوء، ولا يلزم من ذلك استئناف الوضوء. (6) بضم الكاف. (7) هي ما قطع من الثياب مشمَّراً. (8) زاد مسلم: وألقى الجُبَّة على منكبيه. (9) أي: من داخلها من طرف الذيل. (10) في رواية مسلم: بناصيته. (11) قوله: جاء، لابن سعد: فأسفر الناس بصلاتهم حتى خافوا الشمس، فقدَّموا عبد الرحمن. (12) قوله: يؤمهم، فيه أنه إذا خِيف فوت وقت الصلاة أو فوت الوقت المختار لم يُنتظر الإمام وإن كان فاضلاً جداً، وقد احتج الشافعي بأنَّ أول الوقت أفضل بهذا الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 سَجْدَةً (1) ، فَصَلَّى مَعَهُمْ (2) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) ، ثُمَّ صَلَّى الرُّكعة (4) الَّتِي بَقِيَت، ففزِعَ الناسُ (5) لَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: قَدْ أَحْسَنْتُمْ (6) . 48 - أَخْبَرَنَا مالكٌ: حدَّثنا سعيدُ (7) بنُ عَبْدِ الرحمن بنِ رُقَيش (8) أنه قال:   (1) أي: ركعة، زاد مسلم وأبو داود: "من صلاة الفجر". (2) زاد مسلم وأبو داود وراء عبد الرحمن بن عوف. قوله: فصلّى معهم، أخرج ابن سعد في "الطبقات" بسند صحيح، عن المغيرة أنه سئل: هل أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أحد من الأمة غير أبي بكر، قال: نعم، كنا في سفر، فلما كان من السَّحَر انطلق وانطلقتُ معه حتى تبرَّزنا عن الناس. فنزل عن راحلته فتغيَّب عني حتى ما أراه، فمكث طويلاً، ثم جاء، فصببت عليه، فتوضأ ومسح على خفيه، ثم ركبنا، فأدركنا الناس وقد أقيمت الصلاة فتقدَّمهم عبد الرحمن بن عوف وقد صلّى ركعة وهم في الثانية، فذهبت أوذنه فيها فنهاني، فصلَّينا الركعة التي أدركنا وقضينا التي سبقنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين صلّى خلف عبد الرحمن: "ماقُبض نبيٌّ قطّ حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته"، كذا في "التنوير". (3) فيه جواز صلاة الفاضل خلف المفضول. (4) قوله: ثم صلّى الركعة ... إلخ، كان فعله هذا كقوله: "إنما الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه". (5) قوله: ففزع الناس، لسبقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، وأكثروا التسبيح رجاء أن يشير إليهم (في الأصل: "بهم"، وهو خطأ) هل يعيدونها أم لا. (6) فيه دليل على أنه ينبغي أن يُحمد ويُشكر كل من بدر إلى أداء فرضه. (7) الأشعري المدني، ثقة من صغار التابعين، قاله الزرقاني. (8) بضم الراء، وبالقاف والشين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 رَأَيْتُ أَنَسَ (1) بنَ مالكٍ أَتَى قِبَاءَ، فَبَالَ، ثُمَّ أَتَى بِمَاءٍ، فتوضأَ، فغسَلَ وجهَهُ ويدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ومسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ (2) ، ثُمَّ صَلَّى. 49 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نافعٌ وعبدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ (3) : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَدِمَ الكوفَة عَلَى سعدِ (4) بْنِ أبي وقّاص (5) وهو أميرها (6) ،   (1) قوله: رأيت ... إلخ، لم يُرْوَ عن أحد من الصحابة إنكارُ المسح على الخفين إلاَّ عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة، أما ابن عباس وأبو هريرة فقد جاء عنهما بالأحاديث الحسان خلاف ذلك وموافقة سائر الصحابة، ولا أعلم أحداً من الصحابة جاء عنه إنكار المسح على الخُفَّين ممن لم يُختلف عنه فيه إلا عائشة (ولا يثبت عنها أيضاً. انظر (معارف السنن 1/332) . وقال القاري في (المرقاة 2/78) : أما عائشة، ففي صحيح مسلم أنها أحالت ذلك على علم عليّ رضي الله عنه. وفي رواية، قالت - وسئلت عنه أعني المسح -: مالي بهذا علم) ، كذا في "الاستذكار". (2) في الاستدلال بفعل الصحابة بعده عليه السلام إيماء إلى أن المسح على الخفين ليس من منسوخ الأحكام. (3) أبو عبد الرحمن المدني، مولى عبد الله بن عمر، وثقه أحمد، مات سنة 127 هـ كذا في "الإسعاف".. (4) أبو إسحاق أحد العشرة المبشَّرة، مات سنة خمس وخمسين، وقيل سنة ست، وقيل: سبع، وقيل: ثمان، وقيل أربع. (5) مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب. (6) من قبل عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فَرَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ يمسَحُ عَلَى الخفَّين، فَأَنْكَرَ (1) ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ أَبَاكَ إِذَا قَدِمتَ (2) عَلَيْهِ، فَنَسِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَهُ حَتَّى قَدِم (3) سَعْدٌ، فَقَالَ (4) : أسألتَ أَبَاكَ؟ فَقَالَ: لا (5) ، فَسَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ (6) : إِذَا أدْخَلْتَ (7) رجليكَ   (1) قوله: فأنكر ذلك عليه، فيه أن الصحابي القديم الصحبة قد يخفى عليه من الأمور الجليَّة في الشرع ما يطَّلع عليه غيره، لأن ابن عمر أنكر المسح على الخفين مع قِدَم صحبته وكثرة روايته، قال الحافظ: ويحتمل أن يكون ابن عمر إنما أنكر المسح في الحضر لا في السفر ومع ذلك فالفائدة بحالها زاد القسطلاّني: وأما السفر، فقد كان ابن عمر يعلمه كما رواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه الكبير" وابن أبي شيبة في "مصنفه" من رواية عاصم، عن سالم، عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين في السفر، كذا في "ضياء الساري". (2) المدينة. (3) أي: المدينة. (4) لابن عمر. (5) قوله: فقال لا، وفي رواية لأحمد من وجه آخر: فلما اجتمعنا عند عمر قال لي سعد: سل أباك. (6) ولابن خزيمة، فقال عمر: كنا ونحن مع نبيِّنا صلى الله عليه وسلم نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأساً. (7) قوله: إذا أدخلتَ ... إلخ، قد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الشعبي، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عن الشعبي يونس، وابن أبي إسحاق، وزكريا بن أبي زائدة، وقال الشعبي: شهد لي عروة على أبيه، وشهد أبوه على النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع الفقهاء على أنه لا يجوز المسح على الخفين إلاَّ لمن لبسهما على طهارة، إلاَّ أنهم اختلفوا في من قدَّم في وضوئه غَسْل رجليه، ولبس خُفَّيْه، ثم أتمَّ وضوءه هل يمسح عليهما أم لا، وهذا إنما يصح على قول من أجاز تقديم أعضاء الوضوء بعضهما على بعض ولم يوجب النسق ولا الترتيب، كذا في "الاستذكار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فِي الخُفين وُهَمَا (1) طَاهِرَتَانِ (2) فَامْسَحْ عَلَيْهِمَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (3) : وَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ مِنَ الْغَائِطِ (4) ؟ قَالَ: وَإِنْ جَاءَ أحدُكُم مِنَ الْغَائِطِ. 50 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ: أَنَّ ابنَ عُمَرَ بَالَ بِالسُّوقِ (5) (6) ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ برأسه، ثم دُعي   (1) قوله: وهما طاهرتان، استدلَّ الشافعية على اشتراط اللُّبْس على طهارة كاملة بأحاديث، منها ما في الصحيحين من حديث المغيرة "دعهما فإني أدخلتُهما طاهرتين". ومحل الخلاف يظهر في مسألتين: إحداهما: إذا أحدث ثم غسل رجليه ثم لبس الخفين ثم مسح عليهما ثم أكمل وضوءه. الثانية: إذا أحدث ثم توضأ، فلما غسل إحدى رجليه لبس عليها الخُف، ثم غسل الأخرى ثم لبس الخُف، فإن هذا المسح جائز عندنا في الصورتين خلافاً لهم، وهم يطلقون النقل عن مذهبنا ويقولون: الحنفية لا يشترطون كمال الطهارة في المسح، كذا في "نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية" للزيلعي رحمه الله. (2) أي: عند وجود الحدث بعد المسح. (3) قوله: قال عبد الله وإن جاء أحدنا ... إلخ، وفي البخاري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ابن عمر، عن سعد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وابن عمر سأل أباه عن ذلك فقال: نعم، إذا حدَّثك شيئاً سعدٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره. (4) قوله: من الغائط، الغوط عمق الأرض الأبعد، ومنه قيل للمطمئنّ من الأرض غائط، ومنه قيل لموضع قضاء الحاجة الغائط، لأن العادة أن تُقضى في المنخفض من الأرض حيث هو أستر له، ثم اتُّسع فيه حتى صار يُطلق على النَّجو نفسه، وقد تكرر في الحديث بمعنى الحدث والمكان، كذا في "النهاية". (5) لعله في موضع أُعِدَّ هناك لذلك. (6) سُمِّي السوق به لأن الناس يُساقون إليه، وقيل: هو بالفتح اسم موضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 لِجَنَازَةٍ (1) حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ (2) لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ (*) ، فمَسَح (3) عَلَى خُفَّيْهِ (4) ثُمَّ صَلَّى (5) (6) . 51 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، أَخْبَرَنِي هشامُ بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ رَأَى (7) أباه يمسَحُ على الخُفَّين   (1) أي: للصلاة على جنازة. (2) النبوي. (*) هكذا في الأصل، والصواب: "عليها" كما في نسخ الموطأ. انظر (الأوجز: 1/249) (3) قوله: فمسح على خفيه، قال أبو عمر: تأخير مسح الخفين محمول عند أصحابنا أنه نسي، وقال غيره: لأنه كان برجليه علَّة، فلم يمكنه الجلوس حتى أتى المسجد، فجلس ومسح، والمسجد قريب من السوق، وقال الباجي: يُحتمل أنه نسي، وأنه اعتقد جواز تفريق الطهارة، وأنه لعجز الماء عن الكفاية، وقد قال ابن القاسم في "المجموعة": لم يأخذ مالك ابن عمر في تأخير المسح، كذا قال الزرقاني، وفيه ما لا يخفى. (4) فيه جواز تفريق فرائض الوضوء خلافاً للمالكية، فإن الولاء عندهم ضروري، وقد أوَّلوا هذا الأثر بتأويلات ركيكة. (5) على الجنازة. (6) ومن المعلوم أنه لا فرق بين صلاة الجنازة وغيرها في اعتبار شرائطها (7) قوله: أنه رأى أباه، قال القاري: أي الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرة. انتهى. وهو مبني على أن ضمير "أباه" راجع إلى عروة المذكور في قوله عن أبيه وكذا ضمير أنه لكن في موطأ يحيى وشرحه للزرقاني مالك عن هشام بن عروة، أنه رأى أباه يمسح على الخفين قال هشام وكان عروة لا يزيد إذا مسح على الخفين على أن يمسح ظهورهما ولا يمسح بطونهما. انتهى. ومثله في "استذكار" ابن عبد البر، فعلى هذا، الضميران راجعان إلى هشام، والمراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 عَلَى ظهورِهما (1) لا يَمْسَحُ بُطُونَهُمَا، قَالَ: ثُمَّ يرفعُ العمامة فيمسَحُ برأسِه.   بالأب في كلا الموضعين هو عروة بن الزبير والد هشام، لا الزبير والد عروة، ويكون قوله: "أنه رأى أباه" بياناً لقوله: "عن أبيه"، والمعنى: أخبرني هشام عن حال أبيه عروة وهو أنه أي هشام رآه يمسح على الخفين ... إلخ. (1) قوله: على ظهورهما ... إلخ، لم يختلف قول مالك أن المسح على الخفين على حسب وصفه ابن شهاب أنه يدخل إحدى يديه تحت الخف والأخرى تحته (هكذا في الأصل والصواب فوقه. انظر (الاستذكار 1/284)) ، إلا أنه لا يرى الإعادة على من اقتصر على مسح ظهور الخفين إلاَّ في الوقت. وأما الشافعي فقد نصَّ أنه لا يجزئه المسح على أسفل الخف ويجزئه على ظهره فقط، ويُستحب أن لا يُقْصر أحد عن مسح ظهور الخفين وبطونهما معاً كقول مالك. وهو قول عبد الله بن عمر، ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يمسح ظهور خُفِّيه وبطونهما، والحجة لمالك والشافعي حديث المغيرة بن شعبة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح أعلى الخف وأسفله، رواه ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة، ولم يسمعه ثور من رجاء، وقد ذكر علَّته في "التمهيد:، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: يمسح ظهور (قال أبو حنيفة: يجزئه قدر ثلاثة أصابع، وقال مالك بالاستيعاب، وقال الشافعي: ما يقع عليه اسم المسح، وقال أحمد: الأكثر"أوجز المسالك 1/254) الخفين دون بطونهما، وبه قال أحمد وإسحاق وداود، وهو قول عليّ بن أبي طالب وقيس بن سعد بن عبادة والحسن البصري وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح، وجماعة، والحجة لهم ما ذكره أبو داود، عن عليّ، قال لو كان الدين بالرأي لكان أسفلُ الخف أَولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهره. وروى ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن المغيرة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظهور الخفين. وهذان الحديثان يدلان على بطلان قول أشهب ومن تابعه أنه يجوز الاقتصار في المسح على باطن الخف، كذا في "الاستذكار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه (1) ، نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَرَى (2) المسحَ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً (3) وثلاثَةَ أيامٍ ولياليَها للمسافر.   (1) من نفس المسح، وكونه على الظهر، وجواز التفريق بينه وبين باقي الفرائض، وجوازه في الحضر والسفر بعد لُبسه على طهارة كاملة، وغير ذلك. (2) أي: نعتقد. (3) قوله: يوماً وليلة هكذا ورد في حديث عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه جعل المسح ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم. أخرجه مسلم وأبو داود، وأخرج الترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجة، عن صفوان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنَّا سَفراً أن لا ننزعَ خفافنا ثلاثة أيام وليالِيَهن إلا عن جنابة، وأخرج أبو داود والترمذي، عن خزيمة مرفوعاً: المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة. وأخرج نحوَه أحمد وإسحاق والبزّار والطبراني من حديث عوف بن مالك، وابن خزيمة، والطبراني من حديث أبي بكرة. فبهذه الأخبار وأمثالها قال أصحابنا بالتوقيت، وبه قال سفيان الثوري والأوزاعي، والحسن بن حَيّ، والشافعي، وأحمد، وداود، كذا في "الاستذكار". وفيه أيضاً "ثبت التوقيتُ عن عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص على اختلاف عنه، وعمار بن ياسر، وحذيفة، وأبي مسعود، والمغيرة، وهو الاحتياط عندي. انتهى. وقالت طائفة: لا توقيت في المسح، يُروى ذلك عن الشعبي وربيعة والليث وأكثر أصحاب مالك، كذا ذكره العيني. وذكر ابن عبد البَرّ، أنه رُوي مثله عن عمر وسعد وعقبة بن عامر، وابن عمر، والحسن البصري. والحجة لهم في هذا حديث أبي بن عمارة، قلت: يا رسول الله، أَمْسَحُ على الخفين؟ قال: نعم، قلت: يوماً، قال: نعم، قلت: ويومين، قال: نعم، قلت: وثلاثة، قال: نعم، وما شئت. أخرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني، وهو حديث ضعيف ضعَّفه البخاري، وقال أبو داود: اختُلف في إسناده وليس بالقوي، وقال أبو زرعة: رجاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وَقَالَ مالكُ بنُ أَنَسٍ (1) : لا يمسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الخُفَّين. وعامَّةُ هَذِهِ الآثَارِ (2) الَّتِي رَوَى مَالِكٌ فِي الْمَسْحِ إِنَّمَا هِي فِي الْمُقِيمِ، ثُمَّ (3) قَالَ: لا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ (4) عَلَى الخُفَّين.   لا يعرفون، وقال ابن حبان: لستُ أعتمد على إسناد خبره، وقال ابن عبد البر: لا يثبت وليس إسناده بقائم، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث شرح الوجيز للرافعي (ونقل النووي في شرح المهذب (1/484) اتفاق الأئمة على ضَعْفه. وانظر أحاديث عدم التوقيت في نصب الراية (1/175) وما بعدها) . (1) قوله: وقال مالك بن أنس ... إلخ، هذا الذي حكاه عنه إنما هو رواية عنه غير معتمدة، فقد روي عنه في ذلك ثلاث روايات: إحداها: وهي أشد نكارة من إنكار المسح في الحضر والسفر، والثانية: كراهة المسح في الحضر وجوازه في السفر، والثالثة: إجازة المسح في الحضر والسفر، كذا ذكره ابن عبد البر. وذكر العيني نقلاً، عن النووي، أنه رُوي عنه ست روايات: إحداها: لا يجوز المسح أصلاً، ثانيها: يكره، ثالثها: يجوز من غير توقيت وهي المشهورة عند أصحابه، ورابعها: يجوز مؤقتاً، وخامسها: يجوز للمسافر دون المقيم، وسادسها: يجوز لهما. وقال ابن عبد البر: موطأ مالك يشهد للمسح في الحضر والسفر. (2) قوله: وعامة هذه الآثار ... إلخ، ردّ عل مالك بأن أثر ابن عمر وسعد وأنس وعمر التي ذكرها في الموطأ دالّة عل جواز المسح في الحضر، فكيف يجوز إنكاره مع ورودها. واحتج بعض أصحابه بأن المسح شُرع لمشقة السفر وهي مفقودة في الحضر، ورده ابن عبد البر بأن القياس والنظر لا يعرّج عليه مع صحة الأثر. ومنهم من قال: أحاديث المسح في الحضر لا يثبت شيء منها، وفيه مبالغة واضحة. (3) أي بعدما رواها. (4) قوله: المقيم، قال عبد الله بن سالم المكي في "ضياء الساري": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 14 - (بَابُ الْمَسْحِ عَلَى العِمامة (1) والخِمار) (2) 52 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، قَالَ: بَلَغَنِي (3) عَنْ جَابِرِ (4) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (5) أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْعِمَامَةِ (6) ؟ فَقَالَ: لا، حَتَّى يمسَّ (7) الشعرَ الماءُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (8) نَأْخُذُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 53 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ قَالَ: رَأَيْتُ صفيَّة (9) ابنةَ   المعروف عن المالكية الآن قولان: الجواز مطلقاً، والجواز للمسافر دون المقيم، وجزم بهذا ابن الحاجب، وصحح الباجي الأول، ونقل أن مالكاً إنما كان يتوقّف فيه في خاصة نفسه مع إفتائه بالجواز. (1) بكسر العين ما يعتم به الرجل رأسه. (2) بالكسر ما تقنّع به المرأة رأسها. (3) قوله: بلغني، قال سفيان: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد قويّ، كذا قال القاري. (4) قوله: عن جابر، أبو عبد الله، وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو محمد، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعَ عَشْرَةَ غزوة، ولم يشهد بدراً، ومات بالمدينة، وقيل بمكة سنة ثمان وسبعين، وقيل تسع، وقيل أربع، كذا في "الإسعاف". (5) ابن عمرو بن حَرام بن ثعلبة الأنصاري المدني. (6) أي عن المسح عليها. (7) قوله: حتى يمسّ، من الإمساس أو المسّ أي يصيب (الشعرَ) بالنصب على أنه مفعول مقدّم، (الماء) بالرفع أو النصب. (8) أي بعدم جواز المسح على العمامة. (9) قوله: صفية، امرأة عبد الله بن عمر، تزوّجها في حياة أبيه، وأصدقها عمر عنه أربع مائة درهم، ووَلَدَت له واقداً، وأبا بكر، وأبا عبيدة، وعبيد الله، وعمر، وحفصة، وسودة، قال ابن مندَه: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم ولم تسمع منه، وأنكره الدارقطني، وذكرها العجلي وابن حبان في ثقات التابعين، كذا قال الزرقاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 أَبِي عُبيد (1) تتوضَّأُ وتنزِعُ خِمَارَها (2) ، ثُمَّ تمسَحُ بِرَأْسِهَا. قَالَ نَافِعٌ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ صَغِيرٌ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يُمسَحُ عَلَى الخِمار وَلا العِمامة (4) ، بَلَغَنا (5) أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى العِمامة كان (6) فتُرك، وهو قول   (1) ابن مسعود، الثقفية. (2) بكسر المعجمة: ما تغطي به المرأة رأسها. (3) لم يبلغ فلذلك رآها. (4) قوله: لا يمسح على الخمار ولا العمامة، اختلفت فيه الآثار، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على عمامته من حديث عمرو بن أمية الضمري وبلال بن المغيرة بن شعبة وأنس، وكلها معلولة، وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين ذكرهم المصنفون: ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وابن المنذر وغيرهم. وبه قال الأَوزاعي وأبو عبيد القاسم بن سلاّم وأحمد بن حنبل وإسحاق، وللآثار الواردة في ذلك وقياساً على الخفّين؟ وقالت طائفة من هؤلاء بجواز مسح المرأة على الخمار، ورووا عن ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تمسح على خمارها. وأما الذين لم يروا المسح على العمامة والخمار فعروة بن الزبير والقاسم بن محمد والشَّعبي والنَّخَعي وحمّاد بن أبي سليمان. وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم، والحجة ظاهر قوله تعالى: {ومسحوا برؤوسكم} ، ومن مسح على العمامة لم يمسح برأسه. كذا في "الاستذكار" (وقال في بذل المجهود في حل أبي داود (1/359) والحديث في العمامة محتمل التأويل فلا يُترك المتيقن للمحتمل والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس. انظر تفصيل أطراف هذا البحث في فتح المُلهِم (1/434) وما بعدها) . (5) قوله: بلغنا ... إلخ لم نجد إلى الآن ما يدل على كون مسح العمامة منسوخاً، لكن ذكروا أن بلاغات محمد مسندة، فلعل عنده وصل بإسناده. (6) أي في بَدء الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 أَبِي حَنِيفَةَ والعامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنِا (1) . 15 - (بَابُ الاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ) 54 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا اغتسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ أَفرغ (2) عَلَى يَدِهِ اليُمنى فغسَلَها، ثُمَّ غَسل فَرْجَه (3) ومَضْمَضَ (4) وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَنَضَحَ (5) فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ يدَهُ اليُمنى ثُمَّ اليُسرى، ثم غَسَل رأسه، ثم اغتسل و (6) أفاض الماءَ على جلده.   (1) قوله: والعامة من فقهائنا، إلى عدم الاقتصار على المسح على العِمامة ذهب الجمهور، وقال الخطابي: فرض الله المسح بالرأس والحديث في مسح العِمامة محتمل للتأويل، فلا يترك المتيقَّن للمحتمل، قال: وقياسه على الخف بعيد، لأنه يشق نزعها. وتُعُقِّب بأن الذين أجازوا شرطوا فيه المشقة في نزعها، وقالوا: الآية لا تنفي ذلك، ولا سيما عند من يحمل المشترك على حقيقته ومجازه، إلى هذا ذهب الأوزاعي والثوري - في رواية عنه - وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر، وقال ابن المنذر: ثبت ذلك عن أبي بكر وعمر. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن يُطِعِ الناسُ أبا بكر وعمر يرشدوا". كذا في "فتح الباري". (2) أي صب الماء. (3) بشِماله. (4) بيمينه. (5) قوله: ونضح، أي رشّ في عينيه هذا شيء لم يُتابع عليه، لأن الذي عليه غسل ما ظهر لا ما بطن، وله رحمه الله شدائد شذ فيها، حمله الورع عليها، وفي أكثر الموطآت: سئل مالك عن نضح ابن عمر الماء في عينيه؟ فقال: ليس على ذلك العمل عندنا، كذا في "الاستذكار". (6) عطف تفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (1) كلِّه نأخُذُ إلاَّ النَّضْحَ فِي الْعَيْنَيْنِ، فإنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بواجبٍ (2) عَلَى النَّاسِ فِي الْجَنَابَةِ، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ ومالِك بنِ أنس والعامَّة. 16 - (باب الرجل تصيبه (3) الجنابة من الليل) 55 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، أَخْبَرَنَا عبدُ اللَّهِ (4) بنُ دِينَارٍ (5) ، عن   (1) قوله: وبهذا كله نأخذ، أي بما أفاده هذا الحديث من الأفعال فبعضها فرائض عندنا، كالمضمضة والاستنشاق وغسل سائر البدن، وباقيها من تقديم غسل اليدين وتعقيبه بغسل الفرج وإن لم يكن عليه نجاسة والتوضُّئ غير ذلك سنن. (2) قوله: ليس بواجب، بل ليس بسنة أيضاً (قال الطحطاوي على "المراقي": ولا يجب إيصال الماء إلى باطن العينين ولو في الغسل للضرر، هذه العلة تنتج الحرمة، وبه صرح بعضهم وقالوا: لا يجب غسلها من كحل نجس ولو أعمى لأنه مضر مطلقاً، وفي ابن أمير الحاج: يجب إيصال الماء إلى أهداب العينين وموقَيهما. قلت: وما يخطر في البال - والله أعلم - أن ابن عمر رضي الله عنه استنبطه من قوله صلى الله عليه وسلم: "أشربوا الماء أعينكم". أخرجه الدارقطني بسند ضعيف كما ذكره ابن رسلان، وكأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم عند العامة هو تعاهد الماقين لكن ابن عمر رضي الله عنه حمله على ظاهره فكان ينضح في عينيه، فتأمل وتشكر (أوجز المسالك 1/283)) . (3) بالاحتلام أو غيره. (4) مولى عبد الله بن عمر. (5) قوله: عبد الله بن دينار، هكذا رواه مالك في الموطأ، باتفاق من روات الموطأ، ورواه خارج الموطأ عن نافع بدل عبد الله بن دينار، قال أبو علي: والحديث لمالك عنهما جميعاً، وقال ابن عبد البر: الحديث لمالك عنهما جميعاً، لكن المحفوظ عن عبد الله بن دينار، وحديث نافع غريب. انتهى. وقد رواه عنه كذلك خمسة أو ستة فلا غرابة، وإن ساقه الدارقطني فمراده خارج الموطأ، فهي غرابة خاصة بالنسبة إلى رواية الموطأ، كذا في "الفتح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ (2) تُصيبُهُ الجنابةُ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: تَوَضَّأْ (3) واغسل ذكرَك (4) ونَمْ.   (1) قوله: أن عمر ذكر، مقتضاه أنه من مسند ابن عمر، كما هو عند أكثر الرواة، ورواه أبو نوح عن مالك فزاد فيه عن عمر، وقد بيَّن النسائي سبب ذلك في روايته من طريق ابن عون عن نافع، قال: أصاب ابن عمر جنابة، فأتى عمر فذكر ذلك له. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فاستأمره، فقال: "ليتوضأ ويرقد"، وعلى هذا فالضمير في قوله في حديث الباب" أنه يصيبه" يعود إلى ابن عمر، لا على عمر، وقوله في الجواب "توضأ" يحتمل أن يكون ابن عمر حاضراً فوجه الخطاب إليه، كذا قال الزرقاني. (2) روى ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة، كذا في "الفتح". (3) قوله: توضأ، قال ابن الجوزي: الحكمة فيه أن الملائكة تبتعد عن الوسخ والريح الكريهة، وأن الشياطين تقرب من ذلك. وقال النووي: اختُلف في حكمة هذا الوضوء، فقال أصحابنا: لأنه يخفِّف الحدث، وقيل: لعله أن ينشط إلى الغسل إذا بلَّ أعضاءه، وقيل: ليبيت على إحدى الطهارتين خشية أن يموت في منامه، وأخرج الطبراني في "الكبير" بسند لا بأس به عن ميمونة بنت سعد، قلت: يا رسول الله، هل يأكل أحدنا وهو جنب؟ قال: لا، حتى يتوضأ، قلت: هل يرقد الجنب؟ قال: ما أحب أن يرقد وهو جنب حتى يتوضأ، فإني أخشى أن يُتَوَفَّى فلا يحضره جبريل. وقال الباجي: لا يبطل هذا الوضوء ببول ولا غائط، قلت: يخرج من هذا لُغز لطيف، فيقال: لنا وضوء لا يبطله الحدث وإنما يبطله الجماع. كذا في "التنوير". (4) قوله: اغسل ذكرك، في رواية أبي نوح: ذكرك ثم توضأ ثم نم، وهو يردّ على من حمله على ظاهره، فقال: يجوز تقديم الوضوء على غسل الذكر، لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 قال محمد: وإن لم يوضَّأ وَلَمْ يغسِل ذَكَرَهُ حَتَّى يَنَامَ فَلا بَأْسَ (1) بذلك أيضاً.   ليس بوضوء يُنقض بالحدث، وإنما هو للتعبّد، إذ الجنابة أشدّ من مس الذكر، وقال ابن دقيق العيد: جاء الحديث بصيغة الأمر، وجاء بصيغة الشرط، وهو متمسِّك لمن قال بوجوبه، وقال ابن عبد البر: ذهب الجمهور إلى أنه للاستحباب، وذهب أهل الظاهر إلى إيجابه، وهو شذوذ، وقال ابن العربي: قال مالك والشافعي: لا يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ، واستنكر بعض المتأخرين هذا النقل وقال: لم يقل الشافعي بوجوبه ولا يَعرف ذلك أصحابه، وهو كما قال، لكن كلام ابن العربي محمول على أنه أراد نفي الإباحة المستوية الطرفين، لا إثبات الوجوب، أو أراد وجوب سنة أي متأكد الاستحباب، ونقل الطحاوي عن أبي يوسف أنه ذهب إلى عدم الاستحباب، وتمسك بما رواه أبو إسحاق السبيعي عن الأسود عن عائشة أنه عليه السلام كان يجنب ثم ينام ولا يمس ماءً، رواه أبو داود وغيره، وتُعُقِّب بأن الحفاظ قالوا: إن أبا إسحاق غلط فيه، وبأنه لو صح حُمل على أنه تَرَك الوضوء لبيان الجواز لئلا يُعتمد وجوبه، أو أن معنى قولها (في الأصل: "قوله"، وهو تحريف) : "لم يمس ماءً"، أي للغسل، وأورد الطحاوي ما يدل على ذلك، ثم جنح الطحاوي إلى أن المراد بالوضوء التنظيف، واحتج بأن ابن عمر راوي الحديث: كان يتوضأ وهو جنب، ولا يغسل رجليه، كما رواه مالك في الموطأ عن نافع. وأجيب بأنه ثبت تقييد الوضوء بالصلاة من رواية عائشة فيُعتمد ويحمل ترك ابن عمر غسل رجليه على أنه كان لعذر. وقال جمهور العلماء: المراد بالوضوء ههنا الوضوء الشرعي، كذا في "الفتح". (1) قوله: فلا بأس بذلك أيضاً، يشير إلى أنه ليس بضروري حتى لو ترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 56 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعي (1) ، عَنِ الأسودِ (2) بنِ يَزِيدَ، عَنْ عائشة رضي الله عنها قالت: كان   لزمه إثم، بل هو أمر مستحب مَن فَعَل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، وهذا هو قول الثوري كما قال ابن عبد البر. قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا بأس أن ينام الجنب على غير وضوء وأحب إليهم أن يتوضأ، وقال الليث: لا ينام الجنب حتى يتوضأ رجلاً كان أو امرأة، ولا أعلم أحداً أوجبه إلا طائفة من أهل الظاهر، وسائر الفقهاء لا يوجبونه وأكثرهم يأمرون به ويستحبونه، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة والتابعين. انتهى ملخصاً. فظهر من ههنا أنه لا خلاف في هذه المسألة بين أصحابنا وبين الشافعية وغيرهم ما عدا الظاهرية إلاَّ أن يكون الاستحباب عندهم متأكداً وعند أصحابنا غير متأكد. (1) قوله: عن أبي إسحاق السبيعي، هو عمرو بن عبد الله بن عبيد، ويقال علي، السبيعي نسبه إلى سَبيع بالفتح قبيلة من همدان، الكوفيّ، وُلد لسنتين بَقِيتا من خلافة عثمان، وروى عن عليّ بن أبي طالب، والمغيرة بن شعبة، وقد رآهما ولم يسمع منهما، وعن سليمان بن صُرد، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وجابر بن سمرة، والنعمان بن بشير، والأسود بن يزيد النَّخَعي، وأخيه عبد الرحمن بن يزيد، وابنه عبد الرحمن بن الأسود، وسعيد بن جبير، والحارث الأعور، وغيرهم، وعنه ابنه يونس، وابن ابنه إسرائيل بن يونس، وابن ابنه الآخر يوسف بن اسحق وقتادة وسليمان التيمي ومسعر والثوري وسفيان بن عيينة وآخرون، قال أحمد وابن معين والنسائي والعجلي وأبو حاتم: ثقة، وله مناقب جمّة مبسوطة في "تهذيب التهذيب"، وكانت وفاته سنة 128 هـ أو سنة 129 هـ أو سنة 126 هـ أو سنة 127 هـ، قاله غير واحد. (2) قوله: عن الأسود بن يزيد، هو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي. نسبة إلى نَخَع قبيلة بالكوفة، روى عن أبي بكر، وعمر، وحذيفة، وبلال، وعائشة، وأبي محذورة، وأبي موسى، وابن مسعود وكان فقيهاً زاهداً، مفتياً من أصحابه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصيبُ (1) مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَنَامُ وَلا يَمَسَّ مَاءً (2) ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ عَادَ (3) وَاغْتَسَلَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا الْحَدِيثُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ (4) وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله.   روى عنه أبو إسحاق السَّبيعي، وإبراهيم النخعي، وهو ابن أخته، وأبو بردة بن أبي موسى وجماعة، وثقه أحمد ويحيى وابن سعد والعجلي، توفي بالكوفة سنة 75 هـ، وقيل سنة 74 هـ، قاله ابن أبي شيبة، كذا في "تهذيب التهذيب". (1) أي يجامع. (2) ولا يمسَّ ماء (في نسخة سقطت هذه العبارة) ، قال يزيد بن هارون: هذا الحديث خطأ. وقال الترمذي: يريد أن قوله من غير أن يمسّ ماء خطأ من السبيعي. وقال البيهقي: طعن الحفاظ في هذه اللفظة وتوهَّموها مأخوة من غير الأسود، وأن السبيعي دلَّس. قال البيهقي: وحديث السبيعي بهذه الزيادة صحيح من جهة الرواية، لأنه بيَّن سماعه من الأسود، والمدلس إذا بيَّن سماعه ممن روى عنه وكان ثقة فلا وجه لردِّه. قال النووي: فالحديث صحيح، وجوابه من وجهين، أحدهما: ما رواه البيهقي عن ابن شريح واستحسنه أن معناه لا يمس ماء للغسل، والثاني: أن المراد كان يترك الوضوء في بعض الأحوال لبيان الجواز وهذا عندي حسن أو أحسن، كذا في مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود للسيوطي. (3) إلى الوطء. (4) لكن الحديث الأول أصح وأرجح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 17 - (بَابُ الاغْتِسَالِ يَوْمِ الجُمُعة) (1) 57 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نافع، عن ابنِ عمر، أنَّ رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا أَتَى (2) أحدُكم (3) الجمعةَ (4) فليغتسِلْ (5) . 58 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ (6) بْنُ سُلَيم (7) ، عَنْ عَطَاءِ (8) بْنِ يَسَارٍ،   (1) بضم الجيم والميم لغة الحجاز، وفتح الميم لغة تميم، وإسكانها لغة عقيل. (2) أي أراد أن يجيء كما في رواية الليث عن نافع عند مسلم: إذا أراد أحدكم أن يأتي. (3) قوله: أحدكم، بإضافة أحد إلى ضمير الجمع، وذلك يعم الرجال والنساء والصبيان. (4) قوله: الجمعة، أي الصلاة أو المكان الذي تُقام فيه، وذكر المجيء لكونه الغالب، وإلاَّ فالحكم شامل لمن كان مقيماً بالجامع. (5) قوله: فليغتسل، قال الحافظ ابن حجر: رواية نافع عن ابن عمر لهذا الحديث مشهور (هكذا في الأصل: والصواب: "مشهورة") جداً قد اعتنى بتخريج طرقه أبو عَوانة في صحيحه فساقه من طريق سبعين نفساً، رووه عن نافع، وقد تتبعت ما فاته وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد فبلغت أسماءُ من رواه عن نافع مائةٌ وعشرون نفساً. (6) المدني أبو عبد الله الزهري. (7) بضم السين. (8) قوله: عطاء بن يسار، الهلالي أبو محمد المدني، عن ابن مسعود وزيد وابن عمر، وعنه أبو حنيفة، وزيد بن أسلم وآخرون، وثَّقه ابن معين وأبو زرعة والنسائي وغيرهم، مات سنة أربع وتسعين، وقيل سنة ثلاث ومائة كذا في "الإسعاف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 عن أبي سعيد (1) الخدري: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: غُسْل يومِ الجُمعةِ (2) واجبٌ (3) عَلَى كُلِّ مُحْتَلِم (4) . 59 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، حدَّثنا الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ (5) السَّبَّاق (6) : أَنّ (7) رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم   (1) قوله: أبي سعيد، اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة الأنصاري الخدري، وخدره وخداره بطنان من الأنصار، كان من الحفاظ المكثرين الفضلاء العقلاء، مات سنة 74 هـ، كذا في "الاستيعاب". (2) قوله: غسل يوم الجمعة، ظاهر إضافته لليوم حجة لأنَّ الغُسل لليوم لا للجمعة، وهو قول جماعة، ومذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أنه للصلاة لا لليوم، وقد روى مسلم هذا الحديث بلفظ: "الغسل يوم الجمعة"، وكذا رواه الشيخان من وجه آخر عن أبي سعيد، قاله الزرقاني. (3) قوله: واجب، أي متأكِّد، قال ابن عبد البر: ليس المراد أنه واجب فرضاً، بل هو مؤول أي واجب في السنة، أو في المروءة، أو في الأخلاق الجميلة، كما تقول العرب: وجب حقُّك. (4) قوله: محتلم، أي بالغ، وهو مجاز، لأن الاحتلام يستلزم البلوغ والقرينة المانعة عن الحمل على الحقيقة أن الاحتلام إذا كان معه الإنزال موجِبٌ للغسل سواء كان يوم الجمعة أم لا، كذا في "الكواكب الدراري". (5) عبيد المدني الثقفي وثَّقه ابن حبان. (6) بفتح السين المهملة وتشديد الموحدة. (7) قوله: أنّ، قال السيوطي: وصله ابن ماجه من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري، عن ابن السباق عن ابن عباس به. واسم ابن السباق عبيد، وهو من ثقات التابعين بالمدينة، كذا قاله القاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 قَالَ (1) : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ (2) ، هَذَا يومٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى (3) عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَاغْتَسِلُوا (4) ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلا يضرُّه أَنْ يمسَّ مِنْهُ (5) وَعَلَيْكُمْ (6) بِالسِّوَاكِ (7) (8) . 60 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي المَقْبُرِيُّ (9) ، عَنْ أبي هريرة أنه   (1) في جمعة من الجمع. (2) قوله: يا معشر المسلمين، قال النووي في شرح مسلم: المعشر الطائفة الذين يشملهم وصف، فالشباب معشر، والشيوخ معشر، والنساء معشر، والأنبياء معشر، وكذا ما أشبهه. (3) أي لهذه الأمة خاصَّة، جزم به أبو سعد في "شرف المصطفى"، وابن سراقة. (4) قوله: فاغتسلوا، الأمر عندنا محمول على الندب والفضل بدليل قول عائشة: كان الناس عُمّال أنفسهم، وكانوا يشهدون الجمعة بهيآتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم، لئلا يؤذي بعضهم بعضاً بريحه، كذا في "الاستذكار". (5) قوله: أن يمس منه، فيه استحباب مسّ الطيب لمن قدر عليه يوم الجمعة والعيدين، وذلك مندوب إليه حسن مرغوب فيه، وقد كان أبو هريرة يوجب الطيب، ولعله وجوب سنَّة أو أدب، كذا في "الاستذكار". (6) أي الزموه. (7) قوله: وعليكم بالسواك، العلماء كلُّهم يندبون إليه ويستحبونه وليس بواجب عندهم، قال الشافعي: لو كان واجباً لأمرهم به شقَّ أو لم يشقّ وقد قال: "لولا أن أَشُقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسواك". (8) قوله: بالسواك، قال الرافعي في شرح المسند: السواك فيما حكى ابن دُريد من قولهم: سُكْت الشيء إذا دلكته سوكاً. (9) قوله: المقبُري، هو بضم الموحدة وفتحها، كان مجاوراً للمقبرة فنُسب إليها، اختلط قبل موته بأربع سنين، وكان سماع مالك ونحوه قبله، قاله الزرقاني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 قَالَ غُسْلُ يومِ الْجُمُعَةِ واجبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ كغُسل الْجَنَابَةِ (1) . 61 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ: أنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ لا يَرُوح (2) إِلَى الْجُمُعَةِ إلاَّ اغْتَسَلَ (3) . 62 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (4) عَنْ أَبِيهِ: أنَّ رَجُلا (5) مِنْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم دخل المسجد يومَ   واسمه سعيد بن أبي سعيد كيسان المدني، اتفقوا على توثيقه، مات سنة ثلاث وعشرين ومائة، كذا في "الإسعاف". (1) قوله: كغسل الجنابة، قد حكى ابن المنذر عن أبي هريرة وعن عمار بن ياسر وغيرهما الوجوب الحقيقي وهو قول الظاهرية ورواية عن أحمد، فلا يؤَوَّل قول أبي هريرة بأنه في الصفة لا في الوجوب، لأنه مذهبه، كذا قال الزرقاني. (2) أي لا يذهب. (3) قوله: إلاَّ اغتسل، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يغتسل يوم الجمعة والعيدين، ويوم عرفة، أخرجه أحمد والطبراني من حديث الفاكه ولأبي داود من حديث عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت. وبهذه الأخبار ذهب محقِّقو أصحابنا إلى الاستنان. (4) ابن عمر بن الخطاب أبو عمر، أحد الأئمة الفقهاء السبعة بالمدينة، قال مالك: لم يكن أحد في زمن سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل، مات سنة 106 هـ وقيل سنة سبع. (5) قوله: أن رجلاً، سماه ابن وهب وابن القاسم في روايتهما للموطأ: عثمان بن عفان، وقال ابن عبد البّر: لا أعلم فيه خلافاً، قال: وكذا وقع في رواية ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن ابن عمر، ورواية معمر عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الجمعة و (1) عمرُ بنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَالَ: أيَّة (2) ساعةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: انقلبتُ (3) مِنَ السُّوقِ فسمعتُ النِّدَاءَ (4) فَمَا زدتُ (5) عَلَى أَنْ توضَّأْتُ ثُمَّ أَقْبَلْتُ، قَالَ عُمَرُ: والوضوءَ (6) أَيْضًا (7) ! وَقَدْ علمتَ (8)   الزهري عن عبد الرزاق، وفي حديث أبي هريرة في روايته لهذه القصة عند مسلم، كذا في "التنوير". (1) الواو حالية. (2) بتشديد الياء، تأنيث أيّ، استفهام إنكار وتوبيخ على تأخُّره إلى هذه الساعة (كان غرض عمر رضي الله عنه التنبيه على ساعات التبكير التي وقع فيها الترغيب لأنها إذا انقصت طوت الملائكة الصحف، ولذا بادر عثمان رضي الله عنه إلى الاعتذار) . (3) قوله: انقلتب، أي رجعت، روى أشهب عن مالك قال: إن الصحابة كانوا يكرهون ترك العمل يوم الجمعة على نحو تعظيم اليهود السبت، والنصارى الأحد، كذا في "التنوير". (4) أي الأذان بين يَدَيْ الخطيب. (5) أي لم أشتغل بشيء إلاَّ بالوضوء. (6) قوله: والوضوء، قال النووي: أي توضأت الوضوء فقط، قاله الأزهري، وقال الحافظ ابن حجر: أي الوضوء أيضاً اقتصرتَ عليه، أو اخترته دون الغسل. والمعنى ما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويتِ الفضيلة حتى تركتَ الغسل واقتصرتَ على الوضوء. وجوّزَ القرطبي الرفع على أن خبره محذوف، أي والوضوء أيضاً يقتصر عليه. (7) فيه دليل على عربية "أيضاً" وقد توقَّف فيه جمال الدين بن هشام، كذا في "مرقاة الصعود". (8) ومع علمك تركت الغسل واكتفيت (في الأصل: "على الوضوء"، وهو تحريف) بالوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ (1) بالغُسْل. قَالَ مُحَمَّدٌ: الغُسْلُ أفضلُ (2) يومَ الجمعة، وليس بواجبٍ (3) .   (1) قوله: كان يأمر بالغسل، استَدل بهذا اللفظ وبزجر عمر لعثمان في أثناء الخطبة على ترك الغسل من قال بوجوبه. وأجاب عنه الطحاوي بأن عمر لم يأمر عثمان بالرجوع للغسل وذلك بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك إجماعاً على نفي وجوب الغسل، ولولا ذلك ما تركه عثمان، ولما سكت عمر من أمره إياه بالرجوع، وذكره نحوه ابن خزيمة وابن عبد البر والطبري والخطّابي وغيرهم، وارتضاه كثير من شرّاح صحيح البخاري وغيرهم. ولا يخفى ما فيه فإنه إنما ينهض دليلاً على من قال باشتراط الغسل لصحة صلاة الجمعة، وهم قوم من الظاهرية، وأما من قال بوجوبه مستقلاً بدون الاشتراط فلا، لأن له أن يقول الغسل وإن كان واجباً لكنْ تَرَكَه عثمان لشغله بأمر وضيق وقت فهو معذور في تركه، ولا يلزم من تركه أن لا يكون واجباً، وإنما لم يأمره عمر بالرجوع لأنه قد وجب عليه أمر آخر وهو سماع الخطبة فلو أمر بالرجوع لزم اختيار الأدنى وترك الأعلى. وبالجملة وجوب الغسل مقيَّد بسعة الوقت، وعند ضيقه وخوف فوت واجب آخر يسقط وجوبه، فالأولى أن يُمنع دلالة قصة عمر على الوجوب بأن زجرَه عثمانَ على ترك الغسل وترك الخطبة لأجله يُحتمل أن يكون لتركه سنَّة مؤكدة، فإن الصحابة كانوا يبالغون في الاهتمام بالسنن. (2) قوله: أفضل، هذا يشمل الاستنان والاستحباب، والأول مختار كثير من أصحابنا، والثاني رأي بعض أصحابنا، والأول أرجح. (3) قوله: وليس بواجب، وذهب الظاهرية إلى وجوبه أخذاً من ظاهر الأحاديث المارَّة، وبه قال الحسن وعطاء بن أبي رباح، والمسيب بن رافع، ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وَفِي هَذَا (1) آثَارٌ كَثِيرَةٌ. 63 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا الرَّبيع بن صَبِيحٍ (2) ، عن سعيدٍ الرَّقَاشي (3) ،   العيني، وهو المروي عن أحمد في رواية والمحكيّ عن أبي هريرة وعمار بن ياسر، كذا قال القسطلاني. وذكر النووي في شرح صحيح مسلم أن ابن المنذر حكى الوجوب عن مالك، وكلام مالك في الموطأ وأكثر الروايات عنه تردّه. وقال ابن حجر: حكى ابنُ حزم الوجوب عن عمر وجمَّ غفير من الصحابة ومن بعدهم، ثم ساق الرواية عنهم، لكن ليس فيها عن أحد منهم التصريح بذلك إلاَّ نادراً، وإنما اعتمد ابن حزم في ذلك على أشياء محتملة كقول سعد: ما كنت أظن مسلماً يدع الغسل يوم الجمعة. (1) أي عدم الوجوب. (2) قوله: أخبرنا الربيع هو الربيع بن صَبيح - بفتح أولهما - السعدي البصري، صدوق سيِّئ الحفظ، وكان عابداً مجاهداً، قال الرَّامَهُرْمُزي: هو أول من صنَّف الكتب بالبصرة، مات سنة ستين بعد المائة، كذا في "التقريب". وذكر في "تهذيب التهذيب" أنه روى عن الحسن البصري، وحُميد الطويل، ويزيد الرقاشي، وأبي الزبير، وأبي غالب، وغيرهم، وعنه الثوري، وابن المبارك، ووكيع، وغيرهم، قال العجلي وابن عدي: لا بأس به. (3) قوله: عن سعيد الرقاشي، بفتح الراء المهملة وخفة القاف وآخره شين معجمة، نسبة إلى رقاش اسم امرأة كثر (في الأصل: "كثرت"، وهو تحريف) أولادها حتى صاروا قبيلة، وهو بنت سبيعة بن قيس بن ثعلبة، وذكره السمعاني وابن الأثير، وسعيد هذا لعله سعيد بن عبد الرحمن الرقاشي، ذكره الذهبي في "ميزان الاعتدال"، وقال: ليَّنه يحيى القطان ووثَّقه جماعة، وقال ابن عدي: توقَّف فيه ابن القطان، ولا أرى به بأساً، وقد رُوي عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب قال: أتقوا الله واتقوا الناس. انتهى، فلْيُحَرَّر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (1) ، كِلاهُمَا يَرْفَعُهُ (2) إِلَى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال:   والذي أظن أنَّ هذا من النُّسّاخ، فإن هذه الرواية بعينها وجدتها في كتاب الحجّ وفيه: محمد أخبرنا الربيع بن صبيح البصري، عن يزيد الرّقاشي، عن أنس وعن الحسن البصري كلاهما يرفعه ... إلخ، وقال الذهبي في "الكاشف" في ترجمته: يزيد بن أبان الرقاشي العابد، عن أنس والحسن، وعنه صالح المُرِّي وحماد بن سلمة، ضعيف. انتهى. وذكر في "تهذيب التهذيب" في ترجمة الربيع: يزيد الرقاشي من شيوخه، وليس لسعيد فيه ذكر، (زاد في نسخة) [وقال أبو عيسى الترمذي في آخر شمائله - عندما روى حديثاً من طريق يزيد الفارسي، عن ابن عباس -: يزيد الفارسي، هو يزيد بن هرمز، وهو أقدم من يزيد الرقاشي، وروى يزيد الفارسي عن ابن عباس أحاديث، ويزيد الرقاشي لم يدرك ابن عباس، وهو يزيد بن أبان الرقاشي، وهو يروي عن أنس بن مالك، ويزيد الفارسي، ويزيد الرقاشي كلاهما من أهل البصرة، انتهى] . (1) قوله: وعن الحسن البصري، هو من أَجِلَّة التابعين الحسن بن أبي الحسن يسار، أمه مولاة لأم سلمة، وُلد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وقدم من المدينة إلى البصرة بعد مقتل (في الأصل: "قتل"، والصواب: "مقتل") عثمان، روى عن جماعة من الصحابة، وروى عنه جمع من التابعين، كان إماماً ثقة ذا علم وزهد وورع وعبادة، مات في رجب سنة 110 هـ، كذا في "جامع الأصول"، وله ترجمة طويلة في "تهذيب التهذيب" وغيره. (2) وفي نسخة يرفعانه. قوله: كلاهما يرفعه، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الترمذي: حسن صحيح، وقد روي عن الحسن مرسلاً، وأخرجه أحمد في مسنده والبيهقي في سننه وابن أبي شيبة في مصنفه، وأعلَّه بعض المحدثين بأن الحسن لم يسمع من سمرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 مَنْ توضَّأ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا ونِعْمَتْ (1) وَمَنِ اغتسل فالغُسْل أفضل.   كما قال ابن حبان في النوع الرابع من القسم الخامس: الحسن لم يسمع من سمرة شيئاً، وكذا قال ابن معين وشعبة، وقال الدارقطني: الحسن اختُلف في سماعه عن سمرة، والحسن لم يسمع من سمرة إلاَّ حديث العقيقة. والجواب عنه أنه نَقل البخاري في أول "تاريخه الوسط"، عن على بن المديني أن سماع الحسن من سمرة صحيح. ونقله الترمذي عن البخاري وسكت عليه. واختاره الحاكم في المستدرك، والبزار، فيُقدَّم إثبات هؤلاء على نفي أولئك، وأما مرسله فهو مقبول، فإنَّ مراسيل الحسن معتمدة، وقد روى هذا الحديث جمع من الصحابة غير سمرة، أخرجه أصحاب الكتب المعتمدة، وضَعْفُ بعضها ينجبر بالبعض، منهم أنس أخرجه ابن ماجه عنه مرفوعاً: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونِعْمَتْ تجزئ عنه الفريضة، ومن اغتسل فالغسل أفضل: وأخرجه الطحاوي والبزار والطبراني في "المعجم الوسط". ومنهم أبو سعيد الخدري أخرج حديثه البيهقي والبزار. ومنهم أبو هريرة أخرج حديثه البزار وابن عدي ومنهم جابر أخرجه عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن عدي، ومنهم عبد الرحمن بن سمرة أخرجه الطبراني والعُقَيلي. ومنهم ابن عباس أخرجه البيهقي. وبالجملة هذا الحديث له أصل أصيل، وهو دالّ على أن الغُسل ليس بواجب، وإلاَّ فكيف يكون مجرَّد الوضوء حسناً، واستدلَّ به بعضهم على الاستحباب، وهو كذلك لولا ثبوت مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الغسل يوم الجمعة فإنها دالَّة على الاستنان. (1) قوله: فبها ونعمت، قال الأصمعي: معناه فبالسنَّة أخذ ونعمت السنَّة، وقال أبو حامد: معناه فبالرخصة أخذ لأن السنَّة الغسل، وقال الحافظ أبو الفضل العراقي: أي فبطهارة الوضوء حصل الواجب في التطهير للجمعة ونِعْمَت الخصلة هي، أي الطهارة، وهو بكسر النون وسكون العين في المشهور، ورُوي بفتح النون وكسر العين، وهو الأصل في هذه اللفظة، ورُوي نَعِمتَ بفتح النون وكسر العين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 64 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أبانَ (1) بنِ صَالِحٍ، عَنْ حَمَّادٍ (2) ، عَنْ إبراهيمَ النَّخَعي، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الغُسْل يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْحِجَامَةِ، وَالْغُسْلِ فِي الْعِيدَيْنِ؟ قَالَ: إِنِ اغتسلتَ فحسنٌ، وإنْ تركتَ فليسَ عَلَيْكَ (3) ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَاحَ (4) إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ (5) ؟ قَالَ: بَلَى، ولكنْ لَيْسَ مِنَ الأُمُورِ الْوَاجِبَةِ، وَإِنَّمَا (6)   وفتح التاء، أي نعمك الله، قال النووي في "شرح المهذب": هذا تصحيف نبَّهتُ عليه لئلا يُغترّ به، كذا في "زهر (في الأصل: "زهرة الربى"، وهو تحريف) الربى على المجتبى" للسيوطي. (1) قوله: محمد بن أبان بن صالح، بفتح الألف وخفة الباء الموحدة، هو ممن ضعفه جمع من النقّاد، ففي "ميزان الاعتدال" للذهبي: محمد بن أبان بن صالح القرشي ويقال له الجعفي الكوفي حدَّث عن زيد بن أسلم وغيره، ضعَّفه أبو داود وابن معين، وقال البخاري: ليس بالقويّ، وقيل كان مرجئاً، انتهى. وفي "لسان الميزان" للحافظ ابن حجر: قال النسائي: محمد بن صالح القرشي كوفي، ليس بثقة. وقال ابن حيان: ضعيف. وقال أحمد: لم يكن ممن يكذب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: ليس بالقوي، يُكتب حديثه ولا يحتج به، وقال البخاري في "التاريخ": يتكلمون في حفظه لا يُعتمد عليه. (2) ابن أبي سليمان. (3) أي: لا يلزم عليك من تركه شيء. (4) أي: ذهب. (5) فإنه أمر، وظاهر الأمر للوجوب. (6) يريد أنه ليس كل أمر في الشرع فهو للُّزوم والوجوب، بل قد يكون الأمر للاستحسان والإباحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وهو كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، فَمَنْ أَشْهَدَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ تَرَك (1) فَلَيْسَ عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى (2) : {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} ، فَمَنِ انْتَشَرَ فَلا بَأْسَ وَمَنْ جَلَسَ فَلا بَأْسَ. قَالَ حَمَّادٌ (3) : وَلَقَدْ رأيتُ إبراهيمَ النَّخَعي يَأْتِي الْعِيدَيْنِ (4) وَمَا يَغْتَسِلَ (5) . 65 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا محمد بن أبان، عن ابن جُرَيْج (6) ،   (1) قوله: ومن ترك فليس عليه، أي: من ترك الإشهاد على المبايعة، فليس عليه شيء، فإنَّ الأمر للندب والاستحباب، لا للإلزام والإيجاب، هذا هو قول الجمهور. وقال الضحاك: هو عزم من الله تعالى، والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره. كذا نقله البغوي في "معالم التنزيل". (2) قوله: وكقوله تعالى: {فإذا قُضِيَتِ ... } ، أي: أُدِّيت، فإن القضاء يُستعمل لمعنى الأداء {الصلاة} ، أي: صلاة الجمعة {فَانتَشِرُوا في الأَرْضِ} للتجارة والتصرّف في حوائجكم {وَابْتَغُوْا مِنْ فَضْلِ الله} يعني الرزق، وهذا أمر إباحة، كقوله تعالى: {وإذا حَلَلْتُم فاصطادوا} . وقال ابن عباس: إن شئتَ فاخرج، وإن شئتَ فاقعد، وإن شئتَ فصلِّ إلى العصر. كذا قال البغوي. (3) يريد تأييد قول النخعي بفعل. (4) أي: إلى المصلَّى لصلاة العيدين. (5) ظناً منه أنه من الأمور المستحبة فمن ترك فلا حرج. (6) قوله: عن ابن جُرَيْج، بضم الجيم مصغراً آخره جيم أيضاً، هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، مولاهم المكي الفقيه، ثقة فاضل، توفي سنة خمسين بعد المائة أو بعدها، كذا في "التقريب" و"الكاشف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا (1) عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَحَضَرَتِ الصلاةُ (2) ، أَيْ الْجُمُعَةُ، فَدَعَا بوَضوء (3) فتوضَّأ (4) ، فَقَالَ لَهُ بعضُ أَصْحَابِهِ: أَلا تَعْتَسِلُ؟ قَالَ: اليومَ يومٌ بارِدٌ (5) ، فَتَوَضَّأَ (6) . 66 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سَلاّم (7) بْنُ سُلَيْمٍ (8) الْحَنَفِيُّ (9) ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ (10) قَالَ: كَانَ علقمةُ بْنُ قَيْسٍ إِذَا سَافَرَ لَمْ يصلِّ الضُّحَى (11) وَلَمْ يغتسِل يومَ الْجُمُعَةِ (12) .   (1) أي: جالسين. (2) أي: جاء وقتها. (3) أي: ماء يَتوضأ به. (4) أي: أراد أن يتوضأ. (5) يورث الغسل فيه الكُلْفة. (6) قوله: فتوضأ، تأكيد لتوضأ الأول إن كان الأول على معناه، وإن كان على معنى الإرادة فهو تأسيس، ويمكن أن يكون معناه، فثبت على وضوئه ولم يتوجَّه إلى الغسل. (7) بفتح الأول وتشديد الثاني. (8) بصيغة التصغير. (9) نسبة إلى قبيلة بني حنيفة، لا إلى الإمام أبي حنيفة كما ظنَّه القاري. (10) أي: النخعي. (11) قوله: لم يصلِّ، قال القاري: أي: لم يصلَّ الضحى، فإنها مستحبة، وقد تصدَّق الله عن المسافر ببعض الفرائض فكيف بالسنَّة. (12) قوله: ولم يغتسل يوم الجمعة، فيه دلالة على أن غُسل يوم الجمعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 67 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سفيانُ الثَّوْرِيُّ (1) ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ (2) ، عن مجاهد (3)   لصلاة الجمعة لا لنفس اليوم فيسقط استنانه عمَّن تسقط عنه صلاة الجمعة كالمسافر، وقد اختُلف فيه، فقيل: إنه لليوم ونسبة إلى الحسنِ بن زياد صاحب "الهداية" وغيره، ونسبة العيني في "شرحه" إلى محمد وداود الظاهري. والثاني وهو الصحيح عند الجمهور أنه للصلاة لظاهر الأحاديث: "إذا جاء أحدكم الجمعة ... "، ونحو ذلك. ومنشأ الخلاف أنّ من لا تجب عليه الجمعة ليس لهم الغسل على القول الأول دون الثاني. (1) قوله: سفيان الثوري، هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، نسبة إلى ثور - بالفتح - بن عبد مناة بن أد بن طانجة، قبيلة، روى عن جماعة كثير، وعنه جماعة غفيرة، كما بسطه المِزِّي في "تهذيب الكمال"، وذكر في ترجمته: قال شعبة وابن عيينة وأبو عاصم وابن معين: هو أمير المؤمنين في الحديث، وقال ابن المبارك: كتبتُ عن ألف ومائة شيخ ما كتبتُ عن أفضل من سفيان، وقال شعبة: سفيان أحفظ مني، وقال ابن مهدي: كان وهب يقدِّم سفيان في الحفظ على مالك، وقال الدُّوري: رأيت يحيى بنَ معين لا يقدِّم على سفيان في زمانه أحداً في الفقه والحديث والزهد وكلِّ شيء، مولده سنه 97 هـ، وتوفي بالبصرة سنة 161 هـ. انتهى ملخَّصاً. (2) أي: ابن المعتمر الكوفي. (3) قوله: عن مجاهد، هو ابن جَبْر - بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة - أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي المقرئ المفسِّر الحافظ، سمع سعداً وعائشة وأبا هريرة، وابن عباس، ولزمه مدة، وقرأ عليه القرآن، وروى عنه الأعمش ومنصور وابن عون وقتادة وغيرهم، قال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد، وقال ابن جريج: لأن أكون سمعت من مجاهد أحبُّ إليَّ من أهلي ومالي، وكان من أعيان الثقات، كذا في "تذكرة الحفاظ للذهبي، وذكر في التقريب وغيره أن وفاته كانت سنة إحدى، أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ومائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 قَالَ: مَنِ اغْتَسَلَ يومَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ (1) أَجَزَأَهُ (2) عَنْ غُسْلِ يومِ الْجُمُعَةِ. 68 - قَالَ محمد: أخبرنا عبّادُ بنُ العوّام (3) ،   (1) وأما إن اغتسل قبل طلوع الفجر فظاهر الأخبار أنه لا يكفي في إحراز الفضيلة. (2) قوله: أجزأه، يشير إلى أنه لا يُشترط اتصال الغسل بذهبه إلى المسجد، بل لو اغتسل بعد طلوع الفجر الصادق من الجمعة كفى ذلك، وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": استدل مالك بالحديث في أنه يُعتبر أن يكون الغسل متصلاً بالذهاب، ووافقه الأوزاعي والليث، والجمهور قالوا: يجزئ من بعد الفجر، وقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل سئل عمن اغتسل ثم أحدث هل يكفيه الوضوء؟ فقال: نعم، ولم أرَ فيه أعلى من حديث ان أَبْزى. يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزى، عن أبيه، وله صحبة: أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحديث فيتوضأ ولا يعيد الغسل. انتهى. وذكر صاحب "خلاصة الفتاوى" و"البناية" وغيرهما: أنه لو اغتسل يوم الجمعة ثم أحدث وصلّى بوضوء مستحدث لا ينال ثواب غسل الجمعة عند أبي يوسف، وعند الحسن ينال. وفيه نظر بأن هذا الغسل كما هو مقتضى الأحاديث للنظافة ودفع الرائحة لا للطهارة فلا يضر تخلُّل الحدث، وذكر في "الخلاصة" أيضاً أنه لو اغتسل قبل الصبح ودام على ذلك حتى صلّى به الجمعة ينال فضل الغسل عند أبي يوسف وعند الحسن لا. وفيه نظر ذكره الزيلعي في "شرح الكنز" وهو أنه لا يشترط وجود الاغتسال في ما سُنَّ الاغتسال لأجله، وإنمّا يشترط أن يكون متطهِّراً، فينبغي الإجزاء في الصورة المذكورة عند الحسن أيضاً. وقد صرح به قاضي خان في "فتاواه". (3) قوله: أخبرنا عبّاد (في نسخة، قال محمد: أخبرنا سفيان الثوري، عن عبّاد بن العوام) بن العوّام، بتشديد الباء الموحدة والواو، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أَخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرة (1) ، عَنْ عائشة، قالت (2) :   الذهبي في "تذكرة الحفاظ": عباد بن العوام الإمام المحدث أبو سهل الواسطي. وثَّقه أبو داود وغيره، قال ابن سعد: كان من نبلاء الرجال في كل أمر، وكان يتشيَّع فحبسه الرشيد زماناً، ثم خلّى عنه، فأقام ببغداد، واختُلف في وفاته بعد سنة ثمانين ومائة على أقوال: سنة ثلاثٍ، أو خمس، أو ست، أو سبع، وهو متفق على الاحتجاج به. انتهى ملخَّصاً. (1) قوله: عن عَمرة، بالفتح. بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، كانت في حجر عائشة وربتها، وروت عنها كثيراً من حديثها وعن غيرها (في الأصل: "وغيرها"، والظاهر: "عن غيرها") وروى عنها جماعة، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، وابنه أبو الرجال محمد بن عبد الرحمن بن حارثة، وأبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، ماتت سنة ثلاث ومائة، وهي من التابعيات المشهورات، كذا قال ابن الأثير الجزري في "جامع الأصول". (2) قوله: قالت ... إلخ، أخرجه أبو داود عنها بلفظ: كان الناس مهّانَ أنفسهم، فيروحون إلى الجمعة بهيآتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم. وروي عن عكرمة أن ناساً من أهل العراق جاؤوا إلى ابن عباس، فقالوا: أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر، وسأخبركم كيفَ بَدْءُ الغسل: كان الناس مجهودين يَلْبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيِّقاً مقارب السقف، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الريح قال: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمسَّ أحدكم أفضل ما يجد من دُهنه وطيبه، قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكُفُوا العمل، ووسِّع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق. وفي رواية النسائي، عن عائشة: إنما كان الناس يسكنون العالية فيحضرون الجمعة وبهم وسخ، فإذا أصابهم الريح سطعت أرواحهم فيتأذى به الناس، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أولا: يغتسلون؟ وفي لفظ مسلم: كان الناس ينتابون الجمعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 كَانَ الناسُ عُمّالَ أنفسِهِم (1) ، فَكَانُوا يَرُوحون إِلَى الجمعة (2) بهيآتهم، فكان يقال لهم (3) : لواغتسلتُم (4) (5) .   من منازلهم ومن العوالي، فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار، فيخرج منهم الريح، فَأُتِيَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا. وقال الطحاوي بعد ما رَوى عن ابن عباس نحو ما مرَّ: فهذا ابن عباس يُخبر أن الأمر الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به لم يكن للوجوب عليهم، وإنما كان لعلَّة، ثم ذهبت تلك العلّة، فذهب الغسل، هو أحد من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالغسل، وقال بعد رواية قول عائشة: فهذه عائشة تخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نَدَبَهم إلى الغسل للعلّة كما أخبر بها ابن عباس وأنه لم يجعل ذلك عليهم حتماً. انتهى. (1) أي يعملون بأيديهم لأنفسهم بالمزارعة وغيرها ولم يكن لهم خوادم. (2) قوله: إلى الجمعة، أي: يذهبون لصلاة الجمعة على هيآتهم ولباسهم المعتاد من غير غسل، ولا استعمال طيب ولا تغيير لباس. (3) أي: من حضرة الرسالة (أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم) . (4) أي: لكان أَولى. (5) قوله: لو اغتسلتم، دلَّ هذا الخبر على أن الغسل إنما يُعتدُّ به إذا كان قبل الصلاة، فإن اغتسل بعد الصلاة لا يُعتدُّ به، وقد حكى ابن عبد البر الإجماع عليه، وذهب ابن حزم الظاهري ومن تبعه إلى أنه يُكتفى بالغسل يوم الجمعة سواء كان قبل الصلاة أو بعدها، وهو خلاف الأحاديث الواردة في شرعية الغسل، وقد ردَّه ابن حجر في "فتح الباري" بأحسن ردّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 18 - (بَابُ الاغْتِسَالِ يومَ الْعِيدَيْنِ) 69 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ (1) (2) إِلَى الْعِيدِ. 70 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (3) نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الغُسْلُ يومَ الْعِيدِ حَسَنٌ (4) وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله.   (1) أي: يذهب بالغداء. (2) قوله: قبل أن يغدو، استنبط منه صاحب "البحر الرائق" أن غُسل العيد للصلاة لا لليوم، وذكر الياس زاده في "شرح النقاية": لم يُنقل في هذا الغسل أنه لليوم أو للصلاة. وينبغي أن يكون مثل الجمعة، لأن في العيدين أيضاً الاجتماع، فيُستحبّ الاغتسال دفعاً للرائحة الكريهة. انتهى. (3) وفي نسخة: أخبرني. (4) قوله: حسن، هذا يشتمل الاستنان والاستحباب، فمن قال باستنان غسل يوم الجمعة، قال باستنان غسل العيدين، ومن قال باستحبابه، قال باستحبابه. والأرجح هو الأول لما روى ابن ماجه عن الفاكه بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى. قال الحافظ ابن حجر في"تخريج أحاديث شرح الوجيز" للرافعي: رواه البزار والبغوي وابن قانع وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند من حديث الفاكه، وإسناده ضعيف، ورواه البزار من حديث أبي رافع، وإسناده ضعيف أيضاً، وفي باب من الموقوف عن علي رواه الشافعي. وعن ابن عمر رواه مالك، وروى البيهقي عن عروة بن الزبير أنه اغتسل للعيد وقال: إنه السُّنَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 19 - (بَابُ التيمُّم (1) بالصَّعِيد) 71 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الجُرف (2) حَتَّى إِذَا كَانَ بالمِرْبَد (3) نَزَلَ عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ فَتَيَمَّمَ (4) صَعِيدًا طَيِّبًا، فَمَسَحَ وجهَه ويدَيه إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ (5) ، ثُمَّ صَلَّى (6) .   (1) قوله: التيمُّم، هو في اللغة القصد، وفي الشرع القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنيَّة استباحة الصلاة وغيرها. (2) بضم فسكون، أو بضمتين: موضع على ثلاثة أميال من المدينة. (3) قوله: المِرْبَد، بكسر الميم وسكون الراء وموحدة مفتوحة ودال مهملة على ميل (قلت: لعله أزيد من ميل وأقل من ميلين، فحذف الكسر مرة، واعتبر به أخرى، لأن المِرْبَد مجلس الإبل وفضاء وراء البيوت ترتفق به كذا في "عمدة القاري"، وهو لا يكون إلاّ بقرب المدينة متصلاً بها، جزم الحافظ في "الفتح" بأنه من المدينة على ميل (1/374) . والميل: هو ثلاث فراسخ بغلبة الظن، وفي "الطحطاوي على مراقي الفلاح" (ص 66) : الميل في اللغة منتهى مدّ البصر) ، أو ميلين من المدينة، قاله الباجي. (4) قوله: فتيمم، قال الباجي: فيه التيمّم في الحضر لعدم الماء، إذ ليس بين الجرف والمدينة مسافة القصر، قال محمد بن مسلمة: وإنما تيمّم بالمربد، لأنه خاف فوات الوقت يعني المستحب، وروى في البخاري أنه دخل المدينة والشمس مرتفعة ولم يُعِد، وإلى جوازه في الحضر ذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة والشافعي، وقال زفر وأبو يوسف: لا يجوز التيمم في الحضر بحال، كذا قال الزرقاني. (5) أي: معهما. (6) حفظاً للوقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 72 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عبدُ الرَّحْمَنِ (1) بنُ الْقَاسِمِ، عن أبيه (2) ، عن عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم في بعض أسفاره (3)   (1) قوله: عبد الرحمن، هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق المدني الفقيه، وثَّقه أحمد وغير واحد، مات بالشام سنة 126 هـ، كذا في "الإسعاف". (2) قوله: عن أبيه، هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق المدني، قال ابن سعد: ثقة رفيع، عالم فقيه ورع، مات سنة ست ومائة على الصحيح، كذا قال السيوطي وغيره. (3) في نسخة "الأسفار" قوله: في بعض أسفاره، قال ابن حجر في "فتح الباري": قال ابن عبد البر في "التمهيد": يُقال إنه كان في غزاة بني المصطلق، وجزم بذلك في "الاستذكار" وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان، وغزاة بني المصطلق هي غزاة المُرَيْسيع، وفيها (في الأصل: "وفيه" والظاهر: "وفيها") وقعت قصة الإفك لعائشة، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عِقدها، فإن كان ما صرَّحوا به ثابتاً حُمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين. لاختلاف القصتين كما هو بيَّن في سياقهما، واستبعد بعض شيوخنا ذلك، قال: لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر لقولها في الحديث: حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، وهما بين المدينة وخيبر. جزم به النووي. قلت: وما جزم به مخالف لما جزم به ابن التِّين، فإنه قال: البيداء هي ذو الحُليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة، وذات الجيش وراء ذي الحليفة، وقال أبو عُبيد البكري في "معجمه": البيداء أدنى إلى مكة من ذي الحليفة، ثم ساق حديث عائشة، ثم ساق حديث ابن عمر قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها: ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ من عند المسجد ... الحديث. قال: والبيداء هو الشرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 حَتَّى إِذَا كُنَّا بالبيداءِ أَوْ (1) بذاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ (2) عِقدي (3) ، فَأَقَامَ (4) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التماسِهِ (5) ، وَأَقَامَ الناسُ وَلَيْسُوا عَلَى ماءٍ (6) وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ (7) فَقَالُوا: أَلا تَرَى إِلَى ما صنعت عائشة؟ أقامت (8)   الذي قُدّام ذي الحُليفة في طريق مكة، وذات الجيش من المدينة على بريد، وبينها وبين العقيق سبعة أميال، والعقيق من طريق مكة، لا من طريق خيبر، فاستقام ما قاله ابن التين. (1) الشك من عائشة. (2) قوله: انقطع، في التفسير من رواية عمرو بن الحارث: سقطت قِلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل وهذا مشعر بأن ذلك كان عند قربهم من المدينة كذا في الفتح. (3) قوله عقد بكسر المهملة كل ما يعقد ويعلق في العنق ويسمى قلادة ولأبي داود من حديث عمار أنه كان من جزع ظفار، وفي رواية عمرو بن الحارث: سقطت قلادة لي، وفي رواية عروة عنها: أنها استعارت قلادة من أسماء فهلكت، أي: ضاعت. والجمع بيهما أن إضافة القلادة إلى عائشة لكونها في يدها وتصرُّفها، وإلى أسماء لكونها مِلْكَها، كذا في "الفتح". (4) قوله: فأقام، فيه اعتناء الإمام بحفظ حقوق المسلمين وإن قلَّت، فقد نقل ابن بطّال أن ثمن العقد كان اثني عشر درهماً، قاله في "الفتح". (5) أي: لأجل طلبه. (6) استدل بذلك على جواز الإقامة في المكان الذي لا ماء فيه. (7) فيه شكوى المرأة إلى أبيها وأن كان لها زوج. (8) أُسند الفعل إليها، لأنه كان بسببها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى ماءٍ (1) وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ أَبُو بكرٍ (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ورسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضعٌ رأسَه عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حبستِ (3) رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناسَ وَلَيْسُوا عَلَى ماءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ، قَالَتْ: فعاتَبَني وَقَالَ مَا شاءَ اللَّهُ (4) أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطعُنُني (5) بيدِهِ فِي خَاصِرَتِي (6) ، فَلا يمنعُني مِنَ التحرُّكِ إلاَّ رأسُ (7) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ (8) عَلَى غير ماءٍ، فأنزل الله   (1) جملة حالية. (2) فيه جواز دخول الرجل على بنته، وإن كان زوجها عندها إذا علم رضاه بذلك. (3) منعتِ. (4) أي: من كلمات الزجر والعتاب. (5) قوله يطعنني، بضم العين وكذا جميع ما هو حسّي، وأما المعنوي فيقال: يطعَن بالفتح، هذا هو المشهور فيهما، وحُكي فيهما معاً الفتح والضم، كذا في "التنوير". (6) خصر الإنسان بفتح المعجمة وسكون المهملة: وسط الإنسان. (7) أي كونه واستقراره. (8) قوله: حتى أصبح، قال بعضهم: ليس معناه بيان غاية النوم إلى الصباح، بل بيان غاية فقد الماء إلى الصباح، لأنه قيَّد قوله "حتى أصبح" بقوله: "على غير ماء"، أي: آل أمره إلى أن أصبح على غير ماء. وأما رواية عمرو بن الحارث فلفظها: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح، فإن أعربت الواو حالية كان دليلاً على أن الاستيقاظ وقع حال وجود الصباح وهو الظاهر، واستُدِلَّ به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 تَعَالَى آيَةَ التيمُّم (1) فتيمَّمُوا (2) ، فَقَالَ أُسَيد (3) (4) (5) بن حُضَير (6) : ما هي بأوَّل بركتكم (7)   على أن طلب الماء لا يجب إلاّ بعد دخول الوقت لقوله في رواية عمر بعد قوله حضرت الصبح: فالتمس الماء فلم يوجد، وعلى أن الوضوء كان واجباً عليهم قبل نزول آية الوضوء، ولذا استعظموا نزولهم على غير ماء، كذا في "الفتح". (1) قوله: آية التيمم، قال ابن العربي: هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء، لأنّا لا نعلم أي الآيتين عَنَتْ، وقال ابن بطال: هي آية النساء أو آية المائدة وقال القرطبي: هي آية النساء، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وأورد الواحدي في "أسباب النزول" الحديث عند ذكر آية النساء أيضاً، وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن المراد آية المائدة بغير تردد لرواية عمرو بن الحارث إذ صرَّح فيها بقوله: "فنزلت: {يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ ... } الآية، كذا في "الفتح". (2) يحتمل أن يكون حكاية عن فعل الصحابة، ويحتمل أن يكون حكاية لبعض الآية. (3) بالتصغير. (4) أبو يحيى الأنصاري الصحابي الجليل، مات سنة عشرين أو إحدى وعشرين. (5) قوله: فقال أسيد، إنما قال ما قال دون غيره، لأنه كان رأس مَن بُعث في طلب العقد الذي ضاع، كذا في "الفتح". (6) بمهملة ثم معجمة مصغراً. (7) قوله ما هي بأول بركتكم، أي: بل هي مسبوقة بغيرها من البركات، وفي رواية هشام بن عروة: فوالله ما نزل بكِ أمر تكرهينه إلاّ جعل الله للمسلمين فيه خيراً. وهذا يُشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوى قول من ذهب إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ (1) ، قَالَتْ: وَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّتِي كنتُ عَلَيْهِ (2) فَوَجَدْنَا (3) العِقدَ تَحْتَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، والتيمُّمُ ضَرْبَتَانِ، ضربةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة (4) رحمه الله.   تعدُّد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباري، فقال: سقط عقد عائشة في عزوة ذات الرقاع وغزوة بني المصطلق. وقد اختلف أهل المغازي في أن أي هاتين الغزوتين كانت أولاً، وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة: لما نزلت آية التيمم لم أدرِ كيف أصنع. فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق، لأن إسلام أبي هريرة كان سنة سبع، ومما يدل على تأخر القصة عن قصة الإفك، أيضاً ما رواه الطبراني من طريق عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، قالت: لما كان من أمر عِقْدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط أيضاً عِقدي حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: يا بُنيَّة في كل سفرة تكونين عناءً وبلاءً على الناس. فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة. وفي إسناده محمد بن حميد الرازي، وفيه مقال: كذا في "الفتح". (1) المراد به نفسه وأهله وأتباعه. (2) حالة السير. (3) ظاهر في أن الذين توجَّهوا في طلبه أولاً لم يجدوه. (4) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الثوري والليث بن سعد والشافعي وابن أبي سلمة وغيرهم، أنه لا يجزيه إلاَّ ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين. وبه قال مالك، إلاَّ أنه لا يرى البلوغ إلى المرفقين فرضاً (روي عن مالك، أنه يجعل مسح الكفين مفروضاً وما زاد إلى المرفقين سنة، عمدة القاري 2/172) ، وممن روي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 20 - (بَابُ الرَّجُلِ يُصِيبُ مِنَ امْرَأَتِهِ أَوْ يُبَاشِرُهَا (1) وَهِيَ حَائِضٌ) 73 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ (2) أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ يسألُها هَلْ يُبَاشِرُ (3) الرجلُ امرأتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ؟ فقالت (4) :   عنه التيمم إلى المرفقين: عبد الله بن عمر، والشعبي، والحسن البصري، وسالم بن عبد الله بن عمر، وقال الأوزاعي: ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكوعين، وبه قال أحمد وإسحاق بن راهويه وداود والطبراني، وقال ابن أبي ليلى والحسن بن حَيّ: التيمم ضربتان، يمسح بكل ضربة وجهه وذراعيه. وقال الزهري: يبلغ بالمسح إلاّ الآباط، ورُوي عنه إلى الكوعين، ورُوي عنه ضربة واحدة، كذا ذكره ابن عبد البر. وقد اختلفت الأخبار والآثار في كيفية التيمم: هل هي ضربة أم ضربتان؟ وهل ضربة اليدين إلى الآباط أو إلى المرفقين أو إلى الكوعين؟ وباختلافه تفرَّقت الفقهاء وصار كلٌّ إلى ما رواه أو أدى الاجتهاد في نظره ترجيحه، والذي يتحقَّق بعد غموض الفكر وغوص النظر ترجيح تعدّد الضربة على توحدها، وترجيح افتراض بلوغ مسح اليدين إلى الكوعين، واستحباب ما عدا ذلك إلى المرفقين، كما حققه ابن حجر في "فتح الباري" والنووي في "شرح صحيح مسلم" وغيرهما، والكلام ههنا طويل لا يسعه هذا المقام. (1) مباشرة الرجل امرأته، التقاء بشرَتَيهما إلاَّ الجماع، كذا في "إرشاد الساري". (2) قوله: أن عبد الله بن عمر، هكذا في أكثر نسخ موطأ محمد، وفي رواية يحيى للموطأ: أن عُبيد الله بن عبد الله بن عمر أرسل.. الحديث. وهو بضم العين شقيق سالم، ثقة، مات سنة ست ومائة. (3) أي: بالعناق، ونحوه. (4) قوله: فقالت، أفتته بفعله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، كما في الصحيحين عنها، وعن ميمونة أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 لِتَشُدَّ (1) إِزْارَهَا عَلَى أسفَلِها (2) ، ثُمَّ يُبَاشِرْهَا إِنْ شَاءَ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ بذلك (4) وهو قول أبي حنيفة (5)   (1) بكسر اللام وشدّ الدال المفتوحة، أي: لتربط. (2) أي: ما بين سُرَّتها وركبتيها. (3) أي: أراد. (4) أي: بالمباشرة بما فوق الإزار. (5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال مالك والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف: له منها ما فوق الإزار، وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، وحجَّتُهم تواطؤ الآثار، عن عائشة وميمونة وأمِّ سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر إحداهن إذا كانت حائضاً أن تشد عليها إزارها، ثم يباشرها. وقال سفيان الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي: يجتنب موضع الدم. وممَّن رُوي عنه هذا المعنى ابنُ عباس ومسروق بن الأجدع وإبراهيم النخعي وعكرمة، وهو قول داود بن علي، وحجتهم حديث ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اصنعوا كلَّ شيء ما خلا النكاح"، وفي رواية ما خلا الجماع، كذا في "الاستذكار" وفي "فتح الباري": ذهب كثير من السلف والثوري وأحمد وإسحاق إلى أنّ الذي يمتنع من الاستمتاع بالحائض الفرج فقط، وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية. ورجحه الطحاوي، وهو اختيار أصبغ من المالكية وأحد القولين أو الوجهين للشافعية، واختاره ابن المنذر، وقال النووي: هو الأرجح دليلاً، لحديث أنس في مسلم: اصنعوا كلَّ شيء إلاَّ النكاح. وحملوا حديث الباب وشبهه على الاستحباب جمعاً بين الأدلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 والعامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا (1) . 74 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عِنْدِي، عَنْ سَالِمِ (2) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ (3) بْنِ يَسَارٍ: أَنَّهُمَا سُئِلا عَنِ الْحَائِضِ هَلْ يُصِيبُهَا (4) زَوْجُهَا إِذَا رَأَتِ الطُّهرَ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ؟ فَقَالا: لا حَتَّى تَغْتَسِلَ (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (6) ، لا تُباشَرُ حائضٌ عِنْدَنَا حَتَّى تحلَّ   (انظر فتح الملهم (1/457) ، ففيه بحث نفيس حول هذه المسألة) . (1) أي: فقهاء الكوفة. (2) أحد الفقهاء السبعة. (3) أحد السبعة. (4) أي يجامعها. (5) قوله: لا حتى تغتسل، فإن قيل: إن في قول الله عز وجلَّ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} دليلاً على أنهن إذا طهرن من المحيض حلَّ ما حَرُمَ عليهن من المحيض (هكذا في الأصل: وفي الاستذكار: (2/26) : "ما حرم منهن من أجل المحيض") ، لأن حتى غاية، فما بعدها بخلاف ما قبلها، فالجواب أن في قوله تعالى: {فإذا تطهَّرن} دليلاً على تحريم الوطء بعد الطهر حتى يتطهَّرن بالماء، لأن تطَهرن تَفَعّلن من الطهارة، كذا في "الاستذكار". (6) قوله: وبهذا نأخذ، قال مالك وأكثر أهل المدينة: إذا انقطع عنها الدم لم يجز وطيها حتى تغتسل، وبه قال الشافعي والطبري، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام كان له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل، أو يدخل عليها وقت الصلاة. قال أبو عمر: هذا تحكُّم لا وجه له كذا في "الاستذكار"، وظاهر إطلاق محمد ههنا عدم التفصيل، لكن المشهور في كتب أصحابنا التفصيل بين ما إذا انقطع الدم لعشرة أيام، فيحل وطيها قبل الاغتسال وبين ما إذا انقطع لأقل منه، فلا يحل قبل أن تتطهر أو يمضي عليه وقت ذلك، ووجَّهوه بأنه قد قُرئ قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 لَهَا الصَّلاةُ (1) أَوْ تَجِبَ عَلَيْهَا (2) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 75 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ (3) (4) : أَنَّ رَجُلا (5) سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحِلُّ لِي مِنَ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: تَشُدُّ (6) عَلَيْهَا (7) إزارها،   {حتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف وبالتشديد، والقراءتان كالآيتين، فيُحمل الأولى على الأول، والثاني على الثاني، وههنا مذهب آخر وهو أنه يحل الوطئ بمجرد الانقطاع مطلقاً، لكن بعد إصابة الماء بالوضوء، أخرجه ابن جرير عن طاووس ومجاهد، قالا: إذا طهرت أمرها بالوضوء وأصاب منها، وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد وعطاء، قالا: إذا رأت الطهر فلا بأس أن تستطيب بالماء ويأتيها قبل أن تغتسل. (1) بأن تطهر وتغتسل. (2) بأن يمضي وقت تقدر فيه أن تغتسل وتشرع في الصلاة. (3) كذا أخرجه البيهقي أيضاً عن زيد بن أسلم، ذكره السيوطي في "الدر المنثور" وكذلك أخرجه الدارمي مرسلاً. (4) قوله: أخبرنا زيد بن أسلم، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً روى هذا مسنداً بهذا اللفظ ومعناه صحيح ثابت. (5) قوله: أن رجلاً، قد روى أبو داود، عن عبد الله بن سعد، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار. وأخرجه أحمد وابن ماجه كذلك، وأخرج أحمد وأبو داود، عن معاذ بن جبل، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل للرجل من امرأته، وهي حائض؟ قال: "ما فوق الإزار، والتعفف عن ذلك أفضل". وبه عُلم اسم السائل. (6) في نسخة: لتشد (بفتح التاء وضم الشين المعجمة آخره دال معناه الأمر، أوجز المسالك: 1/226) (7) قوله: تشدّ عليها، بفتح التاء وضم الشين والدال، خبر معناه الأمر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ثُمَّ شَأْنَكَ (1) بِأَعْلاهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَ مَا هُوَ أَرْخَصُ (2) مِنْ هَذَا (3) عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قالت (4) :   أو أريد به الحدث مجازاً، أو بتقدير أنه مؤول بالمصدر، فإن قلت: كيف يستقيم هذا جواباً عن قوله ما يحلّ لي؟ قلت: يستقيم مع قوله: "ثم شأنك بأعلاها" كأنه قيل له: يحلّ لك ما فوق الإزار، وشأنَك منصوب بإضمار فعل، ويجوز على الابتداء والخبر محذوف، تقديره مباح أو جائز، كذا في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لعلي القاري. (1) بالنصب، أي: دونك. (2) أي: أيسر وأسهل. (3) أي: مما ذكر من حل ما فوق الإزار. (4) قوله: أنها قالت، يؤيده ما أخرجه أبو داود والبيهقي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً ثم صنع ما أراد. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والبيهقي، عن عائشة: أنها سُئلت ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت (وفي الأصل: "فقال"، وهو تحريف) : "كل شيء إلاّ فرجها"، وأخرج ابن جرير، عن مسروق: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي وابن حبان، عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت، ولم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت. فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله: {ويَسْأَلُونَكَ عن المَحِيضِ ... } الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جامعوهنَّ في البيوت واصنعوا كل شيء إلاّ النكاح ... " الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 يَجْتَنِبَ (1) شِعَارَ (2) الدَّمِ، وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ. 21 - (بَابُ إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ (3) هَلْ يَجِبُ الْغُسْلِ؟) 76 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، عَنْ سَعِيدِ (4) بْنِ الْمُسَيِّبِ (5) : أَنَّ عمرَ وعثمانَ (6) وعائشةَ كَانُوا يَقُولُونَ (7) :   (1) مجهول أو معروف. (2) قوله: شعار، بالكسر، بمعنى العلامة وبمعنى الثوب الذي يلي الجسد، ذكره في "النهاية" والمراد موضع الدم أو الكرسف. (3) قوله: الختانان، المراد به ختان الرجل وهو مقطع جلدته، وخفاض المرأة. وهو مقطع جليدة في أعلى فرجها تشبه عرف الديك بينها وبين مدخل الذكَر جلدة رقيقة. (4) قوله: عن سعيد بن المسيب، أبو محمد المخزومي المدني، سيِّد فقهاء التابعين. قال قتادة: ما رأيت أحداً قطّ أعلمَ بالحلال والحرام منه، مات سنة ثلاث وتسعين، كذا في "الإِسعاف". (5) ابن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. (6) قوله: عثمان، بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، أمير المؤمنين، ذو النورين، قُتل يوم الجمعة لثمان عشرة خَلَت من ذي الحجة سنة 35 هـ، كذا في "الإِسعاف". (7) قوله: كانوا يقولون ... إلخ، هذا حديث صحيح، عن عثمان بأن الغسل يوجبه التقاء الختانين، وهو يدفع حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن عطاء بن يسار أخبره أن زيد بن خالد الجُهَني أخبره أنه سأل عثمان، قال: قلت: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يُمْنِ؟ قال عثمان: يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره، سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: وسأل ذلك عليّاً والزبير وطلحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 إِذَا مسَّ (1) الخِتانُ (2) الخِتانَ (3) فَقَدْ وَجَبَ الغُسْل (4) . 77 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ (5) مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (6) بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَأَلَ عائشةَ مَا يُوجِبُ الغسل؟ فقالت (7) : أتدري ما مَثَلُكَ (8)   وأبيّ بن كعب، فأمروه بذلك. هذا حديث منكر لا يُعرف من مذهب عثمان ولا من مذهب عليّ ولا مذهب المهاجرين، انفرد به يحيى بن أبي كثير، وهو ثقة إلاَّ أنه جاء بما شذَّ فيه، وأنكر عليه، كذا في "الاستذكار". (1) قوله: إذا مسَّ، المراد بالمسَّ والالتقاءِ في خبر: "إذا التقى ... " المجاوزةُ، كرواية الترمذي: "إذا جاوز"، وليس المراد حقيقة المسّ، لأنه لا يتصور عند غيبة الحشفة، فلو وقع مسٌّ بلا إيلاج لم يجب الغُسل بالإِجماع. (2) أي: موضع القطع من الذكر. (3) أي: موضع القطع من فرج الأنثى. (4) وإن لم ينزل. (5) سالم بن أبي أمية. (6) قوله: أبي سلمة، ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري، قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، وقيل اسمه كنيته، وثَّقه ابن سعد وغيره، مات بالمدينة سنة 94 هـ، كذا في "الإِسعاف". (7) تلاطفه وتعاتبه. (8) قوله: ما مثلك ... إلخ، فيه دليل على أن أبا سلمة كان عندها ممن لا يقول بذلك، وأنه قلَّد فيه من لا علم له به، فعاتَبَتْه بذلك، لأنها كانت أعلم الناس بذلك المعنى، وقد تقدَّم عن أبي سلمة روايته، عن عطاء بن يسار، وعن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "الماء من الماء"، وأن أبا سلمة كان يفعل ذلك، فلذلك نفرته عنه، قاله ابن عبد البر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 يَا أَبَا سَلَمَةَ (1) ؟ مَثَلُ (2) الفَرّوجِ (3) يَسْمَعُ الدِّيَكَة (4) تَصْرُخُ (5) فَيَصْرُخُ مَعَهَا إِذَا جَاوَزَ (6) الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلَ. 78 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (7) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ (8) مَوْلَى عثمانَ بنِ عَفَّانَ: أَنَّ محمودَ (9) بْنَ لَبيد (10) :   (1) وكأنه قال: لا، فقالت: مَثَل ... (2) قوله: مثل الفروج، قال الباجي: يحتمل معنيين، أحدهما أنه كان صبياً قبل البلوغ، فسأل عن مسائل الجماع الذي لا يعرفه ولم يبلغ حده، والثاني أنه لم يبلغ مبلغ الكلام في العلم. (3) قال المجد: كتنّور ويضم كسُبّوح فرخ الدجاج. (4) بوزن عِنَبَة جمع ديك، ويَجمع أيضاً على ديوك ذَكَرَ الدجاج. (5) تصيح. (6) بيَّنت الحكم بعد ما زجرته. (7) ابن قيس الأنصاري. ولِقَيس صحبة. (8) الحميري المدني صدوق، روى له مسلم والنسائي، قاله الزرقاني. (9) قوله: أن محمود بن لبيد، الأنصاري الأشهلي من بني عبد الأشهل، وُلد على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحدَّث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بأحاديث، وذكره مسلم في الطبقة الثانية من التابعين، فلم يصنع شيئاً ولا علم منه ما علم غيره، مات سنة ست وتسعين، كذا في "الاستيعاب". (10) بفتح اللام وكسر الموحَّدة، ابن عقبة بن رافع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 سَأَلَ زيدَ (1) بنَ ثَابِتٍ عَنِ الرجلِ يُصيبُ أهلَه ثُمَّ يُكْسِل (2) ؟ فَقَالَ زيدُ بنُ ثَابِتٍ: يغتسلُ (3) ، فَقَالَ لَهُ محمودُ بنُ لَبِيدٍ: فإنَّ أُبيَّ بنَ كَعْبٍ لا يَرى الغُسْل، فَقَالَ زيدُ بنُ ثَابِتٍ: نَزَعَ (4) قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ إِذَا الْتَقَى الخِتانان و (6)   (1) النجاري المدني أبو سعيد، وقيل: أبو خارجة، كاتب الوحي أحد من جمع القرآن عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، مات سنة 45 هـ وقيل: سنة 48 هـ، وقيل: سنة 51 هـ، كذا في "الإِسعاف". (2) أكسل الرجل، إذا جامع ثم أدركه فتور فلم ينزل. (3) قوله: يغتسل، روى ابن أبي شيبة والطبراني بإسناد حسن، عن رفاعة بن رافع، قال: كنت عند عمر، فقيل له: إن زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد بأنه لا غُسل على من يجامع ولم ينزل، فقال عمر: عَلَيَّ به، فأتي به، فقال: يا عدوَّ نفسه، أوَبَلَغَ من أمرك أن تفتي برأيك؟ قال: ما فعلت، وإنما حدَّثني عمومتي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أيّ عمومتك؟ قال: أُبيّ بن كعب وأبو أيوب ورفاعة، فالتفت عمر إليّ، قلت: كنّا نفعله على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجمع عمر الناس فاتَّفقوا على أن الماء لا يكون إلاَّ من الماء إلاَّ عليَّ ومعاذ فقالا: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر، فقال عليّ لعمر: سل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا أعلم، فأرسل إلى عائشة، فقالت: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل. فتحطَّم عمر - أي: تغيَّظ - وقال: لا أُوتى بأحد فعله ولم يغتسل إلاَّ أنْهَكْتُهُ عقوبة، فلعل إفتاء زيد لمحمود بن لبيد، كان بعد هذه القصة، كذا في شرح الزرقاني. (4) أي: أقلع ورجع عنه. (5) في رجوعه دليل على أنه قد صح (في الأصل: "صح"، والظاهر: "قد صحّ") عنده أنه منسوخ. (6) عطف بياني للالتقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 توارَتْ (1) الْحَشَفَةُ (2) وَجَبَ الغُسْلُ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِل، وهو قول أبي حنيفة (3) رحمه الله.   (1) أي غابت. (2) رأس الذكر المختون. (3) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري وأبو عبيد وغيرهم من علماء الأمصار، وإليه ذهب جمهور أصحاب داود، وبعضهم قالوا: لا غسل ما لم يُنزل، تمسُّكاً بحديث "الماء من الماء" وغيره. واختلف الصحابة فيه، فذهب جمع كثير إلى وجوب الغسل وإن لم يُنزل. وبعضهم قالوا بالوضوء عند عدم الإِنزال، ومنهم من رجع عنه، فممن قال بوجوب الغسل عائشة وعمر وعثمان وعلي وزيد كما ذكره مالك. وابن عباس وابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة عنهما. وأبو بكر أخرجه عبد الرزاق، والنعمان بن بشير وسهل بن سعد وعامة الصحابة والتابعين ذكره ابن عبد البر، ولم يُختلف في ذلك عن أبي بكر وعمر، واختُلف فيه عن عليّ وعثمان وزيد، وقد صحَّ عن أبيّ بن كعب أنه قال: كان ذلك - أي وجوب الوضوء فقط بالإِكسال - رخصة في بَدْء الإِسلام ثم نُسخ، ولذلك رجع عنه أبيّ بعد ما أفتى به، وروى عائشة وأبو هريرة وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، وغيرهم مرفوعاً: "إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل" (انظر نصب الراية 1/84 أيضاً. قد اتفق الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب على وجوب الغسل بغيبوبة الحشفة وإن لم ينزل، وكان فيه خلاف في الصدر الأول، فقد رُوي عن جماعة من الصحابة ومن الأنصار أنهم لم يروا غسلاً إلاّ من الإِنزال، ثم رُوي أنهم رجعوا عن ذلك، وصحَّ عن عمر أنه قال: من خالف في ذلك جعلته نكالاً، فانعقد الإِجماع في عهده، وخالف فيه داود الظاهري ولا عبرة بخلافه عند المحقِّقين، كما تجد تحقيقه في "شرح التقريب" للسبكي. وقد وقعت عبارة البخاري في صحيحه موهمة للخلاف حيث قال: قال أبو عبد الله: الغسل أحوط. فأوهم أنه يقول باستحباب الغسل دون الوجوب، وهذا مخالف لما أجمع عليه جمهور الأئمة، ويحتمل قول البخاري: "الغسل أحوط"، يعني في الدين من حديثين تعارضا، فقدَّم الذي يقتضي الاحتياط في الدين، وهو باب مشهور في أصول الدين، وهو الأشبه، لا أنه ذهب إلى الاستحباب والندب. هذا ملخَّص ما قاله القاضي في "العارضة". فهكذا وجه القاضي في "العارضة" وقال: والعجيب من البخاري أن يساوي بين حديث عائشة في إيجاب الغسل ... وبين حديث عثمان وأُبَيّ في نفي الغسل ... إلخ، ثم علَّل عدم صحة التعلّق بحديثهما. وراجع "عمدة القاري" 2/77. والذي اختاره ابن حجر في "فتح الباري" 1/275 أن الخلاف كان مشهوراً بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل وهو الصواب، والله أعلم. انتهى كلامه. ولكنه يقول في "التلخيص" ص 49: لكن انعقد الإِجماع أخيراً على إيجاب الغسل قاله القاضي وغيره. اهـ، فكأنه هنا غير ما اختاره في "الفتح"، وانظر "عمدة القاري" من 2/69، 2/72، و 76 و 77) ، ذكر كل ذلك مع زيادات نفيسة ابن عبد البر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 22 - (بَابُ الرَّجُلِ (1) يَنَامُ هَلْ يُنْقِضُ ذَلِكَ وُضُوءَهُ؟) 79 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زيدُ (2) بنُ أَسْلَمَ، قَالَ: إِذَا نَامَ (3) أَحَدُكُمْ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ فليتوضَّأْ. 80 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرني نافع، عن ابن عمر: أنه كان ينام وهو قاعد فلا يتوضأ (4) .   في "التمهيد" و"الاستذكار"، وقد بسط الكلام فيه الطحاويُّ في "شرح معاني الآثار"، وأثبت وجوب الغسل بالالتقاء بالأخبار المرفوعة والآثار الموقوفة، فليُراجع. (1) قيد اتفاقي، فإن الرجل والمرأة في ذلك سواء. (2) العدوي وكان من العلماء بالتفسير وله كتاب فيه. (3) قوله: قال إذا نام ... إلخ، ليحيى: مالك بن زيد بن أسلم: أن عمر بن الخطاب قال: إذا نام أحدكم مضطجعاً فليتوضأ. (4) لأن النوم ليس بحدث وإنما هو سبب، وقد كان نومه خفيفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ (1) فِي الْوَجْهَيْنِ جَميعاً نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (2) . 23 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَرَى (3) فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ) 81 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أنَّ (4) أمَّ سُلَيْم   (1) قوله: وبقول ابن عمر ... إلخ، فيه أنه لم يذكر قول ابن عمر في الوجه الأول، فتأمَّل، كذا قال القاري. (2) قوله: وهو قول أبي حنيفة، اختلف العلماء فيه فقال مالك: من نام مضطجعاً أو ساجداً فليتوضأ، ومن نام جالساً فلا، إلاَّ أن يطول نومه، وهو قول الزهري وربيعة والأَوْزاعي وأحمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلاَّ على من نام مضطجعاً أو متورِّكاً، وقال أبو يوسف: إن تعمد النوم في السجود فعليه الوضوء. وقال الثوري والحسن بن حَيّ وحماد بن أبي سليمان والنخعي: إنه لا وضوء إلاَّ على من اضطجع، وقال الشافعي: على كلِّ نائمٍ الوضوء إلاَّ الجالس وحده. ورُوي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي حال كان، كذا ذكره ابن عبد البر. وقد أجمل في بيان مذهب الحنفية، والذي يُفهم من كتب أصحابنا أن كل نوم يسترخي فيه المفاصل كالاضطجاع والاستلقاء والنوم على الوجه والبطن ومتَّكئاً على أحد وركيه فهو ناقض، وما ليس كذلك فليس بناقض، وكذلك النوم قاعداً وساجداً وراكعاً وقائماً، ومن الأخبار المرفوعة المؤيدة لكون النوم من النواقض قوله صلّى الله عليه وسلّم: "وكاء السَّه العينان، فمن نام فليتوضَّأ" أخرجه أبو داود وأحمد من حديث عليّ، والطبراني والدارمي من حديث معاوية بألفاظ متقاربة. (3) أي في حكم احتلامها. (4) قوله: أن أم سليم، قال ابن عبد البر: كذا هو في الموطأ، وقال فيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 قَالَتْ (1) لرسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (2) ، المرأةُ تَرَى فِي الْمَنَامِ مثلَ مَا يَرَى الرجلُ أَتَغْتَسِلُ (3) ؟ فَقَالَ (4) رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:   ابن أبي أويس عن عروة عن أم سليم، وكل من رَوى هذا الحديث عن مالك لم يَذكر فيه "عن عائشة" في ما علمت إلاَّ ابن أبي الوزير وعبد الله بن نافع فإنهما روياه عن مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن أم سليم انتهى. وقد وصله مسلم وأبو داود من طريق عروة عن عائشة وأم سليم هي بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب، واختلف في اسمها فقيل سهلة، وقيل رميلة، وقيل مليكة، وقيل الغميضاء، كانت تحت مالك بن النضر أبي أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت له أنساً فلما أسلمت عرض الإِسلام على زوجها، فغضب وهلك هناك، وخلف عليها بعده أبو طلحة الأنصاري فولدت له عبد الله بن أبي طلحة، كذا في "الاستيعاب". (1) ولمسلم عن أنس جاءت أم سليم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت له وعائشة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (2) ولأحمد قالت: يا رسول الله إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام. (3) أي أيجب عليها الغسل؟ وفيه استحباب عدم الحياء في المسائل الشرعية. (4) قوله: فقال ... إلخ، وعند ابن أبي شيبة فقال: هل تجد شهوة؟ قالت: لعله، قال: هل تجد بللاً؟ قالت: لعله، قال: فلتغتسل، فلقيتها النسوة فقلن: فَضَحْتِينا عند رسول الله، قالت: ما كنت لأنتهي حتى أعلم في حلٍّ أنا أم في حرام، ففيه وجوب الغسل على المرأة بالإِنزال، ونفى ابن بطال الخلاف فيه، لكن رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النَّخَعي وإسناده جيد، فيدفع استبعاد النووي صحته عنه، كذا في شرح الزرقاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 نَعَمْ (1) فَلْتَغْتَسِلْ، فَقَالَتْ (2) لَهَا عَائِشَةَ (3) : أفٍّ لَكِ (4) ، وَهَلْ تَرَى (5) ذلكِ (6) الْمَرْأَةُ؟ قَالَ (7) : فالتفَت إِلَيْهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: تَرِبَتْ يمينُك (8) ،   (1) إذا رأت ماءاً. (2) قوله: فقالت، قال الوليّ العراقي: أنكرت مع جواب المصطفى لها، لأنه لا يلزم من ذكر حكم الشيء تحققه. (3) قوله: عائشة، في حديث آخر أن أم سلمة هي القائلة ذلك، قال القاضي عياض: يحتمل أن كلتيهما أنكرتا عليها وإن كان أهل الحديث يقولون: إن الصحيح ههنا أم سلمة لا عائشة، قال ابن حجر: وهذا جمع حسن لأنه لا يمتنع حضور عائشة وأم سلمة عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مجلس واحد. (4) قوله: أفٍّ لك، قال عياض: أي استحقاراً لك، وهي كلمة تستعمل في الاستحقار، وأصل الأف وسخ الأظافير، وفيه عشر لغات: أف بالكسر والضم والفتح دون تنوين وبالتنوين أيضاً، وذلك مع ضمّ الهمزة فهذه ستة. وأفه بالهاء. وإف بكسر الهمزة وفتح الفاء، وأف بضم الهمزة وتسكين الفاء، وأفى بضم الهمزة والقصر، قلت: فيه نحو أربعين لغة حكاها أبو حيان في "الارتشاف"، كذا في "التنوير". (5) قوله: وهل ترى، قال ابن عبد البر: فيه دليل على أنه ليس كل النساء يحتلمن وإلاَّ لَمَا أنكرت ذلك عائشة وأم سلمة، قال: وقد يوجد عدم الاحتلام في بعض الرجال، قلت: وأي مانع من أن يكون ذلك خصيصة لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهنَّ لا يحتلمن كما أن الأنبياء لا يحتلمون، لأن الاحتلام من الشيطان فلم يسلَّط عليهم وكذلك على أزواجه تكريماً له، كذا في "التنوير". (6) بكسر الكاف. (7) في نسخة: قالت. (8) قوله: تربت يمينك، قال النووي: في هذه اللفظة خلاف كثير منتشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَه (1) ؟! قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (2) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.   للسلف والخلف، والأصحّ الأقوى الذي عليه المحققون أنها كلمة معناها افتقرت، ولكن العرب اعتادت استعمالها غير قاصدة حقيقة معناها الأصلي، فيذكرون تربت يداك، وقاتله الله، ولا أمَّ لك، وثكلته أمه، وويل أمه، وما أشبهَهُ، يقولونها عند إنكارهم الشيء أو الزجر عنه، كذا في "زهر الربى على المجتبى" للسيوطي. (1) قوله: الشبه، بكسر الشين وسكون الباء، وشبه بفتحهما لغتان مشهورتان، قال النووي: معناه أن الولد متولد من ماء الرجل وماء المرأة، فأيهما غلب كان الشبه له، وإذا كان للمرأة مني فإنزاله وخروجه (في الأصل: "فإنزالها وخروجها"، وهو خطأ، والصواب: "فإنزاله وخروجه" كما في "زهر الربى" 1/131) منها ممكن، كذا في "زهر الربى". (2) قوله: وبهذا نأخذ، أي بوجوب الغسل على المرأة إذا رأت مثل ما يرى الرجل ورأت بللاً، ورُوي عنه في غير رواية الأصول أنها إذا تذكرت الاحتلام والإنزال والتلذل [لعله "والتلذذ" فليراجع؟؟] ولم تر البلل كان عليها الغسل (قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم أن الرجل إذا رأى في منامه أنه احتلم أو جامع ولم يجد بللاً أن لا غسل عليه، واختلفوا فيمن رأى بللاً، ولم يتذكر احتلاماً، فقالت طائفة: يغتسل، روينا ذلك عن ابن عباس، وعطاء والشعبي وسعيد بن جبير والنخعي، وقال أحمد: أحبّ إليَّ أن يغتسل إلاَّ رجل به أبردة: وقال أكثر أهل العلم: لا يجب عليه الاغتسال حتى يعلم أنه بلل الماء الدافق، وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو يوسف، وظاهر الباب يؤيِّد الفريق الأول، هذا ملخَّص ما في "العمدة" 2/56 و 57 و"معالم السنن" 1/79، وراجع "المغني" لابن قدامة 1/205، فقد قيَّد البلل بالمني في وجوب الغسل ونسب ذلك إلى مالك والشافعي، وهذا خلاف ما في "المعالم" و"العمدة" وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني) ، لكن قال شمس الأئمة الحلواني: لا تؤخذ بهذه الرواية، ذكره صدر الشريعة، وقد عوَّل على تلك الرواية صاحب "الهداية" في مختارات النوازل وفي التجنيس والمزيد، لكنه تعويل ضعيف لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 24 - (بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ (1)) 82 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَار، عَنْ أمِّ سَلَمَةَ (2) زوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ امْرَأَةً (3) كانت تُهراقُ (4) الدَّمَ (5) على   سياق النصوص الواردة في هذه المسألة شاهد على أن وجوب الغسل برؤية البلل لا بمجرد التذكر. (1) قال الجوهري: استُحيضت المرأة أي استمر بها الدم بعد أيَّامها فهي مستحاضة (إن الروايات في المستحاضة مختلفة جداً. يشكل الجمع بينها وقد جمع بينها شيخنا في "أوجز المسالك" 1/240، فارجع إليه) . (2) قوله: عن أم سلمة، قال ابن عبد البر: هكذا رواه مالك وأيوب، ورواه الليث بن سعد وصخر وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سليمان أن رجلاً أخبره عن أم سلمة، وقال النووي في الخلاصة: حديث صحيح رواه مالك والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي بأسانيد على شرط البخاري ومسلم فلم يعرِّج على دعوى الانقطاع. (3) قوله: أنَّ امرأة، قال الباجي: يقال هي فاطمة بنت أبي حُبَيْش، وقد بيَّن ذلك حماد بن زيد وسفيان بن عيينة في حديثهما عن أيوب، عن سليمان بن يسار، قلت: وكذا هو مبيَّن في "سنن أبي داود" من رواية وهيب عن أيوب، كذا في "التنوير". (4) قوله: تُهراق، قال الباجي: الهاء في "هراق" بدل من همزة "أراق" يقال أراق الماء يريقه وهراقه يهريقه هراقة، كذا في "التنوير". (5) منصوب أي تهراق هي الدم، وهي منصوبة على التمييز، قال الباجي: ويجوز رفعه على تقدير تهراق دماؤها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 عهدِ رَسُولِ اللَّهِ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستفتتْ (2) لَهَا أمُّ سلَمَة (3) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لِتَنْظُر اللياليَ (4) وَالأَيَّامَ (5) الَّتِي كَانَتْ تحيضُ (6) مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصيبَها الَّذِي أَصَابَهَا (7) ، فلتتركْ (8) الصلاةَ (9) قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَإِذَا خَلَّفَتْ (10) ذَلِكَ فلتغتسِلْ ثُمَّ لِتَسْتَثْفِر (11) بثوبٍ فلْتُصَلِّ.   (1) أي في زمانه. (2) بأمرها لذلك، ففي رواية الدارقطني: فأمرت فاطمة أن تسأل لها. (3) وإنما لم تستفتِ بنفسها للحياء. (4) قوله: لتنظر الليالي والأيام ... إلخ، احتج به من قال إن المستحاضة المعتادة تُرَدّ لعادتها ميَّزتُ أم لا، وافق تمييزُها عادَتَها أم لا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولَي الشافعي، وأشهر الروايتين عن أحمد. وأصح قولَي الشافعي وهو مذهب مالك أنها تُرَدُّ لعادتها إذا لم تكن مميِّزة، وإلاَّ رُدَّت إلى تمييزها، ويدل له قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث فاطمة: "إذا كان دمُ الحيض فإنه دمٌ أسودُ يُعرف" رواه أبو داود. وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أنه صلّى الله عليه وسلّم علم أنها غير مميِّزة فحكم عليها بذلك، ولعلها كانت لها أحوال كانت في بعضها مميِّزة وفي بعضها ليست بمميِّزة، كذا قال الزرقاني. (5) قوله: والأيام، قد يُستنبط منه أن أقل مدة الحيض ثلاثة وأكثرة عشرة، لأن أقل ما يطلق عليه لفظ الأيام ثلاثة وأكثره عشرة، وأما ما دون ثلاثة فيقال يومان، وفوق عشرة يقع التمييز يوماً، وهو استنباط لطيف لفظي. (6) أي في تلك الأيام. (7) أي من الاستحاضة. (8) قوله: فلتترك الصلاة، فيه دلالة على ترك الصلاة للحائض ولا قضاء عليها، وهذا أمر إجماعي خلافاً للخوارج، ذكره ابن عبد البر. (9) والصوم ونحوهما. (10) أي تركتْ أيّامَ الحيض التي كانت تعهد وراءها. (11) قوله: ثم لتستثفر، قال في النهاية: هو أن تشدّ فرجها بخرقة عريضة بعد أن تحتشي قطناً وتوثق طرفَيْها في شيء تشدّه على وسطها، هو مأخوذ من ثفر الدابَّة الذي يجعل تحت ذنبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (1) وتتوضَّأ لوقتِ كلِّ صَلاةٍ وتصلِّي (2) إِلَى الوقتِ الآخَرِ وَإِنْ سَالَ دمُها، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 83 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سُميّ (3) مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ القَعْقاع (4) بنَ حَكِيمٍ وزيدَ بْنَ أَسْلَم أَرْسَلاهُ (5) إِلَى سَعِيدِ بْنِ المسيَّب يَسْأَلُهُ عَنِ الْمُسْتَحَاضَةِ كَيْفَ تَغْتَسِلُ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: تغتسلُ مِنْ طُهْرٍ إِلَى طُهْرٍ (6) وتتوضَّأ   (1) قوله: وبهذا نأخذ، أي بوجوب الغسل مرة عند ذهاب الأيام المعهودة، وقال قوم: يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، والمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وللصبح غسلاً واحداً، ورُوي مثله عن علي وابن عباس، وقال آخرون: تغتسل في كل يوم مرة في أي وقت شاءت، روي ذلك عن علي، وقال قوم تغتسل من ظهر إلى ظهر، ولكلٍّ وجهة هو مولِّيها، وقد بسط الكلام فيه ابن عبد البر في "التمهيد" وحمل أصحابنا الأخبار الواردة في الغسل لكل صلاة ونحو ذلك على الاستحباب بدليل الأخبار الدالَّة على كفاية الغسل الواحد. (2) ما شاءت من الفرائض والنوافل. (3) أبو عبد الله القرشي المخزومي المدني، وثَّقه أحمد وأبو حاتم، كذا في "الإِسعاف". (4) الكناني المدني، وثَّقه أحمد ويحيى وغيرهما، كذا في "الإِسعاف". (5) فيه جواز إرسال رسول للاستفتاء من العالم وقَبول خبر الواحد. (6) قوله: من طهر إلى طهر، قال ابن سيِّد الناس: اختلف فيه، فمنهم من رواه بالطاء المهملة، ومنهم من رواه بالظاء المعجمة، وقال ابن العراقي: المرويُّ إنما هو بالإِعجام، وأما الإِهمال فليس رواية مجزوماً بها، وقال ابن عبد البر: قال مالك: ما أرى الذي حدَّثني به من ظهر إلاَّ وقد وهم، قال أبو عمر: ليس ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 لِكُلِّ صلاةٍ (1) فإنْ غَلَبَها الدَّمُ استثفرتْ بِثَوْبٍ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: تغتسلُ إِذَا مضتْ أيامُ أَقرائها (3) ثم تتوضَّأُ لكل صلاةٍ (4) وتصلِّي،   بوهم لأنه صحيح عن سعيد معروف من مذهبه. وقد رواه كذلك السفيانان، عن سميّ به بالإِعجام، وقال الخطابيّ: ما أحسن ما قاله مالك، لأنه لا معنى للاغتسال في وقت صلاة الظهر إلى مثلها من الغد ولا أعلمه قولاً لأحد، وتعقَّبه ابن العربي بأن له معنى، لأنه إذا سقط لأجل المشقة اغتسالها لكل صلاة فلا أقل من الاغتسال مرة في كل يوم للتنظيف، وقال ابن العراقي: قوله لا أعلمه قولاً لأحد، فيه نظر لأن أبا داود نقله عن جماعة من الصحابة والتابعين، كذا في "شرح الزرقاني". (1) قوله: لكل صلاة، أي: لوقت كل صلاة، فاللام للوقت كما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي: وقت دلوكها. (2) رواه أبو داود بلفظ: "استذفرت بثوب"، فقيل: قلب الثاء ذالاً، وقيل معناه فلتستعمل طيباً. (3) قوله: أقرائها، بالفتح جمع قَرء بالفتح، ويُجمع على قروء أيضاً، وهو من الأضداد يقع على الطهر، وإليه ذهب الشافعي وأهل الحجاز في قوله تعالى: {ثلاثةَ قروء} ، وعلى الحيض وإليه ذهب أبو حنيفة وأهل العراق، كذا في "النهاية" لابن الأثير الجزري، والمرادُ هاهنا بأيام أقرائها أيام حيضها، كما في حديث: "تدعُ الصلاة أيّام أَقرائها". (4) قوله: لكل صلاة، أي: لوقت كل صلاة كما مرَّ ويأتي، ويصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، وبه قال الأَوْزاعي والليث وأحمد، ذكره عن أحمد أبو الخطاب في "الهداية"، وفي "مغني ابن قدامة": تتوضأ لكل صلاة، وبه قال الشافعي وأبو ثور، وقال ابن تيمية: هذه رواية عن أحمد، وقال مالك: لا يجب الوضوء على المستحاضة ومن به سَلِسُ البول ونحوُه، وهو قول ربيعة وعكرمة وأيوب، وإنما هو مستحب لكل صلاة عنده، كذا ذكره العيني في "البناية"، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 حَتَّى تأتِيَها أيامُ أَقْرَائِهَا، فَتَدَعُ (1) الصلاةَ، فَإِذَا مضَت اغتسلتْ غُسلاً وَاحِدًا، ثُمَّ توضَّأَتْ لكلِّ وقتِ صلاةٍ وَتُصَلِّي، حَتَّى يدخُلَ الوقتُ الآخَرُ (2)   ابن عبد البر في "الاستذكار": ممَّنْ أوجب الوضوء لكل صلاة سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والليث والشافعي والأوزاعي. انتهى. وفيه مسامحة حيث سوّى بين مذهبي (في الأصل: "مذاهب"، والظاهر: "مذهبي") أبي حنيفة والشافعي، وليس كذلك كما عرفت. أما الذين قالوا بالوضوء لكل صلاة، فاستدلوا بظاهر قوله صلّى الله عليه وسلّم: توضَّئي لكل صلاة وصلِّي". أخرجه أبو داود في حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وهو معلق في صحيح البخاري ومخرج في سنن ابن ماجه، وصحيح ابن حبان وجامع الترمذي بألفاظ متقاربة، وأخرج أبو يعلى، والبيهقي، عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة. وأما أصحابنا فاستندوا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: "المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة" رواه أبو حنيفة. وذكر ابن قُدامة في "المغني" في بعض ألفاظ حديث فاطمة: "وتوضَّئي لوقت كل صلاة"، وروى أبو عبد الله بن بطة بإسناده، عن حمنة بنت جحش أن النبي صّلى الله عليه وسلّم أمرها أن تغتسل لوقت كل صلاة، كذا ذكره العيني، وقالوا: الأول محتمل لاحتمال أن يراد بقوله: "لكل صلاة" وقت كل صلاة، والثاني: محكم فأخذنا به، وقوّاه الطحاوي بأن الحدث إما خروج خارج وإما خروج الوقت، كما في مسح الخفين، ولم نعهد الفراغ من الصلاة حدثاً، فرجحنا هذا الأمر المختلف فيه إلى الأمر المجمع عليه. (1) أي: تترك. (2) قوله: حتى يدخل الوقت الآخر، ظاهره أن الناقض هو دخول الوقت الآخر، فلو توضأت في وقت الصبح ينبغي أن تجوز به الصلاة إلى أن يدخل وقت الظهر، لكن المذكور في كتب أصحابنا المعتمدة أن الناقض هو خروج الوقت فحسب عند أبي حنيفة ومحمد، ودُخوله فحسب عند زفر، وأيهما كان عند أبي يوسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 مَا دَامَتْ تَرَى الدَّمَ (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ والعامَّة مِنْ فُقَهَائِنَا. 84 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَيْسَ عَلَى المستحاضةِ (2) أَنْ تغتسلَ إلاَّ غُسلاً وَاحِدًا (3) ، ثُمَّ تتوضَّأ (4) بَعْدَ ذَلِكَ لِلصَّلاةِ. 25 - (باب المرأة ترى الصُّفرة والكُدْرة (5) (6)) 85 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَلْقَمةُ (7) (8) بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أمِّه (9) مولاةِ عائشةَ زوجِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النساءُ يبعثن (10)   (1) أي: المتوالي، فإذا ذهب ذلك عاد الحكم المقرَّر للكل. (2) أي: لا يجب عليها. (3) عند القضاء: المدة التي كانت تحيض فيها. (4) وجوباً عند الجمهور، واستحباباً عند مالك. (5) بضم الكاف: هي التي لونها كلون الماء الكدر، قاله العيني. (6) وفي نسخة: أو الكدرة. (7) مات سنة بضع وثلاثين ومائة. (8) المدني. وثقه أبو داود والنسائي وابن معين واسم أبيه هلال، كذا في "الإِسعاف". (9) اسمها مرجانة وثقها ابن حبان، كذا في "الإِسعاف". (10) قوله: كان النساء يبعثن ... إلخ، في هذا الحديث من الفوائد: جواز معاينة كرسف المرأة للمرأة، يؤخذ ذلك من بعثهن الكرسف لرؤية عائشة. وأنه ينبغي للنساء الاستفتاء في أمورهن من أعلمهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 إِلَى عَائِشَةَ بالدُّرْجِةِ (1) (2) فِيهَا الكُرْسُف (3) فِيهِ الصُّفْرة مِنَ الْحَيْضِ فَتَقُولُ: لا تَعْجَلَنَّ (4) حَتَّى تَرَيْنَ (5) القَصَّة البيضاء.   وجواز الحياء في مثل هذه الأمور من الرجال إذا لم يُحتج إليه، ولذلك بعثن الكرسف إلى عائشة لا إلى رجال الصحابة. وجواز وضع كرسف في ظرف. وعدم التعجيل في أداء العبادة قبل أوانه، بحيث يفوت شرط من شروطه. وجواز التعليم بالإِشارة حيث لم يُخِلّ بالمقصود. وغير ذلك مما لا يخفى على الماهر. (1) قوله: بالدُّرجة، بضم دال فسكون، حُقَّة تضع المرأة فيها طيبها ونحوه، والحُقَّة بالضم: وعاء من خشب، وقال الشيخ ابن حجر في "فتح الباري": الدِّرَجَة بكسر أوله وفتح الراء والجيم جمع دُرْج بضم فسكون، قال ابن بطال: كذا يرويه أصحاب الحديث، وضبطه ابن عبد البر في "الموطأ" بضم وسكون، وقال: إنه تأنيث درج. (2) المراد ما تحتشي به المرأة من قطنة وغيرها، لتعرف هل بقي من أثر الحيض شيء أم لا. (3) بضم الكاف والسين المهملة بينهما راء مهملة هو القطن. (4) بالتاء والياء خطاباً وغَيْبة. (5) قوله: ترين القصة، بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة: الجص هي لغة حجاز. وفي الحديث: "الحائض لا تغتسل حتى ترى القصة البيضاء"، أي: حتى تخرج القطنة التي تحشى (في الأصل: "تجيء"، والظاهر: "تحشى") كأنها جصة لا تخالطها صفرة، يعني أفتت عائشة للمستفتيات (في الأصل: "للمتنقبات"، وهو تحريف) عن وقت الطهارة عن الحيض، بأنه لا بد من رؤيتهن القطنة شبيهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 تُرِيدُ (1) بِذَلِكَ (2) الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا تطهرُ المرأةُ مَا دامتْ تَرَى حُمْرَةً أَوْ صُفرةً أَوْ كُدرة (3) ، حَتَّى ترى البياض (4) خالصاً،   بالجصة، كذا في "الكواكب الدراري" و"فتح الباري"، وذكر العيني في "البناية" أن القصة هي الجصة، شبّهت عائشة الرطوبة الصافية بعد الحيض بالجص، وقيل: القصة شيء يشبه الخيط الأبيض يخرج من قُبُل النساء في آخر أيّامهن يكون علامة لطهرهن. (1) أي: عائشة. (2) أي: برؤية القصة البيضاء. (3) قوله: أو كدرة، خرجت قبل الدم أو بعده خلافاً لأبي يوسف في كدرة خرجت قبل الدم، وبه قال أبو ثور وابن المنذر، حكاه العيني. (4) قوله: حتى ترى البياض، لقول عائشة حتى ترين القصة البيضاء، فجعلت علامة الطهر البياض الخالص. فعُلم أن ما سواه حيض، ومثله لا يُعرف إلاَّ سماعاً، لأنه ليس مما يهتدي إليه العقل. وقد ذَكَرَ ها هنا ثلاثة ألوان وترك ثلاثة أخرى، وهي الخضرة والسواد والتربيّة. والكل حيض إذا كانت في أيام الحيض عندنا. أما كون الصفرة حيضاً، فقد ثبت من أثر عائشة. وأما كون السواد حيضاً فثبت من قوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة: "إذا كانت دم الحيضة، فإنه دم أسود يعرف، فأمسكي عن الصلاة". أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما. وأما الحمرة، فهي أصل لون الدم، ووقع في رواية العقيلي عن عائشة: "دم الحيض أحمر قاني، ودم الاستحاضة كغسالة اللحم"، ذكره العيني. وأما الخضرة، فاختلفوا فيه، والصحيح أن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء يكون حيضاً، وكذا الكدرة والتربيّة. وعند أبي يوسف الكدرة ليس بحيض إلاَّ بعد الدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (1) . 86 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا عبد الله (2) بن أبي بكر (3) ، عَنْ عمَّته (4) ، عَنِ ابْنَةِ (5) زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أنه (6) بلغها (7) أن (8) نساءً كُنَّ   (1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، رأيت في "الاستذكار": أما قول الشافعي والليث بن سعد فهو أن الصفرة والكدرة لا تُعَدُّ حيضاً وهو قول أبي حنيفة ومحمد. انتهى. وأظن أن كلمة "لا" من زيادة الناسخ. (2) وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وابن سعد، مات سنة 135 هـ، وقيل: سنة 136 هـ، كذا في "الإِسعاف". (3) ابن محمد بن عمرو بن حزم. (4) قوله: عن عمته، قال ابن الحذاء: هي عمرة بنت حزم عمة جد عبد الله بن أبي بكر، وقيل لها عمته مجازاً، قلت: لكنها صحابية قديمة، روى عنها جابر الصحابي، ففي روايتها عن بنت زيد بُعد، فإن كانت ثابتة فرواية عبد الله عنها منقطعة لأنه لم يدركها، ويحتمل أن يكون المراد عمته الحقيقية وهي أم عمرو أو أم كلثوم كذا في "الفتح". (5) قوله: عن ابنة زيد، ذكروا أن لزيد من البنات حسنة وعمرة وأم كلثوم وغيرهن. ولم أرَ الرواية لواحدة إلاَّ لأم كلثوم زوج سالم بن عبد الله بن عمر، فكأنها هي المبهمة ها هنا، وزعم بعض الشُّرّاح أنها أم سعد، لأن ابن عبد البر ذكرها في الصحابة. وليس في ذكره لها دليل على المدَّعى، لأنه لم يقل إنها صاحبة هذه القصة، كذا في "الفتح". (6) ضمير شأن. (7) أي: عمة عبد الله أو ابنة زيد. (8) فاعل لبلغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 يدعُونَ (1) بِالْمَصَابِيحِ (2) مِنْ جوفِ اللَّيْلِ فَيَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْر (3) ، فَكَانَتْ (4) تَعِيبُ (5) عَلَيْهِنَّ (6) وَتَقُولُ (7) : مَا كَانَ النساءُ (8) يَصْنَعْنَ هذا.   (1) أي: يطلبن. (2) السُّرُج. (3) أي: إلى ما يدل على الطهر. (4) ابنة زيد. (5) قوله: تعيب. فإن قلت: لمَ عابتْ وفعلُهُنَّ يدل على حرصهن بالطاعة، قلت: لأن فعلهن يقتضي الحرج وهو مذموم، لأن جوف الليل ليس إلاَّ وقت الاستراحة، كذا في "الكواكب الدراري". (6) قوله: عليهن، يحتمل أن يكون العيب لكون الليل لا يتبيَّن به البياض الخالص من غيره، فيحسبن أنهنَّ طهرن وليس كذلك، فيصلِّين قبل الطهر. (7) قوله: وتقول ما كان النساء ... إلخ، تشير إلى أن ما يفعلن لو كان فيه خير لابتدرت إليه نساء الصحابة، فإنهن كنَّ ممن يتسارع إلى الخيرات، فإذا لم يفعلن عُلم أنه لا خير فيه، وليس في الدين حرج، وإنما يجب النظر إلى الطهر إذا حانت الصلاة لا في جوف الليل. ويُستنبط من الحديث جواز العيب على من ابتدع أمراً ليس له أصل، وجواز الاستدلال بنفي شيء مع عموم البلوى في زمن الصحابة على عدم كونه خيراً، والتنبيه على حسن الاقتداء بالسلف، وجواز إسراج السرج بالليل. (8) اللام للعهد، أي: نساء الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 26 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَغْسِل بعضَ أعضاءِ الرَّجُلِ وَهِيَ حَائِضٌ) 87 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ تَغْسِلُ جَوَارِيهِ (1) رجلَيْه ويُعطينَهُ الخُمرة (2) وهنَّ حُيَّض (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ (4) بِذَلِكَ، وهو قولُ أبي حنيفة رحمه الله.   (1) جمع جارية بمعنى الأمة والبنت (قوله كان يغسل جواريه رجليه: لعله كان لشغل أو ضعف أو لبيان الجواز إلاَّ أنه يشكل عليه ما تقدَّم في الوضوء من القُبلة أن ابن عمر كان يقول: جسُّها بيده من الملامسة، ويحتمل أنه رضي الله عنه كان يفرق بين ملامسة الرجل المرأة وملامسة المرأة الرجل كما هو مقتضى ألفاظ الأثرين، لكن لم أره عند أحد، أو يقال: إنه يرى الملامسة الناقضة مقيَّدة بالشهوة كما هو مذهب بعضهم، وإلاَّ فبين عموم الأثرين تعارض كما لا يخفى. أوجز المسالك 1/308) . (2) قوله: الخُمْرة، بضم الخاء المعجمة وسكون الميم، سجّادة صغيرة منسوجة من سعف النخل، مأخوذة من الخمر بمعنى التغطية، لأنها تغطي جبهة المصلي من الأرض، هذا حاصل ما في الضياء. وأغرب ابن بطال حيث قال: فإن كان كبيراً قدر الرجل أو أكبر يقال له حصير لا خمرة. انتهى. وغرابته لا تخفى، كذا قال القاري. (3) جمع الحائض حيض وحوائض. (4) قوله: لا بأس بذلك، لأن أعضاء الحائض طاهرة، ولذلك لا يُكره مضاجعتها، ولا الاستمتاع بها بما فوق السرة، ولا يُكره وضع يدها في شيء من المائعات، وغَسْلُها رأس زوجها وترجيلُه، وطبخها وعجنها، وغير ذلك من الصنائع. وسؤرها وعرقها طاهران، وكل هذا متفق عليه، وقد نقل أبو جعفر محمد بن جرير الطبري إجماع المسلمين في ذلك، كذا ذكره النووي في "شرح صحيح مسلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 88 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (1) ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كنتُ (2) أُرجِّل (3) رأسَ (4) رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأنا حَائِضٌ (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ والعامَّةِ مِنْ فقهائنا.   (1) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والبخاري من طريق مالك. (2) قوله: كنت: في ترجيل عائشة لرأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي حائض دليل على طهارة الحائض، وأنه ليس موضع منها نجساً غير موضع الحيض، وفي ترجيله صلّى الله عليه وسلّم لشعره وسواكه وأخذه من شاربه ونحو ذلك دليل على أنه ليس من السّنَّة والشريعة ما خالف النظافة وحسن الهيئة في اللباس والزينة. ويدل على أن قوله صلّى الله عليه وسلّم: "البذاذة من الإِيمان" أراد به طرح الشهرة في اللباس والإِسراف فيه الداعي إلى التبختر والبطر، لتصحّ معاني الآثار ولا تتضادّ، كذا في "الاستذكار". (3) بضم الهمزة وشدة الجيم: أمشّط. (4) قوله: رأس، أي: شعر رأس، فهو من مجاز الحذف ومن إطلاق المحل على الحال مجازاً. (5) قوله: وأنا حائض، فيه تفسير لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحيضِ} ، لأن اعتزالهنَّ يحتمل أن يكون بأن لا يجتمع معهن ولا يقربهن، ويحتمل أن يكون اعتزال الوطئ خاصة، فأتت السُّنَّة بما في الحديث أنه أراد به الجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 27 - (باب الرجل يغتسلُ أو يتوضأ بِسُؤْرِ الْمَرْأَةِ (1)) 89 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لا بَأْسَ بِأَنْ يغتَسلَ (2) الرجلُ بفضلِ وَضوء الْمَرْأَةِ (3) مَا لَمْ تكن (4) جُنُباً أو حائضاً.   (1) قوله: بسؤر المرأة، بضم السين وهمز العين، اسم للبقية، من سأر يسأر كفتح يفتح، أفضل فضلة، ذكره العيني. (2) في نسخة: يتوضأ. (3) أي: ما فضل من الماء بعدما توضأت المرأة منه. (4) قوله: ما لم تكن جنباً أو حائضاً، يخالفه ما ورد عن عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إناء واحد ونحن جنبان. وورد عنها: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إناء واحد، فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي ونحن جنبان. وعن أم سلمة: أنها كانت تغتسل ورسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم من الجنابة. وعن ميمونة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اغتسل من فضل ماء اغتسلت به من الجنابة. وعن عائشة: كنت أشرب وأنا حائض ثم أُناوله النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فيضع فاه على موضع فيّ، فيشرب. وأتعرَّق العَرَق وأنا حائض ثم أُناوله، فيضع فاه على موضع فيّ. أخرجها مسلم وأصحاب السنن وغيرهم. إلى غير ذلك من الأخبار الدَّالة على طهارة سؤر الحائض والجنب، وطهارة فضل وضوئهما وغسلهما. وقول الصحابي إذا خالف فعلَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أو قولَه، فالحجة في المرفوع، ويُعذر بأنه لعله لم يبلغه ذلك أو ترجَّح عنده دليل آخر، فلذلك أعرض أكثر العلماء في هذا الباب عن قول ابن عمر وأخذوا بالأحاديث المجوِّزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِفَضْلِ وَضوء الْمَرْأَةِ وَغُسْلِهَا وَسُؤْرِهَا وَإِنْ كَانَتْ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا (1) . بَلَغَنا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَعَائِشَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ لِيَتَنَازَعَانِ (3) الْغُسْلَ (4) جَمِيعًا، فَهُوَ (5) فَضْلُ غُسْلِ الْمَرْأَةِ الْجُنُبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (6) .   (1) قوله: وإن كانت جنباً أو حائضاً، قال العيني في "البناية": ممن قال بطهارة سؤر الجنب الحسن البصري ومجاهد والزهري ومالك والأَوزاعي والثوري وأحمد والشافعي، ورُوي عن النخعي، أنه كره فضل شرب الحائض، وروى عن جابر، أنه سئل عن سؤر الحائض هل يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، ذكره ابن المنذر في "الإِشراف" (وفي الأصل: "الإِشراق"، وهو تحريف. ذكر فؤاد سزكين "كتاب الإِشراف في اختلاف العلماء على مذاهب أهل العلم على مذاهب الأشراف" لابن المنذر. انظر: تاريخ التراث العربي 2/185) . (2) قوله: بلغنا ... إلخ، يشير إلى أن تقليدَ الصحابي واجبٌ، وقولَه حجةٌ عندنا ما لم ينفِه شيء من السُّنَّة، وقد صرح به ابن الهُمام في كتاب الجمعة من "فتح القدير"، وها هنا قد نفى قولَ ابن عمر ورودُ سُنَّة، فالعبرة بالسنة لا به. (3) فيبادرها فتقول: دع لي، دع لي، أخرجه مسلم، وفي رواية الطحاوي: ابق لي ابق لي. وفي نسخة: يتنازعان. (4) قوله: الغَسل، بفتح الغين، فهو مصدر أي: يتبادران فيه، ويجوز أن يكون بضم الغين، أي: في مائها أو استعماله. (5) في نسخة: فهذا. (6) وهو قول الجمهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 28 - (بَابُ الْوُضُوءِ بِسُؤْرِ الهِرّة) 90 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ (1) بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ (2) أنَّ امرأتَه حُمَيدةَ (3) (4) ابنةَ (5) عبيدِ بْنِ رِفَاعَةَ، أَخْبَرَتْهُ عَنْ خَالَتِهَا (6) كَبْشة (7) (8) ابْنَةِ كَعْبِ بْنِ مالك وكانت تحت ابنِ   (1) وثقه أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، وقال ابن معين: ثقة حجة، مات سنة 134 هـ، كذا في "الإسعاف". (2) زيد بن سهل الأنصاري. (3) الأنصارية الزرقية أم يحيى المدنيَّة، وثَّقها ابن حبان، كذا في "الإسعاف". (4) قوله: حُميدة، بضم الحاء المهملة وفتح الميم عند رواة الموطأ إلاَّ يحيى الليثي، فقال: بفتح الحاء وكسر الميم، نبَّه عليه أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو"، وهو تحريف.) ، قاله الزرقاني. (5) قوله: ابنة عبيد بن رفاعة، قال يحيى: بنت أبي عبيدة بن فروة، وهو غلط منه، وأما سائر رواة الموطأ، فيقولون: بنت عبيد بن رفاعة إلاَّ أن زيد بن الحباب قال فيه، عن مالك: بنت عبيد بن رافع، والصواب رفاعة بن رافع الأنصاري، قاله ابن عبد البر. (6) قوله: عن خالتها، قال ابن مندة: حميدة وخالتها كبشة لا يعرف لهما رواية إلاَّ في هذا الحديث، ومحلهما محل الجهالة، ولا يثبت هذا الخبر من وجه من الوجوه. ونقل الزيلعي، عن تقي الدين بن دقيق العيد: أنه إذا لم يُعرف لهما رواية، فلعلَّ طريق من صحَّحه أن يكون اعتمد على إخراج مالك لروايتهما مع شهرته بالتثبُّت. انتهى. وقال العيني: لا نسلم ذلك، فإن لحميدة حديثاً آخر في تشميت العاطس رواه أبو داود، ولها ثالث رواه أبو نعيم، ورورى عنها إسحاق بن عبد الله، وهو ثقة، وأما كبشة، فيقال: إنها صحابية، فإن ثبت فلا يضر الجهل بها. (7) وثَّقها ابن حبان. (8) قوله: كبشة، بفتح الكاف والشين المعجمة بينهما موحَّدة، الأنصارية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 أَبِي قَتَادَةَ (1) : أنَّ أَبَا قَتَادَةَ (2) أَمَرَهَا فسكَبَتْ (3) لَهُ وَضُوءًا (4) فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَشَرِبَتْ مِنْهُ، فَأَصْغَى (5) لَهَا الإِناءَ فَشِرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ (6) إِلَيْهِ فَقَالَ: أتعجبينَ يَا ابْنَةَ أَخِي (7) ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بنَجَسٍ (8) إنها من الطوافين (9)   قال ابن حبان: لها صحبة. وتبعه (في الأصل: "تبعها"، وهو تحريف) المستغفري، قاله الزرقاني (مثله في التقريب أيضاً 2/612، وفيه 2/595: "حميدة بنت عبيد بن رفاعة الأنصارية مقبولة". وفي تهذيب التهذيب 2/412، ذكرها ابن حبان في الثقات) . (1) قوله: ابن أبي قتادة، عبد الله بن أبي قتادة، المدني الثقة التابعي، المتوفى سنة 95 هـ. وقال ابن سعد: تزوَّجها ثابت بن أبي قتادة، فولدت له. وفي رواية ابن المبارك، عن مالك: وكانت امرأة أبي قتادة، قال ابن عبد البر: وهو وهم منه وإنما هي امرأة ابنه، قاله الزرقاني. (2) قيل: اسمه الحارث، وقيل: النعمان. وقيل: عمرو بن ربعي السلمي، شهد أحداً وما بعدها، مات سنة 94 هـ، كذا في "الإِسعاف". (3) قوله: فسكبت، قال الرافعي: يقال سكب يسكب سكباً، أي: صبَّ، فسكب سكوباً، أي: انصبَّ. (4) الماء الذي يُتوضأ به. (5) بالغين المعجمة، أي: أمال. (6) انظر المنِكر أو المتعجِّب. (7) من حيث الصحبة لأن أباها صحابي مثله، وسلمى من قبيلته. (8) قوله: بنجس، قرئ بكسر الجيم، وقال المنذري، ثم النووي ثم ابن دقيق العيد ثم ابن سيِّد الناس: بفتح الجيم من النجاسة، كذا في "زهر الربى على المجتبى". (9) قوله: من الطوافين، قال الخطابيّ: هذا يُتأوَّل على وجهين، أحدهما أنه شبَّهها بخدم البيت ومن يطوف على أهله للخدمة ومعالجة المهنة، والثاني: أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 عليكم و (1) الطوّافات (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ (3) بِأَنْ يتوضَّأَ بِفَضْلِ سُؤْر الهرة، وغيرُهُ   يكون شبَّهها بمن يطوف للحاجة والمسألة، يريد أن الأجر في مؤاساتها كالأجر في مؤاساة من يطوف للحاجة، كذا في "مرقاة الصعود". (1) قوله: والطوافات، ورد في بعض الروايات أو الطوافات بكلمة "أو". قال ابن ملك: هو للشك من الراوي، وقال ابن حجر: ليست للشك لوروده بالواو في روايات أُخَر، بل هي للتنويع، كذا في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح". (2) قوله: الطوافات، الطوافون هم بنو آدم يدخل بعضهم على بعض بالتكرار، والطوافات هي المواشي التي يكثر وجودها عند الناس مثل الغنم والبقر والإِبل، جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم الهرة من القبيلتين لكثرة طوافها واختلاطها (في الأصل: "طوافه واختلاطه"، وهو تحريف) ، كذا ذكره العيني في "البناية"، وفي الحديث من الفوائد: جواز استخدام زوجة ابنه. وإصغاء الإِناء للهرة وغيرها من الحيوانات، فإن في كل ذات كبد رطبة أجراً كما ورد به الخبر. وجواز إطلاق ما يُطلق على المحارم على امرأة الإِبن. ويُستنبط من قوله صلّى الله عليه وسلّم: "فإنها من الطوّافين"، عدم نجاسة سؤر جميع سواكن البيوت لوجود هذه العلة فيها. (3) قوله: لا بأس، لأن سؤر الهرة ليس بنجس فلا بأس بشربه والوضوء منه، وهو مذهب عباس وعلي وابن عباس وابن عمر وعائشة وأبي قتادة والحسن والحسين، واختُلف فيه عن أبي هريرة، فَرَوى عطاء عنه: أن الهر كالكلب يُغسل منه الإِناء سبعاً، وروى أبو صالح عنه: أن السِّنَّوْر من أهل البيت، كذا ذكره ابن عبد البر، وقال: لا نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم روى عنه في الهرّ أنه لا يتوضأ بسؤره إلاَّ أبا هريرة على اختلاف عنه. انتهى. قلت: قد علمت ما لم يعلمه، فقد أخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، عن يزيد بن سنان، نا أبو بكر الحنفي، نا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أنه كان لا يتوضأ بفضل الكلب والهر، وما سوى ذلك فليس به بأس. وأخرج أيضاً عن ابن أبي داود، نا الربيع بن يحيى، نا شعبة، عن واقد بن محمد، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: لا توضؤوا من سؤر الحمار ولا الكلب ولا السّنَّور. وأما التابعون ومن بعدهم فاختلفوا فيه أيضاً بعد اتفاقهم على أن سؤر الهرة ليس بنجس إلاَّ ما يُستفاد مما حكاه صاحب "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة"، عن الأَوْزاعي والثوري، أن سؤر ما لا يؤكل لحمه نجس غير الآدمي، فإنه يقتضي أن يكون سؤر الهرة نجساً عندهما. والأحاديث الواردة في ذلك تردّهما، ومن عداهما بعدما اتفقوا على الطهارة، منهم: من كره سؤر الهرة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وبه قال طاووس وابن سيرين وابن أبي ليلى ويحيى الأنصاري، حكاه عنهم العيني، وبه أخذ الطحاوي (شرح معاني الآثار: 1/12) حيث روى عن إبراهيم بن مرزوق، نا وهب بن جرير، نا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن سعيد، قال: إذا ولغ السِّنَّوْر في الإِناء، فاغسله مرتين أو ثلاثاً. ثم روى عن محمد بن خزيمة، نا حجاج، نا حماد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب في السِّنَّوْر يلغ في الإِناء، قال أحدهما: يغسله مرة، وقال الآخر: يغسله مرتين. ثم روى عن سليمان بن سعيد، نا الخصيب بن ناصح (في الأصل: "الحصب بن نافع"، وهو تحريف. وفي "تهذيب التهذيب" 3/143: الخصيب بن ناصح الحارثي البصري ت 208) ، نا هشام، عن قتادة، قال: كان سعيد بن المسيب والحسن يقولان: اغسل الإِناء ثلاثاً ثلاثاً، يعني من سؤر الهرة. ثم روى عن روح العطار، نا سعيد بن كثير بن عفير، حدَّثني يحيى أنه سأل يحيى بن سعيد عمّا لا يُتوضأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   بفضله من الدوابّ، فقال: الكلب والخنزير والهرة، ثم قال بعد ما ذكر دليلاً عقلياً على الكراهة: فبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة. انتهى. ومنهم من طهر من غير كراهة وهو قول مالك وغيره من أهل المدينة، والليث وغيره من أهل مصر، والأَوْزاعي وغيره من أهل الشام، والثوري ومن وافقه من أهل العراق، والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد، وعلقمة وعكرمة وإبراهيم وعطاء بن يسار، والحسن في ما روى عنه الأشعث، والثوري في ما روى عنه أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي، كذا ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 أحبُّ (1) إلينا منه،   ابن عبد البر، وبه قال أبو يوسف، حكاه العيني والطحاوي وهو رواية عن محمد، ذكره الزاهدي في "شرح مختصر القدوري" والطحاوي. (1) قوله: أحب، ظاهر كلامه أن الكراهة في سؤر الهرة تنزيهية، وهو ظاهر كلامه في "كتاب الآثار"، حيث روى عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم في السِّنَّوْر يشرب في الإِناء، قال: هي من أهل البيت، لا بأس بشرب فضلها، فسألته أيُتطهَّر بفضلها للصلاة؟ فقال: إن الله قد رخَّص الماء. ولم يأمره ولم ينهه، ثم قال: قال أبو حنيفة: غيره أحبُّ إليَّ منه، وإن توضأ به أجزاه وإن شربه فلا بأس به، وبقول أبي حنيفة نأخذ. انتهى. وبه صرَّح جمع من أصحابنا، فقال الزاهدي في "المجتبى": الأصح أن كراهة سؤره عندهما كراهة تنزيه، وقال أبو يوسف لا يكره، وعن محمد مثله. انتهى. وقال يوسف بن عمر الصوفي في "جامع المضمَرات"، نقلاً عن الخلاصة: سؤر حشرات البيت كالحية والفأرة والسِّنَّوْر مكروه كراهة تنزيه، وهو الأصح. انتهى. وفي "البناية": اختلفوا في تعليل الكراهة، فقال الطحاوي: كون كراهة سؤر الهرة لأجل أن لحمها حرام، لأنها عُدَّتْ من السباع وهو أقرب إلى التحريم، وقال الكرخي: لأجل عدم تجانبها النجاسة، وهو يدل على أن سؤرها مكروه كراهة تنزيه، وهو الأصح والأقرب إلى موافقة الحديث. انتهى ملخَّصاً. قلت: لقد صدق في قوله إنه أقرب إلى موافقة الحديث، وأشار به إلى أن القول بعدم الكراهة أوفق بالأحاديث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   منها حديث أبي قتادة الذي أخرجه مالك، ومن طريقه أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وأبو داود ولفظه: أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءاً فجاءت هرة، فشربت منه، فأصغى لها الإِناء ... الحديث. وابن ماجه ولفظ، عن كبشة، وكانت تحت بعض ولد أبي قتادة: أنها صبَّت لأبي قتادة ماء يتوضأ به، فجاءت هرة تشرب فأصغى لها الإِناء، فجعلت أنظر إليه، فقال: يا ابنة أخي، أتعجبين؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنها ليست بنجس هي من الطوافين أو الطوافات". والنسائي والدارمي في سننه، وابن حبان في النوع السادس والستين من القسم الثالث من صحيحه، والحاكم والدارقطني والبيهقي والشافعي وأبو يعلى وابن خزيمة وابن منده في صحيحهما. ومنها ما أخرجه أبو داود من طريق داود بن صالح بن دينار التمار، عن أمه أن مولاتها أرسلتها بهريسة إلى عائشة، فوجدتها تصلّي، فأشارت إلى أنْ ضَعيها، فجاءت هرة فأكلت منها، فلما انصرفت أكلت من حيث أكلت الهرة وقالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم"، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ بفضلها، وأخرجه الدارقطني وقال: تفرَّد به عبد الرحمن الدراوردي، عن داود بن صالح بهذه الألفاظ. ومنها ما أخرجه الدارقطني من حديث حارثة، وقال: إنه لا بأس به، عن عَمْرة، عن عائشة، قالت: كنت أتوضأ أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إناء واحد، وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك. وكذلك أخرجه ابن ماجه، وأخرجه الخطيب من وجه آخر وفيه سلمة بن المغيرة ضعيف، قاله ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي، وأخرجه الطحاوي، عن عمرة، عن عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الإِناء الواحد وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك. ومنها ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، عن عائشة، قالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "إنها ليست بنجس، إنها كبعض أهل البيت". أخرجه عن سليمان بن مشافع بن شيبة الحجبي، قال: سمعت منصور بن صفية بنت شيبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   يحدّث عن أمه صفية، عن عائشة. ورواه الحاكم في "المستدرك" وقال: على شرط الشيخين، ورواه الدارقطني بلفظ: كبعض متاع البيت. ومنها ما أخرجه الطحاوي، عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يُصغي الإِناء للهرّ ويتوضأ بفضلها. وفي إسناده صالح بن حسان البصري المديني متروك، قاله العيني. وأخرجه الدارقطني، عن يعقوب بن إبراهيم، عن عبد ربه بن سعيد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تمرّ به الهرة فيصغي لها الإناء، فتشرب ثم يتوضأ بفضلها، وضعَّف عبد ربه. وعن محمد بن عمر الواقدي، نا عبد الحميد بن عمران بن أبي أنس، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصغي للهرة الإِناء حتى تشرب منه ثم يتوضأ بفضلها. قال ابن الهُمام في "فتح القدير": ضعَّفه الدارقطني بالواقدي، وقال ابن دقيق العيد في "الإِمام": جمع شيخنا أبو الفتح (هو ابن سيِّد الناس في كتابه "عيون الأثر" 1/17 - 21، وقال الإِمام ابن الهمام في "فتح القدير" 5/49: الواقدي عندنا حسن الحديث. ولكن انتقد عليه المحدثون. "المغني" 2/619) ابن سيِّد الناس في أول كتابه "المغازي والسِّيَر" من ضعَّفه ومن وثَّقه، ورجَّح توثيقه، وذكر الأجوبة عما قيل فيه. انتهى. ومنها ما أخرجه ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" من طريق محمد بن إسحاق، عن صالح، عن جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي الإناء للسنّور يلغ فيه ثم يتوضأ من فضله ومنها ما أخرجه الطبراني في (معجمه الصغير) نا عبد الله بن محمد بن الحسن الأصبهاني نا جعفر بن عنبسة الكوفي، نا عمرو بن حفص المكي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، علي بن الحسين، عن أنس: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أرضٍ بالمدينة يقال لها بطحان، فقال: "يا أنس، اسكب لي وضوءاً" فسكبت له، فلما أقبل أتى الإِناءَ وقد أتى هرّ فولغ في الإِناء، فوقف له وقفة حتى شرب الهر، ثم سألته، فقال: "يا أنس، إن الهر من متاع البيت لن يقذر شيئاً ولن ينجسه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وهو قولُ أبي حنيفة (1) رحمه الله. 29 - (باب الأَذَانِ وَالتَّثْوِيبِ (2)) 91 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابنُ شِهَابٍ، عَنْ عطاءِ (3) بنِ يزيدَ الليثيِّ، عَنْ أَبِي سعيد (4) الخُدْري (5)   (1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال ابن نصر (في الأصل: "أبو نصر المروزي"، وهو تحريف. وفي "سير أعلام النبلاء": 14/33: محمد بن نصر الحجاج المَرْوزي، أبو عبد الله، ت 294 هـ) المروزي: خالفه أصحابه فقالوا: لا بأس به. انتهى. قال ابن عبد البر: ليس كذلك وإنما خالفه من أصحابه أبو يوسف، وأما محمد وزفر والحسن بن زياد وغيرهم، فإنهم يقولون بقول أبي حنيفة، ويحتجّون لذلك بما يروون عن أبي هريرة، وابن عمر، أنهما كرها الوضوء بسؤر الهر، وهو قول ابن أبي ليلى، ولا أعلم لمن كره سؤر السِّنَّوْر حجة أحسن من أنه لم يبلغه حديث قتادة، أو لم يصح عنده. انتهى ملخَّصاً. قلت: الكراهة التنزيهية، بسبب غلبة اختلاطها النجاسة لا تُنافي حديث أبي قتادة وغيره، نعم يشكل الأمر على من اختار كراهة التحريم، وأما كراهة التنزيه فأمر سهل. (2) هو الإِعلام بعد الإِعلام. (3) قوله: عطاء، المدني من ثقات التابعين ورجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة، واسم أبيه يزيد، كذا في "الإِسعاف" و"التقريب"، وفي بعض النسخ: زيد. (4) سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، شهد ما بعد أُحُد، ومات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين، وقيل أربع وسبعين، كذا في "جامع الأصول". (5) قوله: الخُدْري، بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة، نسبة إلى خدرة وهو الأَبْجَر بفتح الألف وسكون الباء الموحَّدة وفتح الجيم ثم راء مهملة. ابن عوف بن الحارث بن الخزرج، وبنو خدرة قبيلة من الأنصار الخزرجيين منسوبة إلى خدرة، ومنهم أبو سعيد الخدري، كذا في "أنساب" السمعاني، و"جامع الأصول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتُمُ (1) النِّداءَ (2) فقولوا (3) مثلَ (4)   (1) قوله: إذا سمعتم، ظاهره أنه لو لم يسمع لصممٍ أو بُعْدٍ لا إجابة عليه، وبه صَرَّح النوويّ في "شرح المهذَّب". (2) أي: الأذان، سُمِّي به لأنه نداء ودعاء إلى الصلاة. (3) قوله: فقولوا، استُدلَّ به على وجوب إجابة المؤذن، حكاه الطحاوي، عن قوم من السلف، وبه قال الحنفية والظاهرية وابن وهب، واستدل الجمهور بحديث مسلم وغيره: أنه صلّى الله عليه وسلّم سمع مؤذناً فلمّاً كَبَّر قال: على الفطرة، فلما تشهَّد قال: خرج من النار. فلما قال صلّى الله عليه وسلّم غيرَ ما قال المؤذن عُلم أن الأمر للاستحباب. وتُعُقِّب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال، فيجوز أنه قاله ولم ينقُلْه الراوي اكتفاءً بالعادة، قاله الزرقاني. (4) قوله: مثل ما يقول، ظاهره أنه يقول مثله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر وحديث معاوية في البخاري وغيره دلَّ على أنه يُستثنى من ذلك (حَيَّ على الصلاة حَيَّ على الفلاح) ، فيقول بدلهما: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، وهو المشهور عند الجمهور، وقال ابن الهمام في "فتح القدير": الحوقلة في الحيعلتين وإن خالفت ظاهر قوله: فقولوا مثل ما يقول المؤذن، لكنه ورد فيه حديث مفسّر كذلك عن عمر، رواه مسلم. فحملوا ذلك العامَّ على ما سوى هاتين الكلمتين، وهو غير جارٍ على قاعدتنا، لأن عندنا المخصص الأول ما لم يكن متصلاً به لا يخصص بل يعارض فيجري فيه حكم المعارضة، أو يقدَّم العامّ، والحق هو الأول. انتهى. ثم قال: قد رأينا من مشائخ السلوك من يجمع بينهما ليعمل بالحديثين. انتهى. قلت: الجمع حسن عملاً بالحديثين. وذكر بعض أصحابنا مكان حيّ على الفلاح (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) ، ذكره في "المحيط" وغيره، لكن لا أصل له في الأحاديث، ولا أعلم من أين اخترعوه، وقد نبَّه على ذلك المحدث عبد الحق الدهلوي في "شرح سفر السعادة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 مَا يَقُولُ المؤذِّنُ (1) . قَالَ مَالِكٌ، بَلَغَنا (2) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَهُ   (1) قوله: المؤذن، ادَّعى ابن وضّاح أن هذا مدرج وأن الحديث انتهى بقوله: ما يقول. وتُعُقِّب بأن الإِدراج لا يثبت بمجرَّد الدعوى، كذا في "شرح الزرقاني". (2) قوله: بلغنا، قال ابن عبد البر: لا أعلم أنه رُوي من وجه يُحتج به وتُعلم صحَّتُه، وإنما فيه حديث هشام بن عروة، عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه، ذكر ابن أبي شيبة: نا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن رجل يقال له إسماعيل، قال: جاء المؤذِّن يؤذن عمر لصلاة الصبح، فقال: الصلاة خير من النوم، فأعجب به عمر، وقال للمؤذِّن: أقرها في أذانك. انتهى. وردَّه الزرقاني بأنه قد أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنَّفه، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، وأخرج أيضاً، عن سفيان عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، أنه قال لمؤذِّنه: إذا بلغتَ حيّ على الفلاح في الفجر، فقل: الصلاة خير من النوم. انتهى. قلت: وها هنا أخبار وآثار أُخَر تدل على صحة ما أمر به عمر من تقرير هذه الزيادة في الأذان، فذكر ابن أبي شيبة: نا أبو خالد الأحمر، عن حجّاج، عن عطاء، كان أبو محذورة يؤذّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وكان يقول في أذانه: الصلاة خير من النوم. قال: ونا حفص بن غياث عن طلحة، عن سويد، عن بلال، وعن حجّاج، عن عطاء، عن أبي محذورة: أنهما كانا يثوِّبان في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم. قال: ونا وكيع، عن سفيان، عن عمران بن مسلم، عن سويد: أنه أَرسل إلى مؤذِّنه إذا بلغتَ حَيّ على الفلاح فقل: الصلاة خير من النوم، فإنه أذان بلال. وذكر ابن المبارك وعبد الرزاق في مصنَّفه، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن بلالاً أذن ذات ليلة ثم جاء يؤذن للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فنادى الصلاة خير من النوم، فأُقرَّت في صلاة الصبح. وفي "شرح معاني الآثار" للطحاوي: كره قوم أن يقال في أذان الصبح الصلاة خير من النوم، واحتجّوا بحديث عبد الله بن زيد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الأذان الذي أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتعليمه بلالاً، وخالفهم في ذلك آخرون، فاستحبّوا أن يقال ذلك في التأذين، وكان من الحجة لهم أنه وإن لم يكن في تأذين عبد الله فقد علَّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا محذورة بعد ذلك، وأمره أن يجعله في أذان الصبح: نا علي بن معبد، نا روح بن عبادة، نا ابن جريج، أخبرني عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبي محذورة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علَّمه في الأذان الأول من الصبح الصلاة خير من النوم. نا علي، نا الهيثم بن خالد، نا أبو بكرة بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، سمعت أبا محذورة قال: كنت غلاماً صبيّاً فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. قال أبو جعفر: فلما علَّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا محذورة ذلك كان ذلك زيادة على ما في حديث عبد الله بن زيد ووجب استعمالها، وقد استعمل ذلك أصحابه من بعده. نا ابن شيبة، نا أبو نعيم، نا سفيان، عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان في الأذان الأول بعد حَيّ على الفلاح الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. نا علي بن شيبة، نا يحيى بن يحيى، نا هيثم، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أنس، قال: كان التثويب في صلاة الغداة إذا قال المؤذن حَيّ على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم. فهذا ابن عمر وأنس يخبران أن ذلك مما كان المؤذِّن يؤذِّن به في أذان الصبح، فثبت بذلك ما ذكرناه. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. انتهى كلامه. وفي سنن النسائي، عن أبي محذورة: كنت أؤذِّن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكنت أقول في أذان الفجر: حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلاَّ الله. وفي "معجم الطبراني"، عن بلال أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً يؤذنه لصلاة الصبح فوجده راقداً، فقال: الصلاة خير من النوم مرتين، فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أحسن هذا يا بلال، اجعله في أذانك. وروى ابن خزيمة والبيهقي، عن ابن سيرين، قال: من السنَّة أن يقول المؤذِّن في أذان الفجر حي على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 المؤذِّن يُؤْذِنُهُ (1) لصلاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ المؤذِّنُ (2) : الصَّلاةُ خيرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَأَمَرَهُ عُمَرُ أن يجعلها في نداء الصبح.   (قلت: إسناده صحيح. رواه الدارقطني 1/243) . (1) أي يخبره من الإِيذان أو من التأذين. (2) قوله: فقال المؤذّن ... إلخ، يُستنبط من هذا الأثر أمور: أحدها: جواز التثويب وهو الإِعلام بعد الإِعلام لأمراء المؤمنين وبه قال أبو يوسف، واستبعده محمد، لأن الناس سواسية في أمر الجماعة، ويُدفع استبعاده بما رُوي في الصحاح أن بلالاً كان يؤذن الفجر ثم يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على باب الحجرة، فيؤذنه بصلاة الصبح، وكذا في غير صلاة الفجر. لكن قد يُخدش ذلك بما أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن مجاهد، أن أبا محذورة قال: الصلاة الصلاة، فقال عمر: ويحك أمجنون أنت؟ أما كان في دعائك الذي دعَوتنا ما نأتيك؟ وقد حقَّقت الأمر في هذه المسألة في رسالتي "التحقيق العجيب في التثويب". وثانيها: جواز النوم بعد طلوع الصبح أحياناً. وثالثها: كون الصلاة خير من النوم في نداء الصبح. ورابعها: كون ذلك بأمر عمر. وقد يُستشكل هذا بأن دخوله في نداء الصبح كان بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبلال، وكان ذلك شائعاً في أذان بلال وأذان أبي محذورة وغيرهما من المؤذنين في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما هو مخرَّج في سنن ابن ماجه وجامع الترمذي وأبي داود ومعجم الطبراني ومعاني الآثار وغيرهما، وقد فصَّلته في رسالتي المذكورة، فما معنى جعله في نداء الصبح بأمر عمر؟ وأُجيب عنه بوجوه: أحدها: أنه من ضروب الموافقة ذكره الطيبي في "حواشي المشكاة: وردَّه عليّ القاريّ بأن هذا كان في زمان خلافة عمر، ويبعد عدم وصوله إليه سابقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 92 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يكبِّر فِي النِّدَاءِ (1) ثَلاثًا (2) ويتشهَّدُ ثَلاثًا، وَكَانَ أَحْيَانًا (3) إِذَا قَالَ حيَّ على الفلاح قال على إِثْرِها (4)   وثانيها: أنه لعله بلغه ثم نسيه فأمره، وفيه بُعد أيضاً. وثالثها: أن معنى أمره أن يجعلها في نداء الصبح أن يبقيها فيه ولا يجاوزها إلى غيره. قال ابن عبد البر: المعنى فيه عندي والله أعلم أنه قال: اجعل هذا في الصبح لا ها هنا، كأنه كره أن يكون نداء الفجر عند باب الأمير كما أحدثه الأمراء، وإنما حملني على هذا التأويل، وإن كان الظاهر من الخبر خلافه، لأن قول المؤذن الصلاة خير من النوم أشهر عند العلماء والعامة من أن يُظَنّ بعمر أنه جهل ما سنَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر به مؤذِّنَه بالمدينة بلالاً وبمكة أبا محذورة. (1) أي: الأذان. (2) قوله: ثلاثاً، اختلفت الروايات في عدد التكبير والتشهّد، ففي بعضها ورد التكبير في ابتداء الأذان أربع مرات، وفي بعضها مرتين، والأول هو المشهور في بَدْء الأذان وأذان بلال وغيره، وبه قال الجمهور والشافعي وأحمد وأبو حنيفة، ومالك اختار الثاني. وأما الشهادتان، فورد في المشاهير أن كلاًّ منهما مرتين مرتين، وبه أخذ أبو حنيفة ومن وافقه، وورد في أذان أبي محذورة الترجيع وهو أن يخفض صوته بهما ثم يرفع، وبه أخذ الشافعي ومن وافقه، وأما فعل ابن عمر من تثليث التشهّد والتكبير فلم أَطَّلع له في المرفوع أصلاً، ولعله لبيان الجواز. (3) فيه إشارة إلى أنه ليس بسنَّة بل هو لبيان الجواز. (4) بكسر الهمزة، أي: على عقبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 حَيَّ على خير العمل (1) .   (1) قوله: حي على خير العمل، أخرجه البيهقي كذلك عن عبد الوهاب بن عطاء، عن مالك، عن نافع، وعن الليث بن سعد، عن ابن عمر: أنه كان إذا قال حي على الفلاح قال على إثرها: حي على خير العمل، قال البيهقي: لم يثبت هذا اللفظ، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ما علَّم بلالاً ولا أبا محذورة، ونحن نكره الزيادة فيه. وروى البيهقي أيضاً، عن عبد الله بن محمد بن عمار وعمر ابني سعد بن عمر بن سعد، عن آبائهم، عن أجدادهم، عن بلال: أنه كان ينادي بالصبح، فيقول: حيّ على خير العمل، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم، وترك حي على خير العمل. قال ابن دقيق العيد: رجاله مجهولون يُحتاج إلى كشف أحوالهم، كذا في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي. وقال النووي في "شرح المهذب": يُكره أن يُقال في الأذان: حيَّ على خير العمل، لأنه لم يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والزيادة في الأذان مكروهة عندنا. انتهى. وفي "منهاج السنَّة" لأحمد بن عبد الحليم الشهير بابن تيمية: هم أي الروافض زادوا في الأذان شعاراً لم يكن يُعرف على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي حي على خير العمل، وغاية ما يُنقل إنْ صح النقلُ أن بعض الصحابة كابن عمر كان يقول ذلك أحياناً على سبيل التوكيد كما كان بعضهم يقول بين النداءين: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهذا يُسمَّى نداء الأمراء، وبعضهم يسمّيه التثويب، ورخَّص فيه بعضهم وكرهه أكثر العلماء، ورووا عن عمر وابنه وغيرهما كراهة ذلك، ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان الذين كان يؤذِّنه بلال وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وأبو محذورة بمكة، وسعد القرظي في قباء لم يكن في آذانهم هذا الشعار الرافضي، ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يُهملوه، كما نقلوا ما هو أيسر منه، فلمّا لم يكن في الذين نقلوا الأذان من ذكر هذه الزيادة علم أنها بدعة باطله وهؤلاء الأربعة كانوا يؤذِّنون بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنه تعلَّموا الأذان، وكانوا يؤذِّنون في أفضل المساجد مسجد مكة والمدينة ومسجد قباء، وأذانهم متواتر عند العامة والخاصة. انتهى كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قَالَ مُحَمَّدٌ: الصلاةُ خيرٌ مِنَ النَّوْمِ يَكْوُنُ ذَلِكَ فِي نِدَاءِ الصبح بعد الفراغ (1) من النداء،   (1) قوله: بعد الفراغ من النداء، فيه أنه قد ثبت هذه الزيادة في الأذان بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتعارف ذلك المؤذِّنون من غير نكير، ففي حديث أبي محذورة في قصة تعليم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأذان له، قال فيه: إذا كنتَ في أذان الصبح، فقلت: حَيَّ على الفلاح، فقل: الصلاة خير من النوم مرتين. أخرجه أبو داود وابن حبان مطوَّلاً، وفي سنده محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة، وهو غير معروف الحال، والحارث بن عبيد، وفيه مقال. وقال بقي بن مخلد: نا يحيى بن عبد الحميد، نا أبو بكر بن عياش، ثني عبد العزيز بن رفيع، سمعت أبا محذورة يقول: كنت غلاماً صبيّاً أذَّنت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفجر يوم حنين، فلما انتهيتُ إلى حي على الفلاح قال: ألحِقْ فيها الصلاة خير من النوم. ورواه النسائي من وجه آخر، وصحَّحه ابن حزم. وروى الترمذي وابن ماجه وأحمد من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "لا تثوبنَّ في شيءٍ من الصلاة إلاَّ صلاة الفجر". وفي سنده الملائي وهو ضعيف مع الانقطاع بين عبد الرحمن وبلال. ورواه الدارقطني من طريق آخر، عن عبد الرحمن، وفيه أبو سعد البقال (في نسخة: "أبو سعيد البقال"، وهو تحريف. وهو سعيد بن المرزبان العبسي أبو سعد، البقال الكوفي ت 140 هـ. انظر: "تهذيب التهذيب" 4/79) وهو ضعيف. وروى ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي، عن أنس، قال: من السنَّة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حيَّ على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم. وصحَّحه ابن السكن ولفظه: كان التثويب في صلاة الغداة إذا قال المؤذِّن: حي على الفلاح. وروى ابن ماجه من حديث ابن المسيِّب، عن بلال، قال: أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤذنه لصلاة الفجر، فقيل هو نائم، فقال: الصلاة خير من النوم مرتين، فأُقِرَّتْ في تأذين الفجر، فثبت الأمر على ذلك. وفيه انقطاع مع ثقة رجاله. وذكره ابن السكن من طريق آخر، عن بلال، وهو في معجم الطبراني من طريق الأزدي، عن حفص بن عمر، عن بلال، وهو منقطع أيضاً. ورواه البيهقي في "المعرفة" من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وَلا يَجِبُ (1) أَنْ يُزاد فِي النِّدَاءِ مَا لم يكن منه (2) .   هذا الطريق، فقال: عن الزهري، عن حفص بن عمر بن سعد المؤذن: أن سعداً كان يؤذن، قال حفص: فحدَّثني أهلي أن بلالاً فذكره. وروى ابن ماجه، عن سالم، عن أبيه، قصة اهتمامهم بما يجمعون به الناس قبل أن يشرع الأذان، وفي آخره زاد بلال في نداء صلاة الغداة الصلاة خير من النوم، فأقرَّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وإسناده ضعيف جداً. وروى السَّرَّاج والطبراني والبيهقي من حديث ابن عجلان، عن نافع عن ابن عمر، قال: كان الأذان الأول بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين، وسنده حسن. هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في "تخريج أحاديث شرح الرافعي" (1/201) . وفي الباب أخبار وآثار أُخَر قد مر نبذٌ منها، فيثبت بضم بعضها ببعض - وإن كان طرق بعضها ضعيفة - كون هذه الزيادة في أذان الصبح لا بعده هو مذهب الكافَّة. (1) قوله: ولا يجب، هكذا بالجيم في الأصل، والمعنى لا ينبغي، والظاهر أنه تصحيف "لا يحب" أي: لا يستحسن، كذا قال القاري. (2) قوله: ما لم يكن منه، يشير إلى حديث "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وكأنه أشار إلى أن الصلاة خير من النوم ليس من الأذان، أو إلى أنَّ حيَّ على خير العمل ليس من الأذان، أي: من الأذان المعروف بين مؤذِّني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المأثور عنه، فإن كان المراد هو الأول كما يقتضيه ضم جملة ولا يجب ... إلخ، بقوله: يكون في نداء الصبح بعد الفراغ من النداء، فقد عرفتَ ما فيه من أن زيادة الصلاة خير من النوم وإن لم تكن في حديث بَدْء الأذان لكنها ثبت الأمر بها بعد ذلك، فليست زيادته زيادة ما ليس منه. وإن كان المراد هو الثاني وهو الأَوْلى بأن يجعل قوله ولا يجب إلى آخره بياناً لعدم زيادة حي على خير العمل فيخدشه ما أخرجه الحافظ أبو الشيخ بن حَيّان (في الأصل: "ابن حبان"، وفي "سير أعلام النبلاء" 16/267، و"طبقات الحفاظ" ص 381: "ابن حيّان"، هو أبو محمد عبد الله بن جعفر بن حيان الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ ت 369 هـ) في كتاب "الأذان"، عن سعد القَرَظ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 30 - (بَابُ الْمَشْيِ إِلَى الصَّلاةِ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ) 93 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَلاءُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1) بنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ (2) ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: إذ ثُوِّبَ بالصلاةِ (3)   قال: كان بلال ينادي بالصبح فيقول: حي على خير العمل، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم، وترك حي على خير العمل. ذكره الشيخ عبد الحق الدهلوي في "فتح المنان"، وقد مرَّ من رواية البيهقي، مثله، وذكر نور الدين علي الحلبي في كتابه "إنسان العيون في سيرة النبي المأمون" نقل عن ابن عمر، وعن علي بن الحسين أنهما كانا يقولان في أذانهما بعد حيّ على الفلاح حي على خير العمل. انتهى. فإن هذه الأخبار تدل على أن لهذه الزيادة أصلاً في الشرع فلم تكن مما ليس منه، ويمكن أن يُقال: إن رواية البيهقي وأبي الشيخ قد تُكُلِّم في طريقهما، فإن كانت ثابتةً دلَّت على هجران هذه الزيادة وإقامة الصلاة خير من النوم مقامه، فصارت بعد تلك الإِقامة مما ليس منه، وأما فعل ابن عمر وغيره فلم يكن دائماً بل أحياناً لبيان الجواز، ولو ثبت عن واحدٍ منهما دوامُه أو عن غيرهما، فالأذان المعروف عن مؤذِّني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثابت بتعليمه الخالي عن هذه الزيادة يُقدَّم عليه، فافهم فإن المقام حقيق بالتأمل. (1) هو تابعي كابنه. (2) هو عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني، قال النسائي: ليس به بأس. وابنه العلاء أبو شِبْل - بالكسر - المدني صدوق، كذا في "الإِسعاف" و"التقريب". (3) قوله: إذا ثُوِّب، أي: أقيم، وأصل ثاب رجع، يقال: ثاب إلى المريض جسمه، فكأن المؤذِّن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة، وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: "إذا أقيمت الصلاة"، وهو يبيِّن أن التثويب ها هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فَلا تأتُوها تسعَوْن (1) وأْتُوها وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ (2) ، فَمَا أدركتُمْ (3) فصلُّوا وما فاتَكُم (4)   الإِقامة، وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة، وفي رواية لهما أيضاً: "إذا سمعتم الإِقامة". وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضاً: "إذا أتيتم الصلاة". (1) قوله: تسعَوْن، السعي ها هنا المشي على الأقدام بسرعة والاشتداد فيه، وهو مشهور في اللغة، ومنه السعي بين الصفا والمروة، وقد يكون السعي في كلام العرب العمل بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرةَ وَسَعى لَهَا سَعْيَهَا} ، وقوله تعالى: {إِنَّ سعيَكم لشتى} ونحو هذا كثير، قاله ابن عبد البر. (2) بالرفع على أنها جملة في موضع الحال، وضبطه القرطبي بالنصب على الإِغراء. (3) قوله: فما أدركتم فصلوا، جواب شرط محذوف، أي: إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم ... إلخ. (4) قوله: وما فاتكم فأتمّوا، قال الحازمي في كتاب "الناسخ والمنسوخ": أخبرنا محمد بن عمر بن أحمد الحافظ، أنا الحسن بن أحمد القاري، أنا أبو نعيم، نا سليمان بن أحمد، نا أبو زرعة، نا يحيى بن صالح، نا فليح، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: كنا نأتي الصلاة، أو يجيء رجل وقد سُبق بشيء من الصلاة أشار إليه الذي يليه: قد سُبقت بكذا وكذا، فيقضي، قال: فكنا بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فجئتُ يوماً وقد سُبقت ببعض الصلاة وأُشير إليَّ بالذي سُبقت به، فقلت: لا أجده على حال إلاَّ كنت عليها، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قمت وصلَّيت، فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الناس وقال: من القائل كذا وكذا، قالوا: معاذ بن جبل، فقال: "قد سنَّ لكم معاذ فاقتدوا به، إذا جاء أحدكم وقد سُبق بشيء من الصلاة فليصل مع الإِمام بصلاته، فإذا فرغ الإِمام فليقضِ ما سبقه به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 فَأَتِمُّوا (1) ، فإنَّ أحدَكم فِي صَلاةٍ مَا كَانَ (2) يَعْمِدُ (3) إلى الصلاة.   قال الشافعي: إذا سبق الإِمام الرجل الركعة فجاء الرجل فركع تلك الركعة لنفسه ثم دخل مع الإِمام في صلاته حتى يكملها فصلاته فاسدة وعليه أن يعيد الصلاة، ولا يجوز أن يبتدئ الصلاة لنفسه ثم يأتم بغيره، وهذا منسوخ قد كان المسلمون يصنعونه حتى جاء عبد الله بن مسعود أو معاذ بن جبل، وقد سبقه النبي صلّى الله عليه وسلّم بشيء من الصلاة، فدخل معه ثم قام يقضي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إن ابن مسعود - أو معاذاً - سنَّ لكم فاتبعوها". (1) قوله: فأتمّوا، فيه دليل على أن ما أدركه فهو أول صلاته، وقد ذكر في "التمهيد" من قال في هذا الحديث "فاقضوا". وهذان اللفظان تأوَّلهما العلماء في ما يدركه المصلّى من صلاته مع الإِمام هل هو أول صلاته أو آخرها؟ ولذلك اختلفت أقوالهم فيها (أوجز المسالك 2/12) ، فأما مالك، فاختلفت الرواية عنه، فروى سحنون، عن جماعة من أصحاب مالك، عنه أن ما أدراك فهو أول صلاته ويقضي ما فاته، وهذا هو المشهور من مذهبه، وهو قول الأَوْزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل، وداود والطبري، وروى أشهب، عن مالك، أن ما أدرك فهو آخر صلاته، وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن حَيّ، وذكر الطحاوي، عن محمد عن أبي حنيفة أن الذي يقضى هو أول صلاته ولم يحكِ خلافاً. وأما السلف فرُوي عن عمر وعليّ وأبي الدرداء: ما أدركتَ فاجعله آخر صلاتك، وليست الأسانيد عنهم بالقوية، وعن ابن عمر ومجاهد وابن سيرين مثل ذلك، وصحَّ عن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأَوْزاعي وسعيد بن عبد العزيز ما أدركت فاجعله أول صلاتك، واحتجَّ القائلون بأن ما أُدرك فهو أول صلاته بقوله صلّى الله عليه وسلّم: "ما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا"، قالوا: والتمام هو الآخر، واحتجَّ الآخرون بقوله: "وما فاتكم فاقضوا"، فالذي يقضيه هو الفائت، كذا في "الاستذكار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 قَالَ مُحَمَّدٌ: لا تَعْجَلَنَّ (1) بركوعٍ وَلا افتتاحٍ حَتَّى تَصِلَ (2) إِلَى الصَّفِّ وتقومَ فِيهِ، وَهُوَ قولُ أبي حنيفة رحمه الله.   (2) قوله: ما كان يعمد إلى الصلاة، يدل على أن الماشي إلى الصلاة كالمنتظر لها وهما من الفضل سواء بالمصلّي إن شاء الله تعالى على ظاهر الآثار، وهذا يسير في فضل الله ورحمته لعباده، كما أنه من غلبه نوم عن صلاةٍ كانت عادة له، كُتب له أجر صلاة، وكان نومه عليه صدقة، كذا قال ابن عبد البر. (3) بكسر الميم، أي: يقصد. (1) أيها المصلّي. (2) قوله: حتى تصل إلى الصف وتقوم فيه، استُنبط من النهي عن الإِتيان ساعياً وكون عامِدِ الصلاة في الصلاة من حيث الثواب، وذلك لأن العَجَلة في الاشتراك قبل الوصول إلى الصف يفوِّت كثرة الخطا، وامتداد زمان العمد إلى الصلاة مع لزوم قيامه خلف صف مع غير إتمامه، وقد ورد فيه نص صريح هو ما أخرجه البخاري وغيره، عن أبي بكرة أنه دخل المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم راكع، فركع دون الصف، ثم دبَّ حتى انتهى إلى الصف، فلمّا سَلَّم قال: "إني سمعت نَفَساً عالياً فأيُّكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف، فقال أبو بكرة: أنا يا رسول الله، خشيت أن تفوتني الركعة فركعت دون الصف ثم لحقت بالصف، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "زادك الله حرصاً ولا تعد". قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية": إرشاد إلى المستقبل بما هو أفضل منه، ولو لم يكن مجزئاً لأمره بالإِعادة، والنهي إنما وقع عن السرعة والعجلة إلى الصلاة، كأنه أَحَبَّ له أن يدخل الصف ولو فاتته الركعة، ولا يعمل بالركوع دون الصف، يدل عليه ما رواه البخاري في كتابه المفرد في "القراءة خلف الإِمام": ولا تعد، صلِّ ما أدركتَ واقضِ ما سبقتَ. فهذه الزيادة دلَّتْ على ذلك، ويقوّيها حديث: وعليكم السكينة فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فاقضوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 94 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ الإِقامة وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فأَسْرَعَ الْمَشْيَ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا (2) لا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يُجْهِدْ نفسَه (3) .   (1) قوله: فأسرع المشي، وروُي عنه أنه كان يهرول إلى الصلاة، وعن ابن مسعود أنه قال: لو قرأت: {فَاسْعَوْا إلى ذِكرِ اللَّهِ} لسَعَيْتُ حتى يسقط ردائي، وكان يقرأ: {فَامْضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} ، وهي قراءة عمر أيضاً. وعن ابن مسعود أيضاً: أحق ما سَعَيْنا إليه الصلاة. وعن الأسود بن يزيد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن يزيد، أنهم كانوا يهرولون إلى الصلاة. فهؤلاء كلهم ذهبوا إلى أنَّ من خاف فوت الوقت سعى، ومن لم يخف مشى على هيأة، وقد رُوي عن ابن مسعود خلاف ذلك، أنه قال: إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتمّوا، وروى عنه أبو الأحوص، أنه قال: لقد رأيتُنا وإنا لنقارب بين الخطا. وروى ثابت، عن أنس، قال: خرجت مع زيد بن ثابت، إلى المسجد، فأسرعت المشي فحبسني. وعن أبي ذرّ، قال: إذا أقيمت الصلاة فامشِ إليها كما كنت تمشي فصلِّ ما أدركت واقضِ ما سبقك. وهذه الآثار كلها مذكورة بطرقها في "التمهيد" وقد اختلف السلف في هذا الباب كما ترى، وعلى القول بظاهر حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الباب جمهور العلماء وجماعة الفقهاء، كذا في "الاستذكار". (2) أي الإِسراع. (3) قوله: ما لم يُجهد نفسه، أي: لا يكلف نفسه ولا يحمل عليه مشقة، ويشير بقوله لا بأس به إلى الجواز وإلى أن النهي عن الإِتيان ساعياً في الحديث المرفوع ليس نهي تحريم بل نهي استحباب إرشاداً إلى الأليق الأفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 95 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سُمَيٌّ (1) أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ (2) يَعْنِي ابنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) يَقُولُ: مَنْ غَدَا (4) أَوْ رَاحَ (5) إِلَى الْمَسْجِدِ لا يُرِيدُ غيرَه ليتعلَّمَ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمه ثُمَّ رجَعَ إِلَى بَيْتِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ كَانَ (6) كَالْمُجَاهِدِ في سبيل الله رَجَع (7) غانماً. 31 - (باب الرجل يصلِّي وقد أخذ (8) المؤذِّنُ في الإِقامة) 96 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا شَرِيك (9) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن   (1) مولى أبي بكر. (2) قوله: أبا بكر، قيل اسمه محمد، وقيل: أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن، والصحيح أن اسمه وكنيته واحد، وكان مكفوفاً، وثقه العجلي وغيره، مات سنة 93 هـ، كذا في "الإِسعاف". (3) ابن الحارث بن هشام. (4) ذهب وقت الغداة أوَّلَ النهار. (5) من الزوال. (6) في الثواب. (7) إلى بيته بعد الفراغ من الجهاد وأخذ الغنيمة. (8) أي شرع. (9) قوله: شَريك بن عبد الله بن أبي نمر، أبو عبد الله المدني، وثقه ابن سعد وأبو داود، وقال ابن معين والنسائي: لا بأس به، وقال ابن عدي: إذا روى عنه ثقة فلا بأس به، كذا في "هدي (في الأصل: "الهدي الساري"، وهو تحريف) الساري" مقدمة "فتح الباري" للحافظ ابن حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 أَبِي نَمَيْر (1) ، أنَّ أَبَا سَلَمَةَ بنَ عبدِ الرحمنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ (2) : سَمِعَ قومٌ (3) الإِقامةَ فقالوا يصلُّون، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَصَلاتَانِ (4) مَعًا (5) ؟! قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكره (6) إذا أُقيمت الصلاة أن يُصلِّيَ الرجلُ   (1) قوله: أبي نمير، بضم النون وفتح الميم مصغراً، كذا وجدناه في بعض النسخ، وفي نسخة يحيى "أبي نمر" وضبطه الزرقاني بفتح النون وكسر الميم. (2) قوله: قال، ابن عبد البر، لم يختلف الرواة، عن مالك في إرسال هذا الحديث إلاَّ الوليد بن مسلم، فإنه رواه، عن مالك، عن شريك، عن أنس. ورواه الدراوردي، عن شريك، فأسنده عن أبي سلمة، عن عائشة. ثم أخرجه ابن عبد البر من الطريقين وقال: قد رُوي هذا الحديث بهذا المعنى من حديث عبد الله بن سَرْجِس وابن بُحَيْنة وأبي هريرة. (3) أي: بعض من كان في المسجد النبوي. (4) قوله: أصلاتان معاً، قال ابن عبد البر: قوله هذا وقوله في حديث ابن بحينة: "أتصلّيهما أربعاً"، وفي حديث ابن سرجس: "أيتهما صلاتك"، كل هذا إنكار منه لذلك الفعل. (5) أي: أتجمعون الصلاتين معاً. (6) قوله: يكره، لما أخرجه مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إذا أُقيمت الصلاة فلا صلاة إلاَّ المكتوبة"، وفي رواية للطحاوي: "إلاَّ التي أُقيمت لها"، وفي رواية ابن عَدِيّ، قيل: يا رسول الله، ولا ركعتي الفجر؟ قال: ولا ركعتي الفجر، وإسناده حسن، قاله الزرقاني. وقد يعارض هذه الزيادة بما رُوي: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاَّ المكتوبة إلاَّ ركعتي الصبح"، لكنه من رواية عبّاد بن كثير وحجّاج بن نصير وهما ضعيفان، ذكره الشوكاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 تَطَوُّعًا (1) غَيْرَ ركعَتَيْ الْفَجْرِ (2) خَاصَةً، فَإِنَّهُ لا بأس بأن يصلِّيَهُما   (1) أي: نفلاً أو سُنَّة، فإن الكل يُسمّى تطوُّعاً لكونه زائداً على الفرائض. (2) قوله: غير ركعتي الفجر، أي: الركعتين اللتين تصلَّيان قبل فرض الصبح، لما رُوي، عن عبد الله بن أبي موسى، عن أبيه: دعا سعيد بن العاص، أبا موسى وحذيفة وابن مسعود قبل أن يصلي الغداة، فلما خرجوا من عنده أقيمت الصلاة، فجلس عبد الله بن مسعود إلى أسطوانة من المسجد يصلي ركعتين، ثم دخل المسجد ودخل في الصلاة. وعن أبي مخلد: دخلت مع ابن عمر وابن عباس والإِمام يصلّي، فأما ابن عمر فقد دخل في الصف، وأما ابن عباس، فصلّى ركعتين ثم دخل مع الإِمام، فلمّا سلَّم الإِمام قعد ابن عمر، فلما طلعت الشمس ركع ركعتين. وعن محمد بن كعب: خرج ابن عمر من بيته، فأُقيمت صلاة الصبح، فركع ركعتين قبل أن يدخل المسجد وهو في الطريق، ثم دخل المسجد فصلّى الصبح مع الناس. وعن زيد بن أسلم، أن ابن عمر جاء والإِمام يصلّي صلاة الصبح ولم يكن صلّى الركعتين قبل صلاة الصبح، فصلاهما في حُجرة حفصة، ثم صلّى مع الإِمام. وعن أبي الدرداء: أنه كان يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر، فيصلّي الركعتين في ناحية، ثم يدخل مع القوم في الصلاة. أخرج هذه الآثار الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وأخرج أيضاً عن مسروق وأبي عثمان النهدي والحسن إجازة أداء ركعتي الفجر إذا أُقيمت الصلاة. وذكر أن معنى فلا صلاة إلاَّ المكتوبة: النهي عن أداء التطوُّع في موضع الفرض، فإنه يلزم حينئذٍ الوصل، وبَسَط الكلام فيه. لكن لا يخفى على الماهر أن ظاهر الأخبار المرفوعة هو المنع، من ذلك حديث أبي سلمة المذكور في الكتاب، فإن القصة المذكورة فيه قد وقعت في صلاة الصبح كما صرَّح به الشراح، ووقع في موطأ يحيى بعد هذه الرواية: وذلك في صلاة الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح. ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، عن عبد الله بن مالك بن بُحَينة: مرَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل وقد أُقيمت الصلاة يصلّي ركعتين، فلما انصرف لاث به الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الرَّجُلُ (1) إنْ (2) أخذَ المؤذِّنُ فِي الإِقامة، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (3) . 32 - (باب تسوية (4) الصف (5))   فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: آلصبح أربعاً؟ آلصبح أربعاً؟ قال القسطلاّني: الرجل هو عبد الله الراوي كما عند أحمد بلفظ: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرَّ به وهو يصلّي. ولا يعارضه ما عند ابن حبان وابن خزيمة أنه ابن عباس، لأنهما واقعتان. انتهى. وأخرج الطحاوي، عن عبد الله بن سرجس، أن رجلاً جاء ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الصبح، فركع ركعتين خلف الناس، ثم دخل مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته، قال: يا فلان، أجعلتَ صلاتك التي صلَّيتَ معنا أو التي صلَّيتَ وحدك؟ وكذلك أخرجه أبو داود وغيره. وحمل الطحاوي هذه الأخبار على أنهم صلّوا في الصفوف لا فصل بينهم وبين المصلّين بالجماعة، فلذلك زجرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكنه حَمْل من غير دليل معتدٍّ به، بل سياق بعض الروايات يخالفه. (1) خارج المسجد، أو في ناحية المسجد خارج الصفوف. (2) وَصْلية. (3) وبه قال أبو يوسف، ذكره الطحاوي. (4) هو اعتدال القامة بها على سمت واحد (ويستحب للإِمام تسوية الصفوف كذا في المغني 1/458، ولعله متفق عند الكلّ ويُكره تركها، وراجع للتفصيل فتح الباري 2/175، وعمدة القاري 2/789) . (5) قوله: تسوية الصف، قال ابن حزم بوجوب تسوية الصفوف لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالِفَنَّ اللهُ بين وجوهكم"، متفق عليه، لكن ما رواه البخاري: "سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" يصرفه إلى السّنَّة، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 97 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْمُرَ (1) رِجَالاً (2) بتسوية الصفوف، فَإذا جاؤوه فأخْبَرُوه بِتَسْوِيَتِهَا كَبَّرَ (3) بعدُ. 98 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو سُهَيْل بْنِ مَالِكٍ (4) وأَبو النَّضر مولَى عُمر بْنِ عُبيد اللَّهِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الأَنْصَارَيِّ (5) : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عفَّان كَانَ يَقُولُ فِي خُطبته: إِذَا قَامَتِ الصلاةُ، فاعْدِلُوا (6) الصفُوفَ، وحَاذُوا (7) بالمَناكِب، فإنَّ اعْتِدَالِ الصُّفُوفِ من تمام   (1) قوله: كان يأمر، قال الباجي: مقتضاه أنه وكّل من يُسَوِّي الناس في الصفوف، وهو مندوب. (2) أي: من أصحابه. (3) أي قال: الله أكبر. (4) قوله: أبو سهيل بن مالك، هو عمّ مالك بن أنس، اسمه نافع، وثَّقه أحمد وأبو حاتم والنسائي، كذا في "الإِسعاف". (5) الأصبحي من كبار التابعين، ثقة، روى له الجميع، مات سنة 74 هـ على الصحيح، وهو جَدّ الإِمام مالك والد أبي سهيل، كذا قال السيوطي وغيره. (6) أي: سوّوا. (7) قوله: حاذُوا، أي: قابلوا المناكب بأن لا يكون بعضُها متقدِّماً وبعضُها متأخِّراً، وهو المراد بقول أنس: (كان أحدُنا يُلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الصَّلاةِ (1) . ثُمَّ لا يكبِّر حَتَّى يَأْتِيَهُ رِجَالٌ قَدْ وكَّلهم (2) بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، فَيُخْبِرُونَهُ أَنْ قَدِ استوتْ فيكبِّر. قَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْبَغِي لِلْقَوْمِ إِذَا قَالَ المؤذِّن حيَّ عَلَى الْفَلاحِ أَنْ يَقُومُوا (3) إلى الصلاة (4) فيصُفّوا   بقدمه) ، وقول النعمان بن بشير: (رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه) (زعم بعض الناس أنه على الحقيقة، وليس الأمر كذلك، بل المراد بذلك مبالغة الراوي في تعديل الصف، وسدّ الخلل كما فتح الباري، 2/176، والعمدة 2/294. وهذا يردّ على الذين يدَّعون العمل بالسنَّة في بلادنا حيث يجتهدون في إلزاق كعابهم بكعاب القائمين في الصف ويفرجون جداً للتفريج بين قدميهم مما يؤدي إلى تكلّف وتصنُّع، وقد وقعوا فيه لعدم تنبُّههم للغرض، ولجمودهم بظاهر الألفاظ، (معارف السنن) 1/292) ، ذكرهما البخاري في صحيحه. (1) أي: من كمال صلاة الجماعة. (2) بخفة الكاف وتشديدها. (3) في "ن": يقدموا. (4) قوله: أن يقوموا، إلى الصلاة، اختلفوا فيه: فقال الشافعي والجمهور: يقومون عند الفراغ من الإِقامة، وهو قول أبي حنيفة، وعن مالك: يقومون عند أوَّلها، وفي "الموطأ" أنه يرى ذلك على طاقة الناس، فإن فيهم الثقيل والخفيف، كذا ذكره القسطلاّني في "إرشاد الساري" وفي "الاستذكار": قد ذكرنا في "التمهيد" بالأسانيد، عن عمرو بن مهاجر: رأيت عمر بن عبد العزيز ومحمد بن مسلم الزهري وسليمان بن حبيب يقومون إلى الصلاة في أول نداء (في الاستذكار 2/103، بدله (بدء)) من الإِقامة، قال: وكان عمر بن عبد العزيز، إذا قال المؤذِّن: قد قامت الصلاة عدّل الصفوف بيده عن يمينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ويُسَوُّوا (1) الصُّفُوفَ ويحاذُوا (2) بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، فَإِذَا أقامَ (3) الموذن الصلاةَ كبَّر الإِمامُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حنيفةَ - رحمه الله -.   وعن يساره، فإذا فرغ كبَّر، وعن أبي يعلى (في الأصل أبي العلاء. وهو تحريف) : رأيت أنس بن مالك إذا قيل: قد قامت الصلاة قام فوثب، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا لم يكن معهم الإِمام في المسجد، فإنهم لا يقومون حتى يروا الإِمام لحديث أبي قتادة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: "إذا أُقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني" وهو قول الشافعي وداود، وإذا كان معهم فإنهم يقومون إذا قال: حيّ على الفلاح. انتهى ملخَّصاً (الاستذكار 2/103 - 104) . (1) من تسوية. (2) من المحاذاة، أي: يقابلوا بين مناكبهم. (3) فإذا أقام، أي: قال: قد قامت الصلاة، وهو محتمل لأمرين: الشروع فيه والفراغ منه، وذكر في "جامع الرموز"، عن "المحيط" و"الخلاصة" أن الأول قول الطرفين والثاني قول أبي يوسف، والصحيح هو الأول كما في "المحيط" والأصح هو الثاني كما في "الخلاصة". قلت: روى أبو داود، عن أبي أمامة أن بلالاً أخذ في الإِقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال رسول الله: أقامها الله وأدامها، وقال في سائر الإِقامة كنحو حديث ابن عمر في الأذان، أي: أجاب كل كلمة بمثلها إلاّ الحيعلتين. فهذا يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كبَّر بعدما تمَّت الإِقامة بجميع كلماتها. وأخرج ابن عبد البرّ في "الاستذكار"، عن بلال، أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تسبقني بآمين (السنن الكبرى للبيهقي 2/23) ، وقال: فيه دليل على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 33 - (بَابُ افْتِتَاحِ (1) الصَّلاةِ) 99 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا الزُّهريُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عبدِ اللَّهِ بْنِ عُمر أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَر قَالَ: كَانَ (2) رسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتح (3)   يكبِّر، ويقرأ، وبلال في إقامة الصلاة (الاستذكار 2/105) . انتهى. وفيه نظر لا يخفى، والأمر في هذا الباب واسع، ليس له حد مضيق في الشرع، واختلاف العلماء في ذلك لاختيار الأفضل بحسب ما لاح لهم (وذهب عامة العلماء إلى أنه يُستحب أن لا يكبِّر الإِمام حتى يفرغ المؤذن من الإِقامة، ومذهب الشافعي وطائفة أنه يُستحب أن لا يقوم حتى يفرغ المؤذن من الإِقامة، وهو قول أبي يوسف، وعن مالك: السنَّة في الشروع في الصلاة بعد الإِقامة وبداية استواء الصف، وقال أحمد: إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة يقوم. وقال أبو حنيفة ومحمد: يقومون في الصف إذا قال: حي على الصلاة، فإذا قال: قد قامت الصلاة كبَّر الإِمام لأنه أمين الشرع، وقد أخبر بقيامها فيجب تصديقه، وإذا لم يكن الإِمام في المسجد فقد ذهب الجمهور إلى أنهم لا يقومون حتى يروه، كذا في "عمدة القاري" 5/676) . (1) أي: ابتدائها. (2) قوله: كان .... إلخ، هذا أحد الأحاديث الأربعة التي رفها سالم، عن أبيه ووقفها نافع، عن ابن عمر، والقول فيها قول سالم، والثاني: "من باع عبداً وله مال ... "، جعله نافع، عن ابن عمر، عن عمر، والثالث: "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة"، والرابع: "في ما سقت السماء والعيون أو كان بَعْلاً العشر، وما سُقي بالنضح نصف العشر". كذا في "التنوير". (3) قال ابن المنذرك لم يختلف أهل العلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يرفع يديه إذا افتتح، نقله ابن دقيق العيد في "الإِمام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الصلاة (1) رفع (2) يديه (3)   (1) قوله: افتتح الصلاة (قال الباجي: افتتاح الصلاة يكون بالنطق، ولا يكون بمجرَّد النيّة، لمن يقدر على النطق. أوجز المسالك 2/41) : استند به صاحب "البحر" أن وقت الرفع قبل التكبير، وفيه نظر لأنه يحتمل أن يكون معناه إذا كبَّر رفع يديه، لأن افتتاح الصلاة إنما هو بالتكبير، نعم، إن كان المراد بالافتتاح إرادة الافتتاح لتم الاستشهاد. (2) هذا مستحب عند جمهور العلماء، لا واجب كما قال الأَوْزاعي والحُمَيْدي وابن خزيمة وداود وبعض الشافعية والمالكية. (3) قوله: رفع يديه، معنى رفع اليدين عند الافتتاح وغيره خضوع، واستكانة، وابتهال، وتعظيم الله تعالى، واتِّباع لسنَّة نبيه صلّى الله عليه وسلّم (الاستذكار 2/122) . (1) بالكسر: أي: مقابله. (2) قوله: إذا كبَّر ... إلخ، رواه يحيى ولم يذكر فيه الرفع عند الانحطاط إلى الركوع، وتابعه على ذلك جماعة من الرواة، للموطأ عن مالك، ورواه جماعة عن مالك، فذكروا فيه الرفع عند الانحطاط، وهو الصواب، وكذلك رواه سائر مَن رواه مِن أصحاب ابن شهاب عنه (في الأوجز 2/44، قال ابن عبد البر: هو الصواب. قلت: هو وهم منه وكذلك "إن سائر من رواه، عن ابن شهاب ذكره" سهو منه، فإن الحديث أخرجه الزبيدي عن الزهري عند أبي داود وليس فيه ذكر الرفع عند الركوع، وأيضاً لم يختلف فيه على الزهري فقط، بل اختلف سالم ونافع على ابن عمر رضي الله عنهما، كما لا يخفى على من سهر الليالي في تفحّص كتب الحديث) . كذا في "التنوير". (3) أي: حذو منكبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 حِذاءَ (1) مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا كَبَّر (2) للرُّكوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ (3) ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكوع رَفَعَ يديْه، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللهُ (4) لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قال (5) : ربَّنا ولك الحمد (6) .   (4) معنى سمع ها هنا: أجاب. (5) قوله: ثم قال، قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وجماعة من أهل الحديث: إن الإِمام يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وحجَّتهم حديث ابن عمر: ورواه أبو سعيد الخُدْري وعبد الله بن أبي أوفى وأبو هريرة، وقال جماعة: يقتصر على سمع الله لمن حمده، وحجّتهم حديث أنس: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإذا رفع الإِمام فارفعوا: وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد. كذا في "الاستذكار" (2/128) . (6) قوله: ربنا ولك الحمد، قال الرافعي: روينا في حديث ابن عمر: ربنا لك الحمد، بإسقاط الواو وبإثباتها والروايتان معاً صحيحتان. انتهى. قلت: الرواية بإثبات الواو متفق عليها، وأما بإسقاطها ففي صحيح أبي عوانة: وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الواو في: "ربنا ولك الحمد"، فقال: زائدة، وقال النووي: يحتمل أنها عاطفة على محذوف، أي: أطعنا لك وحمدناك، ولك الحمد، كذا في "التلخيص (في الأصل: "تلخيص الحبير"، وهو تحريف) الحبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير"، للحافظ ابن حجر، وعند البخاري، عن المقبري، عن أبي هريرة: كان رسول الله إذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: اللهم ربنا ولك الحمد. وعند أبي داود الطيالسي، عن ابن أبي ذئب عنه: كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد، كذا في "ضياء الساري" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 100 - أخبرَنا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نافعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: كَانَ (1) إِذَا ابتدأَ الصَّلاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكبَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الركوع (2) رفعهما دون ذلك (3) .   (هو شرح على البخاري للشيخ عبد الله بن سالم البصري المكي، المتوفى سنة 1134. مقدمة "لامع الدراري"، ص 457) . (1) قوله: كان ... إلخ، الثابت، عن ابن عمر بالأسانيد الصحيحة هو أنه كان يرفع عند الافتتاح، وعند الرفع من الركوع، وعند الركوع حسبما رواه مرفوعاً، وأخرج الطحاوي بسنده، عن أبي بكر بن أبي عيّاش، عن حصين، عن مجاهد، قال: صليت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلاَّ في التكبيرة الأولى، ثم قال الطحاوي: فلا يكون هذا من ابن عمر إلاّ وقد ثبت عنده نسخ ما رأى النبي صلّى الله عليه وسلم. انتهى. وفيه نظر لوجوه: أحدها: أنه سند معلول لا يوازي الأسانيد الصحيحة، فقد أخرجه البيهقي من الطريق المذكور في كتاب "المعرفة"، وأسند، عن البخاري أنه قال: ابن عياش قد اختلط بآخره، وقد رواه الربيع وليث وطاووس وسالم ونافع وأبو الزبير ومحارب بن دثار وغيرهم قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبَّر وإذا رفع، وكان أبو بكر بن عيّاش يرويه قديماً، عن حصين، عن إبراهيم، عن ابن مسعود مرسلاً موقوفاً: أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يرفعهما بعد. وهذا هو المحفوظ، عن ابن عياش، والأول خطأ فاحش لمخالفته الثقات، عن ابن عمر. انتهى. وثانيها: أنه لو ثبت، عن ابن عمر ترك ذلك فلا يثبت منه نسخ فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثابت بالطرق الصحيحة، عن الجمع العظيم إلاّ إذا كان فيه تصريح، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذ ليس فليس. وثالثها: أن ترك ابن عمر لعله يكون لبيان الجواز، فلا يلزم منه النسخ. (2) في نسخة: ركوعه. (3) قوله: دون ذلك، يعارضه قول ابن جريج: قلت لنافع، أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهنّ؟ قال: لا. ذكره أبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 101 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا وهبُ بْنُ كَيْسان (1) ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ: أنهُ يُعَلِّمُهم (2) التَّكْبِيرَ فِي الصَّلاةِ، أَمَرَنَا (3) أَنْ نكبِّر كُلَّمَا خَفَضْنَا وَرَفَعْنَا. 102 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (4) بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالبٍ أَنَّهُ قَالَ (5) : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبِّر كُلَّمَا (6) خَفَضَ، وَكُلَّمَا رَفَعَ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ صَلاتُهُ حَتى لقي (7) اللَّهَ عزّ وجلّ.   (1) هو أبو نعيم المدني، وثقه النسائي وابن سعد، مات سنة 127 هـ، كذا في "الإِسعاف". (2) أي: أصحابه التابعين، وفي نسخة: كان يعلِّمهم. (3) بيان للتعليم. (4) هو أبو الحسين زين العابدين، قال ابن سعد: كان ثقةً مأموناً كثير الأحاديث، مات سنة 92 هـ، كذا في "الإِسعاف". (5) قوله: أنّه قال ... إلخ، قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً من رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث. رواه عبد الوهاب بن عطاء، عن مالك، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين، عن أبيه موصولاً: ورواه عبد الرحمن بن خالد، عن أبيه، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عليّ بن الحسين، عن عليّ، ولا يصح فيه إلاَّ ما في "الموطأ" مرسلاً. (6) ظاهر الحديث عمومه في جميع الانتقالات، لكن خُصَّ منه الرفع من الركوع بالإِجماع. (7) بارتحاله من الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 103 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أنَّه أَخْبَرَهُ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ: كَانَ يصلِّي بِهِمْ، فكبَّر كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، ثُمَّ انْصَرَفَ (1) قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي (2) لأَشْبَهُكُمْ (3) صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 104 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي نُعَيْمٌ المُجْمر (4) وَأَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ (5) ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ: كان يصلي بهم، فكبَّر كلما خفض وفع، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ يكبِّرُ وَيَفْتَحُ (6) الصَّلاةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: السنَّة أَنْ يكبِّر الرجل في صلاته كلما خفض (7)   (1) من الصلاة. (2) قال الرافعي: هذه الكلمة مع الفعل المأتي به نازلةٌ منزلة حكاية فعله صلّى الله عليه وسلّم. (3) قوله: لأشبهكم ... إلخ، هذا يدلُّك على أن التكبير في الخفض والرفع لم يكن مستعملاً عندهم ولا ظاهراً فيهم، كذا في "الاستذكار". (4) هو نعيم المُجْمر بن عبد الله، أبو عبد الله المدني، وثَّقه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما. (5) أبو جعفر القارئ: اسمه يزيد بن القعقاع المدني المخزومي، وقيل: جندب بن فيروز، وقيل: فيروز، ثقة، مات سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: سنة ثلاثين، كذا قال الزرقاني. (6) في نسخة: يفتتح. (7) كلما خفض وكلما رفع لما أخرجه الترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكبِّر في كل خفض ورفع وقيام وقعود وأبو بكر وعمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وكلما رفع، وإذا انحطّ (1) للسجود كبَّر،   وأخرجه أحمد والدارمي وإسحاق بن راهويه والطبراني وابن أبي شيبة. وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة يكبِّر حين يقوم، ثم يكبِّر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي ساجداً، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبِّر حين يسجد، ثم يكبِّر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلِّها، ويكبِّر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس، وفي "الصحيحين"، عن عمرانَ بن حُصين أنه صلّى خلف علي بن أبي طالب بالبصرة، فقال: ذكَّرنا هذا الرجل صلاةَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر أنه كان يكبِّر كلما رفع وكلما خفض، وفي الباب عن أبي موسى عند أحمد والطحاوي، وابن عمر عند أحمد والنسائي، وعبد الله بن زيد عند سعيد بن منصور، ووائل بن حُجْر عند ابن حِبَّان، وجابر عند البزار، وغيرهم عند غيرهم. (1) قوله: وإذا انحط ... إلخ، مصرَّح به لكونه محل الخلاف أخذاً مما أخرجه أبو داود، عن عبد الرحمن بن أَبْزَى أنه صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان لا يتم التكبير، قال أبو داود: ومعناه إذا رفع رأسه من الركوع، وأراد أن يسجد لم يكبِّر وإذا قام من السجود لم يكبِّر. وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" وقال: فذهب قوم إلى هذا، فكانوا لا يكبِّرون في الصلاة إذا خفضوا، ويكبِّرون إذا رفعوا، وكذلك كان بنو أمية يفعلون ذلك (في الأصل: "يفعل ذلك") ، وخالفهم في ذلك آخرون، فكبَّروا في الخفض والرفع جميعاً، فذهبوا في ذلك إلى ما تواترت به الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. انتهى. ثم أخرج عن عبد الله بن مسعود، قال: أنا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكبِّر في كل خفض ورفع. وأخرج عن عكرمة، قال: صلّى بنا أبو هريرة، فكان يكبِّر إذا رفع، وإذا خفض، فأتيتُ ابن عباس، فأخبرته، فقال: أوليس سنَّة أبي القاسم صلّى الله عليه وسلّم؟ وأخرج عن أبي موسى، قال: ذكَّرنا عليٌّ صلاةً كنّا نصلّيها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إما نسيناها، وإما تركناها عمداً، كان يكبِّر كلّما خفض ورفع، وكلَّما سجد. وأخرج عن أنس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وإذا انحطّ (1) للسجود الثاني   كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر يُتمّون التكبير، يكبِّرون إذا سجدوا، وإذا رفعوا، وإذا قاموا من الركعة. وأخرج عن أبي هريرة نحو ما أخرجه مالك، ثم قال الطحاوي (1/130) : فكانت هذه الآثار المروية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التكبير في كل خفض ورفع أظهر من حديث عبد الرحمن بن أبزى (ضعّف الحافظ في الفتح 2/223 حديث عبد الرحمن بن أبْزى، وقال: وقد نفى البخاري في "التاريخ"، عن أبي داود الطيالسي أنه قال: هذا عندنا باطل، وقال الطبري والبزّار: تفرد به الحسن بن عمران وهو مجهول: قال: وأجيب على تقدير صحته بأنه فعل ذلك لبيان الجواز، أو المراد لم يتم الجهر به، أو لم يمدّه. اهـ) ، وأكثر تواتراً، وقد عمل بها أبو بكر وعمر وعلي، وتواتر بها العمل إلى يومنا هذا. انتهى كلامه. وفي "الوسائل إلى معرفة الأوائل" للسيوطي: أول من نقص التكبير معاوية، كان إذا قال: سمع الله لمن حمده انحطّ إلى السجود ولم يكبِّر، أسنده العسكري، عن الشعبي. وأخرج ابن أبي شيبة، عن إبراهيم أنه قال: أول من نقص زياد. انتهى. وفي "الاستذكار" بعد ذكر حديث أبي هريرة، وحديث أبي موسى: (إما نسيناها وإما تركناها عمداً) ، وغير ذلك. هذا يدلك على أن التكبير في غير الإِحرام لم يتلقَّه السلف من الصحابة والتابعين على الوجوب، ولا على أنه من مؤكَّدات السنن، بل قد قال قوم من أهل العلم: إن التكبير هو إذن بحركات الإِمام، وشعار الصلاة، وليس بسنَّة إلا في الجماعة، ولهذا ذكر مالكٌ في هذا الباب حديثَه، عن علي بن حسين وأبي هريرة مرفوعين، وعن ابن عمر وجابر فعلهما، ليُبيِّن بذلك أن التكبير في كل خفض ورفع سنَّة مسنونة، وإن لم يعمل بها بعض الصحابة، فالحجة في السنَّة، لا في ما خالفها. انتهى ملخَّصاً (الاستذكار 2/131) . (1) أي: انخفض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 كبَّر. فَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ (1) حَذْوَ الأذنين (2)   (1) من دون مطأطأة الرأس عند التكبير كما يفعله بعض الناس، فإنه بدعة، ذكره محمد بن محمد الشهير بابن أمير الحاج في "حَلْبة المجلِّي شرح منية المصلي" (في الأصل: "حلية المحلي"، وهو تحريف) . (2) قوله: حذو الأذنين، لما روى مسلم، عن وائل أنه رأى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رفع يديه حين دخل في الصلاة حيال أذنيه، ثم التحف بثوبه ... الحديث. وأخرج أحمد وإسحاق بن راهويه والدارقطني والطحاوي، عن البراء: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى رفع يديه حتى تكون إبهاماه حذاء أذنيه. وأخرج الحاكم - وقال: صحيح على شرط الشيخين - والدارقطني والبيهقي، عن أنس: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبَّر، فحاذى بإبهاميه أذنيه ... الحديث. وأخرج أبو داود ومسلم والنسائي وغيرهم، عن مالك بن الحُوَيرث: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفع يديه إذا كبَّر، وإذا رفع رأسه من الركوع حتى يَبلغ بهما فروع أذنيه. ويعارض هذه الأحاديث رواية ابن عمر التي أخرجها مالك وأبو داود والنسائي ومسلم والطحاوي وغيرهم. وأخرج الجماعة إلاّ مسلماً من حديث أبي حُمَيد الساعدي: "رفع يديه حتى يحاذيَ بهما مَنْكِبيه". وأخرج أبو داود والطحاوي من حديث عليٍّ نحوه. وباختلاف الآثار اختلف العلماء، فاختار الشافعي وأصحابه كما هو المشهور حذو المنكبين، واختار أصحابنا حذو الأذنين، وسلك الطحاوي على أن الرفع حذوَ المنكبين كان لعذر حيث أخرج، عن وائل: أتيتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم فرأيته يرفع يديه حذاء أذنيه، إذا كبَّر، وإذا ركع وإذا سجد، ثم أتيته من العام المقبل وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم فيها وأشار شريك الراوي عن عاصم عن كليب عن وائل إلى صدره، ثم قال الطحاوي: فأخبر وائل في حديثه هذا أن رفعهم إلى مناكبهم إنما كان لأن أيديهم تحت ثيابهم، فعملنا بالروايتين، فجعلنا الرفع إذا كانت اليدان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 في ابتداء الصلاة (1) مرَّةً واحدة،   تحت الثياب لعلَّة البرد إلى منتهى ما يُستطاع إليه الرفع، وهو المنكبان، وإذا كانا باديتين رفعهما إلى الأذنين، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. انتهى. وقال العيني في "البناية": لا حاجة إلى هذه التكلُّفات، وقد صحَّ الخبر في ما قلنا وفي ما قاله الشافعي، فاختار الشافعي حديث أبي حميد، واختار أصحابنا حديث وائل وغيره، وقد قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو"، وهو تحريف) بن عبد البر: اختلفتْ الآثار، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن الصحابة ومن بعدهم، فروي عنه عليه السلام الرفع فوق الأذنين، وروي عنه أنه كان يرفع حذاء الأذنين، وروي عنه حذوَ منكبيه، وروي عنه إلى صدره، وكلُّها آثار مشهورة محفوظة، وهذا يدل على التوسعة في ذلك. انتهى (قال الشيخ في الأوجز 2/42: الاختلاف فيه كأنه لفظيّ، لأن ابن الهمام من الحنفية قال: لا تعارض بين الروايتين) ، وفي "شرح مسند الإِمام" لعلي القاري: الأظهر أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يرفع يديه من غير تقييد إلى هيئة خاصة، فأحياناً كان يرفع إلى حيال منكبيه، وأحياناً إلى شَحْمَتي أذنيه. انتهى. (1) قوله: في ابتداء الصلاة، إما قبل التكبير كما أخرجه النسائي، عن ابن عمر: رأيت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه، حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبِّر. وأخرج ابن حِبّان، عن أبي حميد: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قال: الله أكبر. وإما مع التكبير كما أخرجه أبو داود، عن وائل: أنه رأى رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يرفع يديه مع التكبير. وإما بعد التكبير كما أخرجه مسلم، عن أبي قلابة: أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلّى كبَّر، ثم رفع يديه، وحدَّث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل هكذا. والكل واسع ثابت إلا أنه رجَّح أكثر مشائخنا (والأصح عند الشافعية والمالكية المقارنة، وفي المغني عند الحنابلة المقارنة كذا في الأوجز 2/43) تقديم الرفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ثُمَّ لا يَرْفَعُ (1) فِي شيْء مِنَ الصَّلاةِ (2) بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (3) - رحمه الله تعالى - وفي   (1) قوله: ثم لا يرفع: ولو رفع لا تفسد صلاته كما في "الذخيرة" وفتاوى الولوالجي وغيرهما من الكتب المعتمدة، وحكى بعض أصحابنا عن مكحولٍ النسفي أنه روي، عن أبي حنيفة فساد الصلاة به، واغترَّ بهذه الرواية أمير الكاتب الإِتقاني صاحب "غاية البيان" فاختار الفساد، وقد ردَّ عليه السبكي في عصره أحسن ردّ كما ذكره ابن حجر في "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، وصنَّف محمود بن أحمد بن مسعود القونوي الحنفي رسالة نفيسة في إبطال قول الفساد، وحقق فيها أن رواية مكحول شاذة مردودة، وأنه رجل مجهول لا عبرة لروايته، وقد فصلتُ في هذا الباب تفصيلاً حسنً في ترجمة مكحول في كتاب: "طبقات الحنفية" المسمَّى بالفوائد البهية في تراجم الحنفية، فليرجع إليه. (2) أي: في جزء من أجزاء الصلاة. (3) قوله: قول أبي حنيفة، ووافقه في عدم الرفع إلاَّ مرة الثوريُّ والحسنُ بن حَيّ وسائر فقهاء الكوفة قديماً وحديثاً، وهو قول ابن مسعود وأصحابه، وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المَرْوزي: لا نعلم مصراً من الأمصار تركوا بإجماعهم رفعَ اليدين عند الخفض والرفع إلا أهل الكوفة، واختلفت الرواية فيه، عن مالك، فمرة قال: يرفع، ومرة قال: لا يرفع، وعليه جمهور أصحابه، وقال الأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور وابن راهويه ومحمد بن جرير الطبري وجماعة أهل الحديث بالرفع إلا أن منهم من يرفع عند السجود أيضاً، ومنهم من لا يرفع عنده. ورُوي الرفع في الرفع والخفض، عن جماعة من الصحابة، منهم ابن عمر وأبو موسى وأبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وأنس وابن عباس وجابر، وروى الرفعَ، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نحو ثلاثة وعشرين رجلاً من الصحابة كما ذكره جماعة من أهل الحديث، كذا في "الاستذكار" (2/123 - 125) لابن عبد البر. وذكر السيوطي في رسالته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ذلك (1) آثار كثيرة (2) .   "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" أن حديث الرفع متواتر (قال في "نيل الفرقدين" ص 22: إن الرفع متواتر إسناداً وعملاً، ولا يُشك فيه، ولم يُنسخ ولا حرف منه، وإنما بقي الكلام في الأفضلية، وصرَّح أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" أنه من الاختلاف المباح، وفي ص 123: حكى ذلك من الحافظ أبي عمر (أي: ابن عبد البر) من المالكية، ومن الحافظ ابن تيمية والحافظ ابن القيم من الحنابلة. وأما الترك، فأحاديثه قليلة ومع هذا هو ثابت بلا مرية، وهو متواتر عملاً لا إسناداً عند أهل الكوفة، وقد كان في سائر البلاد تاركون وكثير من التاركين في المدينة في عهد مالك، وعليه بنى مختاره، وكان أكثر أهل مكة يرفعون فبنى عليه الشافعي. "معارف السنن" 2/459) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه الشيخان، عن ابن عمر ومالك بن الحويرث، ومسلم، عن وائل بن حُجْر، والأربعة، عن عليّ، وأبو داود، عن سهل بن سعد، وابن الزبير وابن عباس ومحمد بن مسلمة وأبي أسيد وأبي قتادة وأبي هريرة وابن ماجه، عن أنس وجابر وعمير الليثي، وأحمد، عن الحكم بن عمير، والبيهقي، عن أبي بكر رضي الله عنه والبراء، والدارقطني، عن عمر. وأبي موسى، والطبراني، عن عقبة بن عامر ومعاذ بن جبل. (1) أي: في عدم رفع اليدين إلا مرَّة. (2) قوله: آثار كثيرة، عن جماعة من الصحابة: منهم ابن عمر وعلي وابن مسعود، كما أخرجه المؤلف وسيأتي ذكر مالها وما عليها. ومنهم: عمر بن الخطاب، روى الطحاوي والبيهقي من حديث الحسن بن عيّاش، عن عبد الملك بن الحسن، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: رأيت عمر يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود، ورأيت إبراهيم والشعبي يفعلان ذلك. قال الطحاوي: فهذا عمر لم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى، والحديث صحيح لأن الحسن بن عيّاش وإن كان هذا الحديث دار عليه، فإنه ثقة، حجة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وذكر ذلك يحيى بن معين وغيره. انتهى. واعترضه الحاكم على ما نقله الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية"، بأنها رواية شاذه، لا يعارَض بها الأخبار الصحيحة عن طاووس، عن كيسان، عن ابن عمر أن عمر (في معارف السنن 2/470، قال: أعله المحدثون، وصححوه عن ابن عمر، عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن عمر غير هذا) كان يرفع يديه في الركوع، وعند الرفع منه، انتهى. ومنهم أبو سعيد الخدري، وأخرج البيهقي، عن سوار بن مصعب، عن عطية العوفي أن أبا سعيد الخدري وابن عمر كانا يرفعان أيديهما أول ما يكبِّران، ثم لا يعودان. وأعله البيهقي بأن عطية سيِّئ الحال، وسوار أسوأ منه، قال البخاري: سوار منكر الحديث، وعن ابن معين غير محتج به. ويخالف هذا الأثر ما أخرجه البيهقي، عن ليث، عن عطاء، قال: رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وابن عباس وابن الزبير وأبا هريرة يرفعون أيديهم إذا افتتحوا الصلاة، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا. وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه، وأخرج أيضاً عن سعيد بن المسيَّب، قال: رأيت عمر يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. وفي سنده من استضعف. ومنهم عبد الله بن الزبير كما حكاه صاحب "النهاية" وغيرُه من شراح "الهداية" أنه رأى رجلاً يرفع يديه في الصلاة عند الركوع، وعند الرفع، فقال له: لا تفعل، فإن هذا شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه، لكن هذا الأثر لم يجده المخرجون المحدثون مسنداً في كتب الحديث، مع أنه أخرج البخاري في رسالة "رفع اليدين"، عن عبد الله بن الزبير أنه كان يرفع يديه عند الخفض والرفع، وكذا أخرجه، عن ابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وجابر وأبي هريرة وأنس أنهم كانوا يرفعون أيديهم. وأخرج البيهقي، عن الحسين، قال: سألت طاووساً عن رفع اليدين في الصلاة، فقال: رأيت عبدَ الله بنَ عباس وابنَ الزبير وابنَ عمر يرفعون أيديهم إذا افتتحوا الصلاة، وإذا ركعوا، وإذا سجدوا. وأخرج أيضاً، عن عبد الرزاق قال: ما رأيت أحسنَ صلاةً من ابن جريج رأيته يرفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   يديه إذا افتتح، وإذا رفع. وأخذ ابن جريج صلاته عن عطاء بن أبي رباح وأخذ عطاء، عن عبد الله بن الزبير، وأخذ ابن الزبير، عن ابي بكر الصديق رضي الله عنه. ومنهم ابن عباس، حكى عنه بعض أصحابنا أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه كلما ركع، وكلما رفع، ثم صار إلى افتتاح الصلاة، وترك ما سوى ذلك. لكنه أثر لم يثبته المحدثون، والثابت عندهم خلافه، قال ابن الجوزي في "التحقيق"، بعد ذكر ما حكاه أصحابنا، عن ابن عباس وابن الزبير: هذان الحديثان لا يُعرفان أصلاً، وإنما المحفوظ عنهما خلاف ذلك، فقد أخرج أبو داود، عن ميمون أنه رأي ابن الزبير يشير بكفيه حين يقوم، وحين يركع، وحين يسجد، وحين ينهض للقيام، فانطلقتُ إلى ابن عباس، فقلت" إني رأيتُ ابن الزبير صلّى صلاة لم أرَ أحداً يصلّيها، فوصفت له، فقال: أنْ أحببتَ أن تنظر إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقتدِ بصلاة عبد الله بن الزبير. انتهى. وردَّه العينيّ بأن قوله: لا يُعرفان، لا يَستلزم عدم معرفة أصحابنا، هذا ودعوى النافي ليست بحجة على المثتب، وأصحابنا أيضاً ثقات، لا يَرَوْن الاحتجاج بما لم يثبت عندهم صحته. انتهى. وفيه نظر ظاهر، فإنه ما لم يوجد سند أثر ابن عباس وابن الزبير في كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة كيف يعتبر به بمجرَّد حسن الظن بالناقلين، مع ثبوت خلافه عنهما، بالأسانيد العديدة. ومنهم أبو بكر الصديق أخرج الدارقطني وابن عدي، عن محمد بن جابر، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: صلَّيْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلم يرفعوا أيديهم إلاَّ عند استفتاح الصلاة. وفيه محمد بن جابر، متكلَّم فيه، ويخالفه ما أخرجه أبو داود، عن ميمون كما مرَّ نقلاً عن "التحقيق". ومنهم العشرة المبشرة، كما حكى بعض أصحابنا، عن ابن عباس أنه قال: لم يكن العشرة المبشرة يرفعون أيديهم إلاَّ عند الافتتاح، ذكره الشيخ عبد الحق الدهلوي في "شرح سفر السعادة"، ولا عبرة بهذا الأثر ما لم يوجد سنده عند مهرة الفن، مع ثبوت خلافه في كتب الحديث مما يؤيد عدم الرفع من الأخبار المرفوعة ما أخرجه الترمذي وحسّنه والنسائي وأبو داود، عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 105 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بْنِ صالح، عن عاصم بن كٌلَيْب (1) الجَرْمي،   علقمة قال: قال عبد الله بن مسعود: ألا أصلّي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى، فيم يرفع يديه إلا أول مرة. وأخرج أبو داود، عن البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلمإذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب أذنيه، ثم لا يعود. وأخرج البيهقي من حديث ابن عمر وعباد بن الزبير مثله. وللمحدثين على طرق هذه الأخبار كلمات تدل على عدم صحتها، لكن لا يخفى على الماهر أن طرق حديث ابن مسعود تبلغ درجة الحسن. والقدر المتحقَّق في هذا الباب هو ثبوت الرفع وتركه كليهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رواة الرفع من الصحابة جم غفير، ورواة الترك جماعة قليلة، مع عدم صحة الطرق عنهم إلا عن ابن مسعود، وكذلك ثبت الترك، عن ابن مسعود وأصحابه بأسانيد محتجّة بها، فإذن نختار أن الرفع ليس بسنَّة مؤكدة يُلام تاركها إلا أن ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر وأرجح. وأما دعوى نسخه كما صدر عن الطحاوي مغتراً بحسن الظن بالصحابة التاركين، وابن الهمام والعيني، وغيرهم من أصحابنا، فليست بمبرهن عليها بما يشفي العليل ويروي الغليل. (1) قوله: عن عاصم بن كليب، هو عاصم بن كليب مصغراً، ابن شهاب بن المجنون الجرمي الكوفي، روى عن أبيه وأبي بريدة وعلقمة بن وائل بن حجر وغيرهم، وعنه شعبة، والسفيانان، وغيرهم، وثَّقه النسائي، وابن معين، وقال أبو داود: كان من أفضل أهل الكوفة، وذكره ابن حبان في الثقات، وأرَّخ وفاته سنة 137 هـ. وأبوه كليب بن شهاب ثقة، كذا في "تهذيب التهذيب" و"الكاشف"، وفي "أنساب السمعاني": الجرمي: بفتح الجيم وسكون الراء المهملة نسبة إلى جَرْم، قبيلة باليمن، ومنها من الصحابة: شهاب بن المجنون الجَرْمي جَدّ عاصم بن كليب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ علىَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (1) رَفَعَ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى (2) مِنَ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. 106 - قَالَ مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بْنِ صالح، عن   (1) قوله: رأيت على بن أبي طالب، كذا أخرجه الطحاوي، عن أبي بكر النهشلي، عن عاصم، عن أبيه، أن علياً كان يرفع في أول تكبيرة من الصلاة، ثم لا يعود، وقال الدارقطني في "علله": اختلف علي أبي بكر النهشلي فيه، فرواه عبد الرحيم بن سليمان عنه، عن عاصم، عن أبيه مرفوعاً، ووهم في رفعه، وخالفه جماعة من الثقات: منهم عبد الرحمن بن مهدي وموسى بن داود وأحمد بن يونس وغيرهم. فَرَوَوْه، عن أبي بكر النهشلي موقوفاً على علي، وهو الصواب. وكذلك رواه محمد بن أبان عن عاصم موقوفاً. انتهى. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قد روي من طرقٍ واهية، عن علي أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لا يعود، وهذا ضعيف، إذ لا يُظَنّ بعليٍّ أنه يَختار فعلَه على فعلِ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد روي عنه أنه كان يرفع يديه عند الركوع والرفع. انتهى. وتعقَّبه ابن دقيق العيد في "الإمام" بأن ما قاله ضعيف، فإنه جعل روايته مع حسن الظن بعليّ في ترك المخالفة دليلاً على ضعف هذه الرواية، وخصمه يعكس الأمر، ويجعل فعل عليّ رضي الله عنه بعد الرسول دليلاً على نسخ ما تقدم، انتهى. وذَكَر الطحاوي بعد روايته، عن عليّ: لم يكن عليّ ليرى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، ثم يتركه إلاّ وقد ثبت عنده نسخه. انتهى. وفيه نظر، فقد يجوز أن يكون ترك عليّ وكذا ترك ابن مسعود، وترك غيرهما من الصحابة إنْ ثبت عنهم، لأنهم لم يروا الرفع سنَّةً مؤكَّدة يلزم الأخذ بها ولا ينحصر ذلك في النسخ، بل لا يُعتبر بنسخ أمر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد حسن الظن بالصحابي مع إمكان الجمع بين فعل الرسول وفعله. (2) عند افتتاح الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي، قَالَ: لا تَرْفَعْ يَدَيْكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلاةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولَى. 107 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (1) ، أخبرنا حُصَين بن عبد الرحمن (2) ،   (1) قوله: يعقوب بن إبراهيم، هو الإمام أبو يوسف القاضي صاحب الإمام أبي حنيفة، قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ": القاضي أبو يوسف فقيه العراقيين يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي، صاحب أبي حنيفة، سمع هشام بن عروة وأبا إسحاق الشيباني وعطاء بن السائب وطبقتهم. وعنه محمد بن الحسن الفقيه وأحمد بن حنبل وبشر بن الوليد ويحيى بن معين، نشأ في طلب العلم، وكان أبوه فقيراً، فكان أبو حنيفة يتعاهده قال المزني: هو أتبع القوم للحديث. وقال يحيى بن معين: ليس في أصحاب الرأي أحد أكثر حديثاً ولا أثبت من أبي يوسف، وقال أحمد: كان منصفاً في الحديث، مات في ربيع الآخر سنة 182 هـ عن سبعين سنة إلا سنة وله أخبار في العلم والسيادة، قد أفردته وأفردت صاحبه محمد بن الحسن في جزء، وأكبر شيخ له حصين بن عبد الرحمن. انتهى ملخّصاً. وله ترجمة طويلة في "أنساب السمعاني"، قد ذكرته في مقدمة هذه الحواشي وذكرت ترجمتَه أيضاً في "مقدمة الهداية" وفي "النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير" وفي "الفوائد البهية في تراجم الحنفية". (2) قوله: أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، هو حصين، بالضم، ابن عبد الرحمن السلمي، الكوفي، أبو الهذيل، ابن عم منصور بن المعتمر، حدث عن جابر بن سمرة، وعمارة بن رويبة وابن أبي ليلى، وأبي وائل، وعنه شعبة، وأبو عوانة، وآخرون، كان ثقةً حجةً حافظاً عالي الإسناد. قال أحمد: حصين ثقة، مأمون من كبار أصحاب الحديث، عاش ثلاثاً وتسعين سنة، ومات سنة 136 هـ، كذا في "تذكرة الحفاظ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ (1) عَلَى إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ عَمْرُو: حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ وائل الحضرمي، عن   (1) قوله: وعمرو بن مرّة، هو أبو عبد الله عَمرو، بالفتح، بن مُرَّة، بضم الميم، وتشديد الراء، ابن عبد الله بن طارق بن الحارث بن صلمة بن كعب بن وائل بن جمل بن كنانة بن ناجية بن مراد الجملي المرادي الكوفي الأعمى. روى عن عبد الله بن أبي أوفى وأبي وائل وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمرو بن ميمون الأودي، وسعيد بن جبير، ومصعب بن سعد والنَّخَعي وغيرهم، وعنه ابنه عبد الله وأبو إسحاق السبيعي والأعمش ومنصور وحصين ابن عبد الرحمن والثوري وشعبة وغيرهم. قال ابن معين: ثقة، وأبو حاتم: صدوق، ثقة، وشعبة: كان أكثرهم علماً، وما رأيت أحداً من أصحاب الحديث إلا يدلّس إلا ابنَ عون، وعمرو بن مرة، ومسعر، لم يكن بالكوفة أحبّ إليّ، ولا أفضل منه، ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات"، وقال: كان مرجئاً، مات سنة 116 هـ، وثَّقه ابن نمير ويعقوب بن سفيان كذا في "تهذيب التهذيب" و"الكاشف" و"تذكرة الحفاظ" وقد أخطأ القاريّ حيث قال: دخلت أنا وعمرو بن مرّة، بضم الميم وتشديد الراء، يُكنى أبا مريم الجهني، شهد أكثر المشاهد، وسكن الشام، مات في أيام معاوية، وروى عنه جماعة، كذا في "اسماء رجال المشكاة" لصاحب المشكاة في فصل الصحابة. انتهى كلامه. وجه الخطأ من وجوه: أحدها: أنه لو كان الداخل على النخعي مع حصين عمرو بن مُرّة الصحابي لذَكَرَ رؤيتَه الرفع أو عدمه، فإنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه المشاهد، وصلى معه غير مرة، فكيف يصحّ أن يروي عن وائل بواسطة ابنه الرفعَ ثم يسكت على ردّ النخعي بفعل ابن مسعود وروايته ولا يذكره ما رآه رفعاً كان أو غير رفع؟! ثانيها: عن (في الأصل: "عن"، وهي زائدة) عمرو بن مرّة هذا لم يذكره أحد من نقّاد الرجال في ما علمنا من جملة الرواة، عن علقمة بن وائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أَبِيهِ (1) : أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَرَآهُ يرفع يديه إذا كبَّر، وإذا ركع،   وثالثها: أنه لم يذكره أحد في علمنا ممن روى عنه حصين، بل المذكور في شيوخ حصين ورواة علقمة هو الذي ذكرناه. ورابعها: أن هذا الصحابي مات في أيام معاوية، ووفاة معاوية كانت سنة ستين أو تسع وخمسين على ما في "استعياب ابن عبد البر" وغيره من كتب أخبار الصحابة، فلا بد أن يكون وفاة عمرو بن مرّة قبله، وقد ذكر ابن حبان في "كتاب الثقات"، أن ولادة إبراهيم النخعي سنة خمسين، وكذا ذكره غيره، فعلى هذا يكون النخعي يوم موت معاوية ابن تسع أو عشر سنين، وعند موت عمرو بن مرة الجهني أصغر منه، فهل يتصور أن يحضر عمرو بن مرّة عند هذا الصبي صغير السن بكثير، ويروي عنده الرفع، عن علقمة، عن أبيه، ويرد عليه هذا الصبي؟! وأما الحوالة إلى "أسماء رجال المشكاة" فلا تنفع، فإنه لم يذكر صاحب "المشكاة" أن عمرو بن مرّة أينما ذكره هو هذا، بل إنما هو عمرو بن مرّة المذكور في "المشكاة" وإني أتعجب من العلاّمة القاري كيف يخطئ خطأً كثيراً في تعيين الرواة في شرحه" الموطأ"، وشرحه لمسند الإمام الأعظم وغيرهما، مع جلالته وتوغُّله في فنون الحديث ومتعلقاته، والله يسامح عنا وعنه. (1) قوله: عن أبيه، أي: وائل الحَضرمي، بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وفتح الراء المهملة نسبة إلى حضرموت، بلدة في اليمن، وكان وائل بن حُجر - بضم الحاء المهملة وسكون الجيم - ملكاً عظيماً بها، فلما بلغه ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ترك ملكه، ونهض إليه، فبشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بقدومه قبل قدومه بثلاثة أيام، ولما قدم قرَّبه من مجلسه وقال: هذا وائل أتاكم من أرض اليمن - أرض بعيدة - طائعاً، غير مُكرَه، راغباً في الله ورسوله، اللهم بارك في وائل وولده، ثم أقطع له أرضاً، كانت وفاته في إمارة معاوية، حدّث عنه بنوه علقمة وعبد الجبار، كذا في "أنساب السمعاني". وفي "جامع الأصول" لابن الأثير: أبو هنيدة وائل بن حجر بن ربيعة بن وائل الحضرمي كان قَيلاً من أقيال حضرموت، وأبوه كان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وَإِذَا رَفَعَ (1) ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا أَدْرِي (2) لعلَّه لَمْ يَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي   ملوكهم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وبشَّر به قبل قدومه. انتهى. وفي "تهذيب التهذيب": علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي الكندي الكوفي، روى عن أبيه والمغيرة بن شعبة وطارق بن سويد، وعنه أخوه عبد الجبار وابن أخيه سعيد وعمرو بن مرَّة وسماك بن حرب، وغيرهم، ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال ابن سعد: كان ثقةً، قليل الحديث. وحكى العسكري عن ابن معين أنه قال: علقمة، عن أبيه مرسل. انتهى. (1) رأسه من الركوع. (2) قوله: ما أدري ... إلخ، استبعاد من إبراهيم النخعي رواية وائل بأن ابن مسعود كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر ومصاحبته أتمّ وأزيد من مصاحبة وائل، فكيف يعقل أن يحفظ رفع اليدين وائل ولا يحفظ ابن مسعود، فلو كان رفع اليدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفظه ابن مسعود ولم يتركه مع أنه لم يرفع إلا مرة، ولم يرو الرفعَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل رُوي عنه تركه، وهذا الأثر عن النخعي قد أخرجه الدارقطني أيضاً عن حصين، قال: دخلنا على إبراهيم النخعي، فحدثه عمرو بن مرّة، قال: صلينا في مسجد الحضرميين فحدّثني علقمة بن وائل، عن أبيه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حين يفتتح، وإذا ركع، وإذا سجد، فقال إبراهيم: ما رأى أباه رسول الله إلا ذلك اليوم، فحفظ عنه ذلك، وعبد الله بن مسعود لم يحفظه إنما رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. ورواه أبو يعلى في "مسنده" ولفظه: أحفظ وائل ونسي ابن مسعود، ولم يحفظه؟! إنما رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. وأخرجه الطحاوي، عن حصين، عن عمرو بن مرّة قال: دخلت مسجد حضرموت، فإذا علقمة بن وائل يحدّث، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه قبل الركوع وبعده، فذكرت ذلك لإبراهيم فغضب، وقال: رآه هو لم يَرَه ابن مسعود ولا أصحابه. وأخرج عن المغيرة قال: قلت لإبراهيم: حدّث وائل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح، وإذا ركعَ، وإذا رفع؟ فقال: إنْ كان رآه مرة يفعل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   فقد رآه عبد الله خمسين مرة، لا يفعل ذلك. وههنا أبحاث: الأول: ما نقله البيهقي في كتاب "المعرفة"، عن الشافعي أنه قال: الأَولى أن يُؤخذ بقول وائل لأنه صحابي جليل، فكيف يُرَدُّ حديثه بقول رجل ممن هو دونه؟! والثاني: ما قاله البخاري في رسالة "رفع اليدين": إن كلام إبراهيم هذا ظن منه لا يرفع به رواية وائل، بل أخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فرفع يديه، وكذلك رأى أصحابه غير مرة يرفعون أيديهم، كما بيّنه زائدة، فقال: نا عاصم، نا أبي، عن وائل بن حجر: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فرفع يديه في الركوع، وفي الرفع منه، قال: ثم أتيتهم بعد ذلك، فرأيت الناس في زمان برد عليهم جُلّ الثياب تتحرك أيديهم من تحت الثياب. والثالث: ما نقله الزيلعي، عن الفقيه أبي بكر بن إسحاق أنه قال: ما ذكره إبراهيم علّة لا يساوي سماعها، لأن رفع اليدين قد صحّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الخلفاء الراشدين، ثم الصحابة والتابعين، وليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يُستغرب، فقد نسي من القرآن ما لم يختلف فيه المسلمون فيه وهو المعوِّذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه كالتطبيق في الركوع، وقيام الاثنين خلف الإمام، ونسي كيفية جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض في السجود، ونسي كيف قرأ رسول الله: {وما خَلَقَ الذكر والأنثى} ، وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة كيف لا يجوز مثله في رفع اليدين؟ انتهى. والرابع: أن وائلاً ليس بمتفرِّد في رواية الرفع، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد اشترك معه جمع كثير كما مرّ ذكره سابقاً، بل ليس في الصحابة من روى ترك الرفع فقط إلاّ ابن مسعود، وأما من عداهم، فمنهم من لم تُرو عنه إلاّ رواية الرفع، ومنهم من روى عنه حديث الرفعِ وتركِه كليهما كابن عمر والبراء إلاَّ أن أسانيد رواية الرفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 إلاَّ ذلك اليوم فحفظ هذا (1)   أوثق وأثبت، فعند ذلك لو عُورض كلام إبراهيم بأنه يُستبعد أن يكون ترك الرفع حفظه ابن مسعود فقط ولم يحفظه من عداه من أجلَّة الصحابة الذين كانو مصاحِبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مصاحبة ابن مسعود أو أكثر لكان له وجه. والخامس: أنه لا يلزم من ترك ابن مسعود الرفع وأصحابه عدم ثبوت رواية وائل، فيجوز أن يكون تركهم لأنهم رأوا الرفع غير لازم، لا لأنه غير ثابت، أو لأنهم رجَّحوا أحد الفعلين الثابتين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفع والترك فداوموا عليه وتركوا الآخر، ولا يلزم منه بطلان الآخر. السادس: أنه قد أخذ ابن مسعود بالتطبيق في الركوع، وداوم عليه أصحابه، وكذلك أخذوا بقيام الإمام في الوسط إذا كان من يقتدي به اثنين مع ثبوت ترك ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جمهور أصحابه بعده بأسانيد صحاح. فلِمَ لا يُعتبر فعل ابن مسعود في هذين الأمرين. وأمثال ذلك؟ فما هو الجواب هناك هو الجواب ههنا (قد ردَّ الحافظ ابن التركماني جميع إيرادات البيهقي في الجوهر النقي 1/139 - 140، فارجع إليه) ، والإنصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى ردّ روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعلِه وأصحابه ودعوى عدم ثبوت الرفع ولا إلى رد روايات الترك بالكلية ودعوى عدم ثبوته، ولا إلى دعوى نسخ الرفع ما لم يثبت ذلك بنص عن الشارع، بل يُوفى كلٌّ من الأمرين حظّه، ويقال: كل منهما ثابت، وفعل الصحابة والتابعين مختلف، وليس أحدهما بلازم يُلام تاركه، مع القول برجحان ثبوت الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) أي: الرفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 مِنْهُ، وَلَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ (1) مَا سَمِعْتُهُ (2) مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، إِنَّمَا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي بَدْء (3) الصَّلاةِ حِينَ يكبِّرون. 108 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ (4) ، قَالَ: رَأَيْتُ ابن عمر (5) يرفع يديه حذاء أذنيه   (1) قال القاري: أي: وسائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وفيه ما فيه، والظاهر أنَّ ضمير أصحابه راجح إلى ابن مسعود. (2) أي: الرفع. (3) البَدْ بالفتح، الإبتداء. (4) قوله: عن عبد العزيز بن حكيم، ذكره ابن حبان في "ثقات التابعين" (انظر ترجمته في كتاب الثقات 5/125، والتاريخ الكبير: 3/2/11) ، حيث قال: عبد العزيز بن حكيم الحضرمي كنيته أبو يحيى، يروي عن ابن عمر، عداده في أهل الكوفة، روى عنه الثوري وإسرائيل، مات بعد سنة 130 هـ، وهو الذي يقال له ابن أبي حكيم. انتهى. وفي "ميزان الاعتدال" قال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. (5) قوله: قال: رأيت ابن عمر ... إلخ، المشهور في كتب أصول أصحابنا أن مجاهداً قال: صحبت ابن عمر عشر سنين، فلم أره (في الأصل: "فلم أر" والظاهر: "فلم أره") ، يرفع يديه إلاَّ مرة. وقالوا: قد روى ابن عمر حديث الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه والصحابي الراوي إذا ترك مروياً ظاهراً في معناه غير محتمل للتأويل، يُسقط الاحتجاج بالمروي، وقد روى الطحاوي من حديث أبي بكر بن عيّاش، عن حصين، عن مجاهد أنه قال: صلِّيت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلاَّ في التكبيرة الأولى من الصلاة، ثم قال: فهذا ابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، ثم قد ترك هو الرفع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك إلاَّ وقد ثبت عنده نسخه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وههنا أبحاث: الأول: مطالبته إسناد ما نقلوه عن مجاهد من أنه صحب عشر سنين، ولم يرَ ابن عمر فيها يرفع يديه إلاَّ في التكبير الأول. والثاني: المعارضة بخبر طاووس وغيره من الثقات أنهم رأوا ابن عمر يرفع. والثالث: أن في طريق الطحاوي أبو بكر بن عيّاش، وهو متكلَّم فيه لا توازي روايته رواية غيره من الثقات. قال البيهقي في كتاب "المعرفة" بعد ما أخرج حديث مجاهد من طريق ابن عيّاش، قال البخاري: أبو بكر بن عياش اختلط بآخره، وقد رواه الربيع وليث وطاووس وسالم ونافع وأبو الزبير ومحارب بن دثار وغيرهم قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبَّر، وإذا رفع، وكان يرويه أبو بكر قديماً، عن حصين عن إبراهيم، عن ابن مسعود مرسلاً موقوفاً أن ابن مسعود كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يرفعهما بعد، وهذا هو المحفوظ عن أبي بكر بن عيّاش، والأول خطأ فاحش لمخالفته الثقات عن ابن عمر. انتهى. فإن قلت آخذاً من "شرح معاني الآثار" أنه يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رآه طاووس قبل أن يقوم الحجة بنسخه، ثم لمّا ثبت الحجة بنسخه عنده تركه، وفَعَل ما ذكره مجاهد، قلتُ: هذا مما لا يقوم به الحجة، فإن لقائل أن يعارِض ويقول: يجوز أن يكون فعل ابن عمر ما رواه مجاهد قبل أن تقوم الحجة بلزوم الرفع، ثم لما ثبتت عنده التزم الرفع على أن احتمال النسخ احتمال من غير دليل، فلا يُسْمعْ. فإن قال قائل: الدليل هو خلاف الراوي مرويَّه، قلنا: لا يوجب ذلك النسخ كما مرّ. والثالث: وهو أحسنها أنا سلَّمنا ثبوتَ الترك عن ابن عمر لكن يجوز أن يكون تركه لبيان الجواز، أو لعدم رؤيته الرفع سنَّة لازمة، فلا يقدح ذلك في ثبوت الرفع عنه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الرابع: أن ترك الراوي مرويّه إنما يكون مسقطاً للاحتجاج عند الحنفية إذا كان خلافُه بيقين، كما هو مصرَّح في كتبهم وههنا ليس كذلك، لجواز أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةِ افْتِتَاحِ الصَّلاةِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ (1) . 109 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَهْشَليُّ (2) ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيب الجَرْمي، عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَ (3) مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ -: أنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - كرَّم اللَّهُ وَجْهَهُ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى الَّتِي يَفْتَتِحُ بِهَا الصَّلاةَ، ثُمَّ لا يرفعهما في شيء من الصلاة.   الرفع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله ابن عمر على العزيمة، وتَرَكَ أحياناً بياناً للرخصة، فليس تركه خلافاً لروايته بيقين. الخامس: أنه لا شبهة في أن ابن عمر قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الرفع، بل ورد في بعض الروايات عنه أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع، وكان لا يفعل ذلك في السجود، فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله، أخرجه البيهقي. ولا شك أيضاً في أنه ثبت عن ابن عمر بروايات الثقات فعل الرفع، وورد عنه برواية مجاهد وعبد العزيز بن حكيم الترك، فالأَولى أن يُحمل الترك المرويّ عنه على وجه يستقيم ثبوت الرفع منه، ولا يخالف روايته أيضاً، إلا أن يُجعل تركه مضاداً لفعله، ومُسقطاً للأمر الثابت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بروايته ورواية غيره. (1) أي: في الركوع والرفع وغير ذلك. (2) قوله: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله النهشلي، نسبة إلى بني نَهْشل، بفتح النون وسكون الهاء، وفتح الشين المعجمة بعدها لام، قبيلة. ذكره السمعاني في "الأنساب". وفي "التقريب" و"الكاشف": أبو بكر النهشلي الكوفي، قيل: اسمه عبد الله بن قطاف أو ابن أبي قطاف، وقيل: وهب، وقيل: معاوية صدوق ثقة، توفي سنة 166. انتهى. لعله هو. (3) الضمير إلى كُليب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 110 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ (1) ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ (2) يديه إذا افتتح الصلاة.   (1) هو: إبراهيم بن يزيد النخعي. (2) قوله: أنه كان يرفع ... إلخ، أخرجه الطحاوي من طريق حصين عن إبراهيم قال: كان عبد الله لا يرفع يديه في شيء من الصلاة إلاّ في الافتتاح. وقال: فإن قالوا ما ذكرتموه عن إبراهيم عن عبد الله غير متصل، قيل لهم: كان إبراهيم إذا أرسل عن عبد الله لم يرسله إلاّ بعد صِحّتِه عنده وتَوَاتُرِ الرواية، عن عبد الله، قد قال له الأعمش: إذا حدثتني فأسند، فقال: إذا قلتُ لك: قال عبد الله،، فلم أقل ذلك حتى حدثّنيه جماعة عن عبد الله، وإذا قلتُ: حدثني فلان، عن عبد الله فهو الذي حدثني، حدثنا بذلك إبراهيم بن مرزوق، قال: نا ابن وهب، أو بشر بن عمر - شك أبو جعفر الطحاوي - عن سعيد، عن الأعمش بذلك، فكذلك هذا الذي أرسله إبراهيم عن عبد الله، لم يرسله إلاّ ومخرجه عنده أصح من مخرج ما يرويه رجل بعينه عن عبد الله. انتهى كلامه. وفي "الاستذكار" لابن عبد البر: لم يُروَ عن أحد من الصحابة تركُ الرفع ممن لم يُختلف عنه فيه إلاّ ابن مسعود وحده. وروى الكوفيون عن علي مثلَ ذلك، وروى المدنيون عنه الرفع، من حديث عبيد الله بن أبي رافع. وكذلك اختُلف عن أبي هريرة، فروى عنه أبو جعفر القاري ونُعيم المُجمر أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ويكبِّر في كل خفض رفع، ويقول: أنا أشبهكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه عبد الرحمن بن هرمز الأعرج أنه كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه، وهذه الرواية أَولى لما فيها من الزيادة. ورُوى الرفع عن جماعة من التابعين بالحجاز والعراق والشام منهم القاسم بن محمد والحسن وسالم وابن سيرين وعطاء وطاووس ومجاهد ونافع مولى ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وابن أبي نَجيح وقتادة. انتهى ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 34 - (باب القراءة في الصلاة خلف الإمام (1))   فائدة: قال صاحب "الكنز المدفون والفلك المشحون": وقفت على كتاب لبعض المشايخ الحنفية ذكر فيها مسائل خلاف، ومن عجائب ما فيه الاستدلال على ترك رفع اليدين في الانتقالات بقوله تعالى: {ألم ترَ إلى الذين قِيلَ لَهُم كُفّوا أَيْدِيَكُمْ وَأقِيمُوا الصَّلاةَ} (سورة النساء: آية 77) وما زلتُ أحكي ذلك لأصحابنا على سبيل التعجب إلى أن ظفرت في "تفسير الثعلبي" بما يهوِّن عنده هذا العظيم، وذلك أنه حكى في سورة الأعراف، عن التنّوخي القاضي أنه قال في قوله تعالى: {خُذُوا زِيْنَتَكُمُ عنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (سورة الأعراف: آية 31) : إن المراد بالزينة رفع اليدين في الصلاة. فهذا في هذا الطرف، وذاك في الطرف الآخر. (1) قوله: خلف الإمام، اختلف فيه العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أقوال: الأول: أنه يقرأ مع الإمام في ما أسرّ، ولا يقرأ في ما جهر، وإليه ذهب مالك، وبه قال سعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود وسالم بن عبد الله بن عمر، وابن شهاب، وقتادة، وعبد الله بن المبارك، وأحمد وإسحاق، والطبري، إلا أن أحمد قال: إن سمع في الجهرية لا يقرأ وإلاّ قرأ. واختُلف عن علي وعمر وابن مسعود، فرُوي عنهم أن المأموم لا يقرأ وراء الإمام لا في ما أسرَّ ولا في ما جهر، وروي عنهم أنه يقرأ في ما أسرّ لا في ما جهر، وهو أحد قولي الشافعي كان يقوله بالعراق، وهو المرويّ عن أبي بن كعب وعبد الله بن عمر. والثاني: أنه يقرأ بأم الكتاب في ما جهر وفي ما أسرّ، وبه قال الشافعي بمصر، وعليه أكثر أصحابه، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبو ثور. وهو قول عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عباس، واختُلف فيه عن أبي هريرة، وبه قال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير والحسن البصري ومكحول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والثالث: أنه لا يقرأ شيئاً في ما جهر ولا في ما أسرَّ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول جابر بن عبد الله وزيد بن ثابت، ورُوي ذلك عن علي وابن مسعود. وبه قال الثوري وابن عيينة وابن أبي ليلى والحسن بن صالح بن حَيّ وإبراهيم النخعي وأصحاب ابن مسعود، كذا ذكره ابن عبد البر في "الاستذكار" و"التمهيد". وأما حجة أصحاب القول الأول، فاستدلوا بقوله تعالى: {وإذَا قُرئ القُرْآنُ فَاستَمِعُوا لهُ وأنْصِتُوا} (سورة الأعراف: رقم الآية 204) ، وقالوا: إن نزوله كان في شأن القراءة خلف الإمام (وذكر الزيلعي أخباراً في أنَّ هذه الأية نزلت في القراءة خلف الإمام 1/432) ، فقد أخرج ابن مردويه والبيهقيّ، عن ابن عباس، قال: صلّى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ خلفه قوم، فخلطوا عليه، فنزلت هذه الآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي، عن محمد بن كعب القُرَظي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصلاة أجابه من وراءه، إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا مثلَ ما يقول حتى تنقضي فاتحة الكتاب والسورة، فنزلت. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي، عن مجاهد قال: قرأ رجل من الأنصار خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في كتاب "القراءة"، عن عبد الله بن مغفَّل: أنه سُئل: أكلّ من سمع القرآن وجب عليه الاستماع والإنصات؟ قال: إنما أُنزلت هذه الآية: {فَاستَمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا} في قراءة الإمام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والبيهقي، عن ابن مسعود: أنه صلّى بأصحابه، فسمع ناساً يقرؤون خلفه، فقال: أما أن لكم أن تفهمون؟ أما آن لكم أن تعقلون؟ {وإذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَه} . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن أبي هريرة أنه قال: نزلت هذه الآية في رفع الأصوات، وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة. وأخرج ابن جرير والبيهقي عن الزهري: نزلت هذه الآية في فتىً من الأنصار كان رسولُ الله كلما قرأ شيئاً قرأه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ والبيهقي، عن أبي العالية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى بأصحابه، فقرأ، فقرأ أصحابه، فنزلت. وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنَّف"، عن أبراهيم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، ورجل يقرأ، فنزلت. وإذا ثبت هذا، فنقول: من المعلوم أن الاستماع إنما يكون في ما جهر به الإمام، فيَتْرُك المؤتمّ فيه القراءة، ويؤيده من الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذَا قَرَأَ الإمام فأنْصِتُوا"، أخرجه أبو داود وابن ماجه والبزار وابن عديّ من حديث أبي موسى، والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة، وأخرجهما ابن عبد البر في "التمهيد"، ونقل عن أحمد أنه صححه، ولأبي داود وغيره في صحته كلام، قد تعقَّبه المنذري وغيره. فهذا في ما جهر الإمام، وأما في ما أسرَّ، فيقرأ أخذاً بعموم لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب، وغير ذلك من الأحاديث. وأما أصحاب القول الثاني، فأقوى حججهم حديث عبادة: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ فثَقُلَتْ عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم، يا رسول الله، فقال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها. أخرجه أبو داود والترمذي وحسَّنه والنسائي والدارقطني وأبو نعيم في "حلية الأولياء"، وابن حبان والحاكم. وأما أصحاب القول الثالث، فاستدلوا بحديث: "من كان له إمام فقراءه الإمام قراءة له" وسنذكر طرقه إن شاء الله تعالى، وبآثار الصحابة التي ستأتي. والكلام في هذا المبحث طويل وموضعه شرحي لشرح الوقاية المسمَّى بـ"السعاية في كشف ما في شرح الوقاية"، وفقنا الله لاختتامه (بلغ الكتاب إلى (فروع مهمة متعلِّقة بالقراءة في الصلاة) ، وقد انتقل مؤلِّفه إلى جوار رحمة الله تعالى، وطبع الكتاب في مجلد ضخم في جزأين من باكستان سنة 1976 م) . وقد أفردتُ لهذه المسألة رسالة سميتها بـ "إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 111 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (1) ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أُكَيْمة (2) اللَّيْثِيِّ (3) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلاةٍ (4) جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ مَعِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رسول، قَالَ (5) : فَقَالَ: إِنِّي أقُول (6) مَا لِي أُنازَع (7) القرآن (8) ؟   (وطُبع الكتاب من مدينة لكنؤ بالهند سنة 1304 هـ) . (1) قوله: مالك، قال ميرك نقلاً عن ابن الملقن: حديث أبي هريرة هذا رواه مالك والشافعي والأربعة، وصححه ابن حبان، وضعفه البيهقي والحميدي، وبهذا يُعلم أن قول النووي اتفقوا على ضعف هذا الحديث غير صحيح، كذا في "مرقاة المفاتيح شرح المشكاة". (2) قوله: ابن أُكيْمة، بضم الهمزة وفتح الكاف مصغر أكمة، واسمه عمارة، بضم المهملة، والتخفيف، والهاء، وقيل: عَمَار بالفتح والتخفيف، وقيل: عمرو، بفتح العين، وقيل: عامر الليثي أبو الوليد المدني، ثقة، مات سنة إحدى ومائة، قاله الزرقاني. (3) ولابن عبد البر من طريق سفيان، عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. (4) رواه أبو داود، عن سفيان، عن الزهري بسنده، فقال: نظن أنها صلاة (5) أي: أبو هريرة. (6) هو بمعنى التثريب واللوم لمن فعل ذلك. (7) بفتح الزاء، والقرآن منصوب على أنه مفعول ثانٍ، نقله ميرك، وفي نسخة بكسر الزاء. (8) قوله: مَالي أُنازَعُ القرآن، قال الخطابي: أي أُداخل فيه، وأُشارَك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فَانْتَهَى النَّاسُ (1) عَنِ الْقِرَاءَةِ (2) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ بِهِ مِنَ الصَّلاةِ (3) حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ. 111- أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (4) ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أُكَيْمَةَ (5) اللَّيْثِيِّ (6) عَنْ أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلاةٍ (7) جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ مَعِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ (8) : فَقَالَ: إِنِّي أَقُولُ (9) مَا لِي أُنازَع (10) الْقُرْآنَ (11) ؟ فَانْتَهَى النَّاسُ (12) عَنِ الْقِرَاءَةِ (13) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ بِهِ مِنَ الصَّلاةِ (14) حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ. 112 - أَخْبَرَنَا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أنه كَانَ إِذَا سُئِلَ هَلْ يَقْرَأُ أَحَدٌ مَعَ الإِمَامِ؟ قَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ مَعَ الإِمَامِ فحسبُه (15)   وأغالَب عليه، وقال في "النهاية": أي: أجاذب في قراءته كأنهم جهروا بالقراءة خلفه، فشغلوه، كذا في "مرقاة الصعود". (1) قوله: فانتهى الناس، أكثر رواة ابن شهاب عنه لهذا الحديث يجعلونه كلام ابن شهاب، ومنهم من يجعله من كلام أبي هريرة. وفقه هذا الحديث الذي من أجله جيء به هو ترك القراءة مع الِإمام في كل صلاة يجهر فيها الِإمام بالقراءة، فلا يجوز أن يقرأ معه إذا جهر بأم القرآن، ولا غيرها، على ظاهر الحديث وعمومه، كذا قال ابن عبد البر. (2) قوله: عن القراءة، قال المجوزون لقراءة أم القرآن في الجهرية أيضاً، معناه عن الجهر بالقراءة أو عن قراءة السورة، لئلا يخالف حديث عبادة، فإنه صريح في تجويز قراءة أم القرآن في الجهرية، وقال بعضهم: انتهاء الناس إنما كان برأيهم لا بأمر الرسول، فلا حجة فيه. وفيه نظر ظاهر، لأن انتهاءهم كان بعد توبيخِ النبي صلى الله عليه وسلم لهم (1) ، والظاهر اطلاعُه عليه وإقراره بالانتهاء. وأما المانعون مطلقاً، فمنهم من أخذ بظاهر ما ورد في بعض الروايات: فانتهى الناس عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أخذ غير ظاهر، لورود قيد "فيما جهر فيه" في بعضها، وبعض الروايات يفسر بعضاً. والحق أن ظاهر هذا الحديث مؤيد لما اختاره مالك. (3) في نسخة: الصلوات. (4) قوله: مالك، قال ميرك نقلاً عن ابن الملقَّن: حديث أبي هريرة هذا رواه مالك والشافعي والأربعة، وصححه ابن حبان، وضعَّفه البيهقي والحميدي، وبهذا يُعلم أن قول النووي اتفقوا على ضعف هذا الحديث غير صحيح، كذا في "مرقاة المفاتيح شرح المشكاة". (5) قوله: ابن أٌكَيْمة، بضم الهمزة وفتح الكاف مصغر أكمة، واسمه عمارة، بضم المهملة، والتخفيف، والهاء، وقيل: عَمَار بالفتح والتخفيف، وقيل: عمرو، بفتح العين، وقيل: عامر الليثي أبو الوليد والمدني، ثقة، مات سنة إحدى ومائة، قال الزرقاني. (6) ولابن عبد البر من طريق سفيان، عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. (7) رواه أبو داود، عن سفيان، عن الزهري بسنده، فقال: نظنّ أنها صلاة الصبح. (8) أي: أبو هريرة. (9) هو بمعنى التثريب واللوم لمن فعل ذلك. (10) بفتح الزاء، والقرآن منصوب على أنه مفعول ثانٍ، نقله ميرك، وفي نسخة بكسر الزاء. (11) قوله: مَالي أُنازَعُ القرآن، قال الخطابي: أي أُداخل فيه، وأُشارَك وأغالَب عليه، وقال في "النهاية": أي: أُجاذب في قراءته كأنهم جهروا بالقراءة خلفه، فشغلوه، كذا في "مرقاة الصعود". (12) قوله: فانتهى الناس، أكثر رواة ابن شهاب عنه لهذا الحديث يجعلونه كلام ابن شهاب، ومنهم من يجعله من كلام أبي هريرة. وفقه هذا الحديث الذي من أجله جيء به هو ترك القراءة مع الإمام في كل صلاة يجهر فيها الإمام بالقراءة، فلا يجوز أن يقرأ معه إذا جهر بأم القرآن، ولا غيرها، على ظاهر الحديث وعمومه، كذا قال ابن عبد البر. (13) قوله: عن القراءة، قال المجوِّزون لقراءة أم القرآن في الجهرية أيضاً، معناه عن الجهر بالقراءة أو عن قراءة السورة، لئلا يخالف حديث عبادة، فإنه صريح في تجويز قراءة أم القرآن في الجهرية، وقال بعضهم: انتهاء الناس إنما كان برأيهم لا بأمر الرسول، فلا حجة فيه. وفيه نظر ظاهر، لأن انتهاءهم كان بعد توبيخ النبي صلى الله عليه وسلم لهم (في الأصل: "عليهم"، والظاهر: "لهم") ، والظاهر اطَّلاعُه عليه وإقراره بالانتهاء. وأما المانعون مطلقاً، فمنهم من أخذ بظاهر ما ورد في بعض الروايات: فانتهى الناس عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أخذ غير ظاهر، لورود قيد "فيما جهر فيه" في بعضها، وبعض الوايات يفسِّر بعضاً. والحق أن ظاهر الحديث مؤيِّد لما اختاره مالك. (14) في نسخة: الصلوات. (15) أي: يكفيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 قِرَاءَةُ الإِمَامِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَقْرَأُ مَعَ الإِمَامِ (1) . 113 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ (2) جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بأمّ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يَصُلِّ (3) إلاَّ وَرَاءَ الإِمَامِ (4) . 114 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الْعَلاءُ (5) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يعقوب مولى الحُرَقَة (6)   (1) قوله: لا يقرأ مع الإمام، قال ابن عبد البر: ظاهر هذا أنه كان لا يرى القراءة في سر الإمام ولا جهره، ولكنْ قيَّده مالك بترجمة الباب أن ذلك في ما جهر به الإمام بما علم من المعنى. ويدل على صحته ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن الزهري، عن سالم: أن ابن عمر كان يُنصت للإمام في ما جهر فيه، ولا يقرأ معه، وهو يدل على أنه كان يقرأ معه في ما أسرَّ فيه. (2) قوله: سمع، قال أبو عبد الملك: هذا الحديث موقوف، وقد أسنده بعضهم، أي: رفعه، ورواه الترمذي من طريق معن عن مالك به موقوفاً، وقال: حسن صحيح. (3) لأنه ترك ركناً من أركان الصلاة، وفيه وجوبها في كل ركعة. (4) قال أحمد: فهذا صحابي تأوَّل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" على ما إذا كان وحده، نقله الترمذي. (5) قوله: أخبرني العلاء، هكذا في "الموطأ" عند جميع رواته وانفرد مطرف في غير "الموطأ"، فرواه عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي السائب، وليس بمحفوظ، قاله الزرقاني. (6) قوله: مولى الحُرَقة، بضم الحاء المهملة، وفتح الراء المهملة بعدها قاف، قبيلة من همدان، قاله ابن حبان، أو من جهينة، قاله الدارقطني، وهو الصحيح، كذا في "أنساب السمعاني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا السَّائِبِ (1) مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَنْ صَلَّى صَلاةً (2) لَمْ يَقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِداج (3) هِيَ خِداج هِيَ خِداج (4)   (1) قوله: أبا السائب، قال الحافظ: يقال: اسمه عبد الله بن السائب الأنصاري، المدني، ثقة، روى له مسلم، والأربعة، والبخاري في "جزء القراءة" وهو مولى هشام بن زهرة، ويقال: مولى عبد الله بن هشام بن زهرة، ويقال: مولى بني زهرة. (2) قوله: من صلى صلاة ... إلخ، فيه من الفقه إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في كل صلاة، وأن الصلاة إذا لم يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج وإن قرئ فيها بغيرها من القرآن، والخداج، النقصان والفساد، من ذلك قولهم: أخدجت الناقة، وخدجت إذا ولدت قبل تمام وقتها، قبل تمام الخلق، وذلك نتاج فاسد، وقد زعم من لم يوجب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة أن قوله: خداج يدل على جواز الصلاة لأنه النقصان، والصلاة الناقصة جائزة. وهذا تحكُّم فاسد (والظاهر أنّ هذا رد على الحنفية لأن عامتهم يزعمون أن الحنفية قالوا بجواز الصلاة بدون الفاتحة، ولذا تعجَّب الحافظ في "الفتح" أشدّ التعجب، والحقيقة ليست كذلك لأن الحنفية قالوا بوجوب الفاتحة، انظر أوجز المسالك 2/97) ، والنظر يوجب أن لا يجوز الصلاة، لأنها صلاة لم تتم، ومن خرج من صلاته قبل أن يعيدها، فعليه إعادتها. وأما اختلاف العلماء في هذا الباب، فإن مالكاً والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وداود قالوا: لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: إن تركها عامداً وقرأ غيرها أجزأه، على اختلاف عن الأوزاعي، وقال الطبري: يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة، فإن لم يقرأها لم يُجْز إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها، كذا في "الاستذكار" (2/145) . (3) بكسر الخاء المعجمة، أي: ذات خداج، أي: نقصان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 غَيْرُ تَمَامٍ (1) . قَالَ (2) : قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنِّي أَحْيَانًا أَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ؟ قَالَ: فَغَمَزَ ذِرَاعِي (3) وَقَالَ: يَا فَارِسِيُّ، اقْرَأْ بِهَا (4) فِي نَفْسِكِ (5) ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُسِمت (6)   (4) ذكره ثلاثاً للتأكيد. (1) قوله: غير تمام، هو تأكيد، فهو حجة قوية على وجوب قراءتها في كل صلاة، لكنه محمول عند مالك ومن وافقه على الأمام والفذّ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ فأنصتوا"، رواه مسلم. (2) أبو السائب. (3) قوله: فغمز ذراعي، قال الباجي: هو على معنى التأنيس له، وتنبيهه على فهم مراده والبعث له على جمع ذهنه وفهمه لجوابه. (4) قوله: اقرأ بها، أي سرّاً، وبه استدل من جوَّز قراءة أم القرآن خلف الإمام، في الجهرية أيضاً، وظاهر القرآن والأحاديث يردّه إلا أن يَتتَبَّع سكتات الإمام، ويقرأ بها فيها سرّاً، فحينئذٍ لا يكون مخالفاً للقرآن والحديث. (5) قوله: في نفسك، قال الباجي: أي بتحريك اللسان، بالتكلم، وإن لم يُسمع نفسه، رواه سحنون، عن أبي القاسم: قال: ولو أسمع نفسه يسيراً كان أحبَّ إليّ. (6) قوله: قُسمت الصلاة، قال العلماء: أراد بالصلاة ههنا الفاتحة، سُمِّيت بذلك لأنها لا تصح إلاّ بها، كقولهم: الحج عرفة، والمراد قسمتها من جهة المعنى لأن نصفها الأول تحميد الله وتمجيده، وثناء عليه وتفويض إليه، والثاني سؤال وتضرُّع وافتقار، واحتجَّ القائلون بأن البسملة ليست من الفاتحة بهذا الحديث، قال النووي: وهو من أوضح ما احتجوا به لأنها سبع آيات بالإجماع، فثلاث في أولها ثناء، أوَّلها الحمد، ثلاث دعاء أولها: {اهدِنا الصِّراط المُستَقيمَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والسابعة متوسطة، وهي: {إياك نعبد وإياك نستعين} . قالوا: ولأنَّه لم يذكر البسملة في ما عدّدها، ولو كانت منها لذكرها، كذا في "التنوير". وقال الزيلعي في "نصب الراية": هذا الحديث ظاهر في أن البسملة ليست من الفاتحة وإلاَّ لابتدأ بها لأن هذا محل بيان واستقصاء لآيات السورة، والحاجة إلى قراءة البسملة أمسّ. واعترض بعض المتأخرين على هذا الحديث بوجهين: أحدهما: قال: لا تغترّ بكون هذا الحديث في مسلم، فإن العلاء بن عبد الرحمن قد تكلم فيه ابن معين فقال: الناس يتقون حديثه وليس حديثه بحجة، مضطرب الحديث، ليس بذاك، هو ضعيف، رُوي عنه جميع هذه الألفاظ، وقال ابن عدي: ليس بالقوي، وقد انفرد بهذا الحديث، فلا يُحتج به. الثاني: قال: وعلى تقدير صحته، فقد جاء في بعض الروايات عنه ذكر التسمية، كما أخرجه الدارقطني، عن عبيد الله بن زياد بن سمعان، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، يقول العبد إذا افتتح الصلاة: بسم الله الرحمن الرحيم، فيذكرني عبدي، ثم يقول: الحمد لله رب العالمين، فأقول حمدني عبدي ... الحديث، وهذا القائل حمله الجهل والتعصب على أَن تَرَكَ الحديث الصحيح وضعَّفه لكونه غير موافق لمذهبه، مع أنه روى عن العلاء الأئمة الثقات، كمالك، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، وشعبة، وعبد العزيز الدراوردي، وإسماعيل بن حفص، وغيرهم، والعلاء نفسه ثقة صدوق. وهذه الرواية مما انفرد بها ابن سمعان، وهو كذاب، ولم يخرجها أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا المصنفات المشهورة، ولا المسانيد المعروفة، وإنما رواه الدارقطني في "سننه" التي يروي فيها غرائب الحديث، وقال عَقيبه: وعبيد الله بن زياد بن سمعان متروك الحديث، وذكره في "عِلَلِه" وأطال الكلام. انتهى. وقد بسطت المسألة في رسالتي: "إحكام القنطرة في أحكام البسملة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الصَّلاةَ بَيْنِي (1) وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي (2) ، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي (3) ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ (4) ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤا (5) ، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ: الرَّحْمَنِ الرحيم، يَقُولُ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي (6) ، يَقُولُ الَعَبْدُ: مالِكِ يوم الدين، يَقُولُ اللَّهُ مجَّدني (7) عَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ: إِيَّاكَ نعبد وإياك نستعين، فهذه الآية (8) بيني ووبين عَبْدِي، وَلِعَبْدِي (9) مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ: اهْدِنَا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت   (1) قدَّم نفسه لأنه الواجب الوجود لنفسه، وإنما استفاد العبد الوجود منه. (2) هو: {الحمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، مَالِكِ يَومِ الدِّينِ} . (3) وهو من {اهدِنَا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ} إلى آخره. (4) أي: مني إعطاءه. (5) قوله: اقرؤا، لمسلم من رواية ابن عيينة، عن العلاء إسقاط هذه الجملة، وقال لعقب قوله: ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد ... إلخ. (6) جاء جواباً لقوله: الرحمن الرحيم (في الأصل "للرحمن الرحيم" والظاهر لقوله: " الرحمن الرحيم") لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية. (7) قوله: مجَّدني: التمجيد الثناء بصفات الجلال، والتحميد والثناء بجميل الفعال، ويقال أثنى في ذلك كلِّه. (8) قوله: بيني وبين عبدي، قال الباجي: معناه أن بعض الآية تعظيم الباري وبعضها استعانة على أمر دينه ودنياه من العبد به. (9) من العون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضآلين، فَهَؤُلاءِ (1) لِعَبْدِي (2) وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا قِرَاءَةَ (4) خَلْفَ الإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ وَلا فِيمَا لَمْ يَجْهَرْ، بِذَلِكَ جَاءَتْ عَامَّةُ الآثار (5) .   (1) أي: مختصه بالعبد. (2) قوله: لعبدي، لأنها دعاؤه بالتوفيق إلى صراط من أنعم عليهم والعصمة من صراط المغضوب عليهم ولا الضالين. (3) من الهداية وما بعدها. (4) قوله: لا قراءة ... إلخ، كلام محمد هذا وكلامه في "كتاب الآثار" بعد إخراج قول إبراهيم، قال: ما قرأ علقمة بن قيس قط فيما يجهر فيه، ولا في الركعتين الأخريين أم القرآن ولا غيرها خلف الإمام، أخرجه عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، ثم قال: وبه نأخذ، لا نرى القراءة خلف الإمام في شيء من الصلاة يجهر فيه أولا يجهر فيه. انتهى. وكلامه فيه بعد ما أخرج عن أبي حنيفة، عن حماد، عن سعيد بن جبير أنه قال: اقْرأ خلف الإمام في الظهر والعصر، ولا تقرأ في ما سوى ذلك، قال محمد: لا ينبغي أن يقرأ خلف الإمام في شيء من الصلوات. انتهى. صريح في بطلان قول عليٍّ القاري في "شرح المشكاة": الإمام محمد من أئمتنا يوافق الشافعيَّ في القراءة خلف الإمام في السرية، وهو أظهر في الجمع بين الروايات الحديثية، وهو مذهب مالك. انتهى. وقد ذكر صاحب "الهداية". و"جامع المضمرات" وغيرهما أيضاً أن على قول محمد يُستحسن قراءة أم القرآن خلف الإمام على سبيل الاحتياط، ولكن قال ابن الهُمام: الأصح أن قول محمد كقولهما، فإن عباراته في كتبه مصرِّحة بالتجافي عن خلافه، والحق أنه وإن كان ضعيفاً رواية لكنه قوي دراية. (5) قوله: عامة الآثار، أي: عن الصحابة والتابعين، بل وعن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   أيضاً. فمنهم: زيد بن ثابت، أخرجه مسلم في باب سجود التلاوة بسنده، عن عطاء بن يسار أنه سأل زيداً عن القراءة مع الإمام، فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء. وأخرجه الطحاوي، عن عطاء أنه سمع زيد بن ثابت يقول: لا يقرأ خلف الإمام في شيء من الصلاة وأخرج أيضاً عن حيوة بن شريح، عن بكر بن عمر، عن عبد الله بن مقسم أنه سأل عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وجابراً قالوا: لا يقرأ خلف الإمام في شيء من الصلاة. وعارض بعضهم بما رُوي عن زيد أنه قال: من قرأ خلف الإمام فصلاته تامة، ولا إعادة عليه، وجعله دليلاً على فساد ما رُوي عنه من تركه القراءة. وفيه نظر، فإنه لا معارضة لأنه لا يلزم من كون الصلاة تامة وعدم وجوب الإعادة إلاَّ عدم كون الترك لازماً، وهو أمر آخر. ومنهم: عليّ، كما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق أنه قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة، وأخرجه الدارقطني من طرق، وقال: لا يصح إسناده، وقال ابن حبان في "كتاب الضعفاء": هذا يرويه ابن أبي ليلى الأنصاري، وهو باطل، ويكفي في بطلانه إجماع المسلمين، وعبد الله بن أبي ليلى هذا رجل مجهول. انتهى. وقال ابن عبد البر. هذا لو صحَّ احتُمل أن يكون في صلاة الجهر لأنه حينئذ يكون مخالفاً للكتاب والسنَّة، فكيف وهو غير ثابت عن عليّ رضي الله عنه. انتهى. ومنهم: جابر بن عبد الله، كما ذكره محمد سابقاً، وقد أخرجه الترمذي أيضاً وقال: حسن صحيح، والطحاوي، وأخرجه الدارقطني، عن جابر مرفوعاً، وأعلَّه بأنه في سنده يحيى بن سلام، وهو ضعيف، والصواب وقفه. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنَّفه"، عن جابر قال: لا يقرأ خلف الإمام، لا إن جهر، ولا إن خافت. وأخرج عبد الرزاق، والطحاوي، عن عبد الله بن مقسم، قال: سألت جابر بن عبد الله: يقرأ خلف الإمام في الظهر العصر؟ قال: لا. ومنهم: أبو الدرداء، أخرج النسائي بسنده، عن كثير بن مرة، عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   أبي الدرداء سمعه يقول: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفي كل صلاة قراءة؟ قال نعم، قال رجل من الأنصار: وجبت هذه، فالتفت إليّ، وكنت أقرب القوم منه، فقال: ما أرى الإمام إذا أمَّ القوم إلاَّ قد كفاهم، قال النسائي: هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ، إنما هو قول أبي الدرداء. وقال الطحاوي بعد ما أخرج عن عائشة مرفوعاً: كل صلاة لم يُقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، وعن أبي هريرة حديثه الذي مر برواية محمد: فذهب إلى هذه الآثار قوم، وأوجبوا القراءة خلف الإمام في سائر الصلوات بفاتحة الكتاب، وخالفهم في ذلك آخرون، وكان من الحجة لهم أن حديثي أبي هريرة وعائشة اللَّذين رَوَوْهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في ذلك دليل على أنه أراد بذلك الصلاة التي تكون فيها قراءة الإمام، وقد رأينا أبا الدرداء سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مثل هذا، فيم يكن عنده على المأموم، حدثنا بحر بن نصر، نا عبد الله بن وهب، حدَّثني معاوية بن صالحن عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرَّة الحضرمي، عن أبي الدرداء أن رجلاً قال: يا رسول الله في الصلاة قرآن؟ قال: نعم، فقال رجل من الأنصار: وجبت، قال: وقال أبو الدرداء: ما أرى أن الإمام إذا أمَّ القوم فقد كفاهم. انتهى ملخصاً. ومنهم ابن عمر وابن مسعود وعمر وسعد، كما أخرج محمد عنهم، وسيأتي ماله وما عليه. ومنهم: ابن عباس، كما أخرجه الطحاوي، عن أبي حمزة، قلت لابن عباس: أَقْرأُ والإمام بين يدي؟ فقال: لا. وذكر العيني في "شرح الهداية": قد رُوي منع القراءة عن ثمانين نفراً من الصحابة، منهم: المرتضى والعبادلة الثلاثة، وذكر الشيخ الإمام السبذموني في "كشف الأسرار"، عن عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه أنه قال: عشرة من الصحابة ينهون عن القراءة خلف الإمام أشد النهي: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وابن مسعود، وزيد، وابن عمر، وابن عباس. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (1) - رَحِمَهُ اللَّه -. 115 - قَالَ مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ (2) بْنُ عُمَرَ بْنِ حفص بن   وهذا كله محتاج إلى تحقيق الأسانيد إليهم، وقال الحافظ ابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية": إنما يثبت ذلك، أي: المنع، عن ابن عمر وجابر وزيد بن ثابت وابن مسعود، وجاء عن سعد وعمر وابن عباس وعلى، وقد أثبت البخاري، عن عمر وأبيّ بن كعب وحذيفة وأبي هريرة وعائشة وعبادة وأبي سعيد في آخرين أنهم كانوا يرون القراءة خلف الإمام. انتهى. وقال ابن عبد البر: ما أعلم في هذا الباب من الصحابة من صحَّ عنه ما ذهب إليه الكوفيون فيه من غير اختلاف عنه إلاَّ جابر وحده. انتهى. (1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قد مرَّ معنا ذِكْر من وافقه في هذا في ما مرَّ، وذَكَر أكثر أصحابنا أن القراءة خلف الإمام عند أبي حنيفة وأصحابه مكروه تحريماً، بل بالغ بعضهم، فقالوا بفساد الصلاة به، وهو مبالغة شنيعة يكرهها من له خبرة بالحديث، وعلَّلوا الكراهية بورود التشدد عن الصحابة، وفيه أنه إذا حقق آثار الصحابة بأسانيدها فبعد ثبوتها إنما تدل على إجزاء قراءة الإمام عن قراءة المأموم، لا على الكراهة، والآثار التي فيها التشدد لا تثبت سنداً على الطريق المحقق. فإذن القول بالإجزاء فقط من دون كراهة أو منع أسلم، وأرجو أن يكون هو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه كما قال ابن حبان في كتاب "الضعفاء": أهل الكوفة إنما اختاروا تَرْكَ القراءة لا أنهم لم يجيزوه. انتهى. (2) قوله: أخبرنا عبيد الله، مصغَّراً ابن عمر بن حفص بن عاصم ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أبو عثمان العمري العدوي المدني من أجلّة الثقات، روى عن أم خالد بنت خالد الصحابية حديثاً، وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعطاء، ونافع، والمَقْبُري، والزهري، وغيرهم، وعنه شعبة والسفيانان ويحيى القطان، وغيرهم، قال النسائي: ثقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَنْ صَلَّى خَلْفَ الإمام (1) كَفَتْه قراءته.   ثبت، وقال أبو حاتم: سألت أحمد عن عبيد الله، ومالك، وأيوب: أيهم أثبت في نافع؟ فقال: عبيد الله أحفظهم وأثبتهم، وأكثرهم رواية، وقال أحمد بن صالح: عبيد الله أحبّ إليّ من مالك في نافع، مات سنة 147 هـ بالمدينة، كذا ذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ". (1) قوله: خلف الإمام ... إلخ، ظاهرُ هذا وما بعده، وما أخرجه سابقاً من طريق مالك: أن ابن عمر كان لا يرى القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية كليهما. لكن أخرج عبد الرزاق عن سالم أن ابن عمر كان ينصت للإمام في ما جهر فيه، ولا يقرأ معه، أخرج الطحاوي عن مجاهد قال: سمعت عبد الله بن عمر يقرأ خلف الإمام في صلاة الظهر من سورة مريم. وأخرج أيضاً عنه: صليت مع ابن عمر الظهر والعصر، وكان يقرأ خلف الإمام، وهذا دالّ صريحاً على أنه ممّن يرى القراءة في السرية دون الجهرية، ويمكن الجمع بأن كفاية قراءة الإمام لا يستلزم أن تمتنع، فيجوز أن يكون رأيه كفاية القراءة من الإمام في الجهرية والسرية كليهما، وجوازها في السرية دون الجهرية لئلا تُخلّ بالاستماع. وهذا هو الذي أميل إليه وإلى أنه يُعمل بالقراءة في الجهرية لو وجد سكتات الإمام، وبهذا تجتمع الأخبار المرفوعة، فإن حديث: "وإذا قرأ فأنصتوا" مع قوله تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} صريح في منع القراءة خلف الإمام حين قراءته لإخلاله بالاستماع، وحديث عبادة صريح في تجويز قراءة أم القرآن في الجهرية، وحديث" قراءة الإمام قراءة له" صريح في كفاية قراءة الإمام، فالأَولى أن يُختار طريق الجمع، ويُقال: تجوز القراءة خلف الإمام في السرية، وفي الجهرية إن وجد الفرصة بين السكتات، وإلا لا، لئلا يُخِلَّ بالاستماع المفروض، ومع ذلك لو لم يقرأ فيهما أجزأ لكفاية قراءة الإمام. والحقّ أن المسألة مختلَفٌ فيها بين الصحابة والتابعين، واختلاف الأئمة مأخوذ من اختلافهم، فكُلُّ اختار ما ترجّح عنده، ولكلٍّ وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 116 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيُّ (1) ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ (2) ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الإِمَامِ، قَالَ: تَكْفِيكَ قِرَاءَةُ الإِمَامِ (3) . 117 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ   (1) قوله: المسعودي نسبة إلى مسعود والد عبد الله بن مسعود، وقد اشتهر به جماعة من أولاده كما ذكره السمعاني، منهم: عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي، روى عن أبيه وعليّ والأشعث بن قيس ومسروق، وعنه أبناه القاسم ومعاً، وسماك بن حرب، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم، قال يعقوب بن شيبة: كان ثقة، قليل الحديث، مات سنة 79 هـ، ومنهم: وهو المذكور ههنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي المسعودي هكذا ذكر في نسبه في "تهذيب التهذيب" و"تذكرة الحفاظ" والذي في "التقريب"، و"الأنساب": عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، روى عن أبي إسحاق السبيعي وأبي إسحاق الشيباني والقاسم بن عبد الرحمن المسعودي وعلي بن الأقمر وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وغيرهم، وعنه السفيانان، وشعبة، وجعفر بن عون، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم، وثَّقه ابن معين وابن المديني وأحمد وغيرهم، وكان قد اختلط في آخر عمره، توفي في سنة 160 هـ. (2) قوله: أنس بن سيرين، هو أبو موسى، أنس بن سيرين الأنصاري المدني، مولى أنس أخو محمد بن سيرين، روى عن مولاه وابن عباس، وابن عمر، وجماعة، وعنه شعبة، والحمّادان، وثّقه ابن معين، والنسائي، وأبو حاتم، وابن سعد، والعِجلي، مات سنة 118 هـ، وقيل: 125 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب". (3) كذا أخرجه الطحاوي من طريق شعبة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ (2) ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: (3) مَنْ صَلَّى خَلْفَ الإِمَامِ   (1) قوله: أبو الحسن موسى بن أبي عائشة، قال القاري في"سند الأنام شرح مسند الإمام": وهو من أكابر التابعين. انتهى. وفي "تقريب التهذيب": موسى بن أبي عائشة الهَمداني، بسكون الميم، مولاهم أبو الحسن الكوفي، ثقة عابد، وفي"الكاشف" موسى بن أبي عائشة الهَمداني الكوفي، عن سعيد بن جبير، وعبد الله بن شدّاد وعنه شعبة وجرير، وعبيدة، وكان إذا رئي ذُكرَ الله. انتهى. (2) قوله: عن عبد الله بن شداد، هو أبو الوليد الليثي المدني عبد الله بن شداد بتشديد الدال الأولى قيل: اسمه أسامة، وشداد، ولقبه ابن الهاد، اسمه عمرو، ولقبه الهادي، وقيل: اسمه أسامة بن عمرو بن عبد الله بن جابر بن بشر، روى شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وله صحبة، ذكره ابن سعد في من شهد الخندق، وكان سكن المدينة ثم تحول إلى الكوفة وابنه عبد الله روى عن أبيه وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وخالته أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق، وخالته لأمه ميمونة أم المؤمنين، وعائشة، وأم سلمة وغيرهم، وعنه جماعة، قال العِجلي والخطيب: هو من كبار التابعين، وثقاتهم، وقال أبو زرعة والنسائي وابن سعد: ثقة. وذكر ابن عبد البر في "الاستيعاب" أنه ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الميموني: سئل أحمد هل سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ قال: لا، مات سنة 81 هـ، وقيل سنة 82 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب". (3) قوله: أنه قال ... إلخ، هذا الحديث قد روي عن طريق جماعة من الصحابة: فمنهم أبو سعيد الخدري. أخرج ابن عدي في" الكامل"، عن اسماعيل بن عمرو بن نجيح، عن الحسن بن صالح، عن أبي هارون العبدي عنه مرفوعاً "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة". وأعله ابن عدي بأنه لا يُتابع عليه اسماعيل، وهو ضعيف. وردَّه الزيلعي بأنه قد تابعه النضر بن عبد الله، أخرجه الطبراني في "الأوسط"، عن محمد بن إبراهيم بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني، قال: حدثني أبي عن جدي، عن النضر بن عبد الله، عن الحسن بن صالح، به سنداً ومتناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ومنهم: أنس. روى ابن حبان في "كتاب الضعفاء"، عن ابن سالم، عن أنس مرفوعاً: "من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له". وأعلَّه بابن سالم، وقال: إنه يخالف الثقات، ولا يعجبني الرواية عنه، فكيف الاحتجاج به، وروى عنه المجاهيل والضعفاء. ومنهم: أبو هريرة. أخرج الدارقطني في "سننه"، عن محمد، عن عبّاد الرازي، عن إسماعيل بن إبراهيم التيمي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة نحوه مرفوعاً. قال الدارقطني: تفرد به محمد بن عباد الرازي، وهو ضعيف. ومنهم: ابن عباس. أخرج الدارقطني، عن عاصم بن عبد العزيز المدني، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عنه مرفوعاً: "تكفيك قراءة الإمم خافت أو جهر". قال الدارقطني: قال أبو موسى: قلت لأحمد في حديث ابن عباس هذا، فقال: حديث منكر، ثم قال الداقطني في موضع آخر: عاصم بن عبد العزيز ليس بالقوي ورفْعُه وهم. ومنهم: ابن عمر. أخرج الدارقطني، عن محمد بن الفضل بن عطية، عن أبيه، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه مرفوعاً: "من كان له إمام فقراءته له قراءة". وأعلَّه بأن محمد بن الفضل متروك. ثم أخرجه عن خارجة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، وقال: رفْعُه وهم. ثم أخرجه عن أحمد بن حنبل: نا إسماعيل بن علية، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً عليه: "يكفيك قراءة الإمام"، وقال الوقف هو الصواب. ومنهم: جابر بن عبد الله، ولحديثه طرق منها: طريق محمد، عن أبي حنيفة، عن موسى بن أبي عائشة، عن ابن شدّاد، عن جابر، وهو أحسن طرقه، حكم عليه ابن الهُمام بأنه صحيح، على شرط الشيخين، وقال العيني: هو حديث صحيح، أما أبو حنيفة فأبو حنيفة، وموسى بن أبي عائشة الكوفي من الثقات الأثبات من رجال الصحيحين، وعبد الله بن شدّاد من كبار الشاميين وثقاتهم، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   حديث صحيح. انتهى. وأخرجه الدارقطني من طريق أبي حنيفة، وعن الحسن بن عمارة بسنده، عن جابر مرفوعاً، وقال: هذا الحديث لم يسنده، عن جابر غير أبي حنيفة، وابن عمارة، وهما ضعيفان، وقدر رواه الثوري، وأبو الأحوص، وشعبة، وإسرائيل، وشريك، وأبو خالد، وابن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم، عن موسى مرسلاً، وهو الصواب. انتهى. وردّه العيني بأن الزيادة من الثقة مقبولة، والمراسيل عندنا حجة، وسئل يحيى بن معين عن أبي حنيفة؟ فقال: ما سمعت أحداً ضعَّفه، فقد ظهر لنا من هذا تحامل الداقطني، وتعصبه، ومن أين له تضعيف أبي حنيفة، وهو مستحق التضعيف، وقد روى في "مسنده" أحاديث سقيمة ومعلولة، ومنكرة وموضوعة. انتهى. وقال ابن الهُمام في "فتح القدير": قولهم: الحفاظ الذين عدّوهم لم يرفعوه غير صحيح، قال أحمد بن منيع في "مسنده": نا إسحاق الأزرق، نا سفيان الأزرق، نا سفيان وشريك، عن موسى بن أبي عائشة، عن ابن شدّاد، عن جابر (قال النيموي: رجالهم كلهم ثقات فثبت متابعة الإمام أبي حنيفة باثنين، احدهما: سفيان، وثانيهما: شريك، والثقة يسند الحديث ويرسله أخرى. ولهذا الحديث طرق أخرى عند الدارقطني وغيره يشد بعضها بعضاً وإن ضعفت "آثار السنن مع التعليق الحسن" [1 - 87] ) ، قال: ونا جرير، عن موسى بن أبي عائشة مرفوعاً، ولم يذكر عن جابر ورواه عبد بن حميد، نا أبو نعيم، نا الحسن بن صالح، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، فهؤلاء سفيان وشريك وجرير وابو الزبير رفعوه بالطرق الصحيحة، فبطل عدّهم في من لم يرفعه. انتهى. ومنها طريق محمد الذي ذكره بعد الطريق المذكور وهو طريق سهل بن العباس، عن ابن عُليَّة، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، وقد أخرجه الطبراني أيضاً في "الأوسط" من هذا الطريق، وقال: لم يرو أحدٌ عن ابن علية مرفوعاً إلاَّ سهل، ورواه غيره موقوفاً. وأخرجه الدارقطني، وأعلَّه بأن سهل متروك، ليس بثقة. وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق الحسن بن صالح، عن جابر الجعفي والليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، وكذلك أخرجه ابن عدي، وأعلَّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 فإنَّ قِرَاءَةَ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ (1) . 118 - قَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ (2) ، قَالَ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ العباس الترمذي،   الدارقطني بأن الحسن قرن جابراً بالليث، والليث ضعفه أحمد والنسائي وابن معين، ولكنه مع ضعفه يُكتب حديثه، فإن الثقات رووا عنه، كشعبة والثوري وغيرهما، وأخرجه ابن ماجه من طريق جابر الجعفي عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً: "من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له"، وفيه جابر الجعفي متكلَّم فيه، قد وثَّقه سفيان وشعبة ووكيع، وضعَّفه أبو حنيفة والنسائي وعبد الرحمن بن مهدي وأبو داود، وكما بسطه الذهبي في "ميزان الاعتدال". وأخرج الداقطني في "غرائب مالك" من طريق مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر مرفوعاً نحوه، فقال: هذا باطل عن مالك، لا يصح عنه، ولا عن وهب، وفيه عاصم بن عصام لا يُعرف. هذا خلاصة الكلام في طرق هذا الحديث، وتلخَّص منه أن بعض طرقه صحيحة أو حسنة، ليس فيه شيء يوجب القدح عند التحقيق، وبعضها صحيحة مرسلة وإن لم تصح مسندة، والمراسيل مقبولة، وبعضها ضعيفة ينجبر ضعفها بضمّ بعضها إلى بعض، وبه ظهر أن قول الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي" أن طرقه كلها معلولة ليس على ما ينبغي، وكذا قال البخاري في رسالة "القراءة خلف الإمام" أنه حديث لم يثبت عند أخل العلم من أهل الحجاز والعراق، لإرساله، وانقطاعه، أما إرساله، فرواه عبد الله بن شدّاد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما انقطاعه فرواه الحسن بن صالح، عن جابر (الجعفي) ، عن أبي الزبير، عن جابر، ولا يُدرى أسمع من أبي الزبير أم لا؟ انتهى. ولا يخلو عن خدشات واضحة. (1) فلا يحتاج المؤتم أن يقرأ خلف الإمام، لأن الإمام قد قام مقامه. (2) حدثنا الشيخ أبو علي ... إلخ، رجال هذا السند من إسماعيل إلى جابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ثقات. أما جابر، فجابر من أجلَّة الصحابة، وقد مرَّت ترجمته غير مرة. وأما الراوي عنه على ما في نسخ هذا الكتاب الموجودة ابن الزبير، والمشهور الموجود في غير هذا الكتاب أبو الزبير وهو محمد بن مسلم بن تّدْرُس، بفتح التاء وسكون الدال على صيغة المصارع، المكي، مولى حكيم بن حزام، من تابعي مكة، سمع جابراً، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم، وعنه مالك، والسفيانان، وأيوب السختياني، وابن جريج، وشعبة، والثوري، وغيرهم، حافظ ثقة، توفي سنة 128 هـ، كذا في "جامع الأصول" و"الكاشف". وأما الراوي عنه، فهو أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني أبو بكر البصري، رأى أَنساً، وروى عن عطاء وعكرمة وعمرو بن دينار والقاسم بن محمد وعبد الرحمن بن القاسم وغيرهم، وعنه شعبة والحمّادان والسفيانان ومالك وابن علية وغيرهم، قال ابن سعد: كان ثقةً ثبتاً في الحديث، جامعاً، كبيرَ العلم، حجةً، عدلاً، وقال أبو حاتم: هو ثقة لا يُسأل عن مثله، وقال علي: أثبت الناس في نافع أيوب وعبيد الله ومالك، وقد أكثر الثقات في الثناء عليه كما بسطه في "تهذيب الكمال" و"تهذيب التهذيب" و"تذكرة الحفاظ"، مات سنة 131 هـ. وأما الراوي عنه، فهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم أبو بشر البصري، واشتهر بابن علية، وهو بضم العين وفتح اللام وتشديد الياء، مصغراً اسم أمه، وقيل: جدته أم أمه، وكان يكره أن يقال له ذلك حتى كان يقول: من قال لي: ابن علية فقد اغتابني. ورى عن عبد العزيز بن صهيب، وحُمَيْد الطويل، وأيوب وابن عون وغيرهم، وعنه شعبة، وابن جريج، وغيرهم، وثَّقه ابن سعد والنسائي وغيرهما، مات سنة 93 هـ، وله ترجمة طويلة مشتملة على ثناءٍ كبير في "تهذيب التهذيب" وغيره. وأما الراوي عن إسماعيل بن علية يعني سهل بن العباس الترمذي نسبة إلى ترمذ بكسر التاء والميم بينهما راء ساكنة أو بضم التاء أو بفتحها والأول هو المشهور، مدينه مما يلي (في الأصل: "يلي"، والصواب "مما يلي") بلخ، قاله السمعاني. فقد قال الذهبي في "ميزان الاعتدال": تركه الدارقطني، وقال: ليس بثقة، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عليَّة، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى خَلْفَ الإِمَامِ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ. 119 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أسامة بن زيد المدني (1) ، حدثنا   وأما الراوي عنه محمود بن محمد المروزي نسبة إلى مرو، بفتح الميم وسكون الراء، وألحقوا الزاء المعجمة في النسبة إليها، للفرق بينهما وبين المروي، وهو ثوب مشهور بالعراق، منسوب إلى قرية بالكوفة، كذا قال المسعاني، والراوي عنه أبو علي شيخ صاحب الكتاب، فلم أقف إلى الآن على تشخيصهما حتى يعرف توثيقهما أو تضعيفهما، ولعل الله يتفضَّل عليَّ بالاطّلاع عليه بعد ذلك (قلت: إن هذا الحديث ليس من رواية محمد بن الحسن، ولا وجود له في النسخ الصحيحة، وقد خلت منه النسخة المنقولة عن نسخة الإتقاني (المحفوطة في دار الكتب المصرية رقم ج 439) ، وإنما هو حديث كان بنسخة أبي علي الصواف فأدخل في الصلب خطأ من بعض الناسخين، وليس أبو علي هذا بشيخ المصنف، بل هو الصواف، محمد بن أحمد بن الحسن الصواف من رجال القرن الرابع، وشيخه المروزي، مترجم له في تاريخ بغداد للخطيب 13/94، ويسوق الخطيب هذا الحديث: وليس للإمام محمد بن الحسن دخل في هذا الحديث أصلاً، (بلوغ الأماني: 2/181)) . (1) قوله: أخبرنا أسامة بن زيد المدني، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال": أسامة بن زيد الليثي مولاهم المدني، عن طاووس، وطبقته، وعنه ابن وهب، وزيد بن الحباب، وعبيد الله بن موسى، قال أحمد: ليس بشيء، فراجعه ابنه فيه، فقال: إذا تدبَّرتَ حديثه تعرف فيه النُّكرة، وقال يحيى بن معين: ثقة، وكان يحيى القطان يضعِّفه، وقال النسائي: ليس بالقويّ، وقال ابن عدي: ليس به بأس، وروى عباس، وأحمد بن أبي مريم، عن يحيى: ثقة، زاد ابن مريم عنه: حجة، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتج به، مات سنة 153 هـ. انتهى ملخَّصاً. وفي "التقريب" هو صدوق، يهم. انتهى وله ترجمة طويلة في "تهذيب التهذيب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ، قَالَ: (1) فَسَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنْ تركتَ (2) فَقَدْ تَرَكَهُ نَاسٌ (3) يُقتدى بِهِمْ، وَإِنْ قَرَأْتَ فَقَدْ قَرَأَهُ نَاسٌ يُقتدى بِهِمْ. وَكَانَ (4) الْقَاسِمُ مِمَّنْ لا يَقْرَأُ (5) . 120 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (6) ، عَنْ مَنْصُورِ بن   (1) أي: أسامة. (2) يشير إلى سعة الأمر في ذلك، وأنه أمر مختلف فيه بين الصحابة، وكلّهم على هدى، فبأيِّهم اقتدى اهتدى. (3) أي: من الصحابة. (4) هو قول أسامة. (5) قال القاري: ولكن كان يجوِّز القراءة. (6) قوله: سفيان بن عيينة، بضم العين وفتح الياء الأولى بعد الياء الساكنة الثانية نون، مصغراً، هو الحافظ شيخ الإسلام، أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي الكوفي، محدِّث الحرم المكي، ولد سنة 107 هـ، وسمع من الزهري وزيد بن أسلم، ومنصور بن المعتمر وغيرهم، وعنه الأعمش وشعبة وابن جريج وابن المبارك والشافعي وأحمد ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه وخلق لا يُحْصَوْن، قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ": كان إماماً، حجةً، حافظاً، واسع العلم، كبير القدر، قال الشافعي: لولا مالكٌ وسفيان لذهب علم الحجاز، وقال العِجْلي: كان ثبتاً في الحديث، وقال ابن معين: هو أثبت الناس في عمرو بن دينار، واتفقت الأئمة على الاحتجاج به، وقد حجَّ سبعين حجة، مات سنة 198 هـ. انتهى ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ (1) ، قَالَ: سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الإِمَامِ، قَالَ: أَنْصِتْ (2) ، فإنَّ فِي الصَّلاةِ شُغْلا (3) سَيْكَفِيكَ (4) ذاك (5) الإمام.   (1) قوله: عن أبي وائل، هو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، قال الذهبي في "التذكرة": مخضرم، جليل، روى عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعائشة وجماعة، وعنه الأعمش ومنصور وحصين، يقال: أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قال النخعي: إني لأحسب أبا وائل ممن يُدفع عنّا به، مات سنة 82 هـ. انتهى. (2) أي اسكت، قوله: أنصت، كذا أخرجه ابن أبي شيبة والطحاوي عنه وأخرج الطحاوي، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن ابن مسعود قال: ليتَ الذي يقرأ خلف الإمام مُلئ فوه تراباً. (3) شغلاً: قال القاري: بفتحتين، وبضم وسكون وقد يفتح، فيسكن، أي: اشتغالاً للبال في تلك الحال مع الملك المتعال يمنعها القيل والقال. (4) يشير إلى حديث "قراءة الإمام قراءة له"، أي: كافية له (وأُورد عليه ما رواه البيهقي، عن أشعث بن سليم، عن عبد الله بن زياد الأسدي، قال: صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خلف الإمام فسمعته يقرأ في الظهر والعصر، (جزء القراءة خلف الإمام، ص 64) . قلتُ: ويعارضه ما سيأتي، عن علقمة أن عبد الله بن مسعود كان لا يقرأ خلف الإمام فيما يجهر به وفيما يخافت فيه في الأوليين ولا في الأخريين، ورجاله ثقات إلى محمد بن أبان ضعفه بعضهم، ولكن احتج محمد بن الحسن بحديثه وهو إمام مجتهد واحتجاج المجتهد بحديث تصحيح له، والمشهور الثابت عن ابن مسعود أنه كان لا يقرأ خلف الإمام وينهى عنها، وعلى ذلك كان أصحابه. وما روي عنه قرأ في الظهر والعصر خلف الإمام محمول على أن الإمام كان لحّاناً، لا يقرأ بالصحة. (عمدة القاري: 3/69)) . (5) أي: القراءة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 121 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لا يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ (1) وَفِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ (2) فِي الأُولَيَيْن، وَلا فِي الأُخْرَيَيْن، وَإِذَا صلَّى وحدَه (3) قَرَأَ فِي الأُولَيَيْن بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ (4) فِي الأُخْرَيَيْن شَيْئًا (5) . 122 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، حدَّثنا مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَنْصِتْ لِلْقِرَاءَةِ (6) ، فَإِنَّ فِي الصَّلاةِ شُغْلا، وَسَيَكْفِيكَ الإِمَامُ. 123 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا بُكَيْرُ بْنُ عَامِرٍ (7) ، حَدَّثَنَا إبراهيم   (1) أي: في الفجر والعشاء والمغرب. (2) أي: العصر والعصر الظهر. (3) أي: منفرداً. (4) قوله: ولم يقرأ، به أخذ أصحابنا، فقالوا: لا تجب قراءة في الأُخريين في الفرائض، فإن سبَّح فيهما أو قام ساكتاً أجزأه، به قال الثوري والأوزاعي وإبراهيم النخعي وسلف أهل العراق، وأما مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود فقالوا: إن القراءة فيهما بفاتحة الكتاب واجب على الإمام والمنفرد، كذا ذكره ابن عبد البر، وسيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى في موضعه. (5) أي: من القرآن. (6) أي: لاستماع قراءة الإمام. (7) قوله: أخبرنا بكير بن عامر، هو أبو إسماعيل بكير، مصغراً، بن عامر البجلي الكوفي، مختلف فيه، روى عن قيس بن أبي حازم وأبي زرعة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 النَّخَعِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنَ قَيْسٍ، قَالَ: لأَنْ أَعُضَّ (1) عَلَى جَمْرَةٍ أَحَبُّ إِلَى مِنْ أَنْ أَقْرَأَ خَلْفَ الإِمَامِ. 124 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ بن يونس (2) ، حدثنا منصور (3) ،   عمرو بن جرير، وغيرهما، وعنه الثوري ووكيع وغيرهما، قال أحمد مرة: صالح الحديث ليس به بأس، ومرة: ليس القوي (في نسخة: ليس بقوي) ، وضعَّفه النسائي، وأبو زرعة، وابن معين، وقال ابن عدي: ليس كثير الرواية وروايته قليلة، ولم أجد له متناً منكراً، وهو ممن يُكتب حديثه، وقال ابن سعد والحاكم: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات" كذا في "تهذيب التهذيت". (1) قوله: لأن أعضّ على جمرة، الجمرة بالفتح قطعة النار، والعضّ بافتح أصله عضض الإمساك بالأسنان والفم، يقال: عضّ بالنواجذ، أي: أمسك بجميع الفم والأسنان، كذا في "النهاية" وغيره. والمعنى عضّي بفمي وأسناني قطعة من نار مع كونه مؤلماً ومحرقاً أحبّ إليّ من القراءة خلف الإمام. وهذا تشديد بليغ على القراءة خلف الإمام، ولا بد أن يُحمل على القراءة المشوِّشة لقراءة الإمام والقراءة المفوِّتة لاستماعها، وإلاَّ فهو مردود، مخالف لأقوال جمع من الصحابة والأخبار المرفوعة من تجويز الفاتحة خلف الإمام. (2) قوله: إسرائيل بن يونس، هو أبو يوسف إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني الكوفي، روى عن جده، وقد مرَّ ذكره سابقاً، وزياد بن علاقة وعاصم الأحوال وغيرهم، وعنه عبد الرزاق ووكيع وجماعة، قال أحمد: كان شيخاً ثقة، وقال أبو حاتم: ثقة صدوق، ووثقه العجلي ويعقوب بن شيبة وأبو داود والنسائي وغيرهم، مات سنة 162 هـ أو سنة 165 هـ أو سنة 161 هـ على اختلاف الأقوال، كذا في "تهذيب التهذيب" (3) هو منصور بن المعتمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 عَنْ إِبْرَاهِيمَ (1) قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ (2) مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الإِمَامِ رَجُلٌ اتُّهم (3) . 125 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ (4) قَالَ: أمَّ (5)   (1) هو إبراهيم بن يزيد النخعي. (2) يشير إلى أن القراءة خلف الإمام بدعة محدثة، وفيه ما فيه. (3) قوله: رجل اتّهم، قال القاري: بصيغة المجهول، أي: نسب إلى بدعة أو سمعة، وقد أخرج عبد الرزاق، عن علي، قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة، ذكره ابن الهمام. (4) في نسخة: الهادي بالياء، وهما لغتان، كالعاص والعاصي (قال العلامة محمد طاهر الفتني: يقول المحدثون بحذف الياء، والمختار في العربية إثباته. المغني (ص 83)) . (5) قوله: قال أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ، هكذا وجدنا في نسخ الموطَّأ مرسلاً، وهو الأصح، وأخرجه في "كتاب الآثار"، عن أبي حنيفة، نا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شدّاد، عن جابر بن عبد الله قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل خلفه يقرأ، فجعل رجل من أصحاب رسول الله ينهاه عن القراءة في الصلاة، فقال: أتنهاني عن الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعا حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من صلّى خلف الإمام، فإن قراءة الإمام قراءة له. وأخرجه الدارقطني من طريق أبي حنيفة، وقال: زاد فيه أبو حنيفة، عن جابر بن عبد الله، وقد رواه جرير والسفيانان وأبو الأحوص وشعبة وزائدة وزهير وأبو عوانة وابن أبي ليلى وقيس وشريك وغيرهم، فأرسلوه، ورواه الحسن بن عُمارة كما رواه أبو حنيفة: وهو يضعَّف. انتهى. وفي "فتح القدير" بعد ذكر رواية أبي حنيفة: هذا يفيد أن أصل الحديث هذا، غير أن جابراً روى منه محل الحكم تارةً، والمجموع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   تارةً، ويتضمَّن ردّ القراءة خلف الإمام، لأنه خرج تأييداً لنهي ذلك، خصوصاً في رواية أبي حنيفة أن القصة كانت في الظهر والعصر، فيعارض ما رُوي في بعض روايات حديث. ما لي أنازَع القرآن؟ قال: إن كان لا بد فبالفاتحة. وكذا ما رواه أبو داود والترمذي، عن عبادة: "ولا تفعلوا إلاَّ بفاتحة الكتاب"، يقدَّم لتقدّم المنع على الإطلاق عند التعارض، ولقوة السند، فإن حديث: "من كان له إمام" أصح، فبطل رد المتعصبين وتضعيف بعضهم لمثل أبي حنيفة مع تضعيفه في الرواية إلى الغاية حتى إنه شرط التذكُّر لجواز الرواية بعد علمه أنه خطه، ولم يشترط الحفاظ هذا، ثم قد عُضِّد بطرق كثيرة، عن جابر غير هذه، وإن ضُعِّفت، وبمذاهب الصحابة حتى قال المصنف: إن عليه إجماع الصحابة. انتهى. وفيه نظر، وهو أنه لم يَرِد في حديث مرفوع صحيح النهي عن قراءة الفاتحة خلف الإمام، وكل ما ذكروه مرفوعاً فيه إما لا أصل له، وإما لا يصح. كحديث: "من قرأ خلف الإمام مُلئ فوه ناراً"، أخرجه ابن حبان في "كتاب الضعفاء" واتُّهم به مأمون بن أحمد أحد الكذَّابين، وذكره ابن حجر في "تخريج أحاديث الهداية"، وكحديث: "من قرأ خلف الإمام ففي فِيه جمرة"، ذكره صاحب "النهاية" وغيره مرفوعاً ولا أصل له. وكحديث عمران بن حصين: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، ورجل يقرأ خلفه، فلما فرغ، قال: من ذا الذي يُخالجني سورة كذا؟ فنهاهم عن القراءة خلف الإمام، أخرجه الدارقطني وأعلَّه بأنه لم يقل هكذا غير حجَّاج بن أرطاة عن قتادة، وخالفه أصحاب قتادة، منهم: شعبة وسعيد وغيرهما، فلم يذكروا فيه النهي، وحجاج لا يُحتج به. انتهى. وقال البيهقي في كتاب "المعرفة": قد رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن عمران: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه الظهر، فقال: أيّكم قرأ بسبِّح اسم ربك الأعلى؟ فقال رجل: أنا، فقال: قد عرفتُ أن رجلاً خالجَنيها، قال شعبة: فقلت لقتادة: كأنه كرهه، فقال: لو كرهه لنهى عنه. ففي سؤال شعبة وجواب قتادة في هذا الرواية الصحيحة يُكذَّب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصر (1) ،   من قَلَبَ الحديث، وزاد فيه، فنهى عن القراءة خلف الإمام. انتهى. وكحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه، فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه، فقال: أتقرؤون خلف إمامكم والإمام يقرأ؟ فسكتوا، فقالها ثلاث مرات، فقالوا: إنا لنفعل ذلك، فقال: لا تفعلوا، فإنه ... رواه ابن حبان في "صحيحه" وزاد في آخره: "وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه"، فعُلم أن رواية الطحاوي مختصرة، والحديث يفسِّر بعضه بعضاً، فظهر أنه لا يوجد معارض لأحاديث تجويز القراءة خلف الإمام مرفوعاً. فإن قلتَ: هو حديث "وإذا قرأ فأنصتوا"، قلتُ: هو لا يدل إلاَّ على عدم جواز القراءة مع قراءة الإمام في الجهرية، ولا على امتناع القراءة في السرية أو في الجهرية عند سكتات الإمام. فإن قلتَ: هو حديث من كان له إمام قلت: هو لا يدل على المنع بل على الكفاية فإن قلت: هو آثار الصحابة، قلتُ: بعضها لا تدل إلاَّ على الكفاية وبعضها لا تدل إلاَّ على المنع في الجهرية عند قراءة الإمام، فلا تعارض بها، وإنما يعارض بما كان منها دالاً على المنع مطلقاً، وهو أيضاً ليس بصالح لذلك، لأن المعارضة شرطها تساوي الحجتين في القوة، وأثر الصحابي ليس بمساوٍ في القوة لأثر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان سند كل منهما صحيحاً. وبالجملة لا يظهر لأحاديث تجويز القراءة خلف الإمام معارض يساويها في الدرجة، ويدل على المنع حتى يُقَدَّم المنع على الإباحة. وأما ما ذكره صاحب "الهداية" في إجماع الصحابة على المنع فليس بصحيح لكون المسألة مختلَفاً فيها بين الصحابة، فمنهم من كان يجِّوز القراءة مطلقاً، ومنهم من كان يجوِّز في السرية، ومنهم من كان لا يقرأ مطلقاً، كما مرَّ سابقاً، فأين الإجماع؟! فتأمل لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. (1) هذا صريح في أن كفاية قراءة الإمام ليس مختصاً بالجهرية، بل هو كذلك في السرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 قَالَ: فَقَرَأَ رَجُلٌ (1) خَلْفَهُ فَغَمَزَهُ (2) الَّذِي يَلِيهِ، فَلَمَّا أَنْ صَلَّى قَالَ: لِمَ غَمَزْتَنِي؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدّامَك (3) ، فَكَرِهْتُ أَنْ تَقْرَأَ خَلْفَهُ، فَسَمِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قال (4) : من كان لَهُ إِمَامٌ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ لَهُ قِرَاءَةٌ. 126 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ الْفَرَّاءِ (5) الْمَدَنِيُّ (6) ، أَخْبَرَنِي بَعْضُ (7) وُلْد سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أنه (8) ذكر له أن سعداً قال:   (1) في بعض رواياته أنه قرأ: {سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} كما بسطها السيد مرتضى الزبيدي في "الجواهر المنيفة في أدلة أبي حنيفة". (2) أي: أشار بإصبعه أن اسكت. (3) قوله: قُدّامك، بضم القاف، وتشديد الدال المهملة، أي: أمامك، كذا نقله بعضهم عن ضبط خطّ القاري، ويجوز أن يكون "قد" حرفَ تحقيق و"أمَّك" ماضٍ مع كاف الخطاب. (4) في نسخة: فقال. (5) قوله: أخبرنا داود بن قيس الفرّاء، بفتح الفاء وتشديد الراء، نسبة إلى بيع الفرو وخياطته، ذكره السمعاني، وهو أبو سليمان داود بن قيس الفرّاء الدبّاغ المدني، روى عن السائب بن يزيد وزيد بن أسلم ونافع مولى ابن عمر ونافع بن جبير بن مطعم وغيرهم، وعنه السفيانان وابن المبارك ويحيى القطّان ووكيع وغيرهم، وثَّقه الشافعي وأحمد وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والساجي وابن المديني وغيرهم. ذكر عباراتهم صاحب "التهذيب" و"تهذيبه"، وكانت وفاته في ولاية أبي جعفر. (6) في نسخة المديني. (7) قوله: بعضُ وُلْد، بضم الواو وسكون اللام، أي: أولاده، ولم يعرف اسمه، قال ابن عبد البر في "الاستذكار": هذا حديث منقطع لا يصح. انتهى. (8) ضمير الشأن أو هو يرجع إلى بعض ولد سعد كضمير (ذكر) ، وضمير (له) راجع إلى داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وَدِدْتُ (1) أنَّ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ فِي فِيه (2) جمرةٌ. 127 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ الْفَرَّاءُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلانَ (3) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ (4) : لَيْتَ فِي فَمِ الذي   (1) أي: أحببت. (2) قوله: في فِيه جمرة، قال البخاري في رسالته "القراءة خلف الإمام" بعدما ذكر هذا الأثر وأثر عبد الله بن مسعود: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام مُلئ فوه نَتِناً: هذا كله ليس من كلام أهل العلم لوجهين: أحدهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلاعنوا بلَعنة الله ولا بالنار، ولا تعذِّبوا بعذاب الله". فكيف يجوز لأحد أن يقول في الذي يقرأ خلف الإمام: في فمه جمرة، والجمرة من عذاب الله؟ والثاني: أنه لا يحِلّ لأحد أنْ يتمنّى أن تُملأ أفواه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل عمر، وأبيّ بن كعب، وحذيفة، وعلي، وأبي هريرة، وعائشة، وعبادة بن الصامت، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمر في جماعة آخرين ممن رُوي عنهم القراءة خلف الإمام رضفاً ولا نتناً ولا تراباً. انتهى. وفيه أنه لا بأس بأمثال هذا الكلام للتهديد والتشديد، والتعذيب بعذاب الله ممنوع، لا التهديد به، فالأوْلَى أن يُتكلَّم في أسانيد هذه الآثار الدالة على أمثال هذه التشديدات، فإن صحَّت تُحمل على القراءة مع قراءة الإمام الذي يوجب ترك امتثال قوله تعالى: {وإذا قُرِئ القرآنُ فَاستَمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا} (سورة الأعراف: رقم الآية 204) وحديث: "وإذا قرأ فأنصتوا" (أخرجه مسلم في التشهد، رقم الحديث 404) لئلا يحصل التخالف بين الآثار والأخبار. (3) قوله: محمد بن عجلان، قال الذهبي في "الكاشف": محمد بن عجلان المدني الفقيه الصالح، عن أبيه وأنس وخَلْق، وعنه شعبة ومالك والقطان وخلق، وثقه أحمد وابن معين، وقال غيرهما: سيِّئ الحفظ، توفي سنة 143 هـ. انتهى. (4) قوله: قال، يخالفه ما أخرجه الطحاوي، عن يزيد بن شريك أنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 يَقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ حَجَرًا. 128 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ قَيْسٍ (1) ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، يحدِّثه عَنْ جدِّه أنه قال (2) :   سألت عمر بن الخطاب عن القراءة خلف الإمام، فقال لي: اقرأ، فقلت: وإن كنتُ خلفك؟ فقال: وإن كنتَ خلفي؟ فقلتُ: وإن قرأت، قال: وإن قرأت. (1) قوله: أخبرنا داود بن سعد بن قيس، هكذا في بعض النسخ المصحَّحة، وفي بعض النسخ المصححة داود بن قيس، ولعله داود بن قيس الفرّاء المدني الذي مرَّ ذكره: حدثنا عَمرو بن محمد بن زيد هكذا في بعض النسخ، وفي بعض النسخ الصحيحة عُمر بن محمد بن زيد، بضم العين، بدون الواو، وهو عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني، نزيل عسقلان، روى عن أبيه وجَدَّه زيد وعمَ أبه سالم وزيد بن أسلم ونافع وغيرهم، وعن شعبة ومالك والسفيانان وابن المبارك، قال ابن سعد: كان ثقة، قليل الحديث، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: شيخ ثقة، ليس به بأس، وقال حنبل، عن أحمد: ثقة، وكذا قال ابن معين والعِجلي وأبو داود وأبو حاتم، كان أكثر مقامه بالشام، ثم قدم بغداد، ثم قدم الكوفة، فأخذوا عنه، مات بعد أخيه أبي بكر، ومات أبو بكر بعد خروج محمد بن عبد الله بن حسن، وكان خروجه سنة 145 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب"، عن موسى بن سعد بن زيد بن ثابت. قال الذهبي في "الكاشف": موسى بن سعد أو سعيد عن سالم، وربيعة الرأي وعنه عمر بن محمد، وُثِّق. انتهى. وفي "التقريب": موسى بن سعد أو سعيد بن زيد بن ثابت الأنصاري المدني، مقبول. يحدّثه، أي: يحدِّث موسى عمر بن محمد، عن جده زيد بن ثابت الصحابي الجليل كاتب الوحي والتنزيل. (2) قوله: أنه قال، ذكره البخاري في رسالة "القراءة"، وقال: لا يُعرف لهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 مَنْ قَرَأَ (1) خَلْفَ الإِمَامِ فَلا صَلاةَ لَهُ. 35 - (باب الرجل يُسبَق (2) ببعض الصلاة) 129 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلاةِ مَعَ الإِمَامِ الَّتِي يُعلن (3) فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَإِذَا سلَّم (4) قَامَ ابْنُ عُمَرَ، فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا (5) يَقْضِي. قال محمد: وبهذا نأخذ، لأنه (6)   الإسناد سماع بعضهم عن بعض ولا يصح مثله. انتهى. وقال ابن عبد البر: قول زيد بن ثابت: "من قرأ خلف الإمام فصلاته تامة ولا إعادة" يدل على فساد ما رُوي عنه. انتهى (وقد أجاب عن هذين الإيرادين على أثر زيد بن ثابت الشيخ محمد حسن السنبلي في كتابه: "تنسيق النظام في سند الإمام"، ص 86، فارجع إليه) . (1) كأنه محمول على القراءة المُخِلَّة بالاستماع، والنفي محمول على نفي الكمال. (2) بصيغة المجهول، أي: يصير مسبوقاً بأن يفوته أول صلاة الإمام. (3) بصيغة المعلوم، أي: يجهر فيها الإمام، أو المجهول. وهو قيد واقعي، لا احترازي. (4) أي: الإمام. (5) أي: فيما يؤدّي من بقية صلاته. (6) قوله: لأنه يقضي أول صلاته، وبه قال الثوري والحسن بن حيّ ومالك على رواية، وهو المرويّ، عن عمر وعليّ وأبي الدرداء وابن عمر ومجاهد وابن سيرين، وخالفهم الشافعي وأحمد وداود والأوزاعي ومالك في المشهور عنه، وسعيد بن المسيب وعمر (في الأصل: "عمرو"، وهو تحريف) بن عبد العزيز ومكحول عطاء والزهري، فقالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 يَقْضِي أَوَّلَ صَلاتِهِ (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -. 130 - أخبرنا مالك، أخبرنا نافع، عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَ إِلَى الصَّلاةِ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ رَفَعُوا (2) مِنْ رَكْعَتِهِمْ (3) سَجَدَ مَعَهُمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: بِهَذَا نَأْخُذُ، وَيَسْجُدُ معهم (4) ولا يَعتدّ بها (5) وهو   المسبوق يقضي آخر صلاته، كذا في "الاستذكار" (2/95 وبسط الشيخ في "أوجز المسالك" 2/13: اختلاف العلماء في صلاة المسبوق) . (1) أي: في حق القراءة، وفي حق التشهد هو آخر صلاته. (2) أي: رؤوسهم. (3) أي: من ركوعهم. (4) قوله: ويسجد معهم ... إلخ، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدّوها شيئاً". أخرجه أبو داود وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، وزاد: ومن أدرك الركعة فقد أرك الصلاة. وأخرج الترمذي من حديث على ومعاذ بن جبل مرفوعاً: إذا أتى أحدكم الصلاة، والإمام على حال، فليصنع كما يصنع الإمام". وفيه ضعف، وانقطاع ذكره ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي"، وأخرج أبو داود وأحمد من حديث ابن ليلى، عن معاذ، قال: أُحيلت الصلاة ثلاثة أحوال: ... الحديث، وفيه قال معاذ: لا أجده على حال أبداً إلا كنتُ عليها ثم قضيت ما سبقني، فجاء وقد سبقه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ببعضها، فقال: قمت معه، فلما قضى صلاته قام معاذ يقضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد سنَّ لكم معاذ، فهكذا فاصنعوا". (5) أي: لا يُعتبر بها في وجدان تلك الركعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -. 131 - أخبرنا مالك، أخبرنا نافع، عن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَجَدَ الإِمَامَ قَدْ صَلَّى بَعْضَ الصَّلاةِ صَلَّى (1) مَعَهُ مَا أَدْرَكَ مِنَ الصَّلاةِ، إِنْ كَانَ قَائِمًا قَامَ، وَإِنْ كَانَ قَاعِدًا قَعَدَ حَتَّى يَقْضِي الإِمَامُ صَلاتَهُ، لا يُخَالِفُ (2) فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلاةِ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 132 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (4) ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (5) (*) ، ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (6) ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أردك (7)   (1) لإدراك زيادة الفضيلة. (2) أي: الإمام. (3) لحديث: "إنما جُعلَ الإمامُ ليؤتمّ به". (4) الزهري. (5) قوله: أبي سلمة، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته، ثقة، فقيه، كثير الحديث، وُلد سنة بضع وعشرين ومائة، ومات سنة أربع وتسعين، أو أربع ومائة، كذا قال الزرقاني. (*) في نسخة: عن أبي سلمة بن سلمة بن عبد الرحمن، وهو تحريف. وفي "تهذيب التهذيب" 12/115: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، وقيل اسمه كنيته. (6) وهو: ابن عوف الزهري المدني. (7) قوله: من أدرك ... إلخ، هكذا هذا الحديث في "الموطأ" عند جماعة الرواة، وروى عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي، عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الفضل". وهذا لا أعلم أحداً قاله عن مالك غيره، وقد رواه عمّار بن مطر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   عن مالك، عن الزهري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة ووقتها"، وهذا أيضاً لم يقله عن مالك غيره، وهو مجهول لا يحتجّ به، والصواب، عن مالك ما في "الموطأ" وكذلك رواه جماعة من رواة ابن شهاب كما رواه مالك إلا ما رواه نافع بن يزيد، عن يزيد، عن عبد الوهاب بن أبي بكر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وفضلها:، وهذ أيضاً لم يقله أحد عن ابن شهاب غير عبد الوهاب. وقد اختلف الفقهاء في معنى الحديث. فقالت طائفة منهم: أراد أنه أدرك وقتها، حكى ذلك أبو عبد الله أحمد بن محمد الداوودي، عن داود بن علي وأصحابه، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو"، والظاهر: "أبو عمر") : هؤلاء قوم جعلوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" في معنى قوله: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح"، وليس كما ظنوا، لأنهما حديثان، فكل واحد منهما بمعنى. وقال آخرون: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك فضل الجماعة، وأصّلوا من أصولهم على ذلك أنه لا يعيد في جماعة من أدرك ركعة من الصلاة الجمعة. وقال آخرون: معنى الحديث أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها كلِّه، وهو كمن أدرك جميعها من سهو الإمام وسجوده وغير ذلك، كذا في "الاستذكار"، وقال: الحافظ مُغلطاي (في الأصل "مغلطائي") : إذا حملناه على إدراك فضل الجماعة، فهل يكون ذلك مضاعفاً كما يكون لمن حضرها من أولها أو يكون غير مضاعف قولان؟ وإلى التضعيف ذهب أبو هريرة وغيره من السلف، وقال القاضي عياض: يدل على أن المراد فضل الجماعة ما في رواية ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، من زيادة قوله: "مع الإمام" وقال ابن ملك في "مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار": قوله: " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 مِنَ الصَّلاةِ (1) رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -. 133 - أخبرنا مالك، أخبرنا نافع، عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا فَاتَتْكَ الركعة (2) فاتتك السجدة (3) .   فقد أدرك الصلاة" محتاج إلى تأويل، لأن مدرك ركعة لا يكون مدركاً لكل الصلاة إجماعاً، ففيه إضمارٌ تقديره: فقد أدرك وجوب الصلاة، يعني من لم يكن أهلاً للصلاة، ثم صار أهلاً، وقد بقي من وقت الصلاة قدر ركعة لزمته تلك الصلاة، وكذا لو أدرك وقت تحريمة، فتقييده بالركعة على الغالب. وقيل: تقديره: فقد أدرك فضيلة الصلاة، يعني من كان مسبوقاً، وأدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك فضل الجماعة. وقيل: معنى الركعة، ههنا الركوع ومعنى الصلاة الركعة يعني من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك تلك الركعة. انتهى. (1) أي: مع الإمام. (2) قوله: فاتتك: الركعة، يشير إلى أنه إذا لم تفت (في الأصل: "لم يفت"، وهو تحريف) الركعة لم تفت (في الأصل: "لم يفت"، وهو تحريف) السجدة، ويؤيده ما أخرجه مالك أنه بلغه أن ابن عمر وزيد بن ثابت كانا يقولان: من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، وبلغه أيضاً أن أبا هريرة كان يقول: من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، ومن فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير. ويخالفه ما أخرجه البخاري في رسالة "القراءة خلف الإمام"، عن أبي هريرة أنه قال: إذا أدركتَ القوم وهم ركوع لم يُعتدّ بتلك الركعة، ذكره ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي" وقال ابن عبد البر (في الأصل: "ابن البر"، وهو خطأ) : هذا قول لا نعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال به، وفي إسناده نظر. انتهى. وقد فصّلت المسألة في "إمام الكلام في ما يتعلق بالقراءة خلف الإمام". (3) قوله: فاتتك السجدة، معنى إدراك الركعة أن يركع المأموم قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، وروى عن جماعة من التابعين أنهم قالوا: إذا أحرم والناس في ركوع أجزأه، وإن لم يدرك الركوع، وبهذا قال ابن أبي ليلى والليث بن سعد وزفر بن الهذيل، وقال الشعبي: إذا انتهيت إلى الصف المؤخر ولم يرفعوا رؤوسهم وقد رفع الإمام رأسه، فركعت فقد أدركت. وقال جمهور الفقهاء: من أدرك الإمام راكعاً، فكبّر وركع، وأمكن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ مَعَ الإِمَامِ لا يُعتدّ بِهِمَا (1) ، فَإِذَا سلَّم الإِمَامُ قَضَى رَكْعَةً تَامَةً بِسَجْدَتَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 36 - (بَابُ الرَّجُلِ (2) يَقْرَأُ السُّورَ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْفَرِيضَةِ) 134 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا صلى وحده (3)   الإمام رأسه فقد أدرك الركعة، ومن لم يدرك ذلك فقد فاتته الركعة، ومن فاتته الركعة فقد فاتته السجدة، أي: لا يُعتد بها، ويسجدها، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأَوزعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وزيد وابن عمر، وقد ذكرت الأسانيد عنهم في "التمهيد"، كذا في "الاستذكار". (1) أي: لا يُعتبر بهما في وجدان الركعة. (2) قوله: باب الرجل، الظاهر أنه مجرور لإضافة الباب إليه، و"يقرأ" إما حال منه أو صفة، لكون اللام الداخلة على الرجل للعهد الذهبي، فيكون في حكم النكرة أي: باب حكم الرجل الذي يقرأ، أو حال كونه يقرأ. واختار القاريّ أنه مرفوع "يقرأ" خبره والباب مضاف إلى الجملة. (3) أي منفرداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 يَقْرَأُ فِي الأَرْبَعِ (1) جَمِيعًا مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَانَ أَحْيَانًا يَقْرَأُ (2) بِالسُّورَتَيْنِ أَوِ الثَّلاثِ (3) فِي صَلاةِ الْفَرِيضَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَيَقْرَأُ في الركعتين   (1) من ركعات الصلاة (يحتمل أن يفعل ذلك عبد الله بن عمر إذا صلّى وحده حرصاً على التطويل في الصلاة إن كانت فريضة، ويحتمل أن يكون نافلة غير أن لفظ الأربع ركعات في الفريضة أظهر. 1 هـ. "المنتقى للباجي" 1/146 ... قلت: الظاهر كونها فريضة، والأوجه أن يقال: إن هذا مذهب ابن عمر رضي الله عنهما، وهو مجتهد، قال الزرقاني 1/165: هذا لم يوافقه مالك ولا الجمهور بل كرهوا قراءة شيء بعد الفاتحة في الأخريين وثالثة المغرب) . (2) بجوازه قال الأئمة الأربعة. (3) قوله: بالسورتين أو الثلاث، قد يعارَض بما أخرجه الطحاوي أنه قال رجل لابن عمر: إني قرأت المفصل في ركعة أو قال في ليلة، فقال ابن عمر: إن الله لو شاء لأنزله جملة، ولكن فصله لُتعطى كل سورة حظها من الركوع والسجود. ويُجاب بأن فعلَه لبيان الجواز، وقوله لبيان السنية والزجر عن الاستعجال في القراءة مع فوات التدبر والتفكر فلا منافاة، ومما يؤيد جواز القرآن في السور في ركعة ما أخرجه الطحاوي، عن نهيك بن سنان أنه أتى عبد الله بن شقيق إلى ابن مسعود، فقال: إني قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال ابن مسعود: هذا كهذّ الشعر، إنما فُصِّل ليفصلوا، لقد علمنا النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن: عشرين سورة، النجم والرحمن في ركعة، وذكر الدخان وعمّ يتساءلون في ركعة. فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يجمع أحياناً، وقد ثبت ذلك بروايات متعددة في كتب مشهورة وأما قول ابن مسعود: إنما فُصّل ليفصلوه، فقال الطحاوي: إنه لم يذكره، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يُحتمل أن يكون ذلك من رأيه، فقد خالفه في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الأُولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ، كَذَلِكَ (1) بِأُمِّ الْقُرْآنِ وسورةٍ سورة. قال محمد: السنَّة (2)   عثمان لأنه كان يختم القرآن في ركعة (وفي "المغني" لا بأس بالجمع بين السور في الصلاة النافلة، وأما الفريضة فالمستحب أن يقتصر على سورة مع الفاتحة من غير زيادة عليها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كان يصلي أكثر صلاته. وإن جمع بين السورتين ففيه روايتان: إحداهما يُكره، والثانية لا يكره. أنظر: أوجز المسالك: 2/72.) . ثم أخرج عن ابن سيرين قال: كان تميم الداري يُحيي الليل كلّه بالقرآن كله في ركعة. وأخرج، عن مسروق قال: قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري، فقد رأيته قام ليلة حتى أصبح، وكان يصبح بقراءة آية يركع فيها، ويسجد، ويبكي {أَم حَسِبَ الَّذينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئاتِ} (الجاثية: 41) . وأخرج ابن سعيد أن عبد الله بن الزبير قرأ القرآن في ركعة، وأخرج نافع، عن ابن عمر أنه كان يجمع بي السورتين في الركعة الواحدة من صلاة المغرب. وأخرج عنه أيضاً أن ابن عمر كان يجمع بين السورتين والثلاث في ركعة، وكان يقسم السورة الطويلة في الركعتين من المكتوبة. وبهذا يظهر أنه لا بأس بقراءة القرآن كلَّه في ركعة واحدة أيضاً، بشرط أن يُعطي حَظه من التدبر، ولقد قفَّ شعري مما قال بعض علماء عصرنا إنه بدعة ضلالة، لأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ألَّفت في ردِّه رسالة شافية سمَّيتها "إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة" فلتُطالع. (1) بيان للتشبيه. (2) قوله: السنَّة، السُّنِّيَّة راجعة إلى توحُّد السورة بعد الفاتحة في الأوليين، والاكتفاء بالفاتحة في الأُخريين، وأما نفس قراءة الفاتحة وسورة أو قدرها في الأوليين فواجب عندنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 أَنْ تَقْرَأَ (1) فِي الْفَرِيضَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (2) وَسُورَةٍ، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وإن لم تقرأ فيهما (3) أجزأك (4)   (1) قوله: أن تقرأ ... إلخ، هذا هو غالب ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الستة إلاَّ الترمذي، عن أبي قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب. وأخرج الطبراني في معجمه، عن جاب بن عبد الله، قال: سنَّة القراءة في الصلاة أن يقرأ في الأوليين بأم القرآن وسورة، وفي الأخريين بأم القرآن. وأخرج الطحاوي، عن أبي العالية، قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لكل ركعة سورة. وروى الطبراني من حديث عائشة وإسحاق بن راهويه، من حديث رفاعة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخريين بفاتحة الكتاب. (2) قوله: بفاتحة الكتاب، ولو زاد على ذلك في الأخريين لا بأس به، لما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمسة عشر آية. وأغرب بعض أصحابنا حيث حكموا على وجوب سجود السهو بقراءة سورة في الأخريين، وقد ردَّه شراح "المنية" - إبراهيم الحلبي وابن أمير حاج الحلبي وغيرهما - بأحسن ردّ ولا أشكُّ في أن من قال بذلك لم يبلغه الحديث، ولو بلغه لم يتفوَّه به. (3) أي في الأخريين. (4) قوله: أجزاك، لما مرَّ من رواية ابن مسعود أنه كان لا يقرأ في الأخريين شيئاً، وأخرج ابن أبي شيبة، عن عليّ وابن مسعود أنهما قالا: اقْرَأْ في الأولّيَيْن وسبِّح في الأُخريين. وفي "حلية المجلّي (في الأصل: "حلية المحلي"، وهو تحريف) شرح منية المصلّي": هذا التخيير أي: بين القراءة والتسبيح والسكوت مرويّ، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة ذكره في "التحفة" و"البدائع" وغيرهما، وزاد في "البدائع": هذا جواب ظاهر الرواية وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وَإِنْ سبَّحت فِيهِمَا أَجْزَأَكَ (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 37 - (بَابُ الْجَهْرِ فِي الْقِرَاءَةِ في الصلاة وما يُسْتحبُّ (2) من ذلك)   قول أبي يوسف ومحمد. وهذا يفيد أنه لا حرج في ترك القراءة والتسبيح عامداً، ولا سجود سهو عليه في تركهما ساهياً، وقد نصَّ قاضيخان في "فتاواه" على أن أبا يوسف روى ذلك، عن أبي حنيفة، ثم قال قاضيخان: وعليه الاعتماد، وفي "الذخيرة": هذا هو الصحيح من الروايات، لكن في "محيط رضي الدين السرخسي" وفي "ظاهر الرواية": أن القراءة سنَّة في الأخريين، ولو سبَّح فيهما ولم يقرأ لم يكن مسيئاً لأن القراءة فيهما شُرعب على سبيل الذكر والثناء وإن سكت فيهما عمداً يكون مسيئاً لأنه ترك السنَّة. وروى الحسن، عن أبي حنيفة أنها فيهما واجبة حتى لو تركها ساهياً يلزمه سجود السهو، ثم في "البدائع": الصحيح جواب "ظاهر الرواية؟ لما روينا، عن على وابن مسعود، أنهما كانا يقولان: المصلّي بالخيار، وهذا باب لا يدرك بالقياس، فالمروي عنهما كالمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. ويمكن أن يقال: وبهذا يندفع ترجيح رواية الحسن بما في "مسند أحمد"، عن جابر قال: "لا صلاة إلاَّ بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة إلاَّ وراء الإمام". وبما اتفق عليه البخاري ومسلم، عن أبي قتادة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب"، لأن كون الأول مفيداً للوجوب، والثاني مفيداً للمواظبة المفيدة للوجوب، إنما هو إذا لم يوجد صارف عنه إما إذا وُجد صارف فلا، وقد وُجد ههنا، وهو أثر علي وابن مسعود لأنه كالمرفوع، والمرفوع صورة ومعنى يصلح صارفاً، فكذا ما هو مرفوع معنى. انتهى كلام صاحب "الحَلْية" (في الأصل: "الحلية"، وهو تحريف) . وفيه شيء لا يخفى على المتفطن. (1) أي: كفاك. (2) أي: المقدار المستحب من الجهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 135 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عَمِّي أَبُو سُهَيْلٍ (1) أَنْ أَبَاهُ (2) أَخْبَرَهُ أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ (3) فِي الصَّلاةِ وَأَنَّهُ (4) كَانَ يَسْمَعُ (5) قِرَاءَةَ عُمر بْنَ الْخَطَّابِ عِنْدَ دَارِ أَبِي جَهم (6) .   (1) اسمه نافع. (2) مالك بن أبي عامر. (3) أي: في المسجد النبوي. (4) قوله: وأنه؛ قال القاري: بفتح الهمزة، ويجوز كسره والضمير للشأن، ويسمع بصيغة المجهول. انتهى. وهذا تكلّف بحت والصحيح أن ضمير أنه ويسمع معروفان راجعان إلى مالك بن أبي عامر الأصبحي جَدّ الإمام مالك، وأنه أخبر ابنه أبا سهيل عن سمعه قراءة عمر بدليل ما في "موطأ يحيى": مالك، عن عمّه أبي سهيل من مالك، عن أبيه، قال: كما نسمع قراءة عمر بن الخطاب عند دار أبي جهم. (5) كان عمر مديد الصوت، فيسمع صوته حيث ذكره (المقصود أن عمر كان جَهْوري الصوت، فيسمع صوته في هذا المحل لجهره بالقراءة، قال الباجي: يُحتمل أن عمر بن الخطاب كان الإمام في الصلاة، فلذلك كان له أن يجهر بالقراءة فيها، والصلاة التي كان يفعل ذلك فيها هي الفريضة التي كان يجتمع أهل المسجد على الاقتداء به فيها، فلا يبقى أحد ينكر أن عمر بن الخطاب قد جهر عليه بالقراءة المتقى 1/151 ويحتمل أن يكون عمر بن الخطاب كان يجهر ذلك في نافلته بالليل وتهجده فكان يسمع من ذلك الموضع 1/152) . (6) قوله: أبي جهم (اختلفت نسخ موطأ يحيى في ذكر هذا الاسم ففي النسخة المصرية أبو جهم وفي النسخ الهندية أبو جهيم بزيادة الياء هما صحابيان، أما في نسخة محمد فهو أبو جهم المكبّر فهو ابن حذيفة، وبهذا جزم العلاّمة الزرقاني في شرحه 1/169) ، بفتح الجيم وإسكان الهاء، واسمه عامر، وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 قَالَ مُحَمَّدٌ: الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاةِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ حَسَنٌ (1) مَا لَمْ يُجهد (2) الرَّجُلُ نَفْسَهُ. 38 - (بَابُ آمِينَ (3) فِي الصَّلاةِ) 136 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا (4) أمَّن الإمام (5)   عبيد بن حذيفة صحابي، قرشي من مُسْلمة الفتح، ومشيخة قريش، وداره بالبَلاط، بفتح الموحَّد بزنة سحاب، موضع بالمدينة، بين المسجد والسوق، كذا قال الزرقاني. (1) بل واجب في حالة الجماعة. (2) أي: لم يحمتل على نفسخ جهراً ومشقة بالجهر المفرط، لقوله تعالى: {ولاَ تَجْهَر بصَلاتِكَ وَلاَ تُهَافِتْ بِهَا وَابتغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (سورة الإسراء: آية 110) . (3) في نسخة: التأمين، بالمد والتخفيف، ومعناه عند الجمهور: اللهم استجب، وقيل غير ذلك مما يرجع إليه (انظر عمدة القاري 3/106 و 107) . (4) قوله: إذا أمَّن، قال الباجي: قيل: معناه إذا بلغ موضع التأمين، وقيل: إذا دعا، والأظهر عندنا أن معناه قال: آمين كما أن معنى فأمِّنوا قولوا: آمين. انتهى. والجمهور على القول الأخير. لكن أوَّلوا قوله: إذا أمَّن على أن المراد إذا أراد التأمين ليقع تأمينُ الإمام والمأموم معاً، فإنه يُستحب فيه المقارنة، قال الشيخ أبو محمد الجويني: لا تستحب مقارنة الإمام في شيء من الصلاة غيره. (5) قوله: الإمام، فيه دليل على أن الإمام يقول: آمين، وهذا موضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 فَأمَنِّنوا (1) ، فَإِنَّهُ (2) مَنْ وَافَقَ (3) تأمينُه تأمينَ الْمَلائِكَةِ (4) غُفر له (5)   اختلف فيه العلماء، فروى ابن القاسم، عن مالك أن الإمام لا يقول: آمين، وإنما يقول: ذلك مَنْ خلفه، وهو قول المصريين من أصحاب مالك، وقال جمهور أهل العلم: يقولها كما يقول المنفرد، وهو قول مالك في رواية المدنيين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود والطبري، وحجَّتهم أن ذلك ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ووائل بن حجر وحديث بلال: "لا تسبقني بآمين"، كذا في "الاستذكار". (1) قوله: فأمنوا، حكي عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم بظاهر الأمر، وأوجبه الظاهرية على كل مصلٍّ، لكن جمهور العلماء على أن الأمر للندب، كذا في "فتح الباري". (2) في رواية الصحيحين: فإن الملائكة تؤمِّن، فمن وافق .... إلخ. (3) قوله: من وافق، أي: في الإخلاص والخشوع، وقيل: في الإجابة، وقيل: في الوقت، وهو الصحيح، ذكره ابن ملك، كذا في "مرقاة المفاتيح". (4) قوله: تأمين الملائكة، ظاهره أن المراد بالملائكة جميعهم، واختاره ابن بزيزة وقيل: الحفظة منهم، وقيل: الذين يتعاقبون منهم. قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد من يشهد تلك الصلاة من في الأرض أو في السماء للحديث الآتي: إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة آمين في السماء فوافقت إحداهما الأخرى، وروى عبد الرزاق، عن عكرمة قال: صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غُفر للعبد ومثله لا يٌقال بالرأي، فالمصير إليه أولى، كذا في "التنوير". (5) قوله: غُفر له، قال الباجي: يقتضي غفرانَ جميع ذنوبه المتقدِّمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 مَا تقدَّم (1) مِنْ ذَنْبِهِ، قَالَ (2) : فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ (3) : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: آمِينَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، يَنْبَغِي إِذَا فَرَغَ الإِمَامُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ أَنْ يُؤَمِّنَ الإِمَامُ وَيُؤَمِّنَ مَنْ خَلْفَهُ، وَلا يَجْهَرُونَ (4) بذلك، فأما أبو حنيفة،   وقال غيره: هو محمول عند العلماء على الصغائر (قلت: لو حصل كمال الندم عند القيام بحضرته عزَّ شأنه وجلَّ برهانه، فلا مانع من التعميم. أوجز المسالك 2/109) . (1) وقع في "أمالي الجرجاني" في آخر هذا الحديث زيادة: "وما تأخر"، كذا في التنوير. (2) أي: مالك. (3) قوله: فقال ابن شهاب، هذا من مراسيل ابن شهاب، وقد أخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" و"العلل" موصولاً من طريق حفص بن عمر العدني، عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة به، وقال: تفرَّد به حفص، وهو ضعيف، وقال ابن عبد البر: لم يُتابَع حفص على هذا اللفظ بهذا الإسناد، وكذا قال السيوطي. (4) قوله: ولا يجهرون بذلك، به قال الشافعي في قوله الجديد، ومالك في رواية، ومذهب الشافعي وأصحابه وأحمد وعطاء وغيرهم أنهم يجهرون، كذا ذكر العيني، وحجة القائلين بالجهر حديث وائل بن حجر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {غَيرَ المَعْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّالِّينَ} ، قال: آمين، ورفع بها صوته. أخرجه أبو داود، وفي رواية الترمذي عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {ولا الضآلين} ، قال: آمين، ومدّ بها صوته. وفي رواية النسائي عنه: صليت خلف رسول الله.. الحديث، وفيه ثم قرأ فاتحة الكتاب، فلما فرغ منها قال: آمين يرفع بها صوته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وفي رواية لأبي داود والترمذي عنه: أنه صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجهر بأمين. وروى أبو داود وابن ماجه، عن أبي هريرة: كان رسول الله إذا تلا {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّالِّينَ} ، قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول، زاد ابن ماجه، فيرتجّ بها المسجد. وروى إسحاق بن راهويه عن امرأة أنها صلَّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال: {ولا الضآلين} قال: آمين، فسمعته، وهو في صف النساء. وروى ابن حبان في "كتاب الثقات" في ترجمة خالد بن أبي نوف، عنه، عن عطاء بن أبي رباح، قال: أدركت مائتين من أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد يَعني المسجدَ الحرام إذا قال الإمام: {ولا الضالين} رفعوا أصواتهم بأمين. وفي "صحيح البخاري"، عن عطار تعليقاً: أمَّن عبد الله بن الزبير ومَن وراءه حتى أن للمسجد لَلَجّه (قال القاري في (مرقاة المفاتيح: 2/292) : جمل أئمتنا ما ورد من رفع الصوت على أول الأمر اللتعليم، ثم لما استقرَّ الأمر عمل بالإخفاء والله أعلم.. ثم إن الأصل في الدعاء الإخفاء لقوله تعلى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} ، ولا شك أن آمين دعاء، فعند التعارض يُرجَّح الإخفاء بذلك وبالقياس على سائر الأذكار والأدعية) . وحجة القائلين بالسر ما أخرجه أحمد وأبو يعلى والحاكم من حديث شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، عن علقمة بن وائل، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّالِّينَ} ، قال: آمين، وأخفى صوته. ولفظ الحاكم: خفض صوته. لكن قد أجمع الحفاظ منهم البخاري وغيره أن شعبة وَهِم في قوله خفض صوته، إنما هو مدّ صوته، لأن سفيان كان أحفظ من شعبة، وهو ومحمد بن سلم وغيرهما رووه عن سلمة بن كهيل هكذا، وقد بسط الكلام في إثبات عِلَل هذا الرواية الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" وابن الهُمام في "فتح القدير" وغيرهما من محدثي أصحابنا. والإنصاف أنَّ الجهر قويّ من حيث الدليل، وقد أشار إليه ابن أمير حاج في " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 فَقَالَ (1) : يُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَ الإِمَامِ، وَلا يُؤَمِّنُ الإمام (2) . 39 - (باب السهو في الصلاة) 137 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن   الحَلبة" (في الأصل: "الحلية"، وهو تحريف) حيث قال: السرّ هو السنة، وبه قالت المالكية، وفي قول عندهم يجهر في الجهرية، وعند الشافعي إن كانت جهرية جهر به الإمام بلا خلاف، والمنفرد على المعروف، والمأموم في أحد قوليه، ونصّ النووي على أنه الأظهر، وقد ورد في السنَّة ما يشهد لكل من المذهبين، ورجح مشايخنا ما للمذهب بما لا يعرى عن شيء لمتأمِّله. فلا جرم أنْ قال شيخنا ابن الهمام (فتح القدير 1/257) : ولو كان إليّ في هذا شيء لوفَّقت بأن رواية الخفض يراد بها عدم القرع العنيف ورواية الجهر بمعنى قولها: في زبر الصوت وذيلها. انتهى. (1) قوله: فقال، وجَّهوا قوله بحديث: "إذا قال الإمام: {وَلاَ الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين"، فإنه يدل على القسمة وهو تنافي الشركة، ولا يخفى ما فيه، والأحاديث الصريحة في قول الإمام آمين واردة عليه، فلهذا لم يأخذ المشايخ بهذه الرواية. (2) قوله: ولا يؤمِّن الإمام، قد يقال: يخالفه قوله في كتاب "الآثار": فإنه أخرج فيه عن أبي حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم النخعي قال: أربع يخافت بهن الإمام: سبحانك اللَّهم، والتعوُّذ، وبسم الله، وأمين، ثم قال: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. فهذا يدل على أن أبا حنيفة أيضاً قائل بقول الإمام آمين سرّاً، أو يجاب عنه بوجهين: أحدهما: أن الرواية عنه مختلفة، فذكر إحداهما ههنا، وذكر الأخرى هناك. وثانيهما: إن أبا حنيفة فرَّع الجواب في المسألة على قولهما كما فرَّع مسائل المزارعة على قول من يرى جوازها، وإن كان خلاف مختاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) : إن أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَّلاةِ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ، فَلَبسَ (2) عَلَيْهِ حَتَّى لا يَدري كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ (3) أَحَدُكُمْ ذَلِكَ، فَلْيَسْجُدْ (4) سَجْدَتَيْنِ (5) وَهُوَ جَالِسٌ. 138 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ (6) بْنُ الحُصَين (7) ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ (8) مَوْلَى (9) ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ،   (1) هذا حديث متفق عليه، ورواه الأربعة، كذا في "مرقاة المفاتيح". (2) بفتح الباء الموحدة الخفيفة، أي: خلط. (3) قوله: فإذا وجد، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو"، وهو تحريف) : هذا الحديث محمول عند مالك وابن وهب وجماعة على الذي يكثر عليها السهو، ويغلب على ظنه أتم، لكن يوسوس الشيطان له، وأما من غلب على ظنه أنه لم يكمل، فيبنيه على يقينه. (4) ترغيماً للشيطان. (5) بعد السلام، كما في حديث عبد الله بن جعفر مرفوعاً: من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلِّم، رواه أحمد وأبو داود. (6) وثَّقه ابن معين، مات سنة 135، كذا في "الإسعاف". (7) بمهملتين مصغراً. (8) قوله: أبي سفيان، اسمه وهب، قاله الدارقطني، وقال غيره: اسمه قُزْمان، بضم القاف، قال ابن سعد: ثقة، قليل الحديث، روى له الستة، كذا في "شرح الزرقاني" و"التقريب". (9) هو عبد الله بن أبي أحمد بن جحش القرشي الأسدي، ذكره جماعة في ثقات التابعين، كذا قال الزرقاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى (1) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الْعَصْرِ (2) ، فسلَّم (3) في ركعتين، فقام ذو اليدين (4)   (1) قوله: صلّى، قال أبو عمر في (الأصل أبو عمرو) بن عبد البر: كذا رواه يحيى ولم يقل "لنا"، وقال ابن القاسم وابن وهب والقعنبي وقتيبة، عن مالك قالوا: صلّى لنا. (2) قوله: صلاة العصر، ورد في طريق البخاري الظهر أو العصر على الشك، وفي (أبواب الإمامة) ، عن أبي الوليد، عن شعبة: الظهر، بغير شك، وكذا لمسلم من طريق أبي سلمة، وله من طريق آخرى، عن أبي هريرة: العصر وفي (باب تشبيك الأصابع في المسجد) من صحيح البخاري، من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة بلفظ: إحدى صلاتي العشيّ، قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا. قال الحافظ ابن حجر: الظاهر أن الاختلاف فيه من الرواة، وأبعَدَ من قال يُحمل على أن القصة وقعت مرتنين، بل روى النسائي من طريق ابن عون، عن ابن سيرين أن الشك فيه من أبي هريرة، فالظاهر أن أبا هريرة رواه كثيراً على الشك، وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر، فجزم بها، وتارة العصر فجزم بها، ولم يختلف الرواة في حديث عمران في قصة الخرباق أنها العصر، فإن قلنا: إنهما قصة واحدة، فيترجَّح رواية من روى العصر في حديث أبي هريرة. انتهى. كذا في "ضياء الساري شرح صحيح البخاري". (3) سهواً. (4) قوله: ذو اليدين، قال ابن حجر: ذهب الأكثر إلى أن اسمه الخِرْباق، بكسر المعجمة وسكون الراء، بعدها موحَّدة، آخره قاف، اعتماداً على ما وقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم، ولفظه: فقام إليه رجل، يقال له الخرباق، وكان في يديه طول، وهذا صنيع من يوحِّد حديث أبي هريرة بحديث عمران، وهو الراجح في نظري، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدّد، والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياق، ففي حديث أبي هريرة أن السلام كان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 فَقَالَ (1) : أَقَصُرَتِ (2) الصَّلاةُ (3) يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ (4) لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ: يا رسول الله قد كان بعض   اثنتين، وفي حديث عمران أنه كان من ثلاث (قال الحافظ في "فتح الباري": 3/78: والظاهر أن الاختلاف من الرواة، وأبعد من قال يُحمل على أن القصة وقعت مرتين ... إلخ. وقال العيني في "عمدة القاري" 3/644: قلت: الحمل على التعدّد أولى من نسبة الرواة إلى الشك) . (1) قوله: فقال، أي: ذو اليدين: وهو غير ذي الشمالين المقتول في بدر، بدليل ما في حديث أبي هريرة ومن ذكرها معه من حضورهم تلك الصلاة ممن كان إسلامه بعد بدر، وقول أبي هريرة في حديث ذي اليدين: صلّى لنا رسول الله وصلّى بنا، وبينما نحن جلوس مع رسول الله، محفوظ من نقل الحفاظ، وأما قول ابن شهاب الزهري في هذا الحديث: إنه ذو الشمالين، فلم يُتابَع عليه، وحمله الزهري على أنه المقتول يوم بدر، وغلط فيه (قلت: لم ينفرد به الزهري بل تابعه على ذلك عمران بن أنس، عند النسائي والطحاوي. انظر: نصب الراية 1/182، وبذل المجهود 5/360) والغلط لا يسلم منه أحد، كذا في "الاستذكار". (2) قوله: أقصرت، بفتح القاف وضم الصاد المهملة، أي: صارت قصيرة، وبضم القاف وكسر الصاد أي: أن الله قصَّرها، والثاني أشهر، وأصح، وفيه دليل على ورعهم إذ لم يجزموا بوقوع شيء بغير علم، وإنما استفهموا لأن الزمان زمان نسخ، قاله الحافظ. (3) بالرفع على الفاعلية أو النيابة. (4) قوله: كل ذلك لم يكن، قال النووي: فيه تأويلان، أحدهما: أن معناه لم يكن المجموع، والثاني: وهو الصواب أن معناه: لم يكن ذاك، ولا ذا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 ذَلِكَ (1) ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ (2) ، فَقَالَ: أَصَدَقَ (3) ذُوُ الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا (4) : نَعَمْ. فأَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا (5) بَقِيَ عَلَيْهِ (6) مِنَ الصلاةَ ثُمَّ سلَّم، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ بعد التسليم.   ظني، بل ظني أني أكملت أربعاً، ويدل على صحة هذا التأويل أنه ورد في بعض روايات البخاري أنه قال: لم تُقْصر، ولم أَنسَ. (1) وأجابه في رواية أخرى بقوله: بلى، قد نسيت. (2) الذين صلّوا معه. (3) في رواية لأبي داود بإسناد صحيح: أن الجماعة أومؤوا، أي: نعم. (4) قوله: فقالوا: نعم، احتجَّ مالك وأحمد بقولهم: نعم، على جواز الكلام لمصلحة الصلاة، وليس كما قالا لما مرَّ أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما صرَّحت به الأحاديث الصحيحة أنه يجب إجابته في الصلاة بالقول والفعل، ولا تبطل به الصلاة، وحينئذٍ لا حاجة إلى ماروي، عن ابن سيرين أنهم لم يقولوا: نعم، بل: أومؤوا بالإشارة، كذا في "مرقاة المفاتيح". (5) وهو الركعتان. (6) قوله: ما بقي عليه، اختلفوا في الكلام في الصلاة بعد ما أجمعوا على أن الكلام عامداً إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة، ولم يكن ذلك لإصلاح صلاته مفسدٌ إلاَّ الأوزاعي فإنه قال: من تكلم في صلاته لإحياء نفس ونحو ذلك من الأمور الجسام لم يفسدها (في الأصل: "لم يفسد"، والظاهر: "لم يفسدها") . وهو قول ضعيف يردّه السنن والأصول؟ فالمشهور من مذهب مالك وأصحابه: إذا تكلم على ظنِّ أنه أتمَّ الصلاة لم يفسد عامداً كان الكلام أو ساهياً، وكذا إذا تعمَّد الكلام إذا كان في صلاحها وبيانها، وهو قول ربيعة وإسماعيل بن إسحاق. وقال الشافعي وأصحابه وبعض أصحاب مالك: إن المصلّي إذا تكلم ساهياً أو تكلم وهو يظن أنه أكمل صلاته لا يفسد وإن تعمَّد عالماً بأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 139 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عن عطاء بن يسار أن (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم،   لم يتمَّها يفسد وإن كان لإصلاحها. وذهب الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه والثوري وغيرهم: إلى أن الكلام في الصلاة مفسد على كل حال، سهواً كان أو عمداً، لصلاح الصلاة أو لا، على ظن الإتمام أو لا، كذا ذكره ابن عبد البر. أما حجة المالكية والشافعية، فحديث ذي اليدين. وأما الحنفية، فاحتجّوا بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (سورة البقرة: رقم الآية 238) ، أي: ساكتين، فإنه نزل نسخاً لما كانوا يتكلَّمون في الصلاة، كما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة والطحاوي وغيرهم من حديث زيد بن أرقم. وطرقه مبسوطة في "الدر المنثور" للسيوطي، وأجابوا عن حديث ذي اليدين، بوجوه: منها، أنه كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وفيه مطالبة ما يدل على الاختصاص. ومنها، أنه كان حين كان الكلام مباحاً، وفيه أن تحريم الكلام كان بمكة على المشهور، وهذه القصة قد رواها أبو هريرة، وهو أسلم سنة سبع، وقال بعضهم: إن أبا هريرة لم يحضرها، وإنما رواها مرسلاً، بدليل أن ذا الشمالين قتل يوم بدر، وهو صاحب القصة، وردوه بأن رواية مسلم وغيره صريحة في حضور أبي هريرة تلك القصة والمقتول ببدر هو ذو الشمالين وصاحب القصة هو ذو اليدين وهو غيره (قلت: مدار البحث والاستدلال في هذه المسألة موقوف على أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد، وأنه استشهد ببدر، ولم يدركه أبو هريرة لأن إسلامه كان سنة سبع من الهجرة. وقد استوفى أدلة الفريقين الشيخ ظهير النيموي في "آثار السنن" (1/144) ، فارجع إليه) ، كما بسطه ابن عبد البر، وفي المقام كلام طويل لا يتحمّله المقام. (1) قوله: أنَّ، قال ابن عبد البر: هكذا روي الحديث عن مالك مرسلاً، ولا أعلم أحداً أسنده عن مالك إلاَّ الوليد بن مسلم، فإنه وصله، عن أبي سعيد الخدري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 قَالَ: إِذَا شكَّ (1) أحدُكم فِي صلاتِه، فَلا يَدْري كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَمْ أَرْبَعًا، فلْيَقُم (2) ، فليصلِّ (3) رَكْعة، ولْيَسْجُدْ (4) سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. فَإِنْ كَانَتِ الرَّكْعَةُ الَّتِي صلَّى خَامِسَةً شَفَعها (5) (6)   قلت: وصله مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد، كذا في "تنوير الحوالك". (1) أي: تردَّدَ من غير رجحان، فإنه مع الظن يبني عليه عندنا خلافاً للشافعي، كذا في "مرقاة المفاتيح". (2) وفي رواية مسلم: "فليطرح الشك وليبنِ على ما استيقن". (3) قوله فليصلِّ، قال ابن عبد البر: في الحديث دلالة قوية لقول مالك والشافعي والثوري وغيرهم أنَّ الشاكَّ يبني على اليقين، ولا يجزيه التحرِّي، قال أبو حنيفة: إن كان ذلك في أول مرة استقبل، وإن كان غير مرة تحرّى، وليس في الأحاديث فرق (وللإمام أحمد في ذلك ثلاث روايات: إحداها" البناء على اليقين. والثانية: البناء على التحرّي مطلقاً، والثالثة: البناءعلى اليقين للمنفرد والتحرّي للإمام وهو ظاهر مذهبه. وقالت الحنفية: إذا شكَّ أحد وهو مبتدئ بالشك لا مبتلىّ به استأنف الصلاة، وإن كان يعرض له الشك كثيراً بنى على أكبر رأيه، وإن لم يكن رأي بنى على اليقين. "عمدة القاري" 3/749، و"أوجز المسالك" 2/176) ، كذا قال الزرقاني. (4) قوله: وليسجد، قال القاضي عياض: القياس أن لا يسجد إذ الأصل أنه لم يزد شيئاً، لكن صلاته لا تخلو عن أحد خللين، إما الزيادة، وإما إداء الرابعة على التردد، فيسجد جبراً للخلل ولما كان من تسويل الشيطان وتلبيسه سمى جبره ترغيماً له، كذا في "مرقاة المفاتيح". (5) أي: ردَّها إلى الشفع. (6) قوله: شفعها، لأنها تصير ستّاً بهما، حيث أتى معظم أركان الصلاة. وقول ابن ملك ههنا: (وبه قال مالك، وعند أبي حنيفة: يصلّي ركعة سادسة) سهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 بِهَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ رَابِعَةً فَالسَّجْدَتَانِ ترغيمٌ (1) لِلشَّيْطَانِ. 140 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَج، عَنِ ابْنِ بُحَينَة (2) أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ (3) وَلَمْ يَجْلِس، فَقَامَ الناسُ فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ وَنَظَرْنَا (4) تَسْلِيمَهُ كَبَّر وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ (5) ثم سلَّم.   ظاهر لأنّ الكلام ههنا في المقدر، والخلاف إنما هو في المحقق كذا في "مرقاة المفاتيح" (3/23) . (1) أي: إغاظة له وإذلال. (2) قوله: عن ابن بُحَيْنة، بضم الباء بعده حاء مهملة مفتوحة ثم ياء ساكنة مصغّراً: هي اسم أمّه اشتهر به، وهو عبد الله بن مالك بن القشب الأزدي، من أجلَّة الصحابة، مات بعد سنة 50 هـ، كذا في "التقريب" وغيره. (3) زاد الضحاك بن عثمان، عن الأعرج: (فسّبحوا به فمضى) . أخرجه ابن خزيمة. (4) أي: انتظرنا. (5) قوله: قبل التسليم، فيه دليل على أن وقت السجود قبل السلام وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة والثوري: موضعُه بعد السلام. وتمسَّكَا بحديث ابن مسعود وأبي هريرة (وقال مالك وهو قول قديم للشافعي: إن كان السجود لنقصان قُدِّم، وإن كان لزيادة أُخِّر: "مرقاة المصابيح" 3/22) ، كذا في "الكاشف عن حقائق السنن"، حاشية المشكاة للطِّيبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 141 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَفِيفُ بْنُ عَمْرِو (1) بْنِ الْمُسَيِّبِ السَّهْمِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار قَالَ: سَأَلْتُ عبدَ اللَّهِ (2) بنَ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ وَكَعْبًا (3) عَنِ الَّذِي يَشُكُّ كَمْ صَلَّى ثلاثاُ أَوْ أَرْبَعًا، قَالَ: فَكِلاهُمَا قَالا: فليقُمْ وَلْيُصَلِّ (4) رَكْعةً أُخْرَى قَائِمًا ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ إِذَا صَلَّى. 142 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ النِّسْيَانِ، قَالَ: يَتَوَخَّى (5) أَحَدُكُمُ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ نَسِيَ من   (1) قوله: عَمرو، بفتح العين. قرأت بخط الذهبي: لا يُدرى من هو؟ أي: عفيف بن عمرو. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال النسائي: ثقة، كذا في "تهذيب التهذيب" لابن حجر. (2) قوله: عبد الله، هو أبو عبد الرحمن أو أبو محمد عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هشام السهمي، لم يكن بينه وبين أبيه في السن إلاَّ إحدى عشر سنة، وأسلم قبل أبيه، وكان مجتهداً في العبادة، غزيرَ العلم، من أجلَّة الصحابة، مات سنة 63 هـ أو سنة 65 هـ أو سنة 68 هـ أو سنة 73 هـ أو سنة 77 هـ بمكة أو بالطائف أو بمصر أو بفلسطين: أقوال، كذا في "تهذيب التهذيب" وغيره. (3) هو من كبار التابعين، هو كعب بن قانع، أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار من مُسْلمة أهل الكتاب، مات سنة 32 هـ، كذا في "الإسعاف". (4) بانياً على ما تيقَّن. (5) يُقال: توخَّيْت الشيء أتوخأ إذا قصدت إليه، وتعمَّدت فعلَه، وتحرَّيْتُ فيه، كذا في "النهاية". قوله: يتوخّى، هذا ظاهر في أنه يبني على اليقين، كذا قال ابن عبد البر وغيره، وفيه تأمُّل، بل هو ظاهر في التحرِّي والبناء عليه، وعليه حمله الطحاوي بعدما أخرجه من طرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 صَلاتِهِ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، إِذَا نَاءَ (2) لِلْقِيَامِ وتغيَّرتْ حالُه عَنِ الْقُعُودِ وَجَبَ (3) عَلَيْهِ لِذَلِكَ سَجْدَتَا السَّهْوِ. وكلُّ سهوٍ وجبتْ فِيهِ سَجْدَتَانِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانِ فَسَجْدَتَا السَّهْوِ فيه بعد التسليم (4) . ومن   (1) في بعض النسخ: في الآخر، ثم يسجد سجدتين. (2) أي: بَعُد. (3) قوله: وجب عليه، فإن سبَّح به المؤتم أو تذكرَّ وهو قريب من القعود عاد، وإلا لا، لما روى أبو داود من حديث المُغيرة بن شعبة مرفوعاً: إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذَكر قبل أن يستوي قائماً، فليجلس وإن استوى قائماً، فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو. وأخرج ابن عبد البر في "التمهيد": أن المغيرة قام من ثنتين واعتدل فسبحوا به فلم يرجع وقال لهم كذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن سعد بن أبي وقاص مثله. (4) قوله: بعد التسليم، قد ورد في هذا الباب ما يدل على السجود بعد التسليم وأحاديث تدل على السجود قبل التسليم. فمن الأولى ما أخرجه أبو داود والطبراني وأحمد، عن ثوبان مرفوعاً: "لكل سهو سجدتان بعد السلام". وثبت السجود بعد السلام من فعل النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، ومن حديث المغيرة أخرجه أبو داود والترمذي، ومن حديث أنس أخرجه الطبراني في "الصغير"، ومن حديث ابن عباس أخرجه ابن سعد في "الطبقات". وورد السجود قبل التسليم في حديث أبي هريرة. أخرجه أحمد وأبو داود، ومن حديث عبد الرحمن بن عوف أخرجه الترمذي وابن ماجه، ومن حديث ابن بُحَيْنة أخرجه مالك والبخاري وغيرهما، ومن حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم، ومن حديث معاوية أخرجه الحازمي. ومن ثَم اختلف العلماء في ذلك على ما بسطه الحازمي في كتاب "الاعتبار": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 أَدْخَلَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ الشكَّ (1) فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يدرِ (2) أَثَلاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا، فَإِنْ كَانَ ذلك أولَ (3) ما لقي تكلَّمَ (4)   فمنهم من رأى السجود كله بعد السلام، وهو المروي، عن علي وسعد وابن مسعود وعمار بن ياسر وابن عباس وابن الزبير والحسن وإبراهيم وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح بن حَيّ وأبي حنيفة (في الأصل: "أبو حنيفة"، وهو خطأ والصواب أبي حنيفة) وأصحابه، ومنهم من قال: كلّه قبل التسليم، وبه قال أبو هريرة ومعاوية ومكحول والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة والأوزاعي والليث والشافعي وأصحابه. وقال مالك ونفر من أهل الحجاز: إن كان السهو بالزيادة فالسجود بعد السلام أخذاً من حديث ذي اليدين، وإن كان بالنقصان فقبلَه أخذاً من حديث ابن بُحَيْنة. وطريق الإنصاف أن الأحاديث في السجود قبل السلام وبعده ثابتة قولاً وفعلاً، وتقدّم بعضها على بعض غير معلوم. فالكلّ جائز، وبه صرّح أصحابنا أنه لو سجد قبل السلام لا بأس به. (1) قوله: الشك في صلاته، ليس المراد به التردد مع التساوي بل مطلق التردد، وقال السيد أحمد الحَمَوي في "حواشي الأشباه والنظائر": اعلم أنّ مراد الفقهاء بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والطلاق وغيرها هو التردد بين وجود الشيء وعدمه، سواء كان الطرفان سواء أو أحدهما راجحاً فهذا معناه في اصطلاح الفقهاء. أما أصحاب الأصول، فإنهم فرّقوا بين ذلك فقالوا: التردد إن كان على السواء فهو الشك، فإن كان أحدهما راجحاً، فالراجح ظن والمرجوح وهم. انتهى كلامه نقلاً عن "فتح القدير". (2) (في نسخة) ليس المراد به نفي الدراية مطلقاً، بل مراده نفي اليقين، ويجوز أن يراد نفي دراية أحدهما بخصوصه فقط. (3) أي: كان الشك عرض له أول مرة وليس بعادة له. (4) قوله: تكلم واستقبل صلاته، لما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر، أنه قال في الذي لا يدري صلى ثلاثاً أم أربعاً قال: يعيد حتى يحفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وَاسْتَقْبَلَ (1) صَلاتَهُ، وَإِنْ كَانَ يُبتلى بِذَلِكَ (2) كَثِيرًا مَضَى عَلَى أَكْثَرِ ظَنِّهِ (3) ورَأيِهِ (4) وَلَمْ يَمْضِ (5)   وفي لفظ: أما أنا إذا لم أدر كم صلّيتُ، فإني أعيد، وأخرج نحوه عن سعيد بن جبير وابن الحنفية وشريح. وأخرج محمد في كتاب "الآثار" نحوه، عن إبراهيم النَّخَعي. (1) أي استأنف صلاته وترك ما صلّى. (2) أي: بالشك. (3) قوله: مضى على أكثر ظنه، فإن لم يكن له ظن بنى على اليقين لحديث ابن مسعود مرفوعاً: "إذا شكَّ أحدكم فليتحرَّ الصواب فليتم عليه". أخرجه البخاري ومسلم، وأخرج محمد في "الآثار"، عن ابن مسعود موقوفاً: إذا شك أحدكم في صلاة ولا يدري أثلاثاَ صلى أم أربعاً، فليتحرّ فلينظر أفضل ظنه، فإن كان أكبرُ ظنه أنها ثلاث قام فأضاف إليها الرابعة، ثم يتشهد، ثم يسلم، ويسجد سجدتي السهو، وإن كان أكبر رأيه أنه صلّى أربعاً تشهد وسلم وسجد سجدتي السهو. وأخرج الطحاوي، عن عمرو بن دينار قال: سئل ابن عمر وأبو سعيد الخدري، عن رجل سها فلم يدرِ كم صلّى، قالا: يتحرى أصوب ذلك فيتمَّه ثم يسجد سجدتين. (4) ورأيه عطف تفسيري على الظن أو أكثر الظن، فإن الرأي يُطلق على المظنون وعلى ما يحصل بغلبة الظن، قال الحَمَوي في "حواشي الأشباه": اليقين هو طمأنينة القلب على حقيقة الشيء، والشك لغة مطلق التردد، وفي إصطلاح الأصول استواء طرفي الشيء وهو الموقوف بحيث لا يميل القلب إلى أحدهما فإن ترجّح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو ظن، فإن طرحه فهو غالب الظن وهو بمنزلة اليقين، وأما عند الفقهاء فهو كاللغة لا فرق بين المساوي والراجح. انتهى. (5) قوله: ولم يمضِ على اليقين، وفيه خلاف الشافعي ومالك والثوري وداود والطبري، فإنهم قالوا: يَبني على اليقين ولا يلزمه التحري لأحاديث (في الأصل: "لحديث"، والظاهر: "لأحاديث") أبي سعيد الخدري وابن عُمر وعبد الرحمن بن عوف الواردة في البناء على الأقلّ، وحملوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 عَلَى الْيَقِينِ (1) ، فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ ينجُ فِيمَا يَرَى مِنَ السَّهْوِ الَّذِي يُدخل عَلَيْهِ الشيطانُ، وَفِي ذَلِكَ (2) آثَارٌ كَثِيرَةٌ. 143 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (3) أَنَّ أَنَسَ بن   حديث ابن مسعود: "فليتحرّ الصواب"، على أن معناه فليتحرّ الذي يظن أنه نقصه فيتمّه (وفي: "فتح الباري" 3/76، قال الشافعية: هو البناء على اليقين ... إلخ، وهذا المعنى لا تساعده اللغة أصلاً. وذلك حيث قال العلامة الفتني: التحري القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء والقول، "مجمع بحار الأنوار" 1/501) ، فيكون التحري أن يعيد ما شك فيه ويبني على ماستيقن، وأصحابنا سلكوا مسلك الجمع بين الأحاديث بدون صرف إلى الظاهر، فإن بعضها تدل على البناء على الأقل مطلقاً، وبعضها تدل على تحري الصواب، فحملوا الأولى على ما إذا لم يكن له رأي. والثانية على ما إذا كان له رأي، وقد بسطه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، بأحسن بسط فلْيُراجعْ. (1) قوله: على اليقين، قد يقال: لا يقين مع الشك، ويُجاب بأن المراد به المتيقَّن، مثلاً إذا شك ثلاثاً صلّى أم أربعاً؟ فالثلاث هو المتيقَّن، والتردد إنما هو في الزيادة. فلا يمضي على المتيقَّن، فإنه إن فعل ذلك - أي الإمضاء على الأقل المتيقَّن - من غير أن يتحرّى ويعمل بغالبِ ظنه لم ينجُ بضم الجيم، أي: لم يحصل له النجاة في ما يرى في ما يذهب إليه من أخذ المتيقن من السهو أي: الاشتباه الذي يُدخِلُ عليه الشيطان، فإنه وإن بنى على الأقل وأتمَّ صلاته بأداء ركعة أخرى، لكن لا يزول منه التردد والاشتباه الذي يُبتلى به كثيراً بوسوسة الشيطان، فيقع في حرج دائم وتردد لازم بخلاف ما إذا تحرّى وبنى على غالب رأية وطرح الجانب الآخر فإنه حينئذٍ يحصل له الطمأنينة، ولا يغلب عليه الشيطان في تلك الواقعة. (2) والظاهر أنه إشارة إلى جميع ما ذكر. (3) ابن قيس الأنصاري أبو سعيد المدني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 مَالِكٍ صَلَّى بِهِمْ فِي سفرٍ كَانَ (1) مَعَهُ فِيهِ فَصَلَّى سَجْدَتَيْنِ (2) ثُمَّ نَاءَ لِلْقِيَامِ، فسبَّح بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَرَجَعَ (3) ثُمَّ لَمَّا قَضَى (4) صَلاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. قَالَ (5) : لا أَدْرِي أَقْبَلَ التَّسْلِيمِ أو (6) بعده. 40 - (باب العبث (7) بالحصى فِي الصَّلاةِ وَمَا يُكره مِنْ تَسْوِيَتِهِ) 144 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ (8) قَالَ: رأيتُ ابْنَ عُمَرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يسجدَ سَوَّى (9)   (1) أي: كان يحيى مع أنس. (2) أي: ركعتين. (3) لعله لم يكن تباعد عن القعود، بل كان قريباً منه. (4) أي: أتمّ. (5) أي: يحيى بن سعيد. (6) في نسخة: أم. (7) بفتحتين: عمل لا فائدة فيه. الحصى: هي الحجارة الصغار تُفرش في المساجد ونحوها. (8) بالهمز في الآخر، ويجوز حذفه تخفيفاً، فيسكن الياء، نسبةً إلى قراءة القرآن، ذكره السمعاني، وذكره عند المنتسبين به، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ المدني مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، يروي عن ابن عمر، وعنه مالك، توفي سنة 132 هـ. انتهى. (9) ليزيل شغله عن الصلاة بما يتأذّى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 الْحَصَى (1) تَسْوِيَةً (2) خَفِيفَةً. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كُنْتُ يَوْمًا أُصَلِّي، وَابْنُ عُمَرَ وَرَائِي (3) ، فالتفتُّ فَوَضَعَ يده في قفاي فغمزني (4) .   (1) الحصى جمع حصاة (سنكريزة) (بالفارسية) . قوله: سوّى الحصى، حكى النووي اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصباء وغيرها في الصلاة، وفيه نظر، لحكاية الخطابي، عن مالك أنه لم يَرَ به بأساً فكأنه لم يبلغه الخبر، كذا في الفتح والأَولى إن صح ذلك عن مالك أنه كان يفعله مرة واحدة مسحاً خفيفاً كفعل ابن عمر. (2) قوله: تسوية، أي: مرةً واحدة خفيفة تحرزاً عن الإيذاء، وعن العمل الكثير، وقد ورد ذلك مرفوعاً، فأخرج الأئمة الستة عن مُعَيْقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تمسح الحصى وأنت تصلي، فإن كنتَ لا بد فاعلاً فواحدة. وأخرج ابن أبي شيبة، عن جابر، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى، قال واحدة ولئن تمسك عنها خير لك من مائة ناقة كلها سود الحدق وروى عبد الرزاق عن أبي ذر سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى فقال: واحدة أو دعْ. وكذلك رواه ابن شيبة وأبو نعيم في "الحلية". وكذلك أخرجه أحمد عن حذيفة. (3) أي: واقفاً أو قاعداً خلفي. (4) الغمز: العصر والكبس باليد، قوله: فغمزني، تنبيهاً على كراهة الالتفات في الصلاة، أي: النظر يميناً وشمالاً، لما أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي ذر مرفوعاً: لا يزال الله مُقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه. وأخرج البخاري عن عائشة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة مرفوعاً: إياكم والالتفات في الصلاة، فإن أحدكم يناجي ربَّه ما دام في الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 145 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُسلم (1) بْنُ أَبِي مَرْيَمَ (2) ، عَنْ عَلِيِّ (3) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المُعاوي (4) أَنَّهُ قَالَ: رَآنِي عبدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَعْبَثُ بِالْحَصَى فِي الصَّلاةِ، فَلَمَّا انصرفتُ (5) نَهَانِي (6) وَقَالَ: اصْنَعْ كَمَا كَانَ (7) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ، فَقُلْتُ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا جلس في الصلاة   (1) وثَّقه أبو داود والنسائي وابن معين، مات في خلافة المنصور، كذا في "الإسعاف". (2) اسمه يسار المدني. (3) وثَّقه أبو زرعة والنسائي، كذا قال السيوطي. (4) بضم الميم، قال ابن عبد البر: منسوب إلى بني معاوية، فخذ من الأنصار، تابعي، مدني، ثقة، روى له مسلم وأبو داود، قاله الزرقاني. (5) أي: فرغت من الصلاة. (6) قوله: نهاني (عن ذلك لكراهته في الصلاة، ولم يأمر بالإعادة لأن العمل إذا لم يكثر لا يكون مفسداً، وهذا إجماع من الأئمة الأربعة، وإن كان العمل يسيراً، لم يبطلها، والمرجع في ذلك إلى العرف، مختصراً من أوجز المسالك 2/115) ، وإنما لم يأمره بالإعادة لأن ذلك والله أعلم كان منه يسيراً لم يشغله عن صلاته، ولا عن حدودها، والعمل اليسير في الصلاة لا يفسدها، كذا قال ابن عبد البر (الاستذكار 2/200) . (7) لعل عبثه كان في حالة الجلوس، فلذلك علَّمه كيفية الجلوس النبوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وَضَعَ كفَّه الْيُمْنَى (1) عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أصابعَه كلَّها (2) ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ (3) الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ، ووضع كفَّه اليسرى على فخذه اليسرى.   (1) قوله: وضع كفه اليمنى، قال ابن الهُمام في "فتح القدير". لا شك أن وضع الكف مع قبض الأصابع لا يتحقق حقيقةً، فالمراد - والله أعلم - وضعُ الكف ثم قبض الأصابع بعد ذلك للإشارة. وهو المرويّ عن محمد، وكذا عن أبي يوسف في "الأمالي". انتهى. وقال عليّ القاريّ في رسالته "تزيين العبارة لتحقيق الإشارة": المعتمد عندنا أنه لا يَعقد يُمناه إلا عند الإشارة لا ختلاف ألفاظ الحديث وأصناف العبارة، وبما ذكرنا يحصل الجمع بين الأدلة، فإن البعض يدل على أن العقد من أول وضع اليد على الفخذ، وبعضها يشير إلى أنه لا عقد أصلاً، فاختار بعضهم أنه لا يعقد ويشير بعضهم أنه يعقد عند قصد الإشارة ثم يرجع إلى ما كان عليه. والصحيح المختار عند جمهور أصحابنا أن يضع كفيه على فخذيه ثم عند وصوله إلى كلمة التوحيد يعقد الخنصر والبنصر ويحلق الوسطى والإبهام، ويشير بالمسبِّحة رافعاً لها عند النفي واضعاً عند الإثبات ثم يستمر ذلك لأنه ثبت العقد عند ذلك بلا خلاف ولم يوجد أمر بتغييره. فالأصل بقاء الشيء على ما هو عليه. انتهى. (2) قوله: وقبض أصابع كلها، ظاهره العقد بدون التحليق، وثبت التحليق بروايات أخر صحيحة فيُحمل الاختلاف الأحوال والتوسع في الأمر، وظاهر بعض الأخبار الإشارة بدون التحليق والعقد، والمختار عند جمهور أصحابنا هو العقد والتحليق، والثاني أحسن كما حققه عليَّ القاري في رسالته: "تزيين العبارة" بعد ما أورد نُبَذاً من الأخبار. (3) قوله: بإصبعه (وفي الحديث استحباب الإشارة بالسبابة وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة. "أوجز المسالك" 2/116) ، وهي السبابة، زاد سفيان بن عُيَيْنة، عن مسلم بإسناده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِصَنِيعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يأخذ، وَهُوَ (1) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -   المذكور وقال: هي مذبَّة للشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بإصبعه. قال الباجي: فيه أن معنى الإشارة دفع السهو وقمع الشيطان. (1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال القاري في رسالته: مفهومه أن أبا يوسف مخالف لما قام عنده من الدليل وما ثبت لديه من التعليل والله أعلم بصحته. وإن لم يكن لنا معرفة بثبوته. انتهى. وفيه نظر، فإن من عادة محمد في هذا الكتاب وكذا في كتاب "الآثار" أنه ينص على مأخوذه ومأخوذ أستاذه أبي حنيفة فحسب، ولا يتعرض لمسلك أبي يوسف لا نفياً ولا إثباتاً فلا يكون تخصيصه بذكر مذهبه ومذهب الإمام دالاً على أن أبا يوسف مخالفٌ لهما، وقد ذكر ابن الهُمام في "فتح القدير" والشُّمُنِّي في "شرح النقاية" وغرهما أنه ذكر أبو يوسف في "الأمالي" مثل ما ذكر محمد، فظهر أن أصحابنا الثلاثة اتفقوا على تجويز الإشارة (اختلفت الأئمة فيما بينهم في مسألتين: أولاهما في كيفية الإشارة، في "المغني" ثلاث صور: الأولى التحليق، والثانية العقد، والثالثة الإشارة باسطاً يديه ثم قال: والأول أولى وذكر في المندوبات في نيل المآرب وفي الروض المربع التحليق فقط دون غيره وأما الثانية: فهي تحريك الأصابع، فلا يحرك الإصبع عندنا الحنفية وكذا عند الحنابلة، وهي المفتى به عند الشافعية. وبه قال ابن القاسم من المالكية والمشهور عند المالكية التحريك. انظر أوجز المسالك 2/117) لثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بروايات متعددة وطرق متكثِّرة لا سبيل إلى إنكارها ولا إلى ردّها، وقد قال به غيرهم من العلماء، حتى قال ابن عبد البر: إنه لا خلاف في ذلك، وإلى الله المشتكى من صنيع كثير من أصحابنا من أصحاب الفتاوى كصاحب "الخلاصة" و"البزازية الكبرى" و"العتابية" و"الغياثية" و"الولوالجية" و"عمدة المفتي" و"الظهيرية" وغيرها حيث ذكروا أن المختار هو عدم الإشارة، بل ذكر بعضهم أنها مكروهة، والذي حملهم على ذلك سكوت أئمتنا عن هذه المسألة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 فَأَمَّا تَسْوِيَةُ الْحَصَى فَلا بَأْسَ بِتَسْوِيَتِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ (1) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 41 - (بَابُ التَّشَهُّدِ (2) فِي الصَّلاةِ) 146 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تتشهَّد فَتَقُولُ: التحياتُ (3) الطيباتُ   في ظاهر الرواية، ولم يعلموا أنه قد ثبت عنهم بروايات متعددة ولا أنه ورد في أحاديث متكثرة، فالحذر الحذر من الاعتماد على قولهم في هذه المسألة مع كونه مخالفاً لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل وعن أئمتنا أيضاً، بل لو ثبت عن أئمتنا التصريح بالنفي وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الإثبات لكان فعل الرسول وأصحابه أحق وألزم بالقبول، فكيف وقد قال به أئمتنا أيضاً؟! (1) قوله: أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه". أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه. (2) هو تفعّل من تشهد، سمِّي به لاشتماله على النطق بالشهادة، والتشهُّد: ليس عند مالك في التشهد شيء مرفوع وإن كان غيره قد رفع ذلك، ومعلوم أنه لا يقال بالرأي. ولمّا علم مالك أن التشهد لم يكن إلاَّ توقيفاً، اختار تشهد عمر لأنه كان يعلِّمه الناس وهو على المنبر من غير نكير (قال الباجي 1/170: فإن قال قائل فقد أثبتم أن تشهد عمر بن الخطاب هو الصواب المأمور به وأن ما عداه ليس بمأمور به..فالجواب أن مالكاً رحمه الله اختار تشهُّد عمر بن الخطاب على سائر ما روي فيه بالدليل الذي ذكرناه إلاَّ أنه مع ذلك يقول: من أخذ بغيره لا يأثم ولا يكون تاركاً للتشهد في الصلاة ... إلخ) ، كذا في "الاستذكار". (3) فسرها بعضهم بالمُلك وبعضهم بالبقاء وبعضهم بالسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الصلواتُ (1) الزاكياتُ لِلَّهِ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُه، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبيُّ وَرَحْمَةُ الله وركاته، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ. 147 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (2) بْنِ عَبْدِ (3) الْقَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يعلِّم النَّاسَ التَّشَهُّدَ، وَيَقُولُ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ (4) لِلَّهِ، الزَّاكِيَّاتُ (5) لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ (6) الصَّلَوَاتُ (7) لِلَّهِ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وركاته، السلام (8)   (1) أي: الدعوات الصافيات. (2) قوله: عبد الرحمن، عامل عمر على بيت المال، ذكره العجلي في ثقات التابعين، واختلف قول الواقدي فيه، قال تارة: له صحبة وقال تارة: تابعي، مات سنة 88 هـ، كذا قال ابن حجر. (3) بغير إضافة (القاري) بتشديد الياء نسبة إلى قارة بطن من خزيمة بن مدركة، كذا قال الزرقاني. (4) قوله: التحيات، عن القتبي أن الجمع في لفظ التحيات سببه أنهم كانوا يحيون الملوك بأثنية مختلفة كقولهم: أنعم صباحاً، وعش كذا سنة، فقيل: استحقاق الأثنية كلها لله تعالى، كذا في "التنوير". (5) قال ابن حبيب: هي صالح الأعمال. (6) أي: طيبات القول. (7) قوله: الصلوات، قال القاضي أبو الوليد: معناه أنها لا ينبغي أن يُراد بها غير الله، وقال الرافعي: معناه الرحمة لله على العباد. (8) قوله: السلام، قيل السلام هو الله، ومعناه الله على حفظنا، وقيل هو جمع سلامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 عَلَيْنَا (1) وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ (2) ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه. 148 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَتَشَهَّدُ فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ (3) ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، وَالزَّاكِيَّاتُ لِلَّهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ (4) أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ شهدتُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَشِهِدْتُ أَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. يَقُولُ (5) هَذَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُوليَين، ويدعو (6) بما بدا   (1) يريد به المصلِّي نفسه والحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة. (2) استنبط منه السبكي أن في الصلاة حقاً للعباد مع حق الله. (3) قوله: بسم الله، قد ذكر السخاوي في "المقاصد الحسنة" أن زيادة البسملة في التشهد غير صحيحة، وقد أوضحته في رسالتي "إحكام القنطرة في أحكام البسملة"، لكن لا يخفى أن سند مالك صحيح، وفيه الزيادة موجودة فيُحمل على كونها أحياناً ولا يُنكر أصل الثبوت. (4) قوله: السلام عليك، كذا رأيتُه في نسخ هذا الكتاب، وذكر الزرقاني في "شرح الموطأ"، برواية يحيى: "السلام على النبي" بإسقاط كاف الخطاب ولفظ: أيها. (5) أي: ابن عمر. (6) أي: ابن عمر، أجازه مالك في رواية ابن نافع، والمذهب كراهة الدعاء في التشهد الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 لَهُ (1) إِذَا قَضَى تشهُّدَه، فَإِذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلاتِهِ تَشَهَّدَ كَذَلِكَ (2) إلاَّ أَنَّهُ يقدِّم التَّشَهُّدَ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا بَدَا لَهُ (3) ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ قَالَ: السَّلامُ (4) عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. السَّلامُ عَلَيْكُمْ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ يَرُدُّ (5) عَلَى الإِمَامِ، فَإِنْ سلَّم عَلَيْهِ (6) أَحَدٌ عن يساره ردَّ (7) عليه.   (1) قوله: ويدعو بما بدا له (ظاهر الحديث أن المصلي يدعو بما شاء، قال العيني: اعلم أن العلماء اختلفوا فيما يدعو به الإنسان في صلاته، فعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز الدعاء إلاّ بالأدعية المأثورة أو الموافقة للقرآن العظيم، وقال الشافعي ومالك: يجوز أن يدعو فيها بكلّ ما يجوز أن يدعو به خارج الصلاة من أمور الدنيا والدين. انظر: "أوجز المسالك" 2/137) ، فيه جواز الدعاء في التشهد الأول، وبه أخذ ابن دقيق العيد حيث قال: المختار أن يدعو في التشهد الأول كما في التشهد الأخير لعموم الحديث: "إذا تشهَّد أحدكم فليتعوذ بالله من أربع". وتُعُقِّب بأنه ورد في الصحيح، عن أبي هريرة بلفظ: "إذا فَرَغَ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ ... "، وروى أحمد وابن خزيمة، عن ابن مسعود: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في أول الصلاة وآخرها: فإذا كان في وسط الصلاة نهض إذا فرغ من التشهد، وإذا كان في آخره دعا لنفسه ما شاء، وقال القاري: هذا عندنا محمول على السنن والنوافل. (2) أي: مثل ما مرَّ. (3) أي: ظهر له. (4) هذه زيادة، كان ابن عمر اختاره ليختمه بالسلام على النبي وعلى الصالحين. (5) أي: ينوي في سلامه الرد عليه. (6) بأن كان مصلياً مع الإمام. (7) أي: نواه في سلامه عن يساره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 قَالَ مُحَمَّدٌ: التشهُّد الَّذِي ذُكر كلُّه حَسَنٌ (1) وليس يشبه تشهُّد   (1) قوله: الذي ذُكر كلُّه حسن، قد رُوي عن جماعة (جملة من روى التشهد بألفاظ مختلفة من الصحابة أربعة وعشرون صحابياً كما في "التلخيص" وأشار إلى رواياتهم ومثله في "عمدة القاري" 3/178) ، من الصحابة التشهد مرفوعاً، وموقوفاً بألفاظ مختلفة عل ما بسطه الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي". فمنهم أبو موسى الأشعري، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا وبيَّن لنا سنَّتنا وعلَّمنا صلاتنا فقال: إذا صلَّيتم فكان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم: التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والطبراني. ومنهم ابن عمر، أخرج أبو داود عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد: التحيات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله - قال ابن عمر: زدتٌ فيها وبركاته - السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله - قال ابن عمر: زدت وحده لا شريك له - وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ورواه الدارقطني، عن ابن أبي داود، عن نصر بن علي، عن أبيه، عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، عنه، وقال: إسناده صحيح، وقد تابعه على رفعه ابن أبي عدي، عن شعبة، ووقفه غيرهما، ورواه البزار، عن نصر بن علي، وقال: رواه غير واحد، عن ابن عمر ولا أعلم أحداً رفعه، عن شعبة غيره، وقول الدارقطني يرد عليه، وقال يحيى بن معين: كان شعبة يضعِّف حديث أبي بشر، عن مجاهد، وقال: ما سمع منه شيئاً، إنما رواه ابن عمر، عن أبي بكر موقوفاً. ومنهم عائشة، وروى الحسن بن سفيان في مسنده والبيهقي، عن القاسم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   محمد قال: علَّمتني عائشة قالت: هذا تشهُّد النبي صلى الله عليه وسلم: التحيات لله والصلوات والطيبات ... إلخ، ووقفه مالك، ورجَّح الدارقطني في "العلل" وقفَه، ورواه البيهقي من وجه آخر وفيه التسمية، وفيه محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث لكن ضعَّفها البيهقي لمخالفته من هو أحفظ منه. ومنهم سمرة، روى أبو داود عنه مرفوعاً: قولوا: التحيات لله، الطيبات والصلوات، والمُلك لله، ثم سلِّموا على النبي وسلِّموا على أقاربكم وأنفسكم، وإسناده ضعيف. ومنهم علي، أخرج الطبراني في "الأوسط" من حديث عبد الله بن عطاء عن النهدي: سألت الحسن بن علي، عن تشهُّد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلني عن تشهد علي، فقلت: حدِّثني بتشهد علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: التحيات لله والصلوات والطيبات والغاديات والرائحات (في الأصل: "الرابحات"، وهو تحريف) والزاكيات والناعمات السابغات الطاهرات لله، وإسناده ضعيف، وأخرجه ابن مردويه من طريق آخر ولم يرفعه وفيه زيادة: ما طاب فهو لله وما خبث فلغيره. ومنهم ابن الزبير، أخرج الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" من حديث ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد سمعت أبا الورد، سمعت ابن الزبير يقول: إن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسم الله وبالله خير الأسماء، التحيات لله والصلوات والطيبات أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداًعبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم اغفر لي واهدني في الركعتين الأوليين. ومنهم معاوية، أخرج الطبراني في "الكبير" مثل تشهُّد ابن مسعود. ومنهم سلمان، أخرج الطبراني والبزّار مثل تشهد ابن مسعود، وقال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   آخره: قلها في صلواتك، ولا تزد فيها حرفاً ولا تنقص منها حرفاً، وإسناده ضعيف. ومنهم أبو حميد أخرج الطبراني عنه مرفوعاً مثله، ولكن زاد بعد الطيبات: الزاكيات، وأسقط واو الطيبات، وإسناده ضعيف. ومنهم ابن عباس، أخرج مسلم والشافعي والترمذي عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا التشهُّد كما يعلِّمنا السورة من القرآن، فكان يقول التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ... إلخ، وأخرجه الدارقطني وابن ماجه وابن حبان وغيرهم. ومنهم ابن مسعود، أخرج تشهُّدَه الأئمة الستة، ورواه أبو بكر بن مردويه في كتاب "التشهد" له من حديث أبي بكر مرفوعاً وإسناده حسن، ومن رواية عمر مرفوعاً وإسناده ضعيف، ومن حديث الحسين بن علي، ومن حديث طلحة بن عبيد الله وإسناده حسن. ومن حديث أنس وإسناده صحيح، ومن حديث أبي هريرة وإسناده صحيح، ومن حديث أبي سعيد وإسناده صحيح، ومن حديث الفضل بن عباس وأم سلمة وحذيفة والمطلب بن ربيعة وابن أبي أوفى، وفي أسانيدهم مقال، ومنهم عمر أخرجه مالك ومن طريقه الشافعي ورواه الحاكم والبيهقي، وفي رواية للبيهقي في أوله: (بسم الله خير الأسماء) وهي منقطعة، وقال الدارقطني: لم يختلفوا في أن هذا موقوف على عمر، ورواه البعض، عن ابن أبي أويس، عن مالك مرفوعاً، وهو وهم. ومنهم جابر. أخرج النَّسائي وابن ماجه والطبراني والحاكم كلهم من طريق أيمن، عن أبي الزبير، عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله، التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أسأل الجنة وأعوذ بالله من النار، ورجاله ثقات إلاّ أن أيمن أخطأ في إسناده، وخالفه الليث وهو من أوثق الناس في أبي الزبير، فقال: عن أبي الزبير، عن طاووس وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَنَا (1) تشهُّدُه لأَنَّهُ (2) رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وعليه العامة عندنا.   حمزة بن محمد الحافظ: قوله، عن جابر خطأ، ولا أعلم أحداً قال في التشهد باسم الله وبالله إلاَّ أيمن، وقال الدارقطني: ليس بالقويّ، خالف الناس. هذا خلاصة ما ذكره ابن حجر، فهذه التشهدات المروية مرفوعة أو موقوفة كلها حسنة دالة على كون الأمر موسَّعاً، وقد ذكر ابن عبد البر أنَّ الاختلاف في التشهُّد وفي الأذان والإقامة وعدد التكبير على الجنائز وعدد التكبير في العيدين ورفع الأيدي عند الركوع والرفع في الصلاة ونحو ذلك كله اختلاف في مباح، وبمثله ذكر أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في "منهاج السنة" فليُحفَظ. (1) قوله: وعندنا، أي: المختار عندنا تشهُّد ابن مسعود، وعند الشافعي تشهد ابن عباس، وعند مالك تشهد عمر، ولكلٍّ وجوه توجب الترجيح ما ذهب إليه، والخلاف إنما هو في الأفضلية (وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد منها، كذا قال النووي في "شرح المهذب" 3/457) كما صرح به جماعة من أصحابنا، ويشير إليه كلام محمد ههنا، فما اختاره صاحب "البحر" من تعيين تشهد ابن مسعود وجوباً وكون غيره مكروهاً تحريماً مخالف الدراية والرواية فلا يُعوَّل عليه. (2) قوله: لأنه رواه ... إلخ، هذا الوجه إنما يستقيم بالنسبة إلى ما رواه مالك من تشهد ابن عمر وعمر وعائشة موقوفاً وإلا فقد روى غير أبن مسعود أيضاً تشهده عن النبي صلى الله عليه وسلم كما مر بسطه، وهناك وجوه أُخر ترجح تشهد ابن مسعود على غيره، منها: أن حديثه أصح كما قال الترمذي: هو أصح حديث روي في التشهد، وقال البزّار: أصح حديث عندي في التشهد حديث ابن مسعود، روي عن نيِّف وعشرين وجهاً ولا يُعلم روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبتَ منه ولا أصح إسناداً ولا أشهر رجالاً ولا أشد تضافراً بكثرة الأسانيد، وقال مسلم: إنما اجتمع الناس على تشهد ابن مسعود لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضاً، وغيره قد اختلف أصحابه، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 149 - قَالَ مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مُحِلّ بْنُ مُحرِز الضَّبِّي، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الأَسْدِيِّ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا (2) إِذَا صلَّينا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم   محمد بن يحيى الذهلي: حديث ابن مسعود أصح ما روي في التشهد، وروى الطبراني في "الكبير"، عن بريدة بن الخصيب قال: ما سمعتُ أحسن من تشهُّد ابن مسعود، كذا ذكره الحافظ ابن حجر ومنها: أن الأئمة الستَّة اتفقوا على تخريجه لفظاً ومعنى، وهو نادر، وتشهد ابن عباس من أفراد مسلم، وغيره في غيرهما، ذكره الزيلعي. ومنها: أن فيه تأكيد التعليم كما أخرجه أبو حنيفة، عن القاسم، قال: أخذ علقمة بيدي، فحدثني أن ابن مسعود أخذ بيده وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وعلَّمه التشهد، وليس ذلك في غيره، ذكره ابن الهمام. ومنها: أن فيه زيادة الواو وهي لتجديد الكلام بخلاف تشهد ابن عباس ذكره صاحب "الهداية" وغيره. ومنها: ما ذكره الزيلعي وابن الهُمام وابن حجر أن الترمذي أخرج بسنده عن خُصَيْف أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: [ (زاد في نسخة) يا رسول الله إن الناس قد اختلفوا في التشهد، فقال:] عليك بتشهد ابن مسعود. ومنها: أنه وافقه جمع من الصحابة دون غيره (عدَّ الشيخ محمد حسن السنبهلي اثنين وعشرين وجهاً للترجيح ولكنها مدخولة. من شاء فليراجع "تنسيق النظام": ص 77) . (1) نسبة إلى أسد، بفتحتين، اسم عدة قبائل. (2) قوله: كنا ... إلخ، فيه دليل على أن أوَّل ما فُرضت الصلاة لم يكن التشهُّد مشروعاً فيها لا فرضاً ولا سنَّة، يؤخذ ذلك من قوله: كنا إذا صلينا ... إلخ، فدل على أنهم بقُوا زماناً كذلك إلى اليوم الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم وأمرهم بالتحيات لله والصلوات ... إلخ، وفيه دليل على أن ما كان من زيادة ذكر أو دعاء في الصلاة لا يفسدها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بإعادة الصلاة التي تقدَّمت، كذا في "بهجة النفوس شرح مختصر البخاري" لابن أبي جَمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 قُلْنَا (1) السَّلامُ عَلَى اللَّهِ (2) ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاتَه ذاتَ يَوْمٍ (3) ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: لا تَقُولُوا (4) السَّلامُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ (5) هُوَ السَّلامُ (6) ، وَلَكِنْ قولوا (7) : التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام   (1) أي: في قعود التشهد. (2) قوله: على الله، وفي رواية البخاري ومسلم وغيرهما: السلام على الله قبل عباده، والسلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان أي على ملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء، كذا في "المرقاة". (1/556) . (3) أي: في يوم من الأيام. (4) قوله: لا تقولوا، كان الصحابة يسلِّمون في القعود على الله وعلى الملائكة فنهاهم من التسليم على الله، وأما السلام على الملائكة فلم ينكر عليهم بل أرشدهم إلى ما يعمّ المذكورين وغيرهم بقوله: " وعلى عباد الله الصالحين"، وقال: "إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض"، وهذا من جوامع الكلام، كذا في "التوشيح شرح صحيح البخاري" للسيوطي. (5) في نسخة: فالله. (6) أي هو الذي يعطي السلام لعباده، فأنى يُدعى له، قوله: فإن الله هو السلام، بقي ههنا بحث وهو أنه: لِمَ نهاهم عن أن يقولوا: السلام على الله من عباده، ثم أمرهم أن يقولوا: التحيات؟ والانفصال عنه أن السلام هو الأمان وليس على الله خوفٌ من أحد فنهاهم لأنه تعالى يُطلب منه الأمان وهو الذي يؤمن، كذا في "بهجة النفوس". (7) قوله: قولوا، الأمر فيه للوجوب كما قاله ابن ملك فينجبر بسجود السهو، وكذا القعود الأول واجب، وأما الأخير ففرض عندنا، كذا في "مرقاة المفاتيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 عَلَيْكَ (1) أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله   (1) قوله: السلام عليك ... إلخ، ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم وما بعده في الخطاب (في بذل المجهود 5/283: لو كان كذلك كان ينبغي أن يُقال في حياته صلى الله عليه وسلم عند الغَيْبَة في السفر وغيره بدون لفظ الخطاب ولم يثبت بعد، بل كانوا يقولون في الحضور والغيبة بلفظ الخطاب، فينبغي أن يُقال بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أيضاً كذلك) ، ففي الاستئذان من صحيح البخاري من طريق أبي معمر عنه بعد أن ساق حديث التشهّد، قال: وهو بين أظهرنا (هكذا في أصل الكتاب والصواب بين ظهرانينا. وقال الحافظ جمال الدين الملطي في معتصره: 1/35 بعد ذكر الحديث المذكور من قوله: بين ظهرانينا - إلى - على النبي: منكر لا يصح، وذلك مخالف لما عليه العامة) ، فلما قُبض قلنا: السلام يعني على النبي. وأخرجه أبو عَوَانة في صحيحه وأبو نعيم والبيهقي من طرق متعددة بلفظ: فلما قُبض قلنا السلام على النبي، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة. قال السبكي في "شرح المنهاج" بعد أن ساقه مسنداً إلى أبي عوانة وحده: إن صح عن الصحابة هذا دلَّ على أن الخطاب في السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير واجب. انتهى. قلت: قد صحَّ بلا ريب، وقد وجدتُ له متابعاً قوياً، قال عبد الرزاق: أنا ابن جريج، أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي، وإسناده صحيح. وأما ما روى سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمهم (في الأصل: "علَّمه"، والظاهر: "علَّمهم" كما في "فتح الباري" 2/314) التشهد فذكره، قال: فقال ابن عباس: إنما كنا نقول: السلام عليك أيها النبي إذا كان حياً، فقال ابن مسعود: هكذا علَّمناه، وهكذا نعلِّم، فظاهره أن ابن عباس قاله بحثاً، وأن ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر أصح لأن أبا عُبيدة لم يسمع من أبيه والإسناد إليه مع ذلك ضعيف، فكذا في "فتح الباري". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وأشهد (1) أن محمداً عبد وَرَسُولُهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَكره (2) أَنْ يُزاد فيه حرف أو يُنقص (3) منه حرف.   (1) قوله: أشهد أن، قال الرافعي: المنقول أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقول في تشهده أشهد أني رسول الله، ولا أصل لذلك، بل ألفاظ التشهد متواترة عنه صلى الله عليه وسلم، كان يقول: أشهد أن محمداً رسول الله أو عبده ورسوله، كذا في "التلخيص (في الأصل: "تلخيص الحبير"، وهو تحريف) الحبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير" لابن حجر رحمه الله. (2) قوله: يَكره أن يُزاد، لأنه تلقّاه من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلَّمه كما كان يعلِّم السورة من القرآن، فأحب أن لا يُزاد فيه ولا ينقص. وقد أخرج الطحاوي عن المسيّب بن رافع أنه سمع عبد الله بن مسعود رجلاً يقول في التشهد: بسم الله، التحيات لله، فقال له: أتأكل؟ وأخرج أيضاً، عن الربيع بن خيثم أنه لقي علقمة فقال: إنه قد بدا لي أن أزيد في التشهد "ومغفرته"، فقال علقمة: ننتهي إلى ما عُلّمناه. وأخرج عن أبي إسحاق قال: أتيت أبا الأسود، فقلت إن أبا الأحوص قد زادَ "والمباركات"، قال: فأته، فقل له: إن الأسود ينهاك ويقول لك: إن علقمة بن قيس تعلَّمهن من عبد الله كما يتعلم السورة من القرآن عدَّهن عبد الله في يده (في "شرح معاني الآثار" 1/156: "إن أبا الأحوص قد زاد في خطبة الصلاة") . (3) قوله: أو ينقص، هذا ينافي ما روي أنه كان يقول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم "على النبي"، وكذا روي عن غيره كما بسطه ابن حجر في "فتح الباري" ولعله كَرِه نقصاناً يخلُّ بالمعنى لا مطلقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 42 - (بَابُ السُّنَّةِ فِي السُّجُودِ) 150 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ كفَّيه عَلَى الَّذِي (1) يَضَعُ جَبهتَه عَلَيْهِ، قَالَ: ورأيتُهُ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ وَإِنَّهُ (2) لَيُخْرِجُ كَفَّيه (3) مِنْ بُرْنُسِهِ (4) حَتَّى يضَعَهما عَلَى الْحَصَى. 151 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ وَضَعَ (5) جَبْهَتَهُ بِالأَرْضِ (6) فليَضَع كفَّيه، ثُمَّ إِذَا رَفَعَ جَبْهَتَهُ فَلْيَرْفَعْ كَفَّيْهِ، فَإِنَّ الْيَدَيْنِ (7) تَسْجُدَانِ (8) كَمَا يَسْجُدُ الوجه.   (1) أي على المكان الذي يضع جبهته عليه يعني بقربه. (2) بكسر الهمزة، أي: والحال أنه. (3) تحصيلاً للأفضل. (4) قوله برنسه، البُرنُس كل ثوب رأسه منه مُلتزق به (سقط في الأصل: "به" انظر: "مجمع بحار الأنوار" 1/168) . من درَّاعة أو جبَّة أو ممطر أو غيره كذا في النهاية. (5) أي: أراده. (6) في نسخة: في الأرض. (7) فيه إشارة إلى أنه يستحب أن يستقبل بأصابعه القبله، كذا في "مرقاة المفاتيح". (8) قوله: فإنَّ اليدين تسجدان، يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد العبد سجد معه سبعةُ آراب: وجهه وكفّاه وركبتاه وقدماه، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم وابن حبان وغيرهم من حديث عباس. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، عن سعد مرفوعاً: "أُمر العبد أن يسجد على سبعة آراب: وجهه وكفّيه وركبتيه وقدميه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إِذَا وَضَعَ (1) جَبْهَتَهُ سَاجِدًا أَنْ يَضَعَ (2) كَفَّيْهِ بِحَذَاءِ (3) أُذُنَيْهِ (4) وَيَجْمَعَ (5) أَصَابِعَهُ نَحْوَ القِبلة، وَلا يَفْتَحْهَا، فإذا رفع رأسه رفعهما مع ذلك (6)   (1) أي: قصده مريداً للسجدة. (2) قبل وضع الجبهة. (3) قوله: بحذاء أذنيه، كل من ذهب إلى أن الرفع في افتتاح الصلاة إلى المنكبين جعل وضع اليدين في السجود حيال المنكبين، وقد ثبت في ما تقدم تصحيح قول من ذهب في الرفع في الافتتاح إلى حيال الأذنين، فتحقق بذلك أيضاً قول من ذهب في وضع اليدين في السجود بحيال الأذنين وهو قول أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف، كذا في "شرح معاني الآثار" للطحاوي. (4) قوله: أذنيه، هكذا رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وضع وجهه بين كفَّيه من حديث وائل. أخرجه مسلم وأبو داود وأسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة والطحاوي، ومن حديث البراء أخرجه الترمذي. وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع اليدين حذو المنكبين. وبه أخذ الشافعي ومن تبعه، وقال ابن الهُمام في "فتح القدير": لو قال قائل: إن السنَّة أن تفعل أيهما تيسَّر جمعاً للمرويات بناءً على أنه عليه السلام كان يفعل هذا أحياناً وهذا أحياناً إلاّ أن بين الكفين أفضل، لأن فيه تخليص المجافاة المسنونة ما ليس في الآخر كان حسناً. انتهى. وأقرّه تلميذُه ابنُ أمير حاج في "الحِلبة" (في الأصل: "الحلية"، وهو تحريف) . (5) لما أخرجه ابن حبان في صحيحه، عن وائل: أنه عليه السلام كان إذا سجد ضمَّ أصابعه. (6) قوله: مع ذلك، أي: بدون زيادة التأخير، وإلا فرفع اليدين بعد رفع الجبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 فَأَمَّا (1) مَنْ أَصَابَهُ بَرْدٌ يُؤْذِي، وَجَعَلَ يَدَيْهِ عَلَى الأَرْضِ مِنْ تَحْتِ كِسَاءٍ أَوْ ثَوْبٍ فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 43 - (بَابُ الْجُلُوسِ فِي الصَّلاةِ) 152 - أَخْبَرَنَا مالك، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ صَلَّى إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ (2) ، فَلَمَّا جَلَسَ الرَّجُلُ تربَّع وَثَنَّى (3) رِجْلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ابنُ عُمَرَ عَابَ (4) ذَلِكَ عَلَيْهِ، قَالَ الرَّجُلُ: فَإِنَّكَ تَفْعَلُهُ! قَالَ إِنِّي أَشْتَكِي (5) . 153 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ (6)   (1) قوله: فأما من، يشير إلى أن ما اختاره من إخراج اليدين عن البرنس في البرد الشديد ليس مما لا بدَّ منه. (2) قوله: رجل، لعله هو ابنه عبد الله على ما في الرواية الآتية، فقد أخرجها البخاري أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَبَاهُ يتربَّع فِي الصَّلاةِ ... الحديث وفي آخره: فقلت: إنك تفعل ذلك؟ فقال: إن رجليَّ لا تحملاني، وكذلك أخرجه أبو داود والنسائي. (3) أي: عطف إحداهما إلى الأخرى. (4) قوله عاب، فيه: أن التربُّع لا يجوز للجالس في صلاته من الرجال إذا كانوا أصحّاء، واختُلف فيه النسائي، وفيه دليل على أن من لم يَقدر على الإتيان بسنَّة الصلاة أو فريضة جاء بما يقدر عليه منها مما يناسبها، كذا في "الاستذكار". (5) قال الباجي: لأنه كان فُدِع بخيبر فلم تعد رجلاه إلى ما كانت عليه. (6) قوله: عن، في رواية معن وغيره، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عبد الله، وكان عبد الرحمن سمعه من أبيه، عنه، ثم لقيه أو سمعه من معه، ذكره الحافظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 عَبْدِ اللَّهِ (1) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَبَاهُ (2) يتربَّع فِي الصَّلاةِ إِذَا جَلَسَ (3) ، قَالَ (4) : ففعلتُه (5) وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حديثُ السِّنِّ (6) فَنَهَانِي (7) أَبِي، فَقَالَ (8) : إِنَّهَا لَيْسَتْ بسنَّةِ الصَّلاةِ، وَإِنَّمَا سُنّة (9) الصَّلاةِ أَنْ تَنْصِبَ (10) رجلَكَ اليمنى وتثني (11) رجلَكَ اليُسرى.   (1) قوله: عبد الله بن عبد الله، بتكبير الإسمين، وهو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بن الخطاب القرشي العدوي، أبو عبد الرحمن المدني تابعي ثقة باتفاق. كان وصيّ أبيه، مات بالمدينة سنة 105 هـ، روى له الجماعة ما عدا ابن ماجه، كذا في "ضياء الساري"، وقد وُجد في كثير من نسخ هذا الكتاب، عن عبيد الله بن عبد الله. (2) وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب. (3) للتشهُّد. (4) أي: عبد الله. (5) أي: التربُّع. (6) أي: شابّ. (7) عن التربُّع. (8) وفي رواية: وقال، وفي رواية: قال. (9) هذه الصيغة حكمها الرفع. (10) أي: لا تلصقها بالأرض. (11) بفتح المثنّاة، أي: تعطفها، وقوله: وتثني رجلك اليسرى، لم يبيّن في هذه الرواية ما يصنع بعد ثنيها: هل يجلس فوقها أو يجلس على وركه؟ ووقع في "الموطأ"، عن يحيى بن سعيد: أن القاسم بن محمد أَراهم الجلوس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 قال محمد: وبهذا (1) نأخذ،   التشهُّد، فنصب رجله اليُمنى وثنى اليسرى وجلس على وركه اليسرى، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر وحدَّثني أن أباه كان يفعل ذلك. فتبيَّن (قلت: إن رواية القاسم لا تكون بياناً لفعل ابن عمر، لأن هذا قول منه - رضي الله عنه - وإرشاد إلى فعل السنَّة، ورد نكير على من اقتدى بفعله، ولذا اعتذر عن فعله بأنه شكوى في رجله، لا يستطيع الجلوس على هذا النهج، فليتَ شعري كيف يكون فعلُهُ بياناً لقوله هذا، ولو كان كذلك لكان نكيره وردّه على ابنه عبد الله عبثاً، فلا يمكن أن يكون تفسير هذا القول إلاّ حديث النسائي القولي فتأمل. انظر: أوجز المسالك 2/122) من رواية القاسم ما أُجمل في رواية ابنه، كذا في "الفتح" (في نسخه: "كذا في فتح القدير") . (1) قوله: وبهذا نأخذ، حمل أثر ابن عمر على نصب اليمنى والقعود على اليسرى بعد ثَنْيِها وفَرشها كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه في جميع القعدات. وأقول: فيه نظر، فإن أثر ابن عمر هذا الذي رواه ههنا مجمل لا يكشف المقصود لأنّ ثَنْيَ الرِّجل اليسرى عام من أن يجلس عليها أو يجلس على الورك، وقد أوضحه ما أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، عن يحيى بن سعيد: أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس، فنصب اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وركه اليسرى ولم يجلس على قدميه، ثم قال: أراني هذا عبدُ الله بن عبد الله بن عمر وقال: إن أباه كان يفعل ذلك. وكذا أخرجه مالك في "الموطأ"، عن يحيى، فهذا يدل على أن ثَنْيَ الرجل المذكور في رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر محمول على عطفها من غير جلوس عليها، بل على وركه. وهذا هو التورُّك المسنون عند الشافعية. فإذن الأثر المذكور ههنا صار شاهداً لمذهب الشافعية لا لمذهبنا، وعليه حمله شُرّاح "الموطأ"، وجعلوه شاهداً لمذهب مالك وهو التورُّك في جميع القعدات، وكذا حمله الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، حيث قال بعد إخراج أثر القاسم بن محمد وأثر عبد الله بن عبد الله: فذهب قوم إلى أن القعود في الصلاة كلِّها أن تنصب رجله اليمنى وتثنى اليسرى، وتقعد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة (1) - رحمه الله -   الأرض، واحتجوا في ذلك بما وصفه يحيى بن سعيد في حديثه من القعود، وبقول عبد الله بن عمر في حديث عبد الرحمن أن تلك سُنَّة الصلاة. انتهى. إلاّ أن يُقال: قد روى النسائي، عن يحيى، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه قال: من سنة الصلاة أن تضجع رجلَك اليسرى وتنصب اليمنى، وفي رواية له بالطريق المذكور: من سُنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى. فهذا يكشف لك أن المراد بالثَني في رواية مالك وغيره المختصرة هو عطفها والجلوس عليها، وأما ما أراه القاسم يحيى من صفة القعود وأسنده عن عبد الله بن عبد الله بن عمر أن أباه كان يفعل ذلك فهو محمول على الهيئة التي كان ابن عمر يقعد عليها بسبب العلة وعدم حمل رجله القعدة المسنونة، لكن يبقى حينئذٍ أنه يخالف ما ورد في رواية مالك وغيره أن القعود الذي كان ابن عمر يرتكبه لأجل العلة هو التربع، وهو مستعمل في معنيين: أحدهما: أن يخالف بين رجليه فيضع رجله اليمنى تحت ركبته اليسرى ورجله اليسرى تحت ركبته اليمنى، والثاني: أن يثني رجليه في جانب واحد فتكون رجله اليسرى تحت فخذه وساقه اليمنى ويثني رجله اليمنى فتكون عند أليته اليمنى، كذا ذكره الباجي في "شرح الموطأ"، وقال: يشبه أن يكون هذه أي الأخيرة هي التي عابها ابن عمر على رَجُل تربَّع، وما أراه القاسم يحيى فيه نصب اليمنى فهو ليس بتربع، بأي معنى أُخذ فلا يمكن حمله على قعود ابن عمر للعلة (قلت: يمكن حمله على ذلك لأن ابن عمر لأجل شكوى في رجله يجلس كيفما تيسّر عليه، طوراً يجلس مُقعياً، وطوراً يجلس متربعاً، ويجلس متوركاً، وإن الجالس المعذور يجلس كيفما تيسر عليه، "أوجز المسالك" 2/123) . (1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال ابن المبارك والثوري وأهل الكوفة ذكره الترمذي، وذكر ابن عبد البر أنه مذهب حسن بن حيّ، وكذلك قال الشافعي في الجلسة الوسطى، وقال في الأخيرة: إنه إذا قعد في الرابعة أماط رجليه جميعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   فأخرجهما من وركه اليمنى وأفضى بمقعدته إلى الأرض. وأضجع اليسرى ونصب اليمنى، وقال أحمد كما قال الشافعي إلاّ في جلسة الصبح. انتهى. وحجتهم في ذلك ما رواه الجماعة إلاّ مسلماً من حديث أبي حميد في وصفه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإذا جلس، جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة أخَّر رجله اليسرى وقعد على شقِّه متوركاً، ثم سلم. وحمل أصحابنا هذا على العذر وعلى بيان الجواز وهو حمل يحتاج إلى دليل، ومال الطحاوي إلى تضعيفه، وتعقَّبه البيهقي وغيره في ذلك بما لا يزيد عليه، وذكر قاسم بن قطلوبغا في رسالته "الأسوس في كيفية الجلوس" في إثبات مذهب الحنفية أحاديث: كحديث عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرش رجله اليسرى (في الأصل: "رجله" والصواب: "رجله اليسرى" كما في "صحيح مسلم" (1/358)) وينصب اليمنى، وحديث وائل: صلَّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قعد وتشهد فرش رجله اليسرى. أخرجه سعيد بن منصور، وحديث المسيء صلاتَه أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا جلست فاجلس على فخذك اليسرى. أخرجه أحمد وأبو داود، وحديث ابن عمر رضي الله عنه: من سنة الصلاة ... إلخ. ولا يخفى على الفطن أن هذه الأخبار وأمثالها بعضها لا تدل على مذهبنا صريحاً، بل يحتمله وغيره وما كان منها دالاًّ صريحاً لا يدل على كونه في جميع القعدات على ما هو المدَّعى، وأخرج الطحاوي، عن وائل: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لأحفظنَّ صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما قعد للتشهد فرش رجله اليسرى ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى ووضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد أصابعه وجعل حلقة الإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى. قال الطحاوي: في قول وائل: ثم عقد أصابعه يدعو، دليل على أنه كان في آخر الصلاة. انتهى. وهذا يقضي (في الأصل: "يفضي"، والظاهر: "يقضي") منه العجب، فإن معنى يدعو بالأخرى: يشير بالإصبع الأخرى أي السبابة لا الدعاء الذي يكون في آخر الصلاة، فليس فيه دليل على ما ذكره، والإنصاف أنه لم يوجد حديث يدل صريحاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وَكَانَ مَالِكُ (1) بْنُ أَنَسٍ يَأْخُذُ بِذَلِكَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُوليين (2) ، وَأَمَّا فِي الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يُفْضِي (3) الرَّجُلُ بأَلْيَتَيْه إِلَى الأَرْضِ، وَيَجْعَلُ رِجْلَيْهِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ. 154 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا صَدَقَة (4) بْنُ يَسَار، عَنِ الْمُغِيرَةِ (5) بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: رأيتُ ابنَ عُمَرَ يجلِسُ عَلَى عقِبيه (6) بين   على استنان الجلوس على الرجل اليسرى في القعدة الأخيرة، وحديث أبي حميد مفصل فَليُحمل المبهم على المفصل. (1) قوله: وكان مالك، هذا الذي نسبه قد نسبه غيره إلى الشافعي وأصحابه، وأما مذهب مالك، فالذي رأيته في كتب أصحابه المعتمدة كاستذكار ابن عبد البر وشرح الزرقاني ورسالة ابن أبي زيد وغيرها هو التورك في جميع القعدات، وذكروا في استناده أثر ابن عمر المذكور يحمله على التورك، فلعل محمداً اطَّلع على أن مذهب مالك هو التفصيل وهو أعلم منّا، وإن لم نجده في موضع من المواضع لا في كتب أصحابنا ولا في كتب المالكية ولا في كتب الشافعية، فإن الكل يذكرون أن التفصيل مذهب الشافعي، ومذهب مالك التورّك مطلقاً، ومذهب أصحابنا الافتراش مطلقاً. (2) أي: في القعدة الأولى. (3) أي: يمس أليته اليسرى بالأرض. (4) قوله: صدقة بن يسار، قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: هو ثقة من الثقات، وقال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح وقال الآجرِّي، عن أبي داود: ثقة، قلت: من أهل مكة؟ قال: من أهل الجزيرة، سكن مكة، كذا في "تهذيب التهذيب". (5) قوله: عن المغيرة بن حكيم، روى عن أبي هريرة وابن عمر، وعنه نافع وابن جريج وجرير بن حازم، ثقة، كذا في "الكاشف" للذهبي. (6) قوله: عقبيه، بفتح العين وكسر القاف وبفتح عين وكسرها مع سكون القاف: مؤخَّر القدم إلى موضع الشراك، كذا في "مجمع البحار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 السَّجْدَتَيْنِ فِي الصَّلاةِ، فَذَكَرْتُ (1) لَهُ فَقَالَ (2) : إِنَّمَا فَعَلْتُهُ (3) مُنْذُ اشْتَكَيْتُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ عَلَى عَقِبَيْهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَلَكِنَّهُ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا كَجُلُوسِهِ (4) فِي صَلاتِهِ،   (1) أي: ذكرت لابن عمر ذلك الجلوس مستفسراً عن حقيقة الأمر. (2) قوله: فقال: إنما فعلته منذ اشتكيت، كره الإقعاء في الصلاة مالك، وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وبه قال إسحاق وأبو عبيد، إلاّ أن أبا عبيد قال: الإقعاء جلوس الرجل على أليته، ناصباً فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع، وهذا إقعاء مجتمع عليه لا يُختلف فيه. وأما الذين أجازوا رجوع المصلي على عقبيه وجلوسه على صدور قدميه بين السجدتين فجماعة، قال طاووس: رأيت العبادلة يُقعون: ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") : أما ابن عمر فقد ثبت عنه أنه لم يفعل ذلك إلاّ أنه كان يشتكي، وأن رجليه كانتا لا تحملاته، وقد قال: إن ذلك ليس سنَّة الصلاة، وكفى بهذا، وأما ابن عباس، فذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه: أنه رأى ابن عمر وابن الزبير وابن عباس يُقعون. وذكر أبو داود: نا يحيى بن معين، نا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاووساً يقول: قلنا لابن عباس في الإقعاء بين السجدتين؟ قال: هي السنَّة، فقلنا: إنّا لنراه جفاء بالرجل، فقال ابن عباس: هي السنَّة سنَّة نبيك، كذا في "الاستذكار". (3) المعنى أنه خلاف السنَّة إلاَّ أني فعلتُهُ لعذر. (4) قوله: كجلوسه في صلاته، أي: الافتراش والجلوس على اليسرى كما في حديث أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان يهوي إلى الأرض فيجافي ثم يرفع رأسه، ويثني رجليه اليسرى، فيعتمد عليها، متفق عليه. وعن ميمونة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد أهوى بيديه وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى أخرجه النسائي، كذا ذكره قاسم بن قطلوبغا في "الأسوس في كيفية الجلوس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وهوقول أبي حنيفة (1) - رحمه الله -.   (1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك وقتادة، وهو مذهب ابن عمر وعلي وأبي هريرة، وجوَّزه عطاء وطاووس وابن أبي مُلَيكة ونافع والعبادلة، كذا نقل العيني، عن ابن تيمية، وقد روى الترمذيُّ وابن ماجه عن علي مرفوعاً: نهى أن يُقعي الرجل في صلاته، وأخرج مسلم من حديث عائشة مرفوعاً: كان ينهى عن عُقبة الشيطان، وأخرج أحمد والبيهقي، عن أبي هريرة: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرةٍ كنقرة الدِّيك والتفاتٍ كالتفات الثعلب وإقعاء كإقعاء الكلب، وروى ابن ماجه، عن أنس مرفوعاً: إذا رفعت رأسك من السجود فلا تُقِع كما يُقعي الكلب. ويعارض هذه الأخبار ما أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما، عن ابن عباس أن الإقعاء بين السجدتين سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في ذلك: فمهم من قال حديث ابن عباس منسوخ، وردّه النووي بأنه غلط فاحش لعدم تعذّر الجمع، ولا تاريخ، فكيف يصح النسخ؟! ومنهم من سلك مسلك الجمع، وقالوا: الإقعاء على نوعين: أحدهما مستحَبّ وهو أن يضع أليتيه على عقبيه وركبتاه على الأرض وهو الذي روى مسلم عن ابن عباس، والثاني أن يضع أليتيه ويديه على الأرض وينصب ساقيه، وهو إقعاء الكلب المنهيّ عنه. كذا ذكره النوويُّ، واختاره ابن الهُمام وغيره من أصحابنا، ولا يخفى على الفطن أن أثر ابن عمر الذي أخرجه محمد صريح في نهي الإقعاء بالمعنى الثاني أيضاَ ولذلك نص محمد بعده على أنه لا ينبغي، والقول الفيصل في هذا المقام أن الإقعاء بالمعنى الأول لا خلاف في كراهيتها، وبالمعنى الثاني مختلف فيه بين الصحابة، فأثبت ابن عباس كونه سنَّة ونفاه ابن عمر، والذي يظهر أن الجلوس بين السجدتين بالافتراش عزيمة، والإقعاء فيه بالمعنى الثاني رخصة، قد ظنَّها ابن عباس سنَّة، وقد أخذ أكثر العلماء في هذا البحث بما دلَّ عليه أثر ابن عمر من العزيمة، وللتفصيل موضعٌ آخر من تآليفي المبسوطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 44 - (بَابُ صَلاةِ الْقَاعِدِ) 155 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، عَنِ السَّائِبِ (1) بْنِ يَزِيدَ، عَنِ المطَّلب (2) بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ (3) السَّهْمِيِّ، عَنْ حفصةَ (4) زَوْجِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي سُبحته (5) قَاعِدًا (6) قطُّ حَتَّى كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامٍ (7) ، فَكَانَ يصلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا (8) وَيَقَرْأُ بِالسُّورَةِ ويرتِّلها (9) حَتَّى تَكُونَ أطولَ مِنْ أطول منها (10) .   (راجع للتفصيل أيضاً: "أوجز المسالك": 2/120، و"فتح الملهم": 1/103) . (1) آخر من مات بالمدينة من الصحابة سنة إحدى وتسعين أو قبلها، ذكره الزرقانيّ وغيرهُ. (2) قوله: المطَّلب، هو عبد الله السهمي، صحابيٌّ أسلم يوم الفتح، ونزل بالمدينة، ومات بها، وأمّه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، كذا ذكره الزرقاني. (3) بفتح الواو والدال، اسمه الحارث بن صبرة بن سُعَيد بالتصغير. (4) قوله: حفصة، بنت عمر بن الخطاب تزوجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة عند أكثرهم، وقال أبو عبيدة: سنة اثنتين، وتوفي سنة إحدى وأربعين، وقيل: سبع وعشرين، كذا في "الاستيعاب". (5) بضم السين وسكون الباء الموحدة، سميت النافلة بذلك لا شتمالها على التسبيح. (6) بل قام حتى تَورَّمت قدماه. (7) هذا الحديث رواه مسلم والترمذي، وقال: بعام واحد أو اثنين بالشك. (8) ليستديم. (9) يقرأها بتمهّل وترسّل. (10) إذا قُرئت بلا ترتيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 156 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (1) بنُ مُحَمَّدِ بنِ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ مَوْلَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرو: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صلاةُ أحدِكم وَهُوَ قَاعِدٌ مثلُ (2) نصفِ (3) صلاتِهِ وَهُوَ قَائِمٌ. 157 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، أَنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو (4) قَالَ: لَمَّا قَدِمنا الْمَدِينَةَ نَالَنَا (5) وباءٌ (6)   (1) ثقة، حجة، روى له الخمسة، مات سنة 134 هـ، كذا ذكره الزرقاني. (2) قوله: مثل نصف صلاته، إلاّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فإنَّ صلاته قاعداً لا ينقص أجرها عن صلاته قائماً لحديث عبد الله بن عمرو المروي في صحيح مسلم وأبي داود والنسائي، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "صلاة الرجل قاعداً على نصف أجر الصلاة"، فأتيته فوجدتُه يصلي جالساً، فوضعتُ يدي على رأسي، فقال: مالَكَ يا عبد الله؟ فأخبرته، فقال: "أجل، ولكني لست كأحدكم"، وقد عدَّ الشافعية هذه المسألة من خصائصه، كذا في "إرشاد الساري". (3) قوله: مثل نصف صلاته، قال ابن عبد البر: لِمَا في القيام من المشقَّة أو لِمَا شاء الله أن يتفضَّل به، المراد بالصلاة النافلة لأن الفرض إن أطاق القيام فقعد فصلاته باطلة عند الجميع، وإن عجز عنه ففرضه الجلوس اتفاقاً فليس القائم بأفضل منه. (4) قوله: أن عبد الله بن عمرو، قال ابن عبد البر: هو منقطع لأن الزهري وُلد سنة ثمان وخمسين وابن عمرو مات بعد الستين فلم يَلْقَه. (5) أي: أَخَذنا ووصل إلينا. (6) بالمد: سرعة الموت وكثرته في الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 مِنْ وَعْكها (1) شديدٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّون فِي سُبْحتهم (2) قُعُودًا فَقَالَ: صلاةُ الْقَاعِدِ (3) عَلَى نِصْفِ صَلاةِ الْقَائِمِ. 158 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَنَسِ (4) بْنِ مَالِكٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا فصُرع (5) عنه (6)   (1) قوله: من وعكها، بفتح الواو وسكون العين، قال أهل اللغة: الوعك لا يكون إلاّ من الحمى دون سائر الأمراض، قاله ابن عبد البر. (2) يعني نافلتهم. (3) قوله: فقال: صلاة القاعد، قد عُلم أن هذا محمول عند الأكثر على النافلة ولا يلزم منه أن تزاد صورتها التي ذكرها الخطابيّ، وهو أن يُحمل الحديث على مريض مفترض يمكنه القيام بمشقَّة، فجعل أجر القاعد على النصف ترغيباً له في القيام مع جواز قعوده، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق ابن جُريج، عن ابن شهاب، عن أنس: قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهي محمَّة فحُمَّ الناس، فدخل المسجد، والناس يصلون من قعود، فقال رسول الله: صلاة القاعد نصف صلاة القائم، ورجاله ثقات، وله متابع في النسائي من وجه آخر، كذا ذكره الزرقاني (1/281، وفتح الباري 2/585) . (4) قوله: عن أنس، قال ابن عبد البرّ: لم تختلف رواة "الموطأ" في مسنده، ورواه سويد بن سعيد، عن مالك، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وهو خطأ لم يتابعه عليه أحد. (5) بضم الصاد، وكسر الراء، أي: سقط من الفرس، وفي أبي داود وابن خزيمة بسند صحيح، عن جابر، ركب صلى الله عليه وسلم فرساً فصرعه على جذع نخلة. (6) قال ابن حجر: أفاد ابن حبان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 فجُحِشَ شقُّه (1) الأَيْمَنُ، فَصَلَّى (2) صَلاةً (3) مِنَ الصَّلَوَاتِ وهو جالس، فصلَّينا (4) جلوساً، فلما   (1) قوله: فجُحِش، بضم الجيم ثم حاء مهملة مكسورة أي: خُدش قاله النووي، وقال ابن عبد البر: الجحش فوق الخدش، وقال الرافعي: يقال جحش فهو مجحوش إذا أصابه مثل الخدش أو أكثر وانسجح جلده. وكانت قدمه صلى الله عليه وسلم انفكَّت من الصرعة كما في رواية بشر بن المفضل، عن حميد، عن أنس، عن الإسماعيلي، قال ابن حجر: ولا ينافي ما ههنا لاحتمال وقوع الأمرين، قال: وأخرج عبد الرزاق في الحديث، عن الزهري قال: فجُحِش ساقُه الأيمن، فزعم بعضهم أنها مصحَّفة من شقه وليس كذلك لموافقة رواية حميد لها وإنها مفسَّرة لمحلّ الخّدْش، كذا في "التنوير" (1/155) . (2) قوله: فصلى صلاة، لم أقف على تعيينها إلاّ أنَّ في حديث أنس: فصلّى بنا يومئذٍ صلاتها نهارية الظهر أو العصر، كذا في "الفتح". (3) في أبي داود وابن خزيمة الجزم بأنها فرض. (4) قوله: فصلينا جلوساً، قد روى البخاري في "صحيحه" حديث أنس من رواية حميد الطويل عنه مخالفاً لرواية الزهري عنه، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه، فجحشت ساقه أو كتفه، وآلى من نسائه شهراً. فجلس في مشربة له فأتاه أصحابه يعودونه، فصلّى بهم جالساً وهم قيام فلما سلَّم، قال "إنما جُعل الإمام ليؤتمّ به" الحديث، ذكره في أوائل الصلاة في (باب الصلاة على السطوح) . وتكلف القرطبي في "شرح صحيح مسلم" الجمع، فقال: يُحتمل أن يكون البعض صلوا قياماً، البعض جلوساً، فأخبر أنس بالحالتين، وهذا مع ما فيه من التعسُّف ليس في شيء من الروايات ما يساعده. وقد ظهر لي فيه وجهان: أحدهما أنهم صلّوا خلفه قياماً، فلما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَهم بالجلوس فجلسوا، فأخبر أنس بكلِّ منهما، يدل عليه حديث عائشة أخرجاه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه، فصلّى جالساً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّمَا جُعل (1) الإِمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ (2) ، إِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فاركعوا وإذا قال: سمع الله لم حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ (3) الْحَمْدُ، وإنْ صَلَّى قاعداً فصلوا (4)   فصلّوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّمَا جُعل الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ به" الحديث، والثاني: هو الأظهر أنهما كانا في وقتين، وإنما أقرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى الواقعتين على قيامهم خلفه لأن تلك الصلاة كانت تطوّعات، والتطوّعات يُحتمل فيها ما لا يُحتمل في الفرائض، وقد صرَّح بذلك في بعض طرقه كما أخرجه أبو داود عن أبي سفيان عن جابر: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً بالمدينة فصرعه على جذع نخلة، فانفكت قدماه، فأتيناه نعوده فوجدناه في مشربة لعائشة يسبِّح جالساً، فقمنا خلفه، فسكت عنّا، ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالساً، فقمنا خلفه، فأشار إلينا فجلسنا، فلما قضى الصلاة، قال: "إذا صلى الإمام جالساً، فصلوا جلوساً". الحديث، كذا في "نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية" للزيلعي (2/44، وأخرجه أبو داود في سننه، من (باب يصلّي الإمام من قعود) 1/164، وقد استدل بهذا الحديث الحافظ في فتح الباري 2/151، على تعدد قصة الصلاة من النافلة في المرة الأولى والمكتوبة في الثانية، وأما واقعة السقوط من الفرس كانت في السنة الخامسة، كما في فتح الباري 2/149، وعمدة القاري 2/747) . (1) قال الرافعي: أي نُصب أو اتُّخذ أو نحوهما، ويجوز أن يريد إنما جعل الإمام إماماً. (2) قوله: ليؤتمّ به، معناه عند الشافعي ليُقتدَى به في الأفعال الظاهرة، ولهذا يجوز أن يصلِّي المفترض خلف المتنفل، وبالعكس وعند غيره أنه في الأفعال الباطنة والظاهرة. (3) بالواو لِجميع الرواة، عن أنس في حديثه هذا إلاّ في رواية شعيب، عن الزهري رواها البخاري بدونها. (4) قوله: فصلّوا قعوداً، قد اختلف أهل العلم في الإمام يصلِّي بالناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   جالساً من مرض، فقالت طائفة: يصلّون قعوداً اقتداءً به، وذهبوا إلى هذه الأحاديث، ورأوها محكمة، وممن فعل ذلك جابر بن عبد الله وأبو هريرة وأُسيد بن حُضَير، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث، وقال أحمد: كذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله أربعة من أصحابه، والرابع: هو في خبر قيس بن فهد أنه شكى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يؤمُّنا جالساً، ونحن جلوس. وقال أكثر أهل العلم: يصلُّون قياماً، ولا يتابعون الإمام في الجلوس. ورأوا أنَّ هذه الأحاديث منسوخة بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بالناس في مرض وفاته، وهو جالس والناس قيام كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة، كذا ذكره الحازمي في "الاعتبار" (ص 109) والزيلعيُّ وجمعٌ من العلماء، وقد أنكر ابنُ حبان النسخ، فقال في "صحيحه" بعد ما أخرج حديث: "وإذا صلّى جالساً فصلُّوا جلوساً" فيه بيان واضح أن الإمام إذا صلّى قاعداً كان على المؤتَمِّين أن يصلُّوا قعوداً، وأفتى به من الصحابة جابر وأبو هريرة وأُسيد بن حُضَير وقيس بن فهد، ولم يُروَ عن غيرهم خلاف هذا بإسناد متصل ولا منقطع فكان إجماعاً سكوتيّاً. وقد أفتى به من التابعين جابر بن زيد ولم يروِ عن غيره من التابعين خلافه، وأول من أبطل ذلك في الأمة المغيرة بن مقسم وأخذ عنه حماد بن سليمان، ثم أخذه عن حماد أبو حنيفة وأصحابُه، وأعلى ما احتجوا به حديث رواه جابر الجعفي، عن الشعبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يُؤّمَّن بعدي جالساً. وهذا لو صحَّ إسناده لكان مرسلاً. والمرسل لا يقوم به حجة، والعجب أن أبا حنيفة يجرح جابر الجعفي ويكذِّبه ثم يحتج بحديثه. انتهى ملخصاً. أقول: وفيه نظر، من وجوه: أحدها: أنه قد ثبت نسخ ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه، فلا يُعتبر بما خالفه، وثانيها: أن فتوى الصحابة لم يكن إلا لأنه لم يبلغهم الناسخ، قال الشافعي بعد ما أخرج بسنده عن جابر وعن أسيد أنهما فعلا ذلك: في هذا ما يدل على أن الرجل يعلم الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم خلافه عنه، فيقول بما علم، ثم لا يكون في قوله بما علم وروى حجَّةٌ على أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 قُعُودًا (1) أَجْمَعِينَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، صَلاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا لِلتَّطَوُّعِ مِثْلُ نِصْفِ (2) صَلاتِهِ قَائِمًا، فَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا صَلَّى الإِمَامُ جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعِينَ، فَقَدْ رُوِيَ ذلك وقد جاء (3) ما قد نسخه.   علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولاً أوعملاً ينسخ الذي قال به غيره. انتهى. وثالثها: أن نسبة إبطال ذلك أولاً إلى المغيرة بن مقسم غلط، بل أول من أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. ورابعها: أن جعل حديث الشعبي أعلى ما احتجَّت به الحنفية غير صحيح، فإن أعلى ما يدل على النسخ عندهم وعند غيرهم هو حديث عائشة، وأما حديث الشعبي، فهو وإن كان ضعيفاً يُذكر للتقوية. (1) ولو قادرين على القيام. (2) أي: في الأجر. (3) قوله: وقد جاء ما قد نسخه، وقد أخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق أبي الزبير، عن جابر، قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر وأبو بكر خلفه فإذا كبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبَّر أبو بكر ليُسمعنا وكنا قياماً، فقال: اجلسوا أَوْمى بذلك إليهم، فلما قَضَى الصلاةَ قال: كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم تعظيماً لهم (في الأصل: "بهم"، وهو تحريف) ائتمُّوا بأئمتكم، فإن صلُّوا قياماً فصلّوا قياماً وإن صلّوا جلوساً فصلّوا جلوساً. ثم أخرج من طريق ابن وهب، عن مالك حديثَه المذكور في هذا الباب، ومن طريق ابن وهب، عن الليث ويونس، عن ابن شهاب، عن أنس، ومن طريق هيثم، عن حميد، عن أنس مثله، ومن طريق ابن وهب، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاكٍ، فصّلى جالساً وصلّى قوم خلفه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فذكر مثله. ومن طريق شعبة عن يعلى بن عطاء قال: سمعت أبا علقمة يحدث، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني، فإذا صلّى قائماً فصلّوا قياماً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وإن صلّى قاعداً فصلوا قعوداً. ومن طريق أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً: إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به، فإذا صلّى قاعداً فصلّوا قعوداً. ومن طريق سالم، عن ابن عمر مثله، ثم قال: فذهب قوم إلى هذا، فقالوا: من صلّى قاعداً من عذر صلّوا خلفه قعوداً، وإن كانوا مطيقين للقيام. وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل يصلّون خلفه قياماً ولا يسقط عنهم فرض القيام لسقوطه (في الأصل: "لسكوته"، وهو تحريف) عن إمامهم، ثم ذكر في حجتهم ما أخرجه بسنده، عن أبي إسحاق، عن أرقم بن شرحبيل قال: سافرتُ مع ابن عباس من المدينة إلى الشام، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا مرض مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة، فقال: ادعوا لي عليّاً، فقالت عائشة: ألا ندعو لك أبا بكر؟ فقال ادعوه، ثم قالت حفصة: ألا ندعو لك عمر؟ قال: ادعوه، فقالت أم الفضل: ألا ندعو لك عمَّك العباس؟ قال: ادعوه، فلما حضروا، قال: ليصلِّ بالناس أبو بكر، فتقدم أبو بكر، فصلّى بالناس ووجد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفَّة، فخرج يُهادي بين رجلين، فلما أحسَّه أبو بكر ذهب يتأخر، فإشار إليه مكانَك، فاستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث انتهى أبو بكر من القراءة وأبو بكر قائم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فأتّمَّ أبو بكر به وائتمَّ الناس بأبي بكر. قال الطحاوي: ففي هذا الحديث أن أبا بكر ائتم برسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً وهو قاعد. وهذا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قوله ما قال، ثم أخرج من طريق موسى بن عائشة، عن عبيد الله، عن عائشة نحوه، وفيه أن الصلاة التي كان خرج فيها كانت صلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومى إليه أن لا يتأخَّر، وقال لهما: أجلساني إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلّي وهو قائم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد. ومن طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة نحوه، ثم ذكر وجه النظر في عدم سقوط القيام من المؤتمّ، وقال بعد ذلك: فثبت بذلك أن الصحيح أن القيام واجب عليه في الصلاة إذا دخل مع من قد سقط عنه فرض القيام في صلاته لم تسقط عنه بدخوله من القيام ما كان واجباً عليه قبل ذلك. وهذا قول أبي حنيفة ومحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وأبي يوسف غير أن محمد بن الحسن يقول: لا يجوز لصحيح أن يأتم بمريض يصلّي قاعداً، وإن كان يركع ويسجد، ويذهب إلى أن ما كان من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً في مرضه بالناس وهم قيام كان مخصوصاً لأنه قد فعل فيها ما لا يجوز لأحد بعده أن يفعله من أخذه القرآن من حيث انتهى أبو بكر وخرج أبي بكر من الإمامة إلى أن صار مأموماً في صلاة واحدة، وهذا لا يكون لأحدٍ بعده باتفاق المسلمين. انتهى كلام الطحاوي ملخصاً. وفي "الهداية وشرحه البناية" للعيني: ويصلي القائم خلف القاعد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، والمراد من القاعد الذي يركع ويسجد، أما القاعد الذي يومئ فلا يجوز اقتداء القائم به اتفاقاً، وبه قال الشافعي ومالك في رواية استحساناً، وقال أحمد والأوزاعي: يصلون خلفه قعوداً، وبه قال حماد بن زيد وإسحاق وابن المنذر: وهو المروي عن أربعة من الصحابة، لكن عند أحمد بشرطين: الأول أن يكون المريض إمام حيّ، والثاني أن يكون المرض مما يُرجى زواله بخلاف الزمانة. واحتجوا على ذلك بحديث أنس مرفوعاً: "إنما جُعل الإمام ليؤتمّ به" الحديث، وقال محمد: لا يجوز وبه قال مالك في رواية ابن القاسم عنه قياساً، أشار إليه بقوله: وهو القياس لقوة حال القائم، فيكون اقتداء كاملِ الحال بناقص الحال فلا يجوز كاقتداء القارئ بالأميّ ونحن تركناه بالنص وهو ماروي أنه صلى الله عليه وسلم صلّى آخر صلاته قاعداً والقومُ خلفه قيام. وفي كلام البخاري ما يقتضي الميلَ إلى أن حديث: "وإذا صلّى جالساً فصلّوا جلوساً" منسوخ، فإنه قال بعد ما رواه قال الحميدي: هذا منسوخ بأنه عليه السلام آخِر ما صلّى صلّى قاعداً والناس خلفه قيام، وإنما يؤخذ بالآخر من فعله. انتهى ملخصاً. وهذه العبارات وغيرها من كلمات الفقهاء الأثبات دالَّة صريحاً على أن محمداً مخالفٌ لهما في هذه المسألة، فعندهما اقتداء الصحيح بالمريض القاعد جائز قياماً ولا يجوز له القعود أخذاً من الصلاة النبوية في آخر عمره وقولاً بنسخ: "إذا جلس فاجلسوا". وعند محمد لا يسقط عن الصحيح القيام لكن لا يجوز اقتداؤه بالمريض، بل قال: أخذاً بالقياس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   فهو موافق لهما في عدم سقوط القيام من المقتدي الصحيح بمتابعة إمامه ومخالف في جواز اقتداء القائم بالقاعد، كيف ولو كان القيام عنده يسقط عن القاعد بمتابعة الإمام لما خلفهما في جواز اقتدائه بالمريض، بل قال بجوازه مع سقوط القيام كما قال به أحمد وغيره. إذا عرفت هذا، فنقول: معنى قوله ههنا وقد جاء ما قد نسخه أنه قد روي ما قد نسخ ما استفيد بالحديث السابق من جواز اقتداء القادر بالمعذور الجالس وسقوط القيام عن القادر وهو حديث: "لا يَؤُمَّنَّ الناسَ أحدٌ بعدي جالساً"، فإنه يدل على منع إمامة المعذور الجالس لغيره وإنه خصوصية له صلى الله عليه وسلم، ويدل أيضاً على عدم سقوط القيام عن المقتدي بمتابعة إمامه، فإنه لو كان كذلك لما كان للمنع وجه، ويدل على ما ذكرنا أنه جعل الناسخ هذا الحديث الدالّ على عدم جواز إمامة المعذور ليكون موافقاً لمذهبه، ولو كان مقصوده نسخَ سقوط القيام فحسب مع جواز الاقتداء لاستدل بخبر الصلاة النبوية في مرض وفاته، وقد تسامح القاري حيث فهم التنافي بين كلام محمد ههنا وبين ما في عامّة الكتب، فقال بعد ما نقل عن "شرح مختصر الوقاية" للشُمُنِّي ما يدلّ على الخلاف: وفي "الهداية": يصلِّي القائم خلف القاعد خلافاً لمحمد، فهذا يدلّ على أن محمداً مخالف في المسألة وعبارة محمد مشيرة إلى أنه موافق، ولعلَّ منه روايتين، أو مراده بالنسخ نسخ وجوب قعود المأمومين من غير عذر مع الإمام قاعداً بعذر، فإن الإجماع على خلافه. انتهى كلامه. ومنشأ فهمه أنه رأي ههنا أن محمداً قائل بنسخ الحديث السابق، وهما أيضاً يقولان به، ففهم أنه موافق لهما وليس كذلك، فإنهما قائلان بنسخ سقوط القيام عن المأموم القادر مع جواز اقتدائه بالمعذور القاعد، ومحمد قائل بنسخ جواز الاقتداء المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن صلّى قاعداً فصلّوا قعوداً"، أيضاً، كيف لا، ولو كان مراده نسخ سقوط القيام فحسب على طبق قولهما لما صحَّ الاستدلال بالحديث الذي ذكره، فإنه يدل على عدم صحة إمامة الجالس بعده صلى الله عليه وسلم، وهو مخالف لقولهما. وبالجملة فكون عبارة محمد ههنا مشيرة إلى الموافقة غير صحيح، وأما ما وجَّهه به من أن المراد به نسخ وجوب قعود المأمومين لكونه خلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 159 - قَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا (1) بِشْرٌ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبيعي، عن جابر بن يزيد الجُعْفي،   الإجماع، ففيه أولاً أن كونه مخالفاً للإجماع غير صحيح ولو كان لعرفه أحمد وحمّاد وغيرهما على ما مرّ، وثانياً فلأن الحديث الذي ذكره لا يدلّ على هذا النسخ، وثالثاً أن الحكم بنسخ الوجوب يشير إلى بقاء الجواز مع أنه أيضاً ليس بباقٍ عند محمد، ورابعاً أن الوجوب والجواز في سقوط قيام المأموم فرع جواز ائتمامه وهو ليس بجائز عنده، فاحفظ هذا، فإنه مما ألهمني الله تعالى في هذا الوقت فله الحمد على هذا. (1) قوله: حدثنا بشر (والسند هنا فيه اضطراب لسقوط بعض الرواة منه، وإدخال بعض الرواة فيه خطأ من الناسخ مما كان سبباً في عدم تعيين الرواة وجهالتهم. فالمراد بمحمد في أول السند: هو أبو علي الصوّاف وبشر شيخه، فهو بشر بن موسى الأسدي، والمراد بأحمد هو أحمد بن مهران النسوي، صاحب محمد، وراوي الموطأ عنه، وإسرائيل هو شيخ محمد بن الحسن الإمام، وقد سقط من السند "محمد" من بين أحمد وإسرائيل، كما يظهر من المخطوطة بدار الكتب المصرية رقم (ب) . وأدخل الناسخ في الحديث هنا خاصة عدة من الرواة المتأخرين عن محمد في صلب السند، وهي عادة كثير من المتقدمين (بلوغ الأماني للعلاّمة زاهد الكوثري، ص 66) ... إلخ، هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها: حدثنا بسر بالسين المهملة، وفي بعضها: حدثنا محمد بن بشر، ولم أعرف إلى الآن تعيُّنه وتعيّن شيخه أحمد حتى أعرف من كتب الرجال توثيقهما أو عدمه، فلعلَّ الله يتفضَّل عليَّ بعد هذا بمعرفته. وإسرائيل بن يونس قد مرَّت ترجمته، أومّا جابر الجعفي هو متكلَّم فيه وبعض النقاد وإن ويَّقوه لكن جمهورهم - منهم أبو حنيفة - جرَّحوه وتركوه، فذكر السمعاني في "الأنساب" بعد ما ذكر أنَّ الجُعْفي - بالضم ثم السكون - نسبة إلى قبيلة بالكوفة وهي جعفي بن سعد من مذحج أبو يزيد جابر الجعفي من أهل الكوفة يروي، عن عطاء والشعبي، وروى عنه الثوري وشعبة مات سنة 128 هـ كان سبائياً من أصحاب عبد الله بن سبأ. وكان يقول: إن علياً رضي الله عنه يرجع إلى الدنيا، قال يحيى بن معين: كان كذّاباً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   يؤمن بالرجعة. انتهى. وذكر في "تهذيب التهذيب": جابر بن شعبة بن الحارث أبو عبد الله الجعفي، ويقال: أبو يزيد الكوفي، روى عن أبي الطفيل وأبي الضحى وعكرمة وعطاء وكاووس وجماعة، وعنه شعبة والثوري وإسرائيل والحسن بن حَيّ وشَريك ومسعر وغيرهم، قال ابن علية، عن شعبة: جابر صدوق في الحديث، وقال وكيع: مهما شككتم في شيء فلا تشكّوا في أنَّ جابراً ثقة، وقال الثوري لشعبة: لئن تكلَّمتَ في جابر لأتكلَّم فيك، وقال ابن معين: كان كذّاباً، وقال مرة: لا يكتب حديثه، وقال يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد قال الشعبي لجابر: لا تموت حتى تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال إسماعيل: فما مضت الأيام والليالي إلاَّ اتُّهم بالكذب، وقيل لزائدة: لم لا تروي عن ابن أبي ليلى وجابر الجعفي والكلبي؟ فقال: أما الجعفي فكان والله كذّاباً يؤمن بالرجعة، وقال أبو يحيى الحِمّاني، عن أبي حنيفة ما لقيت فيمن لقيت أكذب من الجعفي، ما أتيته بشيءٍ من ورائي إلاَّ أتى فيه بأثر، وزعم أن عنده ثلاثين ألف حديث لم يظهرها، وقال أحمد: تركه يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال مرة: ليس بثقة، لا يُكتب حديثه، وقال الحاكم: ذاهب الحديث، وقال ابن عَدِيّ: له أحاديث صالحة، وهو إلى الضعف أقرب من الصدق، وقال أيوب وليث بن أبي سليم والجوزجاني: كذاب، وكذا قال ابن عيينة وأحمد وسعيد بن جبير. انتهى ملخصاً. وأما عامر الشعبي فهو عامر بن شراحيل - بالفتح - الشعبي الكوفي نسبة إلى شَعب - بالفتح - بطن من همدان، كان من كبار التابعين، فقيهاً، شاعراً، روى عن مائة وخمسين من الصحابة، مات سنة 104 هـ وقيل: سنة 109 هـ، ذكره السَّمعاني. وذكر في "تهذيب التهذيب": قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، وقال ابن عيينة: كان الناس بعد الصحابة: الشعبيُّ في زمانه والثوريُّ في زمانه، وقال ابن معين: إذا حدَّث الشعبي، عن رجل فسماه فهو ثقة، وقال هو وأبو زرعة: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجلي: لا يكاد يرسل الشعبي إلاَّ صحيحاً، وقال أبو داود: مرسل الشعبي عندي أحب من مرسل النَّخَعي. انتهى ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 عَنْ عَامِرٍ الشَّعبي قَالَ (1) : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يؤُمَّنَّ الناسَ أحدٌ بعدي جالساً. فأخذ (2) الناس بهذا.   (1) قوله: قال، كذا أخرجه الدارقطني والبيهقي في سننهما، عن جابر، عن الشعبي، وقال الدارقطني لم يروه عن الشعبي إلاَّ الجعفي وهو متروك، والحديث مرسل، وقال عبد الحق في "أحكامه": رواه عن الجعفي مجالد وهو أيضاً ضعيف، وقال اليهقي في "المعرفة": فيه جابر الجعفي، متروك، ثم قد اختُلف عليه فيه، فرواه ابن عيينة عنه كما تقدَّم، ورواه ابن طهمان، عنه، عن الحكم، قال: كتب عمر لا يؤمَّن أحد جالساً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسل موقوف، كذا ذكر الزيلعي، وفي "إرشاد السَّاري"، عند ذكر حديث الصلاة النبوية قاعداً والناس قاموا خلفه في مرض موته: هو حجة واضحة لصحة إمامة القاعد المعذور للقائم، وخالف ذلك مالك في المشهور (رواه ابن القاسم كما قاله ابن رشد. واحتجَّ برواية فيها الجعفي مع إرسالها، كما في عمدة القاري 2/275، 2/746، وفتح الباري 2/176، وإليه ذهب محمد بن الحسن من أصحاب إمامنا أبي حنيفة، بل كره ابن القاسم ومحمد بن الحسن، وأكثر المالكية إمامة القاعد للقاعدين من المرض أيضاً، ومنعها بعضهم كما في شرح التقريب للعراقي 2/3136) عنه ومحمد بن الحسن في ما حكاه الطحاوي، وقد أجاب الشافعي عن الاستدلال بحديث جابر، عن الشعبي مرسلاً مرفوعاً: "لا يؤمَّنَّ أحد بعد جالساً"، فقال: قد علم من احتج بهذا أن لا حجة له فيه لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه، أي: جابر الجعفي. انتهى. ولا يخفى أن المرسل مقبول عند جمهور العلماء لا سيَّما مراسيل الشعبي كما مرَّ فالقدح بالإرسال ليس بشيء، نعم القدح بجابر لا سيَّما على رأي أبي حنيفة له اعتداد. (2) هذا من كلام الشعبي أو من كلام محمد، والظاهر الاحتمال الأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 45 - (بَابُ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ) 160 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (1) بكيُر (2) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْر (3) بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (4) الخَوْلاني قَالَ: كَانَتْ ميمونةُ (5) زوجُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصَلِّي (6) فِي الدِّرع والخِمار، وَلَيْسَ عَلَيْهَا إِزَارٌ. 161 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن سعيد بن المسيّب،   (1) قوله: أخبرنا، بكير، هكذا في نسخ عديدة، وفي "موطأ يحيى": مالك عن الثقة عنده وهو الليث بن سعد، ذكره الدارقطني، وقال منصور بن سلمة: هذا مما رواه مالك عن الليث، ذكره ابن عبد البر وقال: أكثر ما في كتب مالك عن بكير يقول أصحابه: إنه أخذه من كتب بكير كان أخذها من مخرمة ابنه، فنظر فيها. انتهى. لكن هذا لا يتأتّى ههنا كذا ذكره الزرقاني (1/291) . (2) ثقة روى له الستة، مات سنة عشرين ومئة أو بعدها، كذا قال الزرقاني. (3) المدني العابد، ثقة حافظ، من رجال الجميع، قاله الزرقاني. (4) ربيب ميمونة، ثقة، روى له الشيخان ذكره الزرقاني. (5) قوله: كانت ميمونة، هي بنت الحارث الهلالية، كان اسمها برة، فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة، توفيت بسرف سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ست وستين، وقيل: ثلاث وستين، كذا في "الاستيعاب في أحوال الأصحاب"، لابن عبد البر. (6) قوله: تصلي، لأن ذلك جائز، وإن كان الأفضل أن يكون تحت الثوب مئزر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ سَائِلا (1) سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاةِ في ثوب واحد؟ قال: أو (2) لكلَّكم ثَوْبَانِ (3) ؟ 162 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُوسَى (4) بْنُ مَيْسَرَةَ، عن أبي مرّة (5) مولى (6)   (1) قوله: أن سائلاً، قال ابن حجر: لم أقف على اسمه، لكن ذكر شمس الأئمة السرخسي الحنفي في كتابه "المبسوط" أنه ثوبان، كذا في "إرشاد الساري". (2) استفهام وتعجُّب وإنكار على السائل حيث سأل ما لا ينبغي أن يسأل عنه لوضوحه. (3) قوله: ثوبان (الصلاة في الثوب الواحد لم يخالف فيه إلاَّ ابن مسعود، وجازت الصلاة به ولو لم يكن على عاتق المصلّي من الثوب شيء إلاَّ عند أحمد نَيْل الأوطار 2/59) ، قال الخطابي: لفظه استخبار ومعناه الإخبار عمّا هم عليه من قلة الثياب، ووقع في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى لأنه إذا لم يكن لكل ثوبان، والصلاة لازمة، فكيف لم يعلموا أنَّ الصلاة في الثوب الواحد الساتر للعورة جائز، وهو مذهب الجمهور من الصحابة كابن عباس وعليّ ومعاوية وأنس وخالد بن وليد وأبي هريرة وعائشة وأم هانئ، ومن التابعين الحسن البصري وابن سيرين والشعبي وابن المسّيب وعطاء وأبو حنيفة، ومن الفقهاء أبو يوسف ومحمد والشافعي ومالك وأحمد في رواية وإسحاق، كذا في "إرشاد الساري". (4) قوله: موسى بن ميسرة، الدِّيلي بكسر الدال مولاهم أبي عروة المدني ثقة، كان مالك يثني عليه، ويصفه بالفضل، مات سنة 133 هـ، قاله الزرقاني. (5) اسمه يزيد، وقيل: عبد الرحمن المدني، الثقة من رجال الجميع، ذكره الزرقاني. (6) قوله: مولى عقيل، قال الحافظ: هو مولى أم هانئ حقيقة، ونسب إلى ولاء عقيل مجازاً بأدنى ملابسة لأنه أخوها أو لأنه كان يكثر ملازمة عقيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 عُقَيْلِ (1) بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ (2) بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ (3) مُلْتَحِفًا (4) بِثَوْبٍ. 163 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عُقَيْلٍ (5) أَنَّهُ سَمِع أمَّ هَانِئِ بنتَ أَبِي طالب تحدِّث أنها (6) ذهبتْ إلى   (1) قوله: عقيل، هو علقل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي يكنى أبا يزيد، روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا يزيد، إني أحبك حبَّيْن: حباً لقرابتك مني، وحباً لِما كنتُ أعلم من حب عمِّي إيّاك، قدم عقيل البصرة ثم أتى الكوفة، ثم أتى الشام، وتوفي في زمن معاوية، كذا في "الاستيعاب". (2) قوله: عن أم هانئ، هي أخت عليّ شقيقةً، أمُّهما فاطمة بنت أسد وهو أم طالب وعقيل وجعفر، واختلف في اسمها، فقيل: هند، وقيل: فاختة، وكانت تحت هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وأسلمت عام الفتح، كذا في "الاستيعاب". (3) وذلك ضحى. (4) أي: متغطياً بثوب. وفي نسخة: بثوبه. (5) وللأويسي والقعنبي والتنيسي: مولى أم هانئ. (6) قوله: أنها ذهبت، في "الصحيح"، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أم هانئ: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة، واغتسل وصلّى ثمان ركعات، فظاهر هذا أن الاغتسال وقع في بيتها، قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن ذلك تكرَّر منه ويؤيده ما رواه ابن خزيمة عن أم هانئ أنَّ أبا ذر كان سَتَره لم اغتسل، ويُحتمل أنه نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هو في بيت آخر بمكة، فجاءت إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الْفَتْحِ (1) فوجَدَتْه يَغْتَسِلُ وفاطمةُ ابنتُهُ تستُرُهُ بثوبٍ، قَالَ: فسلَّمت، وَذَلِكَ (2) ضُحَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ (3) هَذَا (4) ؟ فقلتُ: أَنَا (5) أمُّ هَانِئِ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: مَرْحَبًا (6) بأمِّ هَانِئِ (7) فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسله قام فصلَّى ثمانيَ (8)   فوجدته يغتسل فيصح القولان، أما الستر، فيحتمل أنَّ أحدهما ستره في ابتداء الغسل والآخر في انتهائه. (1) أي: فتح مكة في رمضان سنة ثمان. (2) أي: كان ذلك وقت ضحى. (3) أي: الشخص أو المسلم، وهذا يدل على أن الستر كان كثيفاً. (4) في نسخة: هذه. (5) فيه إيضاح الجواب غايته التوضيح. (6) أي: لقيت رحباً وسعة، وقيل: معناه: رحب الله بك مرحباً، فجعل الرحب موضع الترحيب، كذا في "النهاية". (7) وفي رواية يا أم هانئ. (8) قوله: ثماني ركعات، قال الباجي: هذا أصل في صلاة الضحى على أنه يُحتمل أن يكون فعل ذلك لما اغتسل لوجود طهارته لا لقصد الوقت، إلاَّ أنه روي إنها سألته، فقالت: ما هذه الصلاة؟ فقال: صلاة الضحى، فأضافها إلى الوقت. قال السيوطي: قلت: أخرجه ابن عبد البر من طريق عكرمة بن خالد، عن أم هانئ، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم صلّى الضحى من حديث جابر، وعتبان بن مالك، وأنس، وعبد الله بن أبي أوفي، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وأبي سعيد، وعائذ بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وعلي، وعبد الله بن بسر، وقدامة، وحنظلة، وابن عباس، وغيرهم، وقد ألَّفتُ فيه جزءاً استوعبتُ فيه ما ورد فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 رَكَعَاتٍ (1) مُلْتَحِفًا (2) فِي ثَوْبٍ (3) ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ (4) ابنُ أمِّي (5) أَنَّهُ قاتَلَ (6) رَجُلا أَجَرْتُهُ (7) ، فُلانُ ابْنُ هُبَيْرَةَ (8) ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد   (1) زاد كُريب، عن أم هانئ: يسلِّم من كل ركعتين، أخرجه ابن خزيمة. (2) أي: ملتفاً. (3) في نسخة: صمّ في ثوب أي اشتمل اشتمال الصماء وسيجيء تفسيره في موضعه. (4) أي: قال وادَّعى. (5) قوله: ابن أمي، أي: عليٌّ، وخُصَّت الأم لأنها آكد في القرابة، ولأنها بصدد الشكاية في إخفار ذمتها، فذكرت ما بعثها على الشكوى حيث أُصيبت من محلٍّ يقتضي أن لا تُصاب منه. (6) قوله: إنه قاتل، فيه إطلاق اسم الفاعل على من عَزَم على التلبُّس بالفعل. (7) أي: آمنته. (8) قوله: فلان بن هبيرة، قال الحافظ: عند أحمد والطبراني من طريق أخرى، عن أبي مرة عن أم هانئ: إني قد أجرت حَمَوَين لي، قال أبو العباس بن شريح وغيرهما: جعدة بن هبيرة، ورجل آخر من مخزوم، كان فيمن قاتلا خالد بن الوليد، ولم يقبلا الأمان فأجارتهما، فكان من أحمائها، قال ابن الجوزي: إن كان ابن هبيرة منها فهو جعدة، كذا قال. وجعدة في من له رؤية ولم يصح له صحبة فكيف يتهيَّأ لمن هذا سبيله في صغر السن أن يكون عام الفتح مقاتلاً حتى يحتاج إلى الأمان؟ وجوَّز ابن عبد البر أن يكون ابناً لهبيرة مع نقله أن أهل النسب لم يذكروا لهبيرة ولداً من غير أم هانئ، وجزم ابن هشام في "تهذيب السيرة"، بأنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 أَجَرْنا (1) مَنْ أجرتِ يَا أمَّ هَانِئِ. 164 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ (2) بْنُ زَيْدِ التَّيْمِيُّ، عَنْ أمِّه (3) أَنَّهَا سألتْ (4) أمَّ سَلَمَةَ زوجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا (5) تُصَلِّي فِيهِ المرأة؟ قالت في الخِمار والدِّرع (6) السابغ (7)   الذين أجارتهما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان. وروى الأزرقي أنهما الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة. وحكى بعضهم أنهما الحارث وهبيرة بن أبي وهب، وليس بشيء لأن هبيرة هرب عند فتح مكة إلى نجران، ولم يزل بها مشركاً حتى مات، والذي يظهر أنَّ في رواية الباب حذفاً كأنه كان فيه: فلان ابن عم هبيرة أو كان فيه فلان قريب هبيرة. (1) أي: أمَّنَّا من أمَّنْتِ، فيه جواز أمان المرأة وإن لم تقاتل وبه قال الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة. (2) وهو ثقة، روى له مسلم والأربعة، كذا ذكره الزرقاني. (3) هو أم حرام، قال في "التقريب": يقال اسمها آمنة. (4) قوله: أنها سألت أم سلمة، هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله، كانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي سلمة بن عبد، فولدت له عمر وسلمة، كذا في "الاستيعاب". (5) قوله: ماذا تصلّي، قال ابن عبد البر في "الاستذكار": هو في "الموطأ" موقوف، ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار. قلت: أخرجه أبو داود من طريقه، كذا في "التنوير". (6) القميص. (7) أي: الساتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 الَّذِي يُغَيِّبُ ظَهْرَ (1) قَدَمَيْهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ (2) نَأْخُذُ، فَإِذَا صَلَّى الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ توشَّح (3) بِهِ تَوَشُّحًا جَازَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (4) - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 46 - (بَابُ صَلاةِ اللَّيْلِ) 165 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أن رجلاً (5)   (1) في نسخة: ظهور. قوله: ظهر قدميها، قال الأشرف: فيه دليل على أن ظهر قدمها عورة يجب سترها، وفي "شرح المنية" أن في القدمين اختلاف المشايخ، والأصح أنهما ليستا بعورة، كذا ذكره في "المحيط". وهو مختار صاحب "الهداية" و"الكافي"، ولا فرق بين ظهر القدم وبطنه خلافاً لما قيل إن بطنه ليس بعورة وظهره عورة. قلت: ظاهر الحديث يؤيد ما قيل، كذا في "مرقاة المفاتيح". (2) من المطالب التي أفادته الأحاديث المذكورة. (3) أي: اشتمل به اشتمالاً. (4) وبه قال الجمهور. (5) للنسائي: من أهل البادية، قوله: أن رجلاً، قال الحافظ: لم أقف على اسم السائل، ووقع في "المعجم الصغير" للطبراني أنه ابن عمر، لكنه يعكِّر عليه رواية عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر: أن رجلاً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأنا بينه وبين السائل، وفيه: ثم سأله رجل على رأس الحول وأنا بذلك المكان منه، قال: فما أدري أهو ذلك الرجل أم غيره؟ ووقع عند محمد بن نصر في "كتاب الوتر" - وهو كتاب نفيس - من رواية عطية، عن ابن عمر أن أعرابياً سأل، قال: فيُحتمل أن يُجمع بتعدّد من سأل، كذا في "ضياء الساري". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 سَأَلَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ الصلاةُ بِاللَّيْلِ؟ قَالَ (1) : مَثْنَى مَثْنَى (2) ، فَإِذَا خشي أحدُكم أن يُصْبحَ (3)   (1) يتبيَّن من الجواب أن السؤال وقع عن عددها أو عن الفصل والوصل. (2) أي: اثنين اثنين، فإعادته للمبالغة في التأكيد، قوله: مثنى مثنى، استُدلَّ به على تعيُّن الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل، قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق لحصر المبتدأ في الخبر وحَمَله الجمهور على أنه لبيان الأفضل (انظر فتح الباري 2/398) ، لما صحَّ من فعله صلى الله عليه وسلم بخلافه، واستُدِلَّ به أيضاً على عدم النقصان من ركعتنين في النافلة ما عدا الوتر، وقد اختلف العلماء فيه (اتفق أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد على أفضلية الرباعية نهاراً كما في "شرح المهذَّب" 5/75 و"المغني" 1/765، واتفق الشافعي وأحمد وأبو يوسف والثوري والليث على أفضلية الثنائية ليلاً والشافعي وأحمد منهم على أفضليتها نهاراً أيضاً، وشذَّ مالك في القول بعدم جواز الرباعية ليلاً استدلالاً بإفادة التركيب القصر، كما حكاه ابن دقيق العيد في "العمدة") : فذهبت طائفة إلى المنع وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وطائفة إلى الجواز وصحَّحه الرافعي واستدلَّ بمفهومه على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعا، وبه قال أبو حنيفة، تُعُقِّب بأنه مفهوم لقب وليس بحجة، وبأنه ورد في السنن وصحَّحه ابن خزيمة من طريق عليَّ الأزدي، عن ابن عمر مرفوعاً: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، لكن تَعَقَّب ابن عبد البر ذكر النهار (قال في "فتح الباري": أكثر أئمة الحديث أعلّو هذه الزيادة وهو قوله: "والنهار إلخ". وقال ابن قدامة في "المغني" 1/765: وقد رواه عن ابن عمر نحو من خمسة عشر نفساً، لم يقل ذلك أحدٌ سواه، وكان ابن عمر يُصلي أربعاً، فيدلّ ذلك على ضعف روايته، أو على أن المراد بذلك الفضيلة مع جواز غيره، والله أعلم. اهـ) بأنه من تفرُّد الأزدي، وحكم النسائي بأنه أخطأ فيها، وكذا يحيى بن معين، كذا في "الضياء". (3) استدل به على خروج وقت الوتر بدخول وقت الفجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 فليصلِّ (1) رَكْعةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ (2) مَا قَدْ صَلَّى. 166 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا الزُّهري، عَنْ عُرْوَةَ، عن عائشة: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يصلِّي (3) مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَة ركعة، يوتر   (1) قوله: فليصلِّ ركعة، فيه أن الركعة الواحدة هو الوتر، وأن كل ما تقدَّمها شفع، وسَبْقُ الشفع شَرطُ الكمال لا في صحة الوتر، وهو المعتمد عند المالكية، وقد صحَّ عن جمع من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة دون تقدُّم نفل قبلها، وروى محمد بن نصر وغيره: أن عثمان رضي الله عنه قرأ القرآن ليلةً في ركعة لم يصلِّ قبلها ولا بعدها. وفي البخاري: أن سعداً أوتر بركعة وأن معاوية أوتر بركعة، وصوَّبه ابن عباس، وقال: إنه فقيه، كذا في "شرح الزرقاني". (2) قوله: توتر له ما قد صلّى، قال ابن ملك: أي تجعل هذه الركعة الصلاةَ التي صلاّها في الوتر وتراً بعد أن كانت شفعاً، والحديث حجة للشافعي في قوله: الوتر ركعة واحدة. انتهى. وفيه أن نحو هذا قبل أن يستقر أمر الوتر، قاله ابن الهُمام. وهذا جواب تسليمي، فإنه قال أيضاً: ليس في الحديث دلالة على أنَّ الوتر واحدة بتحريمة مستأنفة ليحتاج إلى الاشتغال بجوابه إذ يَحتمل كلاَّ من ذلك، ومن أنه إذا خشي الصبح صلّى واحدة متصلة. انتهى. وأغرب ابن حجر حيث قال: خالف أبو حنيفة السنَّة الصحيحة، وأنت قد علمتَ أن الدليل مع الاحتمال لا يصلح للاستدلال، ومن أعجب العجاب أنَّ بعضهم كره وصلّى الثلاث، وأعجب منه أن القفّال قال ببطلان الثلاث، وبه أفتى القاضي حسين أخذاً من حديث لا يُعرف له أصل صحيح "لا توتروا بثلاث وأوتروا بخمسٍ أو سبع، ولا تشبهوا الوتر بصلاة المغرب"، ولا يوجد مع الخصم حديث يدل على ثبوت ركعة مفردة في حديث صحيح ولا ضعيف فيؤول ما ورد من مجملات الأحاديث للجمع بينها في "مرقاة المفاتيح" وفيه ما لا يخفى. (3) زاد يونس والأوزاعي، عن الزهري بإسناده: يسلِّم من كل ركعتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 مِنْهُنَّ بِوَاحِدَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ (1) مِنْهَا اضْطَجَعَ (2) عَلَى شِقِّه الأَيْمَنِ (3) . 167 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عبدُ اللَّهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ (4) ؛ عَنْ عبدِ الله (5) بن قيس بن مخرمة،   (1) قوله: فإذا فرغ منها، قال ابن عبد البر: كذا في رواية يحيى، وتابعه جماعة من رواة "الموطأ". وأما أصحاب ابن شهاب فروَوْا هذا الحديث بإسناده، فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر، وزعم محمد بن يحيى الذهلي أن ما ذكروا في ذلك هو الصواب دون ما قاله مالك. قال ابن عبد البر: ولا يُدفع ما قاله مالك لموضعه من الحفظ والإتقان ولثبوته في ابن شهاب وعلمه بحديثه. (2) قوله: اضطجع، قال ابن حجر: من هذا الأحاديث أخذ الشافعي أنه يُندَب (إنه مستحبّ لمن يقوم بالليل لأجل الاستراحة لا مطلقاً، واختاره ابن العربي. فتح الباري 3/43) لكل أحد أن يفصل بين سنَّة الصبح وفرضه بضجعة على شقه الأيمن ولا يتركه ما أمكن، بل في حديث صحيح على شرطهما: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بها. وأغرب ابن حزم حيث قال بوجوب الاضطجاع وفساد صلاة الصبح بتركه، كذا في "مرقاة المفاتيح". (3) للاستراحة من طول القيام. (4) هو أبو بكر اسمه وكنيته واحد، وقيل: يكنى أبا محمد، ثقة، عابد، ذكره الزرقاني. (5) قوله: عن عبد الله، قال العسكري: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن أبي خيثمة والبغوي وابن شاهين في "الصحابة"، وذكره البخاري وابن أبي حاتم في كبار التابعين وأبوه صحابي، كذا في "شرح الزرقاني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 عَنْ (1) زَيْدِ (2) بْنِ خَالِدٍ الجُهَني (3) قَالَ: قُلْتُ: لأَرْمُقَنَّ (4) صلاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فتوسَّدتُ (5) عَتْبَته (6) أَوْ فُسطاطَه، قَالَ: فقام فصلّى ركعتَيْن خفيفتَنْن، ثُمَّ صَلَّى ركعَتَيْن طويلتَيْن، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ دُونَهُمَا ثُمَّ صَلَّى ركعتَين دُونَ (7) اللَّتَيْن قَبْلَهُمَا، ثم أَوْتَر (8) .   (1) قوله: عن زيد، هذا هو الصواب، ووقع في رواية أبي أويس، عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ: أن عبد الله بن قيس قال: لأرمقن ... رواه ابن أبي خيثمة (في الأصل: "ابن خيثمة"، والصواب: "ابن أبي خيثمة") وهو خطأ. (2) قوله: زيد، أبو عبد الرحمن المدني. وقيل: أبو طلحة، وقيل: أبو زرعة، وكان صاحب لواء جهينة يوم الفتح مات سنة ثمان وسبعين بالمدينة، وقيل: سنة ثمان وستين، وقيل: سنة خمسين بمصر، وقيل بالكوفة في آخر خلافة معاوية، كذا في "الإسعاف". (3) بالضم، نسبة إلى جهينة. (4) أصل الرمق: النظر إلى الشيء شزراً. (5) أي: جعلتها كالوسادة يُوضع الرأس (في الأصل: "رأس"، وهو تحريف) عليها. (6) قوله: عتبته أو فسطاطه، قال الباجي: العَتَبَة محرّكة: موضع الباب، والفسطاط نوع من القباب، والخبر بالتفسير الأول أشبه. ويحتمل أن ذلك شكٌ من الراوي. (7) قال الباجي: يعني في الطول. (8) قوله: ثم أوتر، اختلفت نسخ هذا الكتاب في هذا المقام، ففي بعضها كما في هذه النسخة، وعليها يكون عدد ركعاته قبل الوتر ثمانية، وفي بعضها قال: فقام، فصلّى ركعتين خفيفتين، ثم صلّى ركعتين طويلتين طويلتين، ثم صلّى ركعتين دونهما، ثم صلّى ركعتين دونهما، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 168 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المنكدِر (1) ، عَنْ سَعِيدِ (2) بْنِ جُبَيْرِ (3) ، عَنْ عَائِشَةَ (4) رَضِيَ اللَّهُ عنها: أن   أوتر، وعلى هذه النسخة يكون عدد الركعات قبل الوتر عشرة. وفي "موطأ" يحيى: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى ركعتين طويلتين طويلتين، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فتلك ثلاث عشرة ركعة. قال في "المحلّى"، قوله: وهما دون اللتين قبلهما أربع مرات، قال صاحب "المشكاة": هكذا في مسلم والموطأ وسنن أبي داود وجامع الوصول: انتهى. وفي "شمائل الترمذي" كرر خمس مرات، وكذا وُجدت في نسخ هذا الكتاب يعني "الموطأ"، فقوله: ثم أوتر، على التقدير الأول بثلاث، وعلى الثاني بواحدة. انتهى ما في "المحلَّى". وذكر ابن عبد البر أن يحيى لم يذكر ركعتين خفيفتين، ولم يتابَع هو على ذلك، والذي عند جميع رواة "الموطأ" تقديم ركعتين خفيفتين (انظر أوجز المسالك 3/343، والزرقاني 1/427) . (1) وثَّقه ابن معين وأبو حاتم مات سنة 130 هـ، كذا في "الإسعاف". (2) قوله: عن سعيد بن جبير، هو أبو عبد الله الكوفي أحد الأئمة الأعلام، كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم سعيد بن جبير، قتله الحجاج في شعبان سنة خمسة وتسعين، كذا في "الإسعاف". (3) وقع في رواية يحيى ههنا: عن رجل عنده رضاً. وفسره الشُّراح بأنه الأسود بن يزيد. (4) قوله: عن عائشة، جزم الحافظ بأن رواية سعيد، عن عائشة مرسلاً، وأخرج النسائي من طريق ابن جعفر الرازي، عن محمد بن المنكدر، عن سعيد بن جبير، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة، وقال الحافظ العراقي: قد جاء من حديث أبي الدرداء بنحو حديث عائشة. وأخرج النسائي وابن ماجه والبزّار بإسناد صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنَ امرئٍ تَكُونُ لَهُ صلاةٌ (1) بالليلِ يَغْلِبُهُ (2) عَلَيْهَا نومٌ إلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ أجرَ صَلاتِهِ (3) وَكَانَ نومُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً (4) . 169 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ حُصَين، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (5) الأَعْرَجِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (6) قَالَ: مَنْ فَاتَهُ مِنْ حِزْبِهِ (7) شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ،   (1) أي معتادة. (2) قوله: يغلبه، قال الباجي ("شرح الموطأ" للباجي: 1/211) : يحتمل وجهين: أحدهما أن يذهب به النوم فلا يستيقظ، والثاني أن يستيقظ ويمنعه غلبة النوم من الصلاة. (3) قال الباجي: يريد التي (في الأصل: "الذي"، وهو تحريف) اعتادها. قوله: أجر صلاته، قال الباجي: يحتمل ذلك عندي وجوهاً: أحدها أن يكون له أجرها غير مضاعف، ولو عملها لكان له أجرها مضاعفاً، لأنه لا خلاف أن الذي يصلّي أكمل حالاً. ويحتمل أن يريد أن له أجر نيَّته. ويحتمل أن يكون له أجر من تمنّى أن يصلّي مثل تلك الصلاة، ويحتمل أنه أراد أجر تأسُّفه على ما فاته منها، كذا في "التنوير". (4) قال الباجي: يعني أنه لا يحتسب به (في الأصل: "لا يحتسب به"، والصواب: "لا يحتسب عليه به" كما في "المنتقى" 1/211) يكتب له أجر المصلين. (5) قوله: عبد الرحمن الأعرج، في "الموطأ" برواية يحيى ذُكر عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ واسطة بين الأعرج وعمر. (6) قد أخرجه مسلم وأصحاب السنن، عن عمر مرفوعاً. (7) الحزب بالكسر، الورد يعتاده من قراءة أو صلاة أو نحوهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 فَقَرَأَهُ مِنْ حِينِ (1) تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى صَلاةِ الظُّهْرِ فكأنَّه لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ. 170 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يصلِّي كلَّ لَيْلَةٍ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُصَلِّي حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَيْقَظَ أَهْلَهُ للصلاة (2) ويتلو (3) هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ   (1) قوله: من حين ... إلخ، قال ابن عبد البر: هذا وهم من داود لأن المحفوظ من حديث ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، وعبيد الله بن عبد الله، عن عبد الرجمن بن عبدٍ القاريّ، عن عمر: من نام عن حزبه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل. ومن أصحاب ابن شهاب من رفعه عنه بسنده، عن عمر. وهذا عند العلماء أَوْلى بالصواب من رواية داود حيث جعله من زوال الشمس إلى صلاة الظهر لأن ذلك وقتٌ ضيِّق، قد لا يسع الحزب ورُبَّ رجُلٍ حزبه نصف القرآن أو ثلثه أو ربعه ونحوُه، لأن ابن شهاب أتقن حفظاً وأثبت نقلاً. (2) قوله: للصلاة، أي: لإدراك شيء من صلاة السحر والاستغفار فيه، ويُحتمل أن يكون إيقاظه لصلاة الصبح، وأيما كان فإنه امتثل الآية. (3) قوله: ويتلو هذه الآية، أخرج ابن مردويه وابن النجار وابن عساكر، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: {وأمرْ أهلَكَ} (سورة طه: رقم الآية 132) الآية، كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء إلى باب علي رضي الله عنه صلاة الغداة ثمانية أشهر، فيقول: الصلاة، رحمكم الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً. وأخرج ابن مردويه، عن أبي الحمراء قال: حين نزلت هذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي باب عليّ فيقول: الصلاة، رحمكم الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً، كذا في "الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور" للسيوطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 بالصَّلاةِ وَاصطَبِرْ (1) عَلَيْهَا، لا نَسْأَلُكَ (2) رِزْقاً، نحنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ (3) للِتَّقْوَى} . 171 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مَخْرمةُ (4) بنُ سُلَيْمَانَ الوالِبي (5) ، أَخْبَرَنِي كُرَيْب مَوْلَى (6) ابْنِ عَبَّاسٍ (7) أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ (8) عِنْدَ ميمونةَ زوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَالَتُهُ، قَالَ: فاضطجعتُ (9) فِي   (1) أي: اصبر. (2) لنفسك ولا لغيرك، أخرج ابن أبي حاتم، عن الثوري: معناه: لا نكلِّفك الطلب. (3) أخرج ابن أبي حاتم، عن السدّي، قال: العاقبة، الجنة. (4) بفتح الميم وسكون الخاء. قوله: مخرمة، الأسدي المدني وثَّقه ابن معين، قال الواقدي: قتلته الحَرُوريّة سنة 130 هـ بقُديد، كذا في "الإسعاف". (5) بكسر اللام نسبة إلى والبة، حيّ من أسد، ذكره السَّمعاني. (6) هو كريب بن أبي مسلم أبو رشد بن الحجازي، وثقه النسائي وابن معين وابن سعد، مات 98 هـ، كذا في "الإسعاف". (7) قوله: ابن عباس، هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن كان يقال له: الحبر والبحر، مات بالطائف سنة 68 هـ. (8) قوله: أنه بات، في بعض طرق أبي عَوَانة قال: بعثني أبي العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ فوجدتُه جالساً في المسجد، فلم أستطع أن أكلِّمه، فلما صلّى المغرب قام فركع حتى أذَّن المؤذِّن لصلاة العشاء، زاد محمد بن نصر في "قيام الليل"، فقال لي: يا بُنيّ بتْ الليلةَ عندنا. (9) أي: وضعت جنبي بالأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 عَرْضِ (1) الْوِسَادَةِ (2) وَاضْطَجَعَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهلُه فِي طُولِهَا (3) قَالَ: فَنَامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اتنصفَ الليلُ أو قبله (4) بقليل أو بعده   (1) قوله: في عرض، بفتح العين على المشهور، وبضمِّها أيضاً، وأنكره الباجيّ نقلاً، ومعنىً، قال: لأن العرض هو الجانب، وهو لفظ مشترك، ورده العسقلاني بأنه لما قال في طولها تعيَّن المراد، وقد صحَّت به الرواية فلا وجه للإنكار. (2) لمحمد بن نصر: وسادة من أدم حشوها ليف، قوله الوسادة، المراد به الوسادة المعروفة التي تكون تحت الرؤوس، ونقل القاضي عياض، عن الباجي والأصيلي وغيرهما أن الوسادة ههنا الفراش لقوله اضطجع في طولها. وهذا ضعيف أو باطل. وفيه دليل على جواز نوم الرجل مع امرآته من غير مواقعة بحضرة بعض محارمها وإن كان مميَّزاً، قال القاضي: وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث، قال ابن عباس: بتُّ عند خالتي في ليلة كانت فيها حائضاً، قال: وهذه الكلمة وإن لم تصح طريقاً فهي حسنة المعنى جداً، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي. (3) قوله: في طولها، قال ابن عبد البر: كان ابن عباس - والله أعلم - مضطجعاً عند أرجلهما أو عند رأسهما، وقال الباجي: هذا ليس بالبيّن لأنه لو كان كذلك لقال: توسَّدت عرضها، وقوله: فاضطجعت في عرض يقتضي أن العرض محل لاضطجاعه، ولأبي زرعة الرازي في "العلل"، عن ابن عباس أتيت خالتي ميمونة، فقلت: إني أريد أن أبيت عندكم، فقالت (في الأصل: "فقال"، والصواب: "فقالت") : كيف والفراش واحد، فقلت: لا حاجة لي بفراشكم، أفرش نصف إزاري وأما الوسادة فإني أضع رأسي مع رأسكما من وراء الوسادة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثته ميمونة بما قلت، فقال أصبح هذا شيخ قريش، كذا في شرح الزرقاني. (4) قوله أو قبله: جزم في بعض طرقه بثلث الليل الأخير، قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين، ففي الأولى نظر إلى السماء، ثم تلا الآيات، ثم عاد لمضجعه، فقام في الثانية وأعاد ذلك، ثم توضأ وصلّى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 بِقَلِيلٍ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ النومَ (1) عَنْ وَجْهِهِ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ (2) بِالْعَشْرِ (3) الآيَاتِ (4) الْخَوَاتِيمِ (5) مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (6) ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ (7) معلَّق، فتوضَّأ منه (8) ،   (1) قوله: فمسح النوم، أي: أثر النوم من باب إطلاق السبب على المسبِّب أو عينيه من باب إطلاق اسم الحالّ على المحل. (2) قوله: ثم قرأ، قال النووي: فيه جواز القراءة للمحدث، وهذا إجماع المسلمين، وإنما تحرم الجنب والحائض. انتهى، وكذا ذكر جماعة من العلماء منهم: ابن بطّال وابن عبد البر، وفيه نظر، وهو أن نوم النبي صلى الله عليه وسلم ليس بناقض وتجديده الوضوء بعد الاستيقاظ إنما هو لزيادة الفضل كما صرَّحوا به في مواضع، فلا يدل قراءة القرآن بعد النوم منه على ما ذكروا إلاَّ إذا ثبت في هذا الحديث وقوع حدث آخر منه صلى الله عليه وسلم. (3) قوله: بالعشر، قال الباجي: يحتمل أن يكون ذلك ليبتدئ يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه، ويحتمل أن يكون ليذكر ما ندب إليه من العبادة وما وعد على ذلك من الثواب. (4) أولها: {إنَّ في خلق السموات .... } إلى آخر السورة. (5) في نسخة: الخواتم، وبالنصب صفة للعشر. (6) قوله: من سورة .... إلخ، فيه استحباب قراءة هذا الآيات عند القيام من النوم، وفيه جواز قول سورة البقرة وسورة آل عمران ونحوها، وكرهه بعض المتقدمين، وقال: إنما يُقال السورة التي يُذكر فيها آل عمران والتي يُذكر فيها البقرة. والصواب هو الأول، وبه قال عامة العلماء من السلف والخلف، وتظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي. (7) قوله: إلى شَنٍّ معلَّق، بفتح الشين وتشديد النون: قِرْبَةٌ خَلِقَهٌ من أدم، وذكر الوصف باعتبار لفظه، وفي رواية للبخاري معلقة. (8) قوله: منه، ولمحمد بن نصر: ثم استفرغ من الشنّ في إناء ثم توضأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 فَأَحْسَنَ (1) وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ (2) يُصَلِّي: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فقمتُ فصنعتُ مثلَ (3) مَا صَنَعَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذهبتُ فقمتُ إِلَى جَنْبِهِ (4) فَوَضَعَ (5) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدَه الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وأخَذ (6) بأُذُنِي اليمنى بيده اليمنى؛ فَفَتَلَها (7)   (1) قوله: فأحسن وضوءَه، وفي بعض طرقه، فأسبغ الوضوء، قال الحافظ: ويجمع بين هذا والرواية التي سبقت في باب تخفيف الوضوء: "فتوضأ وضوءاً خفيفاً" برواية الثوري، فإن لفظه: فتوضَّأ وضوءاً بين وضوءَين، ولم يكثر، وقد أبلغ، ولمسلم: فأسبغ الوضوء ولم يمسّ من الماء إلاَّ قليلاً، وزاد فيها: فتسوَّك. (2) قوله: ثم قام يصلي، لمحمد بن نصر: ثم أخذ برداء له حضرميّ، فتوشَّحه، ثم دخل البيت، فقام يصلّي. (3) قوله: مثل ما صنع، يقتضي أنه صنع جميع ما ذُكر من القول، والنظر إلى السماء، والوضوء والسواك، والتوشُّح، ويحتمل أن يُحمل على الأغلب، وزاد في رواية الدعوات في أوله: فقمت فتمطّيت كراهية أن يرى أني كنت أرقبه، كذا في "الفتح". (4) أي: الأيسر. (5) قال ابن عبد البر: يعني أنه أداره فجعله على يمينه، وهكذا ذكره أكثر الرواة في هذا الحديث ولم يذكره مالك. (6) فيه أن قليل العمل لا يفسد. (7) أي: دلكها، إمّا لينتبه من النعاس، أو إظهاراً لمحبته أو ليستعد لهيئة الصلاة، قوله: ففتلها، في بعض طرقه: فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني في ظلمة الليل وفي بعضها: فجعلت إذا أَغْفَيتُ أخذ بشحمة أذني، وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن له إنما كان في حال إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكاً بما في بعضها: فأخذ بأذني فأدارني، لكن لا يلزم من إدارته على هذا الصفة أن لا يعود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 ثُمَّ قَالَ: فَصَلَّى (1) رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ سِتَّ مَرَّاتٍ (2) ، ثُمَّ أَوتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ (3) حِينَ جَاءَهُ المؤذِّن (4) ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ (5) فَصَلَّى الصُّبْحَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: صلاةُ الليلِ (6) عِنْدَنَا مَثْنَى مَثْنَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:   إلى مسك أذنه لما ذكر من تأنيسه وإيقاظه لأن حاله كان يقتضي ذلك لصغر سِنِّه، كذا في "الفتح". (1) زاد ابن خزيمة: يسلِّم من كل ركعتين. (2) أي: ذكرها ستَّ مرات، فالجملة ثنتا عشرة ركعة، قوله: ست مرات رواية الباب يقتضي أنه صلّى ثلاث عشرة ركعة، وقد صرَّح بذلك في رواية الدعوات للبخاري وصرَّح بعضهم بأن ركعتي الفجر من غيرها، لكن رواية شريك للبخاري في التفسير، عن كريب تخالف ذلك، ولفظه: فصلّى إحدى عشرة ركعة، ثم أذَّن بلال، فصلّى ركعتين، ثم خرج، فهذا ما في رواية كريب من الاختلاف، وقد عرف أن الأكثر خالفوا شريكاً وروايتهم مقدّمة على روايته لما معهم من الزيادة ولكونهم أحفظ، وقد حمل بعضهم هذا الزيادة على سنَّة العشاء ولا يخفى بُعدُه، كذا في "الفتح". (3) للبخاري في رواية: فنام حتى نفخ ثم قام. (4) هو بلال. (5) من الحجرة إلى المسجد. (6) قوله: صلاة الليل مثنى مثنى، أي: الأفضل في صلاة الليل أن تؤدَّى ركعتين ركعتين، وأما صلاة النهار، فالأفضل فيها الأربع، وبه قال أبو يوسف، وحجَّته ما مرًّ من حديث صلاة الليل مثنى مثنى، وقال الشافعي وأصحابه: الأفضل فيهما مثنى مثنى، له قوله عليه السلام: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، أخرجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 صَلاةُ الليلِ إنْ شئتَ صلَّيتَ (1) رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شئتَ صلَّيتَ أَرْبَعًا (2) ، وَإِنْ شئتَ سِتًّا، وَإِنْ شئتَ ثَمَانِيًا، وَإِنْ شئتَ (3) مَا شئتَ بِتَكْبِيرَةٍ   أصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان من طريق على بن عبد الله الأزدي، عن ابن عمر، لكن قال الترمذي: رواه الثقات، عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، فلم يذكروا النهار، وقال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ، وقال في "سننه الكبرى": إسناده جيد إلاَّ أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي، فلم يذكروا فيه النهار، منهم: سلم ونافع وطاووس، وقال ابن عبد البر: لم يقله أحد عن ابن عمر غير علي، وأنكروه عليه، وكان يحيى بن معين يُضعف حديثه هذا ولا يحتج به ويقول: نافع وعبد الله بن دينار وجماعة روَوْه بدون ذكر النهار، وقال الدارقطني في "العلل": ذكر النهار فيه وهم، ولهذا الحديث طرق أخر أيضاً وشواهد لا يخلو أكثرها عن علة كما بسطه الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية"، وابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي" (1/119، وانظر عمدة القاري 3/403) وغيرهما. (1) هذا هو المشهور من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل الثابت من حديث جماعة. (2) قوله: صلَّيت أربعاً، لما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة في وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل: يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حُسنِهنّ وطولهن، ثم يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حُسنِهِنَ وطولهن، ثم يصلِّي ثلاثاً. وأخرج أبو داود والنسائي في "سننه الكبرى" من حديث عائشة، وأحمد والبزّار، من حديث ابن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بعد العشاء أربع ركعات. (3) قوله: وإن شئت ما شئت، هذا صريح في أنه لا يُكره الزيادة على ثماني ركعات بتسليمة واحدة خلافاً لما ذهب إليه بعض أصحابنا من أن ذلك مكروه، وعلَّلوه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على ذلك بتحريمة واحدة، ويردّهم حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 وَاحِدَةٍ (1) ، وَأَفْضَلُ (2) ذَلِكَ أَرْبَعًا أَرْبَعًا. وَأَمَّا الْوِتْرُ فَقَوْلُنَا وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ وَاحِدٌ (3) ، وَالْوِتْرُ ثلاث (4)   عائشة: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن إلاَّ في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلِّم ثم يقوم، فيصلّي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعنا (أخرجه مسلم 1/256) . (1) أي: بتحريمة. (2) قوله: وأفضل ذلك، يعني أن الكل جائز، لكن الأفضل في الليل هو الأربع بتحريمة واحدة كما في النهار، وذكر أصحابنا في وجهه المنقول أحاديث دالَّة على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات في الليل والنهار، وأيَّدوه بالمعقول بأنه أكير مشقَّة، فيكون أزيد فضيلة. ولا يخفى ما فيه فإن أداء النبي عليه السلام أربع ركعات بتحريمة واحدة في الليل والنهار مما لا يُنكر لثبوته بالأحاديث الثابتة، لكن الكلام في ما يدلّ على أنه الأفضل وهو مفقود، والفضائل في مثل هذا الباب إنما يثبت بالتوقيف من الشارع لا من الأمر المعقول فقط. (3) قوله: واحد، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبيّ وأنس وابن عباس وأبي أمامة وعمر بن عبد العزيز وحذيفة والفقهاء السبعة وابن المسيّب، وهو أحد أقوال الشافعي، والقول الثاني: إنه يوتر ثلاثاً بتسليمتين تسليمة بعد ركعتين وتسليمة بعد ركعة وبه قال مالك، والقول الثالث: إن شاء أوتر بركعة وإن شار بثلاث بتسليمة واحدة أو بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة كذا في "البناية". (4) قوله: ثلاث، ... إلخ، لما أخرجه النسائي، عن عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسلم في ركعتي الوتر، ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين بلفظ: كان يوتر بثلاث لا يسلم إلاَّ في آخرهن. وأخرج محمد في "كتاب الآثار"، عن ابن مسعود أنه قال: ما أجزأت ركعة قط، وأخرجه الطبراني عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 لا يُفصل بينهنَّ بتسليم (1) .   إبراهيم قال: بلغ ابن مسعود أن سعداً يوتر بركعة فقال: ما أجزأت ركعة قط. وأخرج الطحاويّ، عن أنس أنه قال: الوتر ثلاث ركعات. وأخرج عن ثابت قال صلّى بي أنس الوتر أنا عن يمينه، وأم ولده خلفنا ثلاث ركعات، لم يسلِّم إلاَّ في آخرهن. وأخرج عن المِسْور، قال: دفنّا أبا بكر، فقال عمر: إني لم أوتر، فقام، فصففنا وراءه، فصلّى بنا ثلاث ركعات، لم يسلِّم إلا في آخرهن. وأخرج عن أبي الزناد عن الفقهاء السبعة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبي بكر بن عبد الرحمن وحارثة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله وسليمان بن يسار في مشيخة سواهم: أن الوتر ثلاث، لا يسلم إلاَّ في آخرهن. فهذه الآثار والأخبار كلَّها مؤِّيدة لمذهبنا. ويخالفها آثار أخر، فأخرج الطحاوي عن عبد الرحمن التيمي: وحدتُ حِسّ رجل من خلف ظهري، فنظرت فإذا عثمان بن عفان، فتقدَّم فاستفتح القرآن حتى ختم، ثم ركع وسجد، فقلت: أَوَهِمَ الشيخ؟ فلما صلّى قلت: يا أمير المؤمنين إنما صليتَ ركعة واحدة، قال: أجل هي وِتري. وأخرج أيضاً عن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يوتر بركعة. وفي "صحيح البخاري"، عن معاوية وسعيد بن جبير أنه أوتر بركعة. وفي "سنن سعيد بن منصور" أن ابن عمر صلّى ركعتين من الوتر، ثم قال: يا غلام ارحل لنا، ثم قام فصلّى ركعة. والقول الفيصل في هذا المقام أن الأمر في ما بين الصحابة مختلف، فمنهم من كان يكتفي على الركعة الواحدة، ومنهم من كان يصلّي ثلاثاً بتسليمتين، ومنهم من كان يصلي ثلاثاً بتسليمة، والأخبار المرفوعة أيضاً مختلفة بعضها شاهدة للاكتفاء بالواحدة، وبعضها بالثلاث، والكل ثابت، لكن أصحابنا قد ترجَّحت عندهم روايات الثلاث بتسليمة بوجوه لاحت لهم، فاختاروه وحملوا المجمَل على المفصل. (1) أي: في القعدة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 7 - (بابُ الحدَثِ فِي الصَّلاةِ) 172 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا إسماعيلُ (1) بنُ أَبِي الْحَكِيمِ، عَنْ عَطَاءِ (2) بْنِ يسارْ: أَنَّ (3) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كبَّر فِي صَلاةٍ (4) مِنَ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ (5) إِلَيْهِمْ بِيَدَهِ أَنِ امْكُثُوا، فَانْطَلَقَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ (6) وَعَلَى جِلْدِهِ أَثَرٌ فصلَّى (7) .   (1) القرشي، وثَّقه ابن معين والنسائي، مات سنة 130 هـ، كذا ذكره الزرقاني. (2) قوله: عطاء، أخو سليمان وعبد الله وعبد الملك موالي ميمونة أم المؤمنين كاتَبَتهم وكلُّهم أخذ عنها العلم، وعطاء أكثرهم حديثاً، وكلهم ثقة، ذكره الزرقاني. (3) قوله: أنَّ، قال ابن عبد البر: هذا مرسل، وقد رُوي متَّصلاً مسنَداً من حديث أبي هريرة وأبي بكرة. قلت: حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (أخرجه البخاري في 5 - كتاب الغسل، 17 - باب إذا ذَكَر في المسجد أنه جنب يخرج كما هو ولا يتيمَّم، ومسلم في: 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 29 - باب متى يقوم الناس للصلاة، حديث 157، 158) ومسلم وأبو داود والنسائي، وحديث أبي بكرة. أخرجه أبو داود، وكذا في "التنوير". (4) هو الصبح كما في رواية أبي داود من حديث أبي بكرة. (5) قوله: ثم أشار، مثله في رواية أبي هريرة، فقوله في رواية الصحيحن: (فقال لنا: مكانَكم) من إطلاق القول على الفعل. (6) وفي رواية أبي هريرة: فاغتسل ثم رجع إلينا ورأسه يقطر فكبَّر. (7) زاد الدارقطني فقال: إني كنت جنباً فنسيتُ إن أغتسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، مَنْ سَبَقَهُ حَدَثٌ فِي صَلاةٍ، فَلا بَأْسَ (1) أَنْ يَنْصَرِفَ وَلا يتكلم فيتوضأ،   (1) قوله: فلا بأس ... إلخ، أقول: استنباط هذه المسألة من حديث الباب كما فعله محمد غير صحيح. أما أوَّلاً: فلأنه قد رُويت قصة انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة من حديث أبي هريرة بلفظ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أُقيمت الصلاة وعُدِّلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاّه انتظرنا أن يكبر فانصرف، وفي رواية: فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا مكانكم. وهذا دليل على أنه انصرف قبل أن يدخل في الصلاة، نعم ورد في "سنن أبي داود" من حديث أبي بكرة أنه دخل في صلاة الفجر، فكبَّر ثم أومأ إليهم، والجمع بينهما بحمل قوله كبر على أنه أراد أن يكبِّر، وأبدى عياض والقرطبي احتمال أنهما واقعتان، وقال النووي: إنه الأظهر، وجزم به ابن حبان، فإن ثبت التعدّد فذاك، وإلاَّ فما في "الصحيحين" أصح كذا في "فتح الباري". إذا عرفت هذا فنقول: إن اختير طريق الجمع وحمل المجمل على المفصل فقوله: (كبَّر) في حديث الباب يكون محمولاً على إرادة التكبير فلا يكون له دلالة على انصراف من سبقه حدث في الصلاة. وأما ثانياً: فلأن انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم المرويّ في حديث الباب إنما كان لأجل أنه كان جنباً فنسي ودخل في الصلاة قبل الغسل كما أوضحه ما في رواية الدارقطني، ثم رجع وقد اغتسل فقال: إني كنت جنباً فنسيتُ أن أغتسل. وقد ورد في "صحيح البخاري" وغيره أيضاً التصريح بأنه اغتسل ثم رجع ورأسه يقطر ماءً. فعُلم أن انصرافه كان لحدثٍ سابق على الصلاة، لا لحدث في الصلاة، والمقصود هذا لا ذاك. وأما ثالثاً: فلأنه قد ورد في "صحيح البخاري" وغيره أنه رجع بعد ما اغتسل ورأسه يقطر ماءً، والحدث الذي يجوز بحدوثه في الصلاة البناء إنما هو الحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الذي يوجب الوضوء لا الذي يوجب الغسل. وأما رابعاً: فلأن الإمام إذا أحدث في الصلاة فذهب للتوضؤ فلا بدَّ له أن يستخلف فلو لم يستخلف فسدت صلاته وصلاة من اقتدى به كما هو مصرَّح في موضعه، ولم يُنقل في الأخبار أنه عليه السلام استخلف أحداً، فكيف يستقيم الأمر. وأما خامساً: فلأنه ورد في حديث أبي هريرة: ثم رجع إلينا ورأسه يقطر ماءً فكبَّر. وهذا نص في أنه لم يبنِ على ما سبق، بل استأنف التكبير. وكيف يجوز له البناء على التكبير السابق إن ثبت أنه خرج بعد ما كبَّر؟ فإنه كان قد أدّاه على غير طهارة، ولا يجوز البناء على ما أداه بغير طهارة، بل على ما أدّاه بطهارة. وبالجملة إذا جُمعت طرق حديث الباب ونُظر إلى ألفاظ رواياته وحُمل بعضها على بعض عُلم قطعاً أنه لا يصلح لاستنباط ما استنبطه محمد رحمه الله. وبه يظهر أنه لا يصح إدخال هذا الحديث في باب الحدث في الصلاة (قال شيخنا في الأوجز 1/294: إن رواية الموطأ هذه ورواية الصحيحين المذكورة لو حملتا على أنهما واقعة واحدة فلا إشكال أصلاً، إلاَّ أن الظاهر عندي أنهما واقعتان مختلفتان، ولما كان عند الإمام مالك حكم الحدث السابق واللاحق واحداً، يعني إذا صلّى الإمام ناسياً محدثاً أو جنباً ثم تذكَّر، وكذلك إذا أحدث في وسط الصلاة ففي كلا الحالين تفسد صلاته عند المالكية، ولا يجوز البناء، فلذا ذكر هذا الحديث في إعادة الصلاة لأن (كبّر) لو حمل على ظاهره بطلت الصلاة عند المالكية أيضاً وتجب الإعادة فيصح إدخال الحديث في باب الإعادة. وأما عند الحنفية، فحديث الباب ليس من باب الجنابة بل من باب سبق الحدث في الصلاة ولذا أدخله الإمام محمد في "موطئه".. وليست هذه قصة الجنابة المذكورة في الصحيحين وغيرهما، وإيرادات العلاّمة عبد الحيّ في حاشية "الموطأ"، من المستغربات. وقد تقدم أنَّ عياضاً والقرطبي والنووي وابن حبان كلهم قالوا بتعدد القصة، وما أورد الشيخ عبد الحيّ على استنباط الإمام محمد، فمبنيّ على وحدة القصتين إلاّ قوله: ولم ينقل أنه استخلف أحداً، وأنت خبير بأنَّ اتحاد القصتين خلاف ما عليه الجمهور وعدم النقل لشيء يغاير نقل العدم والحجة في الثاني دون الأول، وحديث الباب في حمله على قصة الجنابة مع شروع الصلاة مشكل على الجمهور كلهم كما تقدم من أقوال الحنفية والمالكية، وقال الشافعي: لو أن إماماً صلّى ركعة ثم ذكر أنه جنب، فخرد واغتسل وانتظره القوم وبنى على الركعة الأولى فسدت عليه وعليهم صلاتهم لأنهم يأتمّون به عالمين أن صلاته فاسدة وليس له أن يبني على ركعة صلاها جنباً، ولو علم بعضهم دون بعض فسدت صلاة من علم. اهـ. وكذلك عند الحنابلة، فعُلم أنَّ حديث الباب في حمل قوله: (كبَّر) على معناه الحقيقي لا يوافق أحداً من الأئمة، فإما أن يحمل على المجاز من قوله أراد (أن يكبر) ، أو يحمل على تعدُّد القصَّة. اهـ. مختصراً) ، لأنه لم يكن هناك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 ثُمَّ يَبْنِيَ (1) عَلَى مَا صَلَّى، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ أَنْ يَتَكَلَّمَ ويتوضَّأ وَيَسْتَقْبِلَ صَلاتَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (2) - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 8 - (بَابُ فَضْلِ الْقُرْآنِ وَمَا يُستحبُّ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) 173 - أخبرنا مالك، أخبرنا (3)   حدث في الصلاة، ولعلَّ محمداً نظر إلى قوله: (كبَّر) ، فحمله على الدخول في الصلاة وإلى قوله: (ثم رجع وعلى جلده أثر الماء) ، فحمله على أنه توضأ، وحمل قوله: (فصلّى) على أنه بنى، وأيَّده بأنه أشار إليهم أن امكثوا، ولم يتكلَّم كما هو شأن الباني، فاستنبط منه ما استنبط. (1) قد ذكرت الأحاديث الدالة على هذا في باب الوضوء من الرعاف، فانظر هناك. (2) وبه قال جماعة، وخالفهم جماعة في البناء كما مرَّ منّا ذكره في باب الوضوء من الرعاف. (3) قوله: أخبرنا عبد الرحمن، قال الحافظ ابن حجر: هذا هو المحفوظ، رواه جماعة عن مالك، فقالوا عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، أخرجه النسائي والإسماعيلي والدارقطني وقالوا: الصواب الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 عبدُ الرَّحْمَنِ (1) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ (2) أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (3) الخُدْري أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلا (4) مِنَ اللَّيْلِ يَقْرَأُ: {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يردِّدها (5) ، فَلَمَّا أَصْبَحَ حدَّث النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنَّ (6) الرَّجُلَ (7) يُقَلِّلُها (8) ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنها (9)   (1) قوله: عبد الرحمن، الأنصاري المازني، وثقه النسائي وأبو حاتم، مات في خلافة المنصور كذا في "الإسعاف". (2) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة التابعي الثقة، كذا قال الزرقاني. (3) سعد بن مالك بن سنان. (4) هو قتادة بن النعمان أهو أبي سعيد الخدري لأمِّه كما صرح به في رواية "مسند أحمد". (5) لأنه لم يحفظ غيرها، أو لما رجاه من فضيلتها قاله أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") . (6) بفعل ماض أو بشد النون. (7) بالنصب أو الرفع الذي جاء وذكر، وهو أبو سعيد. (8) أي: يعتقد أنها قليلة. (9) قوله: إنها لتعدل (أخرجه البخاري في: 66 - كتاب فضائل القرآن، 13 - باب فضل: قل هو الله أحد) ، أي: تساوي ثلث القرآن لأن معاني القرآن ثلاثة علوم: علم التوحيد، وعلم الشرائع، علم تهذيب الأخلاق. وسورة الإخلاص يشمل على القسم الأشرف منها الذي هو كالأصل للقسمين، وهو علم التوحيد، وقال الطِّيبي: ذلك لأن القرآن على ثلاثة أنحاء: قصص، وأحكام، وصفات الله و {قل هو الله ... } متمحِّضة للصفات فهي ثلث القرآن، وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 لَتَعْدِلُ ثُلُثَ (1) القرآن".   ثوابها يضاعف بقدر ثلث القرآن، فعلى الأول لا يلزم من تكريرها استيعاب القرآن وختمه وعلى الثاني يلزم، وقال ابن عبد البر: من لم يتأوَّل هذا الحديث أخلص ممن اختار الرأي، وإليه ذهب أحمد وإسحاق، فإنهما حَمَلا الحديث على أن معناه أن لها فضلاً في الثواب تحريضاً على تعلُّمها لا أن قراءتها ثلاث مرات كقراءة القرآن، قال: وهذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة، كذا في "مرقاة المفاتيح" (4/349، وانظر: فتح الباري 8/60) . (1) قوله: ثلث القرآن، قد وقع النزاع بين طَلَبَتي المستفيدين مني بحضرتي سنة إحدى وتسعين بعد الألف والمائتين في أنه إذا قرأ سورة الإخلاص هل يجد ثواب قراءة تمام القرآن؟ فقال بعضهم: نعم، مستنداً بهذا الحديث، ورده بعضهم بأن جميع الأثلاث إنما يبلغ إلى الواحد التام إذا كانت من جنس واحد، وإلا فلا، وليس في الحديث تصريح بشيء من ذلك، فحضروا لديّ سائلين تحقيق الحق في ذلك، فقلت: قد صرّح جمع من الفقهاء والمحدثين بذلك فقالوا: غرضنا أنه هل يُستنبط ذلك من هذا الحديث أم لا؟ فقلت: إن كانت الثلثية معللة باشتمالها على ثلث معاني القرآن، وهو التوحيد كما هو رأي جماعة. فلا دلالة لهذا الحديث على حصول ثواب ختم القرآن بالتثليث لأن التثليث حينئذٍ يكون تثليثاً لآيات التوحيد فقط ولا يشتمل على ما (في الأصل: "ما في القرآن"، والصواب: "على ما في القرآن") في القرآن، وإن حُمل ذلك على كون ثوابه بقدر ثواب ثلث القرآن مع قطع النظر عن ما ذكر يمكن ثواب الختم التام بالتثليث، فانقطع النزاع منهم. ثم وجدت في "معجم الطبراني الصغير "أنه أخرج عن أحمد بن محمد البزار الأصبهاني، نا الحسن بن علي الحلواني، نا زكريا بن عطية، نا سعد بن محمد بن المسور بن إبراهيم، حدثني عمي سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ {قل هو الله أحد} بعد صلاة الصبح اثني عشر مرة، فكأنما قرأ القرآن أربع مرات، وكان أفضل أهل الأرض يومئذٍ إذا اتقى، فصار هذا أدل على المقصود قاطعاً للنزاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 174 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سعيدَ بنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: قَالَ معاذُ بْنُ جَبَلٍ (1) : لأَنْ أذكرَ اللهَ مِنْ بُكرة (2) إِلَى اللَّيْلِ أحبُّ (3) إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْمِلَ عَلَى جِياد (4) الْخَيْلِ مِنْ بُكرة حَتَّى اللَّيْلِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: ذِكْرُ اللَّهِ حَسَنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ (5) 175 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم   (1) قوله: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن المدني شهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها، وكان أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ومات في طاعون عَمَواس، كذا في "الإسعاف". (2) أي: من أول النهار. (3) قوله: أحبّ إليَّ ... إلخ، فيه تفضيل الذكر على الجهاد وهو أمر توقيفي لا يُدرك بالرأي، وقد ورد به حديث مرفوع أيضاً، وورد بعض الأحاديث بتفضيل الجهاد على جميع الأعمال، والجمع بينهما أن الجهاد الكامل المتضمِّن لبذل المال وإظهار الحجة والبيان وتدبير الأمور بالرأي والتوجه بالدعاء والقلب والقتال باليد أفضل الأعمال مطلقاً، وما سواه من أنواعه يفضل عليه الذكر، كذا حققه برهان الدين إبراهيم بن أبي القاسم بن إبراهيم بن عبد الله بن جعمان الشافعي في "عمدة المتحصنين شرح عدة الحصن الحصين". (4) بالكسر جمع جيد. (5) قوله: على كل حال، حتى حالة التغوط والجماع فإنه وإن كان الذكر اللساني منهياً عنه عند ذلك لكن لا شبهة في حُسن الذكر القلبي، وقد ورد من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ (1) الإِبِلِ المُعَلَّقة (2) ، إِنْ عاهَدَ (3) عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ. 49 - (بَابُ الرَّجُلِ يُسلَّم (4) عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي) 167 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عمرَ مرَّ عَلَى رجلٍ يصلِّي، فسلَّم عَلَيْهِ (5) فردَّ (6) عَلَيْهِ السَّلامُ، فَرَجَع إِلَيْهِ ابنُ عمرَ، فَقَالَ: إِذَا سُلِّم عَلَى أَحَدِكُمْ وَهُوَ يصلِّي فلا يتكلَّم (7)   (1) قال الطِّيبي: وذلك لأن القرآن ليس من كلام البشر، بل كلام خالق القُوى والقُدر، وليس بينه وبين البشر مناسبة قريبة لأنه حادث، وهو قديم، والله سبحانه بلطفه منَّ عليهم ومنحهم هذه النعمة. (2) العقال: الحبل الذي يُشدّ به ذرع البعير، كذا في "مرقاة المفاتيح". (3) المعاهدة: المحافظة وتجديد العهد. (4) بصيغة المجهول. (5) أي: سلّم ابن عمر عليه، ولعله لم يدرِ أنه يصلي. (6) أي: كلاماً. (7) برد السلام لأنه مفسد، قوله: فلا يتكلم، فيه إشارة إلى أن السلام كلام لأن فيه خطاباً ومواجهة بالغير، والكلام في الصلاة منهي عنه، وقد دلَّت عليه أحاديث مرفوعة أيضاً، فأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود قال: كنا نقوم في الصلاة، فنتكلم ويسارّ الرجل صاحبه، ويخبره، ويردّون عليه إذا سلَّم حتى أتيتُ فسلَّمت فلم يردوا عليَّ، فاشتدَّ ذلك عليَّ، فلما قضي النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاته قال: أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلاّ أنّا أُمرنا أن نقوم قانتين. وأخرج أيضاً عنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وَلْيُشِرْ (1) بيدِهِ.   كنا نتكلم في الصلاة، فسلَّمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يردّ عليَّ، فلما انصرفت قال: لقد أحدث الله أن لا تكلموا في الصلاة، ونزلت: {وقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} (سورة البقرة: آية 238) . وأخرج أيضاً عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عوّدني أن يردَّ عليَّ السلام في الصلاة فأتيتُهُ ذات يوم فسلَّمت فلم يردَّ عليّ، وقال: إنَّ الله يحدث في أمره ما شاء، وإنه قد أحدث لكم أن لا يتكلم أحد إلا بذكر الله وما ينبغي من تسبيح وتمجيد {وقوموا للَّهِ قَانِتِينَ} ، وأخرج البخاريّ ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عنه: كنا نسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه فلم يردّ علينا، فقلنا: كنا نسلِّم عليك، فتردّ علينا، فقال: إنَّ في الصلاة شغلاً. (1) قوله: وليشر بيده، أي: بأصبعه لما أخرج أبو داود والترمذي، عن صهيب: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي، فسلَّمت عليه فردَّ إليَّ إشارةً، وأخرج البزار، عن أبي سعيد أن رجلاً سلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فردّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إشارة، فلما سلّم قال له: إنّا كنا نرد السلام في صلاتنا، فنُهينا عن ذلك، وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني، عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير في الصلاة. وبه أخذ الشافعي، فاستحب الرد إشارة، وعن أحمد كراهة الرد بالإشارة في الفرض دون النفل، وعن مالك روايتان، ذكره العيني. واختلف أصحابنا: فمنهم من كرهه ومنهم الطحاوي وحملوا الأحاديث على أن إشارته صلى الله عليه وسلم كان للنهي عن السلام لا لرده، وهو حَملٌ يحتاج إلى دليل مع مخالفته لظاهر بعض الأخبار، ومنهم من قال لا بأس به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يردَّ السَّلامَ إِذَا سُلِّم عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ، فَإِنْ فَعَلَ (1) فسدتْ صلاتُهُ، وَلا يَنْبَغِي (2) أَنْ يسلَّم عَلَيْهِ وَهُوَ (3) يصلِّي، وَهُوَ قولُ أبي حنيفة - رحمه الله -. 50 - (باب الرجلان يصلِّيانِ جَمَاعَةً) 177 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، عَنْ عُبيدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ (4) قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عمرَ بنِ الْخَطَّابِ   (جمع في بذل المجهود 5/207 بين الحديثين، بأن الحديث الأول محمول على الأولوية، وأما الثاني، فعلى تعليم الجواز) . (1) قوله: فعل، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء، وكان ابن المسيب والحسن وقتادة لا يَرَون به بأساً، كذا ذكره العيني، ولعلّ من أجازه لم يبلغه الأحاديث فإنها صريحة في أن السلام كلام ممنوع عنه. (2) قوله: ولا ينبغي، لأنه في شغل عن ردِّه، إنما السلام على من يمكنه الرد، وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيردَّ عليهم إشارة بيده، كذا في "الاستذكار". (3) قوله: وهو يصلي، فإن سلَّم عليه هل يجب عليه الرد؟ فذكر العيني وغيره أن عند أبي يوسف لا يردّ في الحال ولا بعد الفراغ، وعند أبي حنيفة يردّه في نفسه، وعند محمد يرد بعد السلام، لما أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى، عن ابن مسعود كنا نسلِّم بعضنا على بعض في الصلاة فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّمت عليه، فلم يردّ عليَّ، فوقع في نفسي أنه نزل فيه شيء، فلما قضى رسولُ الله صلاته، قال: وعليك السلام. وأخرج الطحاوي، عن جابر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فبعثني في حاجة، فانطلقت إليها، ثم رجعت وهو يصلي على راحلته فسلمتُ عليه فلم يردّ عليّ، ورأيته يركع ويسجد فلما سلَّم ردّ. (4) قوله: عن أبيه، هو عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي ابن أخي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 بالهاجِرَةِ (1) فوجدتُهُ يسبِّحُ (2) فقمتُ (3) وراءَه فَقَرَّبَنِي، فَجَعَلَنِي بحذائِهِ (4) عن يمينه، فلما جاء يَرْفَاءُ (5) تأخَّرتُ فَصَفَفْنا وراءَه (6) . 178 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ أنه قام عن يسار ابنِ عمرَ فِي صلاتهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ (7) . 179 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا إسحاقُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ   عبد الله بن مسعود، ووثّقه جماعة وهو من كبار التابعين، مات بعد السبعين، كذا في "التقريب" وغيره. (1) وقت الحر. (2) قوله: يسبح، يُطلَق التسبيح على صلاة النافلة، ويقال للذِّكر ولصلاة النافلة سُبحة، يقال: قضيت سُبحتي، وإنما خُصَّت النافلة بالسبحة وإن شاركتها الفريضة في التسبيح لأن التسبيحات في الفرائض نوافل، فقيل لصلاة النافلة: سبحة، لأنها نافلة كالتسبيحات، كذا في "النهاية"، والمراد ههنا: نافلة الظهر إن كان الهاجر بمعنى ما بعد الزوال أو صلاة الضحى إن حُمل على الحرّ. (3) فيه جواز الإمامة في النافلة. (4) بكسر الحاء وفتح الذال والمدّ، أي: بمقابلته. (5) قوله: يرفاء، حاجب عمر أدرك الجاهلية، وحج مع عمر في خلافة أبي بكر، وله ذكر في "الصحيحين" في قصة منازعة علي والعباس في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا قال الزرقاني. (6) أي: خلف عمر. (7) أي: ابن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 أَبِي طَلْحَةَ (1) ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ: أَنَّ جَدَّتَهُ (2) دَعَتْ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم   (1) هو زيد بن سهل. (2) قوله: أن جدته، قال ابن عبد البر: إن جدّته مليكة، يقوله مالك، والضمير في جدته عائد إلى إسحاق، وهي جَدَّة إسحاق أمُّ أبيه عبد الله بن أبي طلحة، وهي أم سليم بنت ملحان زوج أبي طلحة الأنصاري، وهي أم أنس بن مالك كانت تحت أبيه مالك بن النضر، فولدت له أنس بن مالك والبراء بن مالك، ثم خلف عليها أبو طلحة، قال: وذكر عبد الرزاق هذا الحديث، عن مالك، عن إسحاق، عن أنس، أن جدَّته مليكة، يعني جدة إسحاق، وساق الحديث بمعنى ما في "الموطأ". انتهى. وقال النووي: الصحيح أنها جدة إسحاق فتكون أم أنس، لأن إسحاق ابن أخي أنس لأمه، وقيل: إنها جدّة أنس وهي بضم الميم وفتح اللام، وهذا هو الصواب، وعن الأصيلي: بفتح الميم وكسر اللام، وهذا غريب مردود، وقال الحافظ ابن حجر: الضمير في جدَّته يعود إلى إسحاق، جزم به ابن عبد البر وعبد الحق وعياض، وصححه النووي، وجزم ابن سعد وابن مندة بأنها جدة أنس، وهو مقتضى كلام إمام الحرمين في "النهاية" ومن تبعه وكلام عبد الغني في "العمدة" وهو ظاهر السياق، ويؤيِّده ما رويناه في فوائد العراقيين لأبي الشيخ من طريق القاسم بن يحيى المقدسي، عن عبيد بن عمر، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس، قال: أرسلَتني جدّتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمها مليكة، فجاءنا فحضرت الصلاة، الحديث قال: ومقتضي من أعاد الضمير إلى إسحاق، أن يكون اسم أم سليم مليكة، ومستندهم في ذلك ما رواه ابن عيينة، عن إسحاق، عن أنس، قال: صففت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمي أم سليم خلفنا. هكذا أخرجه البخاري والقصة واحدة، طوَّلها مالك، واختصرها سفيان، قال: ويحتمل تعدّدها، وقد ذكر ابن سعد في "الطبقات" أمَّ أنس وهي أم سليم بنت ملحان وقال: هي الغميصا، ويقال: الرميصا، ويقال: اسمها سهلة، ويقال أنيفا، ويقال: رُميثة، ويقال: رميلة، وأمها مليكة بنت مالك، كذا في "التنوير". (ص 169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 لِطَعَامٍ، فَأَكَلَ (1) ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلْنُصَلِّ بِكُمْ (2) . قَالَ أَنَسٌ: فقمتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسوَدَّ من طوال مَا لُبِسَ (3) فنضحتُهُ (4) بماءٍ، فَقَامَ (5) عَلَيْهِ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فصففتُ أنا واليتيم (6)   (1) قوله: فأكل، زاد فيه إبراهيم بن طحان وعبد الله بن عون، عن مالك وأكلت منه، ثم دعا بوَضوء فتوضأ، ثم قال: قم فتوضأ ومُرْ العجوز فلتتوضأ، ولأصلِّ لكم. (2) قال السهيلي: الأمر ها هنا بمعنى الخبر. قوله: فلنصلِّ بكم، قال الحافظ: أورد مالك هذا الحديث في ترجمة صلاة الضحى، وتُعقِّب بما رواه البخاري، عن أنس أنه لم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا مرة واحدة في دار الأنصاري الضخم الذي دعاه ليصلّي في بيته. وأجاب صاحب "القبس" بأن مالكاً نظر إلى الوقت الذي وقعت فيه تلك الواقعة وهو وقت صلاة الضحى. (3) أي: استعمل. ولُبْسُ كلِّ شيء بحبسه، قال الرافعي: يريد فُرش، فإن ما فُرش فقد لبسته الأرض. (4) قوله: فنضحته، لِيَلِين لا لنجاسة، قاله إسماعيل القاضي، وقال غيره: النضح طهور لما شكَّ فيه لتطييب النفس. (5) قوله: فقام عليه، فيه جواز الصلاة على الحصير، وما رواه ابن أبي شيبة وغيره، عن شريح بن هانئ أنه سأل عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والله يقول: {وَجَعَلنا جَهنم للكافرين حَصيراً} (سورة الإسراء: الآية 8) .؟! فقالت: إنه لم يكن ليصلّي على الحصير. ففيه يزيد بن المقدام ضعيف، وهو خبر شاذٌّ مردود بما هو أقوى منه كحديث الباب، ولما في البخاري، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حصير يبسطه ويصلي عليه. (6) بالرفع عطفاً على الضمير المرفوع، وبالنصب مفعول معه. قوله: واليتيم، هو ضميرة بن أبي ضمرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا سمّاه عبد الملك بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 وراءَه والعجوزُ (1) وراءَنا، فَصَلَّى بِنَا ركعتينِ ثُمَّ انْصَرَفَ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه نَأْخُذُ، إِذَا صلَّى الرَّجُلُ الواحدُ مَعَ الإِمَامِ قَامَ عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ، وَإِذَا صَلَّى الاثْنَانِ قَامَا (3) خَلْفَهُ وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -.   حبيب، وجزم البخاري بأن اسم أبي ضمرة سعد الحميري، ويقال: سعيد، ونسبه ابن حبان ليثياً، ويقال: اسمه روح، ووهم من قال اسم اليتيم روح كأنه انتقل ذهنه من الخلاف في اسم أبيه، وكذا وهم من قال: اسمه سليم، كما بيَّنه في الفتح، كذا في "شرح الزرقاني" (1/309) . (1) قال النووي: هي أم سليم، وقال الحافظ: هي مليكة المذكورة. (2) أي: إلى بيته أو من الصلاة. (3) قوله: قاما (لا خلاف في أن سنّة النساء القيام خلف الرجال ولا يجوز لهن القيام معهم في الصف أوجز المسالك 3/141) خلفه: هذا هو مذهب أكثر العلماء، وبه قال عمر وعلي وابن عمر وجابر والحسن وعطاء ومالك وأهل الحجاز الشام والشافعي وأصحابه وأكثر أهل الكوفة، ومذهب ابن مسعود أنهم إذا كانوا ثلاثة قام الإمام وسطهم، فإن كانوا أكثر من ذلك قدموا أحدهم، وبه قال النخعيُّ ونفر يسير من أهل الكوفة، كذا في "الاعتبار" للحازمي. وفي "صحيح مسلم" أن ابن مسعود صلى بعلقمة والأسود، فقام بينهما، وكذا أخرجه أبو داود والبيهقي ومحمد في كتاب "الآثار" والطحاوي وغيرهم، وفي بعضها أنه قال: هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل وأجاب الجمهور عنه بوجوه: منها أنه لم يبلغه حديث أنس وغيره الدالّ صريحاً على تقدّم الإمام على الاثنين، وفيه بُعد، ومنها أنه فعل ما فعل لعذر، أو لبيان الجواز، لا لبيان أنه السنّة، ومنها أنه منسوخ بأحاديث أخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 51 - (بابُ الصَّلاةِ فِي مرابضِ (1) الْغَنَمِ (2)) 180 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ محمدِ (3) بْنِ عمرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدُّؤَلي (4) ، عَنْ حُميد (5) بنِ مالكِ بنِ الخيثَمِ، عَنْ أبي هريرة أنَّه   (1) هي المواضع التي تربض فيها الغنم، قوله: في مرابض، من ربض في المكان يربض إذا لصق بها وأقام ملازماً لها، يقال: حتى تربَّض الوحش في كناسها، كذا في "النهاية". (2) قوله: الغنم، قال الجوهري: هو اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور والإناث من الشأة، وثبت في "صحيح البخاري" - سنن ابن ماجه - واللفظ له، عن أبي هريرة مرفوعاً: "ما بعث الله نبياً إلاّ راعي غنم، فقال أصحابه: وأنت يارسول الله؟ قال: وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط، كذا في "حياة الحيوان" لكمال الدين محمد بن موسى الدَّميري الشافعي. (3) هو المدني، وثقه ابن معين والنسائي، ذكره السيوطي. (4) قوله: الدؤلي، بضم الدال وفتح الهمزة وذكر في "التقريب" في نسبته الدَّيلي بكسر الدال بعدها ياء، وهما نسبتان إلى قبيلة. (5) قوله: عن حميد بن مالك بن الخيثم، هكذا وجدنا العبارة في بعض النسخ، وعليه شرح القاري، وضبطه بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية ففتح المثلَّثة، وضبطه ابن حجر في "التقريب" بصيغة التصغير حيث قال: حميد بن مالك بن خُثَيم بالمعجمة والمثلثة مصغراً، ويقال مالك جَدّه، واسم أبيه عبد الله ثقة. انتهى. وذكر في "تهذيب التهذيب" في ضبطه اختلافاً حيث قال في ترجمته: قال ابن سعد: كان قديماً قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات" وجَدّه ذكره البخاري في "التاريخ" فضبطه في الرواة عنه بلفظ الخُتَم بضم المعجمة وفتح المثناة الخفيفة، وضبطوه في رواية ابن القاسم في "الموطأ" كذلك، لكن بالمثلثة"، وضبطه مسلم كذلك، لكن بتشديد المثناة، وضبطوه في "الأحكام" لإسماعيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 قَالَ: أحسِنْ إِلَى غَنَمِك، وأطِبْ مُراحَها (1) ، وصلِّ (2) في (3) ناحيتها، فإنها من دوابِّ الجنة.   القاضي بتشديد المثلثة. انتهى ملخصاً. وضبطه ابن الأثير في "النهاية" بمثل ما في "التقريب". (1) بضم الميم، موضع تروح إليه الماشية، أي: تأوي إليه ليلاً، كذا في "النهاية". (2) قوله: وصلِّ في ناحيتها، روى أبو داود والترمذي وابن ماجه، عن البراء: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل؟ توضَّؤوا منها، وسئل عن لحوم الغنم، فقال: لا توضؤوا منها، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها مأوى الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلّوا فيها، فإنها مباركة. وروى النسائي وابن حبان من حديث عبد الله بن المغَفَّل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الإبل خُلقت من الشياطين، كذا في "حياة الحيوان". (3) قوله: في ناحيتها، روى يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعاً: "صلّوا في مُراح الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل" (الحديث الصحيح: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" يدلّ: بعمومه على جواز الصلاة في أعطان الإبل وغيرها بعد أن كانت طاهرة، وهو مذهب جمهور العلماء وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو يوسف وأحمد وآخرون وكرهها الحسن البصري وإسحاق وأبو ثور، وعن أحمد في رواية مشهورة عنه أنه إذا صلى في أعطان الإبل فصلاته فاسدة، وهو مذهب أهل الظاهر. أوجز المسالك 3/281) ، ووردت هذه الرواية عن جماعة من الصحابة وأصح ما قيل في الفرق أن الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ بل تثور، فربما تقطع الصلاة، وجاء في الحديث: "إنها خُلقت من جنّ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ بِالصَّلاةِ فِي مُراح (1) الْغَنَمِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ (2) أبوالُها وبعرُها (3) مَا أكلتَ (4) لَحْمَهَا فَلا بَأْسَ (5) بِبَوْلِهَا.   (1) بضم الميم، موضع تروح إليه الماشية، أي: تأوي إليه ليلاً، كذا في "النهاية" وقال الباجي: مُراح الغنم مجتمعها من آخر النهار ذكره السيوطي، وهما متقاربان قاله القاري. (2) قوله: وإن كان فيه ... إلخ، قال القاري: فيه أنه لا دلالة في الحديث على أنه يصلّي فوق بولها وبعرها من غير سجّادة ونحوها، بل قول أبي هريرة صلّ في ناحية، تأبى عن هذا المعنى، وأيضاً فلا يحصل الفرق حينئذ بين مرابض الغنم وأعطان الإبل، والشارع فرَّق بينهما. انتهى. وقد يُقال أيضاً: لا وجه لذكر البعر فإنه نجس عند صاحب الكتاب أيضاً، فليتأمل. (3) بسكون العين وفتحها، هو للإبل والغنم، والروث للفرس والحمار، والخثي بالكسر للبقر، ذكره العيني. (4) بصيغة الخطاب. وفي نسخة: ما أكل لحمه فلا بأس ببوله. (5) قوله: فلا بأس ببولها، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر العرينيين بشرب أبوال الإبل، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف (وبه قال الشافعي، وعند مالك وأحمد ومحمد بول ما يؤكل لحمه طاهر. أوجز المسالك 3/282) بول ما يؤكل كبول ما لا يؤكل نجس، وأما البعرة، فاتفق الثلاثة على نجاستها إلاَّ أنهما قالا: نجاسة خفيفة، وقال أبو حنيفة: غليظة، وزفر خفّف في مأكول اللحم وغلّظ في غير المأكول اللحم، وتفضيله في كتب الفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 52 - (بَابُ الصلاةِ عِنْدَ طلوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا) 181 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يتحرَّى (1) أحدُكُم فيصَلِّيَ (2) عِنْدَ (3) طلوعِ الشمسِ وَلا عِنْدَ غروبِها. 182 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زيدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عطاءِ بنِ يَسَارٍ، عن عبدِ الله (4)   (1) قوله: لا يتحرى، بلا ياء عند أكثر رواة "الموطأ" على أن لا ناهية، وفي رواية التنّيسي والنيسابوري بالياء على أن لا نافية، قال الحافظ، كذا وقع بلفظ الخبر، وقال السهيلي: يجوز الخبر عن مستقر أمر الشرع أي: لا يكون إلاَّ هذا، وقال العراقي: يحتمل أن يكون نهياً والألف إشباع. (2) بالنصب، في جواب النفي أو النهي والمراد نفي التحري. والصلاة معاً. (3) قوله: عند ... إلخ، قال الحافظ: اختلف في المراد به، فقيل: هو تفسير لحديث الصحيحين، عن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب. فلا تكره الصلاة بعدهما إلاَّ لمن قصد بصلاته طلوع الشمس وغروبها، وإلى هذا احتجَّ بعض أهل الظاهر، وقوّاه ابن المنذر، وذهب الأكثر إلى أنه نهي مستقل، وكره الصلاة في الوقتين قَصَد أم لم يقصد. (4) قوله: عن عبد الله الصنابحي، هكذا قال جمهور الرواة، وقال مطرِّف وإسحاق بن عيسى الطباع، عن أبي عبد الله الصنابحي، قال ابن عبد البر: هو الصواب، وهو عبد الرحمن بن عسيلة، تابعي، ثقة، ورواه زهير بن محمد، عن زيد، عن عطاء، عن عبد الله الصنابحي قال: سمعت رسول الله، وهو خطأ، فإن الصنابحي لم يلقه، قال الحافظ في "الإصابة": ظاهره أنَّ عبد الله الصنابحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 الصُّنابحي (1) : أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ الشمسَ تطلُعُ وَمَعَهَا (2) قَرْنُ   لا وجود له، وفيه نظر، فقد قال يحيى بن معين: عبد الله الصنابحي روى عنه المدنيون يشبه أن يكونَ له صحبة، وقال ابن السَّكَن: يقال: إنه له صحبة، ورواية مطرِّف والطباع عن مالك شاذَّة، ولم ينفرد به مالك، بل تابعه حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن عبد الله الصنابحي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا زهير بن محمد عند ابن مندة، وكذا تابعه محمد بن جعفر بن أبي كثير وخارجة بن مصعب، الأربعة عن زيد به، وأخرجه الدارقطني من طريق إسماعيل بن الحارث وابن مندة، من طريق إسماعيل الصائغ، عن مالك، عن زيد به، مصرِّحاً بالسماع، كذا ذكره الزرقاني. (1) بضم المهملة وفتح النون وكسر الباء نسبةً إلى صنابح، بطن من مراد، ذكره الزرقاني. (2) قوله: ومعها قرن الشيطان، للعلماء في معنى الحديث قولان: أحدهما: أن هذا اللفظ على حقيقته وإنها تطلع وتغرب على قرن شيطان، وعلى رأس شيطان وبين قرني شيطان على ظاهر الحديث حقيقة لا مجازاً، وقال آخرون: معناه عندنا على المجاز واتساع الكلام، وأنه أريد بقرن الشيطان ههنا أمَّة تعبد الشمس وتسجدها وتصلّي حين طلوعها وغروبها تقصد بذلك الشمس من دون الله كذا في "آكام المرجان في أحكام الجان"، وفي "الكاشف"، ذكر فيه وجوهاً: أحدها أن الشيطان ينتصب قائماً في وجه الشمس عند طلوعها ليكون طلوعها (في الأصل: "طلوعه"، والصواب: "طلوعها") بين قرنيه، أي" فوديه (أي رأسه أي ناحيتيه، أي كل واحد منهما فود. مجمع بحار الأنوار 4/181) فيكون مستقبلاً لمن يسجد الشمس، فيصير عبادتهم له، فنهوا عن الصلاة في ذلك الوقت مخالفة لعبدة الشيطان، وثانيهما: أن يُراد بقرنيه حزباه اللذان يبعثهما حينئذٍ لإغواء الناس، وثالثها: أنه من باب التمثيل شبّه الشيطان في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 الشَّيْطَانِ، فَإِذَا ارتفعتْ زَائَلَهَا (*) ، ثُمَّ إِذَا استوتْ (1) قارَنَها، ثُمَّ إِذَا زالتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إِذَا دنَتْ (2) للغروبِ قارَنَها، فَإِذَا غرَبَتْ فَارَقَهَا، قَالَ: وَنَهَى (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ. 183 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عبدُ اللَّهِ بنُ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ عبدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ (4) : كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لا تَحَرَّوْا بصلاتِكم طلوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا، فَإِنَّ الشيطانَ يطلُعُ قَرْنَاهُ من   = ما سوَّله لعَبَدة الشمس بذوات القرون التي يعالج الأشياء ويدافعها بقرونها، ورابعها: أن يُراد بالقرن القوة، والمختار هو الوجه الأول لمعاضدة الرواية. وصحَّح النووي حمله على الحقيقة (انظر شرح مسلم 2/258، وتأويل مختلف الحديث ص 154 و 155، ومعالم السنن 1/130 و 131، وأوجز المسالك 4/186) . (1) على نصف النهار. (2) قوله: ثم إذا دنت، وقد وردت آثار مصرِّحة بغروبها على قرني الشيطان، وأنها تريد عند الغروب السجود لله، فيأتي الشيطان أن يصدّها، فتغرب بين قرنيه ويحرقه الله عزَّ وجل. (3) نهي تحريم في الطرفين وكراهة في الوسط عند الجمهور. (4) هكذا رواه موقوفاً، ومثله لا يقال رأياً، فحكمه الرفع، وقد رفعه ابنه عبد الله، أخرجه البخاري ومسلم (أخرجه البخاري ضمن حديث في: 59 - كتاب بدء الخلق 11 - باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم في: 6 - كتاب صلاة المسافرين 51 - باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها حديث 290) . (*) هكذا في الأصل، والأظهر: "فارقها"، اتفقت عليه جميع نسخ الموطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 طُلُوعِهَا، وَيَغْرُبَانِ عِنْدَ غُرُوبِهَا، وَكَانَ يضرِبُ (1) النَّاسَ عَنْ (2) تِلْكَ الصَّلاةِ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (4) كلِّه نأخذ، ويوم الجمعة وغيره عندنا في   (1) قال ابن عباس: كنت أضرب الناس مع عمر على الركعتين بعد العصر. (2) في نسخة بدله: على. (3) قوله: عن تلك الصلاة، أي: لأجل تلك الصلاة، روى عبد الرزاق، عن زيد بن خالد أن عمر رآه وهو خليفة ركع بعد العصر، فضربه، الحديث، وفيه: فقال عمر: لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سُلَّماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما. وروى عن تميم الداري نحوه، وفيه لكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلّون ما بين العصر إلى الغروب حتى يمرّوا بالساعة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلّى فيها، ومراده نهى التحريم فلا ينافي أحاديث نهيه عن الصلاة بعد العصر، فإنه للتنزيه، قال الزرقاني. (4) قوله: وبهذا كله نأخذ، أي: بالمنع عن الصلاة وقت الطلوع والغروب والاستواء أيَ صلاةٍ كان، نفلاً كان أو فرضاً أو صلاةَ جنازة، لأن الحديث لم يخصّ شيئاً إلاَّ عصر يومه (وإلاَّ جنازة حضرت في هذه الأوقات الثلاثة، وأما بعد الفجر والعصر لا يجوز فيهما النوافل. انظر الكوكب الدري 1/213 - 214) ، فإنه يجوز عند الغروب. وقال مالك والشافعي وغيرهما من علماء الحجاز: معنى هذه الاحاديث النهي عن النافلة دون الفريضة، واختُلف عن مالك في الصلاة عند الاستواء، فروى عنه ابنُ القاسم أنه قال: لا أكره الصلاة إذا استوت الشمس لا في يوم جمعة ولا في غيره، قال ابن عبد البر: ما أدري هذا، وهو يوجب العمل بمراسيل الثقات، ورجال حديث الصنابحي ثقات، وأحسبه مال إلى حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمان عمر يصلّون يوم الجمعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وذلك سَوَاءٌ (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 53 - (بابُ الصلاةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ) 184 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عبدُ اللَّهِ (2) بْنُ يزيدَ مَوْلَى الأسودِ (3) بْنِ سُفْيَانَ (4) ، عَنْ أَبِي سلمةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَنْ محمدِ (5) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا كَانَ الحرُّ فأبرِدُوا (6)   حتى يخرج عمر، ومعلوم أنَّ خروج عمر كان بعد الزوال، فكانوا يصلّون وقتَ استواء الشمس، ويوم الجمعة وغيره سواء لأن الفرق لم يصح عنده في نظر ولا أثر. انتهى. وذكر ابن عبد البر أيضاً أنه ممن رخَّص الصلاة وقت الاستواء الحسن البصري وطاووس، وهو رواية عن الأوزاعي، وقال الشافعي وأبو يوسف: لا بأس بالتطوع نصف النهار يوم الجمعة خاصة، وحجَّتهم حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلاَّ يوم الجمعة. (1) قوله: سواء، لأن الاحاديث مطلقة، والعلَّة المستفادة منها، وهي اقتران قرن الشيطان مع الشمس عامة، والأحاديث المفيدة لجواز التنفل يوم الجمعة وقت الاستواء لا تساوي أحاديث النهي من حيث السند. (2) المخزومي المقبر، وثَّقه أحمد ويحيى، مات سنة 148 هـ. كذا في "الإسعاف". (3) القرشي المخزومي ابن أخي أبي سلمة بن عبد الأسد زوج أم سلمة رضي الله عنها، ذكره ابن عبد البر وقال: في صحبته نظر، وأشار في "الإصابة" إلى ترجيح أنه صحابي. (4) هو ابن عبد الأسد بن هلال. (5) العامري المدني، وثَّقه النسائي وابن سعد، وقال أبو حاتم: لا يُسأل عن مثله، كذا في "الإسعاف". (6) قوله: فأبردوا، قال في " النهاية": الإبراد انكسار الوهج والحرّ، وهو من الإبراد: الدخول في البرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 عَنِ الصَّلاةِ (1) ، فإنَّ (2) شدَّة الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ (3) جَهَنّم. وذكر (4)   (1) أي: عن صلاة الظهر، وبه صرح في حديث أبي سعيد عند البخاري وغيره بلفظ: "أبردوا بالظهر"، وحمله بعضهم على عمومه، فقال به أشهب في العصر، وأحمد في العشاء في الصيف. قوله: عن الصلاة، قال عياض: معناه بالصلاة كما جاء في رواية. وعن تجيء بمعنى الباء، وقد تكون زائدة أي: أبردوا الصلاة، والأول جزم به النووي، والثاني جزم به ابن العربي في "القبس". وقال القاضي: اختلف العلماء في الجمع بين هذا الحديث وبين حديث خبّاب: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّ الرمضاء، فلم يشكُنا، فقال بعضهم: الإبراد رخصة، والتقديم أفضل، وقال بعضهم: حديث خبّاب منسوخ، وقال بعضهم: الإبراد مستحب وحديث خباب محمول على أنهم طالبوا تأخيراً زائداً على قدر الإبراد، وهذا هو الصحيح. انتهى. ومن الغريب تفسير بعضهم "أبردوا"، أي: صلّوا لوقتها الأول رداً إلى حديث خبّاب، نقله عياض، عن حكاية الهروي، وتفسير آخر: "فلم يشكنا"، أي: لم يحوجنا ردّاً إلى حديث الإبراد، نقله ابن عبد البر، عن ثعلب، كذا في "التنوير". (2) تعليل مشروعية الإبراد. (3) قوله: من فيح جهنم، أي: وهجها، ويُروى من فوح جهنم، وقال صاحب "العين" وغيره، الفيح سطوع الحرّ في شدة القيظ. وأما قوله: اشتكت النار .... إلخ، فإنَّ أهل العلم اختلفوا في معناه، فحمله جماعة منهم على الحقيقة، وقالوا: أنطقها الله الذي أنطق كلَّ شيء، وحمله جماعة منهم على المجاز، والقول الأول يعضده عموم الخطاب وظاهر الكتاب، وهو أولى بالصواب، كذا في "الاستذكار". (4) قوله: وذكر، أي: النبي صلى الله عليه وسلم فهو بالإسناد المذكور ووهم من جلعه موقوفاً على أبي هريرة أو معلَّقاً، وقد أفرده أحمد في مسنده ومسلم من طريق آخر، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 أَنَّ النارَ (1) اشتكَتْ (2) إِلَى ربِّها عَزَّ وَجَلَّ، فإذِنَ لَهَا فِي كلِّ بنَفَسَيْن (3) : نَفَس (4) فِي الشِّتَاءِ ونَفَس فِي الصَّيْفِ (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، نُبْرد لِصَلاةِ الظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ وَنُصَلِّي فِي الشِّتَاءِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة (6) - رحمه الله -.   (1) وفي مسلم: قالت النار: يارب أكل بعضي بعضاً، فأْذَنْ لي التنفس، فأَذِن لها بنَفَسَيْن. (2) قوله: اشتكت، حقيقة بلسان الحال، كما رجَّحه من فحول الرجال ابن عبد البر وعياض والقرطبي وابن المنير والتوربشتي، ولا مانع منه سوى ما يخطر للواهم من الخيال، قاله الزرقاني. (3) تثنية نَفَس بالفتح. (4) قوله: نفس في الشتاء ... إلخ، لمسلم زيادة فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها، وما ترون من ششدة الحر فهو من سمومها. قال عياض: قيل: معناه إذا تنفَّسَتْ في الصيف قوّى لَهَبُها حرَّ الشمس، وإذا تنفَّستْ في الشتاء دفع حرُّها شدة البرد إلى الأرض. وقال ابن التين: فإنْ قيل كيف يجمع بين البرد والحر في النار؟ فالجواب أن جهنم فيها زوايا فيها نار، وزوايا فيها زمهرير، وقال مغلطائي: لقائل أن يقول الذي خلق الملك من ثلج ونار قادر على جمع الضدَّين في محل واحد، كذا في "التنوير". (5) بفتح الفاء. (6) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مالك في رواية عنه، وأحمد وزاد الإبراد في العشاء في الصيف، وقال الليث والشافعي ومن تبعهم: أول الوقت أولى في جميع الصلوات، كذا ذكره ابن عبد البر، وحجَّتهم في ذلك حديث خباب شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّ الرمضاء، فلم يشكنا أي لم يُزِل شكوانا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 54 - (بَابُ الرَّجُل يَنْسَى الصلاةَ أَوْ تفوتُهُ عَنْ وَقْتِهَا) 185 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابنُ شِهَابٍ (1) ، عَنْ سعيد بن   أخرجه مسلم وابن المنذر والطحاوي وابن ماجه والنسائي وغيرهم. وفي الباب أحاديث دالَّة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهاجرة، أخرجها الطحاوي وغيره. ولنا حديث الإبراد رواه جماعة من الصحابة، فأخرجه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم من حديث أبي هريرة، والطبراني من حديث عمرو بن عقبة، والبخاري من حديث أبي سعيد، وأحمد وابن ماجه والطحاوي من حديث المغيرة، وابن خزيمة من حديث عائشة، وروى البزّار من حديث ابن عباس، والبخاري من حديث أنس إبرادَ النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً. وروى الطحاويّ عن ابن عمر أنَّ عمر قال لأبي محذورة بمكة: أنت بأرضٍ حارَّة شديدة الحر، فأبرِد. والكلام في هذا البحث طويل، فمنهم من أمال حديث الإبراد إلى حديث خباب، ومنهم من عكس، وكل منهما ليس بذلك، ومال الطحاوي إلى نسخ التعجيل لما رواه عن المغيرة: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر بالهجير، ثم قال: إن شدة الحر من فيح جهنم، فأبردوا بالصلاة. والقدر المحقق أن الترغيب إلى الإبراد ثابت قولاً، ومؤيَّد فعلاً وأثراً، والتعجيل ليس كذلك (قال ابن قدامة في "المغني" 1/389: ولا نعلم في استحباب تعجيل الظهر في غير الحرّ والغيم خلافاً، قال الترمذي: وهو الذي اختاره أهل العلم من أصحابه صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وأما في شدة الحرّ، فكلام الخرقي يقتضي استحباب الإبراد على كل حال، وهو ظاهر كلام أحمد، وهو قول إسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال القاضي: إنما يُستحب الإبراد بثلاثة شروط: شدة الحر وأن يكون في البلدان الحارة ومساجد الجماعات، فأما من صلاّها في بيته أو مسجد في فناء بيته فالأفضل تعجيلها، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله. انتهى مختصراً من أوجز المسالك 1/185) . (1) هو الزهري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 المسيب: أن (1) رسولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ حِينَ قَفَل (2) مِنْ خَيْبَرَ (3) أَسْرَى (4) حَتَّى إذا كان من آخر الليل عرّس (5) ،   (1) قوله: أن رسول الله ... إلخ، هذا حديث مرسل تبيَّن وصلُه، فأخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه، عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أبي هريرة. (2) القفول الرجوع من السفر، قوله: حين قفل من خير، في مسلم من حديث أبي هريرة أنه وَقع عند رجوعهم من خيبر، وفي أبي داود من حديث ابن مسعود: أقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلاً، فقال: من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا. وفي "الموطأ"، عن زيد بن أسلم أن ذلك كان بطريق تبوك، وللبيهقي في "الدلائل" نحوه من حديث عقبة، ووقع في رواية لأبي داود أن ذلك كان في غزوة جيش الأمراء، وتعقَّبه ابن عبد البر بأنها غزوة مؤتة، ولم يشهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو كما قال. وقد اختلف العلماء هل كان نومهم عن الصبح مرة أو أكثر؟ فجزم الأصيلي بأن القصة واحدة، وتعقَّبه عياض بأن قصة أبي قتادة مغايرة لقصة عمران بن حصين وهو كما قال، فإن في قصة أبي قتادة فيها أنَّ أبا بكر وعمر كانا معه، وأيضاً فإن قصة عمران فيها أن أول من استيقظ أبو بكر. ولم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أيقظه عمر بالتكبير، وفي قصة أبي قتادة: أن أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا في "فتح الباري" 1/379، وإلى تعدُّد القصة جنح العيني أيضاً. عمدة القاري 2/180) . (3) وكانت غزوة خيبر سنة ست. (4) يقال: سريت وأسريت بمعنى إذا سرت ليلاً. (5) التعريس: النزول آخر الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 وَقَالَ (1) لِبِلالٍ: اكلأْ (2) لَنَا الصُّبْحَ، فَنَامَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه، وكلأْ (3) بلالٌ مَا قُدِّر (4) لَهُ، ثُمَّ اسْتَنَدَ إِلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُقَابِلُ (5) الْفَجْرِ، فغلَبَتْه عَيْنَاهُ (6) ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا بلالٌ وَلا أَحَدٌ مِنَ الرَّكب، حَتَّى ضرَبَتْهم (7) الشَّمْسُ، ففَزعَ (8) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا بِلالُ (9) ، فَقَالَ بِلالٌ يا رسول الله أخذ (10)   (1) قوله: وقال لبلال، هو ابن رباح المؤذن وأمه حمامة، مولى أبي بكر رضي الله عنه، شهد بدراً والمشاهد كلها، مات بالشام سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة، وقيل: عشرين، وله بضع وستون سنة، كذا في "الإصابة" وغيره. (2) أي: ارقب لنا واحفظ علينا وقتَ الصبح، وأصل الكلأ: الحفظ والمنع والرعاية. (3) وفي مسلم: فصلّى بلال ما قُدِّر له. (4) بالبناء للمفعول أي ما يسَّره الله له. (5) أي: مواجهة الجهة التي يطلع منها. (6) زاد مسلم: وهو مستند إلى راحلته. (7) قال عياض: أي أصابهم شعاعها. (8) قوله: ففزع، قال النووي: أي انتبه وقام، وقال الأصيلي: فزع لأجل عدوِّهم خوفا أن يكون تبعهم، وقال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون تأسُّفاً على ما فاتهم من وقت الصلاة. وفيه دليل على ان ذلك لم يكن من عادته منذُ بعث، قال: ولا معنى لقول الأصيلي. لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبعه عدوّ في انصرافه من خيبر ولا من حنين، ولا ذكر ذلك أحد من أهل المغازي، بل انصرف من كلا الغزوتين غانماً ظافراً، كذا في "التنوير". (9) وفي رواية ابن إسحاق، ماذا صنعتَ بنا يا بلال؟ وفي نسخة: ما هذا. (10) قوله: أخذ بنفسي ... إلخ، قال ابن عبد البر: معناه قبض نفسي الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 بِنَفْسِي (1) الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ، قَالَ (2) : اقْتَادُوا (3) فَبَعَثُوا رواحلّهم، فاقتادوها (4)   قبض نفسك، فالباء زائدة أي توفّاها متوفياً به نفسك، قال: وهذا قول من جعل النفس والروح واحداً، لأنه قال في الحديث الآخر: إن الله قبض أرواحنا، فنصَّ على أن المقبوض هو الروح ومن قال: النفس غير الروح تأوَّل قوله أخذ بنفسي أي: النوم الذي أخذ بنفسك. قال النووي: فإن قيل: كيف نام صلى الله عليه وسلم مع قوله: إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي، فجوابه من وجهين: أصحهما وأشهرهما أنه لا منافاة بينهما، لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلِّقة به، كالحزن والألم وغيرهما، ولا يدرك طلوع الفجر وغيره، وإنما يدرك ذلك العين، والعين نائمة، والثاني: أنه كان له حالان: أحدهما: ينام فيه القلب، والثاني: لا ينام، وهو غالب أحواله، كذا في "التنوير". (1) قال ابن رشيق: إن الله استولى بقدرته عليَّ كما استولى عليك مع منزلتك، قال: ويحتمل أن يكون المراد أن النوم غلبني كما غلبك. (2) قوله: قال: اقتادوا، قال القرطبي، أخذ بهذا بعض العلماء، فقال: من انتبه عن نوم في فائتة في سفر، فليتحوَّلْ عن موضعه، وإن كان وادياً فليخرج عنه، وقيل: هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. (3) قوله: اقتادوا، أي ارتحلوا، زاد مسلم: فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان، قال ابن رشيق: قد علَّله بذلك ولا يعلمه إلاَّ هو، قال عياض: هذا أظهر الأقوال في تعليله. (4) قوله: فقتادوها شيئاً، اختلفوا في معنى اقتيادهم وخروجهم من ذلك الوادي، فقال أهل الحجاز تشاءم بالموضع الذي نابهم فيه ما نابهم، فقال: هذا وادٍ فيه شيطان، وذكر وكيع، عن جعفر، عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، فقال لأصحابه: تزحزحوا عن المكان الذي أصابتكم فيه الغفلة. وأما أهل العراق، فزعموا أن ذلك كان لأنه انتبه حين طلوع الشمس، ومن السُّنَّة أن لا يصلي عند طلوعها ولا عند غروبها، كذا في "الاستذكار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 شَيْئًا (1) ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلالا، فَأَقَامَ الصَّلاةَ (2) فصلَّى (3) بِهِمُ الصُّبْحَ، ثُمَّ قَالَ حِينَ قَضَى الصَّلاةَ: مَنْ نسي (4) صلاة فليصلِّها إذا ذكرها (5) ،   (1) للطبراني من حديث عمران، حتى كانت الشمس في كبد السماء. (2) قوله: فأقام الصلاة، لأحمد فأمر بلالاً فأذَّن، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى ركعتين قبل الصبح وهو غير عجل، ثم أمره فأقام الصلاة، وقال عياض: أكثر رواة "الموطأ" في هذا الحديث اكتفوا على "أقام" وبعضهم قال: "فأذَّن أو أقام بالشك". (3) قوله: فصلّى بهم، الصبح زاد الطبراني من حديث عمران: فقلنا يا رسول الله أنعيدها من الغد لوقتها؟ فقال نهانا الله عن الربا ويقبله منا؟!. (4) زاد في رواية القعنبي: أو نام عنها. قوله: من نسي ... إلخ، فإن قيل: فلم خصَّ النائم والناسي بالذكر في قوله: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها، قيل: خصَّ النائم والناسي ليرتفع التوهّم والظنّ فيهما لرفع القلم في سقوط المأثم عنهما، فأبان سقوط المأثم عنهما غير مسقط لما لزمَهما من فرض الصلاة، وأنها واجبة عليهما عند الذكر بها يقضيها كل واحد إذا ذكرها، ولم يحتج إلى ذكر العامد معهما لأن العلة المتوهَّمة في النائم والناسي ليست فيه ولا عذر له في ترك فرض، وإذا كان النائم والناسي وهما معذوران يقضيانها بعد خروج وقتها، فالمتعمِّد أولى بأن لا يسقط عنه فرض الصلاة، وقد شذَّ بعض أهل الظاهر، وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين، فقال: ليس على المتعمِّد في ترك الصلاة في وقتها بأن يأتي بها في غير وقتها لأنه غير نائم ولا ناس، كذا في "الاستذكار". (5) قوله: إذا ذكر، لأبي يعلى والطبراني من حديث أبي جحيفة، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 فإن الله (1) عز وجل يقول: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} . قال محمد: وبهذا نأخذ، إلاَّ (2)   قال: إنكم كنتم أمواتاً، فردَّ الله إليكم أرواحَكم، فمن نام عن صلاةٍ فليصلِّها إذا استيقظ، ومن نسي عن صلاة فليصلها إذا ذكرها، كذا في "التنوير". (1) قوله: فإن الله ... إلخ، قال عياض: فيه تنبيه على ثبوت هذا الحكم وأخذه من الآية التي تضمَّنت الأمر لموسى وأنه مما يلزمنا اتِّباعه. وقال غيره: استُشكل وجه الأخذ بأن معنى لذكري إما لتذكرني فيها، وإما لأذكرك على اختلاف القولين، وعلى كلٍّ فلا يعطى ذلك، قال ابن جرير: ولو كان المراد حين تذكّرها لكان التنزيل فيه لذكرها، وأصَح ما أُجيب به أن الحديث فيه تغييرمن الراوي، وإنما هو للذكرى بلام التعريف وألف القصر كما في "سنن أبي داود"، وفي مسلم زيادة: وكان ابن شهاب يقرؤها للذكرى، فبان منه أن استدلاله صلى الله عليه وسلم إنما كان بهذه القراءة، فإن معناه للتذكر أي لوقت التذكر، كذا في "التنوير". (2) قوله: إلا أن يذكرها في الساعة ... إلخ، يعني أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم وإن كان مفيداً لجواز أداء الصلاة لمن نام أو نسي عند ذكره، ولو كان عند الطلوع والغروب والاستواء، لكن أحاديث النهي عن الصلاة فيها وهي مطلقة، قد خصصته بما عدا ذلك، فلا يجوز أداء الفائتة في هذه الساعات لأحاديث النهي هذا هو مذهب أصحابنا وذهب مالك والشافعي وغيرهم غلى أن أحاديث النهي مختصة بالنوافل التي لا سبب لها، والتفصيل في هذا المقام أن ظاهر أحاديث النهي يقتضي العموم وظاهر حديث: "فليصلِّها إذا ذكرها"، يقتضي عموم جواز قضاء الفائتة (في الأصل: "جواز الفائتة"، والظاهر هو: "جواز قضاء الفائتة") . مع أحاديث "أدرك الصلاة"، فجمع بينها جماعة بأن حملوا أحاديث النهي على النوافل وغيرها على غيرها، فأجازوا أداء الوقتيات والفوائت في هذه الأوقات، وأصحابنا لمَّا رأَوا أن علَّةَ النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة عامة جعلوها عامة في النوافل والفوائت وغيرها، وخصوا الذكر بالذكر في غير هذه الأوقات وجوَّزوا أداء عصر يومه وقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 أَنْ يذكُرَها (1) فِي الساعةِ الَّتِي نَهَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاةِ فِيهَا: حِينَ (2) تَطْلُعُ الشَّمْسُ حَتَّى ترتفعَ وتبيضَّ، وَنِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ، حِينَ تحمَّر الشَّمْسُ حَتَّى تغيبَ إِلا عَصْرَ يَوْمِهِ (3) فَإِنَّهُ يصلِّيها وَإِنِ احمرَّتْ الشمسُ قَبْلَ أَنْ تغرُبَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 186 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي زَيْدُ (4) بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ   الغروب بحديث: "من أدرك ركعة مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسِ فَقَدْ أدركها" لكن يشكل عليهم ورود: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها"، وأجابوا عنه بأنه قد تعارض هذا الحديث وحديث النهي، فأسقطناهما، ورجعناه إلى القياس، وهو يقتضي جواز أداء عصر يومه عند الغروب، لأنه صار مؤدىً كما وجب وعدم جواز صبح يومه في وقت الطلوع لأن وجوبه كامل فلا يتأدى بالناقص، وزيادة تحقيقه في كتب الأصول، لكن لا مناص عن ورود أن التساقط إنما يتعيَّن عند تعذر الجمع وهو ههنا ممكن بوجوه عديدة لا تخفى للمتأمل. (1) قوله: أن يذكُرَ، قد أيَّده جماعة من أصحابنا منهم العينيّ، وغيره بما ورد في حديث التعريس أنه صلى الله عليه وسلم ارتحل من ذلك الموضع وصلّى بعد ذلك ولم يكن ذلك إلاّ لأنه كان وقت الطلوع، وفيه نظر: أمّا أولاً، فلأنه قد ورد تعليل الاقتياد صريحاً بأنه موضع غفلة وموضع حُضور الشيطان، فلا يُعدل عنه، وأما ثانياً: فلأنه ورد في رواية مالك وغيره حتى ضربتهم الشمس، وفي بعض روايات البخاري: لم يستيقظوا حتى وجدوا حرَّ الشمس، وذلك لا يمكن إلا بعد الطلوع بزمان وبعد ذهاب وقت الكراهة. (2) بيان لتلك الساعات. (3) احتراز عن عصر أمس لأن وجوبه كامل، فلا يتأدّى بالناقص. (4) العدوي المدني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 يَسَارٍ وَعَنْ بُسْرِ (1) بْنِ سَعِيدٍ، وَعَنِ الأَعْرَجِ (2) يحدَّثونه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أدركَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا (3) . وَمَنْ أَدْرَكَهَا مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا. 55 - (بَابُ الصَّلاةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُمْطِرَةِ (4) وَفَضْلِ الْجَمَاعَةِ) 187 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ نَادَى (5) بِالصَّلاةِ فِي سَفَرٍ فِي ليلةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وريح، ثم قال (6) : ألا صلُّوا في   (1) المدني العابد، ثقة من التابعين، كذا قال الزرقاني وغيره. (2) عبد الرحمن بن هرمز المدني. (3) أي: تمَّتْ صلاتُهُ وإن وقعت ركعة عند الطلوع وبعده. (4) من الإمطار. (5) قوله: نادى، وكان مسافراً، فأذَّن بمحلٍّ يقال له ضَجْنان، بفتح الضاد المعجمة، وسكون الجيم ونونين، بينهما ألف، جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً، وقد أخرجه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: أذَّن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان، كذا قال الزرقاني. (6) قوله: ثم قال، أي: بعد فراغ الأذان، ألا: حرف تنبيه، صلوا في الرحال أي: البيوت والمنازل، قال الطيبي: أي: الدُّور والمساكن، رحل الرجل منزله، ومسكنه، كذا في "مرقاة المفاتيح". وقال الرافعي: ليس في الحديث بيان أنه متى ينادي المنادي بهذه الكلمة في خلال الأذان أم بعده، لكن الشافعي عرف في سائر الروايات أنه لا بأس بإدخالها في الأذان، فإنه قال في "الأم" أحب للإمام أن يأمر بهذا إذا فرغ المؤذن من الأذان وإن قاله في أذانه فلا بأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ (1) يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةً بَارِدَةً ذَاتَ مَطَرٍ يَقُولُ (2) : أَلا صلّوا (3) في الرحال. قال محمد: هذا (4)   (1) وفي البخاري: كان يأمر مؤذِّناً يؤذِّن ثم يقول على أثره: ألا صلّوا في الرحال، في الليلة المطيرة، والباردة في السفر، وفي صحيح أبي عوانة: في ليلة باردة أو ذات مطر أو ريح. (2) قوله: يقول، من الفقه الرخصة في التخلُّف عن الجماعة في الليلة المطيرة والريح الشديدة، وفي معنى ذلك كل عذر مانع وأمر مؤذٍ، والسفر والحضر في ذلك سواء، واستدل قوم (في الأصل: "قومه" والظاهر: "قوم") على أن الكلام في الأذان جائز بهذا الحديث إذا كان مما لا بدَّ منه، وذكروا حديث الثقفي أنه سمع منادي النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مطيرة يقول إذا قال: حي على الفلاح قال: ألا صلوا في الرحال. واختلف أهل العلم فيه، فروى عن مالك جماعة من أصحابه كراهته، وقال: لم أعلم أحداً يُقتدى به تكلم في أذانه، وكره رد السلام في الأذان، وكذلك لا يشمّت عاطساً، فإن فعل شيئاً من ذلك، وتكلم في أذانه فقد أساء ويبني على أذانه، وقول الشافعي وأبي حنيفة والثوري في ذلك نحو قول مالك، ورخصت طائفة الكلام في الأذان منهم الحسن وعروة وعطاء وقتادة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل كذا في "الاستذكار". (3) أمر إباحة. (4) قوله: هذا حسن، أي: الإعلام بقوله: ألا صلّوا في الرحال خارج الأذان، وأما في الأذان، فظاهر كلام أصحابنا المنعُ منه، لكن قد ثبت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، منهم ابن عباس، كما رواه أبو داود والبخاري وغيرهما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 حَسَنٌ وَهَذَا (1) (2) رُخْصَةٌ وَالصَّلاةُ فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ. 188 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ (3) ، عَنْ بُسر (4) بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ (5) بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ (6) : إِنَّ أَفْضَلَ (7) صَلاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ (8) إِلا صَلاةَ الجماعة.   وقد خلط من استنبط منه جواز الكلام في الأذان لأن هذه الزيادة قد ثبتت في الأذان في محلها، فصارت كأنها من الأذان كزيادة الصلاة خير من النوم. (1) وفي نسخة: هي. (2) قوله: وهذا، أي: ترك الجماعة في البرد والريح ونحو ذلك رخصة (هي من الأعذار المبيحة لترك الجماعة عند الجمهور، أوجز المسالك 2/33) للترفيه منّاً من صاحب الشرع، واختيار العزيمة أفضل، لورود كثير من الأحاديث بالتشديد في ترك الجماعة والترغيب البالغ إليها. (3) هو سالم بن أبي أمية، تابعي، ثقة، ذكره الزرقاني. (4) المدني. (5) هو أحد كتّاب الوحي، من الراسخين في العلم. (6) قوله: قال، قال ابن عبد البر: كذا هو في جميع الموطآت، موقوف على زيد، وهو مرفوع عنه من وجوه صحاح، قلت: أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طرق عن سالم أبي النضر، عن بسر، عن زيد مرفوعاً به، فيه قصة هي سبب الحديث، كذا في "التنوير". (7) لبعدها عن الرياء أو لتحصل البركة في البيوت، فتنزل بها الرحمة ويخرج عنها الشيطان. (8) قوله: في بيوتكم، ظاهره يشمل كل نفل، لكنه محمول على ما لا يشرع له التجميع، كالتراويح والعيدين، وما لا يخصّ المسجد كالتحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وكلٌّ حَسَنٌ (1) . 189 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَضْلُ (2) صَلاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ بسبع (3) وعشرين درجة.   (1) كأنه يشير إلى أنه لا بأس بأداء النوافل في المسجد أيضاً، إلا أن الأحسن المأخوذ به هو هذا. (2) قوله: فضل صلاة الجماعة، قال الشيخ سراج الدين البلقيني، ظهر لي شيء لم أسبق إليه لأن لفظ ابن عمر صلاة الجماعة. ومعناه الصلاة في الجماعة كما وقع في حديث أبي هريرة: صلاة الرجل في الجماعة، وعلى هذا فكلُّ واحد من المحكوم له بذلك صلّى في جماعة، وأدنى الأعداد التي تتحقق فيها الجماعة ثلاثة، وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشرة، فتحصّل من مجموعه ثلاثون، فاقتصر في الحديث على الفضل الزائد، وهي سبعة وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك. وقال السيوطي في "التنوير": قد أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"، عن ابن عباس قال: فضل صلاة الجماعة على صلاة الواحدة خمس وعشرون درجة، فإن كانوا أكثر فعلى عدد من في المسجد، فقال رجل: وإن كانوا عشرة ألاف؟ قال: نعم، وإن كانوا أربعين ألفاً، وأخرج عن كعب قال: على عدد من في المسجد، وهذا يدل على أن التضعيف المذكور مرتَّب على أقل عدد تحصل به الجماعة، وأنه يزيد بزيادة المصلّين. (3) قوله: بسبع وعشرين درجة، قال الترمذي: عامة من رواه قالوا خمساً وعشرين إلاّ ابن عمر، فإنه قال: سبعاً وعشرين. قال الحافظ ابن حجر: وعنه أيضاً رواية "خمس وعشرين" عند أبي عوانة في "مستخرجه" وهي شاذة، وإن كان راويها ثقة، وأما غيره فصح عن أبي هريرة وأبي سعيد في "الصحيح" وعن ابن مسعود عن أحمد وابن خزيمة، وعن أبيّ عند ابن ماجه والحاكم، وعن عائشة وأنس عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 56 - (بَابُ قَصْرِ الصَّلاةِ فِي السَّفَرِ) 190 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي صَالِحُ (1) بْنُ كَيسان، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا أَنَّهَا قالت: فُرِضَتْ الصلاة (2) ركعتين (3)   السرّاج وورد أيضاً من طرق ضعيفة، عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت وكلها عند الطبراني. واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية أبيّ، فقال: أربع أو خمس على الشك، وسوى رواية أبي هريرة لأحمد قال فيها: سبع وعشرون. قال: واختُلف في أيّ العددين أرجح؟ فقيل: رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل: رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ، قال: ووقع الاختلاف أيضاً في مميز العدد، ففي رواية "درجة" وفي أخرى"جزء" وفي أخرى"ضِعفاً"، والظاهر أن ذلك من تصرّف الرواة. قال: ثم إن الحكمة في هذا العدد الخاص غير محقّقة المعنى. انتهى. وقد جمع بين روايتَي الخمس والسبع، بأنَّ ذِكرَ القليل لا ينفي الكثير، وبأنه أخبر بالخمس ثم أعلمه الله بالزيادة، وبالفرق بحال المصلي كأن يكون أعلم أو أخشع وبإيقاعها في المسجد أو في غيره. (1) هو المدني مولى غفار، وثَّقه أحمد وابن معين، مات بعد سنة 140 هـ كذا في "الإسعاف". (2) وللتنّيسي: فرض الله الصلاة حين فرضها. (3) قوله: ركعتين ركعتين، لم تختلف الآثار، ولا اختلف أهل العلم بالأثر والخبر أن الصلاة إنما فرضت بمكة حين أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماء، ثم أتاه جبريل من الغد، فصلّى به الصلوات لأوقاتها، إلا أنهم اختلفوا في هيئاتها حين فُرضت، فرُوي عن عائشة أنها فُرضت ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعاً، وبذلك قال الشعبي والحسن البصري في رواية ميمون، وروى ابن عباس أنها فُرضت في الحضر أربعاً وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 رَكْعَتَيْنِ (1) فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَزِيدَ (2) فِي صَلاةِ الْحَضَرِ (3) وأُقِرَّت (4) صلاةُ السَّفَرِ. 191 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ   السفر ركعتين، وقال نافع بن جبير بن مطعم - وكان أحد علماء قريش بالنسب وأيام العرب والفقه، وهو راويه عن ابن عباس، وهو روى عنه حديث إمامة جبريل -: إنّ الصلاة فُرضت في أول ما فُرضت أربعاً إلاّ المغرب والصبح، وكذلك قال الحسن البصري في رواية، ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك القشيري ما يدل على ذلك وهو قوله: إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة، والوضع لا يكون إلا من تمام قبله، وفي حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر قال: فرضت الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين، كذا في "الاستذكار". (1) زاد أحمد في "مسنده": إلا المغرب، فإنها كانت ثلاثاً. (2) بعد الهجرة. ففي البخاري عنها: فرضت الصلاة ركعتين، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فرضت أربعاً. (3) قوله: صلاة الحضر، لابن خزيمة وابن حبان: فلما قَدِمَ المدينةَ زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتُركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنها وتر النهار. (4) قوله: وأقرَّت، احتجَّ بظاهر هذا الحنفيةُ وموافقوهم على أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، وأجاب مخالفوهم بأنه غير مرفوع، وبأنها لم تشهد زمانَ فرض الصلاة، قاله الخطابي وغيره. قال الحافظ: وفيه نظر لأنه مما لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع، وعلى تسليم أنها لم تدرك القصة يكون مرسل صحابي وهو حجة كذا في "شرح الزرقاني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ (1) قَصر الصَّلاةَ. 192 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا خَرَجَ حَاجًّا (2) أَوْ مُعْتَمِرًا قَصَرَ (3) الصَّلاةَ بِذِي الحُلَيْفَة (4) . 193 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ خَرَج إِلَى رِيم (5) فقَصَر الصلاةَ فِي مَسيرِهِ (6) ذَلِكَ. 194 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّهُ كَانَ يُسافرُ (7) مع ابنِ   (1) وبين خيبر والمدينة ستة وتسعون ميلاً. (2) أي: قاصداً الحج والعمرة من المدينة إلى مكة. (3) قوله: قصر الصلاة بذي الحليفة، قال ابن عبد البر: كان ابن عمر يتبرَّك بالمواضع التي كان رسول الله ينزلها، ولما علم أنه عليه السلام قصر العصر بذي الحليفة حين خرج إلى حجة الوداع فعل مثله. (4) قوله: بذي الحُلَيفة، بضم الحاء المهملة وفتح اللام وإسكان الياء، ميقات أهل المدينة وهو على نحو ستة أميال من المدينة، وقيل: سبعة، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي. (5) بكسر الراء وإسكان التحتية وميم، قوله: إلى ريم، قال مالك: وذلك نحو من أربعة برد من المدينة، ولعبد الرزاق عن مالك ثلاثون ميلاً من المدينة، ورواه ابن عقيل عن ابن شهاب، قال: هي ثلاثون ميلاً، فيحتمل أن ريم موضع متسع فيكون تقدير مالكٍ عند آخره، وعقيل عند أوله، كذا قال الزرقاني. (6) أي: سيره ذلك القدر. (7) قال الباجي: سمّى الخروج إلى البريد ونحوه سفراً مجازاً أو اتِّساعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 عُمَرَ البريدَ (1) فَلا يَقْصُرُ الصَّلاةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا خَرَجَ الْمُسَافِرُ أَتَمَّ الصَّلاةَ (2) إِلا أَنْ يريد مسيرةَ   (1) قوله البريد: هو كلمة فارسيَّة يُراد بها في الأصل البَغل، وأصلها بُرِيدَة دُم، أي: محذوف الذنب لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، فأعربت وخُفِّفت، ثم سمِّي الرسول الذي يركب البريد بريداً والمسافة التي بين السكنين بريداً، والسكنة موضع كان يسكنه الفيوج المرتَّبون من بيت أو قُبَّة أو رباط، وكان يرتب في كل سكنة بغال، وبُعد ما بين السكنين فرسخان، وقيل أربعة، ومنه الحديث: "لا تُقتصر الصلاة في أقل من أربعة بُرُد"، وهي ستة عشر فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع كذا في "نهاية ابن الأثير". (2) قوله: أتم الصلاة إلاّ أن يريد ... إلخ، اختلفوا فيه: فقالت طائفة من أهل الظاهر يقصر في كل سفر ولو في ثلاثة أميال لظاهر قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} ، وروى مسلم وأبو داود عن أنس: كان رسول الله إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة. وهو أصح ما ورد في ذلك وأصرحه. وروى سعيد بن منصور، عن أبي سعيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخاً يقصر فيه الصلاة. وحمله أكثر العلماء على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا مسافة السفر، وذهب مالك إلى أن أقل مدة السفر التي يقصر فيها أربعة برود، وبه قال الشافعي وأحمد وجماعة، وهي ستة عشر فرسخاً أي: ثمانية وأربعون ميلاً، والمستند لهم حديث: "يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برود". أخرجه الدارقطني والبيهقي والطبراني. وسنده متكلم فيه، لكنه مؤيد بفعل ابن عمر وابن عباس، كما أخرجه مالك والبيهقي وغيرهما أنهما كانا يقصران في أربعة برود. وذهب أصحابنا إلى التقدير بثلاثة أيام أخذاً من حديث الصحيحين: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي رحم محرم"، ومن حديث يمسح المقيم يوماً وليلةً والمسافر ثلاثة أيام ولياليها"، وأخرج محمد في كتاب "الآثار"، عن سعد بن عبيد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 ثلاثةِ أيّامٍ كَوَامِلَ (1) بسيرِ الإبلِ ومَشيِ الأَقْدَامِ، فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ قصرَ الصَّلاةَ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ مِصْرِهِ، وَيَجْعَلَ الْبُيُوتَ (2) خَلفَ ظَهره، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 57 - (بَابُ الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ المِصْرَ أَوْ غيرَه مَتَى يُتِمّ الصلاةَ) 195 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سالمِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أُصلِّي صَلاةَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ أُجمع (3)   الطائي، عن علي بن ربيعة قال: سألت ابن عمر إلى كم تقصر الصلاة؟ قال: تعرف السويداء؟ قلت: لا، ولكني قد سمعت بها، قال: هي ثلاث ليالٍ فواصل، فإذا خرجنا إليها قصرنا الصلاة. ولما كان السير مختلفاً باختلاف السائر والمركب اعتبروا السير الوسط وهو سير الأبل ومشي الأقدام، ولم يعتبروا سرعة القطع وبطؤه بغير ذلك، وتفصيله في كتب الفقه. (1) جمع كامل. (2) قوله: ويجعل البيوت خلف ظهره، هذا وقت جواز القصر (المسافر إذا فارق بيوت بلده قصر في الطريق عندنا كما في عامة متون الحنفية، وفيه خلاف يسير في عبارات المشائخ، راجع له عمدة القاري 3/545، وفي "المغني" 2/259 لابن قدامة: ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت مصره أو قريته ويخلفها وراء ظهره، قال: وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد والشافعي وإسحاق وأبو ثور) ، لما روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق أن علياً خرج من البصرة فصلى أربعاً، وقال: إنّا لو جاوزنا هذا الخص لصلَّينا ركعتين وهو بيت من قصب. (3) مِن أجمع على الأمر، عزم وصَمَّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 مُكثاً (1) وَإِنْ حَبَسَنِي ذَلِكَ اثْنَتَيْ عَشْرَة لَيْلَةً. 196 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ (2) ، ثُمَّ قَالَ (3) يَا أَهْلَ مَكَّةَ أتمُّوا صَلاتَكُمْ فإنَّا قومٌ سَفْرٍ (4) . 197 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي نَافِعُ، عَنِ ابن عمر: أنه كان   (1) إقامةً، لأن حكم السفر لم ينقطع (قال المجد: المكث ثلاثاً ويحرِّك: اللبث، يعني يقصر المسافر ما لم يعزم على اللبث، قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً فيمن سافر سفراً يقصر الصلاة، أنه لا يلزمه أن يتمَّ الصلاة في سفره إلاّ أن ينوي الإقامة في مكان من سفره ويجمع نيته على ذلك، قال الترمذي: أجمع أهل العلم على أنَّ للمسافر أن يقصر ما لم يُجمع إقامة وإن أتى عليه سنون. 1 هـ. أوجز المسالك 3/107) . (2) قال الباجي: كان عمر لا يستوطن مكة، لأن المهاجري ممنوع من استيطانها. (3) قوله: ثم قال ... إلخ، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") : امتثل عمر فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عمران بن حصين: شهدت مع رسول الله الفتح، فأقام بمكة ثمان عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلّوا أربعاً، فإنا قوم سفر. انتهى. وهذا رواه الترمذي، وفي إسناده ضعيف، كذا قال الزرقاني. وقال القاري بعد ذكر حديث عمران: لعل وجه قصره عليه السلام أنه كان على قصد سفر مع أن من جملة هذه المدة أيام منى وعرفة، ويُشترط أن يكون نية الإقامة في بلدة واحدة. انتهى. أقول: فيه خطأ واضح، فإن حديث عمران في فتح مكة وأيام منى إنما تكون في موسم الحج وكذا يوم عرفة، ولم يكن هناك حج. (4) بفتح فسكون، جمع مسافر كرَكب وراكب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 يُقِيمُ بِمَكَّةَ عَشْرًا فيَقْصُرُ الصَّلاةَ (1) إلاَّ أَنْ يشهدَ (2) الصَّلاةَ مَعَ النَّاسِ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِمْ (3) . 198 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ سالمَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُسَافِرِ إِذَا كَانَ لا يَدْرِي مَتَى يَخْرُجُ (4) يَقُولُ: أَخْرُجُ الْيَومَ (5) ، بَلْ أَخْرُجُ غَداً، بَلِ السَّاعَةَ، فَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ لَيَالٍ كَثِيرَةٌ أَيَقْصُرُ (6) أم ما يصنع؟ قال: يقصر (7)   (1) لأنه لم ينوِ الإقامة. (2) أي: يحضر صلاة الجماعة مع المقيم. (3) أي: صلاة تامَّة. (4) أي: من بلد هو فيه. (5) أي: يقصد الخروج اليوم، فلا يتمّ له ويقصد الغد أو الساعة فلا يتيسّر له. (6) بهمزة الاستفهام. (7) قوله: يقصر وإن تمادى به ذلك شهراً، لأن من هو على عزم السفر لم يُجمع بالإقامة وإن وقعت له ذلك مدة، والاعتبار للأعمال بالنيات فيُباح له القصر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر عام الفتح إذا أقام على حرب هوازن مع أنه أقام سبعة عشر يوماً، كما أخرجه أبو داود وابن حبان، من حديث ابن عباس، أو تسعة عشر يوماً كما أخرجه أحمد والبخاريّ من حديثه، أو ثمانية عشر يوماً كما أخرجه أبو داود، والترمذي من حديث عمران، وأخرج البيهقي عنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدتُ معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشر يوماً، لا يصلي إلاركعتين، يقول: يا أهل البلد صلّوا أربعاً فإنّا قوم سفر، أو عشرين يوماً كما أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" من حديث ابن عباس، وقال البيهقي: أصح الروايات في ذلك رواية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 وَإِنْ تَمَادَى (1) بِهِ ذَلِكَ شَهْرًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: نَرَى قَصْرَ الصَّلاةِ إِذَا دَخَلَ المسافرُ مِصْراً (2) مِنَ الأَمْصَارِ وإنْ (3) عَزَمَ عَلَى المُقام إلاَّ أنْ يعزم على المقام خمسة عشرة يَوْمًا فَصَاعِدًا فَإِذَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الصَّلاةَ. 199 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَطَاءُ (4) الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ: قال   تسع عشرة يوماً، وجُمع بين الروايات السابقة باحتمال أن يكون في بعضها لم يُعَدّ يومي الدخول والخروج وهو رواية سبعة عشر، وعدّها في بعضها وهي رواية تسع عشرة، وعدّ يوم الدخول دون الخروج وهي رواية ثمانية عشرة. قال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي": هو جمع متين: وبقي رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين وهو صحيحة الأسناد إلاَّ أنها شاذة، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد. انتهى. وقد وردت بذلك آثار كثيرة، فأخرج عبد الرزاق أن ابن عمر أقام بآذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، ورُوي عن الحسن: كنا مع الحسن بن سمرة ببعض بلاد فارس سنتين، فكان لا يجمع ولا يزيد على ركعتين، ورٌوي أن أنس بن مالك أقام بالشام شهرين مع عبد الملك بن مروان يصلّي ركعتين، وفي الباب آثار أخر ذكرها الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية". (1) أي: استمر ذلك ولو إلى مدة كثيرة. (2) قوله: مصراً، وإن كان وطنه الأصلي إذا كان هجره، ولذا لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح وعام حجة الوداع قصر، فإن لم يهجر أتم بمجرد دخوله. (3) الواو وصليَّة. (4) قوله: أخبرنا عطاء الخراساني، هو عطاء بن أبي مسلم ميسرة وقيل: عبد الله الخراساني أبو عثمان مولى المهلب بن أبي صفرة على الأشهر، وقيل: مولى لهذيل، أصله من مدينة بَلْخ من خراسان، وسكن الشام، ولد سنة خمسين، وكان فاضلاً عالماً بالقرآن، عالماً، وثَّقه ابن معين، ومات سنة خمس وثلاثين ومائة، أدخله البخاري في الضعفاء لنقل القاسم بن عاصم ابن المسيب أنه كذبه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: مَنْ أَجْمَعَ (1) عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فلْيُتِمّ الصَّلاةَ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ حَتَّى يُجْمع عَلَى إِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ (3) وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.   وردَّه ابن عبد البر بأن مثل القاسم لا يجرح بروايته مثل عطاء أحد العلماء الفضلاء، كذا ذكره الزرقاني. (1) أي: عزم ونوى. (2) قال مالك: ذلك أحب مما سمعت إليَّ، وبه قال الشافعي وأبو ثور وداود وجماعة. (3) قوله: وهو قول ابن عمر ... إلخ، أما أثر ابن عمر فأخرجه المصنف، في كتاب "الآثار" (ص 39) ، عن أبي حنيفة، نا موسى بن مسلم، عم مجاهد عنه أنه قال: إذا كنتَ مسافراً فرطَّنت على نفسك على إقامة خمسة عشر يوماً فأتم الصلاة فإن كنت لا تدري فاقصر. وأخرجه ابن أبي شيبة، عن وكيع، نا عمر بن ذر، عن مجاهد أن ابن عمر كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يوماً أتم الصلاة. وأما أثر سعيد بن المسيب، فهر ما روى عن إبراهيم، عن داود عنه أنه قال: إذا أقام المسافر خمس عشرة أتم الصلاة، وما كان دون ذلك فليقصر ذكره العيني، وعارض به ما روي عنه من التحديد بأربعة أيام، وذكر صاحب الهداية أنه المأثور عن ابن عباس، قال الزيلعي والعيني: أخرجه الطحاوي عنه. وعن ابن عمر قال: إذا قدمتَ بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقوم خمسة عشر يوماً فأكمل الصلاة وإن كنت لا تدري فاقصرها. ومما يدل على فساد التحديد بأربعة أيام ما أخرجه الأئمة الستة، عن أنس قال: خرجنا من المدينة إلى مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي ركعتين حتى رجعنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 200 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ (1) كَانَ يُصَلِّي مَعَ الإِمَامِ (2) أَرْبَعًا (3) ، وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ إِذَا كَانَ الإِمَامُ مُقِيمًا وَالرَّجُلُ (5) مُسَافِرًا وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -. 58 - (باب الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاةِ فِي السَّفَرِ) 201 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ يَقْرَأُ في   إلى المدينة، قلت: كم أقمتم بها؟ قال: أقمنا بها عشراً، ولا يقال: لعلهم عَزموا على السفر في اليوم الأول أو في الثاني أو الثالث وهكذا واستمرَّ بهم ذلك عشراً، لأن الحديث إنما هو في حجة الوداع فتعيَّن أنهم نووا الإقامة أكثر من أربعة أيام لأجل قضاء النسك. (1) في نسخة: أنه إذا صلّى كان يصلّي مع الإمام بمنى يصلي أربعاً. (2) لوجوب متابعة الإمام وترك الخلاف له، وإن اعتقد المأموم أنَّ القصر أفضل، ولكنَّ فضيلةَ الجماعة آكد. (3) قوله: أربعاً (قال ابن عبد البر في "الاستذكار": اختلفوا في المسافر يصلّي وراء مقيم، فقال مالك وأصحابه: إذا لم يدرك معه ركعة تامة صلّى ركعتين، فإذا أدرك معه ركعة بسجدتيها صلّى أربعاً، وذكر الطحاوي أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمداً قالوا: يصلّي صلاة المقيم وإن أدركه في التشهد، وهو قول الثوري والشافعي: أوجز المسالك 3/112) ، هذا هو السنَّة المأثورة كما أخرجه أحمد، عن موسى بن سلمة، قال: كنا مع ابن عباس بمكة، فقلت: إنّا إذا كنا معكم صلّينا أربعاً، وإذا رجعنا صلَّينا ركعتين، فقال: تلك سنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. (4) لأنه مسافر. (5) أي: المقتدي به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 الصُّبْحِ بِالْعَشْرِ السُّوَرِ مِنْ أَوَّلِ المفصَّل (1) يردِّدهن (2) فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سُورَةً. قَالَ مُحَمَّدٌ: يَقْرَأُ (3) فِي الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} وَنَحْوِهِمَا (4) . 59 - (بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْمَطَرِ) 202 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عن ابن عمر: أن   (1) وهي من أول سورة الحجرات على الأشهر. (2) أي: يكرِّرها. (3) قوله: يقرأ ... إلى أخره، يشير إلى دفع ما يُتوهَّم من أثر ابن عمر أن السنَّة في السفر كالسنَّة في الحضر من قراءة طوال المفصَّل وهو من {الحُجُرَاتِ} إلى {والسَّمَاءِ ذَاتِ البُروجِ} وليس كذلك، فإن للسفر أثراً في التخفيف، فينتقل الوظيفه فيه من الطوال إلى الأوساط، وقد أخرج ابن أبي شيبة، عن سويد قال: خرجنا حجاجاً مع عمر فصلّى بنا الفجر ب {ألم تر كيف} و {لإيلاف} وعن ابن ميمون صلى بنا عمر الفجر في السفر، فقرأ: {قل يا أيها الكافرون} ، و {قل هو الله أحد} . وعن الأعمش، عن أبراهيم: كان أصحاب رسول الله يقرؤون في السفر بالسور القصار. (4) قوله: ونحوهما، بل إن قرأ أقصر من ذلك جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الصبح بالمعوذتين، أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وأحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا (1) عَجِلَ (2) بِهِ السَّيْر جَمَعَ (3) بَيْنَ المغرب والعشاء.   (1) قوله: إذا عجل به السير، أورد البخاري في الباب ثلاثة أحاديث: حديث ابن عمر وهو مقيد بما إذا جدَّ به السير، وحديث ابن عباس، وهو مقيَّد بما إذا كان سائراً، وحديث أنس وهو مطلق، واستعمل البخاري الترجمة المطلقة إشارة إلى العمل بالمطلق، فكأنه رأى جواز الجمع بالسفر سواء كان سائراً أم لا، كان سيره مجدّاً أم لا. وهذا مما وقع الاخلاف فيه، فقال بالإطلاق كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقاء الثوريّ والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقاً إلاَّ بعرفة والمزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، وأجابوا عما ورد من الأحاديث في ذلك بأن الذي وقع جَمْع صوري، وتعقَّبه الخطّابي وغيره بأن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيِّقاً، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة، وقيل: يختص الجمع بمن يجدُّ في السير، قاله الليث وهو القول المشهور عن مالك، وقيل: يختص بالسائر دون النازل، وهو قول ابن حبيب، وقيل: يختص بمن له عذر، حُكِي ذلك عن الأوزاعي، وقيل: يجوز جمع التأخير دون التقديم، وهو مروي عن مالك وأحمد، واختاره ابن حزم، كذا في "فتح الباري". (2) بفتح العين وكسر الجيم، أسرع وحضر، ونسبة الفعل إلى السير مجاز، تعلَّق به من اشترط في الجمع الجدّ في السير، وردّه ابن عبد البر بأنه إنما حكى الحال التي رأى ولم يقل لا يجمع إلا أن يجدّ به. (3) قوله: جمع بين المغرب والعشاء، جمع تأخير، ففي "الصحيح" من رواية الزهري، عن سالم عن أبيه: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينهما. وبيَّنه مسلم من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بعد أن يغيب الشفق. ولعبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، وموسى بن عقبة، عن نافع: فأخَّر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هوى من الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 203 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ (1) حِينَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي السَّفَرِ سَارَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ. 204 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ أَخْبَرَهُ (2) ، قَالَ: كَانَ رسولُ اللَّهِ يَجْمَعُ (3) بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي سَفَرٍ (4) إِلَى تَبُوكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَالْجَمْعُ (5) بَيْنَ الصلاتين أن تُؤخَّرَ   والبخاري في "الجهاد" من طريق أسلم عنه: حتى إذا كان بعد غروب الشفق نزل، فصلّى المغرب والعشاء. ولأبي داود، عن عبد الله بن دينار، عنه فسار حتى غاب الشفق وتصوَّبت النجوم. (1) قوله: إن ابن عمر حين جمع..إلخ، أخرج البخاري في باب السرعة في السير من كتاب الجهاد من رواية أسلم مولى عمر: كنت مع ابن عمر بطريق مكة فبلغه عن صفية بنت عبيد شدة وجَعٍ، فأسرع السير حتى إذا كان بعد غروب الشفق نزل، فصلّى المغرب والعتمة، فأفادت هذه الرواية تعيين السفر وقت انتهاء السير والجمع. (2) قوله: أخبره قال ... إلخ، قال ابن عبد البر: هكذا رواه أصحاب مالك مرسلاً إلاّ أبا مصعب في غير الموطأ ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن خالد ومطرفاً والحنيني وإسماعيل بن داود المخراقي، فإنهم قالوا: عن مالك، عن داود، عن الأعرج، عن أبي هريرة مسنداً. (3) جَمْعَ تقديم إنْ ارتحل بعد زوال الشمس، وجَمْعَ تأخير إن ارتحل قبل الزوال على ما روى أبو داود وغيره عن معاذ، (4) أي: في سفره في غزوة تبوك، وهو اسم موضع على وزن شكور، وهي آخر غزواته وقعت سنة تسع. (5) قوله: والجمع بين الصلاتين ... إلخ، هذا هو الجمع الصُّوري الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 الأُولى مِنْهُمَا، فتُصلَّى فِي آخِرِ وَقْتِهَا وتُعجَّل الثَّانِيَةُ فتُصلَّى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. وَقَدْ بَلَغَنا (1) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ أخَّر الصلاة قبل أن تغيب الشفق (2) ، خلاف ما روى مالك.   حمل عليه أصحابنا الأحاديث الواردة في الجمع، وقد بسط الطحاوي الكلام فيه في "شرح معاني الآثار" لكن لا أدري ماذا يُفعل بالروايات التي وردت صريحاً بأن الجمع كان بعد ذهاب الوقت، وهي مرويّة في صحيح البخاري وسنن أبي داود وصحيح مسلم وغيرها من الكتب المعتمدة على ما لا يخفى على من نظر فيها، فإن حُمل على أن الرواة لم يحصل التمييز لهم فظنوا قرب خروج الوقت خروج الوقت، فهذا أمر بعيد عن الصحابة الناصِّين على ذلك، وإن اختير ترك تلك الروايات بإبداء الخَلَل في الإسناد فهو أبعد وأبعد مع إخراج الأئمة لها، وشهادتهم بتصحيحها، وإ، عُورض بالأحاديث التي صرحت بأن الجمع كان بالتأخير إلى آخر الوقت والتقديم في أول الوقت، فهو أعجب، كان الجمع بينها بحملها على اختلاف الأحوال ممكن، بل هو الظاهر، وبالجملة فالأمر مشكل، فتأمل لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. (1) قوله: وقد بلغنا ... إلخ، لما ورد على تأويل الجمع الصُّوري بأنه وإن تيسَّر في حديث ابن عمر والأعرج بحسب الظاهر لكنه لا يتيسر في أثر ابن عمر. أجاب عنه، بأنه قد بلغنا أنه جمع قبل غروب الشفق، فيكون جمعه أيضاً جمعاً صورياً، ولقائل أن يقول: ما أخرجه مالك سنده أصح الأسانيد لا اشتباه في طريقه، فيجمع بينه وبين هذا البلاغ باختلاف الأحوال ولا يقدح ثبوت أحدهما في ثبوت الآخر. (2) قوله: قبل أن تغيب الشفق، أخرج الطحاوي، عن أسامة بن زيد، عن نافع أن ابن عمر جدّ به السير فراح روحة لم ينزل إلاّ للظهر والعصر، وأخَّر المغرب، حتى صرخ سالم: الصلاة، فصمت ابن عمر حتى إذا كان عند غيبوبة الشفق نزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 205 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَمَعَ الأُمَرَاءُ (1) بَيْنَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ (2) جَمَعَ مَعَهُمْ فِي الْمَطَرِ. قَالَ: لَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، لا نَجْمَعُ (3) بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي وقتٍ   فجمع بينهما، ففي هذا الحديث أن نزوله للمغرب كان قبل أن يغيب الشفق فاحتمل أن يكون قول نافع بعدما غاب الشفق إنما أراد به قُربه من غيبوبة الشفق لئلا يتضادّ ما روي في ذلك، ثم أخرج عن العطاف بن خالد، عن نافع: أقبلنا مع ابن عمر حتى إذا كان ببعض الطريق استصرخ على زوجته بنت عبيد فراح مسرعا حتى غابت الشمس فنودي بالصلاة فلم ينزل، حتى إذا كاد الشفق أن يغيب نزل فصلى المغرب وغاب الشفق فصلى العشاء، وقال: هكذا كنا نفعل مع رسول الله إذا جدّ بنا السير. (1) جمع أمير، قال القاري: وكانوا هم الأئمة في الصدر الأول. (2) قال القاري: أي حذراً من فوات الجماعة. (3) قوله: لا نجمع ... إلخ، استدل له أصحابنا منهم الطحاوي بأحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر حتى يدخل وقت صلاة الأخرى". أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي قتادة في قصة ليلة التعريس، ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم، عن ابن مسعود، قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةً لغير وقتها إلا بجَمع فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجَمع وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها - أي: قبل وقتها المعتاد - ومنها حديث: "من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر"، أخرجه الترمذي والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعاً. وفي طريقه حسين بن قيس الرحبي. قال أحمد: متروك الحديث. وقال ابن معين وأبو زرعة: ضعيف، وقال البخاري: أحاديثه منكرة جداً ولا يُكتب حديثه، وقال الدارقطني: متروك، وقال أحمد في ما نقله ابن الجوزي: كذاب، وفيه أقوال أخر بسطها ابن حجر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 واحدٍ إلاَّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ (1) بعرَفَةَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بمُزدلفة، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قال محمد: بَلَغَنا عن عمر بن الخطاب أَنَّهُ كَتَبَ فِي الآفَاقِ (2) يَنْهَاهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ، وَيُخْبِرُهُمْ أنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي وَقْتٍ واحدٍ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ. أَخْبَرَنَا بذلك الثقات (3) عن العلاء بن   "تهذيب التهذيب"، وقال: حديثُهُ من جمع بين صلاتين الحديث لا يُتابع عليه ولا يُعرف إلا به ولا أصل له وقد صحَّ عن ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع بين الظهر والعصر. انتهى. ومنها ما أخرجه الحاكم، عن أبي العالية، عن عمر قال: جَمعُ الصلاتين من غير عذر من الكبائر، قال: وأبو العالية لم يسمع عن عمر، ثم أسند عن أبي قتادة أن عمر كتب إلى عامل له: ثلاث من الكبائر الجمع بين الصلاتين إلاّ من عذر والفرار من الزحف ... الحديث، قال: وأبو قتادة أدرك عمر فإذا انضمَّ هذا إلى الأول صار قوياً. وأجاب المجوِّزون للجمع عن حديث ابن عباس وأثر عمر أنه على تقدير صحتهما لا يضرّنا، فإنهما يدلان على المنع من الجمع من غير عذر والعذر قد يكون بالسفر وقد يكون بالمطر وبغير ذلك ونحن نقول به إلاّ أن هذا لا يتمشّى في ما ذكره محمد ههنا من أثر عمر، فإنه ليس فيه التقييد بالعذر، وقالوا أيضاً: من عرَض له عذر يجوز له الجمع إذا أراد ذلك وأما إذا لم يكن له ذلك ولم يُرد الجمع بل ترك الصلاة عمداً إلى أن دخل وقت الأخرى فهو إثم بلا ريب وبه يجتمع الأخبار والآثار. والكلام في هذا المقام طويل ليس هذا موضعه، والقدر المحقق هو ثبوت الجمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة السفر ولعذر فليتدبَّر. (1) لورود جمع التقديم بعرفة وجمع التأخير بمزدلفة بالأحاديث الصحيحة. (2) أي: أطراف مملكته. (3) أي: الرواة العدول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 الْحَارِثِ (1) ، عَنْ مَكْحُولٍ (2) . 60 - (بَابُ الصَّلاةِ عَلَى الدَّابَةِ فِي السَّفَرِ) 206 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عبدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ (3) قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يصلِّي (4)   (1) قوله: عن العلاء، ابن العلاء بن الحارث بن عبد الوارث الحضرمي أبو وهب أو أبو محمد الدمشقي، روى عن مكحول والزهري وعمرو بن شعيب، وعنه الاَوزاعي وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وغيرهما. قال ابن معين وابن المديني وأبو داود: ثقة، وقال أبو حاتم: كان من خيار أصحاب مكحول، وقال دُحيم: كان مقدَّماً على أصحاب مكحول، ثقة مات سنة 136 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب". (2) قوله: عن مكحول، هو أبو عبد الله الهذلي الفقيه الدمشقي كثير الإرسال، عن عبادة وأبيّ وعائشة وكبار الصحابة، قال أبو حاتم: ما رأيتُ أفقه من مكحول وقد كثر الثناء عليه، وتوثيقة من النقّاد كما بسطه في "تهذيب التهذيب" و"تذكرة الحفاظ"، مات سنة 113 هـ، وقيل غير ذلك. (3) قال ابن عبد البر: كذا رواه جمعة رواة " الموطأ"، ورواه يحيى بن مسلمة بن قعنب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. قال: والصواب ما في "الموطأ". (4) قوله: يصلي على راحلته، قال الحافظ: قد أخذ بهذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلاَّ أن أحمد (وذكر الباجيُّ الشافعي مع أحمد بن حنبل في استقبال القبلة عن ابتداء التكبير، والظاهر أنه وهم لأن الحافظ أعلم بمذهبه، لم يذكر الاستحباب إلاَّ عن أحمد، وفي "الاستذكار": هذا الأمر مجمع عليه لاخلاف فيه بين العلماء كلهم أنهم يجيزون التطوع للمسافر على دابَّته حيث توجَّهت به للقبلة وغيرها، إلاّ أن منهم جماعة يستحبون أن يفتتح المصلي صلاته مستقبل القبلة، ثم لا يبالي حيث توجّهت به راحلته، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور. اهـ. وقال ابن عابدين من الحنفية: لا يُشترط استقبال القبلة في الابتداء، انظر أوجز المسالك 3/123) وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 عَلَى راحلتِهِ (1) فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا توجَّهتْ بِهِ، قَالَ (2) (3) : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَصْنَعُ ذَلِكَ. 207 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عمر (4) بن عبد   الصلاة، وقد أوجبه الشافعية حيث سهل. والحجّة لذلك حديث الجارود، عن أنس أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا أراد أن يتطوَّع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلّى حيث توجّهت ركابه، أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني. انتهى. وحكى ابن بطّال الإجماع على أنه لا يجوز أن تصلى المكتوبة على الدابَّة ما عدا ماذُكر في صلاة شدة الخوف، واعلم أن الجمهور ذهبوا إلى جواز التنفُّل على الدابّة في السفر الطويل والقصير أخذاً بإطلاق الأحاديث في ذلك، وخصّه مالك بالسفر الطويل، قال الطبري: لا أعلم أحداً وافقه على ذلك، قال الحافظ: ولم يتفق على ذلك عنه. وحجّته أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل عنه أنه سافر سفراً قصيراً فصنع ذلك، وقد ذهب أبو يوسف ومن وافقه في التوسعة في ذلك، فجوَّزه في الحضر أيضاً، وقال به من الشافعية الإصطخريُّ، كذا في "ضياء الساري بشرح صحيح البخاري". (1) ناقته التي تصلح لأن ترتحل. (2) أي: ابن دينار. (3) قوله: قال، عقّب الموقوف بالمرفوع مع أن الحجة قائمة بالمرفوع لبيان أن العمل استمرَّ على ذلك، كذا قال الزرقاني. (4) قوله: أبو بكر بن عمر، بضمّ العين عند جميع رواة "الموطأ" ومنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ سَعِيدًا (1) أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي سَفَرٍ، فَكُنْتُ أسيرُ مَعَهُ وأتحدَّث مَعَهُ، حَتَّى إِذَا خشيتُ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرَ تخلَّفت (2) ، فنزلتُ (3) فأوترتُ (4) ، ثُمَّ ركبتُ، فَلَحِقْتُهُ (5) ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ (6) ، نزلتُ فأوترتُ وخشيتُ (7) أَنْ أُصْبِحَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ (8) لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة (9)   يحيى على الصواب، وفتح العين وزيادة واو وَهَمٌ، قاله ابن عبد البر، وقال: هو أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، لم يُوقَف له على اسم، القُرشي العَدويّ المدني، من الثقات، ليس له في "الموطأ" ولا في الصحيحن سوى هذا الحديث الواحد، كذا في "شرح الزرقاني". (1) قوله: أن سعيداً، بفتح السين، ابن يسار بتحتية مخففة السين، التابعي الثقة المدني، مات سنة 117 هـ، وقيل: قبله بسنة، روى له الجماعة، كذا في "شرح الزرقني". (2) أي: بقيت خلفه وتركت معيَّته. (3) عن مركوبي. (4) أي: صلَّيت الوتر على الأرض. (5) أي: أدركته. (6) هو كنية لابن عمر. (7) أي: خفتُ طلوع الفجر فيفوت الوتر. (8) استفهام تحقيق. (9) بكسر الهمزة وضمها: قدوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 حَسَنَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى (1) وَاللَّهِ، قَالَ: فإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ (2) على البعير.   (1) فيه الحلف على الأمر الذي يُراد تأكيده. (2) قوله كان يوتر على البعير (زاد في النسخة المطبوعة، لموطأ الإمام مالك برواية محمد - بتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف - حديث: أخبرنا مالك، أخبرني عمرو بن يحيى، عن سعيد بن يسار، عن عبد الله بن عمر: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجِّه إلى خيبر. قلت: قال الدارقطني وغيره: هذا غلط من عمرو بن يحيى المازني، إنما المعروف في صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أو على البعير، انظر صحيح مسلم 2/352) ، استدل به الشافعي ومالك وأبو يوسف وغيرهم على أن الوتر سنة، وليس بواجب وإلا لم يجز على الدابة من غير عذر، واحتجّوا لأبي حنيفة في وجوب الوتر بأحاديث، منها حديث: "إن الله زادكم صلاةً ألا وهي الوتر"، أخرجه الترمذي وأبو داود والطبراني وأحمد والدارقطني وابن عديّ من حديث خارجة بن زيد، وإسحاق بن راهويه والطبراني من حديث عمرو بن العاص، والطبراني من حديث ابن عباس، والحاكم من حديث أبي بصرة الغفاري، والدارقطني في "غرائب مالك"، من حديث ابن عمر، والطبراني في "مسند الشاميين"، من حديث أبي سعيد الخدري بطرق يتقوّى بعضها ببعض عل ما بسطه الزيلعي وغيره، قالوا: من المعلوم أن المزيد يكون من جنس المزيد عليه، فيكون الوتر كالمكتوبة التي فرضها الله تعالى، لكن لما كان ثبوته بأخبار آحاد قلنا بوجوبه دون افتراضه، ومنها ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي أيوب مرفوعاً: "الوتر حق واجب على كل مسلم، فمن أحبّ أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليوتر". ورواه أيضاً أحمد وابن حبان والحاكم وقال: على شرطهما، ومنها ما أخرجه أبو داود والحاكم وصححه مرفوعاً: "الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا"، ومنها حديث: "أوتروا قبل أن تصبحوا"، أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد، ومنها ما أخرجه عبد الله بن أحمد، عن أبيه بسنده أنَّ معاذ بن جبل قدم الشام، فوجد أهل الشام لا يوترون، فقال لمعاوية: ما لي أرى أهل الشام لا يوترون؟ فقال معاوية: وواجب ذلك عليهم؟ فقال: نعم، سمعت رسول الله يقول: زادني ربي صلاة وهي الوتر، ووقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 208 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، (1) قَالَ: رأيت أنس ابن مَالِكٍ فِي سَفَرٍ يُصَلِّي (2) عَلَى حِمَارِهِ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ إِيمَاءً بِرَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضَعَ وَجْهَهُ عَلَى شَيْءٍ (3) . 209 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يصلِّ (4) مَعَ صلاة الفريضة   (1) الأنصاري. (2) التطوع. (3) زاد البخاري ومسلم، عن ابن سيرين، عن أنس: لولا أنّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعله لم أفعله. (4) قوله: لم يصلِّي ... إلخ، اتفق العلماء على جواز النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة، فتركها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور، ودليلهم الأحاديث العامة المطلقة في ندب الرواتب، وحديث صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى يوم فتح مكة، وركعتي الصبح حين ناموا حتى طلعت الشمس وأحاديث أخر صحيحة ذكرها أصحاب السنن، والقياس على النوافل المطلقة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر، فإن النافل في البيت أفضل، أو لعله تركها في بعض الأوقات تنبيهاً على جواز تركها. وأما ما يحتج به القائلون بتركها من أنها لو شرِّعت لكان إتمام الفريضة أولى، فجوابه أنَّ الفريضة متحتمة، فلو شرِّعت تامة لتحتَّم إتمامها، وأما النافلة فهي خيَرة المكلَّف، فالرِّفق به أن تكون مشروعة، ويتخيَّر: إن شاء فعلها وحصل ثوابها، وإن شاء تركها ولاشيء عليه، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي (انظر المغني 2/141، وعمدة القاري 3/ 560، وفتح الباري 2/141) - رحمه الله تعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 في السفر التَّطوعَ (1) قبلها (2) ولا بعدها إلامن جَوْفِ اللَّيْلِ (3) فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي نَازِلا عَلَى   (1) أي: النوافل السنن وغيرها. (2) قوله قبلها ولا بعدها، وفي "صحيح مسلم"، عن حفص بن عاصم: صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلّى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلسنا معه، فكانت منه التفاتة فرأى ناسً قياماً، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبِّحون، قال: لو كنت مسبِّحاً لأتممت صلاتي، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان كذلك، ثم قرأ (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةُ) (سورة الممتحنة: رقم الآية 6) . وأخرج البخاري عنه المرفوع فقط، وجاءت آثار عنه صلى الله عليه وسلم، أنه كان ربما كان تنفَّل في السفر قال البراء: سافرت مع رسول الله ثمان عشرة سفرة، فما رأيته يترك الركعتين قبل الظهر. رواه أبو داود والترمزي، والمشهور عن جميع السلف جوازه (قال النووي: اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة فتركها ابن عمر وآخرون واستحبهما الشافعي والجمهور، انتهى. والمختار عند الحنفية أن يأتي المسافر بالسنن إن كان في حال أمن واستقرار وإلا إن كان في خوف وقرار، أي: سير لا يأتي به، انظر أوجز المسالك 3/115) ، وبه قال الإئمة الإربعة، كذا قال الزرقاني. (3) قوله: الإ من جوف الليل، اختلفوا في النافلة في السفر على ثلاثة أقوال، أحدها: المنع مطلقاً، والثاني: الجواز مطلقاً، والثالث الفرق بين الرواتب فلا تصلّى، وبين النوافل المطلقة فتؤدَّى، وهو مذهب ابن عمر، كذا ذكره النوويّ وغيره، وذكر الحافظ ابن حجر قولاً رابعاً: وهو الفرق بين الليل والنهار، وعليه يدل ظاهر هذا الأثر الذي أخرجه محمد، وقولاً خامساً: وهو ترك الرواتب التي قبل المكتوبة وأداء ما بعدها وغيرها من النوافل المطلقة كالتهجُّد والضحى وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 الأَرْضِ (1) ، وَعَلَى بَعِيرِهِ أَيْنَمَا توجَّه بِهِ. قَالَ محمد: لابأس أَنْ يصلِّي الْمُسَافِرُ عَلَى دَابَّتِهِ تَطَوُّعًا إِيمَاءً حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ (2) ، يَجْعَلُ السُّجُودَ (3) أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَأَمَّا الْوِتْرُ وَالْمَكْتُوبَةُ فَإِنَّهُمَا تصلَّيان (4) عَلَى الأَرْضِ وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الآثَارُ. 210 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حُصَيْنٍ (5) قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يصلِّي التطُّوع عَلَى رَاحِلَتِهِ أينما توجَّهت (6) به فإذا كانت (7)   (1) حيث كان يعِّرس (2) قوله: حيث كان وجهه، لقوله تعالى: (أينما تولُّوا فثَّم وجه الله) (سورة البقرة: رقم الإية 115) . قال ابن عمر: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي على راحلته تطوعاً أينما توجَّهت به، ثم قرأ ابن عمر هذة الإية، وقال: في هذا أنزلت، أخرجه مسلم وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد والترمزي والنسائي وابن جرير وابن المنذر والنحاس في ناسخه والطبراني والبيهقي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وصححه عنه قال: أنزلت (أينما تولُّوا فثَّم وجه الله) ، أن تصلي أينما توجَّهت بك (في الإصل: "به"، وهو خطأ. انظر مستدرك الحاكم 2/266) راحلتك في التطوع. (3) أي: إيماءه. (4) بصيغة المجهول. (5) بالتصغير. (6) أي: إلى أي جهة توجهت به. (7) قوله: فإذا كانت الفريضة أو الوتر.. إلخ، قد اختلف عن ابن عمر، فحكى مجاهد وحصين وغيرهما كما أخرجه المصنف أنه كان ينزل للوتر، وكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 الْفَرِيضَةِ أَوِ الْوِتْرِ نَزَلَ (1) فصلَّى. 211 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أخبرنا عمر (2) بن ذر الهمداني، عن   حكاه سعيد بن جبير، أخرجه أحمد بإسناد صحيح. وحكى سعيد بن يسار أنه زجره عن نزوله على الأرض كما أخرجه مالك. فأخذ أصحابنا بالآثار الواردة في نزوله للوتر وشيدوه بالأحاديث المرفوعة في نزوله صلى الله عليه وسلم للوتر، وقال المجوِّزون لأدائه على الدابة: إنه لا تعارض ههنا إذ يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين، فأحيانا أدّى الوتر على الدابة، وأحيانا على الإرض، فاقتدى بن ابن عمر، فتارة فعل كما رواه مجاهد وحصين، وتارة بخلافه. ويؤيده ما أخرجه الطحاوي في"شرح معاني الإثار" عن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن نافع قال: كان ابن عمر يوتر على الراحلة، وربما نزل، فأوتر على الأرض، وذكر الطحاوي بعد ما أخرج آثار الطرفين: الوجه في ذلك عندنا أنه قد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على الراحلة قبل أن يحكم بالوتر ويغلظ أمره ثم أحكم بعد ولم يرخص في تركه. ثم أخرج حديث: "إن الله أمركم بصلاة هي خير من حمر النعم، ما بين صلاة العشاء إلى الفجر الوتر، الوتر"، من حديث خارجة وأبي بصرة، ثم قال: فيجوز أن يكون ما روى ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وتره على الراحلة كان منه قبل تأكيده إيّاه، ثم نسخ ذلك ("شرح معاني الآثار" باب الوتر على الراحلة 1/249، وأجاب ابن الهمام عن حديث الباب بأنه واقعة حال لا عموم لها، فيجوز كون ذلك لعذر، والإتفاق على أن الفرض يصلّى على الدابة لعذر الطين والمطر ونحوه. شرح فتح القدير 1/371) . انتهى. وفيه نظر لا يخفى إذ لا سبيل إلى إثبات النسخ بالإحتمال ما لم يعلم ذلك بنص وارد في ذلك. (1) على الأرض. (2) قوله: عمر، بضم العين، ابن ذرّ بفتح الذال المعجمة ونشديد الراء المهملة، كذا ضبطه الفتَّني في"المغني" لا بكسر الذال المعجمة كما ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 مُجَاهِدٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لا يَزِيدُ عَلَى الْمَكْتُوبَةِ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ، لا يصلِّي قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا، وَيُحْيِي (1) اللَّيْلَ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ أَيْنَمَا كَانَ وَجْهُهُ، وَيَنْزِلُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ (2) فَيُوتِرُ بِالأَرْضِ، فَإِذَا أَقَامَ لَيْلَةً فِي مَنْزِلٍ أَحْيَى اللَّيْلَ (3) . 212 - قَالَ مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن أبان (4) بن صالح، عن حماد (5) ، بن أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَحِبْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يصلِّي الصَّلاةَ كُلَّهَا عَلَى بَعِيرِهِ نَحْوَ   القاري، ابن عبد الله بن زُرارة بضم الزاء المعجمة، الهَمداني نسبة إلى همدان - بالفتح - قبيلة نزلت بالكوفة، قال السمعاني: من أهل الكوفة، يروي عن عطاء ومجاهد، روى عنه وكيع وأهل العراق، مات سنة 150 هـ، قال ابن حبان: كان مرجئاً. انتهى. وفي"التقريب": عمر بن ذر بن عبد الله بن زرارة الهمداني بالسكون المرهبي الكوفي، أبو ذر ثقة، رمي بالإرجاء. (1) إحياء الليل: السهر فيه. (2) لئلا يذهب وقت الوتر فيفوت. (3) قوله: أحيى الليل، ظاهر هذا الأثر أنه كان لا ينام الليل، بل يحيي كله بالصلاة أو التلاوة أو الذكر أو غير ذلك، وهو أمر مشهور عنه من طرق أخر أخرجها أبو نعيم في "حلية الأولياء" وغيره. وفيه رد على زعم أن إحياء الليل كلِّه بدعة لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حققت الأمر في هذا البحث في رسالتي "إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة". (4) بفتح الألف والباء. (5) في أربع نسخ: عن حماد، عن أبي سليمان، وهو غلظ، والصحيح حماد بن أبي سليمان كما في كثير من النسخ الصحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 الْمَدِينَةَ (1) وَيُومِئُ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً، وَيَجْعَلُ (2) السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ إِلا الْمَكْتُوبَةَ وَالْوِتْرِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ (3) لَهُمَا، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ (4) حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وَيَجْعَلُ (5) السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ. 213 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بن عيّاش (6) ، حدثني   (1) فوجهه كان على جهة مقابلة للكعبة. (2) ليحصل (في الأصل: "يحصل") التمييز بينهما. (3) إلى الأرض (4) أي: يصلِّي على الدابة سوى المكتوبة والوتر. (5) قوله: يجعل السجود أخفض ... إلخ، هذا المرفوع يردّ على ابن دقيق العيد في قوله: الحديث يدل على الإيماء مطلقاً في الركوع والسجود معاً والفقهاء قالوا: يكون السجود أخفض من الركوع ليكون البدل على وفق الأصل، وليس في لفظ الحديث ما يثبته ولا ينفيه (انظر فتح الباري 2/574) . انتهى. نقله الحافظ عن ابن حجر تحت ما أخرجه البخاري، عن عبد الله بن دينار قال: كان عبد الله بن عمر يصلِّي في السفر على راحلته أينما توجهت به يومئ. فظاهر قوله: والفقهاء إلى آخره يدل على أنه لم يجد نصاً في ذلك مرفوعاً، ونص آخر وهو ما أخرجه الترمزي (في باب الصلاة على الدابة حيثما توجَّهت 1/182) ، عن جابر، وقال: حسن صحيح، بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فجئت وهو يصلِّي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع. (6) بتشديد الياء التحتية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ (1) أَنَّهُ كَانَ يصلِّي عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ وَلا يَضَعُ (2) جَبْهَتَهُ، وَلَكِنْ يُشِيرُ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِرَأْسِهِ، فَإِذَا نَزَلَ أَوْتَرَ. 214 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ (3) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ (4) الضَّبِّي، عَنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخعي: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يصلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ تَطَوُّعًا، يُومِئُ إِيمَاءً وَيَقَرْأُ (5) السَّجْدَةَ فَيُومِئُ، وَيَنْزِلُ لِلْمَكْتُوبَةِ وَالْوِتْرِ. 215 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ (6) بْنُ غَزْوَانَ، عَنْ نافع، عن   (1) هو عروة بن الزبير بن العوام. (2) أي: على الراحلة. (3) قوله: خالد، الظاهر أنه خالد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يزيد الطحان أبو الهيثم الواسطي، روى عن اسماعيل بن أبي خالد وحميد الطويل وسليمان التيمي وأبي اسحاق الشيباني وغيرهم، وعنه وكيع وابن مهدي ويحيى القطان وغيرهم وثقه ابن سعد وأبو زرعة والنسائي وأبو حاتم والترمزي، مات سنة 179 هـ، كذا في "تهذيب الكمال" للمزِّي. (4) قوله: المغيرة، هو المغيرة بضم الميم وكسر الغين ابن مقسم - بكسر الميم - الضَّبِّي بفتح الضاد المعجمة وتشديد الباء نسبته إلى ضبَّة قبيلة، مولاهم أبي هشام الكوفي الأعمى، ثقة متقن إلا أنه كان يدلِّس، روى عن النخعي والشعبي وأبي وائل، وعنه جرير وشعبة وزائدة وغيرهم، مات سنة 136 هـ على الصحيح، كذا في "الكاشف" و"التقريب". (5) أي: يقرأ آية السجدة في الصلاة، فيومئ بسجدة التلاوة. (6) قوله: أخبرنا الفضل بن غزوان، هكذا وجدنا في عدة نسخ صحيحة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ به راحلته صلّى والتطوع، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ نَزَلَ (1) فَأَوْتَرَ. 61 - (بَابُ الرَّجُلِ يصلِّي فَيَذْكُرُ أنَّ عَلَيْهِ صَلاةً فَائِتَةً) 216 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر أنه كان (2)   والذي في "تهذيب التهذيب" و"التقريب" و"الكاشف" الفضيل مصغَّراً ابن غزوان - بفتح الغين المعجمة وسكون الزاء المعجمة - ابن جرير الضَّبِّي مولاهم أبو الفضل الكوفي، روى عن سالم ونافع وعكرمة وغيرهم، وعنه ابنه محمد والثوري وابن المبارك ووكيع وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات" ووثَّقه أحمد وابن معين ويعقوب بن سفيان وغيرهم، قتل بعد سنة 140 هـ. (1) أي: من دابَّته. (2) قوله: أنه كان يقول ... إلخ، قال الزيلعي في "نصب الراية": أخرج الدارقطني والبيهقي في سننهما، عن إسماعيل بن إبراهيم الترجماني، عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فسلَّم من صلاته، فإذا فرغ من صلاته فليعد التي نسي، ثم ليعد التي صلَّى مع الإمام". قال الدارقطني: رفعه الترجماني ووهم في رفعه، وزاد في كتاب "العلل": والصحيح من قول ابن عمر هكذا رواه عبيد الله ومالك، عن ابن عمر. انتهى. وقال البيهقي: قد اسنده أبو إبراهيم الترجماني. وروى يحيى ابن أيوب، عن سعيد بن عبد الرحمن، فوقفه، وهو الصحيح. أما حديث مالك فهو في "الموطّأ"، وأما حديث يحيى بن أيوب، فهو في "سنن الدارقطني"، عنه، نا سعيد بن عبد الرحمن موقوفاً، ورواه النسائي عن الترجماني مرفوعاً، وقال: رفعه غير محفوظ، وأخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت يحيى بن معين، عن الترجماني. فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 يَقُولُ: مَنْ نَسِيَ صَلاةً مِنْ صَلاتِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ (1) إِلا وَهُوَ مَعَ الإِمَامِ فَإِذَا سلَّم الإمام فليصلِّ (2) صلاته التي نسي،   لا بأس به. انتهى. وكذا قال أبو داود وأحمد: ليس به بأس، ونقل ابن أبي حاتم في "علله"، عن أبي زرعة أنه قال: رفعه خطأ، والصحيح وقفه، وقال عبد الحق: في "أحكامه": رفعه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وقد وثقه النسائي وابن معين (انظر"تهذيب التهذيب" 11/188) : وذكر شيخنا الذهبي في "ميزانه"، عن جماعة توثيقه، وقال ابن عدي في "الكامل": لا أعلم عن عبيد الله رفعه غير سعيد بن عبد الرحمن، وقد وثقه ابن معين، وأرجو أن تكون أحاديثه مستقيمة، لكنه يهم، فيرفع موقوفاُ ويرسل مسنداً، لاعن تعمد. انتهى. فقد اضطرب كلامهم (قلت: لا يعتد بهذا الكلام) فيه، فمنهم من ينسب الوهم في رفعه لسعيد ومنهم من ينسبه للترجماني الراوي عن سعيد. وروى أحمد في "مسنده" والطبراني في "معجمه" من طريق ابن لهيعة، عن حبيب وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى المغرب ونسي العصر، فقال لأصحابه: هل رأيتموني صليت العصر؟ قالوا: لا يا رسول الله ما صلَّيتها. فأمر المؤذِّن، فأذن، ثم أقام، فصلّى العصر، ونقض الأولى ثم صلَّى المغرب. وأعلَّه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في"الإمام" بابن لهيعة فقط، واستدل على وجوب الترتيب في الفائتة بحديث جابر أن عمر بن الخطاب يوم الخندق جعل يسبّ كفار قريش، وقال: يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله: فوالله ما صلَّيتها: فنزلنا إلى بطحان فتوضأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتوضأنا، فصلّى العصر بعد ما غربت الشمس، وصلّى بعدها المغرب، أخرجه البخاري ومسلم. (1) أي: فلا يقطع، فحذف جواب الشرط. (2) وبه قال الأئمة الثلاثة، فقال الشافعي: يَعتدُّ بصلاته مع الإمام ويقضي الذي ذَكَر، كذا ذكره الزرقاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 ثُمَّ ليصلِّ بَعْدَهَا الصَّلاةَ (1) الأُخْرَى. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (2) إِلا فِي خِصْلَةٍ وَاحِدَةٍ: إِذَا ذكرها وهو   (1) التي صلَّاها مع الإمام. (2) قوله: وبهذا نأخذ، وهو قول النخعي والزهري وربيعة ويحيى الأنصاري والليث، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، ومالك، وأحمد واسحاق وهو قول عبد الله بن عمر. وقال طاووس: الترتيب غير واجب. وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن القاسم وسحنون، وهو مذهب الظاهرية. ومذهب مالك وجوب الترتيب، لكن لا يسقط بالنسيان ولا بضيق الوقت ولا بكثرة الفوائت. كذا في "شرح الإرشاد"، وفي "شرح المجمع الصحيح": المعتمد عليه من مذهب مالك (قال ابن العربي: قال الإمام مالك وأبو حنيفة: ومعنى قول أحمد واسحاق أن الترتيب فيهما واجب مع الذكر ساقط مع النسيان ما لم يتكرر فيكثر، وقال الشافعي وأبو ثور: لا ترتيب فيها فإن ذكرها وهو في صلاة حاضرة فلا يخلو أن يكون وحده أو وراء إمام، فإن كان وحده بطلت وصلَّى الفائتة، وأعاد التي كان فيها، وإن كان وراء إمام أتمَّ معه ثم صلَّى التي نسي، ثم أعاد التي صلَّى مع الإمام، هذا هو مذهبنا وبه قال أبو حنيفة وأحمد واسحاق، وقال الشافعي: التي نسي خاصة. 1 هـ. قلت: الترتيب واجب عند الإمام أحمد كما قاله ابن قدامة في المغني 1/645، ولا يسقط عنده بالكثرة أيضاً خلافاً للحنفية والمالكية إذ قالوا بسقوطه بالكثرة. هامش الكوكب الدري 1/208) سقوط الترتيب بالنسيان، كما نطقت به كتب مذهبه. وعند أحمد لو تذكر الثانية في الوقتيّة يتمُّها، ثم يصلِّي الفائتة ثم يعيد الوقتيّة، وذكر بعض أصحابه أنها تكون نافلة، وهذا يفيد وجوب الترتيب. واستدل صاحب"الهداية" وغيره لمذهبنا بما رواه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاة فلم يدركها إلاَّ وهو مع الإمام فليتم صلاته، فإذا فرغ فليعد الذي نسي، ثم ليعد التي صلاها مع الإمام". واستدل من يرى وجوب الترتيب ايضاً بقوله عليه السلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 فِي صَلاةٍ فِي آخِرِ وَقْتِهَا يَخَافُ إِنْ بَدَأَ بِالأُولَى (1) أَنْ يَخْرُجَ وَقْتُ هَذِهِ الثَّانِيَةِ (2) قَبْلَ أَنْ يصلِّيها، فَلْيَبْدَأْ (3) بِهَذِهِ الثَّانِيَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يصلِّي الأُولَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. 62 - (بَابُ الرَّجل يصلِّي (4) الْمَكْتُوبَةَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يُدْرِكُ الصَّلاةَ (5)) 217 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ (6) بْنُ أسلم، عن رجل من بني   "لا صلاة لمن عليه صلاة" قال أبو بكر: هو باطل. وتأوَّله جماعة على معنى لا نافلة لمن عليه فريضة، وقال ابن الجوزي: هذا نسمعه على ألسنة الناس وما عرفنا له أصلاً، كذا في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعيني - رحمه الله - ولابن الهمام في "فتح القدير" في هذا البحث تحقيقات نفيسة ملخصها ترجيح قول الشافعي، وكون ما ذهب إليه أصحابنا وغيرهم من اشتراط أداء القضاء قبل الأداء لصحة الأداء عند سعة الوقت والتذكُّر مستلزماً لإثبات شرط المقطوع به بظنّيٍ المستلزم للزيادة بخبر الواحد على القاطع وهو خلاف ما تقرر في أصولهم. وقال ابن نجيم المصري صاحب "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" وغيره في كتابه "فتح الغفَّار بشرح المنار": قول أصحابنا بأن الترتيب واجب يفوت الجواز بفوته مشكل جداً، ولا دليل عليه وتمامه في "فتح القدير". (1) أي: بالفائتة. (2) أي: الوقتية. (3) لأن من ابتلي ببليتين يختار أهونهما. (4) أي: منفرداً (في نسخة مفرداً) . (5) أي: في الجماعة. (6) العدوي مولاهم المدني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 الدِّيل (1) يُقَالُ لَهُ بُسْرُ (2) بْنُ مِحْجَنٍ، عَنْ أَبِيهِ (3) (4) : أَنَّهُ (5) كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأذِّن (6) بِالصَّلاةِ، فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي،   (1) قوله: الدِّيل، بكسر الدال وسكون الياء عند الكسائي وأبي عبيد ومحمد بن حبيب وغيرهم، وقال الأصمعي وسيبويه والأخفش وغيرهم: الدُّئل بضم الدال وكسر الهمزة وهو ابن بكر بن عبد مناف بن كنان، كذا قال الزرقاني. (2) تابعي صدوق كذا في "التقريب". (3) قوله: عن أبيه، محجن الدِّيلي، من بني الدئل بن بكر بن عبد مناف، معدود في أهل المدينة، روى عنه ابنه بسر بن محجن، ويقال: بشر بن محجن. وقال أبو نعيم: الصواب بسر. وذكر الطحاوي عن أبي داود البرنسي، عن أحمد بن صالح المصري قال: سألت جماعة من ولده من رهطه، فما اختلف عليَّ منهم اثنان أنه بشر (في بعض النسخ: "بسر"، وهو تحريف. انظر تهذيب التهذيب 1/489) ، كما قال الثوري، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو"، والصواب: "أبو عمر") : مالك يقول بسر، والثوري يقول بشر والأكثر على ما قال مالك، كذا في "الاستيعاب في أحوال الأصحاب" (انظر أيضاً أوجز المسالك 3/20) لابن عبد البر. (4) محجن بن أبي محجن الديلي، صحابي قليل الحديث، قاله الزرقاني، وضبطه القاري بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الجيم. (5) قوله: أنه كان ... إلخ، هذا الحديث أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والنسائي وابن خزيمة والحاكم كلهم من رواية مالك، عن زيد به، وأخرج الطبراني عن عبد الله بن سرجس مرفوعاً: "إذا صلّى أحد في بيته ثم دخل المسجد والقوم يصلّون فليصل معهم وتكون له نافلة". (6) أي: أقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 وَالرَّجُلُ (1) فِي مَجْلِسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تصلِّي مَعَ النَّاسِ (2) ؟ أَلَسْتَ (3) رَجُلا مُسْلِمًا؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي قَدْ كُنْتُ (4) صلَّيت فِي أَهْلِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا جِئْتَ (5) فصلِّ مَعَ النَّاسِ وَإِنْ (6) كُنْتَ قَدْ صلَّيت. 218 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ (7) نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عمر (8) كان يقول:   (1) قوله: والرجل في مجلسه، هذا الرجل هو محجن نفسه، قد أبهم نفسه لما أخرجه الطحاوي من طريق ابن جريج، عن زيد بن أسلم، عن بشر بن محجن، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه وقد أقيمت الصلاة، قال: فجلست ولم أقم للصلاة فلمّا قضى صلاته، قال لي: ألست مسلماً؟ قلت: بلى، قال: ما منعك أن تصلِّي معنا؟ فقلت: قد كنت صليت مع أهلي، فقال: صلِّ مع الناس وإن كنت قد صليت مع أهلك. وأخرج من طريق سليمان بن بلال، عن زيد، عن ابن محجن، عن أبيه قال: صليت في بيتي الظهر والعصر وخرجت إلى المسجد ودخلت ورسول الله جالس وحوله أصحابه ثم أقيمت الصلاة (أخرجه النسائي في كتاب الإمامة، 53 باب إعادة الصلاة مع الجماعة. وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/244) . (2) الذين صلوا معي. (3) قال الباجي: يحتمل الاستفهام، ويحتمل التوبيخ، وهو الأظهر. (4) فيه أنَّ من قال: صلَّيت يوكل إلى قوله لقبوله عليه السلام منه قوله صليت، قاله ابن عبد البر. (5) إلى المسجد. (6) وصلية. (7) في نسخة: أخبرنا. (8) قوله: أن ابن عمر كان يقول ... إلخ، عن ابن عمرقال: "إن كنت قد صَّليت في أهلك ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام فصلِّ معه غير صلاة الصبح والمغرب، فإنهما لا يصليان مرتين، رواه عبد الرزاق، والعصر في حكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 من صلّى صلاة المغرب أوالصبح، ثُمَّ أَدْرَكَهُمَا فَلا (1) (2) يُعِيدُ لَهُمَا غَيْرَ مَا قد صلاهما.   الصبح. وعن علي قال: إذا أعاد المغرب شفع بركعة. رواه ابن أبي شيبة، وهو محمول على فرض وقوعه، فإنه أولى من الإقتصار على الثلاث. وعن ابن عمر: أنه سئل عن الرجل يصلي الظهر في بيته. ثم يأتي المسجد والناس يصلون فيصلي معهم، فأيَّتهما صلاته؟ قال: الأولى منها صلاته. وعن علي في الذي يصلي وحده ثم يصلي في الجماعة؟ قال صلاته الأولى رواه ابن أبي شيبة. وأما ما في سنن أبي داود والنسائي، عن سليمان بن يسار قال: أتيت ابن عمر على البلاط، وهم يصلون، قلت ألا تصلي معهم؟ قال: قد صلَّيت، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين"، فمحمول على أنه قد صلى تلك الصلاة جماعة، لمَّا روى في "الموطأ" عن نافع أنَّ رجلاً سأل ابن عمر عن الذي يصلِّي في بيته ثم يدرك الصلاة مع الجماعة أيَّتهما يجعل صلاته؟ فقال: ليس ذلك إليك، إنما ذلك إلى الله، يجعل أيتهما شاء. وقال مالك: هذا من ابن عمر دليل على أنه إنما أراد إذا أدَّى كلتيهما على وجه الفرض أو اذا صلَّى في جماعةٍ فلا يعيد. قال إبن الهمام: فيه نفي لقول الشافعية بإباحة الإعادة مطلقاً وإن صلَّاها في جماعة. والله أعلم. كذا في "سند الأنام في شرح مسند الإمام"، لعلي القاري. (1) قوله: فلا يعيد لهما، إلى هذا ذهب الأوزاعي والحسن والثوري ولا يرد النهي عن الصلاة بعد العصر لأنَّ ابن عمر كان يحمله على أنه بعد الإصفرار، وذهب أبو موسى والنعمان بن مقرَّن وطائفة إلى ما قال مالك: لا أرى بأساً أن يصلي مع الإمام من كان قد صلَّى في بيته إلاَّ صلاة المغرب، فإنه إذا أعادها كانت شفعاً فينافي أنه وتر صلاة النهار، وقال الشافعي والمغيرة: تعاد الصلوات كلها بعموم حديث محجن، وقال أبو حنيفة لا يعيد الصبح ولا العصر ولا المغرب، كذا في"شرح الزرقاني" (2) للنهي عن الصلاة بعد الصبح، ولأن النافلة لا تكون (في الأصل: "لا يكون" وهو التحريف) وتراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 219 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَفِيفُ (1) بْنُ عَمْرِو (2) السَّهْمِيُّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَنَّهُ سَأَلَ (3) أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ، فَقَالَ: إِنِّي أُصَلِّي ثُمَّ آتِي الْمَسْجِدَ فَأَجِدُ الإِمَامَ يُصَلِّي (4) ، أَفَأُصَلِّي مَعَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، صلِّ (5) مَعَهُ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَهُ (6) مِثْلُ سَهْمِ جَمْعٍ أَوْ (7) سَهْمُ جَمْعٍ.   (1) مقبول في الرواية، كذا ذكره في "التقريب". (2) بفتح العين. (3) قوله: أنه سأل أبا أيوب، اسمه خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبه بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، شهد بدراً وأحداً والخندق وسائر المشاهد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوفي بالقُسطَنطِينية من أرض الروم سنة 50 هـ، قيل: سنة 51 هـ في إمارة معاوية، كذا في "الاستيعاب". (4) أي: تلك الصلاة. (5) هذا الحديث موقوف، له حكم الرفع وقد صرَّح برفعه بكير، عن عفيف، رواه أبو داود. (6) قوله: فله مثل سهم جمع، قال الباجي: قال ابن وهب: معناه له سهمان من الأجر، وقال الأخفش الجمع: الجيش، قال الله تعالى: (سيهزم الجمع) ، قال: وسهم الجمع هو السهم من الغنيمة. قال الباجي: ويحتمل عندي أن ثوابه مثل سهم الجماعة من الأجر، ويحتمل أن يريد به مثل سهم من يبيت بمزدلفة في الحج، لأن جمعاً اسم مزدلفة، حكاه سحنون عن مطرف ولم يعجبه، كذا في "التنوير". (7) شك في الراوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 قال محمد: وبهذا (1) نأحذ. ونأخذ بقول (2) ابن عمر أيضاً أن   (1) قوله: وبهذا كلِّه نأخذ، أي: إذا صلَّى الرجل في أهله ثم دخل المسجد فليصلِّ به معهم فيكون له نافلة، لما مر من الأخبار، ولما أخرجه مسلم، عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة؟ قلت: فما تأمرني؟ قال: صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلِّ، فإنها لك نافلة. وأخرج نحوه من حديث ابن مسعود. وفي الباب أحاديث كثيرة، ويعارضها ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان، عن ابن عمر مرفوعاً: "لا تصلّوا صلاة يوم مرتين"، ودفعها بعضهم بأنه محمول على ما إذا صلى أولاً في جماعة فلا يعيد مرة أخرى، وفيه أنه أخرج الترمذي وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد الخدري: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فدخل رجل فقام يصلّي الظهر، فقال: ألا رجل يتصدَّق على هذا؟ وفي رواية للبيهقي: أن الداخل هو عليّ، فقام أبو بكر فصلّى خلفه، وكان صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا صريح في جواز إعادة (أي إعادة مع الإمام؛ قال الباجي: اختلف الناس فيما يعاد من الصلوات مع الإمام. فقال مالك: تعاد الصلوات كلها إلاَّ المغرب، وقال الشافعي: تعاد كلها، وقال أبو حنيفة: يعيد الظهر والعشاء ولا يعيد غيرها، كذا في الأوجز 3/19. قال ابن رشد: الذي دخل المسجد وقد صلّى لا يخلو من أحد وجهين: إما صلّى منفرداً، وإما أن يكون صلّى في جماعة، فإن صلّى منفرداً فقال قوم: يعيد كل الصلوات إلا المغرب، وممن قال به مالك وأصحابه، وقال أبو حنيفة: يعيد الصلوات كلها إلا المغرب والعصر، وقال الأوزاعي إلا المغرب والصبح، وقال أبو ثور: إلا العصر والفجر، وقال الشافعي: يعيد كلها، وأما إذا صلّى جماعةً قال ابن رشد: أكثر الفقهاء على أنه لا يعيد، منهم مالك وأبو حنيفة، وقال أحمد: يعيد. كذا في بداية المجتهد 1/152 و 153) الصلاة بالجماعة بعد أدائها بالجماعة، فالأولى في دفع المعارضة أن يقال: معناه لا تصلّوا على وجه الافتراض بأن تجعلوا كلتيهما فريضة، بل الأولى فريضة والثانية نافلة (أي إعادة مع الإمام؛ قال الباجي: اختلف الناس فيما يعاد من الصلوات مع الإمام. فقال مالك: تعاد الصلوات كلها إلاَّ المغرب، وقال الشافعي: تعاد كلها، وقال أبو حنيفة: يعيد الظهر والعشاء ولا يعيد غيرها، كذا في الأوجز 3/19. قال ابن رشد: الذي دخل المسجد وقد صلّى لا يخلو من أحد وجهين: إما صلّى منفرداً، وإما أن يكون صلّى في جماعة، فإن صلّى منفرداً فقال قوم: يعيد كل الصلوات إلا المغرب، وممن قال به مالك وأصحابه، وقال أبو حنيفة: يعيد الصلوات كلها إلا المغرب والعصر، وقال الأوزاعي إلا المغرب والصبح، وقال أبو ثور: إلا العصر والفجر، وقال الشافعي: يعيد كلها، وأما إذا صلّى جماعةً قال ابن رشد: أكثر الفقهاء على أنه لا يعيد، منه مالك وأبو حنيفة، وقال أحمد: يعيد. كذا في بداية المجتهد 1/152 و 153) . (2) قوله: بقول ابن عمر، ويشيِّده ما أخرجه الطحاوي، عن ناعم مولى أم سلمة قال: كنت أدخل المسجد لصلاة المغرب فأرى رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً في آخر المسجد والناس يصلون. قد صلوا في بيوتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 لا نُعِيدَ (1) صَلاةَ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ (2) لأَنَّ الْمَغْرِبَ وِتْرٌ (3) ، فَلا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ التَّطَوُّعَ وِتْرًا، وَلا صَلاةَ تَطَوُّعٍ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَكَذَلِكَ (4) الْعَصْرُ   (1) قوله: لا نعيد، فإن أعاد صلاة المغرب لأمر عرضه فليشفع بركعة كما أخرجه ابن أبي شيبة، عن علي والطحاوي، عن إبراهيم النخعي، وبه صرح محمد في كتاب "الآثار". (2) قوله: والصبح، يرد عليه ما أخرجه أبو داود والترمزي والنسائي وأحمد والدارقطني والحاكم، وصححه ابن السكن كلهم من طريق العلاء بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته، فصلّيت معه الصبح في مسجد الخيف، فلما قضي صلاته وانحرف إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصلَّيا معه، فقال: علي بهما، فجيء بهما، ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصلَّيا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلَّينا فر رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صلَّيتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكم نافلة. وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف. إسناده مجهول قاله الشافعي، قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راوٍ غير ابنه ولا لابنه جابر غير العلاء، وفيه أن العلاء من رجال مسلم ثقة، وجابر وثقه النسائي وغيره، وقد تابع العلاء عن جابر عبد الملك بن عمير، أخرجه ابن مندة في كتاب "المعرفة"، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي". وقد يجاب بأن هذا الحديث لعله قبل حديث النهي عن التطوع بعد صلاة الصبح، وفيه أن النسخ لا يثبت بمجرد الإحتمال، فالأولى في أن يقال: قد عارض هذا الحديث حديث النهي فرجحنا حديث النهي لأن المحرِّم مقدمٌ على المبيِح احتياطاً، وفي المقام كلامٌ ليس هذا موضعه. (3) إذ لم يشرع لنا التطوُّع وتراً، وهذا التعليل أحسن من تعليل مالك بأنه إذا أعادها كانت شفعاً، قاله ابن عبد البر. (4) لكراهة التطوع بعد صلاة العصر لما مر من الأحاديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 عِنْدَنَا، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 63 - (بَابُ الرَّجُلِ تَحْضُرُهُ الصَّلاةُ وَالطَّعَامُ بِأَيِّهِمَا (1) يَبْدَأُ) 220 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يقرَّب (2) إِلَيْهِ الطَّعَامُ، فَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ وَهُوَ فِي بيته فلا يعجل (3)   (1) قوله: بأيهما يبدأ، الحديث فيه مشهور بلفظ: "إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤا بالعشاء" (انظر إلى مرقاة المصابيح 2/69، ثم إن لفظ "العشاء" بالفتح، هو طعام العشي أيضاً يشير إلى أن الصلاة هي صلاة المغرب، عمدة القاري 2/727. قال القاضي - أي أبو الوليد الباجي - فالحق أن الأمر بالابتداء بالعشاء ليس على الإطلاق وإنما معناه إلى الطعام صائماً كان أو غير صائم، لكن طعامهم ما كان على مقدار طعامنا اليوم في الكثرة. بل على القصد والقناعة بما فيه البلغة فيبتدئ المحتاج بقدر ما يدفع طوقانه ويتفرغ قلبه للإقبال على صلاته. اهـ. ثم إن الأمر لندب عند الجمهور وللوجوب عند الظاهرية حتى إنّ من صلّى والطعام حضر فصلاته باطلة كما في عمدة القاري 2/726) ، رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس، والشيخان عن ابن عمر، وابن ماجة عن عائشة. والحكمة في ذلك أن لا يكون الخاطر مشغولاً به، فالأكل المخلوط بالصلاة خير من الصلاة المخلوطة بالأكل، هذا إذا كان الوقت واسعاً، والتوجه إلى الأكل شاغلاً، كذا في "سند الأنام شرح مسند الإمام أبي حنيفة" لعليّ القاري. (2) مجهول. (3) قوله: فلا يعجل ... إلخ، استدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء" على تخصيص ذلك لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 عَنْ طَعَامِهِ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ (1) حَاجَتَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا نَرَى بِهَذَا بَأْسًا، وَنُحِبُّ (2) أَنْ لا نَتَوَخَّى تِلْكَ السَّاعَةَ. 64 - (بَابُ فَضْلِ الْعَصْرِ وَالصَّلاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ) 221 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بن الخطاب يضرب (3) المنكدرة (4) بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ (5) بَعْدَ الْعَصْرِ.   لم يبدأ، وأما من شرع فيه، ثم أقيمت الصلاة فلا يتمادى، بل يقوم إلى الصلاة، لكن صنيع ابن عمر يبطل ذلك، قال النووي: وهو الصواب وتعقبه بأن صنيع ابن عمر اختيار له، وإلا فالنظر إلى المعنى يقتضي ذلك لأنه قد يكون أخذ من الطعام ما يدفع به شغل البال، كذا في "إرشاد الساري". (1) أي: يفرغ من أكله حسب قصده. (2) أي: ينبغي أن لا يقصد تلك الساعة أي ساعة إقامة الصلاة بالشغل بالطعام، بل يفرغ عنه قبل ذلك. (3) قوله: يضرب المنكدر، فيه ما كان عليه عمر من تفقُّد أمر من استرعاه الله، وكذلك يلزم للأمراء والسلاطين. (4) القرشي التَّيمي المدني، مات سنة 80 هـ. (5) قوله: في الركعتين بعد العصر، مذهب مالك في ذلك هو مذهب عمر وأبي سعيدٍ الخدري وأبي هريرة روَوْا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب. وحسبك بضرب عمر على ذلك بالدِّرَّة، ولا يكون ذلك إلاَّ عن بصيرة، وكذلك ابن عبَّاس روى الحديث في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 قال محمد: وبهذا نأخذ، لاصلاة تطوُّع (1) بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 222 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابن عمر قال (2) : الذي يفوته (3)   عن عمر، وقال بظاهره وعمومه، وقال الشافعي: إنما النهي بعد الصبح والعصر عن التطوُّع المبتدأ والنَّافلة، وأما الصلاة المفروضة والمسنونة فلا، وقال آخرون التطوُّع بعد العصر جائزٌ لحديث عائشة: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر. وأما بعد الصبح فلا، وهذا قول داود بن علي، وقال آخرون: لا يصلَّى شيء من الصلوات بعد الصبح وبعد العصر، إلاَّ عصر يومه (وتحرَّم عند الحنابل النَّوافل في هذه الأوقات الخمسة أي عند الطلوع والغروب، والأستواء وبعد الفجر والعصر مطلقاً سواء كانت ذات سبب أولا، بمكة وغيرها إلاَّ سنة الظهر في الجمع بين الصلاتين وإلاَّ ركعتي الطواف، ويجوز القضاء والنذر في هذه الأوقات كلَّها. وأما عند الشافعية فتجوز النوافل ذات السبب أيضاً وغير ذات السبب أيضاً بمكة، فلا يجوز سنة الظهر في المجموعة، والمراد بذات السبب ما تقدَّم سببه كتحيَّة الوضوء وغيرها، وأما ماله سبب متأخر كصلاة الإستخارة والإحرام فلا يجوز أيضاً. وأما عند المالكية فمنع غير المكتوبة حتى صلاة الجنازة أيضاً عند الطلوع والغروب وكرهه بعد الصبح والعصر إلا الجنازة وسجدة التلاوة قبل الإسفار والإصفرار. وأما عند الحنفية فلا تجوز الصلاة مطلقاً في الأوقات الثلاث الأُوَل إلاَّ عصر يومه إلاَّ جنازة حضرت فيها، والوقتان الأخيران من الخمسة لا يجوز فيهما النوافل. الكوكب الدري 1/214) وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، كذا في "الإستذكار". (1) وأما الفائتة وعصر يومه فجائزٌ أداؤه. (2) هكذا وجدته موقوفاً في نسخٍ عديدة، وفي "موطأ يحيى" هو مرفوع. (3) قوله الذي يفوته، قال السيوطي في "التنوير" اختُلِف في معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 العصر (1) كأنما وتر (2) أهله (3) وماله.   الفوات في هذا الحديث، فقيل هو فيمن لم يصلِّها في وقتها المختار، وقيل أن تفوت بغروب الشمس، قال الحافظ مغلطاي: في "موطأ ابن وهب" قال مالك: تفسيره ذهاب الوقت وقال ابن حجر: قد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث من طريق ابن جريج، عن نافع، وزاد في آخره قلت لنافع: حتى تغيب الشمس؟ قال: نعم، قال: وتفسير الراوي إذا كان فقيهاً أولى وقد ورد مصرَّحاً برفعه في ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن هشيم، عن حجاج، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: "من ترك العصر حتى تغيب الشمس من غير عذر فكأنَّما وُتِر أهله وماله"، وقيل هو تفويتها إلى أن تصفرَّ الشمس وقد ورد مفسَّراً من رواية الأوزاعي في هذا الحديث، قال فيه: وفواتها أن تدخل الشمس صفرة، أخرجه أبو داود، قال الحافظ: لعله مبني على مذهبه في خروج وقت العصر، وقالت طائفة المراد فواتها في الجماعة. وروي عن سالم أنه في من فاتته نسياناً، ومشى عليه الترمذي، وقال الداودي: إنما هو في العامد، قال النووي: هو الأظهر. (1) قوله: العصر، اختلف في تخصيص صلاة العصر، فقيل: نعم لزيادة فضلها، ولأنها الوسطى، ولأنها تأتي في وقت تعب الناس في مقاسات أعمالهم وحرصهم على قضاء أشغالهم، ولاجتماع المتعاقبين فيها، وهذا ما رجَّحه الرافعي في "شرح المسند" والنووي في "شرح مسلم". (2) قوله: وُتِر، معناه عند أهل الفقه واللغة كالذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بها وتراً، والوتر الجناية التي يطلب ثأرها، فيجتمع عليه غمَّان، غمّ المصيبة وغم مقاساة طلب الثأر، ولذا قال: وتر، ولم يقل مات، كذا في "الإستذكار". (3) قوله: أهله وماله، قال النووي: رُوي بنصب اللامين ورفعهما والنصب هو المشهور على أنه مفعول، ومن رفع فعلى ما لم يسمَّ فاعله، ومعناه انتزع منه أهله وماله، وهذا تفسير مالك. وأما على النصب، فقال الخطابي وغيره: معناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 65 - (بَابُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الطِّيبِ وَالدِّهَانِ (1)) 223 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عمِّي أَبُو سُهَيْلِ (2) بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ أَرَى طِنْفَسَةً (3) لِعَقِيلِ (4) بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ (5) الْغَرْبِيِّ (6) ، فَإِذَا غَشِيَ (7) الطنفسة كلَّها   نقص أهله وماله وسلبهم، فبقي وتراً بلا أهل ومال، فليحذر من تفويتها كحذره من ذهاب أهله وماله، كذا في "التنوير". (1) قوله والدهان، بكسر الدال مصدر دهنه ككتاب لكتبه، وفي نسخة: الدهن وهو بالفتح أيضاً مصدر. (2) اسمه نافع. (3) قوله طنفسة، بكسر الطاء والفاء وبضمهما وبكسر الطاء وفتح الفاء (تنوير الحوالك 1/27) : البساط الذي له خمل رقيق. ذكره في "النهاية" كذا ذكره السيوطي. (4) أخي علي وجعفر. (5) النبوي. (6) صفة جدار. (7) قوله فإذا غشي..إلخ، قال في"فتح الباري": هذا إسناد صحيح، وهو ظاهر في أن عمر كان يخرج بعد الزوال، وفهم بعضم عكس ذلك، ولا يتجه ذلك إلاَّ إذا حمل على أن الطنفسة كانت تفرش خارج المسجد، وهو بعيد. والذي يظهر أنها كانت تفرش له داخل المسجد، وعلى ذلك كان عمر يتأخر بعد الزوال قليلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 ظلُّ الْجِدَارِ (1) خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الصَّلاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنُقِيلُ (2) قَائِلَةَ الضَّحَاءِ (3) . 224 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عمر كان لا يروح (4)   (1) قوله ظل الجدار، روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن عمه، عن أبيه، فقال فيه: كان لعقيل طنفسة مما يلي الركن الغربي، فإذا أدرك الظل الطنفسة خرج عمر يصلِّي الجمعة، ثم نرجع فنقيل. وروى حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن مالك بن أبي عامر أن العباس كانت له طنفسة في أصل جدار المسجد عرضها ذراعان أو ثلاث، وكان طول الجدار ست عشر ذراعاً إلى ثمانية عشر، فإذا نظر إلى الظل قد جاوز الطنفسة أذن المؤذن، وإذا أذن المؤذن نظرنا إلى الطنفسة فإذا الظل قد تجاوزها. والمعنى في طرح الطنفسة لعقيل عند الجدار الغربي من المسجد أنه كان يجلس عليها، ويجتمع عليه، وأدخل مالك هذا الحديث دليلاً على أن عمر لم يكن يصلِّي الجمعة إلاَّ بعد الزوال رداً على من حكى عنه وعن أبو بكر أنهما كانا يصلِّيان الجمعة قبل الزوال، كذا في "الاستذكار". (2) قوله: فنقيل، أي أنهم كانوا يقيلون في غير الجمعة قبل الزوال وقت القائلة ويوم الجمعة يشتغلون بالغسل وغيره فيقيلون بعد صلاتها القائلة التي يقيلونها في غير يومها قبل الصلاة. (3) قوله: الضَّحاء، قال البوني: بفتح الضاد والمد، هو اشتدادا النهار، فأما بالضم والقصر فعند طلوع الشمس مؤنث (انظر شرح الزرقاني 1/25) . (4) أي: لا يذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 إِلَى الْجُمُعَةِ إِلا وَهُوَ (1) مدَّهنٌ متطِّيب إِلا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا (2) . 225 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنِ السَّائِبِ (3) بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَادَ (4) النِّدَاءَ الثَّالِثَ يوم الجمعة.   (1) قد مرَّ ما يدل على استحباب ذلك في (باب الإغتسال يوم الجمعة) . (2) فإنَّ المحرم ممنوع عنه. (3) قوله: عن السائب بن يزيد..إلخ، نا أدم قال: نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة، عند ابن خزيمة: كان ابتداء الأذان الذي ذكر الله في القرآن يوم الجمعة، وعنده ايضاً من طريق أخرى: كان الأذان على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة، قال ابن خزيمة: يريد الأذان والإقامة، أوله إذا جلس الإمام على المنبر، في رواية لابن خزيمة: إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة، وعند الطبراني كان يؤذن بلال على باب المسجد على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان - أي خليفة - وكثر الناس، زاد النداء الثالث، ولابن خزيمة: فأمر عثمان بالأذان الأول، ولا منافاة بينهم لأنه باعتبار كونه مزيداً يسمى ثالثاً وباعتبار كونه مقدماً يسمى أولاً، على الزَّوراء، بفتح الزاء وسكون الواو بعدها راء مهملة ممدودة، قال المصنف: الزَّوراء موضع بالسوق بالمدينة، قال الحافظ: ما فسِّر به الزوراء هو المعتمد، وجزم ابن بطال بأنه حجر كبير عند باب المسجد، وفيه نظر لما عند ابن خزيمة وابن ماجة، بلفظ: زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزَّوراء، كذا في "ضياء الساري شرح صحيح البخاري". (4) قوله: زاد..إلخ، الذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهي أن أول من أحدث الأذان الأول يوم الجمعة بمكة الحجَّاج، وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (1) كلِّه نَأْخُذُ، وَالنِّدَاءُ الثَّالِثُ الَّذِي زِيدَ (2) هُوَ النِّدَاءُ الأَوَّلُ (3) ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة - رحمه الله -.   الأدنى الآن لا تأذين لهم للجمعة إلاَّ مرة، وورد ما يخالف الباب وهو أن عمر هو الذي زاد الأذان، ففي تفسير جويبر عن مكحول، عن معاذ: أن عمر أمر مؤذِّنين أن يؤذنا للناس يوم الجمعة خارجاً من المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه، كما كان على عهد رسول الله وأبي بكر، وقال: نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين، وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت، وقد تواردت الروايات على أن عثمان هو الذي زاده، فهو المعتمد، وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فيحتمل أن يكون قاله على سبيل الإنكار ويحتمل أن يريد أنه لم يكن في عهد رسول الله، وكل ما لم يكن في زمنه يسمَّى بدعة لكنها منها ما يكون حسناً، ومنها ما يكون بخلاف ذلك كذا في "فتح الباري" (2/327، وعمدة القاري 2/291. ثم هذا الأذان الذي زاده عثمان رضي الله عنه وإن لم يكن في عهد النبوة لكن لا يقال إنه بدعة، فإنه من مجتهدات الخليفة الراشد. قال العيني باجتهاد عثمان وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار فصار إجماعاً سكوتياً. اهـ) (1) قوله: وبهذا، أي: بما أفادته هذه الأحاديث المذكورة في الباب من خروج الإمام للجمعة بعد الزوال والتعجيل في أداء الجمعة واستعمال الدهن والطيب إلاَّ لمانع وزيادة الأذان الأول وغير ذلك. (2) في زمان عثمان. (3) وأما الأذان الثاني وهو بين يدي الخطيب والنداء الثالث وهو الإقامة، فهما مأثوران من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 66 - (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الصَّمْتِ (1)) 226 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا ضَمْرَةُ (2) بْنُ سعيدٍ (3) الْمَازِنِيُّ (4) ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ (5) ، أنَّ الضَّحَّاكَ (6) بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ النُّعْمَانَ (7) بْنَ بَشِيرٍ مَاذَا كَانَ يَقْرَأُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر (8) سورة   (1) بالفتح، بمعنى السكوت. (2) قوله: ضمرة بن سعيد المازني، عن أبي سعيد وأنس وعدة، وعنه مالك وبن عيينة، وثقوه، كذا في "الكاشف" للذهبي. (3) ابن أبي حنَّة. (4) من بني مازن بن النجَّار. (5) ابن مسعود. (6) قوله: إنَّ الضحاك، هو الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب بن الفهري أبو أنيس الأمير المشهور، صحابي، قتل في وقعة مرج راهط سنة 64 هـ، قاله الزرقاني وغيره. (7) قوله: النعمان، الأنصاري الخزرجي، له ولأبيه صحبة، ثم سكن الشام ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قتل بحمص، سنة 65 هـ، قاله الزرقاني وغيره. (8) قوله: على إثر سورة الجمعة، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") هذا يدل على أنه كان يفردها، فلم يحتج إلى السؤال لعلمه به، ويدل على أنه لو كان يقرأ معها شيئاً واحداً لعلمه كما علم سورة الجمعة، ولكنه كان مختلفاً فسأل عن الأغلب، وقد اختلف الآثار فيه والعلماء، وهو من الاختلاف المباح الذي ورد به التخبير، فروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الجمعة والعيدين (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك) ، ويروي أنه قرأ بسورة الجمعة: و (إذا جاءك المنافقون) ، واختار هذا الشافعي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 الْجُمُعَةِ (1) يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) . 227 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ (2) بْنِ أَبِي مَالِكٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا زَمَانَ (3) عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُصَلُّونَ (4) يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَخْرُجَ عُمَرُ، فَإِذَا خَرَجَ وَجَلَسَ إِلَى الْمِنْبَرِ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ - قَالَ ثَعْلَبَةُ -: جَلَسْنَا نَتَحَدَّثُ (5) ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ وَقَامَ عُمَرُ سَكَتْنَا، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنَّا. 228 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، قال: خروجه (6) (7) يقطع (8)   وهو قول أبو هريرة وعلي وذهب مالك إلى ما في (الموطّأ) ، كذا في (شرح الزرقاني) . (1) التي كانوا يقرؤونها في الركعة الأولى. (2) قوله: عن ثعلبة، مختلف في صحبته، قال ابن معين: له رؤية، وقال ابن سعد: قدم أبوه أبو مالك، واسمه عبد الله بن سام من اليمن، وهو من كندة، فتزوج امرأة من قريظة فعرف بهم، كذا ذكره الزرقاني. (3) أي: في خلافته. (4) أي: النوافل. (5) أي بالعلم ونحوه لا بكلام الدنيا. (6) قوله: قال خروجه.. إلخ، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") : هذا يدل على أن الأمر بالإنصات وقطع الصلاة ليس برأي، وأنه سنة، احتج بها ابن شهاب لأنه خبر عن علم علمه، لا عن رأي اجتهده وأنه عمل مستفيض في زمن عمر وغيره. (7) أي: خروج الإمام. (8) أي: يمنع الشروع فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 الصَّلاةَ وَكَلامُهُ (1) يَقْطَعُ الْكَلامَ. 229 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ (2) ، عَنْ مَالِكِ (3) بْنِ أَبِي عَامِرٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يَقُولُ فِي خطبته - قلّما يدع (4)   (1) قوله: وكلامه يقطع الكلام، بهذا أخذ أبو يوسف ومحمد ومالك والجمهور، قال أبو حنيفة: يجب الإنصات بخروج الإمام، كذا في"المرقاة". في "النهاية" و"البناية" وغيرهما: اختلف المشايخ على قوله: فقال بعضهم: يكره كلام الناس أما التسبح وغيره فلا يكره، وقال بعضهم: يكره ذلك كله، والأول أصح انتهى، وفي"الكفاية" وغيره نقلاً عن "العون": المراد بالكلام المتنازع فيه هو إجابة الأذان، فيكره عنده لا عندهما، وأما غيره من الكلام فيكره إجماعاً. انتهى. قلت: بهذا يظهر ضعف ما في "الدار المختار" نقلاً عن (النهر الفائق) ينبغي أن لا يجيب بلسانه اتفاقاً في الأذان بين يدي الخطيب، وأن يجيب اتفاقاً في الأذان الأول يوم الجمعة. انتهى. وجه الضعف أمّا أولاً: فلأنه لا وجه لعدم الإجابة عندهم لأنه لا يكره عندهما الكلام الديني قبل الشروع في الخطبة، بل لا يكره الكلام مطلقاً عندهما قبله على ما نقله جماعة بخلاف ما ينقله صاحب (العون) وغيرهم، وأما ثانياً: فلأنه لا وجه لعدم الإجابة على مذهبه أيضاً على ما هو الأصح أنه لا يكره الكلام مطلقاً بل الكلام الدنيوي، وقد ثبت في صحيح البخاري أن معاوية رضي الله عنه أجاب الأذان وهو على المنبر وقال: يا أيها الناس، إني سمعت رسول الله على هذا المجلس حين أذن المؤزن يقول مثل ما سمعتم مني مقالتي. فإذا ثبتت الإجابة عن صاحب الشرع وصاحبه فما معنى الكراهة. (2) هو سالم بن أبي أمية المدني، ثقة. (3) جد الإمام مالك، من ثقات التابعين. (4) أي: يترك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 ذَلِكَ إِذَا خَطَبَ -: إِذَا (1) قَامَ الإِمَامُ فَاسْتَمِعُوا وَأَنْصِتُوا (2) (3) فَإِنَّ لِلْمُنْصِتِ الَّذِي لا يَسْمَعُ مِنَ الْحَظِّ (4) مِثْلَ مَا لِلسَّامِعِ الْمُنْصِتِ. 230 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا أبو الزِّناد (5) ، عن الأعرج (6) عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: إذا قلت (7) لصاحبك أنصت (8)   (1) هذا قوله. (2) قوله: وأنصتوا، اختلفوا في الكلام (لا يجوز الكلام إذا كان الإمام يخطب عند أبي حنيفة ومالك، وقريب منه مذهب أحمد، وهو القول القديم للشافعي، حكاه في (شرح المهذب) 4/525، عن أبي حنيفة ومالك وأحمد والأوزاعي وكذا في (المغني) 2/169، ويجوز عند الشافعي في الجديد) حال الخطبة، فذهب طائفة من العلماء إلى أنه مكروه، وهو مذهب الثوري وداود، والصحيح من قول الشافعي، ورواية أحمد وحكي عن أبي حنيفة. وذهب الجمهور إلى أنه حرام، وهو مذهب الأئمة الثلاثة والأوزاعي. وحكي عن النخعي والشعبي وبعض أنه لا يحرم إلاَّعند تلاوة الخطيب فيها قرآناً، كذا في (ضياء الساري) . (3) وإن لم تسمعوا لنحو صمم أو بعد. (4) أي: النصيب من الأجر. (5) بكسر الزاء عبد الله بن ذكوان. (6) عبد الرحمن بن هرمز. (7) قوله: إذا قلت لصاحبك، المراد من تخاطبه صغيراً كان أو كبيراً، قريباً أو بعيداً، وخصه لكونه الغالب. (8) قوله: أنصت، بفتح الهمزة وكسر المهملة: أمر من الإنصات يقال: أنصت ونصت وانتصت. ثلاث لغات، والأولى هي الأفصح، قال ابن خزيمة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 فَقَدْ (1) لَغَوْتَ (2) وَالإِمَامُ (3) يَخْطُبُ. 231 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن القاسم: أن أباه القاسم بْنَ مُحَمَّدٍ رَأَى فِي قَمِيصِهِ دَمًا وَالإِمَامُ على المنبر يوم الجمعة   المراد بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله، وتعقِّب بأنه يلزم منه جواز القراءة والذكر حال الخطبة، فالظاهر أن المراد السكوت مطلقاً، قاله الحافظ. (1) قوله: فقد لغوت، اللغو: الكلام الذي لا أصل له من الباطل، وشبهه. وقال نفطويه: السقط من القول، وقال النضر بن شميل: معنى لغوت ضيَّعت من الأجر، وقيل: بطلت فضيلة جمعتك، ويؤيد الأخير ما في حديث أبي داود: (من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) . قال ابن وهب أحد رواته: معناه أجزأت عنه الصلاة، وحرم فضيلة الجمعة، ولأحمد: (من قال: صه، فقد تكلم ومن تكلم فلا جمعة له) ، وله: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول: أنصت ليس له جمعة) . وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى لأنه إذا جعل قوله أنصت من كونه أمراً بالمعروف لغواً فغيره من الكلام أولى، كذا في (التوشيح شرح صحيح البخاري) للسيوطي. (2) قوله: لغوت، ولمسلم: فقد لغيت، قال أبو الزناد: هي لغة أبي هريرة، وإنما هي فقد لغوت، لكن قال النووي وتبعه الكرماني: ظاهر القرآن يقتضيها إذ قال: (والغوا فيه) ، وهي من لغي يلغى، ولو كان يلغو لقال: الغُو بضم الغين (شرح الزرقاني 1/214) . (3) قوله: والإمام، جملة حالية تفيد أن وجوب الإنصات من الشروع في الخطبة لا من خروج الإمام كما يقوله ابن عباس وابن عمر وأبو حنيفة، قاله ابن عبد البر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 فَنَزَعَ (1) قَمِيصَهُ فَوَضَعَهُ (2) . 67 - (بَابُ صَلاةِ الْعِيدَيْنِ وَأَمْرِ الْخُطْبَةِ) 232 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ (3) مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ (4) (5) قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فصلَّى (6) ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَخَطَبَ (7) ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ نَهَى (8) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِهِمَا يوم (9) فطركم (10) من صيامكم، والآخر يوم   (1) فيه جواز فعل ما لا بد منه والإمام يخطب. (2) أي: بين يديه أو بجنبه. (3) اسمه سعد بن عبيد الزهري، تابعي كبير من رجال الجميع، كذا قال الزرقاني. (4) صحابي وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف. (5) ابن أزهر بن عوف الزهري المدني. (6) زاد عبد الرزاق: قبل أن يخطب بلا أذان وإقامة. (7) قوله: فخطب، زاد عبد الرزاق: فقال: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تأكلوا نسككم بعد ثلاث، فلا تأكلوا بعدها، قال ابن عبد البر: أظن مالكاً حذف هذا لأنه منسوخ. (8) نهي تحريم. (9) بالرفع إما على أنه خبر محذوف، أي: أحدهما، أو على البدل من يومان. (10) قوله: يوم فطركم..إلخ، فائدة وصف اليومين الإشارة إلى العلة في وجوب فطرهما، وهي الفصل من الصوم والآخر لأجل النسك المتقرَّب بذبحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 تَأْكُلُونَ مِنْ لُحُومِ نُسُكِكُمْ (1) ، قَالَ (2) ثُمَّ شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُثْمَانَ (3) بْنِ عَفَّانَ، فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ (4) فَخَطَبَ، فَقَالَ (5) إِنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ في يومكم هذا عيدان (6) ،   (1) قوله: نسككم، بضم السين، ويجوز سكونها أي من أضحيتكم، قال أبو عمر (في الأصل: "أبو عمرو") : فيه أن الضحايا نسك وأن الأكل منها مستحب. (2) أي: أبوعبيد. (3) في زمان خلافته. (4) ثم انصرف فخطب، اختلف في أول من غيَّر ذلك، ففي مسلم عن طارق أن أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، وروى ابن المنذر بسند صحيح، عن الحسن البصري: أول من خطب قبل الصلاة عثمان صلى بالناس ثم خطبهم، فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة، ففعل ذلك أي: صار يخطب قبل الصلاة. وهذه العلة غير العلة التي راعى مروان، لأن عثمان راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في سماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم في زمانه كانوا يتعمدون ترك سماعهم لما فيها من سبِّ من لا يستحق السب والإفراط في مدح بعض الناس فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه. وروي عن عمر مثل فعل عثمان، قال عياض ومن تبعه: لا يصح عنه، وفيه نظر لأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة روياه جميعاً، عن ابن عيينه، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يوسف بن عبد الله بن سلام. وهذا إسناد صحيح فإن جمع بوقوع ذلك نادراً إلاَّ فما في (الصحيحين) أصح، كذا في (شرح الزرقاني) (1/362. وانظر للتفصيل عمدة القاري 3/369، وفتح الباري 2/376) . (5) في خطبته. (6) فيه تسمية الجمعة عيداً، وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 فَمَنْ أحبَّ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ (1) أَنْ ينتظرَ الجمعةَ فلينتظِرْها وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يرجِعَ (2) فليرجِعْ (3) ، فقد   (1) قوله: من أهل العالية، هي القرى المجتمعة حول المدينة النبوية إلى جهة القبلة على ميل أو ميلين فأكثر من المسجد النبوي، وقال القاضي عياض: العوالي من المدينة على أربعة أميال، وقيل: ثلاثة، وهذا حدّ أدناها، وأعلاها ثمانية أميال. انتهى. ويردُّه أنه قال في منازل بني الحارث الخزرج: إنها بعوالي المدينة، بينه وبين منزل النبي صلّى الله عليه وسلّم ميل، وذكره ابن حزم أيضاً والصحيح عن أدنى العوالي من المدينة على ميل أو ميلين، وأقصاها عمارة على ثلاثة أو أربعة أميال، وأقصاها مطلقاً ثمانية أميال كما بسطه الشيخ نور الدين علي السَّمْهُودي مؤرِّخ المدينة في "وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى". (2) إلى بيته. (3) قوله: فليرجع (أخرجه البخاري 5/239 في باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزوَّد منها) ، اقتدى فيه عثمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لما اجتمع العيدان صلّى العيد، ثم رخص في الجمعة، وقال: من شاء أن يصلي فليصلِّ. أخرجه النسائي وأبو داود، عن زيد بن أرقم وهو محمول عندنا على أنه رخص لمن لا يجب عليه الجمعة من أهل القرى الذين كانوا يحضرون العيد، ونسب بعضهم إلى أحمد (قال في المغني 2/212: وإن اتفق عيد في يوم جمعة سقط حضور الجمعة عمن صلّى العيد إلاَّ الإِمام ... وممن قال بسقوطه الشعبي والنخعي والأوزاعي، ... وقال أكثر الفقهاء: تجب الجمعة لعموم الآية والأخبار الدالة على وجوبها، ولأنهما صلاتان واجبتان، فلم تسقط إحداهما بالأخرى. اهـ ومذهب الشافعي السقوط عن أهل البوادي دون البلد كما في شرح المهذب وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن المكلف مخاطب بهما معا ولا ينوب أحدهما عن الآخر قال ابن عبد البر سقوط الجمعة مهجور وعن علي إن ذلك في أهل البادية ومن لاتجب عليه الجمعة معارف السنن 4/433 وانظر بذل الجهود 6/ 57) أنه أخذ بظاهر الحديث، وقال بسقوط الجمعة في المصر وغيره، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 أذنتُ (1) لَهُ، فَقَالَ: ثُمَّ شهدتُ العيدَ مَعَ عليٍّ وعثمانُ محصورٌ (2) فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ فَخَطَبَ. 233 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (3) : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يصلِّي يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الأَضْحَى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَذَكَرَ (4) أنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يَصْنَعَانِ ذَلِكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، وَإِنَّمَا رَخَّصَ عُثْمَانُ في الجمعة لأهل العالية لأنهم (5)   مُفاد ما أخرجه أبو داود، عن عطاء بن أبي رباح قال: صلّى بنا ابن الزبير العيد في يوم جمعة في أول النهار، ثم رُحنا إلى الجمعة، فلم يخرج إلينا، فصلينا وحداناً، وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا له ذلك، فقال: أصاب السنَّة. (1) قوله: فقد أذنت له، فيجوز إذا أذن الإِمام، وبه قال مالك في رواية علي وابن وهب ومطرف وابن الماجشون. (2) في أيام فتنته سنة خمس وثلاثين. (3) هذا مرسل متصل من وجوه صحاح، فأخرجه الشيخان من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، ولهما عن جابر. (4) قوله: وذكر، الظاهر أن ضميره راجع إلى ابن شهاب لكن في "موطأ يحيى" ثمَّ قول ابن شهاب إلى قوله: "قبل الخطبة"، ثم قال مالك: بلغه أن أبا بكر وعمر كانا يفعلان ذلك. (5) قوله: لأنهم ليسوا من أهل المصر، فلا يجب عليهم الجمعة، لقول علي رضي الله عنه: (لا جمعة ولا تشريق إلاَّ في مصرٍ جامع) رواه عبد الرزاق، وروى ابن أبي شيبة عنه: (ولا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلاَّ في مصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ (1) وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 68 - (بَابُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ العيد أبو بَعْدَهُ) 234 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ (2) كَانَ (3) لا يصلِّي يَوْمَ الْفِطْرِ قبل الصلاة ولا بعدها.   جامع أو مدينة عظيمة) ، ونسبه أحمد القسطلاّني في "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري"، إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وجعله مرفوعاً من رواية عبد الرزاق. (1) في نسخة: مصر. (2) قوله: أنه كان لا يصلي، لأنه كان أشد الناس اهتماماً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، قال الزرقاني، وفي "الصحيحين"، عن ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج يوم الفطر، فصلى ركعتين لم يصلِّ قبلهما ولا بعدهما. وفي ابن ماجه بسند حسن، وصححه الحاكم، عن أبي سعيد: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يصلّي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلّى في منزله ركعتين، قال ابن المنذر عن أحمد: الكوفيون يصلّون بعدها لا قبلها والبصريون قبلها لا بعدها، والمدنيّون لا قبلها ولا بعدها، وبالأول قال الحنفية وجماعة، وبالثاني الحسن وجماعة، وبالثالث أحمد وجماعة، وأما مالك فمنعه في المصلّى، وعنه في المسجد روايتان، فرُوي يتنفّل قبلها وبعدها، ورُوي بعدها لا قبلها، وقال الشافعي: لا كراهة في الصلاة قبلها ولا بعدها، قال الحافظ: كذا في "شرح مسلم" للنووي، فإن حُمل على المأموم وإلاَّ فهو مخالف لقول الشافعي في "الأم" يجب للإِمام أن لا يتنفل قبلها ولا بعدها (بسط الشيخ مذاهب الأئمة في أوجز المسالك 3/362. وانظر المغني 2/388) . (3) قوله: كان، ذكر ابن قدامة نحوَه، عن ابن عباس وعلي وابن مسعود وحذيفة وبريدة وسلمة بن الأكوع وجابر وعبد الله بن أوفى وجماعة من التابعين، وقال الزهري: لم أسمع أحداً من علمائنا يذكر أن أحداً من سلف الأمة كان يصلي قبل صلاة العيد وبعدها: كذا ذكره ابن أمير حاج في "الحَلْبة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 235 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَاسِمٍ، عَنْ أَبِيهِ (1) : أَنَّهُ كَانَ (2) يصلِّي قَبْلَ أَنْ يغدُوَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا صلاةَ قبل صلاة العيد (3)   (في الأصل: "الحلية"، وهو تحريف) . (1) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. (2) وكذا روى مالك، عن هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يصلي يوم الفطر قبل الصلاة في المسجد. (3) قوله: لا صلاة قبل صلاة العيد، أقول: هذه العبارة تحتمل معنيين: أحدهما: أنه لا ينبغي أن يصلي قبل العيد، ولا خير فيه، بل هو مكروه وبه صرح جمهور أصحابنا لا سيما المتأخرون منهم، وعلَّلوه بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ قبلها ولا بعدها كما أخرجه الأئمة الستة، وأورد عليهم بأن مجرَّدَ عدم فعله صلّى الله عليه وسلّم لا يدل على الكراهة، وأجابوا عنه بأنه لمّا لم يصلّ قبل ولا بعد مع شدة حرصه على الصلاة دلَّ ذلك على أنه مكروه وإلاَّ لفعله، ولو مرة واحدة، كيف فإنه صلّى الله عليه وسلّم قد كان يفعل ما نَهى عنه نَهْيَ تنزيه لبيان الجواز، لئلا تظن الأمَّة حُرمته، فكيف بالأمر المباح، فإذا لم يفعله مرة أيضاً دلَّ ذلك على الكراهية، ويرد عليه أن الكراهة أمر زائد لا يثبت إلاَّ بدليل خاص يدل على النهي، وأما مجرد عدم فعله صلّى الله عليه وسلّم فلا يدل إلاَّ على أنه ليس للعيد سنة قبلها ولا بعدها لا على أنه مكروه، وكونه حريصاً على الصلاة لا يستلزم أن يفعل بنفسه كل فرد من أفرادها، في كل وقت من أوقاتها، بل كفى في ذلك قوله: "الصلاة خير موضوع" مع عدم إرشاد النهي. ونظيره ما ورد أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يطعم شيئاً يوم الأَضحى إلى أن يضحِّي فيأكل من أضحيته، ومع ذلك صرَّحوا بأن الأكل في ذلك اليوم قبل الغدوّ إلى المصلّى ليس بمكروه، إذ لا بد للكراهة من دليل خاص، وإذ ليس فليس. وثانيهما: أن يكون معناه لا سنَّة قبل صلاة العيد قبل العيد خلاف الأولى لكونه مخالفاً لفعل صاحب الشرع، ويوافقه ما نقل صاحب "الذخيرة"، عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 فَأَمَّا بَعْدَهَا فَإِنْ شِئْتَ (1) صلَّيْتَ (2) وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تصلِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ الله -.   أبي جعفر الأستروشني أن شيخنا أبا بكر الرازي كان يقول في معنى قول أصحابنا: وليس قبل العيدين صلاة مسنونة، لا أنه مكروه. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: صلاة العيد لم يثبت لها سنَّة قبلها ولا بعدها خلافاً لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع إلاَّ بدليل خاص إلاَّ إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام. انتهى. وفي "الاستذكار": أجمعوا على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ قبلها ولا بعدها، فالناس كذلك، والصلاة فعلُ خيرٍ فلا يُمنع منها إلاَّ بدليل لا معارض له. (1) هذا التخيير يردّ على من كره من المتأخرين الصلاة بعد العيد مطلقاً في المسجد، وفي البيت. (2) قوله: صلَّيْت، أي: في البيت لما ورد أنه عليه السلام صلّى بعد العيد في بيته ركعتين، أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد، وحينئذٍ فحديث: "لم يصلِّ قبلها ولا بعدها" محمول على أنه لم يصلِّ بعدها في المصلَّى، وإن حُمل على العموم يحمل على اختلاف الأحوال. وذكر بعض أصحاب الكتب غير (في الأصل: "الغير"، وهو تحريف) المعتبرة كصاحب "كنز العباد" وغيره في الصلاة بعد العيد حديثاً عن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من صلّى أربع ركعات يوم الفطر ويوم الأضحى بعد ما صلّى الإِمام صلاة العيد يقرأ في الركعة الأولى {سبِّح اسمَ ربك الأعلى} فكأنما قرأ كلَّ كتاب أنزله الله، وفي الركعة الثانية {وَالشَّمْسِ وَضُحاها} ، فله من الثواب مثل ما طلعت الشمس من مطلعها، وفي الثالثة {والضحى} فله من الثواب كأنما أشبع جميع اليتامى وأرواهم وأدهنهم وألبسهم ثياباً نظيفاً، وفي الركعة الرابعة {قل هو الله أحد} غفر الله له ذنوبه خمسين سنة مقبلة وخمسين سنة مدبرة. وهذا الحديث يشهد القلب بعباراته الركيكة بأنه موضوع، لا يحل لأحد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 69 - (بَابُ القراءةِ فِي صَلاةِ الْعِيدَيْنِ) 236 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ضمرةُ بنُ سَعِيدٍ المازِني (1) ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ أبا واقدٍ (2) الليثيَّ: ماذا كان (3)   ينسبه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بمجرد ذكر هؤلاء الذين لا مهارة لهم في الحديث. وقال ابن حجر المكي في رسالته "الإِيضاح والبيان لما جاء في ليلة نصف شعبان": في سنده جماعة لا يُعرفون، بل من لا يَحِلُّ ذكره في الكتب كما قاله ابن حبان، بل ترجّى السيوطي فيه أنه الذي وضعه. انتهى. وقال الشوكاني في "الفوائد المجموعة": هو موضوع. (1) نسبة إلى بني مازن بكسر الزاء. (2) قوله: أبا واقد الليثي، من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن علي بن كنانة بن خزيمة بن إلياس بن مضر، اختُلف في اسمه، فقيل: الحارث بن عوف، وقيل: الحارث بن مالك بن أسيد بن جابر بن عتودة بن عبد مناة بن سجع بن عامر بن ليث، قيل: إنه شهد بدراً مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان قديم الإِسلام، وقيل: إنه من مُسلمة الفتح. والأول أصح، مات بمكة سنة ثمان وستين، كذا في "الاستيعاب". (3) قوله: ماذا كان ... إلخ، قال الباجي: يحتمل أن يسأله على معنى الاختبار أو نسي، فأراد أن يتذكر، وقال النووي: قالوا: يحتمل أنه شك في ذلك فاستَثْبَتَه أو أراد إعلام الناس بذلك أو نحو ذلك، قالوا: ويبعد أن عمر لم يعلم ذلك مع شهوده صلاة العيد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرات، وقربه منه. (1) كان يقرأ ... إلخ، قال ابن عبد البر: معلوم أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ قَالَ: كَانَ (1) يَقْرَأُ بقاف (2) والقرآن المجيد (3) ، واقتربت السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (4) . 70 - (بَابُ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ (5)) 237 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، قَالَ: شهدتُ (6) الأَضْحَى والفطرَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فكبَّرَ (7) فِي الأُولَى سبعَ تَكْبِيرَاتٍ (8) قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الآخِرَةِ (9) بِخَمْسِ تكبيرات قبل القراءة.   العيد بسورٍ شتّى، وليس في ذلك عند الفقهاء شيءٌ لا يُتَعَدّى، وكلهم يستحب ما روى أكثرهم. وجمهورهم: {سَبِّحِ اسمَ} و {هَلْ أَتَاكَ} . (2) قوله: بقاف، في الباب عن النعمان بن بشير عند مسلم، لكن ذكر {سَبِّحِ} و {هَلْ أَتَاكَ} ، وعن ابن عباس عند البزّار، لكن ذكر بـ {عَمَّ يَتَسَاءَلونَ} ، و {والشَّمْسِ وَضُحاها} ، كذا في "التلخيص الحبير" (في الأصل: "تلخيص الحبير"، وهو خطأ) لابن حجر، رحمه الله. (3) في الركعة الأولى. (4) في الثانية، قال العلماء: حكمة ذلك ما اشْتَمَلَتا عليه من الإِخبار بالبعث والقرون الماضية، وهلاك المكذِّبين وتشبيه بروز الناس للعيد ببروزهم للبعث. (5) أي في صلاة العيدين. (6) أي: حضرت صلاتهما مقتدياً به. (7) قوله: فكبر، قال مالك: هو الأمر عندنا، وبه قال الشافعي: إلاَّ أن مالكاً عدَّ في الأولى تكبيرة الإِحرام، وقال الشافعي سواها، والفقهاء على أن الخمس في الثانية غير تكبيرة القيام، قاله ابن عبد البر. (8) هذا لا يكون رأياً إلاَّ توقيفاً يجب التسليم له. (9) في نسخة: الأخيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدِ اخْتُلِفَ (1) الناسُ فِي التكبيرِ في العيدين، فما   (1) قوله: قد اختلف الناس، لاختلاف الأخبار الواردة في ذلك على ما بسطه الزيلعي والعيني وابن حجر وغيرهم، فأخرج أبو داود وابن ماجه، عن عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكبر في العيدين في الأولى بسبع تكبيرات، وفي الثانية بخمس قبل القراءة سوى تكبيرتي الركوع. وفي سنده عبد الله بن لهيعة متكلَّم فيه، وفي سنده اضطراب ذكره الدارقطني في "علله" وذكر الترمذي في "علله الكبرى" أن البخاري ضعَّف (في نسخة: "ضعيف"، وهو تحريف) هذا الحديث. وأخرج أبو داود وابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: "التكبير في الفطر سبعٌ في الأولى وخمسٌ في الثانية، والقراءة بعدهما كتيهما". وفي سنده عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي ضعَّفه ابن معين، ونقل الترمذي أنه سأل البخاريَّ عن هذا الحديث فقال: صحيح. وأخرج الترمذي وحسنه، وقال: هو أحسنُ شيء رُوي في الباب عن كثير بن عبد الله بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كَبَّرَ في الأَولَى سبعاً قبل القراءة، وفي الآخرة خمساً قبل القراءة، وفيه كثير بن عبد الله متكلَّم فيه، وأخرج ابن ماجه، عن عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد، عن سعد، عن عمار، عن سعد: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يكبِّر في العيدين في الأُوْلى سبعاً قبل القراءة وفي الأخرى خمساً قبل القراءة. وكذا أخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر، وهو الموافق لما أخرجه مالك عن أبي هريرة من فِعْله. وأخرج أبو داود عن مكحول، قال: أخبرني أبو عائشة جليسٌ لأبي هريرة أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى وحذيفَةَ: كيف كان رسول الله يكبِّر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبِّر أربعاً تكبيره على الجنائز، فقال حذيفة: صدق. وفيه عبد الرحمن بن ثوبان، متكلَّم فيه. هذا اختلاف الأخبار المرفوع (انظر نصب الراية 3/217 و 218) . وأما الآثار فأخرج عبد الرزاق، عن علقمة والأسود أن ابن مسعود كان يكبِّر في العيدين تسعاً: أربعاً قبل قراءة، ثم يكبِّر فيركع، وفي الثانية يقرأ، فإذا فرغ كبَّر أربعاً، ثم ركع وأخرج أيضاً عنهما أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 أخذتَ بِهِ فَهُوَ حَسَنٌ (1) وَأَفْضَلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يكبِّر في كل عيد (2) تسعاً:   ابن مسعود كان جالساً وعنده حذيفة وأبو موسى فسألهم سعيد بن العاص عن التكبير في العيد، فقال حذيفة سُئل الأشعريّ فقال: سَلْ عبد الله فإنه أقدمنا وأعلمنا، فسأله فقال ابن مسعود: كان يكبِّر أربعاً، ثم يكبِّر فيركع فيقوم إلى الثانية فيقرأ، ثم يكبِّر أربعاً، بعد القراءة. وأخرج ابن أبي شيبة عن مسروق: كان ابن مسعود يعلِّمنا التكبير تسع تكبيرات، خمس في الأولى وأربع في الآخرة، ويوالي بين القراءتين، وأخرج عبد الرزاق، عن عبد الله بن الحارث: شهدت ابنَ عباس كبَّرَ في العيد بالبصرة تسعَ تكبيرات، ووالى بين القراءتين وشهدتُ المغيرة فعل ذلك. وأخرج ابنُ أبي شيبة، عن عطاء أن ابن عباس كبَّرَ في عيد ثلاث عشرة، سبعاً في الأولى، وستاً في الأخرى بتكبيرة الركوع، كلُّهن قبل القراءة. وأخرج أيضاً عن عمار أن ابن عباس كبَّر في عيد ثِنْتي عَشْرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الأخرى بتكبيرة الركوع. وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً، عن عبد الله بن الحارث: صلّى ابن عباس بالبصرة صلاة عيد، فكبَّر تسع تكبيرات: خمساً في الأولى وأربعاً في الآخرة ووالى بين القراءتين. وهذا الاختلاف الوارد في المرفوع والآثار، كلُّه اختلاف في مباح، كما أشار إليه محمد بقوله: فما أخذت به فهو حسن، فلا يجوز لأحد أن يُعنِّف فيه على خلاف ما يراه، واختلاف الأئمة في ذلك إنما هو اختلاف في الراجح، كما أشار إليه محمد بقوله: وأفضل ذلك ... إلخ، فإن اختار أحد غير ما روي عن ابن مسعود فلا بأس به أيضاً (انظر بسط المذاهب وأدلتها في أوجز المسالك 3/355) . (1) قوله: فهو حسن، ونظيره اختلافهم في تكبيرات صلاة الجنازة لاختلاف الأخبار والآثار في ذلك، فما أخذت به فهو حسن. (2) أي: في مجموع الركعتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 خَمْسًا (1) وَأَرْبَعًا (2) ، فيهنَّ تَكْبِيرَةُ الافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ، ويوالي بين القراءتين، ويؤخِّر (3) ها (4) فِي الأُولَى، ويقدِّمها فِي الثَّانِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. 71 - (بَابُ قِيَامِ شَهْرِ (5) رَمَضَانَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَضْلِ) 238 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلّى (6) في   (1) في الركعة الأولى، واحدة منها تكبيرة الافتتاح، وواحدة تكبيرة الركوع، والثلاث زوائد. (2) في الركعة الثانية، واحدة منهن تكبيرة الركوع والثلاث زوائد. (3) بيان للموالاة. (4) أي: القراءة عن التكبيرات في الركعة الأولى. (5) قوله: شهر رمضان، ويسمّى التراويح جمع ترويحة لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين. (6) قوله: صلّى ... إلخ، قال ابن عبد البر: تفسيره هذه الليالي التي صلّى فيها بما رواه النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شهر رمضان ليلةَ ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، ثم قمنا معه ليلةَ خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندركَ الفلاح. أخرجه النسائي. وأما عدد ما صلّى، ففي حديث ضعيف أنه صلّى عشرين ركعة والوتر، أخرجه ابن أبي شيبة، من حديث ابن عباس (أخرجه عبد بن حميد في مسنده رقم الحديث 653، قال في مجمع الزوائد 3/172: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه أبو شيبة إبراهيم وهو ضعيف) ، وأخرج ابن حبان في صحيحه (انظر نصب الراية 1/293) من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 الْمَسْجِدِ (1) ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ كَثُرُوا مِنَ الْقَابِلَةِ (2) ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ أَوِ الرَّابِعَةَ (3) ، فكثُرُوا، فَلَمْ يَخْرُجْ (4) إِلَيْهِمْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ (5) قَالَ: قَدْ رأيتُ الذي (6) قد صنعتُم (7)   حديث جابر: أنه صلّى بهم ثمان ركعات ثم أوتر، وهذا أصح، كذا في "التنوير". (1) قوله: في المسجد، في رواية عَمْرَة، عن عائشة عند البخاري: صلّى في حجرته، وليس المراد بها بيته، بل الحصير التي كان يحتجر بها بالليل في المسجد، فيجعلها على باب بيت عائشة، فيصلّي فيه، وقد جاء ذلك مبنيَّاً من طريق سعيد المَقْبُري، عن أبي سلمة، عن عائشة، رواه البخاري في اللباس. (2) أي: في الليلة المستقبلة. (3) قوله: أو الرابعة، بالشك في رواية مالك، ولمسلم من رواية يونس، عن ابن شهاب: فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الليلة الثانية، فصلّوا معه فأصبح الناس يذكرون ذلك فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فصلوا بصلاته، فلما كانت الرابعة عجز المسجد عن أهله. (4) قوله: فلم يخرج إليهم، وفي رواية أحمد، عن ابن جريج، عن ابن شهاب: حتى سمعت ناساً منهم يقولون: الصلاة، وفي رواية سفيان بن حسين فقالوا: ما شأنه؟ وفي حديث زيد: ففقدوا صوته وظنوا أنه قد تأخَّر فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج، وفي لفظٍ، عن زيد: فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب. رواهما البخاري. (5) في رواية للبخاري: فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس فتشهَّد ثم قال: أما بعد فإنه لم يخفَ عليَّ مكانكم. (6) في نسخة: ما. (7) من حرصكم الصلاة معي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 الْبَارِحَةَ (1) ، فَلَمْ يمنَعْني (2) أَنْ أخرجَ إِلَيْكُمْ إلاَّ أَنِّي خشيتُ أَنْ يُفرَضَ (3) (4) عَلَيْكُمْ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. 239 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ المَقْبُري، عَنْ أبي   (1) أي: الليلة الماضية. (2) قوله: فلم يمنعني ... إلخ، ظاهره أنه كان يحب أن يصلي بالناس في ليالي رمضان على الدوام، ولم يمنعه إلاَّ خشية أن يُفرض عليهم، فاستُفيدت منه المواظبة الحُكمية وإن لم توجد المواظبة الحقيقية، ومدار السنية المواظبة مطلقاً فيكون قيام رمضان سنَّة مؤكدة (اختلف العلماء في كونها سنة أو تطوعاً، والراجح عند الأئمة الأربعة كونها سنَّة مؤكدة لمواظبة الخلفاء الراشدين للرجال والنساء إجماعاً. وذكر في "الاختيار" أن أبا يوسف سأل أبا حنيفة عنها وما فعله عمر، فقال: التراويح سنَّة مؤكدة، لم يتخرَّصه عمر من تلقاء نفسه، ولم يكن فيه مبتدعاً، ولم يأمر به إلاَّ عن أصلٍ لديه، وعهدٍ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أوجز المسالك 2/293) . وعليه جمهور أصحابنا وجمهور العلماء. وأما ما نقله بعض أصحابنا أن التراويح مستحب، فهو مخالف للدراية والرواية، وبهذا بعينه يثبت استنان الجماعة في التراويح واستنان التراويح في جميع الليالي خلافاً لما قاله بعض الفقهاء: إن السنَّة هو التراويح بقدر ختم القرآن، وبعده يبقى مستحباً، وقد حققت كلَّ ذلك مع ما له وما عليه بتحقيقٍ أنيق في رسالتي "تحفة الأخيار في إحياء سنَّة سيِّد الأبرار". (3) قوله: أن يُفرَض عليكم، قال الباجي: قال القاضي أبو بكر: يحتمل أن يكون الله أوحى إليه أنه إن واصل هذه الصلاة معهم فَرَضَها عليهم، ويحتمل أنه ظنَّ أن ذلك سيُفرض عليهم لما جرت عادَتُهُ بأنَّ ما داوم عليه على وجه الاجتماع من القُرَبِ فُرِض على أمته، ويحتمل أن يريد بذلك أنه خاف أن يظن أحد من أمته بعده إذا داوم عليه وجوبَها. (4) صلاة الليل فتعجزوا عنها كما في رواية يونس عند مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صلاةُ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: مَا كَانَ (1) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ في رمضان ولا غيرِه على إحدى (2)   (1) قوله: ما كان يزيد ... إلخ، هذا بحسب الغالب، وإلاَّ فقد ثبت عنها أنها قالت: كان يصلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم صلّى إحدى عشرة ركعة، وترك ركعتين، ثم قُبض حين قُبض وهو يصلّي تسع ركعات. أخرجه أبو داود. وثبت عنها: أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّى ثلاث عشرة ركعة، أخرجه مالك. وثبت من حديث زيد بن خالد وابن عباس أيضاً ثلاث عشرة. فمن ظن أخذاً من حديث عائشة المذكور ههنا أن الزيادة على إحدى عشرة بدعة، فقد ابتدع أمراً ليس من الدِّين وقد فصَّلته في رسالتي "تحفة الأخيار". (2) قوله: إحدى عشر ركعة، روى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبغوي والبيهقي والطبراني، عن ابن عباس: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي بعشرين ركعة والوتر في رمضان. وفي سنده إبراهيم بن عثمان أبو شيبة جد ابن أبي شيبة صاحب المصنَّف، وهو مقدوح فيه، وقد ذكرت كلام الأئمة عليه في "تحفة الأخيار". وقال جماعة من العلماء - منهم الزيلعي وابن الهمام والسيوطي والزرقاني -: إن هذا الحديث مع ضعفه معارض بحديث عائشة الصحيح في عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة، فيُقبل الصحيح ويُطرح غيره، وفيه نظر: إذ لا شكّ في صحة حديث عائشة وضعف حديث ابن عباس، لكن الأخذ بالراجح وترك المرجوح إنما يتعيَّن إذا تعارضا تعارضاً لا يمكن الجمع، وههنا الجمع ممكن بأن يُحمل حديث عائشة على أنه إخبار عن حاله الغالب كما صرَّح به الباجيّ في "شرح الموطأ" وغيره، ويُحمل حديث ابن عباس على أنه كان ذلك أحياناً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 عَشْرة رَكْعَةً (1) ، يصلِّي أَرْبَعًا، فَلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنهنَّ (2) وطولهنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا (3) فَلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنهنَّ وطولهنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاثًا (4) ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ (5) قَبْلَ أَنْ توتر؟ فقال: يا عائشة   (قلت: قد يُعمل بالضعيف لتقويته بالتعامل وغيره، يؤيِّد حديث ابن عباس عملُ الفاروق فقد تلقّته الأمة بالقبول، واستقر أمر التراويح في السنة الثانية من خلافته كما في طبقات ابن سعد 3/202) . (1) أي: غير ركعتي الفجر، كما في رواية القاسم عنها. (2) أي: إنهن في نهاية من الحُسْن والطول مستغنيات بظهور ذلك عن السؤال. (3) قوله: ثم يصلي أربعاً، وأما ما سبق من أنه كان يصلي مثنى مثنى، ثم واحدة فمحمول على وقت آخر، فالأمران جائزان، كذا في "إرشاد الساري". (4) قوله: ثم يصلي ثلاثاً، قال الزرقاني: يوتر منها بواحدة، كما في حديثه فوق هذا الحديث: كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة. انتهى. أقول: كأنه رام الجمع بين هذا الحديث الدال على أنه صلّى الوتر ثلاثاً، وبين حديثها السابق في (باب صلاة الليل) الذي يدلُّ بظاهره على أن الوتر واحدة، وليس بذلك أما أوَّلاً: فلأن للخصم أن يقول: معنى (يوتر بواحدة) يجعل الشفعَ بضم الواحدة وتراً، فلا يتعيَّن طريق الجمع في ما ذكره، وأما ثانياً: فلأنَّ الجمع بالحمل على اختلاف الأحوال ممكن بل هذا هو الصحيح، كيف وقد ثبت من حديثها صريحاً أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يسلِّم في ركعتي الوتر، كما ذكرنا في باب صلاة الليل، وإني لفي غاية العجب من الفقهاء حيث يجهدون فيما اختلف فيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باختلاف الأحوال في إبداء تأويلات ركيكة ليؤول كل الروايات إلى ما ذهبوا إليه، وأنَّى يتيسر لهم ذلك؟. (5) قوله: أتنام قبل أن توتر، بهمزة الاستفهام لأنها لم تعرف النوم قبل الوتر، لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر، وكان يوتر أول الليل، قال ابن عبد البر: في الحديث تقديم وتأخير ومعناه: أنه كان ينام قبل صلاته. وهذا يدل على أنه كان يقوم، ثم ينام، ثم يقوم، ثم ينام، ثم يقوم، فيوتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 عَيْنَايَ تَنَامَانِ (1) وَلا ينامُ قَلْبِي (2) . 240 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنّ (3) رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يرغِّبُ النَّاسَ فِي قِيَامِ (4) رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يأمُرَ (5) بِعَزِيمَةٍ، فيقول: من قام رمضان إيماناً (6)   (1) لأن القلب إذا قويت حياته لا ينام إذا نام البدن، ولا يكون ذلك إلاَّ للأنبياء كما قال عليه السلام: إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا. (2) قوله: ولا ينام، لا يعارضه نومه في الوادي لأن رؤية الفجر متعلق بالعين لا بالقلب، كذا حققه الشرّاح وفي المقام تفصيل مظانُّه الكتب المبسوطة. (3) قوله: أن ... إلخ، قال السيوطي: ليحيى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... إلخ، قال ابن عبد البر: اختلفت الرواة، عن مالك، فرواه يحيى بن يحيى هكذا متصلاً، وتابعه ابن بكير وسعيد بن عفير وعبد الرزاق وابن القاسم ومعن بن زائدة، ورواه القعنبي وأبو مصعب ومطرف وابن وهب، وأكثر رواة الموطأ، عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة مرسلاً، لم يذكروا أبا هريرة. (4) أي: صلاة التراويح قاله النووي: وقال غيره: بل مطلق الصلاة الحاصل بها قيام الليل. (5) قوله: يأمر، قال النووي: معناه لا يأمرهم أمرَ إيجابٍ وتحتيم، بل أمر ندب وترغيب، ثم فسَّره بقوله: فيقول: إلخ، وهذه الصنيعة تقتضي الترغيب والندب دون الإِيجاب. (6) قال النووي: معناه تصديقاً بأنه حق معتقداً فضيلته، وأن يريد به وجْهَ الله، ولا يقصد رؤيَة الناس ولا غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 وَاحْتِسَابًا غُفر لَهُ مَا تقدَّم (1) مِنْ ذَنْبِهِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوُفِّيَ (2) النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالأَمْرُ (3) عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا (4) مِنْ خِلافَةِ عمرَ عَلَى ذَلِكَ. 241 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبدٍ (5)   (1) قوله: ما تقدم من ذنبه، قال النووي: المعروف عند الفقهاء أن هذا مختص بغفران الصغائر دون الكبائر، وقال بعضهم: يجوز أن يخفِّف من الكبائر إذا لم يصادفه صغيرة، وقال ابن حجر: ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر، وأخرج ابن عبد البر من طريق حامد بن يحيى، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخّر (أخرجه البخاري في: 31 - كتاب صلاة التراويح، 1 - باب فضل من قام رمضان، ومسلم في: 6 - كتاب صلاة المسافرين، 25 - باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، رقم الحديث 174) ، كذا في "التنوير". (2) قال الباجي: هذا مرسل أرسله الزهري. (3) قوله: والأمر على ذلك، قال الباجي: معناه أن حال الناس على ما كانوا عليه في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم من ترك الناس والندب إلى القيام، وأن لا يجتمعوا فيه على إمام يصلي بهم خشية أن يُفرض عليهم ويصحّ أن لا يكونوا يصلون إلاَّ في بيوتهم، أو يصلي الواحد منهم في المسجد، ويصح أن يكونوا لم يجمعوا على إمام واحد، ولكنهم كانوا يصلون أوزاعاً متفرقين. (4) أي: في أوائل خلافته. (5) بالتنوين بلا إضافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 الْقَارِيِّ (1) : أَنَّهُ خَرَجَ (2) مَعَ عمرَ بنِ الْخَطَّابِ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ، فَإِذَا الناسُ أوزاعٌ (3) متفرِّقون، يصلِّي الرجلُ (4) فيصلِّي بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ (5) ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَظُنُّنِي لَوْ جمعتُ هَؤُلاءِ عَلَى قارئٍ (6) واحدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ (7) ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ (8) على أبيّ بن   (1) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خُزيمة. (2) في المسجد النبوي. (3) أي: جماعات متفوقون. (4) بيان لما مأجمله أولاً. (5) ما بين الثلاثة إلى العشرة. (6) لأنه أنشط لكثير من المصلين ولما في الاختلافِ من افتراقِ الكلمة. (7) قوله: لكان أمثل، قال ابن التين وغيره: استنبط عمر من تقرير النبي صلّى الله عليه وسلّم مَن صلّى ما هو في تلك الليالي وإن كان كره لهم ذلك، فإنما كرهه خشية أن يُفرض عليهم، فلما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم حصل الأمنُ من ذلك، ورأى عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة. (8) في سنة أربعَ عشرةَ من الهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 كعب (1) (2) ،   (1) قوله: على أبيّ بن كعب، كأنه اختاره عملاً بحديث يؤمُّ القومَ أقرؤهم، وقد قال عمر: أقرؤنا أبيٌّ، ذكره ابن عبد البر وابن حجر، وتبعهما من جاء بعدهما، وقد استخرجت لذلك أصلاً آخر لطيفاً، وهو أنه قد علم أن أُبَيّاً كان يصلي بالناس في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأثنى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأحبّ عمر أن يجمع الناس به، وذلك لما أخرجه أبو داود، عن أبي هريرة: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا أناسٌ في رمضان يصلّون في ناحية المسجد، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء ناسٌ ليس معهم قرآن وأبيُّ بن كعب يصلِّي وهم يصلون بصلاته، فقال: أصابوا، ونِعْمَ ما صنعوا. وقال ابن حجر (انظر فتح الباري 4/252، وبذل المجهود 7/159، وحديث مسلم بن خالد مؤيَّد بروايات عديدة كما في الأوجز 2/291. وهذا الحديث صريح في أن الصلاة بجماعة كانت شائعة في زمانه صلّى الله عليه وسلّم وليس المراد من جمع عمر الناس على أبيّ إلاَّ مثل جمع عثمان على القرآن) : فيه مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف والمحفوظ أن عمر هو الذي جمع الناس على أبي بن كعب. انتهى. وفيه نظر فإن مسلم بن خالد وإن ضعَّفه ابن معين في رواية وأبو داود، لكن وثقه ابن معين في رواية ابن حبان، وأما كون عمر أول من جمع الناس على أبيّ كما هو المعروف، فهو لا ينافي ذلك لأن صلاة أبيّ مع الناس في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن من اهتمامه، ولم يكن من أمره والاهتمام به، والإِجماع على إمام واحد إنما كان في زمن عمر، فهو أول من فعل ذلك، وقد حقَّقت المرام في "تحفة الأخيار". ثم جمع الناس على أبيّ في عهد عمر إنما كان للرجال، وأما النساء فكان إمام آخر كما أخرجه سعيد بن منصور من طريق عروة أن عمر جمع الناس على أبيّ بن كعب، فكان يصلّي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء، وفي رواية محمد بن نصر في "كتاب قيام الليل" في ذكر إمام النساء سليمان بن أبي حَثْمة، قال ابن حجر: لعل ذلك كان في وقتين. انتهى. وعلى هذا يُحمل اختلاف ما رواه مالك، عن السائب أن عمر أمر أبي بن كعب وتميماً أن يكون بإحدى عشرة ركعة، مع ما رواه هو والبيهقي أن عمر جمع الناس على ثلاث وعشرين ركعة، مع الوتر، فيحمل ذلك على أن الاقتصار على الأول كان في البداء، ثم استقر الأمر على عشرين، ذكره ابن عبد البر. (2) أي: جعله إماماً لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 قَالَ: ثُمَّ خرجتُ مَعَهُ (1) لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يصلّون (2) بصلاة (3) قارئهم (4) ، فقال: نِعْمَتْ (5)   (1) أي: مع عمر. (2) قوله: يصلّون ... إلخ، هو صريح في أن عمر لم يكن يصلي معهم لأنه كان يرى أن الصلاة في بيته، ولا سيَّما في آخر الليل أفضل، كذا في "التنوير". (3) قوله: بصلاة، فيه دليل على أن عمر لم يكن يصلي معه، وكذا ورد في رواية الطحاوي وغيره، عن ابن عمر وجماعة من التابعين أنهم كانوا لا يصلّون مع الإِمام، بل في بيوتهم، فدلَّ ذلك على أن الجماعة في التراويح سنة على الكفاية (قال النووي في شرح مسلم 3/39: اختلفوا في أنَّ الأفضل صلاتها منفرداً في بيته أم في جماعة في المسجد؟ فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم واستمرّ عمل المسلمين عليه، لأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد، وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية: الأفضل فرادى في البيت. اهـ. ولا يذهب عليك أن اختيار الموالك أفضلية البيت مقيَّد بعدم تعطل المساجد كما صرَّح به في "مختصر خليل") . (4) أي: إمامهم المذكور. (5) قوله: نعمت البدعة، يريد صلاة التراويح، فإنه في حيِّز المدح وفيه تحريض على الجماعة المندوب إليها وإن كانت لم تكن في عهد أبي بكر، فقد صلاّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما قطعها إشفاقاً من أن تُفرض على أمته، وكان عمر ممَّن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 البدعةُ (1) هَذِهِ، وَالَّتِي (2) يَنَامُونَ عَنْهَا أفضلُ (3) مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ فِيهَا. يُرِيدُ آخرَ اللَّيْلِ وَكَانَ الناسُ يَقُومُونَ (4) أَوَّلِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، لا بأسَ بالصَّلاة فِي شَهْرِ رمضانَ أَنْ يصليَ النَّاسُ تطوُّعاً (5) بإِمَامٍ، لأَنَّ المسلمينَ قد أَجمعوا على ذلك (6)   نبَّه عليها، وسنَّها على الدوام فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، كذا في "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبي. (1) قوله: البدعة، فيه إشارة إلى أنها ليست ببدعة شرعية حتى تكون ضلالة، بل بدعة لغوية وهي حسنة، وقد حقَّقت الأمر في ذلك في رسالتي "إقامة الحجة على أن الإِكثار في التعبد ليس ببدعة". (2) أي: الصلاة التي. (3) قال ابن حجر: هذا التصريح بأن الصلاة آخر الليل أفضل. (4) قوله: يقومون، أي: في الابتداء، ثم جعله عمر في آخر الليل لقول ابن عباس: دعاني عمر أتغدّى معه في رمضان، يعني السحور، فسمع هَيْعَة الناس حين انصرفوا، فقال عمر: أما إن الذي بقي من الليل أحب مما مضى، كذا ذكره الزرقاني. (5) قوله: تطوُّعاً، إطلاق التطوُّع على التراويح باعتبار أنها زائدة على الفرائض، وبهذا المعنى يطلق التطوع على جميع السنن، فلا ينافي ذلك كونه سنة مؤكدة، كما صرح به الجمهور من أصحابنا وغيرهم، أخذاً من المواظبة النبوية الحُكْمية، ومن المواظبة الحقيقية من الصحابة، ومن المواظبة التشريعية من الخلفاء. (6) قوله: على ذلك، أي: على صلاتهم بإمامهم في ليالي رمضان في زمان الخلفاء عمر وعثمان وعلي فمَنْ بعدَهم إلى يومنا هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 ورأَوْه حسناً (1) .   (1) قوله: ورأوه حسناً، كما يدل عليه قول عمر: نعمت البدعة، قال ابن تيمية في "منهاج السنة": إنما سمّاه بدعة لأنَّ ما فُعل ابتداءً بدعة في اللغة، وليس ذلك بدعةً شرعية، فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة ما فُعل بغير دليل شرعي كاستحباب ما لم يُحبه الله، وإيجاب ما لم يوجبه الله، وتحريم ما لم يحرمه الله. انتهى. وبه يندفع ما يقال: إن قول عمر نعمت البدعة مخالف لحديث "كل بدعة ضلالة" بأن المراد بالبدعة في الكلية البدعة الشرعية، وتوصيف الحسن للبدعة اللغوية ولم يُرْوَ عن أحد من الصحابة في زمان الخلفاء فمن بعدهم الإِنكار على ذلك، بل قد وافقوا عمر في كونه حسناً، وباشروا به، وأمروا، واهتموا به، فأخرج ابن أبي شيبة في "المصنَّف" عن وكيع، عن هشام، عن أبي بكر بن أبي مُلِيْكة أن عائشة أعتقت غلاماً لها عن دبر، فكان يؤمُّها في رمضان في المصحفِ، وعلقه البخاري في "باب إمامة العبد" بلفظ: وكانت عائشة يؤمها ذكوان من المصحفِ. وأخرج محمد في كتاب "الآثار" عن إبراهيم النَّخَعي أن عائشة تؤمُّ النساء في شهر رمضان فتقوم وسطاً، وأخرج البيهقي عن السائب: كانوا يقومون على عهد عمر في شهر رمضان بعشرين ركعة، وأخرج عن عروة أن عمر أوَّل من جمع الناس على قيام رمضان، الرجال على أُبَيّ بن كعب والنساء على سليمان بن أبي حَثْمة، زاد ابن سعد: فلما كان عثمان جمع الرجال والنساء على إمام واحد سليمان بن أبي حَثْمة. وأخرج البيهقي عن شبرمة - وكان من أصحاب عليّ - أنه كان يؤمُّهم في رمضان، فيصلّي خمس ترويحات. وأخرج أيضاً أنهم كانوا يقومون على عهد عمر بعشرين ركعة، وعلى عهد عثمان وعلي مثله، وأخرج أيضاً عن عرفجة: كان عليٌّ يأمر الناس بقيام رمضان. ويجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً، قال عرفجة: فكنت أنا إمامَ النساء. وعن أبي عبد الرحمن السُّلَمي: أن عليّاً دعا القُرّاء في رمضان، فأمر رجلاً بأن يصلّي بالناس عشرين ركعة، وكان عليٌّ يوتر بهم. وروي عن علي أنه قال: نوَّر الله قبر عمر كما نوَّر علينا مساجدنا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 وَقَدْ رُوي (1) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم   ذكره ابن تيمية. وفي الباب آثار كثيرة. فإن قلت: قد روى الطحاويُّ وغيره تخلُّفَ ابن عمر وعروة وجماعة من التابعين عن صلاة الجماعة في ليالي رمضان فكيف يصح قول محمد: لأن المسلمين أجمعوا على ذلك؟ قلت: تخلّفهم لأنهم كانوا يَرَوْن الصلاة في البيوت أو في آخر الليل أفضل، لكن لم يُنقل عن أحد منهم أنهم أنكروا على اجتماعهم على إمام واحد في المسجد، ورأَوْه قبيحاً، فإنْ لم يثبت الإِجماع على المباشرة فلا مناص عن ثبوت الإِجماع على كونه حسناً، وهو مراد محمد، فإنَّ ضمير قوله: (على ذلك) يَرجع إلى ما ذكره بقوله لا بأس إلى آخره، فليس غرضه الإِجماع على المباشرة، بل الإِجماع على أنه لا بأس بذلك، وعلى أنه حسن، وبالجملة المواظبة التشريعية ثابتة من الصحابة، فمن بعدهم، على حسن أداء التراويح عشرين ركعة بالجماعة (قال الكساني: إن عمر رضي الله عنه جمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شهر رمضان على أبيّ بن كعب فصلّى بهم كل ليلة عشرين ركعة، ولم ينكر عليه أحد، فيكون إجماعاً منهم على ذلك. اهـ. وفي المغني 1/803: وهذا كالإِجماع) ، أما روايات التراويح في عهد عمر على وجوه: منها إحدى عشر ركعة وثلاث وعشرون ركعة في الموطأ قال ابن عبد البر: روى غير مالك في هذا الحديث إحدى وعشرون وهو الصحيح ويقول: إن الأغلب أن قوله إحدى عشر وهم رجحه الشيخ في أوجز المسالم 2/301 ولكن نسب الوهم إلى محمد بن يوسف لأن نسبة الوهم إلى الإمام مالك أبعد من النسبة إليه، وإن لم يثبت الإِجماع الفعلي من جميعهم، فافهم، فإنه من سوانح الوقت. (1) قوله: وقد رُوي ... إلى آخره، أقول: هذا صريح في أن "ما رآه المؤمنون حسناً" الحديث مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يزل الفقهاء والأصوليون من أصحابنا وغيرهم يذكرونه مرفوعاً، وكلمات جماعة من المحدثين شهدت بأنه ليس بمرفوع، بل هو قول ابن مسعود، بل نص بعضهم على أنه لم يوجد مرفوعاً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   طريق أصلاً، وكنت قد مِلْت إليه في رسالتي "تحفة الأخيار"، ففي "المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة" (المقاصد الحسنة ص 367، وأخرجه البزّار في كشف الأستار 1/80) لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي: حديث: "ما رآه المسلمون حسناً"، أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود من قوله، وكذا أخرجه البزّار والطيالسي والطبراني وأبو نعيم في "حلية الأولياء" في ترجمة ابن مسعود، بل هو عند البيهقي في "الاعتقاد" من وجه آخر عن ابن مسعود، انتهى. كلامه من نسخة مقروءة عليه، وعليها خطّه في مواضع، وفي نسخة أخرى للمقاصد: حديث: "ما رآه المسلمون" أخرجه (سقط من الأصل: "أخرجه") أحمد في كتاب "السنَّة" - ووهم من عزاه للمسند - من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فاختار محمداً صلّى الله عليه وسلّم فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فاختار له أصحاباً فجعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيه، "فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن"، وكذا أخرجه البزار والطيالسي والطبراني وأبو نعيم في ترجمة ابن مسعود من "الحلية"، بل هو عند البيهقي في "الاعتقاد" من وجه آخر، عن ابن مسعود. انتهى. وفي "الأشباه والنظائر" للزين بن نُجَيم المِصْري عند ذكر القاعدة السادسة من النوع الأول من الفن الأول، وهي أن العادة محكمة، أصلها: قوله عليه السلام "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"، قال العلائي: لم أجده مرفوعاً في شيء من كتب الحديث أصلاً، ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول ابن مسعود موقوفاً عليه، أخرجه أحمد في "مسنده" انتهى. وفي "حواشي الأشباه" للسيد أحمد الحموي عند قوله: (أخرجه أحمد في "مسنده") قال السخاوي في "المقاصد الحسنة": حديث ما رآه المسلمون حسناً رواه أحمد في كتاب "السنة" - ووهم من عزاه للمسند - من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود، وهو موقوف حسن. انتهى. فكأنَّ العلائي تبع من وهم في نسبه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   "المسند" انتهى. ثم منحني الله تعالى باشتراء قطعة من "مسند الإِمام أحمد" فإذا فيه في مسند عبد الله بن مسعود، قال أحمد: نا أبو بكر، نا عاصم، عن زرّ ابن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن الله عزَّ وجل نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فوجد قلوب أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيِّئٌ، انتهى. فعلمت أن نسبة الوهم إلى من نسبه إلى "مسند أحمد" كما صدر عن السخاوي وغيره وهم، لعله صدر من عدم مراجعة "مسند أحمد"، أو يكون ذلك لاختلاف النسخ (قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/177 و 178: أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون) ثم بحثت عن رفع هذا الخبر ظناً مني أنه لا بد أن يكون في كتاب من الكتب طريق له مرفوعاً، وإن كان مقدوحاً، وإلاّ فيُستبعد أن ينسبه الجم الغفير من المفسرين والفقهاء والأصوليون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من غير وجود طريق مرفوع له فإن منهم المحدثين الذين بحثوا عن الإِسناد، وكشفوا الغطاء عن وجه المراد، فيستبعد منهم وقوع ذلك وإن لم يستبعد ممن لا يعدّ من المحدثين، ذلك لعدم مهارته في ما هنالك، فبعد كثرة التتّبع اطَّلعت على سند مرفوع له في "كتاب العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" لابن الجوزي، لكن لا سالماً من القدح، بل مجروحاً بغاية الجرح، وهذه عبارته في (باب فضل الصحابة) من كتاب الفضائل: أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أنا محمد بن إسماعيل بن عمر البجلي، قال: أنا يوسف بن عمر، قال: قُرئ على أحمد بن أبي زهير البخاري وأنا أسمع، قيل له: حدثكم علي بن إسماعيل؟ قال: أنا أبو معاذ رجاء بن معبد، قال: نا سليمان بن عمرو النخعي وأنا أسمع، قال: حدثنا أبان بن أبي عياش وحميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله نظر في قلوب العباد، فلم يجد قلباً أتقى من أصحابي فذلك أخيارهم، فجعلهم أصحاباً، فما استحسنوا فهو عند الله حسن، وما استقبحوا فهو عند الله قبيح، قال المؤلف - أي ابن الجوزي -: تفرد به النخعي، قال أحمد بن حنبل: كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 أَنَّهُ قَالَ: مَا رَآهُ (1) المُؤْمِنُوْنَ حَسَنَاً فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حسنٌ، وَمَا رآهُ المسلِمُونَ قَبيحاً فهو عندَ اللَّهِ قَبِيْحٌ.   يضع الحديث، وقال المؤلف أيضاً: قلت: هذا الحديث إنما يُعرف من كلام ابن مسعود. انتهت. فعلمت أن هذا هو وجه انتسابهم قول "ما رآه المسلمون حسناً"، إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكن لا يخفى ما في الطريق المرفوع من وقوع سليمان بن عمرو النخعي، وهو كذاب على ما نقله ابن الجوزي، ونقل برهان الدين إبراهيم بن محمد بن خليل الشهير بسبط ابن العجمي في رسالته "الكشف الحثيث عمن رُمي بوضع الحديث"، عن ابن عَدِيّ أنه قال: أجمعوا على أن سليمان بن عمرو النخعي يضع الحديث، وعن ابن حبان: كان رجلاً صالحاً في الظاهر إلاَّ أنه كان يضع الحديث وضعاً، وكان قَدَرياً، وعن الحاكم: لست أشك في وضعه للحديث. انتهى. (1) قوله: ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن إلى آخره، اعلم أنه قد جرت عادة كثير من المتفقهين بأنهم يستدلون بهذا الحديث على حُسن ما حدث بعد القرون الثلاثة من أنواع العبادات وأصناف الطاعات ظنّاً منهم، أنه قد استحسنها جماعة من العلماء والصلحاء، وما كان كذلك فهو حسن عند الله، لهذا الحديث. ويُرَدُّ عليهم من وجهين: أحدهما: أنه حديث موقوف على ابن مسعود فلا حجة فيه، ويجاب عنهم بأنه إن ثبت رفع هذا الحديث على ما ذكره جمع منهم محمد فذاك، وإلاَّ فلا يضر المقصود لأن قول الصحابي: في ما لا يُعقل له حكم الرفع، على ما هو مصرَّح في أصول الحديث، فهذا القول وإن كان قولَ ابن مسعود لكن لمّا كان مما لا يُدرَك بالرأي والاجتهاد صار مرفوعاً حكماً، فيصح الاستدلال به، وثانيهما: أنه لا يخلو إما أن يكون اللام الداخلة على المسلمين في هذا الحديث للجنس أو للعهد أو للاستغراق ولا رابع، أما الأول فباطل، لأنه حينئذٍ تبطل الجمعية، ويلزم أن يكون ما رآه مسلم واحد أيضاً وإن خالفه الجمهور حسناً عند الله ولم يقل به أحد، وأيضاً يلزم منه أن يكون ما أحدثته الفرق الضالة من البدعات والمنهيات أيضاً حسناً لصدق رؤية مسلم حسناً، وهو باطل بالإِجماع، وأيضاً يخالف حينئذٍ قوله صلّى الله عليه وسلّم: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلاَّ واحدة"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "من يعِش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين"، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تدل على أنه ليس كل ما حدث بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس كل ما أحدثه مسلم من أمته حسناً، وإذا بطل أن يكون اللام للجنس تعيَّن أن يكون للعهد أو للاستغراق، أما على الأول: فالمعهود إما المسلمون الكاملون كأهل الاجتهاد كما قال عليّ القاري في "المرقاة": المراد بالمسلمين زُبدتهم وعُمدتهم، وهم العلماء بالكتاب والسنَّة الأتقياء عن الشبهة والحرام. انتهى. وإما الصحابة وهو الأظهر، بل لا يميل القلب الصادق إلى سواه، لكونه بعض حديث من حديث طويل مشتمل على توصيف الصحابة، والأصل في اللام هو العهد الخارجي، ويؤيده دخول الفاء على قوله: "ما رآه المسلمون" على ما هو أصل الرواية وإن اشتهر بحذفها على لسان الأمة فإذن لا يدل الحديث إلاَّ على حُسن ما استحسنه الصحابة أو ما استحسنه الكاملون من أهل الاجتهاد لا على ما استحسنه غيرهم من العلماء الذين حدثوا بعد القرون الثلاثة، ولا حظّ لهم من الاجتهاد، وما لم يدخل ذلك في أصل شرعي، وأما على الثاني: فإما أن يكون للاستغراق الحقيقي فلا يدل إلاَّ على حسن ما استحسنه جميع المسلمين، لا على حسن ما وقع الاختلاف فيه، وإما أن يكون للاستغراق العرفي وهو استغراق المسلمين الكاملين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين، وبعد اللُّتيّا واللَّتي أقول: كلام محمد - رحمه الله تعالى - ههنا صافٍ من الكدورات لأنه إنما استدل بهذا الحديث على حُسن قيام رمضان بالجماعة، وهو أمر استحسنه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون والعلماء الكاملون، وما استحسنه هؤلاء فهو عند الله حسن بلا ريب، وما استقبحه هؤلاء فهو عند الله قبيح بلا ريب، وبالجملة فهذا الحديث نِعْمَ الدليل على حسن ما استحسنه الصحابة وغيرهم من المجتهدين، وقبح ما استقبحوه، وأما ما استحسنه غيرهم من العلماء فالمرجع فيه إلى القرون الثلاثة، أو إلى دخوله في أصل من الأصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 72 - (بابُ القنوتِ فِي الْفَجْرِ) 242 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نافعٍ قال: كان (1) ابنُ عمرَ   الشرعية، فما لم يوجد في القرون الثلاثة، ولم يستحسنه أهل الاجتهاد ولم يوجد له دليل صريح أو ما يدخل فيه من الأصول الشرعية، فهو ضلالة بلا ريب، وإن استحسنه مستحسن، فافهم. (1) قوله: كان ابن عمر لا يقنت في الفجر، هكذا رُوي عنه بروايات متعددة، وعن جماعة من الصحابة، فمنهم من لم يختلف عنه، ومنهم من رُوي عنه القنوت والترك كلاهما، فأخرج ابن أبي شيبة عن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا لا يقنتون في الفجر. وأخرج عن عليّ أنه لما قنت في الفجر أنكر عليه الناس ذلك، فلما سلَّم قال: إنما استنصرنا على عدونا. وأخرج أيضاً عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وابن عمر أنهم كانوا لا يقنتون في الفجر. وأخرج محمد في "الآثار"، عن الأسود بن يزيد أنه صحب عمر سنين في السفر والحضر، فلم يره قانتاً في الفجر حتى فارقه. وأخرج البيهقي، وضعَّفه، عن ابن عباس قال: القنوت في الصبح بدعة. وأخرج الحازمي في كتاب "الاعتبار"، عن ابن مسعود قال: لم يقنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاَّ شهراً، لم يقنت قبله ولا بعده. وأخرج عن ابن عمر أنه قال: رأيت قيامكم عند فراغ القارئ والله إنه لبدعة، ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غيرَ شهر واحد، ثم تركه. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" أن عليّاً وأبا موسى كانا يقنتان في الفجر. وأخرج أيضاً عن إبراهيم: كان عبد الله لا يقنت في الفجر، وأول من قنت فيها علي، كانوا يرون أنه إنما فعل ذلك، لأنه كان محارباً. وأخرج عن ابن عباس أنه قنت في الفجر قبل الركعة، وأخرج أن ابن عمر وابن عباس كانا لا يقنتان في الصبح. وأخرج عن ابن مسعود أنه كان لا يقنت في شيء من الصلاة إلاَّ الوتر، فإنه كان يقنت فيهما قبل الركعة. وأخرج عن ابن الزبير أنه كان لا يقنت في الصبح. وأخرج عن عمر أنه كان يقنت، ومن طريق آخر أنه كان لا يقنت، ومن طريق أنه إذا كان محارِباً قنت، وإلاَّ لا. وذكر الحازمي أن ممَّن رُوي عنه القنوت عمار بن ياسر وأُبَيّ بن كعب وأبو موسى وعبد الرحمن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 لا يَقْنُتُ (1) فِي الصُّبْحِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.   أبي بكر وابن عباس، وأبو هريرة والبراء وأنس وسهل بن سعد وغيرهم (في الأصل: "غيره"، والصواب: "غيرهم") . ولاختلاف الصحابة في ذلك وقع الاختلاف بين التابعين والأئمة المجتهدين، فمن ذهب إلى القنوت في الفجر سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وأبان بن عثمان وقتادة وطاووس وعبيد بن عمير وعَبيدة السَّلماني وعروة بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى وحماد ومالك بن أنس وأهل الحجاز والأوزاعي وأكثر أهل الشام والشافعي وأصحابه والثوري في رواية وغيرهم كذا ذكره الحازمي، وذهب نفر من الأئمة منهم إبراهيم والثوري في رواية وأبو حنيفة (إن الحنفية والحنابلة متفقون في دوام قنوت الوتر دون الفجر وقنوت اللعن عندهم مخصوص بالنوازل يكون في رمضان أو في غيره. انظر أوجز المسالك 2/308) وأصحابه إلى أن لا قنوت في شيء من الصلوات إلاَّ في الوتر وإلاّ (في الأصل: "إلاَّ"، والصواب: "وإلاَّ") في نازلة، فإنه حينئذٍ يُشرع القنوت في الفجر. وأما الأخبار المرفوعة في ذلك فمختلفة اختلافاً فاحشاً، فورد أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقنت في الصلوات كلها، وورد أنه كان يقنت في الفجر والمغرب، وورد أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، وورد أنه لم يقنت إلاَّ شهراً يدعو على قوم من الكفار، ثم تركه، وورد الاختلاف أيضاً في القنوت قبل الركوع أو بعده، وورد في بعض الروايات أنه كان لا يقنت إلاَّ أن يدعو لقوم أو على قوم. ولا نزاع بين الأئمة في مشروعية القنوت، ولا في مشروعيتِه للنازلة، إنما النزاع في بقاء مشروعيته لغير النازلة، فأصحابنا يقولون: القنوت كان حين كان ثم ترك، وغيرنا يقولون لم يزل ذلك في الصبح، وإنما تُرك في باقي الصلوات، والكلام في المقام طويل من الجوانب إبراماً وجرحاً وإيراداً ودفعاً، مظانُّه الكتب المبسوطة كـ"الاستذكار"، و"شرح معاني الآثار"، و"تخريج أحاديث الهداية" وغير ذلك. (1) بل روي عنه أنه بدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 73 - (بَابُ فضلِ صلاةِ الْفَجْرِ فِي الْجَمَاعَةِ وَأَمْرِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) 243 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ (1) بنِ سليْمَانَ بنِ أَبِي حثْمةَ: أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّاب فَقَدَ سليمانَ (2) بْنَ أَبِي حثْمة (3) فِي صلاةِ الصُبْح، وأنَّ عُمَرَ غَدا (4) إِلَى السُّوقِ وَكَانَ مَنْزِلُ (5) سُلَيْمَانَ بَيْنَ السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ، فمرَّ عُمَرُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمَانَ الشِّفاء (6) (7) ، فَقَالَ: لَمْ أَرَ (8) سُلَيْمَانَ فِي الصبح، فقالت: بات يصلي (9)   (1) قوله: أبي بكر، ثقة، عارف بالنسب، لا يُعرف اسمه، واسم أبي حثمة عبد الله بن حذيفة العدوي المدني، كذا في "التقريب". (2) قوله: سليمان، قال ابن حبان: له صحبة، وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم، واستعمله عمر على السوق وجمع الناس عليه في قيام رمضان، كذا ذكره الزرقاني. (3) بفتح المهملة وإسكان المثلثة. (4) أي: ذهب بالغدوة، أي: الصبح. (5) ولذا استعمله على السوق لقربه منه. (6) بكسر الشين. (7) قوله: الشفاء، هي بنت عبد الله بن عبد شمس بن خالد القرشية العدوية من المبايعات، قال أحمد بن صالح: اسمها ليلى، وغلب عليها الشفاء، كذا في "الاستيعاب". (8) فيه تفقد الإِمام رعيته في شهود الخير. (9) أي: النوافل بالليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 فَغَلَبَتْهُ (1) عَيْنَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لأَنْ أَشْهَدَ (2) صلاةَ الصبح أحبُّ إليَّ (3) من أن أقوم الليلة. 244 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سكَتَ (4) المؤذِّنُ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ (5) وَبَدَأَ (6) الصُّبْحُ (7) رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ (8) خَفِيفَتَيْنِ (9) قَبْلَ أَنْ تُقام الصَّلاةُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ   (1) أي نام. (2) أي: أحضر مع الجماعة. (3) لما في ذلك من الفضل الكبير. (4) يستنبط منه أن لا يصلي عند الأذان، بل يشتغل في الجواب. (5) والجملة حالية. (6) أي: ظهر. (7) هذه الجملة إنما زيدت لئلا يُتَوَهَّم أنه كان يصلّي ركعتي الفجر بعد الأذان الأول الذي يؤذن به قبل طلوع الفجر. (8) قوله: ركعتين، في رواية عَمْرة، عن عائشة: ثم يصلي إذا سمع النداء أي ركعتين خفيفتين حتى إنّي لأقول هل قرأ بأمّ الكتاب أم لا؟ (9) قوله: خفيفتين، اختلف في حكمة تخفيفهما فقيل: ليبادر إلى صلاة الصبح، وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 يخفَّفان (1) (2) . 245 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلا رَكَعَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ (3) فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا شَأْنُهُ (4) ؟ فَقَالَ نَافِعٌ: فَقُلْتُ: يَفْصِلُ بَيْنَ صلاته، قال ابن عمر:   (1) في نسخة: مُخَفَّفَتان. (2) قوله: يخفَّفان، بأن يقرأ فيهما: {قل يا أيها الكافرون} ، و {قل هو الله أحد} ، كما أخرجه مسلم وغيره أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقرأهما فيهما، ولأبي داود: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا} في الركعة الأولى، وفي الثانية {ربَّنا آمنّا بما أَنْزَلْتَ واتَّبعنا الرسول} . (3) قوله: ثم اضطجع ... إلخ، لا شبهة في ثبوت الاضطباع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قولاً وفعلاً بعد ركعتي الفجر، أو قبلهما بعد صلاة الليل، وثبوت الترك عنه (الصواب هو الجمع بين الحديثين معاً، وأحسن الجمع ما نقله شيخنا عن والده - نوّر الله مرقده وبرّد مضجعه - أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان يفرغ من قيام الليل قبل طلوع الفجر يضطجع إلى أن يأتيه المؤذِّن بصلاة الفجر فيقوم فيصلي ركعتي الفجر ويغدو إلى الصلاة، وإذا فرغ من قيام الليل عند طلوع الفجر فيصلي ركعتي الفجر أيضاً لما قد حان وقته ويضطجع بعد ذلك. أوجز المسالك 2/329) ، أما ثبوته فعلاً بعد ركعتي الفجر، ففي حديث عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى ركعتي الفجر اضطجع على شِقِّه الأيمن، أخرجه البخاري وغيره. وأما ثبوته قبلهما، ففي حديثها من رواية مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، وقد مرَّ في (باب صلاة الليل) . وأما ثبوته قولاً، ففي حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا صلّى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه، أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح. وأما ثبوت الترك ففي حديث عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلّى سنَّة الفجر فإن كنت مستيقظةً حدثني وإلاَّ اضطجع حتى يؤذن بالصلاة، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم، وقد اختلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   العلماء في ذلك على ستة أقوال على ما ذكره العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري". الأول أنه سنَّة، وهو مذهب الشافعي وأصحابه، والثاني: أنه مستحب، وروي ذلك عن أبي موسى الأشعري، ورافع بن خَديج وأنس وأبي هريرة، ومحمد بن سيرين وعروة وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد، والثالث: واجب لا بد منه، وهو قول ابن حزم، والرابع: بدعة، وبه قال عبد الله بن مسعود وابن عمر على اختلاف عنه، فروى ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود قال: ما بال الرجل إذا صلّى الركعتين يتمعَّك كما تتمعَّك الدابة والحمار، إذا سلَّم فقد فصل. وروى أيضاً أن ابن عمر نهى عنه، وأخبر أنها بدعة، وممن كره ذلك من التابعين الأسود وإبراهيم النخعي، وقال: هي ضجعة الشيطان. أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وحكاه عياض عن مالك وجمهور العلماء، والخامس: أنه خلاف الأولى، عن الحسن أنه كان لا يعجبه، والسادس أنه ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود الفصل بين ركعتي الفجر والفريضة، إما باضطجاع أو حديث أو غير ذلك وهو محكيّ عن الشافعي. انتهى كلام العيني ملخصاً. قلت: ظاهر الأحاديث القولية والفعلية تقتضي مشروعية الضجعة بعد ركعتي الفجر، فلا أقلَّ من أن يكون مستحباً إن لم يكن سنَّة، وأما حمل ابن حزم الأمر للوجوب فيبطله ثبوت الترك، وأما إنكار ابن مسعود وابن عمر فإما أن يُحمل على أنه لم يبلغهما الحديث، وهو غير مستبعد، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما كان يصلي ركعتي الفجر، ويضطجع بعدهما في بيته، وابن مسعود وابن عمر لم يكونا يحضرانه في ذلك الوقت، وعائشة أعلم بحاله في ذلك الوقت، وقد أخبرت بوقوعه، وإما أن يُحمل على أنهما بلغهما الحديث لكن حملاه على الاستراحة، لا على التشريع، أو حملاه على كونه في البيت خاصاً، لا في المسجد أو نحو ذلك، والله أعلم. وفي "شرح القاري"، قال ابن حجر المكي في "شرح الشمائل": روى الشيخان أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلّى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن، فتُسنّ هذه الضجعة بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 وَأَيُّ فَصْلٍ (1) (2) أَفْضَلُ مِنَ السَّلامِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وبقولِ ابنِ عمرَ (3) نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة - رحمه الله -.   سنَّة الفجر وفرضه، لذلك ولأمره صلّى الله عليه وسلّم، كما رواه أبو داود وغيره بسند لا بأس به، خلافاً لمن نازع، وهو صريح في ندبها لمن في المسجد وغيره خلافاً لمن خصَّ ندبَها بالبيت، وقول ابن عمر إنها بدعة وقول النخعي إنها ضجعة الشيطان، وإنكار ابن مسعود لها فهو لأنه لم يبلغهم ذلك. وقد أفرط ابن حزم في قوله بوجوبها، وإنها لا تصح الصلاة بدونها. انتهى. ولا يخفى بُعْد عدم البلوغ إلى هؤلاء الأكابر الذين بلغوا المبلغ الأعلى، لا سيما ابن مسعود الملازم له في السفر والحضر، وابن عمر المتفحِّص عن أحواله صلّى الله عليه وسلّم، فالصواب حمل إنكارهم على العلة السابقة من الفصل، وعلى فعله في المسجد بين أهل الفضل. (4) أي: لِمَ فعل ذلك. (1) قوله: فصل، وذلك لأن السلام إنما ورد للفصل، وهو لكونه واجباً أفضل من سائر ما يخرج من الصلاة من الفعل والكلام، وهذا لا ينافي ما سبق من أنه عليه السلام كان يضطجع في آخر التهجّد تارةً وتارةً بعد ركعتي الفجر في بيته للاستراحة، كذا قال علي القاري. (2) فيه إشارة إلى أنه لا حاجة إلى الضجعة للفصل، بل هو حاصل بالسلام، وليس فيه إنكار الضجعة مطلقاً. (3) أي: لا يحتاج إلى الاضطجاع للفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 74 - (بَابُ طولِ القراءةِ فِي الصَّلاةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ التَّخْفِيفِ) 246 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا الزُّهريّ، عَنْ عبيْد اللهِ بنِ عبدِ اللَّهِ (1) عَنِ ابْنِ عَبَّاس، عَنْ أمِّه أمِّ الفَضلِ (2) : أنَّها سَمِعَتْهُ (3) يَقْرَاُ {والمُرْسَلاَتِ} ، فَقَالَتْ: يَا بنيَّ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بقِراءتِكَ هَذِهِ السورةَ إِنَّهَا لآخِرُ (4) (5) مَا سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأُ فِي المَغرِب. 247 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثَنِيْ الزُّهْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ (6) بْنِ جُبَير بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ (7)   (1) ابن عتبة بن مسعود. (2) هي لبابة بنت الحارث الهلالية، أخت ميمونة، أم المؤمنين، وزوج العباس بن عبد المطلب، يُقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، كذا في "الاستيعاب". (3) أي: عبد الله بن عباس. (4) استدل به على ابتداء وقت المغرب وعلى جواز القراءة فيها بغير قصار المفصل. (5) زاد البخاري: ثم ما صلّى لنا بعدها حتى قبضه الله. (6) هو أبو سعيد القرشي النوفلي، ثقة، من رجال الجميع، مات على رأس المائة، كذا ذكره الزرقاني وغيره. (7) هو جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، صحابي، أسلم عام الفتح، مات سنة ثمان أو تسع وخمسين، كذا ذكره الزرقاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 قَالَ: سَمِعْتُ (1) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ (2) بالطُّور (3) فِي الْمَغْرِبِ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: العامَّة عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ (5) تُخَفَّفُ فِي صلاةِ المغرب   (1) قوله: سمعتُ، وللبخاري في "الجهاد" من طريق معمر، عن الزهري: وكان جاء في أسارى بدر. ولابن حبان من طريق محمد بن عمرو، عن الزهري في فداء أهل بدر. وزاد الإِسماعيلي من طريق معمر: وهو يومئذٍ مشرك. وللطبراني من طريق أسامة بن زيد نحوه. وزاد: فأخذني من قراءته الكرب، وللبخاري في المغازي: وذلك أول ما وَقَرَ الإِيمان في قلبي، كذا ذكره الزرقاني. (2) وفي البخاري من رواية ابن يوسف، عن مالك (قرأ) بلفظ الماضي. (3) قوله: بالطور، أي: بسورة الطور، وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون الباء بمعنى من استدل له الطحاوي لما رواه من طريق هشيم، عن الزهري فسمعته يقول: {إن عذاب ربك لواقع} ، قال: فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هو هذه الآية خاصة، قال الحافظ: وليس في السياق ما يقتضي قوله خاصة، بل جاء في روايات أخرى ما يدل على أنه قرأ السورة كلَّها. (4) وأما رواية العتمة فضعيفة، لأنها من رواية ابن لهيعة، عن يزيد كما قال ابن عبد البر. (5) قوله: على أن القراءة ... إلخ، لما أخرجه الطحاوي، عن أبي هريرة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بقصار المفصل. وأخرج عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل. وأخرج أبو داود، عن عروة: أنه كان يقرأ في المغرب نحو {والعاديات} . وفي الباب آثار شهيرة، ويُستأنس له بما ورد بروايات جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلّون المغرب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم ينصرفون، والرجل يرى موضع نَبْله، وهذا لا يكون إلاَّ عند قراءة القصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 يقْرأُ فيها بقصار (1) المفصَّل. ونرى (2) (3)   (1) وهي من {لَمْ يَكُنِ} إلى الآخر، ومن {الْحُجُرَاتِ} إلى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ} طوالُه، ومنه إلى {لَمْ يَكُنِ} أوساطه، هذا على الأشهر، وقيل غير ذلك. (2) أي: نعتقد. (3) قوله: ونرى ... إلخ، لما ورد على العامة أنهم كيف استحبوا القصار في المغرب مع ثبوت طوال المفصل، بل أطول منها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأجابوا عنه بثلاثة: ذكره المصنف منها اثنين، وترك الثالث. الأول: أن تطويل القراءة لعله كان أوَّلاً، ثم نُسخ ذلك وتُرك، بما ورد في قراءة المفصل، والثاني: أنه لعله فرَّق السورة الطويلة في ركعتين، ولم يقرأها بتمامها في ركعة واحدة، فصار قدر ما قرأ في ركعة بقدر القصار. والثالث: أن هذا بحسب اختلاف الأحوال: قرأ بالطوال لتعليم الجواز والتنبيه على أن وقت المغرب ممتد، وعلى أن قراءة القصار فيه ليس بأمر حتمي. وأقول الجوابان الأوَّلان مخدوشان، أما الأول: فلأن مبناه على احتمال النسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولأن كونه متروكاً إنما يثبت لو ثبت تأخَّر قراءة القصار على قراءة الطوال من حيث التاريخ، وهو ليس بثابت، ولأن حديث أم الفضل صريح في أنها آخر ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هو سورة المرسلات في المغرب، فدلَّ ذلك على أنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ بالمرسلات في المغرب في يومٍ قبل يومه الذي توفي فيه، ولم يصلِّ المغرب بعده، وقد ورد التصريح بذلك في "سنن النسائي" فحينئذٍ إن سلك مسلك النسخ يثبت نسخ قراءة القصار، لا العكس. وأما الثاني: فلأن إثبات التفريق في جميع ما ورد في قراءة الطوال مشكل، ولأنه قد ورد صريحاً في رواية البخاري وغيره ما يدلُّ على أن جبير بن مطعم سمع الطور بتمامه، قرأه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المغرب، فلا يفيد حينئذٍ ليت ولعل، ولأنه قد ورد في حديث عائشة في "سنن النسائي" أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 أَنْ هَذَا (1) كَانَ شَيْئًا فتُرك أَوْ لَعَلَّهُ (2) كَانَ يَقْرَأُ بَعْضَ السُّوَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ. 248 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا صَلَّى أحدُكُم (3) لِلنَّاسِ فليخفِّفْ (4) ، فإنَّ (5) (6) فيهم السقيمَ (7) والضعيفَ (8)   رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ بسورة الأعراف في المغرب، فرقها في ركعتين، ومن المعلوم أن نصفَ الأعراف لا يبلغ مبلغ القصار، فلا يفيد التفريق لإِثبات القصار فإذن الجواب الصواب هو الثالث (يعني لبيان الجواز ولكنه يختلف بالوقت، والقوم والإِمام. انظر أوجز المسالك 2/66) . (1) أي: القراءة بالمغرب بالطوال. (2) أي: النبي صلّى الله عليه وسلّم. (3) أي: صلّى إماماً. (4) أي: مع التمام. (5) تعليل للتخفيف. (6) قوله: فإن فيهم ... إلخ، مقتضاه أنه متى لم يكن فيه متَّصف بالصفات المذكورة لم يضر التطويل، لكن قال ابن عبد البر: ينبغي لكل إمام إن يخفِّف لأمره صلّى الله عليه وسلّم وإن علم قوةَ من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث عليهم من حادث وشغل وعارض وحاجة وحدث وغيره، وقال اليعمري: الأحكام إنما تُناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقاً. (7) من مرض. (8) خلقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 وَالْكَبِيرَ (1) (2) وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فليطوِّل مَا شَاءَ (3) (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 75 - (بابُ صلاةِ المغربِ وترُ صلاةِ النَّهار) 249 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ دِينَارٍ، عَنِ ابنِ عمرَ قَالَ: صلاةُ المغرِبِ (5) وِترُ صلاةِ النهار (6) .   (1) سناً. (2) قوله: والكبير، زاد مسلم من وجه آخر، عن أبي الزناد "والصغير"، والطبراني و"الحامل والمرضع"، وعند الطبراني من حديث عدي بن حاتم و"عابر السبيل"، كذا في "إرشاد الساري". (3) ولمسلم: فليصل كيف شاء، أي: مخفِّفاً أو مطوِّلاً. (4) قوله: ما شاء، أقول: يُستنبط منه بعمومه أنه لو قرأ أحدٌ القرآن بتمامه في صلاته، أو في ركعته جاز، كما مرَّ حكاية ذلك عن عثمان وغيره، وذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم أجاز للمنفرد التطويل في الأركان إلى ما شاء ولم يقيِّده بأمر. نعم، هو مقيد بعدم حصول الملال ودوام النشاط وعدم الإِخلال بغيره من الأمور الشرعية، على ما ورد في الأحاديث الأخر، وقد أوضحتُ المسأله في رسالتي: "إقامة الحجة على أن الإِكثار في التعبُّد ليس ببدعة". (5) قوله: قال صلاة المغرب ... إلخ، رواه ابن أبي شيبة مرفوعاً من حديث ابن عمر بلفظ (صلاة المغرب وتر النهار، فأوتروا صلاة الليل) ، قال العراقي: سنده صحيح، ورواه الدارقطني عن ابن مسعود مرفوعاً، وسنده ضعيف، وقال البيهقي: الصحيح وقفه على ابن مسعود، كذا ذكره الزرقاني. (6) أضيفت إليه لوقوعها عَقِبَه فهي نهاية حكماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَيَنْبَغِي (1) لِمَنْ جَعَلَ الْمَغْرِبَ وِتْرَ صَلاةِ النَّهَارِ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ أَنْ يَكُونُ وِتْرُ صَلاةِ اللَّيْلِ مِثْلَهَا، لا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِتَسْلِيمٍ، كَمَا لا يَفْصِلُ فِي الْمَغْرِبِ بِتَسْلِيمٍ (2) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -.   (1) قوله: وينبغي لمن جعل ... إلخ، هذا استدلال من المؤلف على مذهبه من أن الوتر ثلاث لا يُفصل بينهن بتسليم بأن ابن عمر حكم على صلاة المغرب بأنه وتر صلاة النهار، وغرضه منه تشبيه وتر الليل بصلاة المغرب التي هي وتر النهار، وقد أوضح ذلك ما أخرجه الطحاوي عن عقبة بن مسلم قال: سألت ابن عمر عن الوتر؟ فقال: أتعرف وتر النهار؟ فقلت: نعم، صلاة المغرب، فقال: صدقت وأحسنت. فمقتضى هذا التشبيه (قال ابن رشد: فإن لأبي حنيفة أن يقول: إنه إذا شُبِّه شيء بشيْء وجُعل حكمهما واحداً كان المشبَّه به أحرى أن يكون بتلك الصفة فلما شبهت المغرب بوتر الليل وكانت ثلاثاً وجب أن يكون وتر الليل ثلاثاً. انظر الأوجز 1/370) أن يكون وتر الليل ثلاث ركعات بتسليم واحد، كصلاة المغرب هذا، وأقول: فيه نظر، فإن المعروف من فعل ابن عمر أنه كان يصلي الوتر ثلاث ركعات، ويفصل بالسلام على رأس الركعتين، كما مرَّ معنا، ذكره في (باب صلاة الليل) . وأخرجه المؤلف أيضاً من طريق مالك في (باب السلام في الوتر) في ما سيأتي، فذلك دليل على أنه لم يُرِد بقوله: (صلاة المغرب وتر صلاة النهار) تشبيه وتر الليل بوتر النهار في جملة الأحكام، بل في التثليث فقط لا في عدم الفصل بين السلام، فلو استدل المؤلف به على التثليث فقط مع قطع النظر عن الفصل بسلام لكان أبهى وأحسن. (2) على رأس الركعتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 76 - (بَابُ الْوِتْرِ) 250 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيدُ بنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ (1) أَنَّهُ سألَ أَبَا هُرَيْرَةَ: كَيْفَ كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يُوتِرُ؟ قَالَ (2) : فَسَكَتَ (3) ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ: إنْ شِئْتَ أخبَرْتُك كَيف أصنعُ أَنَا، قَالَ: أَخْبِرْنِي، قَالَ: إِذَا صلَّيتُ العِشاءَ صليتُ بَعْدَهَا خمسَ رَكَعَاتٍ (4) ثُمَّ أنامُ (5) فَإِنْ قمتُ مِنَ اللَّيْلِ صليتُ مَثْنَى مَثْنَى، فإنْ أصبحتُ أصبحتُ (6) عَلَى وِتْرٍ. 251 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نافعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّه كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ (7) بِمَكَّةَ والسَّماء مُتَغَيِّمَةٌ (8) فَخَشِيَ الصُّبْحَ (9) ، فَأَوْتَرَ بواحدةٍ، ثُمَّ انْكَشَفَ الغيمُ، فَرَأَى عَلَيْهِ (10) لَيْلا، فَشَفَعَ (11) بِسَجْدَةٍ ثُمَّ صَلَّى سَجْدَتَينِ، سجْدتين،   (1) اسمه يزيد المدني، ثقة، كذا قال الزرقاني. (2) أي: أبو مرَّة. (3) قوله: فسكت، لعله لما رأى أن تفصيل كيفيات وتره صلى الله عليه وسلَّم لا يقتضيه المقام أن يأتي به على وجه التمام، كذا قال القاري. (4) قوله: خمس ركعات، ظاهره أنه بتحريمة واحدة اقتداءً بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فعل كذلك أحياناً، وحمله القاري على الركعتين سنة العشاء وثلاث ركعات الوتر. (5) يفيد جواز الوتر قبل النوم لمن لم يتعوَّد الانتباه في الليل ولم يثق به. (6) لأني قد أدَّيته أول الليل. (7) أي: في ليلة من الليالي، ولفظ ذات مقحمة. (8) أي: محيط بها السحاب. (9) أي: طلوعه فيفوت وترُه. (10) في نسخة: أن عليه. (11) قوله: فشفع بسجدة، قال الباجي: يحتمل أنه لم يسلم من الواحدة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 فَلَمَّا خَشِيَ الصُّبحَ أَوْتَرَ (1) بِوَاحِدَةٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَأْخُذُ، لا نَرَى أَنْ يَشْفَعَ (2) إِلَى الْوِتْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ صَلاةِ الْوِتْرِ، وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي بَعْدَ وِتْرِه مَا أحَبَّ (3)   فشفعها بأخرى على رأي من قال: لا يحتاج في نية أول الصلاة إلى اعتبار عدد الركعات، ولا اعتبار وتر وشفع، ويحتمل أنه سلَّم. (1) قوله: أوتر بواحدة، رُوي مثله، عن علي وعثمان وابن مسعود وأسامة وعروة ومكحول وعمرو بن ميمون، واختلف فيه، عن ابن عباس وسعد بن أبي وقاص، وهذه مسألة يعرفها أهل العلم بمسألة نقض الوتر (ذهب بعض السلف إلى نقض الوتر، واعلم أن من أوتر من الليل ثم قام للتهجد، فالجمهور على أنه يصلّي التهجد ولا يعيد الوتر ولا ينقضه، وإليه ذهب أبو حنيفة، والثوري، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد وأبو ثور، وابن المبارك، وبه قال إبراهيم النخعي، ورُوي ذلك عن أبي بكر الصديق، وعمار، وسعد بن أبي وقاص، وعائذ بن عمرو، وابن عباس، وأبي هريرة وعائشة، وعلقمة، وطاووس، وأبي مجلز، كما ذكره ابن قدامة في "المغني"1/799) ، وخالف في ذلك جماعة: منهم أبو بكر كان يوتر قبل أن ينام، ثم إن قام صلَّى ولم يُعِد الوتر، وروي مثله عن عمار وعائشة، وكانت تقول: أَوِتران في ليلة؟ إنكاراً لذلك، قاله ابن عبد البر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وَلا يَنْقُضُ (1) وترَه، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (2) - رَحِمَهُ اللَّه -. 77 - (بَابُ الْوِتْرِ عَلَى الدَّابَّةِ) 252 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْتَرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: قد جاء هذا الحديث   (2) بأن يضم إلى الوتر ركعة ليصير شفعاً، فينقض وتره كما كان فعله ابن عمر. (3) قوله: ما أَحَبّ، هذا صريح في جواز الشفع بعد الوتر أخذاً من فعل أبي هريرة وابن عمر، وهو المروي عن أبي بكر أنه قال: أمّا أنا فأنام على وتر، فإن استيقظت صلَّيت شفعاً حتى الصباح، وفي "صحيح مسلم" عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يصلّي ثلاث عشرة ركعة، يصلّي ثمان ركعات، ثم يوتر، ثم يصلّي ركعتين، وهو جالس فإذا أراد أن يركع قام، فركع ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح وحمله النووي على بيان الجواز، وأنه كان يفعله أحياناً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وَجَاءَ (1) غَيْرُهُ فأَحَبُّ (2) إِلَيْنَا أَنْ يصلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا (3) مَا بَدَا لَهُ، فَإِذَا بَلَغَ الْوِتْرَ نَزَلَ فَأَوْتَرَ عَلَى الأَرْضِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (4) ، وهو قول أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا (5) . 78 - (بَابُ تَأْخِيرِ الْوِتْرِ) 253 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ (6) : أَنَّهُ سَمِعَ عبدَ اللَّهِ (7) بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ يَقُولُ: إِنِّي لأُوتِرُ وأنا أسمع الإقامة   مستدلاًّ بأنّ الروايات المشهورة في الصحيحين وغيرهما، عن عائشة مع رواية خلائق من الصحابة شاهدة بأن آخر صلاته صلى الله عليه وسلَّم كان الوتر، وفي "الصحيحين" أحاديث بالأمر بجعل آخر صلاة الليل وتراً منها حديث: "اجعلوا آخر صلاتكم وتراً"، فكيف يُظَنُّ به صلى الله عليه وسلَّم مع هذه الأحاديث وأشباهها أنه كان يداوم على الركعتين بعد الوتر، ويجعلهما آخر الليل وإنما معناه هو بيان الجواز انتهى كلامه (انظر شرح مسلم للنووي 2/392 باب صلاة الليل والوتر) . وأما الركعتان بعد الوتر فأنكرهما مالك وقال لا أصليهما ولم يثبت فيهما شيء عن أبي حنيفة والشافعي وقال أحمد لا أفعله ولا أمنع من فعله وذكر النووي الجواز فقط لأجل ورودهما في الحديث وقال ابن القيم الصواب أن يقال إن هاتيت الركعتين تجريان مجرى السنة وتكميل الوتر فإن الوتر عبادة مستقلة (انظر فتح الملهم 2/294) ثم قال: وأما ما أشار إليه القاضي عياض من ترجيح الأحاديث المشهورة وردَّ رواية الركعتين جالساً فليس بصواب، لأن الأحاديث إذا صحَّت وأمكن الجمع بينها تعيَّن ذلك. انتهى. (1) قوله: لا ينقض، لقوله صلى الله عليه وسلَّم: "لا وتران في ليلة"، أخرجه النسائي وابن خزيمة وغيرهما، قال ابن حجر: إسناده حسن. (2) قوله: أبي حنيفة، وقد وافقه في عدم نقض الوتر مالك، والأوزاعي، والشافعي وأحمد، وأبو ثور، وعلقمة وأبو مجلز، وطاووس، والنخعي، قاله ابن عبد البر. (1) قوله: وجاء غيره، وهو أنه صلى الله عليه وسلَّم كان ينزل للوتر كما مرَّ في (باب الصلاة على الدابة في السفر) . (2) قوله: فأحب إلينا ... إلخ، كأنه يُشير إلى أن الروايات لمّا اختلفت في النزول للوتر وعدم نزوله فالاحتياط هو اختيار النزول، وفي هذه العبارة إشارة إلى أنه لا سبيل إلى ردّ رواية عدم النزول وهجرانه بالكلية ودعوى عدم ثبوت ذلك، وإنما اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا. (3) من النوافل والسنن. (4) قوله: وعبد الله بن عمر، أقول: نسبة ذلك إلى ابن عمر مما يُتكلَّمُ فيه، فإنه قد ورد عنه النزول وعدم النزول كلاهما، بل ورد عنه الزجر على من نزل للوتر، والاهتداء بأن الاقتداء الكامل بالنبي صلى الله عليه وسلَّم هو في عدم النزول كما مرَّ ذكرُ ذلك في (باب الصلاة على الدابة) ، فالظاهر أنَّ مذهبه جواز النزول وترجيح عدم النزول، (5) أي: أهل الكوفة. (6) ابن محمد بن أبي بكر. (7) هو أبو محمد المدني الصحابي، مات سنة خمس وثمانين، كذا في "الإسعاف" وقد مرَّ نُبَذ من حاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 أَوْ بَعْدَ الْفَجْرِ. يَشُكُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أيَّ ذَلِكَ (1) قَالَ (2) . 254 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ (3) يَقُولُ: إِنِّي لأُوتِرُ بَعْدَ الْفَجْرِ. 255 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (4) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أُبَالِي لَوْ أُقيمت (5) الصُّبْحُ (6) وَأَنَا أُوتِرُ. 256 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ (7) بْنُ أبي   (1) وإن اتَّحد المعنى. (2) أي: عبد الله بن عامر. (3) هو القاسم بن محمد. (4) قوله: عن ابن مسعود، المراد به حيث أطلق هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن من السابقين الأولين، ومن كبار علماء الصحابة، أَمَّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة، كذا في "التقريب" وقد مرَّ نُبَذ من ترجمته فيما مرَّ. (5) لأنه وقت ضروري له. (6) في نسخة: الصلاة. (7) قوله: عبد الكريم بن أبي المخارق (المخارق: بضم الميم واسم أبيه قيس، ولعبد الكريم زيادة في أول قيام الليل عند البخاري، وله ذكر في مقدمة مسلم، وروى له النسائي قليلاً، وروى عنه ابن ماجه في تفسيره، وأبو داود في مراسيله، والترمذي في حديث "البول قائماً". ومتى أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم متابعة يكون غير مطروح، والطعن فيه إنما هو من قبل حفظه، وقد ذكر صاحب "تنسيق النظام بشرح مسند الإمام أبي حنيفة" وجوه الاحتجاج به، وبلغها سبعة وعشرين وجهاً انظر (مقدمة تنسيق النظام ص 65 - 70)) ، يسمّى عبد الكريم اثنان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الْمُخَارِقِ (1) ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رَقَدَ (2) ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ لِخَادِمِهِ: انْظُرْ مَاذَا صَنَعَ (3) النَّاسُ، وَقَدْ ذَهَبَ (4) بصرُه، فَذَهَبَ (5) ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: قَدِ انْصَرَفَ النَّاسُ مِنَ الصُّبْحِ، فَقَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَأَوْتَرَ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ (6) . 257 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سعيد: أن عبادة (7) بن   أحدهما ثقة، متفق عليه، أخرج له البخاري ومسلم، وهو ابن مالك الجزري، وكنيته أبو سعد، والآخر ابن أبي المخارق، وكنيته أبو أمية، وهو متروك، كذا في "القول المسدَّد في الذبِّ عن مسند أحمد" للحافظ ابن حجر العسقلاني، وقال في "التمهيد": هو ضعيف باتفاق أهل الحديث، وكان مؤدِّب كُتَّاب، حسن السمت، غرَّ مالكاً منه سَمْتُه، ولم يكن من أهل بلده، فيعرفه، مات سنة ست أو سبع وعشرين ومائة، وقال السيوطي في "مرقاة الصعود": لا يصح على ما انفرد به عبد الكريم بن أبي المخارق الحكم بالوضع لأنه روى عنه مالك، وقد عُلم من عادته أنه لا يروي إلاّ عن ثقة عنده، وإن كان غيره قد اطَّلع على ما يقتضي جرحَه. انتهى. واسم أبي المخارِق - بضم الميم وكسر الراء - قيس، وقيل: طارق. (1) اسمه قيس، وقيل: طارق. (2) أي: نام. (3) أي: هل فرغوا من صلاة الصبح أم لا؟ (4) أي: صار أعمى، ولذا لم يحضر الجماعة. (5) أي: الخادم. (6) فيه أن الوتر يصلّى بعد طلوع الفجر ما لم يصلِّ الصبح. (7) قوله: عبادة، بالضم، هو أبو الوليد الأنصاري الخزرجي، أحد النقباء، شهد العقبتين وشهد بدراً، وأُحُداً وبيعة الرضوان، والمشاهدَ كلَّها، ومات بالشام في خلافة معاوية، كذا في "الإصابة" وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 الصَّامِتِ كَانَ يَؤُمُّ يَوْمًا، فَخرج يَوْمًا لِلصُّبْحِ، فَأَقَامَ الْمُؤَذِّنُ الصَّلاةَ، فَأَسْكَتَهُ حَتَّى أَوْتَرَ (1) ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يُوتِرَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ (2) وَلا يؤخِّرَهُ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَإِنْ طَلَعَ قَبْلَ أَنْ يُوتِرَ فَلْيُوتِرْ، وَلا يَتَعَمَّدْ (3) ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 79 - (بَابُ السَّلامِ فِي الْوِتْرِ (4)) 258 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ (5) يسلِّم فِي الْوِتْرِ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ حَتَّى يَأْمُرَ (6) بِبَعْضِ حَاجَتِهِ.   (1) كأنه تذكر بعد خروجه، وأراد الترتيب. (2) لحديث: فصلُّوها - أي الوتر - ما بين العشاء وطلوع الفجر. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم. (3) قوله: ولا يتعمد، وآثار الصحابة الذين أوتروا بعد الطلوع محمولة على أنهم لم يتعمَّدوا ذلك، بل فاتهم ذلك لوجه من الوجوه، فأدَّوْه بعد طلوع الفجر. (4) أي: في أثنائه. (5) قوله: كان، هذا الأثر وغير ذلك من الآثار التي ذكرناها في ما سبق يضعِّف ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن الحسن، قال أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث، لا يسلّم إلاَّ في آخرهن، وفي سنده عمرو بن عبيد، متكلَّم فيه، ذكره الزيلعي (نصب الراية 2/122) . (6) قوله: حتى يأمر ببعض حاجته، ظاهره أنه كان يصلي الوتر موصولاً فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، وَلَكِنَّا (1) نَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلا نرَى (2) أَنْ يسلِّم بينهما.   عرضت له حاجة فصلّى ثم بنى على مضى، وهذا دفع لقول من قال: لا يصح الوتر إلاَّ مفصولاً، وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني، قال: صلّى ابن عمر ركعتين، ثم قال: يا غلام! ارحل لنا، ثم قام فأوتر بركعة، وروى الطحاوي عن سالم، عن أبيه، أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر ان النبي صلى الله عليه وسلّم كان يفعله، وإسناده قوي، ولم يعتذر الطحاوي عنه إلاَّ باحتمال أن المراد بقوله تسليمة أي: التسليم في التشهد، ولا يخفى بعده كذا في "فتح الباري" (3/26) وفي دعواه أن ظاهره وصله، وأن رواية سعيد أصرح في ذلك وقفه، بل ظاهر رواية مالك أنه كان عادته فصله، لإِتيانه بكان وحرف المضارعة، وحتى الغائية، نعم لو عبر بحين بدل حتى لكان ذلك ظاهراً، وأما رواية سعيد، فمحتملة كذا قاله الزرقاني. (1) قوله: ولكنا نأخذ بقول عبد الله، قال التقيُّ الشُّمُنِّي في "شرح النقاية": مذهبنا قويٌّ من حيث النظر، لأن الوتر لا يخلو إما أن يكون فرضاً أو سنّة، فإن كان فرضاً فالفرض ليس إلاَّ ركعتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وكلهم أجمعوا على أن الوتر لا يكون اثنين ولا أربعاً، فثبت أنه ثلاث، وإن كان سنة فلا توجد سنة إلاَّ ولها مثل في الفرض، والفرض لم يوجد فيه الوتر إلاَّ المغرب، وهو ثلاث. وذكر صاحب "التمهيد"، عن جماعة من الصحابة روى عنهم الوتر منهم بثلاث، لا يسلِّم إلاَّ في آخرهن، منهم عمر وعليّ وابن مسعود وزيد وأبيّ وأنس. انتهى. وذكر البخاري، عن القاسم قال: رأينا أناساً منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلاًّ لواسع، وأرجو أن لا يكون بشيء منه بأس. (2) قوله: ولا نرى أن يسلِّم بينهما، قد يؤيد ذلك بحديث أخرجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 259 - قال محمد: أخبرنا أبو حنيفة،   ابن عبد البر في "التمهيد"، عن عبد الله بن محمد بن يوسف، نا أحمد بن محمد بن إسماعيل، نا أبي، نا الحسن بن سليمان، نا عثمان بن محمد بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، نا عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن البُتَيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها. ويُجاب عنه بوجوه: أحدها: أن في سنده عثمان، وهو متكلَّم فيه (قال ابن التركماني: لم يتكلم عليه أحد بشيء فيما علمنا غير العقيلي وكلامه ضعيف. وقد أخرج له الحاكم في "المستدرك". الجوهر النقيّ 3/27) ، فقد ذكر ابنُ القطّان في كتاب "الوهم والإيهام": هذا الحديث من جهة ابن عبد البر، وقال: الغالب على حديث عثمان بن محمد بن ربيعة الوهم، والثاني: أنه معارَض بما أخرجه الطحاوي من طريق الأوزاعي، عن المطلب بن عبد الله المخزومي أن رجلاً سأل ابن عمر عن الوتر، فأمره بثلاث، يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، فقال الرجل: إني أخاف أن يقول الناس هي البُتَيراء، فقال ابن عمر: هذه سنَّة الله ورسوله، فهذا يدل على أن الوتر بركعة بعد ركعتين، قد وُجد من النبي صلى الله عليه وسلّم، والثالث: أنه معارَض بحديث: "فمن أحبَّ أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث، فيفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليوتر". رواه أبو داود وغيره، وقد مرَّ في (باب الصلاة على الدابة) ، والرابع: أن البتيراء، فسَّره ابن عمر بعدم إتمام الركوع والسجود كما أخرجه البيهقي في "المعرفة" بسنده، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مولى لسعد بن أبي وقاص، قال: سألت عبد الله بن عمر عن وتر الليل؟ فقال: يا بُنَيَّ هل تعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، هو المغرب، قال: صدقت، ووتر الليل واحدة، بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إن الناس يقولون هي البتيراء، فقال: يا بُنَيَّ ليست تلك البتيراء، إنما البتيراء أن يصلي الرجل الركعة يتم ركوعها وسجودها وقيامها، ثم يقوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ (1) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلِّي مَا بَيْنَ صَلاةِ الْعِشَاءِ إِلَى صَلاةِ الصُّبْحِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثَمَانِيَ (2) رَكَعَاتٍ تطوُّعاً وَثَلاثَ رَكَعَاتِ (3) الْوِتْرِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (4) . 260 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ما أُحِبُّ (5) أني   في الأخرى ولا يتم لها ركوعاً ولا سجوداً ولا قياماً فتلك البتيراء (انظر: السنن الكبرى 3/26، قال ابن التركماني في سنده ابن إسحاق وسلمة بن الفضل متكَّلم فيهما، فتأويل ابن عمر ليس بأولى من تفسير البتيراء الذي رواه أبو سعيد مرفوعاً وعرفه الناس قاطبةً. فافهم) . (1) قوله: حدثنا أبو جعفر، هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو المعروف بالباقر سمي به لأنَّه تبقَّر في العلوم أي توسَّع وتبحر، سمع أباه زين العابدين وجابر بن عبد الله وروى عنه ابنه جعفر الصادق وغيره، ولد سنة 56 هـ، ومات بالمدينة سنة 117 هـ (انظر ترجمته في تقريب التهذيب 2/192) ، كذا ذكره القاريّ في "سند الأنام شرح مسند الإمام"، وقال: هذا الحديث رواه الشيخان وأبو داود عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلَّم يصلِّي من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر. انتهى. (2) هو مقدار تهجّد. (3) ظاهر هذا وما بعده هو عدم الفصل بالسلام، ولذلك استدلَّ به المؤلف على مُدَّعاه. (4) أي: سنة الفجر. (5) قوله: ما أحب، يعني لو أعطاني أحد نَعَماً حُمْراً بدل ترك الوتر ثلاث ركعات لم أحب أن أتركه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 تَرَكْتُ الْوِتْرَ بِثَلاثٍ (1) وإنَّ (2) لِي حُمْرَ النَّعَم. 261 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ (3) قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْوِتْرُ ثَلاثٌ كَثَلاثِ (4) الْمَغْرِبِ. 262 - قَالَ مُحَمَّدٌ: حدثنا أبو معاوية (5) المكفوف، عن   (1) قوله: بثلاث، ظاهره أنه ثلاث موصولة، وهو المرويّ عن فعله صريحاً ذكرناه سابقاً، وأخرج الحاكم (المستدرك 1/304) ، أنه قيل للحسن: إن ابن عمر كان يسلم في الركعتين من الوتر، فقال: كان عمر أفقه منه، وكان ينهض في الثالثة بالتكبير. (2) قوله: وإنَّ لي حُمْر النَّعَم، الحمر بضم فسكون، جمع أحمر، والنَّعَم، بفتحتين بمعنى الأنعام والدوابّ، والمراد بها الإِبل، والحمر منها أحسن أنواعها، ذكره السيوطي. (3) قوله: عن أبي عُبيدة، بضم العين هو ابن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيره، ويقال: اسمه عامر، كوفي، ثقة، من كبار التابعين، روى عن أبيه، وعنه أبو إسحاق السَّبيعي وعمرو بن مرَّة، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه، مات بعد سنة 180 هـ، كذا في "التقريب" و"جامع الأصول". (4) التشبيه الكامل إنما يكون إذا لم يكن فصل بين السلام وهو المراد. (5) قوله: أبو معاوية المكفوف، أي: الممنوع عنه البصر، يعني الأعمى، وهو محمد بن خازم الضرير الكوفي عَمِيَ وهو صغير، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره، روى عن الأعمش وسفيان، وعنه أحمد وإسحاق وابن معين مات سنة 195 هـ، كذا في "التقريب" (2/157) و"الكاشف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الأَعْمَشِ (1) ، عَنْ مَالِكِ (2) بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْوِتْرُ ثَلاثٌ كَصَلاةِ الْمَغْرِبِ. 263 - قَالَ محمد: أخبرنا إسماعيل (4) بن إبراهيم، عن   (1) قوله: عن الأعمش: بالفتح من العَمَش، بفتحتين، وهو عبارة عن ضعف البصر، وكونه بحيث يجري منه الدمع لمرض، والمشهور به سليمان بن مِهران - بالكسر - الأسدي الكاهلي مولاهم أبو محمد الكوفي أصله من طبرستان، وولد بالكوفة، وروى عن أنس، ولم يثبت له منه سماع، وابن أبي أوفى وأبي وائل وقيس بن أبي حازم والشعبي والنخعي وغيرهم، وعنه أبو إسحاق السَّبيعي وشعبة والسفيانان وغيرهم، قال ابن معين: ثقة، والنسائي: ثقة ثَبْت، وابن عمار: ليس في المحدثين أثبت من الأعمش، ومنصور ثبت أيضاً إلاَّ أن الأعمش أعرف منه بالمسند، مات سنة 147 هـ، وقيل سنة 146 هـ، وترجمته مطوَّلة في "تهذيب التهذيب". (2) قوله: عن مالك بن الحارث، قال الذهبي في "الكاشف" مالك بن الحارث السلمي، عن أبي سعيد الخدري وعلقمة النخعي، وعنه منصور والأعمش، ثقة، مات سنة 194 هـ. انتهى. (3) قوله: عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي، نسبة إلى نَخَع، بفتحتين، قبيلة، أبو بكر الكوفي، روى عن أخيه الأسود بن يزيد، وعمِّه علقمة بن قيس، وعن حذيفة وابن مسعود وأبي موسى وعائشة وغيرهم، وعنه ابنه محمد وإبراهيم النخعي وأبو إسحاق السبيعي ومنصور وغيرهم، قال ابن سعد وابن معين والعجلي والدارقطني: ثقة، مات سنة 73 هـ، وقيل سنة 83 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب". (4) قوله: إسماعيل بن إبراهيم، ذكر في "تهذيب التهذيب" و"الميزان" كثيراً بهذا الاسم والنسب، بعضهم ثقات، وبعضهم ضعفاء. والظاهر أن المذكور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 لَيْثٍ (1) ، عَنْ عَطَاءٍ (2) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْوِتْرُ كَصَلاةِ الْمَغْرِبِ. 264 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أخبرنا يعقوب (3) بن إبراهيم، حدثنا حصين (4) بن إبراهيم،   ههنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البجلي، والنخعي الكوفي ضعَّفه البخاري والنسائي، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، يُكتب حديثه، روى عن أبيه وإسماعيل بن أبي خالد وغيرهما، وعنه ابن نمير ووكيع وطلق بن غنام وأبو على الحنفي وغيرهم، فليُحرَّر هذا المقام. (1) قوله: عن ليث، هو ليث بن أبي سُليم، بالضم، قال الحافظ عبد العظيم المنذري في آخر كتاب "الترغيب والترهيب": فيه خلاف، وقد حدَّث عنه الناس، وضعَّفه يحيى والنسائي، وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره، وقال الدارقطني: كان صاحب سُنَّة، إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد فحسب، ووثَّقه ابن معين في رواية. انتهى. وقد بسطتُ في ترجمته في رسالتي في بحث الزيارة النبوية "الكلام المبرور في ردّ القول المنصور وردّ المذهب المأثور" المسمّى بـ"السعي المشكور" حين ظن بعض أفاضل عصرنا أن ضعفَه بلغ إلى أن لا يُحتَجّ به. (2) هو ابن أبي رباح المكي أو ابن يسار المدني، وقد وُجد في بعض النسخ كذلك عطاء بن يسار. (3) القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة. (4) قوله: حصين بن إبراهيم، كذا في النسخ الحاضرة، ولم أقف على حاله في "تهذيب التهذيب" و"تقريب التهذيب" و"الكاشف" و"جامع الأصول" و"ميزان الاعتدال" وغيرهما. وقد مرَّت سابقاً في (بحث رفع اليدين) رواية عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، عن حصين بن عبد الرحمن، ومرَّ هناك أنه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ (1) : مَا أجزأتْ (2) ركعةٌ وَاحِدَةٌ قَطُّ. 265 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ (3) ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ (4) قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَهْوَنُ (5) مَا يَكُونُ الْوِتْرُ ثَلاثُ رَكَعَاتٍ. 266 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ (6) بْنُ أَبِي عروبة، عن   أعالي شيوخه، فلعله هو، والذي في كتاب "الحجج"، حصين، عن إبراهيم، فيتعيَّن أن الحصين هو السابق، وإبراهيم هو النخعي. (1) لما سمع سعداً أنه أوتر بركعة كما ذكرنا سابقاً. (2) قوله: ما أجزأت (نصب الراية 1/278، قلت: ومثله لا يقال بالرأي فهو مرفوع حكماً) ، فيه إشارة إلى التنفُّل بركعة واحدة، باطل، وبه صرَّح أصحابنا. (3) قوله: عن أبي حمزة، ذكر في "تهذيب التهذيب" و"الكاشف" وغيرهما كثيراً من الكوفيين يكنّى بأبي حمزة، بعضهم ثقات، وبعضهم ضعفاء، ولم أدرِ أن المذكور ههنا من هو منهم، فليحرَّر. (4) ابن قيس النخعي. (5) أي: أدنى ما يكون ثلاث ركعات، فلا يجوز الأدنى منه. (6) قوله: أخبرنا سعيد بن أبي عَرُوبة، بفتح العين وضم الراء وسكون الواو - اسمه مِهران بالكسر - العدوي مولى بني عدي بن يشكر، أبو النضر البصري، قال ابن معين والنسائي وأبو زرعة: ثقة، وقال ابن أبي خيثمة: أثبت الناس في قتادة سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي، وقال أبو داود الطيالسي: كان أحفظ أصحاب قتادة، وقال أبو حاتم: هو قبل أن يختلط ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مات سنة 155 هـ، وبقي في اختلاطه خمس سنين، كذا في "تهذيب التهذيب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 قَتَادَةَ (1) ، عَنْ زُرَارَةَ (2) بْنِ أَبِي أَوْفَى، عَنْ سَعِيدِ (3) بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلَّم   (1) قوله: عن قتادة، هو ابن دِعامة - بكسر الدال المهملة وخِفَّة العين المهملة - كما ضبطه الفَتَّني في "المغني" ابن قتادة بن عزيز أبو الخطاب السدوسي البصري الضرير الأكمه المفسر، وُلد أكمه، وحدَّث، عن أنس رضي الله عنه وعبد الله بن سرجس رضي الله عنه وسعيد بن المسيب وغيرهم وعنه مسعر وأبو عوانة وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم، قال ابن سيرين: كان أحفظ الناس، وقال أحمد: عالم بالتفسير وباختلاف العلماء، ووصفه بالحفظ والفقه، وأطنب في ذكره، وكان من أجلَّة الثقات، عالماً بالعربية واللغة وأيام العرب والأنساب، مات بواسط بالطاعون سنة 118 هـ، وقيل: سنة 117 هـ، كذا في "تذكرة الحفاظ" للذهبي، وله ترجمة طويلة مشتملة على ثناء الناس عليه في "تهذيب التهذيب" وغيره. (2) قوله: عن زُرارة، بضم الزاء المعجمة وفتح الرائين المهملتين، بينهما ألف، كما ذكر في "المغني" ابن أبي أوفى، هكذا في بعض النسخ، وفي كثير من النسخ المصحَّحة ابن أوفى، وكذا ذكره في "التهذيب" وغيره أنه زرارة بن أوفى العامري، أبو حاجب البصري، وثقه النسائي والعجلي وابن حبان وغيرهم، مات سنة 93 هـ، على ما ذكره ابن سعد، وقيل غير ذلك. (3) قوله: عن سعيد بن هشام، هكذا وجدنا في النسخ الحاضرة، والذي في "تهذيب الكمال" و"تهذيبه" و"تقريبه" و"تذهيبه" و"الكاشف" و"جامع الأصول" وكتاب "الثقات" لابن حبان، أن اسمه سعد - بدون الياء - بن هشام بن عامر الأنصاري المدني ابن عم أنس، روى عن أبيه وعائشة وابن عباس وسمرة وأنس وغيرهم، وعنه زرارة والحسن البصري وثَّقه النسائي وابن سعد، استشهد بمُكران - بضم الميم - بلدة بالهند، وكذا هو في كتاب "الحجج". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 كان لا يسلِّم (1) في ركعتي الوتر.   (1) قوله: كان لا يسلِّم في ركعتي الوتر، هذا صريح في إثبات المقصود، وقد أخرجه النسائي، والحاكم (سنن النسائي 1/248، والمستدرك 1/204) أيضاً، وصحَّحه الحاكم، وفيه ردّ على من أبطل الوتر بالثلاث أخذاً مما روى الدارقطني - وقال: رواته ثقات - عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "لا توتروا بثلاث، وأوتروا بخمس أو سبع، ولا تشبّهوا بصلاة المغرب"، ومن المعلوم أن حديث عائشة في عدم السلام في الركعتين مرجَّح على حديث أبي هريرة بوجوه لا تخفى على ماهر الفن، مع أن حديث أبي هريرة معارَض بحديث: "ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل" المخرَّج في السنن، وهو من أسباب الترجيح، هذا وقد يستدل على عدم الفصل بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بفاتحة الكتاب، و {سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلى} ، وفي الثانية بـ {قُلْ يا أَيُّها الكَافِرون} ، وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدْ} والمعوذتين، أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح على شرط الشيخين والطحاوي وغيرهم، فإن ظاهره أن الثالثة متصلة لا منفصلة، وإلاَّ لقالت: وفي ركعة الوتر، أو في الركعة المفردة، أو نحو ذلك. وروى الطحاوي بنحوه من حديث ابن عباس وعلي وعمران بن حصين، لكن وقع في طريق الدارقطني بلفظ: كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما بـ {سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعلى} ، و {قُلْ يا أَيُّها الكَافِرون} ويقرأ في الوتر بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدْ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 80 - (بَابُ (1) سُجُودِ (2) الْقُرْآنِ) 267 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عبدُ اللَّهِ بنُ يزيدَ مَوْلَى الأسودِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ بِهِمْ (3) {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ حدَّثهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -   (1) قوله : باب سجود القرآن (شرح الزرقاني 2/20، وبسط الكلام في ذلك في أوجز المسالك 4/139) ، هي أربع عشرة سجدات معروفة، عند أبي حنيفة والشافعي غير أنه عدَّ الشافعي منها السجدة الثانية من سورة الحج دون سجدة (ص) وقال أبو حنيفة بالعكس هذا هو المشهور وقال الترمذي رأى بعض أهل العلم أن يُسجد في (ص) وهو قول سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. انتهى. فعلى هذا يكون عند الشافعي وأحمد خمس عشرة سجدة، وهو رواية عن مالك، كذا في "المحلّى بحلّ أسرار الموطأ" للشيخ سلام الله (هو الشيخ العالم المُحدِّث سلام الله بن شيخ الإِسلام بن فخر الدين الدهلوي، أحد كبار العلماء، توفي سنة 1129 هـ أو 1133 هـ. انظر نزهة الخواطر: 7/205) رحمه الله تعالى. (2) هو سنَّة، أو فضيلة، قولان مشهوران عند مالك، وعند الشافعية سنَّة مؤكدة، وقال الحنفية: واجب. (3) قال الباجي: الأظهر أنه كان يصلي، وجاء ذلك مفسَّراً في حديث أبي رافع: صليت خلف أبي هريرة العشاء، فقرأ: {إذا السماء انشقت} . (4) قوله: سجد فيها، وبهذا قال الخلفاء الأربعة والأئمة الثلاثة، وجماعة، ورواه ابن وهب عن مالك، وروى ابن القاسم والجمهور عنه أنه لا سجود لأن أبا سلمة قال لأبي هريرة: لما سجد: لقد سجدت في سورة ما رأيتُ الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وَكَانَ مَالِكُ (1) بْنُ أَنَسٍ لا يَرَى (2) فِيهَا سجدة.   يسجدون فيها، فدلَّ هذا على أن الناس تركوه، وجرى العمل بتركه. وردَّه ابن عبد البر بما حاصله، أي عمل يَّدعى مع مخالفة المصطفى والخلفاء بعده (انظر شرح الزرقاني 2/20، وبسط الكلام في ذلك في أوجز المسالك 4/139) . (1) قوله: مالك، وسلفه في ذلك ابن عمر وابن عباس فإنهما قالا: ليس في المفصَّل سجدة، أخرجه عبد الرزاق في "مصنَّفه". (2) قوله: لا يرى فيها سجدة، أي: في سورة {انشقت} بل لا في المفصّل مطلقاً، كما صرَّح به حيث قال: الأمر عندنا أنَّ عزائم السجود إحدى عشرة سجدة، ليس في المفصَّل منها شيء، وبه قال الشافعي في القديم، ثم رجع عنه، ذكره البيهقي، وحجَّتهم حديث زيد بن ثابت، قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلَّم "والنجم"، فلم يسجد فيها، أخرجه الشيخان وغيرهما. وأجاب الجمهور عنه بأنه لعله تركه في بعض الأحيان لبيان الجواز فإن سجود التلاوة ليس بواجب كما يشهد به قول عمر: من سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه. وقول ابن عمر: إن الله لم يفرض السجود إلاَّ أن نشاء، أخرجهما البخاري وغيره. هذا على قول من قال باستحباب السجود، أو سنّيته، وأما على رأي من قال بالوجوب كأصحابنا الحنفية، فيجاب عن حديث زيد بأن وجوب السجدة ليس حتماً في الفور، فلعله أخَّره النبي صلى الله عليه وسلَّم ولم يسجد في الفور لبيان ذلك، وليس في الحديث بيان أنه لم يسجد بعد ذلك أيضاً، وقد ثبت سجود النبي صلى الله عليه وسلّم في سورة النجم، من حديث ابن مسعود عند البخاريّ وأبي داود والنسائي، ومن حديث ابن عباس عند البخاري والترمذي. ومن حديث أبي هريرة عند البزّار والدارقطني بإسناد رجاله ثقات، وثبت السجود في سورة "انشقت" من حديث أبي هريرة عند مالك والبخاري وأبي داود والنسائي وغيرهم. ومن حجَّة المالكية حديث أمّ الدرداء قالت: سجدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إحدى عشرة سجدة ليس فيها شيء من المفصَّل، أخرجه ابن ماجه، وفي سنده متكلَّم فيه مع أن الإثبات مقدَّم على النفي، ومن حجتهم حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 268 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَرَأَ بِهِمُ (1) النَّجْمَ، فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ (2) سُورَةً أُخْرَى (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لا يَرَى فِيهَا سَجْدَةً. 269 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ: أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ، فَسَجَدَ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلت بِسَجْدَتَيْنِ (4) . 270 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بن دينار، عن ابن عمر   ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسجد في شيء من المفصَّل، منذ تحوَّل إلى المدينة، وإسناده ليس بقوي (انظر فتح الباري 2/555، 556) مع ثبوت أن أبا هريرة سجد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم في سورة {انشقت} ، وهو أسلم سنة سبع من الهجرة. (1) أي: في الصلاة. (2) ليقع ركوعه عقب قراءة كما هو شأن الركوع. (3) روى الطبراني بسند صحيح عن عمر أنه قرأ النجم، فسجد فيها، ثم قام فقرأ {إذا زُلزلت} . (4) قوله: بسجدتين، أولاهما عند قوله تعالى: {إن الله يفعل ما يشاء} ، وهي متفق عليها، والثانية: عند قوله: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ (1) رَآهُ سَجَدَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ. قَالَ مُحَمَّدٌ (2) : رُوي هَذَا عن عن عمرَ وابنِ عمرَ (3) وكان (4)   (1) قوله: أنه، هذا مقدَّم على ما أخرجه الطحاوي، عن سويد قال: سئل نافع: هل كان ابن عمر يسجد في الحج سجدتين؟ فقال: مات ابن عمر، ولم يقرأها، ولكن كان يسجد في النجم وفي {اقرأ باسم ربك} . (2) به قال الشافعي وأحمد، ورواه ابن وهب، عن مالك، ولم يقل به مالك في المشهور عنه، ذكره الزرقاني. (3) قوله: عن عمر وابن عمر، وكذا رواه الطحاوي عن أبي الدرداء وأبي موسى وأبي موسى الأشعري أنهما سجدا في الحج سجدتين. وروى الحاكم على ما ذكره الزيلعي، عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وعمار بن ياسر وأبي موسى وأبي الدرداء أنهم سجدوا سجدتين. ويؤيده من المرفوع ما أخرجه أبو دواد والترمذي عن عقبة، قلت: يا رسول الله، أفُضِّلت سورة الحج بسجدتين؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما، وكذا رواه أحمد والحاكم، وفي سنده ضعف ذكره الترمذي، وأشار إليه الحاكم، وأخرج أبو دواد، عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقرأه خمس عشرة سجدة، وفي سنده ضعيف وهو عبد الله بن منين (انظر نصب الراية 1/306، وقال في بذل المجهود 7/201: وفي سورة الحج سجدتان، إحداهما متفق عليها والثانية اختلف فيها، فالحنفية أنكروها والشافعية أثبتوها) . (4) قوله: وكان ابن عباس لا يرى ... إلخ، كما أخرجه الطحاوي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال في سجود الحج إن الأولى عزيمة، والأخرى تعليم، قال الطحاوي: فبقول: ابن عباس نأخذ. انتهى. لكنْ قد مرَّ أن الحاكم ذكره في من سجد فيها سجدتين، والحق في هذا الباب هو ما ذهب إليه عمر رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 ابْنُ عَبَّاسٍ لا يَرَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ إلاَّ سَجْدَةً وَاحِدَةً (1) : الأُولَى، وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 81 - (بَابُ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي) 271 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ (2) مَوْلَى عُمَرَ (3) : أَنَّ بُسْرَ (4) بْنَ سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ أرسله (5) (6) إلى   (1) قوله: واحدة، روى ابن أبي شيبة، عن علي وأبي الدرداء وابن عباس أنهم سجدوا فيه سجدتين، وله عن ابن عباس أنه قال: في الحج سجدة، وعن ابن المسيب والحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير مثل ذلك كذا في "المحلّى". (2) هو سالم بن أبي أمية. (3) أي: عمر بن عبيد التيمي. (4) قوله: أن بسر بن سعيد، هكذا في بعض النسخ، بُسْر - بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة - وفي بعض النسخ منها نسخة الشيخ الدهلوي: بشر بن سعيد، واختاره القاري حيث ضبطه بكسر الباء وسكون الشين المعجمة، والصحيح هو الأول، وهو المذكور في كتب الرجال وشروح مؤطأ يحيى، وشروح صحيح البخاري وغيرها. (5) أي: بسراً. (6) قوله: أرسله ... إلخ، قال الحافظ: هكذا روي عن مالك، لم يُختلف عليه فيه أن المرسِل هو زيد، وأن المرسَل إليه أبو جُهَيم، وهو بضم الجيم - مصغراً - واسمه عبد الله بن الحارث بن الصمَّة الأنصاري الصحابي، وتابعه سفيان الثوري عن أبي النضر عند مسلم وابن ماجه وغيرهما، وخالفهما ابن عيينة عن أبي النضر فقال: عن بسر، قال: أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 أَبِي جُهَيم (1) الأَنْصَارِيِّ يَسْأَلُهُ مَاذَا سَمِعَ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فِي المارِّ بَيْنَ يَدَيِ المصلِّي (2) ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعلَمُ المارُّ بين يدي المصلِّي ماذا (3)   خالد أسأله، قال ابن عبد البر: هكذا رواه ابن عيينة مقلوباً، أخرجه ابن أبي خيثمة، عن أبيه، عن ابن عيينة، ثم قال ابن أي خيثمة، سئل عنه يحيى بن معين، فقال: هو خطأ كذا في "التنوير". (1) قوله: إلى أبي جهيم، هو عبد الله بن جهيم الأنصاري، روى عنه بسر بن سعيد مولى الحضرميين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المارّ بين يدي المصلِّي، رواه مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن بسر، عن أبي جهيم، ولم يسمِّه، وهو أشهر بكنيته، ويقال: هو ابن أخت أبيّ بن كعب، ولست أقف على نسبه في الأنصار، كذا في "الاستيعاب في أحوال الأصحاب" لابن عبد البر رحمه الله. (2) قوله: بين يدي المصلّي، أي: أمامه، بالقرب، واختلف في ضبط ذلك، فقيل: إذا مرَّ بينه وبين مقدار سجوده، وقيل بينه وبينه ثلاثة أذرع، وقيل بينه وبينه قدر رمية بحجر. (3) قوله: ماذا عليه، زاد الكشميهني من رواة البخاري من الإثم، وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات غيره، والحديث في "المؤطأ" بدونها، وقال ابن عبد البر: لم يختلف رواة "الموطأ" على مالك في شيء منه، وكذا رواه باقي الستة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، ولم أرها في شيء من الروايات مطلقاً، لكن في مصنف ابن أبي شيبة: يعني من الإثم، فيحتمل أن تكون ذُكرت حاشية فظنها الكشميهني أصلاً لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ، وقد عزاها المحبّ الطبري في "الأحكام" للبخاري وأطلق، فعِيب ذلك عليه وعلى صاحب العمدة في إيهامه أنها في الصحيحين، كذا في "الفتح". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 عَلَيْهِ (1) فِي ذَلِكَ لَكَانَ (2) أَنْ يَقِفَ (3) أَرْبَعِينَ (4) خَيْرًا (5) (6) لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، قال (7) : لا أدري   (1) أي: من الإِثم بسبب مروره بين يديه، سدَّ مسد المفعولين ليُعلم وقد علق عمله بالاستفهام. (2) قوله: لكان ... إلخ، جواب (لو) ليس هذا المذكور، بل التقدير لو يعلم ماذا عليه لوقف أربعين ولو وقف أربعين لكان خيراً. (3) أي: وقوفه. (4) قوله: أربعين، قال الطحاوي في "مشكل الآثار": إن المراد أربعين سنة، واستدل بحديث أبي هريرة مرفوعاً: لو يعلم الذي بين يدي أخيه معترضاً، وهو يناجي ربَّه لكان أن يقف مكانه مائة عام خيراً له من الخطوة التي خطاها، ثم قال: هذا الحديث متأخر عن حديث أبي جهيم، لأن فيه زيادة الوعيد، وذلك لا يكون إلاَّ بعد ما أوعدهم بالتخفيف، كذا نقله ابن مالك، وقال الشيخ ابن حجر: ظاهر السياق أنه عين المعدود. لكن الراوي تردد فيه. وما رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة: (لكان أن يقف مائة عام) مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر، لا لخصوص عدد معين، وقال الكرماني: تخصيص الأربعين بالذكر لكون كمال طور الإِنسان بأربعين كالنطفة والمضغة والعلقة، وكذا بلوغ الأشدّ، ويحتمل غير ذلك كذا في "مرقاة المفاتيح". هذا العدد له اعتبار في الشرع كالثلاث والسبع، وقد أفردت في أعداد السبع جزءاً وفي أعداد الأربعين آخر، كذا قال السيوطي في "التنوير". (5) قوله: خيراً له، وفي ابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة: لكان أن يقف مائة عام خيراً له من الخطوة التي خطاها. (6) بالنصب وعند الترمذي بالرفع على أنه الاسم. (7) أي: أبو النضر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 قَالَ (1) أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا (2) أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً. 272 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) بْنِ أَبِي سَعِيدٍ (4) الخُدْري، عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا كَانَ أحدُكم يصلِّي (5) فَلا يدَعْ (6) (7) أَحَدًا يمرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فإنْ أبى (8) فليقاتِلْه (9)   (1) أي: بسر بن سعيد. (2) وللبزّار من طريق أحمد بن عبدة، عن ابن عيينة، عن أبي النضر، لكان أن يقف أربعين خريفاً. (3) ثقة، روى له مسلم والأربعة، مات سنة 112 هـ، كذا قال الزرقاني. (4) هو سعد بن مالك الأنصاري. (5) زاد الشيخان: إلى شيء يستره. (6) أي: لا يترك. (7) قوله: فلا يدع، لابن أبي شيبة عن ابن مسعود: إنَّ المرور بين يدي المصلّي يقطع نصف صلاته. (8) أي: امتنع. (9) قوله: فليقاتله، أي: فليدفعه بالقهر، ولا يجوز قتله، كذا قال بعض علمائنا، وقال ابن حجر: فإن أبى إلاَّ بقتله، فليقاتله، وإن أفضى إلى قتاله إياه، ومن ثمَّ جاء في رواية، فإن أبى فليقتله، قال ابن مالك: فإن قتله عملاً بظاهر الحديث، ففي العمد القصاص، وفي الخطأ الدية. وفيه دليل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، وقال القاضي عياض: فإن دفعه بما يجوز فهلك، فلا قود عليه باتفاق العلماء، وهل يجب الدية أو يكون هدراً، فيه مذهبان للعلماء، وهما قولان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 فَإِنَّمَا (1) هُوَ شَيْطَانٌ (2) . 273 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن كَعْبٍ (3) أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ يعلمُ المارُّ بَيْنَ يَدَيِ المصلِّي مَاذَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَانَ (4) أَنْ يُخسَفَ بِهِ خَيْرًا لَهُ (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكره (6) أنْ يَمُرَّ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيِ المصلي، فإن أراد   في مذهب مالك: نقله الطيبي كذا في "المرقاة"، وقال الزرقاني: أطلق جماعة من الشافعية أن له قتاله حقيقة، واستبعده في "القبس" وقال: المراد بالمقاتلة المدافعة، وقال الباجي: يحتمل أن يريد فليلعنه كما قال "قُتِلَ الخرَّاصون"، ويحتمل أن يريد يؤاخذه على ذلك بعد تمام صلاته ويوبِّخه. (1) قوله: فإنما هو شيطان، أي فعله فعل شيطان، أو المراد شيطان الإنس، وفي رواية الإِسماعيلي: فإن معه الشيطان. (2) استنبط منه ابن أبي جمرة بأن المراد بقوله: فليقاتله المدافعة لأن مقاتلة الشيطان إنما هي بالاستعاذة والتسمية ونحوها. (3) قوله: كعب، هو كعب بن قانع الحميري، المعروف بكعب الأحبار من مُسلمة أهل الكتاب، قال معاوية: إنه أصدق هؤلاء الذي يحدثون عن الكتاب، مات سنة 32 هـ بحمص، كذا في "الإسعاف". (4) قال الطيبي: المذكور ليس جواباً للو، بل هو دالّ على ما هو جوابها والتقدير لتمنّى الخسف. (5) قوله: خيراً له، لأن عذاب الدنيا بالخسف أسهل من عذاب الإِثم، وهذا يحتمل أن يكون من الكتب السالفة، لأن كعباً من أهل الكتاب، فظاهر هذا كالحديث قبله يدل على منع المرور مطلقاً، ولو لم يجد مسلكاً سواه. (6) أي: كراهة تحريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 أن يمرَّ بين يديه فليدارأ (1) مَا اسْتَطَاعَ، وَلا يُقَاتِلْهُ، فإنْ قاتَلَهُ (2) كَانَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ (3) فِي صَلاتِهِ مِنْ قِتَالِهِ (4) إِيَّاهُ (5) أشدَّ عَلَيْهِ مِنْ مَمَرِّ هَذَا (6) بَيْنَ يَدَيْهِ (7) ، وَلا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى قِتَالَهُ إلاَّ مَا رُوي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَلَيْسَتِ العامَّة (8) عليها (9) ، ولكنها على   (1) في نسخة: فليدرأ، أي: ليدفع بالإِشارة أو بالتسبيح أو نحو ذلك. (2) قوله: فإن قاتله ... إلخ، يعني أنه ينبغي للمصلّي أن يدفع المارّ، فإن لم يندفع يدفع بأشد من المرة الأولى، ولا يقتله ولا يقاتله، فإنه إنْ قاتل وقتل فسدت صلاتُه لارتكاب العمل الكثير، فصار ما دخل على المصلّي من ارتكاب قتاله أشدّ من مرور المارّ بين يديه، فإن مروره بين يديه لا يُفسد صلاته، وإنما يوجب إثم المارّ والنقص في صلاته، فإذا اختار دفعَه بالقتال فسدت صلاته، فيلزم عليه اختيار الأعلى لدفع الأدنى، وهو منهي عنه بالأصول الشرعية، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "فليقاتله" هو المبالغة في المدافعة لا القتال الحقيقي المفسد للصلاة، وهذا هو قول عامة العلماء خلافاً لبعض الشافعية. (3) أي: على المصلّي. (4) أي: المصلي. (5) أي: المارّ. (6) أي: المارّ. (7) أي: المصلّي. (8) أي: عامة الفقهاء. (9) أي: على ظاهرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 مَا (1) وَصفتُ لَكَ (2) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 274 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنه قال (3) : لا يقطعُ الصلاةَ شيء.   (1) وهو أن يدفعه ما استطاع. (2) في نسخة: ذلك. (3) قوله: إنه قال .... إلخ، أخرجه الدارقطني، عن ابن عمر مرفوعاً، وسنده ضعيف. وجاء مثله مرفوعاً من حديث أبي سعيد عند أبي داود، ومن حديث أنس وأبي أمامة عند الدارقطني، وعن جابر عند الطبراني، وأخرج الطحاوي عن على وعمار: (لا يقطع صلاة المسلم شيء، وادرؤوا ما استطعتم) ، وعن عليّ: (لا يقطع صلاة المسلم كلب ولا حمار ولا امرأة ولا ما سوى ذلك من الدواب) ، وعن حذيفة أنه قال: (لا يقطع صلاتك شيء) ، وعن عثمان نحوه، وأخرج سعيد بن منصور عن على وعثمان مثله، ويعارضها حديث أبي ذر مرفوعاً: "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره، إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الكلب الأسود والحمار والمرأة". رواه مسلم، وله أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً: "تقطعُ الصلاةَ المرأة والحمار والكلب" ولأبي داود، عن ابن عباس مرفوعاً: "إذا صلّى أحدكم إلى غير السترة، فإنه يقطع صلاته الحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة". واختلف العلماء في هذا الباب، فجماعة قالوا بظاهر ما ورد في القطع، ونُقل عن أحمد أنه قال: يقطع الصلاة الكلب الأسود، وفي النفس من المرأة والحمار شيء. والجمهور على أنه لا يقطع الصلاة شيء، وأجابوا عن معارضه بوجوه: أحدها وهو مسلك الطحاوي ومن تبعه أنه منسوخ لأن ابن عمر من رواته، وقد حكم بعدم قطع شيء، وثانيها: وهو مسلك الشافعي والجمهور على أن أحاديث القطع مؤوَّلة بشغل القلب وقطع الخشوع لإِفساد أصل الصلاة، وثالثها: مسلك أبي داود وغيره أنه إذا تنازع الخبران يعمل بما عمل به الصحابة، وقد ذهب أكثرهم ههنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ (1) نَأْخُذُ، لا يَقْطَعُ الصلاةَ شَيْءٌ مِنْ مارٍّ بَيْنَ يَدَيِ المصلِّي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ. 82 - (بَابُ مَا يُستَحبّ مِنَ التَّطَوُّعِ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ دُخُولِهِ) 275 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَامِرُ (2) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو (3) بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقي (4) ، عن أبي قتادة السُّلَمي (5) أن   إلى عدم القطع، فليكن هو الراجح (وتأول الجمهور ما ورد في ذلك بالنسخ أو بقطع الخشوع، والحديث موقوف، وأخرجه الدارقطني وأبو داود مرفوعاً بإسناد ضعيف. انظر شرح الزرقاني 1/316) ، والكلام طويل مبسوط في موضعه. (1) وفي نسخة: وبهذا. (2) هو أبو الحارث المدني وثقه النسائي ويحيى وأبو حاتم وأحمد. كذا في "الإِسعاف". (3) هو ثقة من كبار التابعين، مات سنة 104 هـ، يقال له رؤية، كذا ذكره الزرقاني. (4) قوله: الزرقي، - بضم الزاء المعجمة وفتح الراء المهملة - نسبة إلى بني زريق بن عبد حارثة، بطن من الأنصار، ذكره السمعاني. (5) قوله: السلمي، قال القاري: بضم فسكون. انتهى. وهو خطأ، فإن السمعاني ذكر أوَّلاً السَّلْمي بفتح السين وسكون اللام، وقال: إنه نسبة إلى الجَدّ، وذكر المنتسبين بها، ثم ذكر السُّلَمي بالضم وفتح اللام نسبة إلى سليم، قبيلة من العرب، وذكر المنتسبين بها، ثم ذكر السَّلَمي بفتح السين واللام، وقال: نسبة إلى بني سلمة، حي من الأنصار، وهذه النسبة وردت على خلاف القياس كما في سفر سفري ونمر نمري وأصحاب الحديث يكسرون اللام، ومنهم أبو قتادة الحارث بن ربعي السلمي الأنصاري. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا (1) دَخَلَ (2) أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُصَلِّ (3) رَكْعَتَيْنِ (4) قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا تَطَوُّعٌ وَهُوَ حسن، وليس بواجب (6) .   (1) قوله: إذا دخل ... إلخ، قد ورد الحديث على سبب، وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بين أصحابه، فجلس معهم، فقال له: ما منعك أن تركع؟ قال: رأيتك جالساً، والناس جلوس، فقال: إذا دخل أحدكم ... الحديث رواه مسلم. (2) خُصَّ منه إذا دخل والإِمام يصلّي الفرض أو شرع في الإقامة. (3) هو أمر ندب بالإِجماع سوى أهل الظاهر، فقالوا بالوجوب. (4) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق. (5) قوله: قبل أن يجلس، فإن جلس لم يشرع له التدارك، كذا قال جماعة، وفيه نظر لما رواه ابن حبان عن أبي ذر أنه دخل المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلَّم: أركعتَ ركعتين؟ قال: لا، قال: قم، فاركعهما. ترجم عليه ابن حبان في صحيحه: (تحية المسجد لا تفوت بالجلوس) ، ومثله في قصة سُلَيْك، وقال المحبّ الطبري: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب، كذا ذكره الزرقاني. (6) قوله: وليس بواجب، لأن النبي صلى الله عليه وسلَّم رأى رجلاً يتخطّى رقاب الناس فأمره بالجلوس، ولم يأمره بالصلاة كذا ذكره الطحاوي. وقال زيد بن أسلم: كان الصحابة يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلّون، وقال: رأيت ابن عمر يفعله، وكذا سالم ابنه، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد فيجلس ولا يصلي، ذكره الزرقاني، والكلام بعد موضع نظر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 83 - (باب الانفتالِ (1) فِي الصَّلاةِ) 276 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى (2) بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ (3) بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبّان أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ وَاسِعِ (4) بْنِ حَبّان (5) قَالَ: كُنْتُ أصلِّي فِي الْمَسْجِدِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مسنِدٌ (6) ظَهْرَهُ إِلَى القِبلة، فَلَمَّا قضيتُ (7) صَلاتِي انصرفتُ إِلَيْهِ مِنْ قِبَل (8) شِقّي الأَيْسَرِ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْصَرِفَ عَلَى يمينك؟ قلت: رأيتُك وانصرفتُ إليك (9) ،   (1) أي الانصراف يميناً وشمالاً. (2) الثلاثة في هذا الإِسناد تابعيون، لكن قيل: إن لواسع رؤية، كذا قال السيوطي. (3) الأنصاري المدني، وثَّقه النسائي وابن معين وأبو حاتم، مات بالمدينة سنة 121 هـ، كذا في "الإِسعاف". (4) وثَّقه أبو زرعة، كذا في "الإِسعاف". (5) بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء، هو ابن منقذ بن عمرو الأنصاري. (6) فيه جواز الاستناد إلى الكعبة، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهاً غيره. (7) أتممت. (8) بكسر ففتح، بمعنى جهة. (9) وكان ابن عمر على شماله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَإِنَّكَ قَدْ أصبتَ فَإِنَّ قَائِلا (1) يَقُولُ: انصرفْ (2) عَلَى يَمِينِكَ، فَإِذَا كنتَ (3) تصلِّي انْصَرِفْ حَيْثُ أحببتَ عَلَى يَمِينِكَ أَوْ يَسَارِكَ، وَيَقُولُ (4) نَاسٌ (5) : إِذَا قعدتَ عَلَى حَاجَتِكَ   (1) قوله: فإن قائلاً يقول ... إلخ، كأنه يرد على من ألزم الانصراف عن اليمين مع ثبوت الانصراف في كلا الجانبين عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ففيه أن من أصرَّ على مندوب والتزمه التزاماً هجر ما عداه يأثم، وقد ثَبَتَ الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في جانب اليمين واليسار من حديث ابن مسعود، فإنه قال: "لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته يرى أن حقاً عليه أن لا ينصرف إلاَّ عن يمينه، لقد رأيت رسول الله كثيراً ينصرف عن يساره. وروى مسلم عن أنس، قال: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه. وجمع النووي بينهما بأن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان يفعل تارة بهذا وتارة بهذا، فأخبر كلٌّ ما اعتقده أنه الأكثر. وجمع ابن حجر بوجه آخر، وهو أن يُحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد لأن الحجرة النبوية كانت من جهة يساره، ويُحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر ونحوه. وبالجملة الانصراف في كلا الجهتين ثابت، فإلزام اليمين إلزام بما لم يلزمه الشرع، نعم، الجمهور استحبوا الانصراف إلى اليمين لكونه أفضل، وبه صرح كثير من أصحابنا. (2) أي: وجوباً. (3) هو قول ابن عمر رداً على القائل. (4) قوله: ويقول، يشير بذلك إلى من كان يقول بعموم النهي في المصر والصحراء، وهو مروي عن أبي أيوب وأبي هريرة ومعقل الأسدي. (5) قوله: ويقول ناس ... إلخ، فيه دليل على أن الصحابة كانوا يختلفون في معاني السنن، فكان كلّ واحد منهم يستعمل ما سمع على عمومه، فمن ههنا وقع بينهم الاختلاف، كذا في "الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري" للكرماني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 فَلا تَسْتَقْبِلِ (1) القِبلةَ وَلا بيتَ الْمَقْدِسِ (2) ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (3) : لَقَدْ رقيتُ (4) عَلَى ظَهْرِ بيتٍ (5) لنا (6)   (1) قوله: فلا تستقبل القبلة..إلخ، اختلفوا فيه على أقوال، فمنهم من قال: يجوز استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول في المِصر دون الصحراء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية، والثاني: لا يجوز مطلقاً، وهو مذهب الحنفية أخذاً من حديث أبي أيوب المروي في "سنن أبي داود" وغيره، والثالث: جوازهما مطلقاً، والرابع: عدم جواز الاستقبال مطلقاً، وجواز الاستدبار مطلقاً، كذا ذكره حسين بن الأهدل في رسالته "عدة المنسوخ من الحديث"، وذكر الحازمي أن ممن كره الاستقبال والاستدبار مطلقاً مجاهد وسفيان الثوري وإبراهيم النخعي، وممن رخص مطلقاً عروة بن الزبير، وحُكي عن ربيعة بن عبد الرحمن، وحكي عن ابن المنذر الإِباحة مطلقاً لتعارض الأخبار. (2) قوله: المقدس، يقال: بفتح الميم وإسكان القاف وكسر الدال، ويقال: بضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال المفتوحة لغتان مشهورتان، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي رحمه الله. (3) أراد واسع التأكيد بإعادة قوله: قال عبد الله. (4) أي: صعدت. (5) قوله: بيت لنا، وفي رواية: على ظهر بيتنا، وفي رواية: على ظهر بيت حفصة، أي: أخته كما صرَّح به في رواية مسلم، ولابن خزيمة: دخلت على حفصة، فصعدت ظهر البيت. وطريق الجمع أن إضافة البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته، كذا في "الفتح". (6) وفي رواية البخاري ومسلم: على ظهر بيت أختي، زاد البيهقي: فحانت مني التفاتة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 فرأيت (1) رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عَلَى حَاجَتِهِ (2) مستَقْبِلَ (3) بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَأْخُذُ، يَنْصَرِفُ الرجل إذا   (1) قوله: فرأيت، وفي رواية ابن خزيمة، فأشرفتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وهو على خلائه، وفي رواية له: فرأيته يقضي حاجته، وللحكيم الترمذي بسند صحيح فرأيته في كنف. وانتفى بهذا إيراد من قال ممن يرى الجواز مطلقاً: يحتمل أن يكون رآه في الفضاء، ولم يقصد ابن عمر الإِشراف في تلك الحالة وإنما صعد السطح لضرورة له، فحانت منه التفاتة، نعم لما اتفقت رؤيته في تلك الحالة من غير قصد أحبَّ أن لا يخلي ذلك من فائدة، فحفظ هذا الحكم الشرعي. (2) قوله: على حاجته، أخذ أبو حنيفة بظاهر حديث: "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو بول"، فحرَّم ذلك في الصحراء والبنيان، وخص آخرون بالصحراء لحديث ابن عمر، قال القاضي أبو بكر بن العربي: المختار هو الأول لأنّا إذا نظرنا إلى المعاني فالحرمة للقِبلة، فلا يختلف في البنيان والصحراء، وإن نظرنا إلى الآثار، فحديث أبي أيوب "لا تستقبلوا" الحديث عامّ، وحديث ابن عمر لا يعارضه لأربعة أوجه: أحدها أنه قول: وهذا فعل، ولا معارضة بين القول والفعل، والثاني: أن الفعل لا صيغة له، وإنما هو حكاية حال وحكايات الأحوال معرَّضة الأعذار، والأسباب، والأقوال لا تحتمل ذلك، والثالث: أن هذا القول شرع منه، وفعله عادة، والشرع مقدم على العادة، والرابع: أن هذا الفعل لو كان شرعاً لما ستر به. انتهى. وفي الآخيرين نظر، لأن فعله شرع والتستُّر عند قضاء الحاجة مطلوب بالإجماع، وقد اختلف العلماء في علَّة النهي على قولين: أحدهما: أن في الصحراء خلقاً من الملائكة والجن، فيستقبلهم لفرجه، والثاني: أن العلة إكرام القبلة، قال ابن العربي: هذا التعليل أولى، ورجَّحه النووي أيضاً، كذا في "زهر الرُّبى على المجتبى" للسيوطي. (3) قال أحمد: حديث ابن عمر ناسخ لنهي استقبال بيت المقدس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 سلَّم عَلَى أَيِّ شقِّه (1) أَحَبّ، وَلا بَأْسَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِالْخَلاءِ مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بَيْتَ المقدس (2) ، إنما يُكره (3)   (1) أي: على جنبه الأيمن أو الأيسر. (2) قوله: بيت المقدس، وأما ما أخرجه أبو داود من حديث معقل بن أبي معقل (في الأصل: "معقل بن الأسدي"، هو معقل بن أبي معقل الأسدي كما في بذل المجهود: 1/27) الأسدي، قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم أن نستقبل القبلتين بغائط أو بول، فقال الخطابي في شرح سنن أي داود: يحتمل أن يكون ذلك لمعنى الاحترام لبيت المقدس إذ كان قبلةً لنا، ويحتمل أن يكون ذلك من أجل استدبار الكعبة، لأن من استقبل بيت المقدس بالمدينة فقد استدبر الكعبة. انتهى. وقال أبو إسحاق: إنما نهى عن استقباله بيت المقدس حين كان قبلة، ثم نهى عن استقبال القبلة حين صار قبلة، فجمعهما الراوي ظناً منه على أن النهي مستمر، ونقل الماورديّ عن بعض المتقدِّمين أن المراد بالنهي لأهل المدينة فقط، كذا في "مرقاة الصعود". (3) قوله: إنما يُكره، لما أخرجه الستة، عن أبي أيوب مرفوعاً: لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها. وأخرج الجماعة إلاَّ البخاري، عن سلمان: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن نستقبل القبلة بغائطٍ أو بول. وأخرج أبو داود ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا جلس أحدكم إلى حاجته، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها. وأخرج الدارقطني، عن طاووس مرسلاً مرفوعاً: إذا أتى أحدكم البراز، فليكرم قبلة الله، ولا يستقبلها ولا يستدبرها. وأخرج أبو جعفر الطبري في "تهذيب الآثار" عن عبد الله بن الحسن، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: من جلس يبول قبالة القبلة، فذكر فتحرَّف عنها إجلالاً لها، لم يقُمْ من مجلسه حتى يُغفر له. وبهذه الأحاديث أخذ أصحابنا إطلاق كراهة الاستقبال سواء كان في البنيان أو الصحراء، ورجَّحوها لكونها قولية، ولكونها ناهية على خبر يدل على الترخّص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 أَنْ يَسْتَقْبِلَ (1) بِذَلِكَ الْقِبْلَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 84 - (بَابُ صَلاةِ المُغمى عَلَيْهِ) 277 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَلَمْ يقضِ (2) الصَّلاةَ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (4) نَأْخُذُ إِذَا أُغمي عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَأَمَّا إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أقَلَّ قَضَى (5)   في ذلك فعلاً، وهو ما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن جابر قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم أن نستقبل القبلة، فرأيته قبل أن يُقبض بعام يستقبلها في البول. (1) قوله: أن يستقبل، وأما الاستدبار ففي رواية عن أبي حنيفة لا يُكره، وفي رواية عنه يكره وهو الأصح عند صاحب "الهداية" وغيره لورود النهي عنه كالاستقبال (انظر عمدة القاري 1/829، وفتح الباري 1/173، والمحلّى لابن حزم 1/194) . (2) قوله: فلم يقضِ، قال مالك: ذلك في ما نرى، والله أعلم، أن الوقت قد ذهب، فأما من أفاق في الوقت فهو يصلّي وجوباً، إذ ما به السقوط ما به الإِدراك. (3) أي: الفائتة حال الإِغماء. (4) قوله: وبهذا نأخذ، وفيه خلاف الشافعي ومالك، فإنهما قالا بسقوط الصلاة بالإِغماء إلاَّ إذا أفاق في الوقت، قلّت أو كثُرت، لحديث عائشة سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم عن الرجل يُغمى عليه فيترك الصلاة؟ فقال: لا لشيء من ذلك قضاء إلاَّ أن يفيق في وقت صلاة، فإنه يصليه. وفي سنده الحكم بن عبد الله ضعيف جداً، حتى قال أحمد: أحاديثه موضوعة، ذكره الزيلعي. (5) قوله: قضى صلاته، لما روى في كتاب "الآثار": أخبرنا أبو حنيفة عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عمر أنه قال: في الذي يُغمى عليه يوماً وليلة يقضي. وعلى هذا فما أخرجه مالك محمول على ما أفاق بعد اليوم والليلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 صَلاتَهُ (1) . 278 - بَلَغَنَا (2) عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَنَّهُ أُغمي عَلَيْهِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ أَفاق فَقَضَاهَا (3) ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ أَبُو مَعْشَرٍ (4) الْمَدِينِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ (5) . 85 - (بَابُ صَلاةِ الْمَرِيضِ) 279 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: إِذَا لَمْ يستطع المريض السجود (6) أومى برأسه.   (1) لأنه لا حَرَج في ذلك. (2) قوله: بلغنا، أسنده الدارقطني، عن يزيد مولى عمار بن ياسر، أن عمار بن ياسر أُغمي عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأفاق نصف الليل، فقضاهُنَّ، ومن طريقه رواه البيهقي، وقال: قال الشافعي: هذا ليس بثابت، ولو ثبت فمحمول على الاستحباب، قال البيهقي: وعلَّته أن يزيد مولى عمّار مجهول والراوي عنه إسماعيل بن عبد الرحمن السدّي كان يحيى بن معين يضعِّفه. (3) في نسخة: فقضى. (4) قوله: أبو معشر، اسمه نجيح بن عبد الرحمن السِّنْدي، بكسر السين وسكون النون، مولى بني هاشم، مشهور بكنيته، ويقال: اسمه عبد الرحمن بن الوليد بن هلال، فيه ضعف، قال الترمذي: تكلم فيه بعض مِن قِبَل حفظه وقال أحمد: صدوق، لا يقيم الإِسناد، وقال ابن عدي: يُكتب حديثه مع ضعفه، كذا في "الكاشف" و"التقريب" و"قانون الموضوعات". (5) أي أصحاب عمار. (6) بسبب وجع الرأس ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَلا يَنْبَغِي (1) لَهُ (2) أَنْ يسجُدَ عَلَى عُودٍ وَلا شَيْءٍ (3) يُرْفَعُ (4) إِلَيْهِ، وَيَجْعَلُ سجودَه (5) أخفضَ مِنْ رُكُوعِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 86 - (بَابُ النُّخَامَةِ (6) فِي الْمَسْجِدِ وَمَا يُكره مِنْ ذَلِكَ) 280 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما:   (1) قوله: وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى عُودٍ ... إلخ، لما أخرجه البزار والبيهقي في "المعرفة"، عن أبي بكر الحنفي، عن سفيان الثوري، نا أبو الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عاد مريضاً، فرآه يصلّي على وسادة، فأخذها فرمى بها فأخذ عوداً ليصلّي عليه، فأخذه فرمى به، وقال: صلِّ على الأرض إن استطعت وإلاَّ فأومِ إيماءً، واجعل سجودَك أخفضَ من ركوعك. ورواه أبو يعلى أيضاً بطريق آخر من حديث جابر والطبراني من حديث ابن عمر. وروى أيضاً من حديثه مرفوعاً: "من استطاع منكم أن يسجد فليسجد، ومن لم يستطع فلا يرفع إلى جبهته شيئاً يسجد عليه، وليكن ركوعه وسجوده يومئ برأسه". وذكر شرّاح "الهداية" أنه يُكره السجود على شيء مرفوع إليه، فإن فعل ذلك أجزأه لما روى الحسن، عن أمِّه قالت: رأيت أمّ سلمة تسجد على وسادة من أدم من رَمَدٍ بها، أخرجه البيهقي، وعن ابن عباس أنه رخَّص في السجود على الوسادة، ذكره البيهقي، وذكر ابن أبي شيبة، عن أنس أنه كان يسجد على مرفقه. (2) بل هو مكروه كما في الأصل. (3) أي: وعلى شيء آخر كوسادة ونحوها. (4) بصيغة المجهول أو المعلوم. (5) أي: إيماء السجود. (6) قوله: النخامة، يُقال: تنخَّم وتنخَّع، رمى بالنُّخامة والنُّخاعة، بضمّ أولها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم رَأَى بُصَاقًا (1) فِي قِبْلَةِ (2) الْمَسْجِدِ فحكَّه (3) (4) ، ثُمَّ أَقْبَلَ (5) عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ (6) أحدُكُم يصلِّي فَلا (7) يبصقْ (8) قِبَل وَجْهِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ (9)   ما يخرج من الخيشوم والحلقوم. البصاق من الفم والمخاط من الأنف والنخامة من الأنف. (1) قوله: بصاقاً، بصاد مهملة وفي لغة بالزاء المعجمة، وأخرى بالسين. وضُعِّفت، والباء مضمومة في الثلاث: هو ما يسيل من الفم، كذا ذكره الزرقاني. (2) أي: في حائط من جهة قبلة المسجد. (3) قوله: فحكَّه، في رواية أيوب عن نافع، ثم نزل فحكَّه بيده، وفيه إشعار بأنه رآه حال الخُطبة، وبه صرَّح به في رواية الإسماعيلي: زاد (وأحسبه دعا بزعفران فلطخه به) ، زاد عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب: (فلذلك صنع الزعفران في المساجد) ، كذا ذكره الزرقاني. (4) أي: أزاله بيده. (5) بوجهه الكريم. (6) قوله: إذا كان .... إلى آخره، قال الباجي: خصَّ بذلك حال الصلاة لفضيلة تلك الحال ولأنه حينئذٍ يكون مستقبل القبلة. (7) بالجزم على النهي. (8) أي: مطلقاً لا في جدار المسجد ولا في غيره. (9) قال ابن عبد البر: هو كلام على التعظيم لشأن القبلة. قوله: فإن الله تعالى، قد نزع به المعتزلة القائلون بأن الله في كل مكان، وهو جهل واضح. وهذا التعليل يدل على حرمة البزاق في القبلة سواء كان في المسجد أم لا، ولا سيَّما من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 تَعَالَى قِبَل (1) وَجْهِهِ إِذَا صلَّى. قَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لا يَبْصُقَ تِلْقَاءَ (2) وَجْهِهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ (3) وليبصقْ تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى (4) . 87 - (بَابُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ (5) يَعْرَقَانِ فِي ثَوْبٍ) 281 - أَخْبَرَنَا مالك، حدَّثنا نافع، عن ابن عمر: أنه كَانَ يَعْرَقُ (6) فِي الثَّوْبِ (7) وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ يصلي فيه.   المصلِّي، وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان، عن حذيفة مرفوعاً: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه"، ولابن خزيمة، عن ابن عمر مرفوعاً: "يُبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه"، كذا ذكره الزرقاني. (1) بكسر القاف وفتح الباء أي قدَّام وجهه، قوله: قبل وجهه، هذا على التشبيه أي كأن الله في مقابل وجهه، وقال النووي: معناه فإن الله قِبَل الجهة التي عظَّمها، وقيل: معناه فإن قِبلَة اللهِ قِبَل وجهه أو ثوابه أو نحو ذلك. (2) أي: طرف وجهه لأنه جهة الكعبة. (3) لشرف الملك. (4) أو عن يساره إن لم يكن هناك رجل، بذلك وردت الأخبار والسنن، قوله: وليبصق، أي إذا كان تحت رجله شيء من ثيابه وإلاَّ فيُكره فوق أرض المسجد وكذا فوق حصيره. (5) حكى النووي الاتفاق على طهارة سؤر الحائض وعَرَقها. (6) بفتح الياء والراء. (7) الذي هو لابسه، وفي معنى الجنب الحائض والنُّفَساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يُصب (1) الثَّوْبَ مِنَ الْمَنِيِّ (2) (3) شَيْءٌ، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -. 88 - (باب بَدْأ (4) أَمْرِ القِبلة وَمَا نُسخ مِنْ قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) 282 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عبدُ اللَّهِ (5) بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عبدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بينما الناسُ في صلاة (6)   (1) قوله: ما لم يصب، لما أخرجه الطحاوي وغيره عن معاوية أنه سأل أمَّ حبيبة: هل كان النبي يصلِّي في الثوب الذي يضاجعك فيه؟ قالت: نعم، إذا لم يُصبْه أذى. (2) ونحوه من النجاسات. (3) فإنه نجس، وأما العرق فليس بنجس (قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر، ثبت ذلك عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الفقهاء، كذا في "الأوجز" عن "المغني" وبسط الكلام على ذلك العيني فارجع إليه لو شئت، وقال ابن قدامة: سؤر الآدمي طاهر سواء كان مسلماً أو كافراً عند عامة أهل العلم إلاَّ أنه حُكي عن النخعي، أنه كره سؤر الحائض. انظر الكوكب الدري 1/156) . (4) بالفتح أي ابتداؤه. (5) قوله: عبد الله، قال ابن عبد البر: كذا رواه جماعة الرواة إلاَّ عبد العزيز بن يحيى، فإنه رواه عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، والصحيح ما في "الموطأ" (شرح الزرقاني 1/395) . (6) قوله: في صلاة الصبح، قال الحافظ (فتح الباري 1/506، ولامع الدراري 1/585) : هذا لا يخالف حديث البراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 الصبح إذ أتاه (1) رجل (2) ،   في "الصحيحين" أنهم كانوا في صلاة العصر لأن الخبر وصل وقت صلاة العصر إلى من هو داخل المدينة، وهو بنو حارثة، وذلك في حديث البراء، والآتي إليهم بذلك عبّاد بن بشر، كما رواه ابن مندة وغيره، وقيل: عباد بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء ورجح أبو عمر الأول وقيل عباد بن نصر الأنصاري، والمحفوظ عباد بن بشر، ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة، وهم بنو عمرو بن عوف أهل قُباء، وذلك في حديث ابن عمر. (1) ولمسلم في صلاة الغداة (أخرجه مسلم في باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، رقم الحديث 14) . (2) قوله: رجل، ذكر السعد مسعود بن عمر التفتازاني أنَّه ابن عمر وأنس، حيث قال في "التلويح حاشية التوضيح" عند قول صدر الشريعة: وأما إخبار الصبي والمعتوه فلا يُقبل منه في الديانات أصلاً ... إلى آخره، فإن قيل أن ابن عمر أخبر أهل قباء بتحويل القبلة فاستداروا كهيآتهم وكان صبيا قلنا: لو سُلِّم كونه صبياً، فقد رُوي أنه أخبرهم بذلك أنس، فيحتمل أنهما جاءا جميعاً فأخبراهم. انتهى. قلت: لم أقف لهاتين الروايتين على سند، ولم أطِّلع له ما يدلّ عليه من كلمات المحدِّثين، فإنه لم يذكر أحد منهم أن المُخْبِر بذلك ابن عمر وأنس، بل ذكر بعضهم عبّاد بن بشر، وبعضهم عبّاد بن نَهيك، حكاهما السيوطي في "تنوير الحوالك" (1/201) ، جزم بالأول القسطلاّني في "إرشاد الساري"، وذكر الحافظ ابن حجر وكفاك به اطِّلاعاً أن مُخبر أهل قباء لم يسمّ وإن كان ابن طاهر وغيرُه نقلوا أنه عبّاد بن بشر، ففيه نظر، لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر، فإن كان ما نقله محفوظاً، فيحتمل أن عبّاداً أتى بني حارثة أولاً في العصر، ثم توجَّه إلى أهل قباء وقت الصبح فأعلمهم بالفجر، ومما يدلّ على تعدّدهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 فَقَالَ إنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم قَدْ أُنزل عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ (1) قرآنٌ (2) وَقَدْ أُمر (3) أَنْ يستقبلَ القِبلة، فاستقبَلوها (4) ، وَكَانَتْ وجوهُهُم إلى الشام (5)   ما روى مسلم عن أنس أن رجلاً من بني سلمة مرَّ وهم ركوع في صلاة الفجر. انتهى (فتح الباري 1/506) . (1) قوله: الليلة، قال الباجي: أضاف النزول إلى الليل على ما بلغه، ولعله لم يعلم بنزوله قبل ذلك، أو لعله صلى الله عليه وسلَّم أمر باستقبال الكعبة بالوحي، ثم أُنزل عليه القرآن من الليلة. (2) بالتنكير لإِرادة البعضية، والمراد قوله تعالى: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ..} الآيات. (3) قوله: وقد أُمر، وقع في رواية البخاري أنَّ أول صلاة صلاّها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم متوجِّهاً إلى الكعبة العصر، وعند ابن سعد: حُوِّلت القبلة في صلاة الظهر أو العصر على التردُّد. والتحقيق أنَّ أول صلاةٍ صلاّها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور الظهر وأول صلاة صلاها في المسجد النبوي العصر، كذا في "فتح الباري". (4) قوله: فاستقبلوها، بفتح الموحَّدة على رواية الأكثر، أي: فتحوَّل أهل قباء إلى جهة الكعبة، ويحتمل أن فاعله النبي صلى الله عليه وسلَّم ومن معه، وضمير وجوههم له أو لأهل قباء، وفي رواية: فاستقبلوها بكسر الموحدة - أمر - ويأتي في ضمير وجوههم الاحتمالان، وعَوْده إلى أهل قباء أظهر، ويرجِّح رواية الكسر رواية البخاري في "التفسير" بلفظ: وقد أمر أن يستقبل القبلة، ألا فاستقبلوها، فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن ما بعده أمر لا خبر، قال الزرقاني (1/396) . (5) أي: بيت المقدس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 فَاسْتَدَارُوا (1) إِلَى الْكَعْبَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ فِيمَنْ أَخْطَأَ القِبلة حَتَّى صلَّى رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ (2) ، ثُمَّ عَلِم أَنَّهُ يصلِّي إِلَى غَيْرِ القِبلة فلينحرفْ (3) إلى القِبلة   (1) قوله: فاستداروا، وقع بيان كيفية التحويل في حديث تويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم، قالت فيه: فتحوَّل النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلَّينا السجدتين الباقيتين إلى المسجد الحرام. وتصويره أن الإِمام تحوَّل من مكانه إلى مؤخَّر المسجد، لأن من استقبل القبلة استدبر بيت المقدس، وهو لو دار كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، ولمّا تحوَّل الإِمام تحولت الأرض، وهذا يستدعي عملاً كثيراً في الصلاة، فيحتمل أنه وقع قبل تحريم العمل الكثير، ويحتمل أنه اغتُفر للمصلحة أو لم تتوالَ الخُطا عند التحويل، بل وقعت مفترقة، وفي الحديث دليل على أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلَّف حتى يبلغه، لأن أهل قباء لم يُؤمروا بالإِعادة مع أن الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل صلاتهم، واستنبط منه الطحاوي أن من لم تبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام ذلك فالفرض لا يلزمه، وفيه قبول خبر الواحد (والأوجه أن الخبر كان محتفاً بالقرائن، أفادت القطع عندهم، وهي انتظاره صلى الله عليه وسلّم من قبل ذلك، فقد ورد أنه يدعو وينظر إلى السماء. أوجز المسالك 4/96) ، كذا في "شرح الزرقاني". (2) أي: بعد ما تحرّى فإنه لو صلّى بغير تحرٍّ لم يجز، كذا قالوا (قال الباجي في المنتقى 1/340: ظاهر الحديث يدل على أنهم بنوا على ما تقدم من صلاتهم، ولو شرع أحد بصلاته إلى غير القبلة وهو يظنها إلى القبلة ثم تبيَّن له، فإن كان منحرفاً انحرافاً يسيراً رجع إلى القبلة وبنى، وإن كان منحرفاً عنها انحرافاً كثيراً استأنف الصلاة، والفرق بينه وبين أهل قباء أنهم افتتحوا الصلاة إلى ما شرع لهم من القبلة، فلمّا طرأ النسخ في نفس العبادة لم يجز إفساد ما تقدَّم منها على الصحة. اهـ وفي الأوجز 4/96 لا تفصيل عند الحنفية وتصح صلاته بكل حال ومذهب الشافعية الإعادة مطلقا لمن اجتهد في القبلة فأخطأ كما في الفتح وغيره) . (3) كأهل قباء إذا علموا أنهم يصلّون إلى غير القبلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 فَيُصَلِّي مَا بَقِيَ ويَعتدّ (1) بِمَا مَضَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 89 - (بَابُ الرَّجُلِ يُصَلِّي بِالْقَوْمِ (2) وَهُوَ جُنُب أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ) 283 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا إسماعيلُ بنُ أَبِي الْحَكِيمِ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عمرَ بنَ الْخَطَّابِ صَلَّى (3) الصُّبْحَ، ثُمَّ رَكِبَ (4) إِلَى الجُرُف (5) ، ثُمَّ بَعْدَ مَا طَلَعَتِ الشمسُ رَأَى فِي ثَوْبِهِ احْتِلامًا (6) ، فَقَالَ: لَقَدِ احتلمتُ، وَمَا شَعَرتُ (7) ، وَلَقَدْ سلِّط عَلَيَّ الاحْتِلامُ منذُ (8)   (1) أي: لا يحتاج إلى استئناف الصلاة حتى يجوز أن تقع أربع ركعات في أربع جهات. (2) أي: وهو يظن أنه على طهارة. (3) صرح أن صلاته كانت بالناس. (4) قوله: ثم ركب إلى الجُرُف، فيه أن الإِمام من وَلِيَ شيئاً من أمور المسلمين له أن يتعاهد ضيعته وأمور دنياه. (5) بضم الجيم والراء وفاء، قال الرافعي: على ثلاثة أميال من المدينة من جانب الشام. (6) أي: أثره وهو المني. (7) بفتحتين، أي: علمت. (8) قوله: منذ وُلِّيْتُ أمرَ الناس، قال الباجي: يحتمل أن يريد أن ذلك كان وقتاً لابتلائه لمعنى من المعاني، لم يذكره، ووقَّته بما ذكر من ولايته، ويحتمل أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وُلِّيتُ أمرَ النَّاس ثُمَّ غَسَلَ (1) مَا رَأَى في ثوبه،   شغله بأمر الناس واهتمامه بهم صرفه عن الاشتغال بالنساء فكثر عليه الاحتلام، كذا في "التنوير" (1/68، وانظر المنتقى 1/101، وأوجز المسالك 1/295) . (1) قوله: ثم غسل، في غسل عمر الاحتلام من ثوبه دليلٌ على نجاسة المني لأنه لم يكن ليشتغل مع شغل السفر بغسل شيء طاهر. ولم يختلف العلماء في ما عدا المني من كل ما يخرج من الذَّكَر أنه نجس، وفي إجماعهم على ذلك ما يدل على نجاسة المنيّ المختلَف فيه، ولو لم يكن له علة جامعة إلاَّ خروجَه مع البول والمذي والودي مخرجاً واحداً لكفَى، وأما الرواية المرفوعة فيه: فروى عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار، عن عائشة: كنت أغسله من ثوب رسول الله (أخرجه البخاري 1/55) . وروى همام والأسود عنها قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم (سنن ابن ماجه 1/99) . وحديث همام والأسود أثبت من جهة الإِسناد. وأما اختلاف السلف والخلف في نجاسة المني، فرُوي عن عمر وابن مسعود وجابر بن سمرة: أنهم غسلوه، وأمروا بغسله. ومثله عن ابن عمر وعائشة على اختلافٍ عنهما، وقال مالك: غسل الاحتلام واجب، ولا يجزئ عنده وعند أصحابه في المني وفي سائر النجاسات إلاَّ الغسل بالماء، ولا يجزئ فيه الفرك. وأما أبو حنيفة وأصحابه، فالمنيّ عندهم نَجَس، ويجري فيه الفرك على أصلهم في النجاسة، وقال الحسن بن حيّ: تُعاد الصلاة من المني في الجسد وإن قلَّ، ولا تعاد من المني في الثوب، وكان يفتي مع ذلك بفركه عن الثوب. وقال الشافعي: المني طاهر، ويفركه إن كان يابساً، وإن لم يفركه فلا بأس به. وعند أبي ثور، وأحمد، وإسحاق، وداود: طاهر كقول الشافعي، ويستحبون غسله رطباً وفركه يابساً، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 ونَضَحَه (1) ، ثُمَّ اغْتَسَلَ ثُمَّ قَامَ (2) فَصَلَّى الصُّبْحَ بَعْدَ مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذ، ونرى (3)   قول ابن عباس وسعد، كذا في "الاستذكار" (1/359. وذهب الشافعي وأحمد في أصح قوليه وإسحاق إلى أن المنيّ طاهر، وإنما يغسل الثوب منه لأجل النظافة لا للنجاسة، وروي ذلك عن عليّ وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر وعائشة، وذهب أبو حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي، والليث، والحسن بن حي إلى أنه نجس غير أنَّ أبا حنيفة يقول بإجزاء الفرك، ولا يجزئ عندهما إلاَّ الغسل كحكم سائر النجاسات. هذا ملخَّص ما في "شرح المهذَّب" 2/554) . (1) أي: رشّ ما لم يَرَ فيه أذى، لأنه شكَّ هل أصابه المني أم لا؟ ومن شك في ذلك وجب نضحه تطييباً للنفس. قوله: ونضحه، لا خلاف بين العلماء في أن النضح في حديث عمر هذا معناه الرشّ وهو عند أهل العلم طهارة لما شك فيه كأنهم جعلوه رافعاً للوسوسة، ندب بعضهم إلى ذلك، وأباه بعضهم، وقال: لا يزيده النضح إلاَّ شراً، كذا قال ابن عبد البَرّ (الاستذكار 1/360) . (2) قوله: قام، فيه دليل على ما ذكره أصحابنا وغيرهم أنَّ من رأى في ثوبه أثر احتلام، ولم يتذكَّر المنام وقد صلَّى فيه قبل ذلك يحمله على آخر نومة نامها، ويعيدُ ما صلّى بينه وبين آخر نومته، وهو من فروع الحادث يُضاف إلى أقرب الأوقات. (3) قوله: ونرى ... إلى آخره، فيه خلاف بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين، فقال مالك وأصحابه والثوري والأوزاعي والشافعي: لا إعادة على من صلّى خلف من نَسِيَ الجنابة وصلّى ثم تذكَّر، إنما الإِعادة على الإِمام فقط، ورُوي ذلك عن عمر، فإنه لمّا صلّى الصبح بجماعة، ثم غدا إلى أرضه بالجُرُف، فوجد في ثوبه احتلاماً أعاد صلاته، ولم يأمرهم بالإِعادة. وروى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 أَنَّ مَنْ عَلِمَ (1) ذَلِكَ مِمَّنْ صلَّى خَلْفَ عُمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يعيدَ الصَّلاةَ كَمَا أَعَادَهَا عُمَرُ لأَنَّ الإِمام (2) إِذَا فَسَدَتْ صَلاتُهُ فَسَدَتْ صَلاةُ مَنْ خَلْفَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -.   ابن أبي شيبة عن الحارث، عن عليّ في الجنب يصلّي بالقوم، قال: يعيد ولا يعيدون. وروى أحمد عن عثمان صلّى بالناس الفجر، فلما ارتفع النهار، فإذا هو بأثر الجنابة، فقال: كبرت، والله، كبرت، فأعاد الصلاة، ولم يأمرهم أن يعيدوا. وبه قال أحمد حكاه الأثرم، وإسحاق وأبو ثور، وأبو داود، والحسن وإبراهيم، وسعيد بن جبير، وقال أبو حنيفة والشعبي وحماد بن أبي سليمان: إنه يجب عليهم الإِعادة أيضاً، وروى عبد الرزاق بسند منقطع عن علي رضي الله عنه مثله، كذا ذكره ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/362. وفي أوجز المسالك 1/299: واختلف العلماء فيمن صلّى خلف جنب أو محدث وهو ناسٍ فلم يعلم هو ولا المأمومون حتى فرغوا من الصلاة، فقال الأئمة الثلاثة: إن صلاة الإِمام باطلة وصلاتهم صحيحة، وروي عن علي أنهم يعيدون، وبه قال ابن سيرين والشعبي وأبو حنيفة وأصحابه، كذا في "المغني") . (1) وأما من لم يعلم فلا عليه شيء، لأن التكليف بحسب الوسع. (2) قوله: لأن الإِمام .... إلى آخره، تعليل لطيف على مدَّعاه بأن الإِمام إذا فسدت صلاته فسدت صلاة المؤتم، لأن الإِمام إنما جُعل ليؤتم به، والإِمام ضامن لصلاة المقتدي كما ورد به الحديث، فصلاة المقتدي مشمولة في صلاة الإِمام، وصلاة الإِمام متضمِّنة لها بصحتها، وفسادها بفسادها، فإذا صلّى الإِمام جنباً لم تصح صلاته، لفَوات الشرط، وهي متضمِّنة لصلاة المؤتَمِّ، فتفسد صلاته أيضاً، فإذا عَلم ذلك يلزم عليه الإِعادة، ويتفرَّع عليه أنه يلزم الإِمام إذا وقع ذلك أن يُعلمهم به ليعيدوا صلاتهم، ولو لم يُعلمهم لا إثم عليهم، وهذا التقرير واضح قويٌّ إلاَّ أن يدلَّ دليل أقوى منه على خلافه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 90 - (بَابُ الرَّجُلِ (1) يَرْكَعُ دُونَ (2) الصَّفِّ أَوْ يَقْرَأُ (3) فِي رُكُوعِهِ) 284 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ (4) بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ (5) أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ (6) زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَوَجَدَ الناس ركوعاً (7) فركع (8)   (1) أي: ما حكمه؟ (2) أي: قبل بلوغه إلى الصف. (3) أي: يقرأ القرآن في ركوعه وسجوده. (4) قوله: أبي أمامة، معدود في الصحابة لأن له رؤية، ولم يسمع، اسمه أسعد، وقيل سعد، مات سنة 100 هـ، وأبوه سهل بن حنيف صحابي شهير من أهل بدر، كذا ذكره الزرقاني. (5) بضم المهملة وفتح النون. (6) أي: في المسجد. (7) أي: راكعين. (8) قوله: فركع ثم دبَّ، قال مالك: بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يدبّ راكعاً، قال ابن عبد البر: لا أعلم لهما مخالفاً إلاَّ أبا هريرة، فقال: لا تركع حتى تأخذ مقامك من الصف، قال وقاله رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، واستحبه الشافعي، قال: فإن فعل فلا شيء عليه، وأجاز مالك والليث للرجل وحده أن يركع، ويمشي إلى الصف إذا كان قريباً، وكرهه أبو حنيفة والثوري للواحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 ثُمَّ دبَّ (1) حَتَّى وَصَلَ الصَّفَّ. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا يُجزئ (2) ، وأحبُّ (3) إِلَيْنَا أَنْ لا يَرْكَعَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 285 - قَالَ مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا (4) الْمُبَارَكُ (5) بن فَضَالة، عن   (وقال أحمد وإسحاق: من صلّى خلف صف منفرداً فصلاته باطلة. انظر أوجز المسالك 3/217) . (1) قوله: ثم دبَّ، دبَّ يدب يدرج في المشي رويداً ولا يسرع، كذا في "مجمع البحار". (2) أي: يكفي ولا يفسد الصلاة لأن العمل قليل، قوله: يجزئ، أي: يكفي في الأداء لكن بشرط أن لا تقع ثلاث خطوات متوالية في ركن من أركان الصلاة، كذا ذكره بعضهم. وفي الخلاصة: إذا مشى في صلاة إن كان قدر صفّ واحد لا تفسد، وإن كان قدر صفَّين بدفعة يفسد، ولو مشى إلى صف، ثم وقف، ثم إلى صف آخر لا تفسد، وفي "الظهيرية" المختار أنه إذا كثر تفسد، كذا قال على القاري. (3) لينال زيادة الثواب بكثرة الخطا وطول الانتظار والاشتراك في الجماعة. (4) وفي نسخة: عن. (5) قوله: المبارك. هو المبارك بن فضالة - بفتح الفاء وتخفيف الضاد المعجمة - أبو فضالة مولى آل الخطاب العدوي البصري، صدوق يُدَلِّس، قال أبو زرعة: إذا قال حدَّثنا فهو ثقة، روى عن الحسن البصري وبكر المزني، وعنه ابن المبارك وغيره، مات سنة 166 هـ على الصحيح، كذا في "التقريب" و"الكاشف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الْحَسَنِ: أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَكَعَ (2) دُونَ (3) الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى (4) حَتَّى وَصَلَ الصَّفَّ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ ذَكَر (5) ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا (6) ولا تَعُدْ (7) .   (1) هذا الحديث رواه البخاري وأبو داود وأحمد والنسائي. قوله: أن أبا بكرة: بسكون الكاف نُفيع بن الحارث الثقفي - بضم النون وفتح الفاء وسكون الياء - كذا في "جامع الأصول" لابن الأثير الجزري، وفي "الاستيعاب" اسمه نفيع بن مسروح، وقيل: نفيع بن الحارث بن كَلدة، كان نزل يوم الطائف إلى رسول الله صّلى الله عليه وسلَّم، فأسلم في غلمان من غلمان الطائف، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم وقد عُدَّ من مواليه، توفي بالبصرة سنة إحدى وقيل: اثنتين وخمسين. (2) ليدرك الركعة. (3) أي: قبل أن يصل إليه. (4) أي: بخطوتين، أو أكثر غير متوالية. (5) على البناء للمفعول، وقيل للمعلوم. (6) على الطاعة والمبادرة إلى العبادة (دعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحرص على العبادة لأنه محمود، ولكن بحيث يوافق الشرع، فإن الحرص على العبادة بوجه لا يوافق الشرع مذموم ولهذا قال: ولا تعد. بذل المجهود 4/351) . (7) قوله: ولا تَعُد، بفتح التاء وضم العين، من العَوْد، أي: لا تفعل مثل ما فعلته ثانياً، وروي: لا تَعْدُ - بسكون العين وضم الدال - من العدو، أي: لا تُسرع في المشي إلى الصلاة، وقيل: بضم التاء وكسر العين من الإِعادة أي: لا تُعد الصلاة التي صلَّيتها، قال القاضي: ذهب الجمهور إلى أنَّ الانفراد خلف الصف مكروه، وقال النخعي وحماد بن أبي ليلى ووكيع وأحمد: مبطل. والحديث حجة عليهم، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر أبا بكرة بالإِعادة، ومعنى لا تعد: لا تفعل ثانياً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 قَالَ مُحَمَّدٌ: هَكَذَا نَقُولُ: وَهُوَ يُجْزِئُ وَأَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ لا يُفعل (1) . 286 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ (2) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ (3) بْنِ عبد الله بن حُنين (4) ، عن   مثلَ ما فعلت، إن جُعل نهياً عن اقتدائه منفرداً وركوعه قبل أن يصلَ إلى الصف، ولا يدل على فسادِ الصلاة، ويحتمل أن يكون عائداً إلى المشي في الصلاة، فإن الخطوة والخطوتين وإن لم تفسد الصلاة لكن الأَوْلى التحرز عنها، كذا في "المرقاة" (3/76، وقال القاري: "قد أبعد من قال: ولا تُعِدْ بضم التاء وكسر العين من الإِعادة، أي: لا تعد، وأبعد منه من قال إنه بإسكان العين، وضم الدال من العدو، أي: لا تسرع وكلاهما لا يأتي به رواية) . (1) قوله: أن لا يُفعل، وما روي عن زيد وابن مسعود، أنهما كانا يفعلان ذلك، فإما أنه لم يبلغهما الخبر الدالّ على النهي عن ذلك صريحاً، أو حملاه على نهي إرشاد أو نحو ذلك. (2) في الإِسناد ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، وهو من اللطائف (شرح الزرقاني 1/166) . (3) الهاشمي مولاهم المدني التابعي، قال ابن سعد: ثقة، كثير الحديث روى له الجميع، مات بعد المائة كذا ذكره الزرقاني. (4) مصغراً. (1) التابعي الثقة المتوفَّى في إمارة يزيد، روى له الجماعة، كذا ذكره الزرقاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 عَبْدِ اللَّهِ (1) بْنِ حُنين، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لُبْسِ (2) القَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ (3) المُعَصْفَرِ (4) وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ وَعَنْ قِرَاءَةِ (5) الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ (6) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، تُكره القراءةُ فِي الرُّكُوعِ والسجود وهو   (2) قوله: عن لبس القَسِّيِّ، قال الباجي (1/149) : بفتح القاف وتشديد السين، قال: فسره ابن وهب بأنها ثياب مضلعة، يريد مخطَّطة بالحرير، وكانت تعمل بالقَسّ، وهو موضع بمصر، يلي الفرما، وفي "النهاية": هي ثياب من كَتّان مخلوط بالحرير يؤتى بها من مصر نُسبت إلى قرية على ساحل البحر قريباً من تِنِّيس، يُقال لها القَسّ، بفتح القاف، وبعض أهل الحديث يكسرها، وقيل: أصل القَسِّيِّ القزّي، هو ضرب من الإِبرَيْسم أبدل الزاء سيناً، كذا في "التنوير" (1/101) . (3) قوله: وعن لبس المعصفر، أجازه قوم من أهل العلم وكرهه (والنهي للتنزيه على المشهور، وكره مالك الثوب المعصفر للرجال في غير الإِحرام. أوجز المسالك 1/74) آخرون ولا حجة عندي لمن أباحه مع ما جاء من نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، كذا قال ابن عبد البر. (4) عُصْفُر - بضم أول وضم فاء -: كَلِ كاجيره كه بهندي آنرا كسنبه كَويندوجامه كه برنك آن سرخ كرده شود آنرا معصفر كَويند (بالفارسية) (غياث اللغات) . (5) قوله: وعن قراءة: إلى آخره، قال الخطابي: لما كان الركوع والسجود وهما في غاية الذلّ والخضوع مخصوصَيْن بالذكر والتسبيح، نُهي عن القراءة فيهما. (6) رواه معمر عن ابن شهاب، عن إبراهيم بن حنين فزاد: والسجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 قَوْلُ (1) أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 91 - (بَابُ الرَّجُلِ يُصَلِّي (2) وَهُوَ يَحْمِلُ الشَّيْءَ) 287 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي (3) وَهُوَ حاملٌ (4) أمامةَ (5) بِنْتَ (6)   (1) بل قول الكل لا خلاف فيه (قال ابن رشد في "بداية المجتهد" اتفق الجمهور على منع قراءة القرآن في الركوع والسجود لحديث عليّ. قال الطبري: وهو حديث صحيح به أخذ فقهاء الأمصار، وسار قوم من التابعين إلى جواز ذلك وهو مذهب البخاري، لأنه لم يصح الحديث عنده. اهـ مختصراً. ثم هي كراهة تنزيه عند أكثر العلماء. أوجز المسالك 1/75) ، ذكره ابن عبد البر. (2) جملة حالية. (3) قوله: كان يصلي، أخرج الطبراني في "الكبير"، عن عمرو بن سليم الزرقي قال: إن الصلاة التي صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو حاملٌ أُمامة صلاة الصبح، كذا في "مرقاة الصعود". (4) لأحمد: على رقبته. (5) قوله: أمامة، هي أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن مناف، وأمها زينب بنت رسول الله، وُلدت على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم وكان يحبها وكان ربما حملها على عنقه في الصلاة، وتزوَّجها عليّ بن أبي طالب بعد فاطمة، فلما قُتل علي تزوَّجها المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فولدت له يحيى وهلكت عنده، وقيل: لم تلد لا لعلي ولا للمغيرة، وليس لزينب عقب، كذا في "الاستيعاب". (6) الإِضافة: بمعنى اللام، فأظهر في المعطوف وهو قوله ولأبي العاص ما هو مقدر في المعطوف عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 زَيْنَبَ (1) بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلأَبِي الْعَاصِ (2) بْنِ الرَّبِيعِ، فَإِذَا (3) سَجَدَ وضعها وإذا (4) قام حملها.   (1) قوله: زينب، كانت أكبر بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلمت وهاجرت حين أبى زوجها أن يُسلم، وتوفِّيت في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة ثمان من الهجرة، كذا في "الاستيعاب". (2) قوله: ولأبي العاص بن الربيع اختُلف في اسمه فقيل لقيط، وقيل: مهشم، وقيل: هشيم، وقيل: مهيشم، والأكثر على الأول، أسلم، وردّ رسول الله زينب إليه، مات سنة 12 هـ، كذا في "الاستيعاب". (3) ولمسلم: إذا ركع وضعها. قوله: فإذا سجد وضعها ... إلى آخره، اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فروى ابن القاسم، عن مالك أنه كان في النافلة، واستبعده المأزري والقرطبي وعياض لما في مسلم: رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤمُّ الناس وأمامة على عاتقه. ولأبي داود: بينا نحن ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال إلى الصلاة إذ خرج إلينا وأمامة على عاتقه، فقام في مصلاه، فقمنا خلفه، فكبَّر، فكبَّرنا وهي في مكانها، وقال النووي: ادعى بعض المالكية أنه منسوخ، وبعضهم أنه من الخصائص، وبعضهم أنه لضرورة، وكلّها دعاوى باطلة مردودة لا دليل عليها، وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع لأن الآدمي طاهر، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة، والأعمال في الصلاة لا تبطلها إذا قلَّت أو تفرَّقت وإنما فعله رسول الله صلّى عليه وسلّم لبيان الجواز (في "التوشيح" للسيوطي: اختلف في هذا الحديث، فقيل: إنه من الخصائص، وقيل: منسوخ، وقيل: خاص بالضرورة، وقيل: محمول على قلَّة العمل وهو الأصح، أوجز المسالك 3/289) ، كذا في "شرح الزرقاني". (4) في نسخة: فإذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 92 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ يصلِّي وَبَيْنَ القِبلة وَهِيَ نَائِمَةٌ أَوْ قَائِمَةٌ (1)) 288 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ (2) مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم أَنَّهَا أخبرتْه (3) ، قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم ورِجلاَيَ فِي الْقِبْلَةِ (4) (5) ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَني (6) ، فقبضتُ رِجْلَيَّ (7) ، وإذا قام بسطتُها (8) ،   (1) وفي نسخة، أو قاعدة، والمراد بالرجل المصلّي، وفي نسخة: زيادة يصلي، وهو صفة الرجل أو حال منه، وقعت معترضة. (2) اسمه سالم بن أبي أمية. (3) أي: أبا سلمة. (4) أي: في مكان سجوده. (5) أي: في جهتها. (6) أي: طعن بإصبعه فيَّ لأقبض رِجْليَّ من قِبلته. قوله. غمزني، قال النووي: استدل به من يقول لمسُ النساء لا ينقض الوضوء، والجمهور حملوه على أنه غمزها فوق حائل، وهذا هو الظاهر من حال النائم. وقال الزرقاني: فيه دلالة، على أن لمس المرأة بلا لذة لا ينقض الوضوء لأن شأن المصلي عدم اللذة، لا سيَّما النبي صلّى الله عليه وسلّم، واحتمال الحائل والخصوصية بعيد، فإن الأصل عدم الحائل، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، وعلى أن المرأة لا تقطع صلاة من صلّى إليها، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجماعة من التابعين وغيرهم. (7) بشد الياء، مثنّى. (8) قوله: بسطتها (هكذا في الأصل، والصحيح: "بسطتهما". انظر فتح الباري 1/492) ، بالتثنية عند أكثر رواة البخاري، ولبعض رواته رجليّ ولبعضهم بسطتها بالإفراد فيهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 والبيوتُ (1) يومئذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ (2) بِأَنْ يصلِّيَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ نَائِمَةٌ أَوْ قَائِمَةٌ أَوْ قَاعِدَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ إِلَى جَنْبِهِ، أَوْ تُصَلِّيَ إِذَا كَانَتْ (3) تصلِّي فِي غَيْرِ صَلاتِهِ، إِنَّمَا يُكره أَنْ تصلِّيَ إِلَى جَنْبِهِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُمَا (4) فِي صَلاةٍ وَاحِدَةٍ (5) أَوْ يصلِّيان مَعَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتْ (6) كَذَلِكَ فَسَدَتْ (7) صَلاتُهُ، وَهُوَ (8) قَوْلُ أبي حنيفة - رحمه الله -.   (1) قوله: والبيوت ... إلى آخره، قال النووي: أرادت به الاعتذار تقول لو كانت فيها مصابيح لقبضتُ رجلي عند إرادته السجود ولم أُحْوِجْه إلى غمزي. وقال ابن عبد البر: قولها يومئذٍ تريد حينئذٍ، إذ المصابيح إنما تُتَّخذ في الليالي دون الأيام، وهذا مشهور في لسان العرب، يُعبَّر باليوم عن الحين والوقت كما يُعبَّر به عن النهار، كذا في "التنوير"، والظاهر أنه بيان لعادتهم في تلك الأوقات أنهم لم يكونوا معتادين بالمصابيح في تمام الليل إلاَّ عند الضرورة. (2) المعنى أن محاذاتها لا تضرّ إذا لم تكن معه في صلاة مشتركة تحريماً وأداء. (3) بأن لم يكونا مشتركَيْن تحريماً وأداءً. (4) أي: المرأة والرجل. (5) أي: هي مقتدية به. (6) أي: محاذاتها. (7) قوله: فسدت صلاته، لقول ابن مسعود: أخِّروهنَّ من حيث أخَّرهنَّ الله، أخرجه الطبراني وعبد الرزاق. أفاد ذلك افتراض قيام الرجل أمام المرأة، فإذا قام جنبها أو خلفها وهما مشتركان في الصلاة فسدت صلاته لأنه ترك ما فُرِضَ عليه إذ هو المأمور بالتأخير، كذا قالوا، وفي المقام أبحاث وشرائط مذكورة في كتب الفقه. (8) وفيه خلاف الشافعي وغيره وهو الاستحسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 93 - (بَابُ (1) صَلاةِ الْخَوْفِ (2)) 289 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئل عَنْ صَلاةِ الْخَوْفِ، قَالَ: يَتَقَدَّمُ (3) الإِمامُ وطائفةٌ مِنَ الناس فيصلِّي بهم   (1) قوله : باب صلاة الخوف، أي صفتها من حيث إنه يَحتمل في الصلاة ما لا يَحتمل في غيره، ومنعها ابن الماجشون في الحضر تعلّقاً بمفهوم قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} وأجازها الباقون، وقال أبو يوسف في إحدى الروايتين عنه وصاحبه الحسن بن زياد اللؤلؤي وإبراهيم بن عُلَيّة والمزني: لا تُصلَّى بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم لمفهوم قوله تعالى: {وإذا كنتَ فيهم} . واحتُجّ عليهم بإجماع الصحابة على فعلها بعده وبقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلّي"، فمنطوقه مقدّم على ذلك المفهوم، وقال ابن العربي وغيره: شرط كونه فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، أي بيِّنْ لهم بفعلك لأنه أوضح من القول، ثم الأصل أنّ كل عذر طرأ على العبادة فهو على التساوي كالقصر، والكيفية وردت لبيان الحذر من العدوّ، وذلك لا يقتضي التخصيص بقوم دون قوم، كذا في "شرح الزرقاني" (1/369. وفي أوجز المسالك 4/5 - 12 ههنا ثمانية أبحاث لطيفة لا بدّ لطالب الحديث من النظر فيها) . (2) قوله: صلاة الخوف، قيل: إنها شُرعت في غزوة ذات الرِّقاع، وهي سنة خمس من الهجرة، وقيل في غزوة بني النضير، كذا في "تخريج أحاديث الهداية" للزَّيْلعي. (3) حيث لا يبلغهم سهام العدوّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 سَجْدَةً (1) وَتَكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُ (2) وَبَيْنَ الْعَدُوِّ وَلَمْ يُصَلُّوا (3) ، فَإِذَا صَلَّى الَّذِينَ مَعَهُ سَجْدَةً اسْتَأْخَرُوا (4) مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا وَلا يسلِّمون (5) ، وَيَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يصلُّوا فَيُصَلُّونَ مَعَهُ (6) سَجْدَةً، ثُمَّ ينصرفُ (7) الإِمامُ (8) وَقَدْ صَلَّى (9) سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يقوم كلُّ واحدة من الطائفتين فيصلون (10)   (1) أي ركعة. (2) أي الإِمام ومن معه. (3) لحرسهم العدو. (4) فيكونون في وجه العدو. (5) بل يستمّرون في الصلاة. (6) أي الإِمام. (7) من صلاته بالتسليم. (8) أي بعد التشهد والسلام. (9) هذا في الصبح مطلقاً، وكذا في الرباعية في السفر، وأما في المغرب فيصلي مع الأُولى ركعتين ومع الثانية ركعة. (10) قوله: فيصلون لأنفسهم ... إلى آخره، قال الحافظ: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، وظاهره أنهم أتمُّوا في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتمُّوا على التعاقب، وهو الراجح من حيث المعنى وإلاّ لزم ضياع الحراسة المطلوبة، وإفراد الإِمام وحده، ويرجّحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود: ثم سلَّم، فقام هؤلاء - أي الطائفة الثانية - فقضَوْا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، ثم ذهبوا. ورجع أولئك إلى مقامهم، فصلَّوْا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا. وظاهره أن الثانية والت بين رَكْعَتَيْها ثم أتمَّتْ الأولى بعدها. واختار هذه الصفةَ أَشهب والأَوزاعي وأخذ بما في حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 لأنفسهم (1) سجدةً (2) سَجْدَةً، بَعْدَ انْصِرَافِ الإِمام، فَيَكُونُ كلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صلَّوْا سَجْدَتَيْنِ. فَإِنْ كَانَ خَوْفًا هُوَ أَشَدَّ (3) مِنْ ذَلِكَ صلَّوْا رِجَالا قِيَاماً (4) عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا (5) مُسْتَقْبِلِي القِبلةِ (6) وغيرَ مُسْتَقْبِلِيهَا. قَالَ نَافِعٌ (7) : وَلا أُرى (8) عبدَ الله بنَ عمر (9)   ابن عمر الحنفية، ورجّحها ابنُ عبد البَرّ لقوة إسنادها ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يُتمّ صلاته قبل صلاة إمامه، كذا في "شرح الزرقاني" (1/371) . (1) أي وحدهم. (2) أي ركعة ركعة. (3) من كثرة العدو. (4) تفسير لقوله: رجالاً. (5) على دوابّهم. (6) أي عند القدرة على استقبالها، وبه قال الجمهور، لكن قال المالكية لا يصنعون ذلك حتى يخشَوا فوات الوقت. (7) قوله: قال نافع ولا أُرى ... إلى آخره، قال ابن عبد البرّ: هكذا روى مالك هذا الحديث عن نافع على الشك في رفعه، ورواه عن نافع جماعة ولم يشكُّوا في رفعه، منهم ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى، وكذا رواه الزهري عن سالم عن ابن عمر مرفوعاً، ورواه خالد بن معدان عن ابن عمر مرفوعاً. (8) أي لا أظن. (9) أي فهو موقوف في حكم مرفوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 إلاَّ حَدَّثَهُ (1) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (2) ، وَهُوَ قَوْلُ (3) أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ مَالِكُ بن أنس لا يأخذ (4) به.   (1) في نسخة: يحدثه. (2) لقوة إسناده. (3) قوله: وهو قول، اتفقوا على أن جميع الصفات المروية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الخوف معتدّ بها، وإنما الخلاف بينهم في الترجيح، كذا في "مرقاة المفاتيح". (4) قوله: لا يأخذ به، بل كان يأخذ بما أخرجه هو والترمذيُّ وابن ماجه وغيرهم عن سهل بن أبي حَثْمة: أن صلاة الخوف أن يقوم الإِمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو فيركع الإِمام ركعة، ويسجد، ثم يقوم فإذا استوى قائماً ثبت، وأتموا لأنفسهم ركعة باقية، ثم يسلّمون وينصرفون فيكونون وُجاه العدو والإِمام قائم، ثم يُقبل الذين لم يصلّوا فيكبِّرون وراء الإِمام فيركع بهم الركعة الباقية، ثم يسلّمون فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلِّمون، وبه قال الشافعيّ وأحمد وداود مع تجويزهم الصفة التي في حديث ابن عمر، ذكره الزرقاني. وكان مالك يقول أولاً بما رواه يزيد بن رومان عن صالح بن خوّات عمن صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلّم في غزوة ذات الرِّقاع صلاة الخوف، وهو نحو الحديث السابق إلاَّ أن فيه النبيّ صلى الله عليه وسلّم ثبت جالساً حتى أتمت الطائفة الثانية، ثم سلّم بهم، ثم رجع مالك إلى الحديث السابق، ذَكَره ابن عبد البر. وقد رُويت في كيفية صلاة الخوف أخبار مرفوعة وآثار موقوفة على صفات مختلفة حتى ذكر بعضهم أنه ورد ستة عشر نوعاً، وأخذ بكلٍّ جماعة من العلماء، وذكر ابن تيمية في "منهاج السنة" وغيره أن الاختلاف الوارد فيه ليس اختلاف تضاد، بل اختلاف سَعَة وتخيير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 94 - (بَابُ وَضْعِ الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ فِي الصَّلاةِ (1)) 290 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ (2) ، عَنْ سَهْلِ (3) بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ (4) ، قَالَ: كَانَ الناسُ (5) يُؤْمَرون (6) أَنْ يضعَ أحدُهم يَدَه اليُمنى عَلَى ذراعِه (7) اليُسرى فِي الصَّلاةِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: وَلا أعلم إلاَّ   (مما ينبغي أن يُعلم أن أحداً من أصحاب الكتب المتداولة بأيدينا لم يعتنِ بتفصيل صور صلاة الخوف المرويّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي داود، فإنه فصَّل في "سننه" إحدى عشرة صورة بحسب الظاهر وهي تبلغ أكثر منها بإبداء بعض الاحتمالات في بعض الروايات. وهي كلها مقبولة عند كافة العلماء بحسب جوازها، وإنما اختلفوا فيما بينهم فيما هي أولى منها وأفضل، إلاَّ صورتين فإن أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - يؤوِّلهما على تقدير ثبوتهما عنه صلّى الله عليه وسلّم أو يحملهما على اختصاصهما به صلّى الله عليه وسلّم ... إلخ. بذل المجهود 6/326) . (1) أي في كل قيام ذكر مسنون، وقال محمد: في حال القراءة فقط. (2) قوله: أبو حازم، هو سلمة بن دينار الأعرج الزاهد، كان ثقة كثير الحديث، وكان يقصّ في مسجد المدينة، مات بعد سنة 140، كذا في "الإِسعاف". (3) آخر من مات من الصحابة بالمدينة، مات سنة 88، وقيل: سنة 91، كذا في "الإِسعاف". (4) قوله: الساعديّ، بكسر العين نسبة إلى ساعدة بن كعب بن الخزرج قبيلة من الأنصار، ذكره السيوطي في "لبّ اللباب في تحرير الأنساب". (5) أي الصحابة. (6) أي من جهة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو من جهة الخلفاء، قوله: يُؤمرون، قال الحافظ: هذا حكمه الرفع لأنه محمول على أن الآمر لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. (7) قوله: على ذراعه، أبهم موضعه من الذراع. وفي حديث وائل عند أبي داود والنسائي: "ثم وضع صلّى الله عليه وسلّم يده اليمنى على ظهر كفِّه اليسرى والرُّسْغ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 أَنَّهُ (1) يَنْمِي ذَلِكَ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي إِذَا قَامَ فِي صَلاتِهِ أَنْ يَضَعَ (3) باطنَ   الساعد" وصححه ابن خزيمة وغيره، وأصله في مسلم، والرُّسْغ بضم الراء وسكون السين ثم غين معجمة: هو المفصل بين الساعد والكف. (1) أي سهلاً. (2) قوله: يَنْمي ذلك، بفتح أوله وسكون النون وكسر الميم أي يرفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وحكى في "المطالع" أن القعنبي رواه بضم أوله من أنمى وهو غلط، ورُدّ بأن الزجاج وابن دريد وغيرهما حَكَوْا: نميت الحديث وأنميته، ومن اصطلاح أهل الحديث: إذا قال الراوي: ينمي، فمراده يرفع ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يقيده. واعترض الداني في "أطراف الموطّأ" فقال: هذا معلول لأنه ظنّ من أبي حازم، ورُدّ بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلم إلى آخره لكان في حكم المرفوع لأن قول الصحابي: كنا نؤمر - هكذا - يُصرف إليه، كذا ذكره الزرقاني. (3) قوله: أن يضع، به قال الشافعيّ وأحمد والجمهور، ولم يأت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيه خلاف، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين وهو الذي ذكره مالك في "الموطأ" ولم يحكِ ابنُ المنذر وغيره عن مالك غيره. وروى ابن القاسم عن مالك الإِرسال وصار إليه أكثر أصحابه، كذا ذكره ابن عبد البر وذكر غيره أنه لم يُرو الإِرسال عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا من طريق صحيح ولا من طريق ضعيف، نعم ورد في بعض الروايات: أنه كان يكبّر ثم يرسل، وهو محمول على أنه كان يرسل إرسالاً خفيفاً ثم يضع كما هو مذهب بعض العلماء (جمع الإِمام الشافعي رضي الله عنه بين روايات الإِرسال والوضع فاختار الإِرسال الخفيف بعد التحريمة، ثم الوضع. انظر أوجز المسالك 3/173) . وعليه يُحمل ما أخرجه ابن أبي شيبة أن ابن الزبير كان إذا صلّى أرسل يديه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 كفِّه اليُمنى عَلَى رُسْغه (1) اليُسرى تَحْتَ السُرّة (2) ، ويَرمي (3) بِبَصَرِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة - رحمه الله -. 95 - (باب الصلاة على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) 291 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ (4) ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، أَخْبَرَنِي أبو حميد (5) الساعدي   (1) قوله: على رسغه اليسرى، قد اختلفت الأخبار في كيفية الوضع، ففي بعضها ورد الوضع، وفي بعضها ورد الأخذ، وفي بعضها الوضع على الكفّ اليسرى ورسغه وساعده. واختلف فيه مشايخنا، فقيل بالوضع على الكفّ اليسرى وقيل على ذراعه الأيسر، والأصح الوضع على المفصل ذكره العيني، وذكر أيضاً أن عند أبي يوسف يضع اليمنى على رسغ اليسرى وعند محمد يكون الرسغ وسط الكف، واستحسن كثير من مشايخنا الجمع، بأن يضع باطن كفه اليمنى على ظاهر كفه اليسرى ويحلق بالخنصر والإِبهام على الرسغ، وقيل هذا خارج من المذهب والأحاديث والحق أن الأمر فيه واسع محمول على اختلاف الأحوال. (2) قوله: تحت السرّة، لما أخرج أبو داود عن عليّ أنه قال: السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرّة، وأخرج أيضاً هذه الكيفية من فعل عليّ وأبي هريرة، وثبت عند ابن خزيمة وغيره من حديث وائل الوضع على الصدر، وبه قال الشافعيّ وغيره. (3) أي يطالع. (4) أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. (5) قوله: أبو حميد، اسمه المنذر بن سعد بن المنذر، أو ابن مالك، وقيل: اسمه عبد الرحمن وقيل: عمرو، شهد أحداً وما بعدها، وعاش إلى أول سنة 60، كذا ذكره الزرقاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 قَالَ: قَالُوا (1) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ (2) نصلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صلِّ عَلَى محمّدٍ وَعَلَى أزواجِه وذرِّيَّتهِ، كَمَا صلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (3) ، وبارِكْ (4) على محمّدٍ وعلى أزواجِه وذرِّيَّته،   (1) قوله: قالوا، قال ابن حجر: وقفت من تعيين باشر السؤال على جماعة: أُبَيّ بن كعب في الطبراني، وبشير بن سعد عند مالك ومسلم، وزيد بن خارجة عند النسائي، وطلحة بن عبيد الله عند الطبراني، وأبي هريرة عند الشافعي، وعبد الرحمن بن بشير عند إسماعيل القاضي في "كتاب فضل الصلاة"، وكعب بن عُجْرة عند ابن مردويه، فإن ثبت تعدُّدُ السائل فواضح، وإن ثبت أنه واحد فالتعبير بصيغة الجمع إشارة إلى أن السؤال لا يختصُّ به، بل يريد نفسه ومن وافقه على ذلك. (2) قوله: كيف نصلي عليك، أي كيف الذي يليق أن نصلي به عليك كما علمتنا السلام لأنّا لا نعلم اللفظ اللائق بك (وأما الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في القعدة الأخيرة من الصلاة، فاختلف الأئمة في حكمها، فقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأتباعه وأحمد في رواية: إنها سنة، والشافعي: فريضة، قاله في "الأم" كما في الفتح 11/154 وإليه ذهب أحمد في أحد القولين عنه كما حكاه ابن قدامة في المغني 1/ 584) . (3) ليحيى: على آل إبراهيم، قال عبد البر: آل إبراهيم يدخل فيه إبراهيم، وآل محمد يدخل فيه محمد. ومن هاهنا جاءت الآثار في هذا الباب مرة بإبراهيم، ومرة بآل إبراهيم. (4) قوله: وبارك، قال العلماء: معنى البركة ههنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل: بمعنى التطهير والتزكية، وقيل: تكثير الثواب. قال السخاوي: لم يصرح أحد بوجوب قوله: وبارك، على ما عثرنا عليه، غير أن ابن حزم ذكر ما يُفهم منه وجوبها في الجملة، فقال: على المرء أن يبارك عليه ولو مرّة في العمر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 كما باركتَ (1) على إبراهيم (2) . إنك (3)   وظاهر كلام "المغني" من الحنابلة وجوبها في الصلاة، قال المجد الشيرازي: والظاهر أن أحداً من الفقهاء لا يوافق على ذلك، كذا في "شرح الزرقاني" (قلت: لكن عدَّ في "نيل المآرب" من الأركان قول: "اللَّهم صلِّ على محمد، وعدّ من السنن: الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في التشهد الأخير وعلى آله والبركة عليه وعليهم والدعاء بعده، ولم يصرح في المغني بوجوب البركة. أوجز المسالك 3/223) . (1) قوله: كما باركت ... إلى آخره، قيل: ما وجه تشبيه الصلاة عليه بالصلاة على إبراهيم وآل إبراهيم، والقاعدة أن المشبَّه به أفضل، وأجيب عنه بأجوبة: أحدهما: ما قاله النووي، وحكاه بعض أصحابهم عن الشافعي أن معناه صلِّ على محمد، وتمّ الكلام. ثم استأنف وعلى آل محمد أي وصلِّ على آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فالمسؤول له مثل إبراهيم وآله هم آل محمد لا نفسه، الثاني: أن معناه اجعل لمحمد وآله صلاةً منك كما جعلتها على إبراهيم وآله، فالمسؤول المشاركة في أصل الصلاة لا قدرها. الثالث: أنه على ظاهره، والمراد اجعل لمحمد وآله صلاةً بمقدار الصلاة التي لإِبراهيم وآله، والمسؤول مقابلة الجملة بالجملة، ويدخل في آل إبراهيم خلائق لا يُحْصَوْن من الأنبياء وغيرهم، كذا في "التنوير". (2) ليحيى: على آل إبراهيم. (3) قوله: إنك حميد مجيد، قال الحليمي: سبب التشبيه أن الملائكة قالت في بيت إبراهيم: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، إنه حميد مجيد، وقد عُلم أن محمداً وآل محمد من أهل بيت إبراهيم فكأنه قال أجب دعاء الملائكة الذين قالوا ذلك في محمد وآل محمد كما أجبتها عندما قالوها في الموجودين، ولذا ختم بما ختم به هذه الآية، وهو قوله: إنك حميد مجيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 حَمِيدٌ (1) مَجِيدٌ (2) . 292 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نُعِيْم (3) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المُجْمر (4) مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أنَّ مُحَمَّدَ (5) بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الأنصاري أخبره وهو عَبْدُ اللَّهِ (6) بْنُ زَيْدٍ الَّذِي أُري (7) النداءَ فِي النَّوْمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ (8) أَخْبَرَهُ،   (1) فعيل من الحمد بمعنى المحمود. (2) بمعنى ماجد من المجد وهو الشرف. (3) بضم النون: ثقة من أواسط التابعين، كذا في "التقريب". (4) بضم الميم الأولى وكسر الثانية بينهما جيم ساكنة، صفة له ولأبيه. (5) هو محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه الأنصاري المدني، وثَّقه ابن حبان، كذا في "الإِسعاف". (6) هو صحابي مشهور، مات سنة 32، وقيل استُشهد بأُحُد، كذا في "تقريب التهذيب". (7) بصيغة المجهول، من الإِرادة، قوله: أُري النداء، وكانت رؤيته في السنة الأولى بعد بناء المسجد، قال الترمذي عن البخاري: لا نعرف له إلاَّ حديث الأذان، قلت: وقال ابن عديّ: لا نعرف له شيئاً يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلاَّ حديث الأذان، وهذا مقيِّد لكلام البخاري، وهو المعتمد، فقد وجدتُ له أحاديث جمعتها في جزء، واغترّ الأصبهاني بالأول، وجزم به جماعة فوهموا، هذا ما في "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر. (8) هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري، مات سنة 40 هـ أو بعدها، قاله الزرقاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 فَقَالَ: أَتَانَا (1) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ مَعَنَا فِي مَجْلِسِ ابْنِ عُبادة (2) ، فَقَالَ بَشِيرُ (3) بْنُ سَعْدٍ أَبُو النُّعْمَانِ: أَمَرَنَا (4) اللَّهُ أَنْ نصلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ نصلِّي عَلَيْكَ (5) ؟ قَالَ: فصَمَت (6) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تمنَّيْنا (7) أَنَّا لم نسألْه (8) . قال: قولوا (9) : اللهمّ (10) صلِّ   (1) قوله: أتانا ... إلى آخره، قال الباجي: فيه أنَّ الإِمام يخصّ رؤساء الناس بزيارتهم في مجالسهم تأنيساً لهم. (2) في نسخة: سعد بن عبادة، هو سعد بن عبادة بن دُليم بن حارثة الأنصاري، مات بأرض الشام سنة 15 هـ، وقيل غير ذلك، كذا في التقريب. (3) قوله: بشير بن سعد، هو بشير - بفتح الموحدة - ابن سَعْد - بسكون العين - ابن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل بدري والد النعمان بن بشير، استشهد بعين التمر، كذا ذكره الزرقاني. (4) بقوله: {صلُّوا عَلَيْه وسَلِّموا تَسْلِيْماً} (سورة الأحزاب: الآية 56) . (5) زاد الدارقطني: إذا نحن صلَّيْنا عليك في صلاتنا. (6) أي سكت زماناً طويلاً، قوله: فصمت، يحتمل أن يكون سكوتُه حياءً وتواضعاً، ويحتمل أن ينتظر ما يأمره الله به من الكلام الذي ذكره. (7) أي وددنا. (8) أي كرهنا سؤاله مخالفة أن يكون كرهه وشقّ عليه. (9) قوله: قولوا، الأمر للوجوب اتفاقاً، فقيل: في العمر مرة واحدة، وقيل في كل تشهّد يعقبه سلام، وقيل كلما ذُكر. (10) قوله: اللهم صلِّ على محمد، أي عظِّمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صلَّيت عَلَى إِبْرَاهِيمَ (1) وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ (2) مَجِيدٌ. وَالسَّلامُ (3) كَمَا قَدْ عُلِّمْتم (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ هَذَا حسن (5) .   دينه وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمّته، ولمّا كان البشر عاجزاً عن أن يبلغ قدر الواجب له من ذلك شُرع لنا أن نُحيل أمر ذلك على الله. (1) وفي بعض النسخ: على آل إبراهيم فقط، وفي بعضها: على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم. (2) قوله: إنك حميد مجيد، قال الطِّيبي: هذا تذييل الكلام السابق وتقرير له على سبيل العموم، أي إنك حميد، فاعل ما تستوجب به الحمد من النِّعَم المتكاثرة والآلاء المتعاقبة المتوالية، مجيد كريم كثيرالإِحسان إلى جميع عبادك الصالحين. ومن محامدك وإحسانك أن توجِّه صلواتك وبركاتك على حبيبك نبي الرحمة وآله. (3) أي في التشهد وهو: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. (4) بفتح العين وكسر اللام المخففة، ومنهم من رواه بضم العين وتشديد اللام. (5) قوله: حسن، يشير إلى أنه ليس للصلاة صيغة مخصوصة لا تتعدّاها إلى غيرها، بل كل ما رُوي في ذلك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهو حسن كافٍ لا متثال أمر الله واقتداء نبيه، وإن كان في بعضها خصوصية ليست في غيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 96 - (بَابُ الاسْتِسْقَاءِ (1)) 293 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبَّادَ (2) بْنَ تَمِيمٍ المازنيّ يقول: سمعت عبدَ الله (3)   (1) طلب الغيث والمطر (قال القاري: الاستسقاء في اللغة طلب السُّقيا، وفي الشرع طلب السقيا للعباد عند حاجتهم إليها بسبب قلة الأمطار أو عدم جري الأنهار " (مرقاة المصابيح 3/331 وذكر في "الأوجز" ههنا سبعة أبحاث لطيفة، فارجع إليه 4/61) . (2) قوله: عباد بن تميم، هو عباد بن تميم بن غزيّة المازني، روى عن أبيه، وله صحبة، وعن عمه عبد الله بن زيد المازني، وثقه النسائي وغيره، قاله السيوطي. (3) هو عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب الأنصاري المازني، صحابي شهير روى صفة الوضوء وغيره، واستشهد بالحرة سنة 63، كذا في " تقريب التهذيب". قوله: عبد الله بن زيد، في "ضياء الساري بشرح صحيح البخاري": قال أبو عبد الله - أي البخاريّ - كان ابن عيينة سفيان يقول: هو - أي راوي الحديث - عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب الأذان الذي أُري الأذان في النوم، ولكنه وهم لأنَّ هذا أي راوي حديث الاستسقاء عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، مازن الأنصار، احتراز عن مازن تيم ومازن قيس ومازن صعصعة ومازن شيبان وغيرهم. والتقدير: وذاك عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وقد اتفقا في الاسم واسم الأب والنسبة إلى الأنصار، ثم إلى الخزرج والصحبة، وافترقا في الجَدّ والبطن الذي من الخزرج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 ابن زَيْدٍ المازِنيّ (1) يَقُولُ: خَرَجَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المصلَّى (2) فَاسْتَسْقَى (3) وَحَوَّلَ (4)   (1) بكسر الزاء نسبة إلى مازن قبيلة. (2) أي مصلَّى العيد. (3) قوله: فاستسقى، لم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على سبب ذلك ولا على صفته ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك في حديث عائشة عند أبي داود وابن حبان، قال: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمَ قحط المطر، فأمر بمنبر وُضع له في المصلّى، ووعد الناسَ يوماً يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر. وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأصحاب السنن خرج متبذلاً متواضعاً متضرِّعاً حتى أتى المصلى، فرَقِيَ المنبر. وفي حديث أبي الدرداء عند البزار والطبراني: قحط المطر فسألنا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لنا فغدا ... الحديث. وأفاد ابن حبان أنَّ خروجه (ولا يذهب عليك أن دعاؤه صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة حتى مطروا إلى الجمعة الأخرى كان بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، كما ذكره الحافظ في (باب الاستسقاء في المسجد الجامع) من رواية البيهقي في "الدلائل" انظر لامع الدراري 4/190) صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست، كذا في "الفتح ". (4) قوله: وحوّل رداءه، وقع بيان المراد بذلك عن المسعودي ولفظه: وقلب رداءه وجعل اليمين على الشمال، زاد ابن ماجه: والشمال على اليمين. وله شاهد أخرجه أبو داود عن عباد بلفظ: فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر والأيسر على الأيمن. وله من طريق آخر: استسقى وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعلها على أعلاها فثقلت عليه، فقلبها على عاتقه. وأخرج الدارقطني والحاكم ورجاله ثقات من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن علي بلفظ: حوّل رداءه ليتحول القحط، كذا في "الفتح". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 رداءَه (1) حِينَ (2) اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَانَ (3) لا يَرَى (4) في الاستسقاء صلاة (5) ،   (1) ذكر الواقدي أن طول ردائه كان ستة أذرع في ثلاثة أذرع، كذا في "التنوير". (2) عرف بذلك أن التحويل إنما وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء. (3) قوله: فكان لا يرى ... إلى آخره، ذكر النووي أنه لم يقل سوى أبي حنيفة هذا القول، وتعقبه العيني بأنه أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن إبراهيم النخعي أنه خرج مع المغيرة ليستسقي فصلى المغيرة فرجع إبراهيم حيث رآه يصلي. وروي عن عطاء الأسلمي عن أبيه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب ليستسقي فما زاد على الاستغفار. انتهى (انظر عمدة القاري 3/429) . (4) أي على سبيل الاستنان لا أنه بدعة عنده، كما نسبه بعض المتعصِّبين إليه، فإنَّ عدم السنّية لا يستلزم البدعة، كذا حقَّقه العيني في "البناية". (5) أي مشروعة بجماعة وإن صلَّوْا فُرادى جاز، وبه قال أبو يوسف في رواية. قوله: صلاة، وإنما الاستسقاء عنده مجرّد دعاء واستغفار من دون صلاة وخطبة لقوله تعالى: {استغفروا ربَّكم إنه كان غفّاراً. يُرسل السماءَ عليكم مِدْراراً} (سورة نوح: الآية 10 - 11) على نزول الغيث بمجرّد الاستغفار. وقد روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أيضاً الدعاء المجرّد قولاً وفعلاً، ففي حديث أنس عند البخاري ومسلم وغيرهما: دخل المسجدَ رجلٌ يوم الجمعة ورسول الله قائم يخطب، فاستقبله، وقال: يا رسول الله هلكت المواشي والأموال، فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله يديه، ثم قال: اللهم أغثنا ... الحديث، وفي حديث آبي اللحم: أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستسقي عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وأما (1) في قولنا فإن الإمام   أحجار الزيت، أخرجه أبو داود والترمذي. وروى أبو عوانة في "صحيحه" عن عامر بن خارجة: أنَّ قوماً شَكَوْا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قحط المطر، فقال: اجْثُوا على الرُّكَب، ثم قولوا: يا رب، يا رب. (1) قوله: وأما في قولنا، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك والجمهور (الصلاة جائزة عند الإِمام أبي حنيفة، وسنة عند صاحبيه، وسنة مؤكدة عند الأئمة الثلاثة. أوجز المسالك 4/63) ، لما رُوي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج ليستسقي، فصلى بالناس ركعتين. ثبت ذلك من حديث ابن عباس أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان والحاكم، وصححه الترمذي، ومن حديث عباد عن عمّه عبد الله بن زيد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم، ومن حديث عائشة أخرجه أبو داود وأبو عوانة وابن حبان والحاكم، ومن حديث أبي هريرة أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو عوانة والبيهقي والطحاوي. وبه ظهر ضعف قول صاحب الهداية، في تعليل مذهب أبي حنيفة: أن رسول الله استسقى ولم يُرْوَ عنه الصلاة. فإنْ أراد أنه لم يُرْوَ بالكلية، فهذه الأخبار تكذّبه، وإنْ أراد أنَّه لم يُرْوَ في بعض الروايات فغير قادح. وأما ما ذكروا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة، فليس بشيء، فإنه لا يُنكر ثبوت كليهما مرة هذا ومرة هذا، لكن يُعلم مِنْ تتبُّع الطرق، أنه لما خرج بالناس إلى الصحراء صلَّى، فتكون الصلاة مسنونة في هذه الحالة بلا ريب، ودعاؤه المجرّد كان في غير هذه الصورة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 يُصَلِّي (1) بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ (2) ثُمَّ يَدْعُو (3) ويحوِّل (4) رِدَاءَهُ، فَيَجْعَلُ الأَيْمَنَ عَلَى الأَيْسَرِ، وَالأَيْسَرَ عَلَى الأَيْمَنِ ولا يفعل ذلك أحد إلا الإِمام (5) .   (قال محمد، والأصح أن أبا يوسف معه: يصلي الإِمام ركعتين يجهر فيهما بالقراءة على الأشهر، وفي رواية لمحمد: يكبر للزوائد كالعيد. والمشهور عنه خلافه. ثم يخطب بعد ذلك عندهما قائماً على الأرض لا المنبر، ولا خطبة عند أبي حنيفة، والخطبة عند أبي يوسف واحدة، وعند محمدٍ ثنتان يبدأ هذه الخطبة بالتحميد، وبعد الخطبة يتوجه إلى القبلة ويشتغل بالدعاء رافعاً يديه ويقلب الرداء عند محمد لا عند الإِمام، واختلفت الرواية عن أبي يوسف وأما عند المالكية فيصلي الإمام زكعتين جهرا بالقراءة بلا تكبير ويخطب بعدها على الأرض لا المنبر خطبتين ويستقبل القبلة بعدهما ويبالغ في الدعاء مستقبلا للقبلة قال الزرقاني: وكان الإمام مالك يقول أولا بتقديم الخطبة على الصلاة ثم رجع عنه إلى مافي الموطأ واختلف عنه أيضا في وقت تحويل الرداء ففي (المدونة) إذا فرغ من الخطبة وعنه يحول إذا أشرف على الفراغ وعنه بين الخطبتين ويحول الذكور أرديتهم دون النساء وأما عند الشافعية يصلي بهم الإمام ركعتين كالعيد وإذا مضى الثلث من الخطبة الثانية يتوجه إلى القبلة ويحول رداءه عند استقبال القبلة ويدعو ثم يكمل الخطبة ويحول الذكور أرديتهم وأما عند الحنابلة فهي كالعيد وقتا وصفة ويخطب خطبة واحدة على الأصح على المنبر انظر لامع الدراري 4/191-192) . (1) من دون أذان وإقامة، صرح به في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه. (2) يجهر فيهما بالقراءة، كما ورد عند البخاري من حديث عبد الله بن زيد. (3) قوله: ثم يدعو، أي ثم يخطب بعد الصلاة ويدعو مستقبل القبلة، هكذا ورد في مسند أحمد عن عبد الله بن يزيد، وهو المرجَّح عند الشافعية والمالكية، وفي رواية عائشة وابن عباس ورد تقديم الخطبة على الصلاة واختاره ابن المنذر. (4) قوله: ويحوّل، به قال أبو يوسف والشافعي والجمهور لثبوت ذلك عن صاحب الشرع صلّى الله عليه وسلَّم، وعند أبي حنيفة لا تحويل لعدم ثبوت ذلك في أحاديث الدعاء المجرد. (5) قوله: إلاَّ الإِمام، لأنه لم يأمر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم القوم، وفيه خلاف الشافعي ومالك وأحمد أخذاً مما ورد في مسند أحمد: أن القوم أيضاً حوّلوا أرديتهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والظاهر أنه اطّلع عليه، ولم ينكر عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 97 - (بَابُ الرَّجُلِ يُصَلِّي ثُمَّ يَجْلِسُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ) 294 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نُعيم بن عبد الله المُجْمر أنه سمع أبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، ثُمَّ جَلَسَ (1) فِي مُصَلاهُ لَمْ تَزَلِ (2) الْمَلائِكَةُ (3) تصلِّي (4) عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ صلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهمّ ارْحَمْهُ (5) ، فَإِنْ قَامَ مِنْ مُصَلاهُ، فَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ لَمْ يَزَلْ (6) فِي صَلاةٍ حتي يصلِّي.   (1) زاد البخاري ينتظر الصلاة. (2) قوله: لم تزل الملائكة، قال ابن بطال: من كان كثير الذنوب وأراد أن يحطَّها عنه بغير تعب فليهتمّ بملازمة مكان مصلاّه بعد الصلاة ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم فهو مرجوّ إجابته لقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (سورة الأنبياء: الآية 28) . وقال المهلب في حديث "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاّه الذي صلَّى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث": معناه أن الحدث في المسجد خطيئة، يُحرم بها المحدث استغفارَ الملائكة ودعاءَهم المرجوَّ بركته، كذا في "الحبائك في أخبار الملائك" للسيوطي. (3) الحَفَظة، أو السيّارة، أو أعمّ من ذلك؟ كلٌّ محتمل. (4) أي تدعو له قائلين: اللهم ... إلى آخره. (5) أي بقبول حسناته، زاد ابن ماجه: اللهم تُبْ عليه. (6) أي حكماً باعتبار الثواب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 98 - (بَابُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ (1) بَعْدَ الْفَرِيضَةِ) 295 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلِّي (2) قبلَ الظهرِ (3) ركعتين (4) ، وبعدها ركعتين (5) ،   (قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث بيان فضيلة من انتظر الصلاة مطلقاً سواء ثبت في مجلسه ذلك في المسجد أو تحوَّل إلى غيره. انظر فتح الباري 2/136. وفي أوجز المسالك 3/187: فالظاهر أن صلاة الملائكة تختصّ بالجلوس في مصلاّه الذي صلى فيه، وإذا جلس في مجلس آخر يكون في حكم الصلاة باعتبار الأجر، ولكن لا يتشرف بصلاة الملائكة. وهذا يخالف ما تقدم عن الحافظ، وتبعه جماعة من شُرّاح الحديث: أن لفظ "في مصلاه" الذي صلى فيه، خرج مخرج العادة وليس بقيد، فتأمل) . (1) أراد به السنن المؤكدة: وهي عشر ركعات عند الحنابلة وهو المرجح عند الشافعية، وعند الحنفية اثنتا عشرة ركعة، قال في "الدر المختار" وسن مؤكداً أربع قبل الظهر بتسليمة وركعتان قبل الصبح، وبعد الظهر والمغرب والعشاء، وعند المالكية لا توقيت للرواتب ولا تحديد لها، انظر عمدة القاري 3/66 وفتح الباري 3/48، وأما الصلاة قبل الصبح يعني ركعتيه رغيبة أي رتبتها دون السنة وفوق النافلة. أوجز المسالك 3/241. (2) في نسخة: كان يصلي. (3) قوله: قبل الظهر ركعتين، وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، رواه البخاري وغيره. قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ابن عمر نسي من الركعتين. قال الحافظ: وهذا الاحتمال بعيد، والأَوْلى أن يُحمل على حالين. (4) قال ابن جرير: الأربع قبل الظهر كانت في كثير من أحواله، والركعتان قليلها. (5) وللترمذي مرفوعاً: من حافظ على أربع قبل العصر حرّمه الله على النار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وَبَعْدَ صلاةِ المغربِ رَكْعَتَيْنِ فِي بيتِه (1) ، وَبَعْدَ صلاةِ العشاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لا يصلِّي (2) بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى ينْصَرِف (3) فَيَسْجُدَ (4) سَجْدَتَيْن (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا تطوُّع وَهُوَ (6) حَسَنٌ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يصلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، فَسَأَلَهُ أَبُو أيوبَ (7) الأَنْصَارِيُّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنَّ أبوابَ السَّمَاءِ تُفتح (8) فِي هَذِهِ الساعة،   (1) يحتمل أن يكون ظرفاً للكل ولما يليه (إن أفضلية أداء النوافل في البيت مطلقاً مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور، وقال مالك والثوري: الأفضل فعل نوافل النهار الراتبة في المسجد وراتبة الليل في البيت، كذا في أوجز المسالك 3/245) . (2) قوله: وكان لا يصلِّي .... إلى آخره، أخرج ابن ماجه عن ابن عباس: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يركع قبل الجمعة أربعاً، لا يفصل في شيء منهن، وزاد الطبراني: وأربعاً بعدها، وسنده واهٍ جداً. وروى الطبراني عن ابن مسعود: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلِّي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً، كذا في "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي. (3) من المسجد إلى بيته. (4) أي يصلي ركعتين. (5) ورد في "مصنف عبد الرزاق" عن ابن مسعود: أنه كان يصلِّي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً. (6) أي عمله مسنون مستحب. (7) خالد بن زيد. (8) لقبول الطاعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فأحبُّ أَنْ يصعدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ (1) ، فَقَالَ: يا رسول الله، أ (2) يُفْصَلُ (3) بَيْنَهُنَّ بِسَلامٍ؟ فَقَالَ: لا. أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ بُكير بْنُ عَامِرٍ البَجَلي (4) عَنْ إِبْرَاهِيمَ والشَّعبي عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. 99 - (بَابُ الرَّجُلِ يَمَسّ الْقُرْآنَ (5) وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ (6) عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ (7)) 296 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عبدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بن حَزْم قال (8) :   (1) أي صالح، وفي رواية: خير. (2) بهمزة الاستفهام. (3) بصيغة المجهول. (4) بفتح الأول والثاني، نسبة إلى بجيلة بن أنمار، قبيلة نزلت بالكوفة، قاله السَّمْعاني. (5) المراد به المصحف كما في نسخة. (6) أو للتنويع للإِيماء إلى أن حكم الجنب والمحدث في هذه المسألة سواء، وفي معنى الجنب الحائض والنُّفَساء. (7) في نسخة: وضوء. (8) قوله: قال، إنَّ في الكتاب الذي .... إلى آخره، قال ابن عبد البَرّ: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وقد رُوي مسنداً من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السِّيَر معروف عند أهل العلم معرفةً يستغني بها في شهرتها عن الإِسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقِّي الناس له بالقبول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 إنَّ فِي الْكِتَابِ (1) الَّذِي كَتَبَهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (2) : لا يَمَسّ الْقُرْآنَ إِلا طَاهِرٌ (3) . 297 - (4) أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لا يَسْجُدُ (5) الرَّجُلُ وَلا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ إلا وهو طاهر.   (1) قال الباجي: هذا أصل في كتابة العلم وتحصينه في الكتب. (2) بن زيد بن لوذان، قوله: لعمرو بن حزم، الأنصاري شهد الخندق فما بعدها، وكان عاملَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على نَجْران، مات بعد الخمسين، كذا قال الزرقاني. (3) أي من النجاسة الكبرى والصغرى، وهو مستفاد من قوله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُون} (سورة الواقعة: الآية 79) . (4) في نسخة: قال أخبرنا. (5) قوله: لا يسجد الرجل ... إلى آخره، قد أخرجه البيهقي أيضاً من طريق الليث عن نافع عن ابن عمر أنه قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر. ويخالفه ما أخرجه ابن أبي شيْبَة بسنده إلى سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر ينزل عن راحلته، فيهريق الماء، فيقرأ السجدة، فيسجد وما يتوضأ. وعلَّقه البخاري في "باب سجود المشركين مع المسلمين": وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء. وجمع الحافظ ابن حجر بأن المراد بالطهارة في قوله الطهارةُ الكبرى، أو هو محمول على حالة الاختيار، والثاني على الاضطرار. وذكر الحافظ أيضاً أنه لم يوافق ابن عمر على جواز سجود التلاوة بغير وضوء إلا الشَّعبي، أخرجه ابن أبي شَيْبَة بسند صحيح، وكذا أخرجه عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلا فِي خَصْلَةٍ (1) وَاحِدَةٍ، لا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ (2) الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ طُهر إلا أن يكون جنباً (3) .   (أنه كان يقرأ السجدة، ثم يسلّم وهو على غير وضوء إلى غير القبلة وهو يمشي يومئ إيماءً. فتح الباري 2/554. وقال شيخنا: وظاهر ترجمة البخاري أنه ذهب أيضاً إلى جواز السجود بلا وضوء. لامع الدراري 4/50) . (1) قوله: إلاَّ في خصلة واحدة، كأنه حمل قول ابن عمر: إلاَّ وهو طاهر، على الطهارة المطلقة من الصغرى والكبرى، فاستثنى من قوله (وبهذا كله نأخذ) قراءَة القرآن على غير وضوء لثبوت جواز ذلك بالمرفوع والموقوف، فأخرج أصحاب السنن الأربعة وابن حبان، وصححه الحاكم والترمذي عن عليّ: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا يَحْجُبُه أو لا يَحْجُزُه عن القرآن شيْء ليس الجنابة. وأخرج مالك أن عمر كان في قوم يقرؤون القرآن، فذهب عمر لحاجته ثم رجع وهو يقرأ القرآن، فقال له رجل: تقرأ القرآن ولست على وضوء؟ فقال عمر: من أفتاك هذا؟ أمسيلِمة الكذاب؟ وورد عن عليّ أيضاً قراءة القرآن على غير وضوء (وأما قراءة المحدث القرآن قال ابن رشد: ذهب الجمهور إلى الجواز، أما مسّ المصحف فقال الجمهور - منهم الأئمة الأربعة - لا يَمَسّهُ إلا طاهر من الحَدَثين لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُون} ، خلافاً لداود وابن حزم وغيرهما من السلف. انظر الكوكب الدُّرِّي 1/186) ، أخرجه الدارقطني وغيره. (2) أي من غير مَسِّه. (3) أو من يحذو حذوه في النجاسة الكبرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 100 - (بَابُ الرَّجُلِ يَجُرُّ (1) ثَوْبَهُ وَالْمَرْأَةُ تَجُرُّ ذَيْلها (2) فَيَعْلَقُ (3) بِهِ قَذَرٌ (4) وَمَا كُره (5) مِنْ ذَلِكَ) 298 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ (6) بْنُ عُمَارَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أُمِّ وَلَدٍ (7) لإِبراهيم بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أنها (8) سألت أمَّ سلمةَ   (وفي "الكوكب" أيضاً: اتفق الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء على أن الجنب والحائض لا يقرءان القرآن، وقال بعض المبتدعة: يقرأ. وحديث عليّ دليل على ما قلنا، وأما الحائض ففي قراءتها عن مالك روايتان: إحداهما المنع حملاً على الجنب، ووجه الأخرى أن الحيض ضرورة يأتي بغير الاختيار ويطول أمرها فلو مُنعت من ذلك لنسيت ما تعلمت بخلاف الجنب، فإنه تأتي الجنابة باختياره ويمكن إزالتها في الحال وهو أصح. قلت: وعامة شرّاح البخاري على أن ميل البخاري إلى الجواز. فتأمّل. (1) من الجرّ. (2) بالفتح (دامن) (بالأردية) . (3) من باب عَلِم، يقال: عَلِق الشوك بالثوب تشبث به وتعلق بسببه. (4) بفتح القاف والذال المعجمة: ما يُتَقَذّر به من النجاسات. (5) وفي نسخة: وما يكره. (6) وثَّقه ابن معين، وليّنه أبو حاتم، كذا قال السيوطي. (7) قوله: عن أم ولد، نقل صاحب "الأزهار" عن "الغوامض" أن اسمها حميدة (قال الزرقاني: تابعيّة صغيرة مقبولة، شرح الموطأ 1/56، وذكر الحافظ في التقريب 2/595: حميدة عن أم سلمة، يقال هي أمُّ ولد إبراهيم، مقبولة، من الرابعة) ، ذكره السيد، وقال ابن حجر: مرّة أنها مجهولة، ومع ذلك الحديث حسن، وهو غير صحيح إلا أن يُقال إنه حسن لغيره، كذا في "مرقاة المفاتيح". (8) قوله: أنها سألت، قد أخرج هذا الحديث أبو داود، وسكت عليه، والدارمي والترمذي وأحمد أيضاً، ذكره القاري، وقد ذكرته في رسالتي "غاية المقال في ما يتعلق بالنعال" مع ما له وما عليه، وقد طُبعت تلك الرسالة في سنة (1287 هـ) ، ووقع في النُّسَخ المطبوعة: روى أبو داود بإسناده عن أمِّ سلمة أنها سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إني امرأةٌ أُطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 زوجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ:   رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يطهره ما بعده إلى آخره، وهذا غلط وقع من مهتمِّي الطبع، والذي في مسودَّتي بخطي: روى أبو داود بإسناده إلى أم سلمة أن امرأة سألتها فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .... إلى آخره، فليُتنبه لذلك وليبلِّغ الشاهد الغائب. (1) من الإِطالة. (2) قوله: في المكان القذر، قال النوويّ: أراد بالقذر نجاسة يابسة. (3) أي النجس، وهو بكسر الذال أي في مكان ذي قذر. (4) قوله: فقالت .... إلى آخره، أفتت أم سلمة في هذه المسألة بمثل ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ما روي أن امرأة من بني عبد الأشهل قال: قلت: يا رسول الله، إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا مُطرنا؟ قالت: فقال: أليس بعدها طريق أطيب منها؟ قالت: بلى، قال: فهذه بهذه، أخرجه أبو داود وسكت عليه. وقد اختلفت أقوال العلماء في هذين الحديثين، فقال الطيِّبي في "حواشي المشكوة": الحديثان متقاربان، ونقل الخطَّابي (معالم السنن 1/118) عن أحمد ليس معناه أنه إذا أصابه بول، ثم مرّ بعده على الأرض أنها تطهره، ولكنه يمرّ بالمكان القذر، فيقذره، ثم يمرّ بمكان أطيب فيكون هذا بذلك، وقال مالك في ما روي أن الأرض يطهر بعضها بعضاً: إنما هو أن يطأ الأرض القذرة ثم يطأ الأرض اليابسة النظيفة، فإن بعضها يطهر بعضاً، وأما النجاسة مثل البول وغيره يصيب الثوب أو بعض الجسد، فإن ذلك لا يطهره إلا الغسل إجماعاً. انتهى ملخصاً (يستفاد من تفسير مالك وأحمد أن النجاسة الرطبة ذات جرم كالقذر دون الرقيق كالبول لا كما يزعمه النووي عامَّاً في كل رطبة، انظر "المجموع" 1/96) وقال القاري في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 إِنِّي امرأةٌ أُطيل (1) ذَيْلي، وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ (2) القَذِر (3) ، فَقَالَتْ (4) أُمُّ سَلَمَةَ: قَالَ (5) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُطَهِّرُهُ (6) مَا بَعْدَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يعلق بالذيل قذر، فيكون أكثر   "المرقاة" قلت: الحديثان متباعدان لا كما قيل إنهما متقاربان، فإنَّ الأول مطلق قابل لأن يتقيد باليابس، وأما الثاني فصريح في الرطب، وما قاله أحمد ومالك التأويل لا يشفي الغليل، ولو حمل على أنه من باب طين الشارع وأنه طاهر أو معفوّ عنه لعموم البلوى لكان له وجه وجيه لكن لا يلائمه قوله: أليس بعدها إلى آخره، فالمخلص ما قاله الخطابي من أن في إسناد الحديثين معاً مقالاً لأن أم ولد إبراهيم وامرأة من بني عبد الأشهل مجهولتان لا يُعرف حالهما في الثقة والعدالة فلا يصح الاستدلال بهما، انتهى، وقال أيضاً: من الغريب قول ابن حجر: وزَعْمُ أن جهالة تلك المرأة تقتضي رد حديثها ليس في محله لأنها صحابية وجهالة الصحابة لا تضر لأن الصحابة كلهم عدول فإنه عدول عن الجادَّة لأنها لو ثبت أنها صحابية لما قيل إنها مجهولة (مرقاة المصابيح 2/77) ، انتهى. أقول: هذا عجيب جداً فإن الحديث الثاني عنوانه ينادي على أن تلك المرأة السائلة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صحابية حيث شافهته وسألته بلا واسطة، لكن لما لم يطَّلعوا على اسمها ونسبها قالوا إنها مجهولة، فهذا لا يقدح في كونها صحابية، ولا يلزم من كونها صحابية أن يُعلم اسمها ورسمها، وهذا أمر ظاهر لمن له خبرة بالفن، وقد صرح به القاري نفسه في مواضع بأن جهالة الصحابي لا تضر، فكيف يعتقد ههنا المنافاة بين الجهل وبين الصحابية، فظهر أن ما ذكره من المخلص ليس بمخلص، بل المخلص أن يُحمل حديث أم سلمة على القذر اليابس كما حمله عليه جماعة، والثاني على تنجُّس النعل والخف ونحو ذلك مما يطهر بالدلك في موضع طاهر إذ ليس فيه تصريح بالذيل. (5) أي في جواب مثل هذا السؤال. (6) أي الذيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ (1) الْمِثْقَالِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلا يصلِّيَنَّ فِيهِ حَتَّى يَغْسِلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ (2) أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 101 - (بَابُ فَضْلِ الجِهاد (3)) 299 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّناد (4) ، عَنِ الأَعْرَجِ (5) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ (6) فِي سَبِيلِ اللَّهِ (7) كَمَثَلِ (8)   (1) أي الذي قدَّره المثقال، وهذا في الكثيف، وأما في الرقيق فيقدر بقدر عرض الكف. (2) وبه قال الطبري، وأما عند الشافعي وغيره فقليل النجس وكثيره سواء في افتراض الغسل. (3) أي المجاهدة في سبيل الله، وهي المحاربة مع الكفار. (4) عبد الله بن ذَكْوان. (5) عبد الرحمن بن هرمز. (6) زاد البخاري عن ابن المسيب عن أبي هريرة: والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، أي بحال نيته. (7) قوله: في سبيل الله، قال الباجي: جميع أعمال البِرّ في سبيل الله إلا أن هذه اللفظة إذا أطلقت في الشرع اقتضت الغزو، والمعنى أن له من الثواب على جهاده مثلَ ثواب المستديم للصيام والصلاة لا يفتر منهما، وإنما أحال على ثواب الصائم والقائم وإن كنّا لا نعرف مقدار ثوابه لما عُرف في الشرع من كثرته وقُرِّر من عظمته. (8) قوله: كمَثَل .... إلى آخره، قال عياض: هذا تفخيم عظيم للجهاد، وفيه أن الفضائل لا تُدرك بالقياس وإنما هي إحسانٌ من الله لمن شاءه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 الصَّائِمِ (1) الْقَانِتِ (2) الَّذِي (3) لا يَفْتُرُ (4) مِنْ صيامٍ وَلا صلاةٍ حَتَّى يَرْجِع (5) . 300 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت (6) أَنْ (7) أقاتلَ في سبيل الله، فأُقتل (8) ،   (1) ومن كان كذلك فأجره مستمرّ، فكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته. (2) أي المصلي، ولِيَحيى: كمثل الصائم القائم الدائم الذي ... ، ولمسلم: كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، وزاد النسائي: الخاشع الراكع الساجد. (3) قوله: الذي لا يفتر، قال البوني: يحتمل أنه ضرب ذلك مثلاً، وإن كان أحدا لا يستطيع كونه قائماً مصلياً لا يفتر ليلاً ولا نهاراً، ويحتمل أنه أراد التكثير (قال ابن دقيق العيد: القياس يقتضي أن الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل، لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضله بحسب فضل ذلك، قلت: أو باعتبار اختلاف الأحوال والأوقات. أوجز المسالك 8/201) . (4) بسكون الفاء وضم التاء أي لا يمل ولا يكسل. (5) أي عن غزوة إلى وطنه. (6) بكسر الدال الأولى: أي تمنيت، وأحببت. (7) في نسخة: إلى. (8) قوله: فأقتل ثم أحيى ... إلى آخره، في رواية: ثم أقتل في المواضع الثلاثة بدل الفاء. قال الطِّيبي: ثم وإن دلّت على تراخي الزمان، لكن الحمل على تراخي الرتبة هو الوجه. استُشكل هذا التمنِّي منه صلّى الله عليه وسلّم مع علمه بأنه لا يُقتل، وأجاب ابن التين باحتمال أنه قبل نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاس} ، ورُدّ بأن نزولها كان في أوائل ما قدم المدينة، وهذا الحديث صرح أبو هريرة في الصحيحين من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 ثُمَّ أُحيى (1) ، فأُقتل ثُمَّ أُحيى، فأُقتل. فَكَانَ (2) أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ ثَلاثًا: أَشْهَدُ (3) للَّه. 102 - (بَابُ ما يكون من الموتِ شهادة (4))   رواية ابن المسيب عنه بسماعه منه صلّى الله عليه وسلّم، وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع، والذي يظهر في الجواب أن تمِّني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: وددت لو أن موسى صبر. وله نظائر، كذا قال الزرقاني. (1) مبني للمفعول فيها. (2) المعنى كان أبو هريرة يقول: أشهد لله ثلاث مرات. (3) أي والله لقد قال ذلك. (4) قوله: ما يكون من الموتِ شهادة، قد ورد في الأخبار عدد كثير لمن يجد ثواب الشهادة، فمن ذلك (1) المقاتل (في الأصل القاتل، وهو خطأ) المجاهد وهو أعلى الشهداء، (2) والمطعون، (3) والمبطون، (4) والغريق، (5) وصاحب ذات الجنب، (6) والحريق، (7) والتي تموت بجُمع، (8) والذي يموت بهدم، (9) ومن يقصد الشهادة ويعزم عليه ولا يتفق له ذلك كما هو ثابت في حديثي الباب، (10) وصاحب السّلّ، أخرجه أحمد من حديث راشد بن خنيس والطبراني من حديث سلمان، (11) والغريب أي المسافر بأي مرض مات، أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس والبيهقي في "الشُّعَب"، من حديث أبي هريرة والدارقطني من حديث ابن عمر والصابوني في "المائتين" من حديث جابر والطبراني من حديث عنترة، (12) وصاحب الحُمّى، أخرجه الديلمي من حديث أنس، (13) واللَّديغ، (14) والشريق، (15) والذي يفترسه السَّبع، (16) والخارّ عن دابّته، رواها الطبراني من حديث ابن عباس، (17) والمتردِّي، أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود، (18) والميت على فراشه في سبيل الله، رواه مسلم من حديث أبي هريرة، (19) والمقتول دون ماله، (20) والمقتول دون دينه، (21) والمقتول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   دون دمه، (22) والمقتول دون أهله، أخرجه أصحاب السنن من حديث سعيد بن زيد، (23) أو دون مظلمته، أخرجه أحمد من حديث ابن عباس، (24) والميت في السجن وقد حُبس ظلماً، رواه ابن مندة من حديث عليّ، (25) والميت عشقاً وقد عفَّ وكتم، أخرجه الديلمي من حديث ابن عباس، (26) والميت وهو طالب العلم، أخرجه البزّار من حديث أبي ذرّ وأبي هريرة، (27) والمرأة في حملها إلى وضعها إلى فصالها، ماتت بين ذلك، أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر، (28) والصابر القائم ببلد وقع به الطاعون، أخرجه أحمد من حديث جابر، (29) والمرابط في سبيل الله، (30) ومن قُتل بأمره الإِمَام الجائر بالمعروف ونهيه عن المنكر، (31) ومن صبر من النساء على الغَيْرة، أخرجه البزّار والطبراني من حديث ابن مسعود، (32) ومن قال كلَّ يوم خمساً وعشرين مرة: اللهم بارك لي في الموت وفي ما بعد الموت، أخرجه الطبراني من حديث عائشة، (33) ومن صلّى الضحى وصام ثلاث أيام من الشهر ولم يترك الوتر في السفر ولا الحضر، أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر، (34) والمتمسِّك بالسُّنَّة عند فساد الأمة، أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة، (35) والتاجر الأمين الصدوق، أخرجه الحاكم من حديث ابن عمر، (36) ومن دعا في مرضه أربعين مرة: لا إله إلاَّ أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين ثم مات، أخرجه الحاكم من حديث سعد، (37) وجالب طعام إلى بلد، أخرجه الديلمي من حديث ابن مسعود، (38) المؤذن المحتسب، أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر، (39) ومن سعى على امرأته أو ما ملكت يمينه يُقيم فيهم أمرَ الله ويطعمهم من الحلال، (40) ومن اغتسل بالثلج فأصابه بَرد، (41) ومن صلّى على النبي صلّى الله عليه وسلّم مائة مرة، أخرج الأول ابنُ أبي شيبة في "المُصَنَّف" عن الحسن، والثاني الطبراني في "الأوسط" من حديث أنس، (42) ومن قال حين يصبح ويمسي: "اللهمّ إني أُشهدك أنّك أنتَ اللهُ الذي لا إله إلاّ أنتَ وحدك لا شريكَ لك وأن محمداً عبدك ورسولك، أبوء بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب غيرك" أخرجه الأصبهاني من حديث حذيفة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 301 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (1) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ، عَنْ عَتِيكِ (2) بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَتِيكٍ - وَهُوَ جَدّ (3) عَبْدِ الله بن عبد الله بن جابر (4) - أي أَخْبَرَهُ أَنَّ جَابِرَ (5) بْنَ عَتِيكٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ يَعُود عَبد الله (6) بنَ ثابت (7)   (43) ومن قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ويقرأ ثلاث آيات من سورة الحشر، أخرجه الترمذي من حديث معقل، (44) ومن مات يوم الجمعة، أخرجه حُمَيد بن منجويه من حديث رجل من الصحابة، (45) ومن طلب الشهادة صادقاً، أخرجه مسلم. فهذه خمسة وأربعون (45) ورد فيهم أن لهم أجر الشهداء (وبلغ إلى قريب من ستين. انظر أوجز المسالك 4/269) ، وقد ساق الأخبار الواردة فيها السيوطيُّ في رسالته "أبواب السعادة في أسباب الشهادة" مع زيادة. (1) تابعيّ مدنيّ أنصاريّ، وثّقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي، كذا في "الإِسعاف". (2) مقبول قاله في "التقريب". (3) أبو أمِّه. (4) الأنصاري، المدني. (5) صحابيّ جليل، مات سنة (61) ، كذا ذكره الزرقاني. (6) قوله: عبد الله بن ثابت، هو أوسيّ، ويقال ظفري، مات في العهد النبوي، وقال الواقدي وابن الكلبي: هو عبد الله بن عبد الله له ولأبيه صحبة، قال الكلبي: دَفَنَه صلّى الله عليه وسلّم في قميصه وعاش الأبُ إلى خلافة عمر، كذا ذكره الزرقاني. (7) ابن قيس الأنصاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 فَوَجَدَهُ قَدْ غُلب (1) ، فَصَاحَ (2) بِهِ فَلَمْ يُجِبْه، فَاسْتَرْجَعَ (3) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: غُلبنا (4) عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ (5) فَصَاحَ النِّسْوَةُ (6) وبَكَيْنَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ (7) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ (8) فَلا تَبْكِيَنَّ (9) بَاكِيَةً، قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ (10) يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا مَاتَ، قالت   (1) بصيغة المجهول أي غلبه الألم حتى منعه مجاوبةَ النبي صلّى الله عليه وسلّم. (2) أي رفع صوته في الكلام معه. (3) أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. (4) بصيغة المجهول، وفيه إيماء إلى قوله تعالى: {والله غالب على أمره} إن المخلوق مأسور في قبضه وقضائه. (5) قوله: يا أبا الربيع، فيه تكنية الرئيس لمن دونه ولم يستكبر عن ذلك من الخلفاء إلاّ من حُرم التقوى. (6) اسم جمع لا جمع. (7) قوله: يُسْكِتُهُنَّ، لأنه سمع النهيَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وحمله على عمومه. (8) أي مات، وأصله ومن وجب الحائط إذا سقط، ووجبت الشمس أي غابت. (9) قوله: فلا تبكِيَنّ، أي لا ترفع صوتها، أما دمع العين وحزن القلب فالسنة ثابتة بإباحة ذلك في كل وقت، وعليه جماعة العلماء بكى صلّى الله عليه وسلّم على ابنه إبراهيم، وعلى ابنته، وقال: هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده، ومرَّ بجنازة يبكى عليها فانتهرهنَّ عمر، فقال: دعهن فإن النفس مصابة، والعين واسعة، والعهد قريب، قال أبو عمر (في الأصل: أبو عمرو، وهو خطأ) . (10) الذي أردت بقولك إذا مات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 ابْنَتُهُ (1) : وَاللَّهِ إِنِّي كنتُ لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا، فَإِنَّكَ قَدْ كنتَ قضيتَ (2) جَِهَازَك (3) ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْقَعَ (4) أجرَه (5) عَلَى قَدْرِ (6) نيَّته، وَمَا (7) تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟ قَالُوا: القتلُ (8) فِي   (1) أي ابنة المريض. (2) أي أتممت. (3) بالفتح والكسر ما يُعدُّ الرجل للسفر، والمعنى إنك قد هيَّأتَ أسباب السفر وزاد الحرب للغزاة. (4) أي أوجب ثواب غزوة. (5) أي ولو كان هو في بيته. (6) قوله: على قدر نيته، قال ابن عبد البر: فيه أن المتجهِّز للغزو إذا حيل بينه وبينه يُكتب له أجر الغزو على قدر نيَّته، والآثار بذلك متواترة صحاح. (7) استفهام. (8) بالنصب على تقدير "نعدّ"، وبرفعه على تقدير "هي". (1) زاد ابن ماجه: إن شهداء أمتي إذن لقليل. (2) أي الحكمية. (3) قال السيوطي: هم أكثر من ذلك وقد جمعتهم في جزء فناهز الثلاثين. قوله: سبع، أعلم أن الشهيد ثلاثة: شهيد في الدنيا والآخرة، وشهيد في الدنيا فقط، وشهيد في الآخرة فقط، فالأول من قاتل الكفار لتكون كلمة الله هي العليا، والثاني من قاتلهم لغرض من أغراض الدنيا، والثالث هو من ذُكر. وسُمِّي الشهيد شهيداً لأنَّ روحه شهدت حضرة دار السلام وروح غيره إنما تشهدها يوم القيامة، وقيل غير ذلك من وجوه، كذا في رسالة "الشهداء" لعلي الأجهوري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشَّهَادَةُ (2) سَبْع (3) سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ (4) شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ (5) شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ (6) ذَاتِ الجَنْب شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ (7) شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ (8) تَمُوتُ بِجَمْعٍ شهيد،   (4) أي الذي يموت بالطاعون. قوله: المطعون، قال أبو الوليد الباجي في "شرح الموطأ": الطاعون مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات بخلاف المعتاد من أمراض الناس يكون مرضهم واحداً، وقال عياض: أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسُمِّيت طاعوناً لشبهها بالهلاك بذلك، وإلاَّ فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعوناً. وقال النوويّ في "تهذيب الأسماء واللغات": الطاعون مرض معروف، وهو بثر وورم مؤلم جدّاً، يخرج مع لهب ويسوّدُّ ما حواليه أو يخضرُّ أو يحمرُّ حمرة بنفسجية، ويحصل معه خَفَقان القلب ويخرج في المراق والآباط غالباً وفي الأيدي والأصابع وسائر الجسد، كذا في "بذل الماعون في فضل الطاعون" للحافظ ابن حجر. (5) قوله: والغريق، أخرج ابن ماجه عن أبي أمامة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الله وكَّل ملكاً بقبض الأرواح إلاَّ شهداء البحر، فإنه يتولّى قبضَ أرواحهم، كذا في "الحبائك في أخبار الملائك" للسيوطي. (6) قوله: وصاحب ذات الجنب، هو مرض معروف وهو ورم حارّ يعرض في الغشاء المستبطن الأضلاع. (7) الذي يُحرق بالنار. (8) قوله: والمرأة تموت بجمع، قال ابن عبد البرّ: هي التي تموت من الولادة ألقت ولدها أم لا. وقيل: هي التي تموت في النفاس، وولدها في بطنها لم تلد، وقيل: هي التي تموت عذراء لم تفتض، قال: والقول الثاني أكثر وأشهر، وقال في "النهاية": تموت بجُمع أي وفي بطنها ولد، وقيل: هي التي تموت بكراً، والجُمع: بالضم بمعنى المجموع، والمعنى أنها ماتت بشيء مجموع فيها غير منفصل عنها من حمل أو بكارة، وما اقتصر من الضم هو إحدى اللغات، فقد ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وَالْمَبْطُونُ (1) شَهِيدٌ. 302 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا سُمَيّ (2) ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ (3) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (4) : بَيْنَمَا (5) رجلٌ يَمْشِي وَجَد غصنَ (6) شوكٍ عَلَى الطَّرِيقِ،   في "القاموس" أنه مثلَّث الجيم مع سكون الميم، كذا في رسالة "الشهداء" لعلي الأجهوري. (1) قوله: والمبطون، قال في "النهاية": هو الذي يموت بمرض بطنه كالاستسقاء ونحوه، وفي كتاب "الجنائز" لأبي بكر المروزي عن شيخه شُرَيح أنه صاحب القولنج، وقال غيره هو صاحب الإِسهال، كذا في رسالة "الشهداء" للأجهوري. (2) زاد يحيى: مولى أبي بكر بن عبد الرحمن. (3) قوله: عن أبي صالح، هو ذكوان السَّمّان الزَّيّات المدني، قال أحمد: كان ثقة، أجلّ الناس، وقال ابن المديني: ثقة، ثبت، مات بالمدينة سنة 101، كذا في "الإِسعاف". (4) قال ابن عبد البر: هذه ثلاثة أحاديث في واحد يرويها كذلك جماعة من أصحاب مالك، وكذا هي محفوظة عن أبي هريرة. (5) قوله: بينما، أصله بين، فأُشبعت الفتحة، فقيل بينا، وزيدت ما فقيل بينما، وهما ظرفان بمعنى المفأجأة، ويُضافان إلى الجملة الاسمية تارةً وإلى الفعلية أخرى، كذا في "مرقاة المفاتيح". (6) شاخ درخت خار دار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 فأخَّرَه (1) فَشَكَرَ (2) اللهُ لَهُ فغَفَر لَهُ، وَقَالَ: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ (3) : الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدْم (4) ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ: لَوْ يعلمُ (5) الناسُ مَا فِي النِّدَاءِ (6) وَالصَّفِّ (7) الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا (8) إلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا (9)   (بالفارسية) . (1) أي بعّده عنها. (2) قوله فشكر الله له: أثنى عليه أو قَبِل عمله، أو أظهر ما جازاه به عند ملائكته فغفر له أي بسبب قبوله غفر له. (3) هذا العدد وكذا العدد السابق لا مفهوم له. (4) الذي يموت تحت الهدم. (5) قوله: لو يعلم الناس، وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم، قاله الطيبي. (6) أي الأذان كما في رواية، قوله: ما في النداء، زاد أبو الشيخ من طريق الأعرج: من الخير والبركة، وقال الطِّيبي: أطلق مفعول يعلم، وهو ما يُبيِّن الفضيلة ما هي ليُفيد ضرباً من المبالغة. (7) قوله: والصف الأول، قال الباجي: اختُلف فيه هل هو الذي يلي الإِمام، أو المبكِّر السابق إلى المسجد، قال القرطبي: والصحيح أنه الذي يلي الإِمام. (8) أي حصول كل منهما لمزاحمة. (9) أي يقترعوا، قوله: إلاَّ أن يستهموا، قال الخطابي وغيره: قيل للاقتراع الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في شيء، فمن خرج اسمه غَلَب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا (1) ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ (2) لاسْتَبَقُوا (3) إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَة (4) والصبح (5) لأَتَوْهُما (6) ولو حَبْواً (7) .   (1) قوله: لاستهموا، قد روى سيف بن عمر في كتاب "الفتوح" والطبراني عن شقيق قال: افتتحنا القادسية صدر النهار، فتراجعنا وقد أصيب المؤذن فتشاحّ الناس في الأذان بالقادسية، فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص، فأقرع بينهم، فخرجت القرعة لرجل منهم فأذَّن. (2) قوله: ما في التهجير، هو التبكير إلى الصلاة أيِّ صلاة كانت كما قاله الهرويّ وغيره، وخصَّه الخليل بالجمعة، وقال النووي: الصواب هو الأول، وقال الباجي: التهجير التبكير إلى الصلاة في الهاجرة وذلك لا يكون إلاَّ في الظهر والجمعة. (3) قوله: لاستبقوا، قال ابن أبي جمرة: المراد الاستباق معنىً لا حسّاً لأنَّ المسابقة على الأقدام حسّاً تقتضي السرعة في المشي وهو منهيٌّ عنه. (4) أي العشاء، قوله: ما في العتمة، قال النووي: قد ثبت النهيُ عن تسمية العشاء عَتَمة، والجواب عن هذا الحديث بوجهين: أحدهما: أنه بيان للجواز، والثاني: وهو الأظهر أن استعمال العَتَمة ههنا لمصلحة ونَفْيِ مفسدة، لأن العرب تستعمل لفظ العشاء في المغرب، فلو قال ما في العشاء لحملوها على المغرب وفسد المعنى. (5) أي في حضورهما. (6) ولم يلتفتوا إلى عذر مانع. (7) قوله: ولو حبواً، أي ولو كان الإِتيان حبواً - بفتح مهملة وسكون موحدة - مصدر حبا يحبو إذا مشى الرجل على يديه وبطنه والصبي مشى على إسته، وأشرف بصدره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 (أَبْوَابُ الْجَنَائِزِ (1)) 1 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تُغَسِّلُ (2) زَوْجَهَا) 303 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ بْنُ أَنَسٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (3) بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَسْمَاءَ (4) بِنْتَ عُمَيس امْرَأَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَسَّلَتْ   (1) قوله: الجنائز، - بفتح الجيم - جمع جَِنازة بالفتح والكسر لغتان، وقيل بالكسر النعش، وبالفتح للميت. (2) بعد موته. (3) قوله: عبد الله، هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضي المدينة المتوفَّى سنة 135 هـ كما ذكره الزرقاني، لا عبد الله بن أبي بكر الصديق كما ظنه القاري. (4) قوله: أن أسماء بنت عميس، هي أخت ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأم الفضل زوج العباس، وأخت أخواتهما لأم، وهن تسع، وقيل: عشر، وكانت أسماء من المهاجرات إلى أرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فولدت له محمداً وعبد الله، وعوناً، ثم هاجرت إلى المدينة، فلما قُتل جعفر تزوَّجها أبو بكر الصديق فولدت له محمداً ولما مات تزوَّجها علي، فولدت له يحيى، كذا في "الاستيعاب" وفيه أيضاً في الكنى: أبو بكر الصديق هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي التيمي، وروى حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر: من أكبر أنا أو أنت؟ فقال: أنت أكبر مني وأكرم، وأنا أسنُّ منك. وهذا الخبر لا يُعرف إلاَّ بهذا الإِسناد، وأظنه وهماً لأن جمهور أهل العلم بالأخبار والسِّيَر يقولون: إن أبا بكر استوفى بمدة خلافته سنّ رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 أَبَا بَكْرٍ حِينَ (1) تُوُفِّيَ، فَخَرَجَتْ (2) فَسَأَلَتْ (3) مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَتْ: إِنِّي صَائِمَةٌ، وَإِنَّ هَذَا يومٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ فَهَلْ عليَّ (4) مِنْ غُسْلٍ؟ قَالُوا: لا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ (5) أَنْ تُغَسِّلَ المرأةُ (6) زوجَها إِذَا توفي، ولا غُسل (7)   (1) قوله: حين توفي، ليلةَ الثلاثاء لثمانٍ بقين من الجمادى الآخرة سنة 13 هـ، وله ثلاث وستون سنة كما رواه الحاكم وغيره عن عائشة رضي الله عنها. (2) أي من المغتسل. (3) أي مستفتية. (4) أي يجب عليَّ الغُسْلُ من غسل الميت؟ (5) قوله: لا بأس ... إلىآخره، نقل ابن المنذر وغيره الإِجماع على جواز غُسل المرأة زوجها، وإنما اختلفوا في العكس: فمنهم من أجاز، وإليه مال الشافعي ومالك وأحمد وآخرون، ومنهم من منعه، وهو قول الثوري والأَوْزاعي وأبي حنيفة وأصحابه، كذا ذكر العيني (انظر أوجز المسالك 4/199) . (6) أي ولو كانت مُحرمة أو صائمة، كذا ذكره الشُّمنِّي. (7) قوله: ولا غسل .... إلى آخره، أقول: يحتمل محملين: أحدهما: أن يكون نفياً للوجوب، والمعنى لا يجب الغسل على من اغتسل، ولا الوضوء. فحينئذٍ لا يكون هذا الكلام نفياً للاستحباب، وثانيهما: أن يكون نفياً للمشروعية، فيكون نفياً للاستحباب أيضاً. والأول أَوْلى، لورود الأمر بالغسل لمن غسل ميتاً، فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندب، وهو ما أخرجه الترمذي وابن ماجه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   حديث عبد العزيز بن المختار، وابن حبان من رواية حماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً من غسله الغسل ومن حمله الوضوء وروى أبو داود من رواية عمرو بن عمي عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ، وأخرجه أحمد والبيهقي من رواية صالح مولى التوأمة عنه مرفوعاً - وصالح متكلم فيه - وأخرجه البزار من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ومن رواية أبي بحر البكراوي عبد الرحمن بن عثمان، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة عنه مرفوعاً. وقد اختلف العلماء في هذا الباب فمذهب جمهور العلماء أنه لا شيء في ذلك، وقال بعض أهل العلم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن بعدهم: إن عليه الغسل، وقال بعضهم: عليه الوضوء، وقال مالك: أستحب الغسل ولا أرى ذلك واجباً، وقال أحمد: من غسل ميتاً أرجو أن لا يجب عليه الغسل، وقال إسحاق: لا بد فيه من الوضوء، وروي عن ابن المبارك: لا يغتسل ولا يتوضأ من غسل الميت، كذا حكاه الترمذي، وقال الخطّابي في "حواشي سنن أبي داود": لا أعلم أحداً من الفقهاء يوجب غُسل من غَسَل ميتاً ولا الوضوء من حمله ولعله أمرُ ندبٍ. انتهى. وفيه نظر، فقد قال الشافعي: لا غسل عليه إلاَّ أن يثبت حديث أبي هريرة، والخلاف ثابت عند المالكية فروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك أنه قال: عليه الغسل، وروى المدنيون وابن عبد الحكم عنه أنه مستحب لا واجب، وهو مشهور مذهبه وصار إلى الوجوب بعض الشافعية أيضاً، كذا ذكره الحافظ ابن حجر والزرقاني وغيرهما. ولما استُشكل على القائلين بعدم الوجوب ورودُ حديث أبي هريرة، وظاهره الوجوب، أجابوا عنه بوجوه: الأول: أنَّ أبا هريرة تفرَّد بروايته، وفي قبول خبر الواحد في ما يعم به البلوى كلام، وفيه نظر فإنه مع قطع النظر عما يرد على ما أصّلوه من عدم قبول خبر الواحد في ما يعمُّ به البلوى لا يثبت تفرد أبي هريرة، ففي الباب عن عائشة رواه أحمد والبيهقي، وفي إسناده مصعب بن شيبة وفيه مقال، وضعفه أبو زرعة وأحمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والبخاري، وصحَّحه ابن خزيمة، كذا ذكره ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي"، وعن حذيفة ذكره ابن أبي حاتم والدارقطني في "العلل"، وقالا: إنه لا يثبت، قال ابن حجر: نفيهما الثبوت على طريق المحدِّثين، وإلاَّ فهو على طريقة الفقهاء قويّ، لأنَّ رواته ثقات أخرجه البيهقي من طريق معمر عن أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، وعن أبي سعيد رواه ابن وهب في جامعه، وعن المغيرة رواه أحمد، وعن علي أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى عنه قال: لما مات أبو طالب أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إن عمَّك الشيخَ الضَّالَّ قد مات فقال: انطلق فوارِه ولا تحدثن حدثاً حتى تأتيني، فانطلقت فواريته، فأمرني فاغتسلت فدعا لي. ووقع عند أبي يعلى في آخره، وكان عليّ إذا غسل ميتاً اغتسل. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" بلفظ: لما أخبرت رسولَ الله بموت أبي طالب بكى، وقال: اذهب فاغسله وكفِّنه، قال ففعلت ثم أتيته فقال لي: اذهب فاغتسل، وروى البيهقي هذا الحديث وضعَّفه، قال ابن حجر: مدار كلام البيهقي على الضعيف، ولا يتبين وجه ضعفه. انتهى. الوجه الثاني: أن جماعة من المحدثين صرَّحوا بتضعيف طرق أبي هريرة بل صرح بعضهم بأنه لا يثبت في هذا الباب شيء، فنقل الترمذي عن ابن المديني والبخاري أنهما قالا: لا يصح في الباب شيْء، وقال الذُّهلي: لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً، لو ثبت للزمنا استعماله، وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت، وقال ابن أبي حاتم في "العلل": حديث أبي هريرة لا يرفعه الثقات، إنما هو موقوف، وقال الرافعي: لم يصحِّح علماء الحديث في هذا الباب شيئاً مرفوعاً، وفيه نظر، لأنَّ بعض الطرق وإن كانت ضعيفة لكنَّ ضعفها ليس بحيث لا ينجبر بكثرة الطرق مع أنَّ بعض طرقها بانفراده حسن أيضاً. قال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي" بعد نقل كلام الرافعي: قلت: قد حسَّنه الترمذي وصحَّحه ابن حبان، وله طريق آخر، قال عبد الله بن صالح، حدثنا يحيى بن أيوب عن عقيل، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أي هريرة رفعه: من غسل ميتاً فليغتسل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ذكره الدارقطني، وقال: فيه نظر. قلت: رواته موثُّقون، وقال ابن دقيق العيد في "الإِمام": لا يخلو إسناد من طرق هذا الحديث من متكلَّم فيه، وأحسنُها رواية سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة وهي معلولة، وإن صحَّحها ابن حبان وابن حزم، فقد رواه سفيان عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة، قلت: إسحاق أخرج له مسلم، فينبغي أن يصحِّح الحديث، قال: وأما رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة فإسناده حسن إلاَّ أنَّ الحفّاظ من أصحاب محمد بن عمرو روَوْه عنه موقوفاً. وفي الجملة هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً، فإنكار النووي على الترمذي بتحسينه معتَرَض، وقد قال الذهبي في "مختصر البيهقي": طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتَجَّ بها الفقهاء ولم يُعِلّوها: بالوقف، بل قدّموا رواية الرفع، وذكر الماورديّ أن بعض أصحاب الحديث خرَّج لهذا الحديث مئةً وعشرين طريقاً، قلت: ليس ذلك ببعيد. انتهى. ملخصاً. الوجه الثالث: أنَّ الأمر بالغسل لمن غسل ميتاً منسوخ جزم به أبو داود ونقله عن أحمد، وأيَّده بعضهم بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر النسوة اللّواتي (في الأصل "التي"، والظاهر ما أثبتناه كما في "التلخيص" 2/106) غَسَّلن ابنته بالغسل، ولو كان واجباً لأمرهن، وفيه نظر لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، بل إذا وُجد ناسخ صريح متأخِّر وهو مفقود. الوجه الرابع: وهو أَوْلاها حمل الأمر على الندب، ويؤيِّده ما رواه الخطيب في ترجمة محمد بن عبد الله المخزومي من طريق عبد الله بن أحمد قال أبي: كتبتَ حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل؟ قال: قلت: لا، قال: في ذلك الجانب شابٌّ يقال له: محمد بن عبد الله يحدِّثه عن أبي هشام المخزومي عن وهيب فاكتبه عنه، قال الحافظ ابن حجر: هذا إسناد صحيح، وهو أحسن ما جُمع به بين مختلف هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 عَلَى مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ وَلا وُضُوءَ إلاَّ (1) أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (2) الْمَاءِ فَيَغْسِلَهُ (3) . 2 - (بَابُ مَا يُكَفَّن بِهِ الْمَيِّتُ) 304 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ الزُّهري، عَنْ حُمَيْدِ (4) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (5) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: الْمَيِّتُ يُقمّص ويُؤزّر (6) ،   الأحاديث. انتهى. ومما يؤيد صرف الأمر الوارد في حديث أبي هريرة عن الوجوب ما أخرجه البيهقي من طريق الحاكم - وقال ابن حجر: إسناده حسن - عن ابن عباس مرفوعاً: ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً وليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم. ويؤيِّده أيضاً ما رواه أبو منصور البغدادي من طريق محمد بن عمرو بن يحيى، عن عبد الرحمن بن عاطب، عن أبي هريرة: من غسل ميتاً اغتسل ومن حمله توضأ، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: أوَيَنجس موتى المسلمين وما على رجل لو حمل عوداً. ذكره السيوطي في رسالته "عين الإِصابة في استدراك عائشة على الصحابة" وخلاصة المرام أنه لا سبيل إلى ردِّ حديث أبي هريرة مع كثرة طرقه وشواهده ولا إلى دعوى نسخه بمعارضة الأحاديث الأُخَر، بل الأسلم الجمع بحمل الأمر على الندب والاستحباب. (1) استثناء منقطع. (2) أي ماء غسل الميت. (3) أي ذلك المكان الذي أصابه ذلك الماء المستعمل احتياطاً. (4) الزهري المدني، ثقة من كبار التابعين، مات سنة 105، قاله الزرقاني. (5) زاد يحيى: بن عوف. (6) بصيغة المجهول فيهما، أي يَلْبَس القميص والإِزار. قوله: يقمص، ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الميت يكفن في ثلاث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 ويُلَفُّ بِالثَّوْبِ الثَّالِثِ (1) ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلاَّ ثوبٌ وَاحِدٌ كُفِّنْ فِيهِ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الإِزار بِجَعْلِ (3) لِفَافَةٍ مِثْلَ الثَّوْبِ الآخَرِ أحبُّ (4) إِلَيْنَا مِنْ أَنْ يُؤَزَّرَ، وَلا يُعْجِبُنَا أن ينقص (5) الميت في   لفائف، ولا يقمص ولا يؤزر أخذاً من حديث عائشة: كُفِّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. أخرجه الأئمة الستة وغيرهم. وذهب الحنفية والمالكية إلى إدخال القميص في الكفن أخذاً مما روى ابن عدي في "الكامل"، عن جابر قال: كُفِّن النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثة أثواب: قميص، وإزار، ولفافة. وفي سنده ناصح بن عبد الله الكوفي متكلَّم فيه. وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: كُفِّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه حلّة نجرانية، وفيه يزيد بن أبي زياد مجروح. وقالوا بأن معنى قول عائشة إن القميص والعمامة زائدتان على الثلاثة، ورُدَّ بأنه خلاف الظاهر، وأولى ما يُحتج به لإِثبات القميص حديث جابر في قصة موت عبد الله بن أبيّ، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطى ابنه قميصه ليكفِّنه فيه بعدما طلبه، فكفَّنه فيه. أخرجه البخاريُّ وغيره، ويوافقه أثر عبد الله بن عمرو المخرَّج ههنا. (1) الرداء. (2) ولا ينتظر بدفنه إلى شيء آخر. (3) في نسخة: يجعل. (4) قوله: أحبُّ إلينا من أن يؤزر، يعني أن إزار الميت ليس كإزار الحي ولا يؤزر كما يُؤزر الحيّ على ما يفيده ظاهر أثر ابن عمرو، بل يُجعل الإِزار كاللفافة، ويُبسط ويُلَفُّ الميت فيهما. (5) قوله: أن ينقص ... إلخ، يشير إلى أن النقصان من الثلاثة إلى ثوبين لا بأس به لقول أبي بكر الصديق: اغسلوا ثوبَيّ هذين، وكفِّنوني فيهما. أخرجه أحمد ومالك وعبد الرزاق وابن سعد وغيرهم، وأخرج الأئمة الستة في حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 كَفَنِهِ مِنْ ثَوْبَيْنِ إلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 3 - (بَابُ الْمَشْيِ بِالْجَنَائِزِ وَالْمَشْيِ مَعَهَا) 305 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَسْرِعوا بِجَنَائِزِكُمْ (2) فَإِنَّمَا هُوَ خيرٌ (3) تقدِّمونه (4) أَوْ شرٌّ (5) تُلْقُونه عَنْ رِقَابِكُمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، السُّرْعَةُ (6) بِهَا أحبُّ إِلَيْنَا مِنَ الإِبطاء، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله.   المُحرم الذي وقصته راحلته فمات، قال رسول الله: كفِّنوه في ثوبيه ولا تخمِّروا وجهه، الحديث. وأما الزيادة على الثلاثة فعند كثير من أصحابنا والشافعية لا يُكره بشرط أن يكون وتراً لأن ابن عمر كفن ابناً له في خمسة أثواب: قميص وعمامة وثلاث لفائف، رواه البيهقي. لكن الأفضل هو الاقتصار على الثلاث ذكره في "ضياء الساري". (1) قوله: إلاَّ من ضرورة، لأن مصعب بن عمير حين استُشهد يوم أحد لم يَترك إلاّ بردة (كفاية الثوب الواحد عند الضرورة مجمع عليه عند الأربعة كما صرح به أهل فروعهم، والجمهور على أن الثوب الواحد ينبغي أن يكون ساتراً لجميع البدن، أوجز المسالك 4/209) ، فكُفِّن فيه، أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما. (2) أي بتجهيز ميتكم ودفنه أو بالتعجيل في المشي به. (3) أي صاحب خير أو أُريد به المبالغة. (4) وفي بعض النسخ تقدمونه إليه، أي إلى خير فهو خير له. (5) أي إلى شرّه في قبره. (6) قوله: السرعة، المعتدلة من غير أن يُفضي إلى العَدْو، لما أخرجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 306 - أخبرنا مالك، حدثنا الزهري قال (1) : كان   أبو داود والترمذي من حديث ابن مسعود قال: سأَلْنا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم عن المشي خلف الجنازة؟ قال: ما دون الخبب (في الأصل: "الجنب"، وهو خطأ) فإن يكُ خيراً عجَّلتموه وإن كان شرّاً فلا يبعد إلاَّ أهل النار. ولأبي داود والحاكم من حديث أبي بكرة: لقد رأيتنا مع رسول الله وإنا لنكاد أن نرمل بها رملاً. ولابن ماجه وقاسم بن أصبغ من حديث أبي موسى: عليكم بالقصد في جنائزكم إذا مشيتم. ورواه البيهقي ثم أخرج عنه من قوله: إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا بالمشي. وقال: هذا يدل على أن المراد كراهة شدة الإِسراع. (1) قوله: قال كان ... إلى آخره، قال الحافظ في: "التلخيص الحبير": روى أحمد وأصحاب السنن والدارقطني وابن حبان والبيهقي من حديث ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: رأيتُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة، قال أحمد: إنما هو عن الزهريّ مرسل، وحديث سالم فعل ابن عمر، وحديث ابن عيينة وهمٌ. وقال الترمذي: أهل الحديث يَرَوْن المرسل أصح، قاله ابن المبارك، قال: وروى معمر ويونس ومالك عن الزهري أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمشي أمام الجنازة، قال الزهري: وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة، قال الترمذي: ورواه ابن جريج عن الزهري مثل ابن عيينة، ثم روى عن ابن المبارك أنه قال: أرى ابن جريج أخذه عن ابن عيينة وقال النسائي: وصْلُه خطأ، والصواب مرسل، وقال أحمد: نا حجاج قرأت على ابن جريج، نا زياد بن سعد أن ابن شهاب أخبره، حدثني سالم أن ابن عمر كان يمشي بين يدي الجنازة. وقد كان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر يمشون أمامها، قال عبد الله: قال أبي ما معناه: القائل: وقد كان إلى آخره: هو الزهري، وحديث سالم فعل ابن عمر، واختار البيهقي ترجيح الموصول لأنه من رواية ابن عيينة، وهو ثقة، حافظ. وعن ابن المديني قال: قلت لابن عيينة: يا أبا محمد خالفك الناس في هذا الحديث، فقال: حدثني الزهري مراراً لست أحصيته سمعته من فِيه عن سالم عن أبيه. قلت: هذا لا ينفي عنه الوهم لأنه ضبط أنه سمعه عن سالم عن أبيه والأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي أَمَامَ (1) الْجِنَازَةِ، وَالْخُلَفَاءُ (2) هَلُمَّ جَرًّا وَابْنُ عُمَرَ (3) . 307 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ رَبِيعَةَ (4) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُدير (5) : أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يقْدُمُ الناسَ أَمَامَ جِنَازَةِ زَيْنَبَ (6) بِنْتِ جَحْشٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَشْيُ أَمَامَهَا حَسَنٌ، وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ (7) ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة رحمه الله.   كذلك إلاَّ أن فيه إدراجاً لعل الزهريّ أدمجه أو حدّث به ابن عيينة وفصله لغيره وقد أوضحتُه في "المدرج" بأتم من هذا. (1) أي قدّامها لأنه شفيعٌ لها. (2) أي واحداً بعد واحد في حين خلافته. (3) أي عبد الله بن عمر أيضاً كان يمشي أمامها وكان من أشد الناس اتّباعاً للسنة. (4) ذكره ابن حبان في ثقات التابعين مات سنة 93، كذا قال الزرقاني. (5) بالتصغير. (6) الأسدية أم المؤمنين، ماتت سنة عشرين عند ابن إسحاق، وقيل إحدى وعشرين وكانت أول أمهات المؤمنين موتاً، قاله الزرقاني. (7) قوله: أفضل، اختلفوا فيه بعد الاتفاق على جواز المشي أمام الجنازة وخلفها وشِمالها وجنوبها اختلافاً في الأولوية على أربعة مذاهب، الأول (1) : التخيير من دون أفضليةِ مشيٍ على مشي وهو قول الثوريّ وإليه مَيْل البخاري، ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، وسنده قول أنس: إنما أنتم مشيِّعون فامشوا بين يديها وخلفها وعن يمينها وشمالها، علَّقه البخاري في صحيحه، ووصله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 4 - (بَابٌ الْمَيِّتُ لا يُتَّبَعُ بنارٍ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ مِجْمَرة فِي جِنَازَتِهِ) 308 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا سعيد بن أبي سعيد المقبري:   عبد الوهاب بن عطاء الخفاف في كتاب "الجنائز" له. والثاني (2) : أن أمام الجنازة أفضل في حق الماشي وخلفها أفضل للراكب، وهو مذهب أحمد ذكره الزيلعي واستدلّ بحديث المغيرة مرفوعاً: الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي أمامها قريباً عنها أو عن يمينها أو يسارها. أخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد والحاكم وقال: على شرط البخاري، قال الزيلعي: وفي سنده اضطراب ومتنه أيضاً، والثالث (3) : مذهب الشافعي ومالك - وهو قول الجمهور قاله ابن حجر - أن المشي أمامها أفضل، والمستَنَد لهم حديث الزهري وغيره، والرابع (4) : مذهب أبي حنيفة والأَوْزاعي وأصحابهما وهو أن المشي خلفها أفضل، ويؤيّده آثار وأخبار، فأخرج سعيد بن منصور والطحاويّ وابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبْزَى قال: كنتُ في جنازة وأبو بكر يمشي أمامها وكذا عمر، وعليٌّ يمشي خلفها، فقلت لعلي: أراك تمشي خلف الجنازة فقال: لقد عَلِما أنَّ المشي خلفها أفضل، إن فضل المشي خلفها على المشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على الفذّ، ولكنهما أحبّا أن ييسِّرا على الناس. وإسناده حسن، وهو موقوف في حكم المرفوع ذكره ابن حجر في الفتح، وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أباه قال له: كن خلفَ الجنازة فإن أمامها للملائكة وخلفها لبَنِي آدم (قال النيمويّ: إسناده حسن. أوجز المسالك 4/212) . وأخرج أبو داود والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً: الجنازة متبوعة وليس معها من تقدّمها. وسنده متكلم فيه. وفي الباب آثار وأخبار أُخَر مبسوطة في "شرح معاني الآثار"، و"نصب الراية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ (1) نَهَى (2) أَنْ يُتَّبَعَ بنارٍ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ بمِجْمَرة (3) فِي جِنَازَتِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 5 - (بَابُ الْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ) 309 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى (4) بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ وَاقِدِ (5) بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ نَافِعِ (6) بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، عَنْ معَوِّذ (7) بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان (8)   4 - (بَابٌ الْمَيِّتُ لا يُتَّبَعُ بنارٍ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ مِجْمَرة فِي جِنَازَتِهِ) 308 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سعيد بن أبي سعيد المقبري: (1) كذا أوصى عمران بن حصين وأبو سعيد وأسماء بنت أبي بكر، قال ابن عبد البر: جاء النهي عن ذلك من حديث ابن عمر مرفوعاً. (2) لما فيه من التفاؤل لأنه من فعل النصارى (انظر: أوجز المسالك 4/213) . (3) بكسر الميم: المبخرة والمدخنة، وقيل: المجمر كمنبر بحذف الهاء ما يبخر به من عود وغيره، وهو لغة في المجمرة. (4) في الإِسناد أربعة من التابعين. (5) ثقة، روى له مسلم والثلاثة، مات سنة 120، كذا ذكره الزرقاني، كذا يسمى أيضاً، قال ابن عبد البر: سائر الرواة يقولون عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ. (6) ثقة من رجال الجميع، مات سنة 99 ذكره الزرقاني. (7) بكسر الواو المشدَّدة. (8) قوله: كان يقوم، وأمر بذلك أيضاً كما صح من حديث عامر وأبي سعيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 يَقُومُ (1) فِي الْجِنَازَةِ، ثُمَّ يَجْلِسُ (2) بَعْدُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا لا نَرَى (3) الْقِيَامَ لِلْجَنَائِزِ، كَانَ (4) هَذَا شَيْئًا فتُرك، وَهُوَ قَوْلُ (5) أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.   وأبي هريرة، وفي الصحيحين عن جابر: مرّ بنا جنازة، فقام لها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقمنا، فقلنا: إنها جنازة يهودي فقال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا. زاد مسلم: إن الموت فزع، وفي الصحيحين عن سهل بن حُنيف فقال صلّى الله عليه وسلّم: أليست نفساً؟ وللحاكم عن أنس وأحمد عن أبي موسى مرفوعاً: إنما قمنا للملائكة. ولأحمد وابن حبان عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: إنما قمنا إعظاماً للذي يقبض النفوس. وأما ما رواه أحمد عن الحسن بن علي: إنما قام رسول الله تأذِّياً بريح اليهودي، فلا يعارض الأخبار الأولى لأن أسانيده لا تقادم تلك في الصحة، ولأن هذا التعليل فَهِمه الراوي والتعليل السابق لَفَظَه صلّى الله عليه وسلّم. (1) أي إذا رآها. (2) أي استمر جلوسه بعد ذلك، فلم يكن يقوم لها إلاَّ إذا أراد أن يشيّعها أو يصلي عليها. (3) أي لا نرى بقاء مشروعيته. (4) أي القيام للجنازة كان شيئاً مشروعاً فترك. (5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال سعيد بن المسيب وعروة ومالك وأهل الحجاز والشافعي وأصحابه، ورُوي ذلك عن عليّ والحسن بن عليّ وعلقمة والأسود والنَّخَعي ونافع بن جبير، وقال أحمد: إنْ قام لم أعبه، وإن لم يقم فلا بأس به، ومذهب جماعة أنه مشروع ليس بمنسوخ، وممن رأى ذلك أبو مسعود وأبو سعيد وسهل بن حنيف وسالم بن عبد الله، كذا ذكره الحازمي في "كتاب الاعتبار"، وذكر ابن حزم وغيره أنّ الجمع بأن الأمر بالقيام للندب وتركه لبيان الجواز أولى من دعوى النسخ. ورُدّ بأن الذي فهمه علي هو الترك مطلقاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 6 - (بَابُ الصَّلاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءِ) 310 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ (1) الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ (2) أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ كَيْفَ يصلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ، فَقَالَ: أَنَا لَعَمْرِ اللَّهِ (3) أُخْبِرُكَ، أتَّبعها (4) مِنْ أَهْلِهَا، فَإِذَا وُضعت كبَّرت، فحَمِدتُ (5) اللَّهَ وصلَّيْت (6) عَلَى نبيه، ثم قلت (7) :   ويشهد له حديث عبادة: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم للجنازة فمرَّ به حبر من اليهود، وقال: هكذا نفعل، فقال اجلسوا فخالفوهم. أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلاَّ النسائي، وورد في رواية الطحاوي والحازمي من عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم لها حين يتشبَّه بأهل الكتاب، فلما نُسخ ذلك تركه، ونهى عنه (ذهب الجمهور إلى أنه نُسخ وذهب جماعة من السلف إلى أنه لم ينسخ، "الكوكب الدري" 2/192) . وفي الباب آثار وأخبار تدل على أنَّ الآخر من فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان هو تركَ القيام. (1) وليحيى: مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه. (2) قوله: عن أبيه، اسمه كيسان بن سعيد المقبري المدني أبو سعيد مولى أمِّ شَرِيك، ثقة، ثَبْت، مات سنة 100، وابنه سعيد أبو سعد المقبري المدني، ثقة، مات في حدود العشرين أو قبلها، أو بعدها، كذا في "التقريب". (3) أي حياته. (4) بالتشديد وكسر الموحدة ويخفّف فيفتح، قوله أتّبعها، أي أشيّعها من عند أهلها أو من محلِّها. (5) فيه أنه لم يكن يرى القراءة في صلاتها. (6) بعد التكبيرة الثانية. (7) بعد الثالثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 اللَّهُمَّ، عبدُك (1) وابنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتك (2) ، كَانَ (3) يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، إِنْ كَانَ مُحسناً فَزِدْ (4) فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فتجاوز (5)   (1) أي يا الله هذا عبدك. (2) أي جاريتك، والمراد بهما أبواه. (3) في دار الدنيا. (4) أي زد في ثواب حسناته. (5) أي اغفر ما صدر منه. (1) أي لا تجعلنا محرومين من مثوباته. (2) أي أجر الصلاة عليه وشهود الجنازة، أو أجر المصيبة بموته. (3) أي بما يشغلنا عنك. (4) قوله: لا قراءة ... إلى آخره، أقول: يحتمل أن يكون نفياً للمشروعية المطلقة، فيكون إشارة إلى الكراهة وبه صرح كثير من أصحابنا المتأخِّرين حيث قالوا: يُكره قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وقالوا: لو قرأها بنيَّة الدعاء لا بأس به، ويحتمل أن يكون نفياً للزومه، فلا يكون فيه نفي الجواز، وإليه مال حسن الشُّرُنْبُلالي من متأخري أصحابنا حيث صنف رسالة سمَّاها بـ"النظم المستطاب لحكم القراءة في صلاة الجنازة بأُم الكتاب" وردَّ فيها على من ذكر الكراهة بدلائل شافية وهذا هو الأَوْلى لثبوت ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فأخرج الشافعي عن جابر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبَّر على الميت أربعاً وقرأ بأمّ القرآن بعد التكبيرة الأولى، ورواه الحاكم من طريقه. وروى الترمذيّ وابن ماجه من حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. وفي إسناده إبراهيم بن عثمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   أبو شيبة الواسطي، وهو ضعيف جداً. وللبخاريّ والنَّسائي والترمذي والحاكم وابن حبان: أن ابن عباس قرأ في صلاة الجنازة بفاتحة الكتاب وقال: إنها سنة فهذا يؤيد رواية ابن أبي شيبة، ورواه أبو يعلى وزاد وسُورة، قال البيهقي: هذه الزيادة غير محفوظة، ولابن ماجه من حديث أمّ شريك: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وفي سنده ضعف يسير، كذا قال ابن حجر في "تخريج أحاديث شرح الوجيز" للرافعي. وأخرج عبد الرزاق والنسائي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: السنّة في صلاة الجنازة أن يكبِّر، ثم يقرأ بأمّ القرآن، ثم يصلِّي على النبي، ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا في الأُولى، قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" إسناده صحيح. وروى سعيد بن منصور وابن المنذر: كان ابن مسعود يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وعن مجاهد قال: سألت ثمانيةَ عشَرَ صحابياً، فقالوا: يقرأ، رواه الأثرم. ذكره الشُّرُنْبُلالي نقلاً عن أستاذه عن قاسم بن قطلوبغا، وممن كان لا يقرأ الفاتحة أبو هريرة كما يشهد له حديث أبي سعيد المقبري عنه، وابن عمر كما أخرجه مالك عن نافع. ونقل ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن عليّ وابن الزبير والمِسْوَر بن مخرمة مشروعيَّتها، ونقل ابن الضياء في "شرح المجمع" عن ابن بطَّال أنَّه نقل عدم القراءة عن علي وعمر وابن عمر وأبي هريرة، ومن التابعين عطاء وطاؤوس وابن المسيب وابن سيرين وابن جبير والشعبي والحكم وغيرهم، وبالجملة الأمر بين الصحابة مختلف ونفس القراءة ثابت فلا سبيل إلى الحكم بالكراهة بل غاية الأمر أن لا يكون لازماً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 عَنْهُ، اللَّهم لا تَحْرِمْنا (1) أَجْرَهُ (2) وَلا تَفْتِنَّا (3) بَعْدَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا قِرَاءَةَ (4) عَلَى الْجِنَازَةِ، وَهُوَ قَوْلُ (5) أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 311 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا صلَّى عَلَى جِنَازَةٍ سلَّم حَتَّى يُسمع مَنْ يَلِيهِ (6) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ، ويُسمع مَنْ يَلِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (7) رَحِمَهُ اللَّهُ. 312 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ إِذَا صُلِّيَتا (8) لِوَقْتِهِمَا (9) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لا بَأْسَ بِالصَّلاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي   (قال شيخنا في لامع الدراري 4/436: تأويل ما روى جابر من القراءة أنه كان قرأ على سبيل الثناء لا على سبيل القراءة، وذلك ليس بمكروه عندنا، وبسط فيه الآثار الدّالة على ترك القراءة في "الأوجز" فارجع إليه لو شئت التفصيل. وقال الطحاوي: ولعل من قرأ من الصحابة كان على وجه الدعاء لا على وجه القراءة، وقال ابن الهُمام: لا يقرأ الفاتحة إلاَّ بنية الثناء، ولم يثبت القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا قال القاري في "مرقاة المفاتيح" 4/47) . (5) وبه قال مالك، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق بلزومهما، واختار بعض الشافعية الاستحباب، كذا في "ضياء الساري". (6) أي من يَقْرَبُه من أهل الصفّ الأوَّل. (7) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مالك في رواية والأَوْزاعي وابن سيرين، وكذلك كان يفعل أبو هريرة، وكان علي وابن عباس وأبو أمامة وابن جبير والنَّخَعي يُسِرُّونه، وبه قال الشافعي ومالك في رواية، كذا قال الزرقاني. (8) قال الباجي: أي لوقت الصلاتين المختار، وهو في العصر إلى الاصفرار، وفي الصبح إلى الإِسفار. (9) قوله: لوقتهما، مقتضاه أنهما إذا أُخِّرتا إلى وقت الكراهة عنده لا يصلِّي عليها، ويبيِّن ذلك ما رواه مالك عن محمد بن أبي حرملة أن ابن عمر قال وقد أُتي بجنازة بعد صلاة الصبح بغَلَس: إمّا أن تُصَلّوا عليها وإما أن تتركوها حتى ترتفع الشمس. فكأنَّ ابن عمر كان يرى اختصاص الكراهة بما عند طلوع الشمس وعند غروبها، لا مطلق ما بين الصلاة وطلوع الشمس أو غروبها. وإلى قول ابن عمر في ذلك ذهب مالك والأوزاعي والكوفيون وأحمد وإسحاق، كذا في "فتح الباري". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 تَيْنِكَ (1) السَّاعَتَيْنِ مَا لَمْ تَطْلُعَ (2) الشَّمْسُ، أَوْ تتغيَّر الشمسُ بصُفْرة لِلْمَغِيبِ (3) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 7 - (بَابُ الصَّلاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ (4)) 313 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا صُلِّيَ (5) عَلَى عمر إلا في المسجد (6) .   (1) أي بعد الصبح وبعد العصر. (2) هذا إذا أحضرت الجنازة قبلهما، وأما إذا حضرت عندهما فيجوز الصلاة عليهما. (3) أي الغيبوبة والغروب. (4) أي المسجد الذي لم يُجعل لصلاتها. (5) قوله: مَا صُلِّيَ عَلَى عُمَرَ إلاَّ فِي الْمَسْجِدِ، به أخذ الشافعي (وأحمد، وكرهها الحنفية، ومالك في المشهور عنه. "الكوكب الدرّيّ" 2/187) وغيره، ويؤيِّدهم ما أخرجه ابن أبي شيبة أن عمر صلّى على أبي بكر في المسجد وأن صُهيباً صلَّى على عمر في المسجد، ووُضعت الجنازة تجاه المنبر. وأخرج مالك في "الموطأ" عن عائشة أنها أمرت أن يُمَرّ عليها بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد، لتدعو له، فأنكَر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع الناس؟ ما صلَّى رسولُ الله على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد، وفي رواية لمسلم: على ابني بيضاء سهيل وأخيه. وأخرج عبد الرزاق عن هشام بن عروة: أنه رأى رجالاً يخرجون من المسجد ليصلّوا على جنازة، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ والله ما صُلِّي على أبي بكر إلا في المسجد. (6) أي مسجد المدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يُصَلَّى (1) عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَلِكَ بَلَغَنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) . وَمَوْضِعُ الْجِنَازَةِ بِالْمَدِينَةِ خَارِجٌ (3) مِنَ الْمَسْجِدِ (4) وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلِّي على الجنازة فيه.   (1) أي كُرهَت الصلاة عليها فيه كراهة تحريم في رواية، وتنزيه في رواية وهو أولى. (2) قوله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: من صلّى على ميت في المسجد فلا شيء له. أخرجه أبو داود، ولفظ ابن ماجه: فليس له شيء، وفي سنده صالح مولى التَّوْأَمة تكلّموا فيه، وعدُّوا هذا الخبر من تفرُّداته وغرائبه كما بسطه الزيلعي وغيره، وذكر الطحاوي بعد إخراج حديث عائشة وحديث أبي هريرة ما محصَّله: أنه لما اختلفت الأخبار في ذلك رأينا هل يوجد هناك آخر الأمرين فرأينا أن الناس أنكروا على عائشة حين أمرت لإِدخال جنازة سعد في المسجد فدل ذلك على أنه صار مرتفعاً منسوخاً وفي المقام أبحاث وأنظار لا يتحمّلها المقام. (3) قوله: خارج من المسجد، قال قاسم بن قطلوبغا في فتاواه بعد نقل كلام محمد هذا: أفاد محمد أن عمل رسول الله كان على خلاف ما وقع من الصلاة على عمر، فيُحمل على أنه كان لعذر، وبه قال في "المحيط"، ولفظه: ولا تُقام فيه أي في المسجد غيرها إلا لعذر، وهذا تأويل الصلاة على عمر أنه كان لعذر، وهو خوف الفتنة والصدّ عن الدفن. انتهى. (4) يشير إلى أنه لو جازت الصلاة على الجنازة في المساجد لما احتيج إلى جعل مصلَّى على حِدَة لها خارج المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 8 - (بَابٌ يَحْمِلُ الرَّجُلُ الْمَيِّتَ أَوْ يحنِّطه أَوْ يُغَسِّلُهُ هَلْ يَنْقُضُ ذَلِكَ وُضُوءَهُ؟ (1)) 314 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أنَّ عمرَ حَنَّط (2) ابْنًا (3) لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وحَمَله (4) ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ (5) فصلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا وُضُوءَ (6) عَلَى مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً وَلا مَنْ حنَّط مَيِّتًا أَوْ كفَّنه أَوْ غَسَّلَهُ، وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله.   (1) أي وضوء الحامل ونحوه. (2) قوله: حنَّط، يقال: حنَّط الميت بالحَنوط تحنيطاً، والحَنوط - بفتح الحاء المهملة فنون -: أخلاطٌ من طيب تُجمع للميت خاصة، كذا قال القاري. (3) اسمه عبد الرحمن، ذكره ابن حجر في "الفتح". (4) أي حمل جنازته. (5) أي المسجد المعدّ للجنازة، أو مسجد المدينة وغيرهما. (6) قوله: لا وضوء .... إلى آخره، قال القاري: فما أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان عن أبي هريرة: "من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" محمول على الاحتياط أو على من لا يكون له طهارة ليكون مستعداً للصلاة. انتهى. أقول: الاحتمال الثاني مما يردّه صريح ألفاظ بعض الطرق فالأَوْلى هو الحمل على الندب (وهذا عند الجمهور منهم الأئمة الثلاثة في المرجَّح عنهم، وكذلك الحنفية خروجاً عن الخلاف، الكوكب الدّرّي 2/173) كما ذكرناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 9 - (بَابُ الرَّجُلِ تُدْرِكُهُ الصَّلاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ (1)) 315 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لا يصلِّي (2) الرَّجُلُ عَلَى جِنَازَةٍ إلاَّ وَهُوَ (3) طَاهِرٌ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ إلاَّ طَاهِرٌ، فَإِنْ فَاجَأَتْهُ (5) وَهُوَ عَلَى غَيْرِ طُهُورٍ (6) تَيَمَّمَ (7) ، وَصَلَّى عَلَيْهَا وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -.   (1) قوله: غير وضوء، اتفقوا على أنَّ من شرط صحة صلاة الجنازة الطهارة، وقال الشعبي ومحمد بن جرير الطبريّ: تجوز بغير طهارة، كذا ذكره القاري. (2) خبر بمعنى النهي، أو نهي على لغة. (3) قوله: إلاَّ وهو طاهر، لحديث: لا يقبل الله الصلاة بغير طهور. وسمَّى صلَّى الله عليه وسلّم الصلاة على الجنازة صلاةً في نحو قوله: صلوا على صاحبكم، وقوله في النجاشي: فصلّوا عليه. (4) أي من الحدث الأصغر والأكبر. (5) أي أدركته فجاءة. (6) إلاَّ الوليَّ ومن ينتظر له فيها، وهذا رواية الحسن عن أبي حنيفة، وفي "الهداية": هو الصحيح، وظاهر الرواية جوازُ التيمُّم للوليِّ أيضاً. (7) قوله: تيمم، أي إذا خاف فواتَها لو توضَّأ، وبه قال عطاء وسالم والزهري والنخعي وربيعة والليث، حكاه ابن المنذر. وهي رواية عن أحمد، وفيه حديث مرفوع عن ابن عباس رواه ابن عدي، وسنده ضعيف، ورُوي عن الحسن البصري أنه سئل عن الرجل في الجنازة على غير وضوء، فإن ذهب يتوضأ تفوته؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 10 - (بَابُ الصَّلاةِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَا يُدفن) 316 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بن المسيب (1) : أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى (2) النجاشيَّ (3) فِي الْيَوْمِ الَّذِي   قال: يتيمَّم ويصلِّي (قال ابن رُشد: اتفق الأكثر على أن من شرطها الطهارة كما اتفق جميعهم على أن من شرطها القبلة، واختلفوا في جواز التيمم لها إذا خيف فواتها، فقال قوم: يتيمم ويصلي لها إذا خاف الفوات وبه قال أبو حنيفة وسفيان والأوزاعي وجماعة، وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يصلي عليها بتيمُّم، بداية المجتهد 1/243) ، رواه سعيد بن منصور عن حماد بن زيد، عن كثير بن شنظير عنه، وروي عنه أنه قال: لا يتيمَّم ولا يصلّي إلاَّ على طهر، رواه ابن أبي شيبة عن حفص، عن الأشعث عنه، كذا في "فتح الباري". والحديث المرفوع الذي أشار إليه هو ما أخرجه ابن عدي من حديث اليمان بن سعيد عن وكيع، عن معافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا فاجأتك الجنازة وأنت على غير وضوء فتيمَّم، قال ابن عدي: هذا مرفوعاً غير محفوظ، والحديث موقوف على ابن عباس، وقال ابن الجوزي في "التحقيق": قال أحمد: مغيرة بن زياد ضعيف، حدَّث بأحاديث مناكير، وكل حديث رفعه فهو منكر، وقد أخرجه ابن أبي شيبة والطحاويُّ والنسائي في كتاب "الكنى" موقوفاً من قول ابن عباس، ذكره الزَّيْلَعي. (1) في نسخة عن أبي هريرة. (2) أخبر بموته. (3) قوله: نعى النجاشي (واختلفوا في أن النجاشي هذا، هو الذي أرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابه أو غيره؟ قال ابن القيم: بَعَثَ ستَّة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع فأولهم عمرو بن أمية الضَّمري بعثه إلى النجاشي فعظم كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم أسلم وصلى عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم مات بالمدينة وهو بالحبشة، انظر أوجز المسالك 4/217) ، هو من سادات التابعين أسلم ولم يهاجر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 مَاتَ فِيهِ، فَخَرَجَ بِهِمْ (1) إِلَى الْمُصَلَّى (2) ، فصفَّ (3) بهم وكبَّر عليه أربع تكبيرات.   وهاجر المسلمون إليه إلى الحبشة مرَّتين وهو يحسن إليهم، وأرسل إليه رسول الله عمرو بن أمية بكتابين: أحدهما: يدعوه فيه إلى الإِسلام، والثاني: يَطلب منه تزويجه بأمِّ حبيبة، فأخذ الكتاب ووضعه على عينيه وأسلم وزوَّجه أمَّ حبيبة، وأسلم على يده عمرو بن العاص قبل أن يصحب النبي صلّى الله عليه وسلّم فصار يُلغز به فيقال: صحابيٌّ كثيرُ الحديث أسلم على يد تابعي، كذا في "ضياء الساري". وفي "شرح القاري": النجاشيّ بفتح النون وتكسر وبتشديد التحتية في الآخر وتخفيف اسم لملك الحبشة كما يقال كسرى وقيصر لمن ملك الفرس والروم، وكان اسمه أصحمة، وكان نعيه في رجب سنة تسع. (1) أي بأصحابه. (2) قوله: إلى المصلى، مكان ببطحان، فقوله في رواية ابن ماجه: فخرج وأصحابه إلى البقيع أي بقيع بطحان، أو المراد بالمصلى موضع مُعَدّ للجنائز ببقيع الغرقد غير مصلى العيدين، والأول أظهر قاله الحافظ. وفي الصحيحين عن جابر: قال رسول الله: قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه. وللبخاري فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة. ولمسلم: مات عبد الله الصالح أصحمة، كذا في شرح الزرقاني. (3) قوله: فصف بهم، قال الزرقاني: فيه أن للصفوف تأثيراً ولو كثر الجمع لأن الظاهر أنه خرج معه صلّى الله عليه وسلّم عدد كثير والمصلى فضاء لا يضيق بهم لو صفّوا فيه صفاً واحداً ومع ذلك صفَّهم، وفيه الصلاة على الميت الغائب، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر السلف، وقال الحنفية والمالكية: لا تُشرع، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء وأنهم قالوا: ذلك خصوصية له صلّى الله عليه وسلّم، قال: ودلائل الخصوصية واضحة لأنه - والله أعلم - أحضر روحه أو رفعت جنازته حتى شاهدها، وقول ابن دقيق العيد: يحتاج إلى نقل، تُعُقِّب بأن الاحتمال كافٍ في مثل هذا من جهة المانع، ويؤيده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 317 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا أُمامة بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنيف، أَخْبَرَهُ (1) أنَّ مِسْكِينَةً (2) مَرِضت، فأُخبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرَضِهَا، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَسَاكِينَ وَيَسْأَلُ (3) عَنْهُمْ، قَالَ (4) : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: إذا ماتَتْ فآذنوني (5)   ما ذكره الواحدي بلا إسناد عن ابن عباس: كُشف للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه، ولابن حبان عن عمران بن حصين: فقاموا وصفّوا خلفه وهم لا يظنون إلاَّ أن جنازته بين يديه. ولأبي عوانة عن عمران: فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلاَّ أن الجنازة قُدَّامنا. وأُجيب أيضاً بأنَّ ذلك خاصٌّ بالنجاشي لإِشاعة أنه مات مسلماً إذ لم يأت في حديث صحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى على ميت غائب غيره، وأما حديث صلاته على معاوية بن معاوية الليثي فجاء من طرق لا تخلو من مقالٍ، وعلى تسليم صلاحيته للحجية بالنظر إلى جميع طرقه، دُفع بما ورد أنه رُفعت له الحُجُب حتى شاهد جنازته. (1) قوله: أخبره، قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في إرسال هذا الحديث، وقد وصله موسى بن محمد بن إبراهيم القرشي عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة، عن أبيه، وموسى متروك، وقد روى سفيان بن حسين، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة، عن أبيه أخرجه ابن أبي شيبة وهو حديث مسند متصل صحيح، وروي من وجوه كثيرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حديث أي هريرة، وعامر بن ربيعة، وابن عباس، وأنس. (2) وفي حديث أي هريرة: كانت امرأة سوداء تنقي المسجد من الأذى، وفي لفظ: تقُمُّ - مكان تنقي - أخرجه الشيخان وغيرهما. (3) لمزيد تواضعه وحُسن خُلُقه. (4) أي أبو أمامة. (5) أي فأعلموني بموتها أو بحضور جنازتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 بِهَا (1) ، قَالَ: فأُتي بِجِنَازَتِهَا لَيْلا (2) (3) ، فَكَرِهُوا (4) أنْ يُؤذنوا رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخبر (5) بِالَّذِي كَانَ (6) مِنْ شَأْنِهَا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ آمُرُكُمْ أَنْ تُؤْذِنُوْني؟ فَقَالُوا (7) : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرِهْنَا (8) أَنْ نخرجَك لَيْلا أَوْ (9) نُوقِظَكَ،   (1) بشهود جنازتها والاستغفار لها. (2) قوله: ليلاً، لجوازه (قال العيني: ذهب الحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة وأحمد في رواية إلى كراهة دفن الميت بالليل لرواية، وقال ابن حزم: لا يجوز أن يُدفن أحد ليلاً إلاَّ عَنْ ضرورة، وكل من دُفن ليلاً منه صلّى الله عليه وسلّم ومن أزواجه وأصحابه رضي الله عنهم، فإنَّما ذلك لضرورة أوْجبت ذلك ... وذهب النخعي والثوري وعطاء وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في الأصح وإسحاق وغيرهم إلى أن دفن الميت بالليل يجوز. اهـ. عمدة القاري 7/150) وإن كان الأفضل تأخيرها للنهار ليكثر من يحضرها من دون مشقَّة ولا تكلُّف. (3) ولابن أبي شيبة: فأَتَوْه ليؤذنوه فوجدوه نائماً وقد ذهب الليل. (4) قوله: فكرهوا، إجلالاً له لأنه كان لا يُوقَظ لأنه لا يُدرى ما يحدث له في نومه. زاد ابن أبي شيبة: وتخوَّفوا عليه ظلمَةَ الليل وهوامَّ الأرض. (5) لابن أبي شيبة: فلما أصبح سأل عنها. (6) أي موتها ودفنها. (7) في حديث بريدة عند البيهقي: أن الذي أجابه عن سؤاله أبو بكر. (8) قوله: كرهنا ... إلى آخره، زاد في حديث عامر بن ربيعة: فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فلا تفعلوا، ادعوني لجنائزكم، أخرجه ابن ماجه. وفي حديث يزيد بن ثابت قال: فلا تفعلوا، لا يموتَنَّ فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلاَّ آذنتموني به فإن صلاتي عليه له رحمة، أخرجه أحمد. (9) شكّ من الرواي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 قَالَ (1) : فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صفَّ بِالنَّاسِ عَلَى قَبْرِهَا فَصَلَّى على قبرها (2) فكبَّر أربع تكبيرات (3) .   (1) أي أبو أمامة. (2) قوله: فصلى على قبرها، قال الإِمام أحمد: رُويت الصلاة على القبر من النبي صلّى الله عليه وسلّم من ستة وجوه حسان. قال ابن عبد البر: بل من تسعة كلها حسان، وساقها كلها بأسانيده في"تمهيده" من حديث سهل بن حنيف، وأبي هريرة وعامر بن ربيعة، وابن عباس، وزيد بن ثابت الخمسة في صلاته على المسكينة، وسعد بن عبادة في صلاة المصطفى على أم سعد بعد دفنها بشهر، وحديث الحصين بن وَحْوَح صلاته صلّى الله عليه وسلّم على قبر طلحة بن البراء، وحديث أبي أمامة بن ثعلبة أنه صلّى الله عليه وسلّم رجع من بدر وقد تُوفيت أمُّ أبي أمامة فصلى عليها، وحديث أنس أنه صلى على امرأة بعد ما دُفنت، وهو محتمل للمسكينة وغيرها، وكذا ورد من حديث بريد عند البيهقي وسمّاها محجنة. (3) قوله: أربع تكبيرات، هو المأثور عن عمر والحسن والحسين وزيد ين ثابت وعبد الله بن أوفى وابن عمر وصهيب بن سنان وأبيّ بن كعب والبراء بن عازب وأبي هريرة وعقبة بن عامر، وهو مذهب محمد بن الحنفية والشَّعبيّ وعلقمة وعطاء بن أبي رباح وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن علي بن حسين والثوري وأكثر أهل الكوفة ومالك وأكثر أهل الحجاز والأَوْزاعي وأكثر أهل الشام والشافعي وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وغيرهم. وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم وحذيفة خمس تكبيرات، وروي عن علي ست تكبيرات، ورُوي عن زرِّ بن حبيش سبع، وروي عن أنس وجابر ثلاث تكبيرات، كذا في "الاعتبار" للحازمي - رحمه الله -. وقد اختلفت الأخبار المرفوعة في ذلك والأمر واسع، لكن ثبت من طرق كثيرة أن آخر ما كبَّر على الجنازة كان أربعاً. ولهذا أخذ به أكثر الصحابة، وروى محمد في "الآثار" عن النخعي أن الناس كانوا يصلون على الجنائز خمساً وستاً وأربعاً حتى قُبض النبيّ، ثم كبَّروا كذلك في ولاية أبي بكر، ثم وُلِّي عمر فقال لهم: إنكم معشرَ أصحاب محمد متى تختلفون يختلف الناس بعدكم، والناس حديثو عهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ التَّكْبِيرُ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ وَلا يَنْبَغِي (1) أَنْ يصلِّي (2) عَلَى جنازة قد صلِّي عليها (3) ، وليس (4)   بالجاهلية فأجمع رأيهم أن ينظروا آخر جنازةٍ كبَّر عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم فيأخذون به، ويرفضون ما سواه، فنظروا فوجدوا آخر ما كبر أربعاً (قال ابن عبد البر: انعقد الإِجماع بعد ذلك على أربع، أوجز المسالك 4/214) . (1) لأنَّ التنفُّل به غير مشروع. (2) أي أحد من آحاد الأمة. (3) قوله: قد صلِّي عليها، سواء كانت المرة الثانية على القبر أو خارجه. وقد اختلفوا في الصلاة على القبر، فقال بجوازها الجمهور، ومنهم الشافعي وأحمد وابن وهب وابن عبد الحكم ومالك في رواية شاذة. والمشهور عنه منعه، وبه قال أبو حنيفة والنخعي وجماعة، وعنهم إن دُفن قبل الصلاة شُرع وإلاَّ فلا، وأجابوا عن الحديث بأنه من خصائص النبي صلّى الله عليه وسلّم، وردّه ابن حبان بأنَّ تركَ إنكاره على من صلّى معه على القبر دليل على أنه ليس خاصاً به، وتُعُقِّب بأنَّ الذي يقع بالتبعيَّة لا ينهض دليلاً للأصالة، كذا قال ابن عبد البر والزرقاني والعيني وغيرهم، والكلام في هذه المسألة، وفي تكرار الصلاة على الجنازة، وفي الصلاة على الغائب موضع أنظار وأبحاث لا يتحمَّلها المقام. (4) قوله: وليس .... إلى آخره، لمّا ورد على ما ذكره بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد صلّى على من صُلِّي عليه أجاب بما حاصله: أنه من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن صلاته على أمته بركة وطهور كما يفيده ما ورد في صحيح مسلم وابن حبان، فصلى على القبر ثم قال: إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمة على أهلها وإنَّ الله ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم. وفي حديث زيد، فإن صلاتي عليه رحمة. وهذا لا يتحقق في غيره كما أنه صلّى على النجاشي مع أنه قد صُلّي عليه في بلده ومع غيبوبة الجنازة. والكلام بعدُ موضع نظر فإن إثبات الاختصاص أمر عسير، واحتماله وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا كَغَيْرِهِ (1) ، أَلا يُرى أَنَّهُ صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ مَاتَ (2) بِالْحَبَشَةِ. فَصَلاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَكَةٌ (3) وَطَهُورٌ فَلَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 11 - (بَابُ مَا رُوِيَ أَنَّ الْمَيِّتَ يعذَّب (4) بِبُكَاءِ الْحَيِّ) 318 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لا تَبْكوا (5) عَلَى مَوْتَاكُمْ، فإنَّ الْمَيِّتَ يُعذَّب (6) بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. 319 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (7) ، عَنْ أَبِيهِ   كان كافياً في مقام المنع، لكن لا ينفع في مقام تحقيق المذهب (انظر أوجز المسالك 4/223) . (1) بل له خصوصيات. (2) ولا شك أنه صُلِّي عليه هناك. (3) أي كثيرة الخير. (4) في القبر. (5) أي بطريق النياحة وإلاَّ فأصل البكاء من الرحمة. (6) قوله: يُعذّب، قال النووي: تأوّله الجمهور على من أوصى أن يُبكى عليه ويناح بعد موته، فنُفِّذت وصيّته، وقالت طائفة: معناه أنه يُعذَّب بسماع بكاء أهله ويرقّ لهم، وإليه ذهب جرير، ورجَّحه عياض، وقالت عائشة: معناه أنَّ الكافر يُعذَّب في حال بكاء أهله بذنبه لا ببكائه، قال: والصحيح قول الجمهور. (7) ابن محمد بن عمر بن حزم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 عَنْ عَمْرة (1) ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (2) أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا زوجَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم و (3) ذُكر (4) لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ (5) : أَنَّ الْمَيِّتَ (6) يُعذَّب بِبُكَاءِ الْحَيِّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ:   (1) كانت في حجر عائشة، ماتت قبل مائةٍ أو بعدها، كذا قال السيوطي. (2) ابن سعد بن زرارة. (3) أي والحال أنه قد ذُكر لعائشة. (4) قوله: وذُكر، زاد ابن عوانة أن ابن عمر لمّا مات رافع بن خديج قال لهم: لا تبكوا عليه، فإن بكاء الحيّ على الميت عذاب على الميت، قالت عَمْرة: فسألت عائشة عن ذلك فقالت يرحمه الله إنّما مرّ ... الحديث (انظر عمدة القاري 8/82 ولامع الدراري 4/409) . (5) أي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما في الصحيحين من طريق ابن أبي مُلَيكة عن ابن عمر. (6) قوله: إن الميت يعذَّب ببكاء الحيّ، اختلفوا فيه على أقوال: فمنهم من حمله على ظاهره، وإليه مال ابن عمر كما رواه عبد الرزاق أنه شهد جنازة رافع بن خديج فقال لأهله: إن رافعاً شيخ كبير، لا طاقة له بالعذاب، وإن الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه، وهو ظاهر صنيع عمر، حيث منع صهيباً لما قال وا أخاه عند إصابته، وقال: أما علمت أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الميت ليُعذَّب ببكاء الحيّ. ومنهم من أنكره مطلقاً كما روى أبو يعلى عن أبي هريرة والله لأن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد فعَمِدَتْ امرأتُه سَفَهاً وجهلاً فبكت عليه أيُعذَّب هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة؟ وقالت: طائفة: إن الباء للحال أي إنّ مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله لا بسببه، ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقال جمع: إنَّ الحديث ورد في معهود معين كما تدل عليه رواية عمرة عن عائشة، وقال جمع: إنه مختَصّ بالكافر لرواية ابن عباس عن عائشة عند البخاري وغيره: والله ما حدَّث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 يَغْفِرُ (1) اللَّهُ لابْنِ عُمَرَ، أمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِب (2) ، وَلَكِنَّهُ قَدْ نَسِيَ (3) أَوْ أَخْطَأَ (4) ، إِنَّمَا مرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِنَازَةٍ (5) يُبكى عَلَيْهَا، فَقَالَ: إِنَّهُمْ ليَبْكون عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لتُعذَّب (6) فِي قَبْرِهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا نَأْخُذُ (7) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 12 - (بَابٌ الْقَبْرُ يُتّخذ مَسْجِدًا أَوْ يُصلّى (8) إِلَيْهِ أَوْ يُتوسَّد) 320 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيّب،   رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، وقيل: معنى التعذيب توبيخ الملائكة بما يندبه، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً: الميت يعذَّب ببكاء الحي إذا قالت النائحة وا عضداه وا ناصراه، جُبذ الميت، وقيل له أنت عضدها، أنت ناصرها. وروى نحوه ابن ماجه والترمذي، وهو قول حسن مفسّر، وهناك أقوالٌ أخَرٌ مبسوطةٌ في "فتح الباري"، وغيره. (1) أي يسامحه فيما ذَكر. (2) أي في نقله. (3) أي سبب وروده. (4) في تأويله وحمل الحديث على عمومه. (5) وليحيى: على يهودية. (6) أي بذنبها ولم ينفعها بكاؤهم عليه. (7) أي فإنه مطابق لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (سورة الأنعام: الآية 164) . (8) بأن يكون القبر أمامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَاتَلَ (1) اللهُ اليهودَ اتَّخَذُوا قبورَ (2) أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. 321 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، قَالَ: بَلَغَنِي (3) أنَّ عليَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنه كان يتوسَّدُ (4) عليها   (1) أي قتلهم أو لعنهم أو عاداهم، قوله: قاتل الله، المعنى أنهم كانوا يسجدون إلى قبورهم ويتعبَّدون في حضورهم، لكنْ لمّا كان هذا بظاهره يشابه عبادة الأوثان استحقوا أن يُقال قاتلهم الله، وقيل: معناه النهي عن السجود على قبور الأنبياء، وقيل: النهي عن اتخاذها قِبلةً يصلّى إليها. (2) قوله: قبور أنبيائهم، ورد في سنن النسائي أن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنَوْا على قبره مسجداً، قال البيضاوي: لمّا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً بشأنهم (هكذا في الأصل، والصواب: "لشأنهم") يجعلونه قِبلةً يتوجَّهون إليها في الصلاة ونحوها واتخذوها أوثاناً، لعنهم ومنع المسلمين من ذلك، فأما من اتّخذ مسجداً في جوار صالح لقصد التبرُّك لا التعظيم له (قلت: قوله لا التعظيم له: يقال اتخاذ المساجد بقربه وقصد التبرك به تعظيم له، انظر سبل السلام 1/153) ولا التوجُّه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد، كذا في "زهر المجتبى"للسيوطي. (3) بلاغه صحيح، وقد أخرجه الطحاوي برجال ثقات عن علي، وفي البخاري عن نافع: كان ابن عمر يجلس على القبور. (4) قوله: كان يتوسَّدُ عليها، دلّ فعل عليّ على جوازه إذ لا مهانة فيه للقبر وصاحبه ورُوي أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً متكياً على قبر، فقال: لا تؤذِ صاحب القبر، كذا في "النهاية"، فالنهي للتنزيه، وعَمَل عليّ محمول على الرخصة إذا لم يكن على وجه الإِهانة، كذا قال القاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 ويضطجع (1) عليها. قال بشر: يعني (2) القبور.   (1) قوله: ويضطجع عليها، ورد في صحيح مسلم وغيره عن أبي مَرثد الغَنَوي مرفوعاً: لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها، وعن أبي هريرة مرفوعاً: لأن يَقعد أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر. وأخرج أحمد عن عمرو بن حزم مرفوعاً: لا تقعدوا على القبور. وبهذه الأخبار وأمثالها أخذ الشافعي والجمهور فقالوا بحرمة الجلوس على القبر أو كراهته، ذكره النووي وغيره، وذكر الطحاوي - بعد ما أخرج الروايات السابقة - عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن النهي عن الجلوس محمول على الجلوس للتغوُّط ونحوه وأما لغير ذلك فلا، وأيّده بما ساقه بإسناده إلى زيد بن ثابت أنه قال: إنما نهى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عن الجلوس على القبور لحَدَثٍ غائط أو بول. ثم أخرج عن أبي هريرة مرفوعاً: من جلس على قبر يبول عليه أو يتغوَّط فكأنما جلس على جمرة نار، ثم أخرج عن عليّ أنه اضطجع على القبر، وعن ابن عمر أنه كان يجلس على القبور. وهذا التأويل الذي ذكره من حمل أخبار النهي على الجلوس لحَدَثٍ قد ذكره مالك أيضاً ظنّاً، وتعقَّبوه بأنه تأويل ضعيف أو باطل لا دلالة عليه في الحديث، وأُجيب بأن ما ذكره قد ثبت عن زيد بن ثابت، والصحابةُ أعلم بموارد النصوص، والذي يظهر بالنظر الغائر أنّ أكثر أخبار النهي مطلقة، لا دلالة فيه على فرد، وما نقل عن زيد يخالفه ما أخرجه أحمد من حديث عمرو بن حزم: رآني النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا متَّكئ على قبر فقال: لا تؤذِ صاحب القبر، وسنده صحيح، فإنَّه صريح في أن العلة للنهي هو تأذِّي الميت، غاية ما في الباب أن يكون الجلوس لحدثٍ أشد وأغلظ، والجلوس لغيره والتوسّد ونحوه أخف (الأَوْلى أن يُحمل من هذه الأحاديث ما فيه التغليظ على الجلوس للحدث فإنه يحرم وما لا تغليظ فيه على الجلوس المطلق فإنه مكروه، وهذا التفصيل حسن، قاله أبو الطيب، كذا في الكوكب الدرّي 2/196) ، وأما فعل عليّ وابن عمر فيُحمل على بيان الجواز. (2) أي يريد بضمير عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 (كِتَابُ الزَّكَاةِ (1)) 1 - (بَابُ زَكَاةِ الْمَالِ) 322 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (2) الزُّهري، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يقول: هذا (3) شهر   (1) قوله: الزكاة، هو لغة النماء والتطهير، وشرعاً إعطاء جزء من النصاب الحَوْلي إلى فقير ونحوه، وفُرضت بعد الهجرة، فقيل: في السنة الثانية، وقيل: في الأُوْلى، وجزم ابن الأثير بأنه في التاسعة، وادعى ابن حزم أنه قبل الهجرة، وفيهما نظر بيّنه في "فتح الباري" (راجع للتفصيل فتح الباري 3/211) . (2) في نسخة: أخبرني. (3) قوله: هذا شهر، قيل: الإِشارة لرجب وإنه محمول على أنه كان تمام حول المال، لكنه يحتاج إلى نقل، ففي رواية البيهقي عن الزهري: ولم يسمِّ لي السائب الشهر، ولم أسأله عنه، كذا في "شرح الزرقاني"، وفي "شرح القاري": هذا إشارة إلى أحد الأشهر المعروفة عندهم، أو إلى شهر فرض فيه. انتهى. وفي "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" للحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الشهير بابن رجب الدمشقي الحنبلي المحدث: قد اعتاد أهل هذه البلاد إخراج الزكاة في شهر رجب، ولا أصل لذلك في السُّنَّة ولا عُرف عن أحد من السلف، ولكن روي عن عثمان أنه خطب الناس على المنبر، فقال: إن هذا شهرُ زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه، وليزكِّ ما بقي، خرَّجه مالك، وقد قيل: إن ذلك الشهر الذي كانوا يُخرجون فيه زكاتهم (كما في لطائف المعارف ص 125، وفي الأصل: "زكاته"، وهو تحريف) نُسي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 زَكَاتِكُمْ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْن فليؤدِّ دَيْنه حَتَّى تُحَصَّلَ (1) أَمْوَالُكُمْ فَتُؤَدُّوا مِنْهَا (2) الزَّكَاةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْن وَلَهُ مَالٌ فَلْيَدْفَعْ دَيْنه مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ (3) مَا (4) تجبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَفِيهِ زَكَاةٌ، وَتِلْكَ (5) مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرُونَ مثقالاً ذهباً فصاعداً، وإن كان الذي   فلم يُعرف، وقيل: بل كان شهر المحرم لأنه رأس الحول، وقيل: بل كان شهر رمضان لفضله وفضل الصدقة فيه، وروى يزيد الرقاشي عن أنس أن المسلمين كانوا يُخرجون زكاتهم في شعبان تقويةً على الاستعداد لرمضان، وفي الإِسناد ضعف. انتهى كلامه ملخَّصاً. (1) لأن ما قابل الدَّيْن لا زكاة فيه. (2) أي مما يحصل بعد أداء الدَّيْن. (3) أي أداء الدَّيْن. (4) أي بقدر النصاب من الذهب أو الفضة أو غيرهما. (5) أي القدر الذي تجب الزكاة فيه، قوله: وتلك مائتا درهم إلى آخره، لما أخرجه أبو داود من طريق عاصم والحارث عن علي مرفوعاً: إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى يكون عشرون ديناراً فإذا كانت لك عشرون ديناراً، وحال الحول، ففيها نصف دينار فما زاد فبحسابه. وفيه الحارث الأعور ضعيف. لكن تابعه عاصم، ووثقه ابن معين والنسائي، فالحديث حسن، ورواه شعبة وسفيان وغيرهما من طريق عاصم موقوفاً على علي، كذا ذكره الزيلعي. وقد ثبت تقدير نصاب الفضة بمائتي درهم من حديث جماعة من الصحابة عند الدارقطني والبزّار وعبد الرزاق وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 بَقِيَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ (1) ، بَعْدَ مَا يَدفع مِنْ مَالِهِ الدَّيْن فَلَيْسَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 323 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ (2) بْنُ خُصيفة أَنَّهُ سَأَلَ سُلَيْمَانَ (3) بْنَ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ مثلُه من الدَّيْن أعليه (4) الزَّكَاةُ؟ فَقَالَ: لا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وهو قول (5) أبي حنيفة رحمه الله. 2 - (باب ما (6) يجب فيه الزَّكَاةِ) 324 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا محمَّدُ (7) بنُ عَبْدِ الله بنِ   (1) أي من القدر الذي يجب فيه الزكاة. (2) قوله: يزيد، هو يزيد بن عبد الله بن خُصَيفة بن عبد الله بن يزيد الكندي المدني ثقة من رجال الجميع، وقد يُنسب إلى جده وهو خُصَيفة بصيغة التصغير، كذا في التقريب، وغيره. (3) أحد الفقهاء. (4) بهمزة الاستفهام أي هل يجب عليه؟ (5) وبه قال الشافعي ومالك، وللشافعي في رواية: أن الدَّيْن لا يمنع الزكاة، ذكره الزرقاني. (6) أي ذِكر مقداره. (7) هو أبو عبد الله الأنصاري المازني، ثقة، مات سنة 139 كذا في "الإِسعاف" قوله: محمد بن عبد الله .... إلى آخره، هكذا ليحيى وجماعة من رواة "الموطأ" فنسب محمداً لأبيه وجده لجده لأنه عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، وفي رواية التنّيسي عن مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ (1) ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خمسةِ (2) أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ (3) صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خمسِ (4) أَوَاقٍ مِنَ الوَرْقِ (5) صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ ذَوْدٍ (6) من الإِبل صدقة.   أبي صعصعة فنسب محمداً إلى جده وجدَّه إلى جده، وَزعْمُ ابن عبد البر أن حديث محمد عن أبيه خطأ في الإِسناد، وإنما هو محفوظ من حديث يحيى بن عمارة، عن أبي سعيد مردود بنقل البيهقي عن محمد بن يحيى الذهلي أن الطريقين محفوظان، كذا في "شرح الزرقاني". (1) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، وثقه النسائي، كذا في "الإِسعاف". (2) قوله: خمسة أَوسُق، بفتح الألف وضم السين، جمع وَسق، بفتح الواو أشهر من كسرها، وأصله في اللغة الحمل، والمراد به ستون صاعاً، قاله السيوطي. (3) قال ابن عبد البر: كأنه جواب لسؤال سائل سأله عن نصاب زكاة التمر فلا يمنع الزكاة في غيره من الثمار. (4) قوله: خمس أواق، يقال: أواقي، بتشديد الياء وتخفيفها، جمع أُوقيَّة بضم الهمزة وتشديد الياء وهي أربعون درهماً، ويقال: أواق بحذف الياء، كذا في "التنوير". (5) قوله: من الورق، بكسر الراء وإسكانها وهي ههنا الفضة، مضروبها وغيره، واختلف أهل اللغة في أصله، فقيل يُطلق في الأصل على جميع الفضة وقيل هو حقيقة للمضروب دراهم، كذا في "التنوير". (6) قوله: خمس ذَوْد، بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها دال مهملة، هو من الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه، ويقال في الواحد: بعير، هذا قول الأكثر، وقال أبو عبيد: من الثنتين إلى العشرة قال: وهو مختص بالإِناث، وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَأْخُذُ بِذَلِكَ إلاَّ فِي خَصْلَةٍ (1) وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهُ (2) كان يقول:   سيبويه: تقول ثلاث ذود لأن الذود مؤنث، وحُكي فيه الإِضافة والتنوين على البدل من خمس، والأول أشهر وهو كقولك خمس أبعرة وخمسة جمال، وخمس نوق وخمس نسوة، كذا في "ضياء الساري". (1) أي مسألة منفردة. (2) قوله: فإنه كان يقول ... إلى آخره، لا خلاف بينه وبين غيره من الأئمة في تقدير نصاب الإِبل والغنم وغيرهما من السوائم بما ورد في الأحاديث، وكذا في تقدير نصاب الذهب والفضة، وإنما وقع الخلاف في تقدير نصاب الحبوب والثمار، فعند الشافعي وأبي يوسف ومحمد والجمهور نصابها خمسة أوسق، فلا شيء في ما دونها لورود ذلك من حديث أبي سعيد وجابر وابن عمر وعمرو بن حزم وغيرهم، كما أخرجه الطحاوي والبخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، ولعل الحق يدور حوله، وخالفهم في ذلك جماعة من التابعين، فقالوا: في ما أخرجت الأرض العشر أو نصف العشر من غير تفصيل بين أن يكون قدر خمسة أوسق أو أقل أو أكثر، منهم أبو حنيفة، ومنهم عمر بن عبد العزيز فإنه قال: في ما أنبتت الأرض من قليل أو كثير العشر، أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة. وأخرج عن مجاهد والنَّخَعي نحوه. واستدلوا لهم بما أخرجه البخاري عن ابن عمر مرفوعاً: في ما سقت السماءُ والعيونُ أو كان عثريّاً (هو بفتح العين المهملة وفتح الثاء المثلَّثة وكسر الراء وتشديد التحتانية، قال الخطابي: هو الذي يَشرب بعروقه من غير سقي. انظر نيل الأوطار 2/149) العُشْرُ، وفي ما سُقي بالنضح نصف العشر. ولفظ أبي داود: في ما سقت السماءُ والأنهارُ والعيون أو كان بعلاً (البعل: بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة وروي بضمها. قال في "القاموس": البعل الأرض المرتفعة تمطر في السنة مرة. وكل نخل وزرع لا يُسقى أو ما سقته السماء. نيل الأوطار 2/149) العشر وفي ما سُقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 فِيمَا أَخْرَجَتِ (1) الأَرْضُ العُشْرُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، إِنْ كَانَتْ تُشْرَبُ سَيْحًا (2) أَوْ تَسْقِيهَا السماء، وإن كانت تُشْرَبُ بغَرب (3)   بالسواني أو النضح نصفُ العشر. وفي صحيح مسلم عن جابر مرفوعاً: في ما سقته الأنهار والغيم العُشر وفي ما سُقي بالسانية نصف العشر. وفي سنن ابن ماجه عن معاذ: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن فأمرني أن آخذ مما سقت السماءُ وما سُقي بعلاً العشر، وما سُقي بالدوالي نصف بالعشر. وأُورد بأن هذه الأخبار مبهمة والأُولى مفسِّرة، والزيادة من الثقة مقبولة، فيجب حملُ المبهم على المفسَّر، وأجيب عنه بأنه إذا ورد حديثان متعارضان أحدهما عامّ والآخر خاصّ فإن عُلم تقدُّم العام على الخاصّ خُصَّ بالخاص، وإن علم تقدم الخاص كان العام ناسخاً له في ما تناولاه وإن لم يعلم التاريخ يجعل العام متأخِّراً لما فيه من الاحتياط، وههنا الأخبار الأول خاصة والثانية عامة ولم يُعلم التاريخ فنجعل الثانية مؤخَّرة ويعمل بها، كذا قرَّره السغناقي والزيلعي وغيرهما، ومنهم من احتج بما روى أبو مطيع البلخي عن أبي حنيفة عن أبان بن أبي عيّاش، عن رجل، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: في ما سقت السماء العشر، وفي ما سُقي بنضح أو غرب نصفُ العشر في قليله وكثيره، وهو إسناد لا يساوي شيئاً فإن أبان ضعيف جداً، وأبو مطيع قال ابن معين: ليس بشيء، وقال أحمد: لا ينبغي أن يُروى عنه، وقال أبو داود: تركوا حديثه، كذا قال ابن الجوزي في "التحقيق"، وهو كما قال فإن أبا مطيع البلخي واسمه الحكم بن عبد الله تلميذ الإِمام أبي حنيفة وإن كان من أجلَّة الفقهاء لكنه مجروح في الرواية كما بسطته في كتابي "الفوائد البهيَّة في تراجم الحنفية". (1) ولو كان من الخضروات. (2) أي العين الجارية على وجه الأرض. (3) بفتح العين المعجمة، أي دلو كبير، كذا في "المصباح". وفي معناه الدلو الصغير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 أَوْ دَالِيَةٍ (1) فنصفُ عُشر، وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي (2) وَمُجَاهِدٍ (3) . 3 - (بَابُ الْمَالِ مَتَى تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ) 325 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (4) قَالَ: لا تجبُ فِي مالٍ (5) زكاةٌ حتى يَحولَ (6) عليه الحَوْل.   (1) دولاب تديره البقر أو غيره. (2) فإنه قال في كل شيء أخرجت الأرض الصدقة، أخرجه الطحاوي. (3) قوله: ومجاهد، فإنه قال لمّا سُئل عنه: في ما قلَّ أو كثر العشر أو نصف العشر، أخرجه الطحاوي. (4) قوله: عن ابن عمر، قال ابن عبد البر: قد رُوي هذا مرفوعاً من حديث عائشة. قال السيوطي: أخرجه ابن ماجه، وفي شرح الزرقاني: أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"، من طريق عبيد الله بن عبد الله عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول، وفي إسناده بقية بن الوليد مدلس، وقد رواه بالعنعنة عن إسماعيل بن عياش، عن عبيد الله، وإسماعيل ضعيف في غير الشاميين، قال الدارقطني: والصحيح وقفه كما في "الموطأ". وقد أخرجه الدارقطني في "الغرائب" مرفوعاً، وضعَّفه. وأخرجه أيضاً من حديث أنس وضعفه، وأخرجه ابن ماجه من حديث عائشة. لكنَّ الإِجماع عليه أغنى عن إسناده. (5) أي من الأموال الزكوية. (6) قوله: حتى يحول عليه الحول، روى البيهقي عن أبي بكر وعلي وعائشة موقوفاً عليهم مثل ما رُوي عن ابن عمر، وروى الترمذي والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعاً: من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول، عبد الرحمن ضعيف، قال الترمذي: والصحيح عن ابن عمر موقوفاً، وكذا قال البيهقي وابن الجوزي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، إلاَّ أَنْ يَكْتِسَبَ (1) مَالا فَيَجْمَعُهُ (2) إِلَى مالٍ عِنْدَهُ مِمَّا يُزكَّى، فَإِذَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي الأَوَّلِ زَكَّى الثَّانِي (3) مَعَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعي رَحِمَهُمَا الله تعالى.   وغيرهما، قال البيهقي: الاعتماد في هذا على الآثار عن أبي بكر وغيره، قلت: حديث عليّ الذي أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي لا بأس بإسناده والآثار تعضده، فتصلح للحجّية، كذا في "تخريج أحاديث الرافعي" لابن حجر. (1) أي إذا كان من جنس ما عنده، وإن لم يكن من جنسه يَستأنف له الحساب من ذلك الوقت، ولا يَجمع، ذَكَره العيني وغيره. (2) أي فيضمُّه، قوله: فيجمعه ... إلى آخره، وقال الشافعي وأحمد: لا يضم لحديث: من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول، أخرجه الترمذي وغيره. وقال أصحابنا: هو حديث ضعيف وعلى تسليم ثبوته فعمومه ليس مراداً للاتفاق على خروج الأرباح والأولاد، فعلَّلنا بالمجانسة، فقلنا: إنما أخرج الأولاد والأرباح للمجانسة لا للتولد، فيجب أن يُخرج المُستفاد (المستفاد على نوعين: الأول أن يكون من جنسه، والثاني أن يكون من غير جنسه كما إذا كان له إبل فاستفاد بقراً فلا يُضمُّ إلى الذي عنده بالاتفاق، والأول على نوعين: أحدهما أن يكون المستفاد من الأصل كالأولاد والأرباح فيُضمُّ بالإِجماع، والثاني أن يكون مستفاداً بسبب مقصود كالشراء فإنه يُضمُّ عندنا. الكوكب الدّرّي 2/14. وانظر البحث الشافي في البدائع 2/13، والمغني 2/496 وما بعدها) إذا كان من جنسه، وهو أدفع للحرج على أصحاب الحِرَف الذين يجدون كل يوم درهماً فأكثر وأقل، فإن في اعتبار الحول لكل مستفاد حرجاً عظيماً، وهو مدفوعٌ بالنص، كذا قرَّره ابن الهُمام وغيره، وذكر العينيُّ أن مذهبنا في هذا الباب هو قول عثمان وابن عباس والحسن البصري والثوري والحسن بن صالح وهو قول مالك في السائمة. (3) فمن كان عنده مائتا درهم في أول الحول وقد حصل في وسطه مائة درهم مثلاً يُضمُّ إلى المائتين، ويُعطي زكاة الكل عند حَوَلان الحول على الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 4 - (بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الدَّيْن هَلْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ) 326 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ (1) بْنُ عُقْبَةَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ (2) عَنْ مكاتَبٍ لَهُ قَاطَعَهُ (3) بِمَالٍ عَظِيمٍ؟ قَالَ (4) : قُلْتُ: هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ؟ قَالَ الْقَاسِمُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ (5) لا يأخُذُ مِنْ مالٍ صَدَقَةً حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، قَالَ الْقَاسِمُ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَعْطَى الناسَ أَعْطِياتِهم (6) يَسْأَلُ (7) الرَّجُلَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ مالٍ (8) قد وجبت فيه   (1) هو أخو موسى بن عقبة المدني، ثقة، كذا في "التقريب". (2) أي ابن أبي بكر الصدِّيق. (3) قوله: قاطعه، قال أبو عمر: معنى مقاطعة المكاتب أخذ مال معجَّل منه دون ما كوتب عليه ليعجل عتقه (شرح الزرقاني 2/96) . (4) أي السائل. (5) قوله: كان لا يأخذ ... إلى آخره، أي والمقاطعة فائدة لا زكاة فيها حتى يمر عليها عند مستفيدها الحول. (6) أي أرزاقهم وعطياتهم (أعطياتهم جمع عطايا جمع عطية، قاله الزرقاني. وقال الباجي: في اللغة اسم لما يعطيه الإنسان غيرَه على أيِّ وجه كان إلاَّ أنه في الشرع واقع على ما يُعطيه الإِمام من بيت المال على سبيل الأرزاق. أوجز المسالك 5/247) . (7) وفي نسخة: سأل. (8) بأن كان نصاباً مرَّ عليه الحول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الزَّكَاةُ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، أَخَذَ مِنْ عَطَائِهِ زكاةَ ذَلِكَ الْمَالِ، وَإِنْ قَالَ لا، سلَّم (1) إِلَيْهِ عَطَاءَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 327 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ (2) بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ عَائِشَةَ (3) بِنْتِ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، عَنْ أَبِيهَا (4) قَالَ: كُنْتُ إِذَا قبضتُ (5) عَطَائِي مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ سَأَلَنِي هَلْ عِنْدَكَ مالٌ وَجَبَ عَلَيْكَ فِيهِ الزَّكَاةُ؟ فَإِنْ قُلْتُ: نَعَمْ، أَخَذَ مِنْ عَطَائِي زَكَاةَ ذَلِكَ الْمَالِ وإلاَّ دَفَعَ (6) إليَّ عَطَائِي.   (1) أي لم يأخذ منه شيئاً كما ليحيى. (2) قوله: عمر بن حسين، ثقة، روى له مسلم والترمذي، وهو عمر بن حسين بن عبد الله الجُمَحي، مولاهم، أبو قدامة المكي، كذا في "التقريب". (3) قوله: عائشة، القُرَشية الجُمَحية الصحابية هي وأمها ريطة بنت سفيان، من المبايِعات، كذا في "الاستيعاب". (4) قوله: عن أبيها، قُدامة بضم القاف ابن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جُمَح القرشي الجُمَحي، خال عبد الله وحفصة ابنَيْ عمر بن الخطاب، هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان بن مظعون وعبد الله بن مظعون، ثم شهد بدراً وسائر المشاهد، وتوفي سنة ست وثلاثين، كذا في "الاستيعاب". (5) أي أيام خلافته. (6) قوله: وإلاَّ دفع إليّ عطائي، في سؤاله كأبي بكر وقولهما: وإن قلت: لا إلخ: دليلٌ على تصديق الناس في أموالهم التي فيها الزكاة، وجواز إخراج زكاة المال من غيره، ولا مخالف لهما إذا كان من جنسه، فإن كان ذهباً عن فضة أو عكسه فخلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 5 - (بَابُ زَكَاةِ (1) الحُلِيّ (2)) 328 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَاسِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَلِي بَنَاتَ أَخِيهَا (3) يَتَامَى فِي حِجْرها،   (شرح الزرقاني 2/97) . (1) قوله : باب زكاة الحُليّ، اختلفوا فيه، فمذهب مالك وأحمد في رواية وإسحاق والشافعي أنه لا زكاة في الحلي، ومذهبنا وجوب الزكاة فيه، وهو مذهب عمر وابن عمر وابن عمرو وأبي موسى وابن جبير وعطاء وعبد الله بن شداد وطاوس وابن سيرين ومجاهد والضحاك وجابر بن يزيد وعلقمة والأسود وعمر بن عبد العزيز والثوري والزهري، وهو قول عائشة وأم سلمة وفاطمة بنت قيس، كذا ذكره العيني. وقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يقول: خمسة من الصحابة كانوا لا يَرَوْنَ في الحُلِيّ زكاةً: أنس بن مالك وجابر وابن عمر وعائشة وأسماء، كذا نقله الزيلعي. أما أثر عائشة (وقد ثبت مذهب عائشة رضي الله عنها بخلاف هذا الأثر فإنها رُويت عنها مرفوعاً وموقوفاً الزكاةُ في الحلي، وبسطت الروايات عنها في الأوجز 5/281) فسيأتي في الكتاب، وحمله أصحابنا على أنها إنما لم تخرج الزكاة من حلي بنات أخيها لأنه لا زكاة في مال الصبي. لا لأنه ليس في الحليِّ زكاة وأما أثر ابن عمر فسيأتي في الكتاب أيضا وحمله أصحابنا على أنه لا زكاة في مال الصبي. وأما عدم أدائه الزكاة من حلي جواريه فيُحمل على أن ابن عمر كان يرى أن المملوك يملك، ولا زكاة عليه. وأما أثر أنس فأخرجه الدارقطني عن علي بن سليمان أنه سأله عن الحلي؟ فقال: ليس فيه زكاة. وأما أثر جابر فأخرجه الشافعي ثم البيهقي عن عمرو بن دينار، قال سمعت ابن خالد يسأل جابراً عن الحلي أفيه زكاة؟ فقال: لا. وأما أثر أسماء فأخرجه الدارقطني أنها كانت تحلِّي بناتها الذهب ولا تزكِّيه. (2) بضم الحاء ويُكْسَر، فكسر اللام وتشديد الياء. وبفتح الحاء فسكون. (3) أي لأبيها محمد بن أبي بكر، قاله الباجي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 لَهُنَّ (1) حُلِيّ (2) ، فَلا تُخرج مِنْ حُلِيِّهنّ الزَّكَاةَ. 329 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَلِّي (3) بناتِهِ وَجَوَارِيهِ فَلا يُخرج مِنْ حُلِيِّهنّ الزَّكَاةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَمَّا مَا كَانَ مِنْ حُلِيّ جوهرٍ ولؤلؤٍ فَلَيْسَتْ (4) فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ (5) ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حُلِيِّ ذهبٍ أو فضة ففيه (6) الزكاة (7)   (1) قوله: لهن، قال الباجي: يقتضي مِلْكَهُنّ له، وإن لم يتصرَّفْنَ فيه لكونهن محجورات. (2) بفتح فسكون مفرد، وبضم وكسر اللام وتشديد الياء جمع. (3) بتشديد اللام يُلْبِسُهُنَّ الحليّ. (4) قوله: فليست فيه الزكاة، لأن ما سوى الثَّمَنَين من الذهب والفضة وما يُتَّخذ منهما لا يجب فيه الزكاة إذا لم تكن للتجارة. ويؤيّده ما أخرجه ابن أبي شيبة عن عكرمة قال: ليس في حجر اللؤلؤ ولا في حجر الزمرد زكاة إلا أن يكون للتجارة. وأخرج ابن عدي في "الكامل" عن عمرو بن أبي عمرو الكلاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: لا زكاة في حَجَر، وضُعِّف بعمروٍ والكلاعي وقال: إنه مجهول، لا أعلم حدث عنه غير بقية، وأحاديثه منكرة، وذكر ابن حجر أنه قد تابعه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ومحمد بن عبد الله العزرمي عن عمرو بن شعيب، وكلاهما متروكان. (5) أي سواء كان للبالغ أو الصبي. (6) وأما ما رُوَي عن جابر مرفوعاً: ليس في الحلي زكاةٌ، فباطل، لا أصل له، وإنما هو قول جابر، قاله البيهقي. (7) قوله: ففيه الزكاة، لما أخرجه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم ومعها ابنةٌ لها وفي يد ابنتها مسكتان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 إلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِيَتِيمٍ (1) أَوْ يَتِيمَةٍ لم يَبْلُغَا فلا تكون (2)   غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاةَ هذا؟ قالت: لا، قال: أيسُرُّكِ أن يسوِّرَكِ بهما يوم القيامة سواراً من نار؟ قال: فألقتهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالت: إنهما لله ولرسوله، وإسناده صحيح، قاله ابن القطان، وقال المنذري: لا مقال فيه. وأخرجه الترمذي من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أتت امرأتان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي أيديهما سواران من ذهب، فقال لهما: أتؤديان زكاة هذا؟ فقالتا: لا، فقال: أتحبّان أن يسوِّركما الله بسوارين من نار؟ قالتا: لا، قال: فأدِّيا زكاته، وفي الباب عن عائشة أخرجه أبو داود والحاكم والدارقطني وأم سلمة أخرجه الحاكم وأبو داود والدارقطني والبيهقي، وأسماء أخرجه أحمد، وفاطمة بنت قيس أخرجه الدارقطني، وعبد الله بن مسعود أخرجه الدارقطني. وهي أحاديث متقاربة كلها تفيد وجوب الزكاة في الحلي، وضَعْفُ بعض طرقها لا يضر إذا حصل التقوِّي بالضم لا سيما إذا كان بعض الطرق سالماً من القدح، وبسطه في تخريج أحاديث الهداية، للزيلعي (1/402) . (1) وكذا إذا كان لغير اليتيم. (2) قوله: فلا تكون في مالها زكاة، لأثر ابن عمر وعائشة وغيره، وبه قال أبو وائل وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي والحسن البصري وغيرهم خلافاً للشافعي وأحمد ومالك أخذاً مما روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس، فقال: من وَلِيَ مالاً ليتيم فليتَّجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة. وفي إسناده مقال نبَّهَ عليه الترمذي وأحمد، وله طرق أخر عند الدارقطني وغيره ضعيفة، وكذا حديث أنس مرفوعاً: اتَّجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة، أخرجه الطبراني في الأوسط، سنده مجروح، وأجاب أصحابنا عنها على تقدير ثبوتها بأن الصدقة محمولة على النفقة (في الكوكب الدُّرِّي 2/15: تأويله عندنا الإِنفاق على نفس اليتيم فإنه قد يُسمَّى صدقة كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في غير هذا الحديث: "تصدَّق على نفسك" ومن روى ههنا بلفظ الزكاة فرواية بالمعنى عنده مع أن ظاهر "تأكله الصدقة" إحاطة الصدقة كل ماله، وذلك لا يكون في الزكاة، فإنها لا تجب بعَوْد المال إلى أقل من النصاب وإن لم يكن نصاباً من أول الأمر لم تأكله الصدقة رأساً، وأما إذا أريد بها النفقة سواء كانت نفقة نفسه أو أحد ممن يجب عليه نفقته كان ظاهراً في معناه. اهـ) . وللتفصيل موضع آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 فِي مَالِهَا (1) زَكَاةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 6 - (بَابُ العُشُر (2)) 330 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهريّ، عن سالم بن عبد الله، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَأْخُذُ عَنِ النَّبَط (3) مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نصفَ العُشُر، يُرِيدُ (4) أَنْ يُكْثِرَ الحِمل (5) إِلَى الْمَدِينَةِ، ويأخذ   (1) في نسخة: مالهما. (2) بضمتين وبضم واحد: ما يجب فيه العُشُرُ أو نصفُه من مال الحربيِّ والذِّمِّيِّ. (3) بفتح النون. قوله: من النبط (قال الباجي: وهم كفار أهل الشام عقد لهم عقد الذمة، اهـ، فكانوا يختلفون إلى المدينة بالحنطة والزيت وغير ذلك من أقوات أهل الشام، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخفّف عنهم في الحنطة والزيت، انظر أوجز المسالك 6/107) ، هو جيل من الناس كانوا ينزلون سواد العراق ثم استُعمل في أخلاط الناس وعوامِّهم، والجمع أنباط، مثل سبب وأسباب، كذا في "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" لأحمد الفَيُّومي. (4) أي يقصد عمر. وليحيى: يريد بذلك أي يأخذ النصف ويترك النصف. (5) أي المحمول منهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 مِنَ القِطنية (1) الْعُشُرَ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّا اخْتَلَفُوا (3) فِيهِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ قِطَنيَّةٍ أَوْ غَيْرِ قِطَنِيَّةٍ نِصْفُ الْعُشُرِ (4) فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا أَرْضَ الإِسلام بِأَمَانٍ الْعُشُرُ مِنْ ذَلِكَ كلِّه. وكذلك (5) أمر عمر بن   (1) قوله: من القِطْنِيَّة، بكسر القاف وسكون الطاء فنون فتحتيَّة مشدَّدة كالعدس والحمص واللوبيا، وفي "التهذيب" القطنية اسم جامع للحبوب التي تُطبخ كالعدس والباقلا واللوبيا والحمصة والأرزّ والسمسم وغير ذلك، كذا في شرح القاري. (2) على الأصل فيما اتَّجروا فيه. (3) المراد به ذهابهم ومجيئهم بقصد التجارة. (4) قوله: نصف العشر، ذهب إلى هذا التفصيل ابن أبي ليلى والشافعي والثوري وأبو عبيد، وقال مالك: يؤخذ من تجار أهل الذمة العشر إذا اتّجروا إلى غير بلادهم ممّا قلّ أو كَثُر، ولنا ما روى عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك على الأَيْلة، فأخرج لي كتاباً من عمر: يؤخذ من المسلمين من كل أربعين درهماً درهم ومن أهل الذمة من كل عشرين درهماً درهم، ومن لا ذمّة له من كل عشرة دراهم درهم. وروى أبو الحسن القُدُوري في "شرح مختصر الكرخي" أن عمر نصب العشار، وقال لهم: خذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر، وكان هذا بمحضر من الصحابة، فكان إجماعاً سكوتياً، كذا في "البناية". (5) قوله: كذلك، أخرج سعيد بن منصور نا أبو عوانة، وأبو معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم بن المهاجر عن زياد بن حدير قال: استعملني عمر على العشور وأمرني أن آخذ من تجار أهل الحرب العُشر. ومن تجار أهل الذمة نصف العشر، ومن تجار المسلمين ربع العشر. وأخرج البيهقي عن محمد بن سيرين عن أنس نحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 الْخَطَّابِ زِيَادَ بْنَ (1) حُدَيْر وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ بَعَثَهُمَا عَلَى عُشُورِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 7 - (بَابُ (2) الْجِزْيَةِ (3)) 331 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ (4) : أنَّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلّم أخذ   (1) هو أبو المغيرة الأسدي الكوفي التابعي، سمع عمر وعلياً، وروى عنه خلقٌ منهم الشَّعبيُّ، كذا ذكره القاري. (2) قوله : باب الجزية (ارجع إلى أوجز المسالك للتفصيل في هذا 6/81، وأحكام القرآن للجصاص 3/100 - 102) ، قال أبو يوسف في "كتاب الخراج" جميع أهل الشرك من المجوس وعَبَدَة الأوثان وعَبَدَة النيران والحجارة والصابئين يُؤخذ منهم الجزية ما خلا أهلَ الردّة من أهل الإسلام وأهلَ الأوثان من العرب والعجم فإن الحكم فيهم أن يُعرض عليهم الإسلام فإن أسلموا إلاّ قُتل الرجال منهم، وسُبي النساء والصبيان، وليس أهل الشرك من عبدة الأوثان، وعبدة النيران والمجوس مثل أهل الكتاب في ذبائحهم ومناكحتهم، حدثنا قيس بن الربيع الأسدي عن قيس بن مسلم عن الحسن قال: صالح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجوس هجر على أن يأخذ منهم الجزية غيرَ مستحِلٍّ مناكحة نسائهم ولا أكل ذبائحهم. (3) من جزأت الشيء إذا قسمته، وقيل من الجزاء، قال العلماء: الحكمة في وضع الجزية أنَّ الذّلّ الذي يلحقهم يحملهم على الإِسلام، شُرعت سنة ثمان وقيل تسع. (4) قوله: الزهري، كذا أخرجه مرسلاً ابنُ أبي شيبة من طريق مالك، وأخرج الدارقطني في غرائب مالك والطبراني من طريقه عن الزهري عن السائب بن يزيد رضي الله عنه، قال الدارقطني: لم يصل إسناده غير الحسين بن أبي كبشة البصري عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، والمرسل هو المحفوظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 مِنْ مَجُوسِ (1) الْبَحْرَيْنِ الْجِزْيَةَ، وَأَنَّ عُمَرَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسٍ (2) ، وَأَخَذَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مِنَ الْبَرْبَرِ (3) . 332 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ (4) الجزيةَ عَلَى أَهْلِ (5) الوَرِق أَرْبَعِينَ (6) دِرْهَمًا، وَعَلَى أَهْلِ (7) الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ (8) ، وَمَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقَ (9) الْمُسْلِمِينَ   (1) قوله: من مجوس البحرين، بلفظ التثنية موضع بين البصرة وعَمَّان، وهو من بلاد نجد، ويُعرب إعراب المثنى، ويجوز جعل النون محل الإِعراب مع لزوم الياء مطلقاً، وهي لغة مشهورة، قاله الزرقاني. (2) لقب قبيلة، ليس بأب ولا أم، وإنما هم أخلاط من تغلب، اصطلحوا على هذا الاسم، كما في "القاموس". (3) كجعفر، قوم من أهل المغرب. (4) أي عيّنها. (5) كأهل العراق. (6) في كل سنة. قوله: أربعين درهماً ... إلى آخره، إليه ذهب مالك فلا يُزاد عليه ولا يُنقص إلا من يضعف عن ذلك، فيُخَفّف عنه بقدر ما يراه الإِمام. وقال الشافعي: أقلّها دينار ولا حدّ لأكثره إلا إذا بذل الأغنياء ديناراً لم يجز قتالهم. وقال أبو حنيفة وأحمد: أقلّها على الفقراء والمعتملين اثنا عشر درهماً أو دينار، وعلى أواسط الناس أربعة وعشرون درهماً، أو ديناران، وعلى الأغنياء ثمانية وأربعون درهماً أو أربعة دينار، كذا في "شرح الزرقاني". (7) كأهل مصر والشام. (8) في كل سنة. (9) قوله: أرزاق المسلمين، أي رفد أبناء السبيل وعَوْنهم، قال ابن عبد البر، وقال الباجي: أقوات من عندهم من أجناد المسلمين على قدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وَضِيَافَةَ (1) ثَلاثَةِ أَيَّامٍ. 333 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُؤتى بنَعَم (2) كَثِيرَةٍ مِنْ نَعَم الْجِزْيَةِ. قَالَ مَالِكٌ: أُراه (3) تُؤخذ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فِي جِزْيَتِهِمْ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: السُّنَّة (5) أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنَ الْمَجُوسِ   ما جرت عادة أهل تلك الجهة من الاقتيات، وقد جاء ذلك مفسَّراً أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد أن عليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة مُدّان، ومن الزيت ثلاثة أقساط كل شهر لكلِّ إنسان من أهل الشام والجزيرة، وودَكَ وعسل لا أدري كم هو، وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعاً لكلِّ إنسان كل شهر، وودك وعسل. (1) بيان لأرزاق المسلمين. قوله: وضيافة ثلاثة أيام، للمجتازين بهم من المسلمين من خبز وشعير وتين وأدام، ومكان ينزلون به يكنّونه من الحر والبرد، قاله ابن عبد البر. (2) أي دوابّ كالشاة والبقرة. (3) أي أظن. (4) أي أهل النعم. (5) قوله: السنة ... إلى آخره، أي الطريقة المشروعة من النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه أخذُ الجزية من المجوس كأهل الكتاب إلا أنه لا يجوز نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم بخلاف أهل الكتاب، لما أخرجه البخاري عن ابن عبدة المكي أتانا كتابُ عمر قبل موته بسنة: فرِّقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذها من مجوس هجر، وفي "الموطأ" برواية يحيى: مالك عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه أن عمر ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لَسَمِعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب، ورواه ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 من غير (1)   وعبد الرزاق في "مصنفه" عن ابن جريج عن جعفر، وإسحاق بن رواهويه عن عبد الله بن إدريس عن جعفر، وهو حديث منقطع، فإن والد جعفر محمد بن علي لم يلقَ عمر ولا ابنَ عوف، وقد رواه أبو علي الحنفي عبد الله بن عبد المجيد من طريق مالك فقال عن أبيه عن جده أخرجه البزار والدارقطني في غرائب مالك ولم يقل عن جده أحد سوى أبي علي الحنفي وكان ثقة وهو مع ذلك مرسل، فإن جدَّ جعفر عليَّ بن الحسين لم يلق عمر، ولا ابن عوف، كذا ذكره ابن عبد البر وغيره، وروى الشافعي في "مسنده" عن سفيان عن سعيد بن المزربان عن نصر بن عاصم قال: قال فروة بن نوفل: علامَ تُؤخذ الجزية من المجوس، وإنهم ليسوا بأهل كتاب؟ فقام إليه المستورد، وقال: يا عدوَّ الله تطعن على أبي بكر وعمر وعلي، وقد أخذوا الجزية من المجوس، فذهب به إلى القصر، فخرج عليهم عليّ، وقال: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وإنّ ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أمه فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا أرادوا أن يُقيموا عليه الحد، فدعا أهل مملكته، فقال: أتعلمون خيراً من دين آدم، وقد كان يُنكح بنيه من بناته، فأنا على دين آدم فبايعوه، وقاتلوا الذي خالفهم، وقد أسرى على كتابهم فرفع من بين أظهرهم، وذهب العلم الذي في صدورهم فهم أهل كتاب، وفي سنده سعيد بن المزربان مجروح، ذكره ابن الجوزي في "التحقيق". ومن طريق الشافعي رواه البيهقي، وقال: أخطأ سفيان في قوله نصر بن عاصم، وإنما هو عيسى بن عاصم، كذا ذكره الزيلعي، وأخرج الإِمام أبو يوسف في كتاب "الخَرَاج" عن نصر بن خليفة أن فروة بن نوفل قال: الحديث نحوه. (1) قوله: من غيره ... إلى آخره، لما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد بن علي: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى مجوس هجر يَعرض عليهم الإِسلام فمن أسلم قُبل منه، ومن لم يُسلم ضُربت عليه الجزية غيرَ ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم. وهو مرسل، وقيس بن مسلم مختلف فيه، قاله ابن القطان: وروى ابن سعد في "الطبقات" عن محمد الواقدي عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 أَنْ تُنكحَ نِسَاؤُهُمْ وَلا تُؤكل ذَبَائِحُهُمْ، وَكَذَلِكَ بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَرَبَ عُمَرُ (1) الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ سَوَادِ الْكُوفَةِ، على المُعسر (2) اثنا عَشَرَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْوَسَطِ (3) أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَأَمَّا مَا ذَكَر (4) مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنَ الْإِبِلِ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمْ يَأْخُذِ الْإِبِلَ فِي جِزْيَةٍ عَلِمْنَاهَا إلاَّ مِنْ بَنِي تَغْلِب (5) فَإِنَّهُ (6) أَضْعَفَ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ، فَجَعَلَ ذَلِكَ جِزْيَتَهُمْ، فَأَخَذَ من إبلهم وبقرهم وغنمهم.   عبد الحكم بن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإِسلام، فإن أَبَوْا عرض عليهم الجزية بأن لا تُنْكح نساؤهم ولا تُؤكل ذبائحهم (قال ابن القيم: فلما نزلت آية الجزية أخذها صلّى الله عليه وسلّم من ثلاث طوائف: من المجوس، واليهود، والنصارى، ولم يأخذها من عُبّاد الأصنام، فقيل: لا يجوز أخذها من كافر غير هؤلاء ومن دان دينهم اقتداءً بأخذه صلّى الله عليه وسلّم وتركه، وقيل: بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب، والأول قول الشافعي وأحمد في إحدى روايتيه، والثاني: قول أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى. "أوجز المسالك" 6/85) . (1) ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فصار كالإِجماع. قوله وضرب، أخرجه ابن أبي شيبة وابن زنجويه في كتاب "الأموال"، والقاسم بن سلاَّم في كتاب "الأموال". وهو المأثور عن عثمان وعلي، ذكره الزيلعي وغيره. (2) أي الفقير. (3) أي المتوسط. (4) أي في إطلاقه بحث. (5) بكسر اللام قوم من نصارى العرب أبَوْا أن يُعطوا الجزية فضاعف عمر عليهم الصدقة. (6) قوله: فإنه أضعف عليهم ... إلى آخره، أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة والقاسم بن سلاّم في كتاب "الأموال" وأبو يوسف في كتاب "الخراج" وحميد بن زنجويه وعبد الرزاق وغيرهم، كما بسطه الزيلعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 8 - (بَابُ زَكَاةِ الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ والبَراذين (1)) 334 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ صَدَقَةِ الْبَرَاذِينَ فَقَالَ: أَوَفي (2) الخيلِ (3) صَدَقَةٌ؟ 335 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن دينار، عن سليمان بن يسار، عن عِراك (4) بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ (5) عَلَى الْمُسْلِمِ (6) فِي عَبْدِهِ وَلا فِي فرسه   (1) بفتح الموحدة، جمع البِرْذَوْن كفردوس، الفرس الفارسي، وقال المُطَرِّزي: البرذون: التركي من الخيل، قاله القاري. (2) همزة الاستفهام للإِنكار لا للاستفهام. (3) وقد صح: ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: قد عفوتُ عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة. أخرجه أبو داود بسند حسن. (4) قوله: عن عراك بن مالك، قال السيوطي في "الإِسعاف": عِرَاك بن مالك الغِفاري المدني، روى عن ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وعائشة وجماعة، وعنه سليمان بن يسار وخيثم وعبد الله ابنا عراك، وثًّقه أبو زرعة وأبو حاتم، مات بالمدينة في خلافة يزيد بن عبد الملك، انتهى. وعِرَاك بكسر العين المهملة، وفتح الراء المخففة بعدها ألف بعدها كاف، كذا ضبطه ابن حجر في "التقريب"وابن الأثير في "جامع الأصول" والفَتَّني في "المغني" وغيرهم. (5) قال الباجي: هذا نفي، والنفي على الإِطلاق يقتضي الاستغراق، قاله القاري. (6) قوله: ليس على المسلم ... إلى آخره، أخرجه الأئمة الستة في كتبهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 صَدَقَةٌ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (2) لَيْسَ فِي الْخَيْلِ صَدَقَةٌ سَائِمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ سَائِمَةٍ. وأما في قوله أبي حنيفة (3) رحمه الله: فإذا كانت   ورواه ابن حبان وزاد: إلاَّ صدقةَ الفطر، ورواه الدارقطني بلفظ: لا صدقة على الرجل في فرسه ولا في عبده إلاَّ زكاة الفطر، كذا في "نصب الراية" للزيلعي. (1) قوله: صدقة، لا خلاف أنه ليس في رقاب العبيد صدقة إلاَّ أن يُشْتَروا للتجارة، وأوجب حماد وأبو حنيفة وزفر الزكاة في الخيل إذا كانت إناثاً وذكوراً، فإذا انفردت زُكِّي إناثها لا ذكورها، ثم يُخَيَّر بين أن يُخرج عن كل فرس ديناراً وبين أن يقوِّمها أو يخرج ربع العشر. ولا حجة لهم لصحة هذا الحديث، واستدل بالحديث من قال من الظاهرية بعدم وجوب الزكاة فيهما ولو كانا للتجارة، وأجيب بأن زكاة التجارة ثابتة بالإِجماع، فيخص به عموم الحديث، كذا في "شرح الزرقاني". (2) قال القاري: ووافقه أبو يوسف واختاره الطحاوي. وفي "الينابيع": عليه الفتوى وهو قول مالك والشافعي. (3) قوله: وأما في قول أبي حنيفة ... إلى آخره، استُدل له بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق الليث بن حماد الإِصطخري، نا أبو يوسف عن فورك عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر مرفوعاً: في الخيل السائمة في كل فرس دينار. ويُرَدُّ على هذا الاستدلال بوجهين: أحدهما أن في سنده كلاماً، قال الدارقطني: تفرد به فورك وهو ضعيف جداً، ومَنْ دونه ضعفاء. انتهى. وقال البيهقي: لو كان هذا الحديث صحيحاً عند أبي يوسف لم يخالفه. انتهى. وقال ابن القطان: أبو يوسف هو أبو يوسف يعقوب القاضي وهو مجهول عندهم. انتهى. فلا يصلح للاحتجاج به في مقابلة الحديث الصحيح النافي للصدقة، لكنَّ فيما قال ابن القطان نظراً، فإن أبا يوسف وثَّقه ابن حبان وغيره، قال الزيلعي، وقال العيني: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قول ابن القطان لم يصدر عن عقل، وهل يُقال في مثل أبي يوسف إنه مجهول، وهو أول من سُمِّي بقاضي القضاة، وعلمه شاع في ربع الدنيا وهو إمام ثقة حجة. انتهى. وفي "أنساب السمعاني": لم يختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني في كون أبي يوسف ثقة في الحديث. انتهى. وقد بسطتُ في ترجمته في "مقدمة الهداية" ثم في "مقدمة السعاية، شرح شرح الوقاية"، ثم في "النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير" ثم في "الفوائد البهية في تراجم الحنفية". وثانيهما: أنه على تقدير صحته يُحمل على أنه كان في الابتداء، ثم نُسخ بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: عفوتُ عن صدقة الخيل. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، والعفو لا يكون إلاّ عن حقٍّ لازم، وقد يُستدل لما ذهب إليه أبو حنيفة بأخبار أُخر، منها ما في الصحيحين، مرفوعاً في حديث طويل: الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر ... الحديث، وفيه فأمّا الذي له ستر فرجل ربطها تعفُّفاً ولم ينسَ حقَّ الله في رقابها ولا ظهورها ... الحديث، فإن الحق الثابت على رقاب الحيوانات ليس إلاَّ الزكاة فدل ذلك على وجوبها. وأجاب عنه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بأنه يجوز أن يكون ذلك الحق سوى الزكاة، فإنه قد روى ما نا ربيع المؤذن نا أسد نا شريك بن عبد الله بسنده عن عامر، عن فاطمة بنت قيس، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: في المال حقٌّ سوى الزكاة، وحجة أخرى أنّا رأينا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر الإِبل السائمة، فقال: فيها حق، فسُئل: ما هو؟ فقال: إطراقُ فحلها، وإعارةُ دلوها، ومنيحة سمينها، فاحتمل أن يكون هو في الخيل (انظر شرح معاني الآثار 1/310. إطراق فحلها أي عاريته للضراب، ومنيحة سمينها أي عطية سمينها من المنح وهو إعطاء ذات لبن فقيراً ليشرب لبنها مدة، ثم يردها على صاحبها إذا ذهب درّها. اهـ) . انتهى ملخصاً. ومنها ما روي أن عمر أخذ الصدقة من الخيل وكذلك عثمان، أخرجه ابن عبد البر والدارقطني وغيرهما، وأجاب عنه الطحاوي بأنه لم يأخذه عمر على أنه حق واجب عليهم، بل لسبب آخر، ثم أخرج بسنده عن حارثة قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 سَائِمَةً (1) يُطلب نَسْلُهَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، إِنْ شئتَ (2) فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ، وَإِنْ شِئْتَ فَالْقِيمَةُ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خمسةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي (3) . 336 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ (4) : أَنَّ عمرَ (5) بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ لا يَأْخُذَ مِنَ الْخَيْلِ وَلا الْعَسَلِ (6) صدقة.   حججت مع عمر فأتاه أشراف الشام، فقالوا: إنا أصبنا خيلاً وأموالاً فخذ من أموالنا صدقة، فقال: هذا شيء لم يفعله اللذان كانا قبلي، ولكن انتظروا حتى أسأل المسلمين، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عليّ، فقالوا: حسن، وعليٌّ ساكت، فقال عمر: ما لك يا أبا الحسن؟ فقال: قد أشاروا عليك ولا بأس بما قالوا إن لم يكن واجباً، وجزية راتبة يؤخذون بها بعدك. فدل ذلك على أنه إنما أخذ على سبيل التطوع بعد ابتغائهم ذلك لا على سبيل أنه شيء واجب، وقد أخبر أنه لم يأخذه رسول الله ولا أبو بكر. (1) بأن ترعى في أكثر الحول. (2) أي أيها السائل. (3) كما أخرجه المؤلف في كتاب "الآثار"، عن أبي حنيفة، عن حمّاد عنه. (4) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قاضي المدينة. (5) وأحد الفقهاء والخلفاء من بني أمية. (6) قوله: ولا العسل، قد ذهب الأئمة إلى أن لا زكاة في العسل (يجب العشر في العسل، به قال أبو حنيفة والشافعي في القديم وأحمد. وفي الجديد لا عشر فيه، وعليه مالك، مرقاة المفاتيح 4/155) ، وضعَّف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 قَالَ مُحَمَّدٌ: أَمَّا الْخَيْلُ فَهِيَ عَلَى مَا وصفتُ (1) لَكَ، وَأَمَّا الْعَسَلُ فَفِيهِ العُشُر (2) إِذَا أصبتَ مِنْهُ الشيءَ الْكَبِيرَ (3) خمسةَ أَفْرَاقٍ (4) فَصَاعِدًا، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْعُشُرُ (5) ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْعَسَلِ الْعُشُرَ. 337 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سُلْيَمَانَ بن   أحمد حديث أنه صلّى الله عليه وسلّم أخذ منه العُشر، قال أبو عمر: هو حديث حسن يرويه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. (1) من أنه ليس فيه صدقة خلافاً لأبي حنيفة. (2) قوله: ففيه العشر، لما روى الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً: في العسل العشر، في كل عشرة أزقّ زقّ. ورواه الطبراني بلفظ: في العسل العشر، في كل عشر قِرَب قِربة، وليس في ما دون ذلك شيء. وروى العقيلي عن أبي هريرة مرفوعاً: في العسل العشر. وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد والبيهقي والطبراني وغيرهم قصة فيها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ العُشر. وفي أسانيد أكثر هذه الأخبار مقال، وسند بعضها حسن. وللبسط موضع آخر. (3) في نسخة: الكثير، (4) قال القاري: جمع فَرَق بالفتح، مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع أو ستة عشر رطلاً. (5) قوله: العشر، أي إذا كان في أرض عشرية أو جبلي، وقال الشافعي: لا شيء في العسل، وقال أبو يوسف: لا شيء في العسل الجبلي، كذا قال القاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 يَسَارٍ: أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَالُوا لأَبِي عُبَيْدَةَ (1) بنِ الْجَرَّاحِ (2) : خُذْ مِنْ خَيْلِنَا وَرَقِيقِنَا صَدَقَةً، فَأَبَى (3) ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنْ أَحَبُّوا (4) فخُذْها مِنْهُمْ، واردُدْها عَلَيْهِمْ يَعْنِي عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَارْزُقْ رَقِيقَهُمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ فِي هَذَا الْقَوْلِ الأَوَّلِ (5) ، وَلَيْسَ فِي فَرَسِ الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ وَلا فِي عَبْدِهِ إِلا صَدَقَةَ الْفِطْرِ (6) . 9 - (بَابُ الرِّكَازِ (7)) 338 - أَخْبَرَنَا مالك،   (1) بضم العين، هو عامر بن عبد الله الفهري أمين هذه الأمة، أمَّره عمر على الشام. (2) بالفتح وتشديد الرّاء (وفي الأصل والجيم، وهو تحريف) . (3) فيه أنه كان مقرَّراً عندهم أن لا زكاة فيه. (4) يريد أن هذا تطوع، ومن تطوع بشيء أُخذ منه. (5) أي عدم وجوب الصدقة في الخيل، وفعل عمر لم يكن على وجه الإِلزام والإِيجاب. (6) فإنه يجب على سيده لأجل عبده. (7) قوله: الركاز (إن في مسائل المعدن والركاز أبحاث وسيعة الأذيال بُسطت في الأوجز 5/263، ولامع الدراري 5/104 وما بعدها. وإن الركاز يعمُّ المعدن والكنز عند الحنفية وهو مؤدَّى قول لمالك والشافعي، وأما عند غير الحنفية فالمشهور عنهم أن الركاز دفين الجاهلية، قال ابن قدامة: هذا قول الحسن والشعبي ومالك والشافعي وأبي ثور) ، بكسر الراء من الركز، وهو الإثبات في الأرض إما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ (1) بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وغيرهُ (2) : أن (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ لبلالِ (4) بْنِ الْحَارِثِ المُزَني معادنَ مِنْ معادن القَبَلية (5) ، وهو (6)   مخلوقاً، وهو المعدن، أو موضوعاً، وهو الكنز على ما يُفهم من "المُغْرب" وكثير من كتب اللغة. (1) قوله: ربيعة ... إلى آخره، هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فرّوخ التَّيْمي أبو عثمان، ويقال أبو عبد الرحمن، المدني الفقيه أحد الأعلام المعروف بربيعة الرأي، قال أحمد: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، ثَبْت، مات سنة 136، كذا في "الإِسعاف". (2) بالرفع أي وغير ربيعة من المشايخ. (3) قوله: أن، قال ابن عبد البر: هذا الحديث عند جميع رواة "الموطأ" مرسل، وقد وصله البزار من طريق عبد العزيز الدَّارَاوَردي عن ربيعة، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه، قلت: وأخرجه أبو داود من طريق ثور بن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قاله السيوطي. (4) قوله: لبلال ... إلى آخره، هو بلال بن الحارث بن عاصم بن سعيد بن قرة بن خلادة بن ثعلبة أبو عبد الرحمن المزني، قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم في وفد مُزَينة سنة خمس، وكان يحمل لواء مزينة يوم الفتح، ثم سكن البصرة، وتوفي سنة ستين آخر أيام معاوية رضي الله عنه، كذا في "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لعز الدين علي بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري. (5) قوله: من معادن القبلية، قال ابن الأثير: في "النهاية" منسوب إلى قَبَل، بفتح القاف والباء، وهي ناحية من الفُرُع، هذا هو المحفوظ في الحديث، وفي كتاب الأمكنة معادن القِلَبة (القِلَبة: بكسر القاف بعدها لام مفتوحة ثم باء. أوجز المسالك 5/265) . (6) أي مكان تلك المعادن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 مِنْ نَاحِيَةِ الفُرُع (1) ، فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ إِلَى الْيَوْمِ لا يُؤخذ مِنْهَا إلاَّ الزَّكَاةُ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ (3) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم قال: في   (1) قوله: من ناحية الفُرُع، بضم الفاء والراء كما جزم به السُّهَيْلي وعياض في "المشارق"، وقال في كتابه "التنبيهات": هكذا قيَّده الناس، وحكى عبد الحق عن الأحول إسكان الراء ولم يذكر غيره، كذا ذكره الزرقاني. (2) أراد بها ربع العشر. قوله: إلاَّ الزكاة ... إلى آخره، به قال جماعة، وقال الثوري وأبو حنيفة وغيرهما: المعدن كالركاز يؤخذ من قليله وكثيره الخُمُس. (3) قوله: الحديث المعروف، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث أبي هريرة: "العجماء جُبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس" أخرجوه مطوَّلاً ومختَصَراً، وحمله مالك والشافعي وغيرهما على المال المدفون في الأرض، وقالوا: أما المعدن الذي خلقه الله في الأرض فلا خُمُس فيه، بل فيه الزكاة إذا بلغ قدر النصاب، وهو المأثور عن عمر بن عبد العزيز، وصله أبو عبيد في كتاب "الأموال" وعلَّقه البخاري في صحيحه. وأما أصحابنا فقالوا: الركاز: يعمُّ المعدن والكنز، ففي كل ذلك الخمس. ويؤيده ما أخرجه البيهقي في "المعرفة" عن حبان بن علي، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً: الركاز الذي ينبت بالأرض. وفي عبد الله كلام، وروى أبو يوسف أيضاً عن عبد الله بسنده، عن أبي هريرة مرفوعاً: في الركاز الخمس، قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: الذي خلقه الله في الأرض يوم خُلقت، ذكره البيهقي. وأما حديث بلال بن الحارث المزني في معادن القَبَلية. فقال أبو عبيد: هو منقطع، ومع انقطاعه ليس فيه أنه عليه الصلاة والسلام أمر بذلك وإنما فيه لا يؤخذ منها إلاَّ الزكاة، وقال النووي: قال الشافعي: ليس هذا مما يُثبته أهل الحديث ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال البيهقي: هو كما قال الشافعي في رواية مالك، وأما ما أخرجه البيهقي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ من معادن القبلية الصدقة ففي سنده كثير بن عبد الله مجمع على ضعفه ذكره العيني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 الرِّكَازِ (1) الخُمُس (2) ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الرِّكَازُ؟ قَالَ: الْمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الأرض يوم خَلَق السموات وَالأَرْضَ فِي هَذِهِ الْمَعَادِنِ، فَفِيهَا الْخُمُسُ. وَهُوَ قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - والعامة مِنْ فُقَهَائِنَا (3) . 10 - (بَابُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ) 339 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا حميد (4) بن قيس، عن   (1) سواء كان في دار الحرب أو دار الإسلام عند الجمهور. ومنهم الأئمة الأربعة خلافاً للحسن البصري في قوله: فيه الخمس في أرض الحرب، وفي أرض الإسلام فيه الزكاة، قاله القاري. (2) قوله: في الركاز الخمس، قال السيوطي: وقع في زمن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: اذهب إلى موضع كذا، فاحفره فإن فيه ركازاً، فخذه لا خمس عليك فيه، فلما أصبح ذهب إلى ذلك الموضع، فحفره فوجد الركاز، فاستفتى علماء عصره فأفتوه بأنه لا خمس عليه لصحة رؤياه، وأفتى الشيخ عز الدين بأن عليه الخمس، وقال: أكثر ما يُنَزَّل منامه منزلة حديث روي بإسناد صحيح وقد عارضه ما هو أصح منه، وهو الحديث المخرَّج في الصحيحين: في الركاز الخمس. قال القاري: وأيضاً حديث المنام لا يعارض حديث اليقظة، فإنَّ حالها أقوى ولهذا لا يجوز العمل بما يرى في المنام إذا كان مخالفاً لشرعه عليه الصلاة والسلام (انظر شرح الزرقاني 1/101) . (3) الأكثرين من فقهائنا أي الكوفيين. (4) قوله: حميد، هو أبو صفوان الأعرج القاري، لا بأس به من رجال الجميع، مات سنة 130، وقيل: بعدها، كذا ذكره الزرقاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 طَاوُسٍ (1) : أنَّ (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ (3) معاذَ بنَ الْجَبَلِ إِلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كلِّ ثَلاثِينَ بَقَرَةً تبيعاً (4) ومن كل أربعين مُسِنَّةً (5) ،   (1) هو ابن كَيْسان اليماني، ويقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، تابعي، ثقة، مات سنة 106، وقيل بعدها، كذا ذكره الزرقاني. (2) قوله: أن ... إلى آخره، أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن مسروق عن معاذ، وقال الترمذي: حديث حسن، وقد رواه بعضهم مرسلاً لم يذكر فيه معاذاً، وهذا أصح. انتهى. ورواه ابن حبان في صحيحه مسنداً، والحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح على شرط الشيخين، والمرسل الذي أشار إليه الترمذي أخرجه ابن أبي شيبة عن مسروق قال: بعث رسول الله معاذاً إلى اليمن. الحديث. وقال أبو عمر في "التمهيد"، في باب حميد بن قيس: قد رُوي هذا الخبر عن معاذ بإسناد متصل صحيح ثابت ذكره عبد الرزاق: ثنا معمر والثوري عن الأعمش عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ. انتهى. وللحديث طرق أخر منها عن أبي وائل، عن معاذ، وهي عند أبي داود والنسائي، ومنها عن إبراهيم النخعي، عن معاذ وهي عند النسائي، ومنها عن طاوس، عن معاذ وهي في "موطأ مالك". قال في الإِمام: ورواية إبراهيم عن معاذ منقطعة بلا شك، وكذلك رواية طاوس. وقال الشافعي: طاوس أعلم بأمر معاذ، وإن كان لم يلقه، كذا في "نصب الراية" (2/346 و 347) للزيلعي رحمه الله. (3) أي قاضياً ومعلِّماً. (4) هو ما طَعَنَ في السنة الثانية، سُمِّي به لأنه يتبع أمه. (5) هي أنثى المُسِنّ، وهو ما دخل في الثالثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 فأُتي بِهَا دُونَ ذَلِكَ (1) ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، وَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ (2) مُعَاذٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لَيْسَ فِي أقلَّ مِنْ ثَلاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ زَكَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ ثَلاثِينَ فَفِيهَا تبيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، وَالتَّبِيعُ الجَذَع (3) الحَوْلي، إِلَى أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ (4) أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّة، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - والعامَّة.   (1) أي ما دون الثلاثين. (2) أي من اليمن. (3) بفتح الجيم والذال المعجمة، ما أتى عليه أكثرُ السنة، (الجذع) أي إذا أكمل السنة وشرع في الثانية. (4) قوله: بلغت أربعين، ففيها مُسِنَّة: وهكذا يحسب كل ثلاثين وأربعين، لما أخرجه أحمد والطبراني عن معاذ قال: بعثني رسول الله أصدق أهل اليمن، فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً ومن كل أربعين مُسِنَّة، ومن ستين تبيعان، ومن سبعين مُسِنَّة وتبيع، ومن ثمانين مُسِنَّتان، ومن تسعين ثلاثة أتبعة ومن المائة مُسِنَّة وتبيعان، ومن العشر ومائة مُسِنَّتان وتبيع، ومن عشرين ومائة ثلاث مُسنّات أو أربعة أتبعة وأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئاً إلاَّ أن تبلغَ مُسنَّة أو جذعاً. وأخرج البيهقي والدارقطني من حديث بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس، عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث معاذاً إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً ومن كل أربعين مُسنَّة، قالوا: فالأوقاص؟ قال: ما أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها بشيء، وسأسأله إذا قَدِمتُ إليه، فلما قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأله، فقال: ليس فيها شيء. وهذا يدل على أن معاذاً قدم المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيّ، ويوافقه ما أخرجه أبو يعلى أن معاذاً لما قدم من اليمن سجد للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 11 - (بَابُ الْكَنْزِ (1)) 340 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ قَالَ: سُئل ابْنُ عُمَرَ عَنِ الْكَنْزِ (2) ؟ فَقَالَ: هُوَ المالُ (3) الَّذِي لا تُؤَدَّى زكاتُه. 341 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (4) : مَنْ كَانَ له مالٌ، ولم يؤدِّ زكاتَه   له: يا معاذ ما هذا؟ قال: إني لما قدمت على اليمن وجدت اليهود والنصارى يسجدون لعظمائهم وقالوا هذه تحيَّةُ الأنبياء، فقال: كذبوا على أنبيائهم، ولو كنت آمِراً أن يُسجَدَ لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. ويخالفه رواية مالك وغيرها من الروايات الصحيحة. (1) قوله: الكنز، كنز وجد فيه سِمَة الكفر كنقش صنم ونحوه خُمِّس، وأما ما فيه سِمَة الإِسلام فكاللُّقطَة، فالمراد بالكنز ههنا ما يضعه صاحبه في الأرض ويدفنه، أو أريد به ما يجمعه مطلقاً، كذا قال القاري. (2) المذموم الوارد في القرآن. (3) قوله: هو المال ... إلى آخره، على هذا التفسير جمهور العلماء وفقهاء الأمصار (راجع للتفصيل: "فتح الباري": 3/268، و"عمدة القاري": 4/275) ، وقد رواه الثوري عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعاً أخرجه الطبراني والبيهقي وقال: ليس بمحفوظ، وأخرج ابن مردويه، عن ابن عمر مرفوعاً: كلُّ ما أَدِّيت زكاته وإن كان تحت سبع أَرَضين فليس بكنز، وكلُّ ما لا تؤدَّى زكاته فهو كنز وإنْ كان ظاهراً على وجه الأرض. (4) قوله: قال، موقوفاً ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عنه. رواه البخاري، وتابعه زيد بن أسلم عن أبي صالح عند مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 مُثِّلَ (1) لَهُ يومَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا (2) أقْرَعَ (3) ، لَهُ زَبِيبَتَانِ (4) يَطْلُبُهُ حَتَّى يُمْكِنَه (5) فَيَقُولَ: أَنَا كَنْزُكَ (6) . 12 - (بَابُ مَنْ تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ) 342 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يسار: أنَّ (7) رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: لا تَحِلُّ الصدقةُ لغنيٍّ إلاَّ لِخَمْسَةٍ: لغازٍ (8) فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لعاملٍ (9) عليها، أو لغارمٍ (10) ، أو لرجل   (1) أي صُوِّر مالُه في نظره. (2) حية عظيمة. (3) قوله: أقرع، برأسه بياض، وكلما أكثر سُمَّه ابيضّ رأسه، قاله ابن عبد البر. وفي "الفتح": الأقرع الذي تقرَّع رأسه أي تمعَّط لكثرة سُمِّه. (4) أي نقطتان سوداوان في جانبي الرأس. (5) بضم الياء وكسر الكاف مخفَّفاً أي فيتمكن منه فيأخذه ويعضّه. (6) قوله: أنا كنزك، ولابن حبان: يتبعه فيقول: أنا كنزك الذي تركتَه بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يُلقمه يده فيمضغها ثم يتبعها (وفي الأصل: يتبعه، وهو خطأ) سائر جسده. (7) قوله: أنَّ، قال السيوطي: قد وصله أبو داود وابن ماجه من طريق معمر عن زيد، عن عطاء، عن أبي سعيد الخُدْري. (8) قوله: لغاز، وفي معناه منقطع الحاج، وكذا ابن السبيل وهو المسافر الفقير الذي لا مال في يده. (9) من يبعثه الإِمام لجمعها فيُعطى بقدر كفايته وإن كن غنيّاً عنها. (10) أي مديون استغرق دَيْنُه مالَه، بحيث لا يفضل نصاب له، أو لصاحب غرامة من دِيَةٍ لزمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 اشْتَرَاهَا (1) بِمَالِهِ أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ (2) مِسْكِينٌ تُصُدِّق (3) عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى إِلَى الغنيِّ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِذَا كَانَ لَهُ عَنْهَا (4) غِنًى يَقْدِرُ بِغِنَاهُ عَلَى الْغَزْوِ لَمْ يُستحبّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا (5) ، وَكَذَلِكَ الْغَارِمُ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ بدَيْنه وَفَضْلٌ (6) تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لَمْ يُستحبّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 13 - (بَابُ زَكَاةِ الْفِطْرِ (7)) 343 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ أنَّ ابنَ عمر كان يبعث بزكاة   (1) أي الزكاة من مصرفها. (2) قوله: له جار، خرج على جهة التمثيل فلا مفهوم له. (3) بصيغة المجهول. (4) أي عن الصدقة. (5) قوله: شيئاً، بل يُستحب له أن لا يأخذ، وفيه تنبيه على أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر من قدر كفاية. (6) أي زيادة. (7) هي واجبة عندنا، وقيل مستحبة (قال العيني: فرض عند مالك والشافعي وأحمد، وواجبة عند أبي حنيفة، وسنة في رواية عن مالك، وعند طائفة من الحنفية، وقيل: مندوبة، كانت واجبة ثم نُسخت. راجع عمدة القاري 4/462، وفيه ثمانية أبحاث مفيدة. وانظر أوجز المسالك 6/113) ، وقدرها نصف صاع من بر وصاع من غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 الْفِطْرِ إِلَى الَّذِي (1) تُجْمَعُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وبهذا نأخذ، يُعجبنا (2) تعجيلُ زكاة   (1) هو من نصبه الإِمام لقبضها، قوله: إلى الذي تُجمع عنده، قال في "ضياء الساري": قال البخاري: كان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، والمراد بهم الذين نصبهم الإِمام لقبضها، وبهذا جزم ابن بطّال، وقال ابن التين: معناه من قال أنا فقير من غير أن يتجسّس. قال الحافظ: والأول أظهر، وقد وقع في رواية ابن خُزَيْمة من طريق عبد الوارث عن أيوب قلت لنافع: متى كان ابن عمر يعطي؟ قال: إذا قعد العامل، قلت: متى كان يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيوم أو يومين، ولمالك في "الموطأ" عن نافع أن ابن عمر: كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي تُجمع عنده قبل الفطر بيوم أو يومين، وأخرجه الشافعي عنه، وقال: هذا حسن وأنا أستحبه يعني تعجيلَها قبل الفطر. انتهى. ويدل على ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري في "الوكالة" وغيرها عن أبي هريرة قال: وكَّلني رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان ... الحديث، وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاثَ ليالٍ وهو يأخذ من التمر، فدل على أنهم كانوا يعجِّلونها. (2) ليكون عاملاً بقوله تعالى: {قد أفلح من تزكّى} أي أخرج زكاة الفطر {وذكر اسمَ ربِّه} أي بالتكبير في طريقه {فصلّى} أي صلاةَ عيده. قوله: يعجبنا ... إلى آخره، لما أخرجه الحاكم في "علوم الحديث" عن أبي العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن الجهم، نا نضر بن حماد، نا أبو معشر عن نافع، عن ابن عمر: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نُخرج صدقة الفطر عن كل صغير وكبير وحرٍّ وعبد صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من شعير أو صاعاً من قمح، وكان يأمرنا أن نُخْرِجَها قبل الصلاة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقْسمها قبل أن ينصرف إلى المصلّى، ويقول: أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم. وفي صحيح البخاري، وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بزكاة الفطر أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة. وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني عن الحجاج بن أرطاة عن ابن عباس قال: من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 الْفِطْرِ (1) قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ إِلَى الْمُصَلَّى، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. 14 - (باب صَدَقَةِ الزَّيْتُونِ) 344 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: صَدَقَةُ الزَّيْتُونِ (2) العُشر. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذ إذ خرج (3) منه خمسة أوسق   السُّنَّة أن يُخرج صدقة الفطر قبل الصلاة (يستحب أداؤها قبل الخروج إلى الصلاة، وقد اتفق عليه الأربعة كما في "عمدة القاري") ولا يَخرج حتى يطعم. وأخرج ابن سعد في "الطبقات" عن أبي سعيد الخدري قال: فرض صوم رمضان بعد ما حُوِّلت القِبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة، وأمر عليه السلام في هذه السنة بزكاة الفطر، وأن يخرج عن الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو مدين من بُرّ (بهذا قال أبو حنيفة: نصف صاع من القمح، أي الحنطة - وصاع من التمر والشعير، وقال الشافعي: صاع من كل شيء في صدقة الفطر، ومذهب مالك وأحمد وإسحاق مثل مذهب الشافعي في تقديره بالصاع في البُرّ. انظر أوجز المسالك 6/132) ، وأمر بإخراجها قبل الغُدُوِّ إلى الصلاة وقال: أغنوهم يعني المساكين عن الطواف في هذا اليوم. (1) قال القاري: لقوله تعالى: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم} (سورة آل عمران: الآية 133) ، ولأن في التأخير آفات. (2) الزيتون معروف، والزيت دهنه. (3) قوله: إذا خرج منه خمسة أوسق فصاعداً، فحينئذٍ يجب فيه العشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 فَصَاعِدًا (1) ، وَلا يُلتفت (2) فِي هَذَا إِلَى الزَّيْتِ، إِنَّمَا يُنظر فِي هَذَا إِلَى الزَّيْتُونِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَفِي قليله وكثيره.   سواء كان الزيت الخارج منه أقلّ أو أكثر، وأما عند أبي حنيفة ففي كل ما يخرج من الأرض العشر من دون تقدير بخمسة أوسق وقد مرَّ تفصيله، وقال محمد بن عبد الباقي الزُّرقاني به أي بوجوب العُشر في الزيتون. قال جماعة من الفقهاء وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، والثاني كابن وهب وأبي ثور وأبي يوسف ومحمد لا زكاة فيه لأنه إدام، لا قوت. انتهى. وأنت تعلم ما فيه (قال شيخنا في "الأوجز" 6/45: وما حكى الزُّرقاني (2/130) عن صاحبَيْ أبي حنيفة لم أجده في كتبنا، بل ذكر الإِمام محمد في موطَّئه حديث الباب، ثم قال: وبهذا نأخذ إذا خرج منه خمسة أوسق فصاعداً، ولا يُلتفت في هذا إلى الزيت، وإنما يُنظر إلى الزيتون، وأما في قول أبي حنيفة ففي قليله وكثيره. انتهى. وهذا صريح في أن محمداً - رحمه الله - قائل بوجوب العُشر في الزيتون) فإن كلام محمد ههنا صريح في وجوب العشر في الزيتون. (1) قياساً على ما ورد. (2) أي بأن يكون قليلاً أو كثيراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 (أَبْوَابُ الصِّيَامِ (1)) 1 - (بَابُ الصَّوْمِ لِرُؤْيَةِ الْهِلالِ (2) والإِفطار لِرُؤْيَتِهِ) 345 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ (3) رَمَضَانَ، فَقَالَ: لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوا (4) الْهِلالَ، وَلا تُفطروا حتى تَرَوْه،   (1) قوله: الصيام (الصوم لغة: الإِمساك عن أي شيء كان قولاً كقوله تعالى: {إنِّي نذرتُ للرحمن صوماً فلن أكلِّم اليوم إنسيّاً} أو فعلاً كقول النابغة الذبياني: خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة * تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما صام الخيل إذا لم تعتلف، وهو المشهور. راجع لتفصيله "اللسان" و"عمدة القاري" 5/253) ، بكسر الصاد، والياء بدل من الواو، وهو الصوم مصدران لصام، وهو ربع الإِيمان لحديث: الصوم نصف الصبر، وحديث: الصبر نصف الإِيمان. (2) قوله الهلال: قال الأزهري: يُسمَّى القمر لليلتين من أول الشهر هلالاً، وفي ليلة ست وسبع وعشرين أيضاً وما بين ذلك يسمى قمراً. (3) قوله: ذَكَر رمضان، فيه إيماء إلى جواز ذكره بدون شهر، قال عياض: هو الصحيح، ومنعه أصحاب مالك لحديث " لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا: شهر رمضان"، أخرجه ابن عَدِيٌ وضعفه. وفرّق ابن الباقلاّني بأنه إن دلَّت قرينة على صرفه إلى الشهر كصمنا رمضان جاز، وإلا امتنع كجاء ودخل. وبالفرق قال كثير من الشافعية، قال النووي: والمذهبان فاسدان لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت فيه نهي، ولا يصح قولهم إنه اسم الله لأنه جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله توقيفية لا تُطلق إلا بدليل صحيح. ولو ثبت أنه اسم لم يلزم كراهته، كذا قال الزرقاني. (4) والمراد به رؤية بعض المسلمين لا كلّ الناس. قوله: حتى تَرَوا الهلال، يجب على الناس كفايةً أن يلتمسوا هلال رمضان يوم التاسع والعشرين من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 فَإِنْ غُمَّ (1) عَلَيْكُمْ فاقْدُروا (2) لَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله.   شعبان لأنه قد يكون ناقصاً، نص عليه الشرنبلالي في "مراقي الفلاح" وهذا معنى قول القُدُوري: ينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال يوم التاسع والعشرين كما فسّره ابن الهمام في "فتح القدير "، وذلك لما روى عن البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهر تسع وعشرون ليلةً فلا تصوموا حتى تَرَوْه، فإن غَمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين. قوله: غُمّ، بضم الغين المعجمة وتشديد الميم أي حال بينكم وبينه غيم. قوله: أكملوا العَدّة، أي عدة شعبان لأن الأصل في الشهر هو البقاء، وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن أُغمي عليكم فأكملوا العدد. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حالت دونه غياية فأكملوا ثلاثين يوماً. قوله: غياية، بالتحتيتين، كل ما أظلّك من سحابة أو غيرها. وقد بسطتُ الكلام في رسالتي "القول المنثور في هلال خير الشهور". (1) بضم الغين وتشديد الميم أي حال بينكم وبينه الهلال غيم. (2) بضم الدال أي فقدِّروا له تمام العدد ثلاثين كما في رواية أخرى، أمر: فأكملوا العدة ثلاثين. قوله: فاقدروا له، قال النووي: اختُلف في معناه، فقالت طائفة: معناه ضيِّقوا له، وقدِّروه تحت السحاب، وبهذا قال أحمد وغيره ممن يجوّز صوم ليلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 2 - (بَابُ مَتَى يَحْرُمُ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ) 346 - أَخْبَرَنَا مالك، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ بِلالا يُنَادِي (1) بليلٍ (2) فكُلُوا (3)   الغيم عن رمضان، وقال ابن شريح وجماعة: معناه قدروه بحساب المنازل. وذهب الأئمة الثلاثة والجمهور إلى أن معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوماً، كما في الرواية الأخرى. (1) أي يؤذّن، قوله: ينادي، في هذا الحديث مشروعية الأذان قبل الوقت في الصبح، وهل يُكتفى به عن الأذان بعد الفجر أم لا؟ ذهب إلى الأول الشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم، وروى الشافعي في القديم عن عمر أنه قال: عجِّلوا الأذان بالصبح، يدلج المدلج، وتخرج العائرة. وصحح في "الروضة" أن وقته من أول نصف الليل الآخر، وهذا هو مذهب أبي يوسف من الحنفية وابن حبيب من المالكية، لكن على هذا يُشَكل قولُ القاسم بن محمد المرويِّ عند البخاري في "الصيام" لم يكن بين أذانيهما أي أذان بلال وأذان ابن أمِّ مكتوم إلا أن يرقى ذا وينزل ذا. ومن ثمَّ اختار السبكي في "شرح المنهاج" أن الوقت الذي يُؤَذّن فيه قبل الفجر هو وقت السَّحَر، كذا في "إرشاد الساري". (2) قوله: بليل، قال مالك: لم تزل صلاة الصبح يُنادى لها قبل الفجر، فأما غيرها من الصلوات فإنا لم نرها يُنادى لها إلا بعد أن يحلّ وقتها، قال الكرخي من الحنفية: كان أبو يوسف يقول بقول أبي حنيفة، لا يؤذَّن لها حتى أتى المدينة، فرجع إلى قول مالك، وعلم أنه عملهم المتصل. قال الباجي: يظهر لي أنه ليس في الأثر ما يقتضي أن الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر، فإن كان الخلاف في الأذان ذلك الوقت فالآثار حجّة لمن أثبته، وإن كان الخلاف في المقصود به فيحتاج إلى ما يبيِّن ذلك. (3) فيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت فبيَّنَ أن أذان بلال على خلاف ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ (1) ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ (2) . 347 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ (3) ، عَنْ سَالِمٍ مِثْلَهُ، قَالَ (4) : وَكَانَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ لا يُنادي (5) حَتَّى يُقَالَ لَهُ: قَدْ أَصْبَحْتَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: كَانَ (6) بلالٌ ينادي بليل في شهر رمضان   (1) قوله: حتى ينادي ابنُ أم مكتوم، قد أخرج هذا الحديث الشيخان وغيرهما من حديث ابن عمر وعائشة. ورواه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود وسَمُرة وصحّحهما. وفي الباب عن أنس وأبي ذرّ. وروى أحمد وابن خزيمة وابن حبان من حديث أنيسة بنت حبيب هذا الحديث بلفظ: إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال. وروى ابن خزيمة عن عائشة مثله، وقال: إن صح هذا الخبر فيحتمل أن يكون كان الأذان بين بلال وابن أم مكتوم نوباً، فكان بلال إذا كانت نوبته يعني السابقة أذن بليل، وكذلك ابن أم مكتوم، وجزم به ابن حبان أنه صلّى الله عليه وسلّم جعل الأذان بينهما نوباً. وحكم ابن عبد البر وابن الجوزي ومن تبعهما على حديث أنيسة بالوهم، وأنه مقلوب، كذا في "تخريج أحاديث الرافعي" لابن حجر. (2) فإنه ينادي أول ما يبدأ الصبح. (3) لم يُختلف على مالك في الإِسناد الأول أنه موصول، وأما هذا فرواه يحيى وأكثر الرواة مرسلاً، فوصله القعنبي، فقال: عن سالم عن أبيه، قاله ابن عبد البر. (4) عين الطحاوي أن قائله ابن شهاب. (5) لكونه أعمى. (6) قوله: كان بلال ... إلى آخره، أجاب أصحابنا القائلون بعدم جواز الأذان قبل الوقت مطلقاً ولو بالصبح عن الأحاديث المُثْبَتة له بوجوه: الأول: ما أشار إليه ههنا، وهو أن أذان بلال بليل لم يكن للصلاة ليُحكم به بجواز أذان الفجر قبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   دخول وقته، بل كان لسحور الناس في شهر رمضان خاصّة، وأذان الفجر إنما كان ما يؤذّنه ابن أم مكتوم بعد طلوع الفجر. ويعضده رواية مسلم مرفوعاً: لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذِّن أو قال: ينادي ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم. وأخرج الطحاوي عن ابن مسعود مرفوعاً: لا يمنعنّ أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه ينادي أو يؤذّن ليرجع غائبكم أو لينتبه نائمكم. ففي هاتين الروايتين وأمثالها تصريح بأن أذان بلال ليس للصلاة بل لأمر آخر، والثاني: أن بلالاً إنما كان يؤذّن بليل لأنه كان في بصره سوء لا يقدر به على تمييز الفجر، ذكره الطحاوي وأيّده بما أخرجه عن أنس مرفوعاً: لا يغرّنكم أذان بلال فإن في بصره شيئاً، وقال: فدل ذلك على أن بلالاً كان يريد الفجر فيخطئه لضعف بصره فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن لا يعلموا على أذانه إذ كان من عادته الخطأ لضعف بصره (انظر شرح معاني الآثار 1/82 - 84) . انتهى. وفيه بُعْد ظاهر فإنه لو كان كذلك لم يقرِّره النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤذناً له وعلى تقدير التقرير لم يؤذِّن له بأذان الصبح. والثالث: المعارضة بأحاديث أخر، منها ما أخرجه أبو داود عن شداد عن بلال أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا، ومدّ يده عرضاً. وأخرج الطحاوي والبيهقي عن نافع عن ابن عمر عن حفصة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أذّن المؤذن بالفجر قام فصلى ركعتي الفجر، ثم خرج إلى المسجد، وكان لا يؤذِّن حتى يصبح. وأخرج أبو داود عن ابن عمر أن بلالاً أذَّن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد قد نام. وفي الباب أخبار أخر مبسوطة في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي وغيره، والحق في هذا المقام أنه لا سبيل إلى المعارضة، فإن الأحاديث المثبتة للأذان بليل صحيحة وما عداها مقدوحة كما بسطه الزيلعي وغيره، وتخصيص كونه برمضان فقط ليس بذلك ما لم يثبت بأثر صحيح صريح، وزَعْمُ أنه كان للصلاة غير مستند إلى دليل يُعتدّ به، بل الظاهر أن أذان بلال بليل كان لإِرجاع القائمين وإيقاظ النائمين، فهو ذكر بصورة الأذان، فافهم فإن الأمر مما يُعرف ويُنكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 لِسَحُورِ (1) النَّاسِ، وَكَانَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ يُنَادِي لِلصَّلاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ (2) . 3 - (بَابُ مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ) 348 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري، عَنْ حُمَيد (3) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (4) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلا (5) أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَ (6) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يكفِّر بِعِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ متتابعين أو إطعام   (1) بالضمّ، مصدر بمعنى الأكل وقت السحر، وأما بالفتح فهو اسم لما يؤكل فيه. (2) قوله: ابن أم مكتوم، اسمه عمرو، وقيل: الحصين، فسمّاه النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الله، أسلم قديماً، وشهد القادسية في خلافة عمر واستشهد بها، والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة، واسم أمه عاتكة المخزومية، وزعم بعضهم أنه وُلد أعمى، فكنيت أمُّه به لاكتتام نور بصره، كذا ذكره الزرقاني. (3) أبو عبد الرحمن المدنيّ، وثّقه العجلي وغيره، ومات سنة 95 هـ، وقيل: 105 هـ، كذا في "الإِسعاف". (4) أي ابن عوف، كما ليحيى. (5) قوله: أن رجلاً، هو سلمان، وقيل سلمة بن صخر البياضي، رواه ابن أبي شيبة وابن الجارود، وبه جزم عبد الغني، وتُعقّب بأن سلمة هو المُظاهر في رمضان، وإنما أتى أهله ليلاً رأى خلخالها في القمر. (6) في نسخة: أمره. قوله: أفطر في رمضان، قال ابن عبد البر: كذا رواه مالك ولم يذكر بماذا أفطر، وتابعه جماعة عن ابن شهاب، وقال أكثر الرواة عن الزهري: إن رجلاً وقع على امرأته في رمضان، فذكروا ما أفطر به، فتمسك به أحمد والشافعي ومن وافقهما في أن الكفارة خاصة بالجماع، فإن الذمة بريئة فلا يثبت شيء فيها إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَ لا أَجِدُ (1) ، فأُتي (2) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعَرَقٍ (3) مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: خُذْ هَذَا فتصدَّق بِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجِدُ أَحَدًا (4) أحوجَ (5) إِلَيْهِ مِنِّي، قَالَ: كُلْه (6) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذ إذا أفطر الرجل متعمِّداً (7)   بيقين، وقال مالك وأبو حنيفة وطائفة: عليه الكفارة بتعمُّد أكل وشرب ونحوهما أيضاً، لأن الصوم شرعاً الامتناع عن الأكل والجماع فإذا ثبت في وجه من ذلك شيء ثبت في نظيره (والجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمداً. انظر أوجز المسالك 5/66) . (1) وفي حديث عائشة قال: تصدَّق، فقال: يا بني الله ما لي شيء، وما أقدر عليه. (2) لم يسمِّ الآتي، وللبخاري في الكفارات: فجاء رجل من الأنصار. (3) فسّر الزُّهريّ في رواية الصحيحين بأنه المِكْتَل (العَرَق) بفتح العين والراء، وروي بإسكان الراء، وذَكر في "المُغرب" وغيره أن العرق مكتل يسع ثلاثين صاعاً من تمر وقيل خمسة عشر. (4) أي بين لابتي المدينة، كما في رواية. (5) أي أفقر إلى أكله. (6) قوله: كُلْه، احتج به القائل بأنه لا تجب الكفارة، ورُدّ بأنه أباح له تأخيرها إلى وقت اليُسْر، لا أنه أسقطها عنه جملة، وقال عياض: قال الزهري: هذا خاصّ بذا الرجل. (7) وأمّا الناسي فلا كفارة عليه ولا قضاء بل يُتمّ صومه. (1) قوله: بأكل أو شرب، قد يُسْتَدَلّ عليه بإطلاق الفطر في الحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بأكلٍ أَوْ شربٍ (1) أَوْ جِمَاعٍ (2) فَعَلَيْهِ (3) قضاءُ يومٍ مَكَانَهُ، وكفّارةُ الظِّهَارِ أنْ (4) يعتقَ رَقَبَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ (5) فصيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ (6) سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ (7) مِنْ حِنْطَةٍ أو صاع من تمر أو شعير.   المذكور ويُنازَع بأنه محمول على الجماع. فقد رواه عشرون من حافظ أصحاب الزهري بذكر الجماع، والأحسن في الاستدلال ما أخرجه الدارقطني من طريق محمد بن كعب عن أبي هريرة أن رجلاً أكل في رمضان. فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعتق رقبة "الحديث" لكن إسناده ضعيف لضعف أبي معشر راويه عن ابن كعب، والمشهور في الاستدلال حمل النظير على النظير. (2) أخّره مبالغة في استواء أمره مع غيره. (3) أي: فعليه شيئان. قوله: فعليه قضاء ... إلى آخره، ثبت في رواية أبي داود من حديث أبي هريرة في قصة المُجامع في رمضان، وفي سندها ضعف، وورد أيضاً في رواية مالك عن سعد بن المسيب مرسلاً، وفي رواية سعيد بن منصور وغيرهما، ذكره ابن حجر. (4) في بعض النسخ: وهي أن. (5) قوله: فإن لم يجد ... إلى آخره، فيه إشعار بأنه لا ينتقل عن العتق إلى الصيام وكذا عنه إلى الإِطعام إلا عند العجز، وبه ورد التصريح في كثير من الروايات، وبه أخذ أصحابنا والشافعي، وقال مالك: هو على التخيير أخذاً بظاهر ما رواه عن الزُّهري عن حميد عن أبي هريرة، قاله الزرقاني. (6) في نسخة: فإطعام. (7) قوله: نصف صاع، فالمجموع ثلاثون صاعاً من حنطة أو ستون صاعاً من شعير أو تمر وأما قصة العرق الذي كان فيه التمر أقل من ذلك فمحمول على القدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 4 - (بَابُ الرَّجُلِ يَطْلُعُ لَهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ (1)) 349 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ (2) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ (3) ، عَنْ أَبِي يونس (4) مولى عَائِشَةَ (5) أَنَّ رَجُلا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ (6) وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وأنا أسمع (7) : إني أصبحتُ   المعجَّل (قال الحافظ: قد اعتنى به - أي بالحديث المذكور - بعض المتأخرين ممن أدركه شيوخنا، فتكلم عليه في مجلّدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة. فتح الباري 3/172) . (1) أي والحال أنه يجب عليه الغسل سواء يكون عن احتلام أو جماع أو انقطاع حيض أو نفاس. (2) أبو طوالة قاضي المدينة لعمر بن عبد العزيز، ثقة مات سنة 134 هـ، كذا في "التقريب". (3) ابن حزم الأنصاري. (4) وثقه ابن حبان، قاله السيوطي، قوله: عن أبي يونس أن رجلاً .... إلى آخره، هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها عن أبي يونس عن عائشة، وقال الزرقاني: هكذا لجميع رواة الموطأ، كيحيى عند ابن وضاح عن أبي يونس عن عائشة أن رجلاً ... إلى آخره، وأرسله عبيد الله بن يحيى عنه، فلم يذكر عن عائشة. (5) نادت عائشة - في مسلم - من وراء الباب. (6) أي: والحال أن الرجل. (7) أي قولَه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 جُنُباً وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ (1) ، فَقَالَ (2) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا (3) أُصْبِحُ (4) جُنُبًا، ثُمَّ أَغْتَسِلُ (5) فَأَصُومُ، فَقَالَ الرَّجُلُ (6) : إنَّكَ لستَ (7) مِثْلَنَا، فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ (8) مَا تقدَّم مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَغَضِبَ (9) رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم   (1) فهل يصح صيامي؟ (2) أجابه بالفعل لأنه أبلغ. (3) ولك فيّ أسوة. (4) أي أحياناً. (5) بعد الصبح للصلاة. (6) اعتقد الرجل أن ذلك من خصائصه لأن الله يحلّ لرسوله ما شاء. (7) كأن السائل لم يكن ماهراً في قيام المبنى ولا في مقام المعنى وإلا فحقُّه أن يقول إنا لسنا مثلك فلا يُقاس حالنا على حالك، كذا قال القاري. (8) قوله: فقد غفر الله لك ... إلى آخره، أي ستر وحال بينك وبين الذنب فلا يقع منك ذنب أصلاً، إلا أن الغفر هو الستر، فهو كناية عن العصمة. (9) أي لِما ظهر من قوله ترك الاقتداء بفعله مع أنه يجب المتابعة لفعله وقوله وتقريره في جميع الأحكام. نعم له خصوصيات معلومة عند العلماء الكرام، لكنه صلّى الله عليه وسلّم حيث دلّه على حكمه بفعله تبيّن أنه ليس من مخصوص حكمه، فغضب لأجله. قوله: فغضب، لاعتقاده الخصوصية بلا علم مع كونه أخبره بفعله جواباً لسؤاله وذلك أقوى دليل على عدم الاختصاص، أشار إليه ابن العربي. وقال الباجي: قول السائل ذلك وإن كان على معنى الخوف والتوقِّي، لكن ظاهره أنه يعتقد فيه صلّى الله عليه وسلّم ارتكاب ما شاء لأنه غُفر له أو لعله أراد أن الله يُحلّ لرسوله ما شاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أكونَ أَخْشَاكُمْ (1) لِلَّهِ عزَّ وَجَلَّ وَأَعْلَمَكُمْ (2) بِمَا أَتَّقِي (3) . 350 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سُمَيٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (4) أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَأَبِي (5) عِنْدَ مروان بن الحكم (6)   (1) قوله: أخشاكم، قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: فيه إشكال لأن الخوف والخشية حالتان تنشآن عن ملاحظة شدّة النقمة الممكن وقوعها بالخائف، وقد دل القاطع على أنه صلّى الله عليه وسلّم غير معذَّب، فكيف يُتصوَّر منه الخوف؟! فكيف أشد الخوف؟! والجواب أن الذهول جائز عليه فإذا حصل الذهول حصل له الخوف، كذا في "مرقاة الصعود". (2) وأعلمكم بما أتقي، قال عياض: فيه وجوب الاقتداء بأفعاله والوقوف عندها إلا ما قام الدليل على اختصاصه به، هو قول مالك، وأكثر أصحابنا البغداديين، وأكثر أصحاب الشافعي، وقال معظم الشافعية: إنه مندوب، وحملته طائفة على الإِباحة. (3) أي بما يجب أن أتَّقي منه من فعل أو ترك أو قول. (4) ابن الحارث بن هشام. (5) عبد الرحمن المدني، له رؤية، وكان من كبار ثقات التابعين، مات سنة 43، كذا ذكره الزُّرقاني. (6) قوله: عند مروان بن الحكم، مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، يقال: له رؤية، فإن ثبت فلا يعرج على من تُكُلِّم فيه، وإلاَّ فقد قال عروة بن الزبير: كان مروان لا يُتَّهم في الحديث، وقد روى سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتماداً على صدقه وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وَهُوَ أَمِيرُ (1) الْمَدِينَةِ، فذَكَر (2) أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ (3) قَالَ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً أَفْطَرَ (4) ، فَقَالَ مَرْوَانُ: أقسمتُ عليك   فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى، كذا في "هدي الساري مقدمة فتح الباري" للحافظ ابن حجر. (1) من جهة معاوية. (2) قوله: فذكر، بالبناء للفاعل ففي رواية لمسلم: فذكر له عبد الرحمن، وللبخاري: أنَّ أباه عبد الرحمن أخبر مروان أن أبا هريرة ... إلى آخره. (3) قوله: أنَّ أبا هريرة قال، أجمع أهل هذه الأعصار على صحة صوم الجنب سواء كان من احتلام أو جماع، وبه قال جماهير الصحابة والتابعين، وحُكي عن الحسن بن صالح بن يحيى إبطاله، وكان عليه أبو هريرة، والصحيح أنه رجع عنه كما صرح به في رواية مسلم، وقيل: لم يرجع عنه وليس بشيء، وحُكي عن طاوس وعروة إن علِم بجنابته لا يصح، وإلاَّ يصح، وحُكي مثله عن أبي هريرة، وحُكي أيضاً عن الحسن البصري، وحُكي عن النخعي أنه يجزيه في صوم التطوع دون الفرض، وحُكي عن سالم بن عبد الله والحسن بن صالح والحسن البصري يصومه ويقضيه، ثم ارتفع الخلاف، وأجمع العلماء بعد هؤلاء على صحته (اختلف السلف في هذه المسألة على أقوال كثيرة، لكن الجمهور وفقهاء الأمصار على الجواز، فصارت المسألة كالإِجماعية بعدما كانت كثيرة الاختلاف. انظر لامع الدراري 5/384، وأوجز المسالك 5/30 - 46، وفتح الملهم 3/129) ، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي - رحمه الله - (4) أي بطل صومه، لكنه أمسك وقضى، قوله: أفطر، لحديث الفضل بن عباس في مسلم، وحديث أسامة بن زيد عند النسائي مرفوعاً: من أدركه الفجر جنباً فلا يصم، والنسائي عن أبي هريرة: لا وربِّ هذا البيت، ما أنا قلتُ من أدركه الصبح وهو جنب، فلا يصوم، محمّدٌ وربِّ الكعبة قاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لتذهبَنَّ إِلَى أمَّيْ (1) الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَتَسْأَلْهُمَا عَنْ ذَلِكَ، قَالَ (2) : فَذَهَبَ (3) عبدُ الرَّحْمَنِ (4) وذهبتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ، فسلَّمنا (5) عَلَى عَائِشَةَ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، كُنَّا عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَذَكَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، قَالَتْ: لَيْسَ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أترغَبُ (6) عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: لا (7) وَاللَّهِ، قَالَتْ: فأشهدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصبح جُنُباً من   (1) تثنية أمّ. (2) أي أبو بكر. (3) قوله: فذهب عبد الرحمن، قال الزرقاني: ووقع عند النسائي من رواية عبد ربه بن سعيد عن أبي عياض، عن عبد الرحمن: أرسلني مروان إلى عائشة فأتيتُها فلقيتُ ذكوان، فأرسلته إليها، فسألها عن ذلك فذكر الحديث مرفوعاً: قال: فأتيت مروان فحدثته فأرسلني إلى أمِّ سلمة، فأتيتها، فلقيت غلامها نافعاً، فأرسلته إليها، فسألها عن ذلك، فذكر مثله. قال الحافظ: في إسناده نظر لأن أبا عياض مجهول، فإنْ كان محفوظاً فيُجمع بأنَّ كلاًّ من الغلامين كان واسطة بين عبد الرحمن وبينهما في السؤالن وسمع عبد الرحمن وابنُه أبو بكر كلامَهما من وراء الحجاب بعد الدخول. (4) يعني أباه. (5) أي من وراء حجاب. (6) الرغبة إذا كانت صلتها بـ"عن"، يكون معناه الإِعراض، أتت بذلك مبالغة في الردِّ عليه. (7) أي لا أرغب عنه. والأصل عدم الاختصاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 جِماع (1) غَيْرَ احْتِلامٍ (2) ، ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ (3) : ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أمِّ سَلَمَةَ فَسَأَلَهَا (4) عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ كَمَا قَالَتْ (5) عَائِشَةُ، فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا مَرْوَانَ، فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا قَالَتَا، فَقَالَ (6) : أقسمتُ عَلَيْكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ (7) لتركَبَنَّ دابَّتي (8) ، فَإِنَّهَا بِالْبَابِ (9) ، فلتذهبَنَّ إلى أبي هريرة، فإنه (10)   (1) وفي رواية للنسائي: كان يصبح جُنُباً منِّي. (2) قوله: احتلام، في دليل لمن يقول بجواز الاحتلام على الأنبياء، والأشهر امتناعه، قالوا: لأنه من تلاعب الشيطان وهم منزَّهون عنه، ويتأوَّلون هذا الحديث على أن المراد يصبح جُنُباً من جماع، ولا يجنب من احتلام لامتناعه منه ويكون قريباً من معنى قوله تعالى: {وَيقْتُلُون النَّبِيّيْنَ بِغَيْرِ حَقٍّ} ، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي. وقال السيوطي: قصدت بذلك المبالغة في الردِّ، والمنفي على إطلاقه لا مفهوم له لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يحتلم، إذ الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه. (3) أبو بكر. (4) عبد الرحمن. (5) في رواية النسائي: فقالت أم سلمة: كان يصبح جنباً مني فيصوم ويأمرني بالصيام. (6) أي مروان. (7) كنية عبد الرحمن. (8) أي الخاصة. (9) أي واقفة بها. (10) قوله: فإنه بأرضه بالعقيق، وفي رواية للبخاري: ثم قُدِّر لنا أن نجتمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ (1) ، فلتخبِرَنَّهُ ذَلِكَ (2) ، قَالَ: فَرَكِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَكِبْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَتَحَدَّثَ مَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَاعَةً (3) ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ (4) ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لا عِلْمُ لي (5) بذلك، إنما أخبَرَنِيه (6)   بذي الحُلَيْفةِ وكان لأبي هريرة هناك أرض. فظاهره أنهم اجتمعوا من غير قصد، ورواية مالك نصٌّ في القصد، فيُحمل قوله: "ثم قُدِّر لنا" على المعنى الأعمّ من التقدير، لا الاتفاق، ولا تخالف بين قوله بذي الحليفة وبين قوله بالعقيق لاحتمال أنهما قصداه إلى العقيق، فلم يجداه ثم وجداه بذي الحليفة وكان له بها أرض أيضاً. وفي رواية معمر عن الزهري، عن أبي بكر، فقال مروان: عزمتُ عليكما إلاَّ ذهبتما إلى أبي هريرة، قال: فلقينا أبا هريرة عند باب المسجد، والظاهر أن المراد مسجده بالعقيق لا المسجد النبوي، أو يُجمع بأنهما التقيا بالعقيق، فذكر له عبد الرحمن القصَّة مجملة، ولم يذكرها، بل شرع فيها ثم لم يتهيَّأ له ذكر تفصيلها، وسماع جواب أبي هريرة إلاَّ بعد رجوعه إلى المدينة وإرادة دخول المسجد النبوي، قاله الحافظ. (1) موضع. (2) أي نقْلَهما المخالفَ لقوله. (3) وعند البخاري فقال له عبد الرحمن: إني ذاكر لك أمراً، ولولا أن مروان أقسم عليّ لم أذكره لك. (4) وفي مسلم: فقال: أهما قالتا ذلك؟ قال: نعم، قال: هما أعلم، ورجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك. (5) أي من المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بلا واسطة. (6) وفي البخاري: فقال: كذلك أخبرني الفضل بن عباس، وهو أعلم أي بما روى. قوله: إنما أخبرنيه مخبر، لما ثبت عنده أن حديث عائشة وأمّ سلمة على ظاهره، وهذا متأوَّل رجع عنه، وكان حديث عائشة وأم سلمة أَوْلَى بالاعتماد لأنهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 مُخبر (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ مِنْ غَيْرِ احْتِلامٍ (2) فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدَ مَا طَلَعَ الفجر فلا بأس   أعلم بمثل هذا من غيرهما، ولأنه موافق للقرآن، فإن الله تعالى أباح الأكل والمباشرة إلى طلوع الفجر، ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طلوع الفجر لزم منه أن يصبح جُنُباً، ويصح صومه، وإذا دلَّ القرآن وفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم على جواز الصوم لمن أصبح جنباً وجب الجواب عن حديث أبي هريرة، عن الفضل، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وجوابه من ثلاثة أوجه، أحدها: أنه إرشاد إلى الأفضل، فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر، ولو خالف جاز، وهذا مذهب أصحابنا وجوابهم عن الحديث، فإن قيل: كيف يقولون: الاغتسال قبل الفجر أفضل وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم خلافه؟ فالجواب أنه فعله لبيان الجواز، ويكون في حقه حينئذٍ أفضل لأنه يتضمَّن البيان للناس، وهذا كما أنه يتوضأ مرَّة مرَّة، في بعض الأوقات بياناً للجواز، ومعلوم أن الثلاث أفضل. والجواب الثاني: أنه لعله محمول على من أدركه الفجر مجامعاً فاستدام بعد طلوع الفجر عالماً فإنه يفطر. والثالث: جواب ابن المنذر في ما رواه البيهقي عنه أن حديث أبي هريرة منسوخ، وأنه كان في أول الأمر حينما كان الجماع محرَّماً في الليل بعد النوم كما كان الطعام والشراب محرّماً، ثم نُسخ ولم يعلمه أبو هريرة، فكان يُفتي بما علمه حتى بلغه الناسخ، فرجع إليه، قال ابن المنذر: هذا أحسن ما سمعت فيه، كذا في "شرح صحيح مسلم" (3/165، من طبعة دار الشعب) للنووي. (1) للنسائي: أخبرنيه أسامة بن زيد، وله أيضاً: أخبرنيه فلان وفلان، فيحتمل أنه سمعه من الفضل وأسامة فأرسل الحديث أولاً ثم أسنده لمّا سُئل عنه. (2) قوله: من غير احتلام، إنما ذكره لأن الدليل الذي سيذكره إنما يدل عليه، لا لأن حكمه مخالف لما نحن فيه، بل حكم الاحتلام والجماع سواء، ويدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 بِذَلِكَ، وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {أُحِلَّ لَكُمْ (1) ليلةَ الصيام الرَّفَثُ (2) إلى نسائكم،   عليه قوله عليه الصلاة والسلام: ثلاث لا يفطّرن الصائم: الحجامة والقيء والاحتلام. أخرجه الترمذي والبيهقي في سننه وابن حبان في "الضعفاء" والدارقطني وابن عدي من حديث أبي سعيد الخدري، والبزار وابن عَدِيّ من حديث ابن عباس، والطبراني في "الأوسط" من حديث ثوبان. وفي أسانيده كلام يرتفع بكثرة الطرق، كما بسطه الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الهداية" وغيره. (1) قوله: أُحلَّ لكم، أخرج وكيع وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن البراء قال: كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإِفطار، فنام قبل أن يُفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً وكان يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا، ولكن انطلق فاطلب، فغلبت عيناه فنام، وجاءت امرأته، فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذكر ذلك لرسول الله فنزلت هذه الآية. وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر بسند حسن عن كعب: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حَرُم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة وقد سَمُر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأيقظها وأرادها، فقالت: إني نمت، ثم وقع بها، فغدا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره، فأنزل الله {علم الله أنكم كنتم تختانون} (سورة البقرة: الآية 187) الآية. وفي الباب أخبار كثيرة إن شئت الاطلاع عليها فارجع إلى "الدر المنثور" للسيوطي. (2) أي الجماع، به فسَّره ابن عباس، أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وعبد الرزاق وعبد بن حُمَيد وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 هنَّ (1) لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لباسٌ لهنَّ، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ (2) أَنْفُسَكُمْ، فَتَابَ (3) عَلَيْكُمْ وعفا عنكم (4) ، فالآن باشروهنَّ} يعني (5) الجماع {وابتغُوا (6) ما كتب الله لكم} يَعْنِي (7) الْوَلَدَ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود} يعني (8) حتى يطلع الفجر   (1) قوله: هن لباس لكم، أي هن سكن لكم تسكنون إليه في الليل والنهار به فسره ابن عباس، أخرجه عنه الطيالسي. (2) أي تبالغون في خيانتها لارتكاب جنايتها بالجماع بعد صلاة العشاء أو بعد النوم فإنه كان محرَّماً أولاً، ثم نُسخ. (3) أي رجع عليكم بالتخفيف. (4) أي ما صدر وما مضى. (5) قوله: يعني الجماع، هذا التفسير منقول عن ابن عباس، أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق. (6) أي اطلبوا. (7) تفسير من الإِمام محمد، قوله: يعني الولد، هذا التفسير أيضاً منقول عن ابن عباس أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم، وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد وقتادة والضحّاك مثله، وأخرج البخاري في "تاريخه" عن أنس {ما كتب الله لكم} : أي ليلة القدر، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: ابتغوا الرخصة التي كتب الله عليكم. (8) قوله: يعني حتى يطلع الفجر، كان بعض الصحابة لمّا نزل قوله تعالى: {حتى يتبيّن لكم الخَيطُ الأبيض من الخيط الأسود} إذا أراد الصوم ربط في رجله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 فَإِذَا (1) كَانَ الرَّجُلُ (2) قَدْ رُخِّص لَهُ أَنْ يُجَامِعَ، وَيَبْتَغِي (3) الْوَلَدَ، وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ (4) فَمَتَى يَكُونُ الْغُسْلُ إلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. فَهَذَا لا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - والعامَّة. 5 - (بَابُ القُبلة لِلصَّائِمِ (5)) 351 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أسلم، عن عطاء بن   الخيط الأبيض والأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له الفرق بينهما، فأنزل الله قوله {من الفجر} وبيَّن أن المراد من الخيط الأبيض الفجر أي الصبح الصادق، ومن الأسود الليل، كذا أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (انظر عمدة القاري 5/292) . (1) قوله: فإذا كان ... إلى آخره، شروع في وجه دلالة كتاب الله على ما ذكره، وحاصله أن الآية المذكورة أباحت الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر فيكون كلٌّ منها مباحاً في آخر جزء من أجزاء الليل متَّصلٍ بأول جزء الفجر أيضاً بنص هذه الآية، وهو يقتضي بالضرورة أن يقع الغسل - إذا جامع في آخر الجزء - بعد طلوع الفجر، فدلَّ ذلك على أنه لا بأس به. (2) الذي يريد الصوم. (3) هذا قيد اتفاقي. (4) أي لا يتحقَّق ولا يمكن غسله إلاَّ بعد طلوع الفجر. (5) قوله : باب القبله للصائم (لا بأس بالقبلة للصائم إذا أمِنَ على نفسه الجماع مثل الشيوخ، وتُكره إذا لم يأمن على نفسه كالشبان، وهذا هو مذهب أبي حنيفة والشافعي والثوري والأَوْزاعي، وحكاه الخطابي عن مالك، وكرهها قوم مطلقاً، وإليه ذهب مالك في المشهور عنه، وأباحها قوم مطلقاً، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وداود. ومنهم من أباحها في النفل ومنعها في الفرض، ومنهم من منعها مطلقاً وذهب إليه طائفة من التابعين، فالأقوال خمسة، وانظر تفصيلها في عمدة القاري 6/9. قلت: ما حُكي عن أحمد هو رواية عنه، وإلاَّ ففي "الروض المربع" تُكره القبلة. الأوجز 5/44) ، اختلف أهل العلم في جواز القبلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 يَسَار (1) : أنَّ رَجُلا (2) قَبَّل امْرَأَةً وَهُوَ صَائِمٌ،   للصائم، فرخَّص عمر بن الخطاب وأبو هريرة وعائشة فيها، وقال الشافعي: لا بأس بها إذا لم تحرِّك القبلة شهوته، وقال ابن عباس: يُكره ذلك للشبان، ويرخَّص فيه للشيوخ، كذا في "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبي رحمه الله. (1) مرسل عند جميع الرواة، ووصله عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء، عن رجل من الأنصار. (2) قوله: أن رجلاً ... إلى آخره، حديث عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يُقَبِّل بعض نسائه وهو صائم وكان أَمْلَكَكُم لإِرْبه. متفقٌ عليه. وله عندهما ألفاظ، وفي رواية لأبي داود: كان يقبِّلني وهو صائم، ويمصُّ لساني هو صائم. وفي إسناده أبو يحيى المعرقب، وهو ضعيف وقد وثقه العِجْلي، ولابن حبان في صحيحه عنها: كان يقبِّل بعض نسائه وهو صائم في الفريضة والتطوع. ثم ساق بإسناده أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يمس شيئاً من وجهها وهي صائمة، وقال: ليس بين الخبرين تضادٌّ لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يملك إربه ونبَّه بفعله ذلك على جواز هذا الفعل لمن هو بمثل حاله، وترك استعماله إذا كانت المرأة صائمة علماً منه بما رُكِّب في النساء من الضعف. وفي رواية البخاري: أنه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لَيُقَبِّل بعض أزواجه وهو صائم، ثم ضحكت تعجُّباً من نفسها حيث ذكرت هذا الحديث الذي يُستحى من ذكره، لكن غلب عليها مصلحة التبليغ، وقيل: ضحكت سروراً منها، وقيل: أرادت أن تنبِّه بذلك أنها صاحبة القصة. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أبو داود عن الأغرِّ، عنه: أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المباشرة للصائم فرخَّص له وسأله آخر فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب، كذا في "التلخيص الحبير تخريج أحاديث الشرح الكبير" للحافظ ابن حجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 فَوَجَدَ (1) مِنْ ذَلِكَ وَجْداً شَدِيدًا، فَأَرْسَلَ امرأتَه تَسْأَلُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ (2) ، فَدَخَلَتْ عَلَى أمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْهَا أمُّ سَلَمَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّل (3) وَهُوَ صَائِمٌ. فرجعتْ إِلَيْهِ فأخبرتْه بِذَلِكَ، فَزَادَهُ ذَلِكَ (4) شَرًّا (5) فَقَالَ: إِنَّا لَسْنَا مثلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحلُّ (6) اللَّهُ لِرَسُولِهِ (7) مَا شاء، فرجعت   (1) قوله: فوجد، أي فاغتمَّ له كثيراً ولم يعدّه أمراً حقيراً، واستحيى أَنْ يَسأل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم توقيراً. (2) أي هل يضرُّ صومه ذلك؟ (3) قوله: كان يقبّل، أي بعض أزواجه أو بنفسها كما يُعلم من رواية البخاري عن زينب بنت أم سلمة عنها أنها كانت هي ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغتسلان في إناء واحد وكان يقبِّلها وهو صائم. ويخالفه ما أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، نا صالح بن عبد الرحمن، نا عبد الله بن يزيد، نا موسى بن عليّ: سمعت أبي يقول: ثني أبو قيس مولى عمرو بن العاص قال: بعثني عبد الله بن عمرو إلى أمِّ سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: سَلْها أكان رسول الله يقبل وهو صائم؟ فإن قالت: لا، فقل: إنَّ عائشة تخبر (في الأصل: "يخبر"، وهو خطأ. انظر شرح معاني الآثار 1/346 ط الهند) الناس أنه كان يقبّل وهو صائم، فأتيت أم سلمة فأبلغتها السلام عن عبد الله بن عمرو، وقلت: أكان رسول الله يقبّل وهو صائم فقالت: لا، فقلت: إن عائشة تخبر الناس أنه كان يقبل، فقالت: لعله لم يكن يتمالك عنها حبّاً، أما أنا فلا. والذي يظهر أن الاختلاف محمول على اختلاف الأحوال. (4) قال الباجي: يعني استدامة الوَجْد إذا لم تأته بما يقنعه. (5) قوله: شرّاً، أي محنة وبليَّة حيث ظن أنَّ أم سلمة أفتتْ من عندها. (6) أي يُبيح. اعتقد أن ذلك من خصائصه. (7) كصوم الوصال والزيادة على أربع في النكاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 الْمَرْأَةُ إِلَى أمِّ سَلَمَةَ، فَوَجَدَتْ عِنْدَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ (1) هَذِهِ الْمَرْأَةِ؟ فأخبَرَتْه (2) أُمُّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: أَلا (3) أخبرتِها أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ (4) ؟ قَالَتْ: قَدْ أخبرتُها، فذهبتْ إِلَى زَوْجِهَا، فأخبرَتْه، فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا، وَقَالَ: إِنَّا لَسْنَا مثلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحلُّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ (5) ، فَغَضِبَ (6) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ (7) : وَاللَّهِ إِنِّي لأَتْقَاكُمْ (8) لِلَّهِ، وَأَعْلَمُكُمْ بحدوده.   (1) أي ما شأنها وأي شيء جاء بها. (2) أي بأنها تسأل عن القبلة للصائم. (3) فيه تنبيه على الإِخبار بأفعاله، ويجب عليهن أن يُخبرن بها ليقتدي به الناس. (4) قال الباجي: فيه إيجاب العمل بخبر الواحد. (5) قال عياض: لأن السائل جوَّز وقوع النهي عنه منه، لكن لا حرج عليه إذ غُفر له. (6) قوله: فغضب، لعل سبب غضبه أن الأصل هو العمل بما ثبت عنه حتى يثبت دليل على تخصيصه. (7) قوله: وقال: والله ... إلى آخره، قال ابن عبد البر: فيه دلالة على جواز القبلة للشاب والشيخ لأنه لم يقل للمرأة: زوجُك شيخ أو شاب؟ فلو كان بينهما فرق لسألها لأنه المبيِّن عن الله، وقد أجمعوا على أن القبلة لا تُكره لنفسها، وإنما كرهها من كرهها خشية ما تَؤُول إليه، وأجمعوا على أن من قبَّل وسَلِم فلا شيء عليه. فإن أمذى فكذلك عند الحنفية والشافعية، وعليه القضاء عند مالك، وعن أحمد يفطر، وإن أمنى فسد صومه اتفاقاً. (8) فكيف تجوزون (في شرح الزرقاني 2/162، فكيف تجوزون وقوع ما نُهِي عنه مني) ما نُهِيَ عنه مني؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 352 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَائِشَةَ (1) ابْنَةَ طَلْحَةٍ (2) أخبَرَتْه أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيْهَا (3) زوجُها (4) هُنَالِكَ (5) وَهُوَ (6) عبدُ اللَّهِ (7) ابنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابنِ أَبِي بَكْرٍ (8) ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْنُوَ (9) إِلَى أَهْلِكَ تُقَبِّلُهَا (10) وَتُلاعِبُهَا؟ قَالَ: أُقَبِّلُهَا وَأَنَا صَائِمٌ؟! قالت (11) : نعم (12) .   (1) القرشية، كانت فائقة الجمال، ثقة، روى لها الستة، كذا ذكره الزُّرقاني. (2) أحد العشرة المبشرة. (3) أي على عائشة الصدِّيقة. (4) أي زوج ابنة طلحة. (5) أي وكونها عَمَّتَه سبب ذلك. (6) أي زوجها. (7) تابعي، روى له الشيخان وغيرهما. (8) الصدِّيق. (9) أي تقرب. (10) قوله: تقبَّلها، لعلها قصدت إفادته الحكم وإلا فمعلوم أنه لا يقبلها بحضور عمته أم المؤمنين، وقال أبو عبد الملك: تريد ما يمنعك إذا دخلتما، ويحتمل أنها شكت لعائشة قِلَّة حاجته إلى النساء، وسألتها أن تكلِّمه. فأفْتَتْه بذلك، إذ صح عندها ملْكَه لنفسه، قاله الزرقاني. (11) هذا حديث موقوف، حكمه مرفوع. (12) قوله: نعم، في هذا دلالة على أنها لا ترى تحريمها ولا أنها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ (1) بالقُبلة لِلصَّائِمِ إِذَا ملك نفسه عن   الخصائص، وأنه لا فرق بين شاب وشيخ، لأن عبد الله كان شابّاً، ولا يعارض هذا ما للنسائي عن الأسود: قلت لعائشة أيباشر الصائم؟ قالت: لا، قلت: أليس كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يباشر وهو صائم؟ قالت: كان أملَكَكُم لإِربه. لأن جوابها للأسود بالمنع محمول على من تحرّكت شهوته لأن فيه تعريضاً لإِفساد العبادة كما أشعر به قولها: وكان أملككم لإِربه، فحاصل ما أشارت إليه إباحة القُبلة والمباشرة بغير جماع لمن ملك إربه دون من لا يملكه، أو يُحمل النهي على التنزيه، فقد رواه أبو يوسف القاضي بلفظ: سئلت عائشة عن المباشرة للصائم؟ فكرهتها، فلا ينافي الإِباحة المستفادة من حديث الباب، ومن قولها: الصائم يحلّ له (في "الأصل: "لها"، وهو تحريف) كلُّ شيء إلا الجماع. رواه الطحاوي، كذا ذكره الزرقاني. (1) قوله: لا بأس ... إلى آخره، هذا الذي ذكره هو طريق الجمع بين الأخبار والآثار المختلفة، فإن بعضها تدل على الجواز، وبعضها على الامتناع، وبعضها على الفرق بين الشاب والشيخ. فمنها حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها، وحديث زيد بن أسلم عن عطاء، المذكُورَيْن في الباب، وهما يدلاّن على الجواز مطلقاً من غير فرق بين الشاب والشيخ، وأثر ابن عمر المذكور في الباب يدل على المنع مطلقاً، وحديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقبّل نساءه وهو صائم المخرَّج في الصحيحين وغيرهما يدل على الجواز، وحديث أبي هريرة عند أبي داود نصّ في الفرق، وقال مالك في "الموطأ": قال عروة بن الزبير: لم أرَ القُبلة للصائم تدعو إلى خير، وأخرج عن ابن عباس أنه رخَّص للشيخ وكرهها للشاب، وروى البيهقي بسند صحيح عن عائشة: أنه صلّى الله عليه وسلّم رخّص في القبلة للشيخ وهو صائم، ونهى الشاب وقال: الشيخ يملك إربه والشاب يفسد صومه، وأجمع أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن عمر أنه قال: هششتُ فقبلت وأنا صائم؟ فقلت: يا رسول الله صنعتُ اليوم أمراً عظيماً قبّلتُ وأنا صائم، قال: أرأيتَ لو مضمضتَ من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به، قال: فَمَهْ، وأخرج مالك أن سعد بن أبي وقاص وأبا هريرة كانا يرخِّصان في القبلة للصائم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 الْجِمَاعِ (1) فَإِنْ خَافَ أَنْ لا يَمْلِكَ نَفْسَهُ فالكفُّ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْعَامَّةِ قَبْلَنَا. 353 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَنهى (2) عَنِ القُبلة (3) وَالْمُبَاشَرَةِ (4) لِلصَّائِمِ. 6 - (بَابُ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ) 354 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَحتجم (5)   وأخرج الطحاوي أنه سئل سعد: أتباشر وأنت صائم؟ قال: نعم، وأخرج الطحاوي أيضاً عن ابن عمر أنه سئل عن القُبلة للصائم، فرخَّص للشيخ الكبير وكرهها للشاب، وأخرج عنه عن عمر قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام فرأيته لا ينظر إليّ، فقلت: يا رسول الله ما شأني؟ فقال: ألست الذي تقبل وأنت صائم، فقلت: والذي بعثك بالحق إني لا أقبّل بعد هذا. فهذه الأخبار وأمثالها يُعلم منها أنه لا كراهة في القبلة للصائم في نفسها، وإنما كرهها من كرهها لخوف ما تَؤُول إليه، فطريق الجمع إنه إذا ملك نفسه فلا بأس به وإن خاف فالكفّ أفضل. (1) وكذا عن إنزال المني. (2) قوله: ينهى، أي مطلقاً للشيخ والشاب كليهما كما هو ظاهر العبارة، أو للشاب فقط، كما هو نصّ رواية الطحاوي، وكذلك رُوي النهي عن عمر وغيره، فأخرج الطحاوي عن سعيد بن المسيب أن عمر كان ينهى عن القبلة للصائم، وأخرج أيضاً عن زاذان أنه قال عمر: لأن أعضَّ على جمرة أحبُّ إليّ من أن أقبِّل وأنا صائم، وأخرج أيضاً عن ابن مسعود أنه سئل عن القبلة للصائم؟ فقال: يَقضي يوماً آخر، وأخرج - بسند فيه أبو يزيد الضبِّي وقال: هو رجل لا يُعرف - عن ميمونة بنت سعد: أنه سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه؟ فقال: أَفطرا جميعاً. وهذا كله محمول على من لا يملك. (3) لأن من حام حول الحِمى يوشك أن يقع فيه. (4) المراد بالمباشرة المسّ والملامسة والملاعبة والمخالطة. (5) إشارة إلى الرخصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ (1) بَعْدَ مَا تَغْرُبُ (2) الشَّمْسُ. 355 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهري: أَنَّ سَعْدًا (3) وَابْنَ عُمَرَ كَانَا يَحْتَجِمَانِ وَهُمَا صَائِمَانِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِالْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ، وَإِنَّمَا كُرهت (4) مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ، فَإِذَا أُمِن ذَلِكَ فَلا بَأْسَ، وَهُوَ قَوْلُ (5) أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله -.   (1) قال الباجي: لما كَبِرَ وضَعُف خاف أن تضطره الحجامة إلى الفطر. (2) أي احتياطاً وعملاً بالعزيمة. (3) أي ابن وقاص. (4) أي في بعض الروايات. (5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين، فأخرج الطحاوي عن أبي سعيد الخدري قال: إنما كرهنا أو كرهت الحجامة للصائم من أجل الضعف. وأخرج عن حميد قال: سئل أنس عن الحجامة للصائم؟ فقال: ما كنت أرى أن الحجامة تُكره للصائم إلا من الجهد. وأخرج عن ثابت البُنَاني قال: سألت أنس بن مالك هل كنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف. وأخرج عن ابن عباس أنه قال: إنما كُرهت الحجامة مخافة الضعف. وذكر الحازمي في "الناسخ والمنسوخ" أنه مذهب سعد والحسين بن علي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن أرقم وابن عمر وأنس وعائشة وأمّ سلمة والشَّعبي وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وعطاء بن يسار وزيد بن أسلم وعِكْرمة وأبي العالية وإبراهيم النَّخَعي وسفيان ومالك والشافعي وأصحابه إلا ابن المنذر. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الصائم إذا احتجم في رمضان بطل صومه، منهم عطاء والأَوْزاعي وأحمد وإسحاق، واستدلالهم في ذلك بحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   مرفوع: أفطر الحاجم والمحجوم، أخرجه أبو داود وابن ماجه والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه من حديث ثوبان، وأبو داود والنسائي وغيرهما من حديث شدّاد بن أوس: أنه مرّ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زمن الفتح على رجل يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم، والترمذي - وقال: حسن صحيح - من حديث رافع بن خديج، والنسائي والحاكم من حديث أبي موسى، والنسائي من حديث مَعْقِل بن سنان قال: مرّ عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أحتجم في ثمان عشرة خلت من رمضان فقال ذلك، وأيضاً من حديث أسامة بن زيد والحسن بن علي وعائشة وأبي هريرة وابن عباس، والطبراني من حديث سَمُرة وجابر وابن عَدِيّ في "الكامل" من حديث ابن عمر وسعد بن مالك. وله طرق أُخَر كلها مبسوطة في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي وابن حجر. وأجاب عنها الجمهور بأنه منسوخ لأنه كان زمن الفتح، وقد احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام حجّة الوداع وهو صائم، أخرجه البخاري والترمذي وغيرهما من حديث ابن عباس. ويؤيده ما أخرجه الدارقطني بسند فيه ضعف عن أنس قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمرّ به رسولُ الله، فقال: أفطر هذان. ثم رخّص النبي صلّى الله عليه وسلّم بعدُ في الحجامة. وكذا ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" عنه أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم احتجم بعد ما قال: أفطر الحاجم والمحجوم، ومنهم من قال: ورود حديث أفطر الحاجم والمحجوم إنما كان لسبب آخر (قال الطحاوي: ليس فيها (أي في هذه الأحاديث) ما يدل على أن الفطر كان لأجل الحجامة، بل إنما كان ذلك لمعنى آخر وهو أنهما كانا يغتابان رجلاً، فلذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال. وليس إفطارهما ذلك كالإِفطار بالأكل والشرب والجماع ولكنه حبط أجرهما باغتيابهما فصارا بذلك مفطِرَيْن، لا لأنه إفطار يوجب عليهما القضاء. وهكذا كما قيل الكذب يفطر الصائم ليس يراد به الفطر الذي يوجب القضاء، إنما هو حبوط الأجر بذلك. شرح معاني الآثار 1/349) وهو ما أخرجه العُقَيلي في "الضعفاء" وغيره عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ على رجلين يحتجم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 356 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ (1) أَبِي (2) قطُّ احْتَجَمَ إِلا وَهُوَ صَائِمٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -. 7 - (باب الصائم يذرعه (3) القَيْء أو يتقيأ (4)) 357 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنِ اسْتَقَاءَ (5) وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَمَنْ ذَرَعَهُ القَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ (6) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ (7) نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله تعالى.   أحدهما الآخر، فاغتاب أحدهما ولم ينكر الآخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفطر الحاجم والمحجوم. قال ابن مسعود لا للحجامة ولكن للغيِبة. (1) لأنه كان يواصل الصوم، قاله ابن عبد البر. (2) أي عروة بن الزبير بن العوام. (3) أي يسبقه ويغلبه. (4) أي عمداً. (5) أي ملأ فِيه عند أبي يوسف، ومطلقاً عند محمد. (6) أي لا قضاء، ولا كفارة. (7) قوله: وبه نأخذ، وبه قال إبراهيم النخعي والقاسم بن محمد وأبو يوسف وعامة العلماء، ذكره الطحاوي. ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلّم: من قاء فلا قضاء عليه، ومن استقاء عمداً فعليه القضاء. أخرجه أصحاب السنن الأربعة والدارمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 8 - (بَابُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ) 358 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لا يَصُومُ (1) في السفر.   وابن حبان والحاكم وصححه والطحاوي والدارقطني وغيرهم من حديث أبي هريرة، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال الترمذي: حسن غريب، وأخرجه أبو يعلى وإسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة. وفي بعض طرقه مقال يرتفع بضمّ بعضها مع بعض. وأما ما ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاء فأفطر، فمعناه: ضعف وكان الصوم تطوعاً فأفطر عمداً، ذكره الطحاوي (شرح معاني الآثار 1/348. ثم إن كون القيء غير مفطر وكون الاستقاء مفطر وعليه القضاء هو مذهب الأئمة الأربعة، كما في "عمدة القاري" 6/36) . ويعضده ما أخرجه ابن ماجه عن فضالة بن عبيد الأنصاري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج عليهم في يوم كان يصومه، فدعا بإناء فشرب، فقلنا: يا رسول الله إنَّ هذا يومٌ كنت تصومه! قال: أجل، ولكني قِئْتُ. (1) قوله: كان لا يصوم في السفر، لأنه كان يرى أن الصوم في السفر لا يجزئ، لأن الفطر عزيمة من الله، وبه قال أبوه عمر، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، وقوم من أهل الظاهر، ويردّه أحاديث الباب، قاله ابن عبد البَرّ. واحتجوا لذلك أيضاً بحديث الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلّم كان في سفر - أي غزوة الفتح كما في الترمذي - فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّل عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصوم في السفر - ولفظ مسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر - وزاد بعض الرواة: عليكم برخصة الله التي رَخّص لكم، وروايته على لغة حمير في "مسند أحمد" قال ابن عبد البر: ولا حجة فيه لأنه عامّ، خرج على سبب، فإن قُصر عليه لم تقم به حجة، وإلا حُمل على من حالُه مثل حال الرجل وبلغ ذلك المبلغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 359 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (1) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنّ (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ (3) عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ (4) حَتَّى بَلَغَ الكُدَيد (5) ثُمَّ أَفْطَرَ (6) فَأَفْطَرَ النَّاسُ مَعَهُ (7) وَكَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، قَالَ: وَكَانُوا (8) يَأْخُذُونَ بِالأَحْدَثِ (9) فَالأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم.   (كذا في شرح الزرقاني 2/170) . (1) ابن عتبة بن مسعود. (2) قال أبو الحسن القابسي: هذا من مرسلات الصحابة لأن ابن عباس كان في هذه السنة مقيماً بمكة. (3) يوم الأربعاء بعد العصر لعشر خَلَوْن من رمضان سنة ثمان من الهجرة. (4) أي جميع سيره. (5) موضع بينه وبين المدينة سبع مراحل ونحوها وبينها وبين مكة مرحلتان أو ثلاث. (6) قوله: ثم أفطر، لأنه بلغه أن الناس شقّ عليهم الصيام، وقيل له: إنما ينظرون في ما فعلت، فلما استوى على راحلته بعد العصر دعا بإناء من ماء، فوضعه على راحلته ليراه الناس، فشرب فأفطر فناوله رجلاً بجنبه فشرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة أولئك العصاة. رواه مسلم والترمذي عن جابر. قال المازري: احتج به مطرف ومن وافقه من المحدّثين، وهو أحد قولي الشافعي أن من بيّت الصوم في رمضان له أن يفطر، ومنعه الجمهور، وحملوا الحديث على أنه أفطر للتقوِّي على العدوّ والمشقّة الحاصلة له ولهم. (7) أي حتى بلغوا مكة. (8) أي الصحابة. قوله: وكانوا، هو قول ابن شهاب كما بُيِّن في رواية البخاري ومسلم، قال الحافظ ابن حجر: وظاهره أنه ذهب إلى أن الصوم في السفر منسوخ ولم يوافق على ذلك. (9) قوله: بالأحدث فالأحدث، في مسلم عن يونس قال ابن شهاب: وكانوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ شَاءَ صَامَ (1) فِي السَّفَرِ، ومن شاء أفطر، والصوم أفضل (2)   (في الأصل: "كان"، وهو خطأ. انظر صحيح مسلم 2/785) يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره، ويَرَوْنه الناس المحكم، قال عياض: إنما يكون ناسخاً إذا لم يمكن الجمع أو يكون الأحدث من غيره وفي غير هذه القصة، وأما فيها أعني قضية الصوم فليس بناسخ إلا أن يكون ابن شهاب مال إلى أن الصوم في السفر لا ينعقد كقول أهل الظاهر ولكنه غير معلوم عنه. (1) قوله: من شاء صام في السفر ومن شاء أفطر، لقوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدّةٌ من أيّام أُخَر} (سورة البقرة: الآية 185) ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة. أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وعبد بن حميد والبيهقي في سننه وغيرهم. وأخرج عبد بن حميد والدارقطني عن عائشة قالت: كلٌّ قد فَعَل رسول الله، صام وأفطر في السفر. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: لا أعيب على من صام ولا من أفطر في السفر. وأخرج مالك والشافعي وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود عن أنس قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام بعضنا، وأفطر بعضنا، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وأخرج مسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري كنا نسافر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في شهر رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد المفطر على الصائم ولا الصائم على المفطر. وهذه الأحاديث وأمثالها تشهد بأن حديث "ليس من البر الصيام في السفر" أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وغيرهم محمول على ما إذا لم يقو وأورث صومه ضعفاً أو مرضاً كما يُعلم من شأن وروده. (2) قوله: أفضل لمن قوي عليه، لما أخرج عبد بن حميد عن أبي عياض: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في رمضان، فنُودي في الناس: من شاء صام ومن شاء أفطر، فقيل لأبي عياض: كيف فعل رسول الله؟ قال: صام وكان أحقَّهم بذلك. وورد في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ (1) ، وَإِنَّمَا (2) بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ حِينَ سَافَرَ إِلَى مَكَّةَ لأَنَّ النَّاسَ شَكَوْا إِلَيْهِ الْجَهْدَ (3) مِنَ الصَّوْمِ، فَأَفْطَرَ لِذَلِكَ، وَقَدْ بَلَغَنَا (4) أَنَّ حَمْزَةَ الأَسْلَمِيَّ (5) سَأَلَهُ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ. فَبِهَذَا (6) نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ (7) أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ الله - والعامة (8) من قبلنا.   حديث أبي سعيد الخدري المتقدِّم: كانوا يَرَوْن أن من وجد قوَّة فصام فحسن، ومن وجد ضعفاً فأفطر فحسن. (1) قال القاري: أي لقوله تعالى: {وأن تصوموا خيرٌ لكم} (سورة البقرة: الآية 184) ، وبه قال مالك والشافعي (وبه قال أبو حنيفة كما في لامع الدراري 5/415) ، وقال أحمد والأوْزاعي: الفطر أفضل مطلقاً لحديث: ليس من البر الصيام في السفر. (2) قوله: وإنما بلغنا ... إلى آخره، دَفْعٌ لما يُتَوَهَّم أنه لو كان الصوم أفضل عند القوة لما أفطر النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر الفتح لأنه كان يستطيع ما لا يستطيعه غيره. (3) بفتح الجيم وضمها: المشقة. (4) قوله: وقد بلغنا ... إلى آخره، هذا البلاغ أخرجه مالك والشافعي وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني وصححه والحاكم بعبارات متقاربة. (5) هو ابن عمر بن عويمر أبو صالح المدني، صحابي جليل، مات سنة 61 هـ، كذا ذكره الزرقاني. (6) في بعض النسخ: قال محمد: فهذا. (7) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وكذا أبي يوسف، وبه قال أنس وعائشة وسعيد بن جبير ومجاهد وجابر بن زيد، أخرجه الطحاوي عنهم. (8) قوله: والعامة من قبلنا، أي أكثر من مضى من الصحابة والتابعين خلافاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 9 - (بَابُ قَضَاءِ رَمَضَانَ هَلْ يُفرَّق؟ (1)) 360 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ (2) : لا يفرَّق (3) قَضَاءُ رَمَضَانَ. 361 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابن شهاب: أن ابن عباس (4)   لبعضهم منهم ابن عباس حيث رُوي عنه أنه قال - لما سُئل عن الصوم في السفر -: يسر وعسر، فخذ بيسر الله. وروى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد أنه قال: الإِفطار في السفر العزيمة. ومنهم أبو هريرة حيث أمر رجلاً صام في السفر بالقضاء. أخرجه عبد بن حميد والطحاوي. ومنهم عمر حيث أمر رجلاً صام رمضان في السفر أن يعيد، أخرجه عبد أيضاً. ومنهم ابن عمر حيث قال: لأن أفطر في رمضان أحبّ إليّ من أن أصوم، أخرجه عبد بن حميد. وأخرج أيضاً عنه أنه سُئل عنه فقال: رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردّوها. وأخرج أيضاً أنه قال: لو تصدّقت بصدقة فرُدّت، ألم تكن تغضب؟ إنما هو صدقة تصدق بها الله عليكم. ويوافقهم حديث: الصيام في السفر كالفطر في الحضر. أخرجه ابن ماجه والبزار من حديث عبد الرحمن بن عوف، وفي سنده كلام، وصحح النسائي وقفه، وعلى تقدير صحته فهو محمول على من لا يقوى. (1) أي بين الأيام في قضاء الصيام. (2) مذهب ابن عمر وجوب تتابع القضاء، وكذا رُوي عن علي والحسن والشعبي، وبه قال أهل الظاهر. وذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى استحبابه (انظر الأوجز 5/128) . (3) إمّا استحباباً أو وجوباً، وكأنه قاسه على أداء رمضان، أو لكون القضاء فرضاً كالأداء، فلا ينبغي أن يُؤخَّر عند قدرته على ترتيبه، كذا قال القاري. (4) قوله: أن ابن عباس ... إلى آخره، قال ابن عبد البر: لا أدري عمن أخذ ابن شهاب هذا، وقد صح عن ابن عباس وأبي هريرة أنهما أجازا تفريق قضاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وَأَبَا هُرَيْرَةَ اخْتَلَفَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، قَالَ أَحَدُهُمَا (1) : يُفَرَّق (2) بَيْنَهُ، وَقَالَ الآخَرُ: لا يفرَّق (3) بَيْنَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْجَمْعُ بَيْنَهُ أَفْضَلُ وَإِنْ فرَّقتَ (4) وأحصيتَ العِدَّة (5) فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - والعامَّة (6) قَبْلَنَا.   رمضان وقالا: لا بأس بتفريقه لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} . وفي "الفتح": هكذا أخرجه منقطعاً مبهماً، ووصله عبد الرزاق عن معمر، عن الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن ابن عباس فيمن عليه قضاء رمضان؟ قال: يقضيه مفرَّقاً. وأخرجه الدارقطني من وجه آخر عن معمر بسنده قال: صُمه كيف شئت، ورويناه في فوائد أحمد بن شبيب، عن أبيه، عن يونس، عن الزهري بلفظ: لا يضرُّك كيف قضيتها، إنما هي عدَّة من أيام أُخَر فأحصه. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء: أن ابن عباس وأبا هريرة قالا: فرِّقه إذا أحصيته. انتهى. (1) زاد يحيى: لا أدري أيهما قال: يفرَّق، ولا أيهما قال: لا يفرَّق. (2) أي يجوز أن يفرَّق بين أيام قضائه. (3) أي بل يجب إيصاله (هكذا في الأصل، والظاهر "اتصاله") . (4) في نسخة: فرقته. (5) ضبطت العدد، وحفظته لئلا يكون ناقصاً عما هنالك. (6) قوله: والعامَّة قبلنا، أي من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: إن شاء تابع، وأن شاء فرَّق، لأن الله يقول: {فعِدَّةٌ من أيّامٍ أُخَر} . وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني عنه: صُمْه كيف شئت، وقال ابن عمر: صمه كما أفطرته. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أنس: أنه سئل عنه؟ فقال: إنما قال الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر} فإذا أحصى العِدَّة فلا بأس بالتفريق. وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 10 - (بَابُ مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا ثُمَّ أَفْطَرَ) 362 - أَخْبَرَنَا مالك، حدثنا الزهري: أن عائشة (1) وحفصة   والبيهقي عن أبي عبيدة بن الجرّاح: إن الله لم يرخِّص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه فأحصِ العدَّة واصنع كيف شئت. وأخرج الدارقطني عن رافع بن خَديج قال: أحص العِدَّة وصم كيف شئت. وكذلك أخرج ابن أبي شيبة والدارقطني عن معاذ. وأخرج الدارقطني عن عمرو بن العاص قال: يفرَّق قضاء رمضان. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة أن امرأةً سألت كيف تَقضي رمضان؟ قال: صومي كيف شئت، فإنما يريد الله بكم اليُسر ولا يريد بكم العسر. وأخرج ابن المنذر والدارقطني والبيهقي في سننه عن عائشة نزلت {فعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخرَ متتابعات} فسقطت متتابعات. قال البيهقي: أي نُسخت. ويؤيِّده ما أخرجه الدارقطني، وضعفه عن أبي هريرة مرفوعاً: من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يفرِّقه. وأخرج أيضاً وضعفه عن ابن عمر: سُئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قضاء رمضان؟ فقال: يقضيه أتباعاً وإن فرَّقه أجزأه. وأخرج الدارقطني وابن أبي شيبة عن محمد بن المنكدر: بلغني أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن تقطيع قضاء رمضان؟ فقال: ذلك إليك، أرأيتَ لو كان على أحدكم دَيْن فقضى الدرهم والدرهمين، ألم يكن قضاءً؟ قال الدارقطني: إسناده حسن (سنن الدارقطني 1/244، وصححه ابن الجوزي كما في نيل الأوطار 4/115) إلاَّ أنه مرسل. ثم رواه من طريق آخر موصولاً عن جابر مرفوعاً وضعفه. (1) قوله: أن عائشة ... إلى آخره، وصله ابن عبد البر من طريق عبد العزيز بن يحيى عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، وقال: لا يصح عن مالك إلاَّ المرسل، ووصله النسائي من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وصالح بن كيسان ويحيى بن سعيد ثلاثتهم عن الزهري، عن عروة، عن عائشة وقال: هذا خطأ، والصواب عن الزهري مرسل ووصله الترمذي والنسائي أيضاً من طريق جعفر بن برقان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ متطوِّعتين (1) ، فأُهدي لَهُمَا طَعَامٌ (2) فَأَفْطَرَتَا (3) عَلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَالَتْ حَفْصَةُ - بَدَرَتْنِي (4) بِالْكَلامِ وَكَانَتِ ابْنَةَ (5) أَبِيهَا -: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصْبَحْتُ أَنَا وَعَائِشَةُ صَائِمَتَيْنِ متطوِّعتين، فأُهدي لَنَا طَعَامٌ فَأَفْطَرْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّمك اقْضِيا (6) يوماً مكانه.   الترمذي: روى مالك ومعمر وعبيد الله بن عمر وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري، عن عائشة مرسلاً (وقد وصله أبو داود أيضاً في "سننه"، باب من رأى عليه القضاء. انظر بذل المجهود في حل أبي داود 11/336) وهذا أصح، كذا في "التنوير". (1) أي نافلتين. (2) أي شاة، كما في رواية أحمد. (3) بأكلهما إياه. (4) أي سابقتني وغلبتني. (5) قوله: ابنة، أي على خُلُق والدها من الحِدَّة والغلبة، فإنه كان من مظاهر الجلال، وأنا على طينة أبي من الحلم والسكينة، فإنه كان من مظاهر الجمال، قاله القاري. (6) قوله: اقضيا يوماً مكانه، ظاهر الأمر للوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور ومالك، قال ابن عبد البر: ومن حجة مالك مع هذا الحديث قوله تعالى: {ثم أتِمّوا الصيام إلى الليل} (سورة البقرة: الآية 187) يعمُّ الفرض والنفل، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّم حرماتِ الله فهو خير له عند ربه} (سورة الحج: الآية 30) ، وحديث: إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليُجب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، مَنْ صَامَ تطوُّعاً ثُمَّ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (1) - رَحِمَهُ اللَّهُ - والعامَّة (2) قَبْلَنَا. 11 - (بَابُ تَعْجِيلِ الإِفطار) 363 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يَزَالُ (3) الناسُ (4) بخير (5) ما عجَّلوا الإِفطار.   فإن كان مفطراً فليأكل، وروي: فإن شاء أكل، وإن كان صائماً فليدعُ، وروي: فإن كان صائماً فلا يأكل، فلو جاز الفطر في التطوع لكان أحسن في إجابة الدعوة، واحتج الآخرون بحديث أم هانئ (قال الترمذي: حديث أم هانئ في إسناده مقال. وقال المنذري: لا يثبت، وفي إسناده اختلاف كثير أشار إليه النسائي، كذا في "بذل المجهود"، نقلاً عن المرقاة 11/336) : دخل عليَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا صائمة، فأُتي بإناء من لبن فشرب، ثم ناولني فشربت، فقلت: إني كنت صائمة ولكني كرهت أن أردَّ سُؤرك، فقال: إن كان من قضاء رمضان، فاقضي يوماً مكانه وإن كان من غيره فإن شئتِ فاقضي وإن شئت فلا تقضي، وحديث عائشة: دخل عليَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إنَّا خبَّأنا لك حَيْساً، فقال: أما إني كنت أريد الصوم لكن قرِّبيه. وأجيب أنهما قضية عين لا عموم له. (1) قوله: أبي حنيفة، وكذا مالك وأبو ثور وغيرهما، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: لا قضاء عليه ويُستحب أن لا يُفطر، ذكره الزرقاني. (2) منهم ابن عباس وابن عمر أخرجه الطحاويّ عنهما. (3) لأبي داود من حديث أبي هريرة: لا يزال الدِّين ظاهراً. (4) أي الصائمون من المسلمين. (5) أي مصحوبين ببركة في متابعة سُنَّة دون موافقة بدعة. وعَيَّن في حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 قَالَ مُحَمَّدٌ: تَعْجِيلُ الإِفطار وَصَلاةِ الْمَغْرِبِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِمَا (1) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْعَامَّةِ (2) . 364 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَا يصلِّيان (3) المغربَ حِينَ ينظرانِ الليلَ الأَسْوَدَ (4) قَبْلَ أَنْ يُفطروا، ثُمَّ يُفْطِرَانِ (5) بعد الصلاة في رمضان.   أبي هريرة علَّةَ ذلك، فقال: لأن اليهود والنصارى يؤخِّرون، ولابن حبان والحاكم من حديث سهل: لا تزال أمتي على سُنَّتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم. (1) روى عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعَ الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً (قال ابن عبد البر: أحاديث تعجيل الإِفطار وتأخير السحور صحاح متواترة، فتح الباري 4/199) . (2) قوله: والعامة، أي جمهور علماء أهل السنَّة خلافاً للشيعة المبتدعة حيث لم يفطروا حتى تشتبك (في الأصل: "يشتبك"، وهو خطأ) النجوم. (3) أي أولاً. (4) أي سواد أوله. قوله: الليل الأسود، أي في أفق المشرق عند الغروب، وهو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم، رواه الشيخان، أي أقبل من جهة الشرق وأدبر من جهة المغرب. (5) قوله: ثم يفطران، فكانا يسرعان بصلاة المغرب لأنه مشروع اتفاقاً وليس من تأخير الفطر المكروه، لأنه إنما يُكره تأخيره إلى اشتباك النجوم على وجه المبالغة ولم يؤخر للمبادرة إلى عبادة، قاله الباجي: لكن روى ابن أبي شيبة وغيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا كلُّه وَاسِعٌ، فَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ (1) قَبْلَ الصَّلاةِ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ بَعْدَهَا، وكلُّ ذَلِكَ لا بَأْسَ (2) بِهِ. 12 - (بَابُ الرَّجُلِ يُفْطِرُ قَبْلَ الْمَسَاءِ (3) وَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَمْسَى) 365 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْطَرَ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ فِي يَوْمِ غَيْم (4) ، وَرَأَى (5) أَنَّهُ قَدْ أَمْسَى أَوْ (6) غَابَتِ الشَّمْسُ، فَجَاءَهُ رجل فقال: يا أمير   عن أنس قال: ما رأيتُ رسول الله يصلي حتى يفطر ولو على شربة من ماء. ورُوي عن ابن عباس وطائفة: أنهم كانوا يفطرون قبل الصلاة، كذا قال الزرقاني. وقال القاري: هو إما لبيان الجواز إشعاراً بأن مثل هذا التأخير لا ينافي الأمر بالتعجيل، أو لعدم ما يُفطران به عندهم قبل الصلاة، أو لأن الإِفطار المتعارف عندهم أن يتعشَّوْا بطعامهم، وهذا ربما يُخلّ بتعجيل المغرب. وأما إذا أمكن الاقتصار على نفس الإِفطار بأكل تمرة، أو بشرب قطرة، ثم يصلي ويتعشى، فهذا جَمْعٌ حسن ووجهٌ مستحسن. (1) بشرط أن لا يبلغ مبلغ اشتباك النجوم. (2) إلاَّ أن الأفضل هو تقديم الفطر (وقال الطحاوي: يستحب الإِفطار قبل الصلاة، كما في الأوجز 5/29) على الصلاة لأنه الموافق لعادة رسول الله وغالب أصحابه. (3) أي قبل غروب الشمس. (4) بالفتح أي سحاب. (5) أي وظن. (6) شك من الراوي، وفي نسخة: (و) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ طَلَعَتِ (1) الشَّمْسُ، قَالَ: الخَطْب (2) يَسِيرٌ وَقَدِ اجْتَهَدْنَا (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ أَفْطَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَغِبْ لَمْ يَأْكُلْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَمْ يَشْرَبْ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ (4) ، وَهُوَ قَوْلُ (5) أَبِي حنيفة - رحمه الله -.   (1) قوله: قد طلعت الشمس، أي ظهرت يحتمل أنه قصد لِيَعْلَمَ الحكم فيه، ويحتمل أنه أخبره ليمسك بقية يومه لأنه يجب على من أفطر وهو لا يعلم أن الزمان صوم، ثم علم أنْ يمسك، بخلاف من أُبيح له الفطر مع العلم أنه زمان صوم فيجوز له الأكل بقية صومه، قاله الباجي. (2) قال يحيى: (قال مالك: يريد بقوله "الخطب يسير" القضاء فيما نُرى وخفة مؤنته ويسارته، يقول: نصوم يوماً مكانه) (كذا في موطأ مالك، وفي الأوجز 5/119، أي يريد كونه يسيراً، وهو كذلك يعني الأمر سهل، لا صعوبة فيه، إذ لا تجب فيه الكفارة كأنه يقول: نصوم يوماً مكانه) . الخطب: أي الأمر هيِّن حقيرٌ. (3) حيث عملنا على حسب ظنِّنا والظن معتبر في الشرع. (4) أي ذلك الصوم الذي أفطره. (5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الأئمة الباقية والجمهور لما صرح به في قصة إفطار عمر، فروى ابن أبي شيبة عن حنظلة، قال: شهدت عمر في رمضان وقُرِّب إليه شراب، فشرب بعض القوم وهم يرون الشمس قد غربت، ثم ارتقى المؤذن، فقال: يا أمير المؤمنين، والله إن الشمس طالعة لم تغرب، فقال عمر: من كان أفطر فليصم يوماً مكانه، ومن لم يُفطر فيتمَّ صومه حتى تغرب الشمس، وزاد من طريق آخر: فقال له: إنما بعثناك داعياً ولم نبعثك راعياً، وقد اجتهدنا، وقضاء يوم يسير. ويعضده ما في صحيح البخاري عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء قالت: أفطرنا على عهد رسول الله يومَ غيم، ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأُمروا بالقضاء؟ قال: لا بدَّ من القضاء، وذهب جماعة إلى أنه لا يجب القضاء في هذه الصورة أخذاً بما ورد في بعض طرق قصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 13 - (بَابُ الْوِصَالِ (1) فِي الصِّيَامِ) 366 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نافع عن عبد الله بن عمر: أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى (2) عَنِ الْوِصَالِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ (3) تُوَاصِلُ، قَالَ: إني لستُ كهيئتكم (4) إني أُطعَم (5) وأُسقى.   فطر عمر أنه قال: لا نقضي، لكن قال ابن عبد البر وغيره: هي رواية ضعيفة، والصواب رواية الإِثبات (قال الحافظ: يرجِّح الأول أنه لو غمَّ هلال رمضان فأصبحوا مفطرين، ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق فكذلك هذا. فتح الباري 4/200) . (1) هو إمساك الليل بالنهار. (2) نهي تنزيه، قوله: نهى عن الوصال، وفي رواية جويرية عن نافع عند البخاري، وعبيد الله بن عمر، عن نافع عند مسلم، عن ابن عمر أنه صلّى الله عليه وسلّم واصل، فواصل الناس، فشقَّ عليهم، فنهاهم، فقالوا: يا رسول الله. ولم يُسَمَّ القائلون، وفي الصحيحين عن أبي هريرة فقال رجل من المسلمين، وفي لفظ فقال رجال من الجميع، وكان القائل واحداً ونُسب إلى الجمع لرضائهم به. وفيه استواء المكلفين في الأحكام، وأنَّ كل حكم ثبت في حقه صلّى الله عليه وسلّم ثبت في حقِّ أمَّته إلاَّ ما استُثني. (3) أي فما الحكمة في نهيك لنا عنه. (4) أي مشابهاً لكم في صفتكم وحالتكم. (5) قوله: إني أُطعم وأُسقى، لأحمد وابن أبي شيبة من طريق الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة: إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني، وللإِسماعيلي من حديث عائشة: أظل عند الله يطعمني ويسقيني، ولابن أبي شيبة من مرسل الحسن: إني أبيت عند ربي. واختُلف في ذلك. فقيل: هو على حقيقته وإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يُؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامةً له في ليالي صيامه، وطعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام التكليف، قال ابن المنير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 367 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزِّناد (1) ، عَنِ الأَعْرَجِ (2) ، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِيَّاكُمْ (3) وَالْوِصَالَ، إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ (4) ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ (5) كَهَيْئَتِكُمْ، أبِيت (6) يُطْعِمُني رَبِّي ويَسقيني، فاكْلَفوا (7) من الأعمال   الذي يفطر شرعاً إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وقال جماعة: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب، وهو القوة، فكأنه قال: قوة الآكل الشارب يفيض عليَّ بما يسدُّ مسدَّ الطعام، والمعنى أن الله يخلق من الشبع والريِّ ما يغنيه عن الطعام والشراب، فلا يحس بجوع ولا عطش. وجنح ابن القيم إلى أن المراد أنه يشغله بالتفكُّر في عظمته والتغذِّي بمعارفه وقرة العين بمحبَّته والاستغراق في مناجاته والإِقبال عليه عن الطعام والشراب، قال: وقد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني (قال شيخنا: هذا المعنى لا ينكره أحدٌ له ذوق بالمحبَّة كما قال ابن القيم. لامع الدراري 5/377) . انتهى. كذا في "التنوير". (1) عبد الله بن ذكوان. (2) عبد الرحمن بن هرمز. (3) كُرِّر للمبالغة عن نهي الوصال. (4) عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ثلاث مرات. (5) إنما لم يقل: لستم كهيئاتي تواضعاً. (6) أي أُمسي. (7) بفتح اللام أي احْمِلوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 مَا لَكُمْ (1) بِهِ طَاقَةٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الْوِصَالُ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ أنْ يُوَاصِلَ الرَّجُلُ بَيْنَ يَوْمَيْنِ فِي الصَّوْمِ، لا يَأْكُلُ فِي اللَّيْلِ شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْعَامَّةِ (2) . 14 - (بَابُ صَوْمِ يَوْمِ (3) عَرَفَةَ) 368 - أَخْبَرَنَا مالك، حدثنا سالم أبو النضر (4) ،   (1) قوله: ما لكم به طاقة، أي قدرة وقوة لا يكون سبباً لضعف بنيته، وأما الأنبياء فلهم القوة الإِلهية أو الغذاء اللَّدُنِّي فلا يُقاس الصعلوك على الملوك. (2) قوله: والعامة، أي جمهور العلماء خلافاً لبعضهم من الصحابة والتابعين، حيث جوَّزوه (اختلف العلماء في حكم الوصال، فذهب أحمد وإسحاق وجماعة من المالكية إلى جوازه إلى السحر، قال الحافظ: هذا الوصال لا يترتَّب عليه شيء مما يترتب على غيره، لأنه في الحقيقة بمنزلة عَشاء يؤخِّره، وقال الموفق: الوصال وهو أن لا يفطر بين اليومين بأكل ولا شرب، مكروه في قول أكثر أهل العلم، والراجح عند الشافعية التحريم، وفي "الدر المختار" مكروه تنزيهاً. انظر لامع الدراري 5/380 وأوجز المسالك 5/103) وقالوا: النهي عنه رحمة، فمن قدر عليه فلا حرج، لحديث الصحيحن عن عائشة: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوصال رحمةً لهم. وأجيب بأن الرحمة لا تمنع النهي، فمن رحمته أنه كره لهم أو حرمه عليهم. وأجاز أحمد وابن وهب وإسحاق الوصال إلى السحر لحديث البخاري عن أبي سعيد مرفوعاً: لا تواصلوا، فأيُّكم أراد الوصال فليواصل إلى السحر. وعارضه ابن عبد البر بحديث الصحيحين: إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار (في الأصل: "الشمس"، وهو خطأ. تنظر عمدة القاري 6/64) من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم، فالوصال مخصوص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. (3) يوم التاسع من ذي الحجة. (4) مولى عمر بن عبيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 عَنْ عُمَيْرٍ (1) مَوْلَى (2) ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أمِّ الْفَضْلِ (3) ابْنَةِ الْحَارِثِ: أَنَّ نَاسًا تمارَوْا (4) فِي صَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ (5) ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَائِمٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ (6) بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلَتْ (7) أمُّ الْفَضْلِ بقَدَح (8) مِنْ لَبَن وهو واقف بعرفة فشربه (9) .   (1) هو ابن عبد الله الهلالي، وثَّقه النسائي وابن حبان، مات سنة 104، كذا في "الإِسعاف". (2) وفي رواية: مولى أم الفضل، ولا منافاة، فهذا باعتبار الأصل والأولان باعتبار المآل، كذا ذكره الزُّرقاني. (3) زوجة العباس. (4) أي تنازعوا، أو تشاكّوا، أو اختلفوا. (5) أي بعرفات. (6) أي لأنه مسافر. (7) قوله: فأرسلت، لم يُسَمَّ الرسول بذلك، نعم في النسائي عن ابن عباس ما يدل على أنه كان الرسولَ بذلك. وفي الصحيحين عن ميمونة أنها أرسلت فيُحمل على التعدُّد بأن يكون الأختان أرسلتا معاً، أو أرسلتا قَدَحاً واحداً، ونُسب إلى كلِّ منهما لأنَّ ميمونة أرسلت بسؤال أختها أم الفضل لها ذلك لكشف الحال، أو عكسه. وفيه التحيُّل للاطِّلاع على الحكم بغير سؤال وفطنة المرسِلة لاستكشافها عن الحكم الشرعي بهذه الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال، لأن ذلك كان في يوم حارٍّ بعد الظهيرة، كذا في "شرح الزُّرقاني". (8) بفتحتين كاسه بزرك (بالفارسية) . (9) شفقةً على الأمة ورحمةً على العامة. قوله: فشربه، زاد في حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ شَاءَ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ ومن شاء أفطر، إنما صومه تطوع (1) ،   ميمونة: والناس ينظرون، وفي رواية أبي نعيم: وهو يخطب الناس بعرفة أي ليراه الناس ويعلمون أنه مفطر، لأن العيان أقوى من الخبر. ففطر يوم عرفة للحاجّ أفضل من صومه لأنه الذي اختاره صلّى الله عليه وسلّم لنفسه وللتقوِّي على عمل الحج، ولما فيه من العون على الاجتهاد في الدعاء والتضرُّع المطلوب في ذلك الموضع، ولذا قال الجمهور: يُستحب فطره للحاج وإن كان قوياً. ثم اختلفوا هل صومه مكروه؟ وصححه المالكية، أو خلاف الأولى؟ وصححه الشافعية، وتُعقب بأن فعله المجرد لا يدل على عدم استحباب صومه، إذ قد يتركه لبيان الجواز، وأجيب بأنه قد روى أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم عن أبي هريرة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن صوم عرفة بعرفة. وأخذ بظاهره قوم منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، فقال: يجب فطره للحاجِّ، والجمهور على استحبابه، كذا في "شرح الزُّرقاني". (1) قوله: تطوع، أي ليس بفرض ولا واجب، لكن فيه فضيلة ثابتة، فروى مسلم واللفظ له، وأبو داود من حديث أبي قتادة: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صوم يوم عرفة؟ قال: يكفِّر السنة الماضية والباقية (الجمع بينه وبين حديث الباب أن يُحمل على غير الحاجّ أو على من لم يُضعفه صيامه عن الذكر والدعاء المطلوب للحاج. انظر فتح الباري 4/237) ، وفي رواية الترمذيّ: صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي بعده والسنة التي قبله. وروى ابن ماجه عن قتادة بن النعمان: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من صام يوم عرفة غُفر له سنة أمامه وسنة بعده. وروى أحمد، عن عطاء الخرساني أن عبد الرحمن بن أبي بكر دخل على عائشة يوم عرفة وهي صائمة والماء يُرَشُّ عليها، فقال لها: أفطري، فقالت: أُفطر وقد سمعت رسول الله يقول: إن صوم عرفة يكفِّر العام الذي قبله، قال الحافظ عبد العظيم المنذري في كتاب "الترغيب والترهيب": رواته محتَجٌّ بهم في الصحيح إلاَّ عطاء لم يسمع من عبد الرحمن. وروى أبو يعلى عن سهل بن سعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 فَإِنْ كَانَ (1) إِذَا صَامَهُ يُضْعِفُه ذَلِكَ عَنِ الدُّعَاءِ (2) فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فالإِفطار أَفْضَلُ (3) مِنَ الصوم.   مرفوعاً: من صام يوم عرفة غُفر له ذنبُ سنتين متتابعتين. قال المنذري: رجاله رجال الصحيح. وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: من صام يوم عرفة غُفر له سنةً أمامه وسنةً خلفه، ومن صام عاشوراء غُفر له سنة. وإسناده حسن قاله المنذري. وروى الطبراني في "الأوسط" أيضاً عن سعيد بن جبير: سأل رجلٌ عبد الله بن عمر، عن صوم يوم عرفة؟ فقال: كنا ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعدله بصوم سنتين. وإسناده حسن قاله المنذري. وروى في "الكبير" بإسناد فيه رِشْدين بن سعد - وقد ضُعِّف - عن زيد بن أرقم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن صيام يوم عرفة؟ فقال: يكفِّر السنة التي قبلها والتي بعدها. وروى الطبراني في "الأوسط" والبيهقي عن مسروق أنه دخل على عائشة يوم عرفة، فقال: اسقوني، فقالت: يا غلام اسْقِهِ عسلاً، ثم قالت: وما أنت بصائم؟! قال: لا، إني أخاف أن يكون يوم الأضحى، فقالت: إنما ذلك يوم عرفة، يوم يعرف الإِمام، أوَ ما سمعتَ يا مسروق أن رسول الله كان يعدله بألف يوم؟ وإسناده حسن قاله المنذري. وفي رواية البيهقي عنها مرفوعاً: صيام عرفة كصيام ألف يوم. وأخرج أبو سعيد النقّاش في "أماليه" عن ابن عمر مرفوعاً: من صام يوم عرفة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر. قال الحافظ ابن حجر في رسالته "الخصال المكفرة في الذنوب المقدمة والمؤخرة": قد ثبت في "صحيح مسلم" أنه يكفِّر ذنوب السنة الماضية والمستقبلة وذلك المراد من قوله وما تأخر. انتهى. وذكر السيوطي في رسالته "فيمن يُؤتى أجره مرتين" أن سبب كون صوم عاشوراء كفّارة سنة وكون صوم عرفة كفارة سنتين أن ذلك من شرع موسى، وهذا سنَّة النبي صلّى الله عليه وسلّم فضُعِّف أجره. (1) أي المحرم. (2) ونحوه من التلبية والقراءة، وكذا إذا كان الصوم يُسيء خُلُقه أو يُتعب مشيه. (3) قوله: أفضل، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف كما ذكره الطحاويّ وعليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 15 - (بَابُ الأَيَّامِ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا الصَّوْمُ) 369 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سُلْيَمَانَ (1) بْنِ يَسَارٍ (2) : أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ (3) مِنًى. 370 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ (4) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ   حُمل ما ورد من النهي عن صيام عرفة بعرفة. أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وصححه والطبراني والطحاوي وغيرهم. وأخرج الترمذي وابن حبان من حديث ابن عمر: حججتُ مع رسول الله ولم يصم، ومع أبي بكر كذلك، ومع عمر كذلك، ومع عثمان كذلك، وأنا لا أصومُه ولا آمرُ به ولا أنهى عنه، وذَكَر المنذريُّ أنَّ مالكاً والثوريَّ كانا يختاران الفطر بعرفة، وكان الزبير وعائشة يصومان، ورُوي ذلك عن عثمان بن أبي العاص، وكان عطاء يقول: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف، وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء. (1) قال الزهري: كان من العلماء، وقال الزهري: ثقة مأمون، مات سنة 107 هـ. (2) لم يُختلف على مالك في إرساله، قاله أبو عمر، وقد وصله النَّسائي من طريق سفيان الثوري عن أبي النضر وعبد الله بن أبي بكر، وهما عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن حُذافة. (3) أي أيّام رمي الجمار بها، وهي الثلاثة التي يتعجَّل الحاجّ منها في يومين بعد يوم النحر، وهي الأيام المعلومات والمعدودات وأيام التشريق. (4) هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثيّ المدني، وثَّقه ابن معين والنسائي، مات سنة 139 هـ، كذا في "الإِسعاف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 أَبِي مرَّة مَوْلَى (1) عُقَيْلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فقرَّب (2) لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لأَبِيهِ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: كُلْ، أَمَا علمتَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمُرُ (3) نا (4) بِالْفِطْرِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (5) نَأْخُذُ، لا يَنْبَغِي أَنْ يُصام أَيَّامُ التَّشْرِيقِ لمُتعةٍ (6)   (1) ليحيى مولى أم هانئ بنت أبي طالب، قال ابن عبد البر: هكذا يقول يحيى، وأكثرهم يقولون مولى عقيل. (2) أي أبوه. (3) أمر إيجاب. (4) معاشر المسلمين. (5) قوله: وبهذا نأخذ، اختلفوا فيه على ما بسطه العينيّ في "عمدة القاري" (6/113) وغيره على أقوال، منهم من قال: لا يجوز صيام أيام التشريق مطلقاً، لا للمتمتع ولا لغيره، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والشافعيِّ في الجديد والليث بن سعد وابن عُلَيَّة، وبه قال علي بن أبي طالب والحسن وعطاء، وهو الرواية الأولى عن أحمد، وصححها بعض أصحابه. ومنهم من قال: يجوز مطلقاً، وهو مذهب أبي إسحاق المَرْوزي الشافعي، ولعله لم يبلغه أحاديث النهي. ومنهم من قال: يجوز للمتمتِّع الذي لم يجد الهَدْي ولم يصم الثلاثة في عشر ذي الحجَّة وهو قول عائشة وابن عمر وعروة، وبه قال مالك والأَوْزاعي وإسحاق والشافعي في القديم وقد رجع عنه، وهو الرواية الثانية عن أحمد واختارها بعض أصحابه. (6) أي لصوم تمتُّع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وَلا لِغَيْرِهَا (1) ، لِمَا جَاءَ (2) مِنَ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ والعامَّة من قبلنا. وقال مالك (3)   (1) أي من قِران وفدية وكفارة وقضاء. (2) قوله: لما جاء من النهي، أي من حديث جماعة من الصحابة عند جماعة من الأئمة منهم عبد الله بن حذافة عند النسائي، وابن عباس عند الطبراني، وأبي هريرة عند الدارقطني، وزيد بن خالد الجُهَني عند أبي يعلى المَوْصلي، ونبيشة وكعب بن مالك عند مسلم، وأم خلدة الأنصارية عند إسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة وعمرو بن العاص، عند مالك والحاكم وابن خزيمة، وعقبة بن عامر وبشر وعليّ وغيرهم عند جماعة، وليس فيها تخصيص للمتمتِّع ولا لغيره، بل في بعضها أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بعث منادياً أيّام منى ينادي: ألا لا يصومنَّ أحد هذه الأيام. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/335) النهي من حديث عليّ وسعد بن أبي وقاص وعائشة وعمرو بن العاص وعبد الله بن حذافة وأبي هريرة وبشر بن سحيم وأنس ومعمر بن عبد الله العدوي وأم الفضل زوجة العباس وغيرهم، ثم قال: فلما ثبت بهذه الآثار النهيُ عن صيام أيام التشريق وكان ذلك بمنى والحاجّ مقيمون بها، وفيهم المتمتِّعون والقارنون، ولم يستثن منهم متمتِّعاً دخلوا في هذا النهي أيضاً. (3) قوله: وقال مالك ... إلى آخره، يُستَدَلُّ له بظاهر قوله تعالى: {فإذا أمنتم فمن تمتَّع بالعمرة إلى الحجِّ فما استيسر من الهَدْي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحجِّ وسبعة إذا رجعتم} (سورة البقرة: الآية 196) ، فإنَّ ظاهره تجويز الثلاثة في أيام الحج وأيام التشريق داخلة فيها، ويوافقه ما أخرجه وكيع وعبد الرزاق وابن أبي شَيْبَة وعبد بن حُميد وابن جَرير وابن المنذر عن ابن عمر في تفسير ثلاثة أيام، قال: يومٌ قبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 ابن أَنَسٍ يَصُومُهَا الْمُتَمَتِّعُ (1) الَّذِي لا يَجِدُ الهَدْيَ أَوْ (2) فَاتَتْهُ الأيّامُ الثَّلاثَةُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. 16 - (بَابُ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ) 371 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: لا يصومُ (3) إلاَّ مَنْ أَجمع (4) الصيامَ قَبْلَ الْفَجْرِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ أَجْمَعَ أَيْضًا عَلَى الصيام (5) قبل نصف   التروية ويوم عرفة، وإذا فاته صيامها صام أيام منى فإنهن من الحج. وأخرج البخاري وابن جرير والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر وعائشة قالا: لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصمن إلاَّ لمتمتِّع لم يجد هدياً. وأخرج ابن جرير ومَن بعده عن ابن عمر: رخَّص رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاتته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق. وأخرج الدارقطني عن عائشة سمعت رسول الله يقول: من لم يكن معه هَدْي فليصم ثلاثة أيام قبل يوم النحر ومن لم يكن صام تلك الثلاثة صام أيام منى. وأجاب أصحابنا وغيرهم عن هذه الآثار بأن الموقوف منها لا يوازي المرفوع الناهي والمرفوع منها لا يساوي الناهي العامّ من حيث السند، والاستنباط من الآية في حيِّز الخفاء لأن دخول أيام التشريق في أيام الحج في حيِّز المنع. وفي المقام كلام في المبسوطات. (1) وكذا القارن. (2) في نسخة: إذا. (3) أي لا يصح أن يصوم. (4) قال الباجي: الإِجماع على الصوم وهو العزم عليه والقصد له. (5) أي فرضاً كان أو نفلاً، قوله: على الصيام، سواء كان فرضاً أو نفلاً، أما النفل فلما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة قال لي رسول الله ذاتَ يوم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 النَّهَارِ (1) فَهُوَ (2) صَائِمٌ، وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ (3) غيرُ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُ (4) أَبِي حَنِيفَةَ والعامَّة قَبْلَنَا.   يا عائشة هل عندكم شيء؟ فقلت: يا رسول الله ما عندنا شيء، فقال: فإني صائم ... الحديث، وله ألفاظ عند مسلم. ورواه أبو داود وابن حبَّان والدارقطني بلفظ: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأتينا يقول: هل عندكم من غَداء؟ فإن قلنا نعم تغدّى، وإن قلنا لا، قال: إني صائم. وفي رواية لمسلم والدارقطني: دخل عليها، فقال: هل عندكم شيء؟ قلت: لا، قال: فإني إذاً صائم. ودخل عليَّ يوماً آخر، فقال: أعندكم شيء؟ قلت: نعم، قال لي: إذاً أفطر وقد كنت فرضت الصوم. وذكر البخاريُّ تعليقاً عن أمِّ الدرداء: كان أبو الدرداء يقول: عندكم طعام؟ فإن قلنا: لا، قال: فإني صائم يومي هذا. ووصله ابن أبي شيبة، وكذا أورد عن أبي طلحة عند عبد الرزاق أنه كان يأتي أهله فيقول هل من غداء؟ فيقولون: لا، فيصوم. وعن أبي هريرة عند البيهقي، وعن ابن عباس وصله الطحاوي، وعن حذيفة وصله عبد الرزاق، وذكرها البخاري تعليقاً، وأما الفرض فلما ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث رجلاً ينادي في الناس يوم عاشوراء أنَّ من أكل فليصم، أي ليمسك بقية يومه، ومن لم يأكل فلا يأكل. أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم، وصوم يوم عاشوراء كان فرضاً قبل رمضان، فدل ذلك على إجزاء النية بعد الطلوع أيضاً في رمضان لولا يظهر فرق بين فرض وفرض. (1) أي الشرعي، وهو وقت الضحوة الكبرى بحيث يقع النية في أكثر أجزاء النهار. (2) فصومه عندنا صحيح. (3) أي مضمون ما ذكر. (4) قوله: وهو قول أبي حنيفة، خلافاً للشافعي وأصحابه فإنهم جَوَّزوا في النفل النية بعد الطلوع للآثار المذكورة، ولم يجوِّزوا ذلك في الفرض لأثر ابن عمر، ولحديث حفصة مرفوعاً: من لم يُجمع من الليل فلا صيام له، وفي رواية: من لم يبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له، أخرجه أبو داود والترمذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 17 - (بَابُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصِّيَامِ) 372 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1) ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى يُقَالَ   والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأحمد والدارقطني، واختُلف في رفعه ووقفه، وصحح جماعة - منهم الترمذي - وقفَه على حفصة، وحمله الطحاوي على ما عدا النفلَ وصومَ رمضان من صوم الكفارات وقضاء شهر رمضان، لئلا يضادّ حديث صوم يوم عاشوراء وغيره من الآثار، وذكر في "إرشاد الساري" أنه روى عبد الرزاق عن حذيفة أنه قال: من بدا له الصيام بعد ما تزول الشمس فليصم، وإليه ذهب جماعة سواء كان قبل الزوال أو بعده وهو مذهب الحنابلة، وقال مالك: لا يصوم في النافلة إلاَّ أن يبيِّت، لحديث: لا صيام لمن لا يبيِّت الصيام من الليل، وقياساً على الصلاة إذ فرضها ونفلها سواء في النية (قال الموفَّق: لا يصح الصوم إلاَّ بنية إجماعاً فرضاً كان أو تطوعاً لأنه عبادة محضة، فافتقر إلى النية كالصلاة، ثم إن كان فرضاً كصيام رمضان في أدائه وقضائه والنذر والكفارة اشتُرط أن ينويَه من الليل عند إمامنا ومالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يُجزئ صيام رمضان وكل صوم متعيِّن بنية من النهار لحديث عاشوراء المتفق عليه، ثم في أي جزء من الليل نوى أجزأه، ثم فَعَلَ بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب أم لا واشتراط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمنافٍ للصوم، واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل كما اختُص به أذان الصبح والدفع من مزدلفة، ولنا عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: "من لم يبيِّت الصيام من الليل"، وصوم التطوع يجوز بنية من النهار عند إمامنا وأبي حنيفة والشافعي، وقال مالك وداود: لا يجوز إلاَّ بنية من الليل، ثم في أي وقت من النهار نوى أجزأه، سواء في ذلك ما قبل الزوال وبعده، وهذا ظاهر كلام أحمد والخرقي، واختار القاضي في "المحرَّر" أنه لا تجزئه النية بعد الزوال، وهذا مذهب أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي، كذا في لامع الدراري 5/382) . (1) قوله: عبد الرحمن، هكذا قال أبو النضر ووافقه يحيى بن أبي كثير في الصحيحين، ومحمد بن إبراهيم وزيد بن غياث عند النسائي، ومحمد بن عمرو عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 لا يُفطر (1) ، ويُفطر (2) حَتَّى يُقَالَ لا يَصُومُ، وَمَا رأيتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ (3) صيامَ شهرٍ قطُّ إلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شهرٍ أكثرَ (4) صِيَامًا (5) مِنْهُ في شعبان.   الترمذيّ، وخالفهم يحيى بن سعيد وسالم بن أبي الجعد فروياه عن أبي سلمة عن أم سلمة أخرجهما النسائي، ويُحتمل أن أبا سلمة رواه عن كلٍّ منهما، كذا ذكره الزُّرقاني. (1) أي بعد ذلك. (2) أي أحياناً ويستمرُّ على إفطاره. (3) لئلا يُظَنُّ وجوبه. (4) بالنصب ثاني مفعولَيْ رأيت. (5) بالنصب، وروي بالخفض، قال السُّهَيلي: هو وهم كأنه كتب الألف على لغة من يقف على المنصوب المنوَّن بدون الألف فتوهَّمه مخفوضاً. قوله: أكثر صياماً منه في شعبان، اختُلف في الحكمة في إكثاره الصوم فيه، فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة من كل شهر لسفر أو غيره، فيجتمع فيقضيها فيه، واستُدلَّ له بما أخرجه الطبراني بسند ضعيف عن عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخَّر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة، فيصوم شعبان، وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان لحديث الترمذي: سُئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّ الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان لتعظيم رمضان. وأصح منه ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة عن أسامة قلت: يا رسول الله لم أركَ ما تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذاك شهر يَغْفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى الله، فأحبُّ أن يُرفع (المراد بالرفع الرفع الخاصّ دون الرفع العامّ بُكرة وعشيّاً. انظر فتح المُلْهم 3/174) إليه عملي وأنا صائم، كذا في "التوشيح شرح صحيح البخاري" للسيوطي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 18 - (باب صوم يوم عَاشُورَاءَ (1)) 373 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيد (2) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سمع معاويةَ (3) بنَ أبي سفيان عامَ (4) حَجٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ (5) يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ،   (1) قوله: عاشوراء، هو بالمدّ على المشهور، وحُكي فيه القصر وهو في الأصل صفة الليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد، واليوم مضاف إليها، فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لمّا عدلوا عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن ذكر الموصوف (قال العيني: وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وعدَّ أسماءهم ثم قال: ومن الأئمة مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحابهم. "عمدة القاري" 6/116) كذا ذكره القاري. (2) قوله: عن حُمَيد، قال الحافظ: ابن حجر، هكذا رواه مالك وتابعه يونس وصالح بن كيسان وابن عُيَينة وغيرهم، قال الأَوْزاعي والزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وقال النعمان بن راشد عن الزهري عن السائب بن يزيد كلاهما عن معاوية، المحفوظ رواية الزهري عن حميد، قاله النسائي وغيره. (3) هو وأبوه من مُسلمة الفتح، وكان أميراً عشرين سنة وخليفةً عشرين سنة، كذا ذكره الزرقاني. (4) قوله: عام حجّ، كان أول حجة حجها معاوية بعد الخلافة سنة أربع وأربعين، وآخر حجة حجها سنة سبع وخمسين، ذكره ابن جرير. قال ابن حجر: ويظهر أن المراد في هذا الحديث الحجة الأخيرة، وكأنه تأخر بمكة أو المدينة بعد الحج إلى يوم عاشوراء. (5) أي منبر المسجد النبوي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 أين (1) علماؤكمم (2) ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْمِ (3) هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ لَمْ يَكْتُبِ (4) اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، أَنَا صَائِمٌ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا (6) قَبْلَ أَنْ يُفترض   (1) قوله: أين علماؤكم؟، قال النووي: الظاهر إنما قال ذلك لمّا سمع من يوجبه أو يحرمه أو يكرهه، فأراد إعلامهم بأنه ليس بواجب، ولا محرم، وقال ابن التين: يحتمل أن يريد به استدعاء موافقتهم، أو بلغه أنهم يَرَوْن صيامه فرضاً أو نفلاً، أو يكون للتبليغ، كذا في "عمدة القاري (6/121) " شرح صحيح البخاري للعيني. (2) أي من الصحابة والتابعين. (3) أي في حقه. (4) أي لم يُفرض، قوله: لم يكتب الله ... إلى آخره، اتفق العلماء على أن صوم عاشوراء اليوم سُنَّة وليس بواجب، واختلفوا في حكمه أوَّلَ الإِسلام، فقال أبو حنيفة: كان واجباً، واختلف أصحاب الشافعي على وجهين: أشهرهما: أنه لم يزل سُنَّة، ولم يك واجباً قط، والثاني: كقول أبي حنيفة، وقال عياض: وكان بعض السلف يقول: كان فرضاً وهو باقٍ على فرضيّته، قال: وانقرض القائلون بهذا، وحصل الإِجماع على أنه ليس بفرض، كذا في "عمدة القاري". (5) قال الحافظ ابن حجر: هو كلمة من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم كما بيّنه النسائي في روايته، ذكره السيوطي. (6) قوله: كان واجباً (وبسط الكلام على هذا الشيخُ ابن القيم في "الهدي" وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصوم عاشوراء قبل أن ينزل فرض رمضان، فلما فُرض رمضان تركه، فهذا لا يمكن التخلّص عنه إلا بأنَّ صيامه كان فرضاً قبل رمضان، فحينئذٍ يكون المتروك وجوب صومه لا استحبابه، ويتعين هذا ... إلخ. "لامع الدراري" 5/383) .... إلى آخره، به ورد كثير من الأخبار، فأخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 رَمَضَانُ ثُمَّ نَسَخَهُ (1) شَهْرُ رَمَضَانَ، فَهُوَ تطوُّعٌ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ قبلنا.   الطحاويّ عن الرُّبَيِّع بنت معوِّذ: قد بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأنصار: من كان أصبح صائماً فليُتِمّ صومه، ومن كان أصبح مفطراً، فليتمّ آخر يومه، فلم نزل نصومه ويصومه صبياننا وهم صغار، ونتخذ لهم اللعبة من العِهْن، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة. وأخرج عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بصوم عاشوراء قبل أن يُفترض رمضان، فلما فُرض قال: من شاء صام عاشوراء ومن شاء أفطر. وأخرج عن جابر: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرنا بصوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عليه، فلما فُرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا. وأخرج عن قيس بن سعد: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصوم عاشوراء قبل أن يُفترض رمضان. فلمّا نزل رمضان لم نُؤمر ولم نُنْهَ عنه. وفي الباب أخبار أُخَر مخرّجة في السنن والصحاح، وأما حديث معاوية فأجيب عنه بأن معاوية من مُسلمة الفتح، فإن كان سمع ما سمع فإنما سمع سنة تسع أو عشر، وذلك بعد نسخه برمضان، فإنه كان في السنة الثانية، فلا دلالة له على عدم وجوبه قبل ذلك. (1) أي افتراضه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 19 - (بَابُ (1) لَيْلَةِ (2) الْقَدْرِ) 374 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: تحرَّوْا (3) ليلةَ (4) الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الأواخر من رمضان.   (1) قوله : باب ليلة القدر (ذكر شيخنا في الأوجز 5/178 سبعة أبحاث لطيفة في هذا الباب: منها اختلافُهم في وجه التسمية بليلة القدر، ومنها: اختصاص هذه الليلة بهذه الأمة عند الجمهور، ومنها: اختلافهم في سبب هذه العَطيّة الجليلة، ومنها: في تعيين هذه الليلة على أقوال كثيرة تبلغ إلى قريب من خمسين قولاً، ومختار أئمة الفقه والسلوك في تعيين هذه الليلة، ومنها: اختلافهم هل يحصل الثواب المترتَّب عليها لمن قامها ولم يظهر له شيء، وغيرها) ، اختلف العلماء فيها، فقيل: إنها رُفعت أصلاً ورأساً، قاله الحَجّاج الوالي الظالم والرافضة، وقيل: إنها دائرة في جميع السنة، وقيل: إنها ليلة النصف من شعبان، وقيل: مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه، ورجّحه السُّبْكي، وقيل أول ليلة منه، وقيل ليلة النصف، وقيل ست عشرة، وقيل سبعة عشرة، وقيل ليلة ثماني عشرة، وقيل: ليلة تسع عشرة، وقيل: مبهمة في العشر الأوسط، وقيل: مبهمة في العشر الأخير، وقيل: مبهمة في السبع الأواخر، وقيل: ليلة الحادي والعشرين، وقيل كذلك إن كان الشهر ناقصاً وإلا فليلة العشرين، وقيل: ليلة اثنتين وعشرين، وقيل: ليلة ثلاث وعشرين، وقيل ليلة سبع وعشرين وهو مذهب أحمد واختاره خلائق، وقيل ليلة ثمان وعشرين، وقيل: ليلة تسع وعشرين، وقيل: ليلة الثلاثين، وقيل: تنتقل في النصف الأخير، وقيل: تنتقل في العشر الأخير كلِّه، وقيل: إنها تنتقل في أوتار العشر الأخير، وقيل: تنتقل في السبع الأواخر، وقيل: في أشفاع العشر الأوسط، والعشر الأخير، وذهب بعض المتأخرين إلى أنها تكون دائماً ليلة الجمعة ولا أصل له، كذا في "التنوير" (1/300) . (2) سُمِّيت بذلك لعظم قدرها لنزول القرآن فيها، ولوصفها بأنها خير من ألف شهر. (3) أي اجتهدوا أو التمسوا. (4) قال ابن عبد البَرّ: هكذا رواه مالك، ورواه شعبة عن عبد الله بن دينار بلفظ: تحروها ليلة سبع وعشرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 375 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ (1) : أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (2) : تحرَّوْا ليلةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. 20 - (بَابُ (3) الاعْتِكَافِ (4)) 376 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ،   (1) قال ابن عبد البر: رواه أنس بن عياض أبو ضمرة عن هشام عن أبيه عن عائشة موصولاً. (2) وفي الصحيح عن عائشة: تحروا ليلة القدر في وتر العشر الأواخر من رمضان. (3) قوله : باب الاعتكاف، قال مالك: فكّرتُ في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدّة اعتنائهم واتباعهم الأثر فأراهم تركوه لشدّته. انتهى. قال السيوطي في "التوشيح": وتمامه أن يُقال: مع اشتغالهم بالكسب لعيالهم والعمل في أراضيهم، فيشقّ عليهم ترك ذلك وملازمتهم للمسجد. انتهى. قلت: هو مع تمامه ليس بتمام، لعدم كونه وجهاً لترك سنّة من سنن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والأَوْلى أن يُقال إن الاعتكاف في العشر من رمضان وإن كان سنّةً مؤكدة لكنه على الكفاية لا على العين، وقد كانت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده يعتكفن فكفى ذلك، وقد حقّقتُه في رسالتي "الإِنصاف في حكم الاعتكاف". (4) هو لغةً لزوم الشيْء وحبس النفس عليه خيراً أو شرّاً، وشرعاً لزوم المسجد للعبادة على وجه مخصوص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 عَنْ عَمْرة (1) بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعتكَفَ يُدْني (2) إِلَيَّ (3) رأسَه فأرجِّله (4) ، وَكَانَ لا يَدْخُلُ البيتَ إِلا (5) لِحَاجَةِ (6) الإِنسان.   (1) قوله: عن عمرة، قال ابن عبد البر: كذا رواه جمهور رواة الموطأ، ورواه عبد الرحمن بن مهدي وجماعة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، فلم يذكروا عمرة في هذا الحديث. وكذا لم يذكر عمرة أكثر أصحاب ابن شهاب منهم معمر وسفيان وزياد بن سعد والأَوْزاعي. انتهى. ورواه النسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك به، ورواه الترمذي عن أبي مصعب عن مالك عن الزهري. عن عروة وعمرة كلاهما عن عائشة، وقال هكذا روى بعضهم عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة والصحيح عن عروة وعمرة عن عائشة. وكذا أخرجه البخاري ومسلم وبقية الستة عن الزهري عن عروة وعمرة كلاهما عن عائشة، كذا في "التنوير". (2) من الإِدناء أي يقرب. قوله: يُدني إليّ رأسه، فيه إن إخراج البعض لا يجري مجرى الكل، زاد في رواية: وأنا حائض. وفيه أن الحائض طاهرة. (3) وأنا في الحُجرة. (4) أي فأمشّط شعر رأسه. (5) قوله: إلا لحاجة الإِنسان، فسّرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات مثل عيادة المريض وشهود الجمعة والجنازة، فرآه بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم، وبه قال الثوري وابن المبارك، وقال بعضهم: ليس له أن يفعل شيئاً من هذا، كذا في "عمدة القاري". (6) أي الضرورية وهي الغائط والبول والحدث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يَخْرُجُ (1) الرَّجُلُ إِذَا اعْتَكَفَ إِلا لِلْغَائِطِ أَوِ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ فَيَكُونُ فِي مُعْتَكَفه (2) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 377 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يزيدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ الْهَادِ (3) ، عَنْ محمد بن إبراهيم (4) ، عن أبي سلمةَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سعيدٍ الخُدْري (5) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكفُ العَشْرَ الوُسَطَ (6) مِنْ شَهْرِ (7) رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ (8) عاماً (9) حتى إذا كان ليلةَ   (1) قوله: لا يخرج الرجل، يعني إلى بيته قَرُب أو بَعُد، وأما للوضوء والغسل من دون ضرورة فلا، وكذا في عيادة المريض ونحو ذلك. ويشهد له ما أخرجه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يسأل عن المريض إلاّ مارّاً في اعتكافه. (2) اسم مفعول أي محل اعتكافه. (3) أصله الهادي، حذف الياء وقفاً ووصلاً. (4) ابن الحارث التميمي. (5) قال ابن عبد البر: هذا أصحّ حديث يُروى في هذا الباب. (6) قوله: الوسط، قال ابن حجر: بضم الواو والسين جمع وُسْطى، ويُروى بفتح السين مثل كُبَر وكُبْرى، ورواه الباجي بإسكانها على أنها جمع واسط كبازل وبزل. انتهى. (7) قوله: من شهر رمضان، فيه مداومته على ذلك. فالاعتكاف فيه سنّة مؤكدة لمواظبته عليه، قاله ابن عبد البر. ولعل مراده رمضان لا بقيد الوسط إذ هو لم يداوم عليه. (8) كذلك. (9) مصدر عام إذا سَبَح، فالإِنسان يعوم في دنياه على الأرض طول حياته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهُيَ الليلةُ الَّتِي يَخْرُجُ (1) فِيهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ قَالَ (2) : مَنْ كَانَ (3) اعْتَكَفَ مَعِيَ فليعتكفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ، وَقَدْ رأيتُ (4) هَذِهِ الليلةَ (5) ، ثُمَّ أُنسيتُها (6) ، وَقَدْ رأيتُني (7) مِنْ صُبْحَتِها (8) أسجُدُ فِي ماءٍ وَطِينٍ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، والتمسوها في كل وترٍ (9) .   (1) أي من عادته أن يخرج. قوله: يخرج فيها، قال ابن حزم: هذه الرواية مشكلة، فإن ظاهرها أن خطبته وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين، وعلى هذا يكون أول الليالي اعتكافه الآخر ليلة اثنين وعشرين وهو مغاير لقوله في آخر الحديث: فأبصرتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم انصرف وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين، فإنه ظاهر في أن الخطبة كانت في صبح اليوم العشرين ووقوع المطر كان في ليلة إحدى وعشرين وهو الموافق لبقية الطرق، فكان في هذه الرواية تجوُّزاً أي من الصبح الذي قبلها، كذا في "التنوير". (2) وفي رواية الشيخين: فخطبنا صبيحة عشرين. (3) أي من أصحابي. (4) وفي رواية أُريتُ: بهمزةِ أوّله. قوله وقد رأيت، قال النووي: في "شرح المهذب" قال القفّال: ليس معناه أنه رأى الملائكة والأنوار عياناً، ثم نَسِيَ في أول ليلةٍ رأى ذلك، لأن مثل هذا قلَّ أن ينسى، وإنما معناه أنه قيل له ليلة القدر ليلة كذا وكذا، ثم نسي كيف قيل له. (5) أي ليلة القدر. (6) بصيغة المفعول أي أنسانيها الله لحكمةٍ في إنسائها. (7) أي نفسي في تلك الليلة. (8) أي في صبحها. (9) أي أوتار لياليه، أوّلُها ليلة الحادي والعشرين إلى آخر التاسع والعشرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فمُطرتِ السَّمَاءُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ (1) سَقْفُهُ عَرِيشًا (2) فوَكَف (3) الْمَسْجِدُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ (4) : فأبصرتْ (5) عَيْنَايَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ (6) عَلَيْنَا، وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ (7) أثرُ الْمَاءِ والطِّين مِنْ صُبْحِ (8) لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. 378 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، سألتُ ابنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنِ الرَّجُلِ الْمُعْتَكِفِ يَذْهَبُ لِحَاجَتِهِ تحت سقف (9) ؟   (1) أي في مسجد المدينة. (2) أي أنه كان مظلَّلاً بالجريد والخوص محكَم البناء بحيث يكفّ عن المطر. (3) أي أقطر الماء من سقفه. (4) أي الخدري راوي الحديث. (5) أي فرأيت. (6) من الصلاة. (7) قوله: وأنفه، فيه السجود على الجبهة والأنف جميعاً، فإن سجد على أنفه وحده لم يجزه وعلى جبهته وحدها أساء، قاله مالك، وقال الشافعي: لا يجزيه، وقال أبو حنيفة: إذا سجد على جبهته أو أنفه أجزاه (وفي الهداية: إن اقتصر على أحدهما جاز عند أبي حنيفة وقالا: لا يجوز الاقتصار على الأنف إلا من عذر، وهو رواية عنه ... إلخ، انظر "أوجز المسالك" 5/187) . (8) بعد ما فرغ من صلاة الصبح. (9) أي خراب صار مزبلة، ويكون حول المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 قَالَ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: بِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ لِلْمُعْتَكِفِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ الْحَاجَةَ مِنَ الْغَائِطِ أَوِ الْبَوْلِ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ (2) أَوْ أَنْ يَمُرَّ تَحْتَ السَّقْفِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.   (1) وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة، وقال جماعة: إن دخل تحته بطل (قال الموفق: لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد تُقام الجماعة فيه، لأن الجماعة واجبة والاعتكاف في غيره يُفضي إلى أحد الأمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر الخروج كثيراً مع إمكان التحرّز منه، وذلك منافٍ للاعتكاف. ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلاً، لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافاً "المغني" 3/187) . (2) أي بيته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 (كِتَابُ الْحَجِّ (1)) 1 - (بَابُ الْمَوَاقِيتِ (2)) 379 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (3) : يُهلُّ (4) أهلُ (5) الْمَدِينَةِ مِنْ ذي الحُلَيْفة (6) ، ويُهِلُّ أهلُ الشام (7)   (1) بفتح الحاء والكسر، في اللغة: القصد، وفي الشرع: زيارة أماكن مخصوصة بأفعال مخصوصة. (2) جمع للميقات مكان الإِحرام. حكى الأثرم عن أحمد أنه سئل: أيُّ سنةٍ وَقَّت رسول الله المواقيت؟ فقال: عام حجّ، كذا في "التوشيح". (3) وللبخاري: أنَّ رجلاً قام في المسجد، فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهلَّ؟ فقال: يهلُّ إلى آخره، بصيغة الخبر مراداً به الأمر. (4) مِنْ أَهَلَّ المُحرم: رفع صوته عند الإِحرام. وكلُّ من رفع صوته فقد أهلَّ، كذا في "المصباح". (5) أي حقيقةً أو حكماً ومن حولهم من أهل الشرق. (6) قوله: من ذي الحُلَيْفة، بضمِّ الحاء المهملة وفتح اللام وإسكان الياء المثنّاة من تحت وبالفاء، هو على نحو ستة أميال من المدينة، وقيل: سبعة أو أربعة، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي رحمه الله. (7) زاد النسائي من حديث عائشة: ومصر، وزاد الشافعي في روايته: والمغرب، والمصريون الآن يُحرمون من رابغ - براء وموحَّدة وعين معجمة - قرب الجُحفة لكثرة حُمّاها، فلا ينزلها أحد إلاَّ حُمّ، كذا ذكره الزرقاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 مِنَ الجُحْفة (1) ، ويُهلُّ أهلُ نَجْدٍ (2) مِنْ قَرْن (3) . قال ابنُ عمر: ويزعُمُون (4)   (1) قوله: من الجُحْفة، بضم الجيم وإسكان الحاء، قرية كبيرة كانت عامرة، وهي على طريق المدينة على نحو سبع مراحل من المدينة، ونحو ثلاث مراحل من مكة، قرية من الهجر بينها وبينه نحو ستة أميال، قال صاحب "المطالع" وغيره: سُمِّيت جحفة لأن السيل احتجفها، وقال أبو الفتح الهمداني: هي فعلة من جحف السيل اجتحف: إذا اقتلع ما يمر به من شجر أو غيره، وهذا من باب العرفة كما تقول عرفت عرفة بالفتح، وما تعرفه عرفة، كذلك جحف السيل جحفة، بالفتح، والمجحوف جحفة، بالضم، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات". (2) وكذا أهل الطائف ومن حولهم من أهل الشرق. قوله: أهل نجد: كل مكان مرتفع، وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد ههنا التي أعلى تهامة واليمن، وأسفلها الشام والعراق، قاله الزرقاني. (3) قوله: من قرن، بفتح القاف وسكون الراء. وفي حديث ابن عباس في الصحيحين: قرن المنازل. وضبط الجوهري بفتح الراء، وغلَّطوه، وبالغ النووي فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك وفي نسبة أُوَيس القرني إليه، وإنما هو منسوب إلى قبيلة بني قرن بطن من مراد، لكن حكى عياض أن من سكَّن الراء أراد الجبل، ومن فتح أراد الطريق. والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان، كذا في "شرح الزُّرقاني". (4) قوله: ويزعمون ... إلى آخره، للبخاري من طريق الليث عن نافع، عن ابن عمر: لم أفقه هذه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي "الصحيحين" عن سالم عن أبيه، وزعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال - ولم أسمعه -: ويُهِلُّ أهل اليمن من يلملم. وهو من استعمال الزعم على القول المحقَّق، وهو يُشعر بأنَّ الذي بلَّغ ذلك ابنَ عمر جماعة، وقد ثبت ذلك عن ابن عباس في "الصحيحين"، وجابر عند مسلم إلاَّ أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 أَنَّهُ (1) قَالَ: ويُهلُّ أهلُ اليَمَن مِنْ يَلَمْلَم (2) . 380 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (3) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، أنه قال: قال   قال: أحسبه رفعه، وعائشة عند النسائي، والحارث بن عمرو السهمي عند أحمد وأبي داود والنسائي (انظر أوجز المسالك 6/217) . (1) أي النبي صلّى الله عليه وسلّم. (2) قوله: من يلملم، بفتح الياء واللامين وإسكان الميم بينهما، ويُقال فيه ألملم بهمزة، هو على مرحلتين من مكة. وفي "شرح مسلم" لعياض: هو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكّة، كذا في "تهذيب الأسماء". (3) قوله: أخبرنا عبد الله بن دينار ... إلى آخره، قال الزرقاني: هذا الحديث تابع فيه مالكاً إسماعيلُ بن جعفر عند مسلم، وسفيان بن عيينة عند البخاري في "الاعتصام". كلاهما عن ابن دينار به، وزاد فذكر العراق فقال أي ابن عمر: لم يكن عراق يومئذٍ، ولأحمد عن صدقة فقال له قائل: فأين العراق؟ فقال: لم يكن يومئذ عراق. وروى الشافعي عن طاوس لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق ولم يكن حينئذٍ أهل المشرق. وكذا قال مالك في "المدوَّنة" والشافعي في "الأم" فميقات ذات عرق لأهل العراق ليس منصوصاً عليه، وإنما أُجمع عليه، وبه قطع الغزالي والرافعي في "شرح المسند" والنووي في "شرح مسلم"، ويدل له ما في البخاري: أنَّ أهل العراق أتَوْا عمر، فوقَّت لهم ذات عرق، وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية والرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "شرح المهذب" أنه منصوص. وفي مسلم من طريق ابن جُريج عن أبي الزبير عن جابر: ومُهَلّ أهل العراق ذات عرق، إلاّ أنه مشكوك في رفعه لأن أبا الزبير قال: سمعت جابراً قال: سمعت أحسبه رفع، لكن قال العراقي: قوله أحسبه أي أظنه والظن في باب الرواية يتنزَّل منزل اليقين، وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة، وابن ماجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يُهِلّوا (1) مِنْ ذِي الحُلَيفة وأهلَ الشَّامِ مِنَ الجُحفة، وَأَهْلَ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا هَؤُلاءِ الثَّلاثِ (2) فَسَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُخْبِرْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَأَمَّا أَهْلُ الْيَمَنِ فَيُهِلُّونَ مِنْ يَلْمَلَمَ. 381 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَحْرَمَ (3) مِنَ الفُُرْع (4) . 382 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الثقة (5) عندي: أن ابنَ عمر   من رواية إبراهيم بن يزيد كلاهما عن أبي الزبير فلم يشكّا في رفعه، وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عائشة، وعن الحارث قالا: وقَّت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَهْلِ العراق ذات عرق، قال الحافظ: فهذا يدل على أنَّ للحديث أصلاً (انظر فتح الباري 3/389 و 390) . (1) وميقات المكِّي ومَن بمعناه للحج الحرم وللعمرة الحل. (2) أي المواضع الثلاثة. (3) أي مرة. (4) قوله: من الفُرع، بضم الفاء والراء وبإسكانها، موضع بناحية المدينة، يقال: هي أول قرية مارت إسماعيل وأمّه التمر بمكة، قال ابن عبد البر: محمله عند العلماء أنه مرَّ بميقات لا يُريد إحراماً ثم بدا له فأهلَّ منه أو جاء إلى الفرع من مكة أو غيرها ثمَّ بدا له في الإِحرام كما قاله الشافعي وغيره. وقد رَوى حديث المواقيت ومُحال أن يتعداه مع علمه به فيوجب على نفسه ما عليه دم. (5) قيل: هو نافع، كذا ذكره الزُّرقاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 أَحْرَمَ (1) مِنْ إِيلِيَّاءَ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، هَذِهِ مَوَاقِيتُ (3) وقَّتها رسولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم فلا ينبغي (4)   (1) قوله: أحرم (في جمع الفوائد برواية مالك أن ابن عمر أهلَّ بحجة من إيلياء. أوجز المسالك 6/224) من إيلياء، أي عام الحَكَمين، لما افترق أبو موسى وعمرو بن العاص من غير اتفاق بدُومة الجندل، فنهض ابن عمر إلى بيت المقدس فأحرم منه كما رواه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما مع كونه روى حديث المواقيت، فدلَّ على أنه فهم أن المراد منع مجاوزتها حلالاً، لا منع الإِحرام قبلها، وأما الكراهة فلعلَّة أخرى، هي خوف أن يعرض للمحرم إذا بعدت مسافته ما يفسد إحرامه. وأما قصيرها فلما فيه من التباس الميقات والتضليل عنه، وهذا مذهب مالك وجماعة من السلف (قال مالك وأحمد وإسحاق: إحرامه من المواقيت أفضل، وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وآخرون: الإِحرام من المواقيت رخصة. انظر عمدة القاري 5/141) ؟ فأنكر عمر على عمران بن حصين في إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات، قال ابن عبد البر: وهذا من هؤلاء - والله أعلم - كراهة أن يضيِّق المرء على نفسه ما وسَّع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يؤمَن أن يحدث في إحرامه، وذهب جماعة إلى جوازه من غير كراهة. وقال به الشافعية، كذا في "شرح الزرقاني". (2) بكسر أوله ممدوداً ومخفَّفاً، وقد تُشدَّد الياء الثانية ويُقصر، اسم مدينة بيت المقدس. (3) أي أماكن موقَّتة. (4) أي لا يحلّ. قوله: فلا ينبغي لأحد ... إلى آخره، لما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تجاوز الميقات إلاَّ بإحرام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 لأحد أن يجاوزَها (1)   (نصب الراية 1/473) ، وكذلك أخرجه الطبراني في معجمه وأخرج الشافعي والبيهقي عن أبي الشعثاء أنه رأى ابن عباس يردُّ من جاوز الميقات غير محرم، وروى إسحاق بن راهويه عنه أنه قال: إذا جاوز الوقت فلم يحرم حتى دخل مكة رجع إلى الوقت فأحرم، فإن خشي إنْ رجع إلى الوقت يفوت الحج، فإنه يُحرم ويهريق دماً. وبهذه الأخبار وأمثالها حرَّم الجمهور المجاوزة عن المواقيت بغير إحرام، لكن الشافعية خصُّوه بمن يريد أداء النسك، وأصحابنا عمَّموه، وذهب عطاء والنَّخَعي إلى عدم وجوب الإِحرام من المواقيت، وقال سعيد بن جبير: لا يصح حجّه، وقال الحسن: يجب على المجاوز العَوْد إلى الميقات فإنْ لم يَعُدْ حتى تمَّ حجُّه رجع للميقات وأهلَّ منه بعمرة. وهذه الأقاويل الثلاثة شاذة ضعيفة، قاله ابن عبد البر وغيره. (1) قوله: أن يجاوزَها، وأما تقديم الإِحرام عليها فجائز اتفاقاً، حكاه غير واحد. وحكى العيني في "شرح الهداية" أنَّ عند داود الظاهري إذا أحرم قبل هذه المواقيت فلا حج له ولا عمرة، وهو قول شاذ مخالف لفعل السلف وقولهم، فقد أحرم ابن عمر من بيت المقدس، بل ورد في فضله حديث أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان مرفوعاً: من أهلَّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ووجبت له الجنة. هذا لفظ أبي داود، وفي سنده ضعف يسير، ذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث شرح الرافعي"، وذكر القرطبي أنَّ إحرام ابن عمر وابن عباس كان من الشام، وإحرام عمران بن حصين من البصرة وابن مسعود من القادسية، وإحرام علقمة والأسود والشعبي من بيوتهم، وسعيد بن جبير من الكوفة رواه سعيد بن منصور، وأخرج الحاكم في "المستدرك" أنه سُئل عليّ عن قوله تعالى: {وأتمّوا الحج والعمرة لله} فقال: أن تُحرم من دويرة أهلك. وفي الباب آثار كثيرة تشهد بجواز التقديم إلاَّ أن مالكاً وأحمد وإسحاق كرهوه كما ذكره العيني وغيره، وقال أصحابنا: هو أفضل إن أَمِن من أن يقع في محظور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 إِذَا أَرَادَ (1) حَجًّا إلاَّ مُحرماً، فَأَمَّا إِحْرَامُ (2) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنَ الفُرُع وَهُوَ دون ذي الحُلَيفة إلى   (1) قوله: إذا أراد، هذا القيد غالبي، وإلاَّ فلا يحل لأحد من الآفاقي أن يجاوز الميقات بلا إحرام إذا أراد دخول الحرم سواء أراد أحد النُّسُكين أو لم يرد، خلافاً للشافعي. وأما دخوله عليه الصلاة والسلام عام الفتح بغير إحرام، فحكم مخصوص له ولأصحابه في ذلك الوقت، كذا في "شرح القاري". (2) قوله: فأما إحرام ... إلى آخره، دَفْعٌ لما ورد أنه لما لم يَجُزْ مجاوزة المواقيت فكيف جاوز ابن عمر ميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة، وأحرم من الفُُْرع، وهو متجاوز عن ذي الحليفة، إلى جانب مكة. وحاصل الدفع أنه لا يحل المجاوزة من هذه المواقيت لمن مرَّ بها إلاّ محرماً إلاّ من كان بين يدية ميقات آخر، فإنه مخيَّر بين أن يحرم من ميقاته الأول أو من الثاني، فأهل المدينة يُخيَّر لهم بين أن يُحرموا من ذي الحليفة وهو ميقاتهم الموقَّت وبين أن يحرموا من الجُحْفة، أو من رابغ الذي هو قريب الجحفة لحديث مرفوع مرسل: من أحب أن يستمتع بثيابه إلى الجحفة فليفعل. فلا يلزمهم من مجاوزة ذي الحليفة دم، وإن كان الأفضل هو الإِحرام منه، وقد يُستدل له بما وقع في رواية البخاري وغيره من حديث ابن عباس بعد ذكر المواقيت: فهنَّ لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة. واستدل به كثير على أن الشامي إذا مرَّ بذي الحليفة لزمه الإِحرام منها ولا يؤخره إلى ميقاته الجحفة فإن أخَّر لزمه دم عند الجمهور، وحكى النووي الاتفاق عليه، ولعله بالنسبة إلى جمهور الشافعية وإلاَّ فالمعروف عند المالكية أن الشامي مثلاً إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى الجحفة جاز له ذلك، وبه قالت الحنفية (وأما مذهب الحنفية في ذلك ما في "البدائع": من جاوز ميقاتاً من هذه المواقيت من غير إحرام إلى ميقات آخر جاز إلاَّ أنَّ المستحب أن يحرم من الميقات الأول، كذا في بذل المجهود 8/324) وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية، كذا في "فتح الباري" وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 مَكَّةَ، فَإِنَّ أَمَامَهَا (1) وَقْتٌ آخَرُ (2) وَهُوَ الْجُحْفَةُ (3) وَقَدْ رُخِّص (4) لأَهْلِ الْمَدِينَةِ أنْ يُحرموا (5) مِنَ الْجُحْفَةِ لأَنَّهَا (6) وَقْتٌ مِنَ الْمَوَاقِيتِ. بَلَغَنَا عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ (7) أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِثِيَابِهِ (8) إِلَى الْجُحْفَةِ فَلْيَفْعَلْ. أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ، عَنْ إِسْحَاقَ (9) بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ (10) بْنِ عَلِيٍّ، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.   (1) أي قدّامها. (2) أي ميقات متأخر آخر. (3) الحاصل أن هذا رخصة والإِحرام من الميقات الأول عزيمة فلو أحرم من الجحفة فلا شيء عليه عندنا خلافاً للشافعي، كذا في "المرقاة". (4) أي بصيغة المجهول أي وقعت الرخصة. (5) سواء مرّوا على ذي الحُلَيفة أم لا. (6) أي الواجب أن لا يتجاوزوا عن مطلق الميقات أي عن الميقات الأول. (7) خطاب لأهل المدينة. (8) أي أن يلبس ثيابه ويؤخِّر إحرامه إلى الجحفة. (9) قوله: عن إسحاق بن راشد، هو أبو سليمان إسحاق بن راشد الحرّاني، وقيل الرقي مولى بني أمية، وقيل مولى عمر، روى عن الزهري وعبد الله بن حسن بن الحسن بن علي ومحمد بن علي زين العابدين أبي جعفر الباقر وغيرهم، وعنه جماعة، ذكره ابن حبان وابن شاهين في "الثقات"، ووثقه النسائي وابن معين وأبو حاتم، كذا في "تهذيب التهذيب" وغيره. (10) أي عن أبي جعفر محمد الباقر ابن زين العابدين علي بن الحسين بن علي، ويسمى هذا السند سلسلة الذهب، قاله القاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 2 - (بَابُ الرَّجُلِ يُحرم فِي دُبُر (1) الصَّلاةِ وَحَيْثُ يَنْبَعِثُ (2) بِهِ بَعِيرُهُ) 383 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عمرَ كَانَ يصلِّي (3) فِي مَسْجِدِ ذِي الحُلَيفة، فَإِذَا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَحْرَمَ (4) . 384 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُوسَى (5) بْنُ عُقبة، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سمع ابن عمر يقول: بيداؤكم (6)   (1) بضمتين أي بعد الصلاة. (2) والمراد بالانبعاث القيام والباء للتعدية أي حين يقيمه بعيره. (3) ركعتين سنة الإِحرام (عند مسجد ذي الحليفة وأراد بالمسجد مصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس المراد بالمسجد أن هناك مسجداً بُني قبل ذلك. بذل المجهود 8/271) . (4) أي نوى ولبّى أو جدَّد نيَّته وتلبيته بناءً على أن الأفضل للمحرم أن يحرم عقيب صلاة سنة الإِحرام كما سيأتي من صنيعه صلّى الله عليه وسلّم. قوله: أحرم، اتِّباعاً لما رآه من فعل المصطفى صلّى الله عليه وسلّم لذلك كما في الصحيحين من طريق صالح بن كيسان عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، وفي مسلم من رواية الزهري عن سالم عن أبيه: كان صلّى الله عليه وسلّم يركع بذي الحليفة ركعتين ثم إذا استوتْ به الناقة قائمةً عند مسجد ذي الحُليفة أهلّ. (5) هو مولى آل الزبير، ويقال مولى أم خالد زوجة الزبير، ثقة، توفي سنة 141 هـ، كذا في "الكاشف". (6) أي مفازتكم، التي فوق عَلَمَي ذي الحليفة لمن صعد الوادي، قاله أبو عُبيد البكري، وأضافها إليهم لكونهم كذبوا لسببها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ (1) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، وَمَا أهلَّ (2) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا مِنْ عند   (1) أتقولون إنه أحرم منها ولم يحرم منها (ليس المراد بالكذب عمداً، بل إطلاق الكذب عليه لعدم علمهم بابتداء إحرامه صلّى الله عليه وسلّم من المسجد بعد الصلاة) ؟! (2) للحميدي عن سفيان، عن ابن عيينة: والله ما أهلَّ. وقوله: وما أهلَّ ... إلى آخره، هذا لفظ مالك، وأما لفظ سفيان فأخرجه الحُمَيدي في مسنده بلفظ: هذه البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله ما أهلَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاَّ من عند المسجد مسجد ذي الحليفة. ولمسلم من طريق آخر بلفظ: كان ابن عمر إذا قيل له الإِحرام من البيداء؟ قال: البيداء التي تكذبون فيها ... إلى آخره، إلاَّ أنه قال: ما أهلَّ إلاَّ من عند الشجرة حين قام به بعيره. وسيأتي للمصنف - أي البخاري - بلفظ: أهلَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم حين استوت به راحلته قائمةً، أخرجه من طريق صالح بن كيسان عن نافع، عن ابن عمر. وكان ابن عمر ينكر على ابن عباس قوله في روايته في "صحيح البخاري" بلفظ: ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل، فهذه ثلاث روايات ظاهرها التدافع، وقد أزال الإِشكال ما رواه أبو داود والحاكم من طريق سعيد بن جبير قلت لابن عباس (حديث ابن عباس وإن ضعَّفه النووي وغيره، لكن حسنه الترمذي وسكت عليه أبو داود، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم مفسر في الباب، وأقرَّه عليه الذهبي، وقال ابن الهُمام: بعد ما بسط الكلام: الحق أن الحديث حسن، فزال الإِشكال. أوجز المسالك 6/236) : عجبتُ لاختلاف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في إهلاله، فذكر الحديث، وفيه: فلما صلّى في مسجد ذي الحُلَيفة ركعتين أوجب من مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ منهما، فسمع منه قومٌ فحفظوه، ثم ركب فلما استقلَّت به راحلته أهل، فأدرك ذلك قوم لم يشهدوه في المرة الأولى، فسمعوه حين ذاك، فقالوا: إنما أهلَّ حين استقلت به راحلته، فلما علا شَرَفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 الْمَسْجِدِ (1) مَسْجِدِ ذِي الحُلَيفة. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ يُحْرِمُ الرَّجُلُ إِنْ شَاءَ فِي دُبُرِ صَلاتِهِ وَإِنْ شَاءَ حِينَ يَنْبَعِثُ بِهِ بَعِيرُهُ، وكلٌّ حَسَن (3) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا.   البيداء أهلَّ، وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه، فنقل كل واحد ما سمع وإنما كان إهلاله في مُصَلاّه وأيم الله، ثم أهلَّ ثانياً وثالثاً، كذا في "فتح الباري". (1) أي بعد فراغه من صلاته. (2) أي بما ذكر من الحديثين. (3) قوله: وكلٌّ حسن، والأحسن هو الأول عند أئمتنا الثلاثة كما حكاه الطحاوي خلافاً للمالكية والشافعية، فإن الأفضل عندهم أن يُهِلَّ إذا بعثت به راحلته أو توجَّه لطريقه ماشياً (وكذا جمع بين مذهبيهما الزرقاني 2/244. وفرَّق الباجي بينهما فقال: ذهب مالك وأكثر الفقهاء إلى أن المستحب أن يهلَّ الراكب إذا استوت به راحلته قائمة، وقال الشافعي: يُهل إذا أخذت ناقته في المشي، وقال أبو حنيفة: يُهل عقيب الصلاة شرح الباجي 1/208. وما حكوا من مذهب مالك يأبى عنه كلام الدردير إذ صرح بأولولية الإِحرام في أول المواقيت إلاَّ في ذي الحليفة ففي مسجدها، كذا في الأوجز 6/235) ، ذكره في "ضياء الساري". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 3 - (بَابُ (1) التَّلْبِيَةِ (2)) 385 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أنَّ تَلْبِيَةَ (3) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَبَّيْكَ (4) اللَّهم (5) لَبَّيْكَ (6) ، لبَّيك لا شريك لك لبيك، إن   (1) قوله : باب التلبية، قال ابن عبد البر: قال جماعة من العلماء: معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذّن في الناس بالحجّ، قال الحافظ: هذا أخرجه عبد بن حُميد وابن جرير وابن أبي حاتم في تفاسيرهم بأسانيد قوية عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغير واحد، وأقوى ما فيه ما أخرجه أحمد بن مَنيع في "مسنده" وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس، قال: لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قيل له أذِّنْ في الناس بالحج، قال: يا رب وما يبلّغ صوتي؟ قال: أذِّن، وعليّ البلاغ، فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كُتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فسمعه مَن ما بين السماء والأرض، أفلا تَرَوْنَ الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبّون. ومن طريق ابن جريج عن عطاء عنه، وفيه: فأجابوه في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأوّل من أجابه أهل اليمن (انظر فتح الباري 3/409. وفيه ابن المنير في الحاشية: وفي مشروعية التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأنّ وفوده على بيته إنما كان باستدعاءٍ منه سبحانه وتعالى) . (2) مصدر لبّى يلبِّي إذا أجاب بلبَّيْك، ومعناه أجبتك إجابةً بعد إجابة، على أن التلبية بحذف الزوائد للتكثير. (3) أي التي كان يداوم عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا ينقص منها. (4) اشتقاقه من لبّ بالمكان إذا أقام به ولزمه. (5) أي يا الله أجبناك في ما دعوتَنا. (6) قوله: لبيك، قال القاري: كرره للتأكيد أو أحدهما في الدنيا والآخر في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 الحمدَ (1) وَالنِّعْمَةَ (2) لَكَ وَالْمُلْكَ (3) لا شَرِيكَ لَكَ (4) ، قَالَ (5) : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ (6) وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ (7) والرغباء (8)   الأخرى. أو كرره باعتبار الحالين المختلفين من الغنى والفقر والنفع والضرر والخير والشر، أو إشارةً إلى وقوع أحدهما في عالم الأرواح والآخر في عالم الأشباح. (1) قوله: إنَّ، رُوي بكسر الهمزة، وهو الأكثر والأشهر، وبفتحها على أن "إنّ" للتعليل. (2) أي المنحة مختصة بكرمك وجُودك. قوله: والنعمة، المشهور فيه النصب، وجوّز القاضي عياض الرفع على الابتداء. والخبر محذوف، قال ابن الأنباري: وإنْ شئتَ جعلتَ خبر إنّ محذوفاً، تقديره إن الحمد لك والنعمة مستقرّةٌ لك، كذا في "ضياء الساري" شرح "صحيح البخاري". (3) قوله: والملك، بالنصب أيضاً على المشهور، ويجوز الرفع، قال ابن المنير: قرن الحمد والنعمة، وأفرد المُلك، لأن الحمد متعلِّق بالنعمة، ولهذا يقال: الحمد لله على نعمه، والملك مستقل. (4) كرّره للتأكيد. (5) أي نافع. (6) أي مساعدة لطاعتك بعد مساعدة. (7) في نسخة: بيديك لبيك. قوله: بيديك، أي بتصرفك في الدنيا والأخرى. والاكتفاء بالخير مع أن الخير والشر كلاهما بيديه تأدّباً في نسبة الشر إليه أو لأن كل شر لا يكون خالياً عن خير. (8) قوله: والرغباء، قال المأزري: يُروى بفتح الراء والمدّ، وبضم الراء مع القصر. قال عياض: وحكى أبو علي فيه أيضاً الفتح مع القصر، ومعناه الطلب والمسألة إلى الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، التَّلْبِيَةُ (2) هِيَ التَّلْبِيَةُ الأُولَى الَّتِي رُوي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا زدتَ (3) فحسنٌ (4) ،   (1) أي العمل لك خالصة. (2) أي المسنونة. (3) قوله: وما زدت، إشارة إلى أنه لا ينقص من التلبية المذكورة المأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبه صرّح كثير من أصحابنا المتأخرين، وعلَّلوه بأنه لم يُروَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم النقص منه، لكن يخدشه ما في صحيح البخاري ومسند أبي داود الطيالسي عن عائشة قالت: إني لأعلم كيف كان رسول الله يلبي، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك. (4) قوله: فحسن، فيه إشارة إلى أن تحديد التلبية المأثورة ليس بتحديد إلزاميٍّ لا يجوز الزيادة عليه، ولذا ثبت عن جماعة الزيادة، فمنهم ابن عمر كما أخرجه مالك، ومن طريقه الشافعي، وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، ومنهم عمر كما في صحيح مسلم من طريق الزهري عن سالم عن أبيه سمعت رسول الله يُهلّ ملبياً يقول: لبيك، الحديث، قال: وكان عمر يهلّ بهذا، ويزيد: لبيك اللَّهم لبيك وسعديك، والخير في يديك والرغباء إليك والعمل. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق المسور: كانت تلبية عمر فذكر مثل المرفوع وزاد: لبيك مرغوباً ومرهوباً إليك ذا النعماء والفضل الحسن. وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن الأسود بن يزيد أنه كان يزيد في التلبية: لبيك غفّارَ الذنوب. بل قد ثبت الزيادة على التلبية المذكورة من النبي صلّى الله عليه وسلّم وتقريره عليها، فأخرج النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة: كان من تلبية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبيك إله الحقّ لبيك. وأخرجه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار" وقال: هو حديث صحيح أخرجه ابن خزيمة والحاكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وهو قول (1) أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 4 - (بَابُ مَتَى تُقْطع (2) التَّلْبِيَةُ) 386 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ (3) بْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُمَا غَادِيَانِ (4) إلى عَرَفَة: كيف كنتم   وابن حبان، وأخرج الحافظ أيضاً عن جابر: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبيك اللَّهم لبيك. فذكرها، قال: والناس يزيدون لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام والنبي يسمع فلا يردّ عليهم شيئاً، وقال: هذا حديث صحيح أخرجه أبو داود وأصله في مسلم في حديث جابر الطويل. (1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الثَّوْري والأَوْزاعي حكاه الطحاوي وذكر في "فتح الباري" و"ضياء الساري" وغيرهما أنَّ ابن عبد البرّ حكى عن مالك الكراهة وحكى أهل العراق عن الشافعي يعني في القديم نحوه. وغلطوا، بل لا يكره عنده ولا يُستحب، وحكى البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي: لا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر غير أن الاختيار عندي أن يُفرد ما رُوي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن حجر: هذا أعدل الوجوه، واحتجّ من كره بما رُوي عن سعد بن أبي وقّاص أنه سمع رجلاً يقول: لبيك ذا المعارج، فقال: إنه لذو المعارج. ولكنا كنا مع رسول الله لا نقول كذلك أخرجه الطحاوي واختار عدمَ الزيادة وقد مرَّ ما يعارضه من حديث جابر. (2) أي ينتهي بأن لا يُلبي بعده في الحج والعمرة. (3) الحجازي، الثقة، وليس له عن أنس ولا غيره سوى هذا الحديث الواحد، ذكره الزرقاني. (4) أي ذاهبان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 تَصْنَعُونَ (1) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْيَوْمِ؟ قَالَ: كَانَ يُهِلّ (2) المُهِلّ، فَلا يُنْكَرُ عَلَيْهِ (3) وَيُكَبِّرُ (4) الْمُكَبِّرُ فَلا يُنْكَرُ عَلَيْهِ. 378 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كلُّ ذَلِكَ (5) قَدْ رأيتُ الناسَ (6) يَفْعَلُونَهُ، فَأَمَّا نَحْنُ فنكبِّر. قَالَ مُحَمَّدٌ: بِذَلِكَ (7) نَأْخُذُ عَلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ هِيَ الْوَاجِبَةُ (8) فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلا أَنَّ التَّكْبِيرَ (9) لا يُنكر عَلَى حالٍ مِنَ الْحَالاتِ وَالتَّلْبِيَةِ لا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلا في موضعها (10) .   (1) أي من جهة التلبية وغيرها من الأذكار. (2) أي يلبِّي الملبّي. (3) وفي رواية موسى بن عقبة: لا يَعيب أحدنا صاحبه. وفي مسلم عن ابن عمر: غدونا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من منى إلى عرفات منّا الملبّي، ومنّا المكبّر. (4) قوله: ويكبّر المكبّر ... إلى آخره، قال الشيخ وليّ الدين: ظاهر كلام الخطابي أن العلماء أجمعوا على ترك العمل بهذا الحديث، وأن السنّة في الغدوّ من منى إلى عرفات التلبية فقط. وحكى المنذري أن بعض العلماء أخذ بظاهره، لكنه لا يدل على فضل التكبير على التلبية بل على جوازها (قال العيني: التكبير المذكور نوع من الذكر أدخله الملبِّي في خلال التلبية من غير ترك للتلبية لأن المرويّ عن الشارع أنه لم يقطع التلبية حتى رمى جمرة العقبة. انظر: أوجز المسالك 6/273) . (5) أي ما ذكر من التكبير والتلبية. (6) أي الصحابة. (7) أي بما سبق من استحباب التلبية بعرفات. (8) أي الثابتة. (9) ونحوه من الأذكار. (10) أي في محل التلبية وهو الإِحرام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 388 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَدَعُ (1) التَّلْبِيَةَ (2) إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا (3) وَالْمَرْوَةَ، ثُمَّ يلبِّي حَتَّى يَغْدُوَ (4) مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفة، فَإِذَا غَدَا (5) تَرَكَ التَّلْبِيَةَ (6) . 389 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ: أن عائشة (7)   (1) أي يترك في إحرام الحج. (2) في نسخة: في الحج التلبية. (3) أي ويسعى بينهما. (4) أي يذهب غَداءً. (5) أي ذهب. (6) زاد يحيى: وكان يترك التلبية في العمرة إذا دخل الحَرَم. (7) قوله: أن عائشة .... إلى آخره، مالك عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أنَّ عَلِيًّا كان يلبّي في الحج حتى إذا زاغت (زالت) الشمس من يوم عرفة قطع التلبية، قال مالك: وذلك (أي فعل عليّ) الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا (المدينة النبوية) . وقاله ابن عمر وعائشة وجماعة (هو قول الأوزاعي والليث. لامع الدراري 5/146) . وقال الجمهور: يلبِّي حتى يرمي جمرة العقبة لما في الصحيحين عن الفضل بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة ثم اختلفوا فقال أصحاب الرأي وسفيان الثوري والشافعي: يقطعها مع أول حصاة لظاهر قوله: حتى بلغ الجمرة، وقال أحمد وإسحاق يلبِّي إلى فراغ رميها لرواية أبي داود حديث الفضل: لبَّى حتى رمى جمرة العقبة، كذا في "شرح الزرقاني". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 كَانَتْ تَتْرُكُ التَّلْبِيَةَ إِذَا رَاحَتْ إِلَى الْمَوْقِفِ (1) . 390 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ، أَنَّ أُمَّهُ (2) أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ بِعَرَفَةَ بنَمِرة (3) ، ثُمَّ تحوّلتْ (4) فَنَزَلَتْ فِي الأَرَاكِ (5) ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ تُهِلّ (6) مَا كَانَتْ فِي مَنْزِلِهَا (7) وَمَنْ كَانَ مَعَهَا فَإِذَا ركبتْ وتوجّهتْ إِلَى الْمَوْقِفِ (8) تركتْ الإِهلال (9) ، وَكَانَتْ تُقِيمُ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْحَجِّ (10) ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ هِلالِ الْمُحَرَّمِ خَرَجَتْ حَتَّى تَأْتِيَ الجُحْفة (11) ، فَتُقِيمَ بِهَا حَتَّى تَرَى الهلال (12) ،   (1) بعرفة بعد الزوال. (2) مرجانة مولاة عائشة مقبولة الرواية. (3) قوله: بنمرة، أي بموضع يقال له نَمِرَة - بفتح النون وكسر الميم - وكان ذلك عملاً بالسنَّة حيث كان عليه السلام يضرب له خيمة بها، فينزل قبل زمان الوقوف فيها. (4) لأجل دفع المزاحمة. (5) موضع بعرفة قرب نمرة. (6) أي تلبِّي بلا رفع صوت. (7) الموضع الذي نزلت فيه. (8) بعرفة. (9) التلبية. (10) أي بعد فراغها منه. (11) خروجها إلى الجحفة لفضل الإِحرام من الميقات والإِحرام من التنعيم إنما هو رخصة، والميقات أفضل، قاله أبو عبد الملك. (12) أي هلال المحرّم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 فَإِذَا رَأَتِ الْهِلالَ أَهَلَّتْ (1) بِالْعُمْرَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ أَحْرَمَ (2) بِالْحَجِّ أَوْ قَرَن (3) لَبَّى (4) حَتَّى يرمي   (1) قوله: أهلَّت بالعمرة، أي ليكون عمرتها آفاقية فإنها أفضل من أن تكون مكية لا سيما والعمرة المكية لا تصح عند طائفة. (2) أي مفرداً. (3) أي جمع بين الحج والعمرة. (4) قوله: لبَّى حتى يرمي الجمرة ... إلى آخره، أصله ما ورد في البخاري وغيره من رواية الفضل: لم يزل النبي صلّى الله عليه وسلّم يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة. وروى ابن المنذر قال ابن حجر في "الفتح": إسناده صحيح عن ابن عباس أنه كان يقول: التلبية شعار الحج، فإذا كنت حاجّاً فلبِّ حتى بدء حلِّك، وبدء حلِّك أن ترمي الجمرة. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" عن عكرمة، قال: وقفت مع الحسين بن علي فكان يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة، فقلت: يا أبا عبد الله ما هذا؟ فقال: كان أبي يفعل ذلك وأخبرني أبي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك، قال: فرحت إلى ابن عباس فأخبرته، فقال: صدق، أخبرني الفضل أخي أن رسول الله لبَّى حتى رمى، وكان رديفَه. ثم أخرج حديث الفضل المذكور بطرق، ثم أخرج أن عبد الله يعني ابن مسعود كان يلبِّي حتى رمي جمرة العقبة ولم يسمع الناس يلبّون عشية عرفة، فقال: أيها الناس أنسيتُم؟ والذي نفسي بيده لقد رأيتُ رسول الله يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة. ثم أخرج من طريق آخر عن عبد الرحمن ابن يزيد: حَججتُ مع عبد الله، فلمّا أفاض إلى جمع جعل يلبِّي، فقال رجل أعرابي: هذا؟ فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلّوا؟ ثم أخرج بطريق آخر: أن عبد الله لبّى وهو متوجّه إلى عرفات، فقال أناس: من هذا الأعرابي؟ فقال: أضلّ الناس أم نسُوا؟ واللَّهِ ما زال رسول الله يلبِّي حتى رمي جمرة العقبة إلا أن يخلط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 الْجَمْرَةَ بِأَوَّلِ (1) حَصَاةٍ رَمَى يَوْمَ النَّحْرِ، فَعِنْدَ ذلك (2) يقطع التلبية.   ذلك بتهليل وتكبير. ثم أخرج عن ابن عباس: كان أسامة بن زيد رِدْف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عرفة إلى المزدلفة. ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى، فكلاهما قالا: لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبِّي حتى يرمي جمرة العقبة. ثم أخرج عن عبد الرحمن بن الأسود قال: حججتُ مع الأسود، فلمّا كان يوم عرفة وخطب ابن الزبير بعرفة، فلما لم يسمعه يلبِّي صعد إليه الأسود، فقال: ما يمنعك أن تلبِّي؟ قال: ويلبِّي الرجل إذا كان في مثل مقامي؟ قال الأسود: نعم، سمعتُ عمر بن الخطاب يلبِّي في مثل مقامك، فلبَّى ابن الزبير. ثم قال الطحاوي: ففي هذه الآثار أن عمر كان يلبِّي بعرفة وهو على المنبر وأن عبد الله بن الزبير فعل ذلك، وبعده ابن مسعود. فثبت بفعل من ذكرنا لموافقتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. انتهى. (1) روى البيهقي من حديث الفضل: فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبِّي حتى رمي جمرة العقبة وكبَّر مع كل حصاة. قال البيهقي: تكبيره مع أول كل حصاة دليل على قطع التلبية بأول حصاة. انتهى. (2) قوله: فعند ذلك يقطع التلبية، به قال الشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم إلا أن بعض الشافعية قالوا: يقطعها بعد تمام الرمي، لما روى ابن خزيمة عن الفضل قالت: أفضتُ مع النبي صلّى الله عليه وسلّم من عرفات، فلم يزل يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة، فكبّر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخرها حصاة، قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسِّر لما أبهم في الروايات الأخرى، كذا في "فتح الباري" وفيه أيضاً قالت طائفة: يقطعها المحرم إذا دخل الحرم وهو مذهب ابن عمر لكن كان يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة، وقالت طائفة يقطعها إذا راح إلى الموقف، وهو مروي عن عائشة وسعد بن أبي وقاص وعليّ بأسانيد صحيحة. وبه قال مالك، وقيَّده بزوال الشمس يوم عرفة، وهو قول الأوزاعي والليث. وأشار الطحاوي إلى أنّ كلّ من رُوي عنه ترك التلبية من يوم عرفة محمول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ لَبَّى حَتَّى يَسْتَلِمَ (1) الرُّكْنَ لِلطَّوَافِ، بِذَلِكَ جَاءَتِ الآثَارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 5 - (بَابُ رَفْعِ (2) الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ) 391 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا عبد الله بن أبي بكر (3) ، أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ (4) بْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ خَلادَ (5) بْنَ السائب الأنصاري   على أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر، لا على أنها لا تُشرع، وجمع بذلك بين ما اختلف من الآثار. (1) قوله: حتى يستلم الركن للطواف، هو المرويّ عن ابن عباس كما أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة من طريق عبد الملك بن أبي سليمان: سُئل عطاء متى يقطع المعتمر التلبية؟ فقال: قال ابن عمر: إذا دخل الحرم. وقال ابن عباس: حين يمسح الحجر. واختلفت الرواية فيه عن ابن عمر فقال عطاء: إنه قال: إذا دخل الحَرَم. ويوافقه ما أخرجه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقطع التلبية في العمرة إذا دخل الحرم، وأخرج أيضاً عن ابن شهاب: كان عبد الله بن عمر لا يلبِّي وهو يطوف بالبيت. ويخالفه ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن سيرين: كان ابن عمر إذا طاف لبّى. (2) أي للرجال دون النساء، فإن صوتهن عورة إلاَّ أن يكون ضرورة. (3) ابن محمد بن عمرو بن حزم. (4) قوله: عبد الملك، هو عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المدني، ثقة، مات في خلافة هشام. كذا في "تقريب التهذيب". (5) التابعي الثقة، ووهم من زعم أنه صحابيّ، كذا ذكره الزرقاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 ثُمَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ (1) بْنِ الْخَزْرَجِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ (2) أَخْبَرَهُ (3) ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَمَرَنِي (4) أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَوْ مَن معي (5) أن يرفعوا أصواتهم بالإِهلال بالتلبية (6) .   (1) قبيلة من الأنصار. (2) هو السائب بن خلاد بن سويد المدني، له صحبة، وعمل على اليمن، مات سنة 71 هـ، كذا ذكره الزرقاني. (3) قوله: أخبره، قال الزرقاني: هذا الحديث رواه أبو داود عن القعنبي، عن مالك به، وتابعه ابن جريج - كما أفاده المِزّي - وسفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر بنحوه عند الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم وابن حبان ورجاله ثقات وإن اختلف على التابعي في صحابيه، فقيل أبوه كما ههنا، وقيل زيد بن خالد، وقيل عن خلاد عن أبيه، عن زيد بن خالد، وقال ابن عبد البر: هذا حديث اختُلف في إسناده اختلافاً كبيراً وأرجو أنَّ رواية مالك أصح. (4) أمر ندب (قال ابن رشد: أوجب أهل الظاهر رفعَ الصوت بالتلبية، وهو مستحب عند الجمهور وأجمع أهل العلم على أن تلبية المرأة فيما حكاه أبو عمر هو أن تُسمع نفسها بالقول. "بداية المجتهد" 1/364) عند الجمهور ووجوب عند الظاهرية. (5) قوله: أو من معي، قال الزرقاني: بالشك - في رواية يحيى والشافعي وغيرهما - من الراوي إشارةً إلى أن المصطفى قال أحد اللفظين، وتجويز ابن الأثير أن الشك من النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه نوع سهو ولا يعصم عنه ركيك متعسف. وفي رواية القعنبي: ومن معي، قال الولي العراقي: إنه زيادة إيضاح وبيان، ويحتمل أن يريد بأصحابه الملازمين له المقيمين معه في بلده وبمن معه غيرهم ممن قدم يحج معه. (6) عطف بيان أو المعنى في الإِحرام بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ (1) أَفْضَلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 6 - (بَابُ القِرَان (2) بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) 392 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ (3) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الأَسَدِيُّ، أنَّ (4) سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَامَ حجَّةِ (5) الوداعِ كَانَ مِن أَصْحَابِهِ (6) مَنْ أَهَلَّ (7) بحجٍّ،   (1) من إخفاضه. قوله: أفضل، وعليه كان عمل الصحابة فأخرج البخاري عن أنس: صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحُلَيفة ركعتين، وسمعتهم يصرخون بهما، أي بالحج والعمرة جميعاً. وأخرج ابن أبي شيبة - قال ابن حجر: إسناده صحيح - عن بكر بن عبد الله المزني: كنت مع عبد الله بن عمر فلبّى حتى أسمع ما بين الجبلين. وأخرج أيضاً بإسناد صحيح عن المطلب بن عبد الله قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تثجّ أصواتهم. وفي الباب أخبار كثيرة وآثار شهيرة. (2) قوله: القران، بكسر أي الجمع بين النُّسُكين في سفر واحد، وهو أفضل عندنا، وقال مالك والشافعي: الإِفراد أفضل، وقال أحمد: التمتُّع أفضل. وسيأتي تفصيله. (3) هو أبو الأسود، ثقة، علاّمة بالمغازي، مات سنة بضع وثلاثين ومائة، قاله الزرقاني. (4) أرسله سليمان ووصله أبو الأسود عن عروة، عن عائشة. (5) سنة عشر من الهجرة. (6) وهم أكثرهم. (7) أي أحرم، من الإِهلال وهو رفع الصوت بالتلبية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وَمَنْ (1) أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الحجِّ وَالْعُمْرَةِ، فحلَّ (2) مَنْ كَانَ أهلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أهلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وبهذا نأخذ، وهو قول أي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ. 393 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ عبد الله بن عمر   (1) قوله: ومن أهلَّ بعمرة، لا يخالف هذا رواية الأسود في الصحيحين عن عائشة: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لا نرى إلاَّ الحجّ. وللبخاري من وجه آخر عن أبي الأسود عن عروة عنها: مُهِلِّين بالحج ولمسلم عن القاسم، عنها: لا نذكر إلاَّ الحج. وله أيضاً: ملبِّين بالحج، لأنه يُحمل على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه في ترك الاعتمار في أشهر الحج، فخرجوا لا يعرفون إلاَّ الحج، ثم بيَّن لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وجوه الإِحرام، وجوَّز لهم الاعتمار في أشهر الحج، قاله الزرقاني. (2) قوله: فحلَّ من كان أهلَّ بالعمرة، لمّا طافوا وسعوا وحلقوا أو قصر من لم يسق هدياً بإجماع، ومن ساقه عند مالك والشافعي وجماعة قياساً على من لم يسقه، وقال أبو حنيفة وأحمد وجماعة: لا يحل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، لما في مسلم عن عائشة مرفوعاً: من أحرم بعمرة ولم يهدِ فليتحلَّل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهلَّ بحج فليتم حجه. وهو ظاهر في ما قالوه، وأُجيب بأن هذه الرواية مختصرة من الرواية الأخرى الآتية في "الموطأ" والصحيحين عن عائشة مرفوعاً: من كان معه هدي فيهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً، فهذه مفسرة للمحذوف، ذكره الزرقاني. (3) أي لم يخرجوا من الإِحرام إلاَّ بعد أن حلقوا بمنى في غير الجماع وبعد أن طافوا، في سائر المحظورات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 خَرَجَ (1) فِي الْفِتْنَةِ (2) مُعْتَمِرًا، وَقَالَ (3) : إنْ صُددتُ (4) عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا (5) كَمَا صَنَعْنَا (6) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) : قَالَ (8) : فَخَرَجَ (9) فأهلَّ (10) بِالْعُمْرَةِ وَسَارَ، حَتَّى إِذَا ظَهَرَ (11) عَلَى ظهر البيداء التفتَ إلى   (1) من المدينة. (2) قوله: في الفتنة، حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير كما في الصحيحين من وجه آخر. وذكر أصحاب الأخبار أنه لما مات معاوية بن يزيد بن معاوية ولم يستخلف بقي الناس بلا خليفة شهرين، فأجمعوا، فبايعوا عبد الله بن الزبير، وتمَّ له مُلك الحجاز والعراق وخراسان، وبايع أهل الشام ومصر مروانَ بن الحَكَم فلم يزل الأمر كذلك حتى مات مروان، وولي ابنه عبد الملك فمنع الناس الحجَّ خوفاً من أن يبايعوا ابن الزبير، ثم بعث جيشاً أمَّر عليه الحجّاج، فقاتل أهل مكة وحاصرهم حتى غلبهم، وقَتَل ابنَ الزبير وصَلَبه، وذلك سنة ثلاث وسبعين، كذا ذكره الزرقاني. (3) قاله جواباً لقول ولديه عبيد الله وسالم: لا يضرك أن لا تحج العام، إنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت كما في الصحيحين. (4) أي مُنعت عن طوافه. (5) أي أنا ومن تبعني. (6) أي نحن الصحابة. (7) من التحلُّل حيث منعوه من دخول مكة بالحُدَيبية. (8) نافع. (9) ابن عمر. (10) زاد في رواية جويرية: من ذي الحليفة. (11) أي صعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إلاَّ وَاحِدٌ (1) ، أُشْهِدُكم (2) أَنِّي قَدْ أوجبتُ (3) الحجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْبَيْتَ طَافَ بِهِ، وَطَافَ (4) بين الصفا والمروة سبعاً سبعاً (5) لم يَزِدْ (6) عليه،   (1) أي في الصد وعدمه والجمع أفضل فلا وجه لاقتصاري على العمرة المفردة. (2) قوله: أشهدكم، لم يكتفِ بالنية ليعلم من اقتدى به أنه انتقل نظره للقِران لاستوائهما في حكم الحصر. (3) أي أدخلتُ عليها، وجمعتُ بينهما. (4) قوله: طاف به، طوافاً واحداً لقرانه بعد الوقوف بعرفة، وبه قال الأئمة الثلاثة والجمهور، وقال أبو حنيفة والكوفيون: على القارن طوافان وسعيان. وأوَّلوا قوله طوافاً واحداً على أنه طاف لكلٍّ منهما طوافاً يُشبه الطواف الآخر، ولا يخفى ما فيه، ويردُّه قوله: ورأى ذلك مُجزياً - بضم الميم وسكون الجيم وكسر الزاي بلا همز - كافياً عنه، كذا ذكره الزرقاني. (5) قيد لكلٍّ منهما أو للثاني وأطلقه الأول لظهور أمره. (6) قوله: لم يزد عليه، أي على الطواف الواحد والسعي الواحد، وفيه حجة للأئمة الثلاثة القائلين بكفاية الطواف الواحد والسعي والواحد للقارن، ويوافقهم حديث البخاري وغيره عن عائشة في بيان من حجَّ مع النبي صلّى الله عليه وسلّم: فطاف الذين كانوا أهلّوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلّوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى. وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً. وذكر العيني في "شرحه" أنه مذهب عطاء والحسن وطاوس. وقال مجاهد وجابر بن زيد وشُرَيح القاضي والشَّعبي والنَّخَعي والأَوْزاعي وابن أبي ليلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 وَرَأَى ذَلِكَ مُجْزياً (1) عَنْهُ وَأَهْدَى. 394 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدثنا صدقة بن يسار المكِّي، قال:   وغيرهم: لا بد للقارن من طوافين وسعيين، وحكى ذلك عن عليّ وعمر والحسن والحسين وابن مسعود: انتهى ملخصاً. وأخرج الطحاوي مستدلاً لمذهب الحنفية عن أبي نصر، قال: أهللتُ بالحجِّ، فأدركتُ عليّاً، فقلت له: إني أهللت بالحج، أفأستطيع أن أضيف إليه عمرة؟ قال: لا، لو كنتَ أهللتَ بالعمرة، ثم أردتَ أن تضمَّ إليها الحج ضممتَه، قلت: كيف أصنع إذا أردتُ ذلك؟ قال: تَصُبُّ عليك إداوة من ماء، ثم تحرم بهما جميعاً، وتطوف لكل واحد منهما طوافاً. وأخرج عن زياد بن مالك، عن علي وعبد الله قالا: القارن يطوف بطوافين ويسعى بسعيَيْن. (1) قوله: مجزياً عنه، قال في "إرشاد الساري": فيه دليل على أن القارن يجزيه طواف واحد (اعلم أن ما ورد من الروايات من قولهم: طاف لها طوافاً واحداً مؤوَّل إجماعاً، فإنه صلّى الله عليه وسلّم طاف أولاً عن قدومه مكة كما في حديث جابر الطويل وغيره ثم طاف بعد رجوعه من منى يوم النحر مع الاختلاف في الروايات في صلاته صلّى الله عليه وسلّم الظهر: أكانت بمكة أو بمنى؟ كما في حديث جابر المذكور وغيره من عدة روايات. فلا يشك أحد فضلاً عن الأئمة من هذين الطوافين، فلا بد من التأويل لكل واحد فيما ورد من لفظ "طوافاً واحداً" فهم يقولون طاف للفرض طوافاً واحداً والطواف الأول كان للقدوم، ونحن نقول طاف للحِلِّ من الإِحرامين طوافاً واحداً، والطواف الأول كان للعمرة. الكوكب الدري 2/150) . وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وقال أبو حنيفة في آخرين: عليه طوافان وسعيان، واستدل لذلك في "فتح القدير" بما رواه النسائي في "سننه الكبرى" عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية قال: طُفت مع أبي وقد جمع الحج والعمرة فطاف لهما طوافين: وسعى سعيين، وحدثني أن عليّاً فعل ذلك، وحدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك. قال العلامة ابن الهُمام: وحماد هذا وإن ضعَّفه الأزدي فقد ذكره ابن حبان في "الثقات" فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن مع أنه رُوي عن علي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَدَخَلْنَا (1) عَلَيْهِ قبلَ يومِ التَّرْوِيَةِ (2) بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ (3) فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ثائرَ (4) الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ (5) إِنِّي ضَفَّرتُ (6) رَأْسِي، وأحرمتُ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، فَمَاذَا تَرَى (7) ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ كنتُ مَعَكَ حِينَ أحرمتَ لأمرتُكَ (8) أَنْ تُهِلَّ بِهِمَا جَمِيعًا، فَإِذَا قدمتَ (9) طُفْتَ بِالْبَيْتِ (10) وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وكنتَ عَلَى إِحْرَامِكَ، لا تحلَّ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى تحلَّ (11) مِنْهُمَا جَمِيعًا يَوْمَ النَّحْرِ، وتنحَرَ هَدْيك (12) . وقال   بطرق كثيرة مضعَّفة ترتقي إلى الحسن غير أنَّا تركناه واقتصرنا على ما هو الحجة بنفسه بلا ضمّ. انتهى. (1) أي نحن جماعة من التابعين. (2) هو الثامن من ذي الحجة. (3) أي ما يتعلَّق بمناسك الحج. (4) أي متفرِّق شعر رأسه لفَقْد دهنه وعدم مشطه. (5) هو كنية ابن عمر. (6) روي بالتشديد والتخفيف أي جعلته ضفائر، كل ضفيرة على حدة. (7) أي من الحكم. (8) لأن القِران أفضل من التمتع وكذا من الإفراد. (9) أي مكة بعد فرض إحرامك بهما. (10) أي للعمرة. (11) بعد أن ترمي الجمرة. (12) أي للقران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 لَهُ (1) ابْنُ عُمَرَ: خُذْ مَا تَطَايَرَ (2) مِنْ شَعْرِكَ، واهْدِ (3) ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ (4) فِي الْبَيْتِ وَمَا هَدْيَه (5) يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: هَدْيُه (6) ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ (7) هَدْيُهُ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ ابْنُ عُمَرَ، حَتَّى إِذَا أَرَدْنَا الْخُرُوجَ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ (8) إِلا شَاةً لَكَانَ أُرى أَنْ أَذْبَحَهَا أحبَّ (9) إليَّ من أن أصوم (10) .   (1) وليحيى: فقال اليماني: قد كان ذلك، فقال ابن عمر: خذ ما تطاير من رأسك واهدِ. (2) أي ما تفرَّق. (3) أي اذبح يوم النحر التمتع. (4) أي من أهل العراق، كما ليحيى. (5) أي الواجب عليه. (6) أي ما يُطلق عليه الهدي من بعير أو بقرة أو شاة. (7) أي في جوابها. (8) أجمل الهدي أولاً رجاء أنه يأخذ بالأفضل، فلما اضطرَّ إلى الكلام صرح. (9) قوله: أحب ... إلى آخره، هذا لا يخالف قوله: {فما استيسر من الهدي} بَدَنة أو بقرة إما لأنه رجع عنه أو لأنه قُيِّد بعدم الوجود، فمن وجد البقرة أو البدنة فهو أفضل، قال أبو عمر: وهذا أصح من رواية من روى عن ابن عمر: الصيام أحب إليَّ من الشاة، لأنه معروف من مذهب ابن عمر تفضيل إراقه الدماء في الحج على سائر الأعمال. (10) أي بدله ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الْقِرَانُ (1) أَفْضَلُ، كَمَا قال عبد الله بن   (1) قوله: القران ... إلى آخره، اختلفوا في أيُّها أفضل (أي مع الاتفاق على جواز الكل، قال النووي: اختلف العلماء في هذه الأنواع الثلاثة أيها أفضل، فقال الشافعي ومالك وكثيرون: أفضلها الإِفراد ثم التمتُّع ثم القِران. وقال أحمد وآخرون: أفضلها التمتُّع، وقال أبو حنيفة وآخرون: أفضلها القران. وهذان المذهبان قولان آخران للشافعي. شرح مسلم للنووي 3/301) بحسب اختلافهم فيما فعله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، فمذهب الشافعية والمالكية أنَّ الإِفراد أفضل بشرط أن يعتمر من عامه لأنه صلى الله عليه وسلم اختاره أولاً، ولأن رواته أخصُّ به صلى الله عليه وسلّم في هذه الحجة فإن منهم جابر، وهو أحسنهم سياقاً لحجه صلى الله عليه وسلم، ومنهم ابن عمر، وقد قال: كنت تحت ناقته يمسني لُعابها أسمعه يلبِّي بالحج، وعائشة وقُربها منه واطِّلاعها على باطن أمره وعلانِيَتِه كله معروف مع فقهها، وابن عباس وهو بالمحل بالمعروف من الفقه والفهم الثاقب، ورجَّحه الخطابي أيضاً بأن الخلفاء الراشدين واظبوا عليه، قال: ولا يُظَنُّ بهم المواظبة على ترك الأفضل، وبأنه لم يُنقل عن أحد منهم أنه كره الإِفراد وقد نقل عنهم كراهة التمتُّع والقران، وبأن الإِفراد لا يجب فيه دم بالإِجماع بخلاف التمتع والقران. انتهى. قال الحافظ: وهذا ينبني على أن دم القران دم جُبران، وقد منعه من رجَّح القران، وقال: إنه دم فضل وثواب كالأضحية، وقال عياض نحو ما قاله الخطابي، وزاد: وقد تضافرت الروايات الصحيحة بأنه صلى الله عليه وسلّم كان مفرداً، وأما رواية من روى أنه كان متمتعاً فمعناه أنه أمر به لأنه صرح بقوله: ولولا أن معي الهدي لأحللتُ، فصحَّ أنه لم يتحلل. وأما رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله لأنه أدخل العمرة على الحج لمَّا جاء إلى الوادي أي وادي العقيق، وقيل له: قل عمرة في حجة. انتهى. قال الحافظ: هذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديماً ابنُ المنذر وبيَّنه ابن حزم في حجة الوداع بياناً شافياً، ومهَّده المحبُّ الطبري تمهيداً بالغاً يطول ذكره، ومحصّله أنَّ كلَّ من رَوى عنه الإِفراد حمل على ما أَهَلَّ به في أول الحال، وكل من روى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكلّ من روى عنه القِران أراد ما استقر عليه أمره، ثم قال الحافظ: يترجَّح رواية من روى القران بأمور، وذكر منها: أنه لم يقل عليه السلام في شيء من الروايات أفردتُ ولا تمتعتُ، وقال: قرنت، وأيضاً فإن من روى القران لا يحتمل حديثَه التأويل إلاَّ بتأمُّل، بخلاف من روى عنه الإفراد، فإنه محمول على أول الحال، ومن روى عنه التمتع فإنه محمول على الإقتصار على سفر واحد للنسكين، وأيضاً فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابياً بأسانيد جياد، بخلاف روايتي الإفراد والتمتع، قال الحافظ: وهذا يقتضي رفع الشك عن ذلك، ومقتضى ذلك أن القران أفضل من الإِفراد والتمتع، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال دالثوري وأبو حنيفة وأسحاق بن راهويه، وإختاره من الشافعية المُزَني وابن المنذر وأبو إسحاق المَرْوزي، ومن المتأخرين تقيّ الدين السُبْكي، وذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل لكونه صلى الله عليه وسلَّم تمنَّاه بقوله: لولا أني سقتُ الهدي لأحللت، ولا يتمنى إلا الأفضل وهو قول أحمد في المشهور عنه، وأُجيب عنه بأنه إنما تمناه تطييباً لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختار الله له واستمرَّ عليه، وحكى عياض عن بعض العلماء أن الصور الثلاثة في الفضل سواء، وهو مقتضى تصرُّف إبن خزيمة في صحيحه، وعن أحمد: من ساق الهدي فالقران أفضل له ليوافق فعله عليه السلام، ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له ليوافق ما تمنّاه، ض أتباعه: ومن أراد أن يُنشئ لعمرته من بلده سفراً فالإفراد أفضل له، وهذا أعل المذاهب وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة، كذا في (فتح الباري) و (ضياء الساري) وغيرهما من شروح صحيح البخاري، ولابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) كلام نفيس طويل في ترجيح القران بنحو عشرين وجهاً فليُرجع إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 عُمَرَ. فَإِذَا كَانَتِ الْعُمْرَةُ وَقَدْ حَضَرَ الْحَجُّ (1) ، فَطَافَ لَهَا وَسَعَى، فليُقَصِّرْ، ثُمَّ ليُحْرِمْ بِالْحَجِّ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ حَلَقَ وَشَاةٌ تُجْزِئُهُ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 395 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ مُحَمَّدَ (2) بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَل بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَدَّثَنَا: أَنَّهُ سَمِع سَعْدَ بْنَ أبي وقّاس وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَامَ (3) حَجِّ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُمَا يَذْكُرَانِ التمتُّع (4) بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ: لا يَصْنَعُ ذَلِكَ (5) إلاَّ مَنْ جَهِل (6) أمرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: بِئْسَ مَا قلت، قد صنعها (7)   (زاد المعاد 1/177) . (1) أي أشهره بأن وقع طوافه فيه وأكثره. (2) الهاشمي المدني مقبول، قاله الزرقاني. (3) قوله: عام حج، كان أول حجة حجها بعد الخلافة سنة أربع وأربعين، وآخر حجة حجها سنة سبع وخمسين، ذكره ابن جرير. والمراد ههنا الأولى لأن سعداً مات سنة خمس وخمسين على الصحيح، كذا ذكره الزرقاني. (4) في نسخة: المتعة. (5) أي التمتّع. (6) قوله: إلاَّ من جهل أمر الله، أي لأنه تعالى قال: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله} (سورة البقرة: الآية 196) فأَمْره بالإِتمام يقتضي استمرار الإِحرام إلى فراغ الحج، ومنع التحلل، والمتمتِّع يتحلَّل. (7) أي المتعة اللغوية، وهي الجمع بين الحج والعمرة، وحُكم القِران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَنَعْنَاهَا (1) معه.   والمتعة واحد قاله القاري. قوله: قد صنعها، قال الزرقاني: وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن أبي موسى: كنت أُفتي الناس بذلك أي بجواز المتعة في إمارة أبي بكر وعمر، فإني لقائم بالموقف إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك، فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين، ما أحدثتَ في شأن النسك؟ قال: إنْ تأخذ بكتاب الله، فإن الله قال: {وأتمّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ للَّهِ} وإنْ تأخذ بسنَّة نبيِّنا، فإنه لم يحل حتى نحَر الهدي، ولمسلم: فقال عمر: قد علمتَ أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد فعله وأصحابه، ولكن كرهتُ أن تظلّوا معرِّسين بهنَّ أي النساء بالأراك (أخرجه مسلم في "باب في نسخ التحلُّل من الإِحرام" 2/896. (معرِّسين بهنَّ في الأراك) الضمير يعود إلى النساء للعلم بهن لم يُذْكَرْن، ومعناه كرهت التمتع لأنه يقتضي التحلل وطاء النساء إلى حين الخروج إلى عرفات. انظر شرح النووي على مسلم 3/360. وقوله في الأراك، هو موضع بعرفة قرب نمرة) ، ثم تروحون في الحج تقطر رؤوسكم (أي من مياه الاغتسال المسبَّبة عن الوقاع بعهد قريب، والجملة حال) فبيَّن عمر العلّة التي لأجلها كره التمتع، وقال المأزري: قيل: المتعة التي نهى عنها عمر فسخ الحج إلى العمرة، وقيل: العمرة في أشهر الحج ثم الحج، قال عياض: والظاهر الأول لأنه كان يضرب الناس عليها - كما في مسلم - بناءً على معتقده أن الفسخ كان خاصّاً بالصحابة في سنة حجة الوداع، وقال النووي: المختار هو الثاني، وهو للتنزيه ترغيباً في الإِفراد ثم انعقد الإِجماع على جواز التمتُّع من غير كراهة. (1) قوله: وصنعناها معه، قال القاري: أي المتعة اللغوية أو الشرعية إذ تقدَّم أن بعض الصحابة تمتعوا في حجة الوداع، والحاصل أن القران وقع منه صلّى الله عليه وسلّم، والتمتع من بعض أصحابه وليحيى: قال: بئس ما قلتَ يا ابن أخي، فقال: الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عنها، فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 قَالَ مُحَمَّدٌ: القِران عِنْدَنَا أَفْضَلُ مِنَ الإِفراد (1) بِالْحَجِّ، وَإِفْرَادُ (2) الْعُمْرَةِ، فَإِذَا قَرَنَ (3) طَافَ بِالْبَيْتِ لِعُمْرَتِهِ (4) وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَطَافَ بِالْبَيْتِ لِحَجَّتِهِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، طَوَافَانِ (5) وَسَعْيَانِ أحبُّ إِلَيْنَا مِنْ طَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ، ثَبَتَ ذَلِكَ (6) بِمَا جَاءَ (7) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ أَمَرَ الْقَارِنَ بِطَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة وحمه اللَّهُ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 396 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نافع، عن عبد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب قال:   وصنعناها معه. والمعنى أن هذا يكفي في الجواب إنْ كنتَ من أهل التحقيق دون أهل التقليد. (1) قوله: من الإفراد بالحج، قال القاري: أي مع إتيان عمرة بعده وإلاَّ فمن المعلوم أن العبادتين خير من عبادة واحدة إجماعاً، فالمعنى أن الجمع بينهما بإحرام أفضل من إتيانهما بإحرامين. (2) قوله: وإفراد العمرة، قالها القاري أي من إفراد العمرة في أشهر الحج وإفراد الحج بعدها فيكون متمتعاً وإلاَّ فالعمرة سُنَّة عندنا، والحج أفضل منهما إجماعاً. (3) بين النسكين. (4) أي طواف الفرض لها. (5) أي للنسكين. (6) أي التعدُّد. (7) مرَّ تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 افْصِلُوا (1) بَيْنَ حجِّكم وعُمرتكم، فَإِنَّهُ أَتَمُّ (2) لِحَجِّ أَحَدِكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الحجِّ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْتَمِرُ الرَّجُلُ وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ ثُمَّ يَحُجَّ (4) وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي سَفَرَيْنِ أَفْضَلَ مِنَ الْقِرَانِ (5) . وَلَكِنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ مُفْرَدًا وَالْعُمْرَةُ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنَ التَّمَتُّعِ (6) وَالْحَجُّ مِنْ مَكَّةَ، لأَنَّهُ إِذَا قَرَنَ كَانَتْ عُمْرَتُهُ وَحَجَّتُهُ مِنْ بلده (7) وإذا تمتّع كانت حجته (8) مكيّة (9) ،   (1) فَكَرِه (قال شيخنا: والأوجه عندي أن نهي عمر كان عن متعة الفسخ والتمتع المعروف كليهما، والنهي عن الأول كان على التحريم، وهو محمل ما ورد أنه كان يضرب على ذلك. قال عياض: وما كان عمر لينهى عن التمتع، وإنما كان ينهى ويضرب على الفسخ لاعتقاده هو وغيره أنَّ الفسخ خاص بالصحابة. اهـ. والنهي عن الثاني كان بسبيل الاختيار وهو محمل رواية "الموطأ" وما في معناها، ولما حملوه أيضاً على التحريم فعل بنفسه التمتع لبيان الجواز. انظر لامع الدراري 5/157 - 158) عمر التمتُّع لئلا يترفَّه الحاج، وكان من رأيه عدم الترفُّه للحاج بكل طريق. (2) أي لأنه يكون كل في سفر منفرداً بناءً على أن الأجر بقدر المشقة. (3) وهي شوال وذو القعدة وتسع ذي الحجة. (4) أي في سفر آخر. (5) أي في سفر واحد. (6) أي من العمرة في أشهر الحج. (7) حيث أحرم بهما. (8) وعمرته آفاقية. (9) في نسخة: من مكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وَإِذَا أَفْرَدَ بِالْحَجِّ كَانَتْ عُمْرَتُهُ (1) مَكِّيَّةً، فالقِران أفضلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، والعامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 7 - (بَابُ مَنْ أَهْدَى هَدْيًا وَهُوَ مُقِيمٌ) 397 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (2) ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ عَمْرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ ابْنَ زِيَادِ (3) بْنِ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ أنَّ (4) ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: مَن أَهدى هَدْياً (5) حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ على الحاجِّ، وقد بعثتُ (6) بهدي،   (1) أي إن أتى بها، وسفره ينصرف إلى حجه. (2) أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل، ومسلم عن يحيى، الثلاثة عن مالك به. (3) وقع عند مسلم أن ابن زياد وهو وهم، نبَّه عليه الغَسّاني ومن تبعه، كذا في "الفتح". قوله أن: زياد بن أبي سفيان، كذا وقع في "الموطأ" وكان شيخ مالك حدَّث به كذلك في زمن بني أُمية وأما بعدهم فما كان يقال له إلاَّ زياد بن أبيه، وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد، وكانت أمه سميَّة مولاة الحارث بن كلدة الثقفي تحت عبيد، فولدت زياداً على فراشه، فلما كان في خلافة معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأنَّ زياداً ولده، فاستلحقه معاوية لذلك، وزوَّج ابنه بنته، وأمّره على أهل العراقين البصرة والكوفة، ومات في خلافته سنة ثلاث وخمسين، كذا في "فتح الباري". (4) بفتح الهمزة وكسرها. (5) أي بهدي كما في نسخة. (6) إلى الحرم وأنا مقيم غير محرم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 فاكْتُبي (1) إليَّ بأمرِك أَوْ مُري صاحبَ (2) الْهَدْيِ، قَالَتْ عَمْرة: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ (3) كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ (4) قلائدَ هَدْي رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي (5) ثُمَّ قَلَّدها رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَبَعَثَ بِهَا (6) مَعَ أَبِي (7) ، ثُمَّ لَمْ يَحْرُم (8)   (1) حتى أعلم أني كيف أعمل. (2) أي الذي أريد أن أرسله ليخبرني، فأو: للتنويع بين الكتابة وبين الرواية. (3) قوله: ليس كما قال ابن عباس، قال الحافظ تبعاً للكرماني: حاصل اعتراض عائشة على ابن عباس أنه ذهب إلى ما أفتى به قياساً للتوكيل في أمر الهدي على المباشرة له، فبيَّنْت عائشة أن هذا القياس لا اعتبار له في مقابلة هذه السُّنَّة الظاهرة. (4) أي من العهن وهو الصوف كما في رواية. قوله: أنا فتلت، قال ابن المنيِّر: يحتمل أن يكون قولها ذلك بياناً لحفظها الأمر ومعرفتها به، ويحتمل أن تكون أرادت أنه صلّى الله عليه وسلّم تناول ذلك بنفسه، وعلم وقت التقليد، ومع ذلك فلم يمتنع من شيء يمتنع منه المحرم لئلا يعلم أحد أنه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد الهدي. انتهى. وقال ابن التين: أرادت بذلك علمَها بجميع القصة، ويحتمل أن تريد أنه آخر فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه حج في العام الذي يليه حجة الوداع لئلا يظن ظانٌّ أنَّ ذلك كان في أول الإِسلام، ثم نُسخ، فأرادت إزالة هذا اللَّبْس. (5) يحتمل الإِفراد والتثنية. (6) أي بالهدايا. (7) أي أبي بكر حين حجَّ في السنة التاسعة أمير الحاجّ وأتبعه بعليّ. (8) وفي رواية مسلم: فأصبح فينا حلالاً يأتي ما يأتي به الحلال من أهله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 عَلَى رَسُولِ اللَّهِ شَيْءٌ (1) كَانَ أحلَّه اللَّهُ حَتَّى نَحَرَ (2) الْهَدْيَ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الَّذِي يَتَوَجَّهُ مَعَ هَدْيه يُرِيدُ مَكَّةَ (4) وَقَدْ سَاقَ (5) بَدَنةً وقلَّدها (6) ، فَهَذَا يَكُونُ مُحْرِمًا حِينَ يَتَوَجَّهُ مَعَ بَدَنَتِهِ المقلَّدة بِمَا أَرَادَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمرة. فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي أَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ مُحرماً وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ (7) حلَّ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ (8) أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.   (1) أي من محظورات الإِحرام. (2) قوله: حتى نحر، أي أبو بكر وفي بعض النسخ بلفظ المجهول، فإن قلتَ: عدم الحرمة ليس مُغَيّاً إلى النحر إذ هو باقٍ بعده فلا مخالفة بين حكم ما بعد الغاية وما قبلها، قلتُ: هو غاية للتحريم لا لـ"لم يحرم" أي الحرمة المنتهية إلى التحريم لم تكن وذلك لأنه ردّ لكلام ابن عباس؟ وهو كان مثبتاً للحرمة إلى النحر، كذا في "الكوكب الدراري شرح صحيح البخاري" للكرماني. (3) قوله: حتى نحر الهدي، أي: وانقضى أمره ولم يحرم أفترك إحرامه بعد ذلك أولى، لأنه إذا انتفى في وقت الشبهة فلأن ينتفي عند انتفاء الشبهة أوْلى. (4) بقصد أحد النُّسُكين. (5) أي أرسلها قُدّامه، ومشى وراءها. (6) أي والحال أنه قلّدها وهذا قيدُ كمال. (7) أي بسبب بعثه هدياً. (8) قوله: وهو قول أبي حنيفة، بهذا يُرَدُّ على الخطابيّ حيث نقل عن أصحابنا مثل قول ابن عباس، وقد ردَّه الحافظ ابن حجر بأنه خطأ وافتراء عليهم، فالطحاويّ أعلم بهم منه، وقد حكى أنَّ مذهبهم أنَّ من ساق الهدي وقصد البيت وقلَّد وجب عليه الإِحرام، وحكى ابن المنذر عن جماعةٍ منهم أحمد والثوريّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وإسحاق أن من أراد النسك صار بمجرَّد تقليده الهدي محرماً. وأما قول ابن عباس فقد خالفه ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وغيرهم، بل جاء عن الزهري ما يدل على أن الأمر استقرَّ على خلاف ما قاله، ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه، وأخرجه البيهقي من طريقه عنه قال: أول من كشف العَمْي (في الأصل: الغمي وهو تحريف كما في عمدة القاري 4/714، والسنن الكبرى للبيهقي 5/234) عن الناس وبيَّن لهم السُّنَّة في ذلك عائشة ... فذكر الحديث عن عروة وعَمْرة عنها، وقال: لمّا بلغ الناسَ قولُ عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس. انتهى. وفيه دلالة على أن قوله كان مهجوراً، ومن ثَم لم يأخذ أحد من أئمة الأمصار المعروفين به، بل قال ابن التين: خالف ابن عباس جميع الفقهاء في هذا، ولعله رجع عنه لمّا بلغه حديث عائشة، وتعقَّبه ابن حجر (انظر فتح الباري 3/546) وغيره بأنَّ ابن عباس لم ينفرد بما قاله، بل وافقه جماعة من الصحابة، منهم ابن عمر ورواه ابن أبي شيبة وابن المنذر بسنَديْهما إلى نافع عنه بلفظ: كان إذا بعث بالهدي يمسك عمّا يمسك عنه المحرم، إلاَّ أنه لا يلبّي. وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس وابن عمر قالا: من قلَّد أحرم، ومنهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري صاحب لواء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخرجه عنه سعيد بن منصور، ومنهم عمر وعلي فإنهما قالا في الرجل يرسل بَدَنَتَه أنه يُمسك عما يُمسك عنه المحرم، رواه ابن أبي شيبة، وحكى ابن المنذر هذا المذهب عن النخعي وعطاء وابن سيرين وآخرين، وأخرج ابن أبي شيبة مثله عن سعيد بن جبير، ويوافقهم من المرفوع حديث جابر قال: بينا النبي صلّى الله عليه وسلّم جالس مع أصحابه إذ شق قميصه حتى خرج منه. وقال: إني أَمرتُ ببُدْني التي بعثت بها أن تُقلَّد اليوم، وتُشعر على مكان كذا، فلبست قميصي ونسيت، أخرجه عبد الرزاق والبزار والطحاوي، وفي سنده عبد الرحمن بن عطاء ضعيف، قال ابن عبد البر: لا يُحتَجّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 8 - (باب تقليد البُدْن (1) وإشعارهم) 398 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَهْدَى هَدْيًا مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ (2) وَأَشْعَرَهُ (3) بِذِي الحُلَيفة، يقلِّده قَبْلَ أَنْ يُشْعِرُهُ، وَذَلِكَ (4) فِي مَكَانٍ واحدٍ وهو موجِّهُهُ (5) إلى القِبْلة، يقلِّده (6) بنعلين،   بما انفرد به، فكيف إذا خالفه من هو أثبت منه؟ انتهى، ويُحتمل أن يكون سابقاً وحديث عائشة له ناسخاً كذا في "فتح الباري" و"نصب الراية" وغيرهما (ههنا مسألتان طالما تشتبه إحداهما بالأخرى حتى وقع الاشبتاه فيهما للخطابيّ ونحوه من المحقِّقين، أولاهما: حكم من بعث بهديه وهو مقيم في بلدته لا يريد النسك، فقد كان فيه خلاف في السلف، لكن انقضى بعد ذلك، واستقر الأمر على أن مجرِّد بعث الهدي لا يُوجب إحراماً، والثانية: من ساق الهدْي وأراد النسك أيضاً وهي مختلفة بين الأئمة، قال في "الفتح": ذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أنَّ من أراد النسك صار بمجرد تقليده الهدي محرماً، حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق، قال: وقال أصحاب الرأي: من ساق الهدي وأمّ البيت ثم قلَّد وجب عليه الإحرام، وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرماً ولا يجب عليه شيء. اهـ. انظر أوجز المسالك 6/285) . (1) بضم فسكون جمع بَدَنَة بفتحتين وهي الإِبل والبقر عندنا. (2) أي بنعل، أو لحاء شجرة. (3) أي أدماه في سنامه ليكون إشعاراً بأنه من شعائر الله فلا يتعرَّض له أحد. قوله: وأشعره بذي الحليفة، لأنه كان من أتبع الناس للمصطفى، وفي الصحيحين: أنه صلّى الله عليه وسلّم قلَّد الهدي وأشعره بذي الحليفة. (4) أي ما ذُكر من التقليد والإِشعار. (5) أي جاعل وجه هديه في حالَتَيْ التقليد والإِشعار. (6) بيان لما أجمله أولاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 ويُشعره (1) مِنْ شِقّه (2) الأَيْسَرِ، ثُمَّ يُساق مَعَهُ (3) حَتَّى يُوقَف بِهِ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ يُدفَع بِهِ مَعَهُمْ إِذَا دَفَعُوا (4) ، فَإِذَا قَدِم مِنَى مِنْ غَدَاةِ يَوْمِ النَّحْرِ نَحَرَه قَبْلَ (5) أنْ يَحْلِقَ أَوْ يقصِّر، وَكَانَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ بيده (6)   (1) من الإِشعار: شقّ سنام الهدي. (2) أي الجانب. قوله: من شقِّه الأيسر، فيه أنه أشعرها من الجانب الأيسر وأخرجه البيهقي من طريق أخرى عن نافع عن ابن عمر أنه كان يُشعر بُدْنَه من الشقّ الأيسر إلا أن تكون صعاباً مُقَرَّنة، فإذا لم يستطع أن يَدْخل بينها أشعر من الشقّ الأيمن، وإذا أراد أنْ يُشعرها وجهها إلى القبلة، وفي صحيح البخاري: أنه أشعرها من شِقِّها الأيمن، قال الحافظ: تبين بهذا أن ابن عمر كان يطعن في الأيمن تارة، وفي الأيسر أخرى، بحسب ما يتهيأ له، وإلى الإِشعار في الجانب الأيمن ذهب الشافعي وصاحبا أبي حنيفة وأحمد في رواية، وإلى الأيسر ذهب مالك وأحمد في رواية (ثم اختلفوا في النَّعَم التي تُشعر، فقال الشافعي وأحمد: تُشعر الإِبل والبقر مطلقاً، وعند مالك في الإِبل قولان: المرجَّح منهما الإِشعار مطلقاً، والثاني: التقييد بذات السِّنام، وفي البقر ثلاثة أقوال: الإِثبات والنفي مطلقاً والثالث الراجح عندهم التقييد بذات السِّنام وعندنا - الحنفية - تشعر الإِبل لا البقر، وأما الغنم فلا إشعار فيها إجماعاً. والبسط في "الأوجز" 7/195، و"الكوكب الدرّي" 2/131) ، كذا في "ضياء الساري". (3) أي مع ابن عمر. (4) أي إذا أفاضوا ورجعوا. (5) لقوله تعالى: {ولا تَحْلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهَدْيُ مَحِلَّه} (سورة البقرة: الآية 196) . (6) قوله: بيده، لأنه المستحب وقد نحر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة بيده بعدد سنيّ عمره، وأمر عليّاً بنحر بقية البُدْن وكان كلُّها مائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 يصفُّهُنّ (1) قِيَامًا، ويوجِّهُّنّ (2) إِلَى القِبْلة ثُمَّ يَأْكُلُ (3) ويُطعم. 399 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا وَخَزَ (4) فِي سِنام بَدَنَتَه وَهُوَ يُشعرها، قَالَ (5) : بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. 400 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ (6) يُشْعِرُ بَدَنَتَه فِي الشِّقِّ الأَيْسَرِ إِلا أَنْ تَكُونَ صِعَاباً (7) مقرَّنة (8) ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْخل بَيْنَهَا (9) أَشْعَرَ مِنَ الشِّقِّ الأَيْمَنِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُشعرها وَجَّهَهَا إلى القِبْلة، قال: فإذا (10) أشعرها قال:   (1) لقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صوافّ} (سورة الحجّ: الآية 36) . (2) قوله: ويوجِّهنَّ، أي يجعل الهدايا عند نحرهن إلى جهة الكعبة. (3) لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا} (سورة الحجّ: الآية 28) . (4) قوله: إذا وخز، بالخاء والزاء المعجمتين أي طعن طعنةً غير نافذة برمح أو إبرة أو غير ذلك. (5) امتثالاً لقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ على ما هدَاكُمْ} (سورة البقرة: الآية 185) . (6) أي في الأكثر. (7) بكسر الصاد أي متصعِّبة. (8) بتشديد الراء أي مقرونة بعضها ببعض مقرَّبة. (9) أي البُدْن. (10) وفي نسخة: وإذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَكَانَ (1) يُشعرها بِيَدِهِ (2) وينحرها بيده قياماً.   (1) قوله: وكان يشعرها ... إلى آخره، بذلك قال الجمهور من السَّلَف والخلف، وذكر الطحاوي في "اختلاف العلماء" كراهته عن أبي حنيفة، وذهب غيره إلى استحبابه حتى صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: هو حسن، قال: وقال مالك: يختصّ الإِشعار بمن لها سنام، قال في "الفتح": وأبعد من منع من الإِشعار، واعتلّ باحتمال أنه كان مشروعا قبل النهي عن المثلة فإن النسخ لا يصار إليه بالإحتمال بل وقع الإِشعار في حجّة الوداع، وذلك بعد النهي عن المُثلة بزمان. وقال الخطّابي وغيره: اعتلال من كره الإِشعار بأنه المُثلة مردود، بل هو من باب الكيّ وشق الأذن ليصير علامة، قال: وقد كثر تشنيع المتقدِّمين على أبي حنيفة في إطلاقة كراهة الإِشعار، وانتصر له الطحاوي بأنه لم يَكره أصل الإِشعار، وإنما كره ما يُفعل على وجهٍ يُخالف منه هلاك البُدن كسراية الجرح لا سيما مع الطعن بالشَّفْرة، فأراد سدّ الباب عن العامّة لأنهم لا يُراعون الحدّ في ذلك، وأما من كان عارفاً بالسنّة في ذلك فلا، في هذا تعقُّبٌ على الخطّابي حيث قال: لا أعلم أحداً كره الإِشعار إلا أبا حنيفة وخالفه صاحباه. انتهى. وذكر الترمذي قال: سمعت أبا السائب يقول: كنا عند وكيع فقال له رجل: رُوي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإِشعار مُثلة. فقال له وكيع: أقول لك رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وتقول: قال إبراهيم، ما أحقك بأن تُحبس. انتهى. وفيه تعقُّب على ابن حزم في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف، قال الحافظ: وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع ويتعيَّن الرجوع إلى ما قال الطحاويّ فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه، قال: واتفق من قال بالإِشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإِبل إلا سعيد بن جبير، واتفقوا على أن الغنم لا تُشْعَر، كذا في "الضياء". (2) لأن الأعمال الحسنة أَوْلَى أن تكون بلا واسطة إن أمكن وقوعها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (1) ، التَّقْلِيدُ أَفْضَلُ مِنَ الإِشعار، والإِشعار حَسَنٌ (2) ، والإِشعار (3) مِنَ الْجَانِبِ الأَيْسَرِ، إِلا أَنْ تَكُونَ صِعَاباً مُقَرَّنة لا يَسْتَطِيعُ (4) أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَهَا فليُشعرها مِنَ الْجَانِبِ الأَيْسَرِ و (5) الأيمن. 9 - (بَابُ مَنْ (6) تطيَّب قَبْلَ أَنْ يُحرم) 401 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بن   (1) قوله: وبهذا نأخذ، لم يذكر ههنا موافقة قول أبي حنيفة لأن عنده الإِشعار مكروه، نصَّ عليه في "الجامع الصغير" وحمله الطحاوي على أنه كَره المبالغَة (أو هو ردع للعوّام إبقاء على الهدايا وخوفاً عما يؤول الأمر إليه من المبالغة فيه والوقوع في المنهيّ عنه طلباً لما هو ندب فحسب "الكوكب الدرّي" 2/131) فيه بحيث يؤدِّي إلى السراية. وهو محمل حسن. ولولاه لكان قوله مخالفاً للثابت بالأحاديث الصحيحة الصريحة صريحاً. وللقوم في توجيه ما رُوي عنه كلمات قد فزعنا من دفعها في تعليقاتي على "الهداية" فلا نضيع الوقت بذكرها. (2) أي مستحب عند الجمهور. (3) أي الأحسن. (4) أي صاحبها. (5) الواو بمعنى أو. (6) قوله : باب من تطيّب قبل أن يحرم، اختلفوا فيه فذهب الأئمة الثلاثة والجمهور إلى استحباب التطيّب عند إرادة الإحرام، وأنه لا يضرّ بقاءُ لونه ورائحته وإنما يحرم ابتداؤه للمحرم، وقال مالك والزهري وجماعة من الصحابة والتابعين: لا يُمنع من التطيب بطيبٍ يبقى له رائحة بعده، كذا في الزرقاني وغيره. واحتج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 الْخَطَّابِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَجَدَ ريحَ طيبٍ وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ (1) ، فَقَالَ: مِمَّنْ ريحُ هَذَا الطِّيبِ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ (2) بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: مِنِّي   الجمهور بحديث عائشة كنتُ أطيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِحرامه قَبْلَ أَنْ يُحرم، ولحِلَّه قَبْلَ أن يطوف بالبيت. وسيأتي في "باب ما يَحْرُم على الحاجّ بعد رمي جمرة العقبة" وفي رواية للشيخين كأني أنظر إلى وبيص الطِّيب في مَفْرِق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم وفي لفظ لمسلم: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبِّي. وفي رواية لهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يُحرم يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك. وأخرجا عن محمد بن المنتشر قال: سألتُ ابنَ عمر عن رجل يطيب ثم يصبح محرماً، فقال: ما أحبّ أن أصبح محرماً أنضح طيباً، لأن أُطلى بقَطِران أحبّ إليّ من أن أفعل ذلك، فدخلتُ على عائشة فأخبرتها بقوله فقالت: إنما طيَّبْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فطاف في نسائه، ثم أصبح محرماً. وفي لفظ لهما: كنت أطيّب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيطوف على نسائه، ثم يصبح مُحرماً ينضح طيباً. كذا ذكره الزيلعي وغيره. وأجاب عنه المالكية ومن قال بقولهم بوجوه كلها مردودة، منها أنه صلّى الله عليه وسلّم اغتسل بعد ما تطيّب لقولها في رواية: ثم طاف على نسائه، فإن المراد بالطواف الجماع وكان من عادته أن يغتسل عند كل أحد، ورُدّ لأنه ليس فيه أنه أصابهن، وكان عليه السلام كثيراً ما يطوف على نسائه من غير إصابة كما في حديث عائشة: قلّ يوم إلا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطوف علينا، فيقبِّل ويلمس دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هو يومها يبيت عندها. ولو سُلِّم أنه اغتسل فقولها في رواية: ثم أصبح محرماً ينضح طيباً صريح في بقاء الرائحة، وبه يُردّ على من قال إن ذلك الطيب كان لا رائحة له تمسُّكاً برواية النسائي: بطيبٍ لا يشبه طيبكم. ومنها أن ذلك من خصائصه، ورُدّ بأنها لا تثبت بالقياس، كذا في "شروح صحيح البخاري". (1) سمرة بذي الحُلَيفة على ستة أميال من المدينة. (2) قوله: معاوية بن أبي سفيان، هو معاوية بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، أسلم هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه هند بنتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (1) قَالَ: مِنْكَ (2) لَعَمْري (3) ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ (4) طَيَّبَتْني. قَالَ (5) : عزمتُ (6) عَلَيْكَ لَتَرْجَعَنَّ فَلَتَغْسِلَنَّه. 402 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا (7) الصَّلْت بن زُبَيد، عن غير   عُتْبة بن ربيعة بن عبد شمس يومَ الفتح، وكان هو من المؤلَّفة قلوبُهم، فحسن إسلامه، وكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولما مات يزيدُ أخوه استخلفه على عمله بالشام، فلمّا ولي عثمان جمع له الشام جميعه، ولم يزل كذلك إلى أن قُتل عثمان، فانفرد بالشام، ولم يبايع عليّاً. وكان وقعة صِفِّين بينه وبين عليّ، وقد استقصى ذلك في "الكامل في التاريخ". ولما قُتل عليّ سَلّم الحسن الأمر إلى معاوية فسلّم الأمر إليه، وتوفّي في النصف من رجب سنة ستين، كذا في "أُسْد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير الجزري. (1) زاد عبد الرزاق: فتغيَّظ عليه عمر. (2) لأنك تحب الرفاهية، وكان عمر يسميه كسرى العرب. (3) بفتح العين أي لقسمي بعَمري. (4) قوله: أم حبيبة، زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم بنت أبي سفيان، اسمها رملة، لا خلاف في ذلك إلاَّ عند من شذّ، توفيت سنة أربع وأربعين، كذا في "الإِسعاف". (5) قوله: قال، وفي رواية عبد الرزاق أقسمتُ عليك لترجعن إلى أم حبيبة فلتغسلنّه عنك كما طيَّبتْكَ، وزاد في رواية أيوب عن نافع عن أسلم: فرجع معاوية إليها حتى لحقهم ببعض الطريق. (6) أي أقسمت عليك. (7) قوله: أخبرنا الصلت بن زبيد، هكذا وُجد في نسخ هذا الكتاب بالباء الموحدة وكذا ضبطه القاري أنه بضمّ الزاء وبفتح الموحدة، لكن الذي في "مُوطأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وَاحِدٍ (1) مِنْ أَهْلِهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَجَدَ ريحَ طيبٍ وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ وَإِلَى جَنْبِهِ كَثير (2) بْنُ الصَّلْتِ، فَقَالَ: مِمَّنْ ريحُ هَذَا الطِّيبِ؟ قَالَ كَثِيرٌ: مِنِّي، لبَّدتُ (3) رَأْسِي وَأَرَدْتُ أَنْ أَحْلِقَ (4) ، قَالَ عُمَرُ: فَاذْهَبْ إِلَى شَرَبَة (5) ، فادلكْ مِنْهَا رَأْسَكَ حَتَّى تنقِّيَه (6) . فَفَعَلَ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا أرى (7) أن يتطيّب المحرم حين   يحيى": الصلت بن زييد بيائين، وقال الزرقاني في "شرحه": الصلت بن زييد بضم الزاء وتحتيتين تصغير زيد الكندي، وثّقه العجلي وغيره، وكفى برواية مالك عنه. انتهى. وكذا ضبطه ابن الأثير في "جامع الأصول"، وضبط الصَّلْت بالفتح ثم السكون. (1) أي عن جمع كثير من أقاربه. (2) الكندي المدني التابعي الكبير، وُلد في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووهم عن عدّه من الصحابة، كذا قال الزرقاني. (3) أي جعلت فيه شيئاً كالصمغ ليجتمع شعره لئلا يتفرّق في الإِحرام (التلبيد مندوب عند الشافعية. ولم يذكر الجمهور التلبيد في مندوبات الإِحرام. أوجز المسالك 6/209) . (4) أي بعد فراغ نسكي. (5) بالتحريك حويض حول النخلة، كذا في القاموس، أو قال مالك: الشربة: حفيرة تكون عند أصل الشجرة ذكره يحيى في "موطأه". (6) من الإِنقاء والتنقية: أي حتى تنظِّفَه من طيبك. (7) قوله: لا أرى..إلى آخره، هذا موافق لما اختاره جماعة من الصحابة، منهم عمر حيث أنكر على معاوية وكثير بن الصلت نضح الطيب حال الإِحرام، وأنكر أيضاً على البراء بن عازب كما أخرجه ابن أبي شيبة عن بشير بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   يسار: لما أحرموا وجد عمر ريحَ طيبٍ: فقال: ممن هذه الريح؟ فقال البراء: منّي يا أمير المؤمنين، فقال عمر: قد علمنا أن امرأتك عطرة أو عطارة، إنما الحاج الأدفر (الدفر: النتن. مجمع بحار الأنوار 1/186) الأغبر. ومنهم عثمان كما أخرجه الطحاوي عن سعد بن إبراهيم عن أبيه: كنت مع عثمان بذي الحُلَيفة فرأى رجلاً يريد أن يُحرم وقد دهن رأسه فأمر به فغسل رأسه بالطين. ومنهم ابن عمر كما مرّ ذكره. ويوافقهم من المرفوع ما أخرجا عن يعلى بن أمية، قال: أتى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رجلٌ متضمِّخ بطيبٍ وعليه جُبّة، فقال: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جُبّة بعد ما تضمخ بطيب؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجُبّة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك. وفي لفظ لهما: وهو متضمخ بالخَلوق، فقال له: اغسل عنك الصفرة. وفي لفظ للبخاري: واغسل عنك أثر الخلوق وأثر الصفرة. وأجاب الجمهور عنه بجوابين، أحدهما: أنَّ طيبه كان من زعفران، وقد نهي عن التزعفُر، يدل عليه رواية مسلم: وهو مصفِّر لحيته ورأسه، كذا ذكره المنذري. وأخرج الطحاوي أولاً عن يعلى بن أمية: أن رجلاً أتى النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بالجعرانة وعليه جُبّة وهو معصفرٌ لحيته ورأسه ... الحديث، ثم قال: لا حُجّة فيه وذلك أن التطيّب الذي كان على ذلك الرجل إنما كان صفرة وهو خلوق وذلك مكروه للرجال لا للإِحرام، ولكنه مكروه في نفسه في حال الإِحلال والإِحرام. ثم أيّده بما أخرج من طريق آخر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلاً لبَّى بعمرة، وعليه جُبّة، وشيْء من خَلوق فأمره أن ينزع الجبة ويمسح الخلوق. ومن طريق آخر: أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله إني أحرمتُ وعليّ جُبّتي هذه وعلى جبته خلوق والناس يسخرون مني، فقال: اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك هذا الزعفران. ثم أخرج أحاديث النهي عن التزعفر والخلوق، ثم قال: فإنما أمر الرجل الذي أمر بغسل طيبه الذي كان عليه في حديث يعلى لأنه لم يكن من طيب الرجال، وليس في ذلك دليل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 يُرِيدُ الإِحرام إِلا أَنْ يَتَطَيَّبَ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ (1) كَانَ لا يرى به بأساً. 10 - (باب من ساق هَدْياً فعَطِبَ (2) في الطريق أو نَذَرَ بَدَنَة) 403 - أخبرنا مالك، حدَّثنا ابن شهاب، عن سعيد بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ سَاقَ بَدَنة تطوُّعاً، ثم عَطِبَت (3) فنحرها   حكم من أراد الإِحرام: هل له أن يتطيب بطيب يبقى عليه بعد الإِحرام أم لا؟ انتهى، وثانيهما: ما نقل الحازمي في "كتاب الناسخ والمنسوخ" عن الشافعي أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل الطيب منسوخ لأنه كان في عام الجعرانة وهو سنة ثمان، وحديث عائشة أنها طيَّبتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم ناسخ له لأنه في حجة الوداع. انتهى. (1) قوله: فإنه كان لا يرى به بأساً، بل كان يقول باستحبابه أخذاً من حديث عائشة وبه قال أكثر الصحابة، قاله المنذري. وأخرج سعيد بن منصور عن عائشة قالت: طيّبْتُ أبي بالمسك لإِحرامه حين أحرم. وأخرج الطحاوي عن عبد الرحمن قال: تطيَّبْتُ حاجّاً فرافقني عثمان بن العاص، فلما كان عند الإِحرام قال: اغسلوا رؤوسكم بهذا الخِطمي الأبيض فوقع في نفسي من ذلك شيء، فقدمت مكة فسألتُ ابن عمر وابن عباس، فابن عمر قال: ما أحسنه، وابن عباس قال: أما أنا فأضمّخ به رأسي. وأخرج عن عائشة بنت سعد قالت: كنت أشبع رأس سعد بن أبي وقاص لحرمه بالطيب. وأخرج عن عبد الله بن الزبير: أنه كان يتطيّب بالغالية الجيدة عند الإِحرام. وأخرج أبو داود وابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنّا نضمّخ وجوهنا بالمسك المطيّب قبل أن نحرم ثم نُحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله فلا ينهانا. (2) كفرح: هلك، كذا في "المصباح". (3) أي قَرُب هلاكها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 فلْيَجْعَلْ قِلادتَها (1) ونعلَها فِي دَمِهَا (2) ، ثُمَّ يتركْها لِلنَّاسِ يَأْكُلُونَهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فإنْ هُوَ أَكَلَ مِنْهَا أَوْ أَمَرَ بِأَكْلِهَا فَعَلَيْهِ الغُرْم (3) . 404 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أنَّ (4) صَاحِبَ (5) هَدْي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِمَا عَطِب (6) مِنَ الْهَدْيِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْحَرْها وأَلْقِ (7) قِلادَتَها (8)   (1) بكسر القاف أي ما قُلِّدت به من لحاء شجرة أو قطعة مزادة. (2) أي فليغمسها فيه وليضرب بها صفحة سنامها. وفائدة ذلك إعلام الناس أنه هدي فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء. (3) بضم الغين أي الغرامة وهي قيمة ما أكل. (4) قوله: أن صاحب هدي ... إلى آخره، مرسلٌ صورةً لكنه محمول على الوصل لأن عروة ثبت سماعه من ناجية، فقد أخرجه ابن خزيمة من طريق عبد الرحيم بن سليمان عن هشام عن عروة قال: حدثني ناجية، ورواه أبو داود وابن عبد البر من طريق سفيان بن سعيد الثوري والترمذي - وقال: حسن صحيح - والنسائي من رواية عبدة بن سليمان وابن ماجه من رواية وكيع والطحاوي من طريق ابن عيينة وابن عبد البر من طريق وهيب بن خالد خمستهم عن هشام، عن أبيه، عن ناجية، قال في "الإِصابة": ولم يُسَمِّ أحد منهم والدَ ناجية، لكن قال بعضهم: الخزاعي، وبعضهم الأسلمي، ولا يبعد التعدُّد، وقد جزم ابن عبد البَرّ بأنه ناجية بن جندب الأسلمي، كذا ذكره الزرقاني. (5) هو ناجية الأسلمي. (6) بكسر الطاء أي هلك. (7) أي اغمس. (8) قال في "المنتخب": قلادة بالكسر (انجه دركرن كتند) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 أَوْ نعلَها (1) فِي دَمِهَا وخلِّ (2) بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا يَأْكُلُونَهَا. 405 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: كنتُ أَرى ابنَ عمرَ (3) بن الخطاب يُهدي (4) في الحج بَدَنَتَيْن بَدَنَتَيْن (5) ، وفي العمرة بَدَنَة بَدنة، قَالَ: رأيتُه فِي الْعُمْرَةِ يَنْحَرُ بَدَنتَه وهي قائمةٌ في حرف (6) دار (7)   (أي بالفارسية) . (1) قال مالك مرة: أمره بذلك ليعلم أنه هدي فلا يُستباح إلاَّ على الوجه الذي ينبغي. (2) قوله: وخلِّ بين الناس ... إلى آخره، قال عياض: فما عَطِب من هدي التطوع لا يأكل منه صاحبه ولا سائقه ولا رفقته لنصِّ الحديث، وبه قال مالك والجمهور (واختلفوا فيما يجب على من أكل منه فقال مالك: إنْ أكل منه وجب عليه بدله، وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد: عليه قيمة ما أكل. الكوكب الدري 2/134. وبسط شيخنا في هذه المسألة مذاهب الأئمة الأربعة في الأوجز 7/212) ، وقالوا: لا بدل عليه لأنه موضع بيان، ولم يبيِّن صلّى الله عليه وسلّم، بخلاف الهَدْي الواجب إذا عطب قبل مَحِلِّه، فيأكل منه صاحبه والأغنياء لأن صاحبه يضمنه لتعلُّقه بذمَّته، قاله الزرقاني. (3) هو عبد الله. (4) من الإِهداء أي يُرسل في حال إحرامه بالحج. (5) بالتكرار لإِفادة عموم التثنية. (6) بالفتح بمعنى الطَّرَف. (7) قوله: دار خالد بن أسيد، قال هشام بن الكلبي: أسلم عام الفتح، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 خَالِدِ (1) بْنِ أَسِيد (2) وَكَانَ فِيهَا مَنْزِلُهُ (3) ، وَقَالَ (4) : لَقَدْ رأيتُه طَعَنَ فِي لَبَّة (5) بَدَنَتَه حَتَّى خَرَجَتْ (6) سِنَّة (7) الحَربة مِنْ تَحْتِ حَنَكِها (8) . 406 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ (9) الْقَارِئُ (10) أَنَّهُ رَأَى   وأقام بمكة وكان من المؤلَّفة، قال ابن دريد: كان جزّاراً، قيل: إنه فُقد يوم اليمامة، وقيل مات قبله، قاله الزرقاني. (1) هو أخو عتّاب بن أَسيد الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكَّة عام الفتح. (2) بفتح الهمزة وكسر السين. (3) أي ابن عمر إذا حج أو اعتمر. (4) أي ابن دينار. (5) بفتح اللام وتشديد الموحِّدة: المنحر من الصدر. (6) من قوة الطعنة. (7) قوله: سِنَّة الحَربة، هو بالفتح آلة الحرب والعصا، والمراد به ههنا السكّين ونحوه مما يُذبح به، وسِنَّة الشيء: بكسر السين وتشديد النون (دندنهْ آن) (أي بالفارسية) والمراد به طرفه ورأسه ذو الحدة. والحنك بفتحتين (زير زنخدان) (أي بالفارسية) . (8) في نسخة: كتفها. (9) يزيد بن القعقاع. (10) بالهمزة، نسبة إلى قراءة القرآن، لا بتشديد الياء نسبة إلى قارة بطن كما ظنه صاحب "المحلّى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 عبدَ الله (1) بنَ عياش بن أبي ربيعة أَهْدَى عَامًا (2) بَدَنتين، إِحْدَاهُمَا بُخْتِيَّة (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، كلُّ هَدْي تطوُّعٍ عَطِب فِي الطَّرِيقِ (4) صَنَعَ كَمَا صَنَعَ وخلَّى (5) بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهُ، وَلا يُعْجِبُنَا (6) أَنْ يَأْكُلَ (7) مِنْهُ إلاَّ من (8) كان محتاجاً إليه (9) .   (1) قوله: عبد الله بن عياش، بشدِّ التحتية وشين معجمة ابن أبي ربيعة اسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي الصحابي ابن الصحابي، وُلد بالحبشة. وحفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يروِ عنه، وروى عن عمر وغيره، وأبوه قديم الإِسلام، قاله الزرقاني. (2) أي سَنَة من السنين. (3) قوله: بُخْتِيَّة، بضم موحَّدة وسكون الخاء المعجمة، فتاء فوقيّة فتحتيَّة مشدَّدة، هي الأنثى من الجمال، والذكر البُختي، وهي جمال طوال الأعناق على ما في "النهاية". (4) أي قبل أن يصل إلى الحَرَم. (5) من التخلية. (6) أي لا يجوز عندنا. (7) أي صاحب الهَدْي. (8) قوله: إلاَّ من كان محتاجاً إليه، اعلم أن هدي التطوُّع إذا بلغ الحَرَم يجوز لصاحبه وغيره من الأغنياء أن يأكل منه، وأما إذا لم يبلغ فلا يجوز لصاحبه أن يأكل منه ولا لغيره من الأغنياء لأن القربة فيه بالإِراقة إنما تكون في الحرم، وفي غيره بالتصدُّق. (9) أي مضطراً إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 407 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: كَانَ يَقُولُ: الْهَدْيُ (1) مَا قُلِّد أَوْ أُشعر وأُوقف بِهِ بِعَرَفَةَ. 408 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَذَرَ بَدَنَة (2) فَإِنَّهُ يقلِّدها نَعْلا، ويُشعِرُها، ثُمَّ يَسُوقُهَا، فَيَنْحَرُهَا عِنْدَ الْبَيْتِ أَوْ بِمَنًى يَوْمَ النَّحْرِ لَيْسَ لَهُ مَحِلّ (3) دُونَ ذَلِكَ، وَمَنْ نَذَرَ جَزُوراً (4) مِنَ الإِبل أَوِ الْبَقَرِ فَإِنَّهُ يَنْحَرُها حَيْثُ (5) شَاءَ (6) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ رخَّصوا فِي نَحْرِ البَدَنة حَيْثُ شَاءَ (7) ، وَقَالَ   (1) قوله: الهدي ... إلى آخره، في الأثر دليل على استنان الذهاب بالهدي إلى عرفات كالتقليد والإِشعار، وبه قال أبو حنيفة أنه يُسَنُّ ذلك من غير وجوب، كذا في "المحلّى بحلي أسرار الموطا". (2) أي من إبل أو بقرة. (3) قوله: ليس له محل دون ذلك، لأنه لمّا عبَّر ببدنة عُلم أنه هَدْي. (4) قوله: جَزُوراً، بفتح الجيم وضم الزاي هو من الإِبل خاصة يقع على الذكر والأنثى، كذا في "المصباح" اللغوي، فقوله من الإِبل والبقر تعميم باعتبار الإِطلاق العُرفي، قاله القاري. (5) أي من الحرم وغيره وفرق بين نذر البدنة ونذر الجزور بأن الأول خاص بالحرم والثاني عام. (6) قوله: حيث شاء، أي في أي مكان لأنه أراد إطعام لحمه مساكين موضعه أو ما نوى من الموضع. (7) أي الناذر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 بَعْضُهُمْ: الهَدْي (1) بِمَكَّةَ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {هَدْياً بالغَ الكعبة} وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي البَدَنة (2) فالبَدَنة حَيْثُ شَاءَ إلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الْحَرَمَ فَلا يَنْحَرْهَا (3) إلاَّ فِيهِ (4) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعي وَمَالِكِ بْنِ أَنَس. 409 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (5) عَمْرُو بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ سعيدَ بنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ بَدَنَة جعلَتْها (6) امرأةٌ عَلَيْهَا، قَالَ: فَقَالَ سَعِيدٌ: البُدْنُ مِنَ الإِبل (7) ومَحِلّ (8) البُدْن الْبَيْتُ الْعَتِيقُ إلاَّ أَنْ تَكُونَ (9) سمَّتْ مَكَانًا (10) مِنَ الأَرْضِ فَلْتَنْحَرْهَا حَيْثُ سمَّتْ، فإنْ لَمْ تَجِدْ بَدَنة فَبَقَرَةٌ (11) فَإِنْ لَمْ تكن بقرة فَعَشَرٌ من الغنم،   (1) يعني إذا نذرها هدياً فهو مخصوص بمكة وما حولها. (2) أي بل أطلقها. (3) أي لا يذبحها. (4) فإنما الأعمال بالنيات. (5) قوله: أخبرني عمرو بن عبيد الله الأنصاري، ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" وسمَّى والدَه بعبيد، وقال: إنه من بني الحارث بن الخزرج من أهل المدينة، يروي عن ابن عباس، روى عنه مالك بن أنس وسليمان بن بلال. (6) أي ألزمتها على نفسها بأن نذرتها. (7) أي دون البقر. هو يوافق قول الشافعي. (8) بكسر الحاء أي محل ذبحها الذي يَحِلُّ ذبحه فيه. (9) أي المرأة. (10) غير الحَرَم. (11) فإنها تقوم مقامها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 قَالَ (1) : ثُمَّ سَأَلْتُ سالمَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: مِثْلَ مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ لَمْ تَجِدْ بَقَرَةً، فَسَبْعٌ مِنَ الْغَنَمِ، قَالَ: ثُمَّ جئتُ (2) خارجةَ بنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فسألتُه، فَقَالَ مثلَ مَا قَالَ سَالِمٌ، ثُمَّ جئتُ عبدَ اللَّهِ (3) بنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (4) ، فَقَالَ مثلَ مَا قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: البُدْنُ مِنَ الإِبل (5) وَالْبَقَرِ، وَلَهَا (6) أَنْ تَنْحَرَهَا حَيْثُ شَاءَتْ إلاَّ أَنْ تَنْوِيَ الْحَرَمَ، فَلا تَنْحَرْهَا إلاَّ فِي الْحَرَمِ وَيَكُونُ (7) هَدْيًا، والبَدَنَة مِنَ الإِبل وَالْبَقَرِ تُجزئ (8) عَنْ سَبْعَةٍ وَلا تُجْزِئُ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا.   (1) عمرو بن عبيد الله. (2) قوله: ثُمَّ جِئْتُ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، هو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة من أجلَّة الثقات، مات سنة تسع وتسعين، وقيل: سنة مائة، قاله ابن حبان. (3) أبو هاشم المدني، وثَّقه ابن سعد والنسائي، مات سنة 98، كذا في "الإِسعاف". (4) ابن أبي طالب. (5) أي من كليهما في مذهبنا. (6) أي للمرأة الناذرة المذكورة. (7) أي ويكون بالنية. (8) قوله: تجزئ عن سبعة، روى مسلم عن جابر قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم مُهِلِّين بالحج، فأمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إن نشترك في الإِبل والبقر كلُّ سبعةٍ منا في بدنة. وبهذا قال الشافعي والجمهور سواء كان الهدْيُ تطوُّعاً أو واجباً، وسواء كانوا كلُّهم متقرِّبين بذلك أو بعضهم يريد التقرُّب وبعضهم يريد اللحم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وعن أبي حنيفة يُشترط في الاشتراك أن يكونوا كلُّهم متقرِّبين بالهَدْي. وعن داود وبعض المالكية: يجوز هذا في هدي التطوُّع دون الواجب. وعن مالك لا يجوز مطلقاً. واحتج له إسماعيل القاضي بأن حديث جابر إنما كان في الحديبية حيث كانوا مُحْصَرين، وبأن أبا جمرة خالفه ثقاتُ أصحاب ابن عباس، فقد رَوَوْا عنه أن ما استيسر من الهدي شاة، وساق ذلك بأسانيد صحيحة عنهم. وقد روى ليث عن طاوس، عن ابن عباس مثل رواية أبي جمرة لكنْ ليثٌ ضعيف. ثم ساق بسنده إلى محمد بن سيرين عن ابن عباس قال: ما كنتُ أرى أن دماً واحداً لعلّه يُجزئ أو يكفي عن أكثر من واحد. وأجاب الحافظ بأن تأويله لحديث جابر بأنه كان في الحديبية لا يدفع الاحتجاجَ بالحديث أي لثبوت جواز أصل الاشتراك، قال: بل روى مسلم من طريق أخرى عن جابر في أثناء حديث: فأمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أمرهم أن يحلوا حجَّهم إذا أحللنا أن نُهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية. وأقول: بل كيف يصح تأويله بأنه في الحديبية مع قول جابر: خرجنا مُهِلِّين بالحج، والحديبية إنما كان فيه الإِهلال بالعمرة، ثم قال الحافظ: وليس بين رواية أبي جمرة - قال: سألت ابن عباس عن المتعة، فأمرني بها، وسألته عن الهَدْي، فقال: فيها جَزُور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم، رواه البخاري - وبين رواية غيره منافاة لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك، ووافقهم على ذكر الشاة أي وزيادة الثقة مقبولة. قال: وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على الشاة الردُّ على من زعم اختصاص الهدي بالإِبل والبقر. قال: وأما رواية محمد بن سيرين عن ابن عباس فمنقطعة، ومع ذلك لو كانت متصلة احتمل أن يكون ابن عباس أخبر أنه كان لا يرى ذلك من جهة الاجتهاد، ومتى صح عنده النقل بصحة الاشتراك أفتى به أبا جمرة، وبهذا تجتمع الأخبار، وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء على توثيقه، وهو أبو جمرة. وقد رُوي عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك، ثم رجع عنه لمّا بلغتْه السُّنَّة، قال الحافظ: واتفق من قال بالاشتراك على أنه لا يكون في أكثر من سبعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 11 - (بَابُ الرَّجُلُ يسوقُ بَدَنَة فَيَضْطَرُّ (1) إِلَى رُكُوبِهَا) 410 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اضطررتَ إِلَى بَدَنَتِك (2) فارْكبْها رُكُوبًا غَيْرَ فَادِحٍ (3) . 411 - أَخْبَرَنَا (4) مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل (5)   إلاَّ إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب. فقال: تُجزئ عن عشرة، وبه قال إسحاق بن راهويه وابن خزيمة من الشافعية واحتج لذلك في "صحيحه" وقوّاه، كذا في "ضياء الساري". (1) بأن عجز عن المشي ولم يجد غيرها. قوله: فيضطرّ إلى ركوبها، اختلفوا في ركوب البدنة المُهداة، فقال بعضهم: هو واجب لإِطلاق الأمر مع ما فيه من مخالفة الجاهلية. ورُدّ هذا بأنه عليه السلام لم يركب هَدْيَه، ولا أمر الناس بركوب هداياهم. ومنهم من قال: له أن يركبها مطلقاً من غير حاجة، وقال أصحابنا والشافعي: لا يركبها إلا عند الحاجة كذا في "مرقاة المفاتيح". (2) أي إلى ركوبها. (3) أي غير مثقل ومؤلم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: اركبها بالمعروف إذا أُلجئت إلى ظهرها. (4) قوله: أخبرنا مالك ... إلى آخره، رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى، وأبو داود عن القعنبي، والنسائي عن قتيبة الأربعة عن مالك به، وتابعه المغيرة بن عبد الرحمن عند مسلم، وسفيان الثوري عند ابن ماجه، كلاهما عن أبي الزِّناد به. (5) قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد طول البحث، زاد النسائي عن أنس: وقد جهده المشي، أي وهو عاجز عن مشيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 يَسُوقُ بَدَنَتَه (1) ، فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: (2) أَنَّهَا بَدَنَة،   (1) وعند مسلم: بدنة مقلدة. (2) قوله: فَقَالَ: أَنَّهَا بَدَنَةٌ، قيل: الظاهر أن الرجل ظن أنه عليه السلام خفي عليه كونها هدياً، فلذلك قال: إنها بدنة. قال الحافظ: والحقّ أنه لم يخفَ ذلك عليه لكونها كانت مقلَّدة، ولهذا قال له لما زاد في مراجعته: ويلك. وقال القرطبي: إنما قال له ويلك تأديباً لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه. وبهذا جزم ابن عبد البَرّ وابن العربي، وبالغ حتى قال: ولولا أنه صلّى الله عليه وسلّم اشترط على ربِّه ما اشترط لهلك ذلك الرجل. قال القرطبي: ويحتمل أن يكون فهم عن الرجل أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها، فزجره عن ذلك. وعلى الحالتين فهي إنشاء ورجّحه عياض وغيره، قالوا: والأمر ههنا وإن قلنا إنه للإِرشاد لكنه استحق الذم بتوقّفه عن الامتثال، وقيل: كان الرجل أشرف على هلكة من الجهد. وويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة: فالمعنى أشرفت على الهلكة فاركب. فعلى هذا هي إخبار، وقيل: هي كلمة تدعم به العرب كلامها، ولا يُقصد معناها كقولهم: لا أمَّ لك. واستدل به على جواز ركوب الهدي سواء كان واجباً أو متطوِّعاً به، لكونه صلّى الله عليه وسلّم لم يستفصل صاحبَ الهدي عن ذلك، فدل على أن الحكم لا يختلف. وبالجواز مطلقاً قال عروة بن الزبير، ونسبه ابن المنذر لأحمد وإسحاق، وبه قال أهل الظاهر، لكن نقل القسطلاني عن "تنقيح المُقنع" من كتب الحنابلة - وعليه الفتوى عندهم - أنّ له ركوبها لحاجة ويضمن نقصَها كمذهب الحنفية. وجزم النووي بالأول في "الروضة" تبعاً لأصله في الضحايا، ونقله في "شرح المهذب" عن القفّال والماوردي، ثم نقل فيه عن أبي حامد والبندنجي وغيرهما تقييده بالحاجة وهو الذي حكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق. وقيّد صاحب "الهداية" من الحنفية جواز ركوبها بالاضطرار إلى ذلك وهو المنقول عن الشَّعبي عند ابن أبي شيبة. وقال ابن العربي عن مالك: يركب للضرورة فإذا استراح نزل. وفي المسألة مذهب خامس وهو المنع مطلقاً، نقله ابن العربي عن أبي حنيفة وشنّع عليه. قال الحافظ: ولكنْ الذي نقله الطحاوي وغيره الجواز بقدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 فَقَالَ لَهُ بَعْدَ مَرَّتَيْنِ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ (1) . 412 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا نَتَجَتِ (2) البَدَنة فلْيَحْمِلْ (3) وَلَدُهَا مَعَهَا حَتَّى يُنْحر مَعَهَا، فإنْ لَمْ يَجِدْ (4) لَهُ مَحْمَلا فلْيَحْمِلْهُ عَلَى أمِّه حَتَّى يُنحر (5) مَعَهَا. 413 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ (6) أَوْ عُمَرَ - شَكَّ مُحَمَّدٌ - (7) كَانَ يَقُولُ: مَنْ أهدى بَدَنَة فَضَلَّتْ (8)   الحاجه إلاّ أنه قال: ومع ذلك يضمن ما نقص منها بركوبه، وضمان النقص وافق عليه الشافعية في الهدي المنذور. ومذهب سادس: وهو وجوب الركوب نقله ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر تمسُّكاً بظاهر الأمر ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من البحيرة والسائبة. واختلف المُجيزون: هل يحمل المهدي عليها متاعه، فمنعه مالك، وأجازه الجمهور (ونقل عياض الإِجماع على أنه لا يؤجرها. انظر فتح الباري 3/538) ، كذا في "الضياء". (1) زجراً له ليعلم أن الضرورات تبيح المحظورات. (2) يقال: نتجت الناقة ولداً على البناء للفاعل على معنى ولدت وحملت، كذا في "المصباح المنير". (3) صاحب البَدَنَة. (4) وليحيى: فإن لم يوجَدْ له محمل حمل على أمه. (5) وجوباً. (6) في موطأ يحيى عن ابن عمر من غير شك. (7) يعني المصنف نفسه. (8) أي الطريق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 أَوْ مَاتَتْ (1) ، فَإِنْ كَانَتْ نَذْرًا أَبْدَلَهَا (2) ، وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا، فَإِنْ شَاءَ أَبْدَلَهَا (3) ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَمَنِ اضْطُرَّ (5) إِلَى رُكُوبِ بَدَنَتَه فليركبْها فَإِنْ نَقَصَهَا ذَلِكَ (6) شَيْئًا تصدَّق بِمَا نَقَصَهَا (7) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. 12 - (بَابُ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ قَمْلة (8) أَوْ نحوَها (9) أَوْ ينتفُ (10) شَعْرًا) 414 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: المُحْرِمُ لا يَصْلُحُ (11) له أن   (1) قبل بلوغ المَحِلّ. (2) أي بمثلها - في نسخة: بدّلها -. (3) والأوَّل الأَوْلى. (4) أي لم يبدله. (5) بصيغة المجهول. (6) أي ركوبها، وحمل متاعه عليه. (7) أي بقيمة نقصها. (8) قوله: قملة، القمل والقَمْلة بالفتح فالسكون، دويّبة تتولد من العرق والوسخ إذا أصاب ثوباً أو بدناً أو شعراً، يقال له بالفارسية (سيش) . (9) في نسخة: غيرها. (10) وكذا إذا حلق شعراً أو قطع. (11) أي لا يحل له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 ينتفَ (1) مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا، وَلا يَحْلِقَهُ وَلا يُقَصِّرَهُ إِلا أَنْ يُصِيبَهُ أَذًى (2) مِنْ رَأْسِهِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، كَمَا أَمَرَهُ (3) اللَّهُ تَعَالَى. وَلا يحلُّ له أن أَنْ يقلمَ أَظْفَارَهُ وَلا يقتلَ قَمْلَةً، وَلا يَطْرَحَهَا مِنْ رَأْسِهِ إِلَى الأَرْضِ وَلا مِنْ جَسِدِهِ (4) وَلا مِنْ ثَوْبِهِ، وَلا يَقْتُلَ الصَّيْدَ وَلا يَأْمُرَ بِهِ (5) وَلا يَدُلَّ عَلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى.   (1) النتف (بركندن) (بالفارسية) . (2) أي فيحتاج إلى حلق شعره أو قصِّه. (3) قوله: كما أمره الله تعالى، أي بقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ} (سورة البقرة: الآية 196) والصيام مفسَّر بثلاثة أيام، والصدقة بإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك بأدنى ما يُطلق عليه الهدي من غنم أو بقر أو إبل، وأو للتخيير، وهذا عند العذر كما تقرّر، وأما عند عدمه فيجب عليه دمٌ مع الإِثم (قال العيني: إذا حلق رأسه أو لبس أو تطيَّب عامداً من غير ضرورة فقد حكى ابن عبد البَرّ في "الاستذكار" عن أبي حنيفة والشافعي وأصحابنا وأبي ثور أن عليه دماً لا غير وأنه لا يخيَّر إلا في الضرورة. وقال مالك: بئس ما فعل وعليه الفدية، وهو مخيَّر فيها، وقال شيخنا زين الدين وما حكاه عن الشافعي وأصحابه ليس بجيد، بل المعروف عنهم وجوب الفدية كما جزم الرافعي. عمدة القاري 10/152) . (4) جلده. (5) وكذا لا يرمي ثوبه في الشمس بقصد قتل القملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 13 - (بَابُ الحِجامة (1) للمُحرم) 415 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لا يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إلاَّ أَنْ يَضْطَرَّ (2) إِلَيْهِ (3) مِمَّا لا بُدَّ مِنْهُ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِأَنْ يَحْتَجِمَ الْمُحْرِمُ (5) وَلَكِنْ لا يَحْلِقُ شَعْرًا. بَلَغَنَا (6) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ. وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.   (1) بالكسر: الاحتجام. (2) قوله: أن يضطرّ، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يحتجم إلا لضرورة، فإن احتجم لغير ضرورة حَرُمَت إن لزم منها قلعُ الشعر، فإن كان في موضع لا شعر فيه فأجازها الجمهور ولا فدية، وأوجبها الحسن البصري، وكرهها ابن عمر، وبه قال مالك: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة أي يُكره لأنها قد تؤدِّي لضعفه كما كره صوم عرفة للحاجّ من أنّ الصوم أخفّ من الحجامة كذا ذكره الزرقاني. (3) أي إلى الاحتجام. (4) أي مما لا فرار ولا علاج فيه إلا الحجامة. (5) إذا خرج الدم لا يضر اتفاقاً، ولهذا جوّزوا له الفصد إجماعاً. (6) قوله: بلغنا ... إلى آخره، أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم، وأخرج مالك عن سليمان بن يسار مرسلاً: أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم احتجم وهو محرم فوق رأسه، وهو يومئذ بلَحْي جَمل - مكان بطريق مكة - ووصله البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن بَحَينة. ولأبي داود والنسائي والحاكم عن أنس أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به (قال الحافظ: الجمع بين حديثَي ابن عباس وأنس واضح بالحمل على التعدّد، أشار إليه الطبري. اهـ. قلت: بل هو المتعيِّن. أوجز المسالك 6/349. قوله بلحي جمل، وقع في بعض الروايات بالتثنية وفي بعضها بالإِفراد واللام المفتوحة ويجوز كسرها والمهملة ساكنة، موضع بطريق مكة) . وفي الباب أخبار كثيرة يحصل بها الكراهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 14 - (بَابُ الْمُحْرِمِ يُغَطِّي (1) وَجْهَهُ) 416 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (2) بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ: رأيتُ (3) عثمانَ بنَ عفان   (1) من التغطية بمعنى الستر. (2) ابن محمد بن عمرو بن حزم. (3) قوله: رأيت عثمان ... إلى آخره، أخرجه مالك أيضاً عن يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أنه قال: أخبرني الفرافصة بن عمير الحنفي أنه رأى عثمان بالعرج يغطي وجهه وهو محرم. ويوافقه ما أخرجه الدارقطني في "العلل" عن أبان بن عثمان عن عثمان أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخمّر وجهه وهو محرم. لكن قال الدارقطني: الصواب أنه موقوف. وبهذا أخذ جماعة من الصحابة ومن بعدهم، منهم الشافعي وغيره. استدل بعضهم له بما أخرجه الشافعي من حديث إبراهيم ابن أبي حرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في الذي وقص: خمّروا وجهه، ولا تخمّروا رأسه. وبما أخرجه الدارقطني في "سننه" عن ابن عمر أنه قال: إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها. واستدل أصحابنا بما أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنَّ رجلاً أوقصته راحلته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اغسلوه بماءٍ وسدر وكفّنوه في ثوبه، ولا تَمَسّوه طيباً، ولا تخمّروا رأسه، ولا وجهه فإنه يُبعث يوم القيامة ملبِّياً. ورواه الباقون ولم يذكروا الوجه. قال أبو عبد الله الحاكم في كتاب "علوم الحديث" ذكر الوجه في هذا الحديث تصحيف في الرواية لإِجماع الثقات الأثبات على ذكر الرأس، ورُدّ بأن التصحيف إنما يكون في الحروف المتشابهة، وأيُّ تشابُه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 بالعَرْج (1) وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي يومٍ صائفٍ (2) قَدْ غطَّى (3) وَجْهَه (4) بقَطيفة (5)   بين الوجه والرأس في الحروف، هذا على تقدير أن لا يذكر في الحديث غير الوجه، فكيف وقد جمع بين الرأس والوجه والروايتان عند مسلم؟ ففي لفظ اقتصر على الوجه وفي لفظ جمع بينهما. واستدلوا أيضاً بقول ابن عمر: ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمّره المحرم. هذا كله في الرجل، وأما المرأة، فأخرج البخاري من حديث نافع عن ابن عمر: لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القُفّازين. ورواه مالك موقوفاً على ابن عمر. وله طرق في البخاري موصولة ومعلَّقة، وأخرج أبو داود والحاكم من حديث ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى النساء في إحرامهن عن النقاب. وأخرج أبو داود وابن ماجه عن عائشة قالت: كان الرُّكبان يمرّ بنا ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محرمات، فإذا حَاذَوْنا سدَلَتْ إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا. وهو محمول على توسيط شيء حاجب بين الوجه وبين الجلباب. وفي الباب آثار وأخبار مبسوطة في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي، و"تخريج أحاديث الرافعي" لابن حجر. (1) بعين مهملة مفتوحة فرَاء ساكنة فجيم، موضع بطريق المدينة. (2) أي من أيام الصيف. (3) قوله: قد غَطَّى وجهه، قال الزرقاني: إنه كان يرى جائزاً. وكذا ابن عباس وابن عوف وابن الزبير وزيد بن ثابت وسعيد وجابر، وبه قال الشافعي. وقال ابن عمر: يحرم تغطية الوجه، وبه قال مالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وفيه الفدية على مشهور المذهب، ولا يجوز تغطية الرأس إجماعاً. (4) قوله: وجهه، قال الباجي: يحتمل أن يكون فَعَل ذلك لحاجة إليه، أي لضرورة دعت إليه، وأن يكون في رأيه مباحاً. وقد خالفه غيره، فقالوا: لا يجوز. (5) قوله: بقطيفة، هي دثار له خَمْل. والدِّثار ما يتدثر به الإِنسان أي ما يتلفّف فيه من كساء أو غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 أُرْجُوان (1) ثُمَّ أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْدٍ، فَقَالَ: كُلُوا، قالوا: ألا تأكل؟ قال: لستُ كهيأتكم، إِنَّمَا صِيد مِنْ أَجْلِي (2) . 417 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَا فَوْقَ الذَّقن (3) مِنَ الرَّأْسِ فَلا يُخَمِّرُهُ (4) الْمُحْرِمُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ نَأْخُذُ، وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم اللَّهُ تَعَالَى. 15 - (بَابُ المُحرم يَغْسِلُ رَأْسَهُ، أَيَغْتَسِلُ؟ (5)) 418 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لا يَغْسِلُ (6) رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِلا من الاحتلام (7) .   (1) بضم الهمزة والجيم: صوف أحمر أي فيه خطوط حمر. (2) فالمدار على النيّة. (3) هو مجتمع لَحْيَيْ الإِنسان. (4) أي فلا يغطّيه فإن الوجه في حكم الرأس. (5) أي بجميع بدنه من غير قصد إزالة وسخه. (6) فكان يعمل بالأفضل. (7) قوله: إلا من الاحتلام، ولا ينافيه ما سبق من غسله لدخول مكة وعشية عرفة، فلعله كان يغسل جسده دون رأسه. قال الشافعي: نحن ومالك لا نَرَى بَأْسًا أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ من غير احتلام، ورُوي أنه عليه السلام اغتسل وهو محرم. ثم أطال الكلام إلى أن قال: وقد يذهب على ابن عمر وغيره السنن، ولو علمها ما خالفها. كذا ذكره البيهقي في "المعرفة" كذا في "المحلّى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 419 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن (1) إِبْرَاهِيمَ (2) ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، والمِسْور (3) بْنَ مَخْرَمة تَمَارَيَا (4) بالأَبْواء (5) ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسل (6) المُحرم رأسَه، وقال (7) المِسْور: لا   (1) قوله: عن إبراهيم ... إلى آخره، ليحيى: مالك عن زيد بن أسلم عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله ... إلى آخره. قال ابن عبد البَرّ: لم يتابع أحدٌ من رواة الموطأ يحيى على إدخال نافع بين زيد وإبراهيم، وهو خطأ لا شك فيه، وهو مما يُحفظ من خطأ يحيى في "الموطأ" وغلطه. وأَمَرَ ابن وضّاح بطرحه (قلت: فإسقاطه من النسخ المصرية ليس بصحيح لأنه موجود في رواية يحيى، وإن كان غلطاً في نفسه. وليس في رواية محمد أيضاً. أوجز المسالك 6/166) . (2) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الحج، وكذا النسائي وابن ماجه، كذا في "إرشاد الساري". (3) قوله: المَسْور، بكسر الميم وسكون السين المهملة وخِفَّة الواو، وابن مخْرمة بفتح الميم وسكون المعجمة ابن نوفل القرشي، له ولأبيه صحبة، ذكره في "الإِصابة" وغيره. (4) أي تشاكّا وتشاحّا وتخالفا في جواز غسل المحرم وعدمه. (5) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمدّ: جبل بين مكة والمدينة وعنده بلد يُنسب إليه، كذا في "النهاية". (6) أي يجوز له. (7) قوله: وقال المسور لا، قال الأُبِّي: الظنّ بهما أنهما لا يختلفان إلا ولكلٍّ منهما مستند. قال عياض: ودلّ كلامُهما أنهما اختلفا في تحريك الشعر إذ لا خلاف في غسل المحرم رأسه في غسل الجنابة، ولا بدّ من صبّ الماء، فخاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 فَأَرْسَلَهُ (1) ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى (2) أَبِي أَيُّوب يَسْأَلُهُ (3) فَوَجَدَهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ (4) وَهُوَ يُستر (5) بِثَوْبٍ، قَالَ: فسلَّمت عَلَيْهِ (6) فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرَسَلَنِي إِلَيْكَ ابنُ عباس   المسور أن يكون في تحريكه باليد قتل بعض دوابّها أو طرحها. وعلم ابن عباس أن عند أبي أيوب عِلمَ ذلك. (1) أي ابن حنين. (2) قوله: إلى، قال ابن عبد البَرّ: فيه أن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر إلا بدليل. (3) أي عن حكم الغُسل للمُحرم. (4) قوله: القرنين، تثنية قرن، وهما الخشبتان القائمتان على رأس البئر وشبههما من البناء ويمد بينهما خشبة يجرّ عليها الحبل المستقى به ويعلو عليها البكرة، ذكره السيوطي. (5) فيه التستّر للغسل. (6) قوله: فسلمت عليه ... إلى آخره، قال عياض والنووي وغيرهما: فيه جواز السلام على المتطهِّر في حال طهارته بخلاف من هو على الحدث، وتعقّبه الوليّ العراقي بأنه لم يصرِّح بأنه ردّ عليه السلام، بل ظاهره أنه لم يَرُدّ لقوله: فقال: من هذا؟ بفاء التعقيب الدالّة على أنه لم يفصل بين سلامه وبينها بشيء، فيدل على عكس ما استدل به فإن قيل: الظاهر أنه ردّ السلام وتَرَكَ ذِكْرَه لوضوحه، وأما الفاء فهي مثل قوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} (سورة الشعراء: الآية 63) قلتُ: لمّا لم يصرِّح بذكر ردّ السلام احتمل الردَّ وعدمه فسقط الاستدلال للجانبين. انتهى. قال الزرقاني: وفيه وقفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 أسألُك (1) كَيْفَ (2) كَانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رأسَه وَهُوَ مُحْرِم؟ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الثَّوْبِ (3) وَطَأْطَأَهُ (4) حَتَّى بَدَا (5) لِي رأسَه، ثُمَّ قَالَ لإِنسان (6) يَصُبُّ الماءَ عَلَيْهِ: اصبُبْ (7) ، فَصُبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ (8) بيده، فأقبل بيده وأدبر، فقال (9) :   (1) أي لأن أسأل. (2) قوله: كيف كان ... إلى آخره، قال ابن عبد البر: فيه أنَّ ابنَ عباس كان عنده علم غسل رأس المحرم، أنبأه أبو أيوب أو غيره لأنه كان يأخذ عن الصحابة. وقال ابن دقيق العيد: هذا يُشعر بأن ابن عباس كان عنده علم بأصل الغسل، وقال القاري: فيه أنه لم يكن النزاع في كيفية غسله لكنها تفيد زيادة في بيان جواز فعله. انتهى. وفيه ما فيه. (3) أي الساتر له. (4) أي أرخاه وأخّره وخفّضه. (5) أي ظهر. (6) لم يُسَمّ في رواية. (7) بضمّ الباء الأولى، أي صبّه. (8) وليحيى: بيديه فأقبل بهما وأدبر - أي بهما -. (9) قوله: فقال هكذا رأيته يفعل، في هذا الحديث فوائد: منها جواز اغتسال المحرم وغسله رأسه، وإمرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعراً. ومنها قبول خبر الواحد وأنّ قبوله كان مشهوراً بين الصحابة. ومنها الرجوع إلى النصّ وترك الاجتهاد والقياس عند وجود النص. ومنها السلام على المتطهِّر في وضوء أو غسل بخلاف الجالس على الحدث. ومنها جواز الاستعانة في الطهارة ولكن الأَوْلى تركها إلاّ لحاجة. واتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وجسده عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 هَكَذَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ نَأْخُذُ (2) ، لا نَرَى بَأْسًا أَنْ يغسلَ المحرمُ رأسَه (3) بِالْمَاءِ. وَهَلْ يَزِيدُهُ (4) الْمَاءُ إلاَّ شعثاً (5) ؟!   الجنابة، بل هو واجب عليه وأما غسله للتبرّد فمذهبنا ومذهب الجمهور جوازه بلا كراهة، ويجوز عند الشافعي غسل رأسه بالسدر والخِطْمي (قال ابن رشد: اتفقوا على منع غسل رأسه بالخطمي، وقال مالك وأبو حنيفة: إن فعل ذلك افتدى، وقال أبو ثور وغيره: لا شيء عليه. بداية المجتهد 1/403 وقال العيني إن غسل رأسه بالخطمي والسدر فإن الفقهاء يكرهونه وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأوجب مالك وأبي حنيفة عليه الفدية وقال الشافعي وأبو ثور لا شيء عليه وفي شرح الوجيز لا يكره الخطمي والسدر وفي القديم يكره ولكن لا فدية عليه وبه قال أحمد انظر أوجز المسالك 6/174) بحيث لا ينتف شعراً ولا فدية عليه ما لم ينتف شعراً، كذا في "شرح صحيح مسلم" للنووي. (1) أي يغتسل في حال الإِحرام. قوله: يفعل، زاد ابن عيينة: فرجعت إليهما فأخبرتهما فقال المسور لابن عباس: لا أُماريك أبداً أي لا أجادلك، كذا في "إرشاد الساري". (2) قوله: نأخذ، لأن المثبتَ مقدَّمٌ على النافي، ولأنّ الأصل الجواز حتى يثبت دليل على منعه لثبوت ذلك بكثير من الروايات. (3) سواء غسل سائر بدنه أم لا. (4) أي لا يزيده إلا شعثاً. (5) قوله: إلا شعثاً، قيل فيه إن الشعث - محرّكة - انتشار الشعر وتفرُّقه وتغيُّره كما ينتشر رأس السوال. ولا شك أن بالماء يحصل الاجتماع والالتئام. انتهى. وفيه نظر، فإن مجرد غسل الرأس دون أن يُنقيَه ويصفيه بالخِطمي أو غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وهو قول (1) أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 420 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ عَطَاءِ (2) بْنِ أَبِي رَباح (3) ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِيَعْلَى بْنِ مُنِيَّة (4) وَهُوَ يَصُبُّ (5) عَلَى عُمَرَ مَاءً وَعُمَرُ يَغْتَسِلُ (6) : اصْبُبْ (7) عَلَى رَأْسِي، قَالَ لَهُ يعلى:   ذلك يدخل الغبار في أصول الشعر وينتشر بعد الجفاف كانتشار أطراف السواك، بل أَزْيَد لفقدان التدهين. فلم يزده الماء إلا شعثاً. (1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مالك والشافعي، وعن ابن عباس قال: يدخل المحرم الحمام، ذكره البخاري تعليقاً ووصله البيهقي والدارقطني من طريق أيوب عن عكرمة عنه قال: يدخل المحرم الحمام، وينزع رأسه، وإذا انكسر ظفره طرحه ويقول: أَمِيطوا عنكم الأذى فإن الله لا يصنع بأوساخكم شيئاً. وحكى ابن أبي شيبة كراهةَ ذلك عن الحسن وعطاء. وهذا كلُّه في مجرد الغسل، وأما غسله بالخِطمي وغيره. فإن الفقهاء يكرهونه. وأوجب مالك والشافعي الفدية عليه، ورخص عطاء ومجاهد لمن لبّد رأسه ذلك، كذا في "عمدة القاري بشرح صحيح البخاري". (2) هو فقيه ثقة فاضل لكنه كثير الإِرسال، مات سنة 114، كذا ذكره الزرقاني. (3) بالفتح اسمه أسلم. (4) هي أمّه، واسم أبيه أمية بن أبي عبيدة بن همام وهو صحابي، مات سنة بضع وأربعين، قاله الزرقاني. (5) أي حال اغتساله. (6) أي في حال إحرامه. (7) مقولة عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 أَتُرِيدُ (1) أَنْ تَجْعَلَهَا (2) فيَّ؟ إِنْ أَمَرْتَنِي صببتُ، قَالَ: اصْبُبْ. فَلَمْ يَزد (3) الْمَاءُ إلاَّ شَعَثًا (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا نَرَى بِهَذَا بَأْسًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ والعامَة مِنْ فُقَهَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. 16 - (بَابُ مَا يُكره لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ) 421 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع، عن ابن عمر (5) : أن رجلا (6) سَأَلَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا يَلْبَسُ (7) المحرمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: لا يَلْبَسُ (8)   (1) قوله: أتريد أن تجعلها فيَّ، قال ابن وهب: معناه إنما أفعله طوعاً لك لفضلك وأمانتك، ولا رأي لي فيه، وقال أبو عمرك أي الفدية إن مات شيء من دوابّ رأسك أو زال شيء من الشعر لزمتني الفدية فإن أمرتني كانت عليك. (2) أي هذه الخصلة. (3) في نسخة: فلن يزيده. (4) فلا ينافي ما ورد من أن الحاجّ أشعث. (5) قال القاري: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة. (6) قال الحافظ: لم أقف على اسمه في شيء من الطرق. (7) قوله: ماذا يلبس المحرم؟، وعند البخاري: ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ وعند البيهقي: نادى رجلٌ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب بذلك المكان. وأشار نافع إلى مقدَّم المسجد أي مسجد المدينة. وللبخاري ومسلم عن ابن عباس: أنه صلّى الله عليه وسلّم خطب بذلك في عرفات لكن ليس في أنه أجاب به السائل فهو محمول على تعدُّده. (8) قوله: لا يلبس، بالرفع خبر عن الحكم الشرعي، أو بمعنى النهي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 القُمُص (1) وَلا الْعَمَائِمَ وَلا السَّرَاوِيلاتِ وَلا البَرَانِس (2) وَلا الخِفاف (3) إِلا أَحَدٌ (4) لا يَجِدُ (5) نَعْلَيْنِ، فيَلْبَس خُفَّيْن وليقطَعْهُما أسفلَ من الكعبين (6) ،   وبالجزم بمعنى النهي، وفي رواية: لا تلبسوا. وإنما ذكر ما لا يجوزُ لُبْسُه مع أنّ السؤال كان عما يجوزُ لُبسه لكون ما لا يُلبس منحصراً، فقال: لا يلبس كذا أي يلبس ما سواه. وهذا على رواية مشهورة. وإلا فعند أحمد وابن خزيمة وأبي عوانة: أن رجلاً سأل ما يجتنب المحرم من الثياب؟ وهذا الحكم أي عدم جواز لُبْس المَخيط من القميص وغيره مخصوص بالرجال. وأما المرأة فيجوز لها جميع ذلك، قاله ابن المنذر كذا في "فتح الباري". (1) قوله: القُمُص، بضمتين جمع قميص، ولا العمائم جمع عِمامة - بالكسر - ما يُلَفّ على الرأس ولا السراويلات جمع سراويل - وهو مفرد - أو جمع سروال. (2) قوله: البرانس، بفتح الموحدة وكسر النون جمع البُرنس بضم وهو قَلْنَسُوة طويلة أو كل ثوب رأسه منه دراعة كانت أو جبّة، كذا في "القاموس". (3) بالكسر جمع خُفّ. (4) بالرفع بدل من فاعل لا يلبس وهو أَوْلَى من نصبه استثناء، قاله القاري. (5) قوله: لا يجد نعلين، ظاهره أنه إذا كان قادراً على النعلين لا يلبس الخفّ مقطوعاً، يعني لا يحل له ذلك لما فيه من إتلاف المال من غير ضرورة، وقد صرّح بهذا ابن نجيم في "البحر الرائق"، وقال العيني في "البناية" إنْ وَجَد النعلين فلبس الخفّين مقطوعين لا شيء عليه عندنا، وعند مالك يفدي، وكذا عند أحمد، وعن الشافعي قولان. وقد بسطت الكلام في هذه المسألة في رسالتي "غاية المقال فيما يتعلّق بالنعال". (6) المراد بهما المَفْصِلان اللذان في وسط القدمين من عند معقد الشِّراك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وَلا تَلْبَسُوا (1) مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا (2) مَسَّهُ الزَّعفران وَلَا الوَرس (3) . 422 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: نَهَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَ المحرمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانٍ (4) أَوْ وَرس، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فيلبسْ خُفَّين. وليقطَعْهما (5) أسفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ. 423 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدثنا نافع، عن ابن عمر أنه كان (6)   (1) هذا الحكم عامّ للرجال والنساء. (2) قوله: شيئاً مسّه الزعفران، قال الطِّيبي: نبَّه بالورس والزعفران على ما في معناهما ممّا يُقصد به الطيب، فيُكره للمحرم الثوب المصبوغ بغير طيب أيضاً. (3) بفتح الواو: نبت أصفر يُصبغ به، قاله في "النهاية". (4) وفي حكمه العصفر. (5) قوله: وليقطعهما، اتَّفق على وجوب القطع بحيث ينكشف الكعب وعدم جواز لُبْس الساتر له الجمهور، وخالف في ذلك أحمد، وحُكي عن عطاء مثله قال: لأن في قطعهما إفساداً، قال الخطابي: يُشبه أن يكون عطاء لم يبلغ الحديث وما أذن فيه رسول الله ليس بفساد والعجب من أحمد فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلّت سنة لم تبلغه، ويشبه أن يكون ذهب إلى حديث ابن عباس فإن فيه: من لم يجد نعلين فليلبس الخفين من غير ذكر القطع. انتهى. وللحنابلة في تصحيح هذا القول أقوال مردودة بسطها العينيّ في "عمدة القاري". (6) قوله: أنه كان يقول، هذا رواه موقوفاً مالك وعبيد الله العمري وليث وأيوب السختياني وموسى بن عقبة كلهم عن نافع كما عند البخاري وأبي داود. وأخرجاه من طريق الليث عن نافع فجعله من جملة المرفوع السابق، فقال بعد قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 يَقُولُ: لا تَنْتَقِبُ (1) الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلا تَلْبَسُ القُفَّازين (2) . 424 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَسْلَمَ يحدّث (3) عبدَ الله بنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى عَلَى طَلْحَةَ (4) بْنِ عبيد الله   ولا ورس ولا تنتقب، وورد ذلك مفرداً أيضاً مرفوعاً عند أبي داود، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كلَّه والخفاف، وأنّ لها أن تُغطِّي رأسها وتسترَ شعرها إلا الوجه فتسدل عليها الثوب سدلاً خفيفاً تستتر به عن أعين الرجال ولا تخمّر لما ورد عن عائشة: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرَّ بنا الركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات، فإذا جاوزنا رفعناه، أخرجه أبو داود وابن ماجه. وعليه يُحمل ما أخرجه مالك عن هشام بن عروة عن زوجته فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نخمّر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصِّديق، كذا في "شرح الزرقاني". (1) قوله: لا تنتقب (جاز لها نقاب لا يمس وجهها، قال في المغني 3/326. فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها، رُوي ذلك عن عثمان وعائشة، وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وإسحاق ومحمد بن الحسن، ولا نعلم فيه خلافاً ... ، وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافياً عن وجهها .... إلخ) ، أي لا تلبس النقاب وهو ما يستر الوجه من البرد ونحوه، وهو يحتمل أن يكون نفياً أو نهياً إلا إذا جافتْ بينه وبين وجهها، قاله القاري. (2) قوله: القُفَّازين، بضم القاف وتشديد الفاء شيء يتخذه نساء العرب ويحشى بقطن يُغطي كفَّيْ المرأة وأصابعها. بالفارسية (دستانه) . (3) أي يرويه له. (4) قوله: طلحة بن عبيد الله، هو أحد العشرة المبشَّرة: طلحة بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 ثَوْبًا مَصْبُوغًا (1) وَهُوَ مُحرم، فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ يَا طَلْحَةُ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَدَر (2) ، قَالَ إِنَّكُمْ - أَيُّهَا (3) الرَهْط - أئمةٌ (4) يَقْتَدِي بِكُمُ النَّاسُ وَلَوْ أنَّ (5) رَجُلا جَاهِلا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ (6) : أَنَّ طَلْحَةَ كَانَ يَلْبَس (7) الثِّيَابَ الْمُصْبَغَةَ في الإِحرام.   عبيد الله بن عثمان بن عمرو القرشي التيمي، يُعرف بطلحة الخير، وطلحة الفيَّاض، وهو من السابقين الأولين شهداء أحد وما بعدها، رُوي عنه قال: سمّاني رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد طلحة الخير، ويوم العُسْرة طلحة الفيّاض، ويوم حنين طلحة الجَوَاد. واستشهد في وقعة "الجمل" سنة ست وثلاثين، وله مناقب جمّة ذكرها ابن الأثير في "أسد الغابة". (1) بغير ورس وزعفران. (2) بفتحتين أي من طين أحمر وليس فيه طيب. (3) خطاب إلى الصحابة. (4) من المجتهدين. (5) قوله: ولو أن رجلاً، يؤخذ منه أن العلماء يُستحب لهم التجنُّب عن مواضع التُّهم، وأنه ينبغي لهم ترك مباح يُحتمل فيه الفتنة. (6) ولم يفرِّق الرأي بين الحلال والحرام، على أن نفس هذا اللون مع قطع النظر عن كونه طيباً لا يليق بالعلماء. (7) قوله: كان يلبس ... إلى آخره، قال الزرقاني: إنما كره عمر ذلك لئلا يقتدي به جاهل فيظن جواز لُبْس المورس والمزعفر فلا حجة لأبي حنيفة في أن العصفر طيب وفيه الفدية، قاله ابن المنذر. وقد أجاز الجمهور لُبْس المعصفر للمحرم. انتهى. وفيه نظر ظاهر فإن الظاهر من أثر عمر أنه كره ذلك لئلاّ يظن جاهل من لُبْس الثوب المصبغ بالمَدَر - ولونه أحمر - جواز لُبْس الأحمر مطلقاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكره أَنْ يَلْبَس الْمُحْرِمُ الْمُشَبَّعُ (1) بِالْعُصْفُرِ (2) وَالْمَصْبُوغَ بِالْوَرْسِ أَوِ الزَّعْفَرَانِ، إِلا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَدْ غُسِلَ، فَذَهَبَ (3) رِيحُهُ وَصَارَ لا ينفَضُّ (4) ، فَلا بَأْسَ (5) بِأَنْ يلبسه. ولا ينبغي للمرأة أن   حتى المعصفر لا لئلا يظن جواز المورس والمعصفر، فإن لون كل منهما أصفر يبعد من رؤيته لونَ المدرِ جوازَه. (1) من أشبع الثوب إذا أكثر صبغه. (2) بضم العين والفاء: نبت معروف يُصبغ به الثوب صبغاً أحمر، يقال له كسم. (3) قوله: فذهب ريحه، يشير إلى أن المنع من المصبوغ بالزعفران والورس إنما هو لريحه لا لنفس اللون، قال العيني في "عمدة القاري": ظاهر الحديث أنه لا يجوز لُبس ما مسَّه الزعفران والورس سواء انقطعت رائحته أو لم تنقطع، وفي "الموطأ" أن مالكاً سُئل عن ثوب مسّه طيب، ثم ذهب ريح الطيب هل يُحرم فيه؟ قال: نعم، لا بأس بذلك، ما لم يكن فيه صباغ زعفران أو ورس، قال: وإنما يُكره لُبْسُ المشبعات لأنها تنفَضُّ وذهب الشافعي إلى أنه إن كان بحيث لو أصابه الماء فاحت الريح منه لم يجز استعماله، وقال أصحابنا: ما غسل من ذلك حتى صار لا ينفضّ فلا بأس بلبسه في الإِحرام، وهو المنقول عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن وطاوس وقتادة والنخعي والثوري وأحمد وإسحاق، وقد روى الطحاوي عن فهد عن يحيى بن عبد المجيد عن أبي معاوية، وعن ابن أبي عمران عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي عن أبي معاوية عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: "لا تلبسوا ثوباً مسّه ورس أو زعفران - يعني في الإِحرام - إلا أن يكون غسيلاً". وهذه الزيادة صحيحة لأن رجاله ثقات. (4) بفتح الفاء وتشديد الضاد أيضاً أي لا يتناثر منه الطيب ولا يفوح منه. (5) قوله: فلا بأس بأن يلبسه، ظاهره أنه يجوز للرجال لبس المزعفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 تتنقَّب (1) فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تُغَطِّيَ (2) وَجْهَهَا فلتَسْدِلْ (3) الثَّوْبَ سَدْلا مِنْ فَوْقِ (4) خِمَارِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وتُجافيه (5) عَنْ وَجْهِهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا. 425 - أخبرنا مالك، حدثنا حميد بن قيس المكي، عن   والمعصفر، وحقق العيني في "شرح البخاري" نقلاً عن شيخه الزين العراقي وأقره أنَّ لُبس المزعفر لغير المحرم جائز، والمراد في النهي الوارد عن تزعفر الرجل فيما أخرجه الشيخان وغيرهما تزعفر بدنه، لكن أكثر كتب فقهائنا ناصّة على كراهة المعصفر والمزعفر للرجل غير المحرم (في الأصل الغير المحرم) فما بالك بالمحرم ويمكن أن يُقال: معنى قوله لا بأس بأن يلبسه ههنا لا بأس به للإِحرام، ولا يضرّ لُبسه للإِحرام إذا ذهب ريحه. وأما كراهته لنفس اللون فهو أمر آخر يُعلم من موضع آخر. (1) أي تلبس النقاب. (2) لمقابلة غير محرم وغير ذلك. (3) قوله: فلتسدل الثوب، يقال: سدلت الثوب أرخته وأرسلته من غير ضمّ جانبيه وإن ضمّتهما فهو قريب من التلفيف. (4) قوله: من فوق خِمارها، بالكسر ما يغطي به المرأة رأسها أي تُرخي الثوب من فوق رأسها على وجهها من غير أن يمسّه، وفسّره القاري بقوله: بكسر أوّلها أي ما تغطي بها وجهها من خشب أو قصب. انتهى، وفيه نظر ظاهر لكونه تفسيراً بما ليس بتفسير. (5) أي تباعد الثوب المسدول عن الوجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ (1) : أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بحُنَين (2) وَعَلَى الأَعْرَابِيِّ (3) قميصٌ بِهِ (4) أَثَرُ صُفرة (5) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أهللتُ (6) بِعُمْرَةٍ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَصْنَعُ (7) ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: انزع (8) قميصَك   (1) مرسل وصله البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود من طرق عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه. (2) قوله: بحنين، بالتصغير وادٍ بالطائف، قال ابن عبد البر: المراد منصرفه من غزوة حنين، والموضع الذي لقيه فيه هو الجعرّانة، ذكره السيوطي. وكانت تلك الغزوة سنة ثمان كما ذكره ابن حزم وغيره. (3) قوله: الأعرابي، قال الحافظ: لم أقف على اسمه. وفي "تفسير الطرطوشي" اسمه عطاء بن أمية، قال ابن فتحون: إن صح هذا فهو أخو يعلى راوي الخبر. (4) أي بذلك القميص. وفي رواية: جبة. (5) أي من زعفران. (6) أي أحرمت. (7) أي في إحرامها وأعمالها. (8) وقوله: انزع قميصك، أي لأنه مخيط لا يحل استعماله في الإِحرام ولم يأمره بالفدية، فأخذ به الشافعي والثوري وعطاء وأحمد في رواية، وقالوا: من لبس في إحرامه ما لا يجوز جاهلاً أو ناسياً، فلا فدية عليه، قال أبو حنيفة وجماعة: يلزمه إذا غطى رأسه ووجهه متعمّداً أو ناسياً يوماً إلى الليل الفدية، وفي أقل منه الصدقة. وفيه أن المحرم إذا لبس مخيطاً لا يجب عليه شَقُّه، بل نزعه خلافاً للشافعي والنخعي والشعبي قالوا: لا ينزعه لئلا يصير مغطياً رأسه. ونحوه عن علي والحسن وأبي قلابة عند أبي شيبة. كذا ذكره العيني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وَاغْسِلْ هَذِهِ الصُّفرة عَنْكَ (1) وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مثلَ مَا تَفْعَلُ (2) فِي حَجِّكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، يَنْزَعُ قَمِيصَهُ وَيَغْسِلُ الصُّفْرَةَ الَّتِي بِهِ (3) . 17 - (بَابُ مَا رُخِّص للمُحرم أَنْ يَقْتُلَ مِنَ الدَّوَابِّ (4)) 426 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابن عمر: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قال: خمسٌ (5) من الدواب   (1) قوله: عنك، أي عن بدنك، كذا فسَّره القاري، وليس بصحيح، بل المعنى عن ثوبك على ما يُستفاد من رواية سعيد بن منصور والبيهقي كما فصّله شرّاح صحيح البخاري. ويُستفاد منه نهي المزعفر للرجال. (2) قوله: ما تفعل في حجك، أي من الأفعال المشتركة بين العمرة والحج دون ما يخص بالحج، ودل هذا أنّ أفعال الحج كانت معلومة عنده. (3) أي ببدن المحرم وثوبه. (4) جمع دابة: هي ما يدبّ على الأرض. (5) قوله: خمس، مفهومه اختصاص الحكم بهذه الخمسة، لكنه مفهوم عدد، وليس بحجة عند الجمهور، وعلى تقدير اعتباره يحتمل أنه عليه السلام اقتصر عليه في وقت، وبيّن في وقت آخر أن غير الخمس يشتركه، فقد ورد عند مسلم من حديث عائشة الاقتصار على الأربع من غير ذكر العقرب، وورد عنها عند أبي عوانة في "المستخرج" ست، هذه الخمسة والحيّة. وأخرج ابن خزيمة وابن المنذر زيادة على الخمسة المذكورة، وهي الذئب والنمر. وعند ابن ماجه من حديث أبي سعيد مرفوعاً: يَقْتُل المحرم الحيةَ والعقربَ والسبعَ العادي والكلب العقور والفأرة. ومن ثم ذهب الجمهور إلى أن الحكم عام في كل مؤذٍ، فليلحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ (1) فِي قَتْلِهِنَّ جُناح (2) الْغُرَابُ (3) وَالْفَأْرَةُ (4) والعَقْرب، والحِدَأَة (5) ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ (6) . 427 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: خمسٌ (7) مِنَ الدَّوَابِّ، مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، والكلب (8) العَقُور، والغُراب، والحِدَأة.   بالحدأة الصقر والبازي وغيرهما من سباع الطيور، وبالعقرب الزنبور والحية ونحوها، وبالفأرة ابن عرس، وبالكلب العقور الأسد، والذئب والنمر وغيرها من سباع البهائم. ومن ثم قيد أصحابنا الغراب بالأبقع وهو الذي يأكل الجِيَف لا غراب الزرع لأنه غير مؤذٍ وقد ورد التقييد بالأبقع في رواية عائشة عند مسلم. والتفصيل في "شرح صحيح البخاري". (1) وعلى غير المحرم ينتفي الجُناح بالأولَى. (2) بالضم أي إثم. (3) أي الذي يأكل الجِيَف وهو الغراب الأبقع. (4) يستوي فيها الوحشية والأهلية. (5) بكسر الحاء وفتح الدال والهمزة مقصوراً، على زنة عِنَبَة. (6) بفتح العين أي المجنون أو الذي يعضّ. (7) في رواية خمس فواسق وتسميتها به بكونها مؤذية. (8) قوله: والكلب، قال النووي: اختلفوا في المراد به فقيل: هو الكلب المعروف خاصة وقيل الذئب وحده. وقال جمهور العلماء: المراد به كل مفترس عادٍ غالباً كالنمر والفهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 428 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ فِي الْحَرَمِ (1) . 429 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (2) قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ يَقُولُ: أَمَر (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ (4) الوَزَغ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.   (1) قوله: في الحرم، الذي يَحْرُم فيه الاصطياد. وقتل الحيوانات للمُحرم. والحلال كليهما، وذلك لكون الحية مؤذية، وقد وردت الأخبار بجواز قتل الأشياء السابق ذكرها وغيرها من المؤذيات في الحرم، وللمُحْرم أيضاً في الحلّ والحرم كليهما. واختلفت الروايات في الأشياء المذكورة، ففي بعضها ورد نفيُ الجُناح عن قتلها للمحرم، وفي بعضها: نفي الجناح عن قتلهن في الحرم. وهما حكمان متغايران ثابتان لا يستلزم أحدهما الآخر وقد اشتبه على بعض الفقهاء أحدهما بالآخر، وورد الجمع بهما في "صحيح مسلم" عن ابن عمر مرفوعاً: خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإِحرام، كذا حققه الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية". (2) قال العيني في "عمدة القاري": فيه انقطاع بين الزهري وسعد. (3) قوله: أمر، ليس في هذه الرواية جواز القتل للمحرم. ولعل المؤلف استدل بإطلاقه فأورده في هذا الباب. (4) قوله: بقتل الوزغ، بفتحتين جمع وزغة، دويّبة معروفة تكون في السقوف والجدران، وكبارها يقال لها سام أبرص. وقد ورد الأمر والوعد بالأجر في قتلها، فعن أم شريك أنها استأمرت النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم في قتل الوزغان فأمرها بذلك، أخرجه البخاري ومسلم. وفي "الصحيحين" أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقاً، وقال: كان ينفخ النار على إبراهيم. وفي "الصحيح" من حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 18 - (باب الرجل يفوته (1) حج) 430 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ (2) بْنِ يَسَارٍ: أنَّ هَبّار (3) بْنَ الأَسْوَدِ جَاءَ (4) يَوْمَ النحر، و (5) عمر ينحر (6) بُدْنَه،   أبي هريرة من قتل وزغة في (في الأصل "من أول ضربة"، وهو تحريف. انظر عمدة القاري 10/186) أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة دون الأولى ومن قتلها في الثالثة فله كذا وكذا حسنة دون الثانية، وعند الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعاً: اقتلوا الوزغة ولو في جوف الكعبة. وفي سنده عمر بن قيس المكي ضعيف. وعند ابن ماجه عن عائشة: أنه كان في بيتها رمح موضوع فقيل لها ما تصنعين بها؟ قالت: أقتل الوزغ، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن إبراهيم لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابّة إلا أطفأت عنه النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ عليه النار فأمر عليه السلام بقتله، كذا في "حياة الحيوان" للدَّميري. (1) قوله: يفوته، بأن أحرم به، ولم يحصل له الوقوف بعرفة في وقته وهو من زوال يوم عرفة إلى صبح يوم النحر. (2) في رواية البخاري في "التاريخ" عن سليمان عن هبّار أنه حدثه. (3) قوله: أن هبّار، بفتح الهاء وتشديد الباء، آخره راء مهملة: ابن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى القرشي، صحابي شهير أسلم بعد فتح مكة، وحَسُن إسلامه، ذكره ابن الأثير في "أسد الغابة". (4) أي بمنى وكان مجيئه للحج من الشام كما ورد في رواية. (5) الواو حالية. (6) أي بمنى يوم النحر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْطَأْنَا (1) فِي العِدَّة كُنَّا نُرى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ فَطُفْ (2) بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ (3) وَانْحَرْ هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَكَ، ثُمَّ احْلِقُوا (4) أَوْ قصِّروا وَارْجَعُوا (5) فَإِذَا كَانَ قابلٌ (6) فَحُجُّوا (7) وَاهْدُوا (8) ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ (9) فَيَصُمْ (10) ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعْتُمْ.   (1) قوله: أخطأنا في العِدّة، بكسر العين وتشديد الدال أي تعداد التاريخ والأيام، وكنا نُرى بصيغة المجهول: أي نظن أن هذا اليوم الذي وصلنا فيه، يوم عرفة يوم الوقوف بعرفة، فلذا تأخّرنا وقد فاتنا الحج فأفتنا فيما نحن فيه. (2) كطواف العمرة. (3) من المُحرمين بالحج. (4) خطاب إلى الجماعة. (5) أي إلى الأوطان. وهذا الأمر إباحة، فلو أقام هناك فالحكم واحد. (6) أي عام مستقبل. (7) قوله: فحجوا، أي قضاءً عن الحج الذي فاته وتحلّل (وفي "مناسك النووي": يلزمه أن يتحلل بعمل عمرة، قال ابن حجر: أي اتفاقاً إلا رواية عن مالك فلو أراد البقاء على إحرامه أثم ويجب عليه التحلل فوراً كما نقله ابن الرفعة عن النص، ومتى خالف وبقي محرماً إلى قابل فحج بذلك الإِحرام لم يصح حجّه. أوجز المسالك 7/240) منه بأفعال العمرة سواء كان الحج الذي أحرم به فرضاً أو نفلاً، فإن النفل يلزم بالشروع عندنا. (8) أي في ذلك العام. (9) أي الهدي. (10) قوله: فليصم. بدل الهدي ثلاثة أيام في الحج أي في أشهره بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا إِلا فِي خَصْلَةٍ (1) وَاحِدَةٍ، لا هديَ (2) عَلَيْهِمْ فِي قَابِلٍ وَلا صَوْمٍ. وَكَذَلِكَ (3) رَوَى الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ؟ فَقَالَ: يحلّ (4) بعمرة   إحرامه، والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا رجعتم أي فرغتم من الحج بمكة أو بعد الرجوع إلى الوطن، فإنّ الأمر موسَّع. واستدل الشافعي ومالك والحسن بن زياد من أصحابنا بهذا الأثر، وقالوا: فائت الحج يتحلّل بأفعال العمرة، ويحج من عام قابل، وعليه دم، فإن لم يجد فصوم، ويوافقهم أيضاً ما أخرجه الشافعي والبيهقي عن أنس بن عياض عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج ومن فاته فقد فاته الحج، فليأت البيت وليطف به سبعاً، ويطوف بين الصفا والمروة سبعاً، ثم ليحلق أو ليقصِّر، وإن كان معه هدي فلينحر، ثم يرجع إلى أهله فإن أدركه الحج من قابل فليحج وليهد، فإن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعاً إذا رجع إلى أهله. وما أخرجه ابن أبي شيبة عن عطاء أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: من لم يُدرك الحج فعليه دم، ويجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل. وهو مرسل ضعيف، كذا ذكره الزيلعي والعيني. (1) أي في حكم واحد من الأحكام المذكورة. (2) أي ليس بواجب عليهم. وأما على الاستحباب فلا يُنكر وعليه يُحمل ما ورد بأمره. (3) قوله: وكذلك روى الأعمش، يوافقه حديث ابن عباس مرفوعاً: من أدرك عرفات فوقف بها وبالمزدلفة فقد تم حجُّه، ومن فاته عرفات فقد فاته الحج، فليحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل. ونحوه من طريق ابن عمر، أخرجهما الدارقطني، وسندهما ضعيف كما بسطه الزيلعي. (4) أي يخرج من العمرة بأفعال العمرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قابلٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ (1) هَدْيًا، ثُمَّ قَالَ: سَأَلْتُ بَعْدَ ذَلِكَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ: مِثْلَ (2) مَا قَالَ عُمَرُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَكَيْفَ (3) يَكُونُ عَلَيْهِ (4) هَدْيٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالصِّيَامُ وَهُوَ (5) لَمْ يتمتَّعْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؟! 19 - (بَابُ الحَلَمة (6) والقُراد يَنْزَعُهُ الْمُحْرِمُ) 431 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ الله بن عمر كان   (1) أي عمر فلو كان واجباً لذكره. (2) أي من غير ذكر الهدي. (3) استبعاد لوجوب الهدي أو الصيام عليه وإيماء إلى الاستدلال على عدمه. (4) أي على فائت الحج. (5) قوله: وهو، أي والحال أنه لم يتمتع في أشهر الحج، والهدي إن قدر عليه وصيام العشرة إن لم يقدر عليه خاصّ بالمتمتع، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بالعمرة إلى الحجّ فَما استيسر من الهَدْي، فمَنْ لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملة} (سورة البقرة: الآية 196) ولعلَّ من حَكَم بالهدي على فائت الحج قاسه على المُحصَر، لكن يبقى الكلام في الصيام. (6) قوله : باب الحلمة والقراد ينزعه المحرم، أي يخرجه من جسد بعيره حالة إحرامه، والقُراد بالضم كغُراب: دويّبة تتعلق بالبعير كالقُمَّل للإِنسان، ويقال له أول ما يكون صغيراً: قمقامة، ثم يصير حمنانة، ثم يصير قراداً، ثم يصير حَلَمة - بفتحتين - كذا قال الدَّميري في "حياة الحيوان"، وقال أيضاً: مذهبنا استحباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 يَكْرَهُ (1) أَنْ ينزعَ المُحرم حَلَمة أَوْ قُرَادًا عَنْ بَعِيرِهِ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ (3) ، قولُ (4) عمرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي هَذَا (5) أعجبُ إِلَيْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَر. 432 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا (6) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن   قتل القراد في الإِحرام وغيره، وقال العبدري: يجوز عندنا أن يقرد بعيره، وبه قال ابن عمر وابن عباس وأكثر الفقهاء. وقال مالك: لا يقرده، وقال ابن المنذرك وممن أباح تقريد البعير عمر وابن عباس وجابر بن زيد وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وكرهه ابن عمر ومالك، وروي عن سعيد بن المسيّب أنه قال في المحرم يقتل قرادة: يتصدق بتمرة أو تمرتين، قال ابن المنذر وبالأول أقول. انتهى. (1) قوله: يكره، لأن تقريده سبب لإِهلاكه، قال مالك: ذلك أحب ما سمعت في ذلك. (2) وأما عن نفسه فلا يُكره لأنه ليس من دوابّ الإِنسان (أما لو ركب القراد على نفسه فلا بأس أن يدفعه لأنه ليس مما يتولّد عن الإِنسان. أوجز المسالك 7/38) . (3) أي بالتقريد من البعير. (4) الآتي ذكره. (5) أي في هذا الأمر. (6) قوله: حدثنا عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن العمري المدني ضعفه جماعة، منهم ابن المديني ويحيى بن سعيد وغيرهما، ووثقه أحمد وابن معين ويعقوب بن شيبة، توفي بالمدينة سنة 171، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الهُدَير (1) ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقرّدُ (2) بَعِيرَهُ بالسُّقيا (3) وَهُوَ مُحرم، فَيَجْعَلُهُ (4) فِي طِينٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ (5) بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.   كذا في "تهذيب التهذيب" وقد بسطت الكلام في توثيقه والاحتجاج به في رسالتي "الكلام المبرور في ردّ القول المنصور"، وفي رسالتي "السعي المشكور في الردّ على المذهب المأثور" كلاهما في بحث زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، والرسالتان المردودتان لبعض أفاضل عصرنا ممن حج ولم يزر قبرَ النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكتب ما كتب. وفي "موطّأ يحيى" في هذه الرواية لم يذكر عبد الله العُمَري بل فيه مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي إلى آخره. (1) بصيغة التصغير. (2) من التقريد وهو نزع القراد من البعير. (3) بالضم: قرية بين مكة والمدينة. (4) أي يُلقي القراد في الطين (قال الموفق: وما لا يؤذي بطبعه ولا يؤكل كالرخم والديدان فلا أثر للحرم ولا للإِحرام فيه ولا جزاء فيه إن قتله، وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: يحرم قتلها وإن قتلها فداها، وإذا وطئ الذباب والنمل تصدَّق بشيء من الطعام. أوجز المسالك 9/36) . (5) قوله: لا بأس به، لأن القراد مؤذية بالطبع وليست بصيد ولا متولدة من بدن الإنسان حتى يحرم إهلاكه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 20 - (بَابُ لُبْس المِنْطَقة (1) والهِمْيان للمُحرم) 433 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ (2) لُبْسَ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا أَيْضًا لا بَأْسَ بِهِ، قَدْ رخَّص غيرُ وَاحِدٍ (3) مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي لُبْس الْهِمْيَانِ للمُحرم، وَقَالَ: استوثِقْ (4) من نفقتك.   (1) قوله: لُبْس المنطقة، قال القاري: المِنْطَقة بكسر الميم وفتح الطاء ما يشدّ به الوسط، والهِمْيان - بكسر فسكون - الكيس الذي تُجعل فيه النفقة ويُشَدّ على الوسط ويشبه تكة السراويل. (2) قوله: كان يكره، أي تنزيهاً، قال ابن عبد البرّ: لم يُنقل كراهته إلاّ عنه وعنه جوازه. ولا يكره عند فقهاء الأمصار وأجازوا عقده إذا لم يكن إدخال بعضه في بعض، ومنع إسحاق عقده، وكذا عن سعيد بن المسيب عن ابن أبي شيبة. وفي "الهداية" و"البناية": لا بأس بأن يشدّ في وسطه الهميان وهو ما يوضع فيه الدراهم والدنانير، وقال مالك: يُكره إن كان فيه (سقط لفظ "فيه" من الأصل) نفقة غيره لأنه لا ضرورة له في ذلك. ولنا أنه ليس في معنى لُبْس المخيط فاستوت به الحالتان. قال ابن المنذر: رخّص في الهميان والمنطقة للمحرم ابن عباس وابن المسيّب وعطاء وطاوس ومجاهد والقاسم والنخعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور غير أن إسحاق قال: ليس له أن يعقد، بل يدخل السيور بعضها في بعض. (3) أي كثير من الفقهاء. (4) قوله: استوثق، أي استحفظ واستحكم ما تنفقه في سفرك، وهذا قول عائشة، ذكره محبّ الدين الطبري، نقله العيني. وفيه إشارة إلى أن الضرورات تبيح المحظورات، فإنّ المحظور في الإِحرام إنما هو لُبْس المخيط حقيقةً أو حكماً لا شدَّه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 21 - (بَابُ الْمُحْرِمِ يَحُكُّ (1) جلدَه) 434 - أَخْبَرَنَا (2) عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ (3) قَالَتْ: سمعتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا تُسأَلُ (4) عَنِ المُحرم، يَحُكُّ (5) جِلْدَهُ؟ فَتَقُولُ: نَعَمْ فَلْيَحُكَّ (6) وليشدُدْ (7) ، وَلَوْ رُبطت (8) يَدَايَ (9) ، ثُمَّ لَمْ أَجِدْ إِلا أَنْ أحكَّ برِجْلَيّ (10) لاحْتَكَكْتُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (11) ، وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.   (1) من الحك (سودن جيزى جيزى) (بالفارسية) . (2) قوله: أخبرنا علقمة، هكذا وجدنا في نسخ عديدة، والصحيح أخبرنا مالك أخبرنا علقمة إلى آخره على ما في بعض النسخ الصحيحة (كذا في الأوجز 7/37) . (3) اسمها مرجانة. (4) بصيغة المجهول: أي يسألها الناس. (5) استفهام بحذف الهمزة، بيان للسؤال. (6) أي المحرم. والأمر للإِباحة. (7) أي ليبالغ في الحك. (8) أي شُدَّتْ، بصيغة المجهول. (9) في نسخة: يداي واحتجت. (10) تثنية رِجل بكسر. (11) أي بجواز الحكّ بشرط أن يكون برفق، لا ينتف شعراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 22 - (بَابُ المُحرم يَتَزَوَّجُ) 435 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ نُبَيْه (1) بْنِ وَهْبٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: أَنَّ عمرَ بنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرْسَلَ (2) إلى أبانَ بنِ عثمان - و (3) أبان أَمِيرُ (4) الْمَدِينَةِ - هُمَا (5) مُحرمان، فَقَالَ (6) : إِنِّي أردتُ أَنْ أُنكح (7) طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ ابنةَ شيبةَ بنِ جُبَيْرٍ، وأردتُ (8) أَنْ تَحْضُرَ ذَلِكَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ (9) أَبَانٌ، وَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عفان قال: قال:   (1) قوله عن نبيه، هو بضم النون - مصغَّراً - بن وهب بن عثمان العبدري أخي بني عبد الدار بن قصيّ قبيلة أي هو أحد منهم، وهو من صغار التابعين، مات سنة 126، وشيخه عمر بن عبيد الله بن معمر بن عثمان بن عمرو بن كعب القرشي جده معمر صحابي، وهو من التابعين، ذكره ابن حبان في "الثقات" كذا في "شرح الزرقاني". (2) أي نُبَيْهاً الراوي كما في رواية لمسلم. (3) الواو حالية وكذا الواو التي بعدها. (4) في "موطأ يحيى" وأبان يومئذ أمير الحاجّ أي من جهة عبد الملك. (5) أي عمر وأبان. (6) أي عمر. (7) قوله: أن أنكح، من الإِنكاح، طلحة بن عمر أي ابنه مع ابنة شيبة، اسمها: أمة الحميد بن جبير بن عثمان بن أبي طلحة العبدري. (8) أي قصدتُ وأحببتُ أن تحضر في مجلس العقد. وفيه دلالة على ندب الإِيذان لحضور العقد. (9) وقال لا أُراه إلا عراقياً، كما في رواية لمسلم، أي آخذاً بمذهب أهل العراق تاركاً للسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَنْكِحُ المحرمُ وَلا يَخْطُبُ وَلا يُنْكَح (1) . 436 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لا يَنكحُ المُحرم وَلا يَخْطُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَلا عَلَى غَيْرِهِ. 437 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا (2) غَطَفان بْنُ طَرِيف أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحرم فَرَدَّ (3) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نِكاحَه. قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ جَاءَ فِي هَذَا (4) اختلاف (5) ، فأبطل أهل (6)   (1) قوله: لا يَنْكِح، بفتح أوله، المحرم بحج أو عمرة أي لا يعقد لنفسه ولا يُنْكَح بضمّ أوله أي لا يعقد لغيره بولاية أو وكالة، ولا يخطب من الخِطبة بالكسر، ويحتمل أن يريد خطبة النكاح. والسرّ في النهي عن هذه الأمور أنها من أمور العيش الدنيوي والإحرام ينبغي فيه ترك الترفُّه والتعيش، ولذا نهي عن التطيب ولُبْس المخيط ونحو ذلك. (2) قوله: حدثنا غطفان، هكذا في النسخ الحاضرة، وفي "موطأ يحيى": مالك عن داود بن الحصين أن أبا غطفان بن طريف المُرِّي أخبره أن أباه ... إلى آخره. وأبو غَطَفان - بفتحات - قيل: اسمه سعد تابعي ثقة، وأبوه طَرِيف ككريم أيضاً من التابعين ونسبته المُرِّيّ - بضم الميم وكسر الراء المشددة - إلى مُرٍّ، قبيلة، ذكره السَّمْعاني. (3) قوله: فردّ نكاحه، ظاهره أنه فسخه بغير طلاق أخذاً بظاهر الحديث وهو قول الشافعية. وعند المالكية يُفسخ بطلقة احتياطاً، ذكره السَّمْعاني. (4) أي في نكاح المُحرم. (5) أي اختلاف الروايات واختلاف العلماء. (6) قوله: أهل المدينة، منهم سعيد بن المسيب والقاسم وسليمان بن يسار، وبه قال الليث والأوْزاعي ومالك وأحمد وإسحاق: أنه لا يجوز للمحرم النكاح، فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 الْمَدِينَةِ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ، وَأَجَازَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ نِكَاحَهُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَهُوَ مُحرم. فَلا نَعْلَمُ (1) أَحَدًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أعلمَ بتزوُّج رسول الله صلى الله عليه وسلم   فعل ذلك فهو باطل، وهو قول عمر وابن عمر وعلي وأبان وغيرهم. وأجاز ذلك إبراهيم النَّخَعي والثوْري وعطاء بن أبي رباح والحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وعكرمة ومسروق وأبو حنيفة وأصحابه. واحتج المانعون بحديث عثمان المذكور سابقاً، وقد رواه الجماعة إلا البخاريّ وابن حِبّان وغيرهما. واحتجّ المجوِّزون بحديث ابن عباس قال: تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم، زاد البخاري في رواية: وبنى بها وهو حلال وماتت بسَرَف. وقال الترمذي: هو حديث حسن صحيح. وفي الباب عن عائشة أخرجه ابن حبان والبيهقي. قالت: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم. وأخرجه الطحاوي أيضاً، وأخرج أيضاً عن أبي هريرة: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم. وكذا أخرجه الدارقطني. وأجاب المجوِّزون عن حديث المانعين بحمل "لا يَنْكح" على منع الوطء فإن النكاح يُستعمل فيه. وفيه سخافة ظاهرة فإن لا يخطُبُ ولا يُنكح بالضم آبيان عن هذا التأويل (قلت: قد ذهب أكثر المؤرخين إلى أنه نكحها بسَرِف ذاهباً إلى مكة وأنه صلى الله عليه وسلم أراد بمكة البناء بها ودعا أهل مكة إلى الوليمة فلم يقبلوها. أفترى أنه صلى الله عليه وسلم ورد مكة ولم يحرم بعد؟ فكيف يُتصوَّر ما قالوا من أنه تزوج وهو حلال؟ انظر الكوكب الدرى 2/104) والكلام في هذا البحث طويل من الطرفين مبسوط في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي وشرح "الهداية" وشرح "صحيح البخاري" للعيني. (1) قوله: فلا نعلم، إشارة إلى ترجيح هذه الرواية بأن ابن عباس أعلم بكيفية تزوُّج ميمونة، وهو يخبر أنه كان في حالة الإحرام، فروايته مقدَّمة على رواية من روى أنها تزوجها حلالاً، كما أخرجه الطبراني في "معجمه" عن صفية بنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   شَيْبة وغيرُه. وههنا أبحاث يظهر بالتَعمُّق فيها ترجيح قول المانع على ما ذهب إليه المجوِّزون: أحدها: وهو أقواها أنه قد رُوي عن ميمونة وهي صاحب القصة أنها تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال. وفي رواية: تزوجني ونحن حلالان بسرف. وفي رواية: بعد أن رجعنا من مكة، أخرجه أبو داود والترمذي ومسلم وأبو يعلى وغيرهم، ولاشك أن صاحب القصة أدرى بحاله من ابن أخته. وثانيها: أنه لو كان كون ابن عباس ابن أخت ميمونة مرجِّحاً، فكذلك يزيد بن الأصم ابن أختها، وهو روى أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً. وابن عباس وإن كان أعلم منه وأفضل منه لكنهما يتساويان في القرابة، ورواية يزيد أخرجها الطحاوي وغيره. وثالثها: أن أبا رافع مولى رسول الله أخبر أنه تزوّجها وهو حلال وكان سفيراً بينهما، كما أخرجه الترمذي وحسّنه وأحمد وابن حبان وابن خزيمة. ولاشك أن الرسول في واقعة أدرى بها من غيره. ورابعها: أن أبا داود أسند عن سعيد بن المسيب أن ابن عباس وهم في أنه تزوجها وهو محرم. وخامسها: أنه لا شك أنّ تزويج ميمونة كان في عمرة القضاء، وإنما اختُلف في أنه كان ذاهباً إلى مكة فيكون في حالة الإحرام، أو راجعاً منها فيكون في حالة الإحلال، وابن عباس كان إذ ذاك صغيراً لم يبلغ مبلغ الرجال، فلا يبعد وهمه وقلة حفظه لهذه الواقعة لصغره، وليس فيه حطّ لشأنه بل بيان لدفع استبعاد وهمه لا سيما إذا خالفه أبو رافع وميمونة. وسادسها: أنه على تقدير صحة روايته يمكن أن يكون معنى قوله مُحرماً أي في الحرم فإن المحرم يستعمل في عرفهم في هذا المعنى أيضاً، وفيه بُعد، كما يشهد به رواية البخاري: تزوّجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 مَيْمُونَةَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ (1) ابْنُ أُخْتِهَا، فَلا نَرَى بِتَزَوُّجِ الْمُحْرِمِ بَأْسًا وَلَكِنْ لا يُقَبِّل (2) وَلا يَمَسَّ حَتَّى يَحِلَّ (3) ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله تَعَالَى. 23 - (بَابُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الْفَجْرِ) 438 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَير الْمَكِّيُّ: أَنَّهُ كان يرى البيتَ (4)   وسابعها: أنه قد يجيء المحرم بمعنى الداخل في الشهر الحرام فيحتمل أن يكون هو المراد ههنا، وفيه بُعد أيضاً نظراً إلى تقابل الحلال. وثامنها: أنه قد تقرر في الأصول أن الحديث القولي مقدّم على الحديث الفعلي، وقد أخذ بهذه القاعدة أصحابنا أيضاً في كثير من المواضع، فبعد ثبوت رواية ابن عباس وقوّته وترجحه على رواية غيره وكون المحرم فيه بمعنى صاحب الإحرام يقال: إنه حكاية للفعل النبوي، وهو مع أنه لاعموم له يُقدِّم عليه حديث المنع القولي، والقول بأن التقدُّم إنما يكون عند التعارض والتعارض إنما يكون بالتساوي ولا تساوي ههنا كما صدر عن العيني في "عمدة القاري" مما لا يعبأ به، فإنه لا شبهه في ثبوت التساوي، والكلام في سند حديث المنع وكذا الكلام في سند روايات يزيد وميمونة وأبي رافع إن كان فهو قليل لا يرتفع به قابلية الاحتجاج به فافهم واستقم. (1) أي والحال أن ابن عباس ابن أخت ميمونة فإنّ أمّه أمَّ الفضل أخت لها. (2) لأن التقبيل والمس ونحو ذلك من دواعي الجماع، وهو مع دواعيه ممنوع عنه في الإحرام. (3) أي يخرج من الإحرام. (4) أي الكعبة أي حوله ومطافه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 يَخْلُو (1) بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ، مَا (2) يَطُوفُ بِهِ أَحَدٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا كَانَ يَخْلُو لأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الصَّلاةَ (3) تَيْنك (4) السَّاعَتَيْنِ. وَالطَّوَافُ لا بُدّ لَهُ (5) مِنْ صَلاةِ رَكْعَتَيْنِ، فَلا بَأْسَ (6) بِأَنْ يطوف سبعاًولا يُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ وَتَبْيَضَّ (7) ، كَمَا   (1) قوله: يخلو، قال الزرقاني: هذا إخبار عن مشاهدة من ثقة لا إخبار عن حكم، فسقط قول أبي عمر (في الأصل أبو عمرو والصواب أبو عمر) أي ابن عبد البر: هذا خبر منكر، يدفعه من رأى الطواف بعدهما وتأخيره الصلاة كمالك وموافقيه، ومن رأى الطواف والصلاة معاً بعدهما. (2) نافية. (3) لعموم الأحاديث الواردة بذالك كما مرَّ ذكرها. (4) أي بعد العصر وبعد الصبح. (5) أي وجوباً (وفي "المحلى" سنة مؤكدة على أصح القولين من الشافعية وهو مذهب الحنابلة. وأوجبهما الحنيفة والمالكية. لكن قال الحنفية: تُجبران بدم وهو القول الآخر للشافعي ويجزئ عنهما المكتوبة عند الشافعي وأحمد. ولا تجزئ عند المالكية. انظر أوجز المسالك 7/126) ويستحب عدم فصلٍ إلا من ضرورة. (6) قوله: فلا بأس بأن يطوف، تصريح بعدم كراهة الطواف في هذه الأوقات التي كُرهت الصلاة فيها. وتأخير ركعتي الطواف، فسقط ما قال ابن عبد البر: كره الثوري والكوفيون الطواف بعد العصر والصبح فإن فعل فلتؤخر الصلاة. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: لعل هذا عند بعض الكوفيين وإلا فالمشهور عند الحنفية أن الطواف لا يُكره وإنما تُكره الصلاة. (7) أي تذهب حُمرته وهو كالتفسير للارتفاع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 صنع (1) عمر بن الخطاب، أويصلي (2) الْمَغْرِبَ. وَهُوَ قَوْلُ (3) أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.   (1) على ما يأتي. (2) قوله: أو يصلي المغرب، أي أو حتى يصلي المغرب في الطواف بعد العصر وإنما قيد بالصلاة لأن النوافل قبل صلاة المغرب بعد الغروب مكروه عندنا لكونه مؤدياً إلى تأخير المغرب، وكذا ركعتا الطواف وإن كانت واجبة لأن إيجابه بفعل العبد لا بإيجاب من الله تعالى. نعم. ينبغي أن تؤدَّى قبل سُنّة المغرب لقوتها بالنسبة إليها إلا من ضرورة. (3) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري والثوري وأبو يوسف ومالك في رواية. واحتجوا بعموم الأخبار الواردة في كراهة الصلاة في هذه الأوقات، وقد وافقهم: أثرُ عمر حيث صلى بذي طوى، ولم يصلِّ في الفور مع أن الموالاة مستحبة. وأثرُ ابن عمر أخرجه الطحاوي عن نافع أن ابن عمر: قدم عند صلاة الصبح فطاف ولم يصل إلا بعد ما طلعت الشمس. وأخرج ابن المنذر وسعيد بن أبي عروبة عن أيوب قال: كان ابن عمر لا يطوف بعد صلاة العصر ولا بعد الصبح. وأثرُ جابر قال: كنا نطوف فنمسح الركن الفاتحة والخاتمة ولم نكن نطوف بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تطلع الشمس بين قرني شيطان، أخرجه أحمد. وأثرُ أبي سعيد الخدري انه طاف بعد الصبح، فجلس حتى طلعت الشمس أخرجه ابن أبي شيبة. وأثرُ عائشة قالت: إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو العصر فطف وأخّر الصلاة حتى تغيب أو تطلع. وذهب عطاء وطاوس وعروة والقاسم والشافعي وأحمد وإسحاق إلى جواز ركعتي الطواف في هذه الأوقات، ويوافقهم حديث جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني عبد مناف، من وَلِييَ منكم من أمر الناس شيئاً فلا يمنعنّ أحداً طاف بهذا البيت وصلّى أي ساعةٍ شاء من ليل أو نهار، أخرجه الشافعي وأصحاب السنن وصححه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 439 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ (1) أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ طَافَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ بِالْكَعْبَةِ (2) فَلَمَّا قَضَى (3) طوافَه نَظَر (4) فَلَمْ يرَ الشمس، فركب (5)   الترمذي وابي خزيمة وغيرهم، وما أخرجه الدارقطني والبيهقي بسند ضعيف عن مجاهد قال: قدم أبو ذر فأخذ بعضادة باب الكعبة، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: لا يصلين أحد بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب إلا بمكة. وفي المقام أبحاث من الطرفين مبسوطة في "فتح الباري" و"عمدة القاري" وقد أطال الكلام في المقام الطحاوي في "شرح معاني الآثار" ورجَّع جوازَ ركعتي الطواف بعد العصر وبعد الصبح قبل الطلوع والغروب من غير كراهة، وكراهتَهما في غيرهما من الأوقات المكروهة كوقت الطلوع والغروب والزوال. وروي ذلك عن ابن عمر ومجاهد والنَّخَعي وعطاء. ولعل المنصف المحيط بأبحاث الطرفين يعلم أن هذا هو الأرجح الأصح، وعليه كان عملي في مكة حين تشرَّفْتُ مرة ثانية بزيارة الحرمين في السنة الثانية والتسعين بعد الألف والمائتين، ولما طفت طواف الوداع بعد العصر حضرتُ المقام مقام إبراهيم لصلاة ركعتي الطواف فمنعني المطوِّفون من الحنفية فقلت لهم: الأرجح الجواز في هذا الوقت وهو مختار الطحاوي من أصحابنا، وهو كافٍ لنا، فقالوا: لم نكن مطَّلعين على ذلك وقد استفدنا منك ذلك. (1) ابن عبدٍ القارِّيّ. (2) قيد به احترازاً عن الطواف بين الصفا والمروة. (3) أي أتمّ. (4) أي إلى جانب المشرق. (5) قاصداً المدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وَلَمْ يُسَبِّحْ (1) حَتَّى أَنَاخَ (2) بِذِي طُوى (3) فسبَّح رَكْعَتَيْنِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، يَنْبَغِي أَنْ لا يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَتَبْيَضَّ (4) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 24 - (بَابُ الْحَلالُ (5) يَذْبَحُ الصيد أويصيده: هَلْ يَأْكُلُ الْمُحْرِمُ مِنْهُ أَمْ لا؟) 440 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْب (6) بْنِ جَثَّامة اللَّيْثِ: أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بالأبواء   (1) أي لم يصل ركعتي الطواف. يقال سبّح بمعنى صلى السُّبْحة - بالضم - وهي ركعتا النافلة. (2) أي أجلس بعيرَه. (3) بالضم اسم موضع بين مكة والمدينة. (4) ليذهب وقت الكراهة. (5) أي غير المحرم. (6) قوله: عن الصَّعب، بالفتح (ابن جَثّامة) بفتح الجيم وتشديد المثلثة، ابن قيس بن ربيعة الليثي، من أجلّة الصحابة، مات في خلافة عثمان على الأصح، (أنه) أي الصعب أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وهو) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (بالأبْواء) بفتح الهمزة وسكون الموحدة: جبل بينه وبين الجُحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً (أو) شك من الراوي (بودّان) بفتح الواو وتشديد الدال المهملة موضع قريب من الجُحفة بينهما ثمانية أميال، كذا قال الزرقاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 أوبودّان، فَرَدَّهُ (1) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي (2) قَالَ (3) : إِنَّا (4) لَمْ نَرُدَّه عَلَيْكَ إِلا (5) أَنَّا حُرُم. 441 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: أَنَّهُ مَرَّ بِهِ (6) قومٌ (7) مُحْرِمون بالرَّبَذَة (8) فاستفتَوْه فِي لَحْمِ صَيْدٍ وجدوا أحِلّةً يأكلونه،   (1) أي الحمار الوحشي. (2) أي من التغيُّر والملال بسبب عدم قبوله الهدية. (3) أي معتذراً أو كاشفاً عن وجه الردّ. (4) قوله: إنا، بكسر الهمزة، لم نردَّه، بفتح الدال روايةً وضمِّه قياساً، قال القاضي عياض في"شرح صحيح مسلم" ضبطناه في الروايات بالفتح، وردّه محققوا أشياخنا من أهل العربية وقالوا: بضم الدال، وكذا وجدته بخط بعض أشياخنا أيضاً، وهو الصواب عندهم على مذهب سيبويه في مثل هذا في المضاعف إذا دخله الهاء أن يُضم ما قبلها في الأمر ونحوه من المجزوم مراعاةً للواو التي توجبها ضمة الهاء، هذا في المذكَّر. وأما في المؤنث مثل (لم نردَّها) فمفتوح. (5) قوله: إلاَّ أنّا، بفتح الهمزة بحذف لام التعليل أي لا نرده لعلة من العلل إلا لأنّا حُرُم بضمتين جمع حرام بمعنى المحرم، قاله الكرماني. وقيل: إنا بكسر أوله ابتدائية. (6) أي بأبي هريرة. (7) قوله: قوم محرمون، هم من أهل العراق، وكان أبو هريرة عند ذلك جاء من البحرين واستقر بالرَّبّذة فطلبوا منه الحكم في لحم صيد وجدوا ناساً من أهل الربذة يأكلونه وهم أحِلَّة - بفتح الهمزة وكسر الحاء وتشديد اللام - جمع الحلال بمعنى غير المحرم. (8) بفتحات: قرية قريب المدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، ثُمَّ قَدِمَ (1) عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ (2) ، فَقَالَ عُمَرُ: بِمَ أفتيتَهم (3) ؟ قَالَ: أفتيتُهم بِأَكْلِهِ، قَالَ عُمَرُ: لَوْ أفتيتَهم بِغَيْرِهِ لأوجعتُك (4) . 442 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ (5) مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ (6) رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى (7) إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ تَخَلَّفَ (8) مِنْ أَصْحَابٍ لَهُ مُحرمين، وَهُوَ غَيْرُ   (1) أي أبو هريرة بالمدينة. (2) أي عن حكم أكل المحرم لحمَ صيد وُجد عند الحلال. (3) أي بأي شيء أفتيتَ الذين سألوا عنك. (4) قوله: لأوجعتك، أي لو أفتيتهم بالحرمة أو الكراهية لأدّبتُك وضربتُك وأوجعتُك بالملامة على فتواك بخلاف الشريعة. ودل هذا الأثر على جواز أكل المحرم لحم صيد ذبحه الحلال لا بأمر المحرم وإعانته. (5) قوله: عن نافع، هو ابن عباس بموحدة وسين مهملة أو عياش بياء تحتية وشين معجمة: أبو محمد الأقرع المدني، ثقة وهو مولى أبي قتادة حقيقةً، كما ذكره النسائي والعِجْلي، وقال ابن حبان: قيل له ذلك للزومه به وإلا فهو مولى عقيلة بنت طلق الغفارية، كذا في "شرح الزرقاني". (6) في السفر عام الحديبية كما في رواية للبخاري، وفي رواية عام عمرة القضاء. (7) قوله: حتى إذا كان ببعض الطريق، كان ذلك في قرية تُعرف بالقاحة على ثلاثة أميال من المدينة كما صرح به في روايات البخاري وابن حبان. وعند الطحاوي أن ذلك بعُسفان وفيه نظر. (8) أي بقي خلفاً متخلفاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 مُحْرِمٍ (1) فَرَأَى حِمَارًا (2) وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى (3) عَلَى فَرَسِهِ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُناولوه سَوْطَهُ (4) ، فَأَبَوْا فَسَأَلَهُمْ أن يناولوه رُمحه (5) ، فأبَوْا (6) ،   (1) قوله: وهو غير محرم، استشكل كونه غير محرم مع أنه لا يجوز مجاوزة الميقات بغير إحرام لا سيما لمن يريد الحج أو العمرة، وأجيب عنه بوجوه ذكرها العيني في "عمدة القاري" وغيره، منها: أنه لم يخرج من المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بعثه إليه أهلها بعد خروجه ليعلمه أن بعض العرب يقصدون الإغارة، ورُدّ بمخالفته صريح بعض الروايات. ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا قتادة ورفقته لكشف عدوٍّ لهم بجهة الساحل، ولقيه في الطريق بعد مجاوزة الميقات، وفي رواية الطحاوي: أنه بعثه على الصدقة فلقيه بعسفان وهو غير مُحرم، ويردّه أيضاً ظاهر بعض الروايات. ومنها: ما ذكره القاضي عياض وغيره أن المواقيت لم تكن وُقِّتت بعد، فإنها عُيِّنت في حجة الوداع. ومنها ما ذكره عليّ القاري أنه لم يُحرم بقصد الإحرام من ميقات آخر وهو الجُحفة فإن المدني مخيّر بين أن يحرم من ذي الحُليفة وبين أن يُحرم من الجحفة. (2) قوله: حماراً وحشياً، وهو مقابل الحمار الأهلي، وقد مرّ في باب المتعة حكم الحمار الأهلي، وأنه حرام عند العامة، وفيه خلاف لا يُعتدّ به. وأما الحمار الوحشي، ويقال له بالفارسية (كَورخر) فحلال بالإجماع وكذا إذا صار أهلياً يوضع عليه الإكاف. وقد ثبت في أخبار متعددة أكل الصحابة بل أكل النبي صلى الله عليه وسلم لحمه، كذا في "حياة الحيوان" للدَّميري، ومختصره "عين الحياة" لتلميذه محمد بن أبي بكر الدَّماميني. (3) أي ركب عليه مستوياً متهيئأً لصيده. (4) في رواية فسقط سوطه من يده فسأل أن يعطوه سوطه. (5) بالضم. (6) قوله: فأبَوا، أي أنكروا أو امتنعوا من مناولة السوط والرمح لعلمهم بأن المحرم لا يجوز له الدلالة على الصيد، ولا الإعانة عليه بوجه من الوجوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 فَأَخَذَهُ (1) ثُمَّ شَدَّ (2) عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بعضُ أَصْحَابِ (3) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَى بَعْضُهُمْ (4) فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ الله وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ (5) فَقَالَ: إِنَّمَا (6) هِيَ طُعمة أطعمَكُمُوها اللَّهُ. 443 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن كَعْبَ الأَحْبَارِ أَقْبَلَ (7) مِنَ الشَّامِ فِي رَكْب (8) مُحرمين (9) حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَجَدُوا لحم صيد (10) فأفتاهم كعب بأكله، فلما   (1) أي السوط. (2) أي حمل عليه. (3) ممن كان مع أبي قتادة. (4) قوله: وأبى بعضهم، أي امتنعوا من أكله ظنّاً منهم أن المحرم لا يجوز له أكل لحم الصيد مطلقاً. (5) أي عن هذه الواقعة. (6) قوله: إنما هي طُعمة، بالضم أي طعام أطعمكموه الله بفضله ورحمته، وفي رواية للبخاري ومسلم: قال: هل منكم أحد أمره أوأشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها، وفي رواية للبخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل معكم منه شيء؟ فقلت: فناولته العضد فأكلها وهو محرم. (7) إلى مكة. (8) بالفتح: جمع راكب أي جماعة. (9) وكانوا قد أحرموا من بيت المقدس كما ورد في رواية. (10) أوصاده حلال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 قَدِمُوا (1) عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ذَكَرُوا ذَلِكَ (2) لَهُ، فَقَالَ: مَنْ أَفْتَاكُمْ بِهَذَا؟ فَقَالُوا: كَعْبٌ، قَالَ: فَإِنِّي أمّرتُه (3) عَلَيْكُمْ حَتَّى تَرجعوا. ثُمَّ لَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ (4) - طَرِيقِ (5) مَكَّةَ - مرَّت بِهِمْ رِجْلٌ (6) مِنْ جَرَادٍ (7) ، فَأَفْتَاهُمْ (8) كَعْبٌ بِأَنْ يَأْكُلُوهُ وَيَأْخُذُوهُ فَلَمَّا قَدِموا (9) عَلَى عُمَرَ ذَكَرُوا   (1) أي بالمدينة وهي ممرّ ركب الشام الذاهبين إلى مكة. (2) أي أكْلَهم لحمَ الصيد في الإحرام. (3) قوله: فإني أمّرته، من التأمير أي جعلته أميراً عليكم لتقتدوا به في سفركم لعلمه وفضله حتى ترجعوا من نُسُككم. (4) أي بين مكة والمدينة. (5) بيان لبعض الطريق. (6) بكسر الراء: أي قطيع وطائفة. (7) بالفتح يقال له في الفارسية (ملخ) وهو حلال بالإجماع من غير ذبح. (8) قوله: فأفتاهم، هذه الفتوة المذكورة في هذه الرواية مخالفة لما ورد عنه أنه حَكَم بالجزاء في قتل الجراد كما في رواية مالك على ما يأتي، وفي رواية الشافعي بسند حسن عن عبد الله بن أبي عمار، قال: أقبلتُ مع معاذ بن جبل وكعب الأحبار في أناس مُحرمين من البيت المقدس بعمرة حتى إذا كنا ببعض الطريق وكعب على نار يصطلي مرت به رِجْلٌ من جرادتين فقتلهما، وكان قد نسي إحرامه ثم ذكر إحرامه فألقاهما، فلما قدمنا المدينة قصَّ كعب على عمر فقال: ما جعلتَ على نفسك يا كعب؟ فقال: درهمين، فقال عمر: بخ بخ، درهمان خير من مائة جرادة. وهذا يثبت أن كعباً رجع عن فتواه بعدم الجزاء، ويحتمل العكس، ولا يُجزم بأحدهما إلا إذا ثبت تأخُّر أحدهما، فيكون ذلك مرجوعاً إليه، ويمكن أن يكون ذلك الاختلاف للاختلاف في الجراد البري والبحري. (9) أي بالمدينة بعد الفراغ من النسك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ (1) عَلَى أَنْ تُفْتِيَهم بِهَذَا (2) ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنْ (3) هُوَ إِلا نَثْرة حُوتٍ ينثره في كل عام مرتين.   (1) أيْ: أيّ شيء بعثك عليه. (2) أي بأكل الجراد وهم محرمون. (3) قوله: إن هو، نافية أي ليس هو أي الجراد إلا نَثْرة حوت - بفتح النون وسكون الثاء المثلثة - هو كالعطسة للإنسان يعني هو شيء يخرج من نثرة حُوت ينثُره بضم الثاء وكسرها أي يرميه متفرقاً مثل ما يخرج من عطس الإنسان من المخاط في كل عام - أي كل سنة - مرتين. يعني فهو صيد بحري وهو حلال بنصّ قوله تعالى: {أحلّ لكم صيد البحر وطعامه} (سورة المائدة: الآية 96) قال الدَّميري: اختلف أصحابنا وغيرهم في الجراد هل هو صيد بحري أو برّي؟ فقيل: بحري لما روى ابن ماجه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الجراد، فقال: اللهم أهلكْ كباره وأفسد صغاره واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء، فقال رجل كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال: إن الجراد نثرة الحوت من البحر، وفيه عن أبي هريرة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة، فاستقبلنا رِجْلٌ من جراد، فجعلنا نضربهُنُ بنعالنا وأسواطنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوه، فأنه من صيد البحر. والصحيح أنه بري لأن المحرم يجب عليه فيه الجزاء، وبه قال عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس وعطاء، قال العبدري: وهو قول الكافة من أهل العلم (قال العيني في "شرح الهداية": الصحيح أنه من صيد البر فيجب الجزاء بقتله وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في قوله الصحيح المشهور، كذا في "البذل"، قلت: وصرح ذوو فروع الحنابلة أيضاً بالجزاء. الكوكب الدري 2/108) إلا أبا سعيد الخدري، وحكاه ابن المنذر عن كعب الأحبار. واحتج لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 444 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَنَّ رَجُلا سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أصبتُ (1) جَرَادَاتٍ بسَوْطي، فَقَالَ: أطْعِم (2) قَبْضَةً (3) مِنْ طَعَامٍ (4) . 445 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ (5) بْنِ الْعَوَّامِ كَانَ يتزود (6) صفيف الظِّباء في الإحرام.   بحديث أبي المهزّم عن أبي هريرة: أصبنا رِجْلاً من جراد، فكان الرّجُل منا يضربه بسوطه وهو محرم، فقيل: إن هذا لا يصلح، فذُكر ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: إنما هو من صيد البحر، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. واتفقوا على ضعفه بضعف أبي المهزّم، اسمه يزيد بن سفيان. انتهى. وقال الدَّماميني: ذكر بعض الحذّاق من المالكية أن الجراد نوعان: برّي وبحري، فيترتب على كلٍّ حُكْمُه وتتفق الأخبار بذلك. (1) أي وجدتُ واصطدتُ في الإحرام. (2) أمر من الإطعام. (3) بالفتح ما حمل كفُّ يدك من الطعام. (4) أي حنطة أو غيرها. (5) قوله: الزبير، هو الزبير بالتصغير ابن العوّام - بتشديد الواو - ابن خويلد أبوعبد الله، ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية. قال النووي في "التهذيب": أسلم بعد إسلام أبي بكر بقليل وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة وشهد بدراً وأحُداً والمشاهد كلها، وقتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين. (6) قوله: كان يتزود، أي يجعله زاداً لسفره في حالة الإحرام. صفيف الظباء، قال القاري: بكسر الظاء جمع الظبي، والصفيف - مهملة وفائين بينهما تحتية -: ما يصفّ من اللحم على اللحم يشوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلِّه نَأْخُذُ، إِذَا صَادَ (1) الحلالُ الصيدَ   (1) قوله: إذا صاد الحلال الصيد، اختلفوا في أكل المُحرم لحم الصيد الذي صاده حلال على أقوال: الأول: أنه لا يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقاً صاده حلال أو غيره لعموم قوله تعالى: {وحُرِّم عليكم صَيْدُ البر مادُمْتُمْ حُرُماً} (سورة المائدة: الآية 96) . وهو قول ابن عمر وابن عباس أخرجه عبد الرزاق، وبه قال طاوس وجابر بن زيد والثوري وإسحاق بن راهويه والشَّعبي والليث بي سعد ومجاهد، وروي نحوه عن علي. واحتج لهم بما مرّ من حديث الصَّعب بن جثّامة حيث امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من قبول لحم صيده وعلله بإحرامه وأجاب الجمهور بأنه تركه على التَّنزه أوعلم أنه صِيد من أجله. ومعنى قوله: {حُرِّم عليكم صيد البر} حُرّم عليكم اصطياده بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم} (سورة المائدة: الآية 95) وقد ورد في أخبار كثيرة إجازة المحرم في أكل لحم الصيد، بل وأكل النبي صلى الله عليه وسلم لحمه في إحرامه. القول الثاني: إنّ الصيد الذي صيد لأجل المحرم وإن لم يأمره ولم يُعِنْه إذا علم المحرم ذلك حرام عليه، وما ليس كذلك فهو حلال إذا لم يُعِنْه، وهو قول عثمان وعطاء والشافعي ومالك وأبي ثور وأحمد وإسحاق في رواية، واحتجوا بحديث صيد البر لكم حلال مالم تصيدوه أو يُصاد لكم، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان والطبراني وابن عدي والطحاوي من حديث جابر، وفي سنده من تُكُلِّم فيه. القول الثالث: أنه حلال للمحرم صِيد له أو لم يُصَد له مالم يُعِنْ عليه ولم يَدُلّ عليه، وهو مرويّ عن عمر وأبي هريرة والزبير وكعب الأحبار ومجاهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 فَذَبَحَهُ (1) فَلا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ مِنْ لَحْمِهِ إِنْ كَانَ (2) صِيد مِنْ أَجْلِهِ أَوْ لَمْ يُصَد مِنْ أَجْلِهِ لأَنَّ (3) الْحَلالَ صَادَهُ وَذَبَحَهُ، وَذَلِكَ (4) لَهُ حَلالٌ فَخَرَجَ مِنْ حَالِ الصَّيْدِ (5) وَصَارَ لَحْمًا (6) فَلا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ مِنْهُ وَأَمَّا الْجَرَادُ فَلا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَصِيدَهُ فَإِنْ فَعَلَ كفَّر (7) ، وَتَمْرَةٌ (8) خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ: كَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا رحمهم الله تعالى.   وعطاء في رواية وسعيد بن جبير وبه قال الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه. وحجتهم حديث أبي قتادة فإن فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم هل أحد منكم أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا، حيث اكتفى فيه على الاستفسار عن الإعانة ولم يقل هل صِيد لأجلكم، ودعوى كونه منسوخاً بحديث الصعب بسندِ أنّ حديث أبي قتادة عام الحديبية وحديث الصعب عام حجة الوداع لا يُسمع فإنه إنما يُصار إليه عند تعذُّر الجمع. وأما قوله أو يصد لكم فمعناه يصد لكم أو بأمركم وإعانتكم. هذا ملخص ما في "عمدة القاري" و"نصب الراية". (1) أي الحلال وقيد به لأن ذبح المحرم الصيد يُحرّمه عليه وعلى غيره. (2) أي سواء صاده الحلال من أجل المحرم أي لإطعامه وهديّته إليه بغير أمره وإعانته. (3) علة للحِلِّيَّة. (4) أي الذبح والصيد للحلال حلال فلا يحرم لا عليه ولا على المحرم. (5) أي للمحرم. (6) كسائر اللحوم التي يجوز أكلها للمحرم. (7) أي أدَّى الكفارة بما شاء ولو قبضة من طعام أو تمرة واحدة. (8) قوله: وتمرة خير من جرادة، يعني تمرة واحدة خير من جرادة قتلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 25 - (بَابُ الرَّجُلِ يَعْتَمِرُ فِي أَشْهُرِ (1) الْحَجِّ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ (2) مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحُجَّ (3) 446 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ (4) بْنَ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي شَوَّالٍ، فَأَذِنَ لَهُ، فَاعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ ثم قَفَل (5) إلى أهله ولم يحجّ (6) .   فيوديها بدلها، قال العيني في "البناية" قصته أن أهل حمص أصابوا جراداً كثيراً في إحرامهم وجعلوا يتصدقون مكان كل جرادة بدرهم فقال عمر: إن دراهمكم كثيرة، تمرة خير من جرادة، وروى مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد أن رجلاً سأل عن جرادة قتلها وهو محرم؟ فقال عمر لكعب: تعال حتى نحكم، فقال كعب: درهم، فقال عمر لكعب: إنك تجد الدراهم، تمرة خير من جرادة. (1) أي شوال وذي القعدة وأوائل ذي الحجة. (2) أي إلى وطنه. (3) أي في تلك السنة. (4) هو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم أمه أم سلمة أمّ المؤمنين، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الله الأسدي المخزومي، روى أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه جمع، مات سنة 83، قاله القاري. (5) أي رجع من مكة. (6) قوله: ولم يحج، قال الزرقاني: فيه دليل على جواز العمرة في أشهر الحج، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: كانوا - أي أهل الجاهلية - يَرَوْن أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، قال العلماء: هذا من مبتدعاتهم الباطلة التي لا أصل لها، ولابن حبان عن ابن عباس قال: والله ما أعمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَلا مُتْعَةَ (1) عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. 447 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لئنْ (2) أعتمرَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَأُهْدِيَ أحبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ الْحَجِّ. قَالَ مُحَمَّدٌ: كلُّ (3) هَذَا حسنٌ وَاسِعٌ (4) إن شاء فعل (5) وإن شاء   رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر المشركين، فإن هذا الحيّ من قريش ومن دان دِينَهم كانوا يقولون ... فذكر نحوه. (1) قوله: ولا مُتعة، بالضم أي لا يجب عليه دم التمتع لأنه مشروط باجتماع العمرة والحج في أشهر الحج بنص الكتاب. (2) قوله: لئن أعتمر قبل الحج، أي في أشهر الحج بأن أكون قارناً. وهو أن يحرم من الميقات بالحج والعمرة معاً، فإذا دخل مكة يعتمر، ولا يخرج من الإحرام إلى أن يحج، أو يكون متمتعاً بأن يحرم من الميقات بالعمرة فيتحلَّل بأفعال العمرة ويحلق أو يقصر، ثم يحرم بالحج من مكة، وأهدي أي أؤدِّي هدياً واجباً وهو دم القران والتمتّع شكراً لأداء النسكين في سفر واحد في موسم واحد أحبُّ إليّ من أن أعتمر في ذي الحجة بعد الحج وإن كان هو أيضاً جائزاً. وذلك لأن في الاعتمار قبل الحج في أشهر الحج إبطالاً لقول المشركين، ومخالفةً تامة لهم حيث كانوا يمنعون عنه. وفيه إيماء إلى الرد على من منع من التمتع من الصحابة، فإن قلت: قد منع عنه عمر وعثمان ومعاوية وقولهم أحرى بالقبول، قلت: قد أنكر عليهم في عصرهم أجلّة الصحابة وخالفوهم في فعلها، والحق مع المنكرين. (3) قوله: كل هذا، أي مما ذُكر من الاعتمار قبل الحج وبعد الحج. (4) أي جائز فعله. (5) أي ما ذُكر من التمتع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 قَرَنَ وَأَهْدَى فَهُوَ (1) أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ (2) . 448 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ (3) أَبِيهِ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ إِلا ثلاثَ عُمَر، إِحْدَاهُنَّ فِي شَوَّالٍ واثنين فِي ذِي الْقِعْدَةِ. 26 - (بَابُ فَضْلِ الْعُمْرَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) 449 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سُمَيٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ مَوْلاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ (4) : جاءت   (1) أي القران أقضل من ذلك لأن فيه جمعاً بين النسكين في إحرام واحد. (2) في نسخة: من ذلك كله. (3) قوله: عن أبيه، أي عن عروة بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم: مرسلٌ وصله أبو داود وسعيد بن منصور عن عائشة: لم يعتمر إلا ثلاث عمر، لا يخالف هذا الحصر ما في الصحيحين عنها أنه اعتمر أربعاً. وعندهما عن أنس أنه اعتمر أربعاً وعمرة الحديبية حيث ردوه من العام القابل، وهي عمرة القضاء وعمرة الجعرانة وعمرة مع حجته، ولأحمد وأبي داود عن عائشة: اعتمر أربع عمر لأنها لم تعدّ التي في حجته لأنها لم تكن في ذي القعدة، بل في ذي الحجة إحداهن في شوال، هذا مغاير لقولها ولقول أنس عندهما، والجمع أنها وقعت في آخر شوال، وأول ذي القعدة وهذه عمرة الجعرانة، واثنين في ذي القعدة عمرة الحديبية وعمرة القضاء، كذا في "فتح الباري" وغيره. (4) قوله: يقول جاءت امرأة، قال ابن عبد البر: هكذا لجميع رواة "الموطأ" وهو مرسل ظاهراً، لكنْ صحّ سماع أبي بكر عن امرأة من بني أسد بن خزيمة يُقال لها أمّ معقل في رواية عبد الرزاق، وفي بعض الروايات تسميتها أم سنان الأنصارية. ورجّع الحافظ بأنهما قصتان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 امرأةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي كنتُ تجهّزتُ (1) لِلْحَجِّ وأردتُه، فَاعْتَرَضَ (2) لِي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ عُمْرة فِيهِ كَحَجَّةٍ (3) . 27 - (بَابُ المتمتِّع مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الهَدْي) 450 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي شَوَّالٍ أَوْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ (4) أَوْ ذِي الحِجّة (5) ، فقد استمتع ووجب عليه الهَدْي (6)   (1) قوله: تجهّزت، أي قصدتُه وهيأتُ أسباب سفره، قالته لمّا قال لها النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من حجّ الوداع: مامنعكِ من أن تخرجي معنا، كما في "سنن أبي داود". (2) أي عرض لي عارض وعاقني عائق وهو مرض الجدري، كذا هو في رواية أبي داود. (3) قوله: فإن عمرة فيه كحجة، رُوي نحوه من حديث ابن عباس عند البخاريّ ومسلم، وجابر عند ابن ماجه، وأنس عند ابن عدي، وأبي طليق عند الطبراني، وغيرِهم عند غيرهم، قال أبو بكر بن العربي: هذا حديث صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، قال ابن الجوزي: فيه أنَّ ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كذا في "عمدة القاري". (4) بفتح القاف وكسرها. (5) بالكسر لا غير. (6) أدناه شاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 أَوِ الصِّيَامُ (1) إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا. 451 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: الصِّيَامُ (2) لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ مِمَّنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا مَا بَيْنَ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ فَإِنْ (3) لَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى. 452 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدثنا ابن شهاب، عن سالم بن   (1) أي ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع (قال ابن قدامة: ولكل واحد من صوم الثلاثة والسبعة وقتان: وقت جواز ووقت استحباب، فأما وقت الثلاثة فوقت الاختيار لها أن يصومها ما بين إحرامه بالحج ويوم عرفة، قال طاوس: يصوم ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة، ورُوي ذلك عن عطاء والشَّعبي ومجاهد والحسن والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي وإن صام منها قبل إحرامه بالحج جاز. وأما وقت جوازها فإذا أحرم بالعمرة وهذا قول أبي حنيفة، وعن أحمد أنه إذا حلّ من العمرة، وقال مالك والشافعي: لا يجوز إلا بعد إحرام الحج. انظر: المغني 3/476 و 477) . (2) أي صيام ثلاثة أيام قبل الحج. (3) قوله: فإن لم يصم، أي في الأيام الثلاثة التي قبل النحر، وهي السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة صام أيام منى، وهي أيام التشريق التي يقوم الحجاج فيها بمنى أي اليوم الحادي عشر والثاني عشر - وهو يوم النفر الأول - والثالث عشر يوم النفر الثاني، وهذا مذهب عائشة وغيرها من الصحابة، وبه قال مالك وغيره وقال أصحابنا وغيرهم: لا يجوز في أيام منى الصوم مطلقاً، وقد ذكر تفصيله في كتاب الصيام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ (1) . 453 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي (2) شَوَّالٍ أَوْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ (3) ، ثُمَّ أَقَامَ (4) حَتَّى يَحُجَّ (5) فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أَوِ (6) الصِّيَامُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، وَمَنْ رَجَعَ (7) إِلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ (8) فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (9) كلَّه نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا رحمهم الله تعالى.   (1) أي مثل قول عائشة رضي الله عنها. (2) بيان لأشهر الحج. (3) أي العشرة الأولى منها. (4) أي بمكة أو حواليها من غير رجوع إلى أهله. (5) أي في تلك السنة. (6) عطف على ما قبله. (7) أي بعد تمام أفعال عمرته. (8) أي في تلك السنة. (9) قوله: وبهذا كله، إشارة إلى ما في هذا الأثر الأخير أو إلى جميع ما تقدَّم من الآثار في هذا الباب. وحينئذ يُستثنى منه حكم صوم أيام منى، وإنما لم يصَّرح به اكتفاءً بما ذكره في كتاب الصيام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 28 - (بَابُ (1) الرَّمْل بِالْبَيْتِ) 454 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ (2) بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الحَرَامي (3) : أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ مِنَ الحَجَر (4) إِلَى الحَجَر.   (1) قوله : باب الرمل بالبيت، أي في طواف بيت الله، وهو بفتح الراء وسكون الميم، سرعة المشي مع تقارب الخطا، وقيل: هو شبيه بالهرولة، وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيه، واتفقوا على كونه مشروعاً، وسببه ما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما قدِموا معتمرين في عمرة القضاء قال المشركون: يقدم عليكم قوم وهنتهم - أي ضعفتهم - حُمَّى يثرب، فأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ولم يأمرهم به في جميع الأشواط شفقةً عليهم، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. واختلفوا في أنه هل هو من السنن التي لا يجوز تركها أم من السنن التي يخيَّر فيها، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والجمهور إلى الأول، ورُوي ذلك عن عمر وابنه وابن مسعود. وذهب جمع من التابعين كطاوس وعطاء والحسن والقاسم وسالم إلى الثاني، وروي ذلك عن ابن عباس. وهذا للرجل، وأما المرأة فلا ترمل بالإجماع لكونه منافياً للستر، كذا في "عمدة القاري". (2) قوله: جعفر، هو جعفر الصادق فقيه، صدوق، إمام مات سنة ثمان وأربعين ومائة، وأبوه محمد الباقر بن علي زين العابدين بن حسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، ثقة فاضل، كذا في "شرح الزرقاني". (3) قوله: الحَرَامي، بفتح الهاء المهملة نسبة إلى حرام بن كعب الأنصاري جَدّ جابر بن عبد الله، ذكره السمعاني. (4) قوله: من الحَجَر، بفتحتين أي من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود يعني في تمام الدورة. وقد رُوي نحوه من حديث ابن عمر عند مسلم والنسائي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الرَّمْلُ ثَلاثَةُ (1) أَشْوَاطٍ (2) من الحجر إلى الحجر. وهو وقول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله تَعَالَى. 29 - (بَابُ المكِّي وَغَيْرِهِ يَحُجُّ أَوْ يَعْتَمِرُ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّمْل) 455 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ رَأَى عبد الله بن الزبير (3)   وأبي داود وابن ماجه، ومن حديث أبي الطفيل في مسند أحمد، وورد من رواية ابن عباس في الصحيحين في ذكر ابتداء الرمل أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يرملوا (معنى الرمل: إسراع الخطو من غير وثب. وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم، ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافاً. المغني 3/373) في الأشواط الثلاثة ويمشوا بين الركنين أي الركن اليماني والحجر الأسود. وجُمع بأن ما في حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء وما في حديث جابر كان في حجة الوداع فهو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلزم الأخذ به. (1) أي في ثلاثة. (2) جمع شوط بالفتح وهو عبارة عن دورة واحدة حول الكعبة. (3) قوله: أنه رأى عبد الله بن الزبير، هو أبو حبيب، ويقال: أبو بكر عبد الله بن الزبير، أحد العشرة المبشرة، الزُّبير - بالضم - بن العوام الأسدي وُلد أول سنة الهجرة ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرّك عليه، كان كثير الصيام والصلاة، وبويع له بالخلافة سنة أربع وستين في آخر عصر يزيد بن معاوية، واجتمع على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعيم (1) ، قَالَ (2) : ثُمَّ رَأَيْتُهُ (3) يَسْعَى (4) حَوْلَ الْبَيْتِ حَتَّى طَافَ الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الرَّمْلُ وَاجِبٌ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ (5) فِي الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وقتله الحجّاج الوالي من طرف عبد الملك بن مروان سنة 72. ومن مآثره أنه بنى الكعبة على قواعد إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والتسليم، كذا في "جامع الأصول" وغيره. (1) قوله: من التنعيم، موضع خارج مكة في الحِلّ، وإنما أحرم منه اتباعاً لعمرة عائشة حيث أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الحج أن تعتمر وتحرم من التنعيم، واستدل به الجمهور على أن ميقات المكي للعمرة الحل، وخصّه بعضُهم بالتنعيم، وذكر الطحاوي أنه ليس بميقاتٍ معيّن كمواقيت الإحرام، بل ميقات المعتمر الحلّ أيّ جهة كانت. (2) أي عروة بن الزبير. (3) أي أخاه عبد الله بن الزبير. (4) أي يدور سعياً ورملاً. (5) من أهل الآفاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 30 - (بَابُ الْمُعْتَمِرِ أَوِ الْمُعْتَمِرَةِ (1) مَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا مِنَ التَّقْصِيرِ وَالْهَدْيِ (2)) 456 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (3) ، أَنَّ مَوْلاةً لعَمْرة (4) ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (5) يُقَالُ لَهَا رُقَيّة أَخْبَرَتْهُ (6) : أَنَّهَا كَانَتْ (7) خَرَجَتْ (8) مَعَ عَمْرة ابْنَةِ عَبْدِ الرحمن إلى مكة،   (قال أحمد: ليس على أهل مكة رمل عند البيت ولا بين الصفا والمروة. المغني 3/376 وفي هامش بذل المجهود 9/147: وفيه أربع مسائل، الأول: حكاه الترمذي عن بعضهم أنه ليس على أهل مكة رمل، وبه قال أحمد، وعند الثلاثة لا فرق بين المكي وغيره. والثاني: الرمل في ثلاثة جوانب كما قاله جمع من التابعين وهو قول للشافعي ضعيف والجمهور منهم الأربعة على الاستيعاب. والثالث: مذهب الجمهور الرمل في الجوانب الأربعة سنة وقال بعضهم: واجب وهو مؤدِّى قول مالك إذ قال بوجوب الدم بتركه. الرابع: أنه في طواف القدوم لا غير عند الحنابلة وهو قول للشافعي والصحيح عنده وبه قلنا إنه في كل طواف يعقبه سعي، وقال مالك في طواف القدوم فإن لم يطف للقدوم ففي طواف الزيارة. انظر حجة الوداع: ص 75) . (1) قوله: أو المعتمرة، قال القاري: أو للتنويع وجمع بينهما ليكون نصاً على اتحاد حكمهما إلا أن التقصير يتعيّن في حق المرأة، ويجوز في حق الرجل، وإن كان الحلق أفضل بالنسبة إليه. (2) عطف على المعتمر أو على ما يجب أو على التقصير وهو الأظهر. (3) ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. (4) بفتح العين. (5) ابن سعد بن زرارة. (6) أي عبد الله. (7) في نسخة: قالت. (8) أي من المدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 قَالَتْ (1) : فَدَخَلَتْ عَمْرة مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ (2) وَأَنَا مَعَهَا. قَالَتْ: فَطَافَتْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ (3) الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ دَخَلَتْ (4) صُفّة (5) الْمَسْجِدِ، فَقَالَتْ (6) : أمعكِ (7) مِقَصّان (8) ؟ فَقُلْتُ: لا، قَالَتْ: فالْتَمِسِيه (9) لِي، قَالَتْ: فالتمستُه حتى جئتُ به (10) ، فأخذتْ من   (1) أي رقية. (2) قوله: يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمِّي به لأن التروية الفكر والتردد، وقد وقع فيه التردد لإبراهيم على نبينا وعليه السلام حين رأى في منامه ليلة الثامن ذبح ولده في أن هذا المنام رحماني، أو شيطاني، وحصل له العرفان بأنه رحماني يوم التاسع، فسُمِّي عرفة، كذا قيل. وذكر القاري في "شرح منسك رحمة الله السندي" أنه إنما سُمِّي به إنهم كانوا يروون إبلهم فيه، أي يسقونها الماء استعداداً لوقوف يوم عرفة إذ لم يكن في عرفات ماء جارٍ كزماننا. (3) أي سعت بين الصفا والمروة. (4) أي عَمْرة. (5) قوله: صُفّة المسجد، قال الزرقاني: بضم الصاد مفرد صُفَف كغُرفة وغُرَف، قال ابن حبيب: مؤخر المسجد، وقيل: سقائف المسجد. (6) أي لرقية. (7) بهمزة استفهام. (8) قوله: مِقَصّان، بكسر الميم وفتح القاف والصاد المشدّدة، قال الجوهري: المقص المقراض، وهما مقصان. (9) أي اطلبيه لي من عند شخص ههنا. (10) أي بالمقص عند عَمْرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 قُرُونِ (1) رَأْسِهَا، قَالَتْ (2) : فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ ذَبَحَتْ (3) شَاةً. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لِلْمُعْتَمِرِ وَالْمُعْتَمِرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ يقصِّر مِنْ شَعْرِهِ إِذَا طَافَ (4) وَسَعَى (5) ، فَإِذَا كَانَ يومُ النَّحْرِ ذَبَح (6) مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. 457 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيًّا (7) كَانَ يَقُولُ: مَا اسْتَيْسَرَ (8) من الهدي شاة.   (1) قوله: من قرون، جمع قرن أي من ضفائر رأسها، قاله الزرقاني. وقال القاري: أي فقطعت من رؤوس شعر رأسها قدر أنملة من جميعها. (2) أي رقية. (3) قوله: ذبحت شاة، أي ذبحت عَمْرة يوم العاشر من ذي الحجة بمنى شاة لتمتُّعها لكونها اعتمرت في أشهر الحج، ثم حَلّت من إحرامها بتقصير الشعر، ثم أحرمت بالحج وحجت. (4) بالبيت. (5) بين الصفا والمروة. (6) بعد الرمي قبل الحلق. (7) ابن أبي طالب. (8) قوله: ما استيسر، أي المراد من قوله تعالى: {فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} (سورة البقرة: الآية 196) شاة وهو أدناه. وهذا هو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، رواه الطبراني وأبو حاتم عنهم بأسانيد صحيحة، وروَوْا بأسانيد قوية عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان {ما استيسر من الهَدْي} إلا من الإبل والبقر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 458 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ بَعِيرٌ (1) أَوْ بَقَرَةٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ عليٍّ نَأْخُذُ، مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شَاةٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (2) وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 31 - (بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ) 459 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أنَّ ابنَ عُمَرَ اعْتَمَرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ (3) حَتَّى إِذَا كَانَ بقُديد (4) جَاءَهُ خَبَرٌ (5) مِنَ الْمَدِينَةِ، فرجع فدخل مكّة بغير (6) إحرام.   ووافقهما القاسم وطائفة، وقد أخرج الطبري بإسناد صحيح إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال ابن عباس: الهدي شاة، فقيل له في ذلك؟ أي إنه لا يقع اسم شاة على الهدي، فقال: أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ماتقوون به؟ ما في الظبي؟ قالوا: شاة. قال: فإن الله يقول: {هدياً بالغ الكعبة} كذا في "ضياء الساري" (وانظر فتح الباري 3/535، وأوجز المسالك 7/248) . (1) قوله: بعير أو بقرة، محمول على الاستحباب فإنه قد مرّ عنه أنه قال لو لم أجد إلا أن أذبح شاة لكان أحب إلى من أن أصوم. (2) وبه قال الأئمة الثلاثة الباقية. (3) أي من مكة يريد المدينة. (4) مصغّراً: موضع بين مكّة والمدينة قرب مكة. (5) أي خبر مانعٌ من توجّهه إلى المدينة، وهو خبر وقوع الفتنة في المدينة كما صُرِّح به في رواية عبد الرزاق. (6) قوله: بغير إحرام، قال الزرقاني: احتج به ابن شهاب والحسن البصري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، مَنْ كَانَ (1) فِي الْمَوَاقِيتِ أَوْ دُونَهَا إِلَى مَكَّةَ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ وَقْتٌ مِنَ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي وُقِّتت فلا بأس أن   وداود وأتباعه على جواز دخول مكة بلا إحرام، وأبى ذلك الجمهور (إن من أراد أن يدخل مكة يجب أن يدخلها محرماً إذا كان آفاقياً يمرّ على الميقات سواء كان أراد الحج أو العمرة أو لا عند أبي حنيفة ومالك وأحمد وهو أشهر القولين عند الشافعية كما في شرح المهذَب 7/11) . قال ابن وهب عن مالك: لست آخذ بقول ابن شهاب وكرهه، وقال: إنما يكون ذلك على مثل ما عمل ابن عمر من القرب. وقال إسماعيل القاضي: كره الأكثر دخولها بغير إحرام، ورخصوا للحطّابين ومن يكثر دخولهم، ولمن خرج منها يريد بلده ثم بدا له أن يرجع كما صنع ابن عمر، وأما من سافر إليها في تجارة أو غيرها فلا يدخلها إلا محرماً. (1) قوله: من كان في المواقيت، المقررة للإحرام أي في أنفسها أو دونها أي أسفل منها وأقرب إلى جهة مكة ليس بينه وبين مكة وقت أي ميقات من المواقيت التي وُقّتت - بصيغة المجهول - أي عُيِّنت، وفيه احتراز عمّن بين ذي الحليفة والجُحفة فإنهم وإن كانوا داخل ميقات ذي الحليفة لكن بينهم وبين مكة ميقات آخر، فلا يجوز لهم مجاوزته بغير إحرام، فلا بأس أن يدخل مكة بغير إحرام كما صنع ابن عمر، وهذا إذا لم يُرد أحد النسكين، وإلا فالإحرام لازم. وأما من كان خلف المواقيت أي في جهة مخالفةٍ لجهة مكة أيّ وقت من المواقيت التي بينه وبين مكة فلا يدخلنّ مكة - سواء قصد نسكاً أو لم يقصد - إلا بإحرام لأحد النُّسُكين، وأما إن لم يُرد دخول مكة بل أراد حاجة فيما سواها فلا إحرام عليه بلا خلاف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتَوْا بدراً مارِّين بذي الحليفة ولم يحرموا وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا، وبه قال الجمهور. وقال العيني في "عمدة القاري": وهو قول عطاء بن أبي رباح والليث والثوري ومالك في رواية، وهو قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ وَأَمَّا مَنْ كَانَ خَلْفَ الْمَوَاقِيتِ أَيَّ وَقْتٍ مِنَ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ فَلا يَدْخُلَنَّ مَكَّةَ إِلا بِإِحْرَامٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 32 - (بَابُ فَضْلِ الحَلْق (1) وَمَا يُجزئ (2) مِنَ التَّقْصِيرِ) 460 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ ضَفَر (3) فليحلِقْ، وَلا تُشبِّهوا بالتلبيد.   الصحيح، والشافعي في المشهور عنه، وأحمد وأبي ثور، وقال الزهري والحسن البصري والشافعي في قول ومالك في رواية، وداود بن علي وأصحابه من الظاهرية: لا بأس بدخول الحرم بغير إحرام. انتهى. وقد مرّ بعض ما يتعلق بهذا البحث غير مرة وسيجيء ذكُر ما استَدلّ به المخالفون مع جوابه إن شاء الله تعالى. (1) أي حَلْق الرأس عند التحلل من الإحرام. (2) أي يكفي. (3) قوله: من ضفر، بالضاد المعجمة والفاء (مخففة ومثقلة، كذا في الأوجز 7/330) ، أي جعل شعر رأسه ضفائر كل ضفيرة على حدة. فليحلق، ظاهره الوجوب. ولا تُشبِّهوا، بالضم أي تلبّسوا علينا. فتفعلوا ما يشبه التلبيد. وروي بفتح التاء أي لا تتشبهوا بالتلبيد، هو أن يجعل على رأسه قبل الإحرام لزوقاً كالصمغ ونحوه ليتلبّد شعره أي يلتصق بعضه ببعض، فلا ينتشر ولا يقمل، ولا يصيبه الغبار. وظاهر هذا الأثر أنّ الحلق واجب عند عمر لمن ضفَر. ويجوز القصر لمن لبّد لأنه أشد منه، وفي رواية عنه كما في "موطأ يحيى": من عقص رأسه أو ضفر أو لبّد فقد وجب عليه الحلاق. وإنما جعله واجباً لأن هذه الأشياء تقي الشعر من الشعث، فلما أراد حفظ شعره وصَوْنه ألزمه حلقَه مبالغةً في عقوبته، وإلى هذا ذهب مالك والثوري وأحمد والشافعي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 461 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عن ابن عمر: أنَّ رسولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (1) : اللَّهمّ ارْحَمِ المحلِّقين، قَالُوا (2) : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهم ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: والمقصِّرين يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهم ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: والمُقَصِّرِين يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (3) والمُقَصِّرِين. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذ، من ضفر فليحلِق (4) ، والحلق أفضل   القديم، وقال في الجديد كالحنفية: لا يتعيّن الحلق مطلقاً إلا إنْ نَذَره أو كان شعره خفيفاً لا يمكن تقصيره، كذا في "شرح الزرقاني" والقاري. (1) قوله: قال، أي في حجة الوداع كما ورد في رواية أحمد وابن أبي شيبة ومسلم والبخاري، أو في الحديبية كما ورد عند الطبراني وغيره. ورجّح ابن عبد البَرّ الثاني. وقال النووي في الأول: إنه الصحيح المشهور، وجمع القاضي عياض وابن دقيق العيد بوقوعه في الموضعين. (2) قوله: قالوا والمقصرين، أي قل: وارحم المقصرين، فإن بعض الأصحاب كانوا عند ذلك مقصِّرين، فأرادوا شمولهم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: لم أقف في شيء من طرقه على الذي تولّى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد. (3) قوله: قال والمقصرين، أي في المرة الرابعة بعد ما دعا للمحلِّقين فقط ثلاثاً، وفي معظم الروايات عن مالك الدعاء للمحلِّقين مرتين وعطف المقصِّرين في الثالثة، وكذا وقع الاختلاف في رواية غيره في الصحيحين وغيرهما. (4) أي استحباباً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 من التقصير، والتقصير يُجرئ (1) . وهو قول (2) أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 462 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا حَلَقَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ (3) وَمِنْ شَارِبِهِ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ (5) هَذَا بِوَاجِبٍ، مَنْ شَاءَ فَعَلَهُ. وَمَنْ شاء لم يفعله.   (وذكر الشيخ في "المسوَّى" على أثر الباب: وعليه أبو حنيفة، وفي "العالمكَيرية" لو تعذّر الحلق لعارض تعيّن التقصير أو التقصير لعارض تعيّن الحلق كأن لبّده بصمغ فلا يعمل فيه المقراض ومتى نقض تناثر بعض شعره وذلك لا يجوز للمحرم قبل الحلق. أوجز المسالك 7/332) . (1) قوله: يجزئ، أي يكفي، وإذا لم يكن له شعر فيُمرّ الموسى على رأسه. (2) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال العيني في "عمدة القاري": قد أجمع العلماء على أن التقصير مجزئ في الحج والعمرة معاً إلا ما حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري أنه كان يقول: يلزمه الحلق في أول حجّة، وحُكي ذلك عن النخعي عند ابن أبي شيبة. (3) أي من طولها وعرضها، إذا زاد على القدر المسنون، وهو قدر القبضة. (4) أي أخذ من شاربه قصَّاً ونهكاً، لا حلقاً. (5) قوله: ليس هذا بواجب، أي ليس أخذ اللحية والشارب واجباً بل مسنون أو مستحب، أو يقال: ليس هذا من واجبات الحج ومناسكه كحلق الرأس وتقصيره، وإنما فعله ابن عمر اتفاقاً (اختلفوا في ما طال من اللحية على أقوال، الأول: يتركها على حالها ولا يأخذ منها شيئاً وهو مختار الشافعية، ورجحه النووي وهو أحد الوجهين عند الحنابلة. الثاني: كذلك إلا في حجّ وعمرة فيستحب أخذ شيء منها، قال الحافظ: هو المنصوص عن الشافعي. الثالث: يستحب أخذ ما فحش طولها جداً بدون التحديد بالقبضة، وهو مختار الأمام مالك رحمه الله، ورجّحه القاضي عياض. الرابع: يُستحب ما زاد على القبضة وهو مختار الحنفية انظر: أوجز المسالك 15/6) . وفي الأثر إشعار بأن أخذ الشارب هو السنَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 33 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَقْدَمُ (1) مَكَّةَ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ فَتَحِيضُ قَبْلَ قُدُومِهَا (2) أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ) 463 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ الَّتِي تُهِلُّ (3) بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ تُهِلُّ (4) بِحَجَّتِهَا أَوْ بِعُمْرَتِهَا إِذَا أَرَادَتْ، وَلَكِنْ لا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا والمروة حتى تَطَّهّر (5) ،   دون الحلق كما صرح به في "الهداية" بل قيل: إن الحلق بدعة، وجنح الطحاوي في "شرح معاني الآثار" إليه، لكن لم يأتِ بما يفيده والتفصيل في شرحه للعيني. (1) من باب علم يعلم. (2) أي قبل دخولها مكة. (3) أي تحرم. (4) قوله: تهل، أي يجوز لها أن تحرم بالحج أو بالعمرة إذا أرادت ذلك لأن الحيض وكذا النفاس لا يمنعان عن جواز إحرامها في أيّ وقت شاءت فتغتسل لإحرامها لكن لا تُصلي سُنّة الإِحرام، ولا تطوف بالبيت إذا دخلت مكّة طواف العمرة أو طواف القدوم، لأن الطهارة شرط في صحة الطواف، ولأن الطواف يكون بالمسجد الحرام وهي ممنوعة عن دخول كل مسجد، وكذا لا تسعى بين الصفا والمروة لأنه وإن كان جائزاً بغير طهارة لكنه متوقف على وجود طواف قبله، وإذا ليس فليس. (5) أي بانقطاع الحيض والغسل، وهو بفتح التاء والطاء المشدّدة وشدّ الهاء على حذف إحدى التائين، وبفتح التاء وسكون الطاء وضم الهاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 وَتَشْهَدَ (1) الْمَنَاسِكَ كلَّها مَعَ النَّاسِ غَيْرَ أَنَّهَا لا تَطُوفُ (2) بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلا تَقْرَبُ (3) الْمَسْجِدَ وَلا تحِل (4) حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. 464 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنها قالت: قدمتُ (5) مكّةَ و (6) أنا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ (7) بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فشكوتُ ذَلِكَ (8) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: افْعَلِي (9) مَا يفعلُ الحاجُّ (10) غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطّهَري.   (1) وقوله: وتشهد المناسك، أي مناسك الحجّ كلها من الوقوف بعرفة وبمزدلفة ورمي الجمار وغيرها لأنها ليست في المسجد ولا شرط لها الطهارة. (2) أي طواف الإِفاضة. (3) قوله: ولا تقرب المسجد، مبالغة في النهي والغرض نفي الدخول ولو لغير طواف. (4) قوله: ولا تحل، أي لا تخرج من الإِحرام حتى تطوف طواف العمرة أو طواف الإِفاضة وتسعى بعده. (5) أي في حجة الوداع. (6) الواو الحالية. (7) لكون الطواف محرَّماً في الحيض وكون السعي موقوفاً عليه. (8) أي ما وقع لي. (9) قوله: افعلي، أي ارفضي عمرتك وأحرمي بالحج وافعلي جميع أفعاله. (10) أي من مناسكه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 465 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا (1) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ (2) حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا (3) بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم: من (5) كان معه   (1) من المدينة. (2) قوله: عام حجة الوداع، وهو عام عشرة من الهجرة، وهي السنة التي حج فيها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أصحابه وهي آخرحجّته، وسميت تلك السنة بعام حجة الوداع، لأنّه ودّع الناس فيها، وقال: خذوا عني مناسككم لعلي لا أحج بعد عامي هذا. (3) قوله: فأهللنا بعمرة، ظاهرة أن عائشة كانت محرمة بالعمرة مفردة، وقد صرح به في رواية عنها عند البخاري وغيره: وكنتُ ممن أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحجّ، ومنا من أهلّ بحج وعمرة. وفي رواية عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نُرى إلا أنه الحجّ فلما قدمنا مكة تطوّفنا بالبيت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهَدْي أن يحل أي من الحج بعمل العمرة وهو فسخ الحج، وهذا محمول على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج، فخرجوا لا يعرفون إلا الحج، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم - دفعاً لاعتقادهم - بفسخ الحج إلى العمرة، وقيل: إنها كانت أحرمت بالحج أولاً فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ فسخت إحرام الحج وأحرمت بالعمرة، والتفصيل في "فتح الباري". والعجب من القاري أنه قال: إنها كانت مُفْرِدة بالحج بالاتفاق، وكان فسخها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. فإن إحرامها قد اختلفت الروايات فيه اختلافاً كثيراً فأين الاتفاق؟! (4) أي بسرف قرب مكة، كما في رواية عند البخاري. (5) قوله: من كان معه هَدْي، بالفتح اسم لما يُهدى إلى الحرم من الأنعام، وسَوْق الهَدْي سنة لمريد الحج والعمرة. فليُهلّ، أي ليحرم بالحج والعمرة معاً. ثم لا يَحِلّ، بفتح أوله وكسر ثانيه أي لا يخرج من الإحرام. حتى يحلّ منهما، أي الحج والعمرة جميعاً بعد الفراغ من مناسك الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 هَدْيٌ فليُهلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يُحِلَّ حَتَّى يحلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، قَالَتْ: فقدِمْتُ مكّةَ وَأَنَا حَائِضٌ (1) وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ (2) ُذلك إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: انقُضِي (3) رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وأهلَّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ، قَالَتْ: ففعلتُ، فَلَمَّا قضيتُ (4) الْحَجَّ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمِ (5) فاعتمرتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ مَكَانَ عمرتك،   (1) جملة حالية، وكان ابتداء حيضها بسَرَف كما في رواية. (2) قوله: فشكوت ذلك، أي لما دخل عليها وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: لا أصلي، وكان شكواها يوم التروية، كما في "صحيح مسلم". (3) قوله: انقُضِي، بضم القاف وكسر الضاد. رأسك، أي حلِّي ضفر شعره. وامتشطي، أي سرِّحي شعرك بالمشط. وأهلِّي، أي بالحج لقرب أيامه. ودعي، أي اتركي العمرة، وظاهره أنها كانت مفردة بالعمرة فنقضت إحرامها، وقضت تلك العمرة بعد أيام الحج حين قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يرجع الناس بحج وعمرة، وأرجع أنا بحج، ليس معها عمرة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة بالتنعيم، وقال: هذه مكان عمرتك أي هذه العمرة عوض عمرتك السابقة برفع المكان أو نصبه أي مجعولة مكان عمرتك، وقد وقع في هذا الباب روايات مخالفة لهذا دالة على أنها كانت قارنة ولم تنقض إحرام العمرة بل أهلّت بالحج، ولما طهرت طافت بالكعبة وسعت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حللت من حجك وعمرتك، قالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، فأعمرها بالتنعيم، وهو في "صحيح مسلم" من حديث جابر، لكن لا يخفى أن خبر صاحب القصة عن نفسه أحرى بالقبول من خبر غيره. (4) أي أدّيت. (5) موضع قرب مكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وَطَافَ الَّذِينَ حَلَّوْا (1) بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا (2) آخَرَ بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى. وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا (3) الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا (4) طَوَافًا وَاحِدًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ (5) كلَّها غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفَ وَلا تَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمروة حتى تَطّهّر، فإن كانت أهلَّتْ (6)   (1) أي خرجوا من إحرام العمرة بالحلق أو التقصير وكانوا مُحرمين بالعمرة مفردة. (2) هو طواف الزيارة للحج. (3) أي قرنوا. (4) قوله: فإنما طافوا طوافاً واحداً، هذا نص في أنه يكفي الطواف الواحد والسعي الواحد للحج والعمرة كليهما للقارن، ونحوه ما روي عن ابن عمر مرفوعاً: من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد، أخرجه ابن ماجه والترمذي، وقال: حسن غريب. وفي سنن ابن ماجه عن ابن عباس وجابر وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه إلا طوافاً واحداً لحجتهم وعمرتهم، ونحوه عند الترمذي والدارقطني عن جابر وعند الدارقطني عن ابن عباس وأبي قتادة وأبي سعيد، وسند بعضها ضعيف، ويخالف هذا ما أخرجه النسائي عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين، ونحوه عند الدارقطني عن ابن عمر وابن مسعود وعمران بن حصين. وفي أسانيدها كلام كما بسطه الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية"، ولأجل هذا الاختلاف اختلف الأئمة. فقال أصحابنا بالتعدُّد وهو الأقيس، وغيرهم ذهبوا إلى إجزاء التوحُّد، وقد ذكرنا سابقاً بعض ما يتعلق بهذا المقام فتذكَّره. (5) أي مناسك الحج. (6) أي أحرمت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 بِعُمْرَةٍ (1) فَخَافَتْ فَوْتَ الْحَجِّ (2) فلْتُحْرم بِالْحَجِّ، وتقفْ (3) بِعَرَفَةَ، وترفُض (4) الْعُمْرَةَ، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجِّهَا (5) قضتْ الْعُمْرَةَ (6) كَمَا قَضَتْهَا (7) عَائِشَةُ، وَذَبَحَتْ (8) مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي. بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ عَنْهَا (9) بَقَرَةً، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلا مَنْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّهُ يَطُوفُ (10) طَوَافَيْنِ ويسعى سعيَيْن.   (1) أي منفردة. (2) بأن جاء موسم الحج. (3) وتؤدي المناسك كلها غير الطواف والسعي. (4) أي تتركها وتنقض إحرامها (وبسط في الأوجز 8/73 الكلام على روايات عائشة رضي الله عنها، وفيه قال الشيخ ابن القيم: فالصواب الذي لا معدل عنه أنها كانت معتمدة ابتداءً كما قال به الجمهور مع الاختلاف بينهم أنها فسخت العمرة أو قرنتها مع الحج. قلت: وبالأول قالت الحنفية، وبالقول الثاني قالت الأئمة الثلاثة وهذا الإختلاف مبني على اختلاف آخر وهو أن القارن يأتي بأفعال العمرة مستقلا وبأفعال الحج مستقلا عند الحنفية وأما الأئمة الثالثة فقالوا تدخل أفعال العمرة في أفعال الحج انظر حجة الوداع ص 64) . (5) في نسخة: حجتها. (6) أي بعد الحج. (7) بالأمر النبوي. (8) أي للمتمتع. (9) وفي رواية: ذبح عن نسائه، أخرجه البخاري وغيره. (10) طوافاً وسعياً للعمرة، وطوافاً وسعياً للحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 34 - (بَابُ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ فَي حجِّها قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ (1) الزِّيَارَةِ) 466 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو (2) الرِّجَالِ، أَنَّ عَمْرة أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ إِذَا حجَّتْ وَمَعَهَا نِسَاءٌ تَخَافُ (3) أنْ تَحِضْنَ قَدَّمَتْهُنَّ (4) يوم النحر فأَفَضْنَ (5) ، فإن حِضْن   (1) قوله: طواف الزيارة، هو طواف الحج وهو أحد أركانه ويسمَّى طواف الإِفاضة وطواف الفرض أيضاً، ووقته أيام النحر، أفضلها أولها. (2) قوله: أخبرني أبو الرجال، هو محمد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حارثة بن النعمان الأنصاري، سمع أنس بن مالك وأمَّه، وعنه الثوري ومالك، من أجلَّة الثقات، وأمُّه عَمْرة - بالفتح - بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة كانت في حجر عائشة، وربَّتها، وروت عنها كثيراً، وهي من التابعيات المشهورات، وابنها محمد كُنِّي بأبي الرِّجال بالكسر جمع رجل لأنه كان له عشرة أولاد ذكور، كذا ذكره ابن الأثير وغيره. (3) أي تخاف عائشة أن يأتيهن الحيض لقرب أوقاتهن المضادة للحيض. (4) قوله: قدَّمتهن، من التقديم أي أرسلتهن قبل جميع الرفقاء وقبل نفسها إلى مكة ليفرغن من طواف الزيارة الذي هو أحد أركان الحج لئلا يلزم التوقف في المراجعة إن جاءهن الحيض قبل الطواف فيلزم انتظار تطهُّرِهنَّ وطوافهن. (5) من الإفاضة أي طفن طواف الإفاضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 بَعْدَ ذَلِكَ (1) لَمْ تَنْتَظِرْ (2) ، تَنْفِرُ بِهِنَّ وَهُنَّ حُيَّضٌ إِذَا كُنَّ قَدْ أَفَضْن. 467 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ (3) بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَمْرة ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عن عائشة قالت: قلت   (1) أي بعد طواف الزيارة. (2) قوله: لم تنتظر، أي طهارتهن عن الحيض، بل تنفِرُ بكسر الفاء من النفر أي ترجع وتسافر إلى المدينة بهن، وهن: أي الحال أنهن حُيَّض بضم الحاء وتشديد الياء المفتوحة جمع حائض، إذا كن قد أفضن أي فرغن من طواف الإفاضة، فلا تنتظر لطوافهنَّ الوداع، فإن طواف الوداع ويسمى أيضاً طواف الصَّدَر وإن كان واجباً للآفاقي لكنه ساقط وجوبه عن الحُيَّضِ وأمثالهن لما سيأتي من الخبر المرفوع. (3) قوله: حدثنا عبد الله بن أبي بكر، هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. أنَّ أباه هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وقد مرَّت ترجمتهما. وهذا الذي ذكرنا مصرَّح به في روايات البخاري ومسلم وغيرهما وفي موطأ يحيى، ونص عليه شرّاح صحيح البخاري: العيني والكرماني وابن حجر والقسطلاني وغيرهم، وشراح صحيح مسلم، وشرّاح موطأ يحيى وغيرهم. والعجب كل العجب من علي القاري - ولا عجب فإن البشر يخطئ - حيث يقول: حدثنا عبد الله بن أبي بكر شهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرُمي بسهم رماه أبو محجن الثقفي، فمات منه في خلافة أبيه في شوال سنة إحدى عشرة، وكان أسلم قديماً، أن أباه أي أبا بكر الصديق أخبره عن عَمْرة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر عن عائشة، فهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر. انتهى كلامه. فأخطأ في هذه السطور العديدة في مواضع: أحَدها: في زعمه أن عبد الله بن أبي بكر المذكور هو ابن أبي بكر الصديق، ولو لم ينظر موطأ يحيى وصحيح البخاري وغيرهما من الكتب المخرَّجة لهذا الحديث، بل تأمل فيما ذكره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ صَفِيَّة (1) بنتَ حُيَيٍّ قَدْ حَاضَتْ لَعَلَّهَا (2) تَحْبِسُنا، قَالَ: أَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ (3) مَعَكُنَّ بِالْبَيْتِ؟ قلن: بلى إلاَّ أنها لم تطف   بنفسه ههنا من حال عبد الله لوضح له خطؤه، فإنه ذكر أن عبد الله بن أبي بكر الصدّيق مات سنة إحدى عشرة فهل يقول فاضل ممارس بكتب الحديث والرجال إن مالكاً صاحب الموطأ الذي وُلد سنة إحدى أو ثلاث أو أربع أو سبع وتسعين يروى عنه ويقول فيه حدثنا الدالّ على المشافهة، أَوَلم يعلم أن مالكاً لو أدرك عبد الله الذي ذكره لأدرك عمر وعثمان وأبا بكر وعلياً وكثيراً من الصحابة لكون أجلَّة الصحابة موجودين في ذلك الوقت، فكان مالك من أكابر التابعين، ولم يقل به أحد. وثانيها: في زعمه أن المراد بأبيه هو أبو بكر الصديق هو مبنيٌّ على الأول. وثالثها: في زعمه أن عمرة المذكورة في هذه الرواية هي بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، لا والله بل هي عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة أم أبي الرجال. ورابعها: في زعمه أن هذا من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر، وهو مبنيٌّ على زعمه الثاني. (1) قوله: إن صفيَّة، هي أم المؤمنين صفية بفتح أوله وكسر ثانيه وتشديد ثالثه بنت حُيَيّ - بضم الحاء المهملة وفتح الياء التحتانية الأولى وتشديد الأخرى بن أَخطب - بالفتح - ابن سَعية - بالفتح - من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران أخي موسى، قُتل زوجها كنانة في غزوة خيبر حين افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة سبع، فوقعت في السَّبْي فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وأسلمت فأعتقها وتزوجها، وكانت وفاته سنة 52، وقيل غير ذلك، كذا ذكره ابن الأثير. (2) قوله: لعلها تحبسنا، أي تمنعنا من الخروج إلى المدينة لانتظار طهارتها وطوافها، وظاهر هذه الرواية أن هذا قول عائشة، وعند البخاري وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلها تحبسنا، ألم تكن طافت معكنَّ؟ (3) أي طواف الزيارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 طَوَافَ الْوَدَاعِ، قَالَ: فاخْرُجْن (1) . 468 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أُمِّ سُلَيْم (2) ابْنَةِ مِلْحان قَالَتْ: استفتيتُ (3) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فيمن حاضت أو ولدت (4) بعدما   (1) أي لا تنتظرن طواف الوداع وفي رواية للبخاري: فاخْرُجي، خطاباً لصَفِيَّة. (2) قوله: عن أم سُلَيم، بضم السين وفتح اللام بنت مِلْحان بكسر الميم وسكون اللام، اسمها سهلة أو رُمَيْلة - مصغَّراً - أو رُمَيْثة - كذلك - أو مُلَيْكة - كذلك - أو أنيفة، وهي والدة أنس، وقد مرَّ ذكرها. وذكر ابن عبد البر أن في هذه الرواية انقطاعاً لأن أبا سلمة لم يسمع أم سُلَيْم. وروي أيضاً من حديث هشام عن قتادة، عن عكرمة عنها وهو أيضاً منقطع، وذكر الحافظ في "فتح الباري" أن لهذه الرواية شواهد فعند الطيالسي في مسنده عن هشام الدستوائي عن قتادة، عن عكرمة، قال: اختلف ابن عباس وزيد بن ثابت في المرأة إذا حاضت وقد طافت يوم النحر، فقال زيد: يكون آخر عهدها بالبيت، وقال ابن عباس: تنفر إن شاءت، فقال الأنصار: لا نتابعك يا ابن عباس وأنت تخالف زيداً، فقال: سَلُوا صاحبتكم أم سُلَيْم، فقالت: حضتُ بعد ما طفت بالبيت، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنفر. وعند مسلم والنسائي والإسماعيلي عن طاوس. قال: كنت مع ابن عباس فقال له زيد: تُفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالطواف؟ فقال: سل فلانة الأنصارية، هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ فقال بع دما رجع إليه: ما أراك إلاَّ صدقت. وعند الإسماعيلي، فقال ابن عباس: سل أم سُلَيْم وصواحبها: هل أمرهنَّ بذلك؟ (3) أي طلبت الفتوى والحكم. (4) أي نفست بعد ما ولدت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 أفاضَتْ (1) يَوْمَ النَّحْر فَأَذِنَ (2) لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخَرَجَتْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، أَيُّمَا امرأةٍ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ يَوْمَ النَّحْرِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَوْ وَلَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَلا تنفِرَنَّ (3) حَتَّى تَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ (4) ، وَإِنْ كَانَتْ طَافَتْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ وَلَدَتْ فَلا بَأْسَ (5) بِأَنْ تنفِر (6) قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ الصَّدَر (7) . وَهُوَ (8) قَوْلُ أبي حنيفة رحمه الله تعالى والعامة من فقهائنا.   (1) أي طافت طواف النحر. (2) قوله: فأذن لها، أي لمن حاضت أو ولدت أو لأم سُلَيم، فإنها كانت استفتت عن حال نفسها، ويدل عليه عبارة موطأ يحيى أنَّ أم سليم استفتتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وحاضتْ أو ولدت بعد ما أفاضت يوم النحر، فأذن لها أن تخرج فخرجت، وبناءً عليه قال الزرقاني: أو ولدت شكٌّ من الراوي. (3) أي لا تخرجن ولا ترجعن. (4) لأن طواف الزيارة أحد أركان الحج فلا يمكن النفر بدونه. (5) أي جاز لها ذلك فإنْ أقامت حتى طافت فهو أفضل. (6) أي تسافر. (7) بفتح الأول والثاني بمعنى الرجوع وهو طواف الوداع. (8) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الجمهور (قال النووي: هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلاَّ ما حكى ابن المنذر عن عمر وابنه وزيد بن ثابت أنهم أمروا بالمقام لطواف الوداع. ودليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية. شرح النووي على صحيح مسلم 3/462) من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ورُوي خلافه عن ابن عمر وزيد وعمر فإنهم أمروا الحائض بالمقام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 35 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ فَتَلِدُ أَوْ تَحِيضُ قَبْلَ (1) أَنْ تُحرم) 469 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ (2) أَسْمَاءَ (3) بِنْتِ عُمَيْس (4) وَلَدَتْ (5) محمدَ بْنَ أبي بكر (6)   إلى أن تطوف طواف الصدر. قال ابن المنذر: وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد وبقي عمر، فخالفناه لثبوت حديث عائشة (انظر فتح الباري 3/587) (1) قوله: قبل أن تحرم، قال القاري: فيه إشارة إلى أنه لا يلزم من الإرادة تحقيق النية، كذا لا يكفي عن النية بمجرد قوله: اللَّهم إني أريد الحج والعمرة، فإن الدعاء إخبار ولا بدَّ في النية من الإنشاء. (2) قوله: أن، هكذا قال القعنبي وابن بكير وابن مهدي وغيرهم من رواة الموطأ، وقال يحيى ومعن وابن القاسم وقتيبة عن أبيه، عن أسماء، وعلى كل حال فهو مرسل لأن القاسم لم يلقَ أسماء، قاله ابن عبد البر. وقد وصله مسلم وأبو داود وابن ماجه عن القاسم، عن عائشة، ورواه النسائي وابن ماجه عن القاسم، عن أبي بكر الصديق، كذا ذكره السيوطي. (3) زوجة أبي بكر الصديق. (4) بصيغة التصغير. (5) أي حين سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قبل وفاته بثلاثة أشهر. (6) قوله: محمد بن أبي بكر، يُكنى بأبي القاسم، نشأ بعد ما مات أبوه في حجر علي، وشهد معه الجمل والصِّفِّين، وكان من نُسّاك قريش إلاَّ أنه أعان على قتل عثمان، وولاّه عثمان بمصر، فأقام بها إلى أن بعث معاوية الجيوش فيهم عمرو بن العاص ومعاوية بن خديج، ووقع القتال فانهزم محمد بن أبي بكر وقتله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 بالبَيْداء (1) ، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْها فَلْتَغْتَسِلْ (2) ثُمَّ لِتُهِلَّ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ فِي النُّفساء وَالْحَائِضِ جَمِيعًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 36 - (بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ (4) فِي الحجِّ) 470 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْر الْمَكِّيُّ، أَنَّ أَبَا مَاعِزٍ (5) عَبْدَ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْتَفْتِيهِ (6) فَقَالَتْ: إِنِّي أقبلتُ (7) أُرِيدُ أَنْ أَطُوفَ الْبَيْتَ حَتَّى إِذَا كنتُ عِنْدَ باب المسجد (8) أهرقت (9) ،   ابن خَديج في صَفَر سنة ثمان وثلاثين، كذا في "تحفة المحبِّين بمناقب الخلفاء الراشدين". (1) قال القاري: هو مقدمة الصحراء بذي الحليفة. (2) قوله: فلتغتسل، أي غُسْل الإِحرام للنظافة لا للطهارة. (3) أي لتحرم. (4) أي ماذا حكمها؟. (5) هو من أعيان التابعين. (6) أي تطلب الحكم في شأنها. (7) قوله: أقبلتُ، أي توجهت وأردت الطواف بالبيت. (8) أي المسجد الحرام. (9) قوله: أهرقت، أي سال الدم مني، وهو معروف أو مجهول، يُقال أراق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 فرجعتُ (1) حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ (2) عَنِّي، ثُمَّ أقبلتُ (3) حَتَّى إِذَا كنتُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ أَهْرَقْتُ، فَرَجَعْتُ حَتَّى ذَهَبَ ذلِك عَنِّي، ثُمَّ رَجَعْتُ (4) إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَيْضًا، فَقَالَ لَهَا ابْنُ عمر: إنما (5) ذلِك رَكْضَة من الشيطان   الماءَ يُريقه، وهَراقَه يُهَريقُه بفتح الهاء هراقة، وأهرقته إهراقة وإهراقاً بالجمع بين البدل والمبدل منه فإن الهاء في هراق بدل من الهمزة، كذا في "مجمع البحار". (1) أي إلى البيت. (2) أي سيلان الدم. (3) أي توجهت إلى المسجد. (4) أي مرة ثالثة. (5) قوله: إنما ذلك، بكسر الكاف يعني ليس ذلك الدم إلاَّ ركضة من الشيطان، وليس بدم حيض حتى يمنع من الصلاة والطواف ودخول المسجد. وقد ورد كون الاستحاضة من ركضات الشيطان مرفوعاً من حديث حَمْنة بنت جحش عند الترمذي وأبي داود وأحمد، ولا ينافي ذلك ما في صحيح البخاري من حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حُبيش من قوله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك عِرْقٌ انفجر، وذلك لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإذا ركض ذلك العرق سال منه الدم. وللشيطان في هذا العِرْق الخاص تصرُّف، وله به اختصاص بالنسبة إلى جميع عروق البدن، كذا ذكره القاضي بدر الدين الشِّبْلي في "آكام المرجان في أخبار الجّان"، وقال ابن الأثير في "النهاية": أصل الركض الضرب بالرجل، ومنه قوله تعالى: {اركُضْ برِجلْك} (سورة ص: الآية 42) ، والمعنى أن الشيطان قد وجد بذلك طريقاً للتلبيس عليها في أمر دينها من طهرها وصلاتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 فَاغْتَسِلِي (1) ثُمَّ اسْتَثْفِرِي (2) بثوبٍ ثُمَّ طُوفِي (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، هَذِهِ (4) الْمُسْتَحَاضَةُ فَلْتَتَوَضَّأْ وَلْتَسْتَثْفِرْ   (1) قوله: فاغتسلي، قال القاري: لعل أمرها بالغسل لتقدُّم حيضها أو لتكميل طهارتها ونظافتها وإلاَّ فالمستحاضة تتوضأ إذا استمر دمها لكل وقت، وأما إذا نسيت عادتَها فيجب عليها لكل صلاة غسل. (2) قوله: ثم استثفري، الاستثفار أن تشدَّ فرجها بخرقة عريضة بعد أن تحشي قطناً، وتوثق طرفيها بشيء تشدُّه على وسطها، من ثفر الدابة الذي (في الأصل: "التي"، وهو تحريف) يُجعل تحت ذنبها، كذا في "مجمع البحار" وغيره. (3) قوله: ثم طوفي، قال الزرقاني: قال سحنون في كتاب "تفسير الغريب": سألت ابن نافع: أذلك من المرأة بعد ما تلوَّمت أيام الحيض ثم شكت طول ذلك بها ومعاودته إياها؟ قال: لا، ولكن ذلك فيما نرى في يوم واحد ذهبت ثم رجعت وذهبت ثم رجعت ثم سألت، فرآه ابن عمر من الشيطان. وقال غيره: يحتمل أنها ممن قعدت عن الحيض فلا يكون دم حيض وأمرها بالغسل احتياطاً، ويحتمل أنه رآها كالمستحاضة والحيض له غاية ينتهي إليها، وقال أبو عمر: وأفتاها ابن عمر فتوى من علم أنه ليس بحيض. وقد رواه جماعة من رواة الموطأ بلفظ إن عجوزاً استفتت ... إلى آخره. ودل جوابه أنهما ممَّن لا تحيض لقوله إنها ركضة من ركضات الشيطان، ولذلك قال لها: طوفي، وإنما يحل الطواف لمن تحل له الصلاة، وأما قوله اغتسلي فعلى مذهبه من ندب الاغتسال للطواف لها أنه اغتسال للحيض ولا أنه لازم. انتهى (شرح الزرقاني 2/312) . (4) هذه المرأة مستحاضة لا حائضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 بِثَوْبٍ ثُمَّ تَطُوفُ وَتَصْنَعُ مَا تَصْنَعُ (1) الطَّاهِرَةُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 37 - (بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ وَمَا يُستحبّ مِنَ الْغُسْلِ قَبْلَ الدُّخُولِ (2)) 471 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أنه كان إِذَا دَنَا (3) مِنْ مَكَّةَ بَاتَ (4) بِذِي (5) طُوى بين (6) الثنيَّتَيْن حتى (7) يصبح ثم   (1) من الصلاة والصيام وغير ذلك. (2) أي قبل دخول مكة. (3) أي قرب. (4) أي مكث ليلاً. (5) قوله: بذي طوى، مثلث الطاء، والفتح أشهر، مقصور، منوَّن وغير منوَّن، وادٍ بقرب مكة، يُعرف اليوم ببئر الزاهد، قاله الزرقاني. قال القاري: هو وادٍ بقرب مكة على نحو فرسخ يُعرف في وقتنا بالزاهر في طريق التنعيم وينزل فيه أمراء الحاج خروجاً ودخولاً، ومن نوّنه جعله اسما للوادي، ومن منعه جعله اسماً للبقعة مع العلمية. (6) قوله: بين الثنيتين، كل عقبة في جبل أو طريق يسمّى ثَنِيّة بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد الياء التحتية، والثنية التي بأعلى مكة هي التي يُنزل منها إلى المعلى، ومقابر مكة بجنب المحصب، وهي يقال لها الحَجُون بفتح الحاء وضم الجيم. وقد صح في "صحيح البخاري" وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى. (7) غاية للبيتوتة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 يُصَلِّيَ الصُّبْحَ (1) ، ثُمَّ يَدْخُلَ (2) مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَلا يَدْخُلَ (3) مَكَّةَ إِذَا خَرَجَ (4) حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا حَتَّى يَغْتَسِلَ (5) قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إِذَا دَنَا مِنْ مَكَّةَ بِذِي (6) طُوى، وَيَأْمُرُ مَنْ مَعَهُ فَيَغْتَسِلُوا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا. 472 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ: أَنَّ أَبَاهُ الْقَاسِمُ كَانَ يَدْخُلُ (7) مَكَّةَ لَيْلا وهو معتمر فيطوف بالبيت وبالصفا   (1) أي بذي طوى. (2) أي في النهار اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه صح أنه بات بذي طوى ودخل مكة نهاراً. (3) أي ابن عمر. (4) أي من المدينة. (5) قوله: حتى يغتسل، قال ابن المندر: الغسل لدخول مكة مستحب عند جميع العلماء إلا أنه ليس في تركه فدية، وقال أكثرهم: الوضوء يُجزئ فيه، وهذا الغسل ليس لكونه مُحرماً بل هو لحرمة مكة، حتى يُستَحَبّ لمن كان حلالاً أيضاً، وقد اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم لدخولها يوم الفتح وكان حلالاً، أفاد ذلك الشافعي في "الأمّ" (وعند المالكية: هذا الغسل للطواف فيُندب لغير حائض ونفساء، وهما لا يدخلان المسجد ويغتسلان للإِحرام والوقوف، كما قاله الزرقاني في شرح الموطأ 2/227) كذا في "عمدة القاري". (6) متعلق بالاغتسال. (7) قوله: كان يدخل مكة ليلاً، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث دخل مكة ليلاً حين أحرم بالعمرة من الجعرّانة، كما أخرجه النسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 وَالْمَرْوَةِ وَيُؤَخِّرُ الحِلاق (1) حَتَّى (2) يُصْبِحَ، وَلَكِنَّهُ لا يَعُودُ (3) إِلَى الْبَيْتِ فَيَطُوفُ بِهِ (4) حَتَّى يَحْلِقَ، وَرُبَّمَا دَخَلَ (5) الْمَسْجِدَ فَأَوْتَرَ (6) فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ (7) فَلَمْ يَقْرَبِ الْبَيْتَ (8) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِأَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إِنْ (9) شَاءَ لَيْلا وَإِنْ شَاءَ نَهَارًا، فَيَطُوفَ وَيَسْعَى. وَلَكِنَّهُ (10) لا يُعْجِبُنَا له أن يعود في الطواف   (1) بالكسر أي حلق الرأس. (2) غاية للتأخير. (3) قوله: لا يعود، ليقع التوالي بين طواف العمرة والحلق من غير فصل بينهما وإن كان ذلك أيضاً جائزاً. (4) أي مرة ثانية. (5) أي في آخر الليل (6) أي صلَّى الوتر في المسجد الحرام. (7) أي عن المسجد. (8) أي للطواف والاستلام. (9) قوله: إن شاء ليلاً وإن شاء نهاراً، لأن كل ذلك ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. (10) قوله: ولكنه، الضمير للشأن، لا يعجبنا من الإعجاب، له أي لا يسُرُّنا ولا يستحب عندنا للداخل بمكة أن يعود في الطواف نفلاً، حتى يحلق رأسه أو يقصر شعر رأسه فيُتم أفعال عمرته، ثم يأتي بالطواف ما شاء، كما فعل متعلق بما فهم من السابق من عدم العود. القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. ويؤيده ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ولم يقرب الكعبة بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 حَتَّى يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ كَمَا فَعَلَ الْقَاسِمُ، فَأَمَّا الْغُسْلُ حِينَ يَدْخُلُ (1) فَهُوَ حَسَنٌ (2) وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. 38 - (بَابُ السَّعْيِ (3) بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) 473 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر: أنه   طوافه حتى رجع من عرفة. وبوّب عليه البخاري "بباب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة ويرجع"، قال الحافظ في الفتح (3/486) : هذا ظاهر فيما ترجم لكنه لا يدل على أن الحاج يُمنع من الطواف قبل الوقوف، فلعله صلى الله عليه وسلم ترك الطواف تطوّعاً خشية أن يظن أحد أنه واجب، وكان يحب التخفيف على أمته، وعن مالك أن الحاج لا يتنفل بطواف حتى يتم حجّه، وعنه الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة لمن كان من أهل البلاد البعيدة وهو المعتمد. انتهى. (1) أي عند دخول مكة. (2) أي مستحسن سنة أو مستحب. (3) قوله: باب السعي، أي المشي بين الصفا والمَرْوة - بالفتح - هما جبلان بمكة يجب المشي بينهما بعد الطواف في العمرة والحج سبعة أشواط مع سرعة المشي في ما بين الميلين الأخضرين. قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": الصفا مبدأ السعي، وهو مقصور، مكان مرتفع عند باب المسجد الحرام، وهو أنف أي قطعة من جبل أبي قُبَيس، وهو الآن إحدى عشرة درجة، وأما المروة فلاطية جداً أي منخفضة، وهي أنف من جبل قعيقعان، وهي درجتان، ومن وقف عليها كان محاذياً للركن العراقي، وتمنعه العمارة من رؤيته، وإذا نزل من الصفا سعى حتى يكون بين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد وبينه نحو ستة أذرع فيسعى سعياً شديداً حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 كَانَ إِذَا طَافَ (1) بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بَدَأَ بِالصَّفَا (2) فرَقِي (3) حَتَّى يبدُوَ (4) لَهُ الْبَيْتُ، وَكَانَ يُكَبِّرُ (5) ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ (6) : لا إِلَهَ إلا الله   العباس ثم يمشي حتى يصعد المروة. انتهى. وفي "شرح جامع الترمذي" للحافظ زين الدين العراقي: اختلفوا في السعي بين الصفا والمروة للحاجّ والمعتمر على ثلاثة أقوال: أحداها: أنه ركن لا يصح إلا به، وهو قول ابن عمر وعائشة وجابر، وبه قال الشافعي ومالك في المشهور عنه وأحمد في أصح الروايتين عنه وإسحاق وأبو ثور لقوله عليه السلام: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي، رواه أحمد والدارقطني والبيهقي. والثاني: أنه واجب يُجبر تركه بدم، وبه قال الثوري وأبو حنيفة ومالك. والثالث: أنه سنة أومستحب وهو قول ابن سيرين وعطاء ومجاهد وأحمد في رواية (انظر بذل المجهود 9/171 وذكر في هامشه: رجّح الموفّق في المغني 3/389 أنه واجب كقولنا، نعم عدَّ صاحب "الروض" السعي من الأركان) . (1) أي أراد السعي بينهما. (2) قوله: بدأ بالصفا، لحديث ابدأوا بما بدأ الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} (سورة البقرة: الآية 158) . وهذه البداية بالصفا سنة وقيل واجب (قال ابن قدامة: إن الترتيب شرط في السعي وهو أن يبدأ بالصفا، فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط، فإذا صار إلى الصفا اعتدّ بما يأتي به بعد ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا وقال: "نبدأ بما بدأ الله به" وهذا قول الحسن ومالك والشافعي والأوزافي وأصحاب الرأي، المغني 3/388. (3) بكسر القاف أي صعد على الصفا. (4) بضم الدال بعده الواو أي يظهر له البيت فيعاينه ويستقبله وهو مستحب. (5) أي يقول الله أكبر ثلاثاً على الصفا. (6) أي بعد التكبير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلك (1) وَلَهُ الْحَمْدُ يُحيي ويُميت، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَفْعَلُ ذَلِكَ (2) سَبْعَ مَرَّاتٍ فَذَلِكَ (3) إِحْدَى وَعِشْرُونَ تَكْبِيرَةً وَسَبْعُ تَهْلِيلاتٍ (4) ، وَيَدْعُو فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَيَسْأَلُ (5) اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ يَهْبِطُ (6) ، فَيَمْشِي (7) حَتَّى إِذَا جَاءَ بطنَ (8) الْمَسِيلِ سَعَى (9) حَتَّى يَظْهَرَ (10) مِنْهُ، ثُمَّ يَمْشِي (11) حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فيرقَى (12) فيصنع عليها مثل   (1) بضم الميم. (2) أي التكبير ثلاثاً مع التهليل المذكور. (3) أي مجموع ما ذكر. (4) في نسخة: تهليلة. (5) قوله: ويسأل الله، عطف تفسيريّ أو يُقال أحدهما بالجنان، وثانيهما باللسان، والمراد أنه كان يدعو الله تعالى ويطلب حاجاته فيما بين المذكور من المرات السبع. (6) بكسر الباء أي ينزل من الصفا. (7) أي على هيأته من غير عَدْو. (8) قوله: بطن المسيل، أي بطن الوادي وهوالموضع المنخفض مسيل المياه والأمطار بين الميلين الأخضرين. (9) أي أسرع في مشيه. (10) أي يرتفع من المسيل ويخرج منه. (11) أي على هيأته. (12) بفتح القاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 مَا صَنَعَ (1) عَلَى الصَّفَا، يَصْنَعُ ذَلِكُ (2) سَبْعَ مَرَّاتٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ سَعْيِهِ. وسمعتُه (3) يَدْعُو عَلَى الصَّفَا: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قلتَ ادُّعُونِي أستجبْ لَكُمْ وَإِنَّكَ لا تُخلفُ (4) الْمِيعَادَ وَإِنِّي أَسْأَلُكَ كَمَا هديتَني لِلإِسْلامِ (5) أَنْ لا تنزِعَه (6) مِنِّي حتى توفّاني و (7) أنا مُسْلِمٌ. 474 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ هَبَط (8) مِنَ الصَّفَا مَشَى حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ (9) قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ المَسيل سَعَى حَتَّى ظَهَرَ (10) مِنْهُ، قَالَ (11) : وَكَانَ يُكبّر عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثَلاثًا، وَيُهَلِّلُ وَاحِدَةً. يفعلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.   (1) من التكبير وغيره. (2) أي ما ذُكر من السعي والمشي بين الصفا والمروة. (3) هذا قول نافع يقول: سمعتُ ابن عمر. (4) لا تخلف بالضم، الميعاد أي الوعد. (5) في نسخة إلى الإسلام. (6) أي لا تخرج الإسلام مني. (7) الواو حالية. (8) بفتح الباء أي نزل. (9) أي انحدرت: غارت قدماه في الوادي. (10) أي صعد من بطن الوادي. (11) أي جابر بن عبد الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، إِذَا صَعِد (1) الرَّجُلُ الصَّفَا كبَّر (2) وهلَّل وَدَعَا، ثُمَّ هَبَطَ مَاشِيًا (3) حَتَّى يَبْلُغَ بَطْنَ الْوَادِي، فَيَسْعَى (4) فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، ثُمَّ يَمْشِيَ مَشْيًا عَلَى هِيْنَتِه (5) حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدَ عَلَيْهَا، فَيُكَبِّرَ ويهلّل ويدعوه، يَصْنَعُ ذَلِكَ (6) بَيْنَهُمَا سَبْعًا، يَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهُمَا وَهُوَ (7) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ. 39 - (بَابُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ رَاكِبًا (8) أَوْ مَاشِيًا) 475 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الرحمن بن نوفل   (1) قوله: صعد الرجل، قال القاريّ: وكذا المرأة، ولا يبعد أن يُقال: المرأة لا ينبغي لها أن تصعد لأنّ مبنى أمرها على الستر. (2) أقله مرة من كل واحدة، وأوسطه ثلاث، وأعلاه سبع. (3) أي إذا لم يكن معذوراً وإلاّ فراكباً. (4) أي يسرع في مشيه. (5) قوله: على هِينَتِه، أي على سكون ووقار، يقال: سار على هينته أي عادته في السكون والوقار والرفق، مِنْ امش على هِينتك أي على رِسْلك، ذكره في "النهاية"، قال القاري: هو بكسر الهاء وسكون الياء التحتية وفتح النون وكسر الفوقية. (6) أي ما ذُكر من المشي والسعي. (7) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الجمهور خلافاً للطحاوي من الحنفية وبعض الشافعية حيث ذهبوا إلى الذهاب من الصفا إلى المروة، ثم منها إلى الصفا، مجموع ذلك شوط، فيكون الدور عنده أربعة عشر مرة ويردّه الأحاديث الصحيحة (انظر أوجز المسالك 7/152) . (8) قوله: راكباً أو ماشياً، قال القاري: المشي واجب إلا لضرورة فيجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 الأَسَدِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ (1) بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمة زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: اشتكيتُ (2) فذكرتُ (3) ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: طوفي من (4) وراء الناس و (5) أنت راكبة (6) ، قالت: فطفتُ (7)   الركوب، فكان الأَوْلى تقديم ماشياً، وقد يقال: قدّم راكباً لورود الحديث الآتي على صفة الركوب. انتهى. والأوجه أن يُقال لمّا كان المشي أصلاً والركوب رخصة إذا وقعت ضرورةٌ قُدِّم ذكر الركوب اهتماماً به. (1) قوله: عن زينب، هي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، أمّها أمّ سلمة أمّ المؤمنين، وأبوها أبو سلمة عبد الله بن أسد المخزومي الصحابي، كذا في "الاستيعاب" وغيره، ولم تذكر في رواية البخاري بل فيها من طريق يحيى عن هشام عن أبيه عروة عن أمّ سلمة، وتعقّبه الدارقطني بأنه منقطع. فإن عروة لم يسمع عن أم سلمة، وردّه الحافظ ابن حجر في "مقدمة فتح الباري" بأن سماعه منها ممكن فإنه أدرك من حياتها نيّفاً وثلاثين سنة. (2) أي مرضت. (3) قوله: فذكرت ذلك، أي أنها مريضة، وأنها لم تطف لمّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج، وكان ذلك في طواف الوداع، كما ورد في رواية هشام. (4) قوله: من وراء الناس، أي من خلفهم متباعدة منهم وهو مستحب للنساء. (5) الواو الحالية. (6) أي على البعير. (7) قوله: قالت فطفت، أي راكبة على بعير، وقد ثبت مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بِمحْجن بالكسر أي بعصا، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وكان ذلك لشكوى عَرَضت له، فلم يقدر على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 ورسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي (1) إلى جانب البيت، ويقرأ بالطور (2) وكتابٍ مَسْطُورٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ لِلْمَرِيضِ وَذِي الْعِلَّةِ (3) أَنْ يطوفَ بِالْبَيْتِ مَحْمُولا (4) وَلا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ (5) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله تعالى والعامة من فقهائنا. 476 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر، عن   المشي كما في رواية أبي داود أو ليشرف فيراه الناس ويسألونه كما ورد عن جابر عند مسلم ويحتمل أن يكون كلٌّ منهما باعثاً له، ودلَّ هذا كلُّه على جواز الطواف راكباً بعذر، فإن كان بغير عذر جاز بلا كراهة، لكنه خلاف الأَوْلى أو بكراهة قولان للشافعية، وعند أبي حنيفة ومالك المشي (4/620. ومذهب الشافعي وأحمد: أنه مستحب، وجزم جماعة من الشافعية بكراهة الطواف راكباً من غير عذر كما ذكره العيني) واجب، فإن تركه بغير عذر فعليه ذم، وفيه أيضاً جواز إدخال الدابّة في المسجد إذا أمن التلويث، واستنبط منه طائفة طهارة بول مأكول اللحم وبعره، وتحقيقه في موضع آخر، كذا في "عمدة القاري" وغيره. (1) أي صلاة الصبح بالجماعة. (2) أي بسورة الطور. (3) قوله: وذي العِلّة، بكسر أوله وتشديد ثانيه أي ذي المرض، والعطف تفسيري. وفسّر القاري المريض بضعيف البدن، وذا العلة بالأعرج والزَّمِن ومَنْ به وجع الرِّجْل ونحوه. (4) أي على إنسان أو دابّة. (5) أي لا يجب عليه دم لأن الضرورات تبيح المحظورات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 ابْنِ أَبِي مُلَيكة (1) ، أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ (2) تَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَ: يَا أَمَة اللَّهِ، اقْعُدِي (3) فِي بَيْتِكِ، وَلا تُؤْذِي النَّاسَ (4) . فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَتَتْ (5) ، فَقِيلَ لَهَا: هَلَكَ (6) الَّذِي كَانَ ينهاكِ عَنِ الْخُرُوجِ (7) ، قَالَتْ: واللَّهِ لا أُطيعه (8) حيّاً وأعصيه مَيّتاً.   (1) قوله: عن ابن أبي مُلَكية، بالتصغير هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ملكية اسمه زهير التيمي كان ثقة فقيهاً، مات سنة سبع عشر ومائة، قاله الزرقاني. (2) أي أصابها مرض الجذام. (3) أي اجلسي ولا تطوفي وفي رواية يحيى: لو جلست في بيتك أي لكان خيراً. (4) قوله: ولا تؤذي الناس، أي بريح الجذام، قال ابن عبد البر: فيه أنه يُحال بين المجذوم ومخالطة الناس لما فيه من الأذى، وهو لا يجوز. وإذا مُنع آكلُ الثوم من المسجد وكان ربما أُخرج إلى البقيع في العهد النبوي فما ظنك بالجذام؟ وهو عند بعض الناس يُعدي وعند جميعهم يؤذي، وألان عمر للمرأة القول بعد أن أخبرها أنها تؤذي لأنه رحمها للبلاء الذي بها، وقد عرف منه أنه كان يعتقد أن شيئاً لا يُعدي، وكان يجالس مُعَيْقيباً الدَّوْسي ويؤاكله ويشاربه، وربما وضع فمه على موضع فمه وكان على بيت ماله. ولعله علم من عقلها ودينها أنها تكفي بإشارته، ألم تَرَ إلى أنه لم تخطئ فراسته فيها فأطاعته حياً وميتاً. (5) أتت مكة. (6) أي مات. (7) للطواف. (8) لأنه أَمَر بحقّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 40 - (بَابُ اسْتِلامِ (1) الرُّكْنِ) 477 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبَري (2) ، عَنْ عُبَيد (3) بْنِ جُرَيج، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: با أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ (4) ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا (5) مَا (6) رأيتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا! قَالَ: فَمَا هُنَّ (7) يَا ابْنَ جُرَيج؟ قَالَ: رأيتُك لا تَمَسُّ (8) من الأركان إلاَّ اليمانِيَيْن (9) ،   (1) قوله: استلام الركن، أي لمس ركن الكعبة، وهي مشتملة على أربعة أركان، في أحدها: الحجر الأسود الذي ينبغي لمسُه وتقبيلُه، وثانيها: الركن اليماني ويستحب لمسُه أيضاً، وثالثها ورابعها: الركنان الشاميّان وهما بجانب الحَطيم. (2) بضم الباء وفتحها. (3) قوله: عن عبيد، مصغَّراً، ابن جريج مصغَّراً التيمي مولاهم المدني من ثقات التابعين، ذكره الحافظ ابن حجر. (4) كنية ابن عمر. (5) أي أربع خصال. (6) قوله: ما رأيتُ أحداً من أصحابك يصنعها، أي أحداً من أقرانك وأمثالك ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد نفي الرؤية عن الأكثر، وبالغ فيه فقال: ما رأيت أحداً، أو المراد نفي رؤية أحد يفعل مجموع هذه الخصال الأربعة، أو المراد نفي رؤية أحد يفعل هذه على سبيل الالتزام كما كان ابن عمر يلتزمها. (7) أي تلك الخصال. (8) بفتح الميم وتشديد السين أي لا تلمس باليد. (9) قوله: اليمانيين، قال السيوطي في "تنوير الحوالك"، بتخفيف الياء لأنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 ورأيتُك تَلْبَس (1) النِّعالَ (2) السِّبْتية، ورأيتُكَ تصبُغُ (3) بالصُّفْرة، وَرَأَيْتُكَ إِذَا كنتَ بمكَّة أَهلَّ (4) الناسُ (5) إِذَا رأَوْا   الألف بدل من إحدى يائَيْ النسب، ولا يُجمع بين البدل والمُبْدل منه، وفي لغة قليلة تشديدها على أنَّ الألف زائدة، والمراد بهما الركن اليَماني والذي فيه الحجر الأسود على جهة التغليب. (1) بفتح الباء. (2) قوله: النِّعال السِّبتية، النِّعال بالكسر جمع نعل، وهو ما يُلبس في الرجل لوقاية القدم، والسِّبْتية بالكسر منسوب إلى سبت، وهي جلود البقر المدبوغةُ يُتخذ منها النعال، سُمِّيت بذلك لأن شعرها سُبِتَ عنها أي حُلِقَتْ، أو لأنها انْسَبتَ (هكذا في الأصل والظاهر انسَبَتَتْ بالدباغ أي لانت، كما في مجمع البحار 3/11) بالدباغ أي لانت، وكان من عادة العرب لبس النعال من الجلود الغير (هكذا في الأصل، والصواب بدون "ال" كما نبهنا على ذلك سابقاً) مدبوغة بشعرها، وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره، وكان يلبسها أهل الرفاهية، وقيل: إنه منسوب إلى سوق السَّبْت بالفتح، وقيل: إلى السُّبت بالضم: نبت يُدبغ به، ويلزم عليهما أن يكون السبتية في الرواية بالفتح أو الضم، ولم يرد في الحديث على ما أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم إلاَّ الكسر، كذا حققه أحمد بن محمد المقرئ المغربي في كتابه " فتح المتعال في مدح خير النعال"، وفصَّلتُ ما يتعلق بهذا الحديث في رسالتي "غاية المقال في ما يتعلق بالنعال"، وتعليقاتها المسماة بظفر الأنفال. (3) قوله: تصبُغُ، أي ثوبَك أو شعرَك، وهو بضم الموحدة، وحُكي فتحُها وكسرُها. بالصُّفرة بالضم أي اللون الأصفر بالزعفران أو غيره، وقيل: الصفرة نبت يُصبغ به أصفر. (4) أي رفعوا أصواتهم بالتلبية وأحرموا بالحج. (5) أي أكثرهم ممن هو بمكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 الْهِلالَ (1) وَلَمْ تهلِّلْ أنتَ حَتَّى يكونَ (2) يومُ التَّرْوِيَةِ (3) ! قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَّا الأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَ إلاَّ اليمانِيَيْن (4) . وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتية فَإِنِّي رأيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي (5) لَيْسَ فِيهَا (6) شَعْرٌ ويتوضَّأُ (7) فِيهَا، فَإِنِّي أحبُّ أَنْ أَلْبَسَها (8) . وَأَمَّا الصُّفْرة   (1) أي هلال ذي الحجة. (2) أي يوجد، فهي تامة وما بعده فاعلُه، ويمكن أن يكون ناقصة وما بعده مفعولُة وفاعله ضمير راجع. (3) هو الثامن من ذي الحجة. (4) قوله: إلا اليمانيين، أي الركن اليماني الذي بجهة اليمن والركن الذي بجهة أكثر بلاد الهند الذي فيه الحجر الأسود، ولا يستلم الركنين الآخَرَيْن، وهذا عن النبي صلى الله وعليه وسلم متفق عليه، وأما أصحابه فذهب ابن عمر وعمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة قَصْرُ الاستلام عليهما، ورُوي عن معاوية وابن الزبير مسُّ الكل، وعللوا بأنه ليس شيء من البيت مهجوراً. والآثار عنهم مخرجة في "مصنَّف ابن أبي شيبة"، و"مسند أحمد" وغيرهما، وهذا الخلاف قد ارتفع وأَجمع مَن بعدهم على أنه لا يُستلم إلا اليمانيين. (5) هذا تفسر للسبتية. (6) في نسخة: لها. (7) قوله: يتوضأ فيها، الظاهر أن معناه يتوضأ ويغسل الرجلين حال كون النعلين فيهما ولا بأس به إذا كان النعلان طاهرين، ووصل الماء إلى الرِّجْل بتمامه، وقال النووي: معناه أنه يتوضأ ويلبسها ورجلاه رطبتان. (8) ليحصل الاقتداء به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 فَإِنِّي رأيتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يصبُعُ (1) بها فأنا أحبُّ أن أصبُعَ بِهَا. وَأَمَّا الإِهلال فَإِنِّي لَمْ أرَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى (2) تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا (3) كلُّه حَسَن، وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَلِمَ مِنَ الأَرْكَانِ، إلاَّ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ والحَجَر (4) ، وَهُمَا اللَّذَانِ اسْتَلَمَهُمَا ابْنُ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ. 478 - أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب، عن سالم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ (5) بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصدِّيق رَضِيَ اللَّهُ عنه   (1) قوله: يصبُغ بها، قال الزرقاني: قال المأزري: قيل: المراد صبغ الشعر، وقيل: صبغ الثوب والأشبه هو الثاني. قال عياض: هذا أظهر الوجهين وقد جاءت آثار عن ابن عمر فيها تصفير ابن عمر لحيته واحتجّ بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصفر لحيته بالورس والزعفران. رواه أبو داود. وذكر أيضاً في حديث آخر احتجاجه بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصبُغُ بها ثوبه حتى عمامته. (2) قوله: حتى تنبعث به، أي تستوي قائمة إلى طريقه يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم: إنما كان يُحرم حين التوجُّه إلى مكة والشروع في الأعمال فقاس عليه الإحرام بمكة يوم التروية لأنه يوم التوجُّه إلى منى ويوم الشروع في أفعال الحج، والمراد بانبعاث الراحلة انبعاثها به من ذي الحليفة لا من مكة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحرم في حجته من مكة، وقد ذكرنا سابقاً ما يتعلَّق بهذا المقام فتذكَّر. (3) أي ما ذُكر في هذه الرواية. (4) أي الحجر الأسود. (5) قوله: أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر، هو أخو القاسم بن محمد من ثقات التابعين قُتل بالحَرَّة سنة 63. أخبر هو عبدَ الله بن عمر بنصب عبد الله على أنه مفعول أخبر، فالمُخْبِر هو عبد الله بن محمد والمُخْبَر له ابن عمر، "عن" متعلِّق بأخبر عائشة: وظاهره أن سالماً كان حاضراً لذلك، فتكون من رواية نافع عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 أَخْبَرَ عبدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَمْ (1) تَرَي أَنَّ قومَك (2) حِينَ بَنَوا (3) الكعبة اقتصروا عن قواعد (4) إبراهيم عليه   عبد الله بن محمد، وأخرجه مسلم من رواية نافع عن عبد الله بن محمد، عن عائشة، كذا ذكره الحافظ ابن حجر وغيره. (1) بهمزة الاستفهام وفتح التاء والراء وسكون الياء وبحذف النون للجزم أي ألم تعلمي. (2) بكسر الكاف خطاب إلى عائشة وقومها المراد به قريش. (3) قوله: حين بنوا الكعبة، أن أرادوا بناءها، وذلك قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وكانت الكعبة قبل ذلك مبنيَّة بالرضم (الرضم واحدته "رضمة" الصخور العظيمة) . ليس فيها مدر ولم تكن جدرانها مرتفعة، وكان لها بابان فتساقط بناؤها ووصلها الحريق فأرادت قريش تسقيفَها ورفعَ جدرانها، ولم تكن قبل ذلك مسقَّفة فبَنوْا الكعبة وسقفوها بالخشب والحجارة وجعلوا لها باباً واحداً ليُدخلوا فيها من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، وقد كانوا تعاهدوا أن لا يُصرف في بنائها إلا المال الطيب، فجمعوه وشرعوا في بنائها فقصرت بهم النفقة، فأخرجوا قَدْر الحَطيم من الكعبة، ولم يزل ذلك البناء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يغيِّره لأن قريشاً كانوا قريبي عهد بالكفر والجاهلية، فخاف أن يطعنوا عليه بهدم الكعبة من غير ضرورة وبقي كذلك إلى عهد الخلفاء حتى جاء عهد عبد الله بن الزبير وكان قد سمع هذا الحديث من عائشة فهدم الكعبة في عهد خلافته وبناها على قواعد إبراهيم، ثم لما قُتل ابن الزبير لم يرضَ الحجاج الأمير من عبد الملك بن مروان إبقاء بناء ابن الزبير فهدمها وأعادها إلى وضع قريش فكان ما كان كما هو مبسوط في تواريخ البلد الأمين (وانظر أوجز المسالك 7/ 93) . (4) جمع قاعدة بمعنى الأساس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 السَّلامُ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا تَرُدَّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَتْ: فَقَالَ: لَوْلا (1) حِدثانُ (2) قومِك بِالْكُفْرِ، قَالَ (3) : فَقَالَ (4) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ (5) كَانَتْ عائشةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَى رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ (6) اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَان الحِجر إلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يتمَّ عَلَى قَوَاعِدِ إبراهيم عليه السلام   (1) قوله: فقال: لولا ... إلى آخره، وفي رواية: لولا أنَّ قومَك حديث عهد بالجاهلية لأمرت بالبيت فهُدم، فأدخلت فيه ما أخرج وألزقته بالأرض وجعلت له بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً فبلغتُ به أساس إبراهيم. واستُنبط من الحديث جواز ترك ما هو صواب خوف وقوع مَفسدة أشد منه. (2) بالكسر بمعنى الحدوث والقرب. (3) أي عبد الله بن محمد. (4) حين سمع هذا الحديث. (5) قوله: لئن، قال الحافظ ابن حجر والقاضي عياض: ليس هذا شكاً من ابن عمر في صدق عائشة، لكن يقع في كلام العرب كثيراً صورة التشكيك والمراد به التقرير. (6) قوله: ترك استلام الركنين، أي لمسَهما وتقبيلَهما. اللذين يليان أي يقربان الحِجْر (وهو المعروف على هيئة نصف الدائرة وقدره تسع وثلاثون ذراعاً. تنوير الحوالك ص 263) . بالكسر وهو الحطيم: الموضع الذي أخرجته قريش من الكعبة، وهما ركنان شاميان. ويعرف اليوم أحدهما بالركن العراقي والآخر بالشامي، إلا أن البيت أي الكعبة لم يتم على قواعد إبراهيم فليس الركنان بحسب بناء الخليل طرفين للكعبة، ولذا ورد أن ابن الزبير لما بنى الكعبة على قواعد الخليل استلم الأركان كلَّها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 41 - (بَابُ الصَّلاةِ فِي الْكَعْبَةِ وَدُخُولِهَا) 479 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ (1) الْكَعْبَةَ هُوَ وأسامةُ (2) بْنُ زَيْدٍ وَبِلالٌ (3) وَعُثْمَانُ (4) بْنُ طلحة الحجبي، فأغلقها (5) عليه،   (1) كان ذلك يوم الفتح، كما ورد في رواية البخاري. (2) قوله: أُسامة، بضم الألف ابن زيد بن حارثة بن شراحيل الهاشمي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، له مناقب كثيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: أحبيِّه فإني أحبُّه، أخرجه الترمذي، وولاه إمارة الجيش وفيهم عمر، وعقد له اللواء، توفي بالمدينة أو بوادي القرى سنة 54، وقيل: غير ذلك، ذكره النووي في "تهذيب الأسماء واللغات". (3) قوله: وبلال، هو ابن رباح بالفتح الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان قديم الإسلام والهجرة، وشهد المشاهد كلها، وله مناقب كثيرة، توفي بدمشق سنة 20، وقيل: سنة 21، وقيل بالمدينة وهو غلط، قاله النووي في "التهذيب"، وقد ذكرت قدراً من ترجمته في رسالتي "خير الخبر بأذان خير البشر" وغيره. (4) قوله: وعثمان، هو ابن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزّى بن عبد الدار، يقال له الَحجَبي بفتح الحاء والجيم لحجبهم الكعبة، ويُعرفون الآن بالشَّيبيِّين نسبة إلى شَيْبة بن عثمان بن أبي طلحة ابن عم عثمان المذكور ههنا. وخدمة غلق البيت وفتحه وحفظ مفتاحه لم تزل فيهم، ذكره العيني، (5) قوله: فأغلقها، أي الكعبة، والضمير إلى عثمان، وإنما أغلقه لكثرة الناس فخاف أن يزدحموا عليه، أو يصلوا بصلاته فيكون ذلك عندهم من مناسك الحج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 وَمَكَثَ (1) فِيهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (2) : فَسَأَلْتُ بِلالا حِينَ خَرَجُوا مَاذَا صَنَعَ (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى (4) ، وَكَانَ الْبَيْتُ (5) يومئذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ الصَّلاةُ فِي الْكَعْبَةِ حَسَنَةٌ (6) جَمِيلَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا.   (روى ابن أبي شيبة من قول ابن عباس: إن دخول البيت ليس من الحج في شيء. وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخول البيت من مناسك الحج، وردَّه بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما دخله عام الفتح ولم يكن محرماً. فتح الباري 3/ 466) . (1) أي توقَّف فيها زماناً. (2) ابن عمر. (3) أي في داخل الكعبة. (4) قوله: ثم صلّى، أي ركعتين نفلاً، وعند مسلم عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة. ولكنه كبَّر في نواحيه. ووقع عند أبي عَوَانة عن ابن عمر أنه سأل بلالاً وأسامة - حين خرجا -: هل صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه؟ فقالا: نعم، وكذا ورد عند أحمد والطبراني. وجمع بينهما بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفى أراد ما في علمه، ويحتمل أن يكون أسامة غاب بعد دخوله، فلم يره يصلي، ويدل عليه ما رواه ابن المنذر من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صوراً في الكعبة، فكنت آتيه بماءٍ في الدَّلو يضرب به الصُّوَر. وقال ابن حِبّان: الأشبه أن يُحمل الخبران على دخولين متغايرين: أحدهما يوم الفتح وصلّى فيه، والآخر في حجة الوداع، ولم يصل فيه، كذا في " عمدة القاري". (5) أي كانت الكعبة في ذلك الزمان مبنيَّة على ستة أَعمِدة بالفتح وكسر الميم جمع عمود. (6) أي مستحبة وفضيلة (ويقول الحافظ في الفتح 3/466 ما ملخِّصه: إن صحة النفل والفرض داخل الكعبة قول الجمهور، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي، وعن ابن عباس عدم الصحة مطلقاً للزوم استدبار بعض الكعبة وقد ورد الأمر باستقبال جميعها، وبه قال بعض المالكية والظاهرية والطبري، ومشهور قول مالك على رأي المازري منع الفرض ووجوب الإعادة، وأطلق الترمذي عنه جواز النفل، فكأنه اختلف النقل عنه. اهـ -) وليست من مناسك الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 42 - (بَابُ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ) 480 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ (1) قَالَ (2) : كَانَ الْفَضْلُ (3) بْنُ عَبَّاسٍ رديفَ (4) رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، قال: فأتتْ (5)   (1) أي سليمانَ بنَ يسار. (2) أي ابنُ عباس. (3) قوله: الفضل، هو ابن عباس، أخو عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، له مناقب كثيرة، شهد حُنَيْناً وحجة الوداع، وخرج إلى الشام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي بناحية الأردنّ في طاعون عَمَواس سنة 18، وقيل: توفي سنة 15، وقيل غيرذلك، ذكره ابن الأثير. وهذا الحديث أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس مثل ماههنا، والأئمة الخمسة من حديث الفضل، فجعله بعضهم من مسند ابن عباس وبعضهم من مسند الفضل، قال الترمذي: سألت محّمداً - يعني البخاري - عنه فقال: أصح شيء في هذا الباب ما رواه ابن عباس عن الفضل، ويحتمل أن يكون سمعه من الفضل وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أرسله، فلم يذكر مَن سمعه منه. (4) قوله: رديف، أي راكباً خَلْفَه على بعيرٍ واحد وهو مما لا بأس به، إذا أطاقته الدابَّة. (5) وكان ذلك غداةَ جمْعٍ بيوم النحر، كما في روايةٍ للبخاريِّ والنسائيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 امرأةٌ مِنْ (1) خثعَم تَسْتَفْتِيهِ (2) ، قَالَ: فَجَعَلَ (3) الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصرِف وَجْهَ الفضل بيده إلى الشِّقِّ الآخر، فقالت (4) :   (1) قوله: من خَثْعَم، بفتح الخاء وسكون الثاء المثلَّثة وفتح العين: قبيلة مشهورة. (2) أي تطلب منه الحكم والفتوى. (3) قوله: فجعل، أي طفق وشرع الفضل بن عباس ينظر إلى تلك المرأة، وتنظر تلك المرأة إلى الفضل، وذلك لكون الطبائع مجبولة على النظر إلى الصور الحسنة، وكان الفضل حسناً جميلاً وتلك المرأة شابة جميلة، والأظهر أن ذلك النظر لم يكن عن شهوة بل من المباح الذي رُخِّص فيه إذا أُمن من الشهوة، لكن لّما خاف النبي صلى الله عليه وسلم أن يجرَّ ذلك إلى فتنة صَرَفَ وجهَ الفضل بيده الشريفة إلى الشِّقّ - بالكسر وتشديد القاف - الآخر أي الجانب الآخر الذي ليس فيه ذلك الاحتمال، وقد سئل عنه العباس فقال: لم لوَّيتَ عُنُق ابن عمك؟ فقال: رأيت شابّاً وشابّةً فلم آمن الشيطانَ عليهما، أخرجه الترمذي، وبالغ في دفع الفتنة فصرف وجهه بيده فإنَّ الإنكار باليد أقوى من الإنكار باللسان، وبهذا ظهر أنه لا يصح استنباط حرمة مطلق النظر إلى وجه الأجنبية ولو في حالة الأمن من هذه القصة (قال الباجي: يحتمل أن تكون قد سدلت على وجهها ثوباً، فإن المحرمة يجوز لها ذلك لمعنى الستر، إلاَّ أنه كان يبدو من وجهها ما ينظر إليه الفضل. المنتقى 2/267. وفي فتح الباري 4/70 عن العياض: لعل الفضل لم ينظر نظراً ينكر بل خشي عليه أن يؤول إلى ذلك، أو كان قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب. وقال الشيخ في " البذل": وإنما لم يمنعها ولم يأمر بصرف النظر عنه لأن صرف وجه أحدهما يغني عن الآخر، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يخف منها الشهوة، كما في الأوجز 7/48) . (4) بيان لاستفتائها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ فريضةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أدركْت أَبِي شَيْخًا (1) كَبِيرًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أفأحجُّ (2) عنه؟ قال: نعم (3) ، وذلك (4) في حجة الوادع. 481 - أخبرنا مالك، أخبرنا أيوب السَّخْتيانيّ (5) ، عن   (1) قوله: شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبُت، بضم الباء أي يقعد ويستقرُّ على الراحلة، يعني أن الحج افترض على أبي حال كونه شيخاً كبيراً غير قادر على الذهاب لا ماشياً ولا راكباً بأن أسلم في ذلك الحال، أو أسلم قبله وكان فقيراً فحصلت له الاستطاعة الموجِبة لافتراض الحج في تلك الحالة (2) بهمزة الاستفهام. (3) قوله: قال: نعم، أي حجي نائبةً عنه، واستُنبط من الحديث جواز حج المرأة عن الرجل وكذا العكس، ولا خلاف في جوازهما إلاَّ ماقال الحسن بن صالح من عدم جواز حج المرأة عن الرجل، وهو غفلة عن السنَّة، وقالت طائفة: لا يحج أحد عن أحد، روي هذا عن ابن عمر والقاسم والنَّخَعي، وقال مالك والليث: لا يحج أحد عن أحد إلاَّ عن ميت لم يحج حجة الإسلام، وقالت الحنفية والشافعية بجواز الاستنابة للشيخ الفاني وكذا الحج عن الميت، كذا في "عمدة القاري". (4) أي كان هذا الاستفتاء والجواب في حجة الوداع سنة عشر. (5) قوله: السختياني، نسبة إلى بيع السَّخْتِيان - وهو بفتح السين وسكون الخاء وكسر التاء الفوقانية وتخفيف الياء التحتية، في الآخر نون - جلود الظأن، كان أيوب يبيعها، فنسب به، كذا في "أنساب السَّمعاني" ومختصره المسمّى باللباب لابن الأثير الجزري، وأما قول السيوطي في مختصره "لب اللباب" إنه بكسر السين فسبق قلم نبَّه عليه عبد الله بن سالم البصري المكِّي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 ابْنِ سِيرِينَ (1) ، عَنْ رَجُلٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا أَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أمي امرأةٌ كَبِيرَةٌ لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْمِلَهَا (2) عَلَى بَعِيرٍ، وإنْ رَبَطْنَاهَا (3) خِفْنَا أَنْ تَمُوتَ، أَفَأَحُجُّ (4) عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. 482 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ السَّخْتَيانيّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ رَجُلا كَانَ جَعَلَ (5) عَلَيْهِ أَنْ لا يَبْلُغَ (6) أحدٌ مِنْ وَلَده   (1) قوله: عن ابن سيرين، اسمه محمد، ذكر النووي في "التهذيب" أن أباه سِيرِين - بكسر السين والراء - كان مولى أنس بن مالك، وله ستة أولاد: محمد ومَعبد وأنس ويحيى وحفصة وكريمة وكلهم رواة ثقات من أجلِّة التابعين، وكثيراً ما يطلق ابن سيرين على محمد، هذا أبو بكر البصري الإمام في التفسير والتعبير والحديث والفقه، سمع ابن عمر وأبا هريرة وابن الزبير وغيرهم، ولم يسمع عن ابن عباس فحديثه عنه مرسل، وقد أكثر الأئمة في الثناء عليه، توفي بالبصرة سنة 110 هـ -. (2) أي لا نقدر أن نركبها على الراحلة خوفاً من سقوطها. (3) أي شَدَدْنا بالحبل على البعير خوف السقوط. (4) بهمزة استفهام. (5) أي نذر وألزم على نفسه. (6) قوله: أنْ لا يبلغَ أحد من وَلَد، بفتحتين أو بضم الأول وسكون الثاني. الحلب، أي حلب اللبن عن الضرع. فيحلُب، بضم اللام وكسره، أي ولده. فيشرب، أي ذلك الولد. ويستقيه (في نسخة: يسقيه) ، أي يسقي الولد ذلك اللبن والده إلاَّ حجَّ بنفسه وحجَّ به أي الولد، قال ابن سيرين: فبلغ رجل من ولده الذي قال أي إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 الحَلَبَ فيَحلِبُ فَيَشْرَبَ وَيَسْتَقِيَهُ إلاَّ حجَّ وحجَّ بِهِ، قَالَ: فَبَلَغَ رجلٌ مِنْ وَلَدِهِ الَّذِي قَالَ، وَقَدْ كَبِرَ الشَّيْخُ، فَجَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الخَبَرَ، فَقَالَ إِنَّ أَبِي قَدْ كَبِرَ وَهُوَ لا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ بالحجِّ عَنِ الْمَيِّتِ (1) وَعَنِ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ إِذَا بَلَغَا مِنَ الْكِبَرِ (2) (3) مَا لا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَحُجَّا. وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ مَالِكُ (4) بْنُ أَنَسٍ: لا أرَى أن يحجَّ أحدٌ عن أحدٍ.   مرتبةٍ قال بها ذلك الرجل، وهو أن يقدر على أن يحلب فيشرب ويسقيه. وقد، أي والحال أنه قد كبِرَ - بكسر الباء - الشيخ أي بلغ الوالد من الشيخوخة وبلغ من الكبر إلى حد لا يقدر على إيفاء نذره، فَجَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فأخبره الخبر أي بين له كيفية النذر والكبر، فقال: إن أبي قد كبر وضعف وهو لا يستطيع أي لا يقدر على الحج أفأحج عنه؟ أي نيابة عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، حُجَّ عنه وأَوْفِ بنذره. (1) قوله: عن الميت، أي نيابةً عن الميت فرضاً كان أو نفلاً، فإن كان فرضاً، وأوصى به الميت سقط عنه وإلاَّ يجزئ عنه إن شاء الله، وفي النفل (قال الحافظ: وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافاً للشافعي، وعن أحمد روايتان: كذا في فتح الباري 4/66 وبسط شيخناً في الأوجز 9/42 في بيان الحج عن الغير عشرة أبحاث مفيدة مهمة) يصل ثوابه إليه. (2) بكسر الأول وفتح الثاني. (3) أي سناً لا يقدران الحج بنفسهما. (4) صاحب الموطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 43 - (بَابُ الصَّلاةِ بِمِنًى (1) يَوْمَ التَّرْوِيَةِ (2)) 483 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ (3) يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ بِمِنًى، ثُمَّ يغدُو إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَى عَرَفَةَ. قَالَ محمد: هكذا السنَّة (4)   (1) قوله: بمنى، بكسر الميم، تصرف ولا تصرف، وهو موضع معروف من الحرم بين مكة والمزدلفة، حدُّها من جهة المشرق بطن السيل إذا هبطت من وادي محسر، ومن جهة المغرب جمرة العقبة، سُمِّي به لما يمنى فيه من الدماء أي يُراق ويُصَبُّ، ذكره النووي في "التهذيب". (2) أي اليوم الثامن من ذي الحجة. (3) قوله: كان يصلي، أي كان يرحل من مكة بعد صلاة الفجر من اليوم الثامن إلى منى، فيصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة، ثم يذهب في اليوم التاسع غداءً أي صباحاً إذا طلعت الشمس إلى عَرَفة بفتحتين، ويقال له عرفات أيضاً. قال النووي: اسم لموضع الوقوف سُمِّي بذلك لأن آدم عرف حواء هناك، وقيل: لأن جبريل عرَّف إبراهيم المناسك هناك، وجُمعت عرفات لأن كلَّ حدٍّ منه يسمَّى عرفة، ولهذا كانت مصروفة كقصبات، قال النحويون: ويجوز ترك صرفه بناءً على أنها اسم مفرد لبقعة. (4) قوله: هكذا السنَّة، أي الطريقة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة ضحىً من يوم التروية، وغدا إلى عرفات يوم عرفة بعد الطلوع، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد والحكم وابن خزيمة وغيرهم. وقد أجمع الأئمة على استحباب هذا وأولويته ومنهم من قال إنه سنة مؤكدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 فَإِنْ عجَّل (1) أَوْ تأخَّر فَلا بَأْسَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 44 - (بَابُ الْغُسْلِ بِعَرَفَةَ يَوْمَ (2) عَرَفَةَ) 484 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يُرَوِّحَ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا (4) حَسَنٌ وَلَيْسَ بواجب. 45 - (باب الدَّفع (5) من عرفة) 485 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أنَّ أباه أخبره،   (هكذا في فروع الأئمة الأربعة: أوجز المسالك 7/356) . (1) قوله: فإن عجَّل، من التعجيل. وفي نسخة: تعجَّل أو تأخَّر بأن قدم بمنى يوم السابع من ذي الحجة أو بعد صلاة الظهر أو العصر يوم التروية، وبأن يذهب إلى عرفة قبل طلوع يوم عرفة في ليلة عرفة أو يوم التروية أو يذهب إلى عرفة وقت الضحى يوم عرفة أو بعد الزوال بشرط أن يصل هناك وقت الوقوف فلا بأس أي هو جائز إلاَّ أنه خلاف الأَولى، أو خلاف السَّنة، إنشاء الله تعالى، قال القاري: إنما استثني احتياطاً لاحتمال أن يكون تأَخُّره عليه السلام في منى كان للنسك وقصد العبادة أو لضرورة قلَّة الماء بعرفة أو الاستراحة أو لحوق الجماعة المتأخرة، وعلى كل تقدير فالأولى هو المتابعة. (2) أي اليوم التاسع. (3) أي يذهب من مقام نزوله إلى جبل الرحمة وموقف الدعاء. (4) قوله: هذا حسن، أي هذا الغسل مستحب، وقيل سنة للوقوف وليس من المناسك الواجبة. (5) قوله: الدفع، أي الرجوع من عرفة إلى المزدلفة عند غروب الشمس يوم عرفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحدِّث عَنْ سَيْرِ (1) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَفَعَ (2) مِنْ عَرَفَة، فَقَالَ: كَانَ (3) يَسِير العَنَقَ حَتَّى إِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ أرْفَعُ (4) مِنَ العَنَق. قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنا (5) أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم بالسَّكِينَة (6) فإنَّ البِرَّ (7)   (1) أي عن كيفيَّته. (2) أي انصرف وذلك في حجة الوداع. (3) قوله: كان يسير العَنَقَ، بفتح العين وفتح النون، نوع من السير وهو أدنى المَشْي، وسير سهلٌ للدوابِّ من غير إسراع حتى إذا وجد فَجْوة - بالفتح - ما اتسع من الأرض - وفي بعض الروايات فرجة - نصَّ أي أسرع والنصُّ والنصيص في السير أن لسيار (هكذا في الأصل وهو تحريف. الصواب: " أن تسار" كما في الأوجز 7/294) الدابَّة سيراً شديداً. قال ابن بطّال: تعجيل الدفع من عرفة إنما هو لضيق الوقت لأنهم إنما يدفعون عند سقوط الشمس وبين عرفة والمزدلفة ثلاثة أميال وعليهم أن يجمعوا المغرب والعشاء في المزدلفة، فتعجَّلوا في السير لاستعجال الصلاة. (4) أي أعلى منه (قال النووي: هما نوعان من إسراع السير. وفي العنق نوع من الرفق. شرح النووي على مسلم 3/422) . (5) هذا البلاغ أخرجه البخاري (رقم الحديث 1666) وغيره من حديث ابن عباس. (6) أي بالطمأنينة في السير. (7) بالكسر أي الطاعة والعبادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 ليس بإيضاع (1) الإبل وإيجا فِ (2) الْخَيْلِ. وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 46 - (بَابُ بَطْنٍ (3) محسِّر) 486 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ (4) يُحَرِّك راحلَته فِي بَطْنٍ محسِّر كقَدْر رمْيَةٍ بحَجَر. قَالَ محمَّدٌ: هَذَا كلُّه وَاسِعٌ (5) إِنْ شئتَ حَركَّتَ (6) ، وإن شئت   (1) أي بإسراعه. (2) أي إعدائها. (3) قوله: باب بَطن، بالفتح. محسِّر، قال العيني في " البناية شرح الهداية": بكسر السين المشدَّدة فاعل من حسَّر بالتشديد لأن فيل أصحاب الفيل (في شرح "الدسوقي" على شرح متن" الخليل": الحق أن قضية الفيل لم تكن بوادي محسرّ، بل كانت خارج الحرم، وذكر العيني في عمدة القاري 4/691 نقلاً عن الطبري - وهو المحب الطبري - ذلك، ثم قال: قيل هذا غلط لأن الفيل لم يعبر الحرم) حسر فيه أي أعيى، وهو وادٍ من مزدلفة ومنى، وسمِّي وادي النار، يقال: إن رجلاً اصطاد فيه، فنزلت نار وأحرقته، وحكمة الإسراع فيه لمخالفة النصاري لأنه مو قفهم. (4) قوله: كان يحرِّك، أي تحريكاً زائداً ليسرع في بطن محسِّر كقَدر رمية بالكسر بحَجَر أي مقدار إذا رُمي بالحجر فوصل بموضع، وهذا قيل لمخالفة النصارى كما مر، وقيل: لأنه وادٍ عذِّب به بعض الكفار، فأحب أن يسرع في الخروج منه، وهو أمر مستحب ليس بواجب. (5) أي جائز. (6) أي الراحلة للإِسرع في وادي محسِّر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 سِرْتَ عَلَى هيْنَتِكَ (1) بَلَغَنَا (2) أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي السَّيرين (3) جَمِيعًا: عَلَيْكُمْ بالسَّكينَة (4) . حِينَ أفاضَ (5) مِنْ عَرَفَةَ، وَحِينَ أفَاضَ من المُزدَالِفَة. 47 - (بَابُ (6) الصَّلاةِ بِالْمُزْدَلِفَةِ) 487 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي المغرب والعشاء بالمُزدَلِفة جميعاً.   (1) بالفتح أي طريقتك في التوسط. (2) قوله: بلغنا، دليل لكون الأمرين جائزَين يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السيرين جميعاً - أي في السير من عرفة إلى مزدلفة وفي السير من مزدلفة إلى منى -: عليكم بالسكينة والطمأنينة في المسير، فدل ذلك على عدم الإسراع. وفيه أن السكينة في السير الثاني لا ينافي قدراً من الإِسراع مع أن هذا القدر مخصَّص من ذلك المطلق. وليس ذلك ثابتاً بفعل ابن عمر وحده، بل ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الطويل المخرج في الصحاح (قال الموفق: يستحب الإِسراع في بطن محسِّر وهو ما بين جمع ومنى، فإن كان ماشياً أسرع وإن كان راكباً حرَّك دابته لأن جابراً قال في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أتى بطن محسر حرَّك قليلاً. المغني 3/424) . (3) في نسخة: المسيرين. (4) بيان للسيرين. (5) أي رجع. (6) قوله : باب الصلاة بالمزدلفة، بضم الميم وكسر اللام: موضع بين منى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 488 - أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب، عن سالم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ (1) بالمُزدَلِفة جَمِيعًا. 489 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَدِيِّ (2) بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (3) بْنِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيِّ الخَطْمي، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ (4) الأَنْصَارِيِّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المغربَ والعشاءَ بالمُزْدَلِفَة جميعا (5) في حَجَّةِ الوَدَاع.   وعرفة ما بين وادي محسِّر ومأزمي عرفة، وهما جبلان بين المزدلفة وعرفة، واحده مأزم بكسر الزاء، والحدان خارجان من المزدلفة سمِّي به لازدلاف الناس أي اقترابهم واجتماعهم بها، وقيل لاجتماع آدم وحواء به، من ثم سمِّي بالجمع أيضاً، ذكره النووي. (1) ولم يتنفَّل بينهما. (2) هومن ثقات التابعين الكوفيين، وثقه أحمد وغيره، مات سنة 110، كذا في "الإسعاف". (3) قوله: عبد الله، هو عبد الله بن يزيد بن زيد بن حصين الأنصاري الخطمي، نسبة إلى بني خَطمة بالفتح بطن من الأنصار، وهو صحابي صغير، ذكره العيني وغيره. (4) اسمه خالد بن زيد. (5) قوله: جميعاً، زاد الطبراني من طريق جابر الجعفي ومحمد بن أبي ليلى كلاهما عن عديّ بن ثابت بهذا الإِسناد بإقامة واحدة، والجعفي ضعيف، لكن تقوّى بمتابعة محمد، وبه يُرَدُّ على قول ابن حزم: ليس في حديث أبي أيوب ذِكْرُ أذان وإقامة، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يُصَلِّي (1) الرجلُ المغربَ حَتَّى يَأْتِيَ المُزْدَلِفَة، وَإِنْ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ، فَإِذَا أَتَاهَا أذَّن وَأَقَامَ فَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ والعشاءَ بِأَذَانٍ (2) وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله والعامةِ من فقهائنا.   (1) قوله: لا يصلي، يعني أنَّ تأخير المغرب واجب إلى أن يصل المزدلفة فيجمع بينه وبين العشاء في المزدلفة وإن ذهب نصف الليل ودخل وقت كراهة العشاء، فلو صلاها في الطريق أو في عرفة أعاد، وهذا أحد القولين، وبه قال بعض المالكية، وقال الشافعية وغيرهم: لو جمع قبل جمع أو جمع بينهما تقديماً في الجمع أجزأ، وفاتت السنَّة، والخلاف مبني على أن الجمع بعرفة أو المزدلفة هل هو للنسك أو للسفر، فمن قال بالأول قال بالأول، ومن قال بالثاني قال بالثاني، كما بسطه في "ضياء الساري". (2) قوله: بأذان وإقامة واحدة، أي بأذان واحد وإقامة واحدة للأولى فقط، والمرجَّح هو تعدُّد الإقامة لا الأذان كما بسطه الطحاوي في " شرح معاني الآثار". والمسألة مسدسة فيها ستة أقوال كما فصَّلها في "فتح الباري" (3/525) . و"عمدة القاري" (4/687) : أحدها: الجمع بأذانين وإقامتين، رُوي ذلك عن ابن مسعود عند البخاري، وعن عمر عند الطحاوي، وبه قال مالك وأكثر أصحابه وليس لهم في ذلك حديث مرفوع، قاله ابن عبد البر، وقال ابن حزم: لم نجده مروياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بنص صريح صحيح، وذكر ابن عبد البر عن أحمد بن خالد أنه كان يتعجب من مالك حيث أخذ بحديث ابن مسعود وهو من رواية الكوفيين مع كونه موقوفاً ومع كونه لم يروه، ويترك ما رَوى عن أهل المدينة وهو مرفوع، وأُجيب عنه بأنه اعتمد صنيع عمر وإن كان لم يروه في "الموطأ"، وحمل الطاوي صنيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 48 - (بَابُ مَا يَحْرُم عَلَى الْحَاجِّ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ العَقَبة (1) يَوْمَ النَّحْرِ) 490 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ   ابْنِ عمر على أنه أذَّن للثانية لكون الناس تفرَّقوا لعشائهم فأذَّن ليجمعهم، وبه نقول إذا تفرق الناس عن الإِمام لأجل عشاء أو لغيره، فأذَّن، فلا بأس به، وبمثله يُجاب عن فعل ابن مسعود. وثانيها: أن يجمع بينهما بأذان وإقامة واحدة وهو مذهب أصحابنا الحنفية، قال ابن عبد البر: أنا أعجب من الكوفيين أخذوا بما رواه أهل المدينة، وتركوا ما رَوَوْا عن ابن مسعود مع أنهم لا يعدلون به أحداً. انتهى. وحجتهم في ذلك حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأذان واحد وإقامة واحدة أخرجه ابن أبي شيبة، ورُوي نحوه من حديث ابن عباس عند أبي الشيخ الأصبهاني من حديث أبي أيوب كما مر. وثالثها: أن يجمع بأذان واحد وإقامتين، ثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم وابن عمر عند البخاري، وهو الصحيح من مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، وبه قال ابن الماجشون من المالكية وابن حزم من الظاهرية والطحاوي من الحنفية وقواه. ورابعها: الجمع بإقامتين فقط من غير أذان، وهو رواية عن أحمد وعن الشافعي، وقال به الثوري وغيره، وهو ظاهر حديث أسامة المرويّ في صحيح البخاريّ حيث لم يذكر فيه الأذان، وقد رُوي عن ابن عمر من فعله كلُّ واحد من هذه الصفات، أخرجه الطحاوي، وكأنه رآه من الأمر المتخير فيه. وخامسها: الجمع بالإِقامة الواحدة بلا أذان، أخرجه مسلم وأبو داود عن ابن عمر أيضاً وهو المشهور من مذهب أحمد. وسادسها: ترك الأذان والإِقامة مطلقاً، أخرجه ابن حزم من فعل ابن عمر أيضاً. هذا كله في جمع التأخير بمزدلفة، وأما جمع التقديم بعرفات ففيه أقوال ثلاثة، الأول: يؤذَّن للأولى، ويقيم لها فقط، وبه قال الشافعي. والثاني: يؤذَّن للأولى ويقيم لكل منهما، وهو مذهب الحنفية. الثالث: تعدُّد الأذان والإقامة كليمها، وهو قول بعض الشافعية. وأرجحها وسطها. (1) بفتحتين هو اسم لموضع رمي طرف مِنَى إلى جهة مكَّة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 عبد الله بن عمر: أنَّ عمر بن الْخَطَّابِ خَطَبَ (1) النَّاسَ بعَرَفَة فعلَّمهم أمرَ (2) الْحَجِّ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: ثُمَّ (3) جِئْتُمْ مِنًى، فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ (4) الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حلَّ (5) لَهُ مَا حَرُم (6) عَلَيْهِ إلاَّ النِّسَاء (7) وَالطِّيبَ (8) ، لا يمَسَّ أحدٌ نِسَاءً وَلا طِيبًا حَتَّى يَطُوفَ (9) بِالْبَيْتِ. 491 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ رَمَى الجَمْرة (10) ثُمَّ حَلَقَ أَوْ قصَّر،   وفي يوم النحر يكتفي على رمي جمرة العقبة وفيما بعده من الأيام، يرمى في ثلاث مواضع. (1) اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم. (2) أي مناسكه. (3) قوله: ثم جئتم، أي بعد الرجوع من عرفة والمزدلفة غداة يوم النحر، وفي رواية يحيى: إذا جئتم منى، وهكذا في بعض نسخ هذا الكتاب، وفي بعضها: إن جئتم. (4) أي يوم النحر. (5) أي بالحلق أو التقصير. (6) أي في حالة الإحرام. (7) أي مباشرتهن. (8) أي استعمال الطيب في بدنه وثيابه. (9) قوله: حتى يطوف بالبيت، أي طواف الزيارة في يوم النحر أو بعده إلى الثاني عشر في ذي الحجة. (10) أي يوم النحر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وَنَحَرَ (1) هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَهُ حلَّ لَهُ مَا حَرُم (2) عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ إلاَّ النَّسَاء والطِّيبَ (3) حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا (4) قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ   (1) أي ذبحه. (2) أي في إحرامه. (3) لكونه من مقدِّمات الجماع. (4) قوله: هذا قول، أي عدم حِلّ النساء والطيب قبل طواف الزيارة. والأول متفق عليه (أي يحل له كل شيء إلاَّ النساء وهو قول سالم وطاوس والنخعي وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال مالك: يحل له كل شيء إلاَّ النساء والصيد، وفي " المدونة": أكره لمن رمى العقبة أن يتطَّيب حتى يفيض فإن فعل فلا شيء عليه. عمدة القاري 5/93) والثاني مختلف فيه، فمذهب عمر عدم حِلّ الطيب لكونه من مقدِّمات الجماع، وبه قال مالك، ويوافقه قول عبد الله بن الزبير: من سنَّة الحج إذا رمى الجمرة الكبرى حلّ له كل شيء إلاَّ النساء والطيب حتّى يزور البيت، أخرجه الحاكم في"المستدرك" وقال على شرط الشيخين، ولعل هذا الحكم منهم احتياطي، وإلاَّ فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة في أحاديث عديدة حِلّ الطيب كما بسطه الزيلعي في "نصب الراية"، فمن ذلك حديث عائشة الآتي ذِكْرُه، وأخرج أبو داود من حديث عائشة مرفوعاً: إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حلَّ له كلُّ شيء إلاَّ النساء، ونحوه أخرجه الدارقطني وابن أبي شيبة من حديثها، وأبو داود وأحمد والحاكم من حديث أم سلمة، وأخرج النسائي عن ابن عباس قال: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء، فقال رجل: والطيب؟ قال: أمّا أنا فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك أفطيب (في الأصل: أخطيب، وهو تحريف) هو أم لا؟ وزعم بعض المالكية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 خِلافَ (1) ذَلِكَ قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَديّ هَاتَيْنِ بَعْدَ مَا حَلَقَ (2) قَبْلَ أَنْ يَزُورَ (3) الْبَيْتَ، فَأَخَذْنَا بِقَوْلِهَا (4) . وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ (5) والعامَّة مِنْ فُقَهَائِنَا. 492 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ عائشة أنها (6) قالت: كنت أُطَيِّب (7)   أن عمل أهل المدينة على خلافه، قال العيني: ورُدَّ بما رواه النسائي من طريق أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بن هشام أن سليمان بن عبد الملك لما حج أدرك ناساً من أهل العلم منهم القاسم بي محمد وخارجة بن زيد وسالم وعبد الله بن عبد الله بن عمر وأبو بكر بن عبد الرحمن، فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة فكلهم أمروه به. فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من التابعين قد اتفقوا على ذلك، فكيف يُدَّعى مع ذلك العمل على خلافه؟! (1) أي خلاف مذهب عمر وابنه. (2) يوم النحر. (3) أي يطوف طواف الزيارة. (4) لكونه متضمناً لبيان الفعل النبوي. (5) وهذا قول الجمهور. (6) قوله: أنها قالت، قال ابن عبد البر: هذا حديث صحيح ثابت لا يختلف أهل العلم في صحته وثبوته، وقد رُوي من وجوه، وقال العيني: أخرجه الطحاوي من ثمانية عشر وجهاً. (7) قوله: كنت أطيِّب، قال الحافظ في "فتح الباري" (3/398) : استُدلَّ به على أنَّ "كان" لا تقتضي التكرار لأنها لم يقع ذلك منها إلاَّ مرة واحدة، وقد صرحت في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإحرّامِه (1) قَبْلَ أَنْ يُحرم، ولحلِّه (2) قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ (3) بِالْبَيْتِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ فِي الطِّيبِ (4) قَبْلَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ ونَدَعُ (5) مَا رَوَى عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامَّة مِنْ فُقَهَائِنَا. 49 - (بَابُ مِنْ أيِّ مَوْضِعٍ يُرمى (6) الْجِمَارُ (7)) 493 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ الرحمن بن القاسم:   رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوادع، وكذا استدلَّ به النوويُّ في " شرح صحيح مسلم"، وتُعُقِّب بأن المدَّعى تكراره إنما هو التطيُّب لا الإحرام، ولا مانع من أن يتكرر الطيب لأجل الإحرام مع كون الإحرام مرة واحدة، ولا يخفى ما فيه، وقال النووي في موضع آخر: إنها لا تقتضن التكرار ولا الاستمرار، وكذا قال الفخر في "المحصول" وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه، وقال جماعة من المحققين: إنها تقتضيه ظهوراً وقد تقع قرينة تدل على عدمه. (1) أي لأجل إحرامه. دل هذا على جواز التطُّيب عند الإحرام وقد اختلفوا فيه وقد مرِّ بنا تفصيله. (2) أي خروجه عن الإحرام (أي بعد أن يرمي ويحلق) . (3) أي يطوف طواف الزيارة. (4) أي في جواز استعماله. (5) أي نترك. (6) بصيغة المجهول. (7) قوله: الجمار، بالكسر جمع جَمرة بالفتح هي الحصا الصغيرة ثم سمِّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 مِنْ أَيْنَ كَانَ (1) الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَرْمِي جَمرَةَ العَقَبة؟ قَالَ: مِنْ (2) حَيْثُ تَيَسَّرَ. قَالَ محمَّد: أفضلُ ذَلِكَ أَنْ يَرْمِيَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَمِنْ حَيْثُ مَا (3) رَمَى فَهُوَ جَائِزٌ وهو قول أبي حنفية والعامة.   المواضع التي ترمى الحجار فيها بالجمار، فقيل: جمرة العقبة والجمرة الوسطى والجمرة الكبرى، وسمِّيت جمرة العقبة به لأن العقبة بفتحتين في الأصل الطريق الصعب في الجبل وتلك الجمرة واقعة كذلك، وقيل: سمَّيت تلك المواضع بها لاجتماع الحصى هناك، من تجَّمر القوم إذا تجمعوا، ذكره العيني. (1) أي من أي مقام. (2) قوله: من حيث تَيَسَّر، قال القاري: أي من جوانبها عُلْويّها وسُفْليّها. انتهى. وقال الزرقاني: أي من بطن الوادي، بمعنى أنه لم يعَّين محلاً منها للرمي، وليس المراد من فوقها أو تحتها أو بظهرها لما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رماه من بطن الوادي. انتهى. والذي يظهر في معنى هذا الأثر لعموم قوله: من حيث تيسَّر، أي أمكن وسهل، هو ما ذكره القاري، ولا شبهة أن الرمي من بطن الوادي مندوب وإنما الكلام في الجواز وفيما إذا لم يمكن ذلك، قال في " الهداية"و" البناية": فيرميها من بطن الوادي أي من أسفل الوادي إلى أعلاه، هكذا رواه عمر وابن مسعود في الصحيحين والترمذي عن ابن مسعود أنه عليه السلام لمّا رمى جمرةَ العقبة جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينة، ورمى من بطن الوادي. ولو رماها من أعلاها جاز، والأول هو السنَّة فإن عمر رماها من أعلاها للزحام. (3) أي من أي موضع رمى جاز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 50 - (بَابُ تَأْخِيرِ (1) رَمْيِ الْحِجَارَةِ مِنْ عِلّةٍ (2) أَوْ مِنْ غَيْرِ علّةٍ وَمَا يُكره مِنْ ذَلِكَ) 494 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ (3) أَبَا البَدَّاح بْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ أَخْبَرَه، عَنْ أَبِيهِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ رَخَّصَ لرِعاء (4) الإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ (5) يَرْمُون (6) يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ مِنَ الْغَدِ، أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ ليَوْمين، ثم يرمون يوم النَّفر.   (ذكر في " المحلى" أنِّ كلَّ ذلك واسع لكن السنَّة عند الجمهور كونه من بطن الوادي. انظر الأوجز 8/ 51) (1) أي من أوقاته المقررة. (2) بكسر الأول وتشديد الثاني: أي مرض أو ضرورة. (3) قوله: أن أبا البدّاح، بفتح الموحّدة والدال المشدّدة المهملة فألف فحاء مهملة، لا يوقف على اسمه، وكنيته اسمه، وقال الواقدي: أبو البدّاح لَقَبٌ غلب عليه وكينته أبو عمرو. انتهى. وكذا قال ابن المديني وابن حبان، وقيل: كينته أبو بكر، ويقال: اسمه عدي، وهو من ثقات التابعين، مات سنة 117، وقيل سنة 110. ابن عاصم بن عدي أخبره أي أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عاصم بن عدي بن الجَدَّ - بفتح الجيم - بن العجلان (في الأصل لعجلان والصواب العجلان. شرح الزرقاني 2/371) بن حارثة القضاعي الأنصاري، هو من الصحابة، شهد أحداً وغيره، وعاش خمسة عشر ومائة، كذا في شرح الزرقاني. (4) بالكسر جمع راعي. (5) مصدر بات أي في القيام ليلاً بمنى اللائق للحجّاج أي أباح لهم تركه لضرورتهم. (6) قوله: يرمون، هذا بيان للرخصة يعني رخّص لهم ترك البيتوتة بمنى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 قَالَ محمدٌ: مَنْ جَمَعَ رَمْي يَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ مِنْ عِلّةٍ أَوْ غَيْرِ عِلّة فَلا   وأمرهم أن يرموا يوم النحر بعد طلوع الشمس كما لسائر الحجاج، ثم يرمُون، أي إذا رَمُوا يوم النحر أجاز لهم أن يذهبوا من منى، ويقيموا خارحين عنه، ثم يجيئوا في اليوم الحادي عشر، فيرمون من الغد، أي اليوم الحادي عشر أو من بعد الغد أن لا يرموا يوم الحادي عشر بل يدخلوا في منى في اليوم الثاني عشر فيرموا فيه ليومين للحادي عشر قضاءً وللثاني عشر أداءً، ثم يرمون يوم النفر - بالفتح ثم السكون - أي يوم الانصرف من منى. وهو اليوم الثالث عشر - وهو يوم النفر الثاني ويُستحب ذلك. ومن تعجل فنفر في الثاني عشر فلا إثم عليه كما قال الله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} (سورة البقرة: الآية 203) وعلى هذا التقرير الذي ذكرنا يكون رخصتهم لأمرين، أحدهما: ترك البيتوتة، وثانيهما: جواز جمع رمي يومين في يوم واحد، ويمكن أن يكون المراد بقوله يرمون يوم النحر: رَمْيَ يوم النحر في ليلته فيكون رخصة ثالثة، كما أخرج الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا ليلاً، وعند الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أنه صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا ليلاً وأيّ ساعة شاؤوا من النهار، ونحوه أخرجه البرّاز من حديث ابن عمرو. بهذا استند الشافعي في أنّ أوّل وقت الرمي يوم النحر بعد نصف ليلته وعندنا وقته بعد طلوع الفجر لحديث ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر نساءه صبيحة جَمْع أن يفيضوا مع أول الفجر سواداً ولا يرموا الجمرة إلاَ مصبحين، أخرجه الطحاوي. وعنه أنه عليه السلام كان يقدم ضعفة أهله من المزدلفة بغَلَس ويأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس، أخرجه الأربعة. وهذا بيان الوقت الأفضل، وما مرّ من الأحاديث محمول عندنا على رمي الأيام الباقية فإنها جائزة ليلاً، ولو سلمنا أن المراد به ليلة العيد فهو أمر ضروري ثبت رخصةً للرعاء والضعفاء فلا يكون حجًّةً لتعيين الوقت، كذا في " البناية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 كَفَّارة عَلَيْهِ إِلا أَنَّه يُكْرَه (1) لَهُ أَنْ يَدع ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِلّة حَتَّى الغَد. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا تَرَكَ (2) ذَلِكَ حَتَّى الغَد فَعَلَيْهِ دمٌ (3) . 51 - (بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ رَاكِبًا) 495 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ النَّاسَ (4) كَانُوا إِذَا رمَوْا الْجِمَارَ مَشَوْا (5) ذَاهِبِينَ (6) وَرَاجِعِينَ (7) وَأَوَّلُ (8) من ركب مُعَاوِيَة بن أبي سُفيان.   (1) لأنه خلاف السنّة. (2) أي من غير علّة. (3) لأن رمي كل يوم في ذلك اليوم واجب عنده خلافاً لهما (4) أي الصحابة. (5) أي على أقدامهم. (6) أي من منازلهم إلى الجمار. (7) إلى مقامهم. (8) قوله: وأول من ركب معاوية، قيل ذلك لعذره بالسمن، وعند ابن أبي شيبة أن جابر بن عبد الله كان لا يركب إلا من ضرورة، وعند أبي داود أي ابن عمر كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشياً ذاهباً وراجعاً، ويخبر أن ّالنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. ثم المراد بالركوب ههنا المحكوم بأوّليّته من معاوية الركوب في جميع الجمار، أو الركوب في غير يوم النحر، وإلا فالركوب يوم النحر عند جمرة العقبة ثابت في رسول الله صلى اله عليه وسلم عند البخاري ومسلم وغيرهما. وفي ذلك مع ما مرّ دلالة لما ذهب إليه الشافعي ومالك من أنّ رمي يوم النحر الأفضل فيه الركوب، وفي غيره المشي، وقال غيرهما: الأفضل المشي في الكل، وركوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 قَالَ مُحَمَّدٌ: المَشْيُ أَفْضَلُ ومَنْ رَكِبَ فَلا بأسَ (1) بِذَلِكَ. 52 - (بَابُ مَا (2) يَقُولُ عِنْدَ الْجِمَارِ وَالْوُقُوفِ (3) عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ) 496 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكبّر (4) كُلَّما رَمَى الجمرة بحصاة. قال محمد (5) : وبهذا نأخذ.   النبي صلى الله عليه وسلم كان ليراه الناس، فيتعلموا منه المناسك ويسألوه (في الأصل: "يسألوا عنه") المسائل. والبسط في "عمدة القاري"، وفي "الهداية" وغيره: كل رمي بعده رمي فالأفضل أن يرميه ماشياً، وإلا فيرميه راكباً لأن الرمي الذي بعده فيه وقوف ودعاء فيرمي ماشياً ليكون أقرب إلى الإجابة. (1) أي هو جائز (وقد أجمع العلماء على جواز الأمرين معاً، واختلفوا في الأفضل من ذلك فذهب أحمد وإسحاق إلى استحباب الرمي ماشياً. وذهب مالك إلى استحباب المشي في رمي أيام التشريق. وأما جمرة العقبة يوم النحر فيرميها على حسب حاله كيف كان. قال النووي: يُستحب أن يرمي في اليومين الأوّلين من أيام التشريق ماشياً، وفي اليوم الثالث راكباً، قال ابن حجر: هو المعتمد كما في "الروضة" وعند الحنفية في المسألة ثلاث أقوال. ورجح ابن الهمام أداءها ماشياً أَوْلى لأنه أقرب إلى التواضع وخصوصاً في هذا الزمان. انظر: الأوجز 8/50، والكوكب الدري 2/ 129. (2) من الأذكار. (3) للدعاء. (4) أي يقول الله أكبر. (5) فإن التكبير عند كل حصاة مستحبّ فإن تركه فلا شيء عليه عند الجمهور، وعند الثوري يُطعم بتركه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 497 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ (1) الْجَمْرَتَيْنِ الأُوليَيْن يَقِفُ وُقُوفًا (2) طَوِيلا، يُكَبِّرُ اللَّهَ وَيُسَبِّحُهُ وَيَدْعُو اللَّهَ وَلا يَقِفُ (3) عِنْدَ العَقَبَة. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.   (1) قوله: عند الجمرتين الأوليين، فيه تغليب والمراد الأولى التي تلي مسجد الخَيْف والوسطى. وهذا في غير يوم النحر، وأما فيه فلا يرمي إلاَّ جمرة العقبة وليس هناك وقوف، والأصل فيه أن كلَّ رمي بعده رمي يُستحبّ فيه الوقوف والدعاء لأنه في وسط العبادة، فيأتي بالدعاء فيه، وكل رمي ليس بعده رمي لا وقوف فيه لأن العبادة قد انتهت، كذا في "الهداية" وغيرها. (2) قوله: وقوفاً طويلاً، أي مستقبل القبلة كما في رواية البخاري عن سالم أنّ ابن عمر كان يرمي الجمرة الدينا أي القربى من مسجد الخَيْف بسبع حصياتٍ ويُكبّر على إِثرِ كل حصاةٍ ثم يقدم (هكذا في الأصل. وفي صحيح البخاري: ثم يتقدّم. رقم الحديث 1751 و 1752، "4/ 583") . فيقوم مستقبل القبلة طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأتي ذات الشمال، فيقوم مستقبل القبلة طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي جمرةَ ذاتِ العقبة من بطن الوادي، فلا يقف عندها ثم ينصرف. وورد نحوه في روايةٍ للبخاري من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، قال العينيّ: اختلفوا في مقدار ما يقف فكان ابن مسعود يقف قدر قراءة سورة البقرة مرتين، وعن ابن عمر أنه كان يقف قدر سورة البقرة وعن ابن عباس بقدر قراءة سورة من المئين. ولا توقيف في ذلك عند العلماء وإنما هو ذكر ودعاء. (3) لا يوم النحر ولا فيما بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 53 - (بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ (1)) 498 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لا تُرمَى (2) الْجِمَارُ (3) حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ فِي الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ الَّتِي بَعْدَ يوم النحر. قال محمد: وبهذا (4) نأخذ.   (1) قوله: أو بعده، قال القاري: أو للتنويع فقبل الزوال يرمي العقبة يوم النحر، وبعده للبقية. انتهى. وفيه أنه ليس لوقت رمي يوم النحر وهو من طلوع الفجر إلى الزوال عند أبي يوسف وإلى غروب الشمس عندهما ذكر فيما بعد ترجمة الباب إلا أن يُقال: قول ابن عمر لا ترمي الجمار حتى تزول الشمس إلى آخره، يدل على أن ابتداء وقت الرمي من الأيام الثلاثة التي بعد النحر، هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من الزوال دون يوم النحر، فإنّ الابتداء فيه قبل الزوال يدل عليه التقييد بما بعد يوم النحر، فالأثر المذكور دلّ على كلا الأمرين أحدهما بعبارته والآخر بإشارته ويمكن أن يكون الهمزة الاستفهامية محذوفة أو عاطفة عليه، فالمعنى باب بيان أن رمي الجمار أهو قبل الزوال أو بعده؟ (2) بصيغة المجهول. (3) أي الحجار الصغار والمراد مواضع الرمي. (4) قوله: وبهذا، وبه قال أبو حنفية إلا أنه لو رمى في اليوم الرابع قبل الزوال صح مع الكراهة عنده خلافاً لهما وهو الأصح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 54 - (بَابُ الْبَيْتُوتَةِ (1) وَرَاءَ عَقَبَةِ مِنًى وَمَا يُكره مِنْ ذَلِكَ) 499 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، قَالَ: زعموا (2) أن عمر بن الحطاب كَانَ يَبْعَثُ رِجَالا يُدْخِلُونَ (3) النَّاسَ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ إِلَى (4) مِنًى. قَالَ نَافِعٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لا يَبِيْتَنَّ أحدٌ مِنَ الْحَاجِّ لَيَالِي مِنًى وَرَاءَ الْعَقَبَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنَ الْحَاجِّ أَنْ يَبِيتَ إلاَّ بِمِنًى لَيَالِي الْحَجِّ (5) فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ (6) مَكْرُوهٌ وَلا كَفَّارة عَلَيْهِ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   (أما عند الجمهور فالسنة عندهم أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، كذا في فتح الباري 4/580 والمغني 3/452. (1) قوله: باب البيتوتة (قال الجمهور: لا يبيت أحدٌ ليالي منى في غير منى، غير أنّ المبيت به واجب عند الشافعي وأحمد في المشهور عنهما، وسنّة عند أبي حنفية والشافعي في أحد قوليه وأحمد في رواية. أوجز المسالك 8/25) ، هي بمنى واجبة عند الجمهور حتى يجب الدم بتركها إلا من ضرورة لحديث: رخّص لرعاء الإبل، وفي قول للشافعي ورواية عن أحمد أنه سنة، يُكره تركها ولا يجب شيء به، وهو مذهب أصحابنا. (2) أي قالوا أو ذكروا له. (3) من الإدخال. (4) قوله: إلى منى، وذلك لأنّ العقبة ليست من منى بل هي حدّ منى من جهة مكّة. (5) وهي الليالي الثلاثة والاثنتان لمن تعجّل بعد ليلة العيد. (6) قوله: فهو مكروه، إلا للرعاة للحديث المارّ، وإلا لأهل السقاية لحديث: رخّص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته أي لماء زمزم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 55 - (بَابُ مَنْ قَدَّمَ نُسُكاً (1) قَبْلَ نُسُكٍ) 500 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عِيسَى (2) بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْد اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ (3) لِلنَّاسِ عَامَ حَجَّة الوَدَاع يَسْأَلُونَهُ، فَجَاء (4) رجلٌ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُر (5) فنحرتُ (6) قَبْلَ أَنْ أرْمِي (7) ، قَالَ: ارْمِ وَلا حَرَج (8) ، وَقَالَ (9) آخَرُ: يا رسول الله،   (1) أي عبادة من عبادات الحج. (2) ثقة فاضل، مات سنة 100، وأبوه من العَشَرة، قاله الحافظ. (3) أي على ناقته عند جمرة العقبة كما في رواية البخاري. (4) قوله: فجاء رجل، قال الحافظ (فتح الباري 3/570) : لم أقفْ على اسمه بعد البحث الشديد ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة وكانوا جماعة، لكن في حديث أسامة بن شَريك عند الطحاوي وغيره: كان الأعراب يسألونه. فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم. (5) أي لم أعلم أو لم أتعمَّد. (6) أي ذبحت. (7) الجمرة في يوم النحر. (8) بفتحتين. (9) قوله: وقال آخر، ذكر في هذه الرواية سؤال اثنين عن أمرين، أحدهما تقديم الذبح على الرمي، وثانيهما تقديم الحلق على الذبح، زاد في رواية في الصحيحين وأشباه ذلك، وفي رواية لمسلم قال آخر: أفضتُ قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج. فهذا ثالث وهو تقديم طواف الإضافة على الرمي، وفي رواية لأحمد ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   السؤال عن أمر رابع وهو تقديم الحلق قبل الرمي. فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال عن أربعة أشياء، وورد الأوّلان في حديث ابن عباس أيضاً عند البخاري، وللدار قطني من حديثه أيضاً السؤال عن الحلق قبل الرمي، وفي حديث جابر وأبي سعيد عند الطحاوي مثله، وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن الإضافة قبل الحلق، وفي حديثه عند ابن الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة معاً قبل الحلق، وفي حديث جابر عند ابن حبان السؤال عن الإفاضة قبل الذبح، وفي حديث أسامة السؤال عن السعي قبل الطواف. فهذه عدة صور (انظر فتح الباري 3/573) سُئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم وأجاب بأنه لا حرج. ولا خلاف في أن الترتيب بتقديم الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم طواف الإفاضة ثم السعي مطلوب، واختُلف في وجوبه، فذهب الشافعي وأحمد في رواية والجمهور إلى استنانه (اعلم أن المسنون يوم النحر أربعة أمور: الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم الإفاضة، وهذا الترتيب هو المسنون عند كافة العلماء، وقد وردت الروايات بهذا الترتيب من فعله صلى الله عليه وسلم والترتيب بين هذه الأربعة سنة عند الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنفية، فمن قدّم شيئاً من هذه أو أخّر فلا دم عليه عندهم لكون الترتيب غير واجب، واستدلوا بما ورد في الروايات من قوله عليه الصلاة والسلام: افعل ولا حرج، وأما عند الإمامين الهُمامين أبي حنفية ومالك رحمهما الله تعالى فالترتيب في بعضها واجب وفي بعضها سنة، فمن خالف الترتيب الواجب فعليه دم، ومن خالف الترتيب المسنون فقد أساء ولا دم عليه، فالترتيب عند مالك بين الرمي والأمور الثلاثة فقط، فلو قدم شيئاً من الأمور الثلاثة على الرمي فعليه دم، وأما في الأمور الثلاثة الباقية فسنة، وأما عند الإمام أبي حنفية فالترتيب بين الطواف والذبح سنة للمفرد فقط. وأما في غيرهما فالترتيب واجب، سواء كان مفرداً أو غيره، فمن خالف الترتيب الواجب فعليه دم. انظر حجة الواداع ص 146، وأوجز المسالك 8/ 149) . وأنه لو أخلّ في شيء من ذلك لا يلزم دم استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم: لا حرج، وأوجبه مالك في تقديم الإفاضة على الرمي، وذهب ًأبو حنفية إلى وجوبه في الكل ولزوم الدم بتركه، وحمل قوله: لا حرج على نفي الإثم، والكلام طويل مبسوط في شروح صحيح البخاري وشروح الهداية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 لَمْ أشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: اذْبَحْ وَلا حَرَجَ. فَمَا سُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ يَوْمَئِذٍ (1) قُدِّمَ (2) وَلا أُخِّر إلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلا حَرَجَ. 501 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتيانيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ (3) يَقُولُ: مَنْ (4) نَسِيَ مِنْ نُسُكه شَيْئًا - أَوْ تَرَك - فَلْيُهرِق دَمًا. قَالَ أَيُّوبُ: لا أَدْرِي أَقَالَ (5) تَرَكَ أَمْ نَسِي؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِالْحَدِيثِ (6) الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم نأخذ أنّه   (1) أي يوم النحر. (2) صفة لشيء. (3) هذا موقوف على ابن عباس له حكم الرفع، وأخرج ابن أبي شيب عن سعيد بن جيبر وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد نحو ذلك. (4) قوله: من نسي من نسكه، بضمتين أي من أعمال حجِّه وعمرته شيئاً - أو ترك - شكّ من أيوب السختياني هل روى شيخُه سعيد لفظ نسي أو ترك. فليهرق، أي يجب عليه أن يذبح ويريق دماً لتركه الواجب، وفي رواية ابن أبي شيبة والطحاوي بسند ضعيف لضعف راويه إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عنه قال: من قدّم شيئاً من حجّه أو أخّر فليهرق لذلك دماً. ثم أخرج الطحاوي بسند آخر قويّ مثله. قال الطحاويّ في "شرح معاني الأثار" فهذا ابن عباس يوجب على من قدّم نسكاً أو أخّر دماً، وهو أحد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما سئل يومئذ عن شيء قدّم أو أخّر من أمر الحج إلا قال فيه: لا حرج، فلم يكن معنى ذلك عنده معنى الإباحة ولكن معنى ذلك على أن الذين فعلوه في حجة النبي عليه السلام كان على الجهل بالحكم فيه (انظر شرح معاني الآثار 1/425) . (5) أي سعيد. (6) أي بظاهره الدّال على نفي الحرج مطلقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 قَالَ: لا حَرَجَ (1) فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا حَرَجَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يرَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةً إِلا فِي (2) خَصلَةٍ واحدةٍ، المُتَمَتِّع والقَارِن إِذَا حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ قَالَ (3) : عَلَيْهِ دمٌ (4) ، وَأَمَّا نَحْنُ (5) فَلا نَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا. 56 - (بَابُ (6) جَزَاءِ الصَّيْدِ) 502 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عبد الله:   (1) أي لا في الآخره بالإٍثم، ولا في الدنيا بلزوم الجزاء إذا لم يتعمد، وكذا لا حرج في الدنيا عند التعمد. (2) قوله: إلا في خصلة، الحصر غير حقيقي لما في "الهدايه" وشروحه: من أخّرَ الحلق حتى مضت أيام النحر فعليه دمٌ عند أبي حنيفه، وكذا إذا أخّر طواف الزيارة، وقال: لا شيء عليه في الوجهين، وكذا الخلاف في تأخير الرمي، وفي تقديم نسك على نسك كالحلق قبل الرمي ونحر القارن قبل الرمي والحلق قبل الذبح، بخلاف ما إذا ذبح المفرد بالحج قبل الرمي أو حلق قبل الذبح حيث لا يجب عليه شيء عنده أيضاً لأن النسك لا يتحقق في حقه لعدم وجوب الذبح على المفرد، وأما القارن والمتمتع فعليهما دم واجب فيجب الترتيب بينه وبين غيره. (3) أي أبو حنيفة. (4) بترك الترتيب الواجب. (5) أي أنا وأبو يوسف وغيرهما. (6) قوله : باب جزاء الصيد، أي جزاء صيد البرّ للمُحرم، وأما صيد البحر فهو حلال، والأصل فيه قوله تعالى: {يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقتُلُوا الصَّيدَ وَأَنتُم حُرُمٌ وَمَن قَتَلَه مِنكُم مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحكُمُ بِه ذَوَا عَدْلٍ مِنكُم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 أنَّ (1) عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَضَى فِي الضَّبُع (2) بكَبش (3) وَفِي الغَزال (4) بعَنز (5) ،   هَدياً بالِغَ الكَعبَة أَو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أو عَدلُ ذلِكَ صِيَاماً} (سورة المائدة: الآية 95) . واختلفوا في المثل فعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو أن يُقوَّم الصيدُ في المكان الذي قُتل فيه أو في أقرب المواضع منه إذا كان في برية، فيقوّمه رجلان عدلان ممن له معرفة بقيم الصيد، ثم القاتل مخيّر، إن شاء ابتاع بها هدياً إن بلغت قيمته قيمة الهدي، فيذبحه في الحرم، وإن شاء اشترى بها طعاماً وتصدَّقَ به على كل مسكين نصف صاع من بُرّ أو صاعاً من شعير أو تمر، وإن شاء صام عوض صدقة مسكين يوماً، وذلك لأن المثل المطلق هو المثل صورةً ومعنى، ولا يمكن الحمل عليه لخروج ما ليس له مثل صوري فحمل على المثل معنى، وهو القيمة. ومعنىقوله "من النَّعَم" بياناً لمثل أن يبتاع من النعم من ذلك القيمة، وعند محمد والشافعي يجب في الصيد النظير في ماله نظير لأنّ "من النعم" بيان لمثل، والقيمة ليست من النعم، ولذلك أوجب الصحابة النظير فيما له نظير لحديث "الضبع صيد وفيه شاة" أخرجه أصحاب السنن، وما ليس له نظير تجب القيمة فيه، فيكون قولهما مثل ما مرّ، والكلام من الطرفين مبسوط في "فتح القدير" و"النهاية" وغيرهما (ارجع إلى الأوجز 8/98) . (1) وقد وقع في بعض النسخ "عن" وهو تحريف. والحديث منقطع في رواية يحيى لعدم الواسطة بين أبي الزبير وعمر. (2) بفتح الضاد وضم الباء أو سكونها. بالفارسية "كفتار". (3) بالفتح. (4) بالفتح: الظبي. (5) بالفتح: الأنثى من المعز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 وَفِي الأَرْنَبِ بعَنَاق (1) وَفِي اليَربوع (2) بجَفرة (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ لأَنَّ هَذَا أَمْثِلَةٌ (4) مِنَ النَّعَمِ. 57 - (بَابُ كَفَّارَةِ (5) الأَذَى) 503 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ الجَزَرِيّ (6) ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (7) بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ (8) بن عُجْرَة:   (1) بالفتح: الأنثى من أولاد المعز. (2) بالفتح: الفار الوحشي. (3) بالفتح: قيل: من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر، وقيل: منه ومن الضأن أيضاً. (4) أي ما ذُكر أمثلة - بالفتح - جمع مثل أي مشابهة ومماثلة حال كونها من النَّعَم بفتحتين أي الدوابّ. (5) أي كفّارة حلق الرأس بسبب أذى في رأسه من كثرة القمل ونحوه. (6) بفتحتين، نسبة إلى جزيرة ابن عمر: اسم موضع. (7) هو من المجتهدين التابعين وثقات المحدثين، وسيأتي ذكره في باب القسامة. (8) قوله: عن كعب، هو كعب بن عُجْرة - بضم أوله وسكون ثانيه - ابن أمية بن عدي الأنصاري، نزل بالكوفة، ومات بالمدائن سنة 51 هـ - أو بعدها، روى عنه ابن عباس وابن عمر وغيرهما، ومن التابعين ابن أبي ليلى وأبو وائل وغيرهما، قاله ابن الأثير، وقد كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية محرماً، فرآه رسول الله والقملة تسقط من رأسه على وجهه فقال: أيؤذيك هوامُّك؟ قال: نعم، فأمره أن يحلق، وأنزل الله فيه قوله: {فَمَن كَان مِنكُم مَرِيضاً أَوبِه أَذَىً مِن رَأسِه} (سورة البقرة: الآية 196) ، يعني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحرِماً، فَآذَاهُ (1) القُمَّل فِي رَأْسِهِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ وَقَالَ: صُمْ ثلاثةَ أَيَّامٍ، أَوْ أطْعِمْ (2) سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَيَّنْ مُديَّن (3) أَوِ نُسُك (4) شَاةً أيَّ ذَلِكَ فَعَلتَ أَجْزَأَ عَنْكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ. 58 - (بَابُ مَن قدَّم (5) الضَّعَفَة من المزدلفة) 504 - أخبرنا مالك، أخبرنا نافع،   لا تحلقوا رؤوسكم في حال الإِحرام إلاَّ أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لأذى في الرأس من هوامَّ أو صداع، ففدية أي فحَلَق فعليه فدية من صيام ثلاثة أيام، أو صدقة ثلاثة آصع على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو نسك، واحدتها نسيكة أي ذبيحة أعلاها بَدَنة ووسطها بقرة وأدناها شاة، كذا في "معالم التنزيل". (1) قوله: فآذاه القُمَّل، بضم القاف وتشديد الميم واحدة قملة أو بالفتح ثم السكون: دويِّبة صغيرة تتولد من العرق والوسخ والعفونة، ذكره الدماميني في "عين الحياة". (2) أمر من الإطعام. (3) المد - بضم الميم وتشديد الدال - ربع الصاع فالغرض تصدَّقْ مُدَّيْن مُدَّيْن يعني نصف صاع لكل مسكين. (4) بضم السين يعني اذبح. (5) قوله: باب من قدَّم، من التقديم، الضعفة - بفتحتين - جمع ضعيف مثل النساء والصبيان والشيوخ الكبار والمرضى. من المزدلفة، أي أرسلهم إلى منى من مزدلفة في ليلة العيد قبل أوان نفر الحجاج منها، وهو وقت الإِسفار من يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 عَنْ سَالِمٍ وعُبَيد اللَّهِ (1) ابنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّم (2) صِبْيَانه مِنَ المُزْدَلِفَة إِلَى مِنىً حَتَّى (3) يُصَلّوا الصُّبْحَ بمِنىً. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بأس بأن يُقَدَّم (4) الضَّعَفَة ويُوغِر (5) إِلَيْهِمْ أَنْ لا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا.   العيد، وهو جائز بالإِجماع (وفي المغني 3/423، ولا نعلم فيه مخالفاً) خوف الزحام عليهم، وقد قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَعَفَة بني هاشم وصبيانهم، منهم ابن عباس ونساؤه وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى يطلع الفجر كما هو ثابت في صحيح البخاري والسنن. (1) هو من أعلام التابعين، ثقة ثبت، مات قبل أخيه سالم، قاله ابن الأثير. (2) أي يرسلهم بالليل قبل نفر الناس. (3) قوله: حتى يصلّوا الصبح بمنى، في صحيح البخاري عن سالم أن ابن عمر كان يُقَدّم ضَعَفَة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإِمام وقبل أن يدفَعَ، فمنهم من يَقْدَمُ مِنىً لصلاة الفجر ومنهم من يَقدَمُ بعد ذلك فإذا قدموا رَمَوْا الجمرة. وكان ابن عمر يقول: أرخص (في نسخة البخاري: أرخص. قال الحافظ: كذا وقع فيه أرخص، وفي بعض الروايات: رخَّص بالتشديد وهو الأظهر من حيث المعنى. فتح الباري 3/526) في أولئك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. (4) مجهول من التقديم وكذا ما بعده، وفي نسخة يقدم ويوغر مبنيّان للفاعل. (5) قوله: ويوغر إليهم، قال القاري: بكسر الغين المعجمة من أوغر إليه، هكذا أمره أن لا يفعل ويترك، والمعنى يأمرهم ويؤكد عليهم أن لا يرموا الجمرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 59 - (بَابُ جِلال (1) البُدن (2)) 505 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ لا يشقُّ (3) جِلال بُدنه، وَكَانَ لا يجلِّلها (4) حَتَّى (5) يغدوَ بِهَا من منى إلى عرفة   حتى تطلع الشمس ليكونوا حاملين للسنة، وإلاَّ فيجوز الرمي بعد الصبح إجماعاً. وفي "عمدة القاري" (10/18) : جواز الرمي قبل طلوع الشمس وبعد طلوعِ الفجر للذين يتقدمون قبل الناس قول عطاء بن أبي رباح وطاوس ومجاهد والنَّخَعي والشعبي وسعيد بن جبير والشافعي، وقال عياض: مذهب الشافعي رمي الجمرة من نصف الليل، ومذهب مالك أنَّ الرمي يحل بطلوع الفجر، ومذهب الثوري والنخعي أنها لا تُرمى إلاَّ بعد طلوع الشمس وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق قالوا: فإن رَمَوْها قبل طلوع الشمس أجزأتهم وقد أساؤوا، أو قال الكاساني من أصحابنا: أول وقته المستحب ما بعد طلوع الشمس وآخر وقته آخر النهار، كذا قال أبو حنيفة، وقال أبو يوسف إلى الزوال. (1) قوله: جِلال، بالكسر جمع جُلَّ - بالضم وتشديد اللام - ما يُجعل على ظهر الحيوان وهو للبَدَنة كالثوب للإِنسان يقيه البرد والوسخ. (2) قوله: البُدْن، بالضم جمع البَدَنة بفتحتين هي من الإِبل والبقر. (3) قوله: كان لا يشق، أي لا يقطعها في موضع لئلا تفسد، وتكون قابلة لأيِّ انتفاع كان، قال الزرقاني: رواه البيهقي من طريق يحيى بن بكير عن مالك، وقال: وزاد فيه غيره عن مالك إلاَّ موضع السنام، وإذا نحرها نزع جِلالها مخافةَ أن يفسدها الدم، ثم يتصدَّق بها. ونقل عياض أن التجليل يكون بعد الإِشعار لئلا يتلطَّخ بالدم وأن يشق الجلال من السنام إن قلّت قيمتها فإن كانت نفيسة لم تشق. (4) أي من التجليل أي لا يكسوها الجلال. (5) قوله: حتى يغدو بها، أي يصبح بها، ويذهب من منى إلى عرفة، وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وَكَانَ يُجَلِّلها بالحُلَل (1) والقُبَاطي والأنمَاط، ثُمَّ يَبْعَثُ (2) بِجِلاَلها، فَيَكْسُوهَا (3) الْكَعْبَةَ. قَالَ (4) : فَلَمَّا كُسِيَت (5) الْكَعْبَةُ هذه الكسوة (6)   رواية ابن المنذر عن نافع: كان ابن عمر يجلِّل بُدْنه الأنماط والبرود حتى يخرج من المدينة ثم ينزعها فيطويها حتى يكون يوم عرفة فيُلبسها إياها حتى ينحرها، ثم يتصدق بها، قال نافع: وربما دفعها إلى بني شيبة (انظر فتح الباري 3/550) . (1) قوله: بالحلل، جمع حُلَّة بالضم فتشديد هي من برود اليمن، ولا يُسمَّى حلَّة إلاَّ أن يكون ثوبان من جنس واحد، والقُباطي - بالضم - جمع القُبطي - بالضم - ثوب رقيق من كَتّان يُعمل بمصر نسبةً إلى القِبط بالكسر قبيلة بمصر، والضم في النسبة على غير قياس، فرق بين الثياب وبين نسبة الإِنسان، فإنه ينسب بالقبطي بالكسر، والأنماط جمع نَمَط - بفتحتين - ثوب من صوف يُطرح على الهودج، ويكون ملوَّناً، وقيل: ضرب من البسط له خمل رقيق، كذا ذكره الزرقاني والقاري. (2) إلى خدام الكعبة. (3) قوله: فيكسوها الكعبة، قال ابن عبد البر: لأن كسوتها من القرب وكرائم الصدقات، وكانت تُكسى من زمن تُبَّع الحِمْيَري، ويقال: إنه أول من كساها، فكان ابن عمر يجمل بها بدنه ثم يكسوها الكعبة فيحصل على فضيلتين. (4) أي نافع. (5) بصيغة المجهول. (6) قوله: هذه الكسوة، أي هذه الكسوة المعروفة، ولعلَّ المراد بها ما كساها به عبد الملك بن مروان من الديباج، وكان قبل ذلك في عهد الخلفاء تُكسى بالقباطي، كما بسطه العيني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 أَقْصَر (1) مِنَ الجِلال. 506 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ: مَا كَانَ (2) ابْنُ عُمَرَ يَصْنَعُ بِجِلالِ بُدْنه؟ حَتَّى (3) أَقْصَرَ عَنْ تِلْكَ الْكِسْوَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يتصدَّق (4) بِهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يَنْبَغِي (5) أَنْ يُتَصَدَّقَ بِجِلالِ الْبُدْنِ وبِخُطُمِها (6) وَأَنْ لا يُعْطَى الجزَّار (7) مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلا مِنْ لُحُومِهَا. بَلَغَنَا (8) أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ   (1) بفتح الهمزة: صيغة ماضٍ أي ترك ما كان يفعله من بعثها إلى الكعبة لعدم الاحتجاج إليه. (2) استفهامية. (3) في بعض النسخ: حين. وهو الظاهر. (4) أي على الفقراء (قال الباجي: إن جلال البدن كانت كسوة الكعبة وكانت أَولى بها من غير ذلك فلما كسيت الكعبة رأى أنَّ الصدقة بها أولى من غير ذلك. المنتقى 2/314) (5) أي استحباباً. (6) قوله: بخطمها، بالضم جمع الخِطام بالكسر وهو زمام البعير الذي يجعل في أنفه. (7) بضمِّ الجيم وتشديد الزاي المعجمة الذي يذبح الإِبل وغيره. (8) هذا البلاغ أخرجه الجماعة إلاًّ الترمذي، ذكره الزيلعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 عَنْهُ بهَدْي فَأَمَرَ (1) أَنْ يتصدَّق بِجِلالِهِ وبِخطُمِه وَأَنْ لا يعطيَ (2) الجزَّار مِنْ خُطُمه وَجِلالِهِ شَيْئًا. 60 - (بَابُ المُحْصَر (3)) 507 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أُحْصِرَ (4) دُونَ الْبَيْتِ بمرضٍ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَهُوَ يَتَدَاوَى مِمَّا اضْطُرَّ إِلَيْهِ وَيَفْتَدِيَ.   (1) قَالَ العيني: الظاهر أنَّ الأمر للاستحباب. (2) أي في أجرته. وأما إن كان فقيراً فلا بأس بتصدُّقه عليه. (3) قوله: المحصر، اسم مفعول من الإِحصار، من أحصره، إذا حبسه وهو الذي حبس عن إتمام الحج والعمرة بعذر أو مرض أو نحو ذلك. (4) قوله: مَن أحصر، أي مُنع وحُبس دون البيت، أي قبل وصوله إليه بمرض ونحوه من غير عدو كافر. فإنه لا يَحِلُّ، بفتح أوله وكسر ثانيه وتشديد ثالثه أي لا يخرج من إحرامه حتى يطوف بالبيت ولو امتدَّت الأيام. فهو يتدَاوى، أي يعالج. مما اضطُرَّ مجهول، إليه، أي باستعمال ما احتيج إليه من مَحظورات الإِحرام كاللباس والطيب وإزالة الشعر وغير ذلك. ويفتدي، أي يؤدي فديةَ ما استعمله من المحظورات وكفارته بعد الفراغ من مناسكه. وحاصله أن الإِحصار المذكور في قوله تعالى: {وأتِمّوا الحجَّ والعُمرة لله فإن أُحصرتم فما استيسر من الهَدي ولا تَحلِقوا رؤوسكم حتى يَبلُغَ الهَديُ مَحِلَّه} (سورة البقرة: الآية 196) لا يكون بالمرض. وقد وقع الاختلاف في الإِحصار على أقوال كما بسطه العيني وغيره (فيه عشرة أبحاث بسطها شيخنا في أوجز المسالك، فارجع إليه 8/50 - 72) ، الأول: أن الإِحصار وحكمه الثابت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   بالآية وهو أن يذبح الهدي، ويخرج من الإِحرام كان مخصوصاً (انظر سبل السلام 2/217) بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والآية المذكورة نزلت في حصرهم يوم الحديبية حين صدَّهم المشركون عن البيت فيختص بمورده، وهذا القول شاذ لا يعتمد عليه، والثاني: أن حكم الحصر عام لكنه لا يكون إلاَّ بالعدو الكافر كما كان في العهد النبوي، ويدل عليه قوله تعالى بعد تلك الآية: {فإذا أمنتم فمن تَمَتَّع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} (سورة البقرة: الآية 196) أي أمنتم من خوف العدو، فلا يكون الإِحصار بمرض ونحوه، وهذا مذهب ابن عمر كما دل عليه قوله المذكور ههنا، ومذهب ابن عباس حيث قال: لا حصر إلاَّ حصر العدو، أخرجه ابن أبي حاتم وقال: روى نحوه عن ابن عمر وطاوس، والزهري وزيد بن أسلم، وبه قال الليث ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق، والثالث: أن حكم الإِحصار عام زماناً وسبباً فيحصل حكمه بكل حابس من مرض وعدو وكسر رجل وذهاب نفقة ونحوها مما يمنعه المضي إلى البيت، وهذا قول ابن مسعود ورواية عن ابن عباس. وبه قال أصحابنا الحنفية وقالوا: الإِحصار في اللغة عام غير مخصوص بالعدو، ونزول تلك الآية في حصر العدو لا يقتضي اختصاصه به، وكذا لفظ الأمن لا يقتضيه فيمكن أن يراد به الأمن من عدو ومرض ونحوه، وعلى تقرير الاختصاص يقال: ورد بحسب تعين الحادثة والعبرة لعموم اللفظ والعلة لا لخصوص السبب، ويوافقه حديث من كُسِرَ أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى، أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وفي رواية من كسر أوعرج أو مرض، ورواه عبد بن حميد، وقال روي نحوه عن ابن مسعود وابن الزبير وعلقمة وابن المسيب وعروة ومجاهد والنخعي وعطاء وغيرهم وهناك قول رابع محكي عن ابن الزبير وهو: أن المحصر بالمرض والعدو سواء، لا يحل إلاَّ بالطواف وهو قول شاذ، وأرجح الأقوال هو القول الثالث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ (1) جَعَلَ الْمُحْصَرَ بِالْوَجَعِ (2) كَالْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، فَسُئِلَ (3) عَنْ رَجُلٍ اعْتَمَرَ (4) فنَهَشَته (5) حيَّة فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْمُضِيَّ (6) ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لِيَبْعَثْ (7) بِهَدْيٍ ويواعِد (8) أصحابَه يَوْمَ أَمَارٍ، فإذا نَحَرَ عنه الهدي   (انظر عمدة القاري 10/141) . (1) أخرجه عنه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طرق عديدة. (2) بالفتحتين المرض المؤلم. (3) أي ابن مسعود. (4) أحرم بالعمرة. (5) من النهش وهو لدغ الحية وجرحها. (6) أي لم يقدر الذهاب إلى مكة لإِتمام العمرة. (7) أمر أن يرسل مع بعض أصحابه إلى مكة هدياً. (8) قوله: ويواعد، من المواعدة "يوم أمار" بالفتح أي يوم أمارة وعلامة تدل على وصولهم إلى مكة وذبحهم الهدي عنه "فإذا نحر" ذبح عنه الهدي بمكة وجاء ذلك اليوم الموعود "حَلَّ" خرج من الإِحرام واستعمل محظوراته من الحلق وغيره "وكانت عليه عمرة مكان عمرته" أي عوض عمرته السابقة قضاء عنها، فإنها إن كانت واجبة بالنذر وغيره فظاهر، وإن كانت نفلاً فالنفل بالشروع يلزم كما هو مذهبنا، ودل هذا على أن المحصر يبعث بالهدي إلى مكة، ولا يذبحه حيث أحصر وهو المراد من قوله تعالى: {حَتَّى يَبلُغَ الهَدي مَحِلَّه} ، وقال الشافعي وغيره (قال الجمهور: يذبح المحصر الهدي حيث يحل سواء كان من الحل أو الحرم، وقال أبو حنيفة لا يذبحه إلاَّ في الحرم. عمدة القاري 10/149) : المراد بالمحل مكان الإِحصار، وفي المقام كلام طويل لا يليق هنا خوف التطويل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 حَلَّ وَكَانَتْ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِهِ، وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 61 - (بَابُ تَكْفِينِ الْمُحْرِمِ (1)) 508 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كفَّن ابنه واقِدَ بن عبد الله وَ (2) قد مَاتَ مُحرماً بالجُحفَة (3) ، وَخمَّرَ (4) رَأْسَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِذَا (5) مَاتَ فَقَدْ ذَهَبَ الإِحرام عَنْهُ.   (1) أي إذا مات المحرم في إحرامه. (2) الواو حالية. (3) بضمِّ الجيم: موضع بين الحرمين ميقات أهل الشام وقد مرَّ ذكره في بحث المواقيت. (4) أي غَطّى رأسه. وفي رواية يحيى: ووجهه وقال لولا أنّا حُرُم لطيَّبناه. (5) قوله: إذا مات، يعني أنَّ بالموت تنقطع الأعمال، فإذا مات ذهب الإِحرام منه، فلا بأس بتخمير وجهه ورأسه كما هو المسنون في سائر الموتى أخذاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: خمِّروا وجوه موتاكم ولا تشبَّهوا باليهود، أخرجه الدارقطني بسند صالح. وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، فقال مالك بعد رواية هذا الأثر: إنما يعمل الرجل ما دام حيّاً فإذا مات فقد انقضى العمل. انتهى. ويوافقهم حديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاث: صدقة جاريه أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، أخرجه ابن ماجه. ويخالفهم ما أخرجه مسلم وغيره أن رجلاً محرماً توفي، فقال رسول الله: كفِّنوه في ثوبيه ولا تغطّوا رأسه ولا تقربوه طيباً، فإنه يُبعث مطيَّباً يوم القيامة. وفي رواية: ولا تغطّوا رأسه ووجهه. وقد مرَّ معنا ذكر هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 62 - (بَابُ مَنْ أَدْرَكَ (1) عَرَفَةَ (2) لَيْلَةَ (3) الْمُزْدَلِفَةِ) 509 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا نافع، أن عبد الله بن عمر كان   الحديث في "باب المحرم يُغطَّى وجهه"، وبه قالت الشافعية وغيرهم (وأحمد وإسحاق وأهل الظاهر في أن المحرم على إحرامه بعد الموت، كذا في الأوجز 6/193) . وهو الأرجح نقلاً، وأجاب العيني والزرقاني وغيرهما من الحنفية والمالكية عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لعله عرف بالوحي بقاء إحرامه بعد موته، فهو خاص بذلك الرجل وبأنه واقعة حال لا عموم لها، وبأنه علَّله بقوله: فإنه يُبعث ملبِّياً، وهذا الأمر لا يتحقَّق في غيره وجوده فيكون خاصّاً به ولا يخفى على المنصف أن هذا كله تعسف، فإن البعث ملبيّاً ليس بخاصّ به، بل هو عام في كل محرم حيث ورد: يُبعث كلُّ عبد على ما مات عليه، أخرجه مسلم. وورد من مات على مرتبة من هذه المراتب بُعث عليها يوم القيامة، أخرجه الحاكم. وورد أن المؤذِّن يُبعث وهو يؤذِّن، والملبِّي يُبعث وهو يلبي، أخرجه الأصبهاني في "الترغيب والترهيب". وورد غير ذلك مما يدل عليه أيضاً كما بسطه السيوطي في "البدور السافرة في أحوال الآخرة". فهذا التعليل لا دلالة له على الاختصاص، وإنما عَلَّل به لأنه لمّا حَكَمَ بعدم التخمير المخالف لسنن الموتى نَبَّه على حكمه فيه، وهو أنه يُبعث ملبِّياً فينبغي إبقاؤه على صورة الملبّين. واحتمال الاختصاص بالوحي مجرَّدُ احتمال لا يُسمع، وكونه واقعة حال لا عموم لها إنما يصح إذا لم يكن فيه تعليل، وأما إذا وُجد وهو عام فيكون الحكم عامّاً، والجواب عن أثر ابن عمر يحتمل أن يكون لم يبلغه الحديث، ويحتمل أن يكون بلغه وحمله على الأولويَّة وجوَّز التخمير. ولعل هذا هو الذي لا يتجاوز الحق عنه. (1) أي وصل إليها. (2) في نسخة: عرفات. (3) أي في الليلة يقام فيها بمزدلفة، وهي ليلة العيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 يَقُولُ: مَن وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ (1) فَقَدْ أَدْرَكَ (2) الْحَجَّ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ. 63 - (بَابُ مَنْ غَرُبَتْ لَهُ الشَّمْسُ فِي النَّفْرِ (3) الأَوَّلِ وَهُوَ بِمِنًى) 510 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ غَرَبَت لَهُ الشَّمْسُ مِنْ أَوْسَطِ (4) أَيَّامِ التشريق وهو بمنى   (1) أي فجر العيد. (2) قوله: أدرك الحج، أي أدرك أعظم أركانه، وهو الوقوف بعرفة، وهذا حُكمٌ شُرع تسهيلاً، فإن أصل الوقوف هو ما يكون بالنهار يوم عرفة، فإن لم يتيسر له ذلك كفى وقوفه في جزء من أجزاء ليلة العيد بعرفة، وقد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أدرك معنا هذه الصلاة أي صلاة الصبح بمزدلفة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمَّ حجُّه وقضى تَفَثَه، رواه ابن خزيمة وصححه وابن حبان وأصحاب السنن، وقال أيضاً: الحج عرفة، من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه، أخرجه أصحاب السنن، وزاد يحيى في موطأه في أثر ابن عمرو: من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، وكذا روى نحوه عن عروة. وهذا يدل على أنه لا بد من الوقوف ليلاً أيضاً مع النهار حتى لو دفع من عرفة قبل غروب الشمس فاته الحج وبه قال مالك، بل عنده الوقوف في جزء من الليل أصل، والنهار تبع، وعندنا النهار أصل والليل تبع، كما بسطه العيني في "عمدة القاري". (3) أي يوم الانصراف الأول من منى، وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة. (4) هو يوم الثاني عشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 لا ينفِرَنَّ (1) حَتَّى يَرمي الْجِمَارَ مِنَ الْغَدِ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (3) نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة.   (1) أي لا يرجعنَّ إلى مكة. (2) أي من اليوم الثالث عشر. (3) قوله: وبهذا نأخذ، قال القاري: اعلم أن الأفضل أن يقيم ويرمي يوم الرابع وإن لم يقم نفر قبل غروب الشمس، فإن لم ينفر حتى غربت الشمس يُكره أن ينفر حتى يرمي في اليوم الرابع، ولو نفر من الليل قبل طلوع الفجر من اليوم الرابع من أيام الرمي لا شيء عليه وقد أساء، ولا يلزمه رمي اليوم الرابع في ظاهر الرواية نص عليه محمد في "الرقيات" وإليه أشار في الأصل وهو المذكور في المتون، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يلزمه إن لم ينفر قبل الغروب، وليس له أن ينفر بعده حتى لو نفر بعد الغروب قبل الرمي يلزمه دم كما لو نفر بعد طلوع الفجر وهو قول الأئمة الثلاثة (قال الخرقي: فإن أحب أن يتعجَّل في يومين خرج قبل غروب الشمس، فإن غربت الشمس وهو بها لم يخرج حتى يرمي من غد بعد الزوال. قال الموفق: فإن غربت قبل خروجه من منى لم ينفر سواء كان ارتحل أو كان مقيماً في منزله لم يجز له الخروج، وهذا قول عمر وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومجاهد وأبان بن عثمان ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر، وقال أبو حنيفة: له أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الثالث لأنه لم يدخل اليوم الآخر فجاز له النفر كما قبل الغروب. انظر المغني 3/454، 455) ، فوجه الظاهر أن قبل غروب اليوم الثالث يجوز النفر، فكذا بعده بجامع أنَّ كلاًّ من الوقتين لا يجوز الرمي فيه عن الرابع ووجه رواية أبي حنيفة ومَن تبعه أن النفر في اليوم لا في الليل لقوله تعالى: {فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه} (سورة البقرة: الآية 203) ، والجواب أن لياليها التالية تابعة لأيامها الماضية. ولذا جاز رمي أيامها في لياليها اتفاقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 64 - (بَابُ مَنْ نَفَرَ (1) وَلَمْ يَحْلِقْ) 511 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع: أن عبد الله بن عمر لَقِيَ رَجُلا مِنْ أَهْلِهِ (2) يُقَالُ (3) لَهُ المجَبَّر وَقَدْ أَفَاضَ (4) وَلَمْ يَحْلِقْ رَأْسَهُ وَلَمْ يقصِّر، جَهِلَ (5) ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ (6) عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَحْلِقَ رَأْسَهُ أَوْ يقصِّر ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى الْبَيْتِ، فَيُفِيض. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. 65 - (بَابُ الرَّجُلِ يُجَامِعُ قَبْلَ أَنْ يُفيض (7)) 512 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ،   (1) أي من منى إلى مكة. (2) أي من أعزَّته وأقاربه. (3) قوله: يقال له المجبَّر، بصيغة المجهول من التجبير، اسمه عبد الرحمن وهو ابن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، فالمجبَّر ابن أخي عبد الله بن عمر، وقد مرت ترجمته ووجه لقبه في "باب الوضوء من الرعاف". (4) أي طاف طواف الإِفاضة. (5) قوله: جهل ذلك، أي فعل المجبَّر ذلك جاهلاً عن هذا الحكم أنه يقدّم الحلق أو القصر على الطواف لا عالماً عامداً. (6) قوله: فأمره، أمره بالرجوع إلى مِنى والحلق أو القصر هناك ثم طواف البيت أَمرَ ندب مراعاةً للترتيب المسنون، وإلاَّ فيجوز الحلق والقصرفي غير منى في الحَرَم مطلقاً والطواف قبلهما يُعتدُّ به ولا شيء عليه لكنه مكروه. (7) قوله: قبل أن يفيض، أي قبل أن يطوف طواف الزيارة وفي نسخة عليها شرح القاري "باب الرجل يجامع بعرفة قبل أن يفيض" وفسَّر القاري معنى يفيض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ (1) الْمَكِّيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ (2) عَلَى امْرَأَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُفيض (3) فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنة. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) : مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ حجَّه، فمن جامع (5)   يرجع من عرفات أي يجامع بعرفة قبل الرجوع بعد الوقوف. ويخدشه أنه ليس في الباب أثر يوافق هذا العنوان إلاَّ أن يُحمل قوله في أثر ابن عباس قبل أن يفيض على الجماع قبل الرجوع من عرفة، فإن الإِفاضة تُطلق عليه، قال الله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات} (سورة البقرة: الآية 198) ، لكنه ليس بصحيح فقد وقع في رواية يحيى في هذا الأثر: أنه سُئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض إلى آخره، وهذا صريح في أن المراد به طواف الإِفاضة. (1) اسمه محمد بن مسلم. (2) أي وطأها. (3) قوله: قبل أن يفيض، أي بعد الوقوف بعرفة سواء كان جِمَاعه بمنى أو بمكة فحينئذٍ تمَّ حجُّه لأنه وقع التحلل برمي الجمرات ووقع جِماعُه بعده وعليه أن يذبح بَدَنة بقراً أو إبلاً. (4) أخرجه أصحاب السنن. (5) قوله: فمن جامع، تفصيله على ما في"الهداية" وحواشيها أن الجماع قبل الوقوف بعرفة يفسد حجه، وعليه أن يمضي فيه ويهدي شاة ويحج من قابل، لما رواه أبو داود في المراسيل والبيهقي أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل جامع امرأتَه وهما محرمان، فقال: اقضيا نسككما واهديا هدياً. وعند الشافعي تجب بدنة كما في الجماع بعد الوقوف. ولنا إطلاق ما روينا، ولأنه لمّا وجب القضاء خفَّت الجناية. ومن جامع بعد الوقوف بعرفة سواء كان قبل الرمي أو بعده لم يفسد حجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 بَعْدَ مَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ لَمْ يفسُد حجُّه، وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَدَنة (1) لِجمَاعِه، وحجُّه تامٌّ، وَإِذَا (2) جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ لا يَفْسَدُ حَجُّهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 66 - (بَابُ تَعْجِيلِ الإِهلال (3)) 513 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: يَا أَهْلَ (4) مكة، ما شأنُ الناس يأتون   وعليه بدنة لأثر ابن عباس خلافاً للشافعي فيما إذا جامع قبل رمي يوم النحر فإنه عنده وعند مالك وأحمد مفسد، هذا إذا جامع قبل الحلق، فإن جامع بعد الحلق فعليه شاة لبقاء إحرامه في حق النساء، ودون لُبس المَخيط فخفِّفت الجناية. (1) أي جزاءً لفعله. (2) هذا بظاهره مكرر. (3) أي الإِحرام لمن بمكة. (4) قوله: يا أهل مكة، خطاب إلى مَن بمكة مكِّيّاً كان أو آفاقياً. ما شأن الناس أي الآفاقيون يأتون أي يدخلون مكة شُعثاً - بالضم فسكون - جمع أشعث: وهو الشَّعِث بفتح أوله وكسر ثانيه، مغبَّر الرأس متفرِّق الشعر مشتَّت الحال يعني يدخلون وهم محرمون من المواقيت مغبَّروا الرأس لا أثر عليهم للدُّهن والطيب، والحال يا أهل مكة أنتم مدَّهنون - بتشديد الدال من الادِّهان - أي مستعملون الدهن في الشعر. أهِلّوا، أي أحرموا بالحج إذا رأيتم الهلال أي هلال ذي الحجة، وهذا الأمر منه للندب وقد مرَّ أن ابن عمر كان يحرم يوم التروية ويستحبُّه ويتأسّى في ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر في ذلك واسع (انظر المنتقى للباجي 2/219) فمن تعجل فلا إثم عليه ومن تأخَّر فلا إثم عليه. والأفضل هو التعجيل إذا أمن من الوقوع في المحظورات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 شُعثاً، وَأَنْتُمْ مُدَّهِنُون، أهِلُّوا إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلالَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: تَعْجِيلُ الإِهلال أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِ إِذَا ملكتَ (1) نفسَك. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 67 - (بَابُ القُفُول (2) مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ) 514 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابن عمر: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ حجٍّ أَوْ عُمرةٍ أَوْ غَزوة يُكَبِّر (3) عَلَى كُلِّ (4) شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ (5) : لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ المُلك وَلَهُ الْحَمْدُ يُحيِي ويُمِيت وهو على كل   (1) قدرت نفسك وأمنت من الوقوع في المحظور. (2) بالضم أي الرجوع إلى وطنه. (3) أي يقول: الله أكبر. (4) قوله: على كل شرف، قال العيني في "عمدة القاري": هو بفتحتين المكان العالي، قال الجوهري: جبل مشرف أي عالٍ، وقوله: آيبون، أي راجعون إلى الله، وفيه إيهام معنى الرجوع إلى الوطن، يقال آب إلى الشيء أوباً وإياباً أي رجع، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي نحن آيبون، وكذا ارتفاع تائبون وما بعده. وقوله: لربنا، إما خاص بقوله ساجدون، وإما عامّ لسائر الصفات. وقوله: هَزَم الأحزاب، هم الطائفة المتفرِّقة الذين اجتمعوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب فهزمهم الله بلا مقاتلة ولا إيجاف خيل، وقال عياض: يحتمل أن يريد أحزاب الكفر في جميع الأيام والمواطن، ويحتمل أن يريد به الدعاء أي الَّلهم افعل ذلك. (5) اختار هذا الذكر لكونه جامعاً، ولكونه أفضل ما قاله الأنبياء قبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيُبون تَائِبُونَ عابدُون ساجِدُون (1) لرَبِّنا حامِدُونَ، صَدَقَ (2) اللَّهُ وَعدَه ونَصَرَ عَبدَه وهَزَمَ الأحزابَ وَحدَه. 68 - (بَابُ (3) الصَّدَر) 515 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نافع، عن ابن عمر: أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَدَرَ (4) مِنَ الحجِّ أَوِ العُمرَة أَنَاخَ (5) بالبَطحَاءِ الَّذِي (6) بِذِي الحُلَيفة فَيُصَلِّي بِهَا ويُهَلِّل قَالَ (7) : فَكَانَ (8) عبد الله بن   (1) أي مصلون أو منقادون. (2) قوله: صدق الله وعده، أي في إظهار الدين ونصرة المسلمين وغلبة أمور اليقين. ونصرعبده أي عبده الخاص المستحق لكمال العبودية المشار إليه بقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (سورة الإِسراء: الآية 1) ، وغير ذلك، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. (3) قوله : باب الصَّدَر، بفتحتين بمعنى الرجوع، ومنه قوله تعالى: {يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً} (سورة الزلزلة: الآية 6) (4) أي رجع. (5) قوله: أناخ، أي أجلس بعيره، ونزل بالبَطحاءِ بالفتح الوادي الذي فيه دقاق الحصى الذي بذي الحليفة - ميقات أهل المدينة - فيصلي بها نفلاً أداءً للشكر، ويهلِّلُ أي يؤدي التهليل المذكور سابقاً. قال القاري: فيه تنبيه على أنه يُستَحَبُّ لأهل المدينة أن ينزلوا بذي الحُلَيفة ذهاباً وإياباً وينبغي أن يكون كذا أمر غيرهم ببلدهم. (6) احتراز عن البطحاء الذي بين مكة ومنى. (7) أي نافع. (8) في نسخة: وكان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 عُمَرَ يَفْعَلُ (1) ذَلِكَ. 516 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لا يصدُرَنَّ (2) أَحَدٌ (3) مِنَ الحاجِّ حَتَّى يَطُوفَ (4) بِالْبَيْتِ فإنَّ آخِرَ النُّسُكِ (5) الطَّوَافُ بالبيت.   (1) قوله: يفعل ذلك، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان كثير الاهتمام بمتابعة النبي عليه السلام ولو في المندوبات بل المباحات. (2) بضمِّ الدال أي لا يرجعن من مكة. (3) أي من أهل الآفاق. (4) أي طواف الوداع. (5) قوله: فإن أخر النسك، بضمَّتين أي أخر المناسك المتعلِّقة بالحج والعمرة هو الطواف بالبيت، قال مالك: وذلك فيما نرى والله أعلم لقول الله: {ومن يعظِّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} (سورة الحج: الآية 32) ، وقال: {ثم مَحِلُّها إلى البيت العتيق} ومحل الشعائر (ذكر الباجي عن زيد بن أسلم: أن الشعائر ستّ: الصفا، والمروة، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. والحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يَحِلّ. المنتقى للباجي 2/294) كلها وانقضاؤها إلى البيت العتيق. انتهى. وقد اقتدى عمر في هذا الحكم بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، أخرجه مسلم ورواه الشافعي وزاد: فإنَّ آخر النسك الطواف بالبيت. وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: أُمر الناس أن يكون آخرعهدهم بالبيت الطواف إلاَّ أنه خُفِّف عن الحائض، وعن هذا قال أئمتنا: إن طواف الصدر واجب يجب بتركه الدم، وبه قال أحمد والحسن ومجاهد والثوري والحكم وحماد، وعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، طوافُ الصَّدَر واجِبٌ عَلَى الحاجِّ (1) وَمَنْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ إلاَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ فَإِنَّهَا (2) تَنفِر (3) وَلا تَطُوفُ إِنْ شَاءَتْ (4) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 69 - (بَابُ الْمَرْأَةِ يُكره لَهَا إِذَا حلَّت (5) مِنْ إِحْرَامِهَا أَنْ تمتشطَ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهَا) 517 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمَرْأَةُ المُحرِمة إِذَا حلَّت (6) لا تَمتَشِط حَتَّى تأخذَ مِنْ شعرِها، شعرِ رأسِها (7) ، وَإِنْ كَانَ لَهَا هديٌ لَمْ تَأْخُذْ مِنْ شعرها شيئاً حتى تنحر (8) .   ابن عباس ما يدل عليه، وعند الشافعي في أحد القولين مستحب، وقال مالك: سنة ولا شيء على تاركه، كذا ذكره في "البناية". (1) وكذا على المعتمر من أهل الآفاق إذا أراد الرجوع. (2) أي كل منها. (3) أي تسافر. (4) إذا اضطُرَّت إلى ذلك، والأَولى أن تنفر بعد الطواف. (5) قوله: يُكره لها إذا حلت، أي أرادت الخروج من الإِحرام، والتحلُّل أن تمتشط أي تسرِّح شعرها بالمشط حتى تأخذ من شعرها أي تقصر قدر أنملة فإنَّ القصر متعيِّن في حقَّها والحلق منهيٌّ عنه لها. (6) إذا أرادت التحلُّل. (7) بدل من شعرها. (8) أي تذبح ذلك الهدي. قال القاري: الترتيب بالنسبة إلى القارن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 70 - (بَابُ النُّزُولِ بالمحصَّب (1)) 518 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أنه كان   والمتمتع واجب وأما بالنسبة إلى المفرد بالحج فمندوب. (1) قوله: بالمحصَّب، اسم مفعول من التحصيب، وهو اسم موضع بين مكة ومنى لاجتماع الحصباء أي الحصا فيه بحمل السيل، وهو موضعٌ منهبط بقرب مكة، وهو من الحجون مصعداً في الشقّ الأيسر وأنت ذاهب إلى منى إلى حائط حرمان مرتفعاً من بطن الوادي فذلك كله المحصَّب، والحجون الجبل المشرف على مسجد الحرمين بأعلى مكة على يمينك وأنت مصعد، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي، وفي"شرح القاري" هو ما بين الجبل الذي عنده المقبرة والجبل الذي يقابله مصعداً في الجانب الأيسر وأنت ذاهب إلى منى مرتفعاً عن بطن الوادي، وليست المقبرة من المحصَّب، وكان الكفار اجتمعوا فيه وتحالفوا على إضرار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إراءةً لهم لطيفَ صنع الله، وتكريمه بنصره وفتحه، فذلك سنة كالرمل في الطواف، كذا في "شرح المجمع"، وقال شمس الأئمة السرخسي، في"مبسوطه": الأصح أن التحصيب سنة أي ولو ساعة، وإلا فالأفضل أن يصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويضجع ضجعة، ثم يدخل مكة على ما ذكره ابن الهُمام. وقال الشافعي: ليس بسنّة لما في الكتب الستة عن عائشة قالت: إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب ليكون أسمح لخروجه وليس بسنة فمن شاء تركه ومن شاء لم يتركه. ولنا ما روى مسلم عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنة، قال نافع: قد حصَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده. أقول: الأظهر أن يُقال: إنه مستحب، وليس بسنة مؤكدة، إذ المحصَّب لا يسع جميع الحجاج، فلا يُقاس على الرمل، أويُقال: إنها سنّة مؤكدة على الكفاية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 يصلِّي (1) الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بالمحصَّب، ثُمَّ يَدخُلُ (2) مِنَ اللَّيْلِ فَيَطُوفُ (3) بِالْبَيْتِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا حَسَنٌ، وَمَنْ تَرَكَ النُّزُولَ بالمحصَّب فَلا شَيْءَ (4) عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله.   ومتعيِّنة على أمراء الحاج، وهذا أمر تركه الناس بالكلية إلا من نزل فيه من أعراب البادية من غير القصد والنية. انتهى. وقال العيني في "عمدة القاري": قال الخطّابي: التحصيب هو أنه إذا نَفَرمن منى إلى مكة للتوديع يقيم بالمحصَّب حتى يهجع ساعة ثم يدخل مكة، وليس بشيء، أي ليس بنسك الحج وإنما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستراحة، وقال الحافظ عبد العظيم المنذري: التحصيب مستحب عند جميع العلماء، وقال شيخنا زين الدين العراقي: فيه نظر لأن الترمذي حكى استحبابه عن بعض أهل العلم، وحكى النوويّ استحبابه عن مذهب الشافعي ومالك والجمهور وهذا هو الصواب، وقد كان من أهل العلم من لا يستحبه فكانت اسماء وعروة لا يحصّبان، حكاه ابن عبد البَرّ في "الاستذكار"، وقال ابن بطّال: كانت عائشة لا تحصّب. (1) أي إذا رجع من منى. (2) أي بمكة. (3) أي طواف الوداع أو طواف النفل. (4) قوله: فلا شيء عليه، أي لا يجب عليه كفارة ولا إثم، وهذا لأنه ليس من مناسك الحج (قال النووي في "مناسكه": هذا التحصيب مستحب اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو من مناسك الحج وسننه، وهذا معنى ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ليس بسنة. أوجز المسالك 8/23) وهذا هو معنى قول ابن عباس: ليس التحصيب بشيء إنما هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 71 - (بَابُ الرَّجُلِ يُحْرِمُ (1) مِنْ مَكَّةَ هَلْ يَطُوفُ (2) بِالْبَيْتِ) 519 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَحْرَمَ (3) مِنْ مَكَّةَ لَمْ يطُف (4) بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يَرْجِعَ (5) مِنْ مِنًى وَلا يَسْعَى (6) إِلا إذا طاف حول البيت.   منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي، وقول عائشة: ليس النزول بالأبطح وهو المحصَّب سنّة إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه إذا خرج أي أسهل لتوجُّهه إلى المدينة. أخرجه مسلم وغيره. (1) للحج. (2) أي بعد الإِحرام. (3) قوله: كان إذا أحرم من مكة، أي يوم التروية تارةً كما مرّ عنه، ولهلال ذي الحجة تارةً اتباعاً بأمرأبيه عمر كما مرَ، ففي "مصنف عبد الرزاق" عن نافع: أهلّ ابنُ عمر بالحج حين رأى الهلال ومرة أخرى بعد الهلال من جوف الكعبة، ومرة أخرى حين راح إلى منى، وروى أيضاً عن مجاهد قلت لابن عمر: أهللتَ فينا إهلالاً مختلفاً؟ قال: أما أول عام فأخذت مأخذ أهل بلدي، ثم نظرت فإذا أنا أدخل على أهلي حراماً وأخرُجُ حراماً وليس كذلك كنا نفعل. قلت: فبأيّ شيء نأخذ؟ قال: تحرم يوم التروية، كذا ذكره شراح صحيح البخاري. (4) أي طواف الإِفاضة فإنه بعد الفراغ من مناسك الحج، بل ولا طواف النفل. (5) قوله: حتى يرجع إلى منى، قال القاري: الحاصل أنه يختار أن يقع سعيُ الحج بعد طواف الفرض وإن جوّز تقديم سعي الحج بعد طواف نفل، ثم إنه لا يسعى بعد طواف الإِفاضة إذ السعي لا يكرّر. (6) لأنه موقوف على تقدُّم طواف ما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ فَعَلَ هَذَا أَجْزَأَهُ (1) ، وَإِنْ طَافَ (2) وَرَمَلَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ (3) أَجْزَأَهُ ذَلِكَ (4) ، كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ (5) إِلا أَنَّا نحِبّ لَهُ أَنْ لا يَترُكَ الرَّمل (6) بِالْبَيْتِ فِي الأَشْوَاطِ الثَّلاثَةِ الأُول (7) إِنْ عجَّل (8) أَوْ أَخَّرَ. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. 72 - (باب الْمُحْرِمِ (9) يَحْتَجِمُ) 520 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنّ (10) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فَوْقَ رأسه   (1) أي كفاه بل هذا هو الأولى عند عدم الحرج. (2) أي نفلاً بعد إحرام الحج في الطواف. (3) أي إلى منى. (4) أي عن سعي الحج. (5) أي مستحسن إلا أن أحدهما أحسن. (6) لأنه سنّة مطلقاً. (7) بضم أوله وفتح ثانيه أي في الدورات الثلاث الأولى من الدورات السبع. (8) أي سواء عجّل قبل الخروج أو أخر بعد الرجوع. (9) قوله : باب المحرم يحتجم، موقع هذا الباب وبعض ما فيه مكرّراً من المؤلف فإنه قد مرّ سابقاً "باب الحجامة للمحرم"، وأورد فيه أثر ابن عمر المذكور ههنا، وذكر فيه احتجام النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم بلاغاً. ولعله لذهول أو نسيان، وقد مر منها نبذ مما يتعلق بهذا البحث هناك. (10) قوله: أن، هذا مرسل في "الموطأ"، وقد رُوي ذلك من حديث جمع من الصحابة، فعن ابن عباس احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، أخرجه البخاري ومسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمٌ بِمَكَانٍ (1) مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ يُقَالُ لَهُ: لَحيُ جَمَل. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِأَنْ يَحْتَجِمَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، اضطُرَّ إِلَيْهِ (2) أَوْ لَمْ يُضطَرَّ إِلا أَنَّهُ لا يَحْلِقُ (3) شَعْرًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة.   وأبو داود والترمذي والنسائي. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحرم من وجعٍ كان برأسه، أخرجه ابن عدي. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، أخرجه النسائي وابن ماجه. وعن ابن عمر احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم وأعطى الحَجَّام أجرة، أخرجه ابن عدي. وعن عبد الله بن بُحَينة: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم بلَحي جمل في وسط رأسه، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. ولَحي جمل - بفتح اللام ويُروى بكسرها وسكون الحاء المهملة بعدها ياء آخر الحروف، وبفتح الجيم والميم آخره لام - اسم موضع بين مكة والمدينة وهو أقرب إلى المدينة، وجزم الحازمي وغيره أن ذلك كان في حجة الوداع، ودلّت هذه الأحاديث على جواز الحجامة للمحرم مطلقاً (وقال ابن قدامة: أما الحجامة إذا لم تقطع شعراً فمباحة من غير فدية في قول الجمهور لأنه تداوٍ بإخراج دم فأشبه الفصد وربط الجرح، وقال مالك: لا يحتجم إلا من ضرورة، وكان الحسن البصري يرى في الحجامة دماً. المغني 3/305) ، وبه قال عطاء ومسروق وإبراهيم وطاوس والشعبي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق، وقالوا: ما لم يقطع الشعر، وقال قوم: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة، رُوي ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك، كذا في "عمدة القاري". (1) أي بموضع في طريق مكة. (2) أي احتيج إليه إلى حدّ الاضطرار أو لا. (3) فإن حَلَق فعليه فدية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 521 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لا يَحْتَجِمُ (1) الْمُحْرِمُ إِلا أَنْ يُضطَرّ إِلَيْهِ. 73 - (بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ بِسِلاحٍ) 522 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أن رسول (2) الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ (3) عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغفَر (4) فلما   (1) قوله: لا يحتجم المحرم، أي في موضع له شعر يحتاج إلى قطعه إلا أن يُضطَرّ إليه، فحينئذ يفتدي كما عُلم من قوله تعالى: {ففدية من صيام أوصدقة أونُسُك} (سورة البقرة: الآية 196) ، فلا منافاة بين هذا الحديث وبين ما تقدم، كذا قال القاري: وأراد به إرجاعَ قول ابن عمر إلى ما ذهب الجمهور إليه، وليس بجيد فإن خلاف ابن عمر في المسألة مشهور أنه لا يجوز الاحتجام مطلقاً إلا عند الاضطرار. (2) قوله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن من طريق مالك، وقد قيل: تفرد به مالك عن الزهري من بين أصحابه وليس كذلك فقد رواه ستة عشر نفساً غير مالك عنه في "الحلية" لأبي نعيم ومسند أبي يعلى وكتاب الضعفاء لابن حبان وغيرها، وله طرق أُخَر أيضاً كما بسطه الحافظ في "فتح الباري". (3) أي في سنة فتح مكة وهي سنة ثمان. (4) قوله: وعلى رأسه المِغفَر، بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء ثم راء، قال صاحب المحكم: ما يُجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة، وقال ابن عبد البر: هو ما غطَّى الرأس من السلاح كالبيضة وشبهها من حديد كان أو غيره، وقد زاد بشر بن عمر عن مالك: من حديد، ولا أعلم ذكره غيرَه أي من رواة الموطأ. وأما خارجة فقد رواه عشرة أخرج رواياتهم الدارقطني. قال مالك: لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرماً، فإنه لم يرو عن أحد أنه تحلَّل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 نَزَعَهُ (1) جَاءَهُ رَجُلٌ (2) فَقَالَ لَهُ: ابْنُ خَطَل (3) متعلِّق بأستار الكعبة، قال: اقتلوه.   إحرامه وهو من الخصائص النبوية عند الجمهور، وخالف ابن شهاب فأجاز ذلك لغيره، قال أبو عمر: ولا أعلم من تابعه على ذلك إلا الحسن البصريّ، وروي عن الشافعي، والمشهور عنه أنها لا تُدخَل إلا بإحرام فإن دخلها أساء ولا شيء عليه عنده وعند مالك، وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه حجة أو عمرة، ولمسلم وأحمد وأصحاب السنن عن جابر: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح وعليه عمامة سوداء لغير إحرام. ولا معارضة بينه وبين حديث أنس لإِمكان أنّ المغفر فوق العمامة، قاله ابن عبد البر. وقيل: لعل العمامةَ كانت ملفوفة فوق المغفر، وقال القرطبي: يجوز أن يكون نزع المغفر عند انقياد أهل مكة ولبس العمامة بعده، كذا ذكره العيني والزرقاني. (1) أي وضع المغفر عن الرأس. (2) قوله: جاءه رجل، هو أبو برزة الأسلمي بفتح الباء وسكون الراء بعده زاء معجمة، واسمه نضلة بن عبيد، جزم به الكرماني والفاكهي في "شرح العمدة"، وقيل: سعيد بن حريث، وقال الحافظ لم يسمّ. (3) قوله: ابن خَطَل، بفتحتين، قيل: اسمه عبد الله، وكان اسمه في الجاهلية عبد العُزَّى، وقيل: هوعبد الله بن هلال بن خطل، وقيل: غالب بن عبد الله بن خطل، واسم خطل عبد مناف، وهو لقب له من بني تيم، وكان قد ارتدّ بعد ما أسلم، وقيل: كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يبدّل ما نزل فيكتب مكان غفور رحيم رحيم غفور ونحو ذلك، ولما ارتد لحق بأهل مكة، فلما دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطل دمه، فقال: اقتلوه وإن وجدتموه تحت أَستار الكعبة - بالفتح جمع سِتر بالكسر ما يُستربه البيت - فأُخبر أنه متعلِّق بأستار الكعبة فأمربقتله فقُتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ حِينَ فَتَحَهَا غيرَ (1) مُحرم وَلِذَلِكَ دَخَلَ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغفَر، وَقَدْ بلَغَنا (2) أَنَّهُ حِينَ أَحْرَمَ مِنْ حُنَين (3) قَالَ: هَذِهِ العُمرة لِدُخُولِنَا مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ يَعْنِي يَوْمَ الفَتح، فَكَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا: مَنْ دَخَلَ (4) مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَلا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ فَيُهلَّ (5) بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجَّةٍ لِدُخُولِهِ (6) مَكَّةَ بغير إحرام. وهو قول (7) أبي خنيفة رحمه الله والعامة من فقهائنا.   (قال ابن عبد البر والطيبي: إن قتل ابن خطل كان قوداً لقتله المسلم، وقال القاري: بل كان ارتداداً. أوجز المسالك 8/175) . (1) قوله: غير محرم، لأنها قد أُحِلّت له ذلك اليوم حتى حل له القتال فيها، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة فكان ذلك من خصائصه بمن معه، كما بسطه الطحاوي في "شرح معاني الآثار". (2) قوله: وقد بلغنا، هذا البلاغ يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أدَّى العمرة التي أحرم بها من الجعرّانة حين رجوعه من حُنَين وتقسيم غنائمه عوضاً لدخوله مكة بغير إحرام في فتح مكة، والله أعلم بحال نبيِّه. (3) قوله: حُنَين، مصغراً اسم موضع وادٍ بين مكة والطائف وراء عرفات، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً، وكانت فيهاغزوة مشهورة مذكورة في القرآن. (4) أي من أهل الآفاق. (5) أي يحرم. (6) أي عوضاً عنه. (7) قوله: قول، وبه قال جماعة، وقيّد بعضهم بمن أراد الحج أوالعمرة وقد مرّ معنا ما يتعلق بهذا المقام في "باب دخول مكة بغير إحرام" وفي "باب المواقيت". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 (كِتَابُ النِّكَاحِ (1)) 1 - (بَابُ الرَّجُلِ تَكُونُ عِنْدَهُ نِسْوَةٌ (2) كيف يَقْسِمُ بينهنَّ) 523 - أخبرنا مالك،   (1) قوله: كتاب النكاح، هو في اللغة حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وقيل: مشترك بينهما وفي الشرع حقيقة في العقد الموضوع قاله علي القاري، وقد وردت أحاديث كثيرة ناطقة بفضله والترغيب إليه، وطرق بعضها وإن كانت مما تُكُلِّم في رواتها فلا يضر في إثبات المقصود (لا خلاف أن النكاح فرض حالة التَّوَقان، حتى إنّ من تاقت نفسه إلى النساء بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوَّج يأثم، واختلف فيما إذا لم تُتقْ نفسه، فقال نفاة القياس مثل داود بن علي الأصبهاني وغيره من أصحاب الظواهر: فرض عين بمنزلة الصوم والصلاة وغيرهما، وقال الشافعي: مباح كالبيع والشراء واختلف أصحابنا فيه، فقال بعضهم: إنه مندوب ومستحب وإليه ذهب الكرخي، وقال بعضهم: فرض كفاية بمنزلة الجهاد وقال بعضهم: واجب ... إلخ. بذل المجهود 10/4، نقلاً عن "البدائع") . فأخرج ابن ماجه من حديث عائشة مرفوعاً: النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان ذا طَوْل فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم، فإنَّ الصوم وجاء له، وفي سنده عيسى بن ميمون ضعيف، وفي الصحيحين من حديث أنس في ضمن حديث: ولكني أصوم وأُفطر وأصلي وأنام وأتزوج، فمن رغب عن سنتي فليس مني، وعن أنس مرفوعاً: حُبِّب إليَّ من الدنيا النساءُ والطِّيبُ، وجُعل قرَّةُ عيني في الصلاة، رواه النسائي وأسناده حسن، وقد اشتُهر على الألسنة بزيادة ثلاث، وهكذا ذكره الغزالي في "الإحياء" ولم يوجد في شيء من طرقه المسندة كذا قال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي". (2) قوله: نسوة، المراد بهنَّ الزوجات لأن السَّراري وأمهات الأولاد لا حق لهن في القسمة، كذا قال القاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (1) ، عَنْ عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ (2) (3) : أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَنَى (4) بأمِّ سَلَمَةَ (5) قَالَ لَهَا حِينَ (6) أصبحتْ (7) عِنْدَهُ (8) : لَيْسَ بكِ (9) على أهلك (10)   (1) ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني. (2) أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بن هشام المخزومي المدني. (3) قوله: عن أبيه أن النبي ... إلى آخره، قال ابن عبد البر: هذا حديث ظاهره الانقطاع وهو متصل مسند صحيح قد سمعه أبو بكر من أم سلمة كما صُرِّح به عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه، كذا في "تنوير الحوالك". (4) أي زفَّت إليه ودخل عليها. (5) هند بنت أبي أمية المخزومية. (6) قوله: حين أصبحت عنده، وفي رواية لمسلم: دخل عليها فإذا أراد أن يخرج أخذت بثوبه فقال لها ليس بك ... إلى آخره، وفي رواية الحاكم في "المستدرك": أنها أخذت بثوبه مانعةً له من الخروج من بيتها، فقال لها إن شئتِ. وهذا يشعر بتقديم التماس أم سلمة لذلك، فخيَّرها (في الأصل: "خيره"، وهو خطأ) النبي صلى الله عليه وسلم بين التسبيع والتثليث (7) أي دخلت في الصباح. (8) أي في بيته. (9) يا أم سلمة. (10) قوله: على أهلك، يريد به نفسه صلى الله عليه وسلم. يقول ليس عليَّ بك احتقار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 هَوَانٌ (1) ، إِنْ شِئْتِ سبَّعْتُ عندكِ وسبَّعتُ (2) عندهنَّ (3) ، وإن شئت ثلَّثتُ (4) عندكِ ودُرت (5) ،   وإذلال بالنسبة إلى باقي الأزواج، فلا أفعل فعلاً يكون فيه هوانك، بل الأمر بيدك إن شئتِ سبَّعتُ عندكِ وإن شئتِ ثلَّثت. (1) قوله: هوان، قال النووي: معناه لا يلحقك هوان ولا يضيع من حقك شيء بل تأخُذِينه كاملاً، وقال الأبَّي: قيل: المراد بالأهل قبيلتها لأن الإعراض عن المرأة وعدم المبالاة بها يدل على عدم المبالاة بأهلها فالباء على الأول متعلقة بهوان، وعلى الثاني للسببية أي لا يلحق أهلك بسببك هوان، كذا قال الزرقاني. (2) أي أقمتُ عندك سبعاً. (3) أي عند بقية الزوجات. (4) أي أقمت ثلاثاً. (5) قوله: ودُرْت، ظاهره أن الثلاث حق للجديدة الثيبة فإن معنى درت الدوران المعتاد وهو القسم يوماً يوماً، فكأنه قال لأم سلمة: وكانت ثيبة إن شئتِ سبَّعتُ عندك فأسبِّع عند بقية الأزواج للتسوية، إذ لا حق لك في السبعة، وأن شئتِ ثلَّثتُ عندك فتُوَفِّي حقك، ثم درت على بقية النساء يوماً يوماً بالسوية، وفُهم منه جواز تخيير الثيب بين الثلاث بلا قضاء، والسبع مع القضاء، وإليه ذهب الجمهور والشافعي وأحمد كما ذكره النووي وغيره، وقال مالك وأصحابه: لا تُخيَّر بل للبكر الجديدة سبع وللثيب ثلاث يرون التخيير والقضاء، قال ابن عبد البر: هذا أي حديث أم سلمة تركه مالك وأصحابه للحديث الذي رواه مالك عن أنس. انتهى. وأشار به إلى ما في صحيح البخاري عن أنس أنه قال: السنَّة إذا تزوُّج البكر أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً، وفيه أيضاً عنه: من السنَّة إذا تزوَّج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعاً وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثاً ثم قسم. وأخرج ابن ماجه والدارمي وابن خزيمة والإسماعيلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 قالت (1) : ثلِّثْ.   والدارقطني والبيهقي وابن حبان هذا الحديثَ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سَبعٌ للبكر وثلاث للثيب. واعتذر أصحاب مالك عن حديث أم سلمة الدال صريحاً على التخيير بأن مالكاً رأى ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خُصَّ في النكاح بخصائص فاحتمال الخصوصية مَنَع من الأخذ به، وفيه ضعفٌ ظاهر لأن مجرد الاحتمال لا يمنع الاستدلال، وقال أصحابنا الحنفية: لا فرق بين الجديدة والقديمة ولا بين البكر والثيبة، بل يجب القسم على السوية بينهن يوماً يوماً لإِطلاق قوله تعالى: {ولَنْ تَستَطيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَين النِّسَاءِ ولو حَرَصْتُم فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيلِ} (سورة النساء: الآية 129) ، وقوله تعالى: {فإنْ خِفْتُم ألا تَعدِلُوا فَواحدة أو مَا ملكتْ أَيمَانُكُم} (سورة النساء: الآية 3) ، وإطلاق ما روى أصحاب السنن الأربعة عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل ويقول: اللَّهم هذا قَسْمي فيما أملك فلا تَلُمْني فيما تملك ولا أملك يعني القلب أي زيادة المحبة. فظاهره أنَّ ماعداه داخل تحت ملكه فتجب السوية فيه، ولما روى أصحاب السنن وأحمد والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً، من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل. فظاهر هذه النصوص يقتضي التسوية من غير فصل، فإن سبَّع عند الجديدة سبَّع عند غيرها، وإن ثلَّث عندها ثلث عند غيرها، ولا حق لها في الزيادة بكراً كانت أم ثيباً، كذا قرره ابن الهمام وغيره. وعلى هذا حملوا حديث أم سلمة، وقالوا: معنى دُرتُ: الدوران عند البقية بالثلاث ليحصل المساواة إلاَّ أنه خلاف الظاهر، وخلاف ما أخرجه النسائي والدارقطني بطريق فيه الواقدي: أنه قال لأم سلمة: إن شئتِ أقمتُ عندك ثلاثاً خالصةً لك، وإن شئتِ سبَّعتُ لك وسبَّعت لنسائي. (1) قوله: قالت: ثلاث، قال القاضي عياض: اختارت التثليث مع أخذها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ يَنْبَغِي إِنْ سبَّع عِنْدَهَا (1) أَنْ يُسبِّع عِنْدَهُنَّ (2) لا يَزِيدُ لَهَا عَلَيْهِنَّ شَيْئًا وَإِنْ ثلَّث عِنْدَهَا أَنْ يُثلِّث (3) عندهن، وهو قول (4) أبو حنيفة والعامة من فقهائنا.   بثوبه حرصاً على طول إقامتِه عندها لأنها رأت أنه إذا سبَّع لها وسبَّع لغيرها لم يقرب رجوعه إليها. (1) أي الجديدة. (2) أي القديمة. (3) قوله: أن يثلِّث عندهن، لعله مبني على حمل الدَّوْر المذكور في الحديث على الدَّوْر بالتثليث، وقد عرفتَ ما فيه، ولذا قال القاري في شرحه تحت هذا القول: فيه أن ظاهر الحديث السابق أن بعد التثليث هو الدور ولا يفهم منه التثليث عندهن إلاَّ من دليل خارج يحتاج إلى بيانه. انتهى. (4) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال علي القاري في "المرقاة شرح المشكاة": عندنا لا فرق بين القديمة والجديدة لإطلاق قوله تعالى: {فإن خفتُم ألاَّ تَعدِلُوا فواحدة} وقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أن تَعْدِلُوا بَينَ النِّسَاءِ} (سورة النساء: الآية 129) . وخبر الواحد لا ينسخ الكتاب. انتهى. فأشار إلى بناء الكلام على مسألة أصولية وهي عدم جواز نسخ إطلاق الكتاب القطعي بخبر الآحاد الظني، ففي ما نحن فيه لما ثبت بإطلاق الكتاب وجوب عموم المساواة ومنع الميل إلى إحدى الزوجات مطلقاً أفاد ذلك وجوب المساواة في القديمة والجديدة أيضاً والبكر والثيب أيضاً، فإن فُرِّق بينهما بحديث أنس أو أم سلمة وغيرها يلزم إبطال إطلاق الكتاب بالخبر الظني، وأشار في شرحه لهذا الكتاب إلى الإِيراد على هذا المسلك حيث قال بعد ذكر استناد علمائنا بآية: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا} وغيره فيه أنه إذا كان التخصيص وقع شرعاً يكون عدلاً فلا منافاة ولا معارضة أصلاً. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 2 - (بَابُ أَدْنَى (1) مَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةَ) 524 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا حُميد (2) الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ (3) عَوْفٍ جاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ (4) أَثَر صُفْرة فَأَخْبَرَهُ (5) أنَّه تزوَّج امْرَأَةً من الأنصار،   (1) أي أقلّ مهرها. (2) قوله: حميد الطويل، هو حُميد بضم الحاء بن أبي حميد أبو عبيدة البصري الطويل، روى عن أنس والحسن وعكرمة، وعنه مالك وشعبة والحمّادان والسفيانان وخلق، وثقه ابن معين وأبو حاتم، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة، كذا في "الإِسعاف". (3) أحد العشرة المبشَّرة بالجنة المتوفى سنة 32 هـ. (4) قوله: وعليه أثر صفرة (وفي رواية وضر من صفرة بفتح الواو والضاد المعجمة آخره راء، هو في الأصل الأثر، وفي أخرى ردغ وردع بمهملات، مفتوح الأول ساكن الثاني هو أثر الزعفران. والمراد بالصفرة صفرة خلوق والخلوق طيب يُصنع من زعفران وغيره، قاله الحافظ. انظر الأوجز 9/438) ، تعلقت بجلده أو ثوبه من طيب العروس، وهذا أولى ما فُسِّر به، وفي رواية: به ردع من زعفران أي أثره، وليس بداخل في النهي عن تزعفر الرجل لأنه فيما قصد به التشبه بالنساء، كذا قال الزرقاني. (5) قوله: فأخبره، أي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ما هذا؟ فأخبره. كذا ورد في رواية، وفيه افتقاد الكبير أصحابه وسؤاله عما يختلف عليه من حالهم، فإنه كان نهي عن التضمخ بالطيب، فأجابه بأنه لم يضمِّخ به، وإنما تعلق به من العروس. وهذه المرأة التي أخبر أنه تزوَّجها لم تسمَّ في الروايات إلاَّ أن الزبير بن بكار جزم بأنها ابنة أبي الحَيْسَر - بفتح المهملتين بينهما تحتية ساكنة آخره راء مهملة - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 قَالَ: كَمْ (1) سُقْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ: وَزْنُ (2) نَوَاة من ذهب، قال: أَوْلِم (3)   اسمه أنس بن رافع الأنصاري، وأنها وَلَدَتْ له القاسم وعبد الله، كذا قال الحافظ ابن حجر. (1) قوله: كم سُقت إليها، بضم السين من السوق، أي كم أرسلتَ من المهر مطلقاً، أو المعجل كذا قال القاري. وقال الزرقاني: فيه أنه لا بد في النكاح من المهر، وقد يشعر ظاهره احتياجه إلى تقدير لأن كم موضوعة له، ففيه حجة للمالكية والحنفية في أنَّ أقل الصداق مقدَّر (قال ابن رشد: اتفقوا على أنه لا حدَّ لأكثره، واختلفوا في أقلِّه، فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء المدينة من التابعين لا حدَّ لأقله، وكل ما جاز أن يكون ثمناً وقيمة لشيء جاز أن يكون صداقاً، وقال طائفة بوجوب تحديد أقله، والمشهور من ذلك مذهبان: أحدهما: مذهب مالك لا بد من ربع دينار أو ثلاثة دراهم، ومذهب أبي حنيفة لا بد من عشرة وقيل خمسة وقيل أربعون ... إلخ. انظر بداية المجتهد 2/20) . (2) قوله: وزن نواة من ذهب، قال الخطابي والأكثرون: هي خمسة دراهم من ذهب فالنواة اسم المقدار المعروف عندهم، وقال أحمد بن حنبل: النواة ثلاثة دراهم وثلث، وقيل: المراد: نواة التمر أي وزنها من ذهب، والأول أظهر وأصح، وقال بعض المالكية: النواة بالمدينة ربع دينار كذا في "شرح الزرقاني"، وفيه أيضاً قال عياض: قيل: زنة نواة من ذهب ثلاثة دراهم وربع، وأراد قائله أن يحتج به على أنه أقلّ الصداق، ولا يصح لقوله من ذهب وذلك أكثر من دينارين، وهذا لم يقله أحد، وهو غفلة من قائله بل فيه حجة لمن يقول لا يكون أقل من عشرة دراهم. (3) زاد في رواية: قال: فبارك الله لك، أَوْلِمْ ولو بشاة. قوله: أَوْلم، أمر ندب عند الجمهور وقيل للوجوب، ووقته على الأشهر بعد الدخول كما يُستنبط من هذا الحديث أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 وَلَوْ (1) بِشَاةٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ. أَدْنَى المهر عَشَرة دراهم ما تُقطع   (1) هو للتقليل. (2) قوله: وبهذا نأخذ أدنى المهر ... إلى آخره، لعله حمل النواة على هذا المقدار، وقد ورد بالتقدير بهذا المقدار آثار أُخَر أكثرها مما تُكُلِّم فيها، فأخرج الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن داود الأزدي عن الشَّعبي عن علي قال: لا تُقطع الأيدي في أقل من عشرة دراهم ولا يكون المهر أقل من عشرة دراهم، قال ابن الجوزي في "التحقيق": قال ابن حبان: داود ضعيف والشعبي لم يسمع علياً. وأخرجه الدارقطني أيضاً عن جويبر - وهو ضعيف - عن الضحاك، عن النزال بن سبرة، عن علي، ومن طريق آخر عن الضحاك بسند فيه محمد بن مروان أبو جعفر لا يكاد يعرف. وأخرج الدارقطني والبيهقي عن مبشر بن عبيد، عن الحجاج بن أرطأة، عن عطاء عن عمرو بن دينار عن جابر مرفوعاً: لا تنكحوا النساء إلاَّ الأَكْفاء ولا يزوِّجهن إلاَّ الأولياء ولا مهر دون عشرة دراهم، قال الدارقطني: ابن عبيد متروك الحديث، وأسند البيهقي عن أحمد أنه قال: أحاديث مبشر موضوعة، ورواه أبو يعلى المَوْصلي في مسنده عن ميسرة عن أبي الزبير، عن جابر، عن أبي يعلى رواه ابن حبان في "كتاب الضعفاء"، كذا ذكره الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية"، والكلام في هذا الحديث نقضاً وإبراماً كثير، والإِنصاف أن هذا الحديث بعد ثبوته لا يدل على التقدير بحيث لا يصح دونه، وفي الأحاديث كثرة دالة على إطلاق المهر، وعدم التقدير بالعشرة وظواهر الآيات تؤيِّده، وقد أجاب عنها أصحابنا بحملها على المعجَّل (يحتمل أن يكون معجلاً في المهر لا أصل المهر على ما جرت العادة بتعجيل شيء من المهر قبل الدخول. ويحتمل أن يكون ذلك كله في حال جواز النكاح بغير مهر على ما قيل: إن النكاح كان جائزاً بغير مهر إلى أن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار. بذل المجهود 10/131) ، فافهم ولا تعجل بالقبول فإنه يَرِدُ عليهم نسخ إطلاق الكتاب وتقييده بأخبار الآحاد، وهو خلاف أصولهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 فِيهِ الْيَدُ. وَهُوَ قَوْلُ (1) أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 3 - (بَابُ لا يَجْمَعُ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وعمَّتها فِي النِّكَاحِ) 525 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ (2) ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يَجْمَعُ (3) الرجلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وعمَّتها وَلا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ (4) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا.   (1) قوله: قول، وعند مالك أدناه ربع دينار، وعند النَّخَعي أربعون ديناراً، وعند الشافعي ما جاز كونه ثمناً جاز كونه مهراً، كذا ذكره ابن الهمام. (2) بكسر الزاء وخفة النون عبد الله بن ذكوان. (3) أي في نكاح أو ملك يمين، فإن نكحهما معاً بطل نكاحهما، وإن مرتَّباً بطل نكاح الثانية. قوله: لا يجمع ... إلى آخره، الحديث مبسوط في سنن أبي داود والترمذي بلفظ: لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها ولا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى. والحكمة في تحريم مثل هذا هو الاحتراز عن قطع الرحم بين الأقارب، فإن الضَّرَّتين تتحاسدان وينجر البُغض إلى أقرب الناس، والحسد بين الأقارب أشنع، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في تحريم الجمع بين بنته وبنت غيره حيث حرَّم على عليّ رضي الله عنه نكاح بنت أي جهل على فاطمة، كذا في "حجة الله البالغة". (4) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال جمهور العلماء، وشذ طائفة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 526 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَنْهَى أَنْ تُنْكح الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا أَوْ عَلَى عمَّتها وأنْ (1) يطأَ الرجلُ وَلِيدَةً (2) فِي بَطْنِهَا جنينٌ لِغَيْرِهِ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.   الخوارج حيث جوزت الجمع بين المرأة وعمتها، وغير ذلك سوى الجمع بين الأختين زعماً منهم أن الله حرم الجمع بين الأختين بقوله: {وأن تجمعوا بين الأختين} (سورة النساء الآية 23) ، ثم قال: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم} (سورة النساء الآية 24) فدل ذلك على جواز الجمع بين غيرهما، وأخبار الآحاد لا تخصِّص القرآن ولا تنسخه وبالغ بعض السلف حيث منع من الجمع بين بنتي العم، وبنتي الخالة ونحو ذلك أيضاً، والجمهور على خلافه، كذا قال الزرقاني وغيره. (1) لئلا يسقي بمائة زرع غيره سواء كان من حلال أو حرام، كذا قال القاري. قوله: وأن يطأ، ورد: لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض، رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم عن أبي سعيد، قاله الزرقاني. وفيه إشارة إلى جواز نكاح حبلى من غيره، وبه قال جمهور علمائنا بجواز نكاح حبلى من زنا لكن يحرم وطؤها ما لم تضع، هذا إذا نكح غير الزاني، وإن نكح الزاني يجوز له وطؤها أيضاً لكونه ساقياً بمائه زرعَ نفسه. (2) أي جارية أو أمة. (3) أي لغير الواطئ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 4 - (بَابُ الرَّجُلِ يَخْطُبُ عَلَى خِطبة (1) أَخِيهِ (2)) 527 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ (3) ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يخطبُ (4) أحدُكم على خِطبة أخيه (5) .   (1) بكسر الخاء: التماس النكاح. (2) قوله: أخيه، التعبير به ليوافق عنوان الخبر والتعبير به في الخبر للتحريض على كمال التودُّد وقطع صور المنافرة أو لأنَّ كل المسلمين إخوة إسلاماً. (3) قوله: حَبّان، بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحَّدة بن مُنقِذ بضم الميم وكسر القاف آخره ذال معجمة، كما ضبطه الحافظ عبد الغني في "مشتبه النسبة" وابن ماكولا في "الإِكمال" وغيرهما لا بكسر الحاء المهملة كما ظنه القاري. (4) قوله: لا يخطب (قال الجمهور: هذا النهي للتحريم، وقال الخطّابي: هذا النهي للتأديب وليس نهي تحريم يبطل العقد عند أكثر الفقهاء. قال الحافظ: هو عندهم للتحريم، ولا يبطل العقد، بل حكى النووي أن النهي فيه للتحريم بالإِجماع. انظر: بذل المجهود 10/75) ، برفع الباء خبر بمعنى النهي، وهو أبلغ من صريح النهي، قال عياض وغيره: المنع إنما هو بعد الركون وإلاَّ فلا، لحديث فاطمة بنت قيس حين أخبرت أنه خطبها ثلاثة، فلم ينكر دخول بعضهم على بعض، وقال الخطابي: في قوله "أخيه" دليل على أن الأول مسلم، فإن كان يهودياً أو نصرانياً لم يمنع الخطبة على خطبته، وبه قال الأَوْزاعي، والجمهور على خلافه (ذهب الجمهور إلى إلحاق الذمي بالمسلم في ذلك، وقال ابن قدامة: إن كان الخاطب الأول ذمياً لم تحرم الخطبة، نص عليه أحمد إذ قال: إنما هو للمسلمين، ولو خطب على خطبة يهودي أو نصراني أو استام على سومهم لم يكن داخلاً في ذلك. المغني 6/608) . وقالوا: إن ذكر الأخ جرى على الغالب أو للإِشارة إلى قطع التنافر. (5) أي إذا توافقوا وأما إذا أبى أهلها فلا بأس، كذا قال القاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله. 5 - (باب الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا) 528 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1) ومُجَمِّع ابنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَة الأَنْصَارِيِّ، عَنْ خَنْسْاء ابْنَةِ خِذام: أَنَّ (2) أباها زوّجها (3) وهي (4) ثيِّب، فكرهت   (1) قوله: عن عبد الرحمن، هو أبو محمد المدني ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، يقال: وُلد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومات سنة 93 هـ، وأخوه مجمّع على وزن اسم فاعل من التجميع، تابعي كبير مات سنة 60، وأبوهما يزيد بن جارية الأنصاري الأوسي، ذكره ابن سعد في الصحابة، كذا قال الزرقاني. وقال ابن عبد البَرّ في "الاستيعاب": يزيد بن حارثة اليربوعي ابن عامر بن مجمع بن العطاف، هو أبو مجمع، وعبد الرحمن شهد خطبة الوداع. (2) قوله: أن أباها، هو خذام بالمعجمة المكسورة والدال المهملة، كما في "الفتح" و"التقريب"، وقال بعضهم: بالذال المعجمة ابن وديعة، ويقال ابن خالد، من أفاضل الصحابة، كذا قال الزرقاني. (3) قوله زوّجها، لمّا تأيّمَتْ من أُويس بن قتاده الأنصاري حين قُتل يوم أحد، كما رواه عبد الرزاق عن معمر بن سعيد بن عبد الرحمن عن أبي بكر بن محمد مرسلاً، وأخرجه الواقدي عن خنساء نفسها، وسماه بعضهم أنساً، وقيل اسمه أسير، وإنه مات ببدر. (4) قوله: وهي ثيب، قال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" خنساء بنت خذام ابن وديعة الأنصاري من الأوس أنكحها أبوها وهي كارهة فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نكاحها. واختلفت الأحاديث في حالها في ذلك الوقت، ففي نقل مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عبد الرحمن ومجمِّع عنها أنها كانت ثيباً، وذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 ذلك (1) ، فجاءَت رسول الله صلى فَرَدّ (2) نكاحه.   ابن المبارك عن الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن يزيد بن وديعة عن خنساء أنها كانت يومئذ بكراً، والصحيح نقل مالك في ذلك (قال الشيخ في "بذل المجهود"10/112 بعد ما حكى اختلاف الروايات في كونها بكراً أم ثيباً: لا معارضة بينهما حتى يُحتاج إلى الترجيح، فيحتمل أن يكون وقع لها هذه القصة مرتين، مرة وقعت لها حال كونها بكراً ثم وقعت حال كونها ثيباً، وهذا أهون من أن يُرَدّ الحديث الصحيح بهذا العذر، مع أن القائل بكونها ثيباً هو عبد الرحمن ومجمع ابنا يزيد، والقائلة بكونها بكراً هي خنساء نفسها فلا يرجَّح قولهما بمقابلة قولها) ، وروى محمد بن إسحاق عن حجاج بن السائب عن أبيه عن جدته خنساء قال: وكانت أيِّمّاً من رجل فزوجها أبوها رجلاً من بني عوف فخُطبت إلى أبي لبابة بن عبد المنذر وارتفع شأنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يلحقها بهواها فتزوجت أبا لبابة. (1) قوله: ذلك، أي ذلك النكاح، أو ذلك الرجل الذي زوّجها منه أبوها، قال ابن حجر: ولم يُعرف اسمه، نعم عند الواقدي أنه من مُزَينة وعند ابن إسحاق أنه من بني عمرو بن عوف. (2) قوله: فردَّ نكاحه، أي وجعل أمره إليها كما في رواية عبد الرزاق عن أبي بكر بن محمد وله عن نافع بن جبير: فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني وأنا كارهة وقد ملكتُ أمري، قال: فلا نكاح له، انكحي من شِئتِ، فرد نكاحه. ونكحت أبا لبابة الأنصاري. قال ابن عبد البر: هذا الحديث مجمع على صحته وعلى القول به، لأن من قال لا نكاح إلا بولي. قال: لا يزوِّج الثيِّبَ وليُّها إلا بإذنها ومن قال: ليس للولي مع الثيب أمر فهو أولى بالعمل بهذا الحديث. واختلف في بطلانه لو رضيت، فقال الشافعي وأحمد ببطلانه، وقال أبو حنيفة لها أن تجيز فيجوز ولا تجيز فيبطل. انتهى ملخصاً. وأما حديث النسائي عن جابر أن رجلاً زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرَّق بينهما فحمله البيهقي على أنه زوّجها من غير كفؤ، كذا في شرح الزرقاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي أَنْ تُنْكَح الثَّيِّب، وَلا البِكْر إِذَا بَلَغَتْ (1) إِلا بِإِذْنِهِمَا فَأَمَّا إذْن الْبِكْرِ فَصَمْتُها (2) ، وَأَمَّا إذْن الثَّيِّب فَرِضَاهَا بِلِسَانِهَا، زوَّجها والدُها أَوْ غَيْرُهُ (3) . وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 6 - (باب الرجل يَكُونُ عِنْدَهُ أَكْثَرُ (4) مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَيُرِيدُ (5) أَنْ يَتَزَوَّجَ) 529 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (6) ، قال: بلغنا أن   (1) في نسخة: بلغتنا. وإذا لم تبلغ يجوز نكاح وليها بغير إذنها إلاَّ أن لها خيار الفسخ عند البلوغ إذا كان الناكح غير الأب والجد. (2) أي سكوتها. قوله: صمتها، قال القاري: لما أخرجه الجماعة إلا البخاري من حديث ابن عباس مرفوعاً: الأيّم أحق بنفسها من وليها. والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُماتها، والأيّم الثيّب التي لا زوج لها إذا كانت بالغةً عاقلة. (3) من أوليائها حقيقةً أو حكماً. (4) قوله: أكثر من أربع نسوة، الأَوْلى أن يحذف الأكثر ليطابق العنوان ما في الباب من الأخبار، فإنَّ الخبر الأول دالّ على نهي التزوج على أكثر من أربع نسوة، والثاني: على منع التزوّج على أربع نسوة، ولأنّ منع التزوّج بعد الأربعة يستلزم المنع منه بعد أكثرها من غير عكس. (5) قوله: فيريد أن يتزوج، أي لواحدة بعد الأربعة، فكان حق العبارة أن يقول: ويريد بالواو عطفاً على "يكون" لا أن يفرِّع على كون أكثر من الأربع عنده، والظاهر أنه من النُّسّاخ، كذا في شرح القاري، وفيه نظر غير خفي. (6) هو الزهري، فالحديث مرسل وهو حجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِرَجُلٍ (1) مِنْ ثَقِيفٍ (2) - وَكَانَ عِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ (3) - حِينَ (4) أَسْلَمَ الثَّقَفِيُّ، فَقَالَ لَهُ: أمسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وفارِقْ سائرَهُنّ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (5) . يَخْتَارُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا أيّتُهنّ شَاءَ، وَيُفَارِقُ (6) مَا بَقِيَ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: نِكَاحُ الأَرْبَعَةِ الأُوَل جَائِزٌ، ونكاحُ مَنْ بَقِي مِنْهُنَّ بَاطِلٌ وهو قول إبراهيم النَّخَعي.   (1) قوله: قال لرجل من ثقيف، قال ابن عبد البر في "شرح الموطأ" هكذا رواه جماعة من رواة الموطأ، وأكثر رواة ابن شهاب، رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة الثقفي حين أسلم فذكره، ووصله معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر، ويقولون إنه من خطأ معمر مما حدّث به بالعراق، كذا في "شرح الزرقاني". وفيه أيضاً قد رواه الترمذي وابن ماجه من طريق معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه، وقال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: هذا غير محفوظ والصحيح ما روى شعيب وغيرُه عن الزهري قال: حدثت عن عثمان بن محمد بن أبي سويد الثقفي فذكره. (2) قبيلة كبيرة من أهل الطائف والحجاز. (3) أي فأسْلَمْنَ معه قاله الزرقاني. (4) ظرف لقال. قوله: حين أسلم الثقفي، وهو غيلان بن سلمة بن معتب بن مالك، أحد وجوه ثقيف ومقدمهم، أسلم بعد فتح الطائف ولم يهاجر، وتوفي في آخر خلافة عمر رضي الله عنه، ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب". (5) وبه قال مالك والشافعي وأحمد كما في "رحمة الأمة". (6) قوله: ويفارق ما بقي، قال القاري: لعل مأخذها قوله "وفارق سائرهن" حيث لم يقل طلِّقْهُنّ، لكن يُشكل بأن عقود الجاهلية قبل الدخول في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 530 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا رَبِيعَة بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ الْوَلِيدَ (1) سَأَلَ الْقَاسِمَ وعُرْوَةَ (2) وَكَانَتْ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبِتَّ (3) وَاحِدَةً وَيَتَزَوَّجُ أُخرى، فَقَالَ: نَعَمْ، فَارِقِ امْرَأَتَكَ ثَلاثًا وتزوّج. فقال القاسم في مجالس مختلفة.   الأحكام الإِسلامية صحيحة (والظاهر أن كلمة "صحيحة" سقطت في الأصل) ، والظاهر أن التعبير، بالمفارقة بناءً على فسخ الزيادة بالآية الناسخة لجوازها قبل ذلك وهي قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} (سورة النساء: الآية 3) فإن سورة النساء مدنية بالإِجماع، فالقول بأن نكاح من بقي منهن باطل موقوف على دليل صح في السماع. نعم بعد ظهور الحكم لو تزوّج شخص زيادة على الأربع فلا خلاف في بطلان الزائد وصحة الأقل (قال الموفق: إن الكافر إذا أسلم ومعه أكثر من أربع نسوة فأسلمن في عدتهن أو كنّ كتابيّات لم يكن له إمساكهن كلّهن بغير خلاف نعلمه، ولا يملك إمساك أكثر من أربع، فإذا أحبّ ذلك اختار أربعاً منهن وفارق سائرهن سواء تزوجن في عقد واحد أو في عقود، وسواء اختار الأوائل أو الأواخر، نص عليه أحمد، وبه قال الحسن ومالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي وإسحاق ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كان تزوجهن في عقد انفسخ نكاح جميعهنّ وإن كان في عقود فنكاح الأوائل صحيح ونكاح ما زاد على أربع باطل. المغني 6/620) . وفي "البذل" عن الشوكاني: ذهبت العترة وأبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي والزهري وأحد قولي الشافعي إلى أنه لا يقر من أنكحة الكفار إلا ما وافق الإِسلام. انظر الأوجز 10/227، وبذل المجهود 10/380) . (1) أي ابن عبد الملك بن مروان أحد ملوك بني أمية. (2) حين قدم المدينة. (3) قوله: أن يَبِتَّ، بفتح الياء وكسر الباء الموحدة وتشديد الفوقية، أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يُعجبنا (1) أَنْ يَتَزَوَّجَ خَامِسَةً وَإِنْ بَتَّ (2) طَلاقَ إِحْدَاهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها. لا يُعْجِبُنَا أَنْ يَكُونَ مَاؤُهُ فِي رَحِمِ خَمْسِ (3) نِسْوَة حَرَائِرَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ. 7 - (بَابُ مَا يُوجِبُ الصَّدَاق (4)) 531 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ وأُرخِيَتْ السُّتُورُ (5) فَقَدْ وَجَبَ (6) الصَّدَاق. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (7) نَأْخُذُ، وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من   يطلقها بالبتة ويقطعها عن الرجل، ويتزوج أخرى أي في عدَّة الأولى، فقالا - أي كلاهما -: نعم فارقْ امرأتك بالثلاث، أي طلقها ثلاثاً وتزوج بواحدة، وأطلق عروه الثلاث. فقال القاسم في مجالس متفرقة ليكون على وفق السنّة. وفي "موطأ يحيى": مالك عن ربيعة أن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير كانا يقولان في الرجل يكون عنده أربع نسوة فيطلق إحداهن البتة، ويتزوج إن شاء ولا ينتظر أن تقضي عدّتَها، ولو طلَّقها واحدة أو اثنين لم يتزوج حتى تنقضي عدّتُها، كذا ذكر القاري. (1) أي لا يحل عندنا. بل ينتظر إلى أن تنقضي عدتها، وهذا عدة الرجل، كما بسطه الفقهاء. (2) أي بيتوتة صغرى أو كبرى. (3) كما أنه لا يحل له إلا أربع حقيقة أو حكماً. (4) بفتح أوله وكسره من المرأة، كذا قال القاري. (5) كناية عن الخلوة الصحيحة وإن لم يكن هناك إرخاء ستور حقيقة. (6) أي كلّ المهر المسمّى أو مهر المثل. (7) قوله: وبهذا نأخذ، قال ابن المنذر: وهو قول عمر وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن جابر ومعاذ وقول الشافعي في القديم، وقال في الجديد: يجب على الزوج إذا طلَّق بعد الخلوة نصف المسمّى، وأحمد موافق لأبي حنيفة، ويؤيد مذهبنا قوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضُكم إلى بعض} (سورة النساء: الآية 21) أي وصل من غير فصل إذ حقيقة الإِفضاء الدخول في الفضاء وهو مكان الخلاء، كذا في شرح القاري، وذكر السيوطي في "الدر المنثور": أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن الأخنس بن قيس أن عمر وعلياً قالا: إذا أرخى ستراً أو أغلق باباً، فلها الصَّداق كاملاً، وعليها العِدّة. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عن زرارة بن أَوْفى قال: قضاء الخلفاء الراشدين أنّ (في الأصل "أنه"، وهو تحريف) من أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب الصَّدَاق. وأخرج البيهقي عن محمد بن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كشف امرأته، فنظر إلى عورتها فقد وجب الصداق. وأخرج مالك والبيهقي عن زيد بن ثابت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 فُقَهَائِنَا. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِنْ طلَّقها بَعْدَ ذَلِكَ (1) لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلا نِصْفُ الْمَهْرِ (2) إِلا أَنْ يَطُولَ مُكْثُها (3) وَيَتَلَذَّذُ (4) مِنْهَا فيجب الصداق.   قال: إذا دخل الرجل بامرأته، فأرخيت عليهما الستور فقد وجب الصداق. وأخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قضى في المرأة يتزوجها الرجل قال: إذا أُرخيت الستور فقد وجب الصداق (بنفس الخلوة عند الجمهور وبادعاء المرأة عند المالكية. انظر أوجز المسالك 9/314) . (1) أي بعد الخلوة الصحيحة. (2) لعدم الجماع. (3) أي مع الرجل. (4) بلمسها وتقبيلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 8 - (بَابُ نِكَاحِ الشِّغار (1)) 532 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى (2) عَنِ الشِّغَارِ. وَالشِّغَارُ أن يُنكح الرجل ابنته على أن   (1) بكسر الشين المعجمة. قوله: نكاح الشغار، هو مأخوذ من قولهم: شغر البلد عن السلطان إذا خلا عنه، سُمِّي به لخلوّه عن الصداق أو بعض شرائطه، وقال ثعلب: من قولهم شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول، كأن كلاً من الوليَّيْن يقول للآخر لا ترفع رجل بنتي حتى أرفع رجل بنتك، كذا قال الزرقاني. (2) قوله: نهى عن الشغار (ذكر شيخنا في أوجز المسالك 9/347 في هذا الحديث عدة مباحث فارجع إليه) ، هذا حديث متفق عليه من حديث نافع عن ابن عمر، وفي رواية لهما عن عبيد الله بن عمر قلت لنافع: ما الشغار؟ قال: أن ينكح ابنة الرجل وتنكحه ابنتك بغير صداق وينكح أخت الرجل وتنكحه أختك بغير صداق. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: نُهي عن الشغار وهو أن يزوِّج الرجلُ ابنته على أن يزوِّجَه صاحبُه بنته. وفي الباب عن جابر رواه مسلم، وعن أنس رواه أحمد والترمذي وصححه والنسائي، وعن معاوية رواه أبو داود. وقال الشافعي في حديث ابن عمر: لا أدري تفسير الشغار من النبي صلى الله عليه وسلم أو من ابن عمر أو من نافع أو مالك. انتهى. وقال الخطيب "المدرج": هو من قول مالك بيّنه وفصّله القعنبي وابن مهدي ومحرز بن عون عنه. انتهى. ورواية البخاري ومسلم من طريق عبيد الله صريح في أنه من نافع، ولذا قال القرطبي في "شرح صحيح مسلم": إن التفسير في حديث ابن عمر جاء عن نافع وعن مالك وأما حديث أبي هريرة فهو على الاحتمال، والظاهر أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الرافعي"، ثم قال: في الطبراني من حديث أبيّ بن كعب مرفوعاً: لا شغار في الإِسلام، قالوا: يا رسول الله، وما الشغار؟ قال: نكاح المرأة بالمرأة، لا صَدَاق بينهما. وإسناده وإن كان ضعيفاً لكنه يُستأنس به في هذا المقام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 يُنكحه الآخَرُ ابْنَتَهُ (1) لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ. لا يَكُونُ الصَّداق نِكَاحَ امْرَأَةٍ (3) فَإِذَا تَزَوَّجَهَا (4) عَلَى أَنْ يَكُونَ صَدَاقها أَنْ يُزَوِّجَهُ (5) ابْنَتَهُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا مِنْ نِسَائِهَا، وَلا وَكْس (6) وَلا شَطَطَ (7) . وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   (1) أو أخته أو غيرها ممن له ولاية عليها. (2) قوله: وبهذا نأخذ، قال عياض: لا خلاف في النهي (أجمع العلماء على أنه منهيّ عنه، لكن اختلفوا هل هو نهي يقتضي إبطال النكاح أم لا؟ وعند الشافعي يقتضي إبطاله، وحكاه الخطّابي عن أحمد وإسحاق وأبي عبيد، وقال مالك: يُفسخ قبل الدخول وبعده، وفي رواية عنه قبله لا بعده، وقال جماعة: يصح بمهر المثل وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله. كذا في بذل المجهود 10/65) عن الشغار ابتداءً فإن وقع أمضاه الكوفيون والليث والزهري وعطاء بصداق المثل، وأبطله مالك والشافعي، كذا في "شرح الزرقاني"، وفي "شرح القاري": لا يفسد النكاح، ويفسد الشرط عند أبي حنيفة والشافعي وعن مالك وأحمد روايتان. (3) قوله: لا يكون الصداق نكاح امرأة كذا في الأصل، والظاهر أنه وهم ويمكن حمله على القلب. هذا كلام القاري، ولا يخفى وهنه فإن مؤدَّى هذه العبارة وقلبها واحد. (4) أيّ امرأة بولاية وليِّها. (5) أي يزوّج هذا المتزوج بنته أو أخته مثلاً بذلك الولي الذي تزوج هو ببنته. (6) بفتح وسكون أي لا نقص. (7) أي لا زيادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 9 - (بَابُ نِكَاحِ (1) السِّرِّ) 533 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ (2) : أَنَّ عُمَرَ (3) أُتِيَ (4) برجلٍ فِي نِكَاحٍ لَمْ يَشهد عَلَيْهِ إِلا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا نِكَاحُ السِّرّ (5) وَلا نُجيزه وَلَوْ كنتُ (6) تَقَدَّمْتُ فيه لَرَجَمْتُ.   (1) قوله: نكاح السرّ، قال القاري: أي تزويج الخفية. وهو أن يعقد بغير حضور نصاب الشهادة وشرائطه. (2) قوله: عن أبي الزبير، هو محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسدي المكي، روى عن جابر وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة، وعنه مالك وأبو حنيفة وشعبة والسفيانان، وثّقه ابن المديني وابن معين والنسائي، مات سنة 128 هـ، كذا في "الإِسعاف". (3) ابن الخطاب أحد الخلفاء الأربعة. (4) بصيغة المجهول. (5) أي لا بد في النكاح من الإِعلان ولو بحضور شاهدين. (6) قوله: ولو كنتُ تَقَدَّمتُ، بفتح التاء والقاف والدال، أي سبقت غيري، وفي رواية ابن وضاح بضم التاء والقاف وكسر الدال على بناء المفعول أي سبقني غيري، كذا قال الزرقاني. والظاهر أن معناه لو تقدمت في هذا الأمر بالمنع وسَبقتُ بإقامة الحجة على عدم جوازه وشهّرت ذلك، ثم فعلت بعد الاطلاع عليه لرجمت أي أقمت عليك تعزيراً وعقوبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لأَنَّ النِّكَاحَ لا يجوزُ (1) فِي أقَلّ مِنْ شاهِدَيْن وَإِنَّمَا شَهِدَ عَلَى هَذَا الَّذِي رَدَّهُ عُمَرُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَهَذَا نِكَاحُ السِّرِّ لأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَكْمُلْ (2) وَلَوْ كَمُلَتِ الشَّهَادَةُ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ (3) وَامْرَأَتَيْنِ كَانَ نِكَاحًا جَائِزًا وَإِنْ كَانَ سِرّاً (4) ، وَإِنَّمَا يَفْسُد (5) نِكَاحَ السِّرِّ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شهودٍ، فَأَمَّا إِذَا كَمُلَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ فَهُوَ نِكَاحُ العَلاَنِيَة وَإِنْ كَانُوا أسَرُّوه (6) . 534 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا محمد بن أَبَان (7) ،   (والأوجه ما في "المحلَّى" إذ قال: تقدمت ورجمت بزنة المتكلم المعلوم فيهما. يعني لو أعلمتُ الناس أنه لا يحل نكاح إلا بشاهد وامرأتين حتى تعرفوا لرجمت فيه بعد تقدمي مَنْ فعله. انظر الأوجز 9/356) . (1) قوله: لا يجوز في أقل من شاهدين، لورود كثير من الأخبار في ذلك، والكلام في رواة أكثرها لا يضر لحصول القوة للمجموع، فأخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث عائشة مرفوعاً: لا نكاح إلاَّ بوليّ وشاهِدَيْ عدل، وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل. وأخرج الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً - وقال: الموقوف أصح -: البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بيِّنة. وفي الباب من حديث أبي هريرة وعليّ وأنس وجابر وابن مسعود وابن عمر وعمران بن حصين ذكرها الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" مع ما لها وما عليها. (2) أي لم تتم. (3) قوله: أو رجل وامرأتين، فيه خلاف الأئمة الثلاثة حيث قالوا: لا دخل للنساء في النكاح، وإنما يصح بشهادة عَدْلين رجلين إلاَّ أنِّ مالكاً أجاز العقد بدون شهادة ثم يشهدان قبل الدخول، وقال: نكاح السرّ ما أوصى بكتمه. وعند غيره لا يجوز ما لم يشهد عليه، كذا قال الزرقاني. (4) أي خفياً، وليس الشرط الإِعلان في المجالس والمجامع. (5) في نسخة: يفسر. (6) أي أهل العقد. (7) بفتح الموحدة وخفة الباء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 عَنْ حَمَّادٍ (1) ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ (2) أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجَازَ شهادةَ رجلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ والفُرْقَة (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 10 - (بَابُ الرَّجُلِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأُخْتِهَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ) 535 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْد اللَّهِ (4) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ (5) ، عَنْ أَبِيهِ (6) : أنَّ عُمَرَ سُئل عَنِ الْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا مِمَّا مَلَكَت الْيَمِينُ أَتُوْطَأ (7) إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الأُخرى؟ قال: لا أُحبُّ (8) أنْ   (1) ابن أبي سليمان لا ابن أبي سلمة كما ظنه القاري. (2) النخعي. (3) أي في الفسخ. (4) بضم العين. (5) بضم الأولى وسكون الثانية ابن مسعود. (6) عبد الله بن عتبة بن مسعود الهُذَلي ابن أخي عبد الله بن مسعود. (7) بهمزة الاستفهام بيان للسؤال. وفي بعض نسخ "موطأ" يحيى بدون الهمزة. (8) قوله: لا أحبُّ أن أجيزَهما، مأخوذ من الإِجازة أي لا أحبُّ أن أجيز الجمع بينهما وطياً. وفي "الموطأ" برواية يحيى: ما أحب أن أَخْبُرهما جميعاً. قال الزرقاني بفتح الهمزة وإسكان الخاء المعجمة وضم الباء الموحدة أي أطأهما، يقال للحراث: خبير، ومنه المخابرة. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 أُجِيزَهما جَمِيعًا وَنَهَاهُ (1) . 536 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْريّ، عَنْ قّبِيصّة (2) بْنِ ذُؤيْب: أنَّ رَجُلا (3) سَأَلَ عُثْمَانَ (4) عَنِ الأُخْتَيْن مِمَّا مَلَكَت الْيَمِينُ هَلْ يُجمع بينهما؟ فقال: أحلَّتْهما (5)   (1) قوله: ونهاه (نهي تحريم باتفاق العلماء إلاَّ ما رُوي عن ابن عباس. كذا في الأوجز 9/375) ، أي نهى عمر السائل عن الجمع بينهما والمعنى أنه لا يطأ واحدة، ما لم يحرِّم الأخرى بعتقها أو بعتق بعضها أو بتمليك بعضها أو جميعها، كذا قال القاري. (2) قوله: قبيصة بن ذؤيب، هو قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي المدني، وُلد عام الفتح، وروى عن عثمان وابن عوف وحذيفة وزيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة. قال الزهري: كان من علماء هذه الأمة، مات بالشام سنة 87، كذا في "الإِسعاف". (3) ابن عفان أحد الخلفاء الأربعة. (4) والجمع بملكة اليمين. (5) قوله: أحلَّتهما آية، قال ابن حبيب: يريد قوله: {والمُحْصَنات من النساء إلاَّ ما ملكتْ أيمانُكم} (سورة النساء: الآية 24) ، حيث عمَّ ولم يخصّ أختين ولا غيرهما، وقيل قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ملكت أيمانهم} (سورة المؤمنون: الآية 5 - 6) . وقال ابن عبد البَرّ: يريد تحليل الوطء بملك اليمين في غير آية، كذا في "شرح الزرقاني". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 آيَةٌ وحرَّمتهما آيَةٌ (1) ، مَا كُنْتُ (2) لأصْنَع ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ (3) فَلَقِي رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ (4) لِي مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتيتُ بأحدٍ فَعَلَ ذَلِكَ جعلتُه نِكالاً. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ (5) : أُرَاه (6) عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه.   (1) يعني قولَه تعالى: {وأنْ تَجمعوا بين الأختين} لكونه عامّاً من النكاح والجمع بملك اليمين. (2) قوله: ما كنت لأصنع ذلك، أخبره برأيه بعد ما ذكر التعارض بين الآيتين كأنه يشير إلى تقديم الحَظر على الإباحة أو إلى أن اشتراك العلة يقتضي كون الحكم في ما نحن فيه مثل الحكم في النكاح فكما لا يجوز الجمع نكاحاً لا يجوز وطياً بملك اليمين. (3) قوله: ثم خرج، أي ذلك السائل، فلقي علياً فسأله عن ذلك لما أن جواب عثمان رضي الله عنه لم يكن شافياً لعدم جزمه بذلك. (4) قوله: لو كان لي من الأمر، أي الحكومة والخلافة أي لو كانت لي حكومة على الناس بالعقوبة ثم جئت بأحد فعل ذلك أي الجمع بين الأختين بملك اليمين، واطَّلعت على ذلك جعلته أي فعلَه ذلك نَكالاً - بالفتح - أي باعث عقوبة وعذاب، يعني لأجريتُ عليه عقوبة زاجرة عن مثل ذلك. قال ابن عبد البر: لم يقل حددتُه حدَّ الزناء لأن المأوِّل ليس بزانٍ إجماعاً، وإن أخطأ إلاَّ ما لا يُعذر بجهله وهذا شبهة قوية، وهي شبهة عثمان وغيره. (5) الزهري شيخ مالك. (6) قوله: أراه علياً، أي أظن ذلك الصحابي القائل له علي بن أبي طالب وكنى عنه قَبيصة لصحبته عبد الملك بن مروان، وبنو أمية تستثقل سماع ذكر عليّ لا سيما ما خالف فيه عثمان، كذا في "شرح الزرقاني"، وقال القاري: لا يبعد أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا (1) كُلِّهِ نَأْخُذُ لا يَنْبَغِي (2) أَنْ يُجمع بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ ابْنَتِهَا، وَلا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأُخْتِهَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ. قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ (3) : مَا حرَّم اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْحَرَائِرِ شَيْئًا إلاَّ وَقَدْ حرَّم مِنَ الإِماء مثلَه إلاَّ أَنْ يَجْمَعَهُنَّ رَجُلٌ. يَعْنِي (4)   يكون الرجل هو ابن مسعود فإنه سُئل عن الرجل يجمع بين الأختين المملوكتين في الوطئ فكرهه. (1) وبه قال الجمهور. (2) أي لا يحل لأحد. (3) قوله: قال عمار بن ياسر، أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة، كذا قال السيوطي في "الدر المنثور"، وذكر فيه آثاراً أُخَر منها قول إياس بن عامر: سألت عليّاً أن لي أختين مما ملكت يميني اتخذت إحداهما سُرِّيَّة وولدت لي أولاداً، ثم رغبتُ في الأخرى فما أصنع؟ قال: تعتق التي كنتَ تطأ ثم تطأ الأخرى، ثم قال: إنه يحرم عليك مما ملكتْ يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلاَّ العدد، ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب، أخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار". ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عن عليّ وسئل عن رجل له أمتان أختان، وطئ إحداهما (في الأصل: "أحدهما") ، ثم أراد أن يطأ الأخرى؟ قال: لا، حتى يُخرجها عن ملكه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود أنه سُئل عن الرجل يجمع بين الأختين الأمتين فكرهه، فقيل له: يقول الله: {إلاَّ ما ملكت أَيْمانكم} فقال: وبعيرك مما ملكت يمينك. وأخرج ابن المنذر والبيهقي عنه، قال: يحرم من الإِماء ما يحرم من الحرائر إلاَّ العدد، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبيهقي عن ابن عمر نحو ذلك. (4) بيان لمراد عمار من قوله: إلاِّ أن يجمعهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 بِذَلِكَ أَنَّهُ يَجْمَعُ مَا شَاءَ (1) مِنَ الإِماء، وَلا يحلُّ لَهُ فوقَ أربعِ حرائرَ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. 11 - (بَابُ الرَّجُلِ يَنْكح الْمَرْأَةَ وَلا يَصِلُ إِلَيْهَا لعلَّة (2) بِالْمَرْأَةِ أَوْ بِالرَّجُلِ) 537 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن سعيد بن المسيب أنَّه كان يَقُولُ: مَنْ تزوَّج امْرَأَةً فَلَمْ (3) يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا فإنَّه يُضْرَب لَهُ أجَل سَنَة فَإِنْ مَسَّها وإلاَّ فُرَّقَ بينما. قَالَ محمدُ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حنيفة رحمه الله إن   (1) من غير اعتبار عدد ولو تجاوز عن الألف. (2) علة الرجل: كالعُنَّة، وعلَّة المرأة كالرَّتق (الرتق أن يكون الفرج مسدوداً يعني أن يكون ملتصقاً لا يدخل الذكر فيه. المغني 6/651) ، والمشتركة كالجنون، كذا قال القاري. (3) قوله: فلم يستطع أن يمسها، أي يجامعها لمانع به بأن يكون عِنيِّناً، فإنه يُضرب له أي يُعَيَّن له أجل سنة أي قمرية على الأصح، أما إذا كان مجبوباً فإنه يُفرَّق بطلبها إذ لا فائدة في تأجيله، فإن مسَّها أي جامعها ولو مرة فبها، وإلاَّ فَرَّق بينهما أي القاضي إن طلبته وتَبين بطلقة. وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن محمد، عن الشعبي أن عمر بن الخطاب كتب إلى شُريح أن يؤجِّل العِنِّين سنة من يوم يرفع إليه، فإن استطاعها وإلاَّ فخيَّرها، فإن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت. ورُوي أيضاً عن علي وابن مسعود والمغيرة بن شعبة أن العِنّين يؤجَّل سنَّة، كذا في "شرح القاري". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 مَضَتْ سَنَةٌ وَلَمْ يمسَّها خُيِّرَت (1) فَإِنِ (2) اختارَتْه فَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَلا خِيَار لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا. وَإِنِ اختارَت نَفْسَهَا فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بائِنَة، وإن قال (3)   (1) بين الافتراق والإِقامة معه (فإن اختارت الفسخ لم يجز إِلاَّ بحكم الحاكم لأنه مختلف فيه فإما أن يفسخ وإما أن يرده إليها فتفسخ هي في قول عامة القائلين به، ولا يفسخ حتى تختار الفسخ وتطلبه لأنه لحقها فلا تُجبر على استيفائه كالفسخ بالإِعسار، فإذا فسخ فهو فسخ وليس بطلاق. وهذا قول الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك والثوري: يفرق الحاكم بينهما وتكون تطليقة لأنه فرقة لعدم الوطء فكانت طلاقاً كفرقة المولى. المغني 6/669. وفي "المحلى" تبين بطلقة بائنة عند أبي حنيفة ولها كل المهر إن خلا بها ونصفه إن لم يخل بها، وقال الشافعي وأحمد: فسخ، لا يجب المهر ولا المتعة ويجب العدة. كذا في الأوجز 10/222) . (2) قوله: فإن اختارته فهي زوجته، أي إن اختارته بعد ظهور عِنَّته فهي زوجته من غير طلاق ولا فسخ لأنها أسقطت حقَّها، ولا يعود الساقط، وإن اختارت نفسها وطلبت التفريق فهو طلاق بائن. به وردت الآثار، فروى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قضى عمر في العِنّين أن يؤجل سنة، قال معمر: وبلغني أن التأجيل من يوم تخاصمه. وكذا رواه الدارقطني، وفي رواية ابن أبي شيبة، عن سعيد، عن عمر أنه أجَّل العِنّين سنة، وقال: إن أتاها وإلاَّ فرَّقوا بينهما، ولها الصَّدَاق كاملاً. وروى محمد في كتاب "الآثار" عن أبي حنيفة، عن إسماعيل بن مسلم المكي، عن الحسن، عن عمر أن امرأة أتته، فأخبرته أن زوجها لا يصل إليها فأجَّله حولاً، فلما انقضى حول ولم يصل إليها خَيَّرها، فاختارت نفسها، ففرَّق بينهما عمر، وجعلها تطليقة بائنة. وفي الباب آثار عن علي وابن مسعود والمغيرة بن شعبة والحسن والشَّعْبي والنَّخَعي وغيرهم، ذكرها الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية". (3) أي الزوج بعد مضيِّ السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 إني قد مَسِستُها (1) السَنَةِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبَاً (2) فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ (3) مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بكْراً نَظَرَ إِليها النِّساء (4) ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ خُيِّرت بَعْدَ مَا (5) تُحَلَّفُ بِاللَّهِ مَا مَسَّها وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّب، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لَقَدْ مَسِسْتُها (6) وهو قول أبي حنيفة والعامةِ من فقهائنا. 538 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُجَبَّر (7) ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب أنَّه قَالَ: أيُّما رجلٍ تزوَّج امْرَأَةً وَبِهِ جُنُون أَوْ ضُرٌّ (8) فَإِنَّهَا تُخَيّر إِنْ شاءَت قَرَّت (9) وَإِنْ شاءَت فَارَقَتْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا كَانَ (10) أَمْرًا لا يُحْتَملُ خُيِّرَتْ، فَإِنْ شَاءَتْ قَرَّت وَإِنْ شاءَت فارقَتْ، وإلاَّ لا خيار لها إلاَّ في العِنِّيْن والمجْبُوب.   (1) أي جامعها في أثناء السنة. (2) أي قبل هذا النزاع. (3) أي الزوج. (4) أي العارفات بهذه الأحوال. (5) لعل هذا اليمين استظهار، قاله القاري. (6) بكسر السين الأولى. (7) على وزن اسم المفعول من التفعيل (مجبَّر لقب، اسمه عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأصغر ابن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الرحمن هو شيخ مالك. تعجيل المنفعة ص 393) . (8) أي ضرر آخر كالجذام والبرص وغير ذلك. (9) أي بقيت عنده. (10) قوله: إذا كان أمراً لا يحتمل، أي لا يمكنها المُقام معه إلاَّ بضررها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 12 - (بَابُ الْبِكْرِ تُستأمر (1) فِي نَفْسِهَا) 539 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (2) بْنُ الفَضْل (3) ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْر (4) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أنَّ (5) رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم   فحينئذٍ تُخَيَّر وإن كان أمراً يُحتمل فلا خيار لها إلاَّ في العِنّين، وهو من لا يصل إلى النساء مع وجود الآله أو يصل إلى الثيِّب دون البكر أو إلى بعض النساء دون بعض، وذلك لمرض أو ضعف بكبر سنه أو في خلقته أو لسحر، وكذا المجبوب والمراد به الخصي سواء كان مسلولاً سُلَّت منه خصيتاه أو موجوداً فهو كالعنّين في التأجيل لأن الوطء منه متوقع، بخلاف المجبوب غير المتوقع منه الوطء فإنه لا فائدة في تأجيله. وبالجملة إذا كان بالزوج جنون أو برص أو جذام فلا خيار لها عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لها الخيار دفعاً للضرر عنها، كذا قال علي القاري وغيره (بسط ابن قدامة هذه المسألة في "المغني"6/651، فارجع إليه) . (1) أي تُستأذن، إذا كانت عاقلة بالغة. (2) قوله: عبد الله، قال الزرقاني: ثقة من رجال الجميع، تابعي صغير من طبقة الزهري، قال السيوطي: وثقة النسائي وأبو حاتم وابن معين. (3) ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. (4) ابن مُطعم. (5) قوله: أنَّ ... إلى آخره، أخرجه مسلم وأصحاب السنن الأربعة وأحمد والشافعي كلهم من طريق مالك، تابعه زياد بن سعد، عن عبد الله بن الفضل بلفظ: الثيِّب أحق بنفسها من وليِّها والبكر يستأذنها أبوها، وإذنها صُماتها. وربما قال: صمتها إقرارها، رواه مسلم. وقال ابن عبد البر: هذا حديث رفيع رواه عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 قال: الأيِّم (1) أَحَقُّ (2) بنفسها من وَلِيِّها،   مالك جماعة من الأجلَّة كشعبة والسفيانين ويحيى القطان، قيل: ورواه أبو حنيفة، ولا يصح. (1) قوله: الأيِّم، بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة، كل امرأة لا زوج لها صغيرةً أو كبيرةً، بكراً أو ثيِّباً، حكاه الحربي وغيره. واختلفوا في المراد به ههنا، فقال الكوفيون وزفر والشعبي والزهري: المراد ههنا هو المعنى اللغوي ثيباً كان أو بكراً بالغة، فعقدها على نفسها جائز، وليس الولي من أركان العقد. وتُعُقِّب بأنه لو كان كذلك لما كان لفصل الأيِّم من البكر معنى، وقال علماء الحجاز وكافة الفقهاء: المراد منه الثيِّب المتوفى عنها، أو المطلَّقة لرواية أخرى بلفظ: "الثيب" مكان "الأيم"، كذا في "شرح الزرقاني" وغيره. (2) قوله: أحق بنفسها، لفظة أحقُّ للمشاركة أي أنَّ لها في نفسها حقاً ولوليها، وحقها آكد من حقه، كذا قال النووي، وقال عياض: يحتمل أن المراد أحق في كل شيء من عقدٍ وغيره، ويحتمل أنها أحق بالرضى أن لا تزوَّج حتى تنطق بالإِذن بخلاف البكر. وفي "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي: احتج الشافعي وأحمد بما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس مرفوعاً: الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها، قال ابن الجوزي في "التحقيق": وجه الدليل أنه قسم النساء قسمين، ثم خصَّ الثيب بأنها أحق من وليها، فلو أن البكر كالثيب في ترجيح حقها على حق الولي لم يكن لإِفراد الثيب معنى، فإن قالوا: قد رواه مسلم أيضاً بلفظ "الأيم" وهو مَن لا زوج لها بكراً كانت أو ثيِّباً، قلنا: المراد به الثيب، وقال في "التنقيح": لا دلالة فيه على أن البكر ليست أحق بنفسها إلاَّ من جهة المفهوم، والحنفية لا يقولون به، وعلى تقدير القول به كما هو الصحيح لا حجة فيه على إجبار كل بكر لأنه قد خالفه منطوق، وهو قوله "البكر تُستأذن" والاستيذان منافٍ للإِجبار، وإنما وقع التفريق في الحديث بين الثيب والبكر لأن الثيب يخطب إلى نفسها، والبكر يخطب وليها فيستأذنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 والبكْر (1) تُسْتَأمر فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُماتُها (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَاتُ الأَبِ وَغَيْرِ الأَبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. 540 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا قَيْس (3) بْنُ الرَّبِيعِ الأسَدي (4) ، عن عبد الكريم (5) الجَزَرِي (6) ،   (1) أي البالغة. (2) بالضم أي سكوتها. (3) قوله: قيس، هو ثقة، وثقه شعبة وسفيان، وعن ابن عيينة ما رأيت بالكوفة أجود حديثاً منه، وضعفه وكيع وغيره، قال ابن عون: عامَّة رواياته مستقيمة والقول فيه ما قاله شعبة، وأنه لا بأس به، مات سنة 107، وقيل: غير ذلك، كذا في "تهذيب التهذيب". (4) نسبة إلى أسد بفتحتين: قبيلة. (5) قوله: عن عبد الكريم الجزري، هو عبد الكريم بن مالك الجزري، أبو سعيد الحراني أحد الأثبات، وثقه الأئمة، قال ابن معين: ثقة ثبت، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث. مات سنة 127، وهو غير عبد الكريم بن أبي المُخارق أبو أمية البصري، وهو مختلف فيه، وقد يشتبه أحدهما بثانيهما، كذا في "مقدمة فتح الباري" للحافظ ابن حجر وغيره. (6) قوله: الجزري، بفتح الجيم وفتح الزاء المعجمة نسبة إلى جزيرة ابن عمر، موضع عمَّره رجل معروف بابن عمر، وليس هو بعبد الله بن عمر الصحابي، وإليها يُنسب ابن الأثير الجزري مؤلِّف "النهاية في غريب الحديث" و"جامع الأصول"، واسمه مبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم، وأخوه نصر الله المعروف أيضاً بابن الأثير الجزري المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، وأخوه الآخر المعروف أيضاً بابن الأثير الجزري مؤلف "أسد الغابة في أخبار الصحابة" و"الكامل في التاريخ"، و"مختصر أنساب السمعاني"، وإليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُسْتَأذَن الأبْكار فِي أنفسهنَّ ذَوَات الأَبِ وَغَيْرِ الأَبِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: فَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ. 13 - (بَابُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ (3) وَلِيٍّ) 541 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (4) رَجُلٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيّب   يُنسب مؤلف "الحصن الحصين" شمس الدين محمد بن محمد الجزري، وقد بسطت في تراجم هؤلاء في "التعليقات السنيَّة على الفوائد البهية في تراجم الحنفية". وقال السيوطي في "لب الألباب في تحرير الأنساب": الجزري نسبةً إلى عدة بلاد: المَوْصل، وسنجار، وحرّان، والرها، والرقة، ورأس عين، وآمد، وديار بكر، وجزيرة ابن عمر. انتهى. وفي "جامع الأصول": هو نسبة إلى الجزيرة وهي البلاد التي بين الفرات ودجلة وبها ديار بكر وربيعة. (1) هذا مرسل. (2) قوله: فبهذا نأخذ، حاصل مذهب أصحابنا أن تزويج البكر البالغة العاقلة لا يجوز بدون رضاها، وفي غير البالغة يجوز، وعند الشافعي يجوز للأب والجد تزويج البكر بغير رضاها صغيرةً كانت أو كبيرة، وفي الثيبة لا يجوز بدون رضاها، وبه قال مالك في الأب. وهو أشهر الروايتين عن أحمد في الجَدِّ، وقال في رواية أخرى: ليس للجد ولاية الإِجبار، كذا قال القاري. (3) قوله: بغير ولي، هو العصبة على ترتيبهم بشرط حرية وتكليف، ثم الأم، ثم ذو الرَّحِم، الأقرب فالأقرب ثم مَوْلى الموالاة ثم القاضي، كذا قال القاري. (4) في موطأ مالك برواية يحيى: مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال ... إلخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لا يَصْلُحُ لامرأةٍ أَنْ تُنْكَح (1) إِلا بِإِذْنِ وليِّها (2) أَوْ ذِي الرَّأْيِ (3) مِنْ أَهْلِهَا أَوِ السُّلْطَانِ. قَالَ محمدٌ: لا نِكَاحَ (4) إِلا بوَليّ (5) ، فَإِنْ (6) تشاجَرَت (7) هِيَ وَالْوَلِيُّ فالسُّلطان ولِيّ مَنْ لا وَلِيّ (8) لَهُ. فَأَمَّا (9) أَبُو حنيفة فقال: إذا   (1) بصيغة المجهول قال القاري: ويمكن المعلوم. (2) أي الأقرب. (3) أي ذي التدبير والعقل الصائب من أهلها ولو كان أبعد. (4) قوله: لا نكاح إلا بولي ... إلى آخره، لحديث عائشة مرفوعاً: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإنْ دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له، أخرجه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وأبو عوانة والطحاوي والحاكم وابن حبان، وحديث أبي موسى مرفوعاً: لا نكاح إلا بولي، أخرجه أحمد وابن ماجه وأبوداود والترمذي وابن حبان والحاكم. وفي الباب عن عائشة وأم سلمة وزينب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وابن عباس. وقد جمع الدمياطي طرقه في جزء، كذا في "التلخيص الحبير". (5) أي ولو المرأة بالغة. (6) في نسخة: وإن. (7) أي تنازعت المرأة وليها بأن رضيت بنكاح لم يرض به وليها. (8) أي حقيقة وحكماً كما في صورة المشاجرة. (9) قوله: فأما أبو حنيفة ... إلى آخره، أخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" حديث عائشة بأسانيده من طريق ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعاً: أيّما امرأةٍ نكحت. . . الحديث، ومن طريق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 وَضَعَتْ (1) نَفْسَهَا فِي كَفَاءَةٍ وَلَمْ تُقَصِّر فِي نَفْسِهَا فِي صَدَاق (2) ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَمِنْ حُجَّته قَوْلُ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَوْ ذِي الرَّأي   الحجاج بن أرطأة عن الزهري وابن لهيعة عن عبيد الله بن جعفر عن الزهري ثم قال: فذهب إلى هذا قوم، فقالوا: لا يجوز تزويج المرأة نفسها إلا بإذن وليها، وممن قال به أبو يوسف ومحمد، وخالفهم في ذلك آخرون وقالوا: للمرأة أن تزوج نفسها ممن شاءت وليس لوليها أن يعترض عليها في ذلك إذا وضعت نفسها حيث كان ينبغي لها أن تضعها، ثم ذكر في حجتهم ما أخرج عن عائشة أنها زوّجت حفصةَ بنت عبد الرحمن: المنذرَ بنَ الزبير، وعبدُ الرحمن غائب بالشام، فلما قدم قال: أمثلي يُصنع به هذا (هكذا في الأصل، وفي "شرح معاني الآثار"2/5: زاد بعد "هذا": ويُفتات عليه. (أي إذا تفرد برأيه) ؟ فكلّمت عائشة المنذر وقالت: ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنتُ أردّ أمراً قضيته فقررت حفصة عند المنذر، ولم يكن ذلك طلاقاً، ثم علل حديث عائشة السابق، وطرق حديث لا نكاح إلا بولي، وأطال الكلام في ذلك بما أكثره مدفوع، وقال في آخر الباب: وأما النظر في ذلك فإنا قد رأينا المرأة قبل بلوغها يجوز أمر والديها على بضعها ومالها، فإذا بلغت فكل قد أجمع على أن ما كان من العقد إليه في مالها قد عاد إليها، فكذلك العقد على بضعها يخرج من يده، وهذا هو قول أبي حنيفة إلا أنه كان يقول: إن زوّجت المرأة نفسها من غير كفؤ فلوليّها فسخ ذلك وكذلك إن قصَّرتْ في مهرها بأن تزوّجت بدون مهر مثلها، فلوليّها أن يخاصم. وقد كان أبو يوسف يقول: إن بضع المرأة إليها، وإنه ليس للولي أن يعترض عليها في نقصان ما تزوجت عليه عن مهر مثلها ثم رجع إلى قول محمد. إنه لا نكاح إلا بولي. (1) أي نكحت من كفؤ. (2) أي من مهر مثلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 مِنْ أَهْلِهَا. إِنَّهُ لَيْسَ بوَلِيّ، وَقَدْ أَجَازَ (1) نِكَاحَهُ (2) لأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ لا تُقَصِّر (3) بِنَفْسِهَا فَإِذَا فَعَلَتْ هِيَ ذَلِكَ جَازَ (4) . 14 - (بَابُ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَلا يَفْرِضُ (5) لَهَا صَدَاقًا) 542 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ بِنْتًا لعُبَيْد اللَّهِ (6) بْنِ عُمَرَ - وأُمها (7) ابْنَةُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَتْ تَحْتَ ابْنٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - فَمَاتَ (8) ، وَلَمْ يُسَمِّ (9) لَهَا صَدَاقاً، فَقَامَتْ أمها (10) تطلُبُ (11) صَدَاقها؟   (1) أي عمر. (2) أي تزويج ذي الرأي. (3) من اعتبار الكفاءة وتمام المهر. (4) لحصول المقصود. (5) أي لا يقدّر المهر، ولا يسمّيه عند العقد. (6) قوله: لعبيد الله، هو أخو عبد الله بن عمر بن الخطاب، وُلد في العهد النبوي، وقُتل بصفّين مع معاوية سنة 37، وزيد بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب أسلم قبله واستشهد قبله قاله الزرقاني. (7) الجملة حالية معترضة. (8) وفي رواية يحيى عن مالك: ولم يدخل بها. (9) أي عند النكاح. (10) وهي ابنة زيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب. (11) أي وكالة عن بنتها عن أبي زوجها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ لَهَا صَدَاق وَلَوْ كَانَ (1) لَهَا صَدَاق لَم نُمْسِكْه وَلَمْ نَظلمها. وَأَبَتْ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ (2) فَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ (3) فقَضَى (4) أَنْ لا صَدَاق لَهَا، ولها الميراث.   (1) أي لو كانت مستحقة لصداق شرعاً لأعطيته. (2) أي قول ابن عمر. (3) أي جعلوا زيداً حَكَماً لفصل هذه القضية. (4) قوله: فقضى أن لا صداق لها (والمرجح عند المالكية أن لا صداق لها ولها الميراث واجب في مال المتوفى، ولهم قول آخر: إنه يجب الصداق بالموت، قال الزرقاني في شرحه 4/129: وهو قول شاذ عندنا وقال الموفق: لو مات أحدهما قبل الإِصابة وقبل الفرض ورثه صاحبه وكان لها مهر نسائها، أما الميراث فلا خلاف فيه فإن الله تبارك وتعالى فرض لكل واحد من الزوجين فرضاً، وعقد الزوجية ههنا صحيح ثابت فورث به لدخوله في عموم النص، وأما الصداق فإنه يكمل لها مهر نسائها في الصحيح من المذاهب، وإليه ذهب ابن مسعود وابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري وإسحاق، وروي عن عليّ وابن عباس وابن عمر والزهري وربيعة ومالك والأوزاعي: لا مهر لها، وقال أبو حنيفة: كقولنا في المسلمة، وكقولهم في الذميّة، وعن أحمد رواية أخرى: لا يكمل ويَنتصف، وللشافعي قولان كالروايتين. المعني 6/721) ، هكذا أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي أيضاً، وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عن علي بن أبي طالب أنه قال في المتوفَّى عنها زوجها (في الأصل: "زوجة"، وهو تحريف) ولم يفرض لها صداقاً: إن لها الميراث وعليها العدة ولا صداق لها، قال: ولا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله. ويخالفه ما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي عن علقمة أن قوماً أتوا ابن مسعود، فقالوا: إنّ رجلاً منّا تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً، ولم يجمعها إليه حتى مات، فقال: ما سئلتُ عن شيء منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ من هذه، فأْتُوا غيري، فاختلفوا إليه فيها شهراً، ثم قالوا له في آخر ذلك: من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 قال محمد: ولسنا (1)   نسأل إذا لم نسألك وأنت آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البلد، ولا نجد غيرك؟ فقال: سأقول فيها بجهد رأيي، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له وإن كان خطأ فمني، والله ورسوله بريئان، أرى أن أجعل لها صَدَاقاً كصَدَاق نسائها، لا وكس ولا شطط ولها الميراث، وعليها العدة أربعة أشهر وعشراً، قال: وذلك بسمع من ناس من أشجع، فقاموا منهم معقل بن سنان، فقالوا: نشهد أنك قضيتَ بمثل الذي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة منا يقال لها: بروع بنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 نَأْخُذُ بِهَذَا (1) . 543 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حمَّاد، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ: أَنَّ رَجُلا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يفْرِض (2) لَهَا صَدَاقاً، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا صَدَاق مِثْلِهَا مِنْ نِسَائِهَا، لا وَكْسَ (3) وَلا شَطَطَ، فَلَمَّا قَضَى قَالَ فَإِنْ (4) يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ (5) وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي (6) وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ، فَقَالَ رَجُلٌ (7) من   واشق، قال: ما رُئي عبد الله فَرِح بشيء ما فرح يومئذٍ إلا بإسلامه، ثم قال: اللَّهم إن كان صواباً فمنك وحدك لا شريك لك. كذا أورده السيوطي في "الدر المنثور". (1) قوله: ولسنا نأخذ بهذا، لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه، ولا حجة بعد قول الرسول بقول غيره، وكل أحد يؤخد من قوله ويُترك إلا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال محيي السنّة البغوي في " معالم التنزيل" عند قوله تعالى: {لاجُناح عليكم إن طَلَّقْتُم النساء ما لم تمسّوهن أو تفرضوا لهن فريضة} (سورة البقرة: الآية 236) : من حكم الآية أنّ من تزوّج امرأةً بالغةً برضاها على غير مهر يصح النكاح، وللمرأة مطالبة بأن يفرض لها صداقاً، فإن دخل بها قبل الفرض فلها مهر مثلها، وإن طلّقها قبل الفرض والدخول فلها المتعة، وإن مات أحدهما قبل الدخول والفرض فاختلف أهل العلم في أنها هل تستحق المهر أم لا؟ فذهب جماعة إلى أن لا مهر لها، وهو قول علي وزيد وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس كما لو طلّقها قبل الدخول والفرض. وذهب قوم إلى أنّ لها المهر لأن الموت كالدخول في تقرير المسمَّى، فكذلك في تقرير مهر المثل إذا لم يكن في العقد مسمى، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي، واحتجوا بما روي عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوّج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود: لها صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله في بروع بنت واشق امرأةٍ منا مثل ما قضيت. قال الشافعي: فإن ثبت حديث بروع فلا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يثبت فلا مهر لها. انتهى. وقال علي القاري في "سند الأنام شرح مسند الإمام": قال شيخنا رئيس المفسرين في زمانه الشيخ عطية السلمي المكي الشافعي: فقد ثبت حديثها أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وأحمد والحاكم وصححه، وابن أبي شيبة وعبد الرزاق. ولم يتفرد به معقل بن سنان بل قال هو وجماعة من أشجع لابن مسعود: نشهد أنك قضيتَ بما قضى به رسول الله. وهو أحد قولي الشافعي، قاله قياساً، ولو ثبت عنده الحديث لما خالف فيه، وهو المرجّح عند النووي، والقول الثاني رجّحه الرافعي. (1) أي بحكومة زيد بعدم الصداق، وأما كون الميراث لها فمجمع عليه. (2) بكسر الراء أي لم يقدّر. (3) أي لا نقصان ولا زيادة. (4) قوله: فإن يكن، فيه إشارة إلى أن المجتهد يخطئ ويصيب، وأن الخطألا يُنسب إلى الله تعالى تأدُّباً. (5) أي من توفيقه. (6) أي من نفسي ومن وسوسة الشيطان. (7) قوله: فقال رجل من جلسائه ... إلى آخره، قال الرافعي من علماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الشافعية في "شرح الوجيز": في راوي هذا الحديث اضطراب قيل عن معقل بن سنان، وقيل عن رجل من بني أشجع، أو ناس من أشجع، وقيل: غير ذلك، وصححه بعض أصحاب الحديث، وقالوا: إن الاختلاف في اسم راويه لا يضرّ لأن الصحابة كلهم عدول. انتهى. قال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديثه": هذا الذي ذكره الأصل فيه ما ذكره الشافعي في "الأم" قال: قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي أنه قضى في بروع بنت واشق، وقد نكحت بغير مهر فمات زوجها، فقضى بمهر نسائها، وقضى لها بالميراث، فإن كان ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أولى الأمور بنا، ولا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم وإن كثر، ولا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتسليم له ولم أحفظ عنه من وجه يثبت مثله، مرة يقال عن معقل بن سنان، ومرة عن معقل بن يسار، ومرة عن بعض أشجع لا يسمَّى، وقال البيهقي: قد سُمِّي فيه معقل بن سنان، هو صحابي مشهور والاختلاف فيه لا يضر، فإن جميع الروايات فيه صحيحة وفي بعضها ما يدل على أن جماعة من أشجع شهدوا بذلك. وقال ابن أبي حاتم: قال أبو زرعة: الذي قال معقل بن سنان أصح، وروى الحاكم في "المستدرك"، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم يقول: سمعت الحسن بن سفيان يقول: سمعت حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي يقول: إنْ صح حديث بروع قلتُ به، قال الحاكم: فقال شيخنا أبو عبد الله: لو حضرت الشافعي لقمت على رؤوس الناس، وقلت قد صح الحديث فَقُل به. انتهى. وفي "فتح القدير": لنا أن سائلاً سأل عبد الله بن مسعود في صورة موت الرجل فقال بعد شهر أقول فيه بنفسي فإن يك صواباً فمن الله ورسوله وإن يكُ خطأً فمن ابن أمّ عبد. وفي رواية ومن الشيطان والله ورسوله بريئان، أرى لها مهر مثل نسائها، لاوكس ولا شطط، فقال رجل يقال له معقل بن سنان وأبو الجراح حامل راية الأشجعيِّين فقالا: نشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأة منا يُقال لها برووع بنت واشق الأشجعية بمثل قضائك هذا، فسُرّ ابن مسعود سروراً لم يُسَرّ مثله قط بعد إسلامه. هكذا رواه أصحابنا، وروى الترمذي والنسائي وأبو داود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 جُلَسَائِهِ: (1) بَلَغَنا (2) أَنَّهُ مَعْقِل (3) بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ، وكان من   هذا الحديث بلفظ أخصر وهو أن ابن مسعود قال في رجل تزوج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها ولم يفرض لها الصداق: إن لها الصداق كاملاً ولها الميراث، وعليها العدة، فقال: معقل بن سنان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بمثله، هذا اللفظ لأبي داود وله روايات أخر بألفاظ، قال البيهقي: جميع روايات هذا الحديث وأسانيدها صحيحة، والذي رُوي من ردّ علي (أما الذي رُوي عن عليّ رضي الله عنه فلم يصح ولو صح ما أثّر فيه لأن الرواة قد ذكروا عن عمر رضي الله عنه أنه ردّ حديث فاطمة بنت قيس وهو مشهور. والحديث مذكور في "مسند أبي حنيفة" وبسط في هامشه تخريجه، وقال: رواه الحاكم من وجه صححه، على شرط مسلم ومن وجه على شرط الشيخين، ورواه ابن حبان في صحيحه وحكى الزرقاني عن الإمام مالك بعد ذكر هذا الحديث، قال مالك: ليس عليه العمل. أوجز المسالك 9/305) رضي الله عنه فلمذهب تفرد به، وهو تحليف الرواي إلا أبا بكر الصديق، ولم ير هذا الرجل ليحلّفه، لكنه لم يصح عنه ذلك، وممن أنكر ثبوته عنه الحافظ المنذري. انتهى. (1) أي من شركاء مجلس ابن مسعود. (2) هذا كلام محمد بيان للرجل المبهم. (3) قوله: إنه معقل، بكسر القاف وفتح الميم بن سنان بكسر السين، وبِروع بكسر الموحدة على المشهور وقيل بفتحها وبسكون الراء وفتح الواو بعدها عين مهملة، وقال بعض اللغويين: كسر الباء خطأ، وقيل: رواه المحدثون بالكسر ولا سبيل إلى دفع الرواية، وأسماء الأعلام لا مجال للقياس فيها، كذا في "شرح القاري" وفي "الاستيعاب": بروع بنت واشق الأشجعية مات عنها زوجها هلال بن مرة الأشجعي، ولم يفرض صداقاً، فقضى رسول الله بمثل صداق نسائها. روى حديثها أبو سنان معقل وجراح الأشجعيان وناس من أشجع، وشهدوا بذلك عند ابن مسعود. وفيه أيضاً: معقل بن سنان الأشجعي يُكنى أبا عبد الرحمن، وقيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَضَيْتَ - وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ (1) - بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِرَوْعَ (2) بنتِ وَاشق الأشْجَعِيّة، قَالَ (3) : فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ فَرْحَة (4) مَا فَرِحَ قَبْلَهَا مِثْلَهَا لِمُوَافَقَةِ قَوْلِهِ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مسْرُوق ابن الأجْدَع: لا يَكُونُ (5) مِيرَاثٌ حَتَّى يَكُونَ قَبْلَهُ صَدَاق. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 15 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تُزَوَّجُ فِي عِدّتها (6)) 544 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن سعيد بن   أبا زيد، وقيل أبا سنان، كان فاضلاً نقياً شابّاً، شهد فتح مكة ونزل الكوفة، ثم أتى المدينة وقُتل يوم الحرّة. (1) هو الرب تبارك وتعالى وهي جملة اعتراضية تأكيدية. (2) قوله: بروع، اسم زوج هلال بن مرة، ذكره ابن مندة في "معرفة الصحابة" وهو في مسند أحمد أيضاً ذكره ابن حجر في" التلخيص (في الأصل "تلخيص"، وهو خطأ) الحبير". (3) أي ابراهيم النخعي. (4) التنوين للتعظيم. (5) قوله: لا يكون، أي الميراث. يتفرع على الصداق المتفرع على النكاح حقيقة أو حكماً، والميراث متفق عليه، فينبغي أن يكون الصداق كذلك، كذا قال القاري. (6) من زوج آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 المسيَّب وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَار، أَنَّهُمَا حَدَّثا: (1) أَنَّ ابْنَةَ (2) طَلْحة بْنِ عُبَيْد اللَّهِ كَانَتْ تَحْتَ رُشَيْد الثَّقَفِيّ، فَطَلَّقَهَا، فَنَكَحَتْ فِي عِدَّتها (3) أَبَا سَعِيدِ بنَ مُنَبِّهٍ أَوْ أَبَا الجُلاس بْنَ مُنَيَّة فضربها (4) عمر، وضرب (5)   (1) أي الزهري. (2) قوله: أن ابنة طلحة بن عبيد الله، هو أحد العشرة المبشّرة كانت تحت رُشيد الثقفي نسبة إلى ثقيف قبيلة، كذا قال القاري في "شرحه". وهو يفيد أن التي كانت تحت رشيد هي بنت طلحة بن عبيد الله، وهكذا في نسخ متعددة من الكتاب، وفي "موطأ يحيى" وشرحه للزرقاني: مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيَّب وسليمان بن يَسَار أن طليحة بنت عُبيد الله الأسدية لها إدراك. قال أبو عمر (في الأصل أبو عمرو، وهو تحريف) : كذا وقع الأسدية في بعض نسخ "الموطأ" في رواية يحيى وهو خطأ وجهل ولا أعلم أحداً قاله، وإنما هي تيمية أخت طلحة بن عبيد الله أحد العشرة التيمي، كانت تحت رُشيد - بضم الراء وفتح الشين - الثقفي الطائفي، ثم المدني، مخضرم، فطلَّقها إلى آخره. ويوافقه ما في "استيعاب ابن عبد البَرّ" في فصل الصحابيات: طليحة بنت عُبيد الله التي كانت تحت رُشيد الثقفي، فطلَّقها ونكحت في عدَّتها، ذكر الليث عن ابن شهاب أنها ابنة عبيد الله. انتهى. فظهر أن الصواب في عبارة الكتاب أن طليحة ابنة عبيد الله كانت تحت رشيد الثقفي ... إلى آخره. (3) قوله: في عدّتها، أي قبل انقضائها. أبا سعيد بن مُنَبِّه بضم ميم وفتح نون وتشديد موحدة فهاء. أو أبا الجُلاس كغراب، ابن عمرو بن سويد صحابيان على ما في "القاموس" بن مُنَيَّة - بضم ميم وفتح نون وتحتية مشددة فتاء تأنيث - والشك من أحد الرواة، كذا قال القاري. (4) تعزيراً وتأديباً. (5) قوله: وضرب، لأنه ارتكب ما نهى اللَّهُ عنه في كتابه حيث قال: {ولا تَعزموا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 زوجَها بالمِخْفَقَة (1) ضَرَباتٍ (2) ، وفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ عُمَرُ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا - وَإِنْ كَانَ زوجُها الَّذِي تَزَوَّجَهَا (3) لَمْ يَدْخُلْ بِهَا (4) - فُرِّق بينهما، واعتدَّتْ بقية عِدَّتِها من (5) الأول،   عُقْدة النكاح حتى يبلغ الكتابُ أجلَه} (سورة البقرة: الآية 235) قال ابن عباس: أي لا تنكحوا حتى تنقضي العدة. أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر، وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن مجاهد مثله، نعم قد أجاز الله بالتعريض وإظهار قصد النكاح في أيام العدّة بقوله: {ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خِطْبة النساء أو أكننتُم في أنفسكم. عَلِمَ اللَّهُ أنّكم ستذكرونهُنَّ ولكن لا تواعِدُوهنَّ سرّاً إلا أن يقولوا قولاً معروفاً} (سورة البقرة: الآية 235) قال القاسم: هو أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدّتها إنكِ عليّ لكريمة، وإني فيكِ راغب ونحو هذا، أخرجه مالك والشافعي والبيهقي. وأخرج وكيع والفِرْيابي وسعيد بن منصور وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: التعريض أن يقول: إني أريد التزوّج وإني لأحب امرأة، ذكره السيوطي. (1) قوله: بالمِخْفَقَة، بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الفاء والقاف، هكذا ضبط بالقلم في نسخ قديمة، قال الجوهري: هي الدِّرَّة التي يضرب بها، وفي "القاموس" كمِكْنَسَة أي على وزنها، قاله الزرقاني. (2) أي مرات عديدة. (3) هي في عدتها. (4) أي لم يجامعها. (5) قوله: من الأول، أي العدة الباقية من عدّة الزوج الأول، وأما الزوج الثاني فلا عدة من تفريقه لأنه لم يدخل بها وغير المدخولة لا عدّة لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 ثُمَّ كَانَ (1) خَاطِبًا مِنَ الخُطّاب، وَإِنْ كَانَ (2) قَدْ دَخَلَ بِهَا فُرِّق بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعتدَّت بَقِيَّةَ عِدَّتِها مِنَ الآخِر (3) ثُمَّ لَمْ يَنْكِحْهَا (4) أَبَدًا. قَالَ (5) سَعِيدُ بْنُ المسيَّب: وَلَهَا مَهْرُهَا (6) بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ 545 - أَخْبَرَنَا (7) الْحَسَنُ بْنُ عُمَارة،   (1) قوله: ثم كان خاطباً من الخُطّاب، أي ثم كان الزوج الثاني الذي فُرِّق بينه وبينها خاطباً من الخُطّاب، إن شاء يخطب لها ويعقد عقداً جديداً. وفيه إشارة إلى أنه ليس أحقَّ بها من غيره، بل هو خاطب من الخُطّاب، فتنكح من شاءت. (2) أي الزوج الثاني. (3) بكسر الخاء يعني المتأخر. (4) قوله: ثم لم ينكحها أبداً، لتأبد التحريم (قال الباجي: فالمشهور من المذهب أنّ التحريم يتأبّد، وبه قال ابن حنبل، وروى الشيخ أبو القاسم في تفريعه فيه روايتين: إحداهما أن تحريمه يتأبد، على ما قدّمناه، والثانية: أنه زانٍ، وعليه الحدّ ولا يُلحق به الولد، وله أن يتزوجها إذا انقضت عدّتها، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. المنتقى 3/317) بالوطء في العدة زجراً له وتأديباً وسياسةً في حقهما. (5) في "موطأ يحيى": قال مالك: قال سعيد بن المسيب ... إلى آخره. (6) ولا مهر لها في صورة عدم الوطء. (7) قوله: أخبرنا الحسن، هو الحسن بن عُمارة - بالضم - البجلي الكوفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 عَنِ الحَكَم (1) بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: رَجَعَ (2) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الَّتِي تتزوَّج (3) فِي عِدَّتِها إِلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ (4) أَنَّ عُمَرَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ (5) بها فُرِّق بينَهُما ولم يجتمعا أَبَداً،   أبو محمد قاضي بغداد، روى عن الزهري والحكم بن عتيبة وأبي إسحاق السَّبيعي وغيرهم، وعنه السفيانان وجماعة، وثقه عيسى بن يونس، وقال: شيخ صالح، لكن جرَّحه كثير: منهم النسائي وابن معين وابن المديني وأحمد وشعبة والدارقطني والساجي والجوزجاني وغيرهم بأنه متروك أو ساقط أو لا يُحتج به أو منكر الحديث ونحو ذلك، وقال النضر عن شعبة: أفادني الحسن بن عمارة عن الحكم أحاديث فلم يكن لها أصل، مات سنة 153، كذا في "تهذيب التهذيب" وغيره. (1) قوله: عن الحكم بن عُيَيْنة، هكذا في النسخ الحاضرة والصحيح على ما في "مشتبه النسبة" و "تهذيب التهذيب" و "تقريبه" وغيرها أنه الحَكَم - بفتحتين - بن عُتَيْبة - بضم العين وفتح التاء المثناة الفوقية وبعدها ياء تحتانية مثناة ثم باء موحدة - أبو محمد الكندي مولاهم الكوفي، روى عن جمع من الصحابة والتابعين، وثَّقه ابن عيينة وابن مهدي وأحمد ويحيى بن سعيد والعجلي وابن سعد وغيرهم، وقال البخاري في "التاريخ الكبير": قال القطان: قال شعبة: الحكم عن مجاهد كتاب إلاَّ ما قال سمعت، وقال ابن حبان في "الثقات": كان يدلِّس، مات سنة 113 أو 114 أو بعده بسنة. (2) عن قوله السابق. (3) بصيغة المجهول والمعروف. (4) بيان للرجوع (أخرج البيهقي في "سننه" بطرق عديدة رجوع عمر رضي الله عنه إلى قول عليّ رضي الله عنه. انظر الأوجز 9/361) . (5) الزوج الثاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وأخذ (1) صَدَاقها، فجعل في بيت المال فقام عَلِيٌّ كرَّم اللَّهُ وَجْهَهُ: لَهَا صَدَاقها بِمَا استحلَّ (2) مِنْ فَرْجِهَا، فَإِذَا انقضتْ عِدَّتُها مِنَ الأَوَّلِ تَزَوَّجَها (3) الآخَرُ إِنْ شاءَ. فَرَجِعَ عُمَرُ إِلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 546 - أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ (4) ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (5) بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: أنَّ امْرَأَةً هَلَكَ (6) عَنْهَا زَوْجُهَا، فاعتدَّت أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ تزوَّجَتْ حِينَ حلَّت (7) فَمَكَثَتْ (8) عِنْدَ زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا، ثُمَّ ولدتْ وَلَدًا تامّاً (9) ،   (1) أي أخذ عمر صَدَاقها وأدخله في بيت المال زجراً لحرمانها. (2) أي استمتع ببُضْعها. (3) قوله: تزوجها الآخر إن شاء، ولا عِدَّة ثانية بالنسبة إليه، فإن أراد ثالث أن يتزوجها فلا يجوز حتى تخرج من عدَّة الثاني أيضاً، كذا قال القاري. (4) ابن الحارث التيمي. (5) لم أقف على تعيُّنه وحاله إلى الآن ولعل الله يُحدث بعد ذلك أمراً (هو عبد الله بن عبد الله بن أبي أمية انتسب إلى جده فأسلم مع ابيه، هذا هو المرجّح عند شيخنا، انظر الأوجز 12/198) . (6) أي مات. (7) أي خرجت من العدة. (8) أي أقامت ولبثت عند الثاني. (9) أي غير ناقص الخِلقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 فَجَاءَ زوجُها (1) إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَدَعَا عمرُ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ قدَمَاء (2) ، فسألهنَّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُنَّ: أَنَا أُخْبِرُكَ (3) ، أَمَّا هَذِهِ الْمَرْأَةُ هَلَكَ زَوْجُهَا حِينَ حَمَلَتْ، فَأُهْرِيقَتِ الدِّمَاءُ (4) فَحَشَفَ (5) ولدُها فِي بَطْنِهَا (6) ، فَلَمَّا أَصَابَهَا (7) زوجُها الَّذِي نَكَحَتْهُ وَأَصَابَ الولدَ (8) الماءُ (9) تحرَّك الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا، وكَبِر فصدَّقها عُمَرُ بِذَلِكَ وفرَّق بَيْنَهُمَا (10) ، وَقَالَ عُمَرُ: أمَا (11) إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْهُمَا إلاَّ خَيْرًا (12) ، وَأَلْحَقَ (13) الولدَ بالأوَّل. قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، الْوَلَدُ وَلَدُ الأوَّل، لأنها جاءت به عند   (1) مستفتياً عما في الباب. (2) أي نساءً عارفات عاقلات. (3) أي بحقيقة الواقعة. (4) أي دماء الحيض أو غيره. (5) أي يبس لعدم وصول غذائه وهو الدم. (6) فلم يتحرك ولم يتبيَّنْ حملُها. (7) أي وطيها. (8) مفعول مقدَّم. (9) أي المني. (10) لوقوع العقد في أثناء العدَّة لأن عِدَّة الحامل وضع الحمل. (11) بالتخفيف حرف تنبيه. (12) أي صلاح وديانة ولو بلغني شرٌّ لأقمت التعزيز. (13) أي أثبت نَسَبَه من الزوج الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 الآخَرِ (1) لأقلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَلا تَلِدُ الْمَرْأَةُ وَلَدًا تامَّاً لأقلِّ مِنْ (2) ستَّة أَشْهُرٍ، فَهُوَ ابْنُ الأَوَّلِ، ويفرَّق بَيْنَهُمَا (3) وَبَيْنَ الآخَرِ، وَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا استَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا: الأقلُّ مِمَّا سُمِّي (4) لَهَا وَمِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا. وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 16 - (باب العزل (5)) 547 - أخبرنا مالك،   (1) بفتح الخاء والكسر. (2) فإن أقلّ مدة الحمل ستة أشهر بالنص. (3) سواء دخل بها أو لم يدخل. (4) إن سُمِّي شيء، وإلاَّ فمهر المثل. (5) هو أن يجامع ولا يُنزل في داخل الفرج، بل يُخرج الذَّكَر قبل الإِنزال. قوله : باب العزل، قد اختُلف فيه فأباحه جابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن مسعود، ومنعه ابن عمر وقال: لو علمت أنَّ أحداً من ولدي يعزل لنكَّلتُه، وقال: ضرب عمرُ على العزل بعضَ بَنِيه، وعند سعيد بن منصور عن ابن المسيَّب: أن عمر وعثمان كانا يُنكران العزل، وقال أبو أمامة: ما كنتُ أرى مسلماً يفعله، وعند أبي عَوَانة أنَّ علياً كان يكرهه، ونَقَل ابن عبد البر وابن هبيرة الإِجماع على أنه لا يَعزل عن الزوجة الحرَّة إلاَّ بإذنها، لأن الجماع من حقِّها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلاَّ ما لا يلحقه عزل، وتُعُقِّب بأن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلاً، والمعوَّل عليه عند الحنفية أن حقَّها إنما هو في الوطئة الواحدة بعد العقد، يستقرُّ بها المهر. واختلفوا في علَّة النهي عن العزل، فقيل: لتفويت حقِّ المرأة، وقيل لمعاندة القدر، ويشهد للأول ما أخرجه أحمد وابن ماجه عن عمر مرفوعاً: نهى عن العزل عن الحرَّة إلاَّ بإذنها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 أخبرنا سالم (1) أبو النَّضر (2) ، عن   وفي إسناده ابن لَهيعة متكلَّم فيه، ويشهد للثاني ما أخرجه أحمد والبزار بإسناد حسن عن أنس جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن العزل، فقال: لو أنَّ الماء الذي يكون منه الولد أَهْرَقْتَه على صخرة لأخرج الله منها ولداً وليخلُقَنَّ اللَّهُ نفساً هو خالقها. وأخرج مسلم عن جابر: أن رجلاً أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية وهي خادمتنا وسانِيَتُنا في النخل وأنا أطوف عليها، وأكره أن تَحمل، فقال: اعزل عنها إن شئتَ فإنه سيأتيها ما قُدِّر لها. وفي الباب أخبارٌ كثيرة، كذا في "شرح مسند الإمام الأعظم" (انظر "تنسيق النظام في مسند الإِمام" للشيخ المحدث محمد حسن السنبهلي ص 134) لبعض المتبحِّرين، وفيه أيضاً قال الحافظ ابن حجر: ينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع هناك ففي هذه أَوْلى، ومن قال بالجواز يمكنه أن يقول في هذه أيضاً بالجواز، ويمكنه أن يفرِّق بأنه أشدُّ لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب، ومعالجة السِّقْط بعد السبب. انتهى. وقال ابن الهُمام في "فتح القدير": يباح الإِسقاط ما لم يتخلَّق، وفي "الخانية": لا أقول: إنه يُباح الإِسقاط مطلقاً فإنَّ المُحرم إذا كسر بيضَ الصيد يكون ضامنا لأنه أصل الصيد، فإذا كان هناك مع الجزاء إثم فلا أقلَّ أن يلحقها إثم ههنا إذا أسقطت من غير عذر. انتهى. وقال في "البحر": ينبغي الاعتماد عليه لأن له أصلاً صحيحاً يُقاس عليه، والظاهر أن هذه المسألة لم تُنقل عن أبي حنيفة صريحاً، لذا يعبرون بقالوا. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: يلحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الحَبَل من أصله، فقد أفتى بعض المتأخرين من الشافعية بالمنع، وهو مشكل على قولهم بإباحة العزل مطلقاً. (1) ابن أبي أمية. (2) مولى عمر بن عبيد الله القرشي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 عامر (1) بن سعد بن أبي وقَّاص، عن أَبِيهِ أَنَّهُ (2) كَانَ يَعْزِل. 548 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) بْنِ أفْلَح مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أُمِّ وَلَدِ أَبِي أَيُّوبَ: أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ كَانَ يَعْزِل. 549 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ضمْرَة بْنُ سَعِيدٍ الْمَازِنِيُّ، عَنِ الحجَّاج (4) بْنِ عَمرو بْنِ غَزِيَّة: أنَّه كَانَ جَالِسًا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ،   (1) قوله: عن عامر بن سعد، ابن أبي وقاص الزهري المدني، وثَّقه ابن حبان، مات سنة 96 هـ، ويقال سنة 103، كذا في "إسعاف المبطأ". (2) لأنه كان ممن يرى الرخصة فيه، قاله الزرقاني. وقال القاري: عن نسائه أو إمائه، والثاني هو الظاهر. (3) قوله: عن عبد الرحمن بن أفلح، هكذا وجدنا في نسخ عديدة، وكذا في نسخة شرح القاري، وفي موطأ مالك برواية يحيى، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن ابن أبي أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري عن أمّ ولد لأبي أيوب ... إلخ. وقال شارحه الزرقاني: هو عمر - بضم العين - بن كثير بن أفلح المدني ثقة. انتهى. ويوافقه قول ابن حجر في "تقريب التهذيب": عمر بن كثير بن أفلح المدني مولى أبي أيوب ثقةً. انتهى. وقال السيوطي في "الإِسعاف": عمر بن كثير بن أفلح المدني مولى أبي أيوب عن ابن عمر وكعب ونافع وجماعة، وعنه ابن عون ويحيى الأنصاري وغيرهما وثقه النسائي. انتهى. (4) قوله: عن الحجاج بن عَمرو (ذكره بعضهم من التابعين وهو من رواة الأربعة. انظر: الأوجز 10/268) ، بفتح العين، بن غَزِيَّة بفتح الغين المعجمة وكسر الزاء وتشديد التحتية، الأنصاري المازني المدني، شهد صفّين مع علي رضي الله عنه، كذا في "شرح الزرقاني". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 فجاءَه (1) ابْنُ قَهْد رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ (2) ، إِنَّ عِنْدِي جَوَاريَ، لَيْسَ نِسَائِي اللاتِي (3) كُنَّ بأعجبَ إلَيَّ منهنَّ، وَلَيْسَ كلُّهن (4) يُعْجِبُنِي أَنْ تَحمل مِنِّي، أَفَأَعْزِلُ (5) ؟ قَالَ: قَالَ: أَفتِهِ (6) يَا حَجَّاجُ، قَالَ: قُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، إِنَّمَا نَجْلِسُ (7) إِلَيْكَ لِنَتَعَلَّمَ   (1) قوله: فجاءه ابن قَهد، بفتح القاف وسكون الهاء فدال مهملة على ما في "المغني" وقال: كذا جاء في "الموطأ" غير منسوب، وقيل: بفاء إذلا يُعرف بقاف إلاَّ قيس بن قهد، الصحابي رجل من أهل اليمن بدل عن ابن قهد، فقال أي ابن قهد - لزيد: يا أبا سعيد، إنَّ عندي جواريَ جمع جارية أي إماء ليس نسائي اللاتي كنَّ، أي عندي قبلهن. بأعجبَ، أي أحسن وأرغب إليَّ منهن، وليس كلهن، أي جميع نسائي أو إمائي - وهو الأظهر - يعجبني أن تحمل مني، كذا في "شرح القاري" وفي "شرح الزرقاني": ابن قَهد بفتح القاف ضبطه ابن الحذاء، وجوَّز أن يكون قيس بن قهد الصحابي قال في"التبصرة": وفيه بُعد، ولعل وجهه قوله رجل من اليمن، فإنَّ قيساً الصحابي من الأنصار، فيبعد أن يُقال فيه ذالك وإن كان أصل الأنصار من اليمن. (2) هو كنية زيد بن ثابت. (3) قوله: اللاتي كن، في نسخة " موطأ يحيى": أُكِنُّ قال الزرقاني في "شرحه" (3/229) : بضم الهمزة وكسر الكاف أي أضمُّ إليَّ. (4) لأني أحتاج إلى بيع بعضهن ونحو ذلك. (5) بهمزة الاستفهام. (6) لما رأى فيه من قابلية الفتوى. (7) يريد أنك أعلم مني فأنت أحق بالإِفتاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 مِنْكَ، قَالَ. أَفْتِهِ، قَالَ: قُلْتُ (1) : هُوَ حَرْثُكَ (2) إِنْ شئتَ عطَّشْتَهُ وإنْ شئتَ سقيتَه، قَالَ: وَقَدْ كُنْتُ أسْمع (3) ذَلِكَ مِنْ زَيْدٍ، فَقَالَ زيد: صَدَقَ (4) . قال محمد: وبهذا (5) نأخذ   (1) أي للسائل. (2) قوله: هو حرثك، أي بضع إمائك موضع حرثك، فيجوز لك أن تسقيه الماء أو تعزله عن الماء، وكأنه أشار بإطلاق الحرث إلى أن جواز العزل مستنبطٌ من الكتاب فإنه تعالى قال في باب وطء النساء {نساؤكم حرث كم فأتُوا حرثكم أنَّى شئتم} (سورة البقرة: الآية 223) فسمّى بُضعَ المرأة حرثاً، ومن المعلوم أن الحرث يتخير فيه الإِنسان بين أن يسقيه وأن لا يسقيه، فكذلك بضع النساء، وبل: قيل: إن نزول "أنّى شئتم" أي كيف شئتم كان لبيان جواز العزل، فأخرج وكيع وابن أبي شيبة وابن منيع وعبد بن حُمَيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والحاكم والضياء في "المختارة" عن زائدة بن عمير قال: سألتُ ابن عباس عن العزل، فقال: إنكم أكثرتم فإن كان قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، وإن لم يكن قال فيه شيئاً فأنا أقول فيه: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم فإن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، وهذا أحد الأقوال الأربعة التي ذُكرت في شأن نزول هذه الآية. وقد بسط السيوطي في "الدر المنثور" الكلام فيها. (3) أي بهذا الحكم فأفتيت على وفقه. (4) تصويباً لإِفتاء تلميذه واطمئناناً لقلب سائله. (5) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال أحمد ومالك في المسألتين، وقال القاضي عياض: رأى بعض شيوخنا في زوجة الرجل المملوكة لغيره إذنها أيضاً مع إذن سيده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 لا نَرَى بِالْعَزْلِ بَأْسًا عَنِ الأَمَةِ (1) ، وَأَمَّا الحُرَّة فَلا يَنْبَغِي أَنْ يَعزِل عَنْهَا إلاَّ بِإِذْنٍ (2) ، وَإِذَا كَانَتِ الأَمَة زَوْجَةَ الرَّجُلِ فَلا يَنْبَغِي أَنْ يَعزِلَ عَنْهَا إلاَّ بِإِذْنٍ مَوْلاهَا. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.   لحقِّ الزوجية، وقال الباجي: قيل: لا يعزل عنها إلاَّ بإذنها أيضاً. وعندي أن هذا صحيح فإنَّ لها بالعقد حقاً في الوطء. وذهب الشافعية إلى كراهة العزل مطلقاً ولهم قول آخر أيضاً. (1) قوله: عن الأمة، أي عن أمته فإنها مملوكة بجميع أجزائها وحقوقها، وليس لها حق ورضاء معتبر شرعاً، وكثيراً ما يَكره الرجل النَّسل من الإماء بخلاف الحرة فإن لها حقاً معتبراً، وكذا إذا كان الزوج أمة رجل، فإن لمولاها حقاً معتبراً، فلا يجوز العزل إلاَّ بالإذن. وقد ورد الفرق بين الحرة والأمة مرفوعاً وموقوفاً، فأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه قال: تستأمر الحرة وتعزل عن الأمة، وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عباس أنه نهى عن عزل الحرَّة إلا بإذنها. وروى ابن أبي شيبة عنه أنه كان يعزل عن أمته. وأخرج البيهقي عن ابن عمر أنه قال: تعزل الأمة وتستأذن الحرة. وعن عمر مثله. وأخرج ابن ماجه عن عمر مرفوعاً نحوه، كذا ذكره ابن حجر في "التلخيص الحبير". وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بعد ما ذكر إباحة العزل عن الأمة لا عن الحرة إلاَّ بإذنها، وإنْ كانت لرجل زوجة مملوكة فأراد أن يعزل عنها فإن أبا حنيفة ومحمداً وأبا يوسف كانوا يقولون فيما، حدثني به محمد بن العباس عن علي بن معبد، عن محمد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة الإذن في ذلك إلى مولى الأمة، وروي عن أبي يوسف فيما حدثني به ابن أبي عمر أنَّ حدثني محمد بن شجاع عن الحسن بن زياد أنه قال: الإِذن في ذلك إلى الأمة، قال ابن أبي عمران: هذا هو النظر على أصول ما بُني عليه هذا الباب لأنها لو أباحت زوجها تركَ جماعها كان ذلك في سعة ولم يكن لمولاها أن يأخذ زوجها به فكذا هذا. (2) في نسخة: بإذنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 550 - أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب، عن سالم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَا بالُ رجالٍ يَعْزِلُون عَنْ ولائِدهم (1) ؟ لا تَأْتِينِي ولِيدة فَيَعْتَرِفُ سيِّدُها أَنَّهُ قَدْ ألمَّ (2) بِهَا إلاَّ ألحقتُ بِهِ (3) وَلَدَهَا فَاعْتَزِلُوا (4) بعدُ أَوِ اتْرُكُوا. قَالَ مُحَمَّدٌ: إنَّما صَنَعَ (5) هَذَا (6) عمرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى التَّهْدِيدِ لِلنَّاسِ أنْ يُضَيِّعُوا ولائِدَهم، وهم (7) يطؤونهنَّ. قَدْ بَلَغَنَا أنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَنَفَاهُ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فَحَمَلَتْ، فَقَالَ: اللَّهم لا تَلْحَقْ بآل (8) عمر   (1) أي عن إِمائهم جمع، وليدة بمعنى الأمة. (2) بتشديد الميم من الإلمام أي جامعها. (3) أي نَسَبْتُه إليه وحكمتُ بأنه منه وإن لم يعترف به. (4) في نسخة: فاعزلوا. (5) قوله: إنما صنع ... إلخ، يعني لم يقصد به عمر حرمةَ العزل عن الأمة فإنه جائز عنده وعند غيره، ولا أنَّ كل ما تضعه الأمة الموطوءة من سيدها ملحَقٌ بسيدها، وإن لم يَدَّعِه ولم يعترف به، بل أراد به الزجر والتهديد كراهية أن يُضيّعوا ولائدهم بالعزل بدليل ما بلغ عن زيد بن ثابت أنه نفى ولد جارية موطوءة له من نفسه، فإنه يدل على جواز النفي بعد الوطء، وبدليل ما ثبت عن عمر نفسه نفي ولد جاريته الموطوءة. (6) أي الحكم المذكور. (7) جملة حالية. (8) أي أولاده وأقاربه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَجَاءَتْ بِغُلامٍ أَسْوَدَ، فأقرَّت أنَّه مِنَ الرَّاعِي، فَانْتَفَى (1) مِنْهُ عُمَرُ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ إِذَا حصَّنها (2) وَلَمْ يَدَعْها تَخْرُجْ (3) ، فجاءَت بولدٍ لَمْ يَسَعْهُ (4) فِيمَا بَيْنَهُ (5) وَبَيْنَ رَبِّهِ عزَّ وَجَلَّ يَنْتَفِي مِنْهُ، فَبِهَذَا نَأْخُذُ. 551 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَتْ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الخطّاب: ما بال رجالٍ يطؤون ولائِدهم ثُمَّ يَدَعُونَهُنَّ (6) فيَخْرُجْنَ (7) ؟! وَاللَّهِ لا تَأْتِينِي (8) ولِيْدَةٌ فَيَعْتَرِفُ سيِّدُهَا أنْ قَدْ وَطِئَها إلاَّ ألحقتُ بِهِ ولَدَها فأرسلوهُنّ بعدُ (9) أَو أَمْسِكُوْهُنَّ.   (1) أي تبرأ من أن يكون هو والداً له. (2) أي حفظ المولى جاريته في بيته ولم يتركها تخرج. (3) إلى محل يورث الشبهة. (4) أي لم يجز. (5) أي ديانةً لا قضاءً. (6) أي يتركونهن. (7) من بيوتهن إلى مواضع الشبهة. (8) هذا حكم تهديدي لئلا يتركوا تحصين إمائهم موطوءات. (9) أي بعد هذا الحكم إن شئتم أرسلتم وإن شئتم أمسكتم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 (كِتَابُ الطَّلاقِ) 1 - (بَابُ (1) طَلاقِ السُّنَّةِ) 552 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقْرَأُ (2) : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ   (1) قوله : باب طلاق السنَّة، أي الطلاق المسنون، ويقال له الطلاق السُّنِّي، والمراد بالمسنون ههنا المباح لأن الطلاق ليس عبادة في نفسها يُثبت له ثواباً، فمعنى المسنون ما ثبت على وجه لا يستوجب عقاباً. نعم يُثاب إذا وقعت له داعية إلى أن يطلِّقها عَقيب الجماع أو حائضاً أو ثلاث تطليقات، فمنع نفسه إلى الطريق الآخر والواحدة، لكن لا على الطلاق بل على كفِّ نفسه عن ذلك الإِيقاع. كذا أفاده ابن الهُمام. وقال القاري: لا يبعد أن يقال: السنَّة جاءت في اللغة بمعنى الحكم والأمر، فالمراد الطلاق الذي حكم الشارع وأمر أن يقع على وفقه أو السُّنِّي على معناه الشرعي. والطلاق وإن كان مباحاً في نفسه إلاَّ أنه إذا أوقعه على هذا الوجه يكون مثاباً. (2) قوله: يقرأ، أي بدل: {يا أيها النبيُّ إذا طلَّقتم النساءَ فطلِّقوهنَّ لِعدَّتهن} (سورة الطلاق: الآية 1) ، وفي قراءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أخرجه مسلم: {في قُبُل عدَّتهن} (قال النووي: هذه قراءة ابن عباس وابن عمر وهي شاذة، لا تثبت قرآناً بالإِجماع ولا يكون لها حكم خبر الواحد عندنا وعند محقِّقي الأصوليين، والله أعلم. شرح النووي على صحيح مسلم 3/667، كتاب الطلاق، رقم الحديث 15) . فاستفاد منه أن الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً لكن المراد هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 لقُبُل (1) عِدَّتِهنَّ} . قَالَ مُحَمَّدٌ: طَلاقُ (2) السُنَّة أَنْ يُطَلِّقَها لقُبُل عدَّتها طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ حِينَ تَطْهُرُ مِنْ حَيْضِهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا (3) . وهو قول أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا. 553 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَر أَنَّه طَلَّقَ (4) امرأته (5)   ومن آمن به وأن اللام في قوله: {لعدتهن} متعلق بمحذوف نحو مستقبِلاً والغرض منه أن يطلِّق في كل طهر مرة، فإنه إذا طلَّق في طهر فقد استقبل العدة، وفيه إشارة إلى أن العدة ثلاثة قروء بمعنى الحيض، ومن قال: إنه الطهر قال معنى قوله: {لعدتهن} لوقت عدتهن أو لأول عدتهن. (1) بضم القاف والباء وإسكان الباء أي استقبال عدتهن. (2) قوله: طلاق السُّنَّة ... إلخ، بيان لما أفادته قراءة ابن عمر، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون أن يطلقها واحدة، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض. وأخرج الدارقطني من حديث معلى بن منصور، عن شعيب أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن، عن ابن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها تطليقتين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هكذا أمرك الله يا ابن عمر، السنَّة أن تستقبل الطهر، فتطلِّق لكل قرء. (3) لئلا يكون عليها حرج من إحصاء العدة فإنه إن طلَّق بعد الجماع يشتبه العدة بالقروء أو بوضع الحمل. (4) تطليقة واحدة كما في رواية مسلم. (5) قوله: امرأته، هي آمِنة - بمد الهمزة وكسر الميم - بنت غِفار - بكسر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 وَهِيَ (1) حائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فسألَ عُمرُ عَن ذلكَ (2) رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم، فَقَالَ: مُرْه (3)   الغين المعجمة وتخفيف الفاء الراء - أو بنت عمار، وفي مسند أحمد أن اسمها النوار فيمكن أن يكون اسمها آمنة ولقبها النوار، كذا قال ابن حجر. (1) جملة حالية معترضة. (2) أي عن حكم طلاقه. (3) قوله: مُرْه فليراجعها (قال الزرقاني: الأمر للوجوب عند مالك وجماعة وصححه صاحب "الهداية": من الحنفية، والمذهب عند الأئمة الثلاثة وفي "المحلى": ندباً عند الشافعي وأحمد وبعض الحنفية ووجوباً عند مالك والبعض الآخر من الحنفية منهم صاحب "الهداية" ورجحه ابن الهُمام، قال: وهو ظاهر عبارة محمد بن الحسن في "المبسوط". أوجز المسالك 10/174) ، أمر استحباب عند جمع من الحنفية، قال العيني: وبه قال الشافعي وأحمد، وقال صاحب "الهداية": الأصح أن المراجعة واجب عملاً بحقيقة الأمر، ورفعاً للمعصية بالقدر الممكن. وفي الأمر بالمراجعة إفادة لزوم الطلاق في حالة الحيض وإن كان معصيةً وإلاَّ فلا معنى للرجعة، وهو قول جمهور العلماء: إن الطلاق في حالة الحيض واقع (وقال الموفق: إن طلَّقها للبدعة وهو أن يطلِّقها حائضاً أو في طهر أصابها فيه أثم ووقع طلاقه في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر وابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال، وحكاه أبو نصر عن ابن عُلَيَّة وهشام بن الحكم والشيعة وحكاه في " المحلى" عن الظاهرية منهم ابن حزم والخوارج والروافض واختاره ابن تيمية وابن القيم، وقالوا: لا يقع طلاقه. أوجز المسالك 10/175 المغني 7/100) ، وإن كان خلاف السنَّة ومكروهاً. ولا يخالف في ذلك إلاَّ أهلُ البدع والجهل الذين قالوا: طلاقُ غيرُ السُّنَّة غير واقع، ورُوي ذلك عن بعض التابعين، وهو قول شاذّ لم يعرِّج عليه أحدٌ من العلماء. وقد سئل ابن عمر رضي الله تعالى عنه أيُعتدُّ بتلك الطلقة؟ قال: نعم، كذا قال ابن عبد البر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيض (1) ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا بَعْدُ، وَإِنْ شَاء طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا (2) فَتِلْكَ (3) الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ (4) أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ.   (1) قوله: ثم تحيض ثم تطهر ... إلى آخره، هذا نصٌّ في أنه لا يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي كان طلق فيها، بل في الطهر التالي للحيضة الأخرى وهو قول محمد وأبي يوسف ورواية عن أبي حنيفة، وبه قال الشافعي في المشهور عنه ومالك وأحمد، وذكر الطحاوي أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها، وهو رواية عن أبي حنيفة (وهو وجه للشافعية أيضاً. انظر بذل المجهود 10/248) ، وجه الأول: أن السنَّة أن يفصل بين كل طلاقين بحيضة كاملة، والفاصل ههنا بعض الحيضة، فتكمل بالثانية، ووجه الثاني: أن أثر الطلاق قد انعدم بالمراجعة، فكأنه لم يطلِّقها في الحيض. وقد ورد الأمران في قصة طلاق ابن عمر في الكتب الستة، كذا في "الهداية" وشرحها للعيني. (2) أي يجامِعَها. (3) قوله: فتلك العدة ... إلى آخره، استدل الشافعية ومن وافقهم بهذا اللفظ على أن عدَّة المطلقة هو ثلاثة أطهار، قالوا: لمّا أمر رسول الله صَلَى الله عليه وسلم أن يطَلِّقها في الطهر، وجعله العدة ونهاه أن يطلق في الحيض، وأخرجه من أن يكون عِدَّة ثبت بذلك أن الأقراء هي الأطهار، وأجاب عنه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بأنه ليس المراد ههنا بالعدة المصطلحة الثابتة بالكتاب التي هي ثلاثة قروء بل عدَّة طلاق النساء أي وقته، وليس أنَّ ما يكون عدَّة تطلَّق لها النساء يجب أن يكون العدة التي تعتدُّ بها النساء، وقد جاءت العِدَّة لمعانٍ، وههنا حجة أخرى وهي أن عمر هو الذي خاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول ولم يكن هذا القول عنده دليلاً على أن القرء في العدة هو الطهر، فإن مذهبه أن القرء هو الحيض. (4) أي بقوله فطلِّقوهن لعدَّتهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخُذ. 2 - (بَابُ طَلاقِ الحُرَّة (1) تَحْتَ الْعَبْدِ) 554 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب أنَّ نُفَيْعاً (2) مكاتَب أمِّ سَلَمَةَ (3) كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ حرَّة، فطلَّقها تَطْلِيقَتَيْنِ، فَاسْتَفْتَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ: فَقَالَ: حَرُمت (4) عَلَيْكَ.   (1) أي الحرَّة إذا كانت زوجةً لعبد. (2) بصيغة التصغير. (3) زوجة النبي صلى الله عليه وسلم. (4) أي حرمةً مغلَّظةً لا تحلُّ حتى تَنكح زوجاً غيره. (1) عبد الله بن ذكوان. (2) شكّ من الراوي. (3) بفتح الدال والراء والجيم موضع بالمدينة قاله الزرقاني، وقال القاري: جمع درجة يريد درجة المسجد. (4) في نسخة: فسألهما. (5) أي استقبلاه بالجواب استعجالاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 555 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّناد (1) ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أنَّ نُفَيْعاً كَانَ عَبْدًا لأمِّ سلمةَ أَوْ مُكَاتِبًا (2) ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ حرَّة، فطلَّقها تَطْلِيقَتَيْنِ، فَأَمَرَهُ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ عُثْمَانَ فَيَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَقِيَهُ عِنْدَ الدَّرَج (3) وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَسَأَلَهُ (4) فَابْتَدَرَاهُ (5) جَمِيعًا فَقَالا: حَرُمتْ عَلَيْكَ، حَرُمتْ عَلَيْكَ. 556 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا طلَّق الْعَبْدُ امرأتَه اثْنَتَيْنِ فَقَدْ حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، حرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، وعِدَّة الحرَّة ثَلاثَةُ قُرُوءٍ (6) وعدَّة الأَمَةِ (7) حَيْضَتَانِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدِ اخْتَلَفَ (8) النَّاسُ فِي هَذَا، فَأَمَّا ما عليه فقهاؤنا فإنهم (9) يقولون:   (6) أي ثلاثة حيض. (7) وإن كان زوجها حرّاً لأن العبرة في العدَّة للمرأة (هذا مما لا خلاف فيه، أوجز المسالك 10/208) . (8) قوله: وقد اختلف الناس في هذا، أي في اعتبار عدد الطلاق هل هو بالرجال أم بالنساء؟ قال السروجي في "شرح الهداية": قال همام وقتادة ومجاهد والحسن البصري وابن سيرين وعكرمة ونافع وعبيدة السَّلْماني ومسروق وحماد بن أبي سليمان والحسن بن حَي والثوري والنخعي والشعبي: يطلق العبد الحرة ثلاثاً، وتعتدُّ بثلاثة حيض، ويطلق الحر الأمة ثنيتن، وتعتدُّ بحيضتين وعند الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد: يطلِّق الحر الأمة ثلاثاً، وتعتدُّ بحيضتين، ويطلِّق العبد الحرة ثنتين، وتعتدُّ بثلاث حيض، حرَّر ذلك الرافعي وصاحب الأنوار وابن حزم عنهم كذا في "البناية شرح الهداية" للعيني، وفيها أيضاً طلاق الأمة ثنتان حراً كان زوجها أو عبداً، وطلاق الحرة ثلاث حراً كان زوجها أو عبداً، وهو قول علي وابن مسعود رواه ابن حزم في "المحلّى"، وبه قال سفيان وأحمد وإسحاق، وقال الشافعي: عدد الطلاق معتبر بحال الرجال والعدة بالنساء، وبه قال مالك في "الموطأ". (9) قوله: فإنهم يقولون ... إلخ، استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: طلاق الأمة ثنتان، وقرؤها حيضتان. وهو نصُّ في الباب، وقد رُوي من حديث عائشة وابن عمرو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وابن عباس وأما حديث عائشة، فأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي عاصم، عن ابن جريج عن مظاهر بن أسلم، عن القاسم، عنها، قال أبو داود في رواية: هذا حديث مجهول، وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلاَّ من حديث مظاهر، ومظاهر لا يُعرف له غير هذا الحديث. ونقل الذهبي في "الميزان": تضعيف مظاهر (أجاب الشيخ في "البذل"10/269 عن ضعف مظاهر فارجع إليه) عن أبي عاصم النبيل ويحيى بن معين وأبي حاتم والبخاري، ونقل توثيقه عن ابن حبان، وقال الخطّابي في "معالم السنن": الحديث حجة لأهل العراق إن ثبت ضعفوه. انتهى. وأخرج الحاكم في "المستدرك" هذا الحديث بهذا السند وصححه، وأما حديث ابن عمر فأخرجه ابن ماجه في سننه، عن عمر بن شبيب، نا عبد الله بن عيسى، عن عطية، عن ابن عمر مرفوعاً نحوه، ورواه البزار في مسنده والطبراني في معجمه والدارقطني. وقال: تفرد به عمر بن شبيب وهو ضعيف لا يحتجُّ به، ثم أخرجه موقوفاً على ابن عمر من طريق سالم ونافع وقال: هو الصواب. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الحاكم في "المستدرك" حيث قال بعد أن روى حديث عائشة المتقدم عن أبي عاصم بسنده، قال أبو عاصم: فذكرته لمظاهر، فقلت: حدثني كما حدثني به ابن جريج، فحدثني مظاهر عن القاسم، عن ابن عباس مرفوعاً: طلاق الأمة ثنتان، وقرؤها حيضتان، قال الحاكم: ومظاهر شيخ من أهل البصرة لم يذكره أحد من متقدِّمي مشايخنا بجرح. فإذا الحديث صحيح ولم يخرجاه، ثم قال: وقد روي عن ابن عباس ما يعارض هذا. ثم أخرج عن يحيى بن أبي كثير أن عمرو بن معتب أخبره أن أبا حسن مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس عن مملوك تحته مملوكة فطلقها تطليقتين، ثم أعتقت بعد ذلك، هل يصلح له أن يخطبها؟ قال: نعم، قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أحاديث الباب ما أخرجه الدارقطني عن سلم بن سالم، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: إذا كانت الأمة تحت الرجل فطلقها تطليقتين، ثم اشتراها لم تحلّ له حتى تنكح زوجاً غيره. وأعلَّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 الطَّلاقُ بِالنِّسَاءِ والعِدَّة بهنَّ لأنَّ (1) اللَّهَ عزَّ وجلّ قال: {فطلَّقُوْهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فَإِنَّمَا الطَّلاقُ للعِدَّة فَإِذَا كَانَتِ الحرَّة وَزَوْجُهَا عَبْدٌ فعِدَّتها ثَلاثَةُ قُرُوءٍ وَطَلاقُهَا ثَلاثَةُ (2) تَطْلِيقَاتٍ للعدَّة (3) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَإِذَا كَانَ الْحُرُّ تَحْتَهُ الأَمَةُ (4) فعدَّتها حَيْضَتَانِ، وَطَلاقُهَا للعدَّة تَطْلِيقَتَانِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ. 557 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا (5) إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ المكِّي قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَقُولُ: قال علي بن أبي طالب:   الدارقطني بسلم، وقال: كان ابن المبارك يكذبه، وأخرج الشافعي ومن طريقه البيهقي والدارقطني عن عمر بن الخطاب قال: ينكح العبد امرأتين وتطلق الأمة تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين، كذا في "نصب الراية" للزيلعي. (1) قوله: لأن الله ... إلخ، توضيحه أن الله تعالى قال: {فطلِّقوهن لعدتهن} فجعل الطلاق للعدة، ومن المعلوم أن العدة معتبرة بالنساء اتفاقاً، فكذلك الطلاق فإن كانت المرأة حرَّة سواء كان زوجها عبداً أو حرَّاً فعدتها ثلاثة قروء، فيكون طلاقها أيضاً ثلاثاً لكل طهر طلاق، وإن كانت أمة سواء كان زوجها حراً أو عبداً فعدتها حيضتان، فكذلك الطلاق، وهذا استنباط لطيف وتوجيه شريف. (2) حسب عدد العدة. (3) في كل قرء طلاق. (4) في نسخة: أمة. (5) قوله: أخبرنا إبراهيم بن يزيد (إبراهيم بن يزيد: هو الخوزي المكي مولى بني أمية، قال فيه أحمد: "متروك الحديث" وقال ابن معين: ليس بثقة وليس بشيء، وضعَّفه أبو زرعة وأبو حاتم وابن نمير. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (ص 146، المجلد الأول، القسم الأول) ، الأموي المكي مولى عمر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 الطَّلاقُ (1) بِالنِّسَاءِ والعدَّة بهنَّ. وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 3 - (بَابُ مَا يُكره للمطلَّقة الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا مِنَ الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا) 558 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لا تَبِيتُ الْمَبْتُوتَةُ (2) وَلا المتوفَّى عَنْهَا إلاَّ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (3) نأخذ. أما المتوفَّى عنها فإنها تَخرج   عبد العزيز، روى عن طاوس وعطاء وأبي الزبير وغيرهم، وعنه وكيع وعبد الرزاق والثوري، قال ابن معين: ليس بثقة وليس بشيء، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال البخاري: سكتوا عنه، قال الدُّولابي: يعني تركوه، وقال النسائي: متروك، وقال ابن عدي: هو في عداد من يكتب حديثه، وإن كان قد نُسب إلى الضعف، توفي سنة 151، كذا في "تهذيب الكمال". (1) أي عدده معتبر بهن. (2) أي المطلقة بالطلاق البائن واحداً كان أو ثلاثاً. (3) قوله: وبهذا نأخذ، أي بكون عدَّة المبتوتة، وكذا المطلَّقة الرجعية، والمتوفَّى عنها زوجها في بيت زوجها، أما المطلقة مبتوتة كانت أو رجعية فلا يجوز لها الخروج ليلاً ولا نهاراً، والمتوفّى عنها تخرج نهاراً. أما عدم جواز خروج المطلقة فلقوله تعالى: {ولا تُخْرِجُوْهُنَّ من بيوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أن يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنة} (سورة الطَّلاق: الآية 1) ، والفاحشة نفس الخروج قاله النخعي، وقال ابن مسعود: هي الزنا فيخرجن لإِقامة الحد، وقال ابن عباس: هي نشوزها أو تكون بَذَيَّة اللسان. وأما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 بِالنَّهَارِ فِي حَوَائِجِهَا، وَلا تبيتُ إلاَّ فِي بَيْتِهَا، وأمَّا المُطَلَّقَةُ مَبْتُوتَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مبتوتةٍ (1) فَلا تَخْرُجُ لَيْلا وَلا نَهَارًا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتها. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا.   خروج المتوفّى عنها نهاراً فلأنه لا نفقة لها، فتحتاج إلى الخروج نهاراً لطلب المعاش، ولا كذلك المطلقة لأن النفقة حاصلة لها من مال زوجها، كذا في "الهداية" وشرحها "البناية". وذكر في "البناية" أيضاً أن ممن أوجب على المتوفّى عنها البيتوتة في بيت زوجها عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وأم سلمة وابن المسيب والقاسم والأَوْزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو عبيدة. وجاء عن عليّ وعائشة وابن عباس وجابر أنها تعتدُّ حيث شاءت، وهو قول الحسن وعطاء والظاهرية. واستدل عليّ القاري على عدم خروجها بقوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْن منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غيرَ إخراج} (سورة البقرة: الآية 240) فإنه دل على عدم خروجها من بيت زوجها، ولما نُسخ مدة الحول بأربعة أشهر وعشراً والوصية بقي عدم الخروج على حاله. وذكر الزرقاني أن الليث ومالكاً وجماعة قالوا بجواز خروج المطلقة أيضاً نهاراً لحديث جابر عند مسلم: طُلِّقت خالتي، فأرادت أن تجذَّ نخلها: فزجرها رجل أن تخرج (قال ابن رسلان: في الحديث دليل لمالك والشافعي وأحمد أن المعتدَّة تخرج لقضاء الحاجة، وإنما تلزم بالليل وسواء عند مالك رجعية كانت أو بائنة، قال الشافعي في الرجعية: لا تخرج ليلاً ولا نهاراً، وإنما تخرج نهاراً المبتوتة، وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفى عنها زوجها، وأما المطلقة فلا تخرج ليلاً ولا نهاراً. انتهى. قال صاحب "الهداية": لأن نفقتها على الزوج بخلاف المتوفى عنها إذ لا نفقة لها. انظر هامش بذل المجهود 11/56) . فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: بلى جُذّي نخلك فإنك عسى أن تصدَّقي أو تفعلي معروفاً. ويُجاب عنه بأنه واقعة حال لا عموم لها. (1) هي المطلقة بالطلاق الرجعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 4 - (بَابُ الرَّجُلِ (1) يَأْذَنُ لِعَبْدِهِ فِي التَّزْوِيجِ هَلْ يَجُوزُ طَلاقُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ؟) 559 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ (2) يَقُولُ: مَنْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي أَنْ يَنْكِحَ (3) فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ (4) لامْرَأَتِهِ طلاقٌ إِلا أَنْ يطلقَها الْعَبْدُ، فَأَمَّا (5) أَنْ يَأْخُذَ (6) الرَّجُلُ أمةَ غُلامِهِ، أَوْ أمةَ وليدتِه (7) فَلا جُنَاحَ (8) عَلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (9) نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا.   (1) قوله: الرجل، المراد به الشخص رجلاً كان أو امرأة، وكذا المراد بالمولى المالك. (2) قوله: أنه كان يقول من أذن ... إلخ، في "موطأ يحيى": كان يقول من أذن لعبده أن ينكح فالطلاق بيده، لابيد غيره من الطلاق شيء ... إلخ. (3) أي يتزوج. (4) أي لا يقع عليها طلاق. (5) إشارة إلى الفرق بين أمة العبد وزوجته. (6) أي يتصرف فيها بالخدمة أو الوطء. (7) أي جاريته. (8) أي فلا إثم عليه لأن له أخذ مال رقيقه، بل ماله ماله. (9) قوله: وبهذا نأخذ، لما ورد: الطلاق بيد من أخذ الساق، أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وروى ابن ماجه والدارقطني عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله سيدي زوجني أمته وهو يريد أن يفرق بيني وبينها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 560 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عَبْدًا لِبَعْضِ (1) ثَقِيفٍ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَنَّ سَيِّدِي أَنْكَحَنِي جَارِيَتَهُ فلانة (2) - وكان عمر يعرف الجارية (3) - وهو (4) يطأها فَأَرْسَلَ عُمَرُ (5) إِلَى الرَّجُلِ (6) ، فَقَالَ مَا فَعَلَتْ جاريتك (7) ؟ قال: هي عندي، قال: هل تطأها؟ فَأَشَارَ إِلَى بَعْضِ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: لا، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوِ اعترفتَ لجعلتُك نَكَالا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا ينبغي (8) إذا زوج الرجلُ جاريتَه   فصعد النبي صلى الله عليه وسلّم المنبر، فقال: أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده (أمته) (في الأصل: "من أمة"، هو تحريف. انظر ابن ماجه 2081) ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق لمن أخذ الساق، كذا قال القاري. (1) أي الرجل من قبيلة ثقيف. (2) كأنه ذكرها باسمها أو عرفها بوصفها. (3) جملة معترضة. (4) أي والحال أن سيدي يطأ الجارية التي أنكحنيها (في الأصل: "أنكحني بها" وهو خطأ) (5) أي أرسل رجلاً إليه فطلبه بحضرته واستفسر منه. (6) أي سيدها. (7) قوله: ما فعلت جاريتك، أي ما صنعت بها وما جرى لها، قال الرجل: هي عندي أي في ملكي وتصرفي. وقال عمر: هل تطأها أي تجامعها، سأله عنه ليظهر صدق مقالة عبده أو كذبه. فأشار إليه، أي إلى ذلك الرجل لمنع الإقرار خوفاً من ضرب السياط، بعض من كان عنده، أي بعض حاضري مجلس عمر وذلك لأن الستر في الحدود والتعزيرات وتلقين الإنكار أفضل، فقال ذلك الرجل: لا، فقال عمر: أما والله - أقسم للتأكيد - لو اعترفتَ أي أقررتَ عندي بوطئها بعد تزويجها، لجعلتك نكالاً أي لأقمت عليك عقوبةً وتعزيراً. (8) أي لا يحل ولا يجوز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 عبدَه أَنْ يَطَأَهَا لأَنَّ الطلاقَ والفرقةَ (1) بيدِ الْعَبْدِ (2) إِذَا زَوَّجَهُ مَوْلاهُ، وَلَيْسَ لِمَوْلاهُ أَنْ يُفرقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ زَوَّجَهَا فَإِنْ وَطِئَهَا (3) ينُدَم (4) إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ عَادَ أَدَّبَهُ الإِمَامُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى مِنَ الْحَبْسِ وَالضَّرْبِ، وَلا يَبْلُغَ (5) بِذَلِكَ أَرْبَعِينَ سَوْطًا. 6 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَخْتَلِعُ (6) مِنْ زَوْجِهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا أَوْ أَقَلَّ) 561 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ مَوْلاةً (7) لِصَفِيَّةَ (8) اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ (9) لها. فلم يُنكره ابن عمر.   (1) أي الفسخ. (2) احتراز عما إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فإن له حينئذِ أن يفسخ (به أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي وسائر فقهاء الحجاز والعراق. المنتقى 4/90) . (3) أي المولى بعد تزويجها بعبده. (4) أي يوبخ عليه ويزجر. (5) لأن التعزير يكون أقل من أقل الحدود. (6) في نسخة: تخلع. (7) أي أمة. (8) هي بنت أبي عبيد زوجة ابن عمر. (9) قوله: بشيء، هو الظاهر أنها أعطت كل ما كان في ملكها، والظاهر أنه كان أكثر مما أخذته من زوجها، ولما لم ينكر عليها ابن عمر دل على جوازه، مما يستدل عليه بقوله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) فإنه يدل بإطلاقه على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 قَالَ مُحَمَّدٌ: مَا اخْتَلَعَتْ بِهِ امْرَأَةٌ مِنْ زوجها فهو جائز في القضاء (1) وما تحب لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَإِنْ جَاءَ (2) النُّشُوزُ مِنْ قِبَلها. فَأَمَّا إِذَا جَاءَ النُّشُوزُ مِنْ قِبله (3) لَمْ نُحِبَّ (4) لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا قَلِيلا وَلا كَثِيرًا، وَإِنْ أَخَذَ (5) فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ (6) فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة رحمه الله.   جواز الاقتداء مطلقاً ولو بكل المال، فإن قلتَ: قوله تعالى (وإن أردتم استبدالَ زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناَ وإثماَ مبيناَ) (سورة النساء: الآية 20) يدل على عدم جواز أخذ شيء مما أعطاها ولو قليلاً ومن ثم ذهب بعض العلماء إلى عدم جواز الخلع، قلتُ: هو محمول على الأخذ جبراً وبغير رضائها. (1) أي في ظاهر الحكومة الشرعية. (2) قوله: وإن جاء النشوز، أي الخلاف والنزاع من قِبل الزوجة، وهذا رواية الأصل، وفي "الجامع الصغير": أن الفضل يطيب له لإطلاق قوله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) ووجه ما في الأصل ما روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن عطاء قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم تشكو زوجها، فقال: أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ قالت: نعم وزيادة، قال: أما الزيادة فلا. وأخرج الدارقطني عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: لا يأخذ الرجل من المختلعة أكثر مما أعطاها، كذا في "شرح القاري". (3) أي الزوج. (4) أي يكره له. (5) برضاء الزوجة. (6) لأن الفساد من قِبَله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 6 - (بَابُ الْخُلْعِ كَمْ يَكُونُ مِنَ الطَّلاقِ) 562 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جُمهان (1) مَوْلَى الأَسْلَمِيِّينَ، عَنْ أُمِّ بَكْرٍ الأَسْلَمِيَّةِ (2) : أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدٍ (3) ثُمَّ أَتَيَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هِيَ تَطْلِيقَةٌ إِلا أَنْ تَكُونَ سَمَّتْ (4) شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّتْ. قال محمدٌ: وبهذا (5) نأخذ   (1) قوله: عن جُمهان، بضم أوله، مدني، قديم مقبول قاله ابن حجر في "تقريب التهذيب". وفي "تهذيب التهذيب": جمهان أبو العلاء، ويقال أبو يعلى مولى الأسلميين يعد في أهل المدينة، روى عن عثمان وسعد وأبي هريرة وأم بكرة الأسلمية، وعنه عروة وعمر بن نبيه ذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة، وذكره ابن حبان في"الثقات" وقال علي بن المديني: هو جد أمي، وكان من السبي في ما أرى. انتهى ملخصاً. وضبط القاري جمهان بفتح الجيم فأخطأ. (2) نسبة إلى قبيلة أسلم. (3) بالتصغير. (4) أي ذكرت شيئاً. (5) قوله: وبهذا نأخذ، اختلفوا في أن الخلع تطليقة أم لا؟ فقال أصحابنا: إنه تطليقة بائنة، وهو قول عثمان وعلي وابن مسعود والحسن وابن المسيب وعطاء وشريح والشعبي وقبيسة بن ذئيب ومجاهد وأبي سلمة والنخعي والزهري والثوري والأوزاعي ومكحول وابن أبي نجيح وعروة ومالك والشافعي في الجديد، وقالت الظاهرية: تطليقة رجعية، وقال أحمد وإسحاق: فرقتة بغير طلاق، وهو قول ابن عباس والشافعي في القديم، كذا قال العيني في "شرح الهداية" ومما يشهد للأول ما أخرجه الدارقطني والبيهقي في سننهما من حديث عباد بن كثير عن أيوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 الخلع تطليقة بائنة إلا (1) سَمَّى ثَلاثًا، أَوْ نَوَاهَا فَيَكُونُ ثَلاثًا. 7 - (بَابُ الرَّجُلِ يَقُولُ إِذَا نَكَحْتُ (2) فُلانَةً فَهِيَ طَالِقٌ) 563 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُجَبِّرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: إِذَا نَكَحْتُ فُلانَةً فَهِيَ طَالِقٌ، فَهِيَ طَالِقٌ، فَهِيَ كَذَلِكَ إِذَا نَكَحَهَا (3) ، وَإِذَا كَانَ طَلَّقَهَا (4) وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَهُوَ كَمَا قَالَ (5) . قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا (6) نَأْخُذُ. وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله.   عن عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الخلعة تطليقة بائنة. ورواه ابن عدي في "الكامل" وأعلّه بعباد، وأسند عن البخاري قال: تركوه، وعن النسائي أنه متروك الحديث. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" وابن أبي شيبة عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم جعل الخلع تطليقة، كذا أورده الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية": وفي الباب آثار كثيرة مبسوطة في "الدر المنثور" وغيره. والمسألة محققة بدلائلها في كتب الأصول. (1) قوله: إلا أن يكون سمى ... إلخ، يعني أن الخلع طلاق واحد بائن إلا أن يكون ذكر ثلاثاً أو نوى بالخلع ثلاثاً فهو على ما ذكر وعلى ما نوى. (2) أي يعلق طلاق بنفس الملك أو بسببه كالتزوج. (3) أي يقع الطلاق بمجرد عقدها. (4) أي في تعليقه. (5) أي يقع ما علق واحداً كان أو أكثر. (6) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال طائفة من السلف فأخرج ابن أبي شيبة عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   سالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والأسود بن يزيد وأبي بكر بن عبد الرحمن وأبي بكر بن عمرو بن حزم والزهري ومكحول الشامي في رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق أو يوم أتزوجها فهي طالق أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق، قالوا: هو كما قال. وقال الشافعي: لا يصح هذا التعليق ولا يقع به الطلاق لما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده معروفاً: لا طلاق فيما لا يملك، قال الترمذي: حديث حسن صحيح وهو أحسن شيء في هذا الباب، وأخرجه ابن ماجه عن المسور بن مخرمة مرفوعاً: لا طلاق قبل النكاح (هذا على نوعين: إما أن ينجز الطلاق، وإما أن يعلقه بالنكاح، فإن كان الأول فهو متفق على أنه لا يقع الطلاق فيه أصلاً، وإذا كان الثاني فهو الذي اختلف فيه الأئمة، فالجمهور على أنه لا يقع الطلاق فيه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقع الطلاق. بذل المجهود 10/272، والبسط في الأوجز 10/59) ، وقال الحاكم في "المستدرك": صح حديث "لا طلاق إلا بعد نكاح" من حديث ابن عمر وابن عباس وعائشة ومعاذ بن جبل وجابر. وأجاب عنه أصحابنا ومن وافقهم بحمله على التنجيز، وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أنه قال في رجل قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وكل أمة أشتريها فهي حرة، هو كما قال، فقال له معمر: أوليس جاء لا طلاق قبل نكاح ولاعتق إلا بعد ملكٍ؟ قال: إنما ذلك أن يقول الرجل امرأةُ فلانٍ طالق، وعبد فلان حر، نعم هناك حديثان صريحان موافقان لما اختاره الشافعي أحدهما: ما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر أن النبي سُئل عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق ثلاثاً، فقال صلى الله عليه وسلّم: لا طلاق فيما لا يملك. وثانيهما: ما أخرجه أيضاً عن أبي ثعلبة الخُشني قال: قال لي عمٌ لي: اعمل لي عملاً حتى أزوجك بنتي؟ فقلت: إن تزوجتها فهي طالق، ثم بدا لي أن أتزوجَها، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: تزوجها، فإنه لا طلاق إلا بعد نكاح. فإن صح هذان الحديثان تَمَّ الكلام إذ لاحكم بعد حكم النبي عليه السلام، لكن لا سبيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 564 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ (1) بْنِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ رَجُلا (2) سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه، فقال: إن قُلت إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلانَةً فَهِيَ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي، قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتَهَا فَلا تَقْرَبْهَا حَتَّى تُكفرَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (3) نأخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنْهَا إِذَا تَزَوَّجَهَا فلا (4) يقربها حتى يُكفر (5) .   إلى ذلك ففي الإسناد الأول أبو خالد الواسطي عمر بن خالد قال فيه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين الدارقطني: كذاب، وقال إسحاق بن راهويه وأبو زرعة: يضع الحديث، وفي الثاني علي بن قرين كذبه يحيى بن معين وغيره، كذا حققته الزيلعي في " تخريج أحاديث الهداية"، وقاسم بن قطلوبغا في "فتاواه". (1) قوله: عن سعيد، بكسر العين بعدها ياء وقيل سعد بن عمرو - بالفتح - ابن سُليم الزرقي بضم السين، والنسبة بضم الزاء وفتح الراء وبالقاف الأنصاري، وثقة بن معين وابن حبان، مات سنة 134 هـ. قال ابن عبد البر: ليس له في "الموطأ" غير هذا الحديث، كذا قال الزرقاني والقاري. (2) قوله: أن رجلاً، في "موطأ يحيى" أنه أي سعيد سأل القاسم عن رجل طلق امرأته إن هو تزوجها؟ فقال القاسم (قال البيهقي: هذا منقطع، فإن القاسم بن محمد لم يدرك عمر رضي الله عنه. أوجز المسالك 10/58) : إن رجلاً ... إلخ. (3) أي بوقوع الظهار المعلق كالطلاق المعلق. (4) في نسخة: ولا. (5) أي كفارة الظهار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 8 - (بَابُ الْمَرْأَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَتَتَزَوَّجُ زَوْجًا ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا الأَوَّلُ) 665 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ اسْتَفْتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَرَكَهَا (1) حَتَّى تَحِلَّ، ثُمَّ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَيَمُوتَ (2) أَوْ يُطَلَّقَا فَيَتَزَوَّجُهَا (3) زَوْجُهَا الأَوَّلُ عَلَى كَمْ هِيَ (4) ؟ قَالَ عُمَرُ: هِيَ عَلَى مَا بَقِيَ (5) مِنْ طَلاقِهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (6) نَأْخُذُ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: إذا عادت   (1) بأن خرجت من عِدتها. (2) أي بعد ما وطئها. (3) بعد مضي عِدة الثاني. (4) هذا محل السؤال: أي المرأة على أي عدد من الطلاق عند الأول. (5) أي على ما بقي من الثلاث بعد حط من سبق منه. (6) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يهدم الزوج الثاني ما مضى، ويملك الأول ثلاث تطليقات بحل جديد، كما في صورة التحليل بعد الثلاث. والمسألة مبسوطة في كتب الأصول. قال القاري: والدليل على ما روى محمد في كتاب "الآثار" عن أبي حنيفة عن حماد ابن أبي سليمان عن سعيد بن جبير قال: كنت جالساً عند عبد الله بن مسعود فجاء أعرابي فسأله عن رجل طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم انقضت عدتها وتزوجت زوجاً غيره فدخل بها، ثم مات عنها أو طلقها، ثم انقضت عدتها فأراد الأول أن يتزوجها، على كم هي؟ فالتفت إلى ابن عباس وقال: ما تقول في هذا؟ فقال: يهدم الزوج الثاني الواحدة والثنتين والثلاث واسأل ابن عمر، قال فلقيت ابن عمر فسألته، فقال مثل ما قال ابن عباس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 إِلَى الأَوَّلِ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا (1) الآخَرُ عَادَتْ عَلَى طَلاقٍ جَدِيدٍ ثَلاثِ تَطْلِيقَاتٍ مُسْتَقْبِلاتٍ. وَفِي أَصْلِ ابْنِ الصَّوَّافِ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. 9 - (بَابُ الرَّجُلِ يَجْعَلُ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا أَوْ غَيْرِهَا) 566 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ (2) بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ (3) ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَهُ (4) ، فَأَتَاهُ بَعْضُ (5) بَنِي أَبِي عَتِيقٍ وَعَيْنَاهُ تدمعان (6) ، فال لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: ملَّكت امْرَأَتِي أَمْرَهَا بيدها ففارتني، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: الْقَدَرُ (7) ، قَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ارْتَجِعْهَا (8)   (1) أي وطيها. (2) هو من رجال الجميع ومن الثقات، كذا قال الزرقاني. (3) أحد الفقهاء السبعة، من الثقات، مات سنة 100 أو قبلها، وهو عم سعيد، قاله الزرقاني. (4) أي عند والده زيد. (5) هو محمد بن عبد الله بن أبي عتيق محمد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ المدني مقبول. روى له البخاري وغيره كما في موطأ يحيى وشرحه. (6) بفتح الميم أي تسيلان دمعاً من البكاء. (7) أي قدر الله وقضاؤه. (8) هذا بناء على مذهبه أنها واحد رجعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 إِنْ شِئْتَ فَإِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ وَأَنْتَ أملكُ (1) بِهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا عِنْدَنَا (2) عَلَى مَا نَوَى الزَّوْجُ فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ خَاطِبٌ مِنَ الخطُاب وَإِنْ نَوَى ثَلاثًا فَثَلاثٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا, وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ. 567 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ القاسم، عن   (1) أي أحق من غيرك (قال مالك: لا آخذ بحديث زيد في التمليك، ولكني أرى إذا ملك امرأته أن القضاء ما قضت إلا أن ينكر عليها فيحلف كما قال ابن عمر رضي الله عنهما، ويحتمل قول مالك هذا أن يعلم أن يكون علم مذهب زيد أنها لا تكون إلا واحدة وإن أوقعت أكثر من ذلك على كل، ويحتمل أيضاً أن يكون مالك يريد بذلك أني لا أقول بظاهر اللفظ على الإطلاق كقوله: فارقتني، والفراق عند مالك في بعض الروايات عنه يقتضي أكثر من الواحد، والحديث يحتمل أن يكون ذكر فراقاًعلى غير لفظ الفراق، وأنها فارقته بطلقة واحدة، ويحتمل أن يكون ملكها طلقة واحدة بالتصريح فلا يلزمه مازادت ولا يلزمه في ذلك يمين، فلذلك قال له: ارتجعها فيكون ذلك موافقاً لقول مالك وإنما كان جزعه على هذا فرقاً من أن تكون واحدة بائنة، وعلم من مخالفتها له أنها إذا ملكت نفسها لم تعد إليه. انظر المنتقى 4/20) (2) قوله: هذا عندنا، أي الطلاق عندنا على ما نوى الزوج به، فإذا نوى واحدة فواحدة بائنة فلا يرجعها بل يكون خاطباً من الخُطاب وينكحها نكاحاً ثانياً وإن نوى ثلاثاً فثلاث، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: يقع بالتفويض ثلاث لأن الثلاث أتم ما يكون من الاختيار. وقال الشافعي: يقع واحدة رجعية لأنها أدنى ما يكون من الاختيار، وبه قال أحمد. وفي"الهداية": أنه يقع طلقة رجعية اعتباراً لما أتت به من صريح الطلاق، فقيل: هذا سهو، وقيل: فيه روايتان، إحداهما: يقع واحدة رجعية والأخرى بائنة، وهذا أصح كما في "شرح الوقاية"، وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 أبيه (1) ، عن عائشة رضي الله عنها: أنها خَطَبَتْ (2) عَلَى (3) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُرَيْبَةَ (4) بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ فزوجته (5)   عثمان بن عفان وعلي: القضاء ما قضت أي الحكم ما نوت من رجعية أو بائنة واحدة أو ثلاثاً لأن الأمر مفوض إليها، ولعل هذا عند إطلاق زوجها فلا ينافي ما تقدم، كذا في "شرح القاري". (1) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. (2) من الخطبة بالكسر أي طلبت النكاح لأخيها عبد الرحمن. (3) قوله: على عبد الرحمن، هو شقيق عائشة: عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة عثمان، أمهما أم رومان: أسلم في هدنة الحديبية، وكان اسمه عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عبد الرحمن، وله فضائل حسنة، ولا يعرف في الصحابة أربعة كلهم ابن الذي قبله صحبوا النبي وأسلموا إلا أبو قحافة وابن أبو بكر وابنه عبد الرحمن هذا وابنه أبو عتيق محمد، وكان قد سكن المدينة، وامتنع من بيعة يزيد حين طلبها معاوية وبعث إليه معاوية بمائة ألف درهم، فردها وقال: لا أبيع ديني بدنياي، وخرج إلى مكة ومات فجأة في نومه بمكان اسمه "حبشي" على عشرة أميال من مكة. وحُمل إليها فدفن في المعلى، وكان ذلك سنة 53 وعليه الأكثر، وقيل: سنة 55، وقيل: سنة 52، كذا في "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير الجزري. (4) قوله: قريبة، بفتح القاف وكسر الراء وسكون التحتية بعدها باء موحدة فتاء تأنيث، ويقال بالتصغير: هي بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية الصحابية أخت أم سلمة أم المؤمنين، وكانت موصوفة بالجمال، وقد من عبد الرحمن عبد الله وأم حكيم وحفصة، ذكره ابن سعد، كذا قال الزرقاني. (5) قوله: فَزُوِجَتْهُ، قال القاري: بصيغة المجهول، أي زوجها أهلها إياه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 ثُمَّ إِنَّهُمْ (1) عَتَبُوا (2) عَلَى (3) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالُوا: (4) مَا زَوَّجْنَا إِلا عَائِشَةَ فَأَرْسَلَتْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَتْ (5) لَهُ ذَلِكَ (6) ، فَجَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَمْرَ قريبةَ بِيَدِهَا، فَاخْتَارَتْهُ. وَقَالَتْ (7) : مَا كُنْتُ لِأَخْتَارَ عَلَيْكَ أَحَدًا، فَقَرَّتْ (8) تَحْتَهُ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلاقًا. 568 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا زوَّجت (9) حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرحمن بن أبي بكر   أو بالمعلوم أي فصارت عائشة سبباً لتزويجها إياه. انتهى. وفي "موطأ يحيى" فزوجوه وهو أصغر. (1) أي أولياء قريبة. (2) أي غضبوا. (3) لأمر فعله، وكان في خلقه شدة. (4) قوله: وقالوا: ما زَوَجَنا إلا عائشة، أي ما صار سبب تزويجنا إلا هي وما زوجناها إلا لأجل خطبة عائشة واعتماداً عليها. (5) حضوراً أو غيبة. (6) أي عتبهم عليه وشكايتهم لها. (7) قوله: وقالت، في رواية ابن سعد بسند صحيح عن ابن أبي مليكه قال: تزوج عبد الرحمن بن أبي بكر قريبة أخت أم سلمة، وكان في خلقه شدة فقالت له يوماً: أما والله لقد حذرتك، قال: فأمرك بيدك، فقالت: لا أختار على ابن الصديق أحداً، فأقام عليها. (8) أي استقرت ودامت تحت عبد الرحمن ولم يكن مجرد التخيير طلاقاً. (9) قوله: أنها زوجت حفصة، هي بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وعبدُ الرَّحْمَنِ (1) غَائِبٌ بالشَّام، فَلَمَّا قَدِمَ (2) عبدُ الرَّحمن قَالَ: وَمِثْلِي (3) يُصنع بِهِ هَذَا ويُفْتَات عَلَيْهِ بِبَنَاتِهِ؟ فَكَلَّمَتْ (4) عائشةُ المُنْذَرَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ (5) فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا لِي (6) رَغْبَةٌ عَنْهُ وَلَكِنَّ مِثْلِي لَيْسَ يُفْتَات (7) عليه ببناتِه،   من ثقات التابعيات روى لها مسلم والثلاثة، وزوّجها المنذر بن الزبير بن العوّام الأسدي شقيق عبد الله بن الزبير، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين: ذكر الزبير بن بكار أنّ المنذر كان عند عبيد الله بن زياد لما امتنع عبد الله بن الزبير من بيعة يزيد بن معاوية، فكتب يزيد إلى ابن زياد أن يوجِّه إليه المنذر فبلغه فهرب إلى مكة فقتُل في الحصار الأول بعد وقعة الحرّة، سنة 64، كذا في "شرح الزرقاني". (1) جملة معترضة حالية. (2) أي من سفره. (3) قوله: ومثلي يصنع هذا، أي تزويج بناته بغير أمره، ويقتات (هكذا في الأصل والصواب يُفتات بالفاء كما في الأوجز 10/41 قال صاحب مجمع البحار 4/180. يقال: تفوّت فلان على فلان في كذا وافتات عليه إذا تفرّد برأيه دونه في التصرف فيه وعُدِّي بعلى لتصرف معنى التغلب. يقال لكل من أحدث شيئاً في أمرك دونك فقد افتات عليك فيه) عليه أي يستبد برأيه وهو بصيغة المجهول من الإفتيات المأخوذ من الفوت قاله القاري. (4) أي أخبرته بقول أخيها. (5) أي أمرها بيد والدها. (6) أي ليس لي إعراض عنه. (7) أي لا يفعل شيء بدون أمره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 وَمَا كُنْتُ لأَردّ أَمْرًا قَضَيْتِهِ (1) ، فَقَرَّتْ امرأُته تحتَه وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلاقًا. 569 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، أَخْبَرَنَا نافعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يقولُ: إِذَا مَلَّكَ الرجلُ امرأَته أمرهَا فالقضاءُ مَا قَضَتْ (2) إِلا أنْ يُنكر عَلَيْهَا، فَيَقُولُ: لَمْ أُرِدْ إِلا تَطْلِيقَةً واحدةْ فَيُحَلَّفُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ (3) أملَكَ بِهَا (4) فِي عِدَّتِها. 570 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا مَلَّك الرجلُ امرأتُه أمرَها فَلَمْ تُفارِقْه وَقَّرتْ (5) عِنْدَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَلاقٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (6) . إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَلاقٍ وَإِنِ اخْتَارَتْ (7) نَفْسَهَا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى الزَّوْجُ، فَإِنْ نوى واحدة   (1) بكسر التاء: خطاب لعائشة. (2) واحداً كان أو أكثر. (3) في نسخة: فيكون. (4) أي أحق بها من غيره. (5) أي ثبتت. (6) قوله: وبهذا نأخذ (إليه ذهب الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء خلافاً لبعض السلف. انظر الأوجز 10/39) إذا اختارت زوجها فليس ذلك بطلاق، وقد ورد ذلك عن عائشة كما في الصحيحين قالت: خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاخترناه، فلم يقدّره علينا شيئاَ وفي لفظ لهما: فلم يعدّ ذلك طلاقاً. (7) قوله: وإن اختارت نفسها، أي في ذلك المجلس لما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن مسعود ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 فَهِيَ وَاحِدَةٌ (1) بَائِنَةٌ. وَإِنْ نَوَى ثَلاثًا فَثَلاثٌ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   طريقه أخرجه الطبراني في معجمه عنه قال: إذا ملّكها أمرها فتفرقا قبل أن ينقضي شيء فلا أمر لها. وفيه انقطاع بين مجاهد وابن مسعود قاله البيهقي. وأخرج عبد الرزاق: أنا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: إذا خيّر الرجل امرأته فلم تختر في مجلسها ذلك فلا خيار لها. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن المثنى ابن الصباح عن عمرو بن شعيب عن جده عبد الله بن عمرو: أن عمر وعثمان قالا: أيّما رجلٍ ملّك امرأته أمرها، ثم افترقا من ذلك المجلس: فليس لها خيار وأمرها إلى زوجها. وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه ابن أبي شيبة، ونحوه أخرجه عن مجاهد وجابر بن زيد والشَّعبي والنَّخَعي وطاوس وعطاء. قال البيهقي: وقد تعلق بعض من يجعل لها الخيار ولو قامت من المجلس بحديث عائشة وهو في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك. وهذا غير ظاهر لأنه عليه السلام لم يخّيرها في إيقاع الطلاق بنفسها وإنما خيّرها على أنها إن اختارت نفسها أخذت لها طلاقاً، كذا في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي. (1) قوله: فهي واحدة بائنة، هذا قول أكثر أهل العلم والفقه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم. وهو قول عمر وعبد الله بن مسعود فإنهما قالا: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة. ورُوي عنهما أنهما قالا: واحدة يملك الرجعة وإن اختارت زوجها فلا شيء. وروي عن علي أنه قال: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة وإن اختارت زوجها فواحدة يملك الرجعة. وقال زيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة وإن اختارت نفسها فثلاث. ومذهب أحمد موافق لقول علي رضي الله عنه، ويعارضه صريح حديث عائشة، كذا في "جامع الترمذي". وفيه أيضاً اختلف أهل العلم في: أمِرك بيدِك، فقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود هي واحدة، وهو قول غير واحد من أهل العلم من التابعين ومن بعدهم، وقال عثمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 10 - (بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ تَحْتَهُ (1) أَمَةٌ فَيُطَلِّقُهَا ثُمَّ يَشْتَرِيهَا) 571 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي (2)   وزيد بن ثابت: القضاء ما قضت، وقال ابن عمر: إذا جعل أمرها بيدها وطلقت نفسها ثلاثاً وأنكر الزوج وقال: لم أجعل أمرها إلا في واحدة استُحلف الزوج وكان القول قوله في يمينه. وذهب سفيان وأهل الكوفة إلى قول عمر وعبد الله، وأما مالك فقال: القضاء ما قضت، وهو قول أحمد، وأما إسحاق فذهب إلى قول ابن عمر (إن قالت: اخترت نفسي فواحدة رجعية عند الثلاثة وعند الحنفية واحدة بائنة هذا إذا لم تنوِ أكثر منها، فإن نوت أكثر منها وقع ما نوت عند الثلاثة وعند الحنفية لا تقع إلا واحدة أو ثلاثة. فإن طلقت ثلاثاً وقال الزوج: لم أجعل إليها إلا واحدة فالقضاء ما قضت عند أحمد، وعند الثلاثة أنها تطليقة، لا تقدر أكثر ما نوى الزوج. انظر "هامش بذل المجهود" 10/210) . (1) أي يكون زوجته أمة لرجل فيطلقها الزوج، ثم يشتريها من مالكها. (2) قوله: عن أبي عبد الرحمن، فقال ابن عبد البر: اختلف في اسم أبي عبد الرحمن شيخ ابن شهاب. فقيل: سليمان بن يسار، وهو بعيد لأنه أجلّ من أن يستر عنه اسمه، ويكنى عنه، وقيل: هو أبو الزناد، وهو أبعد لأنه لم يرو عن زيد بن ثابت ولا رآه ولا روى عنه ابن شهاب، وقيل: هو طاوس وهو أشيه بالصواب، وإنما كتم اسمه مع جلالته لأن طاوساً كان يطعن على بني أمية. ويدعو عليهم في مجالسه، وكان ابن شهاب يدخل عليهم ويقبل جوائزهم، وقد سُئل مرة في مجلس هشام أتروي عن طاوس؟ فقال: للسائل لو رأيت طاوساً علمتَ أنه لا يكذب ولم يجبه بأنه يروي أو لا يروي. فهذا كله دليل على أن أبا عبد الرحمن في هذا الحديث هو طاوس. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ تَحْتَهُ وَلِيدَةٌ (1) ، فَأَبَتَّ (2) طَلاقَهَا، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، أَيَحِلُّ (3) أَنْ يمسَّها؟ فَقَالَ: لا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (4) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 11 - (بَابُ الأَمَةِ تَكُونُ تحت العبد فَتُعْتَقُ) 572 - أخبرنا ملك، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الأَمَةِ (5) تَحْتَ الْعَبْدِ فَتُعْتَقُ: أَنَّ الْخِيَارَ لَهَا مَا لَمْ يمسَّها (6) . 573 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ زَبراء (7) مَوْلاةً لِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ أخبرته أنها كانت تحت عبد،   (1) أي جارية لغيره. (2) قوله: فأبتَّ طلاقها، من البتَّ بتشديد التاء، يقال: بتَّ الرجل طلاق زوجته وأبتَّ إذا قطعها من الرجعة، والمراد ههنا البينونة المغلَّظة كما يفيده الجواب. (3) بهمزة الاستفهام. (4) قوله: وبهذا نأخذ، لعموم الآية، وبه قال الأئمة الأربعة والجمهور خلافاً لبعض السلف أنها تحلّ لعموم (وما ملكت أيمانكم) قال ابن عبد البر: هذا خطأ لأنها لا تبيح الأمهات والأخوات والبنات فكذا سائر المحرَّمات. (5) أي أمة رجل تكون زوجة عبد الرجل. (6) فإن بوطيها سقط الخيار لوجود الرضا بالقيام معه. (7) قوله عن زبراء، بزاء مفتوحة ثم موحّة ساكنة فراء مهملة فألف ممدودة، كذا ضبطها ابن الأثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 وَكَانَتْ أَمَةً فاُعْتِقَتْ، فَأَرْسَلَتْ (1) إِلَيْهَا حَفْصَةُ وَقَالَتْ: إِنِّي مخبرتُكِ خَبَرًا، وَمَا أُحِبُّ أَنْ تَصْنَعِي شَيْئًا، إِنَّ أمرَكِ بِيَدِكَ مَا لَمْ يَمَسَّكِ، فإذا مَشَّكِ فليس لك من أمرك شيئاً، قالَتْ (2) : وفَارَقْتُه. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا عَلِمَتْ أَنَّ لها خياراً، فأمْرُها (3) بيدها ما دامت   (1) قوله فأرسلت إليها، أي أرسلت حفصة أم المؤمنين إليها رسولاً، واستدعتها فأتتها فقالت حفصة تعليماً لها: إني مخبرتك خبراً بصيغة اسم الفاعل من الإخبار، وما أحب أن تصنعي شيئاً من المفارقة وغيرها، وهو أن أمرك بيدك ولك خيار العتق ما لم يمسّك زوجك، فإن شئت تقرّي معهن وإن شئت تفارقيه، فإن وطيك بطل خيارك. (2) قوله: قالت وفارَقْتُه، أي قالت زبراء: فارقت الزوج حين ما سمعت حكم الخيار من حفصة وفي "موطأ يحيى" قالت: فقلت: هو الطلاق ثم الطلاق ثم الطلاق، ففارقته ثلاثاً. قال ابن عبد البر: لا أعلم لابن عمر وحفصة في ذلك الحكم مخالفاً من الصحابة وقد روي في قصة بَريرة مرفوعا ًدليل واضح على أن ما ذهبا إليه وروى سعيد بن منصور عن ابن عباس لما خُيَّرت بريرة رأيت زوجَها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته فكلم الناس له رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يطلب إليها فقال صلى الله عليه وسلّم لبريرة: زوجك وأبو ولدك، فقالت أتأمرني؟ فقال: إنما أنا شافع، فقالت: فلا حاجة لي فيه واختارت نفسها. (3) قوله: فأمرها بيدها، أي لها خيار العتق إن شاءت فارقت وإن شاءت أقامت، سواء كان الزوج حرَّاً أو عبدً عند أصحابنا، وعند الشافعي وغيره لا خيار لها إذا كان الزوج حرّاً، وقد اختلفت الروايات (اختلفت الروايات في زوجها حين عتقت هل كان حراً أو عبداً؟ رجح الأئمة الثلاثة رواية كونه عبداً لكونها موافقة لأصلهم، ورجحت الحنفية رواية كونه حراً. وفي البذل: قال الشيخ ابن القيم في الهدي: إن حدث عائشة رضي الله عنها رواه ثلاثة: السود وعروة والقاسم، فأما الأسود فلم يختلف عنه أنه كان حراً، وأما عروة فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان إحداهما أنه كان حراً، والثانية أنه كان عبداً، وأما عبد الرحمن بن القاسم فعنه روايتان صحيحتان، إحدهما أنه كان حراً، والثانية الشك. انتهى. قلت: الجزم قاضٍ ولا ترجيح لإحدى روايتي عروة للتعارض، فبقيت رواية الأسود سالمة ومعها رواية الجزم لابن القاسم. انظر هامش لامع الداري 9/270. وبذل المجهود 10/362) في زوج بريرة حين خيّرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 فِي مَجْلِسِهَا مَا لَمْ تَقُمْ (1) مِنْهُ أَوْ تَأْخُذْ (2) فِي عَمَلٍ آخَرَ أَوْ يمسُّها، فَإِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَطُلَ خِيَارُهَا، فَأَمَّا إن مسّها وَ (3) لم تَعْلَمْ بِالْعِتْقِ أَوْ عَلِمَتْ بِهِ (4) وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ لَهَا الْخِيَارُ فَإِنَّ ذَلِكَ لا يُبْطِلُ (5) خيارَها. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.   رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كان عبداً أو حراً. وبمثل قولنا قال الجماعة من أهل العلم، فأخرج الطحاوي وابن أبي شيبة عن طاوس أنه قال: للأمة الخيار إذا أعتقت وإن كانت تحت قرشي. وفي رواية: لها الخيار تحت حرّ وعبد. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال: تُخَيَّر حراً كان زوجها أو عبداً. وأخرج عن مجاهد قال: تُخيَّر ولو كانت تحت أمير المؤمنين. (1) فإن القيام من المجلس والشروع في عمل آخر دليل الإعراض. (2) أي تشرع. (3) الواو حالية. (4) أي بالعتق. (5) أي المس وغيره حينئذ لا يبطله بل يُبقي خيارها من حين العلم إلى المجلس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 12 - (بَابُ (1) طَلاقِ الْمَرِيضِ) 574 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عن طلحة (2) بن   (1) قوله باب طلاق المريض، اختُلف فيه على أقوال. الأول: أنه لا يقع طلاقه حكاه ابن حزم عن عثمان. الثاني: يقع وترثه بشرط قيام العدّة. وهو قول عمر وابنه وابن مسعود وأبيّ بن كعب وعائشة، وبه قال المغيرة والنَّخَعي وابن سيرين وعروة والشَّعبي وشُريح وربيعة بن عبد الرحمن وطاوس والأَوزاعي وابن شُبْرُمة والليث بن سعد والثوري وحماد بن أبي سليمان وأصحابنا. الثالث: ترثه ما لم تتزوج زوجاُ غيره وإن انقضت عدتها، وهو قول ابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق. والرابع: ترثه وإن تزوجت عشرة أزواج، وبه قال مالك والليث في رواية عنه. الخامس: ترثه ويرثها، وبه قال الحسن البصري. السادس: إن صح منه ومات من مرض آخر لا ترثه عندنا، وقال الزهري والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق: ترثه إن مات قبل انقضاء عدتها منه. السابع: ترثه ويرثها إذا كان لها حمل أو قصد المضارة وهو قول عروة. الثامن: ترثه وتنقل عدتها إلى عدة الوفاة ما لم تنكح، وبه قال الشعبي. التاسع: تعتد بأبعد الأجلين من ثلاث حيض وأربعة أشهر وعشراً، وهو قول أبي حنيفة ومحمد. العاشر: ترثه قبل الدخول وعليها العدة، وهو قول الحسن وإسحاق وأبي عبيد. الحادي عشر: لا ترثه أصلاً لا قبل الدخول ولا بعده، وهو قول الظاهرية وأبي ثور والجديد للشافعي، وفي القديم عنده الزوج فاّر وفي الميراث ثلاثة أقوال: الأول مثل قولنا، والثاني مثل قول أحمد، والثالث مثل قول مالك (قال الموفق: إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً يملك رجعتها في عدتها لم يسقط التوارث بينهما ما دامت في العدة سواء كان في المرض أو الصحة بغير خلاف نعلمه، وإن طلقها في الصحة طلاقاً بائنا أو رجعياً فبانت بانقضاء؟؟ عدتها لم يتوارثا إجماعاً. وإن كان الطلاق في المرض المخوف ثم مات من مرضه ذلك في عدتها ورثته، ولم يرثها إن ماتت، يُروى ذلك عن أبي حنيفة ومالك وهو قول الشافعي القديم، وقوله الجديد: لا ترث مبتوتة، والمشهور عن أحمد أنها ترثه في العدة وبعدها ما لم تتزوج ورُوي عنه ما يدل على أنها لا ترث بعد العدة. انظر الأوجز 10/155) ، كذا ذكره العيني في "البناية شرح الهداية". (2) قوله عن طلحة، هو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف ثقة، مكثر، فقيه، تابعي، مات سنة 97 هـ. وعبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري أحد العشرة المبشّرة بالجنة مات سنة 32 هـ، كذا قال السيوطي والزرقاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ (1) وَهُوَ مَرِيضٌ فورَّثها عُثْمَانُ مِنْهُ بَعْدَ مَا (2) انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. 575 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ (3) ، عَنِ الأَعْرَجِ (4) ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ وَرَّثَ (5) نِسَاءَ (6) ابْنِ مُكْمِل مِنْهُ، كَانَ طلّق نساءه وهو مريض.   (1) قوله: طلّق امرأته، هي تُماضر الكلبية بضم التاء فميم فألف فضاء معجمة فراء مهملة بنت الأصبغ الكلبية الصحابية، وكان فيها سوء خلق وكانت على تطليقتين، فلما مرض عبد الرحمن جرى بينه وبينها شيء، فطلّقها وهو آخر طلاقها، كذا في "موطأ يحيى" وشرحه. (2) قوله: بعد ما انقضت عدتها، قال القاري: هذا بظاهره يوافق مذهب ابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق أنها ترثه بعد العدّة ما لم تتزوّج بزوج آخر والتحقيق أنه ظرف لورّثها، فتوريثها كان بعد انقضاء عدتها. (3) ابن العباس بن عبد المطلب. (4) عبد الرحمن بن هرمز. (5) من التوريث. (6) قوله: نساء بن مكمل، بضم الميم وسكون الكاف وكسر الميم اسمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 قَالَ محمدٌ: يَرِِثْنَه مَا دُمْنَ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا انْقَضَتِ العدّةُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَلا مِيرَاثَ لَهُنَّ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ هُشَيْم (1) بْنُ بَشِيرٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ الضَّبِّيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي عَنْ شُريح (2) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَيْهِ في رجل طلّق امرأته ثلاثاً و (3) هو مَرِيضٌ: أنْ وَرِّثها (4) مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَلا مِيرَاثَ لَهَا. وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى والعامة من فقهائنا.   عبد الله بن مكمل بن عوف بن الحارث، ذكره الطبري وعمرو بن شبّة في الصحابة واستدركه ابن فتحون وقال: أكثر ما يأتي في الروايات ابن مكمل غير مسمى وسماه بعضهم عبد الرحمن وهو وهم، إنما عبد الرحمن ابنه ونشاء ابن مكمل اللاتي طلقهن كنّ ثلاثاً كما رواه عبد الرزاق، كذا في "شرح الزرقاني". (1) قال في "التقريب" هُشيم بالتصغير ابن بَشير بوزن عظيم ابن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن ابي حازم الواسطي ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الحنفي مات سنة 183. (2) قوله: عن شُريح، مصغراً ابن الحارث بن قيس القاضي أبو أمية الكندي الكوفي، ويقال: شريح بن شرحبيل من ثقات المخضرمين استقضاه عمر على الكوفة ثم عليّ فمن بعده استعفى من القضاء قبل موته بسنة زمن الحجاج، وعاش مائة وعشرين سنة، ومات سنة 78 وقيل سنة 80، وثقه ابن معين وغيره، كذا في "تذكرة الحفاظ" للذهبي. (3) الواو حالية. (4) أمرمن التوريث أي كتب إليه بأن ورِّث مطلَّقة الفارّ ما دامت في العدّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 13 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تطلَّق أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ) 576 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، أَنَّ ابنَ عُمَرَ سُئل (1) عَنِ امْرَأَةٍ (2) يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؟ قَالَ: إِذَا وَضَعَتْ (3) فَقَدْ حَلَّتْ (4) ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ (5) كَانَ عِنْدَهُ (6) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ (7) لَمْ يُدْفن بعدُ حَلَّتْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (8) نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   (1) قوله: سئل ... إلخ، كذا رواه الشافعي أيضاً في "مسنده" من طريق مالك، وكذلك رواه عبد الرزاق في " مصنفه" من معمر عن أيوب عن نافع به، وروى هو وابن شيبة عن ابن عُيَينة عن الزهري عن سالم قال: سمعت رجلاً من الأنصار يحدث ابن عمر يقول: سمعت أباكَ لو وضعت المتوفَّى عنها زوجها وهو على السرير حلّت، كذا ذكره الزيلعي. (2) أي عن عدتها. (3) ولو قبل أربعة أشهر وعشراً. (4) أي خرجت من العدة. (5) نقويةً لما أفتى به ابن عمر. (6) أي في مجلس ابن عمر. (7) أي الميت على نعشه لم يُكَفَّنْ ولم يُدْفَنْ. (8) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم أنّ المتوفَّى عنها زوجا والمطلَّقة الحاملة تنقضي عدتها بوضع الحمل، وروي عن علي وابن عباس أن المتوفَّى عناه الحاملة تنتظر آخر الأجلين من وضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 577 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا وضعتْ مَا فِي بَطْنِهَا (1) حَلَّتْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ فِي الطَّلاقِ (2) وَالْمَوْتِ جَمِيعًا، تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوِلادَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله تعالى.   الحمل وأربعة أشهر وعشراً، وقال عبد الله بن مسعود: أُنزلت سورة النساء القُصرى بعد الطولى، وأراد بالقصرى سورة الطلاق التي فيها: (وأولاتُ الأحمالِ أجلُهُنّ أن يضعن حملَهن) (سورة الطلاق: الآية 4) ، نزلت بعد قوله تعالى في سورة البقرة: {والذين يُتَوَفَّوْنَ منكم ويذرون أزواجاً يتربَّصْنَ بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} (سورة البقرة: الآية 234) ، فحُمل على النسخ. كذا قال البغوي في "معالم التنزيل"، ومن مستندات الجمهور ما روي أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية مات عنها زوجها، فوضعت الحمل بعد خمسة وعشرين يوماً من موته فأفتاها النبي صلى الله عليه وسلّم بانقضاء عدتها كما ورد في رواية البخاري والترمذي والنسائي وغيرهم، وهو نصّ في الباب، ولعله لم يبلغ من خالف ذلك، وقد قال ابن عبد البر وغيره: إن هذا مما أجمع عليه جمهور العلماء من السلف والخلف إلا ما رُوي عن علي من وجه منقطع أن عدّتَها آخر الأجلين، ونحوه جاء عن ابن عباس. لكن جاء عنه أيضاً أنه رجع إلى حديث أمّ سلمة في قصة سبيعة ويصححه أن أصحابه عكرمة وعطاء وطاوس وغيرهم على أن عدّتها الوضع. (1) ولو كان سقطاً تمّ بعض خلقته (قال مالك في "المدونة": ما ألقته المرأة من مضغة أو علقة أو شيء يستقين أنه ولد فإنه تنقضي به العدة وتكون به الأمة أم ولد. المنتقى للباجي 4/133) . (2) قوله: في الطلاق والموت جميعاً، هذا الحكم في الطلاق متفق عليه، وفي الموت فيه خلاف غير معتدّ به كما مرّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 14 - (بَابُ (1) الإِيلاءِ) 578 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سعيد بن المسيّب   (1) قوله : باب الإيلاء، قال عياض في "الإكمال": الإيلاء الحلف، وأصله الامتناع من الشيء، يُقال آلى يولي إيلاءً، وفي عرف الفقهاء: الحلف على ترك وطء الزوجة أربعة أشهر أو أكثر، فلو قال: لا أقربك، ولم يقل: والله لم يكن مُولياً، وقد فسَّر ابن عباس قوله تعالى: (للذين يُولون من نسائهم) بالقسم، أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وعبد بن حميد، وفي مصحف أبيّ بن كعب (للذين يُقيمون) أخرجه ابن أبي داود في "المصاحف" عن حماد. ثم عند أبي حنيفة وأصحابه والشافعي في الجديد: إذا حلف على ترك قربان زوجته أربعة أشهر يكون مُولياً، واشترط مالك أن يكون مضرا بها أو يكون حالة الغضب فإن كان للإصلاح لم يكن موليا ووافقه أحمد. وأخرج نحوه عبد الرزاق عن علي، وكذلك أخرج الطبري عن ابن عباس وعلي والحسن. وحجة من أطلق بإطلاق قوله تعالى: (للذين يولون) الآية. واتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أنه لو حلف أن لا يتقرب أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً، وكذلك أخرجه الطبري وسعيد بن منصور وعبد بن حميد عن ابن عباس قال: كان إيلاء الجاهلية السنة فالسنتين، فوقَّت الله لهم أربعة أشهر وعشراً، فمن كان إيلاؤه أقلَّ فليس بإيلاء، وقال جماعة - منهم الحسن وابن ابي ليلى وعطاء - إنه إنْ حلف أن يطأها على يوم فصاعداً، ثم لم يطأها إنه يكون مًلياً. ثم في الإيلاء الشرعي إن جامع زوجته في أربعة أشهر فليس عليه إلاَّ كفارة يمين، وإن مضت أربعة اشهر، ولم يفء الجماع ولا بلسان طُلِّقت طلقة بائنة عن الحنفية، وبه قال ابن مسعود. أخرجه الطبري عنه وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر وعطاء وربيعة ومكحول والزهري والأوزاعي: طلقة رجعية. وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن المُولي إذا لم يفء ومضت أربعة أشهر لا يقع بمضيِّ هذه المدة طلاق، بل يوقف حتى يفيء أو يطلق.. وكذلك أخرجه ابن ابي شيبة وعبد الرزاق والشافعي عن عثمان وابن أبي شيبة عن عليّ، والبخاري عن ابن عمر؟، وسعيد بن منصور عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 قَالَ: إِذَا آلَى الرجلُ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ فَاء (1) قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ امْرَأَتُهُ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ طَلاقِهَا شَيْءٌ، فَإِنْ مَضَتِ الأَرْبَعَةُ (2) الأَشْهُرُ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ (3) فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ وَهُوَ أَمْلَك (4) بِالرَّجْعَةِ مَا لَمْ تَنْقَضِ عدَّتُها. قَالَ (5) : وَكَانَ مَرْوَانُ يَقْضِي بِذَلِكَ. 579 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أيُّما رَجُلٍ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ فَإِذَا (6) مَضَتِ الأربعة الأشهر وُقِفَ (7) حتى يطلِّق   عائشة، وابن أبي شيبة عن أبي الدرداء، كذا ذكره بعض الأعلام في "شرح مسند الإمام". (1) قوله: فاء، أي رجع عن يمينه بأن جامع في أثناء أربعة أشهر وهي مدة الإيلاء للحرَّة أو شهرين وهي مدة الإيلاء للأمة. (2) أي في الحرة. (3) أي يرجع عن يمينه بالوطء أو ما قام مقامه. (4) أي زوجها أحقّ بالرجعة في العدة. (5) قوله: قال: وكان، أي قال سعيد بن المسيب: كان مروان بن الحكم يحكم بكونها رجعية، كذا قال القاري. وفي "موطأ يحيى": مالك عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب وأبا بكر بن عبد الرحمن كان يقولان في الرجل يُولي من امرأته: إنها إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة، ولزوجها الرجعة ما دامت في العدة. مالك أنه بلغه أن مروان بن الحكم كان يقضي في الرجل إذا آلى من امرأته أنها إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة وله عليها الرجعة ما دامت في عدتها. قال مالك: وعلى ذلك كان رأي ابن شهاب. انتهى. (6) في نسخة: فإنه إذا. (7) بصيغة المجهول: أي أُمسك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 أَوْ يَفِيءَ، وَلا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلاقٌ وَإِنْ مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرُ حَتَّى يُوقَفَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا (1) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ فقد بانت بتطليقة بائنة وهو خاطب (2)   (أي يُحبس عند الحاكم، فإمّا يطلِّق وإما يفيء، أي يرجع عن اليمين، ويكفِّر عن يمينه، فإن امتنع طلَّق القاضي، وهو المشهور عن مالك وبه قال الشافعي، وعن مالك رواية: لا يطلق القاضي عنه بل يُجبر على الجماع أو الطلاق ويعزَّر على ذلك إن امتنع، كذا حكاه النووي عن عياض. أوجز المسالك 10/47) (1) قوله: بلغنا عن عمر. . . إلخ، هذا البلاغ أسنده عبد الرزاق وابن جرير وابن ابي حاتم والبيهقي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس قالوا: الإيلاء طلقة بائنة إذا مرت أربعة أشهر قبل أن يفيء، فهي أحق بنفسها، وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: عزيمة الطلاق انقاضء أربعة أشهر. وأخرج عبد بن حميد، عن أيوب قال: قلت لابن جرير: أكان ابن عباس يقول في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة؟ قال: نعم. وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق والبيهقي عن ابن مسععود قال: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت أربعة اشهر فهي تطليقة بائنة، وتعتدُّ بعد ذلك ثلاث قروء ويخطبها زوجها في عدَّتها ولا يخطبها غيره، فإذا انقضت عدتها خطبها زوجها وغيره. وأخرج عبد بن حميد عن علي في الإيلاء: إذا مضت أربعة اشهر فقد بانت منه بتطليقة ولا يخطبها هو ولاغيره إلاَّ بعد العدة، كذا أورده السيوطي في "الدر المنثور"، وفيه آثار أخر مبسوطة تدل على أن المسألة مختلَف فيها من عهد الصحابة إلى من بعدهم. (2) أي إن شاء خطبها ونكحها بالعقد الجديد كغيره من الخُطّاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 مِنَ الخُطّاب وَكَانُوا (1) لا يَرَوْنَ أَنْ يُوْقَفَ بَعْدَ الأَرْبَعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُون مِنْ نِسَائِهِمْ تربُّصُ (2) أربعة أشهر فإن فاؤوا (3) فإن الله غفور رحيم وَإِنْ عَزَمُوا (4) الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (5) ، قَالَ: الْفَيْءُ الْجِمَاعُ فِي الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، وَعَزِيمَةُ الطَّلاقِ انْقِضَاءُ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، فَإِذَا مَضَتْ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَلا يوقَف بَعْدَهَا. وَكَانَ (6) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَ (7) بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِهِ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   (1) أي الأصحاب المذكورون. (2) أي انتظار. (3) قوله: فإن فاؤوا (سورة البقرة: الآية 227) ، أي بالجماع، كذا أخرجه عبد بن حميد بن علي، وعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس، وابن المنذر عن ابن مسعود. وأخرج ابن ابي حاتم، عن ابن مسعود قال: إذا حال بينه وبينها مرض أوسفر أو حبس أو شيء يُعذَر به فإشهاده فيء. (4) أي قصدوا. (5) أعاده لطول الفصل، وفصلاً بين كلامه وكلام الله عزَّ وجلّ. (6) قوله: وكان، أشار به إلى ترجيح تفسير ابن عباس وفتواه على فتوى من أفتى بالوقف أو بالتطليقة الرجعية. (7) قوله: أعلم، ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم: اللَّهم علِّمه القرآن وفقِّهه في الدين. ومن ثَمَّ صار حبر المفسرين ورأس المتبحِّرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 15 - (باب الرجل يطلِّق امرأتَه ثلاثاً قَبْلَ (1) أَنْ يَدْخُلَ بِهَا) 580 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوبان، عَنْ مُحَمَّدِ (2) بْنِ إِيَاسِ بْنِ بُكير قَالَ: طلَّق رجلٌ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يدْخل بِهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ (3) أَنْ يَنْكِحَهَا فجاءَ يَستفتي، قَالَ (4) : فَذَهَبَتْ مَعَهُ، فَسَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالا: لا يَنْكحها (5) حَتَّى تنكحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ طَلاقِي إِيَّاهَا (6) وَاحِدَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْسَلْتَ (7) مِنْ يَدِكَ مَا كَانَ لَكَ مِنْ فضْل. قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا (8) نأخذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من   (1) قوله: قبل أن يدخل بها، اختُلف فيه، فقال أصحابنا: يقع الثلاث، وهو قول أبي هريرة وعلي وعمر وابن عباس وجمهور العلماء، وقال الحسن وعطاء وجابر بن زيد: يقع واحدة لأنها تبين بقوله أنت طالق. ولنا أن الثلاث صفة للطلاق الذي أوقعه والموصوف لا يوجد بدون صفته، كذا قال القاري. (2) تابعي. ثقة، ووهم من ذكره من الصحابة، قاله الزرقاني. (3) أي ظهر له وخطر بباله أن ينكحها. (4) أي ابن بكير. (5) بصيغة الغَيْبة أو الخطاب. (6) أي لأنها كانت غير مدخولة. (7) قوله: أرسلت مِنْ يدك، أي كان لك ذلك لو اقتصرتَ على الواحدة والثنتين، فإذا أرسلت الثلاثة جملة واحدة ما بقي لك شيء. (8) قوله: وبهذا نأخذ، لظاهر القرآن ولما مرَّ من فتوى أبي هريرة وابن عباس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 فُقَهَائِنَا لأَنَّهُ (1) طلَّقها ثَلاثًا جَمِيعًا، فَوَقَعْنَ عَلَيْهَا جَمِيعًا مَعًا وَلَوْ فَرَّقَهُنَّ وَقَعَتِ الأُولَى خَاصَّةً لأَنَّهَا بَانَتْ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَلا عِدَّةَ (2) عَلَيْهَا فَتَقَعُ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ مَا دامت في العدَّة. 16 - (باب المرأة يطلِّقها زوجُها فتتزوَّجُ (3) رجلاً فيطلِّق (4) قبل الدخول) 581 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا المِسْور (5) بْنُ رِفاعة القُرَظي، عن   (1) قوله: لأنه طلقها ثلاثاً جميعاً، أي مجموعاً لا متفرقاً، والوقوع فرع الإِيقاع، فإذا أوقع الثلاث دفعة وقع، ولو فرَّقهن بأن قال: أنت طالق وطالق وطالق، أو بالتكرير من غير عطف وقعت الأولى خاصة، لأن الواو لمطلق العطف، وليس في آخر الكلام ما يغيِّر أوَّلَه من شرط أو استثناء. وقال مالك والشافعي في القديم والأوْزاعي والليث بن سعد يطلق ثلاثاً، كذا قال القاري. (2) يعني إن كانت له العدة كما للمدخولة تقع عليها الثانية والثالثة، وإذ ليست فليست. (3) في نسخة: "فتزوّجُ". (4) أي الزوج الآخر. (5) قوله: المسور، بكسر الميم وإسكان المهملة وفتح الواو، ابن رفاعة بكسر الراء ابن أبي مالك القُرَظي - بضم القاف وفتح الراء نسبة إلى بني قريظة، المدني تابعي صغير، مقبول، له في "الموطأ" مرفوعاً هذا الحديث الواحد، وليس له رواية في الكتب الستة، وثقه ابن حبان، مات سنة 138 هـ. عن الزَّبير بن عبد الرحمن بن الزَّبير بن باطيا القرظي المدني، والزاء في الاسمين مفتوحة والباء مكسورة عند سائر رواة الموطأ عن مالك إلاَّ ابن بكير، فإنه روي عنه ضم الزاء في الأول وفتحها في الثاني، وقال ابن عبد البر: الصحيح فيهما الفتح أي عن مالك، وقال ابن حجر في "الإِصابة": هو بضم الزاء بخلاف جده فإنه بفتحها وكسر الموحدة. أن رفاعة بن سِمْوال، بكسر السين وإسكان الميم القرظي الصحابي كذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 الزَّبير بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبير: أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سِمْوَالٍ طلَّق (1) امرأتَه تميمةَ بنتَ وَهْبٍ فِي عَهْدِ (2) رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثًا، فَنَكَحَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَعْرَضَ (3) عَنْهَا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يمسَّها، فَفَارَقَهَا (4) وَلَمْ يمسَّها، فَأَرَادَ رِفَاعَةُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَهُوَ زَوْجُهَا الأَوَّلُ الَّذِي طلَّقها، فَذَكَرَ ذَلِكَ (5) لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَاهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا، وَقَالَ: لا تحلُّ لَكَ حَتَّى تذوقَ (6) العُسَيْلةَ.   أرسله أكثر الرواة عن مالك، ووصله ابن وهب عن مالك، وتابعه ابن القاسم وعلي بن زيادة وإبراهيم بن طهمان وعبيد الله بن عبد الحميد كلهم عن مالك، عن المسور، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عن أبيه أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سِمْوَالٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَميمة بفتح التاء، وقيل: بضمها، وقيل: اسمها أميمة، وقيل: سحيمة، وقيل: عائشة بنت وهب القرظية الصحابية ولا أعلم لها غير هذه القصة، فنكحها عبد الرحمن بن الزبير، كان صحابياً وأبوه الزبير قتل يهودياً في غزوة بني قريظة، كذا قال السيوطي والزرقاني. (1) أي ثلاث تطليقات كما في رواية الصحيحين وغيرهما. (2) أي في زمانه. (3) أي لم يقدر على مجامعتها لعُنَّة. (4) أي طلَّقها قبل الدخول. (5) قوله: فذكر ذلك، الظاهر أنه معروف، أي ذكر رفاعة ذلك، ويحتمل أن يكون مجهولاً أي فذكره ذاكر. وفي رواية للبخاري أن المرأة هي التي ذكرت وقالت إنما معه مثل الهُدْبة وأخذت بهدبة جلبابها شبَّهته بذلك لصغر ذَكَرَه أو استرخائه. (6) قوله: تذوق العسيلة، هو تصغير العسلة، والمراد به الجماع، وأفاد به أن مجرد النكاح الثاني لا يحلل، بل يُشترط معه وطء الزوج الثاني. وقد روى هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا (1) نأخذُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حنيفةَ والعامةِ مِنْ فُقَهَائِنَا لأَنَّ الثَّانِيَ لَمْ يُجَامِعْهَا فَلا يحلُّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الأَوَّلِ حَتَّى يُجَامِعَهَا الثَّانِي. 17 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تُسَافِرُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا) 582 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ الأَعْرَجُ، عَنْ عَمْرِو (2) بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيِّب: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يردُّ المتوفَّى عنهنَّ أَزْوَاجَهُنَّ مِنَ البَيْداءِ (3) يمنعهنَّ الحج (4) .   الحديث الذي فيه قصة العسيلة البخاري ومسلم والنسائي وابن جرير والبيهقي والشافعي وابن سعد والبزار والطبراني وأبو داود وغيرهم بألفاظ متقاربة بسطها السيوطي في "الدر المنثور". (1) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم، بل قيل لم يخالف فيه أحد إلاَّ سعيد بن المسيب حيث حكم بكفاية النكاح الثاني للتحليل من غير وطء أخذاً بظاهر القرآن، والأحاديث الواردة في اشتراطه حجة عليه. (2) قوله: عن عمرو بن شعيب، هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي، وكثيراً ما يأتي في كتب الحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. قال ابن القطان: إذا روى عنه الثقات فهو ثقة يُحتجُّ به، وقال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، ما تركه أحد من المسلمين، مات سنة 118، كذا في "إسعاف السيوطي". (3) هو طرف ذي الحُلَيْفة قريب المدينة. (4) في نسخة: من الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا لا يَنْبَغِي لامْرَأَةٍ أَنْ تسافرَ فِي عدَّتِها حَتَّى تَنْقَضِيَ مِنْ طَلاقٍ كَانَتْ (1) أَوْ مَوْتٍ. 18 - (بَابُ (2) الْمُتْعَةِ) 583 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (3) وَالْحَسَنِ   (1) العدَّة (قال الموفق: المعتدة من الوفاة ليس لها أن تخرج إلى الحج ولا إلى غيره، روي ذلك عن عمر وعثمان وبه قال ابن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو عبيدة وأصحاب الرأي والثوري، وإن خرجت ومات زوجها في الطريق رجعت إن كانت قريبة وإن تباعدت مضت في سفرها. وقال مالك: تردُّ ما لم تحرم، والصحيح إن البعيدة لا تردُّ لأنه يضرُّ بها وعليها مشقة ولا بدَّ لها من سفر، ويحدُّ القريب بما لا تقصر فيه الصلاة، وهذا قول أبي حنيفة إلاَّ أنه لا يرى القصر إلاَّ في مسيرة ثلاثة أيام، فقال: إذا كان بينها وبين مسكنها دون ثلاثة أيام فعليها الرجوع إليه، وإن كان فوق ذلك لزمها المضيُّ إلى مقصدها. وقال الشافعي: إن فارقت البنيان فلها الخيار بين الرجوع والتمام. انظر أوجز المسالك 10/252) . (2) قوله : باب المتعة، قال القاري: صورة نكاح المتعة أن يقول بحضرة الشهود: متَّعت نفسك بكذا وكذا ويذكر مدة من الزمان وقدراً من المال، وذلك لا يصح، لما روى مسلم عن إياس بن سلمة بن الأكوع قال: رخَّص رسول الله عام أوطاس في المتعة ثم نهى عنها. قال البيهقي: وعام أوطاس وعام الفتح واحد، لأنه بعده بيسير. قال النووي: إنها أُبيحت مرتين وحُرِّمت مرتين، فكانت حلالاً قبل خيبر، وحُرِّمت يوم خيبر، ثم أُبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس وحُرِّمت بعد ذلك بعد ثلاثة أيام مؤبَّداً إلى يوم القيامة. (3) قوله: عن عبد الله، هو ابن محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني، وثقه العجلي وابن سعد والنسائي، مات سنة 98 هـ، وأخوه الحسن كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 ابنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ جَدِّهِمَا: أَنَّهُ (1) قَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُتْعَة النساءِ يومَ خيْبَر (2) وعن أكل (3) لحوم الحُمْر الإِنسيَّة.   من أفاضل أهل البيت، وأعلم الناس بالاختلاف، وثَّقه العجلي، وقال الدارقطني: صحيح الحديث، مات سنة 95 هـ، وقيل: 101 هـ وأبوهما محمد المعروف بابن الحنفية وهي خولة من بني اليمامة زوجة علي رضي الله عنه، وثقه العجلي وغيره، ومات سنة 73 كذا في "إسعاف السيوطي". (1) قوله: أنه قال لابن عباس، في رواية عبيد الله، عن ابن شهاب بإسناده عن علي أنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء، فقال: مهلاً يا ابن عباس، فإن رسول الله نهى عنها. (2) قوله: يوم خيبر، هكذا اتفق مالك وسائر أصحاب الزهري، وروى عبد الوهاب الثقفي عن يحيى القطان عن مالك في هذا الحديث. فقال: حُنين. أخرجه النسائي والدارقطني، وقالا: وهم فيه القطان، وزعم ابن عبد البر: أن ذكر يوم خيبر غلط، وقال السهيلي: إنه شيء لا يعرفه أحد من أهل السير، وقال ابن عيينة، إن تاريخ خيبر في حديث علي: إنما هو في النهي عن لحوم الحُمُر الإِنسية، قال البيهقي: يشبه أنه كما قال، وتُعُقِّب هذا كله بأنه بعد اتفاق أصحاب الزهري عنه على ذلك لا ينبغي أن يقال نحو ذلك، وهم حفّاظ، ولهذا قال القاضي عياض: تحريمها يوم خيبر صحيح لا شك فيه، كذا في شرح الزرقاني. (3) قوله: وعن أكل لحوم الحُمُر، بضمتين جمع حمار، والإِنسية رواه الأكثر بفتح الهمزة والنون، وقيل: بكسر الهمزة وهو احتراز عن الوحشية، وقد كان أكل الحمر الأهلية جائزاً، ثم نُسخ، قال كمال الدين الدَّميري محمد بن عيسى في كتابه "حياة الحيوان": يحرم أكله عند أكثر أهل العلم، وإنما رُويت الرخصة عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 584 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ خَوْلة (1) بِنْتِ حَكِيمٍ دخلَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَتْ: إنَّ رَبِيعَةَ (2) بْنَ أميَّة اسْتَمْتَعَ بامرأةٍ موَلَّدةٍ فَحَمَلَتْ مِنْهُ، فَخَرَجَ عُمَرُ فَزِعاً (3) يجرُّ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: هَذِهِ المُتْعَة لَوْ كنتُ تقدَّمتُ (4) فِيهَا لرجمتُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: المُتْعَة مكروهةٌ (5) ، فَلا يَنْبَغِي، فَقَدْ (6) نَهَى (7) عَنْهَا   ابن عباس، وقال أحمد: كره أكلَه ستة عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، وادَّعى ابن عبد البر الإِجماع الآن على تحريمه، ولو بلغ ابن عباس أحاديث النهي الصريحة الصحيحة في تحريمه لما صار إلى غيره. (1) يقال لها أم شريك السلمية الصحابية زوجة عثمان بن مظعون، ذكره السيوطي. (2) أسلم يوم الفتح، وشهد حَجَّة الوداع، ثم إن عمر غرَّبه في الخمر إلى خيبر، فلحق بهرقل فتنصَّر، فقال: لا أغرب بعده أبداً (وفي أوجز المسالك: لا أغرب بعده أحداً أبداً 4/307 ط. الهند) ، كما ذكره ابن حجر في "الإِصابة". (3) أي خائفاً بالجملة. (4) أي لو تقدمتُ فيها بالنهي والحكم العام، ثم فعله أحد بعد ذلك لرجمته. (5) قوله: مكروهة، أي محرمة فإن عند محمد كل مكروه حرام. (6) وفي نسخة: وقد. (7) قوله: فقد نهى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء في غير حديث ولا اثنين، أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ وَلا اثْنَيْنِ، وَقَوْلُ عُمَرَ: لَوْ كُنْتُ تقدمتُ فِيهَا لرجمتُ إِنَّمَا نَضَعُهُ (1) مِنْ عُمَرَ عَلَى التَّهْدِيدِ (2) ، وَهَذَا (3) قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   جاء نهيه في أحاديث كثيرة: فعن سبرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وهو قائم بين الركن والباب أيها الناس إني كنت أذنتُ لكم في الاستمتاع ألا وإن الله حرَّمها إلى يوم القيامة، أخرجه أحمد ومسلم. وعن مسلمة بن الأكوع: رخَّص لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثم نهى بعده. أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم. وأخرج البيهقي عن علي: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة، وإنما كانت لمن لم يجد فلما نزل النكاح والطلاق والعِدَّة والميراث نُسخ. وعن أبي ذر: إنما أُحلَّت لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام ثم نهى عنها، أخرجه البيهقي. وأخرج الطبراني في الأوسط عن سالم بن عبد الله قال: قيل لعبد الله بن عمر: إنَّ ابن عباس يأمر بنكاح المتعة، فقال: سبحان الله؟ ما أظنه يفعل هذا، قالوا: إنه يأمر به، قال: وهل كان ابن عباس إلاَّ غلاماً صغيراً في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة وما كنا مسافحين. وعن عمر أنه خطب حين استُخلف فقال: إن رسول الله أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم نهى عنه، أخرجه ابن المنذر والبيهقي. وفي الباب أخبار وآثار كثيرة مبسوطة في "الدر المنثور" وغيره (انظر مجمع الزوائد للهيثمي 4/264) ، ويُعلم من مجموعها أن المتعة أُحِلَّت مرات وحُرِّمت مرات ثم دام التحريم من زمن فتح مكة. (1) أي نحمله على أنه قال ذلك زجراً لا أنه يرجم فاعلها لأن الحدود تُدرأ بالشبهات. (2) ليرتدع الناس عن ذلك. (3) قوله: وهذا قول أبي حنيفة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والليث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 19 - (باب الرجل تكون عند امْرَأَتَانِ فَيُؤثِرُ (1) إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى) 585 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ رَافِعِ (2) بْنِ خَدِيج (3) : أَنَّهُ تزوَّج ابْنَةَ (4) مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمة، فَكَانَتْ تحته، فتزوّج   والأَوْزاعي وغيرهم من فقهاء الأمصار، وما نُقل في "الهداية" عن مالك أنه أجاز ذلك فهو سهو تعقَّبه عليه شُرّاحُها، وقال الخطّابي في "المعالم": كان ذلك مباحاً في صدر الإِسلام ثم حُرِّم، ولم يبقَ فيه خلاف لأحد إلاَّ بعض الروافض، وكان ابن عباس يجوِّزه للمضطر ثم أمسك عنه كذا في "البناية". ونسب ابن حزم إلى جابر وابن مسعود وابن عباس ومعاوية وأبي سعيد الخدري وغيرهم الحكم بتحليلها، وتُعُقِّب بأنه لم يصح عنهم ذلك، والمشهور عن ابن عباس هو الحلُّ، لكن ثبت أنه رجع عنه، والقول الفيصل أنَّ من أفتى بحلِّه لم تبلغه أحاديث النهي، فهو معذور في ذلك ولا اعتداد، بقول أحد بعد قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقصة إنكار عليّ وابن عمر وابن الزبير على ابن عباس مشهورة مروية في كتب الأئمة (انظر المنتقى للباجي 3/334، وأوجز المسالك 9/401) . (1) من الإِيثار بمعنى الاختيار أي يفضِّلها ويحبُّها. (2) صحابي مشهور شهد أحداً وما بعدها، مات في أول سنة 74، ذكره السيوطي. (3) بفتح الخاء. (4) قوله: ابنة محمد بن سلمة، كذا في نسختين، ولعله محمد بن مسلمة كما في نسختين وهو معدود في الصحابة، مات سنة 46 أو سنة 47 أو غير ذلك، ذكره في "أسد الغابة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 عَلَيْهَا امْرَأَةً شابَّة فَآثَرَ (1) الشابَّة عَلَيْهَا، فناشَدَتْه (2) الطَّلاقَ فطلَّقها وَاحِدَةً، ثُمَّ أَمْهَلَهَا (3) حَتَّى إِذَا كَادَتْ (4) تَحِلُّ ارْتَجَعَهَا، ثُمَّ عَادَ، فَآثَرَ (5) الشابَّة، فَنَاشَدَتْهُ الطَّلاقَ، فطلَّقها وَاحِدَةً، ثُمَّ أَمْهَلَهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تحلَّ ارْتَجَعَهَا، ثُمَّ عَادَ فَآثَرَ الشابَّة، فناشدته الطلاق، فقال:   (1) أي اختار (آثر: بالمد والفتح، اختار ومال بنفسه إليها، وذكر الباجي: أن الإِيثار على أربعة أضرب: أحدها: الإِيثار بمعنى المحبة لأحدهما، فهذا لا يملك أحد دفعه ولا الامتناع عنه. والثاني: إيثار إحداهما في سعة الإِنفاق والكسوة وسعة المسكن، ولكن ذلك بحسب ما تستحقه كل واحدة منهما نفقة مثلها ومؤونة مثلها ومسكن مثلها على قدر شرفها وجمالها وشبابها وسماحتها، فهذا الإِيثار واجب، ليس للأخرى الاعتراض فيه، ولا للزوج الامتناع منه، ولو امتنع لحكم به عليه. الثالث: من الإِيثار أن يُعطي كل واحدة منهما من النفقة والكسوة ما يجب لها، ثم يؤثر إحداهما بأن يكسوها الخز والحرير والحلي، ففي "العُتبية" من رواية ابن القاسم عن مالك، أن ذلك له، فهذا الضرب من الإِيثار ليس لمن وفيت حقها أن تمنع الزيادة لضرّتها، ولا يجبر عليه الزوج، وإنما له فعله إذا شاء. الرابع: أن يؤثر إحداهما بنفسه، مثل أن يبيت عند إحداهما أكثر، ويجامعها ويجلس عندها في يوم الأخرى أو ينقص إحداهما من نفقة مثلها ويزيد الأخرى، أو يجري عليها ما يجب لها، فهذا الضرب من الإِيثار لا يحل للزوج فعله إلاَّ بإذن المؤثر لها، فإن فعله كان لها الاعتراض فيه والاستعداء عليه. انظر المنتقى 3/353، والأوجز 9/460) الشابة في الاستمتاع. (2) أي طلبته منه بالمبالغة. (3) أي تركها منتظراً قرب العدَّة. (4) أي قاربت أن تخرج من العدَّة. (5) بيان للعود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 مَا شئتِ (1) إِنَّمَا بقيتْ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ شِئْتِ اسْتَقْرَرْتِ (2) عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنَ الأَثَرَة (3) وَإِنْ شئتِ طَلَّقْتُكِ، قَالَتْ: بَلْ أَسْتَقِرُّ عَلَى الأَثَرَةِ فَأَمْسَكَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَ رافعٌ أَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِثْمًا حِينَ رَضِيَتْ أَنْ تَسْتَقِرَّ عَلَى الأَثَرَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا رَضِيَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ (4) عَنْهُ إِذَا بَدَا لَهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 20 - (بَابُ (5) اللِّعان) 586 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (6) نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أن   (1) أي أنت مخيَّرة في أمرك. (2) أي أقمت عندنا على ما ترينه من اختياري للشابة. (3) بفتح الهمزة والثاء، وبالكسر والسكون: بمعنى الاختيار. (4) أي عن الرضاء إلى طلب حقها إذا ظهر له ذلك. (5) قوله : باب اللِّعان، بالكسر من اللعن وهو الطرد والإِبعاد، وفي الشرع عبارة عن كلمات معروفة حجَّة للمضطر إلى قذف زوجته بالزنا. سُمِّي به لاشتماله على اللعن. واختير هذا اللفظ على لفظ الشهادة والغضب مع اشتماله (في الأصل: "اشتمالها"، وهو خطأ) عليهما أيضاً لأن اللعن واقع في جانب الرجل، والغضب في جانب المرأة، وجانب الرجل أقوى وأقدم، واللعن بالنسبة إلى الشهادة لفظ زاجر فاختص به. (6) قوله: أخبرنا نافع، هكذا أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن من طريق مالك، وتابعه عبيد الله بن عمر عن نافع في الصحيحين وغيرهما، وتابعه في شيخه نافع سعيد بن جبير، عن ابن عمر عند الشيخين وغيرهما بنحوه، كذا قال الزرقاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 رَجُلا (1) لاعَنَ امرأَته فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَفَى (2) مِنْ وَلَدِهَا، ففرَّق (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ (4) الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا نَفَى الرَّجُلُ وَلَدَ امْرَأَتِهِ ولاعَنَ فُرِّق بَيْنَهُمَا، وَلَزِمَ الْوَلَدُ (5) أمَّه. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله تعالى.   (1) قوله: أن رجلاً، هو عُوَيْمِر العجلاني وزوجته خولة بنت قيس العجلانية كما ذكره الحافظ ابن حجر في "مقدمة فتح الباري"، وقد وقع اللعان فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم من صحابيين: أحدهما عويمر بن أبيض - وقيل ابن الحارث - الأنصاري العجلاني رمى زوجته بشريك بن سحماء، فتلاعنا، وكان ذلك سنة تسع من الهجرة. وثانيهما: بلال بن أمية بن عامر الأنصاري، وخبرهما مرويّ في صحيح البخاري، ومسلم وغيرهما. (2) أي أنكر الرجل انتساب الولد إليه. (3) قوله: ففُرِّق، قال القاري: فيه تنبيه على أن التفرقة بينهما لا تكون إلاَّ بتفريق القاضي والحاكم، وقال زُفَر: تقع الفرقة بنفس تلاعنهما، وهو المشهور من مذهب مالك والمرويّ عن أحمد (وقال الشافعي: تقع الفرقة بلعان الزوج. الكوكب الدري 2/275) . (4) قوله: وأُلحق الولد بالمرأة، أي في النسب والوراثة فيرث ولد الملاعنة منها، وترث منه، ولا وراثة بين الملاعن وبينه، وبه قال جمهور العلماء. وفي حديث مكحول قال: جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ميراث ولد الملاعنة لأمِّه ولورثتها من بعده وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن واصلة مرفوعاً: تحرز المرأة ثلاثة مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت فيه. (5) فيكون نسبه منها لا منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 21 - (بَابُ مُتْعَةِ (1) الطَّلاقِ) 587 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لِكُلِّ مطلِّقة مُتْعة إلاَّ الَّتِي تُطَلَّقُ وَقَدْ فُرض لَهَا صَدَاق وَلَمْ تُمَسّ فحسبُها (2) نصفُ مَا فُرض لَهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (3) . وَلَيْسَتِ (4) الْمُتْعَةُ الَّتِي يُجبر عليها   (1) هي ما تُعطى المرأة عند الطلاق تتمتع بها حالاً. (2) أي كافيها نصف مهرها. (3) أي بل هي مستحبة جبراً لإِيحاش المرأة بالطلاق. (4) قوله: وليست المتعة ... إلى آخره، المطلقة لا يخلو إما أن تكون مدخولةَ أو غير مدخولة وعلى كل تقدير لا يخلو من أن يكون المهر مسمَّىً في العقد أو لم يكن مسمى فإن كانت غير مدخولة والمهر غير مسمى وجبت المتعة عندنا لقوله تعالى: {ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسُّوهن أو تفرضوا لهن فرضة ومتِّعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} (سورة البقرة: الآية 236) . فإن ظاهر الأمر للوجوب، وبه قال ابن عمر وابن عباس والحسن وعطاء وجابر بن زيد والشَّعبي والنخعي والزهري والثوري والشافعي في رواية، وعنه أنه يجب نصف مهر المثل. وقال مالك والليث وابن أبي ليلى: ليست بواجبة، بل مستحبة. وإن كانت غير مدخولة والمهر مسمى فلا متعة لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسُّوهُنَّ وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} (سورة البقرة: الآية 237) ، وفي الصورتين الباقيتين تُستحب المتعة. وعند الشافعي تجب المتعة لكل مطلقة إلاَّ لغير المدخولة، والمهر غير مسمى، وقال مالك: إنها مستحبة في الجميع، كذا في "البناية" وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 صَاحِبُهَا إلاَّ مُتْعَةً وَاحِدَةً، هِيَ مُتْعَةُ الَّذِي يطلِّق امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، وَلَمْ يَفرض (1) لَهَا، فَهَذِهِ لَهَا الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ، يُؤْخَذُ بِهَا فِي الْقَضَاءِ، وَأَدْنَى (2) الْمُتْعَةِ لِبَاسُهَا فِي بَيْتِهَا: الدِّرْعُ (3) والملحَفة والخِمار. وَهُوَ قولُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله.   (1) أي لم يعين لها مهراً عند العقد. (2) قوله: وأدنى المتعة (قال الموفق: إن المتعة معتبرة بحال الزوج في يساره وإعساره، نص عليه أحمد وهو وجه لأصحاب الشافعي، والوجه الآخر قالوا: معتبرة بحال الزوجة ... ثم اختلفت الرواية عن أحمد فيها فروي عنه أعلاها خادم، هذا إذا كان موسراً، وإن كان فقيراً متَّعها كسوتها درعاً وخماراً وثوباً تصلي فيه ونحو ذلك. قال الثوري: والأَوْزاعي وعطاء ومالك وأبو عبيد وأصحاب الرأي قالوا: درع وخمار وملحفة، والرواية الثانية يُرجع إلى تقدير الحاكم وهو أحد قولي الشافعي، انظر أوجز المسالك 10/161) ، التقدير بثلاثة أثواب مرويّ عن عائشة وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي، وهي درع وملحفة وخمار، فالدرع بالكسر هو القميص، والخمار ما تغطي به رأسها، والمِلْحفة - بكسر الميم - الملاءة، تلتحف به المرأة، وقال في "المغني": أعلاها خادم، يُروى ذلك عن ابن عباس وأدناها كسوة تجوز فيها الصلاة، فإن كان فقيراً يمتِّعها درعاً وخماراً وثوباً تصلّي فيه، كذا في "البناية". (3) بيراهن زن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 22 - (بَابُ مَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ مِنَ الزِّينَةِ فِي الْعِدَّةِ) 588 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ صفيَّة (1) بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا وَهِيَ حَادٌّ (2) عَلَى عَبْدِ اللَّهِ (3) بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمْ تَكْتَحِلْ حَتَّى كَادَتْ عَيْنَاهَا أَنْ ترمَصَا (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لا يَنْبَغِي أَنْ تَكْتَحِلَ بِكُحْلِ الزِّينَةِ وَلا تدَّهن (5) وَلا تتطيَّب، فَأَمَّا (6) الذُّرُور وَنَحْوُهُ فَلا بَأْسَ بِهِ، لأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِزِينَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.   (بالفارسية) . (1) زوجة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (2) قوله: وهي حادّ (حادّ: بغير هاء لأنَّه نعت للمؤنث، لا يشركه فيه المذكَّر كطالق وحائض. شرح الزرقاني 3/235) ، يقال حدَّ يحدُّ حداداً، وحداد المرأة ترك الزينة بعد وفاة زوجها. (3) قوله: على عبد الله، قال الزرقاني: لا منافاة بينه وبين ما في الصحيحين أن ابن عمر رجع من الحج، فقيل له: إن صفية في السياق، فأسرَعَ السير، وجمع جمع تأخير وكان ذلك في إمارة ابن الزبير لأنها عُوفيت، ثم مات زوجها في حياتها كما ههنا. (4) قوله: أن ترمَصا، بفتح الميم وبصاد مهملة، من الرمص وهو الوسخ الذي يجمد في موق العين. (5) لأن الدهن لا يخلو عن نوع طيب. (6) قوله: فأمَّا الذُّرور، بضم الذال المعجمة هو ما يذرُّ في العين ونحوه للدواء فلا بأس به، قاله القاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 589 - أخبرنا مالك، حدثنا نافع، عن صفيَّة بنت أَبِي عُبيد، عَنْ حَفْصَةَ أَوْ عَائِشَةَ أَوْ عَنْهُمَا (1) جَمِيعًا: أَنّ (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يحلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيْت فَوْقَ ثلاثِ ليالٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يَنْبَغِي (3) لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحِدَّ على زوجها   (1) قوله: أو عنهما، عند يحيى: عن حفصة وعائشة، وكذا لأبي مصعب ولابن بكير والقعنبي وآخرين عن عائشة أو حفصة على الشك، كذا في "التنوير". (2) قوله: أن رسول الله قال لا يحلُّ لامرأة ... إلخ، هذا الحديث روي من رواية جماعة. فأخرج الجماعة إلاَّ الترمذي عن أم عطية مرفوعاً: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث ليال إلاَّ على زوج أربعة أشهر وعشراً ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلاَّ ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمسّ طيباً إلاَّ إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار. وأخرج الجماعة إلاَّ ابن ماجه عن أم حبيبة أنه لما توفي أبوها أبو سفيان دعت بالطيب، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب حاجة غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد ... الحديث، وأخرجه مسلم من حديث حفصة وعائشة وزينب كما بسطه الزيلعي وغيره. (3) قوله: ينبغي، أي يجب فإن الإِحداد على المعتدة سواء كانت مطلقة مبتوتة بالطلاق الواحد البائن أو الثلاث، وكذا المختلعة فإن الخلع طلاق بائن أو كانت توفي عنها زوجها. ووافقنا في الثانية الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال الشعبي والحسن والحكم بن عيينة بعدم الوجوب، ووافقنا في الأولى الشافعي (قال الحافظ: الأصح عند الشافعية أن لا إحداد على المطلقة، أما الرجعية فالإِحداد عليها إجماعاً، وإنما الاختلاف في البائن فقال الجمهور: لا إحداد عليها وقالت الحنفية: عليها الإِحداد، وبه قال بعض الشافعية والمالكية، والمطلقة قبل الدخول لا إحداد عليها اتفاقاً. انظر فتح الباري 9/486) في رواية، وأحمد في رواية، وخالفا في رواية أخرى، كذا ذكره العيني في "البناية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 حَتَّى تَنْقَضِيَ عدَّتها، وَلا تتطيَّب (1) وَلا تدَّهن لِزِينَةٍ، وَلا تَكْتَحِلُ لِزِينَةٍ، حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 23 - (بَابُ (2) الْمَرْأَةِ تَنْتَقِلُ مِنْ مَنْزِلِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عدَّتها مِنْ مَوْتٍ أَوْ طَلاقٍ) 590 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرني (3) يحيى بن سعيد، عن   (1) بيان لما ينبغي في الحداد. (2) قوله: باب المرأة ... إلخ، اختلف العلماء في هذا الباب، فذهب عمر بن الخطاب من الصحابة وآخرون، وبه قال أصحابنا للمطلقة المبتوتة النفقة والسكنى في العدة وإن لم تكن حاملاً، أما النفقة للحامل فلقوله تعالى: {وإن كنَّ أولاتِ حملٍ فأنفقوا عليهنَّ حتى يضعن حملهن} (سورة الطلاق: الآية 6) . وأما غير الحامل فالسكنى لقوله تعالى: {أسكنوهنَّ من حيث سكنتم من وُجْدكم} (سورة الطلاق: الآية 6) والنفقة لأنها محبوسة عليه، وقال ابن عباس وأحمد: لا نفقة لها ولا سكنى، وحجتهم حديث فاطمة بنت قيس. وقال مالك والشافعي وغيرهما: يجب السكنى للآية دون النفقة لحديث فاطمة. وأما المتوفَّى عنها زوجها فلا نفقة لها بالإِجماع، والأصح وجوب السكنى، وأما المطلقة الرجعية فيجب لها النفقة والسكنى (انظر: أوجز المسالك 10/184) ، كذا ذكره النووي في "شرح صحيح مسلم". (3) في نسخة: أخبرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَهُمَا يذكرانِ أَنَّ يَحْيَى (1) بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ طلَّق بِنْتَ (2) عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) بْنِ الحَكَمِ البتَّةَ، فَانْتَقَلَهَا (4) عبدُ الرَّحْمَنِ، فأرسلَتْ عائشةُ (5) إِلَى مَرْوَانَ (6) وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ: اتَّق اللَّهَ واردُدْ المرأةَ إِلَى بَيْتِهَا (7) ، فَقَالَ مَرْوَانُ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ (8) غَلَبَنِي (9) ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ: أوَما بَلَغَكِ (10) شأنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قيس؟   (1) قال الزرقاني: تابعي ثقة، مات في حدود سنة 80 هـ. (2) قال ابن حجر في "مقدمة الفتح": أظنها عَمْرة. (3) هو أخو مروان بن الحكم بن العاص. (4) أي نقلها أبوها إلى مكانه. (5) أم المؤمنين. (6) وهو عم المرأة المطلقة. (7) أي لتعتدَّ فيه. (8) هذا مقول قول مروان في رواية سليمان بن يسار. (9) أي لم أقدر على منعها. (10) هذا قول مروان في رواية القاسم، قوله: أَوَما بلغك شأن فاطمة؟ هي بنت قيس بن خالد القرشية الفهرية أخت الضحاك بن قيس كانت من المهاجرات وزوجها أبو عمرو بن حفص بن عمرو بن المغيرة القرشي المخزومي، قيل: اسمه عبد المجيد، وقيل: أحمد، وقيل: اسمه كنيته، وكان خرج مع علي بن أبي طالب لما بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن، فبعث من هناك بتطليقة لفاطمة وكانت آخر تطليقاته، ثم خطبها معاوية وأبو جهم وحذيفة، فاستشارت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأشار عليها بأسامة بن زيد، فتزوجت به، كذا ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب". وأشار مروان بشأن فاطمة إلى ما روي عنها أنها قالت: طلَّقني زوجي ثلاثاً فخاصمته إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 قَالَتْ عَائِشَةُ: لا يَضُرُّكَ (1) أَنْ لا تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ، قَالَ مَرْوَانُ: إِنْ كَانَ بكِ الشَّرُّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشرِّ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أن تنتقل من منزلها   رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتدَّ في بيت ابن مكتوم، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والطبراني وغيرهم مطوَّلاً ومختصراً. فإن خبرها هذا يدل على أن السكنى والنفقة ليستا بواجبتين إلاَّ للمطلَّقة الرجعية لا للمطلقة البائنة، بل ورد صريحاً في بعض طرق حديثها عند الطبراني: فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اسمعي يا بنت قيس، إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت عليها رجعة، فإذا لم تكن عليها رجعة فلا نفقة لها ولا سكنى. وهذه الزيادة إن ثبتت كانت أيضاً في الباب لكنها لم تثبت كما بسطه الزيلعي وغيره. (1) قوله: لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة، لأنه لا حجة فيه لأنه كان لعلة. وفي البخاري: عابت عائشة على فاطمة بنت قيس أشدَّ العيب وقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك رخَّص لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الانتقال. ولأبي داود عن سليمان بن يسار: إنما كان ذلك من سوء الخلق، فقال مروان لعائشة: إن كان بك الشر أي إن كان عندك أن سبب خروج فاطمة ما وقع بينها وبين أقارب زوجها من الشر فحسبك، أي يكفيك في جواز انتقال عمرة ما بين هذين أي عمرة ويحيى بن سعيد من الشر المجوِّز للانتقال، كذا في "شرح الزرقاني". (2) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال جمع من الصحابة، وروي ذلك مرفوعاً أيضاً بسند ضعيف. فعن ابن مسعود وعمر قالا: المطلقة ثلاثاً لها السكنى والنفقة، أخرجه الطبراني في معجمه عن علي بن عبد العزيز، نا حجاج، نا أبو عوانة، عن سليمان، عن إبراهيم عنهما. وعن جابر قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: للمطلقة ثلاثاً السكنى والنفقة، أخرجه الدارقطني في "سننه" عن حرب بن أبي العالية، عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 الَّذِي طلَّقها فِيهِ زوجُها طَلاقًا بَائِنًا (1) أَوْ غَيْرَهُ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عدَّتها. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فُقَهَائِنَا. 591 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَةَ (2) سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ نُفَيْلٍ طُلِّقت البتَّة، فَانْتَقَلَتْ (3) ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ. 592 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سَعْدُ (4) بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بن   أبي الزبير، عن جابر. قال عبد الحق في "أحكامه": حرب لا يُحتجُّ به، ضعَّفه يحيى بن معين في رواية عنه والأشبه وقفه على جابر. وأخرج الترمذي عن عمر (وقد أنكر عمر رضي الله عنه بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه منكر. بذلك المجهود 11/33) ، أنه كان يجعل لها النفقة والسكنى، كذا في "نصب الراية" وقد مرَّ بعض ما يتعلق بهذا المبحث سابقاً. (1) واحداً كان أو أكثر. (2) قوله: أن ابنة سعيد، هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل - بضم النون - العدوي أحد العشرة المبشرة وكانت تحت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي، لقبه المطرف بسكون الطاء وفتح الراء، كذا في الزرقاني. (3) من بيت طُلِّقت فيه. (4) قوله: أخبرنا سعد، قال السيوطي في "الإِسعاف": وسعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة القضاعي المدني حليف الأنصار وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما، ومات بعد سنة 140، وعمتها زينب بنت كعب زوجة أبي سعيد الخدري وثّقها ابن حبان. انتهى. وفي "موطأ يحيى" مالك عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته ... إلخ، قال ابن عبد البر: عند أكثر الرواة سعد بسكون العين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 عُجْرة، عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ ابْنَةِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ الفُرَيْعة (1) بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنان (2) وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدريّ أَخْبَرَتْهُ (3) : أَنَّهَا أتت   وهو الأشهر، وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة، قال الترمذي حسن صحيح، وأحمد وإسحاق بن راهوية وأبو داود الطيالسي والشافعي وأبو يعلى، وأخرجه الحاكم من طريق سعد بن إسحاق المذكور، ومن طريق إسحاق بن سعد بن كعب بن عجرة عن عمّته زينب وقال: هذا الحديث صحيح الإِسناد من الوجهين جميعاً ولم يخرجاه، وقال محمد بن يحيى الذهلي: هو حديث صحيح محفوظ وهما اثنان سعد بن إسحاق، وهو أشهرهما وإسحاق بن سعد، وقد: رَوى عنهما جميعاً يحيى بن سعيد الأنصاري فارتفعت عنهما الجهالة. انتهى. كذا في "نصب الراية". وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" أعلّه عبد الحق في أحكامه تبعاً لابن حزم بجهالة حال زينب، وبأن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة، وتعقبه ابن القطان بأن سعداً وثقه النسائي وابن حبان، وزينب وثقها الترمذي، قلت: وذكرها ابن فتحون وابن الأثير في الصحابة. وقد رَوى عن زينب غير سعد، ففي مسند أحمد من رواية سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة عن عمته زينب، وكانت تحت أبي سعيد عن أبي سعيد حديث في فضل عليّ رضي الله عنه. انتهى. (1) بضم الفاء وفتح الراء، سماها بعض الرواة عند النسائي الفارعة، وعند الطحاوي الفرعة. قوله: أنَّ الفريعة، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري، يقال لها الفارعة، شهدت بيعة الرضوان، وأمها حبيبة بنت عبد الله بن سلول روت حديثها زينب بنت كعب بن عجرة في سكنى المتوفّى عنها زوجها، استعمله أكثر فقهاء الأمصار. (2) بكسر السين. (3) قوله: أخبرته، كذا في عدة نسخ من هذا الكتاب، قال القاري: أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدرة (1) ، فَإِنَّ زَوْجِي خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُد (2) لَهُ أَبَقُوا (3) حَتَّى إِذَا كَانَ بِطَرَفِ (4) القَدُّوم (5) أَدْرَكَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، فَقَالَتْ: (6) فسألتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يأذنَ لِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فِي بَنِي خُدرة فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلا نَفَقَةٍ (7) فَقَالَ: نَعَمْ. فخرجتُ (8) حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِالْحُجْرَةِ دَعَانِي أَوْ (9) أَمَرَ مَنْ دَعَانِي، فدُعيتُ (10) لَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ قلتِ؟ فرددتُ (11) عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذكرتُ له، فقال: امكثي (12) في بيتك   أخاها. انتهى. وليس بظاهر فإن هذه القصة روتها زينب عن الفريعة لا عن أبي سعيد والظاهر ما في "الموطأ" ليحيى: أخبرتها أي زينب. (1) بالضم قبيلة. (2) بفتح الهمزة فسكون فضم: جمع العبد. (3) بفتح الموحدة أي هربوا. (4) بطريق. (5) قال ابن الأثير: بالفتح والتشديد: موضع على ستة أميال من المدينة. (6) الفريعة. (7) أي ولا في نفقة. (8) أي بعد قوله عليه السلام: نعم. (9) شك من الفريعة. (10) أي نوديت وطلبت عنده. (11) أي أعدتُ عليه ما قلتُه سابقاً. (12) أي اسكني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 حَتَّى (1) يبلُغَ الْكِتَابُ (2) أجلَه، قَالَتْ: فاعتددتُ (3) فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ أَمْرُ عُثْمَانَ (4) أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ (5) . 593 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا وَهِيَ فِي بيت بكَراءٍ،   (1) قوله: حتى يبلغ الكتاب أجله، أي حتى تنقضي العدة وهو اقتباس عن قوله تعالى: {ولا تعزموا عُقْدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} (سورة البقرة: الآية 235) ، ونظائر الاقتباس في الأخبار كثيرة ولا عبرة لقول من كرهه كما بسطه السيوطي في الإِتقان في علوم القرآن. (2) يعني المكتوبة أي العدة. (3) قوله: فاعتددت ... إلخ، قال البغوي: من قال بوجوب السكنى قال: إن أمره صلّى الله عليه وسلّم لفريعة أولى بالرجوع إلى أهلها صار منسوخاً بقوله آخراً: امكثي في بيتك، ومن لم يوجب السكنى قال: أمرها بالمكث استحباباً لا وجوباً. انتهى. ولا يخفى أن سياق القصة يقتضي أن الأمر للوجوب. وأما ما أخرجه الدارقطني عن محبوب عن أبي مالك النخعي عن عطاء عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر المتوفّى عنها زوجها أن تعتدّ حيث شاءت، فقال الدارقطني فيه: لم يسنده غير أبي مالك، وهو ضعيف، وقال ابن القطان: ومحبوب بن محرر أيضاً ضعيف وعطاء مخلط وأبو مالك أضعفهم، ذكره الزيلعي. (4) أي زمان خلافته. (5) أي حكم به عثمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 عَلَى مَنِ الكرَاء (1) ؟ قَالَ: عَلَى زَوْجِهَا، قَالُوا: فإنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ زَوْجِهَا؟ قَالَ: فَعَلَيْهَا (2) ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا؟ قَالَ: فَعَلَى الْأَمِيرِ (3) . 594 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَسْكَنِ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ طَرِيقُهُ (4) فِي حُجْرَتِهَا، فَكَانَ يَسْلُكُ الطَّرِيقَ الأُخْرَى مِنْ أَدْبَارِ (5) الْبُيُوتِ إِلَى الْمَسْجِدِ، كَرَاهَةَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهَا (6) حَتَّى رَاجَعَهَا (7) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا يَنْبَغِي (8) لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ مَنْزِلِهَا الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ زوجُها، إِنْ كَانَ الطلاقُ بَائِنًا أَوْ غيرَ بَائِنٍ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدّتُها. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا.   (1) أي على من يجب عليه كراء البيت. (2) أي فعلى المرأة. (3) أي من بيت المال. (4) أي طريق ابن عمر إلى المسجد كان من حجرة حفصة. (5) بالفتح جمع دُبُر - بضمتين - أي من خلف البيت. (6) فيه الموافقة للباب، فإنه يدل على أن المطلقة اعتدَّتْ في بيت حفصة. (7) دل هذا على أن طلاقه كان رجعيّاً. (8) قوله: لا ينبغي للمرأة ... إلخ، وأما حديث فاطمة بنت قيس أنه طلقها زوجها ثلاثاً فلم يفرض لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النفقة والسكنى، فقد أنكر عليها ذلك الخَبرَ جمعٌ من الصحابة، فلم يبق مما يُعتمد عليه حق الاعتماد. وقال بعضهم: إن ذلك كان لعذر، وسبب خاصّ كان بفاطمة لا عامّ، فأخرج أبو مسلم عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 24 - (بَابُ عِدَّةِ أُمِّ (1) الْوَلَدِ) 595 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: عِدَّةُ أمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوفي عَنْهَا سيّدُها حيضة (2) .   أبي إسحاق قال: حدث الشعبي بحديث فاطمة فأخذ الأسود كفّاً من حصى، فحصبه به فقال: ويلك تحدِّث بمثل هذا، قال عمر: لا ندع كتابَ ربِّنا ولا سنّة نبيّنا بقول امرأة لا ندري أنها حفظت أم نسيت، وزاد الترمذي فيه: وكان عمر يجعل لها النفقة والسكنى، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: ما لفاطمة خير أن تذكر هذا، يعني قوله لا سكنى ولا نفقة، وفي لفظ البخاري: قالت: ما لفاطمة ألا تتّقي الله؟ وفي لفظ: أن عروة بن الزبير قال: ألم تسمعي من قول فاطمة؟ فقالت عائشة: ليس لها خير، وعند النسائي من طريق ميمون ابن مهران قال: قدمت المدينة فقلت لسعيد بن المسيب: إن فاطمة بنت قيس طُلِّقت فخرجت من بيتها؟ فقال: إنها كانت لَسِنَةً. ولأبي داود من طريق سليمان بن يسار: أن ذلك كان لسوء الخُلُق. وله أيضاً عن هشام عن أبيه: أن فاطمة عابت عليها عائشة أشدَّ العيب وقالت: إنها كانت في مكان وحش فخيف عليها ناحيتها. فلذلك رخَّص لها النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأما قول ابن حزم: إن الراوي أبو الزناد عن هشام ضعيف جداً، فقد تُعُقِّب فيه بأن من طَعَن فيه لم يذكر ما يدل على ترك روايته، وقد جزم يحيى بن معين بأنه أثبت الناس في هشام بن عروة. وقد رد عليها زوجها أسامة بن زيد أيضاً، وهو الذي تزوجت به باستشارة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كذا في "شرح مسند الإِمام" و"فتح الباري" وغيرهما. (1) هي الجارية التي ولدت من سيدها، فإنها بعد وفاة سيدها تصير حرّة. (2) قوله: حيضة، أي واحدة، وبه قال الشافعي ومالك إلا أنها إذا لم تحض فشهر عند الشافعي وأشهر عند مالك، وبه قال أحمد. وقال أصحابنا: عدّتها عدة حرة وبه قال علي وابن سيرين وعطاء أخرجه الحاكم كذا قال القاري. ويؤيد الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 596 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (1) الْحَسَنُ بْنُ عُمارة (2) ، عَنِ الحكم بن   ما أخرجه ابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد قال: سمعت القاسم، وذُكر له أن عبد الملك بن مروان فرَّق بين نساء ورجالهن (أي ماتوا عنهن فعتقن لذلك. كذا في "الأوجز": 10/257) - كنّ أمهات أولاد نكحن بعد حيضة أو حيضتين - حتى تعتدن أربعة أشهر وعشراً، فقال: سبحان الله، إن الله يقول في كتابه: {والذين يُتَوَفَّوْنَ منكم ويذرون أزواجاً} (سورة البقرة: الآية 240) أتراهن من الأزواج (فكيف يعتدون عِدّة الأزواج، قال الباجي: وقول القاسم: يقول الله في كتاب ... إلخ. إنما يصح أن يحتج به على من يوجب ذلك من الآية ويتعلق بعمومها، فيصح من القاسم أن يمنعه من ذلك، ويقول: إن اسم الأزواج لا يتناول أمهات الأولاد، وإنما يتناول الزوجات. وأما من لم يتعلق بذلك فلا يصح أن يحتج عليه بما قال القاسم لجواز أن يثبت هذا الحكم لهن من غير الآية بقياس أو غير ذلك من أنواع الأدلة ويحتمل أن يكون القاسم يتعلق بدليل الخطاب من الآية. المنتقى 4/140) . ويؤيد الثاني ما أخرجه ابن أبي شيبة نا عيسى بن يونس عن الأَوْزاعي عن يحيى بن أبي كثير أن عمرو بن العاص أمر أمَّ ولد أعتقت أن تعتدّ بثلاث حيض، وكتب إلى عمر فكتب إليه بحسن رأيه. وأخرج أيضاً عن علي وعبد الله قالا: ثلاث حيض إذا مات عنها يعني أم الولد. وروى ابن حبان في صحيحه عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي في سننهمها، كذا ذكره الزيلعي. (1) في نسخة: أخبرنا. (2) بضم العين وتخفيف الميم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 عُيَيَنة (1) ، عَنْ يَحْيَى (2) بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلاثُ حِيَضٍ. 597 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ (3) بْنِ يَزِيدَ، عَنْ رَجَاءِ (4) بْنِ حَيْوَة، أَنَّ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سُئِلَ عَنْ عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ؟ فَقَالَ: لا تُلبِسُوا (5) عَلَيْنَا فِي دِينِنَا إنْ تكُ (6) أَمَةً فَإِنَّ عدّتها عدة حُرّةٍ (7) .   (1) هكذا في النسخ والصحيح: عتيبة. (2) قوله: عن يحيى بن الجزّار، بفتح الجيم وتشديد الزاي المعجمعة، بعد الألف وراء مهملة، قال في "التقريب" و"الكاشف": يحيى بن الجزار العُرَني - بضم المهملة وفتح الراء ثم نون - الكوفي، قيل اسم أبيه زبان - بزاي وموحدة - روى عن علي وعائشة، وعنه الحكم والحسن العرني، ثقة، صدوق رُمي بالغلوّ في التشيع. (3) قوله: عن ثَوْر بن يزيد، بفتح الثاء المثلّثة وسكون الواو، ابن زياد الكلاعي، ويقال الرجبي أبو خالد الحمصي، روى عن مكحول ورجاء بن حَيْوة وعطاء وعكرمة وغيرهم. وعنه السفيانان ومالك وغيرهم، وثّقه ابن سعد وأحمد ابن صالح، ودحيم ويحيى بن سعيد ووكيع وغيرهم، مات سنة 55، كذا في "تهذيب التهذيب". (4) قوله: عن رجاء، بالفتح، قال في "التقريب": رجاء بن حَيْوَة - بفتح المهملة وسكون التحتانية وفتح الواو - الكندي الفلسطيني، ثقة، فقيه، مات سنة 112. (5) أي لا تخلطوا علينا أمر شرعنا. (6) أي في ابتداء حالها. (7) لأنها صارت حرة بعد موت سيدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعي وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 25 - (بَابُ الخَلِيّة وَالْبَرِيَّةِ وَمَا يُشْبِهُ (1) الطَّلاقَ) 598 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الخَلِيّة (2) والبَرِيّة (3) ثَلاثُ (4) تَطْلِيقَاتٍ كل واحدة منهما.   (1) قوله: وما يشبه الطلاق، أي من نحو بتّة وبتلة وحرام وغيرها من كنايات الطلاق التي لا يقع الطلاق فيها إلا بالنية، وقد اختُلف فيها، فقال الشافعي في الجديد: إن لفظ الطلاق والفراق والسراح صريح لورود ذلك في القرآن وما سواه كناية، وقال في القديم عنه: إن الصريح هو لفظ الطلاق وما يؤدي معناه وما سواه كناية، وقد رجح جماعة من الشافعية هذا القول وهو قول الحنفية، كذا في "فتح الباري". (2) بفتح الخاء وكسر اللام وتشديد الياء. (3) بفتح الباء وكسر الراء وتشديد الياء التحتانية. (4) قوله: ثلاث تطليقات، قال القاري: هذا محمول على ما إذا نوى الثلاث فأما إذا لم ينو شيئاً أو نوى واحدة أو اثنتين يقع واحدة بائنة، وقال مالك والشافعي وأحمد: يقع بها رجعي إن لم ينوِ الثلاث. والمسألة مختلفة بين الصحابة، فقال عمر وابن مسعود: الواقع رجعي، وقال علي وزيد بن ثابت: الواقع بها بائن. انتهى. وفي "موطأ يحيى" (2/29. (يُدَيّنُ) ببناء المجهول من التديين أي يوكله إلى دينه ويصدَّق ديانة فيما بينه وبين الله. (أُحلف) من الإِفعال (لا يُخلي) بضم التحتانية وسكون الخاء وكسر اللام. بضم أولها مضارع من الإِخلاء (لا يُبينها ولا يُبرئها) بضم أولها مضارع من الإِبانة والإِبراء. كما في الأوجز 10/28) : قال مالك في الرجل يقول لامرأته أنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 599 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ رجلٌ تَحْتَهُ وَلِيدَةٌ (1) فَقَالَ لأَهْلِهَا: شأنَكم (2) بِهَا؟ قَالَ الْقَاسِمُ: فَرَأَى (3) النَّاسُ (4) أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا نَوَى الرَّجُلُ بالخَليّة (5) وَبِالْبَرِيَّةِ ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَهِيَ ثَلاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَإِذَا أَرَادَ بِهَا وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنٌ، دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا.   خَلِيّةٌ أو بريّةٌ أو بائنةٌ: إنّها ثلاثُ تطليقاتٍ للمرأة التي قد دخل بها، ويُدَيَّنُ في التي لم يدْخُل بها وَاحِدَةً أراد أم ثلاثاً، فإن قال: واحدة أُحْلِفَ على ذلك وكان خاطباً من الخُطَّابِ لأنّه لا يُخْلِي المرأة التي قد دخل بها زوجُها ولا يُبِيْنُها ولا يُبْرِئُها إلاّ ثلاث تطليقات والتي لم يدخل بها تُخْلِيها وتُبْرِئها الواحدة (فاعل للكل. والمعنى أن هذه الألفاظ تدل على قطع الوصلة والعصمة بينهما، وقطع العصمة لا يتفق في المدخول بها إلاّ بالثلاث لأن قبلها يقدر الزوج على رجعتها متى شاء فهي باقية على عصمتها فلم تخل عنه ولم تبن ولم تبرأ منه. وغير المدخول بها تبين بواحدة. فإن ادعى ذلك وحلف عليه يُصَدَّق قوله لأن اللفظ يحتملها لتحقق البينونة حينئذ أيضاً. أوجز المسالك 10/28) . قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك. (1) أي جارية. (2) قوله: شأنكم بها، أي الزموها واملكوها شأنها، وهو بمعنى قول الرجل لأهله: الحقي بأهلك. (3) في نسخة: ورأى. (4) أي فقهاء ذلك العصر. (5) قوله: بالخلية والبرية، وكذا بقوله: أنت بائن، وبتّة، وبتلة، وحرام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 26 - (بَابُ الرَّجُلِ يُولَد لَهُ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ (1) الشَّبَه (2)) 600 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ (3) رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى رسولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، فقال:   والحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، ولا ملك لي عليك، وفارقتك، وأمرك بيدك، وأنت حرة، وتقنّعي، وتخمّري، واخرجي، وقومي، وابتغي الأزواج، إلى غير ذلك من ألفاظ الكنايات فإن نوى بها واحدة فواحدة بائنة، وإن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن نوى ثنتين فواحدة أيضاً. وقال زفر ومالك والشافعي: يقع ما نوى، وقال أحمد: هو عندي ثلاث، كذا في "الهداية" و"البناية". (1) أي على الولد. (2) بفتحتين أي مشابهة غيره. (3) قوله: أنَّ رجلاً من أهل البادية، قال الحافظ ابن حجر في "مقدمة فتح الباري": هو ضمضم بن قتادة، رواه عبد الغني في "المبهمات" وابن فتحون من طريقه وأبو موسى في "الذيل". ولم أعرف اسم امرأته، لكن في الرواية الأخرى أنها امرأة من بني عجل، وفي الحديث: أن نسوة من بني عجل تقدَّمْنَ فأخبرن أنه كان لها جَدّة سوداء. (1) أي لونه أسود مخالف للون أبويه، زاد في رواية الشيخين: وإني أنكرته (قال الحافظ ابن حجر: زاد في رواية يونس: وإني أنكرته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلامًا أَسْوَدَ (1) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا ألوانُها؟ قَالَ: حُمْر (2) ، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَاقٍ (3) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (4) فَبِمَا (5) كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُراه (6) نَزَعَهُ عِرْقٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فلعل ابنَك (7) نزعه عِرق.   أي استنكرته بقلبي، ولم يرد أنه أنكر كونه ابنه بلسانه وإلا لكان تصريحاً بالنفي لا تعريضاً. انظر بذل المجهود 10/419) . (2) قوله: حُمْر، بضم الحاء وسكون الميم جمع أحمر أي هي على لون الحمرة. (3) قوله: من أورق، أي آدم، كذا في "المُغرب" يعني أسمر اللون، وقيل: هو ما يكون فيه بياض إلى السواد ولونه يشبه الرماد. (4) قوله: قال فبما كان ذلك، وفي نسخة قال: فأنّى له ذلك؟ وفي رواية الصحيحين: فأَنَّى ترى ذلك جاءها؟ أي من أين جاءها هذا اللون وأبواها ليسا بهذا اللون. (5) أي فلِمَ كان هذا لونه أبويه خلافه. (6) قوله: قال أراه، أي أظنه، نزعه عِرق - بكسر العين وسكون الراء - أي قلعها وأخرجها من ألوان فحلها ولقاحها عرق، ويقال: الأصل يقال فلان له عرق في الكرم، والمعنى أن ورقها إنما جاء لأنه كان في أصوله البعيدة ما كان بهذا اللون فاختلط لونه، كذا في "شرح المشكاة" للقاري. (7) قوله: فلعل ابنك (قال الشوكاني: وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز للأب أن ينفي ولده بمجرد كونه مخالفاً له في اللون، وقد حكى القرطبي وابن رشد الإِجماع على ذلك، وتعقَّبهما الحافظ بأن الخلاف في ذلك ثابت عند الشافعية، فقالوا: إن لم ينضم إلى المخالفة في اللون قرينة زنا لم يجز النفي، فإن اتَّهمها فأتت بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز النفي على الصحيح عندهم، وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقاً. بذل المجهود 10/418) ، أفاد الحديث عدم جواز نفي الولد بمجرد الوهم والخيال من دون دليل قوي وفيه إثبات القياس والاعتبار وضرب الأمثال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ (1) أَنْ يَنْتَفِيَ (2) مِنْ وَلَدِهِ بِهَذَا وَنَحْوِهِ. 27 - (بابُ المرأةِ تُسْلِمُ قَبْلَ زوجِهَا) 601 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ أمَّ حَكِيمٍ (3) بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ كَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ (4) ، وَخَرَجَ (5) عِكْرِمَةُ هَارِبًا مِنَ الإِسلام حتى قدم اليمن،   (1) هذا متفق عليه. (2) في نسخة: ينفي. (3) قوله: أم حكيم، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": أم حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومي زوجة عكرمة، ذكر الواقدي: نا عبد الحميد بن جعفر نا أبي قال: كانت أم حكيم تحت عكرمة فقتل عنها بأجنادين، فاعتدّت وتزوجت بعده خالد بن سعيد بن العاص. وعكرمة بكسر العين وإسكان الكاف ابن أبي جهل عمرو بن هشام المخزومي وهو ابن عمها. (4) أي فتح مكة. (5) قوله: وخرج عكرمة، في رواية ابن مردويه والدارقطني والحاكم عن سعيد بن أبي وقاص: أن عكرمة لما ركب البحر أصابهم عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني شيئاً، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإِخلاص فلا ينجيني في البر غيره، اللَّهم إن لك عهداً عليّ إنْ عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده (في الأصل: يده في يدي، وهو تحريف) . وفي رواية البيهقي: أن امرأته قالت: يا رسول الله قد ذهب عكرمة إلى اليمن وخاف أن تقتله فآمِنْه، فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 فَارْتَحَلَتْ (1) أمُّ حَكِيمٍ حَتَّى قَدِمَتْ فَدَعَتْه إِلَى الإِسلام فَأَسْلَمَ، فَقَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَ (2) إِلَيْهِ فَرَحًا (3) وَمَا عَلَيْهِ رِدَاؤُهُ حَتَّى بَايَعَهُ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ فِي دَارِ الإِسلام لَمْ يفرَّق بَيْنَهُمَا حَتَّى يُعرض عَلَى الزَّوْجِ الإِسلام، فَإِنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ (5) وإنْ أَبَى (6) أَنْ يُسلم فُرِّق بَيْنَهُمَا وَكَانَتْ فُرْقَتُهُمَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً. وهو قول (7) أبي حنيفة وإبراهيم النَّخَعي.   هو آمن، فخرجتْ في طلبه، فأدركته، وركب سفينة وجاءت أم حكيم تقول: يا ابن عم، جئتك من عند أبرّ الناس وأوصل الناس وخير الناس، لا تُهلك نفسك، إني قد استأمنتُ لك رسولَ الله، فرجع معها وجعل يطلب جماعها فأبتْ، وقالت: أنا مسلمة وأنت كافر، فلما وافى مكة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: يأتيكم عكرمة مؤمناً فلا تسبوا أباه، فإن سبَّ الميت يؤذي الحيّ. (1) من مكة بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (2) أي قام إليه بسرعة. (3) بكسر الراء: صفة مشبهة، أو بفتح الراء: مصدر. (4) وقال له مرحباً بالراكب المهاجر. (5) أي باقية على ما كانت. (6) أي امتنع بعد العرض. (7) قوله: وهو قول أبي حنيفة، قال في "الهداية" و"البناية": إذا أسلمت المرأة وزوجها كافر عرض القاضي عليه الإِسلام، فإذا أسلم فهي امرأته وإن أبى عن الإِسلام فرَّق بينهما، وكان ذلك طلاقاً عند محمد وأبي حنيفة لا فسخاً لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 28 - (بَابُ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ) 602 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُروة بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: انتقلَتْ (1) حفصةُ (2) بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ دَخَلَتْ (3) فِي الدَّم مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فذكرتُ (4) ذَلِكَ لعَمْرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فقالَتْ: صَدَقَ عروةُ (5) ، وَقَدْ جادلَها (6) فِيهِ ناسٌ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {ثلاثة قروء} ، فَقَالَتْ: صدَقْتُم (7) ، وَتَدْرُونَ مَا الأَقْرَاءُ؟ إِنَّمَا الأقراءُ الأطهار (8) .   فات الإِمساك بالمعروف من جانبه فتعيَّن التسريح بإحسان، فإن طلَّق وإلا فالقاضي نائب منابه. وإن أسلم الزوج وتحته مجوسية عرض عليها الإِسلام، فإذا أسلمت فهي امرأته وإذا أبت فَرّق القاضي بينهما ولم تكن الفرقة طلاقاً، وقال أبو يوسف لا يكون طلاقاً في الوجهين (قد بسط الكلام على ذلك في الأوجز 9/415. وذكر فيه عدة مسائل في هذا الباب وِفاقية وخلافية. فارجع إليه) . (1) في "موطأ يحيى": أنها حفصة أي عائشة نقلت حفصة من بيت العدَّة. (2) زوجة المنذر بن العوّام. (3) أي شرعت. (4) هذا قول ابن شهاب، كذا صرح به في "موطأ يحيى". (5) أي فيما روى. (6) أي نازع عائشة. (7) أي في قراءتكم القرآن. (8) قوله: إنما الأقراء الأطهار، هو جمع قرءٍ وكذلك القروء، وهو بفتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   القاف وضمها لغتان حكاهما القاضي عياض وأشهرهما الفتح، وهو الذي اقتصر عليه أكثر أهل اللغة. واتفقوا على أنه من الأضداد، مشترك بين الحيض والطهر، ولهذا وقع الاختلاف بين الصحابة في تفسير القروء، وكذا ذكره النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" واختلاف الصحابة فيه على قولين، فمنهم من اختار أن القرء في الآية محمول على الطهر فتمضي العدة بمضيِّ ثلاثة أطهار وإن لم تنقض الحيضة الثالثة، منهم عائشة قالت: إنما الأقراء الأطهار، أخرجه عنها مالك والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والبيهقي، ومنهم ابن عمر وزيد بن ثابت كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي وابن جرير. وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي عن زيد قال: إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها، وحلَّتْ للأزواج، وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي عن عائشة قالت: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلَّت للأزواج، وأخرج مالك والشافعي والبيهقي عن ابن عمر، قال العيني. وبه قال الشافعي ومالك، وقال أحمد: كنت أقول بالأطهار، ثم رجعت إلى قول الأكابر (قال القاضي: الصحيح عن أحمد أن الأقراء: الحيض، وإليه ذهب أصحابنا ورجع عن قوله بالأطهار. انظر المغني 7/453) . انتهى. وذهب جمع من الصحابة إلى أن القرء هو الحيض، وقد بسط السيوطي رواياتهم في "الدر المنثور"، من ذلك ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي عن علقمة أن رجلاً طلق امرأته، ثم تركها حتى إذا مضت حيضتان، وأتاها الثالثة وقد قعدت في مغتسلها لتغتسل فأتاها زوجها، وقال: قد راجعتك ثلاثاً، فأتيا عمر بن الخطاب، فقال عمر لابن مسعود: ما تقول فيها؟ قال: أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من الثالثة ويحلُّ لها الصلاة، فقال عمر: وأنا أرى ذلك. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: أرسل عثمان بن عفان إلى أبيّ يسأله عن رجل طلَّق امرأته، ثم راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة فقال أبي: إني أرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 603 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ (1) . 604 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ (2) الأَحْوَصُ طلَّق امْرَأَتَهُ (3) ، ثُمَّ مَاتَ حِينَ دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثالثة، فقالت:   أنه أحق بها ما لم تغتسل. وأخرج البيهقي من طريق الحسن، عن عمر بن عبد الله وأبي موسى قالا: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. قال العيني: وبه قال الخلفاء الأربعة والعبادلة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت وأبو موسى الأشعري ومعبد الجهني، وهو قول طاوس وعطاء وابن المسيب، وسعيد بن جبير والحسن بن حَيّ وشريك القاضي والحسن البصري والثوري والأوزاعي وابن شبرمة وربيعة وأبي عبيدة ومجاهد ومقاتل وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي وإسحاق وأحمد وأصحاب الظاهر. انتهى. (1) أي كقول عمرة وعائشة. (2) قوله: يقال له الأحوص، بالحاء المهملة والصاد المهملة ابن عبد بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، ذكر ابن الكلبي والبلاذري: أنه كان عاملاً لمعاوية على البحرين. ومقتضاه أن يكون له صحبة وإنه عُمِّر لأن أباه مات كافراً، ومن ولده منصور بن عبد الله بن الأحوص له ذكر بالشام في أيام بني مروان، وكان ابنه عبد الله عاملاً أيضاً لمعاوية. وفي رواية ابن عيينة عن الزهري، عن سليمان بن يسار أن الأحوص بن فلان أو فلان بن الأحوص، قال ابن الحذّاء: الأقوى أن القصة للأحوص بن عبد، ويحتمل أن يكون لولده عبد الله، ولم يسمِّ في رواية الزهري، قاله في "الإصابة". وهذا الاحتمال لا يجري في رواية "الموطأ" فإن فيه تصريحاً باسم الأحوص، كذا في "شرح الزرقاني". (3) طلقة أو طلقتين كما في رواية ابن أبي شيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 أَنَا وَارِثَتُهُ (1) ، وَقَالَ بَنُوهُ: لا تَرِثِينَهُ (2) ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ فَضالة (3) بْنَ عُبيد وناساَ (4) مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ عِلْمًا فِيهِ، فَكَتَبَ إِلَى (5) زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَكَتَبَ إِلَيْهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَإِنَّهَا لا تَرِثُهُ وَلا يَرِثُهَا، وقد برأت مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهَا (6) . 605 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: انْقِضَاءُ العِدَّة عِنْدَنَا (7) الطَّهَارَةُ مِنَ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ إذا اغتسلت منها.   (1) أي لأنه مات وأنا في العدة. (2) أي لأنك خرجت من العدة، وفي نسخة لا ترثه. (3) قوله: فضالة، بالفتح، ابن عُبيد - بالضم - من الصحابة الأنصار شهد أحداً وما بعدها ثم انتقل إلى الشام وسكن بها وكان قاضياً لمعاوية، ومات بدمشق سنة 53، كذا في "الاستيعاب". (4) أي وعلماء آخرين. (5) أي إلى المدينة. (6) أي انقطعت العلاقة بينهما. (7) قوله: عندنا، قد عرفت أن المسألة مختلف فيها من عهد الصحابة إلى من بعدهم، لكن ما اختاره أصحابنا من أن المراد بالقرء في قوله تعالى: {ثلاثة قروء} الحيض، وأن انقضاء العمدة بالاغتسال من الحيضة الثالثة مرجَّح لوجوهٍ، منها: أنه موافق لحديث طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان. كما مرَّ ذكره في "باب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 606 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ (1) ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: أنَّ رجلاً امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً (2) يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى   الحرة تكون تحت العبد" فإنه يدل على أن المراد بالقرء الواقع في عدة المطلقات الحرة الحيض، وإلاَّ لكانت عدة الأمة طهرين لا حيضتين، فإن عدة الأمة نصف عدة الحرة، ولمّا لم يكن التجزّي للحيضة جعلت حيضتين، يدل عليه قول عمر: لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضاً ونصفاً فعلت، أخرجه عبد الرزاق والشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي في"كتاب المعرفة"، ومنها: أن الله تعالى بعد ما عمَّم المطلقات بقوله في سورة البقرة: {والمطلَّقات يتربَّصنَ بأنفسهن ثلاثة قروء} (سورة البقرة: الآية 228) ، قال في سورة الطلاق: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} (سورة الطلاق: الآية 4) ، فذكر فيه مقدار عدة الآيسة، وأشار بذكر المحيض إلى أن المراد بالقروء في الآية السابقة هو الحيض (لأن المعهود في لسان الشرع القرء بمعنى الحيض، ولم يعهد في لسانه استعماله بمعنى الطهر في موضع فوجب أن يحمل كلامه على المعهود في لسانه. انظر المغني 7/453) ، ومنها: أن الطلاق السنّي هو الطلاق في الطهر، فإن كان المراد بالقرء الطهر فإن احتسب الطهر الذي وقع فيه الطلاق كان المجموع أقل من ثلاثة قروء، وإن لم يحتسب كان أزيد منها، وهو خلاف قوله تعالى: {ثلاثة قروء} بخلاف ما إذا حُمل القرء على الحيض فإنه حينئذٍ لا يبطل مؤدى الثلاثة في الطلاق السنّي. وفي المقام أبحاث طويلة عريضة مذكورة في بحث الخاص من كتب الأصول. ومنها: أنه مذهب الخلفاء الأربعة والعبادلة وأكابر الصحابة فكان أولى بالقبول بالنسبة إلى قول أصاغر الصحابة. (1) ابن أبي سليمان. (2) أي طلاقاً رجعياً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 انْقَطَعَ دَمُهَا مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَدَخَلَتْ مُغْتَسَلَها (1) وَأَدْنَتْ (2) مَاءَهَا، فَأَتَاهَا (3) فَقَالَ لَهَا: قَدْ رَاجَعْتُكِ، فَسَأَلَتْ (4) عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ عُمَرُ: قُلْ فِيهَا بِرَأْيِكَ (5) ، فَقَالَ: أُراه (6) يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَقَّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: كُنَيْفٌ (7) مُلئ عِلْمًا. 607 - أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ (8) أَحَقُّ بِهَا حتى تغتسل من حيضتها الثالثة.   (1) على المفعول: أي مكان غسلها. (2) أي قرَّبت إليها ماءها لتغتسل. (3) زوجها. (4) تلك المرأة. (5) لعدم التصريح الصريح بذلك في الكتاب. (6) أي أظنه. (7) قوله: كُنيف ملئ علماً، قال القاري: الكِنف بكسر القاف وسكون النون وعاء آلات الراعي. والكُنَيْف - كزبير - لُقِّب به ابن مسعود تشبيهاً له بوعاء الراعي، والتصغير للمدح والتعظيم على ما في "المغرب" و"المصباح"، ولا يبعد أن يكون للتشبيه، فإن ابن مسعود كان قصيراً جداً، والمعنى بأنه كان صغيراً في المبنى إلاَّ أنه كبير في المعنى. (8) أي الزوج أحق بالمرأة للرجعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 608 - أَخْبَرَنَا عِيسَى (1) بْنُ أَبِي عِيسَى الْخَيَّاطُ الْمَدِينِيُّ (2) ، عَنِ الشَّعبي، عَنْ ثَلاثَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ قَالُوا: الرَّجُلُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى تَغْتَسِلَ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ. قَالَ عِيسَى: وَسَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ المسيَّب يَقُولُ: الرَّجُلُ أحقُّ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى تغتسلَ مِنْ حَيْضَتِهَا الثَّالِثَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   (1) قوله: عيسى بن أبي عيسى الخياط، قال الذهبي في "الكاشف": عيسى بن أبي عيسى الخياط، روى عن أبيه والشعبي وعدة، وعنه وكيع وابن أبي فديك وعدة، ضعَّفوه، وهو كوفي سكن المدينة، وكان خيّاطاً، وحنّاطاً يبيع (في الأصل: "يباع"، وهو خطأ) الحِنْطة، مات سنة 151. انتهى. وفي "التقريب": عيسى بن أبي عيسى الحنّاط الغفاري أبو موسى المديني أصله من الكوفة واسم أبيه ميسرة، ويقال فيه الخياط بالمعجمة والتحتانية، وبالموحدة وبالمهملة والنون، وكان قد عالج الصنائع الثلاثة (هو كان كوفياً، انتقل إلى المدينة، كان خياطاً ثم ترك ذلك وصار حنّاطاً ثم ترك ذلك وصار يبيع الخبط، متروك الحديث. انظر تهذيب التهذيب 8/224) ، متروك من السادسة، مات سنة إحدى وخمسين، وقيل قبل ذلك. (2) قوله: المديني، هو والمدني كلاهما نسبة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم والقياس حذف الياء، ومن أثبتها فهو على الأصل، وروى أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي في كتاب "الأنساب المتَّفقة في الخط المتماثلة في النقط والضبط" بإسناده إلى البخاري أنه قال: المديني بالياء هو الذي أقام بالمدينة ولم يفارقها، والمدني الذي تحول عنها وكان منها، كذا ذكره النووي في "شرح صحيح مسلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 2 - (بَابُ الْمَرْأَةِ يطلِّقها زَوْجُهَا طَلاقًا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ (1) فَتَحِيضُ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ تَرْتَفِعُ حَيْضَتُهَا) 609 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن (2) مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ: أنَّه (3) كَانَ (4) عند جَدَّه امرأتان   (1) أي طلا قاً رجعياً. (2) قوله: عن محمد بن يحيى بن حَبّان، بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة، هو مدني ثقة فقيه، قال: كانت عند جَدِّي حبّان بن منقذ بذال معجمة، الأنصاري المازني الصحابي، كذا قال الزرقاني. (3) ضمير الشان. (4) قوله: أنه كان عند جده ... إلخ، هذا الأثر في هذا الباب غير موافق لما عنون به الباب، فإن المقصود في الباب ذكر حكم من ارتفع حيضها بعد حيضة أو حيضتين، وفي هذه القصة زوجة حبان لم تكن آيسة ولا كان ارتفع حيضها بعد حيضة أو حيضتين فإنها إن كانت آيسة فقد مضت عدتها بعد ثلاثة أشهر من وقت الطلاق، فكيف يمكن أن يحكم بتوريثها من حبان، وكان موته عند رأس السنة من وقت الطلاق، بل كانت هي مرضعة عند الطلاق، والمرضعة لا تحيض، فعدتها كانت بالحيض، فما لم تحض لم تخرج من العدة، فلذلك ورثها عثمان. ويوضحه ما أخرجه الشافعي عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن رجلاً من الأنصار يقال له حبان بن منقذ طلَّق امرأته، وهو صحيح، وهي تُرضع ابنته، فمكثت سبعة عشر شهراً لا تحيض، يمنعها الرضاع أن تحيض، ثم مرض حبَان، فقلت له: إن المرأة تريد أن ترث، فقال لأهله: احملوني إلى عثمان، فحملوه إليه، فذكر له شأن امرأته وعنده علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت، فقال لهما عثمان: ما تريان؟ فقالا: نرى أنها ترثه إن مات، ويرثها إن ماتت، فإنها ليست من القواعد اللاتي (في الأصل: "التي"، وهو تحريف) قد يئسن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 هاشميةٌ (1) وأنصاريةٌ (2) فطلَّق الأنصارية و (3) هي تُرضع (4) ، وَكَانَتْ لا تَحِيضُ (5) وَهِيَ تُرضع فمرَّ بِهَا قَرِيبٌ مِنْ سَنَةٍ، ثُمَّ هَلِكَ (6) زَوْجُهَا حِبَّانُ عِنْدَ رَأْسِ السَّنَةِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَحِضْ، فَقَالَتْ: أَنَا أَرِثُه مَا لَمْ أَحِضْ (7) ، فَاخْتَصَمُوا (8) إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رضي الله عنه - فقضى لها   المحيض، وليست من الأبكار اللاتي (في الأصل: "التي"، وهو تحريف) لم يبلغن المحيض، ثم هي على عدة حيضها ما كان من قليل أو كثير، فرجع حبان إلى أهله وأخذ ابنته، فلما فقدت الرضاع حاضت حيضة، ثم حاضت حيضة أخرى، ثم توفي حبان قبل أن تحيض الثالثة، فاعتدت عدة المتوفَّى عنها زوجها وورثته، كذا أورده السيوطي في "الدر المنثور". ويمكن أن يقال المقصود في الباب ذكر حكم من تأخر أو ارتفع حيضها مطلقاً آيسة كانت أو غير آيسة، وما ذكره في عنوان الباب ليس قيداً احترازياً. (1) أي من قبيلة بني هاشم. (2) أي من قبيلة الأنصار. (3) الواو حالية. (4) حال آخر. (5) أي لأجل الرضاع. (6) أي مات. (7) لأنها لم تبلغ من الإِياس، فما دام لم تحض لم تنقض العدة (قال الباجي: وذلك أن ارتفاع حيض المطلَّقة يكون لسبب معروف أو غير معروف، فأما ما كان بسبب معروف كالرضاع والمرض فإنها تؤخر للرضاع فإنها لا تعتدُّ إلاَّ بالأقراء طال الوقت أو قصر، وقد احتج القاضي أبو محمد في ذلك بالإِجماع. المنتقى 4/87) . (8) أي ورثة حبان معها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 بِالْمِيرَاثِ فَلامَتِ الْهَاشِمِيَّةُ عُثْمَانَ (1) فَقَالَ: هَذَا عملُ ابنِ عمِّك (2) هُوَ أَشَارَ (3) عَلَيْنَا بِذَلِكَ، يَعْنِي (4) علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه. 610 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيط (5) وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ (6) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّمَا امرأةٍ طُلِّقَت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رُفِعَت (7)   (1) في حكمه بالتوريث. (2) خطاب إلى الهاشمية. (3) أي أشار علينا بهذا الحكم ابنُ عمِّك علي، ولست أنا بمتفرِّد ومستقلّ في هذا الرأي. (4) أي يريد عثمان بابن عمها علياً. (5) مصغراً. (6) قوله: قال عمر رضي الله عنه. . . إلخ، في "موطأ يحيى" وشرحه قال مالك: الأمر عندنا في المطلقة التي ترفع حيضتها أنها تنتظر تسعة أشهر، فإن لم تحض فيهن اعتدَّت ثلاثة أشهر بعد التسعة فإن حاضت قبل أن تستكمل الأشهر الثلاثة استقبلت الحيض لأنها صارت من ذوات القروء، فإن مرت بها تسعة أشهر قبل أن تحيض حيضة ثانية اعتدَّت ثلاثة أشهر، فإن حاضت الثانية قبل أن تستكمل أشهر الثلاثة استكملت عدَّة الحيض، وحلَّت، فإن لم تحض استكملت ثلاثة أشهر. ولزوجها عليها في ذلك أي مدة الانتظار والاستقبال الرجعة قبل أن تحل لبقاء عدتها إلاَّ أن يكون قد بتَّ طلاقها. انتهى. وفيه خلاف لأصحابنا كما بيَّنه المصنف بإيراد روايتين من غير طريق مالك. (7) بصيغة المجهول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 حَيْضَتُهَا فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ (1) تِسْعَةَ أَشْهُرٍ (2) فَإِنِ اسْتَبَانَ بِهَا حَملٌ فَذَلِكَ (3) وإلاَّ اعتدَّت (4) بَعْدَ التِّسْعَةِ ثلا ثة أَشْهُرٍ ثُمَّ حلَّت (5) . 611 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حنيفة، عن حماد (6) عن   (1) لإِتيان الحيضة. (2) لأنه غالب وضع الحمل. (3) أي فلا تحلُّ إلاَّ بوضع الحمل. (4) لما أنه علم حينئذٍ أنها آيسة. (5) أي خرجت من العدة (قال الباجي: التي تحيض في عدتها ثم ترفعها حيضتها تنتظر تسعة أشهر، وهو قول عامة أصحابنا على الإِطلاق غير ابن نافع فإنه قال: إن كانت ممن تحيض فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها فإنها تنتظر خمس سنين أقصى أمد الحمل، وإن كانت يائسة من المحيض اعتدَّت بالسنة تسعة أشهر ثم ثلاثة أقراء، قال سحنون: وأصحابنا لا يفرقون بينهما، وما قاله الجمهور أولى لأن التسعة أشهر هي أمد الحمل المعتاد، ثم قال: والمعتدة من الطلاق على ضربين: حائض وغير حائض، وأما الحائض فهي التي قد رأت الحيض ولو مرة في عمرها ثم لم تبلغ سنة الإِياس منها. فهذه إذا طلقت فحكمها أن تعتد بالأقراء، فإن لم ترَ حيضاً انتظرت تسعة أشهر، وهذا مذهب عمر رضي الله عنه، وبه قال ابن عباس والحسن البصري، وقال أبو حنيفة والشافعي: تنتظر الحيض أبداً، والدليل على ما نقوله أن هذا إجماع الصحابة لأنه روي عن عمر - رضي الله عنه - وابن عباس وليس في الصحابة مخالف. المنتقى للباجي 4/108. وبقول مالك قال أحمد وقال الشافعي في الجديد: تكون في عدّة أبداً حتى تحيض أو تبلغَ سن الإِياس فتعتد حينئذٍ بثلاثة أشهر، ومذهب أبي حنيفة في ذلك موافق لجديد قول الشافعي. انظر الأوجز 10/208) . (6) ابن أبي سليمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 إتراهيم (1) : أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ قَيْسٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلاقًا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا عَنْهَا ثَمَانِيَةَ (2) عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ مَاتَتْ (3) فَسَأَلَ علقمةُ عبدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ حَبَسَ (4) اللَّهُ عَلَيْكَ مِيرَاثُهَا فَكُله. 612 - أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى الْخَيَّاطُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ (5) : أَنَّ علقمةَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ (6) عَنْ ذَلِكَ (7) فَأَمَرَهُ بِأَكْلِ (8) مِيرَاثِهَا. قَالَ محمدُ: فَهَذَا (9) أَكْثَرُ (10) مِنْ تسعة أشهر وثلاثة أشهر بعدها،   (1) ابن يزيد النخعي. (2) قوله: ثمانية عشر شهراً، أخرجه البيهقي أيضاً عن علقمة بسند صحيح، وقال فيه: سبعة عشر شهراً أو ثمانية، ذكره ابن حجر في "التلخيص". (3) أي المرأة قبل أن تكمل العدة بالحيضة. (4) أي أوقفه لك بتطويل العدة. (5) اسمه عامر. (6) في بعض النسخ: ابن معمر. (7) أي عن حكم ما تقدم. (8) في نسخة: بأكله. (9) أي العدد المذكور في قصة علقمة. (10) قوله: أكثر، يشير به إلى معارضة فتوى عمر بفتوى ابن مسعود وابن عمر، فإن عمر أفتى في مثل ذلك بأنها تنتظر تسعة أشهر، ثم تعتدُّ بثلاثة أشهر وابن مسعود أفتى بعدم انقضاء العدة، وإن مضت ثمانية عشر شهراً من وقت الطلاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 فَبِهَذَا (1) نأخذُ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا، لأن (2) العدة   ما لم تحض، وذلك لأنها ليست بآيسة بل ارتفع حيضها بالرضاع أو غيره، فلا تخرج من العدة ما لم تحض. (1) أي بقول ابن مسعود. (2) قوله: لأن العدة ... إلخ، توجيه لترجيح فتوى ابن مسعود، وحاصله أن العدة المذكورة في كتاب الله على أربعة أوجه لأربعة أقسام، أحدها: العدة للحامل سواء كانت مطلقة أو متوفَّى عنها زوجها، وهي وضع الحمل في قوله تعالى: {وأولاتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أن يضعنَ حملهنَّ} (سورة الطلاق: الآية 4) وثانيها: العدة للآيسة التي أيست لِكَبرِها فارتفع حيضها. ثالثها: العدة للصغيرة التي لم تبلغ مبلغ الحيض، وهي ثلاثة قروء، في قوله تعالى: {والائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتُم فعدَّ تُهُنَّ ثلاثةُ أشهر واللائي لم يحضن} (سورة الطلاق: الآية: 4) . ورابعها: العدة للمطلقة التي تحيض وهي ثلاثة قروء في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (سورة البقرة: الآية 228) . وهذه كلها للمطلقة. ووجه خامس: وهو عدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل في قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربَّصنَ بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} (سورة البقرة: الآية 240) . وهذا الذي أفتى به عمر في المطلَّقة التي ارتفع حيضها بعد حيضة أو حيضتين من الانتظار إلى تسعة أشهر، ثم الاعتداد ثلاثة أشهر ليس بعدَّة الحائض ولا غيرها، فالقول ما قال ابن مسعود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 فِي كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ عَلَى أَرْبَعَةِ أوجهٍ لا خَامِسَ لَهَا (1) : لِلْحَامِلِ (2) حَتَّى تَضَعَ، وَالَّتِي لَمْ (3) تَبْلُغِ الْحَيْضَةَ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَالَّتِي (4) قَدْ يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَالَّتِي تَحِيضُ ثَلاثُ حِيَضٍ، فَهَذَا الَّذِي ذكرتُم (5) لَيْسَ بعدَّة الحائض ولاغيرها. 30 - (بَابُ عِدَّةِ الْمُسْتَحَاضَةِ (6)) 613 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ: عِدَّة المستحاضة سنة (7) .   (قال البيهقي: رجع الشافعي في "الجديد" إلى قول ابن مسعود رضي الله عنه، وحمل كلام عمر على كلام عبد الله، فقال: قد يحتمل قول عمر رضي الله عنه، أن يكون في المرأة قد بلغت السن التي من بلغها من نسائها يئسن من المحيض، فلا يكون مخالفاً لقول ابن مسعود - رضي الله عنه - وذلك وجه عندنا. انظر: أوجز المسالك 10/208) . (1) في نسخة: لهنَّ. (2) قوله: للحامل حتى تضع، سواء كانت مطالَقة أو متوفَّى عنها زوجها. (3) قوله: التي لم تبلغ الحيضة، إما لصِغَرها أو لبلوغها بالسن، فإنها إذا بلغت بالسن بخمس عشرة سنة فعدَّتها أيضاً بالشهور. (4) قوله: والتي قد يئست، أي لكبرها. واختُلف في سن الإِياس، فقال محمد في الروميات خمس وخمسون سنة، وفي المولدات ستون سنة، وعن أبي حنيفة من خمس وخمسين إلى ستين، وقال الزعفراني: خمسون سنة، وبه قال سفيان الثوري وابن المبارك، وقيل: سبعون سنة، وقيل غير مقدَّر بشيء، بل هو مختلف بحسب اختلاف البلاد والأوقات، كذا في "البناية". (5) من الاعتداد ثلاثة أشهر بعد انتظار تسعة أشهر. (6) قوله: المستحاضة، التي ترى الدم أكثر من أكثر الحيض أو أكثر من النفاس أو أقلّ من أقل الحيض. (7) قوله: سنة، به قال مالك في رواية، وفي أخرى أنَّه إن لم تُميِّز بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 قَالَ محمدٌ: الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا أَنَّ عدَّتها عَلَى أَقْرَائِهَا (1) الَّتِي كَانَتْ تَجْلِسُ فِيمَا مَضَى، وَكَذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا، أَلا تَرَى (2) أَنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا الَّتِي كَانَتْ تَجْلِسُ لأَنَّهَا فيهنَّ حَائِضٌ؟ فَكَذَلِكَ تعتدُّ بِهِنَّ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلاثَةُ قُرُوءٍ منهنَّ (3) بَانَتْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ أقلُّ مِنْ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ. 31 - (بَابُ الرَّضاع (4)) 614 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع: أن عبد الله بن عمر كان   الدمين فسنة. وإن ميَّزت فبالأقراء، ذكره الزرقاني (3/212) . (1) قوله: أقرائها، بالفتح أي أيام حيضها التي كانت اعتادت الحيض فيها قبل أن تبتلى بالاستحاضة (قال الموفق: في عدة المستحاضة لا تخلو إما أن يكون لها حيض محكوم به بعادة أو تمييز أولا تكون؟ فإن كان لها حيض محكوم به بذلك فحكمها فيه حكم غير المستحاضة إذا مرّت لها ثلاثة قروء فقد انقضت عدتها، قال أحمد: المستحاضة تعتدُّ أيام أقرائها التي كانت تعرف وإن علمت أن لها في كل شهر حيضة ولم تعلم موضعها فعدتها ثلاثة أشهر، وإن شكَّت في شيء تربصت حتى تستيقن أن القروء الثلاث قد انقضت، وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها أو ناسية لا تعرف لها وقتاً ولا تمييزاً فعن أحمد فيها روايتان إحداهما: أن عدتها ثلاثة شهور، والرواية الثانية: تعتدُّ سنة لا تدري ما رفعها وهو قول مالك وإسحاق. 1 هـ. انظر المغني 7/467) . (2) تأييد لكون العدَّة بالأيام المعتادة. (3) أي من تلك الأيام. (4) قوله : باب الرضاع، بفتح الراء وكسرها لغة، وقال القاضي عياض: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 يَقُولُ: لا رَضَاعَةَ إلاَّ لِمَنْ أُرضِعَ (1) فِي الصٍّغَر (2) . 615 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (3) ، عَنْ عَمرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا، وَإِنَّهَا سَمِعَتْ رَجُلا يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فقلتُ (4) :   الرضاع والرضاعة بفتح الراء وكسرها فيهما، وأنكر الأصمعيّ الكسر في الرضاعة، وهو مصُّ الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص وهو يفيد التحريم قليلاً كان أو كثيراً إذا حصل في مدة الرضاع، كذا روي عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس، وبه قال الحسن البصري وسعيد بن المسيب وطاوس وعطاء ومكحول والزهري وقتادة وعمرو بن دينار والحكم وحماد والأَوزاعي والثوري وابن المبارك والليث بن سعد ومجاهد والشعبي والنخعي، وقال ابن المنذر: هو قول أكثر الفقهاء، وقال النووي: هو قول جمهور العلماء وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، وقال الشافعي: لا يثبت التحريم إلاَّ بخمس رضعات، وبه قال أحمد في رواية وإسحاق، وعن أحمد ثلاث، ومدة الرضاع ثلاثون شهراً عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: سنتان، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال: زفر ثلاث سنين (بسط في البذل 10/42 في تقدير المدة التي يقتضي الرضاع فيه التحريم تسعة مذاهب للعلماء فارجع إليه لو شئت التفصيل) ، كذا في "البناية". (1) بصيغة المجهول. (2) أي لا يثبت الرضاعة في الكِبَر حكمها. (3) ابن محمد بن عمرو بن حزم. (4) كأنها استبعدت استئذان الأجنبي في بيت حفصة، فأخبرت مريدةً الاطِّلاعَ على حقيقة الأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ (1) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُراه (2) فُلانًا لعمٍّ (3) لِحَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَتْ (4) عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كَانَ عمِّي فُلانٌ مِنَ الرَّضَاعَةِ حَيًّا دَخَلَ علَيَّ؟ قال (5) : نعم (6) .   (1) الذي فيه حفصة. (2) أي أظنه. (3) قوله: لعمٍّ لحفصة، تفسير لفلاناً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم سماه أو ذكره بما تعرفه، ولم تذكر عائشة اسمه، ولا ما يعرف به في روايتها، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (فتح الباري 9/141) و"مقدمته": لم أقف على اسم عمِّ حفصة المذكور في هذه الرواية، وكذا على اسم عم عائشة المذكور في قوله: لو كان عمي فلاناً حياً، ووهم من فسره بأخي أبي القعيس والد عائشة من الرضاعة، فإنَّ أفلح وإن كان عمَّها من الرضاعة لكنه عاش حتى جاء يستأذن على عائشة فامتنعت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأذن له، والمذكور ههنا عمُّها أخو أبيها أبي بكر من الرضاعة أرضعتهما امرأة واحدة، ويحتمل أنها ظنت أنه مات لبُعد عهدها به، ثم قدم بعد ذلك فاستأذن. (4) كأنها أرادت استكشاف أن هذا الحكم خاصّ بعمِّ حفصة أم عامّ. (5) قوله: قال: نعم، زاد في "موطأ يحيى" بعده: إن الرضاعة تحرِّم ما تحرِّم الولادة، وكذا رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من طريق مالك. وفي رواية للبخاري ومسلم والنسائي عن عائشة، وأحمد ومسلم والنسائي والبخاري عن ابن عباس، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ذكره القاري. (6) أي كان يجوز أن يدخل عليك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 616 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ (1) سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يحرِّم مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يُحرِّم مِنَ الْوِلَادَةِ (2) . 617 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ (3) ، عَنْ عَائِشَةَ أنَّه كَانَ يَدخُلُ عَلَيْهَا (4) مَنْ أَرْضَعَتْهُ أخواتُها وبناتُ أَخِيهَا، وَلا يدخل عليها من أرضعته نساء (5) إخواتها.   (في رواية يحيى زيادة: "إن الرضاعة تُحرّم ما تحرّم الولادة"، فإذا أرضعت المرأة رضيعاً يحرم على الرضيع وعلى أولاده من أقارب المرضعة كل من يحرم على ولدها من النسب، ولا تحرم المرضعة على أبي الرضيع ولا على أخيه، ولا يحرم عليك أم أختك من الرضاع إذا لم تكن أمك ولا زوجة أبيك. ويتصوَّر هذا في الرضاع ولا يتصور في النسب. أوجز المسالك 10/296) . (1) قوله: عن سليمان، في "موطأ يحيى": عن سليمان بن يسار، وعن عروة بن الزبير، عن عائشة، قال ابن عبد البر: هذا خطأ من يحيى: أي زيادة الواو، ولم يتابعه أحد من رواة الموطأ عليه، والحديث محفوظ في "الموطأ" وغيره عن سليمان، عن عروة، عن عائشة. (2) أي مثل ما يحرم من النسب. (3) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. (4) أي في بيتها من غير حجاب. (5) قوله: نساء إخوتها، لأن المرضع إنما هو المرأة دون الرجل فلا يحرم عند جماعة كابن عمر وجابر وجماعة من التابعين وداود وابن (في الأصل: داود بن علية، سقط الواو بين داود وبين ابن) علية، كما حكاه ابن عبد البر وقال: حجتهم أنَّ عائشة كانت تفتي بخلاف ما روي من قصة أفلح وهو ما روى مالك وغيره أن عمَّها أفلح أخا أبي القعيس والدها من الرضاعة جاء يستأذن عليها بعد ما أُنزل الحجاب، فأبت عائشة أن تأذن له، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأذن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 618 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو (1) بْنِ الشَّريد: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئل عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ (2) ، فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا غُلامًا، وَالأُخْرَى جَارِيَةً، فسُئل هَلْ يَتَزَوَّجُ الْغُلامُ الْجَارِيَةَ؟ قَالَ: لا، اللَّقاح (3) واحد.   له، فقلت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل، فقال: تربت يمينك يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب. ومن المعلوم أن العبرة عند قوم برأي الصحابي إذا خالف مرويَّه. قال ابن عبد البر: ولا حجة لهم في ذلك لأن لها أن تأذن لمن شاءت من محارمها وتحجب ممن شاءت، ولكن لم يعلم أنها حجبت عمن ذُكر إلاَّ بخبر واحد كما علِمنا المرفوع بخبر واحد، فوجب علينا العمل بالسنَّة إذ لا يضر من خالفها. انتهى. وقد نسب المازري إلى عائشة القول بأن لبن الفحل لا يحرّم. واستبعده بعضهم مع مشافهة النبي صلى الله عليه وسلم إياها في حديث أفلح بأنه يحرّم، وقيل: الإِسناد إليها صحيح، وكثيراً ما يخالف الصحابيُّ مرويَّه لدليلٍ قام عنده، فيحتمل أنها فهمت أن ترخيصه لها في أفلح لا يقتضي تعميم الحكم في كل ذكر، كذا في شرح الزرقاني (انظر شرح الزرقاني 3/242؛ والأوجز 10/304) . وبه يظهر خطأ القاري حيث كتب تحت قوله نساء إخواتها أي إذا كان لبنُهنَّ من غير إخواتها. (1) قوله: عن عَمرو، بفتح العين بن الشَّريد - بفتح المعجمة - الثقفي الطائفي، من ثقات التابعين، قاله الزرقاني وغيره. (2) وفي رواية: جاريتان. (3) قوله: اللَّقاح واحد، بفتح اللام أي ماء الفحل يعني أن سبب العلوق واحد، كذا قال ابن الأثير في "النهاية"، وفيه إخبار بأن لبن الفحل يُحَرِّم، وبه قال جمهور الصحابة ومَن بعدهم، وبه قال أبو حنيفة وتابعوه والأَوزاعي وابن جريج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 619 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (1) ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ (2) بْنُ عُقبة (3) : أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ المسيَّب عَنِ الرَّضَاعَةِ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ فِي الحَولين (4) وَإِنْ (5) كَانَتْ مصَّة (6) وَاحِدَةً فَهِيَ تحرِّم (7) وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فإنما (8) طعام يأكله.   ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم. وحجتهم حديث عائشة في قصة أفلح أخي أبي القعيس، وحُكي خلافه عن ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وزينب بنت أم سلمة، ونقله ابن بطال عن عائشة، وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم وسليمان بن يسار وإبراهيم النخعي وأبو قلابة وإياس بن معاوية وغيرهم، ولا يخفى على ذوي العقول أن القول ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم والبحث مبسوط في شرح "مسند الإِمام" (هو كتاب "تنسيق النظام في مسند الإِمام" للعلاَّمة محمد حسن السنبهلي ص 142) لبعض الأعلام. (1) وفي بعض النسخ: أخبرنا مالك، أخبرنا الزهري، عن إبراهيم بن عقبة. (2) قال في "الإِسعاف": وثقه أحمد ويحيى والنسائي. (3) بضم العين، المدني. (4) هو مدة الرضاع. (5) في نسخة: ولو. (6) أي وإن كانت قطرة واحدة دخلت في جوف الطفل بمصة واحدة وقوله: مصة، في نسخة: قطرة المصَّة بفتح الميم وتشديد الصاد. (7) من التحريم. (8) قوله: فإنما هو طعام يأكله، أي هو في حكم الغذاء لا يحرّم شيئاً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 620 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ: أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ عُروة بْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ (1) مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ المسيَّب. 621 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ثَور (2) بْنُ زَيْدٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مصَّة وَاحِدَةً فَهِيَ تُحَرِّمُ. 622 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا   ولا يثبت حكم الرضاعة، فلا يكون رضاعة الكبير مفيدة بشيء، ويؤيده من الأخبار حديث: "لا رضاع إلاَّ ما أنبت اللحم وأنشز العظم". أخرجه أبو داود من حديث أبي موسى الهلالي عن أبيه، عن ابن مسعود، وأخرجه البيهقي من وجه آخر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم، عن الزهري قال: سُئل ابن عمرو وابن عباس عن الرضاع بعد الحولين فقرأ: {والوالداتُ يُرضعن أولادهن ... } (سورة البقرة: الآية 233) ولا نرى رضاعاً يحرم بعد الحولين شيئاً. وأخرج ابن جرير من طريق أبي الضحى قال: سمعت ابن عباس يقول: لا رضاع إلاَّ في هذين الحولين، وأخرج الترمذي وصححه عن أم سلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحرم من الرضاع إلاَّ ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام. وأخرج ابن عدي والدارقطني والبيهقي عن ابن عباس مرفوعاً: لا يحرم من الرضاع إلاَّ ما كان في الحولين وأخرج الطياليسي والبيهقي عن جابر مرفوعاً: لا رضاع بعد فصال، ولا يُتْمَ بعد احتلام (لا يُتْم: بسكون التاء. يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام صغار الأيتام) . وأخرجه الطبراني في معجمه وعبد الرزاق عن علي مرفوعاً مثله، كذا ذكره الزيلعي والسيوطي. (1) من أن ما كان في الحولين يحرم وما لا فلا. (2) قوله: ثور بن زيد، الديلي مولاهم، المدني، وثقه ابن معين وأبو زرعة والنسائي، مات سنة 135، كذا في "الإِسعاف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 أَرْسَلَتْ (1) بِهِ وَهُوَ يُرضَعُ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلثوم (2) بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: أَرْضِعِيهِ عَشْرَ (3) رَضَعَاتٍ حَتَّى يَدْخُلَ عليَّ، فَأَرْضَعَتْنِي أُم كُلثوم بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ثَلاثَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ مَرِضَت، فلم ترضعني غير ثلاث مِرار (4) ،   (1) قوله: أرسلت به، أي أرسلت بسالم بن عبد الله بن عمر، والحال أنه كان يُرضَعُ بصيغة المجهول أي كان صغيراً يُرضَع إلى أختها لترضعه، فيكون لها محرماً، فيدخل عليها بعد البلوغ أيضاً. (2) قوله: أم كلثوم، بضم الكاف، تابعية، مات أبوها أبو بكر رضي الله عنه وهي حمل، فوُضعت بعد وفاته، وقد أرسلت حديثاً فذكرها بسببه ابن منده وابن السكن في الصحابة فوهِمَا، كذا قال الزرقاني. (3) قوله: عشر رضعات، قال السيوطي في "التنوير" (2/43) : هذه خصوصية لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر النساء، قال عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر أخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: كان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضعات معلومات وليس لسائر النساء رضعات معلومات، ثم ذكر حديث عائشة هذا وحديث حفصة الذي بعده وحينئذٍ فلا يُحتاج إلى تأويل الباجي. وقوله: لعله لم يظهر لعائشة نسخ العشر بالخمس إلاَّ بعد هذه القصة. انتهى. قال الزرقاني: وبه يرد إشارة ابن عبد البر إلى شذوذ رواية نافع هذه بأن أصحاب عائشة الذين هم أعلم بها من نافع، وهم عروة والقاسم وعمرة رووا عنها خمس رضعات، فوهم من روى عنها عشر رضعات لأنه صحَّ عنها أن الخمس نسخن العشر، ومحال أن تعمل بالمنسوخ، كذا قال، وهذا سهوَ لأن نافعاً قال: إن سالماً أخبره عن عائشة، وكل منهما ثقة حجة حافظ وقد أمكن الجمع بأنها خصوصية للزوجات الشريفة، كما قاله طاوس. (4) في نسخة: مرات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 فَلَمْ أَكُنْ أَدْخُلُ (1) عَلَى عَائِشَةَ مِنْ أَجْلِ أنَّ أمَّ كُلْثُومٍ لَمْ تُتمَّ (2) لِي عَشْرَ رَضَعَاتٍ. 623 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ صفيَّة (3) ابْنَةِ أَبِي عُبيد: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ حَفْصَةَ أَرْسَلَتْ بِعَاصِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ عُمَرَ (4) تُرْضِعُهُ عَشْرَ رَضَعَاتٍ لِيَدْخُلَ (5) عَلَيْهَا، فَفَعَلَتْ (6) ، فَكَانَ يَدخل (7) عَلَيْهَا وَهُوَ (8) يَوْمَ أَرْضَعَتْهُ صَغِيرٌ يُرضَع (9) . 624 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمرة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (10) : كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحرِّمنَ، ثُمَّ نُسخن بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فتُوفي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهنَّ مِمَّا يُقرأ من القرآن.   (1) أي من غير حجابٍ. (2) حتى أكون محرماً لها. (3) زوجة مولاه ابن عمر. (4) ابن الخطاب. (5) أي إذا بلغ. (6) أي أرضعته فاطمة عشر رضعات. (7) أي على حفصة بعد بلوغه. (8) أي كان عاصم حين أرضعته فاطمة صغيراً يُرضَع. (9) معروف من الرضاعة أو مجهول من الإِرضاع. (10) قوله: قالت كان ... إلخ، أي كان سابقاً في القرآن هذه الآية: {عشر رضعات معلومات يُحرّمن} بضم الياء وتشديد الراء المكسورة متلوَّة، ثم نُسخن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 625 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ (1) إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَنَا مَعَهُ (2) عِنْدَ دَارِ الْقَضَاءِ، يَسْأَلُهُ عن   تلك العشرة بخمس معلومات، ونزلت خمس رضعات معلومات يُحرّمن، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآية الخمس تُتلى في القرآن يعني أن العشر نسخت بخمس، وتأخر نسخ الخمس حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعض الناس لم يبلغه نسخه فصار يتلوه قرآناً، فالعشر على قولها منسوخة التلاوة والحكم، والخمس منسوخة التلاوة فقط كآية الرجم، قال ابن عبد البر: به تمسَّك الشافعي في قوله: لا يقع التحريم إلاَّ بخمس رضعات تصل إلى الجوف. وأُجيب عنه بأنه لم يثبت قرآناً وهي قد أضافته إلى القرآن، واختلف العمل عنها فليس بسنَّة ولا قرآن، وقال المازري: لا حجة فيه لأنه لم يثبت إلاَّ من طريقها، والقرآن لا يثبت بالآحاد، ولهذا لم يأخذ به الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، كذا في "شرح الزرقاني". وذكر ابن الهُمام وغيره ما حاصله: أنه لا يخلو إما أن يُقال بنسخ الخمس أيضاً أولا؟ على الثاني يلزم ذهاب شيء من القرآن لم يثبته الصحابة ولا يثبت بقول عائشة وحدها كونه من القرآن، وعلى الأول فلما ثبت نسخ التلاوة فبقاء حكمه يحتاج إلى دليل، وإلاَّ فالأصل أن النسخ الأول (في الأصل نسخ الدال، والظاهر ما أثبتناه) يرفعه. وأما ثبوت رجم الزاني مع كون آية منسوخة التلاوة فبإجماع الصحابة، وههنا لا إجماع من الصحابة، بل كثير من الصحابة أفتَوا بالتحريم بمصَّة واحدة، ويؤيده إطلاق قوله تعالى: {وأمهاتكم الاتي أرضعنكم} (سورة النساء: الآية 23) . (1) قال الزرقاني: لم يسمِّ (قال الباجي: هو أبو عبس عبد الرحمن بن جبير الأنصاري، سأل ابن عمر عن رضاعة الكبير فأخبره ابن عمر بما عنده في ذلك عن أبيه، قلت: أبو عيسى رجل من أكابر الصحابة شهد بدراً وما بعدها، توفي سنة 24 هـ عن سبعين سنة، كما في "التقريب"، ولم يذكروا ابن عمر رضي الله عنه في مشايخه، وفسَّر الزرقاني 3/246 حكاية عن أبي عمر الرجل السائل عن عمر بذلك. أوجز المسالك 10/314) (2) قوله: وأنا معه، أي مع عبد الله بن عمر عند دار القضاء بالمدينة، وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: جَاءَ (1) رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ (2) فَكُنْتُ أُصِيبُهَا (3) ، فعمدَت (4) امْرَأَتِي إِلَيْهَا، فَأَرْضَعَتْهَا، فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا (5) ، فَقَالَتِ امْرَأَتِي: دُونَكَ (6) : وَاللَّهِ قَدْ أَرْضَعْتُهَا، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أوجِعهَا (7) وائتِ جاريتَك (8) فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ رَضَاعَةُ الصغير (9) .   دار كانت لعمر بن الخطاب، فلما استشهد كان عليه دَين فبيعت لقضاء دَينه فسميت دار القضاء، قاله ابن الصلاح، كذا قاله القاري) . (1) قوله: جاء رجل، قال ابن عبد البر: الرجل هو أبو عبس بن جبير الأنصاري ثم الحارثي البدري. (2) أي أمة. (3) أي أجامعها. (4) أي توجهت امرأتي إليها وقصدت أن تُحرّمَ عليَّ فأرضعتها. (5) أي على امرأتي أو على الأمة. (6) أي خذ حذرك منها، فإنها حرمت عليك. (7) أي أدِّب امرأتك. (8) أي يحلُّ لك أن تجامع الجارية. (9) يعني رضاعة الكبير لا تُحَرِّم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 626 - أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب، وسئل عن رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي (1) عُروة بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ (2) أَبَا حُذيفة بْنَ عُتبة بْنِ رَبِيعَةَ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ بَدْرًا (3) وَكَانَ تَبَنَّى (4) سَالِمًا (5) الذي يُقال له مولى أبي حُذيفة   (1) قوله: أخبرني عروة، قال ابن عبد البر: هذا حديث يدخل في المسند أي الموصول للقاء عروة عائشةَ وسائر أزواجه صلى الله عليه وسلم، وللقائه سهلة بنت سهيل، وقد وصله جماعة، منهم معمر وعقيل ويونس وابن جرير عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة بمعناه، ورواه عثمان بن عمر وعبد الرزاق كلاهما عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة (قال الحافظ بعد ما بسط الكلام على طرق الرواية: لكنه عند أكثر الرواة عن مالك مرسل. انظر: أوجز المسالك 10/308) . (2) قوله: أن أبا حذيفة، هو أبو حذيفة بضم الحاء ابن عُتبة بضم العين ابن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، اسمه هاشم، وقيل: هُشم بضم الهاء، كان من فضلاء الصحابة، هاجر الهجرتين وشهد بدراً وأحداً والخندق والحديبية والمشاهد كلها، وقُتل يوم اليمامة شهيداً في عهد ابي بكر رضي الله عنه. وزوجته سَهلة بفتح السين بنت سهل بن عمرو القرشية العامرية، وَلَدَت لأبي حذيفة محمد بن أبي حذيفة، وولدت لشماخ بن سعيد بكير بن شماخ، وولدت لعبد الرحمن بن عوف سالم بن عبد الرحمن، كذا في "الاستيعاب". (3) أي حضر غزوة بدر وغيرها. (4) أي جعله متبنَّى. (5) قوله: سالماً، قال البخاري: كان مولى امرأة من الأنصار، قال ابن حبان: يقال لها ليلى ويقال ثُبَيتة بضم الثاء وفتح الباء وسكون الياء بنت يَعار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 كَمَا كَانَ تبنَّى (1) رسولُ اللَّهِ زيدَ (2) بْنَ حارثة،   بفتح التحتية ابن زيد بن عبيد، وكانت امرأة أبي حذيفة بن عتبة، وبهذا جزم ابن سعد وقيل: اسمها سلمى، وقال ابن شاهين: سمعت ابن أبي داود يقول: هو سالم بن معقل مولى فاطمة بنت يعار الأنصارية أعتقته سائبة فوالى أبا حذيفة فتبنّاه أي اتخذه ابناً وكان مع أبي حذيفة في معركة اليمامة وكان معه لواء المهاجرين وقاتل إلى أن صُرع، فقال: ما فعل أبو حذيفة؟ فقيل: قُتل، فقال: فأضجِعوني بجنبه (في الأصل بجنبي، وهو تحريف) ، فمات فأرسل عمر ميراثه إلى معتقته ثبيتة، فقالت: إنما أعتقته سائبة. فجعله في بيت المال، رواه ابن المبارك، كذا في شرح الزرقاني (3/244) . (1) أي أخذ ابناً. (2) قوله: زيد بن حارثة، هو أبو أسامة زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العزى القرشي نسباً الهاشمي ولاءً، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحِبّه وأبو حِبِّه، كان أمه خرجت به تزور قومها، فأغارت عليهم بنو القين، فأخذوا زيداً، وقدموا به سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين، فأعتقه وتبنّاه، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} (سورة الأحزاب: الآية 5) وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً والخندق والحديبية وغيرها، ولم يذكر الله في القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء إلا زيداً بقوله: {فلما قضى زيدٌ منها وطراً} (سورة الأحزاب: الآية 37) الآية، استشهد في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 فَأَنْكَحَ أَبُو حُذَيْفَةَ سَالِمًا وَهُوَ (1) يَرَى (2) أَنَّهُ ابْنُهُ أَنْكَحَهُ (3) ابْنَةَ (4) أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهِيَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَل (5) وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَفْضَلِ (6) أَيَامَى قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي زَيْدٍ مَا أَنْزَلَ: {اُدعُوهُم لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (7) رُدَّ كُلُّ أَحَدٍ تُبُنِّي إِلَى أَبِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُعلم أَبُوهُ رُدَّ إِلَى مَوَالِيهِ (8) . فجاءَت سَهلة (9) بِنْتُ سُهَيل (10) امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ   (1) قوله: وهو يرى أنه ابنه، لأنه كان التبني في الجاهلية وأوائل الإِسلام أمراً معتبراً، وكان من تبنَّى رجلاً دعاه الناس إليه وورث ميراثه إلى أن نزل قوله تعالى: {ادعوهم} أي المتبنين لآبائهم لا لمن تبناه {هو} أي دعاؤهم إلى آباءهم {أقسط} أي أعدل {عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم} أي آباءهم الذين هم من مائهم {فإخوانكم} أي فهم إخوانكم في الدين. نزل ذلك في زيد بن حارثة متبنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك رُدّ كل أحد تُبُنِّيَ إلى أبيه ولم يُنسب إلى من تبناه ولا حكم بوراثته منه بل من أبيه. (2) أي أبو حذيفة يظن أن سالماً المتبنَّى ابنه. (3) أعاده لوقوع الفصل. (4) قوله: ابنة أخيه، فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وفي رواية يونس وشعيب عن الزهري: هند بنت الوليد، والصواب فاطمة، قاله ابن عبد البر. (5) بضم الألف وخفّة الواو المفتوحة. (6) قوله: من أفضل أيامي قريش، جمع أيّم هو من لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً. (7) بيان لما أنزل. (8) أي نُسب إلى مواليه. (9) بفتح السين وسكون الهاء. (10) بصيغة التصغير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 وَهِيَ (1) مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بَلَغَنَا (2) ، فَقَالَتْ: كُنَّا نُرى (3) سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فُضل (4) وَلَيْسَ لَنَا إِلا بَيْتٌ واحدٌ، فَمَا تَرَى (5) فِي شَأْنِهِ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فيما بلغنا (6) أَرضعيه (7)   (1) فهي قرشية عامرية، وأبوها صحابي شهير. (2) هذا قول الزهري. (3) أي نظن أنه ولد للتبني. (4) قوله: وأنا فُضل، بضم الفاء وسكون الضاد، قال الباجي: أي مكشوفة الرأس، والصدر وقيل: عليها ثوب واحد لا إزار عليها، وقيل: متوشَّحة بثوب على عاتقها، خالفت بين طرفيها، قال ابن عبد البر: أصحها الثاني. (5) قوله: فما ترى في شأنه؟ وفي رواية لمسلم عن القاسم عن عائشة قالت: إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، وله من وجه آخر، قالت: إن سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوه وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً. (6) هذا قول الزهري. (7) قوله: أرضعيه خمس رضعات، في روايةٍ يحيى بن سعيد عن ابن شهاب: عشر رضعات، والصواب رواية مالك، قاله ابن عبد البر. وفي رواية لمسلم: قالت: كيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: قد علمتُ أنه رجل كبير. قال النووي في "شرح صحيح مسلم": قال القاضي عياض: لعلها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها، وهذا حسن، ويحتمل أنه عفا عن مسهّ للحاجة كما خُصّ بالرضاعة مع الكِبَر. انتهى. وفي رواية ابن سعد عن الواقدي عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبيه قال: كانت سهلة تحلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 خمس رضعاتٍ، فتحرم (1) بِلَبَنِكَ أَوْ بِلَبَنِهَا، وَكَانَتْ تَرَاهُ (2) ابْنًا مِنَ الرضاعة، فأخذت (3) بذلك (4) عائشة (5)   في مسعط قدر رضعة، فيشربه سالم في كل يوم حتى مضت خمسة أيام، فكان بعد ذلك يدخل عليها وهي حاسر رأسها رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة. (1) قوله: فتحرم، قال القاري: بتشديد الراء المفتوحة أي فصار حراماً بلبنك أي بسبب رضاعك، والخطاب للمرأة، أو بلبنها شكّ من الراوي وهو إما التفات في المبنى أو نقل بالمعنى. انتهى. ولا يخفى ما في ضبطه، والظاهر أنّ تُحرم صيغة الحاضر خطاباً إلى سهلة، أي فتحرّمه عليك بلبنك هذا إذا كان من التفعيل، ويمكن أن يكون ثلاثياً ويمكن أن يكون على صيغة المجهول، وفي "موطأ يحيى" فيحرم بلبنها. (2) أي كانت سهلة تظن سالماً ابناً لها من الرضاعة بعد ما أرضعته. (3) أي استدلت به، وعملت بحسبه. (4) أي بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة. (5) قوله: عائشة، قال النووي في " شرح صحيح مسلم": قالت عائشة وداود الظاهري: يثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ كما يثبت برضاع الطفل لهذا الحديث، وقال سائر العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن: إنه لا يثبت الرضاع إلا برضاع من دون سنتين، إلا أبا حنيفة فقال: سنتين ونصف، وقال زفر: ثلاث سنين، وعن مالك رواية سنتين وأيام، واحتج الجمهور بقوله تعالى: {والوالداتُ يُرضعن أولادهن حولين كاملين} (سورة البقرة: الآية 233) وبالحديث الذي ذكره مسلم: إنما الرضاعة من المجاعة، وبأحاديث مشهورة، وحملوا حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم. انتهى. وذكر ابن عبد البر وغيره أن بقول عائشة قال عطاء والليث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 فِيمَنْ (1) تحبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُمَّ كُلْثُومٍ (2) وبناتِ أَخِيهَا (3) يُرضِعن مَنْ أحبَبنَ (4) أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا، وَأَبَى (5) سَائِرُ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أحدٌ مِنَ النَّاسِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللَّهِ مَا نَرَى الَّذِي أمَرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ إِلا رُخْصَةً (6) لَهَا فِي   وقال أبو بكر ابن العربي: لعمر الله إنه لقوي، كيف ولو كان ذلك خاصاً بسالم لقال لها: ولا يكون لأحد بعدك، كما قال لأبي بردة في الجذعة. وفيه ما لا يخفى على صاحب الفطنة. (1) قوله: فيمن تحب، ظاهر الرواية شاهدة بأن عائشة أخذت به في باب الحجاب، وظنت أن رضاعة الكبير أيضاً تحل رفع الحجاب مطلقاً، لا خاصاً بسهلة وسالم، وقيل إنها ظنت بتحريم رضاعة الكبير مطلقاً. (2) ابنة أبي بكر الصديق. (3) عبد الرحمن بن أبي بكر. (4) في نسخة: أحببت. (5) قوله: وأبى، أي امتنعت بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يدخل عليهن بالرضاعة في الكبر، وجعلن هذا الحكم خاصاً بسهلة وسالم، وفي رواية لمسلم عن زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين عن أمها أنها كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخِلن عليهن أحداً بتلك الرضاعةِ، وقُلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة فما هو بداخلٍ علينا أحدٌ بهذه الرضاعة (انظر: صحيح مسلم، باب حكم رضاعة الكبير، 3/635) . (6) وقد كان لرسول الله أن يخصّ من شاء بما شاء من الأحكام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ. فَعَلَى (1) هَذَا كَانَ رَأْيُ أزواجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ. 627 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ (2) سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب: أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: لا رَضَاعَةَ إِلا فِي الْمَهْدِ (3) ، وَلا رَضَاعَةَ إِلا مَا أَنْبَتَ (4) اللَّحْمُ وَالدَّمُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يُحرم (5) الرَّضَاعُ إِلا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الرَّضَاعِ وَإِنْ كَانَ (6) مصَّةً وَاحِدَةً فَهِيَ تُحَرِّم كَمَا قَالَ   (1) قوله: فعلى هذا، أي على عدم اعتبار رضاعة الكبير كان رأي أمهات المؤمنين غير عائشة، ويوافقهم ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: دخل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعندي رجل قاعد فاشتدّ ذلك عليه، فقلت: يا رسول الله: إنه أخي من الرضاعة، فقال: انظرن إخواتكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة. وفي الباب أخبار أُخَر قد مرّ نُبَذٌ منها. (2) قوله: يحيى بن سعيد، هكذا في بعض النسخ، وهو الصحيح الموافق لما في "موطأ يحيى" وفي بعضها: مالك أخبرنا سعيد بن المسيّب أنه سمعه ... إلخ، وهو غلط واضح فإن مالكاً لم يدرك ابن المسيب. وكذا ما في بعضها: مالك أخبرنا يحيى بن سعيد بن المسيب أنه سمعه ... إلخ. (3) أي في حالة الصغر أي حين يكون الطفل في المهد. (4) وهو رضاعة الصغير ما لم يتغذّ. (5) بصيغة المعروف الغائب من التحريم. (6) قوله: وإن كان مصة واحدة، وأما حديث عائشة مرفوعاً: لا تحرِّم المصة ولا المصتان، أخرجه ابن حبان ومسلم وغيرهما فهو إما متروك بإطلاق الكتاب، وهو قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} أو منسوخ. وعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لَمْ يُحَرِّم شَيْئًا لأَنَّ اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعن (1) أولادَهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (2) فَتَمَامُ الرَّضَاعَةِ الْحَوْلانِ، فَلا رَضَاعَةَ بَعْدَ تَمَامِهِمَا تُحَرِّم (3) شَيْئًا. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْتَاطُ (4) بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَيَقُولُ: يُحَرِّم (5) مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ وَبَعْدَهُمَا إِلَى تَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَذَلِكَ   ابن عباس أنه قال: كان ذلك. فأما اليوم، فالرضعة الواحدة تحرِّم حكاه عنه أبو بكر الرازي ومثله رُوي عن ابن مسعود، وقال ابن بطّال: أحاديث عائشة في هذا الباب مضطربة، فوجب تركها والرجوع إلى كتاب الله تعالى، كذا في "البناية". (1) خبر بمعنى الأمر أي ليرضعن. (2) مفهومه ما ذكره تعالى بعده: {فإنْ أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاوُرٍ فلا جُناح عليهما} (سورة البقرة: الآية 233) . (3) قوله: تحرم شيئاً، وعليه يتفرع أن الزوج لو مصَّ ثدي زوجته ودخل في حلقه لبنها لا تحرم عليه إذا كان كبيراً، بذلك أفتى ابن مسعود، ورجع إليه أبو موسى الأشعري بعد ما أفتى خلافه، كما رواه مالك في "الموطأ" ليحيى. (4) قوله: يحتاط، فيه إشارة إلى أنه حكمٌ مبني على الاحتياط وليس أمراً ثابتاً بالنص ولا يخفى أنه لا احتياط بعد ورود النصوص بالحولين مع أن الاحتياط هو العمل بأقوى الدليلين وأقواهما دليلاً قولهما. (5) أي يحرم الرضاع في مدة حولين ونصف حول. (1) أي مجموعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 (1) ثَلاثُونَ شَهْرًا، وَلا يُحَرِّم مَا كَانَ بَعْدَ ذلك. ونحن (2) لا نرى (3)   (2) يعني به نفسه وأبا يوسف وغيرهما من العلماء. (3) قوله: لا نرى ... إلخ، هذا هو الأصح المفتى به، وقول أبي حنيفة وإنْ ذَكروا في توجيهه أموراً فلا يخلو عن شيء قال ابن الهُمام في "فتح القدير": لهما قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} ومدة الحمل أدناه ستة أشهر، فبقي للفصال حولان، وقال صلى الله عليه وسلم: لا رضاع بعد حولين، رواه الدارقطني عن ابن عباس يرفعه. وأظهر الأدلّة لهما قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادَهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يُتِمّ الرضاعة} فجعل التمام بهما ولا مزيد على التمام بهما ولا مزيد على التمام. ولأبي حنيفة هذه الآية ووجهه أنه تعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة، فكانت لكل منهما بكمالها إلا أنه قام المنقص في أحدهما يعني في مدة الحمل، وهو قول عائشة: الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين، ولو بقدر فلكة مغزل، ومثله لا يقال إلا سماعاً، فبقي مدة الفصال على ظاهره غير أن هذا يستلزم كون لفظ ثلاثين مستعملاً في إطلاق واحد في مدلول ثلاثين، وفي أربعة وعشرين وهو الجمع بين الحقيقي والمجازي، ويمكن أن يُستدل له بقوله تعالى: {والوالدت يرضعن أولادهن} بناءً على أن المراد من الوالدات المطلَّقات بقرينة {وعلى المولود له رزقُهن وكسوتهن بالمعروف} (سورة البقرة: الآية 233) فإن الفائدة في جعلها نفقتها من حيث كونها ظئراً أوجه: منها في اعتباره إيجاب النفقة للزوجة لأن ذلك معلوم بالضرورة قبل البعثة، واللام في {لمن أراد} متعلِّق بيُرضعن أي يرضعن للآباء الذين أرادوا تمام الرضاعة وعليهم كسوتهن ورزقهن بالمعروف أجرة لهن، والحاصل حينئد يرضعن حولين كاملين لمن أراد من الآباء أن يتم الرضاعة بالأجرة، هذا لا يقتصي أن انتهاء مدة الرضاعة بالحولين، بل مدة استحقاق الأجرة بالإرضاع، ثم يدل على بقائها في الجملة قوله تعالى: {فإن أرادا فصالاً} عطفاً بالفاء على يُرضعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 أَنَّهُ (1) يُحَرِّم، وَنَرَى (2) أَنَّهُ لا يُحَرِّم مَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ. وَأَمَّا لَبَنُ الْفَحْلِ (3) فَإِنَّا نَرَاهُ يُحَرِّم، وَنَرَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، فَالأَخُ (4) مِنَ الرَّضَاعَةِ مِنَ الأَبِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مِنَ الأَبِ وَإِنْ كَانَتِ الأُمَّانِ (5) مُخْتَلِفَتَيْنِ إِذَا كَانَ لَبَنُهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّقاح وَاحِدٌ. فَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قول أبي حنيفة رحمه الله.   حولين، فعلّق الفصال بعد الحولين على تراضيهما، وقد يُقال: أين الدليل على انتهائها بستة أشهر بعد الحولين؟ وما ذُكر في وجه زيادتها لا يفيد سوى أنه إذا أُريد الفطام يحتاج إليها ليتعوّد فيها غير اللبن قليلاً قليلاً لتعذُّر نقله دفعة، وأما أنه يجب ذلك بعد الحولين ويكون من تمام مدة التحريم شرعاً فلا، ولا شك أن الشرع لم يحرم إطعامه من غير اللبن قبل الحولين ليلزم منها زيادة مدة التعود عليهما، فجاز أن يعود مع اللبن غيره قبل الحولين بحيث قد استقرّت العادة مع انقضائهما، فكان الأصح قولهما، وهو مختار الطحاوي. وقول زفر من ثلاث سنين على هذا أولى بالبطلان، وهوظاهر، وحينئذ فقوله تعالى: {فإن أرادا فِصالاً} المراد به قبل الحولين. انتهى. ملخصاً. (1) أي ما كان بعد الحولين. (2) تكرير تأكيدي. (3) أي الرجل وهو زوج المرضعة الذي لبنها منه. (4) تصوير للبن الفحل. (5) أي أم الأخ وأم الأخت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 (كِتَابُ الضَحايا (1) وَمَا يُجْزئ مِنهَا) 628 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع: أن عبد الله بن عمر كَانَ يَقُولُ فِي الضَّحَايَا والبُدْن (2) الثَّنيّ فَمَا فَوْقَهُ. 629 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى (3) عَمَّا لَمْ تُسِنّ (4) من الضحايا والبدن   (1) قوله: الضحايا، هي جمع ضحية كهدية وهدايا، وأما الأضاحي فهو جمع أضحية، وهي ما يُذبح في يوم من أيام النحر على وجه التقرُّب، كذا قال القاري. (2) قوله: والبدن، بضم الباء وسكون الدال جمع بَدَنَة محرَّكة بمعنى الإِبل والبقر عندنا، فهو تخصيص بعد تعميم، والثنِيّ - ككريم - من الإِبل ما له خمس سنين وطعن في السادسة، ومن البقر ما له سنتان وطعن في الثالثة، ومن الغنم ما له سنة وطعن في الثانية، كذا قال القاري. (3) وهو في "موطأ يحيى": كان يتقي. (4) قوله: عما لم تُسِنّ، قال القاري: بضم التاء وكسر السين وتشديد النون، يقال أسنُّ الإِنسان وغيره إذا كبر، وقال الأزهري: ليس معنى إسنان البقر وغيره كِبَرهما، بل معناه طلوع الأسنان، وفي "شرح الزرقاني": رُوي لم تُسِنّ بكسر السين من السن لأنَّ معروف مذهب ابن عمر أنه لا يُضحَّى إلاَّ بثني المعز والضأن (قال الزرقاني: لا يجوز عنده الجذع من الضأن وهذا خلاف الآثار المرفوعة وخلاف الجمهور. شرح الزرقاني 3/72. قال الموفق: ولا يجزئ إلاَّ الجذع من الضأن والثني من غيره، وبهذا قال مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي. المغني 6/622) والإِبل والبقر، وروي بفتح السين قال ابن قتيبة وهي التي لم تنبت أسنانها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 وَعَنِ الَّتِي (1) نُقِصَ مِنْ خلْقها. 630 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ ضَحّى (2) مَرَّةً بِالْمَدِينَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُ كَبْشاً فحِيلاً (3) أقرنَ (4) ثُمَّ أذْبحَه لَهُ (5) يومَ الأَضْحَى فِي مُصَلَّى (6) النَّاسِ فَفَعَلْتُ (7) ، ثُمَّ حُمِل   (1) أي عن التي نقص من خلقتها نقصاناً يوجب نقصان القيمة وتأذِّي البهيمة. (2) بتشديد الحاء أي أراد أن يضحِّي. (3) قوله: فحيلاً، أي ذكراً لا أنثى، وفي زيادة ياء النسبة إشارة إلى تحقيق ذكورته وقيل: يحتمل أن يراد به لا خصياً، وقيل: أي قوياً عظيم الجثَّة. (4) أي ذا قرن. (5) معطوف على اشترى أي أذبح لابن عمر في مصلى العيد. (6) قوله: في مصلى الناس، اتباعاً لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينحر بالمصلى بعد صلاة العيد. (7) قوله: ففعلت، أي فعلت ما أُمرت من الشراء والذبح في المصلى، ثم حمل الكبش المذبوح إلى ابن عمر فحلق ابن عمر رأسه حين حُمل إليه، والظرفية في قوله حين الذبح مجازية للقرب ويحتمل أن تكون حقيقة، والتجوُّز في التعقب الحاصل بثم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 إِلَيْهِ، فَحَلَقَ رَأْسَهُ حِينَ ذُبح كَبْشُهُ وَكَانَ (1) مَرِيضًا لَمْ يشهَدِ الْعِيدَ مَعَ النَّاسِ، قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْسَ حِلاَقُ (2) الرَّأْسِ بواجبٍ عَلَى مَنْ ضَحَّى إِذَا لَمْ يَحُجّ وَقَدْ فَعَله (3) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ إلاَّ في خصلةٍ (4) واحدةٍ، الجَذَع (5)   (1) قوله: وكان، أي ابن عمر مريضاً في تلك الأيام ولذا لم يشهد صلاة العيد ولم يذبح الأضحية بيده مع أنه الأفضل، بل أَمَرَ نافعاً به. (2) بكسر أوله أي حلق شعر الرأس. (3) وقد فعله: مقولة نافع. قوله: وقد فعله، والظاهر أن حلقه وقع اتفاقاً أو أراد به التشبُّه بالحاج استحباباً فلا ينافي نفيه إيجاباً، كذا قال القاري والأظهر أن يقال: إنه صدر اتباعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد أن يضحِّي ورأى الهلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي، أخرجه مسلم وغيره، فلعل ابن عمر لم يأخذ شعره وأظفاره حتى ضحّى فحلق شعره وأخذ أظفاره، وفي الحديث إشارة إلى استحباب التشبُّه بالصالحين (في "البذل" عن الشوكاني: ذهب سعيد بن المسيَّب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره، حتى يضحّي في وقت الأضحية، وقال الشافعي وأصحابه: مكروه كراهة تنزيه، ومذهب الحنفية في ذلك ما في "شرح المنية". وما ورد في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحِّي ... الحديث، محمول على الندب دون الوجوب بالإِجماع، فنفي الوجوب لا ينافي الاستحباب فيكون مستحباً إلاَّ أن يستلزم الزيادة وقت إباحة التأخير ونهايته ما دون الأربعين، فإنه لا يباح ترك قلم الأظفار ونحوه فوق الأربعين. انتهى. أوجز المسالك 9/239) . (4) أي في صفة واحدة. (5) قوله: الجَذَع من الضأن، هو ذوات الصوف من الغنم التي له ألية، كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 مِنَ الضَّأْنِ إِذَا كَانَ (1) عَظِيمًا أَجْزَأَ، فِي الْهَدْيِ (2) وَالأُضْحِيَةِ، بِذَلِكَ (3) جَاءَتِ الآثَارُ: الْخَصِيُّ (4) مِنَ الأضحية يُجزئ مما يجزئ منه   في "منح الغفار" وغيره، والجَذَع بفتح الجيم والذال المعجمة عند أهل اللغة من الشاة ما تمت له سنة وطعنت في الثانية، ومن البقر ابن سنة، ومن الإبل ابن أربع سنين، وفي اصطلاح الفقهاء الجذع من الضأن ماتمت له ستة اشهر، وهو المرجح عند الحنفية، وقال بعضهم: ما تمت سبعة أشهر، وقيل ستة أو سبعة، والتقييد بالضأن لأن الجذع من الإِبل والبقر والغنم لا يجزئ، بل لا يجزئ منها إلاَّ الثني كذا في "الهداية"و "البناية" وغيرهما. (1) قوله: إذا كان عظيماً، أي عظيم الجثَّة بحيث لو خلط بالثنايا أشتبه على الناظر من بعيد، كذا فسَّره صاحب "الهداية" وغيره. (2) أي في هدي الحاجّ وأضحية يوم الأضحى. (3) قوله: بذلك، أي بإجزاء الجذع من الضأن أضحيته. وفي سنن أبي داود وابن ماجه عن هلال مرفوعاً: نعمت الأضحية الجذع من الضأن أضحيته. وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: نعمت الأضحية الجذع من الضأن. وفي سنن أبي داود وابن ماجه عن مجاشع مرفوعاً: أن الجذع يوفي مما يوفي عنه الثنيّ. وفي صحيح مسلم عن جابر: لا تذبحوا إلاَّ مُسنَّة إلاَّ أن يَعْسُرَ عليكم، فتذبحوا جَذَعة من الضأن. وبهذه الآثار وغيرها قال الجمهور بجواز الجذع من الضأن لا من غيره، وحملوا التقييد المذكور في رواية مسلم على الأفضل، والمعنى: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلاَّ مُسِنَّة إلاَّ أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن، وجوَّزوا الجذع من الضأن مع وجود غيره، وحكى ابن المنذر وغيره عن ابن عمر والزهري أن الجذع لا يجزئ مطلقاً من الضأن كان أو من غيره، وبه قال ابن حزم، وعزاه لجماعة من السلف، كذا في "شرح مسند الإِمام" لبعض الأعلام. (4) قوله: والخصي، أي مقطوع الخصيتين يجزئ مما يجزئ منه الفحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 الْفَحْلُ. وَأَمَّا الحِلاق فَنَقُولُ فِيهِ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى مَنْ لَمْ يَحُجَّ (1) فِي يَوْمِ النَّحْرِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 631 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا نافع، أن عبد الله بن عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يُضَحِّي عَمَّا فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ لا يُضَحَّى (2) عَمَّا فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ. 1 - (بَابُ مَا يُكره مِنَ الضَّحَايَا) 632 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو (3) بْنُ الحارث، أن عُبيد (4) بن فَيْرُوز   أي غير المقطوع لما قد ثبت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ بكبشين موجوأين، أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم. (1) وأما الحاج فيجب عليه الحلق والقصر. (2) قوله: لا يضحي، أي لا يجب عليه أن يضحي عما في حمل المرأة لأنه لم يخرج إلى الآن إلى دار الأحكام، وأما بعد خروجه من بطن الزوجة فقد اختلف أصحابنا وغيرهم فيه، فمنهم من قال: يجب الأضحية عن نفسه وعن أولاده الصغار، ومنهم من قال: لا يجب إلاَّ عن نفسه. والمسألة مبسوطة في كتب الفقه. (3) قوله: أخبرنا عمرو، هو ابن الحارث بن يعقوب بن عبد الله الأنصاري، مولاهم أبو أمية المصري، وثقه ابن معين والنسائي وغير واحد، مات سنة 148، وقيل 149، كذا في"الإِسعاف". (4) قوله: أن عبيد بن فيروز، ضبطه القاري بفتح الفاء وسكون الياء وضم الراء وسكون الواو في آخره زاء، وذكر السيوطي أن عبيد بن فيروز أبو الضحاك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 أَخْبَرَهُ أَنَّ الْبَرَاءَ (1) بْنَ عَازِبٍ سَأَلَ (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا (3) يُتَّقَّى مِنَ الضَّحَايَا؟ فَأَشَارَ (4) بِيَدِهِ، وَقَالَ: أَرْبَعٌ (5) - وَكَانَ البراءُ بْنُ عَازِبٍ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: يَدِي أقصر (6) من   الكوفي وثقه النسائي وأبو حاتم، وقال ابن عبد البر: لم يختلف الرواة عن مالك في هذا الحديث وإنما رواه عمرو عن سليمان بن عبد الرحمن، عن عبيد فسقط لمالك ذكر سليمان، ولا يعرف الحديث إلاَّ له ولم يروِه غيره عن عبيد ولا يُعرف عبيد إلاَّ بهذا الحديث، وروى عن سليمان جماعة منهم شعبة والليث عن عمرو. (1) قوله: أن البراء، هو بفتح الباء وتخفيف الراء المفتوحة وبالمدين، عازب بكسر الزاء المعجمة ابن الحارث بن عدي الأنصاري الأوسي. أول مشاهده الخندق، نزل الكوفة ومات بها في أيام مصعب بن الزبير سنة 72، كذا في "جامع الأصول". (2) هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد والحاكم أيضاً من طريق عبيد. (3) قوله: ماذا يُتَّقَى، أي يُجتنب، قال الباجي: دلَّ هذا على أن للضحايا صفاتٍ يُتَّقى بعضها، ولو لم يعلم أنها يُتَّقَى منها شيء لسئل هل يُتَّقى من الضحايا شيء؟ (4) في رواية أشار بأصبعه، وقال البراء: أصبعي أقصر من أصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يشيرُ بأصبعه - ويقول: لا يجوز من الضحايا أربع، أورده ابن عبد البر. (5) أي يُتَّقَى أربع (قال الزرقاني: وفي رواية قال: لا يجوز من الضحايا أربع. شرح الزرقاني 3/71؛ والأوجز 9/227) . (6) أي حقيقةً أو فضلاً وشرفاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 يَدِهِ - وَهِيَ العَرْجاء (1) البيِّن ظَلْعُها، وَالْعَوْرَاءُ البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، العَجْفاءُ الَّتِي لا تُنْقِي. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. فَأَمَّا العرجاءُ فَإِذَا مَشَتْ (2) عَلَى رِجلها فَهِيَ تُجْزِئُ (3) وَإِنْ كَانَتْ لا تَمْشِي لَمْ تُجْزِئْ، وَأَمَّا الْعَوْرَاءُ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنَ الْبَصَرِ الأَكْثَرُ (4) مِنْ نِصْفِ الْبَصَرِ أَجْزَأَتْ، وإنْ ذَهَبَ النِّصْفُ فَصَاعِدًا لَمْ تُجْزِئْ، وَأَمَّا الْمَرِيضَةُ الَّتِي فَسَدَتْ (5) لِمَرَضِهَا والعجفاءُ الَّتِي لا تُنْقِى فَإِنَّهُمَا لا يجزئان.   (1) قوله: العَرْجاء، بفتح العين وسكون الراء البيِّن ظَلْعها بفتح الظاء وسكون اللام أي عرجها، والعوراء التي ذهبت إحدى عينيه - ويلحق به العمياء بدلالة النص - البيِّن عورها أي الظاهر، فإن كان به مانع حقير لا يمنع الإِبصار فلا بأس به، والمريضة البيَّن مرضها أي التي يتبيَّن أثر المرض عليها، وهو شامل لكل مرض، وقال الشافعي: المراد به الجرباء، قال العيني: هذا تقييد للمطلق وتخصيص للعموم، والعَجفاء بفتح العين مؤنث أعجف بمعنى الضعيفة التي لا تُنْقي - بضم التاء وكسر القاف - أي التي لا نِقْيَ لها، وهو بكسر النون وسكون القاف. . . إلخ، وقيل: الشحم، كذا قال الزرقاني والعيني. (2) أي إلى المرعى أو المذبح. (3) قوله: فهي تجزئ، لما يدل عليه قوله عليه السلام البيِّن ظَلْعها، وفيه أن ظهور العرج لا يتوقف على أن تصل إلى حد عدم المشي، بل مع المشي إذا لم تقدر على اللحوق بنفسها مع أبناء جنسها فهي عرجاء بيِّن عرجها. (4) فإنَّ للأكثر حكم الكل. (5) أي تغيَّرت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 2 - (بَابُ لُحُومِ الأَضَاحِي) 633 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (2) بْنِ وَاقِدٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أخبره: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاثٍ (3) . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فذكرتُ ذَلِكَ (4) لعَمْرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَتْ: صدق (5) ، سمعتُ (6) عائشة   (1) ابن محمد بن عمرو بن حزم. (2) هو عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر العمري المدني، وثقه ابن حبان، مات سنة 119، قاله السيوطي. (3) قوله: بعد ثلاث، اختلف في أول الثلاثة التي كان الادِّخار فيها جائزاً، فقيل: أولها يوم النحر فمن ضحّى فيه جاز له أن يُمسك يومين بعده، ومن ضحّى بعده أمسك ما بقي له من الثلاثة، وقيل: أولها يوم يضحِّي، فلو ضحّى من آخر أيام النحر جاز له أن يمسك ثلاثاً بعدها، وحكى البيهقي عن الشافعي قال: كان النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث للتنزيه، وهو كالأمر في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ والمُعْتَرّ} (سورة الحج: الآية 36) قال المهلب: هو الصحيح لما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: كنا نُملِّح الضحية فنقدم به على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقال: لا تأكلوا إلاَّ ثلاثة أيام وليست بعزيمة، ولكن أراد أن يطعم منه، كذا في "شرح المسند" (تنسيق النظام ص 198) . (4) أي حديث ابن عمر. (5) أي ابن عمر فيما أخبر به، أو عبد الله بن واقد في ما نقله. (6) قوله: سمعت عائشة، كأنها أشارت إلى أن خبر النهي الذي رواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 أمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ: دفَّ (1) ناسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حضرةَ الأَضْحَى (2) فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ادَّخروا (3) الثُّلُثَ وتصدَّقوا (4) بما بقي،   عبد الله بن واقد عن جده وإن كان صادقاً لكنه منسوخ بدليل خبر عائشة، قال الحازمي في " كتاب الناسخ والمنسوخ" بعد ما أخرج أحاديث النهي عن أكل لحم الأضحية فوق ثلاث من طريق ابن عمر وعلي غيرهما: ممن ذهب إلى هذه الأخبار علي بن أبي طالب وعبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر، وخالفهم في ذلك جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم ورأَوْا جواز ذلك، وتمسَّكوا في ذلك بأخبار تدل على نسخ ذلك. انتهى. ثم ذكر أخباراً تدل على النسخ من طريق جابر وأبي بريدة وعائشة، ونقل عن الشافعي أنه قال: حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي وحديث عبد الله بن واقد متفقان، وفيهما دلالتان أنَّ علياً سمع النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النهي بلغ عبد الله بن واقد، ودلالة أن الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ عليّاً ولا عبد الله، ولو بلغتهما ما حدَّثا بالنهي، والنهي منسوخ. (1) قوله: دفَّ، بتشديد الفاء وفتح الدال أي جاء، قال أهل اللغة: الدافَّة قوم يسيرون جماعة سيراً ليس بالشديد (ودافة الأعراب من يَرِد منهم المصر، والمراد ههنا ضعفاء الأعراب للمواساة. وفي "موطأ يحيى" زيادة: يعني بالدافة قوماً مساكين قدموا المدينة - تفسير من بعض الرواة - انظر الزرقاني 3/76؛ والأوجز 9/250) ، كذا قال ابن حجر. (2) أي في وقت الأضحى. (3) بتشديد الدال المهملة أي احبسوا اللحوم إلى ثلاث ليال وتصدَّقوا بما بقي بعد ذلك. (4) قوله: وتصدقوا بما بقي، فيه إشارة إلى أن النهي عن الأكل فوق ثلاث كان خاصّاً بصاحب الأضحية، فأما من أُهدي له أو تُصُدِّق عليه فلا، وقد جاء في حديث الزبير عند أحمد وغيره: قلت: يا نبي الله، أرأيتَ قد نُهي المسلمون أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 فَلَمَّا كَانَ (1) بَعْدَ ذَلِكَ قِيلَ (2) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ فِي ضَحَايَاهُمْ، يُجْمِلُوْن (3) مِنْهَا الوَدَك (4) ويتَّخذون مِنْهَا (5) الأسْقِيَةَ (6) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ (7) ؟ - كَمَا (8) قَالَ - قَالُوا: نَهَيْتَ عَنْ إِمْسَاكِ لُحُومِ الأَضَاحِي بَعْدَ ثَلاثٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ (9) الدافَّة الَّتِي كَانَتْ دفَّت حضرَة الأَضْحَى، فكلوا   يأكلوا لحم نسكهم فوق ثلاث فكيف نصنع بما أُهدي إلينا؟ قال: أما ما أهْدِيَ إليكم فشأنكم. (1) قوله: فلما كان بعد ذلك، أي في العام الذي بعد عام النهي كما ورد في حديث سلمة بن الأكوع عند البخاري، وورد عند أحمد وغيره ما يدل على أن حكم النسخ صدر أيضاً في حجة الوداع، ولعله إنما خطب به هناك ليشيع حكم النسخ ولا يبقى فيه ريب. (2) قوله: قيل، الظاهر أنهم أرادوا توسيع الأمر، فذكروا له ذلك، وقيل: إنهم فهموا أن النهي كان بسبب خاص، وهو الدَّافة، وتردَّدوا في أنه هل اختص الحكم به أم صار عامّاً؟ فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم ما ذكروا، ففتح النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة. (3) بالضم وبالجيم: أي يذيبون. (4) بفتحتين: الشحم. (5) أي من جلودها. (6) جمع سقاء أي القِرْبة. (7) أي: ما الذي منعهم من ذلك؟. (8) شك من الراوي. (9) أي من أجل الجماعة التي جاءت إليكم لتوسِّعوا عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 وتصدَّقوا (1) وادَّخروا. 634 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أخبره: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاثٍ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ (2) ذَلِكَ: كُلُوا وتزوَّدوا وادَّخروا (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بالادِّخار بَعْدَ ثَلاثٍ والتزوُّد، وَقَدْ رخَّص (4) فِي ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ كَانَ نَهَى عَنْهُ، فَقَوْلُهُ الآخِرُ (5) ناسخٌ للأوَّل، فَلا بَأْسَ بالادِّخار والتزوُّد مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 635 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى (6) عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاثٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: كُلُوا وادَّخروا وتصدَّقوا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِأَنْ يأكل (7) الرجل من   (1) الأمر للاستحباب. (2) أي بعد النهي في العام الآخر. (3) بتشديد الدال المهملة. والأمر فيه وكذا في التزوُّد للإِباحة. (4) فهو من قبيل نسخ السنَّة بالسنَّة. (5) أي المتأخر. (6) في نسخة: نهى. (7) بل يستحب له ذلك كما فعله النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 أُضْحِيَتِهِ ويدَّخر ويتصدَّق (1) ، وَمَا نُحِبُّ لَهُ أَنْ يتصدَّق بأقلَّ مِنَ الثُّلُث وَإِنْ تصدَّق بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ جَازَ (2) . 3 - (بَابُ الرَّجُلِ يَذْبَحُ أُضْحِيَتَهُ قَبْلَ أَنْ يغدوَ (3) يَوْمَ الأَضْحَى) 636 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ: أَنَّ عُوَيْمر (4) بْنَ أَشقَر ذَبَحَ أُضْحِيَتَهُ قَبْلَ أَنْ يغدوَ يَوْمَ الأَضْحَى، وأنَّه (5) ذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،   (1) لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمُعْتَرّ} (سورة الحج: الآية 36) . (2) وكذا لو لم يتصدق بشيْ. (3) أي قبل أن يذهب صباحاً إلى المصلّى. (4) قوله: عويمر، هو عويمر - بضم العين وكسر الميم مصغَّراً - ابن أشقر - بفتح الألف وسكون الشين المعجمة بعدها قاف - بن عوف الأنصاري، وقيل: ابن أشقر بن عدي بن خنساء بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار الأنصاري المازني، شهد بدراً، وروى عنه عباد بن تميم المازني مرسلاً، كذا قال ابن الأثير في "جامع الأصول"، وقال ابن عبد البر في "شرح الموطأ": لم يُختلف عن مالك في هذا الحديث، وظاهره الانقطاع لأن عبّاداً لم يدرك ذلك الوقت، ولذا زعم ابن معين أنه مرسل، لكن سماع عباد بن تميم ممكن، وقد صرح به في رواية عبد العزيز الدراوردي عن يحيى بن سعيد، عن عبّاد أن عويمر بن أشقر أخبره. (5) قوله: أنه ذكر ذلك، الظاهر أنه معروف والضميران يعودان إلى عويمر أي أن عويمراً ذكر ذبحه قبل الصلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يذبح بأخرى، وذهب القاري إلى أنه مجهول، والضمير للشأن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 فَأَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ بأضحيةٍ (1) أُخْرَى. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ. إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي مصرٍ يُصَلَّى (3)   (1) قوله: بأضحية أخرى، وقع في رواية ابن ماجه وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن عويمراً أن يضحّي بجذع من المعز، وهو محمول على الخصوصية أو على كونه منسوخاً بدليل ما في قصة أبي بردة المروية في الصحاح أن النبي عليه السلام أجاز له بجذعة وقال: لن يجزئ عن أحد بعدك (وقد ورد التخصيص لعقبة بن عامر أيضاً، فوُفِّق بينهما باحتمال صدورهما في وقت واحد، أو أن خصوصية الأول نُسخت بثبوت الخصوصية للثاني، قيل: ذكر بعضهم أن الذين ثبت لهم رخصة أربعة أو خمسة، لكن ليس التصريح بالنفي إلاَّ في قصة أبي بردة بن نيار في الصحيحين وعقبة بن عامر. تنسيق النظام ص 198. وبسط الشيخ الكلام في الأوجز 9/242، فارجع إليه. (2) قوله: وبهذا نأخذ، قال شارح المسند: في الحديث أن الأضحية إنما تُذبح بعد فراغ الإِمام من صلاة العيد سواء ذبح أو لم يذبح، وسواء كان قبل الخُطبة أو بعدها، لكن بعدها أحبُّ وإن أخَّروا صلاة العيد لعذر إلى الغد جاز أن يضحّي بعد مضي وقت الصلاة، وهذه المراعاة إنما هي يوم النحر خاصة، وفي الثاني والثالث يجوز الذبح قبل الصلاة، وهذا كله لأهل الأمصار. وأما أهل القرى فيجوز لهم بعد طلوع فجر يوم النحر، ولو قبل طلوع الشمس، وهذا كله مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وقال مالك: وقت ذبح الأضحية إنما يدخل بعد الخطبة والصلاة وذبح الإِمام، وقال الشافعي: إذا مضى من يوم النحر بعد طلوع الشمس مقدار ما يُصلَّى فيه صلاة العيد والخطبتين بعدها، ويستوي في ذلك عنده أهل المصر والبوادي. (3) بصيغة المجهول صفة للمصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 العيدُ فِيهِ، فَذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يصلِّي الإِمَامُ فَإِنَّمَا (1) هِيَ شاةُ لَحْمٍ، وَلا يُجْزِئُ مِنَ الأُضْحِيَةِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مصرٍ وَكَانَ فِي بَادِيَةٍ (2) أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الْقُرَى النَّائِيَةِ (3) عَنِ الْمِصْرِ فَإِذَا ذَبَحَ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ (4) وَحِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ أَجْزَأَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 4 - (بَابُ مَا يُجْزِئ مِنَ الضَّحَايَا عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ) 637 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عُمارة (5) بْنُ صَيّاد، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ (6) صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ قَالَ: كُنَّا نُضحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ يَذْبَحُهَا الرَّجُلُ عَنْهُ (7) وعن أهل بيته، ثم   (1) قوله: فإنما هي شاة لحم، أي: شاة ذبحت لأكل اللحم لا لتقرب النحر، يشير إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: من صلّى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم، أخرجه أبو داود وغيره. (2) أي صحراء. (3) في نسخة: الغائبة أي البعيدة. (4) أي فجر يوم النحر الصادق. (5) قوله: عُمارة، بضم العين وفتح الميم، هو عمارة بن عبد الله بن صَيّاد بفتح الصاد وتشديد الياء الأنصاري، أبو أيوب المدني، وقد يُنسب إلى جدّه صيّاد، وأبوه هو الذي قيل عنه إنه الدجال، وثقه ابن معين والنسائي، مات بعد سنة 130، كذا في "إسعاف السيوطي". (6) خالد بن زيد الأنصاري. (7) أي عن نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 تَبَاهَى (1) النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَارَتْ مُبَاهَاةً (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: كَانَ (3) الرَّجُلُ يَكُونُ مُحْتَاجًا فَيَذْبَحُ الشَّاةَ الْوَاحِدَةَ يُضَحِّي بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَيَأْكُلُ ويُطعم أَهْلَهُ، فَأَمَّا شاةٌ وَاحِدَةٌ تُذبح عَنِ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ أُضْحِيَةٌ (4) فَهَذَا لا يُجْزِئُ، وَلا يَجُوزُ شَاةٌ إِلا عَنِ الْوَاحِدِ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   (1) أي تفاخر. (2) أي ثم صارت الأضحية مفاخرة يتفاخرون بها ويذبحون لكل نفس واحدة فأكثر. (3) قوله: كان الرجل ... إلخ، لمّا كان أثر أبي أيّوب دالاًّ على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته أوّله إلى أنه محمول على ما إذا كان الرجل محتاجاً إلى اللحم أو فقيراً لا يجب عليه الأضحية فيذبح الشاة الواحدة عن نفسه، ويُطعم اللحم أهل بيته أو يُشْركهم في الثواب، فذلك جائز، فأما الاشتراك في الشاة الواحدة في الأضحية الواجبة فلا، فإن الاشتراك خلاف القياس وإنما جُوِّز في البقر والإِبل لورود النص من طرق متكثرة أنهم اشتركوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقرة والإِبل ولا نص في الشاة فيبقى على الأصل، وأما ما أخرجه الحاكم عن أبي عقيل زهرة بن سعيد عن جده عبد الله بن هشام وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت به أمه زينب بنت حميد إليه، وهو صغير فمسح رأسه ودعا له، قال: كان رسول الله يُضَحِّي بالشاة الواحدة عن جميع أهله، قال الحاكم: صحيح الإِسناد، فلا يدلّ على وقوعه عن الجماعة، بل معناه أنه كان يُضَحِّي ويجعل ثوابها هبة لأهل بيته، وهذا كما ورد أنه ضحى كَبْشاً عن أمته. وبهذه الأخبار ذهب مالك وأحمد والليث والأَوْزاعي إلى جواز الشاة عن أكثر من واحد، كذا ذكره العيني في "البناية شرح الهداية". (4) أي في الأضحية الواجبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 638 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَحَرْنَا (1) مَعَ (2) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحُدَيْبية (3) البَدَنة (4) عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ تُجزئ عَنْ سبعة (5) في   (1) أي ذبحنا. (2) أي حين حصروا بها ورفضوا إحرام العمرة هناك وذبحوا الهدايا. (3) قوله: بالحديبية، بضم الحاء وفتح الدال المهملة وتخفيف الياء، كذا قال الشافعي وأهل اللغة وبعض أهل الحديث، وقال أكثر المحدثين: بتشديد الياء، وهما وجهان مشهوران، قال صاحب "مطالع الأنوار": هي قرية، ليست بكبير، وسُمِّيت ببئر هناك عند مسجد الشجرة على نحو مرحلة من مكة، وكان الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان يوم الحديبية ألفاً وأربع مائة، وقيل: ألفاً وخمس مائة، وقيل غير ذلك، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي. (4) قوله: البَدَنة، بفتح الباء والدال، يُجمع على بُدْن - بضم الدال وسكونها - هي من البقر والإِبل، سُمِّيت بذلك لعظم أبدانها، ذكره الدَّميري في "حياة الحيوان"، وقال النووي في "التهذيب": حيث أُطلقت في كتب الحديث والفقه، فالمراد بها البعير ذكراً كان أو أنثى، وأكثر أهل اللغة أطلقوه على الإِبل والبقر. (5) قوله: عن سبعة، وكذا عن ستة وثلاثة وخمسة بالطريق الأَوْلى، ولا يجوز عن ثمان لحديث جابر في قصة الحديبية، أخرجه الجماعة إلا البخاري، وفي لفظ لمسلم: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإِبل والبقر كل سبعة منا في بدنة، وفي رواية لأبي داود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: البقر عن سبعة والجَزور عن سبعة، وأما ما أخرجه الحاكم عن جابر: نحرنا يوم الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن عشرة، وأخرج الترمذي - وقال: حسن غريب - والنسائي عن ابن عباس قال: كنا مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 الأُضْحِيَةِ وَالْهَدْيِ (1) مُتَفَرِّقِينَ (2) كَانُوا أَوْ مُجْتَمِعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ (3) وَاحِدٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله. 5 - (بَابُ الذَّبَائِحِ) 639 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلا (4)   رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة سبعة وفي الجَزور عشرة، محمول على الاشتراك في القيمة، لا في التضحية، على أن البيهقي قال: حديث جابر في اشتراكهم في الجَزور سبعة أصح، كذا ذكره ابن حجر في "تخريج أحاديث الهداية" والعيني في "البناية". (1) قوله: والهدي، أي هدي الحاج المحصر وغيره لحديث جابر فإنه نص فيه، والأضحية بمعناه. (2) أي سواء كان السبعة متفرقين من الأجانب أو مجتمعين. (3) قوله: من أهل بيت واحد أو غيره، أي من بيوت متعدِّدة، وفيه إشارة إلى الرد على ما حكاه بعض أصحابنا عن مالك أنه جوَّز اشتراك أهل بيت واحد وإن زادوا على السبعة ولم يُجِزْ اشتراك أهل بيتين وإن كانوا أقل. والذي يُفهم من "موطأ يحيى" وشرحه أنه يجوز الاشتراك في البقر والإِبل والغنم في الأجر بأن يذبحه أحد منهم ويُشركهم في الأجر، وفي هدي التطوع لا في الأضحية الواجبة والهدي الواجب، وحمل حديث جابر على الاشتراك في الأجر فإن المحصر بعدو لا يجب عليه عنده هدي فكان الهدي الذي نحروه تطوّعاً، لكن لا يخفى على ناظر كتب الحديث أن صريح بعض الأحاديث تردّه. (4) قوله: أن رجلاً، أي من الأنصار من بني حارثة كما في "موطأ يحيى"، قال ابن عبد البر: هو مرسل عند جميع رواة "الموطأ" ووصله أبو العباس محمد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 كَانَ يَرْعَى َلِقْحةً (1) لَهُ بأُحُدٍ (2) ، فَجَاءَهَا (3) الموتُ فَذَكَّاهَا (4) بشِظَاظ (5) ، فَسَأَلَ (6) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِهَا، فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهَا كُلُوهَا (7) . 640 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (8) نَافِعٌ، عَنْ رجل من الأنصار،   إسحاق السراج من طريق أيوب، والبزار من طريق جرير بن حازم كلاهما عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً ... (1) بكسر اللام وفتحها: ناقة ذات لبن، كذا ذكره السيوطي في "التنوير". (2) بضمتين: جبل عظيم بقرب المدينة. (3) أي قَرُب موتها، وجاءت مقدماته. (4) بتشديد الكاف: أي ذبحها. (5) قوله: شظاظ، بكسر الشين المعجمة وإعجام الظائين: العود المحدَّد الطَرَف. وفُسِّر في بعض طرق الحديث بالوتد، كذا في "التنوير". (6) في رواية: فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسأله فأمره بأكلها. (7) أمر إباحة: إشارة إلى إباحة أكل ما ذبح المحدَّد. (8) قوله: أخبرنا نافع، أي مولى ابن عمر عن رجل من الأنصار إلخ، روى البخاري هذا الحديث عن المقدمي عن معمر عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع أنه سمع ابن كعب بن مالك يخبر ابن عمر أن أباه أخبره أن جارية لهم كانت ترعى غنماً بسلع، فأبصرت بشاةٍ موتاً، فكسرت حجراً، فذبحتها فقال كعب لأهله: لا تأكلوا حتى آتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسأله، فأتاه أو بعث إليه من سأله، فأمره بأكلها. ثم روى من طريق جويرية عن نافع عن رجل من بني سلمة أخبر عبد الله بن عمر أن جارية لكعب بن مالك ترعى غنماً ... الحديث. وابن كعب المذكور في الرواية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 أَنَّ مُعَاذَ بْنَ سَعْدٍ (1) أَوْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ جَارِيَةً (2) لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ بسَلْع (3) فَأُصِيبَتْ (4) مِنْهَا شَاةٌ، فَأَدْرَكَتْهَا (5) ، ثُمَّ ذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فسُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهَا كُلُوهَا (6) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ كُلُّ شَيْءٍ أَفْرَى (7) الأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدم   الأولى هو عبد الله بن كعب، جزم به المِزِّي في "الأطراف" ورجح الحافظ ابن حجر أنه عبد الرحمن بن كعب، وقال الدارقطني: رواه الليث عن نافع سمع رجلاً من الأنصار يخبر عبد الله، وقيل فيه عن نافع عن ابن عمر، ولا يصح، والاختلاف فيه كثير، وقد اختلف فيه على نافع وأصحابه، قال الحافظ في "مقدمة فتح الباري": هو كما قال. (1) قال الزرقاني: كذا وقع الشك. وذكر معاذ بن سعد بن مندة وأبو نعيم في الصحابة، قاله في "الإِصابة". (2) قال ابن حجر في "مقدمة الفتح": لا يُعرف اسمها. (3) بفتح السين وسكون اللام: جبل بالمدينة. (4) أي جاءته مقدمات الموت. (5) الجارية. (6) يُستنبط من الحديث جواز ذبيحة المرأة بلا كراهة. (7) قوله: أفرى الأوداج، الإفراء القطع، والأوداج جمع وَدَج - بفتحتين - وهي عروق تحيط بالحلق، والإِنهار الإسالة، كذا ذكره العيني، وفي هذا التعبير إشارة إلى ما ورد: "أنهِر الدم بما شئت" متفق عليه من حديث عدي، وفي رواية لهما من حديث رافع: ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوا. وفي رواية ابن أبي شيبة عن رافع: كلُّ ما أفرى الأوداج إلا سنّاً أو ظفراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 فَذَبَحْتَ بِهِ فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ إِلا السنَّ وَالظُّفْرَ وَالْعَظْمَ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ أَنْ تُذبح (1) بِشَيْءٍ مِنْهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 641 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: مَا ذُبح (2) بِهِ إِذَا بَضّع (3) فَلا بَأْسَ بِهِ إِذَا اضطُررت (4) إِلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِذَلِكَ كلِّه عَلَى مَا فسّرتُ (5)   (1) بصيغة المجهول أو المعروف المخاطب. (2) بصيغة المجهول. (3) قوله: إذا بَضّع، بفتح الباء وتشديد الضاد وتخفيفها أي قطع. (4) قوله: إذا اضطررت (قال صاحب " المحلّى": بأن لم تجد السكِّين خرج مخرج الغالب لأن الإنسان لا يعدل من المدية ونحوها إلى القضيب إلا إذا لم يجدها. انتهى. انظر: الأوجز 9/136) إليه، بصيغة المجهول المخاطب. الظاهر أنه محمول على ذكاة الاضطرار، فإن ذكاة الاختيار هو قطع الأوداج، وذكاة الضرورة جرح في البدن أينما كان وهو لا يحلّ عند القدرة على ذكاة الاختيار، بل بحالة عدم القدرة عليه، فمعنى قوله ما ذبح به ... إلخ: أنّ ما يُذبح به إذا قطع موضعاً من مواضع الحيوان فلا بأس به إذا اضطر إليه، وإن لم يضطر إليه لا يجوز ذلك. وحمله الزرقاني على أن معنى البضع قطع الحلقوم والودجين وأنّ قوله إذا اضطرت إليه متعلق بتعميم مستفاد من كلمة "ما" أي ما ذبح به إذا قطع الأوداج، وإن كان غير حديد فلا بأس به إذا اضطررت إليه وإلا فالمستحب الحديد المشحوذ لحديث وليُحدّ شفرتّه. (5) أي بيّنتُ سابقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 لَكَ، وَإِنْ ذُبِحَ بِسِنٍّ أَوْ ظُفْرٍ مَنْزُوعَيْنِ (1) فَأَفْرَى الأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ أُكل (2) أَيْضًا. وَذَلِكَ (3) مكروه، فإن كانا منزوعين (4) فإنما (5) قتلها   (1) أي مقلوعين عن موضعهما. (2) قوله: أكل أيضاً، لعموم الأحاديث التي مرّ ذكرها. ولأنّ كلاًّ من السنّ والظفر وكذا القرن والعظم آلة جارحة تخرج الدم فيحصل ما هو المقصود. وذكر العيني أن حلة أكل ما ذبح بالسن وغيره مذهب مالك (قال ابن رشد في البداية 2/484: أجمع العلماء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر أو غيرهما أن التذكية به جائزة، واختلفوا في ثلاثة: في السن والظفر والعظم، ولاخلاف في المذهب أن الذكاة بالعظم جائزة إذا أنهر الدم، واختلف في السن والظفر على الأقاويل الثلاثة أعني بالمنع مطلقاً، وبالفرق بين الانفصال والاتصال، وبالكراهة لا المنع) أيضاً. وقال الشافعي وأحمد: المذبوح به ميتة لحديث رافع بن خديج مرفوعاً: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سِنّاً أو ظفراً، سأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم. وأما الظفر فمُدى الحبشة" أخرجه الأئمة الستة وهو محمول عندنا على غير المنزوع فإن الحبشة كانوا يفعلون كذلك إظهاراً للجلادة. (3) قوله: ذلك، أي ذلك الفعل يعني الذبح بالسن والظفر مكروه، أما السن فلأنّه عظم وهو زاد إخواننا من الجن، فيجب الاحتزار عن تنجيسه، ولهذا مُنع عن الاستنجاء به وذلك متصوَّر في الذبح وأما الظفر فلأنّ فيه تشبّهاً بالحبشة. (4) بل قائمين في موضعهما. (5) قوله: فإنما قتلها قتلاً، قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار": قد روي في هذا عن ابن عباس ما قد حدثنا به سليمان بن شعيب، نا الحصيب بن ناصح، نا أبو الأشعث عن أبي العطاردي قال: خرجنا حُجّاجاً فصاد رجل من القوم أرنباً فذبحها بظفره، فأكلوها ولم آكل معهم، فلما قدمنا المدينة سألتُ ابنَ عباس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 قَتْلًا (1) فَهِيَ مَيْتَةٌ لا تُؤْكَلُ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. 6 - (بَابُ الصَّيْدِ وَمَا يُكره أَكْلُهُ مِنَ السِبَاع (2) وَغَيْرِهَا) 642 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخَوْلاني (3) ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ (4) الخُشَني: أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أَكْلِ كلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. 643 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ   فقال: لعلك أكلتَ معهم؟ فقلت: لا. قال: أصبت إنما قتلها خنقاً. أفلا يرى أن ابن عباس قد بيّن في حديثه هذا المعنى الذي حَرُم به أكل ما ذُبح بالظفر أنه الخنق لأن ما ذُبح به فإنما ذُبح بكفّ فهو مخنوق، فدل ذلك على أنه إنما نُهي عن الذبح بالظفر المركب في الكف لا المنزوع وكذلك ما نُهي عنه مع ذلك من الذبح بالسن فإنما هو على السن المركبة في الفم لأن ذلك يكون عضّاً، فإما السِنّ المنزوعة فلا. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. (1) أي هو ليس بذبح شرعي. (2) جمع سبُع بضم الباء وإسكانها: الحيوان المفترس، ذكره الدَّميري. (3) بفتح الخاء نسبة إلى خَوْلان، قبيلة بالشام، اسمه عائذ الله، ذكره السمعاني. (4) قوله: عن أبي ثعلبة، هو جرهم، وقيل: جرثوم بن ناشب، وقيل ابن ناشم، وقيل: اسمه عمرو بن جرثوم، وقيل: غير ذلك، كان ممن بايع تحت الشجرة وأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فأسلموا، ونزل الشام، ومات في زمن معاوية وقيل: في زمن عبد الملك سنة 75، كذا في "الاستيعاب". ونسبته إلى خُشين بضم الخاء المعجمة وفتح الشين المعجمة، قبيلة من قضاعة، ذكره السمعاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 عَبِيْدَة (1) بْنِ سُفْيَانَ الْحَضْرَمِيِّ (2) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: أكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يُكره (3) أَكْلُ كلِّ ذِي نَابٍ (4) مِنَ السِّبَاع وكُلِّ ذِي مِخْلب مِنَ الطَّيْرِ، ويُكره مِنَ الطَّيْرِ أيضاً (5) ما يأكل   (1) بفتح العين ثقة وثقة النسائي والعجلي، كذا في "الإِسعاف". (2) بفتح الحاء وسكون الضاد نسبة إلى حضرموت من بلاد اليمن، ذكره السماني. (3) أي يحرم. (4) قوله: أكل كلِّ ذي ناب، هو الذي يفترس بأنيابه ويعدُو كالأسد والذئب والفهد وغير ذلك، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم، وعن بعض أصحاب مالك مباح، وبه قال الشعبي وسعيد بن جبير لعموم قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أَوْحِيَ إلَيّ محرَّماً} (سورة الأنعام: الأية 145) ، وكذا لا يجوز ذو مخلب من الطير - بكسر الميم - هو للطائر كالظفر للإنسان كالصقر والشاهين والعقاب، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم وقال مالك والليث والأَوْزاعي: لا يحرم من الطير شيء، وقد ورد النهي عن أكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير من حديث ابن عباس أخرجه مسلم وأبو داود والبزار، وخالد بن الوليد أخرجه أبو داود، وعلي بن أبي طالب أخرجه أحمد في مسنده، وجابر أخرجه الكرخي في "مختصره". وورد من حديث أبي ثعلبة عند الأئمة الستة وأبي هريرة عند مسلم وغيره: النهي عن ذي ناب من السباع، وهذه الروايات حجة على من حكم بخلافها، وألحق أصحابنا بسباع البهائم سباعَ الطير، كذا في "البناية" للعيني. (5) لدخوله في قوله تعالى: {ويُحَرِّم الخبائث} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 الجِيَفَ (1) مِمَّا لَهُ مِخْلب أَوْ لَيْسَ لَهُ مِخْلَبٌ. وَهُوَ قَوْلُ (2) أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. 7 - (بَابُ أَكْلِ الضَبّ (3)) 644 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ خَالِدِ (4) بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّهُ (5) دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيتَ مَيْمُونَةَ (6) زوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأُتي بضَبّ مَحْنُوذ (7) فَأَهْوَى (8) إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يده،   (سورة الأعراف: الآية 157) (1) الجِيَف بكسر الجيم وفتح الياء جمع جيفة. (2) قوله: وهو قول، أخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنهم يعني الصحابة كانوا يكرهون ما يأكل الجِيَف. وعن مجاهد أنه سئل عنه فعافه، ذكره ابن حجر في "التلخيص". (3) بفتح الضاد وتشديد الباء: حيوان معروف برّيّ، يقال له سوسمار كَوه باللغة الأردية. (4) قوله: خالد، هو ابن خالة ابن عباس، أبو سفيان المخزومي، أسلم بعد الحديبية وقبل الفتح، وشهد غزوة مؤتة، مات بحمص سنة 21، وقيل: بالمدينة، كذا في "الإِسعاف". (5) قال ابن عبد البر: كذا قال يحيى وجماعة من رواة "الموطأ". وقال ابن بكير عن ابن عباس وخالد: أنهما دخلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (6) هي خالة ابن عباس وخالد. (7) بالذال المعجمة أي مشويّ. (8) أي أمال إليه يده للتناول للأكل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللاتِي كنَّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخبِرُوا (1) رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، فَقُلْنَ (2) : هُوَ ضَبٌّ، فَرَفَعَ (3) يدَه، فَقُلْتُ (4) : أَحَرَامٌ (5) هُوَ؟ قَالَ: لا (6) ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ (7) قَوْمِي، فأجِدُني أعافُه (8) . قَالَ (9) : فاجترَرْتُه (10) فأكلتُ وَرَسُولُ (11) اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظُرُ. 645 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: نَادَى رَجُلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى (12) فِي أَكْلِ الضبّ؟   (1) أي سَمُّوا له ليعرف حِلّه وحُرمته. (2) قوله: فقلن، منهن ميمونة كما عند الطبراني وبقية النساء لم يسمَّيْن، كذا ذكره ابن حجر وغيره. (3) معرضاً عن أكله. (4) هذا قول خالد. (5) أي أأعرضت عن أكله لحُرمته؟ (6) أي ليس بحرام. (7) أي مكة وأطرافها. (8) بفتح الهمزة أي أجد نفسي أكرهه. (9) أي خالد. (10) أي جررته إلى نفسي. (11) الواو حالية والغرض منه بيان تقريره عليه السلام على أكله الدال على حله فإنه لو كان حراماً لمنعه عن أكله. (12) أي ما حكمه؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 قال: لستُ (1) بآكله ولامُحَرِّمه. قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ جَاءَ (2) فِي أَكْلِهِ اخْتِلَافٌ، فأما نحن فلا نرى أن يؤكل.   (1) أي لا أحرّمه ولكن لا آكله لا لتحريمه بل لما مرّ. (2) قوله: قد جاء في أكله اختلاف، أي وردت في جواز أكله وعدمه أحاديث مختلفة، فإن حديث ابن عمر وكذا حديث خالد المذكورَيْن سابقاً يدلاّن على الحِلّ من غير كراهة، وحديث عائشة وعليّ المذكورَيْن لاحقاً يدلان على النهي والكراهة، وإذا تعارضت الأخبار في الحلّ وعدمه رُجِّحت أخبار عدمه (قد جمع الشيخ في بذل المجهود 16/121 بين هذه الروايات المتعارضة، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباحه أولاً، ولكن ترك أكله تقذُّراً واعتذر بأنه لم يكن في أرض قومي فأجدني أعافه، ثم تردّد فيه باحتمال كونه من الممسوخات فلم يأمر فيه بشيء ولم ينه عنه، فكان في حكم الإِباحة الأصلية، ثم بعد ذلك نهى عنه فصار حراماً، وهذا الوجه أولى لأن فيه تغليب الحظر على الإِباحة) احتياطاً. قال بعض الأعلام في "شرح مسند الإِمام" (أي: تنسيق النظام ص 192) : أخرج أبو داود عن عبد الرحمن ابن شبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب. وفي إسناده إسماعيل بن عيّاش عن ضمضم بن زرعة عن عتبة عن أبي راشد عنه، قال الحافظ: وحديث (في الأصل هكذا. والظاهر أحاديث) ابن عياش عن الشاميين مقبولة، وهؤلاء ثقات شاميون، ولا يُلتفت إلى قول الخطابي: ليس بإسناده بذلك وبهذا تمسّك أبو حنيفة وأصحابه، وقالوا بامتناع أكل الضبّ، وقد وردت أحاديث في أكل الضّب بعضها تشتمل على النهي لعلة المسخ، وبعضها على أن النبي عليه السلام لم يأكل منه ولم ينه عنه، فمن الأول: ما أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني بإسناد رجاله ثقات عن عبد الرحمن بن حسنة: كنّا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأسفر، فنزلنا منزلاً أرضاً كثيرة الضباب فأصبنا ضبّاً وذبحنا، فبينما القِدْرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   يغلي إذ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أمة من بني إسرائيل فُقدت وإني أخاف أن تكون هي، فاكْفَؤوها، فَكفأناها، وفي رواية: وإنا جياع. ومن الثاني: ما أخرجه مسلم عن أبي سعيد أنّ أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني في غائط مُضِبة (قال الحافظ: مُضِبة - بضم أوله وكسر المعجمة - أي كثيرة الضباب. فتح الباري 9/663) وإنّه عامُّ طعام أهلي، فلم يجبه، فقلنا: عاوِدْهُ فعاودَهُ، فلم يجبه ثلاثاً ثم ناداه في الثالثة، وقال: يا أعرابي، إنّ الله لعن على سبطٍ من بني إسرائيل، فمسخهم دوابّ يدبّون على الأرض فلا أدري لعل هذا منها، فلست آكلها ولا أنهى عنها. وعند أبي داود والنسائي من حديث ثابت بن وديعة نحو ذلك. فلما كانت الأحاديث في الضبّ كما ترى اختلف العلماء في أكله، فمنهم من حرّمه حكاه عياض عن قوم، ومنهم من كرهه وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، ونقله ابن المنذر عن علي، ومنهم من قال بإباحة أكله، وهو قول الجمهور. وقالوا في الأحاديث التي ورد النهيُ فيها لعلّة المسخ ليس فيها ما يدل على الجزم بأن الضبّ ممسوخ، وإنما توقف في ذلك وهذا لا يكون إلا قبل أن يُعلم اللَّهُ نبيَّه أن الممسوخ لا ينسل، وبهذا أجاب الطحاوي، ثم أخرج عن ابن مسعود: سئل رسول الله عن القرود والخنازير وهي ممّا مُسخ. قال: إن الله لا يُهللك قوماً فيجعل لهم نسلاً، فلما عُلم أن الممسوخ لا نسل له وكان صلى الله عليه وسلم يستقذره فلا يأكله، ولا يحرمه وأكل على مائدته دل على الإِباحة وتكون الكراهة تنزيهية في حق من يتقذّره، ورجح الطحاوي إباحة أكله، ونقل الشيخ بيري زاده في "شرح الموطأ" لمحمد عن العيني أنه قال: الأصح أن الكراهة عند أصحابنا تنزيهية لا تحريمية للأحاديث الصحيحة أنه ليس بحرام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 646 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النّخَعي، عَنْ عَائِشَةَ: (1) أَنَّهُ أُهْدِيَ (2) لَهَا ضَبّ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ عَنْ أَكْلِهِ فَنَهَاهَا عَنْهُ، فَجَاءَتْ (3) سَائِلَةٌ فَأَرَادَتْ (4) أَنْ تُطْعِمَها إِيَّاهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُطْعِمِينَها (5) مِمَّا لا تُأكلين؟ 647 - أخبرنا عبد الجبار (6) ، عن ابن عبّاس الهمدانيّ، عن   (قال الحافظ: والمعروف عن أكثر الحنفية فيه كراهة التنزيه وجنح بعضهم إلى التحريم ويبدو أن الطحاوي أيضاً فهم عن محمد أنّ الكراهية فيه للتحريم. انظر فتح الباري 9/666) . (1) قوله: عن عائشة، هذه الرواية منقطعة، فإن النخَعي لم يسمع من عائشة شيئاً كما ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب"، وقد وجدنا هذا الحديث في "مسند الإِمام أبي حنيفة" الذي جمعه الحصفكي، وفي "مسنده" الذي جمعه الخوارزمي هكذا: أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، وكذا أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" ونقل عن محمد أنه احتج بهذا الحديث على كراهة أكل الضب، وقال: قد دلّ ذلك على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره لنفسه ولغيره أكلَ الضَّبَ، فبذلك نأخذ، ثم أجاب عنه الطحاوي بقوله: قيل له: ما في هذا دليل على ما ذكرت، فقد يجوز أن يكون كره أن تُطعمه السائل لأنها إنما فعلت ذلك من أجل أنها عافته، ولولا أنها عافته لما أطعمته إيّاه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكون ما يتقرب به إلى الله إلا من خير الطعام كما قد روي أنه نهى عن أن يُتَصَدّق بالتمر الرديء. (2) بصيغة المجهول. (3) في رواية الطحاوي: فجاء سائل. (4) أي عائشة. (5) من باب الإِطعام مع همزة الاستفهام للزجر والملام. (6) قوله: أخبرنا عبد الجبار عن ابن عباس الهمداني، بالفتح نسبة إلى همدان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قبيلة عن عزيز - على وزن فعيل بزائين معجمتين بينهما ياءً تحتية مثناة أولها عين مهملة - بن مَرْثَد - بفتح الميم والثاء المثلثة بينهما راء مهملة ساكنة - عن الحارث عن علي بن أبي طالب إلخ، هكذا وجدنا العبارة في كثير من النسخ وفي بعضها عن أبي عباس مكان عن ابن عباس، وفي بعضها مكانه عن ابن عيّاش بتشديد الباء المثناة التحتية بعد العين المهملة آخره شين معجمة، والذي أظن أن هذا كله تصحيف، والصحيح عبد الجبار ابن عباس الهمداني قال في "تهذيب التهذيب" عبد الجبار بن العباس الشِّبامي الهمداني الكوفي، وشبام جبل باليمن، روى عن أبي إسحاق السبيعي وعدي بن ثابت وسلمة بن كهيل وقيس بن وهب وعون وعثمان بن المغيرة الثقفي وعُرَيب بن مرثد المَشْرِقي وعدة، وعنه ابن المبارك وإسماعيل بن محمد بن جحادة ومسلم بن قتيبة وإبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي. وأبو أحمد الزبيري والحسن بن صالح ووكيع وغيرهم قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أرجو أن لا يكون به بأس وكان يتشيّع، وقال ابن معين وأبو داود: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ثقة، وقال البزار: أحاديثه مستقيمة، وقال العجلي: صويلح، لا بأس به. انتهى ملخصاً. وفي "أنساب السمعاني" بعد ذكر أن الشبامي نسبة إلى شبام بلدة باليمن - بكسر الشين المعجمة بعدها باء موحدة - المشهور بالنسبة إليها عبد الجبار بن عباس الشبامي الهمداني من أهل الكوفة، يروي عن عون بن أبي جحيفة وعطاء بن السائب، وروى عنه ابن أبي زائدة والكوفيون، كان غالياً في التشيع. انتهى. وفيه أيضاً بعد ما ذكر المَشْرِقي وضبطه بفتح الميم وسكون الشين المعجمة وكسر الراء المهملة في آخره قاف، نسبة إلى مشرق بطن من همدان، والمشهور بالنسبة إليه عريب بن مرثد المَشْرِقي الهمداني، يروي المقاطيع، روى عنه عبد الجبار بن العباس الشبامي انتهى ملخصاً. ومنه يُعلم أنّ شيخ عبد الجبار اسمه عريب لا عزيز فليحرر هذا المقام: وأما الحارث فهو ابن عبد الله الأعور الهمداني الكوفي، روى عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وعنه الشَّعبي وأبو إسحاق السَّبيعي وعطاء بن أبي رباح وجماعة، كذَّبه الشعبي على ما أخرجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 عَزِيزِ بْنِ مَرثَد، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ والضّبُع (1) . قَالَ محمدٌ: فَتَرْكُهُ أَحَبُّ إِلَيْنَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى.   مسلم في "مقدمة صحيحة" وأبو إسحاق وعليّ بن المديني وغيرهم، ووثقه يحيى بن معين، وقال ابن حبان: كان غالياً في التشيع، واهياً في الحديث، مات سنة 65 هـ، وقال أحمد بن صالح المصري: الحارث الأعور ثقة ما أحفظه وما أحسن ما روى عن عليّ، وأثنى عليه، قيل له: فقد قال الشعبي: كان يكذب؟ قال: لم يكن يكذب في الحديث وإنما كان كذبه في رأيه. وقال الذهبي: النسائي مع تعنُّته في الرجال قد احتج به والجمهور على توهينه مع روايتهم لحديثه في الأبواب، وهذا الشعبي يكذِّبه ثم يروي عنه، والظاهر أنه يكذب في حكاياته لا في الحديث، كذا في "تهذيب التهذيب". (1) قوله: والضَّبُع، هو كالسَّبُع وزناً ويقال له كفتار (بالفارسية) وهو حلال عند الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وكرهه مالك، والمكروه عنده ما يأثم آكله ولا يُقطع بتحريمه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يحل أكله، وبه قال سعيد بن المسيب والثوري محتجِّين بأنه ذو ناب (إن الضبع سبع ذو ناب، وذهب الجمهور إلى التحريم لتحريم كل ذي ناب من السباع، ولحديث الترمذي من رواية خزيمة بن جزء. انظر الكوكب الدري 3/10 وبذل المجهود 16/128) كذا ذكره الدَّميري، وقد ورد النهي عن أكله في روايات عديدة أخرجها الترمذي وابن أبي شيبة وأحمد وإسحاق وأبو يعلى وغيرهم كما بسطه العيني في "البناية" مع الجواب عما استدَلّ به المخالفون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 8 - (بَابُ مَا لَفَظَه (1) البحرُ مِنَ السَّمَك الطَّافِي (2) وَغَيْرِهِ) 648 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَأَلَ عبدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ عَمَّا لَفَظَهُ (4) الْبَحْرُ؟ فَنَهَاهُ عنه، ثم انقلب (5) فدعا بمصحفٍ فقرأ:   (1) أي رماه على الساحل ونحوه. (2) قوله: الطافي، يقال: طفا الشيء فوق الماء يطفو طفواً إذا علا، ومنه السمك الطافي، وهو الذي يموت في الماء ويعلو على الماء ولا يرسب، كذا في "المغرب" وغيره. (3) قوله: أن عبد الرحمن، قال القاري: قيل ليس لعبد الرحمن هذا حديث غير هذا في "الموطأ". انتهى. وقد ذكره ابن حِبّان في ثقات التابعين. (4) قوله: عما لفظه البحر، أي رماه البحر على الساحل، من أكلتُ التمرةَ ولفظتُ النواة أي رميتُها، ومنه قوله تعالى: {ما يَلْفِظُ من قولٍ إلاّ لديه رقيب عتيد} (سورة ق: الآية 69) وإطلاق اللفظ على الملفوظ لأنه مرميّ من الفم. (5) قوله: ثم انقلب، أي انصرف إلى بيته، ورجع إلى أهله كما يُعلم مما ذكره السيوطي في "الدر المنثور": أخرج عبد بن حُمَيد وابن جرير وابن المنذر وابن عساكر عن نافع أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابنَ عمر عن حيتان ألقاها البحر؟ فقال: أمَيْتَة هي؟ قال: نعم، فنهاه، فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة فأتى على هذه الآية {وطعامه} فقال: طعامه هو الذي ألقاه فالْحَقْه، فمره بأكله. انتهى. وبه يظهر ما في كلام القاري حيث فسر انقلب بقوله أي رجع عن قوله. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 {أُحِلّ لَكُمْ (1) صَيْدُ (2) الْبَحْرِ وَطَعَامُه} (3) ، قَالَ نَافِعٌ: فَأَرْسَلَنِي إِلَيْهِ (4) أنْ (5) لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ فَكُلْه. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ الآخِرِ (6) نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِمَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ وَبِمَا حَسَر (7) عَنْهُ الماءُ إِنَّمَا (8) يُكره مِنْ ذلك الطافي. وهو   (1) الخطاب إلى المُحْرِمين. (2) قوله: صيد البحر وطعامه، قال أبو هريرة: طعامه ما لفظه ميتاً، أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم مرفوعاً وموقوفاً، وقال أبو بكر الصدّيق: صيده ما حويت عليه وطعامه ما لفظه عليك، أخرجه أبو الشيخ، وفي رواية عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه: صيد البحر ما نصطاده بأيدينا، وطعامه ما لاثه البحر، ومثله أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس. وفي الباب آثار أُخَر مذكورة في "الدر المنثور". (3) بعده: {متاعاً لكم وللسيّارة وحُرِّم عليكم صيد البرِّ مادُمْتُمْ حرماً} (سورة المائدة: الآية 96) . (4) أي إلى عبد الرحمن بن أبي هريرة. (5) بيان للمرسل به أي بهذا الحكم. (6) بكسر الخاء أي المتأخر. (7) أي انكشف عنه ونضب وغار. (8) قوله: إنما يُكره من ذلك الطافي، لما أخرجه أبو داود وابن ماجه عن يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً: ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوا: وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه. وأعله البيهقي بيحيى بن سليم، وقال: إنه كثير الوهم سيّئ الحفظ، وقد رواه غيره موقوفاً، وردّه العيني بأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 قول (1) أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم اللَّهُ. 9 - (بَابُ السَّمَكِ يَمُوتُ فِي الْمَاءِ) 649 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن سعيد الجاريّ بن الجار (2)   أخرج له الشيخان وهو ثقة، وزاد الرفع، وأخرج الترمذي من حديث جابر مرفوعاً بلفظ: ما اصطدتموه وهو حيّ فكلوه وما وجدتموه ميتاً طافياً فلا تأكلوه. وفي رواية الطحاوي في "أحكام القرآن": ما جزر عنه البحر فكُلْ وما ألقى فكل، وما وجدته طافياً فوق الماء فلا تأكل. (1) قوله: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول جابر وعليّ وابن عباس وسعيد بن المسيّب وأبي الشعثاء والنخَعي وطاوس والزهري، ذكر عنهم ذلك ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهما، وأخرج الدارقطني والبيهقي إباحة الطافي عن أبي بكر وأبي أيوب، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وبعض التابعين أخذاً من إطلاق حديث: هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته، وحديث: أُحلَّت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال، أخرجه ابن ماجه وأحمد وعبد بن حميد والدارقطني وابن مردويه وغيرهم، وأجاب عنه أصحابنا بأن ميتة البحر ما لفظه البحر أو انحسر الماء عنه ليكون موته مضافاً إلى البحر، لا ما مات فيه حتف أنفه من غير آفة وطفا على الماء، كذا في "البناية" و"الدراية" (انظر بذل المجهود 16/141) . (2) قوله: عن سعيد الجاري بن الجار، هكذا وُجد في نسخ عديدة، وفي "موطأ يحيى" عن سعيد مولى عمر بن الخطاب، وذكره السَّمعاني في اسمه سعد بغير ياء، حيث ذكر أن الجاري نسبة إلى الجار بليدة على الساحل بقرب المدينة النبوية، والمنتسب إليها سعد بن نوفل الجاري، كان عامل عمر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 قَالَ: سألتُ ابنَ عُمَرَ عَنِ الحِيْتَان (1) يقتُل بعضُها بَعْضًا، وَيَمُوتُ صَرَداً (2) وَفِي أَصْلِ ابْنِ الصَّوَّافِ: (3) وَيَمُوتُ (4) بَرْدًا - قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. قَالَ: (5) وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا مَاتَتِ (6) الحِيتْان مِنْ حَرّ أَوْ بردٍ أَوْ قتلِ (7) بعضِها بَعْضًا فَلا بَأْسَ بِأَكْلِهَا، فَأَمَّا إِذَا مَاتَتْ مِيْتَةَ (8) نفسِها فَطَفَتْ (9) فَهَذَا يُكْرَه مِنَ السَّمَكِ، فَأَمَّا سِوَى ذَلِكَ فلا بأس به.   روى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر، وعنه زيد بن أسلم. انتهى. وكذا سماه ابن الأثير الجزري في "جامع الأصول". (1) بكسر الحاء جمع الحوت. (2) بفتحتين أي بردا. ً (3) أي في نسخة "الموطأ" لابن الصوّاف وهو من المشايخ. (4) أي مكان: ويموت صرداً (قال الباجي: ما قتل بعضه بعضاً من الحيتان أو مات صرداً يجوز أكله، وهو مما اتفق عليه مالك وأبو حنيفة والشافعي لأنه مات بسبب. انتهى. قلت: وكذلك عند أحمد. أوجز المسالك 9/174) . (5) أي سعيد الجاري. (6) في البحر. (7) مصدر مضاف معطوف على حرّ أو فعل ماضٍ وما بعده فاعل معطوف على فعل سابق. (8) بكسر الميم أي ماتت من غير آفة خارجة، بل بموتة نفسه. (9) أي علت على الماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 10 - (بَابُ ذكاةُ (1) الْجَنِينِ (2) ذكاةُ أُمِّهِ) 650 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع، أن عبد الله بن عمر كَانَ يَقُولُ: إِذَا نُحِرَت النَّاقَةُ فّذَكاةُ مَا فِي بَطْنِهَا (3) ذَكَاتُهَا (4) إِذَا كانَ قَدْ تمَّ خَلْقُه (5) ونَبَت شَعْرُهُ فَإِذَا خَرَجَ (6) مِنْ بَطْنِهَا ذُبحَ حَتَّى يخرجَ الدمُ مِنْ جَوْفِهِ. 651 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْط (7) ،   (1) بمعنى الذبح. (2) هو الولد ما دام في بطن أمه. (3) من الولد. في "موطأ يحيى": فذكاة ما في بطنها في ذكاتها. (4) لأنه جزء منها، فذكاتها ذكاة لجميع أجزائها. (5) أي في أجزائها. (6) قوله: فإذا خرج، حمله القاري على خروجه حالة الحياة حيث قال: فإذا خرج من بطنها أي حيّاً ذبح أي اتفاقاً حتى يخرج الدم أي دم المذابحة من جوفه أي جوف الجنين الشامل لحلقه وأوداجه. انتهى. والظاهر ما ذكره الزرقاني حيث قال: فإذا خرج من بطن أمه ذُبح أي ندباً كما يفيده السياق حتى يخرج الدم من جوفه، فذبحه إنما هو لإِنقائه من الدم لا لتوقّف الحل عليه، وهذا جاء بمعناه مرفوعاً: روى أبو داود والحاكم عن ابن عمر مرفوعاً: "ذكاةُ الجنين إذا أشعر ذكاة أمه" ولكنه يُذبح حتى ينصاب ما فيه من الدم، ويعارضه حديث ابن عمر رفعه: ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر، لكن فيه مبارك بن مجاهد ضعيف، ولتعارضهما لم يأخذ بهما الشافعية، فقالوا: ذكاة الجنين ذكاة أمه مطلقاً، ولا الحنفية فقالوا: لا مطلقاً، ومالك ألغى الثاني لضعفه وأخذ بالأول لاعتضاده بالموقوف، فقيّد به حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه. انتهى. (7) بصيغة التصغير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 عن سعيد بن المسيَّب أنه كان يقول: ذكاةُ مَا كَانَ فِي بَطْنِ الذَّبِيحَةِ ذكاةُ أُمِّهِ إِذَا كَانَ قَدْ نَبَتَ شعرُه وتمَّ خَلْقه (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ إِذَا تَمَّ (2) خَلقه، فذكاتُه فِي ذَكَاةِ أمِّه فَلا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَكَانَ يَكره أكلَه حتى يخرجَ حيّاً   (1) في أعضائه. (2) قوله: إذا تمّ، يعني إذا خرج من بطن الذبيحة جنينٌ ميت فإن كان تامّ الخلق نابت الشعر يؤكل، وإن لم يكن تام الخلقة فهو مضغة لا تؤكل، وبه قال مالك والليث وأبو ثور، وقال أحمد والشافعي بحله مطلقاً، وقال أبو حنيفة: لا يؤكل مطلقاً وبه قال زفر والحسن بن زياد فأن خرج حيا ذبح اتفاقا ودليل من قال بالحل مطلقا أو مقيّداً بتمام الخلقة حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه رواه أحد عشر نفساً من الصحابة، الأول: أبو سعيد الخدري، أخرج حديثه باللفظ المذكور أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه وابن حبان وأحمد. والثاني: جابر، أخرج حديثه أبو داود وأبو يعلى. الثالث: أبوهريرة، أخرج حديثه الحاكم وقال: صحيح الإِسناد، وفي سنده عبد الله بن سعيد المقبري متفق على ضعفه، الدارقطني وفي سند عمرو بن قيس ضعيف. الرابع: ابن عمر، أخرج حديثه الحاكم والدارقطني وفي سنده ضعف. الخامس: أبو أيّوب، أخرج حديثه الحاكم. السادس: ابن مسعود، أخرج حديثه الدارقطني، ورجاله رجال الصحيح. السابع: ابن عباس، أخرجه الدارقطني. الثامن: كعب بن مالك، حديثه عند الطبراني. التاسع والعاشر: أبو أمامة وأبو الدرداء، حديثهما عند البزار والطبراني. الحادي عشر: عليّ رضي الله عنه، حديثه عند الدارقطني، وقال ابن المنذر: لم يُرْوَ عن أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم أن الجنين لا يؤكل إلا باستيناف الذكاة إلا عن أبي حنيفة ولا أحسب أصحابه وافقوه، وفيه نظر، فقد وافقه من أصحابه زفر والحسن وشيخ شيخه إبراهيم النخعي. واختار هذا القول أيضاً ابن حزم الظاهري. وقال: لا يترك القرآن وهو قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 فَيُذَكَّى (1) ، وَكَانَ (2) يَرْوي عَنْ حَمَّادٍ (3) عَنْ إِبْرَاهِيمَ أنّه قال (4) : لا تكون ذكاةُ نس ذكاة نَفْسَيْن.   تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} بالخبر (بسط تخريج هذه الروايات كلها الزيلعي في نصب الراية: وقال: وقال عبد الحق في "أحكامه": هذا حديث لا يُحتج بأسانيده كلها، وأقره ابن القطان عليه. انظر: أوجز المسالك 9/140) المذكور وأجاب في "المبسوط" بأن حديث ذكاة الجنين ذكاة أمه لا يصح، وفيه نظر، فإن الحديث صحيح وضَعْفَ بعض طرقه غير مضرّ، وذكر في "الأسرار" أن هذا الحديث لعله لم يبلغ أبا حنيفة فإنه لا تأويل له ولو بلغه لما خالفه، وهذا حسن، وذكر صاحب "العناية" وغيرها أنه روي "ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه" بالنصب فهو على التشبيه أي كذكاة أمه كما يُقال: لسانُ الوزير لسانَ الأمير وفيه نظر، فإن المحفوظ عن أئمة الشأن الرفع، صرَّح به المنذري، يوضحه ما ورد في بعض طرق أبي سعيد الخدري قال السائل: يا رسول الله إنّا ننحر الإِبل والناقة ونذبح البقر فنجد في بطنها الجنين أفنلقيه أم نأكله؟ فقال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه. وبالجملة فقول من قال بموافقة الحديث أقوى. هذا ملخّص ما ذكره العيني في "البناية". (1) أي يذبح. (2) أي أبو حنيفة. (3) ابن أبي سليمان. (4) هذا استبعاد بمجرّد الرأي، فلا عبرة به بمقابلة النصوص، ولعلها لم تبلغه أو حملها على غير معناها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 11 - (بَابُ أَكْلِ الجرَاد (1)) 652 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا (2) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَرَادِ؟ فَقَالَ: وَدِدتُ (3) أَنَّ عِنْدِي قَفْعَةً (4) مِنْ جَرَادٍ فَآكُلُ مِنْهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (5) نأخذُ. فَجَرَادٌ ذُكِّي (6) كُلُّهُ لا بأس بأكله إن   (1) قوله : باب أكل الجَراد، بفتح الجيم حيوان معروف، ذكر الترمذي في "نوادره" أنه خُلق من الطينة التي فَضُلت من خلق آدم، ومن ثَمَّ ورد أن أول الخلق هلاكاً الجراد، أخرجه أبو يعلى وغيره. الكلام فيه مبسوط في "حياة الحيوان". (2) في نسخة: أخبرنا. (3) أي تمنَّيْت. (4) بفتح القاف وسكون الفاء، فعين مهملة، شيء شبيه بالزنبيل، قاله القاري. (5) قوله: وبهذا نأخذ، قال الدميري في "حياة الحيوان": قالت الأئمة الأربعة بحله (وقد نقل النووي الإِجماع على حِلّ أكل الجراد، وخصّه ابن العربي بغير جراد الأندلس لما فيه من الضرر المحض. وملخّص مذهب مالك إن قطع رأسه حل وإلا فلا. تنسيق النظام ص 195) سواء مات حتف أنفه أو بذكاة أو باصطيادِ مجوسي أو مسلم قُطع منه شيء أو لا، وعن أحمد إذا قتلهُ البرد لم يؤكل، وعن مالك إن قطع رأسه حلّ وإلا فلا. والدليل على عموم حلّه حديث: أحِلّت لنا ميتتان ودمان الكبد والطحال والسمك والجراد، رواه الشافعي والبيهقي والدارقطني. (6) ذُكِّي كله أي مذبوح كله أي في حكمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 أُخِذَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَهُوَ ذَكِيٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 12 - (بَابُ ذَبَائِحِ (1) نَصَارَى الْعَرَبِ) 653 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدِّيلي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (2) بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذبائح (3) نصارى العرب؟ فقال:   (1) ذبح الكتابي حلال، حربياً كان أو ذميّاً، عربياً كان أو غيره. (2) قوله: عن عبد الله، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الكافِ الشاف في تخريج أحاديث لكشاّف"قطع لأن ثوراً لم يلق ابن عباس، وإنما أخذه عن عكرمة فحذفه مالك، وروى ابن أبي شيبة من طريق عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كلوا ذبائح بني تغلب وتزوَّجوا نساءهم. (3) قوله: عن ذبائح نصارى العرب، أي العرب الذين تنصَّروا ومنهم قوم معروفون ببني تغلب، وإنما سئل عنه وإنْ كان إطلاق قوله تعالى: {وطعام الذين أُوْتُوا الكتابَ حِلٌّ لَكُمْ} (سورة المائدة: الآية 5) أي ذبائحهم عامّاً لأنّ نصارى العرب ليسوا من أهل الكتاب حقيقةً، فإنهم ليسوا من بني إسرائيل الذين هم أهل التوراة والإِنجيل فكان مَظِنّة أن لا يحلّ ذبائحهم، فأجاب ابن عباس بأنه لا بأس بها أخذاً من عموم الآية، وقرأ قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} إشارة إلى أن الخطاب في هذه الآية إلى العرب، وغرضه سبحانه وتعالى منه أن من تولّى اليهود والنصارى من العرب وأخذ بشرائعهم وعمل حسب عملهم فهو منهم فنصارى العرب إذا تديّنوا بدين النصارى صاروا منهم حكماً وإن لم يكونوا منهم حقيقة، فدخلوا في عموم الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 لا بَأْسَ بِهَا، وَتَلا هَذِهِ الآيَةَ (1) {وَمَنْ يتولَّهم منكم فإنه منهم} . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ. 13 - (بَابُ مَا قَتَل الْحَجَرُ (2)) 654 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ قَالَ: رميْتُ طَائِرَيْنِ بِحَجَرٍ (3) وَأَنَا بالجُرُف (4) ، فأصبتُهما، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَمَاتَ (5) ، فَطَرَحَهُ (6) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَمَّا الآخَرُ فَذَهَبَ (7) عبد الله   المذكورة، وبهذا ظهر سخافة ما قال الزرقاني (الزرقاني. 3/82 والأوجز. 9/131) : لعل مراده بتلاوتها أنها وإن جاز أكل ذبائحهم لكن لا ينبغي للمسلم أن يتخذهم ذبّاحين لأن في ذلك موالاةً لهم. انتهى. فإن هذا التوجيه يقتضي أن يكون قراءة الآية أمراً على حدة. (1) تمامها: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارى أولياءَ بعضُهم أولياءُ بعض ومن يتولّهم منكم فإنه منهم} (سورة المائدة: الآية 51) (2) أي بسبب ثقله عليه. (3) في نسخة: بحجرين. (4) بضم الجيم وضم الراء وسكون الراء موضع بقرب المدينة. (5) أي قبل ذبحه. (6) لأنه صار ميتة (قال الخرقي: لا يؤكل ما قتل بالبندق أو الحجر، لأنه موقوذ، قال الموفق: يعني الذي لاحدّ له، فأما المحدود كالصوان فهو كالمعراض إن قتل بحدِّه أبيح وإن قتل بعرضه أو ثقله فهو وقيذ لا يُباح، ووهذا قول عامة الفقهاء. أوجز المسالك. 9/144) فإن الحجر أصابه بثقله. (7) أي أراد أن يذبحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 يذكِّيه بقَدُوم (1) فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يذكِّيه فَطَرَحَهُ أَيْضًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَا رُمي بِهِ الطَّيْرُ، فقُتل بِهِ قَبْلَ أَنْ تُدْرَك (2) ذكاتُه لَمْ يُؤْكَلْ، إِلا أَنْ يُخْرَقَ (3) أَوْ يُبَضَّع فَإِذَا خُرِقَ وَبُضِعَ فَلا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 14 - (بَابُ الشَّاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ تُذَكَّى (4) قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ) 655 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن أبي مُرَّةَ (5) أنّه سأل (6)   (1) بفتح القاف وضم الدال: آلة مشهورة للنّجار. (2) بصغة المجهول، فما بعده مرفوع. أو بالمعروف فما بعده منصوب. (3) من الخرق. بمعنى القطع وهو بالراء المهملة، وفي بعض النسخ خزق (أي طعن) بالمعجمة، وفي بعضها خزف بالمعجمة آخره فاء. (4) أي تذبح. (5) بضم الميم وتشديد الراء هو مولى أم هانئ، ويقال: مولى عقيل بن أبي طالب. (6) قوله: أنه سأل أبا هريرة عن شاة، قال القاري: هي كانت مريضة أو مضروبة ونحوها. انتهى. وهذا مجرد احتمال لا يشفي (في الأصل: لا يسقى وهو تحريف) العليل، وحقيقة الواقعة في المتردِّية، ففي رواية عند ابن عبد البر عن يوسف بن سعد عن أبي مرّة قال: كانت عناق كريمة، فكرهتُ أن أذبحها فلم ألبث (في الأصل: (فلم ألبس) وهو تحريف) أن تردّدت، فذبحتها، فركضت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ شاةٍ ذَبَحَهَا فَتَحَرَّكَ (1) بعضُها؟ فأمره (2) بأكلها، ثُمَّ سأل زيد ابن ثَابِتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْمَيْتَةَ لَتَتَحَرَّكُ (3) ، وَنَهَاهُ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا تحرّكتْ تَحَرُّكًا: أكبرُ الرَّأْيِ فِيهِ و (5) ، الظنُّ أَنَّهَا حَيَّةٌ (6) أُكلت (7) ، وَإِذَا كَانَ تحرُّكها شَبِيهًا بِالاخْتِلاجِ (8) ، وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ وَالظَّنِّ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا ميتة لم تؤكل.   برجلها (فتحرك بعضها) فأمره أبو هريرة أن يأكلها، ذكره الزرقاني (3/83 وكذا في الأوجز 9/137) . (1) أي بعد ذبحها. (2) قوله: فأمره بأكلها، أي لأن الحركة دليل الحياة فيكون مذكّى، ويوافقه ما أخرجه ابن جرير عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردّية والنطيحة وهي تتحرك يداً أو رجلاً فكلها. (3) فلا يفيد ذبحها. (4) قوله: ونهاه، أي عن أكلها. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من الصحابة وافق زيداً على ذلك. وقد خالفه أبو هريرة وابن عباس وعليه الأكثر. (5) عطف تفسيري. (6) أي كانت حيّة قبل الذبح. (7) أي جاز أكلها. (8) أي باضطراب الأعضاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 15 - (بَابُ الرَّجُلِ يَشْتَرِي اللحمَ فَلا يَدْرِي (1) أَذَكِيٌّ هُوَ أَمْ غَيْرُ ذَكِيّ) 656 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ (2) أَنَّهُ قَالَ سُئِل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ (3) : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نَاسًا (4) مِنْ أهل البادية يأتون (5)   (1) أي لا يَعلم أن ذلك اللحم من الحيوان المذبوح الشرعي أم لا. (2) هو عروة بن الزبير بن العوّام. قوله: عن أبيه أنه قال ... إلخ، لم يختلف عن مالك في إرساله، وتابعه الحمّادان وابن عيينة ويحيى القطان عن هشام، ووصله البخاري في "الذبائح" من طريق أسامة بن حفص المدني، وفي "التوحيد" من طريق أبي خالد سليمان الأحمر، وفي "البيوع" من طريق الطفاوي محمد بن عبد الرحمن الإسماعيلي ومن طريق عبد العزيز الدراوردي وابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان والبزار من طريق أبي أسامة، الستة عن هشام عن أبيه عن عائشة، قال الدارقطني: وإرساله أشبه بالصواب يعني لأن رواته أضبط وأحفظ، وأجيب بأن الحكم للوصل إذا زاد عدد من وصل على من أرسل واحتفّ بقرينة تقوّي الوصل كما ههنا إذ عروة معروف بالرواية عن عائشة، والأولى أن يقال: إن هشاماً حدثه به على الوجهين مرسلاً وموصولاً، كذا في "شرح الزرقاني". (3) بيان للسؤال. قوله: فقيل، عند البخاري في الذبائح: إن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوماً يأتونا باللحم، وفي آخره قالت عائشة: وكانوا أي القوم السائلون حديثي عهد بالكفر. (4) عند النسائي: إن ناساً من الأعراب. (5) قوله: يأتون بلُحمانٍ بضم اللام جمع لحم، وفي روايتنا: يأتوننا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 بلُحْمانٍ فَلا نَدْرِي هَلْ سَمَّوْا (1) عَلَيْهَا أَمْ لا؟ قَالَ (2) فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا (3) اللَّهَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كُلُوهَا.   (1) أي عند الذبح. (2) الضمير إلى عروة. (3) أي عند الأكل. قوله: سَمُّوا الله عليها، قال الطِّيبي في "حواشي المشكاة": هذا من أسلوب الحكيم كأنه قيل لهم لا تهتموا بذلك، ولا تسألوا عنه والذي يهمكم الآن أن تذكروا اسم الله عليه. انتهى. وقال القسطلاني: ليس المراد منه أنّ تسميتهم على الأكل قائمة مقام التسمية عند الذبح، بل طلب التسمية التي لم تفت وهي التسمية على الأكل. انتهى. واستَدلّ بهذا الحديث من ذهب إلى أن التسمية عند الذبح ليس بشرط للحلّ (قال الحافظ: اختلفوا في كونها شرطاً في حل الأكل فذهب الشافعي وطائفة وهي رواية عن مالك وأحمد: أنها سنّة فمن تركها عمداً أو سهواً لم يقدح في حِلّ الأكل، وذهب أحمد في الراجح عنه وأبو ثور وطائفة: إلى أنها واجبة لجعلها شرطاً في حديث عدي، وذهب أبو حنيفة والثوري ومالك وجماهير العلماء إلى الجواز لمن تركها ساهياً لاعمداً، لكن اختلف عن المالكية هل تحرم أو تكره؟ وعند الحنفية تحرم، وعند الشافعية في العمد ثلاثة أوجه، أصحها يكره الأكل. انظر فتح الباري 9/601) حتى لو ترك التسمية عامداً حلّ، فإنه لو كانت التسمية شرطاً لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل عند الشك فيها، وأجاب عنه العيني وغيره من أصحابنا أن هذا الحديث دليل لنا، فإنهم لما سألوا عن حالة اللحم الذي شكّ في التسمية فيه علم أنه كان من المعروف عندهم اشتراط التسمية وإلا لما سألوه، وإنما أمرهم بالأكل إشعاراً بأن الظاهر من حال الذابح المسلم أن لا يدع التسمية، فكأنه قال: إنكم لستم بمأمورين لحصول التيقن والتجسس لإِيراثه إلى الوسوسة والحرج، فسَمُّوا الله عند الأكل، وكلوا ولا تُلْقُوا أنفسكم في الشك والوسوسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 قَالَ (1) : وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الإِسلام (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ الَّذِي يَأْتِي بِهَا (3) مُسْلِمًا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (4) ، فَإِنْ أَتَى بِذَلِكَ مَجُوسِيٌّ (5) ، وَذَكَرَ أَنَّ مُسْلِمًا ذَبَحَهُ أَوْ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الكتاب لم يُصدَّق (6) ولم يُؤْكَلْ بقوله.   (1) الضمير راجع إلى مالك كما صرح به في "موطأ يحيى". قال مالك: وذلك في أول الإِسلام. (2) قوله: وذلك في أول الإِسلام، كأنه يشير إلى أنه لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على عدم وجوب التسمية عند الذبح، فإنه كان في أول الإِسلام قبل نزول قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يُذكَر اسمُ الله عليه وإنه لفسق} (سورة الأنعام: الآية 121) وقال ابن عبد البر: هذا قول ضعيف لا دليل عليه ولا يُعرف وجهه، والحديث نفسه يردّه لأنه أمرهم فيه بالتسمية عند الأكل، فدل على أن الآية كانت قد نزلت، وأيضاً اتفقوا على أن الآية مكّية، وأن هذا الحديث بالمدينة وأن المراد أهل باديتها. انتهى. أقول: في الوجه الأول نظر فإن الآية لا تدل على التسمية عند الآكل بل على التسمية عند الذبح فلا دلالة لسياق الحديث على ما ذكره، والحق أن سياق الحديث لا يُثبَت ما أثبتوه من عدم اشتراط التسمية بل اشتراطة كما ذكرنا. (3) أي باللحمان. (4) أي من اليهود والنصارى. (5) وكذا الوثني وغيره من الكفار غير أهل الكتاب. (6) قوله: لم يُصَدَّقْ، أي ذلك الكافر في قوله ولم يؤكل المذبوح بمجرد قوله فإن الكافر غير مقبول في باب الدِّيانة والحلّ والحرمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 16 - (بَابُ صَيْدِ الْكَلْبِ المعلَّم) 657 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نافع، أن عبد الله بن عمر كان يَقُولُ: فِي الْكَلْبِ (1) المعلَّم: كُلْ مَا أمْسَكَ عليك، وإن قَتَل (2) أَوْ لَمْ يَقْتُلْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. كُلُّ مَا قُتل وَمَا لَمْ يُقتل إِذَا ذكَّيْتَه (3) مَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، فإنْ أَكَلَ فَلا تَأْكُلْ (4) فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ (5) بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا رحمهم الله.   (1) قوله: في الكلب المعلَّم، بصيغة المفعول من التعليم، وهو الذي إذا زُجر انزجر، وإذا أُرسل أطاع، والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {أُحِلَّ لكم الطيبات وما علّمتم من الجوارح مكلِّبين تعلِّمونهنّ مما علّمكم الله فكُلُوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} (سورة المائدة: الآية 4) ذكر شيخنا في الأوجز حول هذه الآية عدة أبحاث فارجع إليه. 9/155) . (2) لكن إذا لم يُقتل وأدركه صاحبه حيّاً يحتاج إلى التذكية. (3) متعلِّق بما إذا لم يقتل أي ذبحته. (4) قوله: فلا تأكل، وهو أصح قولي الشافعي لما في "الصحيح": وإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. ورخّص بعضهم في الأكل: منهم ابن عمر وسلمان الفارسي وسعد، وبه قال مالك والشافعي في رواية. والمسألة مبسوطة بتفاريعها ودلائلها في "الهداية" وشروحها. (5) قوله: كذلك بلغنا عن ابن عباس، فإنه قال: آية المعلَّم من الكلاب أن يُمسك صيده فلا يأكل منه حتى يأتيه صاحبه. وقال أيضاً: إذا أكل الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، أخرجهما ابن جرير، ذكره السيوطي في "الدّرّ المنثور"، ويوافقه من المرفوع حديث عديّ بن حاتم عند الأئمة الستة، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 17 - (بَابُ (1) الْعَقِيقَةِ) 658 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أسلم،   إن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه. ويخالفه حديث أبي ثعلبة الخشني عند أبي داود والنسائي وابن ماجه قال رسول الله: إذا أرسلتَ كلبك المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله عليه فكُل، قال: وإن أكل، قال: وإن أكل (قال الجمهور: إذا قتل الكلب وأكل منه فهو حرام، وبه قال الحنفية، وهو أصح قولي أحمد وأصح قولي الشافعي، وعند مالك يجوز لحديث أبي ثعلبة. انظر هامش بذل المجهود 13/98) . وهو حديث معلول أعلّه البيهقي، كذا ذكره الحافظ في "التلخيص". (1) قوله : باب العقيقة (في العقيقة عشرة أبحاث لطيفة. انظر أوجز المسالك 9/203 - 223) ، هي الذبيحة عن المولود يوم السابع، وقد اختُلف فيه، فعند مالك والشافعي هو سُنَّة مشروعة، وقال أبو حنيفة: هي مباحة ولا أقول: إنها مستحبة، وعن أحمد روايتان أشهرهما أنها سنة، والثانية أنها واجبة واختارها بعض أصحابه. وهي عن الغلام شاتان، وعن الجارية واحدة، وقال مالك: عن الغلام أيضاً شاة وهو في اليوم السابع بالاتفاق، ولا يُمَسّ رأس المولود بدم العقيقة بالاتفاق. وقال الشافعي وأحمد: يستحبّ أن لا تُكسر عظام العقيقة، بل يُطبخ أجزاؤها تفاؤلاً بسلامة المولود، كذا في "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة". وقد ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة تدل على مشروعيتها واستحبابها. من ذلك حديث عائشة: أمرنا رسول الله أن نعقّ عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة، أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي واللفظ لابن ماجه. ومن ذلك حديث سمرة مرفوعاً: الغلام مرتهن بعقيقة يُذبح عنه في اليوم السابع ويُحلَق رأسه ويسمَّى، أخرجه أحمد وأصحاب السنن والحاكم والبيهقي من حديث الحسن عن سَمُرة، وصححه الترمذي والحاكم وعبد الحق. وفي رواية لهم: ويُدَمَّى. قال أبو داود: يُسَمَّى أصح ويُدَمَّى غلط من همّام. ومن ذلك حديث أم كرز مرفوعاً: عن الغلام شاتان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وعن الجارية شاة، أخرجه أبو داود وابن ماجه والنسائي والحاكم وابن حبان. وله طرق عند الأربعة والبيهقي. ومن ذلك حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه: كنّا في الجاهلية إذا وُلد لأحد غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإِسلام كنّا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران، أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث عائشة. ومن ذلك حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم عقّ عن الحسين والحسن كَبْشاً كَبْشاً، أخرجه أبو داود والنسائي وصححه عبد الحق وابن دقيق العيد، ورواه البيهقي والحاكم وابن حبان من حديث عائشة بزيادة: اليوم السابع وسمّاهما، وأمر أن يُماط عن رؤوسهما الأذى، وصححه ابن السكن بأتم من هذا، وفيه: وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونها على رأس المولود فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم خلوقاً. ورواه أحمد والنسائي من حديث بريدة، وسنده صحيح، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والطبراني في "المعجم الصغير" من حديث قتاده عن أنس، والبيهقي من حديث فاطمة، والترمذي والحاكم من حديث علي. هذا ملخص ما أورده الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير": وقال تلميذه شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السَّخاوي المصري في كتابه "ارتياح الأكباد بأرباح فَقْد الأولاد" بعد ذكر حديث: الغلام مرتهن بعقيقته: ذكر البيهقي عن سليمان بن شرحبيل نا يحيى بن حمزة قال: قلت لعطاء الخراساني: ما مرتهن بعقيقته؟ فقال: يحرم شفاعة ولده وكذا قال الإمام أحمد إنه مرتهن عن الشفاعة لوالديه، واستحسنه الخطابي حيث قال: تكلّم الناس في هذا، وأجود ما قيل فيه ما ذهب إليه أحمد أن هذا في الشفاعة يريد أنه إذا لم يعقّ عنه فمات طفلاً لم يشفع في والديه. وقيل: معناه أنه مرتهن بشعره. انتهى. وفي الباب أخبار وأحاديث أخر أيضاً مذكورة في مظانِّها وهي كلها تشهد بمشروعيته العقيقة، بل بعضها يدل على الوجوب، وبه استدل من قال به، لكن أكثرها يدل على حيث قال: إنها مباحة وليست بمستحبة، ولعل لكلامه وجهاً لست أحصّله. وستطّلع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 عَنْ رَجُلٍ (1) مِنْ بَنِي ضَمْرة عَنْ أَبِيهِ أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عَنِ الْعَقِيقَةِ؟ قَالَ: لا أُحِبُّ (2) الْعُقُوقَ، فَكَأَنَّهُ (3)   على زيادة التفصيل عن قريب. (1) قوله: عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ، قال ابن عبد البر: لا أعلمه رُوي معنى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أخرجه أبو داود والنسائي. قال: وأصل العقيقة كما قال الأصمعي وغيره: الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وسميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة لأنه يُحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح، قال أبو عبيد: فهو من تسمية الشيء باسم غيره إذا كان معه أو من سببه (شرح الزرقاني 3/96) . قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث كراهية ما يقبح معناه من الأسماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن، قال: وكان الواجب بظاهر هذا الحديث أن يُقال لذبيحة المولود نسيكة، ولا يقال عقيقة، لكني لا أعلم أحداً من العلماء مال إلى ذلك، ولا قال به وأظنُّهم تركوا العمل به لما صحّ عندهم في غيره من الأحاديث من لفظ العقيقة. انتهى. كذا في "تنوير الحوالك على موطأ مالك" للسيوطي، وقال الزرقاني في"شرحه": لعل مراد ابن عبد البر من العلماء: المجتهدون، وإلا فقد قال ابن أبي الدم عن أصحابهم الشافعية يستحبّ تسميتها نسيكة أو ذبيحة، ويُكره تسميتها عقيقة كما يُكره تسمية العشاء عَتَمة. (2) قوله: قال لا أحب العقوق، قال الخطّابي في"شرح سنن أبي داود": وليس فيه توهين العقيقة ولا إسقاط لوجوبها، وإنما استُبشع الاسم، وأحب أن يسمِّيَه بأحسن منه كالنسيكة والذبيحة. انتهى. (3) قوله: فكأنه ... إلخ، هذا قول بعض الرواة يعني أنه لم يرد بقوله "لا أحب العقوق" كراهة العقيقة بدليل أنه رغَّب إليه بقوله: من وُلد له فأحب أن يَنسُك عن ولده فليفعل، بل إنما كره الاسم أي إطلاق لفظ العقيقة فإنه يُنبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 إِنَّمَا كَرِهَ الاسْمَ، وَقَالَ (1) : مَنْ وُلد لَهُ ولدٌ فأَحَبُّ (2)   ء عن العقوق، وهو مستعمل في العصيان وترك الإِحسان ومنه عقوق الوالدين. وهذا كما كره النبي صلى الله عليه وسلم تسمية العشاء بالعتمة وتسمية المدينة النبوية بيثرب، وحينئذ فلا يمكن أن يَستَدل به أحد على نفي مشروعية النسيكة للمولود أو على نفي استحبابها. أو على أنها كانت من عمل الجاهلية ثم نسخ كيف وهناك أخبار كثيرة قد مرّ نُبَذ منها تدل على مشروعيتها والترغيب إليها. (1) أي النبي صلى الله عليه وسلم. (2) قوله: فأحب أن ينسك، استدل به جماعة من أصحابنا الحنفية منهم صاحب "البدائع" وغيره على أن العقيقة ليست بسنة لأنه علق العقّ بالمشيئة، وهذا أمارة الإِباحة وردّه علي القاري بقوله: لا يخفى أن المشيئة تنفي الفرضية دون السنية. انتهى. وأقول: هذا الحديث نظير حديث "من أراد منكم أن يضحِّي فلا يأخذن من أظفاره وشعره شيئاً حتى يضحِّي"، أخرجه الجماعة إلا البخاري، وقد استدل به الشافعية على عدم وجوب الأضحية بأنه علق الأضحية على الإِرادة والمشيئة ولو كان واجباً لما فعل كذلك، وأجاب عنه أصحابنا منهم صاحب "الهداية" و"البناية" وغيرهما بأنه ليس المراد به التخيير بين الترك والفعل، بل القصد فكأنه قال: من قصد منكم أن يضحي، وهذا لا يدل على نفي الوجوب كما في قوله: من أراد الصلاة فليتوضأ، وقوله: من أراد الجمعة فليغتسل، ولم يرد هناك التخيير، فكذا هذا. إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول مثل ذلك في هذا الحديث بأنه ليس المراد بقوله من أحب أو من شاء كما في بعض الكتب التخيير والتعليق على المشيئة، بل المراد به القصد، وحينئد فلا يكون له دلالة على نفي الوجوب أيضاً فضلاً عن نفي السنية أو الاستحباب، وأيضاً لقائل أن يقول: ليس المراد بالحبّ الحبّ الطبعي والمشيئة التخييرية، بل المراد به الحب الشرعي، فالمعنى من وُلد له ولد فأحبّ أن ينسك عن ولده اتّباعاً للشريعة فليفعل، وحينئذ لا دلالة له على نفي السنية، على أنه لو سلّمنا أنه دالّ على نفي السنية فليس له دلالة على نفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الاستحباب الشرعي بوجه من الوجوه، فإنه معلّق بالمشيئة البتة إذ لا حرج في تركه فلا يثبت به الإِباحة المعرّاة عن الاستحباب، ومع عزل النظر عن ذلك كله نقول: هذا الحديث إن دلّ على نفي الاستحباب والسنية دلّ عليه بإشارته، وغيره من الأحاديث دلّ على الاستحباب بعبارته بل بعضها يدل على الوجوب والاستنان كما مرّ ذكرها، ومن المعلوم أن العبارة مقدّمة على الإِشارة. ومن النصوص الدالة على الاستحباب ما أخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" في ترجمة أحمد بن القاسم من حديث عطاء عن ابن عباس أنه قال: سبع من السُّنّة في الصبي يوم السابع: يسمَّى، ويُختتن، ويُماط عنه الأذى، ويُثقب أذنه، ويُعقّ عنه، ويُحلق رأسه، ويلطّخ بدم عقيقته، ويُتَصَدّق بوزن شعره ذهباً أو فضة. فإن قلت فيه رواد بن جراح وهو ضعيف ؤكما ذكر ابن حجر قلت لا بأس فإن الضعيف يكفي في فضائل الأعمال، فإن قلت كيف يقول: ويُماط عنه الأذى مع قوله يُلطخ بدم؟ قلت: لا إشكال فيه، فلعل إماطة الأذى يقع بعد التلطّخ، والواو لا يستلزم الترتيب قاله الحافظ في "التلخيص": فإن قلت: ذكر في هذا الحديث التدمية؟ والجمهور على منعها، قلت: قد ذُكر ذلك في بعض الأخبار المرفوعة أيضاً، ففي "سنن أبي داود" من طريق همام قال: نا قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل غلام رهينة بعقيقته تُذبح عنه يوم السابع ويُحلق رأسه ويُدمَّى. فكان قتاده إذا سُئل عن الدم كيف يصنع به؟ قال: إذا ذبحت العقيقة أُخذت منها صوفه واستقبلت به أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل بعد ويحلق. قال أبو داود (بذل المجهود 13/84) : هذا وهم من همام: ويُدمَّى. ثم أخرج من طريق سعيد عن قتاده عن الحسن عن سمرة مرفوعاً: كل غلام رهينة بعقيقته يُذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمَّى. ثم قال أبو داود: يسمَّى أصح، كذا قال سلام بن أبي مطيع عن قتاده وإياس بن دغفل وأشعث عن الحسن. انتهى كلامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 أَنْ يَنْسُكَ (1) عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ (2) . 659 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ (3) يَسْأَلُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ   وقد ردّ عليه الحافظ في "التلخيص" بقوله: قال أبو داود: يُدمَّى غلط من همام، قلت: يدل على أنه ضبطها أنّ في رواية بهز عنه ذكَر الأمرين التسمية والتدمية، وفيه أنهم سألوا قتادة عن هيئة التدمية فذكرها لهم، فكيف يكون تحريفاً من التسمية، وهو يضبط أنه سأله عن كيفية التدمية. انتهى. ولعل هذا هو منشأ ذكر ابن عباس التدمية من جملة السنن، وإنما لم يأخذ الجمهور بهذا لما مرّ من حديث عبد الله بن بريدة أنه كان من أعمال الجاهلية وترك ذلك في الإِسلام، ولرواية ابن ماجه من حديث يزيد المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يعق عن الغلام ولا يُمَسّ رأسه بدم. (1) بضم السين أي يُذبح. (2) وفي رواية أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فلينسك عن الغلام شاتين مكافئتين وعن الجارية شاة. (3) قوله: إنه لم يكن يسأله ... إلخ، أي لم يكن يسأله أحد من أهل بيته ذبيحة عقيقة ليذبح بها في يوم العقيقة إلا أعطاها إياه، وكان ابن عمر يعقّ عن وَلَده - بفتحتين أو بضم الأول - أي من أولاده الذكور والإناث بشاة شاة قياساً على الأضحية واتباعاً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً، وبه قال مالك. وقال غيره: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة. ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرق عديدة قولاً كما مرّ ذكرها، واختلف في فعله فروي عنه في عقيقة الحسنين الواحد، وروي الاثنان (أخرج النسائي من حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس: عق عن الحسن والحسين بكبشين كبشين. الجوهر النقي 2/223، وفتح الباري 9/590) ، فالمرجح يكون هو التعدد للغلام ولهذا قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 عَقِيقَةً إِلا أَعْطَاهُ (1) إِيَّاهُ، وَكَانَ يعِقّ عَنْ وَلَدِهِ بِشَاةٌ شَاةٍ عَنِ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى. 660 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ (2) بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عن أبيه أنّه (3) قال:   ابن رشد المالكي: من عمل به فما أخطأ بل أصاب، لما صححه الترمذي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يُعَقَّ عن الغلام شاتان، وعن الجارية بشاة، نقله الزرقاني، وقال القاري: لا يخفى أن الاكتفاء بواحد لا ينافي فضل التعدد. (1) ذكر الضمير اعتباراً لما يُذبح منه، وفي رواية أعطاها. (2) قوله: جعفر بن محمد ... إلخ، هو الإِمام أبو عبد الله جعفر الصادق الهاشمي المدني بن محمد المعروف بالباقر بن علي المعروف بزين العابدين بن حسين بن علي بن أبي طالب، كان من سادات أهل البيت وعُبّاد أتباع التابعين، وُلد سنة 80 هـ بالمدينة، ومات سنة 148 هـ بالمدينة، روى عن أبيه وعطاء وعروة وجماعة، وعنه مالك وأبو حنيفة ويحيى بن سعيد الأنصاري وشعبة والسفيانان وغيرهم، قال ابن معين: ثقة مأمون، وقال أبو حاتم: ثقة لا يسأل عن مثله، كذا في "إسعاف السيوطي". وأبوه محمد الباقر ثقة فاضل سُمِّي بالباقر لأنه تبقّر في العلوم أي توسّع، مات بالمدينة سنة 118 هـ، وقيل سنة 119 هـ، كذا في "التقريب" و"جامع الأصول". (3) قوله: أنه قال، هذا حديث مرسل، فإن محمداً الباقر لم يدرك ذلك، ولا لقي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك رواه أبو داود في "في المراسيل" وأخرجه البيهقي فزاد عن أبيه عن جده، ورواه الترمذي والحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي قال: عقّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن شاة، وقال: يا فاطمة احلقي رأسه، وتصدّقي بزنة شعره فضة فوزنّاه، فكان وزنه درهماً أو بعض درهم، وعند الحاكم من حديث علي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة، فقال: زني شعر الحسين وتصدّقي بوزنه فضة وأعطي القابلة رِجْل العقيقة، ذكره الحافظ في "التلخيص". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 وزنَتْ (1) فاطمةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعْرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَزَيْنَبَ وأمِّ كُلثوم فتصدقتْ بِوَزْنِ ذَلِكَ فَضَّة. 661 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عبد الرحمن،   (1) قال ابن عبد البر: أهل العلم يستحبّون ما فعلته فاطمة مع العقيقة أو دونها (وقال الموفق: إن تصدَّقَ بزنة شعره فضة فحسن، وقال ابن عابدين: يُستحب لمن وُلد له ولد أن يسميه يوم أسبوعه، ويحلق رأسه ويتصدق عند الأئمة الثلاثة بزنة شعره فضة أو ذهباً. وفي "المحلَّى" عن "الرسالة" لابن أبي زيد أنه يُستحب التصدق بوزنه من ذهب وفضة. أوجز المسالك 9/214) . (2) قوله: شعر حسن وحسين، روى أحمد عن علي قال: لما وُلد الحسن سميته حرباً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أروني ابني ما سمَّيْتموه، قلنا: حرباً، قال: بل هو حسن، فلما وُلد الحسين، فذكر مثله، فقال بل هو حسين، فلما وُلد محسِّن ذكر مثله، فقال: بل هو محسن، ثم قال: سمَّيْتهم بأسماء ولد هارون شَبَّر وشَبِّير ومُبَشِّر (في الأصل: بسر وهو تحريف.) والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" رقم الحديث 768، والهيثمي في "مجمع الزوائد 8/52، قال في "اللسان" 4/393: شبر وشبير ومبشر: معناها: حسن وحسين ومحسن) وإسناده صحيح. ومحسن - بضم الميم وكسر السين المشددة - مات صغيراً، وزينب بنت فاطمة وُلدت في حياة جَدِّها، وكانت لبيبة عاقلة تزوّجها عبد الله ابن عمِّها جعفر فولدت له علياً وأم كلثوم وعوناً وعباساً ومحمداً، وأم كلثوم بنت فاطمة ولدت قبل وفاة جدها صلى الله عليه وسلم وتزوجها عمر بن الخطاب، فولدت له زيداً ورقية، ثم تزوجها بعد موته عون بن جعفر ثم مات فتزوجها أخوه محمد، ثم مات فتزوجها أخوهما عبد الله بن جعفر فماتت عنده فتزوج أختها زينب. وكان وزن فاطمة شعر الحسن والحسين بأمر أبيها صلى الله عليه وسلم، ووزن شعر زينب وأم كلثوم يحتمل أن يكون بأمره، ويحتمل أنها قاست ذلك على أمره لها في الحسن، كذا في "شرح الزرقاني". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّهُ (1) قَالَ: وزنتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعْرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ فتصدقتْ بوزنهِ فِضَّةً. قَالَ محمدٌ: أَمَّا الْعَقِيقَةُ (2) فَبَلَغَنَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ فُعلت فِي أَوَّلِ الإِسلام ثُمَّ نَسَخَ الأَضحى كلَّ ذَبْحٍ كان قبله ونَسَخَ صومُ   (1) هذا أيضاً مرسل ووصله بعضهم، فقال: عن ربيعة عن أنس، وهو خطأ والصواب ما في "الموطأ" قاله ابن عبد البر؟. (2) قوله: أما العقيقة ... إلخ، كأنه يشير إلى عدم مشروعية العقيقة الآن أو إلى كراهته كما تفيده عبارته في "الجامع الصغير" حيث قال: لا يُعَقّ لا عن الغلام ولا عن الجارية. انتهى. وحاصل كلامه ههنا أنه بلغه أن العقيقة كانت في الجاهلية وفُعلت في ابتداء الإِسلام، ثم صار منسوخاً، وأنّ مشروعية الأضحى نسخت كل ذبح كان قبله، ومشروعية صوم رمضان نسخت كل صوم كان قبله ونسخت فرضية غسل الجنابة كلَّ غسل كان قبله، ونسخت الزكاة كل صدقة كانت قبلها. وبلاغه الأول قد أخرجه في "كتاب الآثار" عن إبراهيم ومحمد بن الحنفية حيث قال محمد: أنا أبو حنيفة، عن حماد عن إبراهيم: كانت العقيقة في الجاهلية فلما جاء الإِسلام رفضت، محمد أنا أبو حنيفة، نا رجل عن ابن الحنفية أن العقيقة كانت في الجاهلية فلما جاء الإسلام رفضت قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. انتهى كلامه. وبلاغه المشتمل على حديث النسخ أخرجه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن المسيّب بن شريك عن عقبة بن اليقظان عن الشعبي عن مسروق عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نسخت الزكاة كل صدقة، ونسخ صوم رمضان كل صوم، ونسخ غسل الجنابة كل غسل، ونسخت الأضحى كل ذبح. وضعفاه. قال الدارقطني: المسيب بن شريك وعقبة متروكان، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" في أواخر النكاح موقوفاً على علي رضي الله تعالى عنه، كذا ذكره العيني في "البناية" للزيلعي وابن حجر في "تخريجهما" لأحاديث الهداية. وذكر الذهبي في "ميزان الاعتدال"، والحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" حديث علي مرفوعاً من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   رواية الدارقطني في ترجمة المسيّب بن شريك بن سعيد الكوفي، وذكرا أن يحيى قال في حقه: ليس بشيء، وقال أحمد: ترك الناس حديثه، وقال البخاري: سكتوا عنه، وقال مسلم وجماعة: متروك، وقال محمود بن غيلان: ضرب ابن معين وأحمد وأبو خثيمة على حديثه، وقال الساجي: متروك الحديث، له مناكير. انتهى. إذاعرفت هذا كله فاعلم أن في المقام أبحاثاً عديدة: - الأول: أنه ماذا أريد من كون العقيقة في الجاهلية وكونها متروكة مرفوضة في الإِسلام؟ إن أريد أنها كانت واجبة ولازمة في الجاهلية وكان أهل الجاهلية يوجبونها على أنفسهم فلما جاء الإِسلام رفض وجوبه ولزومه فهذا لا يدل على نفي الاستحباب أو المشروعية أو السنية، بل على نفي الضرورة فحسب، وهو غير مستلزم لعدم المشروعية أو الكراهة، وإن أريد أنها كانت في الجاهلية مستحبة أو مشروعة، فلما جاء الإِسلام رفض استحبابها وشرعيتها، فهو غير مسلّم. فهذه كتب الحديث المعتبرة مملوءة من أحاديث شرعية العقيقة واستحبابها، كما ذكرنا نُبَذاً منها. - الثاني: الأحاديث الدالة على واستحبابها وشرعيتها، لا شك أنها واقعة في الإِسلام وهي معارضة لما بلغه من قول النخعي وابن الحنفية، ومن المعلوم أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أحق بالأخذ من قول غيره كائناً من كان. - الثالث: أنه لو كان مطلق مشروعية العقيقة مرتفعة عن الإِسلام لَمَا عقّ النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين، فإن ادَّعى أن ذلك كان في بدء الإِسلام احتيج إلى ذكر ما يدل على رفع كونه مشروعاً بعد ما كان مشروعاً في الإِسلام وإذ ليس فليس. - الرابع: أنه لو كانت مشروعيتها المطلقة مرتفعة لما اختارها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده، وقد اختاروها كما مرّ من رواية نافع عن ابن عمر، وفي "موطأ يحيى": مالك عن هشام بن عروة أن أباه عروة بن الزبير كان يعقّ عن بنيه الذكور والإِناث بشاة شاة. - والخامس: أن مراد ابن الحنفية وإبراهيم من كون العقيقة مرفوضة يحتمل أن يكون رفض عقيقة الجاهلية فإنهم كانوا يذبحون ذبيحة ويلطِّخون صوفه في دمه، ويضعونها على رأس الصبي حتى تسيل عليه قطرات الدم، فلما جاء الإِسلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم بزعفران ونحوه، وعلى هذا لا يدل كلامهما على نفي مشروعيتهما المطلقة بل على نفي الطريقة الخاصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 شَهْرِ رَمَضَانَ كلِّ صومٍ كَانَ قَبْلَهُ، ونَسَخَ غُسلُ الْجَنَابَةِ كلَّ غُسل كَانَ (1) قَبْلَهُ، ونَسَخَتِ الزكاةُ كل صدقة (2) كان قبلها. كذلك بَلَغَنَا.   وبالجملة الحكم بنفي مشروعيتها في الإِسلام مطلقاً غير صحيح. وترك الأحاديث الصريحة المرفوعة والموقوفة الواردة في هذا الباب بقول محتمل غير متأصِّل غير نجيح. - السادس: أن البلاغ الثاني لا يثبت من طريق محتَجّ به حتى يحتج به. السابع: بعد تسليم ثبوته ظاهره يدل على منسوخية وجوب العقيقة ونحوها فإن معناه نسخ الأضحى لزوم كل ذبح كان قبله كالعقيقة، وكالعتيرة وكالرجبية، وكانتا في الجاهلية فإنهم كانوا إذا ولدت الناقة أو الشاة ذبحوا أول ولد، فأكل وأطعم، وكان بعضهم ينذر بأنه إذا بلغ شاته كذا ذبح من كلِّ عَشَرة شاةً، وكانوا يذبحون شاةً لتعظيم شهر رجب، ويدل عليه ضمّه بنسخ صوم شهر رمضان كل صوم كان قبله فإنه كان صوم يوم عاشوراء وأيام البيض فرضاً، فلما نزل صوم رمضان نسخ وجوب ذلك على ما بسطه الحازمي في "كتاب الناسخ والمنسوخ"، فكما أن نسخ صوم رمضان لما قبله لم يدل إلا على عدم لزومه، ولا على عدم مشروعيته وانتفاء فضيلته، كذلك نسخ الأضحى كلَّ ذبح كان قبله لا يدل على انتفاء استحبابه وشرعيته. وقال صاحب "البدائع": ذكر محمد في "الجامع الصغير": ولا يُعَقّ لا عن الغلام ولا عن الجارية، وإنه إشارة إلى الكراهة لأن العقيقة كانت فضيلة ونُسخ الفضل، فلا يبقى إلا الكراهة بخلاف الصوم والصدقة فإنهما كانتا من الفرائض، فإذا نسخت الفرضية يجوز التنفل بهما. انتهى. وردّه القاري بقوله: فيه بحث لأن الفضيلة إذا انتفت تبقى الإِباحة لأن النسخ ما توجّه إلا إلى زيادة. وهذا على تقدير أنه كان فضيلة، وإلا فالظاهر من ذكرها مع الصوم والصدقة أنهما على منوالهما في كونهما واجبة. انتهى. فليتأمل في هذا المقام فإنه من مزال الأقدام، وانظر ما ذكرنا في هذا البحث في سلك نظائره التي لم يقف عليها الأعلام. (1) قال القاري: لم أعرفه. (2) قال القاري: هذا أيضاً غير معروف. انتهى. قلت: هو ما روي عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ابن عباس أنّ قبل فرض الزكاة كانت صدقة الفاضل من المال فرضاً حتى نسخ، أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وغيرهم على ما في "الدر المنثور". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 كِتَابُ الدِّيات (1) 622 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن أبي بكر أن أباه (2) أخبره (3) عن الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَه (4) لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي   (1) أي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم المدني. (2) أي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم المدني. (3) قوله: أخبره، قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث. وروي مسنداً من وجه صالح، ورواه معمر عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده، ورواه الزهري عن أبي بكر عن أبيه عن جده عن عمرو بن حزم. (4) قوله: كتبه لعمرو بن حزم، هو أبو محمد، وقيل: أبو الضاحك عمرو بن حَزْم - بالفتح - بن زيد بن لوذان - بالفتح - بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجّار الأنصاري الخزرجي النجاري المدني. أول مشاهده مع رسول الله الخندق واستعمله رسول الله على نجران باليمن، وبعث معه كتابا فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 العُقُول (1) ؛ فَكَتَبَ أنَّ فِي النَّفْسِ (2) مِائَةً مِنَ الإِبل، وفي   الفرائض والسنن والصدقات والجروح والديات، وكتابه هذا مشهور، أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما مفرَّقاً، وأكملهم له رواية النسائي في الديات، وكانت وفاته بالمدينة سنة 51 أو سنة 53 أو سنة 54 على الاختلاف، كذا في "تهذيب النوري". (1) بضم العين جمع عقل بمعنى الدية. (2) قوله: أن في النفس، أي في قتل الرجل المسلم إذا كان ذَكَراً مائة من الإِبل ومن الذهب ألف دينار، ومن الفضة عشرة آلاف درهم، وقال الشافعي: من الوَرِق اثنا عشر ألفاً، وبه قال أحمد وإسحاق، لما أخرجه أصحاب السنن عن ابن عباس: أنَّ رجلاً من بني عَدِيّ قُتل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دِيَته اثنا عشر ألفاً. ولنا - وهو قول الثوري - ما روى البيهقي من طريق الشافعي قال: قال محمد بن الحسن: بلغنا عن عمر أنه فرض من الذهب في الدية ألف دينار، ومن الوَرِق عشرة آلاف درهم، حدثنا بذلك أبو حنيفة عن العيثم، عن الشعبي عن عمر. ودية المرأة عندنا نصف دية الرجل في النفس، وما دونها، وهو قول الثوري والليث وابن أبي ليلى وابن شُبْرمة وابن سيرين لما أخرجه البيهقي عن معاذ مرفوعاً: دية المرأة على النصف من دية الرجل. وفيه خلاف مالك وأحمد، كذا ذكر القاري. (1) أي في قطع الأنف. (2) قوله: إذا أُوعِيَتْ، في "موطأ يحيى": إذا أُوْعِيَ وهو من الوعي. يقال: وعى واستوعى من الاستعاب، وهو أخذ الشيء كله أي إذا استوصلت قطعاً بحيث لم يبقَ منه شيء، وفي بعض النسخ: أوعبت بالباء الموحَّدة، وهو بمعناه. (3) بفتح الجيم بمعنى القطع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 الأنف (1) إذا أو أُوعِيَتْ (2) جَدْعاً (3) مِائَةً مِنَ الإِبل، وَفِي الْجَائِفَةِ (4) ثُلُثَ النَّفْسِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ مِثْلَهَا، وَفِي الْعَيْنِ (5) خَمْسِينَ، وَفِي الْيَدِ خَمْسِينَ، وَفِي الرِّجْل خَمْسِينَ، وفي كل إصبع (6) مما هنالك عشر من الإِبل، وفي السنّ (7) خمس من الإِبل، وفي المُوضحة (8) خمس من الإِبل.   (4) قوله: وفي الجائفة، هي الطعنة التي بلغت الجوف، فإن لم تنفذ ففيها ثُلُث الدية وإن نفذت إلى جانب آخر ففيها ثلثا الدية. والمأمومة ويقال لها الآمّة - بالمد وتشديد الميم - الشجَّة الواصلة إلى أمّ الرأس الذي فيه الدماغ، كذا في "المغرب" وغيره. (5) قوله: وفي العين خمسين، أي من الإِبل، وهي نصف دية النفس. وكذا في اليد الواحدة والرِّجْل الواحدة والشفة الواحدة. ففي الطرق الموصولة عن عمرو بن حزم عند أبي داود والنسائي وغيرهما، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصُّلْب الدية، وفي العينين الدية. (6) قوله: في كل أصبع، أي في يد أو رجل، أي وإن كان خنصراً كما في رواية ابن عباس مرفوعاً: "هذه وهذه سواء" يعني الخنصر والإبهام، فيكون في كل منها عشر من الإبل، وهو خمس نصف الدية، ففي الأصابع الخمس يكون نصف الدية. (7) أي في كل سِنّ من الأسنان سواء كان من الرباعية أو الأضراس. (8) قوله: في الموضحة (قال صاحب "المحلى" في الموضحة خمس إن كان من الرأس والوجه اتفاقاً وإلاَّ ففيها حكومة عدل عند مالك والشافعي. انظر الأوجز 13/8) ، هي قسم من الشجاج، وهي التي توضح العظم أي تظهره وتكشفه، فإن كسرته سُمِّيت هاشمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 1 - بَابُ الدِّيَةِ فِي الشَّفَتَيْن 663 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيِّب أنَّه قَالَ: فِي الشَّفَتَيْنِ (1) الدِّيَةُ، فَإِذَا قُطِعَتِ السُّفْلَى، فَفِيهَا (2) ثُلُثُ الدِّيَةِ. قَالَ محمدٌ: ولَسْنا نَأْخُذُ بِهَذَا (3) ، الشَّفَتَانِ سَوَاءٌ (4) ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، أَلا تَرَى أَنَّ الْخِنْصَرَ وَالإِبْهَامَ سَوَاءٌ وَمَنْفَعَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأبي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 2 - بَابُ دِيَةِ الْعَمْدِ (5) 664 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، قَالَ: مَضَتِ (6) السُّنَّةُ   (1) قوله: في الشفتين الدية، أي دية النفس كاملة، وقد جاء ذلك مرفوعاً عند النسائي في رواية كتاب عمرو بن حزم. (2) قوله: ففيها ثلث الدية، قال الزرقاني: لأن النفع بها أقوى بالنسبة إلى العليا. لكن لم يأخذ بهذا مالك ولا الشافعي ومن وافقهما، قالوا: فيهما نصف الدية. (3) أي بالتفريق. (4) في حكم الدية مع أن منفعتهما مختلفة، فإن منفعة الخنصر اقلّ، فعلم أنه لا اعتبار - لها. (5) قوله: مضت السُنَّة، أي السنة النبوية وسنَّة الصحابة. وقد روي ذلك موقوفاً ومرفوعاً، فأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث عمر موقوفاً: العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة. وفي إسناد عبد الملك بن حسين، وهو ضعيف، قال البيهقي: المحفوظ أنه عن عامر الشعبي قوله. وروي أيضاً عن ابن عباس، وروى البيهقي، عن أبي الزنَّاد عن الفقهاء من أهل المدينة نحوه، وأخرج الدارقطني والطبراني في " مسند الشاميين" من حديث عبادة مرفوعاً: لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئاً. وإسناد واهٍ، فيه محمد بن سعيد المصلوب كذّاب، والحارث بن نبهان منكر الحديث، كذا في " تلخيص الحبير". (6) قوله: مضت السُنَّة، أي السنة النبوية وسنَّة الصحابة. وقد روي ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 أَنَّ الْعَاقِلَةَ لا تَحْمِلُ (1) شَيْئًا مِنْ دِيَة العَمْد إلاَّ أَنْ تَشَاءَ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. 665 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ (3) بْنُ أَبِي الزِّناد، عَنْ أَبِيهِ (4) ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتبة (5) بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لا تَعقِل (6) الْعَاقِلَةُ عَمْدًا، وَلا صُلْحًا، وَلا اعْتِرَافًا وَلا مَا جَنَى الْمَمْلُوكُ.   موقوفاً ومرفوعاً، فأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث عمر موقوفاً: العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة. وفي إسناد عبد الملك بن حسين، وهو ضعيف، قال البيهقي: المحفوظ أنه عن عامر الشعبي قوله. وروي أيضاً عن ابن عباس، وروى البيهقي، عن أبي الزنَّاد عن الفقهاء من أهل المدينة نحوه، وأخرج الدارقطني والطبراني في " مسند الشاميين" من حديث عبادة مرفوعاً: لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئاً. وإسناد واهٍ، فيه محمد بن سعيد المصلوب كذّاب، والحارث بن نبهان منكر الحديث، كذا في " تلخيص الحبير". (1) أي لا تجب عليهم أداؤها، بل هي على القاتل. (2) أي تشاء العاقلة تحمُّل الدية (بأن يتبرعوا بإعطاء الجاني شيئاً) . (3) هو صدوق، فقيه، مدني، تغيَّر في حفظه لمّا قدم بغداد، مات سنة 74، كذا في "التقريب" (في نسخة: أخبرنا مالك، أخبرنا عبد الرحمن ... إلخ) . (4) هو أبو الزِّناد - بكسر الزاي - عبد الله بن ذكوان. (5) بضم العين. (6) قوله: لا تعقل العاقلة عمداً، أي لا تحمل العاقلة دية القتل العمد كما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 قَالَ مُحَمَّدٌ وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قولُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا.   إذا قتل عمداً يجب فيه القصاص، وسقط فيه القصاص لشبهةٍ مثل ما إذا قتل الأب ابنه، وكذا لا تعقل العواقل الدية التي وجبت على القاتل بسبب الصلح بل هي في مال القاتل، وكذا لا تعقل دية قتل اعتراف به القاتل، وكذا ما جنى المملوك لا يعقل عنه عاقلة مولاه، بل هو على رقبته (قال الموفق: العاقلة لا تحمل العبد يعني إذا قتل العبدَ قاتلٌ وجبت قيمته في مال القاتل ولا شيء على عاقلته خطأ كان أو عمداً، وهذا قول ابن عباس والثوري ومكحول والنخعي ومالك والليث وإسحاق وأبي ثور، وقال عطاء والزهري والحكم وحماد وأبو حنيفة تحمله العاقلة، لأنه آدمي يجب بقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر. وعن الشافعي كالمذهبين ووافقنا أبو حنيفة في دية أطرافه. وفي "المحلى": قال أبو حنيفة: إذا جنى الحر على العبد فقتله خطأ كان على عاقلته لأنه بدل النفس، وما دون النفس من العبد لا يتحمله العاقلة لأنه يسلك مسلك الأموال، كذا في " الهداية". انظر أوجز المسالك 13/88. وقال صاحب "القاموس": قول الشعبي: لا تعقل العاقلة عبداً ولا عمداً، وليس بحديث، كما توهم الجوهري. ومعناها أن يجني الحرّ على العبد لا العبد على الحرّ كما توهم أبو حنيفة لأنه لو كان المعنى كما توهمه لكان الكلام لا تعقل العاقلة عن العبد، ولم يكن ولا تعقل عبداً. قال الأصمعي: كلَّمت في ذلك أبا يوسف، وكان بحضرة الرشيد فلم يفرِّق بين عَقَلْتُه وعقلتُ عنه حتى فهَّمته. انتهى. وردَّه القاري بأن عقلته يُستعمل بمعنى عقلت عنه، وسياق الحديث وهو قوله: لا تعقل العاقلة عمداً ولا عبداً، وسياقه وهو قوله: ولا صلحاً ولا اعترافاً يدلاّن على ذلك، فإنَّ معناه عن عمد وعن صلح وعن اعتراف، وبأنَّ قول ابن عباس: ولا ما جنى المملوك، صريح في الأمر الذي فيه الإِمام. والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وبأنَّ قوله ليس بحديث مردود عليه بأنَّ المقطوع والموقوف أيضاً من أقسام الحديث وهو موقوف، له حكم الرفع إذ لا يُقال مثله بالرأي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 3 - بَابُ دِيَةِ (1) الْخَطَأِ 666 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (2) ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَانَ يقول: في دية (3) الخطأ عشرون (4) بنتَ   (1) قوله: أخبرنا ابن شهاب، هكذا في نسخ عديدة، والذي في "موطأ يحيى": مالك أن ابن شهاب وسليمان بن يسار وربيعة بن أبي عبد الرحمن كانوا يقولون: دية الخطأ ... إلخ. (2) قوله: أخبرنا ابن شهاب، هكذا في نسخ عديدة، والذي في "موطأ يحيى": مالك أن ابن شهاب وسليمان بن يسار وربيعة بن أبي عبد الرحمن كانوا يقولون: دية الخطأ ... إلخ. (3) قوله: دية، هي واجبة على العاقلة عندنا وعند الشافعي وأحمد والثوري وإسحاق والنخعي وحماد والشعبي وغيرهم، وعن ابن سيرين وابن شبرمة وأبي ثور وقتادة والزهري والحارث وأحمد في رواية أنه على القاتل، كذا ذكره العيني في "البناية". (4) قوله: عشرون بنت مخاض، هي الناقة التي طعنت في السنة الثانية سُمِّيت بها، لأن أمها في الغالب يصير ذات مخاض بالفتح وهو وجع الولادة، والتي دخلت في السنة الثالثة تسمى بنت لبون - بفتح اللام - لأن أمها في الغالب تصير ذات لبن مرّة أخرى، والحِقَّة - بكسر الحاء وتشديد القاف التي دخلت في الرابعة، لكونها مستحقة للحمل والركوب، والجذعة - بفتحات - التي دخلت في الخامسة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بنتَ لَبون، وَعِشْرُونَ ابنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّة، وَعِشْرُونَ جَذَعة. قَالَ محمدٌ: وَلَسْنَا (1) نأخذُ بِهَذَا، ولكنَّا نأخذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ رَوَاهُ (2) ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ، عِشْرُونَ (3) بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقّة وعشرون جَذَعة أخماس، وإنما خَالَفَنا (4)   (1) قوله: لسنا نأخذ بهذا، أي بما ذكره سليمان، ذكر صاحب "الهداية" والعيني في " شرحها " أن الصحابة أجمعوا على أن دية الخطأ مائة من الإبل، واختلفوا في أسنانها، فقال بعضهم: خمس وعشرون حِقَّة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون ابن لبون، وخمس وعشرون بنت مخاض. وقال عثمان وزيد: ثلاثون جذعة وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنت مخاض وعشرون ابن لبون. ذكر ذلك أبو يوسف في "كتاب الخَراج": وإنما أخذنا بقول ابن مسعود لأنه أخفّ وأنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (2) قوله: وقد رواه، أخرج روايته أحمد، وأصحاب السنن، والبزار والدارقطني والبيهقي، وبسط الدارقطني في "السنن" الكلام في طرقه، ورواه من طريق أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، وفيه عشرون بني لبون، وقال: هذا إسناد حسن، وقواه بما أخرجه عن إبراهيم النخعي عنه على وفقه، وتعقبه البيهقي بأن الدارقطني وهم فيه، وقد رأيته في "جامع الثوري"، عن المنصور، عن إبراهيم، عنه، وعن أبي إسحاق، عن علقمة عنه، وعن عبد الحمن بن مهدي، عن يزيد بن هارون، عن سليمان التيمي، عن أبي مخلب، عن أبي عبيدة، عنه، وعند الجميع بنو مخاض، كذا ذكره الحافظ في "التلخيص". (3) بيان للأخماس. (4) قد وافقته رواية عن ابن مسعود، وإليه ذهب الشافعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 سُليمان بْنُ يَسَارٍ فِي الذُّكُورِ (1) فَجَعَلَهَا مِنْ بَنِي اللَّبُونِ، وَجَعَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ بَنِي مَخَاضٍ، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. 4 - بَابُ دِيَةِ الأَسْنَانِ (2) 667 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصين (3) أَنَّ أَبَا غَطَفَان (4) أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَرْسَلَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ مَا (5) فِي الضَّرْس (6) ؟ فَقَالَ: إِنَّ فِيهِ (7) خَمْسًا مِنَ الإِبِلِ، قال (8) : فردَّني   (1) أي في تعينها. (2) الحصين: بمهملتين مصغَّراً. (3) الحصين: بمهملتين مصغَّراً. (4) هو بفتحات قيل: اسمه سعد بن طريف، أو ابن مالك المُرِّي - بضم الميم وشد الراي - المدني من الثقات، كذا في "التقريب". (5) أي من الدية إذا قُلعت خطأ. (6) قوله: في الضَّرس، هو بالفتح قسم من الأسنان. قال أكمل الدين البابرتي في "العناية شرح الهداية": السن اسم جنس يدخل تحته اثنان وثلاثون، أربع منها ثنايا، وهي الأسنان المتقدمة، اثنان فوق، واثنان أسفل، ومثلها رباعيات وهي ما يلي الثنايا ومثلها أنياب وهو ما يلي الرباعيات ومثلها أضراس تلي الأنياب، واثنتا عشر سنّاً تسمى بالطواحن، من كل جانب ثلاث فوق، وثلاث أسفل، وبعدهنَّ أسنان أُخَر وهي آخر الأسنان، وتسمّى النواجذ، وهي في أقصى الأسنان وتسمى أسنان الحلم لأنها تنبت بعد البلوغ وقت كمال العقل. (7) أي في كل واحد من الأضراس. (8) أي أبو غطفان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 مَرْوَانُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: فلِمَ تَجْعَلُ (1) مُقَدَّمَ الْفَمِ مِثْلَ الأَضْرَاسِ؟ قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْلا أَنَّكَ لا تَعْتَبِرُ (2) إلاَّ بِالأَصَابِعِ عَقْلها (3) سواءٌ.   (1) قوله: فلم تجعل، أي لأيّ شيء تجعل مقدّم الفم أي الأسنان المقدّمة مثل الأضراس حيث تحكم بخمس من الإِبل في كل ضرس كما هو في كل سن مقدم مع اختلاف المنفعة، والقياس أن يجب في الضرس أقلّ مما يجب في المقدم. (2) قوله: لولا أنك لا تعتبر، أي لو لم تكن تقيس الأسنان إلاَّ بالأصابع لكان كافياً لك، فإن عقل الأصابع سواء مع اختلاف المنفعة والمقدار، فكذا الأسنان. (3) أي للأصابع. (1) قوله: عقل الأسنان سواء، قد ورد ذلك مرفوعاً من حديث ابن عباس في مسند البزار بلفظ: الثنية والضرس سواء والأضراس كلها سواء. وعنه مرفوعاً: أصابع الرِّجْل واليد (في الأصل: إليه هو تحريف) سواء. والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء، وهذه وهذه يعني الخنصر والبنصر، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان، ولأبي داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه: الأصابع والأسنان سواء، في كل أصبع عشر من الإِبل، وفي كل سن خمس، كذا في " التلخيص" وغيره ويؤيده إطلاق حديث: في السِنِّ خمس من الإِبل، ولعل هذه الأحاديث لم تبلغ عمر حيث قضى في الأضراس ببعير بعير، ومعاوية حيث قضى في الأضراس بخمسة أبعرة، بخمسة أبعرة، قال سعيد بن المسيّب: فالدية تنقص في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ نأخذُ، عَقْلُ الأَسْنَانِ (1) سواءٌ، وَعَقْلُ الأَصَابِعِ (2) سَوَاءٌ، فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عُشْرٌ مِنَ الدِّيَةِ (3) وَفِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرٍ مِنَ الدِّيَةِ (4) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 5 - بَابُ أَرش (5) السِنِّ السَّوْدَاءِ وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ 668 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ كَانَ يَقُولُ: إِذَا أُصِيبَتِ السِنّ فاسودَّت فَفِيهَا عَقْلها تامّاً (6) .   قضاء عمر، وتزيد في قضاء معاوية، فلو كنتُ أنا لجعلت في الأضراس بعيرين بعيرين كما في "موطأ يحيى": مالك، عن يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. (2) قوله: وعَقْل الأصابع سواء، روي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث أبي موسى الأشعري، أخرجه أبو داود والنسائي، وابن عباس، أخرجه الترمذي، وعبد الله بن عمرو، أخرجهُ ابن ماجه وبه قال علي وابن عباس والعامّة، وروى عن عمر أنه قضى في الإبهام بثلاثة عشر إِبلاً، وفي التي تليها اثني عشر، وفي الوسطى عشرة، وفي التي تليها تسعة، وفي الخنصر ستّ، وروي عنه كقول العامة، كذا في "البناية". (3) أي عشر من الإبل. (4) أي خمس من الإِبل. (5) أي دية السِنّ كاملة (قال الموفق: وإن جنى على سنّه فسوَّدها فحكي عن أحمد - رحمه الله - في ذلك رويتان، إحدهما: تجب ديتها كاملة وهو ظاهر كلام الخرقي، ويروى هذا عن زيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وابن سيرين وشريح والزهري وعبد الملك بن مروان والنخعي ومالك والليث وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي. والرواية الثانية، عن أحمد: أنه إن أذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها، وإن لم يذهب نفعها ففيها حكومة، وهذا قول القاضي، والقول الثاني للشافعي وهو المختار عند أصحابه لأنه لم يذهب بمنفعتها فلم تكمل ديتها كما لو اصفرَّت. المغني 8/26) . (6) أي دية السِنّ كاملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، إِذَا أُصِيبَتِ (1) السِنّ فاسودَّت (2) أَوِ احمرَّت أَوِ اخضرَّت، فَقَدْ تَمَّ عَقْلُهَا (3) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. 669 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يَقُولُ: فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ إِذَا فُقِئت (4) مِائَةُ دِينَارٍ. قَالَ محمدٌ: لَيْسَ عِنْدَنَا فِيهَا أَرْشٌ مَعْلُومٌ (5) ، فَفِيهَا حُكُومَةُ (6) عَدْلٍ، فَإِنْ بَلَغَتِ الْحُكُومَةُ مِائَةَ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَانَتِ الْحُكُومَةُ   (قال الموفق: وإن جنى على سنّه فسوَّدها فحكي عن أحمد - رحمه الله - في ذلك رويتان، إحدهما: تجب ديتها كاملة وهو ظاهر كلام الخرقي، ويروى هذا عن زيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وابن سيرين وشريح والزهري وعبد الملك بن مروان والنخعي ومالك والليث وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي. والرواية الثانية، عن أحمد: أنه إن أذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها، وإن لم يذهب نفعها ففيها حكومة، وهذا قول القاضي، والقول الثاني للشافعي وهو المختار عند أصحابه لأنه لم يذهب بمنفعتها فلم تكمل ديتها كما لو اصفرَّت. المغني 8/26) . (1) أي بحجر ونحوه من غير قلع. (2) أي تغيّر لونُها بالصدمة إلى أي لون كان. (3) أي وجب تمام ديتها فهو مثل قلعها لفوات جنس المنفعة. (4) مجهول، من الفقأ وهو الشقّ. (5) أي مقرَّر شرعاً. (6) قوله: حكومة عدل، قال القاري: تفسير حكومة العدل أن يُقوَّم المجنيّ عليه عبداً بلا هذا الأثر، ثم يقوَّم عبداً ومعه هذا الأثر، فقدر التفاوت بين القيمتين من الدية، هو حكومة العدل، وهذا تفسير الحكومة عند الطحاوي، وبه أخذ الحلواني، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وكل من يُحفظ عنه العلم، كذا قال ابن المنذر، وقال بعض المشائخ في تفسيرها: أن ينظر إلى قدر يحتاج إليه من النفقة إلى أن تبرأ الجراحة فيجب ذلك على الجاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 فِيهَا، وَإِنَّمَا نَضَعُ (1) هَذَا مِنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لأَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ. 6 - بَابُ النَّفَر (2) يَجْتَمِعُونَ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ 670 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ (3) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَتَلَ نَفَرًا - خَمْسَةً أَوْ (4) سبعة -   (1) أي نحمل هذا القول من زيد على أنه حكومة اتفاقية، لا تقديرية شرعية. (2) قوله: عن سعيد بن المسيّب أن عمر ... إلخ، قال الزرقاني: رواية سعيد عنه متصلة، لأنه رآه وصحح بعضهم سماعه منه، ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بلفظ "الموطأ" سواء، وهذا مختصر من أثر وصله ابن وهب، ورواه من طريقه قاسم بن أصبغ، والطحاوي والبيهقي، قال وهب: حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنواني حدَّث عن أبيه: أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابناً له من غيرها غلاماً، يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها، فقتلوه، ثم قطعوه أعضاء، وجعلوه في عَيْبة - بفتح العين: وعاء من أدم - فوضعوه في ركيَّة - بشد تحتية: بئر في ناحية القرية ليس فيها ماء - فأُخذ خليلها، فاعترف واعترف الباقون. فكتب يعلى - وهو يومئذٍ أمير - بشأنهم إلى عمر فكتب عمر بقتلهم جميعاً، وقال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين. (3) قوله: عن سعيد بن المسيّب أن عمر ... إلخ، قال الزرقاني: رواية سعيد عنه متصلة، لأنه رآه وصحح بعضهم سماعه منه، ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بلفظ "الموطأ" سواء، وهذا مختصر من أثر وصله ابن وهب، ورواه من طريقه قاسم بن أصبغ، والطحاوي والبيهقي، قال وهب: حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنواني حدَّث عن أبيه: أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابناً له من غيرها غلاماً، يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها، فقتلوه، ثم قطعوه أعضاء، وجعلوه في عَيْبة - بفتح العين: وعاء من أدم - فوضعوه في ركيَّة - بشد تحتية: بئر في ناحية القرية ليس فيها ماء - فأُخذ خليلها، فاعترف واعترف الباقون. فكتب يعلى - وهو يومئذٍ أمير - بشأنهم إلى عمر فكتب عمر بقتلهم جميعاً، وقال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين. (4) شك من الراوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 بِرَجُلٍ (1) قَتَلوه قَتْل غِيلة (2) وَقَالَ: لَوْ تمالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ قتلْتهم (3) بِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، إنْ قَتل سَبْعَةٌ أَوْ أَكْثَرُ (4) مِنْ ذَلِكَ رَجُلا عَمْدًا (5) قَتْلَ (6) غِيلة أَوْ غَيْرَ غِيلة ضَرَبُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ (7) حَتَّى قتَلُوه قُتِلُوْا (8) بِهِ كلُّهم، وَهُوَ قولُ (9) أَبِي حَنِيفَةَ والعامَّة من فقهائنا رحمهم الله.   (1) أي بسبب قتل رجل اسمه أصيل أي في قصاصه. (2) قوله: قتل غِيلة، بالإضافة وهو بالكسر أي خديعة وسر. وقوله: لو تمالأ عليه، أي تعاون عليه، وأصله المعاونة في ملء الدلو، ثم عمّ، وصنعاء - بالمد - قصبة اليمن، كذا في "البناية". (3) قوله: قتلتهم به، أي بقصاصه، وهذا الأثر قد أخرجه الشافعي أيضاً من طريق مالك، والبخاري من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وكذا ابن أبي شيبة والدارقطني، وفي رواية مغيرة بن حكيم، عن أبيه أن أربعة قتلوا صبياً، فقال عمر مثله. أخرجه عبد الرزاق بطوله، وسمي الغلام المقتول أصيلاً، وفي الباب عن ابن عباس قال: لو أن مائةً قتلوا رجلاً قُتِلوا به، أخرجه عبد الرزاق. وعن المغيرة أنه قُتل سبعة برجل، أخرجه ابن أبي شيبة، وعن عليّ مثله، كذا في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي وغيره. (4) أي أو أقلّ من ذلك. (5) قُيِّدَ به لأنه لا قصاص في الخطأ. (6) أي قتل خفية أو علانية. (7) بالفتح: جمع سيف، ومثله كل محدَّد. (8) بصيغة المجهول. (9) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، وأكثر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 7 - بَابُ الرَّجُلِ يَرِثُ مِنْ دِيَةِ امْرَأَتِهِ وَالْمَرْأَةُ تَرِثُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا 671 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (1) ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَشَد (2) النَّاسَ بِمِنًى: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ (3) فِي الدية (4) أن يخبرني (5) به،   أهل العلم من الصحابة والتابعين، وقال ابن الزبير والزهري وابن سيرين وابن أبي ليلى وداود وابن المنذر وأحمد في رواية: لا يُقتلون، بل يجب عليهم الدية، وهو القياس لأن القصاص ينبئ عن المماثلة، ولا مماثلة بين الواحد والجماعة، وما ذهبنا إليه استحسان بأثر عمر وغيره، والوجه فيه أن القتل بغير حق لا يكون عادة إلاَّ بالتغالب واجتماع نفر من الناس، فلو لم يجب القصاص فيه انسد باب القصاص، وفاتت الحكمة المقصودة من شرعيته، كذا ذكره العيني. (1) قوله: أخبرنا ابن شهاب أن عمر، قال ابن عبد البر: هكذا رواه جماعة من أصحاب مالك، ورواه جماعة من أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر ... إلخ، وروايته عن عمر تجري مجرى المتصل لأنه قد رآه وصحح بعضهم سماعه منه، وفي طريق هشيم، عن الزهري، عن سعيد قال: جاءت امرأة إلى عمر تسأله أن يورّثها من دية زوجها، فقال: ما أعلم لك شيئاً فنشد الناس، الحديث. وفي طريق معمر عن الزهري عن سعيد أن عمر قال: ما أرى الدية إلا للعصبة لأنهم يعقلون عنه، فهل سمع أحد منكم عن رسول الله شيئاً في ذلك؟ فقال الضحاك بن سفيان الكلابي، وكان رسول الله استعمله على الأعراب: الحديث. (2) أي طلب من الناس حين كان بمنى في حجته. (3) أي من النبي صلى الله عليه وسلم. (4) أي في باب توريثها. (5) من الإِخبار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 فَقَامَ (1) الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ، فَقَالَ (2) : كَتَبَ إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أَشْيَم (3) الضِّبابي (4) أَنْ ورِّث (5) امرأتَه مِنْ دِيَته، فقال عمر: ادْخُل   (1) قوله: فقام الضحاك، هو الضحاك بن سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة الكلابي العامري الضِّبابي - بكسر الضاد المعجمة وفتح الموحدة المخففة - عداده في أهل المدينة، وكان ينزل بنجد ولاّه النبي صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وكان من شجعان الصحابة، كذا ذكره ابن الأثير في "جامع الأصول". (2) قوله: فقال: كتب إلي ... إلخ، ذكر الزيلعي وابن حجر في "تخريجي أحاديث الهداية" وغيرهما أن هذا الحديث أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وإسحاق وعبد الرزاق والطبراني كلهم من طريق سعيد بن المسيب عن عمر، وأخرج له الدارقطني شاهداً من رواية المغيرة بن شعبة، وفي رواية ابن شاهين من طريق ابن إسحاق عن الزهري قال: حُدثت عن المغيرة أنه قال: حدثت عمر بقصة أشيم، فقال: ائتني على هذا بما أعرف، فنشدت الناس في الموسم فأقبل رجل يقال له زرارة فحدثه عن رسول الله بذلك وفي رواية أبي يعلى بإسناد حسن عن المغيرة أن زرارة بن جرى قال لعمر: إن رسول الله كتب إلى الضحاك أن يُوَرِّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. (3) بفتح الألف وسكون الشين المعجمة وفتح الياء المثناة التحتية، كذا ضبطه ابن الأثير. (4) قوله: الضبابي، ذكر السيوطي والسَّمْعاني أن الضِّبابي بالكسر نسبة إلى ضباب بن عامر بن صعصعة. وإلى محلة بالكوفة، وبالفتح نسبة إلى ضباب بطن من بني الحارث ومن قريش. (5) قوله: أَنْ وَرِّث، من التوريث وأنْ بالفتح وسكون بيان للمكتوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 الخِباءَ (1) حَتَّى آتيَك (2) ، فَلَمَّا نَزَلَ (3) أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ بِذَلِكَ، فَقَضَى (4) بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لِكُلِّ وَارِثٍ فِي الدِّيَةِ وَالدَّمِ (5) نصيبٌ، امْرَأَةً كَانَ الْوَارِثُ أَوْ زَوْجًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ (6) أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 8 - باب الجروح وما فيها من الأرش (7) 672 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: فِي كُلِّ نَافِذَةٍ (8) ، فِي عُضْوٍ مِنَ الأَعْضَاءِ ثُلُثُ (9) عَقْلِ ذَلِكَ العضو.   (1) بالكسر أي الخيمة. (2) أي فأتحقق وأسمع منك مرة أخرى. (3) أي عمر بالمنزل. (4) قوله: فقضى به عمر، أي حكم بتوريث الزوجة من دية الزوج، وفي "موطأ يحيى" بعده: قال ابن شهاب: وكان قتل أشيم خطأً. (5) أي في طلب القصاص في العمد. (6) قوله: وهو، وفي توريث الزوجة من دية الزوج، وفي كونها مستحقة للقصاص خلاف ابن أبي ليلى، ذكره القاري. (7) أي جراحة تنفذ. (8) أي جراحة تنفذ. (9) قوله: ثُلُثُ عَقْلِ ذَلِكَ الْعُضْوِ، في "موطأ يحيى" بعد هذه الرواية قال مالك: كان ابن شهاب لا يرى ذلك، وأنا لا أرى في نافذة في عضو من الأعضاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 قَالَ مُحَمَّدٌ: فِي ذَلِكَ أَيْضًا (1) حُكُومَةُ عَدْلٍ، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 9 - بَابُ دِيَةِ الْجَنِينِ (2) 673 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن سعيد بن المسيب: أن رسول اللَّهِ (3) قَضَى (4) فِي الْجَنِينِ يُقْتَلُ (5) فِي بَطْنِ أمهِ   في الجسد أمراً مجتمعاً عليه لكني (في الأصل "لكن"، والظاهر لكني كما في شرح الزرقاني 4/187) أرى فيه الاجتهاد يجتهد الإِمام في ذلك، وليس في ذلك أمر مجتمع عليه عندنا (كرره تأكيداً، قال صاحب "المحلى"، وهو قول أبي حنيفة والجمهور، كذا في الأوجز 13/63) . (1) أي ليس فيه دية معينة شرعاً. (2) قوله: أن رسول الله ... إلخ، قال ابن عبد البر: هذا مرسل عند رواة "الموطأ" ووصله مطرف وأبو عاصم النبيل كلاهما عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب وأبي سلمة، عن أبي هريرة. والحديث عند ابن شهاب عنهما جميعاً، عن أبي هريرة فطائفة من أصحابه يحدثونه عنه هكذا وطائفة يحدثون عنه عن سعيد وحده عن أبي هريرة، وطائفة عنه عن أبي سلمة وحده، عن أبي هريرة، ومالك أرسل عنه حديث سعيد هذا ووصل حديث أبي سلمة واقتصر فيه على قصة الجنين دون قتل المرأة. انتهى. (3) قوله: أن رسول الله ... إلخ، قال ابن عبد البر: هذا مرسل عند رواة "الموطأ" ووصله مطرف وأبو عاصم النبيل كلاهما عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب وأبي سلمة، عن أبي هريرة. والحديث عند ابن شهاب عنهما جميعاً، عن أبي هريرة فطائفة من أصحابه يحدثونه عنه هكذا وطائفة يحدثون عنه عن سعيد وحده عن أبي هريرة، وطائفة عنه عن أبي سلمة وحده، عن أبي هريرة، ومالك أرسل عنه حديث سعيد هذا ووصل حديث أبي سلمة واقتصر فيه على قصة الجنين دون قتل المرأة. انتهى. (4) أي حكم. (5) مجهول، صفة للجنين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 بِغُرَّةٍ (1) عبدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ، فَقَالَ (2) الَّذِي قَضَى (3) عليه: كيف (4) أغْرَمُ مَنْ   (1) قوله: بِغُرّةٍ عبدٍ أو وليدةٍ، أي أَمَةٍ هو صفة الغُرَّة، ويُروى بالإضافة وهو أحسن. والغُرّة بضم الغين وتشديد الراء، هو خيار المال كالفرس والبعير النجيب والعبد والأمة العمدة، وسمي بدل الجنين به لأن الواجب عبد، والعبد يسمّى غُرّة وقيل لأنه أول مقدار ظهر في باب الدية، وغُرَّةُ كل شيء أوّلُه، كذا في "البناية". (2) قوله: فقال الذي قضى عليه، أي بالغرة، وفي رواية للبخاري: فقال ولّي المرأة التي غُرّت، ووليّها هو ابنها مسروح، رواه عبد الغني. والأكثر على أن القائل زوجها حمل بن النابغة الهذلي، وللطبراني أنه عمران بن عويمر أخو مليكة المرأة المقتولة. فيحتمل تعدد القائلين، كذا قال الحافظ ابن حجر. قال الزرقاني: فيه دلالة قوية لقول مالك وأصحابه ومن وافقهم أن الغُرّة على الجاني، لا على العاقلة، كما يقوله أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما لأن المفهوم من اللفظ أن المقضيِّ عليه واحد وهو الجاني (الزرقاني 4/182) . انتهى. ولقائل أن يقول: يعارض هذه الدلالة الروايات الأخرى الصريحة، ففي رواية أبي داود والترمذي والطحاوي من حديث المغيرة بن شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل فضربت إحداهما الأخرى، الحديث. وفيه: فقضى فيه غُرَّة وجعل على عاقلة المرأة. وفي رواية ابن أبي شيبة عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الجنين غُرَّة على عاقلة القاتلة. وفي روايته من مرسل ابن سيرين جعل الغرة على العاقلة. وأخرجه الدارقطني مطوّلاً، وزيادة التفصيل في "تخريج أحاديث الهداية". (3) معروف أو مجهول. (4) قوله: كيف أَغْرَمُ، أي أضمن، وللبزار من حديث ابن عباس قالوا: كيف نَدِيه وما استهل. وله من حديث جابر فقالت العاقلة: أَنَدِي (أي نؤدي دية الجنين. بذل المجهود 18/88) من لا شرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 لاَ شَرِبَ (1) وَلاَ أَكَلَ، وَلاَ نَطَقَ، وَلاَ اسْتَهَلَّ، وّمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، قَالَ (2) : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا (3) هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّان. 674 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ (4) مِنْ هُذَيْل (5) استَبَّتَا (6) في   ولا أكل، الحديث. وهذا أيضاً من مؤيدات من أوجب الدية على العاقلة، وهذا كله صريح في أن الغُرّة هو دية الجنين، لا دية المرأة كما ظنه قوم، وقد بسط الكلام في رده الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/117 وأوجز المسالك 13/37. (1) قوله: من لا شرب، كأنه تعجّب من إيجاب الدية، فإنها عوض عن النفس الحية، فقال: كيف ندي الجنين الذي لم يشرب ولم يأكل ولم يستهلّ، من الاستهلال وهو رفع الصوت عند الولادة، وبالجملة لم يوجد فيه أثر الحياة، فمثل ذلك يُطَلُّ - بتحتّية مضمومة وشدّ اللام - أي يُهدر ويُبطل، وفي رواية: بطل بالموحّدة وطاء مهملة مفتوحتين وخفّة اللام من البطلان. (2) أي سعيد بن المسيب. (3) قوله: إنما هذا الساجع المناقض للحكم المبان من إخوان الكُهَّان - بضم الكاف وتشديد الهاء - جمع كاهن، زاد مسلم: من أجل سجعه الذي سجع فيه، ووجه ذمِّه أنه أراد بسجعه دفع الحكم الشرعي. (4) قوله: أن امرأتين، وكانتا ضَرَّتين، ففي رواية أحمد وغيره عن عويمر الهذلي: كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح من بني سعد بن هذيل تحت حمل بن مالك بن النابغة، فضربت أم عفيف مليكة. وللبيهقي وأبي نعيم قي "كتاب المعرفة" عن ابن عباس تسمية الضاربة أم غطيف، وكذا في "سنن أبي داود" وهما واحدة كذا ذكره ابن حجر. (5) بضم الهاء قبيلة. (6) أي تشاتمتا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 زَمَانِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَمَتْ (1) إِحْدَاهُمَا الأُخرى، فَطَرَحَتْ (2) جَنِينَهَا (3) ، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بغرّةٍ عبدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ. قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، إِذَا ضرُب بَطْنُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ (4) فَأَلْقَتْ جَنِينًا ميّتاً (5) ، ففيه (6) غُرَّةُ عبدٍ أو أمةٍ   (1) بحجر أو بعمود فسطاط أو مسطح أي خشبة على اختلاف الروايات. (2) أي ألقت الأخرى جنينها ميّتاً. (3) في نسخة: جنيناً. (4) قوله: الحرة، قُيِّد به لأن جنين الأمة، إن كانت حاملاً من زوجها، فيه نصف عشر قيمة الأُمّ في الذكور وعشر قيمته في الأنثى، وإن لم يعلم ذكورته ولا أنوثته يؤخذ بالمتيقَّن، هذا عندنا. وقال الشافعي: فيه عشر قيمتة الأم مطلقاً أنه جزء منها، وضمان الأجزاء يؤخذ مقدارها من الأصل، فلا يختلف ضمانه بالذكورة والأنوثة كما في جنين الحرة، وبه قال مالك وأحمد وابن المنذر والحسن والنخعي والزهري وقتادة وإسحاق. ولنا أنه بدل نفسه، ولا يُعتبر كونه جزءً وإلا لم يجب ضمانه إلا إذا نقص الأصل كما هو في سائر الأجزاء فيُقَدّر بقيمة الجنين لا بقيمة الأم، كذا في "الهداية" و "البناية". (5) قوله: ميتاً، قُيّد به لأنه لو ألقته حياً ثم مات ففيه الدية كاملة لأنه أتلف حياً بالضرب السابق، وإن ألقته ميتاً، ثم ماتت الأم، فعليه دية بقتل الأم وغُرّة بإلقائها، وإن ماتت الأم بالضربة، ثم خرج الجنين حياً، ثم مات، فعليه دية في الأم ودية في الجنين، وإن ماتت ثم ألقت جنيناً ميتاً فعليه دية في الأم ولا شيء في الجنين عندنا وعند مالك لأن موت الأم أحد سببي موت الجنين فلا يتيقن موته بالضرب خلافاً للشافعي وأحمد والظاهرية، كذا في "الهداية" و "البناية". (6) قوله: ففيه غرّة عبد، قال الزرقاني: احتج الشافعي بقوله في الحديث: كيف أغرم ... إلخ على أن المضمون الجنين لأن العضو لا يعترض فيه بهذا، وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 أو خمسون (1) ديناراً أو خمس مائة   أبو حنيفة وأصحابه: تختص بها الأم لأنها بمنزلة قطع عضو، وليست بدية، إذ لم يعتبر فيها الذكر والأنثى، وكذا قال الظاهرية، واحتج إمامهم داود بأن الغرة لا يملكها الجنين، فُتورث عنه، ويرد عليه دية المقتول خطأ فإنه لم يملكها وهي تورث عنه قاله أبو عمر، انتهى. أقول هذا الذي نسبه إلى أبي حنيفة ليس بصحيح ففي "الهداية" وغيرها: ما يجب في الجنين موروث عنه أنه بدل نفسه فيرثه ورثته ولا يرثه الضارب حتى لو ضرب بطن امرأته، فألقت ابنه ميتاً، فعلى عاقلة الأب غُرّة ولا يرث منها. انتهى. وفي "شرح معاني الآثار" للطحاوي بعد ذكر الآثار: فلما حكم النبي صلى الله عليه وسلم مع الدية المرأة بالغرة ثبت بذلك أن الغرة دية الجنين لا لها، فهي موروثة عن الجنين كما يورث ماله لو كان حياً فمات، وهذا قول أبي حنبفة ومحمد وأبي يوسف. انتهى. ثم وجوب الغرة عندنا على العاقلة في سَنَةٍ واحدة، وقال الشافعي: في ثلاث سنين كسائر ديات قتل النفس ولنا ما رُوي عن محمد قال: بَلَغَنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل على العاقلة سنة. ذكره في "الهداية" وهو وإن لم يجده مخرِّجوا أحاديثه، لكن قد ذكر جمع من المشائخ أن بلاغات محمد في الحكم المسندة، وله وجه، وهو أن دية الجنين لها شِبْهان: شبه بالنفس من حيث إنه حيّ بحياة نفسه وشبه بالعضو من حيث إنه متصل بالأم فعملنا بالشبه الأول في حق التوريث وبالثاني في حق التأجيل، وبدل العضو إذا كان نصف العشر يجب في سنة فكذا هذا. والتفصيل في "الهداية" وحواشيها. (1) قوله: أو خمسون ديناراً، أي أنْ لم يعط الغرّة، فعليه خمسون ديناراً، نصف عُشر الدية من الذهب، وهو ألف دينار أو خمس مائة درهم، وهو نصف عشر الدية من الفضة أي عشر آلاف درهم أو خمس من الإِبل، وهو نصف عشر الدية من الإِبل أي مائة إبل أو مائة من الغنم، بذلك جاءت الأخبار والآثار على ما بسطه الزيلعي وغيره، ففي رواية الطبراني من طريق سلمة بن تمّام، عن أبي المليح، عن أبيه قال: كان فينا رجلٌ يقال له حمل بن مالك، فذكر القصة، وفيه فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 دِرْهَمٍ (1) نِصْفُ عُشر الدِّيَةِ فَإِنْ كَانَ (2) مِنْ أَهْلِ الإِبل أُخِذَ مِنْهُ خَمْسٌ مِنَ الإِبل وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْغَنَمِ أُخِذَ مِنْهُ مِائَةٌ مِنَ الشَّاةِ نِصْفُ (3) عُشر الدِّيَةِ. 10 - بَابُ الْمُوضِحَةِ (4) فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ 675 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُوضِحَةِ فِي الْوَجْهِ: إِنْ لم تُعِبْ (5) الوجهَ   رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني من رجز الأعراب، فيه غُرَّة عبد أو أمة أو خمس مائة أو مائة شاة، وفي رواية البزّار عن بريدة: أنّ امرأةٌ حذفت امرأة، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولدها بخمس مائة، ونهى عن الحذف، ولابن أبي شيبة من طريق أسلم عن عمر أنه قوّم الغُرّة بخمسين ديناراً، ولأبي داود عن ابراهيم النخعي أنه قال: الغُرّة خمس مائة، قال: وقال ربيعة: هي خمسون ديناراً، ولإبراهيم الحربي بإسناد صحيح عن الشعبي قال: الغُرّة خمس مائة، وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة: الغرّة خمسون ديناراً. (1) خبر لمحذوف أو بدل. (2) أي الذي يجب عليه الغرة. (3) بيان لخمس إبل ومائة شاة. (4) قوله: إن لم تعب، من العيب وفيه إشارة إلى أنهما إن كانت تعيب يزاد في عقلها كما في "موطأ يحيى": مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع من سليمان بن يسار يذكر أنّ الموضحة في الوجه مثل الموضحة في الرأس إلا أنْ تعيب الوجه، فيزداد في عقلها ما بينها وبين عقل نصف الموضحة في الرأس فيكون فيها خمسة وسبعون ديناراً. (5) قوله: إن لم تعب، من العيب وفيه إشارة إلى أنهما إن كانت تعيب يزاد في عقلها كما في "موطأ يحيى": مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع من سليمان بن يسار يذكر أنّ الموضحة في الوجه مثل الموضحة في الرأس إلا أنْ تعيب الوجه، فيزداد في عقلها ما بينها وبين عقل نصف الموضحة في الرأس فيكون فيها خمسة وسبعون ديناراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 مِثْلَ (1) مَا فِي المُوضحة فِي الرَّأْسِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُوضِحَةُ فِي الْوَجْهِ (2) وَالرَّأْسِ سَوَاءٌ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ إبراهيم النَّخَعي وأبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 11 - بَابُ الْبِئْرِ جُبار (3) 676 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم قال: جَرْحُ (4) العجماء جُبار، والبئر (5) جُبار،   (1) وهو خمس من الإبل على ما مرّ. (2) قوله: في الوجه والرأس، قُيِّد بهما لأن الموضحة وغيرها من الشجاج من الهاشمة والمنقلة وغيرها مختصة بالوجه والرأس، وما كانت في غيرهما يسمَّى جراحة، فلو تحققت الموضحة وغيرها في غير الوجه والرأس نحو الساق واليد لا يكون له أرش مقدر، وإنما يجب حكومة عدل لأن التقدير بالتوقيف من الشارع، وهو إنما ورد فيما يختص بهما، وتفصيله كتب الفقه. (3) قوله: جرح العجماء جبار، هذا الحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة وغيرهم وفي رواية لهم: العجماء جبار، وفي بعضها: العجماء جرحها جبار، وفي بعضها الرِجل جبار بكسر الراء. وفي "آثار صاحب الكتاب" أخبرنا أبو حنيفة، نا حماد، عن إبراهيم: وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العجماء جبار والقَليب جبار، والرجل جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس. وفسر الرجل بقوله: إذا سار على الدابة فنفحت برِجْلها وهي تسير، فقتلت رجلاً أو جرحته، فذلك هدرٌ ولا يجب شيء على عاقلته ولا على غيره، وذكر في تفسير البئر والعجماء والمعدن كما ذكره ههنا. وفي "شرح الزرقاني": الجَرح بفتح الجيم على المصدر لا غير، فأما بالضم فهو الاسم، والعجماء بالفتح تأنيث أعجم، ويقال لكل حيوان غير الإنسان ولمن لا يفصح، والمراد ههنا البهيمة، وقال أبو عمر ابن عبد البر: جراحتها جنايتها، وأجمع العلماء على أن جنايتها نهاراً وجرحها بلا سببٍ فيه لأحد أنه هدر لا دية فيه ولا أرش فيه أي فلا يختص الهدر بالجرح بل كل الإِتلافات ملحقة بها، وقال عياض: إنما نبه بالجرح لأنه الأغلب أو هو مثال نبَّه به على ما عداه. (4) قوله: جرح العجماء جبار، هذا الحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة وغيرهم وفي رواية لهم: العجماء جبار، وفي بعضها: العجماء جرحها جبار، وفي بعضها الرِجل جبار بكسر الراء. وفي "آثار صاحب الكتاب" أخبرنا أبو حنيفة، نا حماد، عن إبراهيم: وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العجماء جبار والقَليب جبار، والرجل جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس. وفسر الرجل بقوله: إذا سار على الدابة فنفحت برِجْلها وهي تسير، فقتلت رجلاً أو جرحته، فذلك هدرٌ ولا يجب شيء على عاقلته ولا على غيره، وذكر في تفسير البئر والعجماء والمعدن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 وَالْمَعْدِنُ (1) جُبار، وَفِي الرِّكَازِ (2) الْخُمْسُ. قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَالْجُبَارُ الهَدَرُ (3) ، وَالْعَجْمَاءُ الدَّابَّةُ (4) المنفلِتة تجرحُ الإِنسان أَوْ تَعْقِرُهُ (5) ، وَالْبِئْرُ وَالْمَعْدِنُ، الرجلُ يَسْتَأْجِرُ (6) الرجلَ يَحْفُرُ لَهُ بِئْرًا وَمَعْدِنًا، فَيَسْقُطُ (7) عليه، فيقتله فذلك هدرٌ (8) . وفي   كما ذكره ههنا. وفي "شرح الزرقاني": الجَرح بفتح الجيم على المصدر لا غير، فأما بالضم فهو الاسم، والعجماء بالفتح تأنيث أعجم، ويقال لكل حيوان غير الإنسان ولمن لا يفصح، والمراد ههنا البهيمة، وقال أبو عمر ابن عبد البر: جراحتها جنايتها، وأجمع العلماء على أن جنايتها نهاراً وجرحها بلا سببٍ فيه لأحد أنه هدر لا دية فيه ولا أرش فيه أي فلا يختص الهدر بالجرح بل كل الإِتلافات ملحقة بها، وقال عياض: إنما نبه بالجرح لأنه الأغلب أو هو مثال نبَّه به على ما عداه. (5) بكسر الباء بعدها ياء مهموزة وغير مهموزة. (1) بفتح الميم وكسر الدال: مكان يخرج منه شيء من الجواهر والأجساد المعدنية من الذهب والفضة والنحاس وغير ذلك، من عَدَنَ بالمكان إذا أقام به. (2) بكسر الراء: اسم المال المركوز المدفون في الأرض. (3) بفتحتين أي الباطل. (4) قوله: الدابة المنفلتة، أي المتنفرة الخارجة من يد صاحبها بغير تصرّفه، وقيّد به احترازاً عن الدابة التي لها سائق أو قائد أو راكب عليها، فعطبت أو جرحت فإن الضمان هناك واجب على تفصيل مذكور في كتب الفقه. (5) من العقر بمعنى القطع. (6) أي يأخذه أجيراً لحفر البئر أو المعدن. (7) أي يسقط البئر أو المعدن على الحافر فيقتله. (8) لأنه لا ضمان فيه لعدم التسبُّب والمباشرة منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 الرِّكَازِ (1) الْخُمْسُ، وَالرِّكَازُ مَا اسْتُخْرِجَ مِنَ الْمَعْدِنِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ رَصَاص (2) أَوْ نُحَاسٍ (3) أَوْ حَدِيدٍ أَوْ زَيْبَقٍ، فَفِيهِ الْخُمْسُ وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 677 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حَازِمِ (4) بن   (1) قوله: وفي الركاز الخمس، المستخرج من المعدن إما أن يكون من خلق الله تعالى كالذهب والفضة وغيرهما من المعدنيات المخلوقة في الأرض وهو المعروف باسم المعدن، وإما أن يكون مثبتاً فيه من الأموال بفعل الإِنسان، وهو الكنز ويعمها الركاز. إذا عرفت هذا فاعلم أن جَمْعاً من الأئمة منهم الشافعي وغيره حملوا الرِّكاز على الكنز، وخصُّوا وجوب الخمس به، وحكموا بأنه لا خمس في المعدن، وليس فيه إلا الزكاة وأصحابنا حملوا الركاز على المعنى الأعم، ولا يُتَوَهّم عدم إرادة المعدن بسبب عطفه عليه بعد إفادة أنه جبار أي هدر لا شيء فيه وإلا لتناقض، فإن الحكم المعلق بالمعدن ليس هو المتعلق في ضمن الركاز ليختلف بالسلب والإِيجاب، إذ المراد به أن إهلاكه للأجير الحافر غير مضمون، لا أنه لا شيء في نفسه أصلاً وإلا لم يجب فيه شيء أصلاً حتى الزكاة وهو خلاف الإِجماع فحاصله أنه أثبت للمعدن بخصوصه حكماً، ونص على خصوصه اسماً، ثم أثبت له حكماً مع غيره، فعبر بالاسم الذي يعمهما، كذا حققه في "فتح القدير". وبه يظهر ما في تفسير "صاحب الكتاب" الركاز ههنا. وقد مرَّ نُبَذ مما يتعلق بهذا المقام في كتاب الزكاة. (2) بالفتح (في الأردية: رصاص: رانكا، وحديد: لوها، وزيبق: بارة. ونحاس: تانبا) . (3) بالضم. (4) قوله: عن حزام، - بالحاء المهملة، ثم زاء معجمة - بن سعيد على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 سَعيد بْنِ مُحِيِّصَةَ (1) : أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا (2) لرجُلٍ فأفسدَتْ فِيهِ (3) ، فَقَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عَلَى أَهْلِ الْحَائِطِ حفظَها (4) بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أفسدت المواشي بالليل فالضمان على أهلها (5) .   وزن كبير، هكذا رأيته في نسخ متعدادة من هذا الكتاب والذي في "جامع الأصول" للجزري، و "تقريب ابن حجر" و"إسعاف السيوطي" في اسمه ونسبه: حَرام - بفتح الحاء المهملة بعدها راء مهملة - بن سعد - بسكون العين - ويقال: حرام بن ساعدة، بن محيّصة الأنصاري المدني، تابعي، ثقة، قليل الحديث، مات سنة 113 بالمدينة. (1) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة التحتية المكسورة. (2) أي بستاناً. (3) أي في بستانه. (4) أي من أن تفسد على حائطهم. (5) قوله: على أهلها، أي مالك المواشي لقصور الحفظ من قبله، وفيه حجة للشافعي وأحمد وأكثر أهل الحجاز أن صاحب المنفلتة يضمن ما أفسدت ليلاً، لا نهاراً، وذكر أصحابنا أن ما رويناه مطلقاً ومتفق عليه مشهور وهذا مرسل وهو ليس بحجة عند الافعي، وردّه القاري أن المرسل حجة عند الجمهور على أن المطلق قابل للتقييد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 12 - بَابُ مَنْ قَتَل خَطَأً وَلَمْ تُعرف (1) لَهُ عَاقِلَةٌ (2) 678 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزِّناد (3) أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَائِبَةَ (4) كَانَ أَعْتَقَهُ بعضُ الحُجَّاج (5) ، فَكَانَ (6) يَلْعَبُ مَعَ ابْنِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَابِدٍ (7) ، فَقَتَلَ السائبةُ ابنَ العابدي، فجاء العابديُّ (8)   (1) بكسر الزاء عبد الله بن ذكوان. (2) قوله: أن سائبة، قال السيوطي: هو عبد يعتق بأن يقول له مالكه: أنت سائبة، فيعتق ولا ولاء للمعتق. (3) بكسر الزاء عبد الله بن ذكوان. (4) قوله: أن سائبة، قال السيوطي: هو عبد يعتق بأن يقول له مالكه: أنت سائبة، فيعتق ولا ولاء للمعتق. (5) جمع الحاجّ. (6) أي كان العبد السائبة يلعب مع ابن الرجل من بني عابد بالباء الموحدة. (7) قوله: من بني عابد، قال القاري: بكسر الموحدة وبالدال المهملة نسبة إلى عابد بن عبد بن عمر بن مخزوم، وبكسر المثناة التحتية والذال المعجمة نسبة إلى عائذ بن عمر بن بني شيبان، ذكره السيوطي، انتهى. وقي "موطأ يحيى": من بني عائذ، وضبطه الزرقاني بتحتية وبذال معجمة. (8) فيه "موطأ يحيى" العائذي وكذا فيما بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 أَبُو الْمَقْتُولِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَطَلَبَ (1) دِيَةَ ابْنِهِ، فَأَبَى (2) عُمَر أَنْ يَدِيَه، وَقَالَ: لَيْسَ لَهُ مَوْلًى، فَقَالَ العابديُّ لَهُ: أَرَأَيْتَ (3) لَوْ أنَّ ابْني قَتَلَه (4) ؟ قَالَ: إذَنْ (5) تُخْرِجُوْا دِيَتَه، قَالَ العابديُّ: هُوَ (6) إِذَنْ كالأََرْقَم (7) إنْ يُتْرَكْ يَلْقَمْ وإِنْ يُقْتَلْ يَنْقَمْ. قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ، لا نَرَى (8) أنَّ عُمَرَ (9) أَبْطل ديتَه عن   (1) يعلم منه أن القتل كان خطأً. (2) أي فأنكر عمر رضي الله تعالى عنه عن أن يجعل له دية، لأن القاتل ممن لا مولى له. (3) أي: أخبرني؟. (4) أي السائبة. (5) أي قال عمر: لو كان كذلك وجب عليك وعلى قومك أن تُعطوا ديته. (6) أي السائبة. (7) قوله: كالأرقم، هو الحيَّة التي فيها بياض وسواد كأنه رقم أي نقش، وقيل: الحية التي فيها حمرة وسواد وهذا مثل لمن يجتمع عليه شرّان لا يدري كيف يصنع فيهما، ومعناه هو كالأرقم إن تركته يلقمك أي يجعلك لقمة، ويأكلك، وإن قتلته، أخذ منك عوضه نقمةً، وكانوا في الجاهلية يزعمون أنَّ الجن تطلب بثأر الجان، وهو الحيَّة الدقيقة، فربما مات قاتلها، وربما أصابه خبل فضربوا لهذا مثلاً، كذا في "حياة الحيوان" للدَّميري. (8) أي لا نظن. وفي نسخة: ألا ترى. (9) قوله: أن عمر رضي الله تعالى عنه أبطل ديته ... إلخ، حاصله أن ما حكم به عمر ههنا من عدم وجوب دية المقتول ابن العابدي لم يكن بسبب أن القاتل لم يكن له مولىً ولا له عاقلة، حتى يجب عليهم ديته، فإنه لو كان كذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 الْقَاتِلِ وَلا نَرَاهُ أَبْطَلَ ذَلِكَ لأَنَّ لَهُ عَاقِلَةً، وَلَكِنَّ عُمَرَ لَمْ يَعْرِفْهَا (1) فَيَجْعَلَ (2) الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَوْ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يرَ لَهُ مَوْلًى، وَلا أنَّ لَهُ عَاقِلَةً لَجَعَلَ دِيَةَ مَنْ قُتِلَ فِي مَالِهِ (3) أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ (4) ، وَلَكِنَّهُ (5) رَأَى لَهُ عَاقِلَةً وَلَمْ يَعْرِفْهُمْ لأَنَّ بَعْضَ الحُجَّاج أعتَقَه وَلَمْ يُعْرَفْ المُعْتِقُ (6) وَلا عَاقِلَتُهُ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ عُمَرُ حَتَّى يُعْرَفَ (7) ، وَلَوْ كَانَ لا يَرَى (8) لَهُ عَاقِلَةً لَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ أَوْ عَلَى المسلمين في بيت مالهم.   لحكم بوجوب الدية في مال القاتل إن كان غنياً أو في بيت المال إن كان مسكيناً، ولم يحكم ببطلان ديته رأساً، بل كان ذلك لأنه كان له مولى وعاقلة، ولكنه لم يعرفه فإن القاتل كان معتقاً لبعض الحجاج، ولم يعرف من هو وأين هو، وحينئذٍ يحكم بعدم لزوم الدية حتى يعرف العاقلة فيحكم عليهم بأداء الدية. (1) بأعيانها. (2) أي حتى يجعل غاية للمنفي. (3) أي في مال القاتل إن كان موسراً. (4) هذا إذا كان القاتل معسراً. (5) أي عمر رضي الله تعالى عنه. (6) أي لا عينه ولا مكانه. (7) أي يتبين معتقه أو عاقلته. (8) من بدو الأمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 13 - بَابُ الْقَسَامَةِ (1) 679 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ (2) الغِفاري أَنَّهُمَا حدَّثاه أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي سعد بن ليث   (1) قوله: وعِرَاك بن مالك، بكسر العين المهملة وفتح الراء المخفَّفة كما مرَّ ذكره في كتاب الزكاة، لا بفتح العين وتشديد الراء كما ظنَّه القاري، ونسبته الغِفاري بكسر الغين نسبة إلى بني غفار قبيلة. (2) قوله: وعِرَاك بن مالك، بكسر العين المهملة وفتح الراء المخفَّفة كما مرَّ ذكره في كتاب الزكاة، لا بفتح العين وتشديد الراء كما ظنَّه القاري، ونسبته الغِفاري بكسر الغين نسبة إلى بني غفار قبيلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 أَجْرَى (1) فَرَسًا فوطِئ (2) عَلَى إِصْبَعِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي جُهَينة (3) فَنَزَف (4) مِنْهَا الدَّمُ فَمَاتَ (5) ، فَقَالَ (6) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلَّذِينَ ادُّعِي (7) عَلَيْهِمْ: (8) أتَحْلِفُون خَمْسِينَ يَمِينًا مَا مَاتَ مِنْهَا؟ فأبَوا (9) وتحرَّجوا (10) من الأَيْمان، فقال (11) للآخرين (12) :   (1) أي أسرعه جرياً وسيراً. (2) أي حافر فرسه. (3) بالتصغير قبيلة يُنسب إليها الجُهني. (4) يقال: نَزَف الدم بفتح الزاء أي سال. (5) أي الجهني. (6) أي بعد إنكارهم أنه مات بسببه. (7) بصيغة المجهول. (8) بهمزة الاستفهام. (9) أي أنكروا عن اليمين. (10) أي امتنعوا عنها وظنوا فيها حرجاً. (11) قوله: فقال للآخرين ... إلخ، هذا يدل على عود الحلف على المدَّعين بعد تحليف المدَّعى عليهم، وقد اختُلف فيه بين الأئمة، فذهب الشافعي وأحمد، إلى أنه يبدأ بأَيْمان المدَّعِين حيث لا بينة فإن نكلوا حلف المدعى عليهم بخمسين يميناً ويبرأون، وكذلك قال مالك في البداية بأَيْمان المدعين، وهو قول الجمهور، وذهب أصحابنا وأهل العراق إلى أنه ليس في القسامة إلاَّ أَيْمان المدعى عليهم، كذا ذكره ابن عبد البَرّ وغيره. (12) أي المدَّعِين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 احلفُوا (1) أَنْتُمْ، فأَبَوْا (2) فَقَضَى (3) بِشَطْرِ (4) الدِّيَةِ عَلَى السعديِّين. 680 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا أَبُو لَيْلَى (5) بْنُ عبد الله بن   (1) أي على أنه مات بسببه. (2) أي نكلوا عنه. (3) أي حكم عمر بنصف الدية. (4) قوله: بشطر الدية على السعديين، أي بنصفها على المدَّعى عليهم من بني سعد، وهذا بظاهره مشكل لأنه إن ثبت عنده كون القتل بسببه يجب أن يحكم بكل الدية وإن لم يثبت يلزم أن لا يحكم بشيء، فما معنى إيجاب الشطر؟ وجوابه أنه حكم مصلحةً ورفعاً للنزاع واستطابةً للأنفس، لا على وجه القضاء. قال مولانا ولي الله المحدِّث الدهلوي في رسالة تدوين مذهب عمر المدرجة في كتابه "إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء" بعد ذكر هذا الأثر. قال مالك ليس العمل على هذا، وقال الشافعي نحواً من ذلك، قلت: إن البداية إما بالمدَّعى عليهم فأظن أن عمر كان عنده أنه يجوز أن يبدأ بهؤلاء وهؤلاء، فالبداية بالمدَّعى عليهم هو القياس والبداية بالمدَّعين محوَّل عن القياس احتياطاً لأمر القتل، وأما قضاؤه بنصف الدية على السعديين فيَجري فيه ما قال البغوي في حديث جرير بن عبد الله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بنصف العقل، الحديث، فقال أي البغوي: أمر بنصف الدية استطابةً لأنفس أهليهم أو زجراً للمسلمين في ترك التثبُّت عند وقوع الشبهة، والأوجه عندي أنه على طريق الصلح يشهد له كتاب عمر إلى أبي عبيدة بن الجَرَّاح: واحرص على الصلح إذا لم يستبِنْ لك القضاء. انتهى. (5) قوله: أبو ليلى، هو أبو ليلى ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، ويقال: اسمه عبد الله تابعي صغير ثقة، كذا في "شرح الموطأ" للزرقاني، وفي "إسعاف المبطَّأ" للسيوطي: أبو ليلى ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَهْلِ (1) بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أنه أخبره رجال (2) من كبراء   سهل الأنصاري المدني، عن سهل بن أبي حثمة، عن رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قومه حديث القسامة، وعنه مالك، وقال ابن سعد: اسمه عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن، وكذا هو المسند. انتهى، وفي "تقريب التهذيب ": أبو ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري المدني يقال: اسمه عبد الله ثقة. انتهى. وقد أخطأ القاري حيث ظن أنَّ أبا ليلى هذا هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي المشهور بابن أبي ليلى، أو والده حيث قال: قال صاحب المشكاة في "أسماء رجاله": إن عبد الرحمن بن أبي ليلى سمع أباه وخلقاً كثيراً من الصحابة، وعنه الشعبي ومجاهد وهو في الطبقة الأولى من فقهاء الكوفة وتابعيها. انتهى. ويُطلق أبو ليلى على الوالد وولده، انتهى كلامه، وهذا مبني على الغفلة عن كتب الرجال، فإن ابن أبي ليلى المشهور هو عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو المراد بابن أبي ليلى إذا أُطلق في كتب المحدثين، واسم أبي ليلى يسار - ويقال داود - صحابي، وإذا أُطلق ابن أبي ليلى في كتب الفقه فالمراد به هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، كما بسطه ابن الأثير في "جامع الأصول" وغيره، وأبو ليلى المذكور ههنا ليس هو أبو ليلى المذكور والد عبد الرحمن، ولا هو عبد الرحمن بل هو غيرهما. (1) قوله: عن سهل بن أبي حثمة، هو أبو عبد الرحمن، وقيل أبو يحيى سهل بن أبي حَثْمة - بفتح الحاء وسكون الثاء المثلثة - الأنصاري المدني، واسم أبي حثمة عبد الله، وقيل: عامر بن ساعدة بن عامر بن عدي صحابي صغير بايع تحت الشجرة، وشهد المشاهد إلاَّ بدراً، قاله ابن أبي حاتم، وقال ابن القطان: هذا لا يصح، وذكر ابنْ حِبّان والواقدي وأبو جعفر الطبري وابن السكن والحاكم وغيره: إنه كان ابن ثمان سنين حين مات النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الذهبي أنه مات في خلافة معاوية، كذا في "تهذيب التهذيب" و"تقريب التهذيب" و "جامع الأصول" وغيرها. (2) قوله: رجال من كبراء قومه، قال الحافظ ابن حجر في "مقدمة فتح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 قَوْمِهِ أَنَّ عبدَ اللَّهِ (1) بْنَ سَهْلٍ ومُحَيِّصة (2) خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ (3) مِنْ جَهْدٍ (4) أَصَابَهُمَا، فأُتي مُحيّصة فَأُخْبِر (5) أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتل، وطُرِح فِي فَقِيرٍ (6) أَوْ (7) عَيْنٍ، فَأَتَى (8) يهودَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ   الباري": هم محيّصة وحويّصة ابنا مسعود، وعبد الرحمن وعبد الله ابنا سهل. (1) قوله: أن عبد الله بن سهل، هو وأخوه عبد الرحمن الذي بدر الكلام حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر حديث قتل عبد الله، فقال له رسول الله: كبِّر كبِّر، ابنان لسهل بن زيد بن كعب بن عامر بن عدي الأنصاري، أما عبد الله فقُتل بخيبر، وبسببه كانت القسامة، وأما عبد الرحمن فشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها، واستعمله عمر بن الخطاب في خلافته على البصرة. وهما ابنا أخي حويّصة ومحيّصة ابني مسعود بن كعب بن عامر بن عدي الحارثي الخزرجي، شهد محيّصة المشاهد كلها وهو أصغر من حويصة وقد أسلم قبله، فإن إسلامه كان قبل الهجرة، وعلى يده أسلم حويصة، كذا ذكره ابن الأثير الجزري في "أسد الغابة في معرفة الصحابة". (2) ضبطه ابن الأثير بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الياء المثناة التحتية المشدّدة بعدها صاد مهملة. (3) عند مسلم: خرجوا إلى خيبر في زمن رسول الله وهي يومئذٍ صلح وأهلها يهود. (4) بفتح الجيم وضمه أي قحطٌ وفقرٌ أَصَابهما. (5) بصيغة المجهول، وكذا ما قبله. (6) قوله: في فقير، قال النووي: هو البئر القريبة القعر، الواسعة الفم، وقيل: الحفرة التي تكون حول النخل، وفي "موطأ يحيى": قال مالك: الفقير هو البئر. (7) شك من الراوي. (8) أي محيصة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قدِم (1) عَلَى قَوْمِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ (2) لَهُمْ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ (3) وحُوَيّصة (4) ، - وَهُوَ أَخُوهُ أَكْبَرُ مِنْهُ (5) - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ (6) بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ (7) لِيَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كبِّر كبِّر، يُرِيدُ السِّنَّ (8) فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِمَّا أَنْ (9) يدُوا صاحبكم وإما أن يُؤْذَنُوا بحربٍ،   (1) أي في المدينة. (2) أي ما جرى له. (3) أي محيصة. (4) بضم الحاء المهملة وفتح الواو وتشديد الياء المثناة التحتية المكسورة بعدها صاد مهملة، كذا في "جامع الأصول". (5) أي من محيصة. (6) هو أخو المقتول. (7) أي محيصة وإنما بدر لكونه حاضراً في الواقعة، وفي رواية لمالك: فذهب عبد الرحمن ليتكلم. (8) قوله: يريد السِنّ، أي يريد رسول الله من قوله كبِّر كبِّر كبيرَ السن، وفيه إرشاد إلى الأدب يعني أنه ينبغي أن يتكلم الأكبر سنّاً أوَّلاً. (9) قوله: إمّا أن يَدُوْا، بفتح الياء وضمِّ الدال المخفّفة من الدية، يعني إمّا أن يُعطوا دية صاحبكم المقتول، وإما أن يُخْبَروا ويُعْلَمُوا بحرب من الله ورسوله، والضميران لليهود أي يهود خيبر الذين وُجد القتيل فيهم، وفي كثير من نسخ هذا الكتاب إما أن تَدُوا، وإما أن تُؤْذَنُوا بصيغة الخطاب، وحينئذٍ فالخطاب لبعض اليهود والحاضرين، والأول أظهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 فَكَتَبَ (1) إِلَيْهِمْ (2) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَكَتَبُوا لَهُ: إِنَّا (3) وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ (4) وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: تَحْلِفُون (5)   (1) أي أمر رجلاً من أصحابه بكتابته. (2) أي إلى يهود خيبر. (3) زاد في رواية: ولا علمنا قاتله. (4) قوله: لحويصة ... إلخ، هذا ظاهر في عود الحلف إلى المدعين بعد تحليف المدَّعى عليهم وهو مخصوص من حديث "البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر"، وإليه ذهب جمع من الأئمة، واستدل أصحابنا بعموم ذلك الحديث، وقالوا: ليس اليمين في القسامة إلاَّ من جانب المدعى عليهم، وذكر الطحاوي في "شرح معاني الآثار" ناصراً لهم أن قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار أتَحْلِفُون وتستحِقُّون دمَ صاحبكم؟ إنما كان على النكير، كأنه قال: أتدَّعون وتأخذون؟ وذلك أنه قال لهم تبرئكم يهود بخمسين يميناً بالله ما قتلنا، فقالوا: كيف نقبل أَيْمان قوم كفار؟ فقال لهم: أتحلفون أي أن اليهود وإن كانوا كفاراً فليس عليهم فيما تدَّعون عليهم غير أيمانهم، فلا يجب على اليهود شيءٌ بمجرد دعواكم. ثم أخرج الطحاوي عن عمر أنه استحلف المدعى عليهم وأوجب عليهم الدية. وفي المقام تفصيل ليس هذا موضعه. (5) قوله: في "موطأ يحيى": أتحلفون؟ بهمزة الاستفهام. (1) أي لأنّا لم نشاهده وإنما نقول بالظن. (2) فكيف نقبل أيمانهم؟. (3) أي أعطى ديته. (4) قوله: من عنده، وفي رواية للبخاري ومسلم: فَوَدَاه بمائة إبل من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 وتَستَحِقُّون دمَ صَاحِبِكُمْ، قَالُوا: لا (1) ، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ، قَالُوا: لا، لَيْسُوا (2) بِمُسْلِمِينَ. فَوَدَاه (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده (4) ،   الصدقة، وجُمع باحتمال أنه اشتراها من إبل الصدقة، وقال في "المفهم": رواية "مِنْ عِنْدِه" أصح (انظر بذل المجهود 18/45، ولا مع الدارري 10 /200) . (1) ذكر ذلك ليتبين ضبطه للواقعة. (2) أي برجلها. (3) أي يريد استحقاق الدم بالدية لا بالقصاص. (4) قوله: قوله في أول الحديث ... إلخ، يعني أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في أول الحديث إما أن تَدُوا صاحبكم وإما أن تُؤْذَنوا بحرب يدلُّ على أن الواجب ههنا الدية لا القود لعدم علم القاتل بعينه، فهذا دليل واضح على أن المراد بقوله في آخر الحديث تستحقون دم صاحبكم خطاباً للأنصار استحقاق الدية لا القصاص، كيف ولو كان كذلك لقال تستحقون دم من ادَّعيتم عليه لأن المستحق في القصاص إنما هو دم القاتل المدعى عليه لا دم المقتول، فلما قال: دم صاحبكم صار هذا دليلاً آخر على أن المراد الدية الذي هو بدل دم المقتول. (5) بصيغة الخطاب خطاب لليهود وإضافة صاحبكم لأدنى مُلابسة والظاهر فيه وفي قرينه الغيبوبة. (6) أي على ما هو المراد منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ حَتَّى أُدخلت عَلَيْهِمُ الدَّارَ (1) . قَالَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي (2) مِنْهَا ناقةٌ حَمْرَاءُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا قَالَ لَهُمْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتَحْلِفُون وَتَسْتَحِقُّونَ دمَ صَاحِبِكُمْ، يَعْنِي (3) بِالدِّيَةِ لَيْسَ بالقَوَد، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ قَوْلُهُ (4) فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ إِمَّا أَنْ تَدُوا (5) صاحبَكم، وَإِمَّا أَنْ تؤذَنوا بِحَرْبٍ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى آخِرِ الْحَدِيثِ (6) ، وَهُوَ قَوْلُهُ: تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دمَ صَاحِبِكُمْ، لأنَّ الدَّمَ (7) قَدْ يُستَحَقُّ بالدِّية كَمَا يُستَحَقُّ بالقَوَد، لأنَّ (8) النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ (9) لَهُمْ (10) : تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ مَنِ ادَّعَيْتُم (11) فَيَكُونَ هَذَا عَلَى الْقَوَدِ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ (12) : تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ (13) فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ (14) تَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ بِالدِّيَةِ، لأَنَّ (15) أَوَّلَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ (16) وَهُوَ قَوْلُهُ: إِمَّا أن تَدُوا صاحبكم، وإما   (7) قوله: لأن الدم، أي كما يُطلق استحقاق الدم في القصاص كذلك يُطلق على استحقاق الدية. فقوله: تستحقون دم صاحبكم لا ينافي هذا المعنى، وإنه وإنْ كان يشمل المعنى الآخر أيضاً لكن صدر الحديث دلَّ على تعيين المراد. (8) قوله: لأن، الظاهر أنه دليل آخر، لكون المراد باستحقاق دم صاحبكم استحقاق الدية فلو كان بحرف الفصل لكان أولى. (9) أي حتى يكون ظاهراً في القَوَد. (10) أي للأنصار. (11) أي عليه أي المدَّعى عليه. (12) أي الأنصار. (13) أي المقتول. (14) أي أراد به. (15) قوله: لأن أول الحديث، هذا عود إلى الدليل الأول ولو لم يستعين به ههنا لكان أحسن. (16) قوله: على ذلك، أي على وجوب الدية، وبهذا يظهر أن قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق حديث القسامة يبرّئكم اليهود بأَيْمانها، ليس المراد منه البراءة مطلقاً، كما اختاره الشافعي ومالك وأحمد والليث وأبو ثور حيث قالوا: لا تجب الدية إذا حلف المدّعى عليهم بل البراءة من القصاص، وقد ثبت عن عمر فيما أخرجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 أَنْ تُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، وَقَدْ قَالَ (1) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: القَسامةُ تُوجِبُ العَقْل (2) ، وَلا تُشِيْطُ (3) الدَّمَ فِي أَحَادِيثَ (4) كَثِيرَةٍ، فَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قولُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   الطحاوي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم أنه جمع بين القسامة والدية، كما بسطه العيني وغيره. (1) قوله: وقد قال عمر، استشهاد على وجوب الدية في القسامة دون القود. (2) بالفتح أي الدية. (3) قوله: ولا تشيط، من أشاط الدم أبطله وشاط دمه بطل من باب ضرب، وأشاطه السلطان أي أبطله وأهدره، كذا في "المُغرب". (4) أي هذا الذي أفاده عمر وارد في أحاديث كثيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 كتاب الحدود (1) في السرقة (2) 1 - بَابُ الْعَبْدِ يَسْرِقُ مِنْ مَوْلاهُ 681 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ   . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 عَبْدَ اللَّهِ (1) بْنَ عَمْرٍو الْحَضْرَمِيَّ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعبدٍ لَهُ، فَقَالَ: اقْطَعْ هَذَا فَإِنَّهُ سَرَقَ، فَقَالَ: وماذا سرق؟ فقال: سَرَقَ مِرْآةً (2) لامْرَأَتِي ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَمًا، قَالَ عُمَرُ: أرسِلْه لَيْسَ (3) عَلَيْهِ قَطْعٌ، خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (4) نَأْخُذُ. أيَّما رَجُلٍ له عبد سرق من   (1) قوله: أن عبد الله بن عمرو، بفتح العين ابن الحَضرمي بفتح المهملة اسمه عبد الله بن عمَّار، وهو ابن أخي العلاء بن الحضرمي، قُتل أبوه في السنة الأولى من الهجرة كافراً، قال في "الإِصابة": ومقتضى موت أبيه أن يكون له عند الوفاة النبوية نحو تسع سنين، كذا ذكره الزقاني. (2) بكسر الميم وسكون الراء على وزن مفتاح: آلة نظر الوجه. (1) قوله: أن عبد الله بن عمرو، بفتح العين ابن الحَضرمي بفتح المهملة اسمه عبد الله بن عمَّار، وهو ابن أخي العلاء بن الحضرمي، قُتل أبوه في السنة الأولى من الهجرة كافراً، قال في "الإِصابة": ومقتضى موت أبيه أن يكون له عند الوفاة النبوية نحو تسع سنين، كذا ذكره الزقاني. (2) بكسر الميم وسكون الراء على وزن مفتاح: آلة نظر الوجه. (3) قوله: ليس عليه قطع، أي لا يجب عليه بسرقته قطع اليد، فإنه خادمكم سرق متاعكم، والخادم إذا سرق متاع مولاه لا يجب عليه القطع (وروى ابن الموّاز عن مالك أن عبد إذا سرق من متاع زوجة سيده من بيت أذن له في دخوله فلا قطع عليه، وإن سرقه من بيت لم يؤذَن له في دخوله فإنه يقطع، وكذلك عبد الزوجة يسرق من مال الزوجة. المنتقى 7/184. وقد أخرج هذا الأثر الشافعي أيضاً من طريق مالك والدارقطني من طريق سفيان عن الزهري، ذكره في "التلخيص". (4) قوله: وبهذا نأخذ، المسألة مختلف فيها بين الأئمة على ما هو مبسوط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 ذِي رَحِمٍ (1) مُحَرَّمٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ مَوْلاهُ أَوْ مِنِ امْرَأَةِ مَوْلاهُ أَوْ مِنْ زَوْجِ مَوْلاتِهِ فَلا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي مَا يَسْرِقُ وَكَيْفَ (2) يَكُونُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِيمَا سَرَقَ مِنْ أُخْتِهِ أَوْ أَخِيهِ أَوْ عمَّته أَوْ خَالَتِهِ، وَهُوَ (3) لَوْ كَانَ مُحْتَاجًا زَمِناً (4) أَوْ صَغِيرًا أَوْ كَانَتْ (5) مُحْتَاجَةً أُجبر عَلَى (6) نَفَقَتِهِمْ فَكَانَ لهم (7) في ماله نصيب،   في "الهداية" و"البناية"، فعندنا من سرق من أبويه أو ولده أو ذي رحم محرم منه كالأخ والأخت والعمّ والخال لا يُقطع، وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر والخرقي من أصحاب أحمد: يقطع السارق من أبويه، وكذا من الجَدّ وإنْ علا، وكذا من الولد، وفي السرقة من ذي رحم محرم غير قرابة الولاد خلاف الأئمة الثلاثة، فعندهم يقطع، والوجه لنا أن في مثل هذه القرابات يكون بسط في الأموال، والدخول في الحرز بغير إذن بخلاف غيرها من القرابة البعيدة، وكذلك السرقة من مال سيّده أو سيدته أو زوجة سيده أو زوج سيدته، وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر: يجب القطع بسرقة العبد من مال سيدته أو من زوجة سيده أو من زوج سيدته وقال داود يقطع بسرقة مال السيد أيضاً. (1) أي ذي قرابة للعبد ومحرمه. (2) أي كيف يجب عليه القطع. (3) أي والحال أن السارق. (4) الزَّمِن بفتح الأول وكسر الثاني، مرد برجامانده ومبتلاشده وآفت رسيده (في الفارسية) ، كذا في "المنتخب". (5) أي الأخت وغيرها. (6) الظاهر: أُجبروا على نفقته فكان له في مالهم نصيب. (7) أي لكل واحد من السارق ومن سرق منه ممن ذُكر في مال الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 فَكَيْفَ يُقْطَعُ (1) مَنْ سَرَقَ مِمَّنْ لَهُ (2) فِي مَالِهِ (3) نَصِيبٌ؟! وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 2 - بَابُ مَنْ سَرَقَ ثَمَرًا (4) أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُحْرَزْ (5) 682 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ (6) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن   (1) قوله: فكيف يقطع ... إلخ، يشير إلى أصل كلي، وهو أن السارق إذا سرق من مال له فيه نصيب أو شركة أو حق، والسارق من رجل له أي للسارق في ماله أي ذلك الرجل نصيب بوجه من الوجوه لا يجب القطع، ويتفرَّع عليه فروع كثيرة مذكورة في كتب الفقه، ويؤيده ما في "البناية" و "التلخيص" أن أبي شيبة أخرج عن وكيع، عن المسعودي، عن القاسم أنَّ رجلاً سرق من بيت المال، فكتب فيه سعد إلى عمر، فقال: لا قطع عليه، ما من أحد إلاَّ وله فيه حق. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" أنَّ علياً أُتي برجل سرق من المغنم فقال: له فيه نصيب وهو خائن، فلم يقطعه، وكان قد سرق مِغْفراً. وفي سنن ابن ماجة بسند ضعيف عن ابن عباس أن عبداً سرق من الخُمس، فرُفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه، وقال: مال الله يسرق بعضه بعضاً. (2) أي للسارق. (3) أي مال المسروق منه. (4) بالمثلثة. (5) قوله: مما لم يُحْرَزْ، أي لم يُحفظ، والحرز على نوعين: أحدهما: أن يكون بالمكان المعدّ لحفظ الأموال كالدور والصندوق والحانوت وغيرها، وثانيهما: أن يكون بصاحب المتاع، فإذا سرق مالاً محرزاً وجب القطع وإلاَّ لا. (6) قوله: حدثنا عبد الله ... إلخ، هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث بن عامر بن نوفل المكي القرشي النوفلي، روى عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 أَبِي حُسَيْنٍ أَنّ (1) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا قَطْعَ (2) فِي ثَمَرٍ معلَّق (3) ، وَلا فِي حريسةِ جَبَل (4) ، فَإِذَا (5) آوَاهُ المُرَاحُ أو الجَرِيْنُ فالقطع في ما بلغ   أبي الطفيل وأبي بكر بن حزم، وعنه شعبة ومالك وأمم، ثقة، عالم بالمناسك، كذا في "كاشف الذهبي" و "التقريب". (1) قوله: أن، قال ابن عبد البَرّ: لم يختلف رواة الموطأ في إرسال (وفي "المحلى": مرسل في الموطأ ومسند عند الترمذي والنسائي بإسنادهما. الأوجز 13/285) هذا الحديث في " الموطأ " ويتصل معناه من حديث عبد الله بن عمرو وغيره. (2) لعدم كونه محرزاً. (3) أي على الشجر. (4) قوله: ولا في حريسة جبل (قال الباجي: حريسة جبل - والله أعلم - الماشية التي تحرس في الجبل راعية. المنتقى 7/159) ، قال ابن الأثير الجزري في "النهاية": أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سُرق قَطْع، لأنه ليس بمحرز، والحريسة: فعلية بمعنى مفعولة أي أن لها من يحرسها ويحفظها، ومنهم من يجعل الحريسة السرقة نفسها، يقال: حرس يحرس حرساً إذا سرق أي ليس فيما يسرق من الماشية بالجبل قطع. (5) قوله: فإذا آواه، بمدّ الهمزة من الإِواء، والمُراح بضم الميم: مبيت الغنم والإِبل الذي تروح إليه في المساء، والجَرين - بفتح الجيم - موضع يجفَّف فيه الثمار، وفيه لفّ ونشر غيرُ مرتَّب أي فإذا جمعت الماشية في المراح والثمار بعد القطع في الجرين فسُرق منها شيء لزم القطع لوجود الحرز، قال ابن العربي: اتفقت الأمة على أن شرط القطع أن يكون المسروق مُحْرَزاً ممنوعاً من الوصول إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 ثَمَنَ المِجَنّ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَنْ سَرَق ثَمَرًا فِي رَأْسِ النَّخْلِ أَوْ شَاةً فِي الْمَرْعَى (2) فَلا قَطْعَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أُتِيَ (3) بِالثَّمَرِ الجرينَ أَوِ الْبَيْتَ وأُتي بِالْغَنَمِ المُرَاحَ، وَكَانَ لَهَا (4) مَنْ يَحْفَظُها، فَجَاءَ سَارِقٌ سَرَقَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا يُسَاوِي ثَمَنَ المِجَنِّ، فَفِيهِ القطعُ، والمِجنّ كان (5) يساوي يومئذٍ عَشَرَةَ (6)   بمانع خلافاً لقوله الظاهرية: لا قطع في كل فاكهة رطبة ولو بحرزها، وليس مقصود الحديث ما ذهبوا إليه بدليل قوله: فإذا آواه. (1) بكسر الميم وفتح الجيم وتشديد النون: التُّرْس، وبالفارسية سبر. (2) بفتح الميم أي موضع الرعي. (3) أي قُطع وجُمع في الجرين. (4) قوله: وكان لها من يحفظها، قال القاري: كذا في الأصل، والظاهر أنه أو كان لها أي لكل من المذكورات. (5) قوله: والمِجَنّ كان يساوي يومئذٍ، أي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العيني في " البناية ": اختلفوا في ثمن المجن الذي قطع به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: كان عشرة دراهم، وقيل: ثلاثة دراهم، وقيل: خمسة دراهم، فقال الشافعي ومالك: أقل ما نقل في تقديره ثلاثة دراهم، والأخذ بالمتيقن أولى غير أن الشافعي قال: كانت قيمة الدينار على عهد الرسول اثنا عشر درهماً، والثلاثة ربعها، واحتج بما روى الترمذي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار، واحتج مالك بما روي عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مِجَنّ، قيمته ثلاثة دراهم، ولنا أن الأخذ بالأكثر في هذا الباب أولى احتياطاً للدرء والحدود تندرئ بالشبهات. (6) قوله: عشرة دراهم، هذا منقول عن إبراهيم النَّخَعي وابن عباس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 دَرَاهِمَ، وَلا يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رَحِمَهُمُ اللَّهُ. 683 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سعيد، عن (1) محمد بن   غيرهما، ففي "كتاب الآثار" للمصنف: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قال: لا يُقطع يد السارق في أقل من ثمن المِجَنّ، وكان ثمنه عشرة دراهم. قال: قال إبراهيم أيضاً: لا يُقطع في أقلّ من ثمن المِجَنّ وكان ثمنه يومئذٍ عشرة دراهم، ولا يُقطع في أقلّ من ذلك. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق محمد بن إسحاق، عن أيوب، عن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان قيمة المِجَنِّ الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. وأخرج عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو مثله، وأخرج من طريق سفيان عن منصور، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن الحبشي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدنى ما يُقطع فيه السارق ثمن المجن. قال: وكان يقوَّم يومئذٍ بدينار. وأخرج من طريق شريك، عن منصور، عن عطاء، عن أيمن بن أمّ أيمن، عن أمّ أيمن قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقطع يد السارق إلاَّ في جحفة. وقُوّمت على عهد رسول الله ديناراً أو عشرة دراهم. ومثله مخرَّج عند النسائي وأبي داود والحاكم (أخرجه الحاكم بسنده عن ابن عباس وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. وشاهده حديث أيمن، وأقرَّه عليه الذهبي. انظر الأوجز 13/284) عن ابن عباس، وعند النسائي عن أيمن، وعند ابن أبي شَيْبة وغيره، والبسط في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي وابن حجر. (1) قوله: عن محمد بن يحيى بن حَبّان أن غلاماً ... إلخ، في رواية الطحاوي من طريق سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن عمِّه واسع بن حبان أن عبداً سرق، الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 يَحْيَى بْنِ حَبّان أنَّ غُلامًا (1) سَرَقَ وَدِيّاً (2) مِنْ حَائِطِ (3) رَجُلٍ، فَغَرَسه (4) فِي حائطِ سيّدِه، فخَرَج صاحبُ الوَدِيّ يَلْتَمِسُ (5) وَدِيَّه فَوَجَدَهُ، فَاسْتَعْدَى (6) عَلَيْهِ مروانَ (7) بنَ الْحَكَمِ، فسجنَه وَأَرَادَ قطعَ (8) يَدِهِ، فَانْطَلَقَ سيِّدُ الْعَبْدِ (9) إِلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيج (10) ، فسأله (11) فأخبره أنه سمع   (1) أي عبداً وكان لعمِّه واسع بن حبان، واسمه فيل، كما في "التمهيد". (2) قوله: وَدِيّاً (قال الباجي: الوديّ الفسيل وهو صغار النخل. المنتقى 7/182) ، بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء: غصن من النخل يُقطع منه فيُغرس، كذا في "المغرب". (3) الحائط بمعنى البستان. (4) أي ذلك الودي. (5) أي يطلبه. (6) أي صاحب الوديّ على العبد عند مروان، يقال: استعدى فلان الأمير على فلان أي استعان، فأعداه عليه أي نصره، والاستعداء طلب المعونة، كذا في "المغرب". (7) وهو أمير المدينة من جهة معاوية. (8) أي حبس مروان ذلك العبد وقَصَد قَطْعَه. (9) أي واسع بن حَبّان، كما في رواية. (10) بفتح الخاء وكسر الدال. (11) أي عن حكم هذه الواقعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (1) : لا قَطْعَ فِي ثمرٍ وَلا كَثَرٍ.   (1) قوله: يقول لا قطع ... إلخ، هذا الحديث أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان من طرق عن مالك وغيره عن يحيى بن سعيد، قال ابن العربي: فإنْ كان فيه كلام فلا يُلتفت إليه. وقال الطحاوي: تلقت الأئمة متنه بالقبول. وقال أبو عمر (في الأصل: أبو عمرو، وهو تحريف) بن عبد البَرّ: هذا حديث منقطع، لأن محمداً لم يسمعه من رافع، وتابع مالكاً عليه سفيانُ الثوري والحمّادن وأبو عَوَانة ويزيد بن هارون وغيرهم. ورواه سفيان بن عيينة، عن يحيى بن محمد، عن عمّه واسع، عن رافع. وكذا رواه حماد بن دليل المدائني، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد به، فإن صح هذا فهو متصل مسند صحيح، لكن قد خُولف ابن عيينة في ذلك، ولم يُتابَع عليه إلاَّ ما رواه حماد بن دليل، فقيل: عن محمد، عن رجل من قومه، وقيل: عنه، عن عمة له، وقيل: عنه، عن أبي ميمونة، عن رافع، وخولف عن حماد أيضاً، فرواه غيره عن شعبة، عن يحيى، عن محمد، عن رافع، والظاهر أنَّ مثل هذا الاختلاف غير قادح في ثبوت أصل الحديث، وله شاهد عند أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو، وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة، وإسنادُ كلِّ منهما صحيح، كذا في "شرح الزرقاني"، وذكر الطحاوي في "شرح معاني الآثار" أنّ قوماً منهم أبو حنيفة ذهبوا إلى أن لا يُقطع في شيء من الثمر والكثر والفواكه الرطبة مطلقاً سواء أُخذ من حائط صاحبه أو منزله بعد ما قطعه وأحرزه فيه، وقالوا أيضاً: لا قطع في جريد النخل ولا في خشبه، لأن رافعاً لم يسأل عن قيمة الوديّ وعما كان فيه من الجريد والخشب، وخالفهم في ذلك آخرون منهم أبو يوسف، فقالوا: هذا الذي حكاه رافع محمول على الثمر والكثر المأخوذَيْن من الحوائط التي ليست بحرز، فأما ما كان من ذلك مما قد أُحرز فحكمه حكم سائر الأموال، يجب القطع على من سرق منه قدر المقدر الذي يجب فيه القطع واحتجوا في ذلك بحديث: فإذا آواه المُراح أو الجرين، وأجاب عنه صاحب " الهداية " من قِبَل أبي حنيفة أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 والكَثَر (1) الجُمّار. قَالَ الرَّجُلُ (2) : إِنَّ مَرْوَانَ أَخَذَ غُلامِي وَهُوَ يُرِيدُ قطعَ (3) يَدِهِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَمْشِيَ إِلَيْهِ (4) فَتُخْبِرَهُ بِالَّذِي سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَشَى (5) مَعَهُ حَتَّى أَتَى مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ: أخذتَ (6) غلامَ هَذَا؟ فَقَالَ (7) : نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أنت صانع (8) قال: (9) : أريد قطع يده،   قوله: فإذا آواه الجرين مخرج على العادة فإنَّ عادتهم كان على أنهم لا يضعون في الجرين إلاَّ اليابس، فلا قيد القطع إلاَّ في اليابس وهو كذلك عنده أيضاً لا في الفواكه الرطبة، وفيه نظر ظاهر. (1) قوله: والكَثَر، هو بفتحتين: الجُمّار - بضم الجيم وتشديد الميم في آخره راء مهملة - قال الجوهريّ: هو شحم النخل، وفي "المغرب": جمر شعره: جَمَعه على قفاه، ومنه الجُمّار للنخلة، وهو شيء أبيض ليِّن يخرج من النخلة، ومن قال: الجُمّار هو الوديّ، وهو التافه من النخل، فقد أخطأ. انتهى. قال الزرقاني: هذا التفسير مدرج، ففي رواية شعبة: قلت ليحيى بن سعيد: ما الكَثَر؟ فقال: الجُمّار. (2) هو واسع بن حبّان. (3) أي بسبب سرقته. (4) أي إلى مروان. (5) أي رافع مع واسع. (6) استفهام بحذف حرفه، وفي "موطأ يحيى" بذكره. (7) في نسخة: قال. (8) أي ما تفعل به؟. (9) أي مروان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 قَالَ (1) : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلا كَثَر، فَأَمَرَ مَرْوَانُ بِالْعَبْدِ فأُرسل (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ معلَّقٍ فِي شَجَرٍ وَلا فِي كَثَر - والكَثَر (3) الجُمَّار (4) - وَلا فِي وَدِيّ وَلا فِي شَجَرٍ (5) . وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.   (1) أي رافع. (2) أي أُطلق من السجن. (3) إعادة للتفسير السابق تنبيهاً على الموافقة. (4) قال في "المنتخب": الجُمّار: مغز ميانه درخت خرمه كه آنرا شحم النخل كَويند. (5) أي ولا قطع في وديّ (فعطف الوديّ على الكثر، فالأوجه في الاستدلال ما قال الشيخ في "البذل" 17/336: وكتب مولانا يحيى المرحوم في "التقرير": أثبت الحكم في الودي مقايسة، والجامع عدم الإِحراز أو كونه مما يتسارع إليه الفساد أو كونه تافهاً. أوجز المسالك 13/322) ولا في شجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 3 - بَابُ الرَّجُلِ يُسرَق (1) مِنْهُ الشَّيْءُ يَجِبُ (2) فِيهِ القطع فيهبه (3) السارقَ بعد (4) ما يَرْفَعُهُ إِلَى الإِمَامِ 684 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ صَفْوَانَ (5) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ: قَالَ: قِيلَ (6) لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ: إِنَّهُ (7) مَنْ لَمْ يُهاجر هَلَكَ، فَدَعَا (8) بِرَاحِلَتِهِ، فَرَكِبَهَا حَتَّى قَدِم (9) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم،   (1) قوله: عن صفوان، هو صَفوان - بالفتح - بن عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي المكي من التابعين. قال العجلي: ثقة، وجَدُّه صفوان صاحب القصة، هو ابن أمية بن خلف بن وهب بن قدامة بن جمح القرشي صحابي من المؤلَّفة، مات أيام قتل عثمان، كذا في"الإسعاف" و "التقريب". (2) قوله: قال: قيل لصفوان بن أمية، هو جدّ الراوي، قال ابن عبد البر: رواه جمهور أصحاب مالك هكذا مرسلاً، ورواه عاصم النبيل وحده عن مالك، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن جدّه صفوان فوصله، ورواه شبابة بن سوار، عن مالك، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن أبيه. (3) كأن قائله ظن أن الهجرة مفروضة، ولم يسمع بحديث: لا هجرة بعد الفتح. (4) أي صفوان. (5) قوله: عن صفوان، هو صَفوان - بالفتح - بن عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي المكي من التابعين. قال العجلي: ثقة، وجَدُّه صفوان صاحب القصة، هو ابن أمية بن خلف بن وهب بن قدامة بن جمح القرشي صحابي من المؤلَّفة، مات أيام قتل عثمان، كذا في"الإسعاف" و "التقريب". (6) قوله: قال: قيل لصفوان بن أمية، هو جدّ الراوي، قال ابن عبد البر: رواه جمهور أصحاب مالك هكذا مرسلاً، ورواه عاصم النبيل وحده عن مالك، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن جدّه صفوان فوصله، ورواه شبابة بن سوار، عن مالك، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن أبيه. (7) كأن قائله ظن أن الهجرة مفروضة، ولم يسمع بحديث: لا هجرة بعد الفتح. (8) أي صفوان. (9) أي في المدينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ قِيلَ لِي: إِنَّهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ هَلَكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجعْ أَبَا وَهْبٍ (1) إِلَى أَبَاطِحِ (2) مَكَّةَ، فَنَامَ صَفْوَانُ فِي الْمَسْجِدِ (3) متوسداً (4) رداءَهُ فجاءه سارق فأخذ رداءَه (5) ،   (1) كنية له. (2) أي إلى واديها جمع أَبْطح بالفتح. (3) قوله: في المسجد، أي في المسجد النبوي كما قاله الزرقاني، وقال القاري: أي في المسجد المدينة أو مسجد مكة، والحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده من غير وجه عن صفوان: أنه طاف بالبيت وصلَّى ثم لفَّ رداءه فوضعه تحت رأسه فأخذه، فأتي رسولَ الله صلى الله عله وسلم فقال: إن هذا سرق ردائي، فقال: اذهب به، فاقطعه، فقال صفوان: ما كنت أريد أن تُقطع يده في ردائي، قال: فلو كان قبل أن تأتيني به. انتهى. أقول: قد راجعت السنن فليس في سنن أبي داود وابن ماجه ذكر لما ذكرَه بل فيهما نام في المسجد من غير ذكر الطواف وغيره، وكذا في روايات متعددة للنسائي، بل في بعضها تصريح بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكره إنما هو رواية من طريق واحد للنسائي (قال شيخنا: قلت: والتصريح بمسجد النبي أيضاً في رواية واحدة للنسائي، لكن الظاهر من سياق جميع الروايات في هذه القصة كونها في المدينة المنورة، فالظاهر المسجد النبوي، وفي رواية للبيهقي عن عطاء قال: بينما صفوان مضطجع بالبطحاء إذ جاء إنسان فأخذ بُردة من تحت رأسه، وفي أخرى له عن مجاهد: كان صفوان رجلاً من الطلقاء، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأناخ راحلته، ووضع رداءه عليها ثم تنحّى يقضي الحاجة فجاء رجل، فسرق رداءه. الحديث. وهذا يخالف جميع الروايات الواردة في القصة. أوجز المسالك 13/297) . (4) أي جعله تحت رأسه كالوسادة. (5) قوله: رداءه، وفي رواية أبي داود وغيره: كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 فأَخذَ (1) السَّارِقَ فَأتى (2) بِهِ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّارِقِ أنْ (3) تُقطعَ يَدُهُ، فَقَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أُرِدْ (4) هَذَا (5) ، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فهلاَّ (6) قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا رُفع السَّارِقُ إِلَى الإِمَامِ أَوِ الْقَاذِفِ (7) ، فَوَهَبَ صاحبُ (8) الحدِّ حدَّه لَمْ يَنْبَغِ (9) للإِمام أَنْ يعطِّل الْحَدَّ، وَلَكِنَّهُ يُمْضِيْه (10) . وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا.   (1) معروف وما بعده مفعول به أو مجهول وما بعده مفعول ما لم يسمّ فاعله. (2) أي أتى صفوان بالسارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) أي بأن تقطع يده. (4) أي لم أقصد قطع يده عليه. (5) أي الرداء المسروق على السارق صدقة. (6) أي لولا تصدقتَ قبل أن ترفعه إليَّ فكان ذلك نافعاً وأما الآن فلا (إن وهبه قبل القضاء يسقط القطع بلا خلاف، وإن وهبه بعد القضاء قبل الإِمضاء يسقط عندهما. وقال أبو يوسف: لا يسقط وهو قول الشافعي، وأما هبة القطع لا تسقط الحدّ. انظر: بذل المجهود: 17/344) . (7) أي من قذف أحداً ووجب عليه حدّ القذف. (8) أي المسروق منه أو المقذوف. (9) أي لا يجوز له. (10) أي ينفِّذَه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 4 - بَابُ (1) مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ 685 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عن ابن عمر: أن (2) النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَع (3) فِي مِجَنّ قِيمَتُهُ ثَلاثَةُ دراهم.   (1) قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصحُّ حديثٍ رُوي في ذلك. (2) قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصحُّ حديثٍ رُوي في ذلك. (3) أي أَمَر بقطع يده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 686 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (1) ، عَنْ عَمْرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (2) : أَنَّ عائشةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَتْ إِلَى مَكَّةَ، وَمَعَهَا (3) مَوْلاتَانِ لَهَا وَمَعَهَا غُلامٌ (4) لِبَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَنَّهُ (5) بُعِثَ مَعَ تَيْنِكِ الْمَرْأَتَيْنِ ببُردِ مَراجل قد خِيطت (6) عليه (7) خِرقةُ   (1) ابن محمد بن عمرو بن حزم. (2) هو ابن سعد بن زرارة. (3) قوله: ومعها مولاتان لها ومعها غلام، قال الزرقاني: لم أقف على اسم هؤلاء الثلاثة. (4) أي عبد. (5) قوله: وأنه بعث ... إلخ، قال القاري: ضمير أنه للشأن، وبُعث بصيغة المجهول، وبُرد مَراجِل - بكسر الجيم وفتح الميم - نوع برد من اليمن. انتهى. وفي "موطأ يحيى"، فبعث مع المولاتين ببرد مرجّل (في "المجمع": عليه مرط مرحل أي نقش فيه تصاوير الرحال بحاء مهملة، وروي بجيم أي صور الرجال. والصواب الأول. الأوجز 13/289) ، وقال الزرقاني: هو بالجيم والحاء الذي عليه تصاوير الرجال أو الرحال كما أفاده أبو عبيد الهروي، ومنع تصوير الحيوان إنما هو إذا تمّ تصويره، وكان له ظل دائم، وهذا مجرد وَشْي في البرد لا ظل له وليس بتام. انتهى. وظاهره أن عائشة بعثت البرد مع المولاتين إلى المدينة أو عَمْرة ليدفع ذلك في المدينة إلى شخص. (6) أي كاللفافة له وجُعل البرد مخفيّاً فيها. (7) أي على البرد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 خَضْرَاءُ، قَالَتْ (1) : فَأَخَذَ الْغُلامُ البُرد فَفَتَقَ (2) عَنْهُ فَاسْتَخْرَجَهُ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ لِبْداً (3) أَوْ فَرْوة، وَخَاطَ (4) عَلَيْهِ. فَلَمَّا (5) قَدِمنا الْمَدِينَةَ دَفَعْنَا ذَلِكَ البُرد إِلَى أَهْلِهِ (6) ، فَلَمَّا فَتَقُوا عَنْهُ وَجَدُوا ذَلِكَ الِلبْدَ وَلَمْ يَجِدُوا الْبُرْدَ، فَكَلَّمُوا الْمَرْأَتَيْنِ (7) فَكَلَّمَتَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ كَتَبَتَا (8) إِلَيْهَا وَاتَّهَمَتَا (9) الْعَبْدَ، فسُئل عَنْ ذَلِكَ، فَاعْتَرَفَ (10) فأَمرت به عائشة   (1) أي عمرة. (2) أي شق ونقض خياطة الخرقة واستخرج البرد. (3) قوله: لِبْداً، بكسر فسكون، ما يتلبّد من شعر أو صوف، والفَرْوة بالفتح ما يُلبس من جلد الغنم، وهذا شك من الراوي، قاله الزرقاني. (4) أي الخرقة كما كانت. (5) قوله: فلما قدمنا، بصيغة المتكلم مع الغير وكذا دفعنا على ما في بعض النسخ، وهي التي شرح عليها القاري، وفي بعضها الأول بصيغة المتكلم مع الغير، والثانية دفعتا بصيغة الماضي الغائب بإرجاع الضمير إلى المولاتين، وفي "موطأ يحيى": فلما قدمتا المدينة دفعتا بصيغة الماضي الغائب المؤنث. (6) الذي بعث إليه. (7) أي المولاتين. (8) قوله: أو كتبتا إليها، أي إلى عائشة وظاهره أن عائشة لم تكن عند ذلك في المدينة ويحتمل أنهما لم يشافهاها، بل كتباها بالقضية مع كونها في المدينة و "أو" ههنا للشك من الراوي. (9) أي بالسرقة. (10) أي أقرّ بالسرقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 فقُطعت (1) يَدُهُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ (2) فَصَاعِدًا. 678 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ (3) ، عَنْ عَمْرَة ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أنَّ سَارِقًا سَرَقَ فِي عَهْدِ (4) عُثْمَانَ أُتْرُجَّةً (5) فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ أَنْ تُقَوَّمَ (6) فقُوّمَتْ (7) بثلاثة دراهم من صَرْف (8)   (1) بصيغة المجهول. (2) أي من الذهب. (3) هو أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم. (4) أي في زمان خلافته. (5) قوله: أُتْرُجَّةً، قال القاري: بضم الهمزة وسكون التاء الفوقية وتشديد الجيم: أفضل الثمار المأكولة. وفيها لغات أترنجة بزيادة النون وأترجة بحذفها وترنجة بحذف الهمزة ذكره عياض. انتهى. وفي "التلخيص الحبير" للحافظ ابن حجر، قال مالك: الأترجة هي التي يأكلها الناس، وقال ابن كنانة: كانت أترجة من ذهب قدر الحمصة يجعل فيها الطيب، ورُدّ عليه بأنها لو كانت من ذهب لم تُقَوَّمْ. (6) من التقويم. (7) وكان الأُتْرُجّ في تلك الأيام غالي القيمة. (8) أي كان الصرف في تلك الأيام ما يكون الدينار واثنا عشر درهماً فيه متساويين، فيكون ثلاثة دراهم وربع دينار متساويين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 اثني عَشَرَ دراهماً بِدِينَارٍ، فَقَطَعَ عثمانُ يدَه. قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا (1) يُقطع فِيهِ الْيَدُ: فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: رُبْعُ دِينَارٍ (2) ورَوَوْا هَذِهِ الأَحَادِيثَ (3) ، وَقَالَ الْعِرَاقُ: لا تُقطع الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَرَوَوْا (4) ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،   (إن العبرة عند الإِمامين مالك وأحمد لربع دينار أو ثلاثة دراهم في الذهب والفضة، وأما في غيرهما فالتقويم بأقلهما عند أحمد في المشهور عنه وبثلاثة دراهم لا غير عند مالك في المشهور عنه، وأما عند الشافعي فالعبرة لربع دينار مطلقاً سواء كان المسروق من فضة أو غيرها، وعند الحنيفة العبرة بعشرة دراهم سواء كان المسروق ذهباً أو غيره. أوجز المسالك 13/291) . (1) أي في مقداره. (2) أي حقيقة أو حكماً كسرقة ما يبلغ ثَمَنُه ثلاثة دراهم. (3) المذكورة سابقاً عن عائشة وعثمان وابن عمر. (4) قوله: ورَوَوْا ذلك ... إلخ، فمن ذلك ما أخرجه المصنف في كتاب "الآثار" قال: أخبرنا أبو حنيفة نا القاسم ابن عبد الرحمن عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: لا يُقطع يد السارق في أقلّ من عشرة دراهم. وأخرج عن إبراهيم مثله كما مرّ ذكره. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار: من طريق المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن أن عبد الله بن مسعود قال: لا يُقطع اليد إلا في الدينار أو عشرة دراهم. وأخرج عن ابن جريج قال: كان قول عطاء على قول عمرو بن شعيب، لا يُقطع اليد في أقل من عشرة دراهم. وفي "مسند الإِمام" الذي جمعه الحصفكي: أبو حنيفة، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: كان يُقطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة دراهم، وفي رواية: إنما كان القطع في عشرة دراهم. قال شارح "المسند": بهذا يظهر الرد على الترمذي حيث قال: قد روي عن ابن مسعود: لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم، وهو مرسل رواه القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، والقاسم لم يسمع من ابن مسعود. انتهى. فظهر من كلامه أمران: الأول أن في الحديث انقطاعاً، والثاني: أنه موقوف. والثابت في "المسند: ما ينفي كلا الأمرين ولو كان موقوفاً فله حكم الرفع. انتهى ملخصاً. ومن ذلك حديث أيمن أخرجه الطحاوي والنسائي والحاكم والبيهقي في"الخلافيات" وحديث ابن عباس في قيمة المِجَنّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وَعَنْ عُمَرَ، وَعَنْ عُثْمَانَ، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ (1) . فَإِذَا (2) جَاءَ الاخْتِلافُ فِي الْحُدُودِ أُخِذَ فِيهَا بالثِّقة، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.   عند الطحاوي والحاكم وأبي داود، وقد مرّ ذكرهما. ومن ذلك ما أخرجه النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المِجَنّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عشرة دراهم، وفي رواية ابن أبي شيبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقطع يد السارق دون ثمن المِجَنّ، قال عبد الله بن عمرو: وكان ثمن المجنّ عشرة دراهم. وأخرجه أحمد من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: لا تُقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم، وكذا إسحاق بن راهويه في "مسنده"، ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب عن رجل من مزينة مرفوعاً: ما بلغ ثمنَ المجن قُطعت يد صاحبه، وكان ثمن المجن عشرة دراهم. وأخرج أيضاً عن القاسم قال: أُتي عمر برجل سرق ثوباً، فقال لعثمان: قوّمْه، فَقوَّمه ثمانية دراهم، فلم يقطعه (فدَرَأ الحدّ، فدلّ أنه كان ظاهراً معروفاً فيما بينهم أن النصاب يتقدر بعشرة دراهم. أوجز المسالك 13/288. والكلام في هذا المقام طويل مذكور في "البناية" و "فتح القدير" وغيرهما. (1) أي من الصحابة ومن بعدهم. (2) قوله: فإذا جاء الاختلاف، يعني لما جاء الاختلاف في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بعده ولم يعرف المتقدم والمتأخر ليُعرف الناسخ والمنسوخ أخذنا فيه بالأحوط المعتمد الذي لا يشك فيه وهو عشرة دراهم لأن الحدود تندرئ بالشبهات ولا يثبت إلا بما لا شك فيه، وهذا التقرير أحسن من ردّ أحاديث ربع دينار وثلاثة دراهم، كما فعله بعض أصحابنا فإنه أمر مشكل جداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 5 - باب السارق يسرق و (1) قد قُطعت يدُه أَوْ يَدُهُ ورِجْلُه 688 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ (2) : أَنَّ رَجُلا (3) مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أقطعَ (4) الْيَدِ والرِّجْل قَدِمَ (5) ، فَنَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَشَكَا إِلَيْهِ أنَّ عَامِلَ (6) الْيَمَنِ ظَلَمَهُ (7) قَالَ: فَكَانَ يصلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فيقول أبو بكر: وأبيك (8)   (1) أي القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. (2) أي القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. (3) قوله: أن رجلاً، قال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الهداية": هذه الرواية منقطعة، وقد رُوي موصولاً، أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وفيه: فشكى إليه أن يعلى بن أمية قَطع يدَه ورجلَه في سرقة وهذا على شرط البخاري، وفيه: قال ابن جريج: كان اسمه جبر أو جبير، وذكره في "التلخيص" (4/70) أن القصة رواها - مثل ما روى مالك - والدارقطنيُّ من طريق أيوب، عن نافع، وسعيدُ بن منصور من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، وعبدُ الرزاق، عن معمر، عن نافع، عن ابن عمر. (4) أي مقطوع اليد اليمنى والرجل اليسرى. (5) أي المدينة. (6) هو يعلى بن أمية، كما في رواية عبد الرزاق (7) أي في قطعِهِ يدَه ورجلَه. (8) قوله: وأبيك، قال الزرقاني: قَسَم على معنى وربِّ أبيك أو كلمة جرت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 مَا لَيْلُكَ بليلِ سارقٍ. ثُمَّ افْتَقَدُوا (1) حُلِيّاً لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْس (2) امرأةِ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ (3) يَطُوفُ (4) مَعَهُمْ، وَيَقُولُ (5) اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمَنْ بيَّت أهلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ، فَوَجَدُوهُ (6) عِنْدَ صائغٍ زَعَمَ (7) أَنَّ الأَقْطَعَ جَاءَهُ بِهِ، فَاعْتَرَفَ بِهِ الأقطع وأشُهِدَ (8) عليه. فأمر به أبو بكر، فقُطعت (9)   على لسان العرب ولا يقصدون به القسم، وكان أبو بكر يقول ذلك تعجُّباً: ما ليلُكَ أي ليس ليلك بليل سارق لأن قيام الليل ينافي السرقة. (1) في "موطأ يحيى" فقدوا عِقْداً لأسماء. (2) بالتصغير. (3) أي المقطوع. (4) أي يدور مع الذين بُعثوا لتفتيشه. (5) قوله: ويقول، أي كان ذلك الرجل وكان هو السارق في الواقع إظهاراً لبراءته داعياً: اللهم عليك أي خذ بالعقوبة من بيّت من التبييت أي أغار ليلاً على أهل هذا البيت الصالح، أي بيت أبي بكر الصديق. (6) أي الحُلِيّ المسروق. (7) أي قال الصائغ: إن الأقطع جاء به عنده. (8) بصيغة المجهول شكّ من الرواي. (9) قوله: فقطعت يده اليسرى، بهذا قال الشافعي: إنّ في الثالثة يُقطع اليد اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وفي الخامسة يُعزّر ويُحبس. ويوافقه ما أخرجه أبو داود وغيره عن جابر: أن رسول الله جيء بسارق، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: فاقطعوا، ثم جيء به في المرة الثانية فقال: اقتلوه فقالوا: إنما سرق فقال: اقطعوه فقطع ثم جيء به في الثالثة، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: اقطعوا، وكذلك في الرابعة. فلما جيء به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 يدُه الْيُسْرَى، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لدُعاؤه (1) عَلَى نَفْسِهِ أشدُّ (2) عِنْدِي عَلَيْهِ مِنْ سَرِقَته. قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: يُروى ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ (3) : إِنَّمَا كَانَ الذي سَرَق حُلِيَّ أسماءَ أقطع اليد   في الخامسة، قال: اقتلوه، فقتلناه واجتررناه وألقيناه في البئر، وقال النسائي: هو حديث منكر. وأخرج النسائي عن الحارث قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بلصّ، فقال: اقتلوه، فقالوا: إنما سرق، فقال: اقطعوه، ثم سرق، فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر حتى قُطعت قوائمه الأربع، ثم سرق في الخامسة، فقال أبو بكر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال: اقتلوه. قال ابن الهمام في "فتح القدير" ههنا طرق كثيرة متعددة لم تسلم من الطعن، ولذا قال الطحاوي: تتبّعنا هذه الآثار فلم نجد له أصلاً، وفي "المبسوط": الحديث غير صحيح وإلا لا احتج به أحد في مشاورة عليّ، ولئن سُلِّم يُحمل على الانتساخ لأنه كان في الابتداء تغليظ في الحدود (قال الشافعي: هذا الحديث منسوخ لا خلاف فيه عند أهل العلم. التلخيص الحبير 4/69) . (1) بقوله: اللهم عليك. (2) قوله: أشدّ، قال الزرقاني: لأن فيها حظّاً للنفس في الجملة بخلاف الدعاء عليها، أو لما في ذلك من عدم المبالاة بالكبائر. (3) قوله: أنها قالت، يخالف ما أخرج عبد الرزاق عنها من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: كان رجل أسود يأتي أبا بكر فيُدنيه ويقرئه القرآن حتى بُعث ساعياً أو قال سريّة، فقال: أرسِلْني معه، فقال: بل امكث عندنا، فأبى فأرسله واستوصى به خيراً، فلم يغب إلا قليلاً حتى جاء، وقد قُطعت يده، فلما رآه أبو بكر فاضت عيناه، فقال: ما شأنك؟ فقال: ما زدت على أنه كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 الْيُمْنَى (1) ، فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَكَانَتْ تُنكر أنْ يَكُونَ (2) أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَكَانَ ابنُ شِهَابٍ أعلمَ (3) مِنْ غَيْرِهِ بِهَذَا (4) وَنَحْوِهِ مِنْ أَهْلِ بِلادِهِ (5) وَقَدْ بَلَغنا (6) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُمَا لَمْ يَزِيدَا فِي الْقَطْعِ عَلَى قَطْعِ اليمنى أو الرجل اليسرى، فإن أُتي   يوليني شيئاً من عمله فخُنتُ فريضةً واحدة، فقطع يدي، فقال أبو بكر: تجدون الذي قطع هذا يخون أكثر من عشرين فريضة، والله لئن كنتَ صادقاً لأقيِّدنّك منه، ثم أدناه، فكان يقوم الليل، فإذا سمع أبو بكر صوته قال: بالله لَرَجُلٌ قَطَعَ يَدَ هذا لقد اجترأ على الله، قال: فلم يلبث إلا قليلاً حتى فَقَدَ آل أبي بكر حليّاً لهم ومتاعاً، فقال أبو بكر: طرق الحي الليلة، فقام الأقطع، فاستقبل القبلة ورفع يده الصحيحة فقال: اللهم أظهر من سَرَقهم، فما انتصف النهار حتى عثروا على المتاع عنده، فقال أبو بكر: إنك لقليل العلم بالله وأمر به فقُطعت يده، كذا ذكره في "التلخيص" (4/71) . (1) أي عند سرقة الحلي. (2) أي عن أن يكون الذي قطعه أبو بكر. (3) يشير إلى ترجيح رواية الزهري على عبد الرحمن. (4) أي بهذا الخبر. (5) هي المدينة وما حولها. (6) قوله: وقد بلغنا ... إلخ، قال المصنف في "كتاب الآثار" أخبرنا أبو حنيفة، عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي، قال: إذا سرق السارق قُطعت يده اليمنى، فإن عاد قُطعت رجله اليسرى، فإن عاد ضمنته السجن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   حتى يُحدث خيراً، إني أستحي على الله أن أدَعَه ليس له يد يأكل أو يستنجي بها ورجْل يمشي عليها. ومن طريقه رواه الدارقطني. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن جابر، عن الشعبي، قال: كان عليّ لا يقطع إلا اليد والرجل. وإن سرق بعد ذلك سجنه. ورواه ابن أبي شيبة حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: كان عليّ لا يزيد على أن يقطع السارق يداً ورجلاً، فإذا أُتي بعد ذلك قال: إني أستحي أن أدعه لا يتطهر لصلاة، ولكن احبسوه. وأخرج البيهقي عن عبد الله بن سلمة، عن عليّ مثله. وأخرج ابن أبي شيبة أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن السارق فكتب إليه بمثل قول عليّ. وأخرج عن سماك أن عمر استشارهم في سارق فاجتمعوا على مثل قول عليّ. وأخرج عن مكحول أن عمر قال: إذا سرق السارق اقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله، ولا تقطعوا يده الأخرى وذَروه يأكل بها، ويستنجي، ولكن احبسوه عن المسلمين. وقال سعيد بن منصور: نا أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، قال: حضرت عليّاً أُتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ فقالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: قتلته إذاً وما عليه القتل، بأيّ شيء يأكل الطعام، وبأيّ شيء يتوضأ للصلاة، بأيّ شيء يغتسل من الجنابة، بأيّ شيء يقوم إلى حاجته، فردّه إلى السجن أياماً، ثم استخرجه، فاستشار أصحابه، فقالوا له (في الأصل "لهم"، وهو خطأ) مثل قولهم الأول، فقال لهم مثل ما قال فجلده جلداً شديداً، ثم أرسله. وقال سعيد أيضاً: نا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عائذ قال: أُتي عمر بأقطع اليد والرجل قد سرق، فأمر بقطع رجله، فقال عليّ: قال الله: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) (سورة المائدة: الآية 33) الآية، فقُطعت يدُ هذا ورجلُه فلا ينبغي أن يقطع رجله فتدعه وليس له قائمة، إما أن تُعِزّروه، وإما أن تودعوه في السجن، فاستودعه السجن. قال ابن حجر: قد رواه البيهقي أيضاً وإسناده جيد، وإسناد رواية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 بِهِ (1) بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَقْطَعَاهُ وَضَمَّنَاهُ (2) . وَهُوَ (3) قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم اللَّهُ. 6 - بَابُ الْعَبْدِ يأبِقُ (4) ثُمَّ يَسْرِقُ (5) 689 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ، فَبَعَثَ بِهِ ابْنُ عُمَرَ إِلَى سَعِيدِ (6) بْنِ الْعَاصِ لِيَقْطَعَ يده،   سعيد الأولى ضعيف، قال ابن الهمام في "الفتح" (5/155) : هذا كله ثبت ثبوتاً لا مردّ له، فبعيد أن يقع فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مثل هذه الحوادث التي غالباً تتوفر الدواعي إلى نقلها ولا خبر بذلك عند عليّ وابن عباس وعمر من الأصحاب الملازمين، بل أقل ما في الباب أن كان يُنقل لهم أنهم غابوا بل لا بد من علمهم بذلك، وبذلك تقتضي العادة فامتناع عليّ بعد ذلك إما لضعف الروايات المذكورة في الإِتيان على أربعة وإما لعلمه أن ذلك ليس حداً مستمرّاً، بل هو على رأي الإِمام. (1) أي بعد قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى. (2) أي أخذاً منه ضمان المال. (3) قوله: وهو، أي عدم القطع بعد قطع اليد والرجل والتضمن عند عدم القطع وأما عند القطع فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة خلافاً للشافعي وغيره، والمسألة مبرهنة في كتب الأصول. (4) كان أميراً على المدينة من جهة معاوية، وهو صحابي، وكان سنُّه يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وكانت وفاته سنة 53، قاله الزقاني. (5) أي أنكر وامتنع من قطع يده. (6) كان أميراً على المدينة من جهة معاوية، وهو صحابي، وكان سنُّه يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وكانت وفاته سنة 53، قاله الزقاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 فَأَبَى (1) سَعِيدٌ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ، قَالَ: لا تُقْطَعُ يدُ الآبِقِ إِذَا سَرَقَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَفِي (2) كِتَابِ اللَّهِ وَجَدْتَ هَذَا: إِنَّ الْعَبْدَ الآبِقَ لا تُقْطَعُ يَدُهُ؟ فَأَمَرَ بِهِ (3) ابْنُ عُمَرَ فَقُطِعَتْ يدُه. قَالَ مُحَمَّدٌ: تُقطع يَدُ الآبِقِ وَغَيْرِ الآبِقِ إِذَا سَرَقَ (4) وَلَكِنْ لا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ السَّارِقَ أحدٌ إِلا الإِمام الَّذِي يَحْكُمُ (5) ، لأَنَّهُ حدٌّ لا يقوم به إلا   (1) أي أنكر وامتنع من قطع يده. (2) بهمزة الاستفهام للإِنكار والتوبيخ. (3) قوله: فأمر به ابن عمر، لعل سعيداً ظنّ أنّ العبد الآبق لا يُقطع يده من السرقة مطلقاً من سيّده سرق أو من غيره، وذلك لأن الغالب على العبد الآبق الجوع والهلاك، ولا قطع على من سرق زمن المجاعة، كما ورد به الخبر، ورأى ابن عمر خلافه، فأمر بقطع يده لقوة دليل ما ظنه من دون أمر سعيد، وهذا موافق لما اختاره الشافعي ومالك (قال صاحب "المحلّى": وبه أخذ مالك أنه يقطع يد الآبق ولكنه قال: لا يقطع السيد يد العبد إذا أبى السلطان أن يقطعه، كذا قال الشافعي في "الأمّ". قلت: لعل مسلك ابن عمر رضي الله عنه كان أن للسيد إقامة الحد على عبده بقطع اليد في السرقة كالشافعية وإلا فقد تقدم أن المرجّح من مسلك الإِمام أحمد وهو مذهب الإِمام مالك أنه ليس للسيد قطع يد عبده في السرقة، وليس ذلك إلا إلى الإِمام، وأما الحنفية فليس عندهم للسيد حق في إقامة الحد على عبده مطلقاً، أوجز المسالك 13/292) وغيرهما أن للسيد أن يقيم الحدّ على عبده بلا إذن الإِمام، وقال أصحابنا: ليس له ذلك، وقال الترمذي: القول الأول أصح، لموافقته حديثاً رواه. (4) أي من مال غيره، وأما إذا سرق من مال سيّده فلا، لما مرّ سابقاً. (5) في نسخة: إليه الحكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 الإِمَامُ أَوْ مَنْ وَلَّاهُ (1) الإِمام ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 7 - بَابُ الْمُخْتَلِسِ (2) 90 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ رَجُلا اخْتَلَسَ شَيْئًا فِي زَمَنِ مَرْوَانَ (3) بْنِ الْحَكَمِ، فَأَرَادَ (4) مَرْوَانُ قطعَ يَدِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا قَطْعَ (5) عَلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا قَطْعَ فِي الْمُخْتَلِسِ (6) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.   (1) أي نائبه والأمير من جهته. (2) أي حين كان أمير المدينة. (3) أي حين كان أمير المدينة. (4) ظناً منه أنه في حكم السرقة. (5) قوله: أنه لا قطع عليه، لحديث جابر مرفوعاً: ليس على المختلس والمنتهب والخائن قطع. أخرجه أحمد وأصحاب النن الأربعة والحاكم وابن حبان والبيهقي وغيرهم. وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن عوف رواه ابن ماجه بإسناد صحيح وآخر من رواية الزهري عن أنس أخرجه الطبراني في "الأوسط"، ورواه ابن الجوزي من حديث ابن عباس، وضعفه كذا في "التلخيص الحبير" (4/65) . (6) فإن القطع (لأن القطع ثبت بالنص في السرقة، والانتهاب والاختلاس والخيانة ليست بسرقة لأن في الانتهاب ليس الأخذ خفية، وفي الخيانة ليس الأخذ من الحرز. بذل المجهود 14/339. قال الموفق: فإن اختطف أو اختلس لم يكن سارقاً، ولا قطع عليه عند أحد علمناه غير إياس بن معاوية. المغني 8/240) إنما ورد في السرقة، وأخذ الشيء على سبيل الخفية معتبر في حقيقتها وليس ذلك في الاختلاس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 أبواب الحُدودِ في الزنَاء 1 - باب الرجم (1) 691 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ (2) : الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تعالى حقّ (3) على من زنى إذا   (1) قوله: يقول، هذا مختصر من خطبة خطبها عمر في المدينة بعد الفراغ من حجته. أخرجها البخاري وغيره بطولها. (2) قوله: يقول، هذا مختصر من خطبة خطبها عمر في المدينة بعد الفراغ من حجته. أخرجها البخاري وغيره بطولها. (3) قوله: حق، أي ثابت حكماً (أي الحكم غير منسوخ) وإن نُسخت آيته تلاوةً، وهي (الشيخ والشيخة إذا زَنَيَا فارجموهما البتَّة نَكَالاً من الله والله عزيز حكيم) . والمراد بالشيخ والشيخة المحصن والمحصنة وإن كان شاباً سِنّاً، قال السيوطي: خطر لي في نسخ هذه الآية تلاوةً نكتةٌ حسنة وهو أن سببه التخفيف على الأمة بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف وإن كان حكماً باقياً لأنه أثقل الأحكام وأشدّها وأغلظ الحدود. انتهى كلامه في "الإِتقان في علوم القرآن"، وفيه أيضاً: أخرج الحاكم من طريق كثير بن الصَّلْت قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يكتبان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 أُحْصن (1) مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ البّينة (2) أو كان الحَبْل (3)   المصحف فمرّا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول الله يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، فقال عمر: لمّا نزلتْ أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، وقال: ألا ترى إلى أنْ الشيخ إذا زنا ولم يُحْصَن جُلد، وأنَّ الشابّ إذا زنا وقد أُحصن رجم. قال الحافظ في "الفتح": يُستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها، وقال أبو عبيدة: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن المبارك بن فضالة، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن زر بن حبيش قال: كانت سورة الأحزاب تعدل سورة البقرة وإنْ كنا نقرأ فيها آية الرجم (إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) . وقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن خالد بن زيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن مروان بن عثمان، عن أبي أمامة بن سهل أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم: (إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة. (1) قوله: إذا أحصن، أي كان الزاني محصناً - وهو بفتح الصاد وبكسره - مأخوذ من الإِحصان بمعنى المنع، وهو عبارة عن كونه حرّاً عاقلاً بالغاً مسلماً وطئ بنكاح صحيح، وفي اشتراط الإِسلام خلاف الشافعي وأحمد. والبسط في كتب الفقه. (2) أي شهدت على الزناء الشهود وهم أربعة رجال. (3) قوله: أو كان الحَبْل، قال القسطلاني في "إرشاد الساري"، بفتح الحاء وسكون الباء أي الحمل، أي وُجدت المرأة الخلية من زوج (في الأصل: الزوج، وهو تحريف) أو سيد حُبلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 أَوِ الاعْتِرَافُ (1) . 692 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أنَّه سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ المسيِّب يَقُولُ: لَمَّا صَدَرَ (2) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ مِنى أَنَاخَ (3) بِالأَبْطَحِ (4) ثُمَّ كَوَّمَ (5) كَوْمة مِنْ بَطْحَاءَ (6) ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ، ثُمَّ اسْتَلْقَى ومدَّ (7)   ولم تذكر شبهة ولا إكراهاً. انتهى. وقال السيوطي في "الديباج بشرح صحيح مسلم بن الحجاج": هذا مذهب عمر بن الخطاب وحده (قال النووي: هذا قول عمر رضي الله عنه وتابعه مالك وأصحابه فقالوا: إذا حبلت ولم يُعلم لها زوج ولا سيد ولا عرفنا إكراهاً لزمها الحد إلاَّ أن تكون غريبة، وتدَّعي أنه من زوج أو سيد. وقال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: لا حدَّ عليها بمجرد الحمل، لأن الحدود تسقط بالشبهات. أوجز المسالك 13/229) ، وأكثر العلماء أنه لا حدّ عليها بمجرد ظهور الحبل مطلقاً. (1) أي إقرار الزاني. (2) أي رجع من حجته وكان آخر حجاته في سنة ثلاثة وعشرين التي قُتل فيها. (3) أي راحلته. (4) وادٍ بين مكة ومنى يسمّى بالمحصَّب. (5) بتشديد الواو من التكويم وهو الجمع. (6) قوله: بطحاء، بالفتح هي صغار الحصى، والكومة بالفتح وبالضم القطعة أي جمع قطعة من الحصى وألقى عليه رداءه واستلقى على قفاه واضعاً رأسه عليها. (7) أي رفعهما للدعاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ كبِرَتْ (1) سِنِّي، وضَعُفَتْ (2) قوَّتي، وانتشرتْ (3) رعيَّتي، فَاقْبِضْنِي (4) إِلَيْكَ غَيْرَ مضيِّع (5) وَلا مُفْرِط. ثُمَّ قدِم الْمَدِينَةَ (6) ، فَخَطَبَ (7) الناسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سُنَّتْ (8) لَكُمُ السُّنَن، وفُرِضت لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وتُرِكْتُمْ (9) عَلَى الْوَاضِحَةِ - وصَفَّقَ (10)   (1) قوله: كبرت سنّي، أي طال عمري، يقال كَبُر في القدر والرتبة من باب كرم، وكَبِر في السنّ من باب علم، كذا في "المغرب". (2) قوله: وضعفت قوتي، أي أعضائي في سكوني وحركتي. (3) قوله: وانتشرت رعيتي، أي كثرت وتفرقت في البلاد رعيَّتي التي أقوم بسياستها وتدبيرها. (4) قوله: فاقبضني إليك، هذا دعاء بالموت وهو جائز إذا خاف الفتنة في الدين وإلاَّ فمنهيٌّ عنه، وقد بسط الأخبار في هذا الباب الحافظ السيوطي في "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور" فلتُطالَع، فإنه كتاب منفرد في بابه لم يُصنَّف مثلُه لا قبله ولا بعده. (5) قوله: غير مضيِّع، أي لما أمرتني وشرعتني، من التضيع، ولا مُفْرِط اسم فاعل من الإِفراط بمعنى الزيادة، أي اقبضني إليك حال كوني غير مبتلىً بالفتنة في الدين بأن أنقص في شيء أو أزيد شيئاً. (6) في آخر ذي الحجة. (7) أي يوم الجمعة كما في رواية البخاري. (8) قوله: قد سُنَّت، بضم السين وتشديد النون المفتوحة أي شُرعت لكم الشرائع أو السنن النبوية. (9) قوله: وتُركتم، بصيغة المجهول أي ترككم نبيّكم على الطريقة الواضحة الظاهرة المسهَّلة البيضاء. (10) قوله: وصفَّق، قال القاري: من التصفيق أي ضرب عُمَر بإحدى يديه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخرى - إلاَّ (1) أَنْ لا تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا (2) وَشِمَالا، ثُمَّ إِيَّاكُمْ (3) أَنْ تَهلِكوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، أَنْ (4) يَقُولَ قَائِلٌ: لا نَجِدُ حَدَّيْنِ (5) فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ رَجَم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا (6) ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا (7) أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كتاب الله   على الأخرى، وكانت العرب تضرب إحدى اليدين على الأخرى إذا أراد أن ينبِّه غيره، وربما فعله إذا صاح على شيء أو تعجب من شيء. (1) قوله: إلاَّ، قال القاريّ: بكسر الهمزة وتشديد اللام أي لكن أن لا تضلّوا بالناس. وإنْ شرطية والباء للتعدية، ولا يبعد أن يكون ألا للتنبيه وأن زائدة. (2) أي بالانتقال عن طريق الوسط الواضح. (3) أي احذروا عن أن تهلكوا بسبب الغفلة عن آية الرجم. (4) بفتح الهمزة وسكون النون: بيان الهلاك. (5) أي الجلد والرجم. (6) نحن معاشر الصحابة. (7) قوله: لولا أن يقول ... إلخ، قال الزركشي في "البرهان": ظاهره أن كتابتها (وفي الكواكب الدرّي 2/376: ليس المراد أن اكتبه حيث تكتب آيات الكتاب لأنه حرام، فكيف يُكتفى بالكراهة، وإنما يعني أن أكتبه في حواشي المصاحف حتى ينظر إليه من يقرأ المصحف إلاَّ أن الأمر بتجريد القرآن يمنعني عن ذلك لئلا ينجرّ الأمر بالآخرة إلى إدخاله فيه) جائزة وإنما منعه قول الناس، والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة. وقد يُقال: لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر، ولم يعرِّج على مقالة الناس، لأن مقال الناس لا يصلح مانعاً. وبالجملة فهذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 لكتبتُها (1) : الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا البتَّة (2) ، فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَمَا انْسَلَخَ ذُو الحجَّة (3) حَتَّى قُتل عُمَرُ. 693 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر: أن اليهود (4) جاؤوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرُوهُ أن رجلاً منهم وامرأة زَنَيَا، فقال   الملازمة مشكلة، ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد والقرآن لا يثبت به وإن ثبت الحكم. انتهى. وردَّه السيوطي في: الإتقان: بأنَّ قوله لعله كان يعتقد أنه خبر واحد مردود، فقد صح أنه تلقّاها مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى. والأظهر في هذا المقام ما قاله الزرقاني وغيره أن مراد عمر من هذا الكلام المبالغة والحث على العمل بالرجم، لأن معنى الآية باقٍ وإن لم يَبْقَ لفظها. (1) أي في المصحف. (2) أي جرماً. (3) أي الذي خطب فيه الخطبة المذكورة. (4) قوله: أن اليهود كانوا جاؤوا، من خيبر. ذكر ابن العربي عن الطبري والثعلبي من المفسِّرين منهم: كعب بن الأشراف وكعب بن أسعد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحُقيق وشاس بن قيس ويوسف بن عازوراء، وكان مجيئهم بهذه الواقعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة في ذي القعدة، والرجل الذي زنى منهم لم يُسَمَّ، والمرأة اسمها بُسرة بالضم. وعند أبي داود من حديث أبي هريرة زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه بُعث بالتخفيف. فإنْ أفتانا بفُتيا دون الرجم قَبِلناها، واحتججنا بها عند الله وقلنا نبيّ من أنبيائك، قال: فأتَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما تَرَى في رجل وامرأة زنيا؟ كذا ذكره الحافظ ابن حجر والقسطلاّني في "شرح صحيح البخاري". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ (1) فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمَا (2) ويُجْلَدَان، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ (3) بْنُ سَلامٍ (4) : كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فأَتَوْا (5) بِالتَّوْرَاةِ، فَنَشَرُوهَا (6) ، فَجَعَلَ (7) أَحَدُهُمْ (8) يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، ثُمَّ قَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ (9) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ (10) ، فَقَالَ:   (1) قوله: ما تجدون، قال القسطلاّني: ما مبتدأ من أسماء الاستفهام، وتجدون جملة في محل الخبر، والمبتدأ والخبر معمول للقول، وإنما سألهم إلزاماً لهم بما يعتقدونه في كتابهم الموافق للإِسلام إقامةً للحجة عليهم وإظهاراً لما كتموه وبدَّلوه من حكم التروراة، فأرادوا تعطيل نصها ففضحهم الله، وذلك إما بوحي من الله إليه أنه موجود في التوراة وإما بإخبار من أسلم منهم كعبد الله بن سلام. (2) قوله: فقالوا نفضحهما، أي نجد في التوراة في حكم الزانيين أن نخذلهما، ويُجْلدان، وليس فيها رجم، وفي رواية: قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، وفي رواية قالوا: نسوِّد وجوههما ونحممهما، وفي رواية قالوا: نسوِّد وجوههما ونُحمِّمهما، ونخالف بين وجوههما ويُطاف بهما. (3) هو من أحبار اليهود كان قد أسلم. (4) بتخفيف اللام. (5) أي اليهود (6) أي فتحوها. (7) قصداً للإِخفاء عن الحضرة النبوية. (8) قال الحافظ ابن حجر: هو عبد الله بن صوريا. (9) أي للذي وضع يده. (10) قوله: فإذا فيها آية الرجم، وفي رواية للشيخين: فإذا آية الرجم تحت يده، وعند أبي داود من حديث أبي هريرة ذكر لفظ الآية: المُحْصَن والمُحْصَنة إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 صَدَقْتَ (1) يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرُجما (2) . قال ابن عمر: فرأيت   زنيا وقامت عليها البيِّنة رُجِما وإنْ كانتْ المرأة حُبلى تُرُبِّص بها حتى تضع ما في بطنها. وعنده أيضاً من حديث جابر: قالوا: إنّا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأَوْا ذَكَرَهُ في فَرْجها مثلَ الميل في المُكْحُلة رجما. وفي رواية البزار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فما منعكم أن ترجموهما؟ قالوا: ذهب سلطاننا، فكرهنا القتل. زاد في حديث البراء: نجد الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنّا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أخذناه بالحدّ، فقلنا: تعالَوْا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. (1) في نسخة: صدق. (2) قوله: فرُجما، أي اليهوديان، الزاني والزانية، وهذا صريح في أن الإسلام ليس بشرط في الإِحصان كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو يوسف في رواية، وعند أبي حنيفة ومحمد والمالكية الإِسلام شرط (قال الزرقاني 4/136: وأجابوا عن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم إنما رجمها بحكم التوراة تنفيذاً للحكم عليهم بما في كتابهم، وليس هو حكم الإسلام في شيء، وهو فعل وقع في واقعة حال عينية محتملة لا دلالة فيها على العموم في كل كافر. انتهى) . واستدلوا بأحاديث وردت في ذلك، وأجابوا عن رجم اليهوديِّيْن بأن ذلك كان في ابتداء الإِسلام بحكم التوراة، ولذلك سألهم عن ما فيها، ثم نزل حكم الإِسلام بالرجم باشتراط الإحصان، واشتراط الإسلام فيه بقوله صلى الله عليه وسلم: من أشرك بالله فليس بمحصن. أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" عن ابن عمر مرفوعاً. وأخرجه الدارقطني في "سننه" وقال: الصواب أنه موقوف. وأخرج الدارقطني وابن عديّ، عن كعب بن مالك أنه أراد أن يتزوج يهوديَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتزوجها فإنها لا تحصنك، وفيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 الرَّجُلَ (1) يَجْنَأُ (2) عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا (3) الْحِجَارَةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، أَيُّمَا رجلٍ حرٍّ مسلمٍ زنى بامرأة و (4) قد تزوَّج بِامْرَأَةٍ (5) قبلَ (6) ذَلِكَ حرَّةً مُسْلِمَةٍ وَجَامَعَهَا (7) ففيه الرجم،   انقطاع وضعف. وأُورد عليهم أن سياق قصة رجم اليهود شاهد بأن الرجم كان ثابتاً في الإسلام ولم يكن الإِسلام في الإحصان شرطاً عند ذلك، ولا يمكن أن يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالتوراة خلاف شرعه لأنها صارت منسوخة وإنما سألهم إلزاماً عليهم، فالصواب أن يُقال إن هذه القصة دلَّت على عدم اشتراط الإسلام، والحديث المذكور دلَّ عليه، والقول مقدم على الفعل، مع أن في اشتراطه احتياطاً، وهو مطلّوب في باب الحدود، كذا حققه ابن المهام في "فتح القدير" وهو تحقيق حسن إلاَّ أنه موقوف على ثبوت المذكور من طريق يُحتجّ به. (1) لأي اليهودي الزاني. (2) قوله: يجنأ، في" موطأ يحيى" يَحْنِي بفتح الياء وإسكان الحاء المهملة وكسر النون أي: يميل، قال ابن عبد البر: كذا رواه أكثر شيوخنا، وقال بعضهم: يجني بالجيم. والصواب عند أهل العلم يجنأ بالجيم والهمز: أي يميل. (3) أي يحفظها من حجارة الرمي أن تقع عليها حبّاً لها (قال الباجي: قال مالك: لا يُحفر للمرجوم، ولا سمعتُ أحداً ممن يجب ذلك، وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يُحفر للمرأة، قال مالك: دل قوله فرأيت الرجل يحني على المرأة أنه لا يحفر له. المنتقى 7/134) . (4) الواو حالية. (5) أي حرة مسلمة. (6) أي قبل الزنا. (7) أي المنكوحة لو مرَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 وَهَذَا هُوَ المُحْصَنُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُجامعها (1) إِنَّمَا تزوَّجها وَلَمْ يدخُل بِهَا أَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ (2) أَمَةٌ يَهُودِيَّةٌ (3) أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ بِهَا مُحْصَناً، وَلَمْ يُرجَمْ وضُرِبَ (4) مِائَةً. وَهَذَا هُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ والعامَّة من فقهائنا. 2 - باب الإِقرار بالزناء 694 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: أنَّهما أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ (5) اخْتَصَمَا إِلَى رسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا (6) : يَا نبيَّ اللَّهِ اقضِ (7) بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الآخر - وهو (8) أَفْقَهُهُمَا - أجل (9)   (1) أي المنكوحة قبل. (2) وكذا تزوج يهودية أو نصرانية. (3) في نسخة: أو يهودية. (4) أي مائة جلدة. (5) لم يعرف الحافظ اسمهما، وكذا اسم العسيف ومزنيَّته، قاله الزرقاني. (6) قوله: فقال أحدهما، وفي رواية للشيخين: فقام رجل من الأعراب فقال: أنشدك الله إلاَّ قضيتَ بيننا بكتابِ الله. (7) أي احكم بيننا بما حكم به الله في الكتاب. (8) قوله: وهو أفقههما، قال الحافظ زين الدين العراقي: يُحتمل أن الراوي كان عارفاً بهما قبل أن يتحاكما فوصف الثاني بأنه أفقه من الأول مطلقاً، ويحتمل في هذه القصة الخاصة بحسن أدبه في استئذانه أولاً وترك رفع صوته إن كان الأول رافعه. (9) أي نعم أنا راضٍ به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 يَا رسولَ اللَّهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائْذَنْ لِي فِي أَنْ أتكلَّم (1) ، قَالَ تكلَّمْ، قَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفاً عَلَى هَذَا (2) - يَعْنِي أَجِيرًا (3) - فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ (4) . فأَخْبَرُوني (5) أنَّ عَلَى (6) ابني جلدَ (7) مائةٍ، فافتديتُ (8) منه   (1) أي فأُبيِّن القصة بحضرتك. (2) أي عنده. (3) قوله: يعني أجيراً، هذا تفسير مدرج من مالك كما يفصح عنه "موطأ يحيى: فإن فيه بَعد سَوْق الحديث من غير هذا التفسير: قال مالك: والعسيف: الأجير. (4) أي امرأة الرجل الحاضر الذي تكلَّم أولاً. (5) قوله: فأخبروني، أي بعض أهل العلم، وفي رواية يحيى وابن القاسم: فأخبروني، بالإِفراد. قال ابن عبد البر: هو الصواب. (6) قوله: أنَّ على ابني جلد مائة، هكذا في بعض النسخ، وعليها شرح القاري حيث قال: فأخبروني - أي بعض أهل العلم - أنَّ على ابني جلد مائة أي لأنه غير محصن. فافتديتُ منه بمائة شاة وجارية لي، أي بعتقها أو بتسليمها إلى خصمه. ثم إني سألتُ أهل العلم، أي الكُبراء منهم عن جواز الافتداء. أن على ابني جلدَ مائة، أي حدّاً. وتغريب عام، أي سياسة. انتهى. وفي كثير من النسخ المصحَّحة: فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديتُ منه، وهو مقتضى قوله ثم سألت أهل العلم فإنه يقتضي أن المُخْبِر الأول كان حَكَم بالرجم فافتدى منه ثم سأل عن أهل العلم فأخبروه بالجلد، وتأويل أن سؤاله عنهم كان عن الافتداء لا يوافقه السَّوْق، وفي الحديث دليل على أن الصحابة كانوا يُفتون في زمنه صلى الله عليه وسلم، وفي بلده، وذكر ابن سعد من حديث سهل: أن الذين كانوا يفتون على عهده صلى الله عليه وسلم عمرُ وعثمان وعليّ وأبيّ ومعاذ وزيد بن ثابت. وفيه أن الحدَّ لا يَقْبل الفداء، وهو مجمع عليه في الزناء والسرقة والشُّرب، قاله القسطلاني. (7) في نسخة: الرجم. (8) ظناً منه أن الفداء ينوب عن الحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 بِمِائَةِ شَاةٍ وجاريةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي إِنَّمَا عَلَى ابْنِي جلدَ مِائَةٍ وتغريبَ (1) عَامٍ، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ (2) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمَا (3) وَالَّذِي (4) نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمْ بكتابِ اللَّهِ تَعَالَى (5) : أمَّا غَنَمك وَجَارِيَتُكَ فردٌّ (6) عَلَيْكَ. وجَلَد (7) ابْنَهُ مِائَةً وغَرَّبَه (8) عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْساً (9) الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر، فإن   (1) أي نفيَه من البلد وإخراجَه. (2) أي لأنها محصَنة. (3) بالتخفيف: حرف تنبيه. (4) قَسَمٌ للتأكيد. (5) قوله: بكتاب الله، قال النووي: يُحتمل أن المراد: بحكم الله، وقيل: هو إشارة إلى قوله تعالى: (أو يجعل الله لهنَّ سبيلا) (سورة النساء: الآية 15) وفسَّر رسول الله السبيل بالرجم في المحصن في حديث عبادة عند مسلم، وقيل: هو إشارة إلى آية (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) ، وهو مما نُسخت تلاوته وبقي حكمه، كذا في "تنوير الحوالك) . (6) أي مردود عليك لا ينوب عن الحدّ. (7) لأنه كان غير محصن. قوله: وجَلَد ابنه، قال الزرقاني: هذا يتضمَّن أن ابنه كان بكراً وأنه اعترف بالزناء فإنَّ إقرار الأب لا يُقبل، وقرينة اعترافه حضوره مع أبيه كما في رواية أخرى: إن ابني هذا وابني لم يُحصن. (8) أي أخرجه من البلد. (9) قوله: وأمر أُنَيْساً، هو أُنَيْس - بضم الهمزة - بن الضاحك الأسلمي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 اعترقَتْ (1) رَجَمَهَا (2) ، فاعترفَتْ فَرَجَمَهَا. 695 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (3) يَعْقُوبُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكة أَنَّهُ (4) أخبره: أن   وقال ابن عبد البر: ويقال إنه أُنيس بن مرثد، قال ابن الأثير: الأول أشبه بالصحة لكثير الناقلين له، ولأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقصد لا يؤمَّر (في الأصل: يأمر، وهو تحريف) في القبيلة إلاَّ رجلاً منهم لنفورهم من حكم غيرهم، وكانت المرأة أسلمية، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنوري. (1) قوله: فإن اعترفت، قال النووي: هو محمول عند العلماء على إعلام المرأة بأن هذا الرجل قذفها بابنه وأن لها عنده حدّ القذف، فتطلب أو تعفو إلاَّ أن تعترف بالزناء (وفي رواية البخاري: فغدا عليها فاعترفت فرجمها. قال الحافظ: كذا للأكثر، ووقع في رواية الليث، فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجمت وهي تشعر بأن أُنيساً أعاد جوابها على النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر حينئذٍ برجمها، فيحتمل أن يكون المراد أمره الأول المعلق على اعترافها مع رواية الأكثر وهو أولى. فتح الباري 12/140) . (2) أي حكم رسول الله برجمها أو رجمها أُنيس بعد ما أخبره به. (3) قوله: أخبرنا يعقوب، هو يعقوب بن زيد بن طلحة القرشي التيمي الصدوق المدني، وأبو زيد بن طلحة تابعي صغير، وظنه الحاكم صحابياً، وليس كذلك، كما بسطه الحافظ في "الإِصابة"، وجده عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة بالتصغير، ويقال: اسمه زهير التيمي المدني، ثقة من التابعين، مات سنة 117، كذا قال الزرقاني. (4) قوله: أنه أخبره، قال ابن عبد البر: هكذا قال يحيى، فجعل الحديث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 امْرَأَةً (1) أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا زَنَتْ وَهِيَ حامِلٌ (2) ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبِي (3) حتى تَرضَعِي، فَلَمَّا وضعَتْ (4) أَتَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي حَتَّى تُرضعي، فَلَمَّا أرضَعَتْ (5) أَتَتْهُ فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي حَتَّى تَسْتَودِعيْه (6) فاستودَعَتْه، ثُمَّ جَاءَتْهُ فَأَمَرَ بِهَا فأُقيم عليها الحدّ (7) .   لعبد الله بن أبي مليكة مرسلاً عنه وقال القاسم وابن بكير: مالك، عن يَعْقُوبُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ طلحة بن عبد الله بن أبي مليكة، فجعلوا الحديث لزيد مرسلاً (قال ابن عبد البر: هذا هو الصواب إن شاء الله. أوجز المسالك 13/210) . (1) قوله: أن امرأة، أي من جُهَينة، كما في سنن أبي داود، ولمسلم من غامِد وهو بطن من جهينة بكسر الميم. (2) أي من الزنا، كما في رواية مسلم. (3) لعدم جواز رجم الحُبلى. (4) عند مسلم: فلما وضعت أتته بالصبي في خرقة وقالت: هذا ولدتُه. (5) أي فرغت من الرضاعة. (6) أي اجعليه عند مَنْ يحفظه (وفي رواية مسلم: فحُفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فنضح الدم على وجه خالد، فسبّها، فسمعه عليه السلام، فقال: مهلاً يا خالد، فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مُكْس لغفر له، ثم أمر بها فصلى عليها، ثم دُفنت، ورُوي أنه عليه السلام صلى عليها. شرح الزرقاني 4/141) . (7) أي الرجم، كما في رواية مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 696 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (1) : أنَّ رَجُلا (2) اعترف بالزنى عَلَى نَفْسِهِ عَلَى عَهْدِ (3) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وشهد (4) على نفسه.   (1) هذا مرسل وهو موصول في "الصحيحين: وغيرهما. (2) قوله: رجلاً، قال الزرقاني: هو ماعز بن مالك الأسلمي باتفاق، وبه صرح في كثير من طرق الحديث، واسم المرأة التي زنا بها فاطمة فتاة هزّال، وقيل: منيرة، وحكى ابنُ سعد في "طبقاته: أن اسمها مهيرة. (3) أي في زمانه. (4) قوله: وشهد على نفسه ... إلخ، هذه القصة أي قصة رجم ماعز مخّرجة في الصحيحين والسنن وغيرها بطرق متفرّقة بألفاظ مختلفة، ففي بعضها أنه شهد على نفسه أربع شهادات فأعرض عنه ثلاثة، ثم قال له النبي عليه السلام بعد الرابعة: أبك جنون؟ ثم قال لأهله: أيشتكي أم به جِنَّة؟ فقالوا: لا، وإنما قال ذلك لما اشتبه عليه الحال، فإنه دخل منتفش (في الأصل منتفس، وهو خطأ) الشعر ليس عليه رداء يقول: زنيتُ فارجمني، كما عند مسلم عن جابر، وعنده من حديث بُرَيدة: جاء ماعز فقال: يا رسول الله طهّرني، فقال: ويحك، ارجع فاستغفر الله، وتُبْ، فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهّرني، فقال مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال: فيم أطهِّرك؟ قال: من الزناء. فسأل: أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أَشَرِب خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريحَ خمر، فقال رسول الله: أزنيت؟ قال: نعم. والروايات عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وأحمد وإسحاق وابن أبي شيبة وغيرهم متوافقة على ذكر أربع شهادات في قصة ماعز، وكذا عند البزار عن عبد الرحمن بن أبي بكرة في قصة الغامدية الجهنية أنها أقرّت أربع مرات، فقال رسول الله: اذهبي حتى تلدي. وقد بسط كل ذلك الزيلعي وابن حجر في "تخريج أحاديث الهداية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ فَأَمَرَ بِهِ فحُدَّ (1) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فمِنْ أجْلِ ذَلِكَ يُؤخذ الْمَرْءُ (2) بِاعْتِرَافِهِ (3) عَلَى نَفْسِهِ 697 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَنَّ رَجُلا (4) اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَاءِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا (5) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسَوْط فَأُتِيَ بسَوْطٍ مَكْسُورٍ، فَقَالَ: فَوْقَ (6) هَذَا، فأُتيَ بسوطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ (7) ثَمَرَته، فَقَالَ: بَيْنَ (8) هَذَيْنِ، فأُتِيَ بسوطٍ قَدْ رُكب (9) به فَلاَنَ، فِأمر به   (1) أي رُجم. (2) أي إذا كان مكلَّفاً عاقلاً بالغاً غير محجور عليه. (3) أي على الزناء أو غيره. (4) قوله: أن رجلاً، قال ابن عبد البر: هكذا رواه جماعة الرواة مرسلاً، ولا أعلمه يُسْنَد بهذا اللفظ من وجه من الوجوه، وقد روى معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَه سواء، أخرجه عبد الرزاق. وأخرج ابن وهب في موطّئه عن كُريب مولى ابن عباس مرسلاً نحوَه، كذا في "التنوير". (5) أي طلبه ليجلده لأنه كان غير مُحْصَن. (6) أي في الإِيلام والإِيذاء فإن المكسور يخفّ به الإِيلام. (7) قوله: لم تُقطع ثمرته، بفتح الثاء المثلثة والميم والراء أي طرفه، قال الجوهري: وثمرة السياط عقد أطرافها، وقال أبو عمر (في الأصل: أبو عمرو، وهو خطأ والصواب ما اثبتناه) : أي لم يُمتهن ولم يُلَيَّنْ، والثمرة الطرف. (8) أي لا المكسور ولا الجديد بل الوسط. (9) قوله: قد رُكب به، بصيغة المجهول أي استعمل ذلك السَّوْط في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 فجُلِدَ (1) ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ (2) لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ الله، فمن أصابه من هذه (3) القاذورات شيئاً فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ (4) مَنْ يُبْدِ لَنَا صفحتَه نُقِمْ (5) عَلَيْهِ كتابَ (6) اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. 689 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ صفيّةَ (7) بنتَ أَبِي عُبَيد حَدَّثَتْهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصدِّيق رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أنَّ رَجُلا وَقَعَ عَلَى جاريةٍ بكْرٍ، فأَحْبَلها (8) ، ثُمَّ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ زَنَى وَلَمْ يَكُنْ أُحْصِن (9) ، فَأَمَرَ به   الركوب. فَلاَن، من اللين فإن السوط إذا استُعمل ورُكب به ذهب طرفه. (1) أي مئة جلدة. (2) أي حان وجاء وقته. (3) قوله: هذه القاذورات، جمع قاذورة: كل فعل أو قول يُستقبح كالزناء وشرب الخمر وغيرهما، أي هذه السيئات. (4) ضمير الشان. قوله: فإنه من يُبْدِ، وفي بعض نسخ "موطأ يحيى": يُبْدي بحذف الياء وإثباتها من الإِبداء وهو الإِظهار. والصفحة، بالفتح: الجانب والوجه والناحية، أي من يُظهر لنا معاشر الحكّام ما فعله أقمنا عليه حدّاً وفيه إشارة ألى أنّ الأحبّ لمن ارتكب السيئات ذواتِ الحدود أن يستر ولا يظهر ويتوب إلى الله، فإذا أظهر عند الحكام وجب عليهم إنفاذ الحدّ ولا تنفع عند ذلك شفاعة الشافعين. (5) من الإِقامة. (6) أي حدّه الوارد فيه أو في سُنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم فإنه أيضاً منه. (7) هي زوجة ابن عمر (8) أي جعلها حاملة. (9) بل كان بِكْراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فجُلِدَ الحدَّ ثُمَّ نُفِيَ إلى فَدَك (1) .   (1) قوله: فَدَك، بفتح الفاء المهملة وكاف، بلدة بينها وبين المدينة يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة، قاله الزرقاني. وبهذا وبما مرّ في حديث العسيف: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم غرّبه عاماً، وبما سيأتي عن عمر: أنه جلد الزاني وغرّب: استند جمع من العلماء، فقالوا بالجمع بين الجلد والنفي في غير المحصن: وأن النفي جزء من حدّه، وحدّه مجموعهما (انظر الأوجز 13/222) ، وبه قال الشافعي وأحمد والثوري والأوزعي والحسن بن صالح وابن المبارك وإسحاق، وهذا في الحرّ وفي العبد ثلاثة أقوال للشافعي: في قول يغرب ستة أشهر وفي قول سنة، وفي قول لا يغرّب أصلاً، بل يُجلد خمسين، وقال مالك: يُجمع بينهما في الرجل دون المرأة والعبد، كذا ذكر العيني. ويوافقهم ما أخرجه مسلم من حديث عبادة مرفوعاً: البكر بالبكر مائة جلدة وتغريب عام. وللبخاري من حديث زيد بن خالد: أن النيّ عليه السلام أمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام. وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرّب، وأن عمر ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرّب. وعند ابن أبي شيبة عن مولى عثمان أن عثمان (قال في التلخيص الحبير 4/61: رواه ابن أبي شيبة بإسناد فيه مجهول) جلد امرأة في زناء، ثم أرسل بها إلى مولى يقال له المهديّ إلى خيبر نفاها إليه. وفي الباب أخبار أُخر أيضاً مبسوطة في "تخريج أحاديث الهداية" و" التلخيص الحبير" وغيرهما. ومذهب الحنفية في ذلك أن النفي أمراً ليس بداخل في الحدّ، بل هو سياسة مفوَّضة إلى رأي الإِمام، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، ولهم في الجواب عن هذه الأخبار مسالك: الأول: القول بالنسخ ذكره صاحب "الهداية" وغيره، وهو أمر لا سبيل إلى إثباته بعد ثبوت عمل الخلفاء به مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. والثاني: أنها محمولة على التعزير بدليل ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزّهري، عن ابن المسيّب: أنّ عمر غرَّب ربيعة بن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصّر، فقال عمر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 699 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِنَّ رَجُلا (1) مِنْ أسلمَ أَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: إِنَّ الآخِرَ (2) قَدْ زَنَى، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ ذَكَرْتَ هَذَا لأَحَدٍ غَيْرِي؟ قَالَ: لا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتَتِرْ (3) بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه. قَالَ سَعِيدٌ (4) : فَلَمْ تقَرّ (5) بِهِ نَفْسُه حَتَّى أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لأَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ عمر (6) كما قال   لا أغرِّب بعده مسلماً. وأخرج محمد في كتاب "الآثار" وعبد الرزاق، عن ابراهيم قال: قال ابن مسعود في البكر يزني بالبكر: يُجلدان ويُنْفَيَان سَنَة، قال: وقال عليّ: حَسْبُهما من الفتنة أن يُنْفَيَا. فإنه لو كان النفي حدّاً مشروعاً لما صدر عن عمر، وعن عليّ مثله، فعُلم أنه أمر سياسة منوط بمصلحة. والثالث: أنها أخبار آحاد لا تجوز بها الزيادة على الكتاب وهو موافق لأصولهم لا يُسكت خصمهم، وبسطه في "فتح القدير" وغيره. (1) قال السيوطي: هو ماعز بن مالك باتفاق من الحفاظ. (2) بكسر الخاء وقصر الهمزة: أي الأرذل الدنيّ يريد به نفسه ويعيبه، قاله ابن عبد البر. (3) أي ولا تُظهر لأحد. (4) أي ابن المسيّب. (5) بفتح التاء وكسر القاف وتشديد الراء: أي لم تطمئن نفسه بكلام الصديق، كذا قاله القاري. وفي "موطأ يحيى": فلم تُقرره (بقول عمر رضي الله عنه أيضاً. (فلم تُقْرِره) بضم الفوقية وسكون القاف وكسر الراء الأولى أي لم تمكنه. أوجز المسالك 13/202) نفسه. (6) من الأمر بالتوبة والستر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 أَبُو بَكْرٍ. قَالَ سَعِيدٌ: فَلْم تقَرّ بِهِ نَفْسُهُ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ (1) : الآخِرُ قَدْ زَنَى، قَالَ سَعِيدٌ (2) : فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فقَالَ (3) لَهُ (4) ذَلِكَ مِرَارًا، كلُّ ذَلِكَ يُعرض عَنْهُ حَتَّى إذَا أَكْثَرَ (5) عَلَيه، بَعَث إلى أهله،   (1) لشدة خوفه من ربه. (2) ابن المسيّب. (3) أي ذلك الصحابي. (4) أي للنبي عليه السلام. (5) قوله: إذا أكثر عليه، أي المرة الرابعة، فعند الطحاوي من طريق الشعبي، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبي بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ ماعزاً أربع مرات. وفي رواية أخرى عنده عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لماعز: أحقٌّ ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟ (في الأصل: "وما بلغني؟ "، وهو خطأ. انظر شرح معاني الآثار 20/82) قال: بلغني أنك أتيتَ جاريةَ آل فلان، فأقر على نفسه أربع شهادات، فأمر به فرُجم. وفي رواية له عن جابر: أنّ رجلاً من أسلم أتى رسول الله وهو في المسجد فناداه فحدّثه أنه قد زنى، فأعرض عنه رسول الله فتنحّى بشقه الذي أعرض قبله، فأخبره أنه زنى وشهد على نفسه أربع مرات فدعاه رسول الله فقال: هل بك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أُحصنت؟ قال: نعم. فأمر به، فرُجم بالمصلّى، فلما أذلقته الحجارة فرّ حتى أُدرك بالحرَّة فقُتل بها رجماً. وعنده من حديث بُريدة نحوه، وفي آخره قال بريدة: كنا أصحابَ رسول الله نتحدّث أنّ ماعزاً لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يطلبه، وإنما رجمه عند الرابعة. قال الطحاوي: فثبت بذلك كلِّه أنّ الإِقرار بالزناء الذي يوجب الحدّ أربع مرات، فمن أقرّ كذلك حُدّ ومن أقرّ أقل من ذلك لم يُحَدّ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وقد عمل بذلك عليٌّ في شراحة الهَمْدانية حيث ردّها أربع مرات، وأجاب الطحاوي، عن حديث العَسيف وقوله صلى الله عليه وسلم فيه لأنيس: اغْدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها حيث لم يذكر فيه أربع مرات بأنه يجوز أن يكون أنيس قد علم الاعتراف الذي يوجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 فقال: أَيَشْتَكِي؟ (1) أَبِه جِنَّةٌ (2) ؟ قالوا: يارسول اللَّهِ، إِنَّهُ لَصَحِيحٌ (3) . قَالَ: أبِكْرٌ (4) أَمْ ثَيِّب (5) قال: ثيبٌ. فَأَمَرَ بِهِ فرُجِمَ. 700 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يحيى بن سعيد أنه (6) بلغه: أنّ   حدَّ الزناء على المعترف مما علّمهم النبي صلى الله عليه وسلم في ماعز وغيره، فخاطبه بعد علمه أنه قد علم الاعتراف الذي يُوجب الحدّ. (1) أي هو مبتلى بشكاية ومرض أذهب عقله أم به الجِنّة بكسر الجيم وتشديد النون أي الجنون. (2) قوله: أبه جِنَّة، قال ابن عبد البر: فيه أن المجنون لا حدّ عليه وهو إجماع، وأن إظهار الإِنسان ما يأتيه من الفواحش جنون لا يفعله إلا المجانين، وأنه ليس من شأن ذوي العقول كشف ذلك والاعتراف به عند السلطان وغيره، وأن حدّ الثيب غير حدّ البكر، ولا خلاف فيه، لكن قليل من العلماء رأى على الثيب الجلد والرجم معاً، رُوي ذلك عن عليّ وعُبادة، وتعلّق به داود وأصحابه، والجمهور على أنه يُرجم ولا يُحَدّ، وقال الخوارج: لا رجم مطلقاً وإنما الحدّ الجلد للثيب والبكر، وهو خلاف إجماع أهل السنة والجماعة، كذا ذكره الزرقاني. (3) أي في عقله وبدنه. (4) أي غير محصن. (5) أي محصن. (6) قوله: أنه بلغه، هكذا وجدناه في النسخ الحاضرة، وفي "موطأ يحيى": مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب أنه قال: بلغني أنّ رسول الله قال لرجل من أَسْلَم (بفتح فسكون: اسم قبيلة قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلم سالمها الله) ... إلخ، وقال ابن عبد البر في شرحه: لا خلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ يُدعَى (1) هَزَّالاً (2) : يَا هَزَّال لَوْ سَتَرْتَه بردائِك لَكَانَ خَيْرًا لَكَ، قَالَ يَحْيَى: فحدَّثتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ يزيدُ بْنُ نُعيم بْنِ هَزَّال، فَقَالَ: هَزَّالٌ جَدِّي، وَالْحَدِيثُ صحيحٌ حقٌّ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ. وَلا يُحَدَّ الرجلُ بِاعْتِرَافِهِ بِالزِّنَى حَتَّى يُقِرَّ أَرْبَعَ مراتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ مختلفة (4) ، وكذلك جاءت السُّنَّة (5) :   في إسناده في "الموطأ" كما ترى وهو مسند من طرق صحاح، ثم أخرجه من طريق النسائي عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن ابن هزّال، عن أبيه. (1) أي يسمى بهزال. (2) قوله: هزّالاً، هو بفتح الهاء وتشديد الزاء المعجمة بعد الألف لام، ابن ذئاب بن زيد بن كليب الأسلمي، وهو الذي كانت له جارية وقع عليها ماعز، فقال له هزّال: انطلق إلى رسول الله فأخبره فعسى أن ينزل قرآن، فأتاه، فكان ما كان فقال له النبي عليه السلام: يا هزالُ، لو سترتَه (قال الباجيّ: وكان ستره بأن يأمره بالتوبة وكتمان خطيئته، وإنما ذُكر فيه الرداء على وجه المبالغة. المنتقى 7/135) بثوبك أي لم تحرّضه على إفشاء السرّ لكان خيراً. وابنه نُعيم بن هزّال - بضم النون - قيل: له صحبة، وقيل: لا، وابنه يزيد تابعي ثقة، كذا ذكره ابن الأثير في "أسد الغابة"، و "جامع الأصول". (3) أي ثابت بلا شبهة. (4) قُيّد به لأن المجلس الواحد له أثر في توحّد المتعدّد. (5) المرفوعة وكذا الموقوفة كما مرّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 لا يُؤْخَذ الرجل باعترافه على نفسه بالزنى حَتَّى يُقِرّ أَرْبَعَ مرّاتٍ وَهُوَ (1) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. وَإِنْ أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ رَجَعَ (2) قُبِلَ رجوعُه (3) وخُلِّيَ (4) سبيلُه. 3 - باب الاستكراه (5) في الزناء 701 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدًا كَانَ (6) يَقُومُ عَلَى رَقِيقِ الخُمس، وَأَنَّهُ اسْتَكره جَارِيةً من ذلك الرقيق، فوقع (7) بها،   (1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وكذا أحمد في التربيع (مع الاختلاف بينهما في اشتراط تعدّد المجالس كما قال به الحنيفة، أو يكفي الإِقرار أربعاً في مجلس واحد، كما قال به الإمام أحمد. انظر أوجز المسالك 13/241) ، وخالف فيه الشافعي ومالك فقالا باكتفاء الإِقرار مرة اعتباراً بسائر الحقوق، وفي اشتراط اختلاف المجالس خلاف أحمد وابن أبي ليلى، ولنا ما ورد في بعض طرق قصة ماعز من التربيع في أربع مجالس، كذا في "البناية". (2) أي قبل حدّه أو في وسطه. (3) قوله: قُبِل رجوعه (أي يُقبل من المُقِرّ الرجوع عن الإِقرار ويسقط عنه الحدّ، وإلى ذلك ذهب أحمد والشافعية والحنفية وهو قول لمالك ورواية عنه. انظر هامش الكوكب الدري 2/241) ، لأنه وقع فيه شبه والحدود تندرئ بالشبهات، وفيه خلاف الشافعي، والتفصيل في كتب الفقه. (4) بصيغة المجهول من التخلية أي تُرك دونه. (5) قوله: كان يقوم، أي يخدم رقيق الخُمس الذي هو حق الإِمام من الغنيمة، ويدبّر حوائجهم بتولية من عمر بن الخطاب. (6) قوله: كان يقوم، أي يخدم رقيق الخُمس الذي هو حق الإِمام من الغنيمة، ويدبّر حوائجهم بتولية من عمر بن الخطاب. (7) أي وطئها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 فَجَلَدَهُ (1) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَنَفَاهُ (2) ، وَلَمْ يَجْلِدِ الْوَلِيدَةَ (3) مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا (4) . 702 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ (5) بْنَ   (1) لأنه كان غير مُحْصَن (جلده عمر بن الخطاب خمسين جلدة، فإنه حدّ العبد سواء كان بكراً أو ثيباً عند الجمهور، منهم الأئمة الأربعة خلافاً لبعض الصحابة والظاهرية، كذا في الأوجز 13/255، والمغني 9/174) . (2) أي أخرجه من البلد زجراً (أي غرّبه نصف سنة لأنّ حده نصف حد الحرّ، ويستفاد منه عمر رضي الله كان يرى أن الرقيق يُنفى كالحر. قال الزرقاني: لم يأخذ به مالك. شرح الزرقاني 4/149) . (3) أي الجارية. (4) فإنه لا حدّ على المُكْرَهة (قال الموفق: لا حدّ على مكرهة في قول عامة أهل العلم، وإن أُكره الرجل فزنى فقال أصحابنا: عليه الحدّ، وبه قال محمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة: إنْ أكرهه السلطان فلا حدّ عليه وإن أكرهه غيره حُدَّ استحساناً، وقال الشافعي: لا حدّ عليه. انظر المغني 8/187) ، إنما هو بالرضا. (5) قوله: أن عبد الملك، هو أحد خلفاء بني أمية، ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص، بُويع له بالخلافة يوم موت أبيه، وذلك سنة 65 خمس وستين، وهو أول من سُمِّي بعبد الملك في الإِسلام، وكانت في زمن خلافته وقائع مذكورة في "مرآة الجنان" لليافعي وغيره، وكانت وفاته على ما في "حياة الحيوان" سنة 86 ست وثمانين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 مَرْوَانَ قَضَى فِي امرأةٍ أُصيبت (1) مُسْتَكْرَهَةً بصَدَاقها (2) عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا استُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ (3) فَلا حَدَّ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَنِ اسْتَكْرَهَهَا الْحَدُّ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ (4) الْحَدُّ بَطَلَ الصَّدَاقُ، وَلا يَجِبُ (5) الْحَدُّ وَالصَّدَاقُ فِي جِمَاعٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ دُرِئَ عَنْهُ الحدُّ بِشُبْهَةٍ (6) وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 4 - بَابُ حَدِّ الْمَمَالِيكِ في الزناء (7) وَالسُّكْرِ (8) 703 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أن سليمان بن   (1) أي وطئت بالإِكراه. (2) أي بمهر مثلها. (3) أي بالزناء. (4) أي على المكره. (5) قوله: وَلا يَجِبُ الْحَدُّ وَالصَّدَاقُ فِي جِمَاعٍ وَاحِدٍ، احتراز عما إذا وقع جِماع ثانٍ، ولم يحدّ فيه بشبهة يجب فيه مهر المثل لعِظَم خطر منافع البضع، وأما إذا وجب الحدّ فلا يجب شيء من الضمان كما مع القطع في السرقة الضمان، وتفصيله في كتب الفقه. (6) سواء كانت الشبهة في المحلّ أو في الفعل، كما هو مفصّل في كتب الفروع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (1) بْنَ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ (2) : أَمَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي فِتْيَةٍ (3) مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَلَدْنَا ولائدَ (4) مِنْ وَلائِدِ الإِمارة خَمْسِينَ (5) خَمْسِينَ فِي الزناء (6) .   (7) قوله: عبد الله بن عَياش، بشد تحتيّة وشين معجمة، بن أبي ربيعة: اسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي القرشي الصحابي بن الصحابي، كذا قال الزرقاني. (8) قوله: قال أمرني ... إلخ، كذا رواه ابن جريج وابن عيينة وغيرهما، عن يحيى بن سعيد به، وروى معمر، عن الزهري أنَّ عمر بن الخطاب جلد ولائد من الخمس أبكاراً في الزناء، وهذا كله أصح وأثبت مما رُوي عن عمر أنه سئل عن الأمة كم حدُّها؟ فقال: ألقتْ فروتَها وراء الدار. وأراد بالفروة القناع أي ليس عليها قناع ولا حجاب لخروجها إلى كلّ موضع يرسلها أهلها إليه، لا تقدر على الامتناع منه، فلا تكاد تقدر على الامتناع من الزناء، فلا حدّ عليها إذا لا حجاب لها ولا قناع، وإنما عليها الأدب، وتُجلد دون الحد، وهكذا قال طائفة: لا حد على الأمة حتى تُزوَّج، وعليه تأوَّلوا حديث زيد وأبي هريرة: إذا زنت ولم تحصن، كذا ذكره ابن عبد البر. (1) قوله: عبد الله بن عَياش، بشد تحتيّة وشين معجمة، بن أبي ربيعة: اسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي القرشي الصحابي بن الصحابي، كذا قال الزرقاني. (2) قوله: قال أمرني ... إلخ، كذا رواه ابن جريج وابن عيينة وغيرهما، عن يحيى بن سعيد به، وروى معمر، عن الزهري أنَّ عمر بن الخطاب جلد ولائد من الخمس أبكاراً في الزناء، وهذا كله أصح وأثبت مما رُوي عن عمر أنه سئل عن الأمة كم حدُّها؟ فقال: ألقتْ فروتَها وراء الدار. وأراد بالفروة القناع أي ليس عليها قناع ولا حجاب لخروجها إلى كلّ موضع يرسلها أهلها إليه، لا تقدر على الامتناع منه، فلا تكاد تقدر على الامتناع من الزناء، فلا حدّ عليها إذا لا حجاب لها ولا قناع، وإنما عليها الأدب، وتُجلد دون الحد، وهكذا قال طائفة: لا حد على الأمة حتى تُزوَّج، وعليه تأوَّلوا حديث زيد وأبي هريرة: إذا زنت ولم تحصن، كذا ذكره ابن عبد البر. (3) بالكسر: جمع فتى أي في جماعة أحداث من قريش (قال الموفق: يجب أن يحضر الحدّ طائفة من المؤمنين، قال أصحابنا: الطائفة واحد فما فوقها، وقال مالك: أربعة لأنه العدد الذي يثبت به الزنا، وللشافعي قولان كقول الزهري ومالك. انظر المغني 8/170) . (4) جمع وليدة بمعنى الجارية. (5) هو نصف حدّ الحر. (6) أي بسببه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 704 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (1) ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهنيّ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عَنِ الأَمَةِ، إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَن (2) ؟ فَقَالَ: إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا (3) ، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ (4) فَاجْلِدُوهَا، ثم إذا   (1) محمد بن مسلم الزهري. (2) قوله: ولم تُحْصَن، قال النووي: قال الطحاوي: لم يذكر هذه اللفظة أحد من الرواة غير مالك. وأشار بذلك إلى تضعيفها، وأنكر الحفاظ عليه، وقالوا: بل روى هذه اللفظة أيضاً ابن عيينة ويحيى بن سعيد، عن ابن شهاب كما قال مالك، فحصل أن هذه اللفظة صحيحة وليس فيها حكم مخالف لأن الأَمَة تُجلد نصف جلد الحرة سواء أحصنت أو لم تحصن، كذا في "التنوير". وقال القسطلاني في "إرشاد الساري" تقييد حدِّها بالإحصان ليس بقيد، وإنما هو حكاية حال والمراد بالإِحصان ههنا ما هي عليه من عِفَّة، لا الإحصان بالتزوّج لأن حدها الجلد سواء تزوجت أم لا. (3) قوله: فاجلدوها، أي نصف جلد الحرة لقوله تعالى في كتابه: (فإذا أُحصِنّ) ، أي الفتيات (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) (سورة النساء: الآية 25) . وقد اختلف السلف ومَنْ بعدهم في تفسير الإِحصان الواقع في الآية: فجَمْعٌ منهم فسَّروه بالإِسلام، منهم ابن مسعود، فأخرج عبد الرزاق وعبد بن حُمَيد وابن جرير والطبراني أنه سئل عن أمةٍ زنت وليس لها زوج؟ قال: اجلدها خمسين، قال: إنها لم تحصن، قال: إسلامها إحصانها. ومنهم ابن عمر، أخرج عبد الرزاق عنه أنه قال: إذا كانت الأمة ليست بذات زوج فزنت جُلدت نصف ما على المحصنات. وأخرج نحوه ابن جرير، عن إبراهيم. وجَمْع فسَّروه بالتزوُّيج، منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 زنت فاجلدوها، ثم بيعوها (1) ولو   ابن عباس ومجاهد وغيرهما، فإنَّ عندهما لا تُحَدّ الأمة حتى تتزوج، أخرجه ابن المنذر ابن جرير وسعيد بن منصور والبيهقي وابن خزيمة وابن أبي شيبة وعبد الرزاق. والبسط في "الدرّ المنثور". (4) قوله: ثم إذا زنت فاجلدوها، ظاهر الحديث أنَّ الخطاب إلى الملاك، فيفيد جواز إقامة السيد على عبده وأمته الحدّ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم خلافاً للحنفية، واستثنى مالك القطع في السرقة، كذا في "إرشاد الساري". ومما يوافق الجمهور ما أخرجه الترمذي مرفوعاً: يا أيها الناس أقيموا الحدود على أرقّائكم، من أُحصن منهم ومن لم يُحصن. وأخرج أيضاً مرفوعاً: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها بكتاب الله. وفي رواية لأبي داود: أقيموا الحدود على ما ملكت أَيْمانكم، وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث على ما في "غاية البيان" وغيره بأنها محمولة على التسبّب بأن يكون المَوْلى سبباً في حدّ عبده بالمرافعة إلى الإِمام، واستدلوا على ما ذهبوا إليه بما أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن، قال: أربعة إلى السلطان، الصلاة والزكاة والحدود والقصاص. وأخرج عن عبد الله بن جرير قال: الجمعة والحدود والزكاة والفيء إلى السلطان. وكذا عن عطاء الخرساني (قال في الأوجز 13/252: إن الحدّ خالصُ حقّ الله تعالى فلا يستوفيه إلاَّ نائبه وهو الإِمام. وما رُوي عن الصحابة الذين تقدمت آثارهم في مباشرتهم الحدود من ابن عمر وعائشة وغيرهما تُحمل على إذن الإِمام) . وادعى بعضهم في هذا الرفعَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بصحيح كما بسطه العيني في "البناية". ولعل المنصف بعد إحاطة الكلام من الجوانب يعلم أن قول الجمهور قول المنصور. (1) قوله: ثم بيعوها، الأمر للندب عند الشافعية والحنفية والجمهور، وزُعم أنه للوجوب ولكنه نسخ، ذكره القسطلاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 بضَفِير (1) . قال ابن شهاب: لا أدري (2) أ (3) بعد الثَّالِثَةِ أَوِ (4) الرَّابِعَةِ. وَالضَّفِيرُ (5) : الْحَبْلُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يُجلد الْمَمْلُوكُ وَالْمَمْلُوكَةُ فِي حَدِّ الزِّنَا نِصْفَ حَدِّ الحرَّة خَمْسِينَ جَلْدَةً، وَكَذَلِكَ الْقَذْفُ (6) وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ (7) . وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 705 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أبو الزناد، عن عمر (8) بن   (1) قوله: ولو بضفير، فعيل بمعنى المفعول، وهو الحبل المضفور، أي وإن كان البيع بحبل، وذكره للمبالغة في التنفير عن الأمة الزانية لما في ذلك من الفساد، كذا في "إرشاد الساري". (2) قد ورد في "جامع الترمذي: وغيره من حديث أبي هريرة ذكره بعد الثالثة. (3) بهمزة الاستفهام، أي هل ذكرتم "بيعوها ولو بضفير" بعد الثالثة أو الرابعة. (4) في نسخة: أو بعد. (5) قوله: والضفير، الحبل، قال القاري: يُحتمل أن يكون من كلام الزهري أو من تفسير غيره. انتهى. أقول: لا بل هو من كلام مالك كما يشهد به "موطأ يحيى". (6) أي يُحدّ فيه نصف حد الحرّ أربعون جلدة. (7) هو إما بالضم معطوف على شرب الخمر أي في السكر الحاصل من غير الخمر، فإن الخمر شربه مطلقاً موجِب للحدّ أسْكَر أو لم يُسْكر، وإما بفتحتين معطوف على الخمر أي شرب شراب مسكر مطلقاً أو نوعاً خاصّاً كما مرَّ. (8) قوله: عن عمر بن عبد العزيز، هو أحد الخلفاء الراشدين أبو حفص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 عَبْدِ الْعَزِيزِ: أنَّه جَلَدَ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ (1) ثمانين (2) . قال أبو زناد: فسألتُ عبدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: أدركتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَالْخُلَفَاءَ هَلُمْ (3) جَرّاً، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا ضَرَبَ عَبْدًا فِي فِرْيَة أكثر (4) من أربعين. قال محمد: وبهذذا نَأْخُذُ، لا يُضرب الْعَبْدُ فِي الفِرْية إلاَّ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً نِصْفَ (5) حَدِّ الْحُرِّ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، كان على صفة من العلم والزهد والتقى والعدل والعفَّة وحُسْن السيرة لا سيما في أيام ولايته، ولي الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك بن مروان سنة تسع وتسعين، ومات سنة إحدى ومائة، ومناقبه كثيرة، وقد عُدَّ من المجدِّدين على رأس المائة، كذا في "جامع الأصول". (1) قوله: فِرْية، بكسر الفاء وسكون الراء بمعنى الكذبة والافتراء، يُقال: هذا فرية بلا مرية، والمراد به القذف. (2) قوله: ثمانين، أخذاً من ظاهر قوله تعالى: (والذين يَرْمُون المُحْصَنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) (سورة النور: الآية 4) ، فإنه ليس فيه تفصيل بين الحرّ والعبد. (3) أي من عهد عثمان إلى عهد عمر بن عبد العزيز. (4) قوله: أكثر من أربعين، لأنهم خصَّصوا الآية بالأحرار لقوله تعالى في حد الزناء: (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) (سورة النساء: الآية 25) ، ومن المعلوم أن العبد كالأمة وأن حدّ القذف كحد الزناء. (5) أي هو نصفه وهو ثمانون جلدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 706 - أخبرنا مالك، حدَّثنا ابن شهاب و (1) سُئل عَنْ حَدِّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ؟ فَقَالَ: بَلَغَنَا (2) أنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ حَدِّ الحُرّ، وأنَّ عَلِيًّا وعُمَر وَعُثْمَانَ وَابْنَ عَامِرٍ (3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَلَدُوا عَبِيدَهُمْ نِصْفَ حَدِّ الحُرّ فِي الْخَمْرِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ. الْحَدُّ فِي الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ (4) ثَمَانُونَ، وَحَدُّ الْعَبْدِ (5) فِي ذَلِكَ أَرْبَعُونَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 5 - بَابُ الْحَدِّ فِي التَّعْرِيضِ (6) 707 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الرِّجَالِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أمِّه عَمَرة بنت عبد الرحمن: أن رَجُلَيْنِ فِي زَمَانِ عُمَرَ اسْتَبَّا (7) ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَا أَبِي بزانٍ وَلا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَاسْتَشَارَ (8) فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَح أَبَاهُ وَأُمَّهُ (9) ، وَقَالَ آخَرُونَ: وَقَدْ كَانَ لأبيه   (1) الواو حالية. (2) أي عن النبي صلى الله عليه وسلم. (3) أي عبد الله بن عامر. وفي "موطأ يحيى" مكانه: وابن عمر. (4) أي المسكر من غير الخمر. (5) فإن حد العبد نصف حدّ الحرّ مطلقاً. (6) أي سبّ كلُّ واحد منهما الآخر. (7) أي سبّ كلُّ واحد منهما الآخر. (8) أي جمعاً من العلماء والصحابة. (9) أي فلا حدَّ عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 وَأُمِّهِ مَدْحٌ (1) سِوَى (2) هَذَا، نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الحدَّ (3) ثَمَانِينَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدِ اختَلف فِي هَذَا (4) عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أصحابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نَرَى عَلَيْهِ حَدًّا، مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَأَخَذْنَا (5) بقول من درأ   (1) أي فعدوله إلى هذا في مقام السب دليل على التعريض بسبّ أبوي خصمه بالزناء. (2) صفة لمدح، يعني إنما عرَّض بقوله: والله ما أبي بزانٍ، ولا أمي بزانية، أنّ أبوي الآخر كانا زانيين. ولا يُقهم من قوله هذا إلاَّ زنى أبوي الآخر، لأنه كان يمدح أبويه. فينبغي له أن يمدح غير هذا، وإنما أراد بهذا قذف والدي الآخر فيرى أن يجلده. (3) هو حدّ القذف. (4) أي هذا الحكم. (5) قوله: فأخذنا، أي احتياطاً مع كون التعريض مشتملاً على الشبهة، والحدود تندرئ بالشبهات كما ورد به الخبر، ففي "جامع الترمذي" من حديث عائشة مرفوعاً: ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعنم، فإن كان له مخرج فخلُّوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة. قال الحافظ ابن حجر: وأخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي، وقال: كونه موقوفاً أقرب إلى الصواب. وفي باب عن علي: ادرءوا الحدود، أخرجه الدارقطني. عن أبي هريرة: ادرءوا الحدود ما استطعتم، أخرجه أبو يعلى. ولابن ماجه: ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعاً. وفي "شرح القاري": قال مالك وأحمد (وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس في التعريض حدّ. المنتقى 7/150) في رواية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 الْحَدَّ (1) مِنْهُمْ وَمِمَّنْ دَرَأَ الْحَدَّ وَقَالَ: لَيْسَ فِي التَّعْرِيضِ جَلْدٌ (2) عليُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 6 - بَابُ الحدِّ فِي الشُّرْبِ (3) 708 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أن السائب بن يزيد   يجب الحد في التعريض عملاً بقول عمر ومن وافقه، ولنا ما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن أعربياً قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمُر، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا من أوراق؟ قال: نعم، قال: فأَنَّى لأتاها ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: فكذالك هذا الولد لعله نزعه عرق. وترجم عليه البخاري "بباب إذا عرَّض بنفي الولد". وما روى أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن امرأتي لا تمنع يدَ لامس، فقال: غَرِّبها أي طلِّقها، قال: أخاف أن تتبَعَها نفسي، قال: فاستمتع بها، وفي رواية: فأمسكها. وقوله: لا تمنع يدّ لامس، كناية عن زناها، ولأن الله فرَّق بين التعريض بالخِطبة في العِدَّة، فأباحه، وبين التصريح فمنعه، حيث قال: (ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خِطبة النساء) (سورة البقرة: الآية 235) ، فيفرَّق ههنا أيضاً، ولأن الله أوجب الحدَّ بالقذف بصريح الزناء، فلم يمكن لنا إيجابه بكناية إلحاقاً لها به دلالة، لأن الكناية دون التصريح لما فيها من الإِجمال. (1) أي دفع. (2) أي حد القذف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 أَخْبَرَهُ قَالَ: خَرَجَ (1) عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنِّي وجدتُ مِنْ فُلانٍ (2) رِيحَ شَرَابٍ، فسألته، فزعم (3) أنه شرب طِلاء (4) ، وأنا   (3) قوله: خرج علينا، وفي رواية الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق سليمان بن بلال، عن ربيعة، عن السائب بن زيد: أن عمر صلَّى على جنازة، فلما انصرف أخذ بيد ابنٍ له، ثم أقبل على الناس فقال: إني وجدت من هذا ريح الشراب (لقد اختلف الفقهاء في وجوب الحدّ بالرائحة، فذهب مالك وجماعة من أصحابه إلى أن الحدّ يجب على من وُجد فيه ريح المسكر، ومنع من ذلك أبو حنيفة والشافعي وقالا: لا حدّ عليه. والدليل على ما ذهب إليه مالك وأصحابه ما رُوي عن السائب بن يزيد، أنه حضر عمر بن الخطاب وهو يجلد رجلاً وجد منه ريح شراب فجلده الحد تامّاً، كذا في "الأوجز" 13/338) ، وإني سائل عنه، فإن كان سكر جلدناه، قال السائب: فرأيت عمر جلد ابنه بعد ذلك ثمانين سوطاً. (1) قوله: خرج علينا، وفي رواية الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق سليمان بن بلال، عن ربيعة، عن السائب بن زيد: أن عمر صلَّى على جنازة، فلما انصرف أخذ بيد ابنٍ له، ثم أقبل على الناس فقال: إني وجدت من هذا ريح الشراب (لقد اختلف الفقهاء في وجوب الحدّ بالرائحة، فذهب مالك وجماعة من أصحابه إلى أن الحدّ يجب على من وُجد فيه ريح المسكر، ومنع من ذلك أبو حنيفة والشافعي وقالا: لا حدّ عليه. والدليل على ما ذهب إليه مالك وأصحابه ما رُوي عن السائب بن يزيد، أنه حضر عمر بن الخطاب وهو يجلد رجلاً وجد منه ريح شراب فجلده الحد تامّاً، كذا في "الأوجز" 13/338) ، وإني سائل عنه، فإن كان سكر جلدناه، قال السائب: فرأيت عمر جلد ابنه بعد ذلك ثمانين سوطاً. (2) قوله: من فلان، قال الزرقاني: هو ابنه عبيد الله - مصغَّراً - كما في "البخاري" ورواه سعيد بن منصور، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن السائب فسماه عبيد الله. انتهى. وبه يظهر ما في قول القاري: قيل فلان كناية عن ابنه وله ثلاثة أولاد، وكلَّ منهم مسمى بعبد الرحمن، وهم عبد الرحمن الأكبر وله صحبة، وعبد الرحمن الأوسط وهو الذي جُلد في الخمر، وعبد الرحمن الأصغر وهو المعروف بالمجبَر - بفتح الباء -. (3) أي قال. (4) قوله: طِلاء، بكسر أوله ممدوداً، ما طبخ من العصير حتى يغلظ وشُبِّه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 سَائِلٌ (1) عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسكر جَلَدْتُهُ الْحَدَّ، فَجَلَدَهُ (2) الْحَدَّ. 709 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدَّيْلي (3) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَشَارَ (4) في الخمر   بطلاء الإِبل، وهو القَطِران الذي يُطلى به في الجرب، كذا في "مقدمة فتح الباري". (1) أي عما شرب، كما في "موطأ يحيى" عن كيفيته: هل هو مسكر أم لا؟. (2) قال السائب: فرأيت عمر جَلَدَ ابنَه بعد ذلك ثمانين، أخرجه الطحاوي. (3) بكسر الدال وسكون الياء. (4) قوله: استشار، إنما احتاج إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدِّر فيه حدّاً مضبوطاً، بل كان يضرب شارب الخمر على عهده بالجريد والنعال وغير ذلك، وكذلك كان في عهد أبي بكر وصدر من عهد عمر، وكان أحياناً أبو بكر يجلده أربعين، وكذلك عمر في صدر إمارته حتى استشار وانعقد رأيهم على ثمانين، كما أخرجه البخاري وغبره. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بعدما أخرج الآثار في التقدير بثمانين من طريق عبد الرحمن بن صخر الإِفريقي عن حميل بن كريب، عن عبد الله بن زيد، عن عبد الله بن عمرو: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: من شرب خمراً فاجلدوه ثمانين، وقال: هذا الذي وجدناه فيه التوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنْ كان ذلك ثابتاً فقد ثبت به الثمانون، وإن لم يكن ثابتاً فقد ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد تقدم منا ذكره في هذا الباب من إجماعهم على الثمانين، ومن استنباطهم من أخفِّ الحدود، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. انتهى. وقال ابن عبد البر: الجمهور من علماء السلف والخلف على أن الحد في الشرب ثمانون، وهو قول الثوري والأَوْزعي وإسحاق وأحمد وأحد قولي الشافعي، واتفق إجماع الصحابة في زمن عمر على ذلك، ولا مخالف لهم، وعلى ذلك جماعة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 يَشْرَبُهَا (1) الرَّجُلُ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَرَى أَنْ تَضْرِبَهُ (2) ثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ (3) إِذَا شَرِبَهَا سَكِر (4) ، وإذا سَكِر هذى (5) ، وإذا هذى   التابعين، والخلاف في ذلك كالشذوذ المحجوج بالجمهور (قال الزرقاني 4/167: وتُعُقِّب بما في الصحيح عن عليّ أنه جلد الوليد في خلافة عثمان أربعين، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكلّ سنة. وهذا أحبّ إليَّ، فلو أجمعوا على الثمانين في عمر لما خالفوا في زمن عثمان وجلدوا أربعين إلاَّ أن يكون مراد أبي عمر أنهم أجمعوا على الثمانين بعد عثمان فيصح كلامه) ، وقد قال ابن مسعود: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وقال النبي عليه السلام: عليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين. انتهى. وذكر العيني في "عمدة القاري" أن مذهب الشافعي وأهل الظاهر هو الجلد أربعين، وهو قول عثمان والحسن بن علي وعبد الله بن جعفر. (1) أي في قدر حدّه. (2) أي كحدّ القذف. (3) قوله: فإنه إذا شرب، استنباط لطيف من عليّ على جَعْل حدَّه كحدّ القذف بأن الشُّرب مفضٍ إلى السكر، وهو مفضٍ إلى الهذيان المفضي إلى القذف، فينبغي أن يقرَّر فيه ما يقرر في القذف. وعند مسلم: أن عمر لما استشار الناس قال عبد الرحمن بن عوف: أخفُّ الحدود ثمانون، فأمر به عمر. ولعلَّ كلاًّ منهما أشار بما وضح لديه من التوجيه، واتفقا على مقدار الحدّ. وقد أخرج البخاري عن علي أنه جلد الوليد في خلافة عثمان أربعين، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلُّ سنة، وهذا أحبُّ إليَّ. (4) أي زال عقله. (5) من الهذيان أي خَلَط كلامَه وتكلَّم بما لا يعني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 افْتَرَى (1) . أَوْ (2) كَمَا قَالَ. فجَلَد عُمَرُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ. 7 - بَابُ شُرْبِ البِتْعِ والغُبَيْرَاء وَغَيْرِ ذَلِكَ (3) 710 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ البِتْع (4) ؟ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فهو حرام (5) .   (1) أي كذب وقذف. (2) شكّ من الراوي. (3) قوله: عن البِتْع، بكسر الموحدة وقد تُفتح، وسكون الفوقية، وتُفتح، ثم عين مهملة، هو شراب العسل. وكان أهل اليمن يشربونه كما زاد في رواية عند البخاري، قال ابن حجر في "المقدمة": لم أقف على اسم السائل لكني أظنه أبا موسى الأشعري كما عند البخاري في "المغازي" عن أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربه تُصنع بها، فقال: ما هي؟ قال: البتع والمرز. (4) قوله: عن البِتْع، بكسر الموحدة وقد تُفتح، وسكون الفوقية، وتُفتح، ثم عين مهملة، هو شراب العسل. وكان أهل اليمن يشربونه كما زاد في رواية عند البخاري، قال ابن حجر في "المقدمة": لم أقف على اسم السائل لكني أظنه أبا موسى الأشعري كما عند البخاري في "المغازي" عن أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربه تُصنع بها، فقال: ما هي؟ قال: البتع والمرز. (5) قوله: فهو حرام، ظاهره شرب قليل كل مسكر وكثيره، أسكر أو لم يُسكر، وقد ورد التصريح بذلك عند أبي داود والنسائي وغيرهما، وهو مذهب الأئمة الثلاثة ومحمد من أصحابنا، بل الجمهور. وذهب بعض قدماء أصحابنا إلى أن الخمر، وهو الذي من عصير العنب يحرم قليله وكثيره، وغيره من المسكرات يحرم قدر المسكر منه دون القليل، وهو أمر تخالفه الأحاديثُ الصحيحة الصريحة على ما لا يخفى على ماهر الفن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 711 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن النبي (1) صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الغُبَيْراء (2) ؟ فَقَالَ: لا (3) خَيْرَ فِيهَا، وَنَهَى (4) عَنْهَا. فَسَأَلْتُ (5) زَيْدًا مَا الغُبَيْراء؟ فَقَالَ: السُكُرْكَة (6) . 8 - بَابُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَمَا يُكره مِنَ الأَشْرِبَةِ 712 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بن أسلم، عن أبي وَعْلة (7)   (1) قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البر: أسنده ابن وهب، عن مالك، عن زيد، عن عطاء، عن ابن عباس، وما علمتُ أحداً أسنده عن مالك غيره. (2) قوله: عن الغبيراء، قال الزرقاني: بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون التحتية، فراء، فألف ممدودة نبيذ الذرة، وقيل: نبيذ الأرز، وبه جزم ابن عبد البر. (3) أي لأنه مسكر. (4) أي تحريماً. (5) السائل هو مالك كما صرح به في "موطأ يحيى". (6) قال في "جمع البحار" (3/93. وفي غريب الحديث 2/488 لابن الجوزي: السُّكْرُكَة: خمر الحبشة، قال أبو عبيد: هي من الذرة، قال الأزهري: ليست عربية) السكركة: بضم سين وكاف أولاً وسكون راء، هو الغبيراء، وهو نوع من الخمر يُتَّخذ من الذرة وهي خمر الحبشة، وهو لفظ حبشي فعُرِّبت، وقيل: السفرقع. (7) قوله: عن أبي وَعْلة، هكذا وُجد في نسخ عديدة، وهو ابن وعلة كما في "موطأ يحيى" وفي رواية ابن وهب عن مالك، عن زيد، عن عبد الرحمن بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 الْمِصْرِيِّ، أنَّه سُئل ابْنُ عَبَّاسٍ عَمَّا (1) يُعصرَ مِنَ الْعِنَبِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْدَى رَجُلٌ (2) لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ (3) خمرٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ علمتَ (4) أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ حرَّمها (5) ؟ قال: لا (6) ،   وعلة السَّبائي من أهل مصر، وفي "جامع الأصول": ابن وعلة هو عبد الحمن بن وعلة السبائي، تابعي، ووَعْلة بفتح الواو وسكون العين وفتح اللام. انتهى. وذكر السمعاني في "الأنساب" السبائي نسبة إلى سّبا بفتح السين المهملة والباء المنقوطة من تحت بواحدة وفتحها. وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهم رهط ينتسبون إليه عامَّتهم من أهل مصر، ثم قال: منهم عبد الرحمن بن أُسْمَيْفع بن وعلة، يروي عن ابن عمر وابن عباس كان شريفاً بمصر. انتهى. وفي "إسعاف السيوطي": وثقةه النسائي وابن معين والعجلي. (1) أي عن حلَّه وحرمته. (2) قال الزرقاني: هو كيسان الثقفي، كما رواه أحمد من حديثه. (3) بكهال (بالفارسية) . قوله: رواية خمر: أي مزادة. وأصل الراوية البعير يَحمل الماء، والهاء فيه للمبالغة، ثم أطلقت على كل دابَّة يُحمل عليها الماء، ثم على المزادة فقط، وهو وعاء كبير من الجلد يُحمل على البعير والثور. وفي رواية أحمد كان يتَّجر في الخمر، وأنه أقبل من الشام، فقال: يا رسول الله، إني جئتك بشراب جيَّد. وعنده أيضاً من حديث ابن عباس: كان للنبي صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس فلقيه يوم الفتح برواية خمر يهديها إليه، فظاهره أن تحريم الخمر كان سنة ثمان قبل الفتح، وقيل: كان سنة أربع، وقيل سنة ست، ثم لا يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب الخمر قبل تحريمه، فإن الله قد صانه عنه، وهو لم يشرب خمر الجنَّة في ليلة المعراج، بل كان يُهدي ما أُهدي إليه أو يتصدق، كذا في "فتح الباري" وغيره. (4) في رواية يحيى: أما علمتَ؟. (5) أي بآية المائدة. (6) أي ما علمت بحرمته، فأهديتهُ إليك لجهلي بذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 فسارَّه (1) إِنْسَانٌ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ لَهُ (2) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ ساررتَه (3) ؟ قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي حرَّم شُرْبَهَا حرَّم بَيْعَهَا. قَالَ (4) : فَفَتَحَ (5) الْمَزَادَتَيْنِ (6) حَتَّى ذَهَبَ ما فيهما.   (1) سر كَوشي كرد (بالفارسية) قوله: فسارَّه، أي كلَّم هذا المُهدي إنسانٌ حاضرٌ عند ذلك شيئاً سرّاً، وفي رواية أحمد عن ابن عباس: فأقبل الرجل على غلامه، فقال: بِعْها، ولابن وهب: فسارّ إنساناً. (2) أي للرجل السارّ أو المهدي وهو الموافق لرواية ابن عباس عند ابن مردويه. (3) أي بأي شيء تكلمته خُفية (قال الباجي: لما قال المهدي لا إظهاراً لعذره سارَّه إنسان إلى جانبه بما ظن أنه يرشده به إلى منفعته، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من مسارته ولم يثق بعلمه وتوقَّع أن يأمره بمثل ما أظهره بعد ذلك سأله عما سارَّه به، فإن كان صواباً أقرَّه عليه وثبَّته فيه، وإن كان خطأً حذَّره منه. قال النووي: فيه دليل لجواز سؤال الإِنسان عن بعض أسرار الإِنسان، فإنْ كان مما يجب كتمانه كتمه وإلاَّ فيذكره. انظر أوجز المسالك 13/358) . (4) أي الراوي. (5) يستفاد منه وجوب إراقة الخمر ونحوه (قال النووي: في الحديث دليل لمذهب الشافعي والجمهور أن أواني الخمر لا تُكسر، ولا تشقّ، بل يراق ما فيها، وعن مالك رويتان: إحدهما: كالجمهور، والثانية: يُكسر الإِناء ويُشقّ السِّقاء، وهذا ضعيف لا أصل له. وأما حديث أبي طلحة أنهم كسروا الدِّنان فإنهم فعلوا ذلك بأنفسهم من غير أمر النبي صلى الله عليه وسلم. كذا في الأوجز 13/358) . (6) قال في "النهاية: بفتح الميم: ظرف يُحمل فيه الماء كالقِربة والراوية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 713 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ رَجُلا (1) مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: إنَّا نَبْتَاعُ (2) مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ وَالْقَصَبِ (3) ، فَنعصره خَمْرًا فَنَبِيعَهُ (4) ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ (5) عَلَيْكُمْ وملائكتَه وَمَنْ سَمِعَ مِنَ الجنِّ والإِنس أَنِّي لا آمُرُكُمْ أَنْ تَبْتَاعُوهَا (6) ، فَلا تَبْتَاعُوهَا (7) ، وَلا تَعْصِرُوهَا، وَلا تَسْقُوهَا، فَإِنَّهَا رِجْسٌ (8) مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. ما كرهنا (9) شُربَه من الأشربة الخمر   (1) في "موطأ يحيى": أن رجلاً من أهل العِراق قالوا له: يا أبا عبد الرحمن. وهو بالكسر إقليم معروف منه الكوفة والبصرة وغيرهما. (2) أي نشتري. (3) أي قصب السُّكّر. (4) قوله: فنبيعه، لعلهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، فلم يبلغهم تحريم الخمر أو بلغهم ذلك وظنّوا أن المحرم إنما هو الشرب دون البيع، فليس كل ما لا يحل أكله وشربه يحرم بيعه. (5) أتى بذلك لزيادة التأكيد. (6) أي الخمر. وفي رواية يحيى: لا آمركم أن تبيعوها. (7) أي لا تشتروا. (8) بالكسر أي نجس، وفيه اقتباس من الآية (والآية هي: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجْسٌ من عمل الشيطان ... ) ، سورة المائدة: الآية 90) . (9) أي حرَّمنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وَالسُّكْرِ (1) وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلا خَيْرَ (2) فِي بَيْعِهِ ولا أكل ثمن. 714 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا (3) حُرِمَها (4) فِي الآخِرَةِ فَلَمْ يُسْقَها.   (1) قوله: والسكر، قال العيني في "البناية" عند قول صاحب "الهداية": ومن أقرَّ بشرب الخمر والسكر ... إلخ: هو بفتحتين، نقيع التمر إذا غلا واشتد ولم يُطبخ، كذا فسره الناطفي في "الأجناس"، وقال في "ديوان الأدب": السكر خمر النبيذ، وقال في "المجمل": السكر شراب أسكر، وقال في "المغرب": السكر عصير الرُّطَب. والمراد ههنا ما ذكره الناطفي، وإنما خصه بالذكر مع أن الحكم في سائر الأشربة كذلك لأن السكر كان الغلب في بلادهم. (2) بنفي الجنس فيدل على حرمته. (3) أي مِنْ شُربها. (4) قوله: حُرِمَها، بصيغة المجهول من الحرمان، قال البغوي والخطابي: معناه لا يدخل الجنة لأن الخمر شراب أهل الجنة، فإذا حُرِمَ شربها عُلم أنه لا يدخلها، وقال ابن عبد البر: هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة، لأن الله أخبر أن في الجنة أنهاراً من خمر لَذَّة للشاربين، وأنهم لا يُصدَّعون عنها ولا ينزفون، فلو دخلها وقد علم أن فيها خمراً وأنه حُرِمها عقوبةً له لزم وقوع الهمّ والحزن له، والجنة لا حزن فيها، وإن لم يعلم بذلك لم يكن عليه ألم، فلا يكون عقوبة، فلهذا قال بعض من تقدم: إن شارب الخمر لا يدخل الجنة أصلاً، وهو مذهب غير مرضي. ويحمل الحديث عند أهل السنَّة على أنه لا يدخلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 715 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأنصَاريّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: كنتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ (1) بْنَ الجرَّاح وَأَبا طَلْحَةَ (2) الأَنْصَارِيَّ وَأُبَيَّ (3) بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيْخ (4) وَتَمْرٍ، فَأَتَاهُمْ (5) آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمت، فَقَالَ أَبُو طلحة:   (إنما هو إذا استحلها لأنه إذا أدمنها فكثيراً ما لا يبقى في قلبه حرمتها، أو النفي غير مؤبَّد أي لم يشربها إلى حين انقضاء أيام الجزاء الذي قدِّر له، كذا في الكوكب الدريّ 4/31) ، ولا يشرب الخمر فيها إلاَّ أن يعفو الله عنه كما في سائر الكبائر. فمعناه: جزاؤه أن يُحْرمَ دخول الجنة إلاَّ أن يُعفى عنه، وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ولا يشرب فيها خمراً ولا تشتهيها نفسه، وإن علم وجوده فيها، كذا في " فتح الباري". (1) أحد العشرة. (2) قوله: أبا طلحة، هو زوج أم أنس أم سُلَيم، اسمه زيد بن سهل ابن الأسود الأنصاري النجّاري، مشهور بكنيته من كبار الصحابة شهد بدراً وما بعدها، مات سنة أربع وثلاثين كذا في "التقريب". (3) قوله: أُبيّ، - بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وشد الياء المثناة التحتية - بن كعب بن قيس الأنصاري النجّاري، أبو المنذر، من فضلاء الصحابة وسيِّد القراء، مات سنة تسع عشرة أو سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك، كذا في "التقريب". (4) قوله: من فضيح، قال الكرماني في "الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري": الفضح: الشدخ، والفضيخ: شراب يُتخذ من البُسر من غير أن تمسَّه النار، وقيل: أن يُفضخ البسر ويُصب عليه الماء ويُترك حتى يغلي، وقيل: هو شراب يؤخذ من البسر والتمر كليهما. ويؤيد هذا التفسير الأخير ما في "صحيح البخاري" عن أنس: أن الخمر حُرِّمت والخمر يومئذٍ البسر والتمر. وعند مسلم: كنت أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر. (5) قوله: فأتاهم آتٍ، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 يَا أَنَسُ (1) ، قُمْ (2) إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ، فَاكْسِرْهَا (3) فقمتُ إِلَى مِهْراس (4) لَنَا فضربتُها (5) بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ (6) .   (1) في رواية للبخاري: قم يا أنس فأهرقها، قال: فأهرقتُها. (2) قوله: قم إلى هذه الجرار، بكسر الجيم جَمْع جَرَّة بالفتح وتشديد الراء، هو الظرف من الخَزَف والطين يوضع فيه الماء وغيره من الأشربة. وفيه دلالة إلى أن خبر الواحد حجة فإنهم أخذوا به في نسخ الحكم السابق، وهو حِلّ الخمر، وعملوا على وفقه من دون انتظار تعدُّد المُخْبرين. (3) أي لينصبَّ ما فيها. (4) قوله: إلى مِهْراس، قال الزرقاني: بكسر الميم وسكون الهاء فراء فألف فسين مهملة، حجر مستطيل ينقر ويدق فيه، ويتوضأ به، وقد استعير للخشبة التي يدق فيها الحب، فقيل له مهراس على التشبيه بالمهراس من الحجر أو الصخر الذي يُهرس فيه الحبوب، وغيرها. انتهى. وفي "مجمع البحار": هو حجر يشاد (هكذا في الأصل، والصواب يشال به لتعرف به شدة الرجال كما في غريب الحديث لابن الجزري (2/496)) به شدة الرجال سُمِّي به لأنه يُهراس به أي يُدَقّ. وأراد ههنا حجرا كان لهم يدقون به ما يحتاجون إليه، وهو في غير هذا الموضع صخرة منقورة يكون فيها الماء ولا يقلّه الرجال، يسع كثيراً من الماء (انظر: مجمع بحار الأنوار 4/633. ويقال له بالفارسية الجواز وبالهندية (أوكهلى) . قال الحافظ: المهراس - بكسر الميم - إناء يتخذ من صخر وينقر وقد يكون كبيراً كالحوض، وقد يكون صغيراً بحيث يتأتى الكسر به وكأنه لم يحضره ما يكسر به غيره أو كسر بآلة المهراس التي يدق بها فيه كالهاون، فأطلق عليه مجازاً. فتح الباري 10/38. قال شيخنا في الأوجز 13/360، قلت: أو باعتبار المعنى اللغوي فإن الهرس لغة الدق فالمهراس آلته) . (5) أي الجرار. (6) في نسخة: انكسرت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 قَالَ مُحَمَّدٌ: النَّقِيعُ (1) عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ (2) . وَلا يَنْبَغِي (3) أَنْ يُشرب مِنَ البُسرْ (4) وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ جَمِيعًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا (5) كَانَ شَدِيدًا يُسْكِر. 9 - بَابُ (6) الْخَلِيطَيْنِ 716 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ (7) عِنْدِي، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (8) بْنِ حُبَاب الأسلمي، عن   (1) قوله: النقيع، قال في "المُغرب": أنقع الزبيب في "الخابية" ونقعه ألقاه فيها ليبطل، وتخرج منه الحلاوة، وزبيب منقع بالفتح مخفَّفاً، واسم الشراب نقيع. انتهى. وفي "النهاية حاشية الهداية": ما يتخذ من الزبيب شيئان نقيع ونبيذ، أما النقيع فهو ما يُتَّخَذ بأن يُترك في الماء أياماً حتى يستخرج الماء حلاوته، فما دام حلواً يحلّ بالإِجماع، وإن غلا فاشتد وقذف بالزبد ففيه خلاف، وأما النبيذ فهو الذي من ماء الزبيب إذا طبخ أدنى طبخة. (2) أي حرام غير مشروع فإنَّ عند محمد كل مكروه حرام. (3) أي لا يحل. (4) بضم الباء وسكون السين التمر قبل إطابه، وبعد ما نضج يسمى رُطَباً، بضم الراء وفتح الطاء. (5) وإن لم يسكر لا يحرم. (6) قوله: أخبرنا الثقة عندي، قال الزرقاني: قيل: هو مخرمة بن بكير أو ابن لهيعة، فقد رواه الوليد بن مسلم عن عبد الله بن لهيعة. (7) قوله: أخبرنا الثقة عندي، قال الزرقاني: قيل: هو مخرمة بن بكير أو ابن لهيعة، فقد رواه الوليد بن مسلم عن عبد الله بن لهيعة. (8) قوله: عن عبد الرحمن بن حُبَاب، - بضم الحاء المهلة وخفة الباء - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ شُرْبِ (1) التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا، والزَّهْو (2) والرُّطَب جَمِيعًا. 717 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى (3) أن ينبذ البسر والتمر جميعاً، والتمر والزبيب جميعاً.   الأسلمي المدني الأنصاري، وثقه ابن حيان، كذا في "التقريب" و " الإسعاف". (1) في رواية يحيى: نهى أن يشرب. (2) قال القاري: بالفتح وسكون الهاء، الملَّون من البُسر، على ما في "المُغرب") (3) قوله: نهى أن يُنبذ، قد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهور والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدة. وعند مسلم عن أبي سعيد مرفوعاً: من شرب منكم النبيذ فليشربه زبيباً فرداً، أو تمراً فرداً أو بسراً فرداً. وبظاهر هذه الأحاديث ذهب مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه إلى تحريم النبيذ الذي جُمع فيه بين الخلطين، وإن لم يكن المتخذ منهما مسكراً، وقال أبو حنيفة والشافعي في قوله الآخر: لا يحرم (في "تنسيق النظام" ص 202: الخليطان: قد حَرَّمهما محمد من أصحابنا، وبه يُفتى عند الحنفية) ما لم يسكر، كذا ذكره القاري وفي "البناية" وغيره: أن هذا النهي إرشادي، كان في زمن الجدب والقحط، فأما في زمان السعة فلا بأس به لما أخرجه ابن عدي في "الكامل" عن أم سليم وأبي طلحة: أنهما كانا يشربان نبيذ البسر والزبيب يخلطانه، فقيل لأبي طلحة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فقال: إنما هو ذلك الزمان، كما نهى عن الإِقران الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 10 - بَابُ نَبِيذِ (1) الدُّبَّاء والمُزَفَّت 718 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نافع، عن ابن عمر: أنَّ   بين التمرين. وأخرج أبو داود عن عائشة: أن رسوا الله صلى الله عليه وسلم كان يُنبذ له بنبيذ يُلقى فيه تمر فيلقى فيه زبيب. وفي الباب آثار وأخبار أُخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ (1) . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فأقْبَلْتُ نحوَه (2) فَانْصَرَفَ (3) قَبْلَ أَنْ أبلُغَه فَقُلْتُ (4) : مَا قَالَ؟ قَالُوا (5) نَهَى أَنْ يُنْبَذَ (6) فِي الدُّبّاءِ والمزفَّت. 719 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ أَخْبَرَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ.   (1) في بعض مغازيه: أي في بعض غزواته. (1) في بعض مغازيه: أي في بعض غزواته. (2) أي توجَّهتُ إليه لأسمع خطبته. (3) أي فراغ من الخطبة قبل أن أصل إليه. (4) أي سألت عن حاضري الخطبة. (5) أي الأصحاب الحاضرون. (6) بصيغة المجهول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 11 - بَابُ نَبِيذِ الطِّلاء 720 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَدِم (1) الشام: شكى إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّامِ وباءَ (2) الأَرْضِ أَوْ ثِقَلَهَا (3) ، وَقَالُوا: لا يَصْلُحُ لَنَا إلاَّ هَذَا الشَّرَابُ (4) قَالَ: اشْرَبُوا (5) الْعَسَلَ، قَالُوا: لا يُصْلِحُنَا الْعَسَلُ (6) . قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ (7) : هَلْ لَكَ أَنْ أَجْعَلَ لَكَ مِنْ هَذَا الشَّرَابِ شَيْئًا لا يُسْكِرُ، قَالَ: نَعَمْ. فَطَبَخُوهُ (8) حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ، وَبَقِيَ ثُلُثُهُ، فأَتَوْا (9) بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِيهِ، ثُمَّ رفع يده فتبعه يتمطط (10) ،   (1) في عهد خلافته. (2) الوباء كل مرض عام من طاعون وغيره. (3) في رواية"يحيى": وثقلها بالواو أي ثقل مائها. (4) إشارة إلى نبيذ معهود فيما بينهم. (5) لأن فيه شفاء من كل داء بنص القرآن. (6) أي لتخالفه أمزجتهم. (7) أي أرض الشام. (8) أي النبيذ. (9) ليعرضوه عليه. (10) أي يتمدَّد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 فَقَالَ: هَذَا الطِّلاء مثلُ (1) طِلاء (2) الإِبِل، فَأَمَرَهُمْ (3) أن يشربوه (4) .   (1) أي في الغِلَظ. (2) أي القطران الذي يُطلى به الإِبل للجرب. (3) قوله: فأمرهم أن يشربوه، هذا صريح في حل الطلاء، وهو العصير العنبي الذي طُبخ، فذهب ثلثاه وصار غليظاً ما لم يسكر، وقد رُوي عنه بطرق كثيرة وعن غيره شربه وإباحته، فأخرج ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن إسحاق، عن عمر بن ميمون قال: قال عمر: إنا نشرب هذا الشراب الشديد ليقطع به لحوم الإِبل في بطوننا أن يؤذينا. ورُوي عن معمر، عن عاصم، عن الشَّعبي: كتب عمر إلى عماله: أما بعد، فإنّا جاءنا أشربة من الشام كأنها طلاء الإِبل، قد طُبخ، فذهب ثلثاه فآمر من قبلك أن يصطنعوه. وروي من طريق أخر نحوه. وأخرج عن أنس: أن أبا عبيدة ومعاذ بن جبل وأبا طلحة كانوا يشربون من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه. وأخرج عن أنس وعلي وغيرهما شربه. وبهذه الآثار ذهب أبو حنيفة ومحمد في رواية، وغيرهما. وقال محمد في رواية ومالك والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور وإسحاق وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وغيرهم بحرمته أخذاً من حديث ما أسكر كثيره فقليله حرام، وهو حديث مخرَّج في كتب متعمدة بألفاظ متقاربة من رواية جمع من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر وحديثه عند النسائي وابن ماجه وعبد الرزاق، وجابر حديثه عند أبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان، وسعد بن أبي وقاص حديثه عند النسائي وابن حبان، وعليّ حديثه عند الدارقطني، وعائشة حديثها عند أبي داود والترمذي وابن حبان وأحمد والدارقطني، وعبد الله بن عمر حديثه عند إسحاق بن راهويه والطبراني، وخوّات بن جبير حديثه عند الحاكم والطبراني والدارقطني والعقيلي، وزيد بن ثابت حديثه في "معجم الطبراني". والتفصيل في "نصب الراية" و "البناية". (4) قال الزرقاني: كان عمر اجتهد في تلك الحالة، ثم رجع عنه حيث حدَّ ابنه في الطِّلاء كما مرَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: أحللتَها وَاللَّهِ، قَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا أحللتُها (1) ، اللَّهُمَّ إِنِّي لا أُحل لَهُمْ شَيْئًا حرَّمتَه عَلَيْهِمْ، وَلا أُحرِّم عَلَيْهِمْ شَيْئًا أحللتَه لَهُمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِشُرْبِ الطِّلاءِ الَّذِي (3) قَدْ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ، وَهُوَ لا يُسكر (4) ، فَأَمَّا كلُّ معتَّق (5) يُسكر فَلا خَيْرَ فِيهِ (6) .   (وفي الأوجز 13/363 قلت ليس كذلك بل أثر الباب عند الأئمة الثلاثة والجمهور غير الشيخين من الحنفية محمول على أنه لم يكن مسكرا وما تقدم من حده رضي الله عنه إبنه فيه تصريح بقوله: "وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ" ولذا حمل الباجي الأثر السابق على المسكر وحُمل أثر الباب على أنه لم يبق مسكرا وحكى فيه خلاف أبي حنيفة وعليه حمله الإمام محمد انتهى مختصرا) . (1) أي ما أحللتُ ما هو حرام، بل حكمتُ بحِلّ ما هو حلال. (2) قوله: وبهذا نأخذ، هكذا ذكر في كتاب "الآثار" أيضاً، والمشهور في كتب أصحابنا أنه كرهه، وعنه أنه توقَّف، وقال: لا أحرمه، ولا أبيحه لتعارض الأخبار والآثار. (3) قوله: الذي قد ذهب ... إلخ، قيد به لأن الطلاء الذي ذهب أقل من ثلثيه لا يحل كما قال في "الجامع الصغير": محمد، عن يعقوب، عن أبي حنيفة، قال: الخمر حرام قليلها وكثيرها، والسكر، وهو الني من ماء التمر ونقيع الزبيب، إذا اشتَّد حرام، والطلاء وهو الذي ذهب أقل من ثلثيه من ماء العنب، وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به. انتهى. وبه يظهر أن لا تدافع بين كلمات الفقهاء حيث حكم بعضهم على الطلاء بالحرمة، بعضهم بالحلة، فإن الطلاء يُطلق على أمرين: أحدهما حلال، والآخر حرام، كما حققه الفقيه حسن الشرنبلالي في رسالته "نزهة ذوي النظر لمحاسن الطلاء والثمر". (4) أي مطلقاً قليله وكثيره، كذا قال القاري. (5) قال القاري: بتشديد الفوقية المفتوحة أي قديم. (6) أي لا يَحِلّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 كِتَابُ الْفَرَائِضِ (1) 721 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ قَبيصة (2) بْنِ ذُؤيب: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَضَ للجَدّ الَّذِي (3) يَفْرِضُ لَهُ النَّاسُ الْيَوْمَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (4) نَأْخُذُ فِي الجَدّ. وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثابت وبه   (1) قوله: قبيصة، بالفتح، واسم أبيه مصغر، هو قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي المدني من أولاد الصحابة ولد في العهد النبوي وروى عن جمع من الصحابة، قال مكحول: ما رأيت أحداً أعلم منه بالشام، مات سنة 86، كذا في "جامع الأصول". (2) قوله: قبيصة، بالفتح، واسم أبيه مصغر، هو قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي المدني من أولاد الصحابة ولد في العهد النبوي وروى عن جمع من الصحابة، قال مكحول: ما رأيت أحداً أعلم منه بالشام، مات سنة 86، كذا في "جامع الأصول". (3) قوله: الذي يفرض، أي من مقاسمة الأخ الواحد النصف والاثنين بالثلث، فإن زادوا فله الثلث. (4) قوله: وبهذا نأخذ، لمّا كان الجد يشبه الأب في أحكام، ويشبه الأخ في أحكام، ولم يوجد نصّ يفيد تقدير سهم الجَدّ مع الإِخوة، وهل هو يحجب الإِخوة كالأب أم يقاسمهم؟ اختلف فيه الصحابة ومن بعدهم اختلافاً فاحشاً، فذهب أبو بكر الصديق إلى الحجب، ولم يُنقل عنه خلافه، ولهذا أخذ به أبو حنيفة، وهو مذهب ابن عباس وابن الزبير وابن عمر وحذيفة بن اليمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 يَقُولُ الْعَامَّةُ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ (1) فِي الجَدّ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلا يورِّث (2) الإِخوة مَعَهُ شَيْئًا. 722 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُثْمَانَ (3) بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خَرَشَة، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤيب أَنَّهُ قال: جاءت (4) الجَدّة إلى   وأبي سعيد الخدري، وأُبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وعائشة وأبي هريرة وعمران بن حصين، وبه قال قتادة وجابر بن زيد وشُريح وعطاء وعبد الله بن عتبة بن مسعود وعروة وعمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين. وقال عليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت: يرثون مع الجَدّ، وبه قال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي وعلقمة والأسود والنخعي والثوري مع اختلاف فيما بينهم في كيفية القسمة، وروي عن عمر في هذه المسألة قضايا مختلفة يناقض بعضها بعضاً. والبسط في "ضوء السراج شرح الفرائض السراجية" وغيره من كتب الفرائض. (1) وبه يُفتى عند الحنيفة كما "السراجية" و "سكب الأنهر" وغيرهما وقال السرخسي: الفتوى على قولهما. (2) أي بل عندهم الجَدّ يحجب الإِخوة لأب وأُمّ أو الأب كالأب، وأما الإِخوة لأم، فيحجبهم الجد اتفاقاً. (3) قوله: عثمان بن إسحاق: هو من التابعين وثقه ابن معين، وخرشة القرشي العامري المدني بالخاء المعجمة بعدها راء مهملة، بعدها شين معجمة مفتوحات، كذا في "التقريب". (4) قوله: جاءت الجدة ... إلخ، روى هذا الحديث معمر ويونس وأسامة بن زيد وابن عيينة وجماعة، عن ابن شهاب، عن قصيبة، لم يُدخلوا بينهما أحداً. والحق ما ذكره مالك، وقد تابعه عليه أبو أويس كذا قال ابن عبد البر. وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير": هذا الحديث أخرجه مالك وأحمد وأصحاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 أبي بكر تسأله (1) ميراثها، فقال: مالَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ (2) مِنْ شَيْءٍ، وَمَا عَلِمْنا (3) لكِ فِي سُنّة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أسأَل النَّاسَ (4) ، قَالَ: فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حضرتُ (5) رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا (6) السُّدس، فَقَالَ (7) : هَلْ مَعَكِ غيرُك؟ فَقَالَ   السنن وابن حبان والحاكم من هذا الوجه، وإسناده صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل، فإن قصيبة لا يصح له سماع من أبي بكر الصديق، ولا يمكن شهوده للقصة، قاله ابن عبد البَرّ. وقد اختُلف في مولده، والصحيح أنه وُلد عام الفتح، فيبعد شهوده القصة، وقد أعلّه عبد الحق تبعاً لابن حزم بالانقطاع، وقال الدارقطني في "العلل" بعد أن ذكر الاختلاف فيه عن الزهري: يشبه أن يكون الصواب قول مالك ومن تبعه. ثم ذكر القاضي حسين أنّ التي جاءت إلى الصّدِّيق أمُّ الأمّ، والتي جاءت إلى عمر أم الأب، وفي رواية ابن ماجه ما يدل عليه، وذكر أبو القاسم ابن منده في "المستخرج من كتب الناس للتذكرة" أن هذا الحديث رُوي أيضاً من حديث معقل بن يسار وبريدة وعمران بن حصين. (1) قوله: تسأله ميرثها، أي عن ولد ابنتها (في الأصل: "ابنته"، وهو خطأ) ، قال ابن عبد البر: فيه أن الصّدِّيق لم يكن له قاض بفصل الأحكام، بل كانت ترجع إليه، ويؤيده ما في "الوسائل إلى معرفة الأواءل، للسيوطي أن أول من مصّر الأمصار واستقضى القضاة في الأمصار عمر بن الخطاب. (2) أي ليس لكِ في كتاب الله مقدارُ سهم معيّن. (3) نفي العلم، لا الوجود الواقعي لانتشار الأخبار وتفرُّقها. (4) أي أسأل الصحابة عن ما يُحكم لك. (5) أي حضرتُ واقعةً أعطاها فيها السُّدُس. (6) أي الجَدّة. (7) أي أبو بكر قاصداً لزيارة الثبوت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 مُحَمَّدُ (1) بْنُ مَسْلَمَةَ: فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَأَنْفَذَهُ (2) لَهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَتِ الجَدّة الآخُرَى (3) إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا (4) ، فَقَالَ: مَالَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضي (5) بِهِ إلاَّ لغَيْرِك وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ هُوَ (6) ذَلِكَ السُّدُسُ، فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا (7) فِيهِ فَهُوَ (8) بَيْنَكُمَا وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ (9) بِهِ فَهُوَ لَهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا اجْتَمَعَتِ الجَدّتان (10) أُمّ الأُم،   (1) هو من فضلاء الأنصار وأخبار الصحابة مات بعد الأربعين، ذكره في "التقريب". (2) من الإِنقاذ، بالذال المعجمة أي أعطى السدس لها. (3) للمتوفَّى السابق. (4) أي عن ولد ابنها. (5) قوله: قُضي به، بصيغة المجهول أو بصيغة المعلوم، أي ما كان القضاء الذي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبو بكر من السدس إلا لغيرك، وهو أمّ الأم، وما يجوز لي أن أزيد في السهام المقدّرة من عند نفسي حتى أزيد على السدس. (6) أي السهم المقدر. (7) قوله: فإن اجتمعتما ... إلخ، قال السيوطي في "الوسائل إلى معرفة الأوائل": أول من ورَّث جَدّتين عمر بن الخطاب فجمع بينهما. (8) أي السدس مشترك عاى السويّة. (9) أي انفردت. (10) احتراز عن الجدّة الفاسدة أمّ أب لأمّ وإن علتْ فإنها من ذوي الأرحام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وأُمّ الأَبِ فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ خَلَتْ بِهِ إِحْدَاهُمَا فَهُوَ لَهَا، وَلا تَرِثُ (1) مَعَهَا جَدّة فَوْقَهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا رحمهم الله.   (1) قوله: لا ترث معها جدّة فوقها (قال الموفّق: إذا كانت إحدى الجدّتين أم الأخرى، فأجمع أهل العلم على أن الميراث للقربى وتسقط البعدى بها، وإن كانتا من جهتين والقربى من جهة الأمّ، فالميراث لها وتحجب البعدى في قول عامّتهم إلا ما روي عن ابن مسعود ويحيى بن آدم وشريك أن الميراث بينهما، وعن ابن مسعود إن كانتا من جهتين فهما سواء، وإن كانتا من جهة واحدة فهو للقربى يعني به أن الجدّتين من قبل الأب إذا كانت إحداهما أم الأب والأخرى أم الجد سقطت أم الجد، وسائر أهل العلم على أن القربى من جهة الأم تحجب البعدى من جهة الأب، فأما القربى من جهة الأب فهل تحجب البعدى من جهة الأم؟ فعن أحمد رويتان: إحداهما: أنها تحجبها ويكون الميراث للقربى، وهذا قول عليّ رضي الله عنه وإحدى الروايتين عن زيد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأهل العراق وهو قول الشافعي، والرواية الثانية عن أحمد هو بينهما وهي الرواية الثانية عن زيد، وبه قال مالك والأوزعي وهو قول الثاني للشافعي (المغني 6/209) ، لأن الجَدّة البُعْدى تُحجب بالقربى من أيّ جهة كانت أي من جهة الأب أو الأمّ. هذا هو مذهب عليّ، وإحدى الرواتين عن زيد بن ثابت، وفي رواية أخرى عنه أنّ القُربى إن كانت من قِبَل الأب والبُعدى من جهة الأم فهما سواء فيكون الحجب حينئذ في أقسام ثلاثة فقط، وبه قال مالك والشافعي في أصح قوليه، والأدلة مبسوطة في كتب الفرائض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 1 - بَابُ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ (1) 723 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (2) مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ أَبَاهُ (3) كَثِيرًا يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: عَجَبًا لِلْعَمَّةِ تُورَث (4) ولا ترِث (5) .   (1) قوله: أخبرنا محمد، قال السيوطي في "الإِسعاف": مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم الأنصاري قاضي المدينة روى عن أبيه والزهري، وعنه مالك وابنه عبد الرحمن وشعبة والسفيانان، وثقه النسائي وأبو حاتم، مات سنة 132. (2) قوله: أخبرنا محمد، قال السيوطي في "الإِسعاف": محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري قاضي المدينة روى عن أبيه والزهري، وعنه مالك وابنه عبد الرحمن وشعبة والسفيانان، وثقه النسائي وأبو حاتم، مات سنة 132. (3) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني. (4) أي يرثها أبناء أخيها. (5) أي من أبناء أخيها وبناته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 قَالَ محمدٌ: إِنَّمَا (1) يَعْنِي عُمَرُ هَذَا فِيمَا نرى (2) أنها تُرث لأَنَّ ابْنَ الأَخِ ذُو سَهْمٍ، وَلا ترِث لأَنَّهَا لَيْسَتْ بِذَاتِ سَهْمٍ، وَنَحْنُ نَرْوِي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وعبد الله ابن مسعود، أنهم (3)   (1) قوله: إنما يعني ... إلخ، لمّا كان ظاهر قول عمر مُشيراً إلى أن العمة لا ترث مطلقاً، وهو مخالف لما روي عنه وعن غيره من توريث العمة وغيرها من ذوي الأرحام أراد أن ييبيِّن معنى كلامه بحيث لا يخالف ما رُوي عنه وعن غيره، بأنه ليس مراد عمر من قوله لا ترث نفي الإِرث مطلقاً، بل إنما يعني أي يريد عمر من قوله إن العمة تورث أي أن أبناء أخيها يرثون على جهة العصوبة، فهم من أصحاب السهام المقدَّرة المقررة، ولا ترث هي من أبناء أخيها وكذا من بناته على جهة الفرضية أو العصوبة لأنها ليست بصاحبة فرض وسهم مقدّر. (2) بصيغة المجهول أو المعروف أي نظن. (3) قوله: أنهم قالوا ... إلخ، أخرج أبو داود والنسائي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن أخت القوم منهم. وأخرج الدارمي في سننه من طريق عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري أن عمر بن الخطاب التمس من يرث ابن الداحداحة فلم يجد وارثاً، فدفع ماله إلى أخواله. وأخرج من طريق ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة قالت: الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له. وأخرج أيضاً من طريق الشعبي، عن زياد قال: أُتي عمر بن الخطاب في عمّ لأم وخالة، فأعطى العمّ الثلثين والخالة الثلث. وأخرج عن الحسن أن عمر أعطى الخالة الثلث، والعمة الثلثين. وأخرج عن غالببن عباد، عن قيس النهشلي قال: أُتي عبد الملك بن مروان في خالة وعمة، فقام شيخ وقال: شهدت عمر أعطى الخالة الثلث والعمة الثلثين. وأخرج عن الشَّعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود قال: الخالة بمنزلة الأمّ، والعمّ بمنزلة الأب، وبنت الأخ بمنزلة الأخ، وكل ذي رحم بمنزلة رَحِمه التي يُدلي بها إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 قَالُوا فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذُو سَهْمٍ وَلا عَصَبَةٍ: فَلِلْخَالَةِ (1) الثُّلُثُ، وَلِلْعَمَّةِ الثلثان. وحديث (2) يرويه (3) أهل المدينة لا يستطعون (4) ردَّه أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الدَّحْدَاح مَاتَ وَلا وَارِثَ (5) لَهُ، فَأَعْطَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم   لم يكن وارث ذا قرابة. فهذه الآثار شاهدة على توريث ذوي الأرحام، وهو الظاهر من إطلاق قوله تعالى: (وأولوا الأَرحام بعضُهم أولى ببعض في كتاب الله) (سورة الأنفال: الآية 75) . ويوافقه ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه وابن حبان من حديث المقدام بن معد يكرب مرفوعاً: أنها وارث من لا وارث له والخال وارث من لا وارث له. قال الحافظ في "التلخيص": حكى ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة أنه حديث حسن، وفي الباب عن عمر رواه الترمذي بلفظ: الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له. وعن عائشة رواه الترمذي والنسائي والدارقطني ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه. (1) هذا إذا اجتمعا وإلا ينفرد كل منهما. (2) أي هناك حديث آخر دالّ على توريث ذوي الأرحام. (3) قوله: يرويه، أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد ابن يحيى بن حبان، عن عمِّه واسع بن حبان قال: توفي ثابت بن الدحداح، وليس له أصل يُعرف، فقال رسول الله لعاصم بن عدي: هل تعرف له فيكم نسباً؟ قال: لا، فدعا رسول الله أبا لبابة بن عبد المنذر ابن أخته فأعطاه ميراثه. (4) أي لا يستطيع المخالفون ردَّه لكونه صحيحاً ثابتاً. (5) أي من أصحاب الفروض والعصبات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 أَبَا لُبَابَة (1) بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَكَانَ ابْنُ أُخْتِهِ، ميراثَه. وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ (2) يُوَرِّث العمّةَ وَالْخَالَةَ وَذَوِي الْقُرُبَاتِ (3) بِقُرْبَتِهِمْ، وَكَانَ (4) مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَعْلَمِهِمْ بِالرِّوَايَةِ. 724 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ عَجْلان (5) الزُّرَقي (6) أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، عن مولَى   (1) بضم اللام. (2) أي محمد بن مسلم الزهري. قوله: وكان ابن شهاب يورث ... إلخ تأييد آخر على مدَّعاه، وأما ما أخرجه أبو داود في "المراسيل" والدارقطني، عن زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مرسلاً أن رسول الله قال: سألت الله عن ميراث العمة، والتي له، فسارّني جبريل أن لا ميراث لهما. وأخرجه النسائي من مرسل زيد بن أسلم ووصله الحاكم بذكر أبي سعيد وفي إسناده ضعف ووصله الطبراني أيضاً من حديث أبي سعيد في ترجمة محمد بن الحارث المخزومي شيخه، وليس في الإسناد رجل يُنظر حاله غيره، ورواه الدارقطني من حديث أبي هريرة وضعّفه والحاكم بسند ضعيف من حديث عبد الله بن عمر، وكذا ذكره الحافظ في "التلخيص". فعلى تقدير ثبوته محمولٌ على أنه لا سهم لهما مقدّرٌ أو يحتمل أن يكون ذلك متقدماً. (3) أي سائر ذوي الأرحام. (4) أي الزهري. (5) بالفتح ثم السكون. (6) قوله: الزُّرَقي، بضم الزاء المعجمة وفتح الراء المهملة نسبةً إلى بني زريق بطن من الأنصار، ذكره السَّمعاني، قال ابن الأثير في "جامع الأصول": عبد الرحمن بن حنظلة الزرقي، روى عن مولى لقريش، يقال له ابن مِرْس، بكسر الميم وسكون الراء وبالسين المهملة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 لقريشٍ كَانَ قَدِيمًا (1) يُقَالُ لَهُ ابْنُ مِرْس (2) قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا صَلَّى صَلاةَ الظُّهْرِ قَالَ: يَا يَرْفَأُ (3) هَلُمَّ (4) ذَلِكَ الْكِتَابَ - لكتابٍ (5) كَانَ كَتَبَهُ (6) فِي شأن العمّة - يُسأل (7) عنه ويستخبر   (1) أي كبير السن. (2) بكسر الميم وسكون راء مهملة بعدها سين مهملة (قال صاحب المحلى: مقصوراً أو منوّناً وممدوداً، قال ابن التركماني: كشفت عن ابن حنظلة وابن مرساء فلم أعرف لهما حالاً، كذا في الأوجز 12/428) ، كذا ضبطه في "المغني" وقال: كان مولى لقريش. (3) قوله: يا يَرْفأ، بفتح التحتية وإسكان الراء وبالفاء آخره ألف، مخضرم مولى لعمر بن الخطاب وحاجبه، وكان أدرك الجاهلية ولا يعرف له صحبة، وحجّ مع عمر في خلافة أبي بكر، قاله الكرماني وابن حجر. (4) أي أحضر ذلك المكتوب. (5) أي قال عمر ذلك المكتوب قد كان كتبه. (6) لعله كتب فيه شيئاً مقدراً برأيه. (7) قوله: يسأل عنه، بصيغة المجهول. ويَستخير الله، بالباء: يطلب عمر علمه من الله في ظهور أمرها هل للعمّة من شيء؟ كذا قال القاري. وفي "موطأ يحيى": فنسأل - بالمتكلم المنصوب - جواباً للأمر ونستخبر الناس أي عن حكمها. ولما جاء به يرفأ تغيّر ما كان رآه من سؤال الناس، فصمّم على محوه، فمحاه، قاله الزرقاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 اللَّهَ (1) هَلْ لَهَا (2) مِنْ شَيْءٍ؟ فَأَتَى بِهِ يَرْفَأُ، ثُمَّ دَعَا بتَوْرٍ (3) فِيهِ ماءٌ أَوْ (4) قدحٍ، فمَحَا ذَلِكَ الكتابَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رضيكِ اللَّهُ (5) أقرّكِ، لَوْ رضيكِ اللَّهُ أقرّكِ (6) . 2 - بَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يُورَثُ (7) ؟ 725 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ،، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد، عن الأعرج، عن   (1) في نسخة: ويستخير الله فيه. (2) أي للعمّة. (3) بفتح التاء طشت (بالفارسية) . (4) بالشك من الراوي أو المراد طلب ما تيسّر منهما. (5) قوله: لو رضيك الله، بكسر الكاف خطاباً إلى العمة أي لو رضي الله تقدير السهم لك لأثبتك في كتابه كما أقرّ سهام أصحاب السهام فيه، وقيل: خطاب إلى المكتوب أي لو رضي الله بك لأقرّك، ولم يلهم في قلبي بالمحو (قال الباجي: إن المعروف من مذهب عمر منع العمة الميراث وبه قال زيد بن ثابت وإليه ذهب مالك والشافعي، وروي عن ابن مسعود توريثهم وبه قال أبو حنيفة. انظر "المنتقى" 6/243) . (6) كرره للتأكيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا تَقْسم (1) وَرَثَتِي دِينَارًا، ما تركتُ بعد نفقة نسائي (2) ومؤونة عَامِلِي (3) فَهُوَ صَدَقَةٌ. 726 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ نِسَاءَ (4) النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أردْن أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَ (5) ميراثَهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ لَهُنَّ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ (6) قَدْ قَالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا نُورَث (7) ، مَا تَرَكْنَا صدقةٌ.   (7) قوله: لا تَقْسم، بفتح التاء وفي نسخة التحتية مرفوعاً، وفي نسخة مجزوماً، وفي نسخة لا يقتسم، من الافتعال بالوجوه الأربعة والرواية بالجزم على النهي، وبالرفع على الخبر، كذا ذكره السيوطي وغيره. (1) قوله: لا تَقْسم، بفتح التاء وفي نسخة التحتية مرفوعاً، وفي نسخة مجزوماً، وفي نسخة لا يقتسم، من الافتعال بالوجوه الأربعة والرواية بالجزم على النهي، وبالرفع على الخبر، كذا ذكره السيوطي وغيره. (2) أي بعد موتي. (3) قال القاري: المراد به الخليفة بعده. (4) أي غير عائشة. (5) في نسخة: يسأله. (6) وبهذا احتج أبو بكر على فاطمة حين طلبت الميراث، وعلى العباس وعلي رضي الله عنهما، حين طلبا الميراث. (7) قوله: نورَث، أي نحن معاشر الأنبياء ما تركنا صدقة بالرفع، وأما قول الشيعة: إن ما نافية وصدقة مفعول، فتحريف للكلم من مواضعه، ويردّه قول: لا نُورث، ولا يقتسم ورثتي ديناراً، وغير ذلك. هل هذا إلا كما حكاه صاحب "الإِشاعة في أشراط الساعة" أنه تنبأ رجل وسمى نفسه بلا، وحرّف حديث "لا نبي بعدي" بأن لفظ "نبيّ" مرفوع خبر، والمراد بلا نفسُه، وقال: إن نبيكم أخبر بنبوّتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 3 - بَابُ لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ 727 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ (1) بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ عُمَرَ (2) بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ أُسَامَةَ (3) بْنِ زَيْدٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: لا يرث (4) المسلمُ الكافر.   (1) هو زين العابدين بن سيد الشهداء. (2) قوله: عن عمر بن عثمان بن عفان، قال ابن عبد البر: هكذا قال مالك، وسائر أصحاب ابن شهاب يقولون: عمرو بن عثمان، ورواه ابن بكير، عن مالك على الشك، فقال عن عمر بن عثمان أو عمرو بن عثمان، وقال ابن القاسم فيه: عن عمرو بن عثمان، والثابت عن مالك: عمر كما رواه يحيى وأكثر الرواة، ولا خلاف في أن لعثمان ولداً يسمّى بعمر وآخر مسمى بعمرو، وإنما الاختلاف في هذا الحديث هل هو لعمر أو لعمرو؟ فأصحاب ابن شهاب غير مالك يقولون: عمرو بن عثمان، ومالك يقول: عمر، وقد وقفه على ذلك الشافعي ويحيى بن سعيد القطان، فأبى أن يرجع، وقال: هو عمر، والحق أن مالكاً يكاد يقاس به غيره في الحفظ والإِتقان، لكن الغلط لا يسلم منه أحد، وأبى أهل الحديث أن يكون في هذا الإِسناد إلاَّ عمرو. انتهى ماخَّصاً. وقال العراقي: لا يلزم من تفرُّد مالك من بين الثقات باسم هذا الراوي مع أنَّ كلاًّ منهما ثقة نكارةُ المتن ولا شذوذه، بل المتن على كل حال صحيح، غايته أن يكون هذا السند منكراً أو شاذاً لمخالفة الثقات لمالك في ذلك. (3) قوله: عن أسامة، بالضم بن زيد - متبنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور باسمه في القرآن - بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وله مناقب جمة، مات سنة 54 بالمدينة وقيل بوادي القِرى، كذا في "الإِسعاف". (4) قوله: لا يرث المسلم الكافر، تتمته: ولا الكافر المسلم، هكذا عند جميع أصحاب الزهري واختصره مالك، قاله ابن عبد البر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 قال محمد: وبهذا نأخذُ (1) . لا يورث الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ (2) وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. وَالْكُفْرُ (3) ملَّة واحدة، يتواثون به، وإن اختلفت   (1) قوله: وبهذا نأخذ، أما عدم إرث الكافر من المسلم فأمرٌ مجمع عليه، ويدل عليه قوله تعالى: (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) (سورة النساء: الآية 141) ، وأما عكسه وهو عدم إرث المسلم من الكافر فمذهب علي وعامة الصحابة ومذهب معاذ بن جبل ومعاوية والحسن ومحمد بن الحنيفة ومحمد بن علي بن حسين ومسروق إلى إرثه أخذاً من حديث: "الإسلام يعلو ولا يعلى"، أخرجه الطبراني في " الأوسط"، والبيهقي في "الدلائل" من حديث عمر مرفوعاً، والدارقطني من حديث عائذ بن عمرو، وأسلم بن سهل في "تاريخ واسط" من حديث معاذ، كذا ذكره الحافظ في "الدارية". والجواب أن المذكور في الحديث نفس الإِسلام وعلوه بحسب الحجة أو القهر، كذا في "شرح السراجية" للسيِّد، وقال ابن عبد البر: الذي عليه سائر الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار أن المسلم لا يرث من الكافر. وقد ثبت ذلك مرفوعاً بنقل الثقات، فكلُّ من خالفه محجوج به. (2) قوله: الكافر، أي غير المرتدّ أما المرتد فيرث منه المسلم عندهما جميع ماله ما اكتسبه في حال الردة أو قبله دون العكس، لأن المرتد لا يُقرّ على دينه، بل يُجبر على الإِسلام، أو يُقتل، فيُعتبر في حكم الإِسلام فيما ينتفع به وارثه لا فيما ينتفع هو به، وعند أبي حنيفة المسلم يرث منه ما كسبه في حال إسلامه وما كسبه في ردَّته يكون فيئاً للمسلمين، والمسألة مبسوطة في كتب الفقه. (3) قوله: الكفر ملة واحدة، قال السيد في "شرح السراجية": الكفار يتوارثون بينهم وإن اختلفت نحلهم لأن الكفر ملة واحدة عندنا وذكره المزني عن الشافعي، وأبو القاسم عن مالك، وقال ابن أبي ليلى: اليهود والنصارى يتوارثون، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 مِللهم (1) ، يَرِثُ (2) اليهوديُّ النَّصْرَانِيَّ والنصرانيُّ الْيَهُودِيَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 728 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ: وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ عقيلٌ (3) وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْه عَلِيٌّ. 4 - بَابُ مِيرَاثِ الْوَلاءِ (4) 729 - أَخْبَرَنَا مالك، حدَّثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ (5) أَخْبَرَهُ: أَنَّ الْعَاصِ بْنَ هِشَامٍ هَلَكَ (6)   ولا توارث بينهم وبين المجوس، وذهب بعض الفقهاء إلى عدم التوارث بين اليهود والنصارى أيضاً. (1) بكسر الميم وفتح اللام الأولى، جمع ملَّة بمعنى الدين. (2) هذا توضيح لما ذكره. (3) قوله: عَقيل، بالفتح لأنه كان عند موت أبي طالب الكافر كافراً، وأسلم زمن الحديبية، وقيل: تأخَّر إسلامه إلى فتح مكة وهاجر في أول سنة ثمان، وطالب مات كافراً قبل بدر، وأما علي وكذا جعفر، فكانا مسلِمَيْن عند ذلك، فلذالك لم يرثاه (كذا في المنتقى للباجي 6/251) . وهذه الرواية نصّ على موت أبي طالب على الكفر، ويدل عليه من الرويات الصريحة، ومن خالفَ فيه فهو محجوجٌ بها) . (4) أباه: أي أبو بكر بن عبد الرحمن. (5) أباه: أي أبو بكر بن عبد الرحمن. (6) أي مات وقُتل يوم بدر كافراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وَتَرَكَ بَنِينَ لَهُ ثَلاثَةً (1) : ابْنَيْنِ (2) لأُمٍّ (3) وَرَجُلا لعلَّة (4) ، فَهَلَكَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ (5) اللَّذَيْنِ هُمَا لأُمٍّ، وَتَرَكَ مَالا وَمَوَالِيَ (6) ، فَوَرِثَهُ (7) أَخُوهُ (8) لأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَوَرِثَ (9) مَالَهُ وَوَلاءَ مَوَالِيهِ، ثُمَّ هَلَكَ أَخُوهُ (10) وَتَرَكَ ابْنَهُ وَأَخَاهُ (11) لأَبِيهِ، فَقَالَ ابْنُهُ (12) : قَدْ أحرزتُ (13) مَا كَانَ (14) أَبِي أحْرَزَ مِنَ الْمَالِ وولاءَ الْمَوالِي، وَقَالَ أَخُوهُ (15) : لَيْسَ كُلُّهُ لَكَ، إنما أحرزتَ المال، فأما ولاء   (1) بدل. (2) بيان الثلاثة. (3) أي ولأم واحدة. (4) بفتح العين وتشديد اللام هي الضرَّة. (5) أي أحد الأخوين لأب وأم. (6) أي معتقتين بالفتح. (7) أي الميت. (8) أي أخوه العيني، لا العلاّتي لكونه محجوباً بالعيني. (9) بيان لورثه. (10) أي العيني. (11) الذي كان من أمّ أخرى. (12) أي ابن الهالك. (13) أي أخذت. (14) أي لكون الأخ محجوباً بالابن. (15) أي العلاّتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 الْمَوَالِي فَلا (1) ، أَرَأَيْتَ (2) لَوْ هَلَكَ (3) أَخِي الْيَوْمَ ألستُ (4) أَرِثُهُ (5) أَنَا؟ فَاخْتَصَمَا (6) إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عفان فقضى لأخيه (7) بولاء الموالي.   (1) أي بل أنا مستحق. (2) أي أخبرني. (3) قوله: لو هلك، أي لو مات أخي الأول الذي ورث ماله وولاء مواليه منه أبوك اليوم بعد موت أخيه لأب وأم الذي هو أبوك لكنت أرثه أنا دونك لأن الأخ وإن كان لأب مقدّم على الأخ وإن كان لأب وأم. (4) استفهام إنكاري. (5) في نسخة: وارثه. (6) قوله: فاختصما إلى عثمان، أي في عهد خلافته، والمتخاصمان ابن العاص بن هشام، وابن ابنه الآخر، قال الحافظ ابن حجر في "تعجيل المنفعة في رجال الأربعة" (ص 203) : في هذه القصة إشكال لأن العاص قُتل يوم بدر كافراً، فكيف يموت في زمن عثمان، ويتحاكم إليه في إرثه والذي يرفع الإِشكال أن يكون التحاكم في إرثٍ تأخَّر إلى زمن عثمان، لكن من يموت يوم بدر كافراً: لا يتحاكم في إرثه إلى عثمان في خلافته. انتهى ملخصاً، وفيه سهو ظاهر، نبَّه عليه الزرقاني (4/98) وغيره فإنه لم يتخاصم إلى عثمان في إرث العاص بن هشام، وإنما ذكر في الخبر أنه مات وخلّف شقيقين، وواحداً لأم أُخرى، والذي تخاصم إلى عثمان إنما هو ابن العاصي الذي كان من أم أخرى وابن ابنه الذي مات أبوه، وقد كان أبوه ورث شقيقه مالَه وولاءَ مواليه لموته بلا ولد، فاختصما في ولاء الموالي دون الإِرث ولا ذكر فيه لميراث العاصي أصلاً فلا إشكال. (7) أي لأخ المتوفى العلاّتي دون ابنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الْوَلاءُ لِلأَخِ (1) مِنَ الأَبِ دُونَ (2) بَنِي الأَخِ مِنَ الأَبِ وَالأُمِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 730 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا عبد الله بن أبي بكر أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، فَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ جُهَيْنة (3) وَنَفَرٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ (4) بْنِ الْخَزْرَجِ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جهَيْنة عِنْدَ رَجُلٍ (5) مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ كُليب (6) ، فَمَاتَتْ فَوَرِثَهَا ابْنُهَا وَزَوْجُهَا، وَتَرَكَتْ مالاً وموالي، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهَا، فَقَالَ (7) وَرَثَتُه (8) : لَنَا وَلَاءُ الْمَوَالِي، وَقَدْ كَانَ ابْنُهَا أَحْرَزَهُ (9) ، وَقَالَ الْجُهَنِيُّونَ (10) :   (1) أي عند عدم الأخ لأب وأم. (2) قوله: دون بني الأخ لأب وأم، لأن الولاء وإن كان أثر الملك، لكنه ليس بمال، ولا له حكم المال حتى لا يجوز الاعتياض عنه بالمال، فلا يجري فيه سهام الورثة المقدَّرة، بل هو سبب يورث به بطريق العصوبة، فيعتبر الأقرب فالأقرب (كذا في شرح الزرقاني 4/99) . (3) بضم الجيم قبيلة. (4) هو بطن من الأنصار. (5) أي في نكاحه. (6) بصيغة التصغير. (7) في نسخة: فقالت. (8) أي الابن المتوفى. (9) أي أخذه، وورثه، فنحن نرثه بعد موته كالمال. (10) أي عصبات المرأة من جهينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 لَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ مَوَالِي (1) صَاحِبَتِنَا، فَإِذَا مَاتَ وَلَدُهَا، فَلَنَا وَلاؤُهُمْ (2) وَنَحْنُ نَرِثُهُمْ، فَقَضَى (3) أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ لِلْجُهَنِيِّينَ بِوَلاءِ الْمَوَالِي. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا أَيْضًا نَأْخُذُ. إِذَا انْقَرَضَ (4) وَلَدُهَا الذُّكُورُ رَجَعَ الْوَلاءُ وَمِيرَاثُ (5) مَنْ مَاتَ بَعْدَ (6) ذَلِكَ مِنْ مَوَالِيهَا إِلَى عَصبتها. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 731 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرني (7) مخبر (8) عن سعيد بن المسيِّب:   (1) أي المرأة المتوفّاة التي كانت من جهينة. (2) أي الموالي. (3) أي حَكَم. (4) أي انقطع ومات. (5) عطف تفسيري. (6) أي بعد انقضاء أولاد المعتقة الذكور. (7) وفي رواية يحيى: مالك أنه بلغه عن سعيد. (8) قوله: مخبر، قال القاري في "شرحه" أي محدِّث أو ناقل وهو عكرمة وكان مالك يكرهه، ولذا يعبر عنه في "الموطأ" برجل ومخبر، وإنما كان يكتم اسمه لكلام سعيد بن المسيب فيه، وقد احتج العلماء وأصحاب السنن بعكرمة، وقد صنفوا في الذبّ عنه وعما قيل فيه، وهو مولى ابن عباس أحد فقهاء مكة، سمع ابنَ عباس وغيره من الصحابة وروى عنه خلق كثير (في تقريب التهذيب 2/30: ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ولا يثبت عنه بدعة) . انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 أَنَّهُ سُئِل عَنْ عبدٍ لَهُ ولدٌ (1) مِنَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ (2) لِمَنْ وَلاؤُهُمْ (3) ؟ قَالَ: إِنْ مَاتَ أَبُوهُمْ وَهُوَ عبدٌ لَمْ يُعتَقْ (4) ، فَوَلَاؤُهُمْ لِمَوَالِي (5) أُمِّهِمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَإِنْ أُعْتِقَ أَبُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ جَرّ وَلاءَهُمْ (6) ، فَصَارَ وِلَايَتُهُمْ (7) لِمَوَالِي أَبِيهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعمة من فقهائنا - رحمهم الله -.   (1) قوله: له ولد، قال القاري: بفتحتين أو بم فسكون أي أولاداً. (2) أي كانت أمة لقوم، فصارت حرة بالعتق. (3) قوله: لمن ولاؤهم، أي لموالي أمهم أم لموالي أبيهم؟. (4) صفة كاشفة. (5) لأن الأولاد أحرار بتبعية الأم، فولاؤهم لموالي الأم، وإذا أعتق أبوهم جرّ موالي الأب ولاءهم لكون موالي الأب أقوى من موالي الأم. (6) قوله: جرّ ولاءهم، أي إلى مواليه إن كان مولاه أمرأة، فإنه ليس للنساء من الولاء إلاَّ ما اعتقته أو أعتق من أعتقته، أو دبَّرن أو دبَّر من دبَّرن، أو كاتبن، أو كاتب من كاتبن، أو جرَّ ولاء معتقهن أو معتق معتقهن، كما هو مبسوط في كتب الفرائض. (7) في نسخة: ولاؤهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 5 - بَابُ مِيرَاثِ (1) الْحَمِيلِ 732 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (2) بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: أَبَى (3) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُوَرِّثَ (4) أَحَدًا مِنَ الأَعَاجِمِ إلاَّ مَا وُلد فِي الْعَرَبِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يورَث الْحَمِيلُ الَّذِي يُسبى (5) وتُسبى مَعَهُ امْرَأَةٌ، فَتَقُولُ (6) هُوَ وَلَدِي، أَوْ تَقُولُ هُوَ أخي، أو   (1) في رواية يحيى: أخبرنا الثقة عن سعيد بن المسيب. (2) في رواية يحيى: أخبرنا الثقة عن سعيد بن المسيب. (3) أي امتنع. (4) قوله: أن يورث، أي يجعل أحداً من الأعاجم غير العرب من الروم والترك والفرس والهند وغيرها وارثاً بمجرد دعوى القرابة وإقرار بعضهم لبعض، فأما إذا ثبت ذلك ببيِّنة فذلك كالمولود في بلاد العرب، وأما المولود في العرب فإنما يورث لأنه معروف النسب. (5) أي من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام. (6) قوله: فتقول هو ولدي أو تقول ... إلخ، الأنساب على قسمين: منها ما تثبت بمجرد الإِقرار من دون حاجة إلى البيِّنة. وهو ما لم يكن فيه تحميل على الغير كإقرار الرجل لرجل أنه ابنه، فالإِقرار بهذا النسب يُثبت النسب، ويجعل المُقرّ له من الورثة، هذا إذا كان المقر له مجهول النسب، وأما إذا كان معرف النسب فلا يُعتبر به، ومنها ما لا يثبت بمجرد إقرار المقر، وهو ما فيه تحميل النسب على الغير كالإِقرار لرجل بأنه أخوه، فإنه يتضمَّن تحميل النسب على أبيه بكونه ابنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 يَقُولُ (1) هِيَ أُخْتِي، وَلا نَسَبَ مِنَ الأَنْسَابِ يُوَرِّثُ إلاَّ ببيِّنة (2) إلاَّ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ، فَإِنَّهُ إِذَا ادَّعى الْوَالِدُ أَنَّهُ ابْنُهُ، وصدَّقَه (3) فَهُوَ ابْنُهُ (4) ، وَلا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى بيِّنة إلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ عَبْدًا فَيُكَذِّبَهُ (5) مَوْلاهُ بِذَلِكَ، فَلا يَكُونُ ابْنَ الأَبِ مَا دَامَ عَبْدًا حَتَّى يُصَدِّقَهُ الْمَوْلَى، وَالْمَرْأَةُ إِذَا ادَّعَتِ الْوَلَدَ وَشَهِدَتِ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ عَلَى أَنَّهَا وَلَدَتْهُ، وَهُوَ (6) يُصَدِّقُهَا، وَهُوَ (7) حُرٌّ، فَهُوَ ابْنُهَا. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله.   والإِقرار بأنه عمه يتضمن تحميل النسب على الجد بأنه ابنه ونحو ذلك، ففي هذه الصور إن صَدَّق ذلك الغير الذي حمل النسب إليه فذاك، وإلاَّ فلا يعتبر إقراره إلاَّ بالشهادة العادلة، فظهر أن لا توريث بمجرد الإِقرار بالنسب إلاَّ بالشهادة إلاَّ في الإِقرار بالبنوة. نعم المُقَرّ له بالنسب المتضمن تحميله على الغير إذا لم يثبت نسبه بإقرار الغير ولا بالشهادة ومات المقر على إقراره يرث عندنا المقر إذا لم يكن له أصحاب الفرض ولا العصبات لا السبية والنسبية ولا ذوو الأحام ولا مولى الموالاة كما هو مشروح في كتب الفرائض. (1) أي ذلك الحميل. (2) أي لا بمجرد إقرار. (3) أي الابن. (4) فيرثه. (5) أي ذلك المقر لبنوَّته. (6) أي ذلك الولد. (7) أي والحال أن ذلك الولد حرّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 6 - فَصْلُ (1) الْوَصِيَّةِ 733 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عبد الله بن عمر: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا حَقُّ (2) امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شيءٌ يُوصي فِيهِ يَبِيتُ   (1) قوله: ما حقّ، ما نافية. امرئ مسلم، كذا في أكثر الروايات ولا مفهوم له، فإن الوصية تصح من الذَّمي، وسقط في رواية: مسلم. له شيء، صفة لامرئ. يوصي فيه، صفة لشيء. يبيت ليلتين، صفة ثانية لمسلم وخبرها ما دلَّ عليه الاستثناء، ويحتمل أن يكون خبره يبيت بتأويله بالمصدر أي ما حقه بيتوتته إلاَّ وهو على هذه الصفة. وفي رواية لمسلم: يبيت ثلاث ليال، وكأنَّ ذكر الليلتين أو الثلاث لرفع الحرج. وفي الحديث دليل على أن الأشياء ينبغي أن تُضبط بالكتابة، واستدل به على جواز الاعتماد على الخط، ولو لم يقرن ذلك بالشهادة، وخَصَّ أحمد ومحمد بن نصر ذلك بالوصية لثبوت ذلك فيها، وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذُكرت لما فيها من ضبط المشهود به، واحتجوا في الإِشهاد بقوله تعالى: (شهادة بينكم إذا حضر أحدَكم الموتُ حين الوصية) (سورة المائدة: الآية 106) ، الآية. واحتج بعضهم بظاهر هذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصية، وبه قال عطاء والزهري والظاهرية وابن جرير وغيره، وذهب الجمهور إلى استحبابها حتى نسبه ابن عبد البَرّ إلى الإِجماع سوى من شذَّ، كذا في "شرح الزرقاني". (2) قوله: ما حقّ، ما نافية. امرئ مسلم، كذا في أكثر الروايات ولا مفهوم له، فإن الوصية تصح من الذَّمي، وسقط في رواية: مسلم. له شيء، صفة لامرئ. يوصي فيه، صفة لشيء. يبيت ليلتين، صفة ثانية لمسلم وخبرها ما دلَّ عليه الاستثناء، ويحتمل أن يكون خبره يبيت بتأويله بالمصدر أي ما حقه بيتوتته إلاَّ وهو على هذه الصفة. وفي رواية لمسلم: يبيت ثلاث ليال، وكأنَّ ذكر الليلتين أو الثلاث لرفع الحرج. وفي الحديث دليل على أن الأشياء ينبغي أن تُضبط بالكتابة، واستدل به على جواز الاعتماد على الخط، ولو لم يقرن ذلك بالشهادة، وخَصَّ أحمد ومحمد بن نصر ذلك بالوصية لثبوت ذلك فيها، وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذُكرت لما فيها من ضبط المشهود به، واحتجوا في الإِشهاد بقوله تعالى: (شهادة بينكم إذا حضر أحدَكم الموتُ حين الوصية) (سورة المائدة: الآية 106) ، الآية. واحتج بعضهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 لَيْلَتَيْنِ إلاَّ ووصيَّته عِنْدَهُ مكتوبةٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ. هَذَا (1) حَسَنٌ جَمِيلٌ (2) . 7 - بَابُ الرَّجُلِ يُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ 734 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ سُلَيْمٍ الزُّرَقي (3) أَخْبَرَهُ (4) أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إنَّ هَهُنَا (5) غُلامًا يَفَاعاً مِنْ غَسَّان   بظاهر هذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصية، وبه قال عطاء والزهري والظاهرية وابن جرير وغيره، وذهب الجمهور إلى استحبابها حتى نسبه ابن عبد البَرّ إلى الإِجماع سوى من شذَّ، كذا في "شرح الزرقاني". (1) أي نفس الوصية أو كتابتها. (2) أي مستحب ليس بواجب (قال الموفق: أجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية، ولا تجب الوصية إلاَّ على من عليه دَيْن أو عنده وديعة أو عليه واجب يوصي بالخروج منه، فإن الله تعالى فرض أداء الأمانات وطريقه في هذا الباب الوصية فتكون مفروضة عليه، فأما الوصية بجزء من ماله فليست بواجبة على أحد في قول الجمهور، وبذلك قال الشعبي والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم، كذا في الأوجز 12/316) . (3) بضم الزاء المعجمة وفتح الراء المهملة نسبة إلى بني زريق قبيلة من الأنصار. (4) هذه الرواية مرسلة، لأن عمرواً لم يلقَ عمر، قاله الطحاوي. (5) قوله: إنَّ ههنا، أي بالمدينة. غلاماً يفاعاً من غَسّان، - بفتح الغين وتشديد السين المهملة - قبيلة من الأزد، واليَفاع بفتح الياء المثناة التحتية بعدها فاء بمعنى اليافع، وهو الذي راهق البلوغ، ولم يحتلم، وجمعه أيفاع قاله في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   "المغرب". وفي رواية أخرى لمالك المذكورة في "موطأ يحيى" عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أبي بكر بن حزم أن غلاماً من غسّان حضرته الوفاة بالمدينة ووارثه بالشام، فذُكر ذلك لعمر، فقيل له: إن فلاناً يموت أفيوصي؟ قال: فليوصِ، قال يحيى: قال أبو بكر: وكان الغلامُ ابنَ عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة، فأوصى ببئر جُشم (هي بئر بالمدينة) فباعها أهلها بثلاثين ألف درهم، وقال الزرقاني في "شرحه": فيه صحة وصية الصبي المميِّز، وبه قال مالك، وقيده بما إذا عقل ولم يخلط وأحمد وقيده بابن سبع وعنه بعشر، والشافعي في قول رجَّحه جماعة ومال إليه السبكي، ومنعها الحنفية والشافعي في الأظهر عنه، وذكر البيهقي عنه أنه علق القول به على صحة أثر عمر، وهو صحيح فإن رجاله ثقات وله شاهد. انتهى. وذكر العيني في "البناية" أن وصية الصبي جائزة عند الشافعي في قول ومالك وأحمد والشعبي والنَّخَعي وعمر بن عبد العزيز وشُريح وعطاء والزهري وإياس، وغير جائزة عندنا وعند الشافعي في قول وأصحاب الظواهر، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد، وأجاب أصحابنا عن أثر عمر بوجوه: أحدها: ما ذكره في "الهداية" أن الغلام الذي أمره عمر بالوصية كان بالغاً وسمي يافعاً مجازاً تسميةً للشيء باسم ما كان عليه لقربه منه. وثانيهما: ما ذكره أيضاً أن وصية يفاع كانت في تجهيزه وأَمْر دفنه وذلك جائز عندنا. وردَّهما الإِتقاني في "غاية البيان" بأنَّ الراوي صرح بأنه أوصى لابنة عمٍّ له بمال، فكيف يحتمل أن يكون الإِيصاء في أمر التجهيز والدفن؟ وصح في الرواية أنه كان غلاماً لم يحتلم، ثم ذكر الإِتقاني في الجواب ما ملخَّصه: أن من أدرك عصر الصحابة كسعيد بن المسيّب والحسن والشعبي والنَّخَعي الذين يعتدّ بخلافهم في إجماع الصحابة رَوى عنهم أصحابنا أنهم قالوا: لا وصية لمراهق، فبقي رأي الصحابي. وهو ليس بحجة عند الخصم، فكيف يُحتج به على غيره والقياس يؤيِّده ما ذهبنا، فإن الوصية تبرع والصبي ليس من أهله. وذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 ووارثُه (1) بِالشَّامِ، وَلَهُ مَالٌ، وَلَيْسَ هُنَا إلاَّ ابْنَةُ عَمٍّ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مُروه، فليوصِ لها فأوصى لهابمال يُقَالُ لَهُ بِئْرُ جُشَم (2) . قَالَ عَمْرُو بْنُ سُلَيْم: فبعتُ ذَلِكَ المالَ بِثَلاثِينَ أَلْفًا بَعْدَ ذَلِكَ، وابنةُ عمِّه الَّتِي أَوْصَى لَهَا هِيَ أمُّ عَمْرِو بْنِ سُليم (3) . 735 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابن شهاب، عن عامر (4) ابن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أبي وقاص أنه قال (5) : جاءني   ابن حزم أن ابن عباس خالف عمر فيما ذهب إليه (وشدَّد ابن حزم كما هو دأبه في منع جواز وصية الصبي، وقال فيه: إن الرواية لا تصح عن عمر رضي الله عنه، وقد خالفه ابن عباس كذا في الأوجز 12/327) . (1) أي وهو مريض مرض الموت. (2) بضم الجيم وفتح الشين المعجمة. (3) راوي هذا الحديث. (4) قال في "التقريب" ثقة مات سنة 104. (5) قوله: قال، أخرج هذه القصة البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن أبي شيبة وابن خزيمة وأحمد والطيالسي وابن حبان وابن الجارود وغيرهم، ذكره السيوطي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ حَجّة الوَداع (1) يَعُودُنِي (2) مِنْ وجعٍ (3) اشْتَدَّ بِي، فقلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ مِنِّي الْوَجَعُ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ (4) وَلا يَرِثُنِي   (1) قوله: عام حجة الوداع، أي سنة عشر هكذا اتفق عليه أصحاب الزهري إلا ابن عيينة، فقال في فتح مكة أخرجه الترمذي وغيره، واتفقوا على أنه وهم منه، قال الحافظ ابن حجر: وجدت لابن عيينة مستنداً عند أحمد والبزار والطبراني والبخاري في "التاريخ" وابن سعد من حديث عمرو القاري: أن رسول الله قدم مكة فخلف سعداً مريضاً حيث خرج إلى حنين، قلما قدم من الجعرّانة معتمراً دخل عليه وهو مغلوب، فقال: يا رسول الله إن لي مالاً وإني أُرِث كلالة أَفَأُوصي بمالي، الحديث. فلعل ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث ويمكن الجمع (لكن يشكل على هذا الجمع ما أخرجه الترمذي من رواية سفيان، عن الزهري بلفظ مرضت عام الفتح مرضاً، الحديث، وفيه ليس يرثني إلا ابنتي، ففيه ذكر البنت في عام الفتح، انظر أوجز المسالك 12/331 وفي هامش الكوكب الدري 3/110 أن مافي رواية الترمذي من قوله عام الفتح يقال: إنه وهموالصواب حجة الوداع وجمع بينهما باحتمال التعدد) بأنه وقع له ذلك مرتين، فعام الفتح لم يكن وارث من الأولاد وعام حجة الوداع كانت له بنت فقط. (2) من العيادة. (3) بفتحتين اسم لكل مرض. (4) التنوين للكثرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 إلا ابنةٌ (1) لي، أ (2) فأتصدق بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَبِالشَّطْرِ (3) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَبِالثُّلُثِ؟ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الثلثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (4) ، أَوْ كَبِيرٌ، إِنَّكَ (5) إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خيرٌ من أن تَذَرَهم عَالةً   (1) قوله: إلا ابنة لي، أي من الولد أو من خواصّ الورثة أو من النساء وإلا فقد كان له عصبات، فإنه من زهرة، وكانوا كثيراً، قاله النوري، وقال الحافظ في "فتح الباري" (5/368) : زعم بعض من أدركنا أن هذه البنت اسمها عائشة فإن كان محفوظاً فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث عند البخاري وهي تابعية عُمِّرت حتى روى عنها مالك ماتت سنة 117 هـ. لكن لم يذكر أحد من النسّابين لسعد ابنة تسمّى بعائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى، وله بنات أخرى متأخرات الإِسلام بعد الوفاة النبوية، فالظاهر أنها أم الحكم، ولم أرَ من جوّز ذلك. (2) الاستفهام للاستخبار. (3) بالفتح فسكون النصف. (4) قوله: كثير أو كبير، بالشك من بعض الرواة، قال الحافظ: والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة، وفيه أشار إلى أن الثلث رخصة والأحب الوصية بما دونها. (5) قوله: إنك، بكسر الهمزة استينافاً، وبالفتح أي لأنك. أنْ، بفتح الهمزة وسكون النون. تذر، بفتح الذال المعجمة أي تترك ورثتك أي البنت وعصباته أغنياء أي بما يرثونه منك خير من أن تذرهم عالةً - جمع عائل بمعنى المحتاج - يتكفَّفُون الناس أي يسألونهم بأكفّهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 يتكفَّفُون الناسَ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً (1) تَبْتَغِي بِهَا (2) وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلا أُجِرْتَ (3) بِهَا حتى ما (4) تجعلُ في فيِ امْرَأَتِكَ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخلَّفُ (5) بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ (6) فتعمَلَ عَمَلًا صَالِحًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ (7) حَتَّى ينتفعَ (8) بِكَ أقوامٌ، ويُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ. اللَّهم أَمْضِ (9) لأَصْحَابِي هجرتَهم وَلا تردَّهم (10) على أعقابهم، لكن البائس (11)   (1) أي ولو قليلة. (2) أي تطلب بها رضاء الله. (3) بصيغة المجهول المخاطب أي أعطي لك أجرها. (4) أي اللقمة التي تجعلها في فم الزوجة. (5) قوله: أُخَلَّفُ، بصيغة المجهول المتكلِّم أي أبقى بسبب المرض خلفاً بمكة بعد أصحابي الذين معك فإنهم يرجعون إلى المدينة معك، ذكر ذلك تحسُّراً وكانوا يكرهون المقام بمكة بعد ما هاجروا منها وتركوها الله. (6) يعني أن كونك مخلَّفاً لا يضرك مع العمل الصالح. (7) أي بأن يطول عمرك. (8) قوله: حتى ينتفع، قد وقع ذلك الذي ترجَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فشُفي سعد من ذلك المرض، وطال عمره حتى انتفع به أقوام من المسلمين، واستضرّ به آخرون من الكفار، حتى مات سنة 55 على المشهور، وقيل غير ذلك. (9) من الإِمضاء أي أتمم لهم. (10) أي بترك الهجرة وعدم تمامها. (11) الذي عليه أثر البؤس وهو الحاجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 سَعْدُ (1) بْنُ خَوْلَةَ. يَرْثِي (2) لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ ماتَ (3) بمكةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْوَصَايَا جَائِزَةٌ فِي ثُلُث مَالِ الْمَيِّتِ بَعْدَ قَضَاءِ (4) دَيْنه، وَلَيْسَ (5) لَهُ أَنْ يُوصي بأكثرَ   (1) ممن شهد بدراً. (2) قوله: يَرثي له، بفتح الياء وسكون الراء أي يتوجّع ويحزن. وهذا مُدرج من كلام سعد، وقيل من كلام الزهري ذكره السيوطي. (3) أي بسبب أنه مات بمكة في حجة الوداع (وجزم الليث بن سعد في تاريخه عن يزيد بن أبي حبيب بأن سعد بن خولة مات في حجة الوداع وهو الثابت في الصحيح. فتح الباري 5/364، وقيل: عام الفتح، وقيل: لم يهاجر. (4) لآن قضاءه فرض فهو مقدَّم على المستحب. (5) قوله: وليس له أن يوصي ... إلخ، اختُلف في الوصية: فأكثر أهل العلم على أنها مشروعة مستحبة غير واجبة إلا لطائفة، فرُوي عن الزهري أنه جعل الوصية حقاً مما قلّ أو كثر وكذا حُكي عن أبي مجلز، وقال أصحاب الظاهر ومسروق وقتادة وابن جرير: هي واجبة في حق الأقربين الذين لا يرثون، قال بعضهم: هي واجبة في حق الوالدين والأقربين لقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدّكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالِدَيْن والأقربين بالمعروف) (سورة البقرة: الآية 180) ، والجمهور على أنه منسوخ بآية المواريث وبحديث مشهور: إن الله أعطى كلَّ ذي حق حقه، ألاّ لا وصية لوارث، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم، ثم اختلفوا في الزيادة على الثلث (قال الحافظ: واختلفوا أيضاً هل يُعتبر ثلث المال حال الوصية أو حال الموت؟ على قولين، وهما وجهان للشافعية أصحهما الثاني، فقال بالأول مالك وأكثر العراقيين وهو قول النخعي وعمر بن عبد العزيز، وقال بالثاني أبو حنيفة والباقون وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من التابعين. فتح الباري 5/369) ، وذهب الشافعي ومالك وأحمد وابن شبرمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 مِنْهُ (1) ، فإنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فأجازَتْه الْوَرَثَةُ بَعْدَ (2) مَوْتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ إِجَازَتِهِمْ، وَإِنْ رَدّوا (3) رَجَع ذَلِكَ إِلَى الثُّلُثِ لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الثُّلُثَ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، فَلا يَجُوزُ لأَحَدٍ وَصِيَّةٌ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ إِلا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا، رحمهم الله تعالى.   والأوزعي وأصحاب الظاهر إلى أنه لا يجوز وإن لم يكن له وارث، وعندنا وبه قال الحسن وشَريك وإسحاق بن راهويه يجوز إذا لم يكن له وارث وكذا إذا كان وارث فأجازه بعد موته لأن الامتناع لحق الورثة فعند فقدهم أو إجازتهم يرتفع المنع، كذا حقق في "البناية". (1) أي من الثلث. (2) قوله: بعد موته، قُيّد به لأنه لا معتبر لإِجاتهم في حال حياته لأنها قبل ثبوت الحق يثبت بعد الموت، فكان لهم أن يردّوا بعد وفاته، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور والثوري والحسن بن صالح وشريح وطاوس والحكم والظاهرية، وروي عن ابن مسعود، وقال ابن أبي ليلى والزهري وعطاء وحماد وربيعة: ليس لهم أن يرجعوا عن الإِجازة سواء كان قبل الموت أو بعده، كذا ذكر العيني رحمه الله تعالى. (3) أي لم يجز الورثة بعد موته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 1 - كِتَابُ الأَيْمان (1) وَالنُّذُورِ (2) وَأَدْنَى مَا يُجْزِئُ (3) فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ 736 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكفِّر (4) عَنْ يَمِينِهِ بِإِطْعَامِ عَشَرَة مساكين، لكل إنسان مدٌّ (5) من حنطلة، وكان   (1) قوله: كان يكفرِّ، الأصل فيه قوله تعالى: (فكفّارَتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكين من أوسط ما تُطْعمون أَهليكم أو كِسْوَتُهم أو تحريرُ رقبة، فمن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيام) (سورة المائدة: الآية 89) ، أي متتابعات كما في قراءة، فخيَّر الله بين الإِطعام والكسوة والتحرير، وأوجب على العاجز عنها الصيام، وهذا هو مذهب الجمهور، وكان ابن عمر يفعل بأنّ من حلف مؤكّداً ثم حنث فعليه عتق أو كسوة العشرة، ومن لم يؤكد فعليه الإِطعام، فإن عجز فالصيام، لكون التحرير والكسوة أكثر مؤنة وأعظم قيمة فيناسب الأعظم بالأعظم جُرماً، والأخفّ بالأخفّ، ولهذا كان إذا كفَّر عن يمينه غير مؤكد أطعم وإذا وكدّ أعتق، والمراد بالتأكيد تكرير اليمين مرة بعد أخرى في أمر واحد، ولعل هذا الحكم منه إرشادي مبني على مصلحة شرعية وإلا فظاهر الكتاب التخيير بين الثلاثة مطلقاً (قال الباجي: لعل ابن عمر رضي الله عنهما كان يعتقد الأمرين جميعاً فكان يرى في تأكيدها أن يأخذ ذلك بأرفع الكفارات وهو العتق أو يرفع عن أدنى الكفارات الذي هو الإطعام إلى ما هو أرفع وهو الكسوة، وإنما ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه. المنتقى 3/254.) (2) قوله: مُدّ (قال صاحب "المحلّى": قوله من حنظة وكذا غيرة من الطعام من غالب قوت البلد، وهو المأثور عن ابن عباس وزيد بن ثابت والقاسم وعطاء والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي، وقال أحمد: يطعم لكل مسكين مُدّاً من البُرّ أو نصف صاع من غيره من الشعير والتمر، وقال أبو حنيفة: صاعاً من شعير أو تمر أو نصفه من بُر. أوجز المسالك 9/79) ، بضم الميم وتشديد الدال المهملة ربع الصاع، ووافقه في ذلك أسماء بنت أبي بكر أخرجه عنها ابن مردويه، وابن عباس، أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وزيد بن ثابت أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ وأبو هريرة أخرجه عنه ابن المنذر، وخالفهم في ذلك جماعة فقالوا: بنصف صاع من حنطة أو صاع من تمر أو شعير كصدقة الفطر، منهم عمر أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وكذلك أخرجوه عن علي، وكذلك أخرجه عبد بن حميد، عن ابن عباس، وإليه ذهب أصحابنا والآثار مبسوطة في "الدر المنثور". (3) جمع جارية. (4) قوله: كان يكفرِّ، الأصل فيه قوله تعالى: (فكفّارَتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكين من أوسط ما تُطْعمون أَهليكم أو كِسْوَتُهم أو تحريرُ رقبة، فمن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيام) (سورة المائدة: الآية 89) ، أي متتابعات كما في قراءة، فخيَّر الله بين الإِطعام والكسوة والتحرير، وأوجب على العاجز عنها الصيام، وهذا هو مذهب الجمهور، وكان ابن عمر يفعل بأنّ من حلف مؤكّداً ثم حنث فعليه عتق أو كسوة العشرة، ومن لم يؤكد فعليه الإِطعام، فإن عجز فالصيام، لكون التحرير والكسوة أكثر مؤنة وأعظم قيمة فيناسب الأعظم بالأعظم جُرماً، والأخفّ بالأخفّ، ولهذا كان إذا كفَّر عن يمينه غير مؤكد أطعم وإذا وكدّ أعتق، والمراد بالتأكيد تكرير اليمين مرة بعد أخرى في أمر واحد، ولعل هذا الحكم منه إرشادي مبني على مصلحة شرعية وإلا فظاهر الكتاب التخيير بين الثلاثة مطلقاً (قال الباجي: لعل ابن عمر رضي الله عنهما كان يعتقد الأمرين جميعاً فكان يرى في تأكيدها أن يأخذ ذلك بأرفع الكفارات وهو العتق أو يرفع عن أدنى الكفارات الذي هو الإطعام إلى ما هو أرفع وهو الكسوة، وإنما ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه. المنتقى 3/254.) (5) قوله: مُدّ (قال صاحب "المحلّى": قوله من حنظة وكذا غيرة من الطعام من غالب قوت البلد، وهو المأثور عن ابن عباس وزيد بن ثابت والقاسم وعطاء والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي، وقال أحمد: يطعم لكل مسكين مُدّاً من البُرّ أو نصف صاع من غيره من الشعير والتمر، وقال أبو حنيفة: صاعاً من شعير أو تمر أو نصفه من بُر. أوجز المسالك 9/79) ، بضم الميم وتشديد الدال المهملة ربع الصاع، ووافقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 يُعتق الجوارِ (1) إِذَا وَكّد (2) فِي الْيَمِينِ. 737 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أدركتُ النَّاسَ (3) وَهُمْ إِذَا أَعطَوْا الْمَسَاكِينَ في كفارة اليمين أَعْطَوْا مُدّاً من حنظلة بالمدّ الأصغر (4)   في ذلك أسماء بنت أبي بكر أخرجه عنها ابن مردويه، وابن عباس، أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وزيد بن ثابت أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ وأبو هريرة أخرجه عنه ابن المنذر، وخالفهم في ذلك جماعة فقالوا: بنصف صاع من حنطة أو صاع من تمر أو شعير كصدقة الفطر، منهم عمر أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وكذلك أخرجوه عن علي، وكذلك أخرجه عبد بن حميد، عن ابن عباس، وإليه ذهب أصحابنا والآثار مبسوطة في "الدر المنثور". (1) جمع جارية. (2) من التأكيد وهو التكرير. (3) يعني الصحابة وأجلّة التابعين. (4) قوله: بالمُدّ الأصغر، قال القاري: وهو مُدُّ النبي صلى الله عليه وسلم كما صرّح به الإِمام مالك، والمدّ الأكبر (قال الباجي: واختلف أصحابنا في مقداره فمنهم من قال: مُدّان إلا ثلثاً بمُدّ النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال: مُدّان بمُدّ النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصحيح عندي. انظر المنتقى 4/45) مُدُّ هشام بن إسماعيل المخزومي وكان عاملاً على المدينة لبني أمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وَرَأَوْا (1) أَنَّ ذَلِكَ يجزئُ (2) عَنْهُمْ. 738 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع أن عبد الله بن عمر قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ (3) فَوَكَّدَهَا (4) ثُمَّ حَنَثَ (5) ، فَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ كِسْوَةُ (6) عَشَرَة مَسَاكِينَ، وَمَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ وَلَمْ يُؤَكِّدْهَا فَحَنَثَ، فَعَلَيْهِ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ (7) فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِطْعَامُ عَشَرَة مَسَاكِينَ غَدَاءً (8) وعَشَاءً (9) أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ. 739 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سلاَّم (10) بن سُلَيْم الحنفي (11) ، عن   (1) أي اعتقدوا. (2) أي يكفي. (3) المراد باليمين المقسم عليه أي حلف على أمر. (4) أي كرّر الحلف. (5) أي نقض يمينه. (6) لكل مسكين ثوب يستر عامّة بدنه. (7) أي لا يجد شيئاً من الثلاثة. (8) بفتح الغين طعام الصبح. (9) بفتح العين طعام المساء. (10) بتشديد اللام. (11) نسبة إلى بني حنيفة قبيلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 أَبِي إِسْحَاقَ السَّبيعي، عَنْ يَرْفأ (1) مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا يَرْفَأُ إِنِّي أَنْزَلْتُ مالَ (2) اللَّهِ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ (3) مَالِ الْيَتِيمِ إِنِ احتجتُ أخذتُ مِنْهُ، فَإِذَا أيْسَرْتُ (4) ردَدْتُّه وَإِنِ استَغْنَيْتُ (5) استَعْفَفْتُ (6) ، وَإِنِّي قَدْ وُلِّيت (7) مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَمْرًا (8) عَظِيمًا، فَإِذَا (9) أنتَ سمعتَني أحلفُ على يمين، فلم أمضها (10) فأطعم عني   (1) بفتح الياء وسكون الراء. (2) أي مال بيت المال. (3) قوله: بمنزلة مال اليتيم، أي في حكمه الوارد في قوله تعالى: (من كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف) (سورة النساء: الآية 6) . فإن وقعتْ لي حاجة أخذتُه لنفسي، ثم رددت فيه مثله إذا حصل لي الغناء وإن لم تقع استعففت عنه ولم آخذه فإنه مال المسلمين. (4) أي صرتُ موسِراً. (5) أي عن أخذه. (6) من الاستعفاف طلب العفّة. (7) مجهول من التولية. (8) أي أمر الخلافة. (9) قوله: فإذا أنت، أي قد ولِّيتُ أمراً عظيماً فربما أغفل بسبب كثرة أشغالي وشدة أفكاري فأحلف على شيء ولا أبره شغلاً بالأمور العظيمة، فإذا وقفتَ عليه فكفرِّ عني. (10) من الإِمضاء أي لم أفعل حسبه بل أحنث فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 عَشَرَةَ مَسَاكِينَ خَمْسَةَ أَصْوُع (1) بُرٍّ بَيْنَ كُلِّ مِسْكِينَيْنِ صَاعٌ (2) . 740 - أَخْبَرَنَا يُونُسُ (3) بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ يَسَارِ (4) بْنِ نُمَيْر (5) ، عن يرفاء غُلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: إِنَّ عَلَيَّ أَمْرًا مِنْ أَمْرِ النَّاسِ جَسِيمًا (6) فَإِذَا رأيتَني قَدْ حلفتُ (7) عَلَى شَيْءٍ فَأَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، كُلُّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صاع من بُرّ (8) .   (1) بفتح الألف وضم الواو جمع الصاع. (2) أي لكل مسكين نصف صاع. (3) قوله: يونس بن أبي إسحاق، قال السَّمعاني في "كتاب الأنساب: عند ذكر السبيعي بعد ما ضبطه بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المنقوطة باثنتين من تحت بآخره عين مهملة، نسبةً إلى سبيع بطن من هَمْدان، وبالكوفة محلة معروفة بالسبيع لنزول هذه القبيلة بها، ومن العلماء المنسوبين إلى هذه المحلة أبو إسحاق السَّبيعي واسمه عمرو بن عبد الله بن علي بن أحمد السبيعي الهمداني، مولده سنة 29 في خلافة عثمان رأى عليّاً وأسامة وابن عباس والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وأبا جحيفة وابن أبي أوفى، وروى عنه الأعمش والثوري ومنصور، مات سنة 127. ابنه يونس بن أبي إسحاق السَبيعي كنيته أبو إسرائيل، يروي عن أبيه، مات سنة 159، وفي "التقريب": يونس بن أبي إسحاق السَّبيعي أبو إسرائيل الكوفي صدوق يهم قليلاً، مات سنة 152 على الصحيح. (4) قوله: عن يَسار، بفتح الياء، قال الحافظ في "التقريب": يسار بن نُمير المدني مولى عمر بن الخطاب، ثقة، نزل الكوفة. (5) بضم النون مصغَّراً. (6) أي عظيماً. (7) أي ثم حنثت. (8) أي حنطة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 741 - أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ أَنْ يُكَفَّرَ (1) عَنْ يَمِينِهِ بنصفِ صاعٍ لِكُلِّ مسكينٍ. 742 - أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَينة، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ (2) ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ (3) فِيهِ إِطْعَامُ الْمَسَاكِينِ نصفُ صاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. 2 - بَابُ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ (4) اللَّهِ 743 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عمَّته (5) أَنَّهَا حدَّثَتْه عَنْ جَدَّتِهِ: أَنَّهَا كَانَت جعلتْ عَلَيْهَا مَشْيًا إلى مسجد   (1) بصيغة المجهول. (2) هو ابن مالك الجزري. (3) ككفارة الظهار وكفارة فطر رمضان وكفارة حلق الرأس في الإِحرام. (4) قوله: عن عمّته، قال الزرقاني: قال ابن الحذاء: هي عمرة بنت حزم عمّة جَدّ عبد الله بن أبي بكر، وقيل لها عمته: مجازاً، وتعقبه الحافظ بأن عمرة صحابية قديمة، روى عنها جابر الصحابي، فرواية عبد الله عنها منقطعة لأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 قُبَاءَ (1) فَمَاتَتْ، وَلَمْ تَقْضِه، فَأَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنَتَهَا أَنْ تَمْشيَ (2) عَنْهَا. 744 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عبد الله (3) بن أبي حبيبة، قال:   لم يدركها، فالأظهر أن المراد عمته الحقيقية وهي أمّ عمرو أو أمّ كلثوم. انتهى. والأصل الحمل على الحقيقة، وعلى مدّعي العمة المجازية بيان الرواية التي دعواه فيها خصوصاً مع ما لزم عليها من انقطاع السند والأصل خلافه. (5) قوله: عن عمّته، قال الزرقاني: قال ابن الحذاء: هي عمرة بنت حزم عمّة جَدّ عبد الله بن أبي بكر، وقيل لها عمته: مجازاً، وتعقبه الحافظ بأن عمرة صحابية قديمة، روى عنها جابر الصحابي، فرواية عبد الله عنها منقطعة لأنه لم يدركها، فالأظهر أن المراد عمته الحقيقية وهي أمّ عمرو أو أمّ كلثوم. انتهى. والأصل الحمل على الحقيقة، وعلى مدّعي العمة المجازية بيان الرواية التي دعواه فيها خصوصاً مع ما لزم عليها من انقطاع السند والأصل خلافه. (1) بضم القاف وبالمد موضع معروف بقرب المدينة. (2) قوله: أن تمشي عنها، لأن الأصل أن الإِتيان إلى قباء مرغَّب فيه، ولا خلاف في أنه قربة لمن قرب منه، ومذهب ابن عباس قضاء المشي عن الميت، ولم يأخذ بقوله في المشي الأئمة الأربعة (قال الموفق: إن نذر إتيان مسجد سوى المساجد الثلاثة لم يلزمه إتيانه، وإن نذر الصلاة فيه لزمته الصلاة دون المشي، ففي أي موضع صلّى أجزأه لأن الصلاة لا تخص مكاناً دون مكان فلزمته الصلاة دون الموضع، ولا يُعلم في هذا خلافاً إلا عن الليث فإنه قال: لو نذر صلاةً أو صياماً بموضع لزمه فلعله في ذلك الموضع ومن نذر المشي إلى مسجد مشى إليه. قال الطحاوي لم يوافقه على ذلك أحد من الفقهاء المغني 9/15) ، ولذا قال مالك: لا يمشي أحد عن أحد، وقال ابن القاسم: أنكر مالك أحاديث المشي إلى قباء ولم يعرف المشي إلى قباء ولم يعرف المشي إلى مكة خاصة، قال ابن عبد البر: يعني لا يعرف إيجاب المشي للحالف والناذر، وأما المتطوع فقد روى مالك أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليها راكباً وماشياً وأن إتيانه مرغّب فيه، كذا ذكر الزرقاني. (3) قوله: عبد الله بن أبي حبيبة، المدني مولى زبير بن العوام، روى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وعن عثمان، ذكره البخاري عن ابن مهدي، وروى عنه بكير بن الأشجّ ومالك، وأبو حنيفة في "مسنده" عنه سمعت أبا الدرداء، فذكر الحديث في فضل من قال لا إله إلا الله، قال ابن الحذاء: هو من الرجال الذين اكتُفي في معرفتهم برواية مالك عنهم، كذا في "شرح الزرقاني". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 قُلْتُ لِرَجُلٍ وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ (1) ، لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ - يَقُولُ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلا يُسَمِّي (2) نَذْرًا - شيءٌ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: هَلْ لَكَ إِلَى أنْ أُعْطِيكَ هَذَا الجرْو (3) لِجَرْوِ قثَّاءٍ (4) فِي يَدِهِ، وَتَقُولُ: عَلَيَّ مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فقلتُ (5) نَعَمْ، فقلتُه، فمكثتُ حِينًا (6) حَتَّى عقلتُ (7) ، فَقِيلَ لِي: إِنَّ عَلَيْكَ (8) مَشْيًا. فجئتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذلك   (1) قوله: وأنا حديث السنّ، قال الباجي: يريد أنه لم يكن فقه الحديث لحداثة سنّه، وقال ابن حبيب عن مالك: كان عبد الله يومئذ قد بلغ الحلم، وأعتقد أنّ لفظ الالتزام إذا عرى عن لفظ النذر لم يجب عليه شيء. (2) أي لا يذكر لفظ النذر. (3) الجرو: بتثليث الجيم: الصغير من كل شيء كما في "القاموس". (4) بكسر القاف وتشديد الثاء المثلثة وقد يفتح القاف: خيار (والجملة في موضع الحال أي مشيراً بلفظ هذا الجرو إلى جرو قثاء كان (في يده) وفي نسخة: بيده، شُبّهت بصغار أولاد الكلاب للينها ونعومتها، كذا في الأوجز 9/18) . (5) قوله: فقلت نعم، قال الباجي: ما كان ينبغي ذلك للرجل فربما حمله اللجاج على أمر لا يمكنه الوفاء به وكان ينبغي أن يعلمه بالصواب، فإن قبل وإلا حضّه على السؤال، ولعله اعتقد فيه أنه إن لم يلزمه هذا القول ترك السؤال، وإن لزم دعته الضرورة إلى السؤال عنه. (6) أي زماناً. (7) أي صرت ذا عقل وفقه. (8) أي لزم عليك المشي إلى بيت الله بقولك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 فَقَالَ (1) : عَلَيْكَ مشيٌ. فَمَشَيْتُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَنْ جَعَلَ عَلَيْهِ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ لَزِمَهُ (2) المشيُ إِنْ جَعَلَهُ نَذْرًا أَوْ غَيْرَ نَذْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا رحمهم الله تعالى.   (1) قوله: فقال: عليك مشي، قال مالك: وهذا هو الأمر عندنا، وبه قال ابن عمر وطائفة، ورُوي مثله عن القاسم بن محمد، والمعروف عن سعيد بن المسيّب خلاف ما روى عنه ابن أبي حبيبة (أما رواية ابن أبي حبيبة، فقال الباجي: إن إسنادها إلى سعيد ضعيف. انظر: المنتقى 3/232. وقال الزرقاني: إن ثبت ما قال: إنه المعروف عنده فيكون رجع عن ذلك وإلا فالإِسناد إليه صحيح، مالك عن ابن أبي حبيبة عنه لا سيما وهو صاحب القصة. شرح الزرقاني 3/58) ، وأنه لا شيء عليه حتى يقول عليّ نذر المشي إلى بيت الله، كذا قال ابن عبد البر. (2) قوله: لزمه المشي، أي مع الحج أو العمرة سواء أطلق لفظ النذر أو لم يطلق وسواء قال عليّ المشي إلى بيت الله أو إلى الكعبة أو إلى مكة أو بمكّة، وسواء قال ذلك في مكة أو في خارجها، فيلزم في هذه الصور أحد النُّسُكين ماشياً لأنه تُعُورف إيجاب أحد النسكين به، فصار فيه مجازاً لغوياً حقيقةً عرفية مثل ما لو قال: عليّ حجة أو عمرة، بخلاف ما إذا قال عليّ الذهاب إلى مكة أو الذهاب لله أو عليّ السفر إلى مكة أو الركوب إليها أو المسير إليها أو نحو ذلك، فإنه لا يلزمه فيها شيء لعدم تعارف إيجاب النُّسُكين بهما، وعدم كون السفر ونحوه قربة مقصودة، وكذا إذا قال: عليّ المشي إلى بيت الله وأراد به مسجدا من المساجد وكذا في عليّ المشي إلى بيت المَقْدس، أو إلى المدينة المنورة، وكذا في عليّ الشدّ أو الهرولة أو السعي إلى مكة أو المشي إلى أستار الكعبة أو ميزابها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 3 - بَابُ مَنْ جَعَل عَلَى نَفْسِهِ الْمَشْيُ ثُمَّ عَجَزَ (1) 745 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عُرْوَةَ (2) بْنِ أُذَيْنَة أنَّه قَالَ: خرجتُ مَعَ جَدَّةٍ لِي عَلَيْهَا مشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عجزتْ (3) فَأَرْسَلَتْ مَوْلًى لَهَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِيَسْأَلَهُ، وخرجتُ (4) مَعَ المَوْلى، فَسَأَلَهُ (5) : فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مُرها فَلْتَرْكَبْ ثُمَّ لتمشِ (6) مِنْ حَيْثُ عجَزْت. قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ قَالَ (7) هَذَا قَوْمٌ. وأحبُّ إلينا من هذا القول   أو أسطوانتها أو إلى الصفا والمروة أو عرفات. واختلفوا في عليّ المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام، فعنده لا يلزمه شيء وعندهما يلزم أحد النسكين، فإن قلت: إذا كان قوله عليّ المشي إلى بيت الله ونحوه مثل عليّ حجة أو عمرة يلزم أن لا يلزمه المشي بل يستوي فيه المشي والركوب قلت تقديره عليّ حجة أو عمرة ماشياً فإن المشي لم يُهدر اعتباره شرعاً، كذا ذكره ابن الهمام في "فتح القدير". (1) قوله: عن عروة بن أُذينة، بضم الهمزة على التصغير لقب، اسمه يحيى بن مالك بن الحارث بن عمرو الليثي، كان عروة شاعراً غزلاً خيراً، ثقة، وليس له في "الموطأ" غير هذا الحديث، ولجدِّه مالك بن الحارث رواية عن علي، كذا ذكره ابن عبد البَرّ وغيره. (2) قوله: عن عروة بن أُذينة، بضم الهمزة على التصغير لقب، اسمه يحيى بن مالك بن الحارث بن عمرو الليثي، كان عروة شاعراً غزلاً خيراً، ثقة، وليس له في "الموطأ" غير هذا الحديث، ولجدِّه مالك بن الحارث رواية عن علي، كذا ذكره ابن عبد البَرّ وغيره. (3) أي عن المشي. (4) أي لأسمع جواب ابن عمر بلا واسطة. (5) أي سأل المولى (في الأصل: "لمن"، وهو خطأ) ابن عمر. (6) أي إذا قدرت فلتقضِ المشي من حيث أعيت. (7) أي ذهب إلى ما أفتى به ابن عمر جمع من العلماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. 746 - أَخْبَرَنَا (1) شُعبة بْنُ الحَجَّاج، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتبة، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كرَّم اللَّهُ وَجْهَهُ، أنَّه قَالَ: مَنْ نَذَرَ أنْ يحجَّ مَاشِيًا، ثُمَّ عَجِز فليَرْكَبْ ولْيَحُجَّ وَلْيَنْحَرْ بَدَنَة (2) . وَجَاءَ عَنْهُ (3) فِي حَدِيثٍ آخَرَ: ويُهْدِي هَدْيًا (4) . فَبِهَذَا نأخُذُ، يَكُونُ الْهَدْيُ مَكَانَ الْمَشْيِ (5) . وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   (1) قوله أخبرنا شعبة، بضم الشين بن الحجّاج - يتشديد الجيم الأولى بعد الحاء المفتوحة - ابن الورد العتكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي البصري، ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، مات سنة 160 هـ، وشيخه الحَكَم بفتحتين ابن عُتبة - بضم العين وسكون التاء المثناة الفوقية بعدها باء موحَّدة، على ما في نسخ هذا الكتاب - أو عُتَيبة - بضم العين مصغَّراً على ما ضبطه الحافظ في "التقريب" - ثقة ثَبْت من أجلَّة أصحاب النخعي. (2) أي ليذبح بدنة إبلاً أو بقرة. (3) أي عن علي رضي الله عنه. (4) أي شاة، والأولى أفضل (حكى الباجي عن كتاب ابن الموّاز أن الشاة تجزئ مع القدرة على البدنة، والواجب عند الحنفية شاة وهو الأصح عند الشافعية، وقول لهم بالبدنة، والواجب في المرجّح عند الحنابلة كفارة يمين. انظر أوجز المسالك 9/27) . (5) قوله: يكون الهدي مكان المشي (إن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الفاء بنذره، وبهذا قال مالك والأوْزعي والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر، ولا نعلم فيه خلافاً، وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه دم وهو قول للشافعي وأفتى به عطاء، وهذا قول مالك، وقال أبو حنيفة: عليه هدي سواء عجز عن المشي أو قدر عليه وأقل الهدي شاة، وقال الشافعي: لا يلزمه مع العجز كفارة بحال إلاَّ أن يكون النذر مشياً إلى بيت الله فهل يلزمه هدي؟ فيه قولان، وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيءٌ. انظر المغني 9/12) ، أي من دون عود المشي عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 747 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ عَلَيّ مشْيّ، فَأَصَابَتْنِي خاصرةٌ (1) ، فَرَكِبْتُ حَتَّى أَتَيْتُ مَكَّةَ فسألتُ عطاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرَهُ، فَقَالُوا: عَلَيْكَ (2) هَدْيٌ، فَلَمَّا قدمتُ الْمَدِينَةَ سَأَلْتُ فَأَمَرُونِي (3) أَنْ أَمْشِيَ مِنْ حَيْثُ عَجَزْتُ مَرَّةً أُخْرَى، فَمَشَيْتُ. قَالَ محمدٌ: وَبِقَوْلِ عَطَاءٍ نَأْخُذُ. يَرْكَبُ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ لِرُكُوبِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أن يعود.   القدرة، والقياس أن لا يخرج عن عهدة النذر إذا ركب، بل يجب عليه إذا قدر المشي، كما لو نذر الصوم متتابعاً، وقطع التتابع، لكن ثبت ذلك نصّاً في الحج، فوجب العمل به، وهو ما أخرجه أبو داود بسند حجة من حديث ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تركب وتهدي هدياً. وفي رواية أخرى له: أن أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية فقيل: إنها لا تطيق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لغنيّ عن مشي أختك فلتركبْ ولتهدي بَدَنة. إلاَّ أنه عملنا بإطلاق الهدي من غير تعيين بدنة لقوة روايته والتفصيل في "فتح القدير". (1) أي وجع الخاصرة (تهي كَاه وميان مردم) ، بالفارسية. (2) أي من غير إعادة المشي. (3) إفتاؤهم مثل إفتاء ابن عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 4 - بَابُ الاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ 748 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ (1) : مَنْ قَالَ: وَاللَّهِ (2) ، ثُمّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلِ الَّذِي عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا قَالَ: إن شاء الله ووصلها (3) بيمينه   (1) قوله: قال، هذ موقوف على ابن عمر عند مالك وجماعة من أصحاب نافع، ورفعه أيوب السَّخْتِياني، رواه الشافعي وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من طريقه عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: من استثنى فإنْ شاء مضى، وإن شاء ترك من غير حنث. هذا لفظ النسائي، ولفظ الترمذي: فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه. ولفظ الباقين سوى أحمد فقد استثنى، قال الترمذي: لا نعلم أحداً رفعه غير أيوب، وقال عُليَّة: كان أيوب تارة يرفعه، وتارة لا يرفعه، وقال البيهقي: لا يصح رفعه إلاَّ عن أيوب، وتابعه على رفعه عبد الله العمري وموسى بن عقبة وكثير بن فرقد وأيوب بن موسى. وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعاً: من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله لم يحنث، أخرجه الترمذي واللفظ له، والنسائي وابن ماجه وابن حبان، كذا أورده الحافظ في "التلخيص". (2) أي والله لأفعلنَّ كذا. (3) قوله: ووصلها بيمينه، المراد بالوصل أن لا يُعَدّ في العرف منفصلاً كالانفصال بسكوت أو كلام، حتى لا يضرّ قطعه بتنفُّس أو سعال ونحو ذلك، واحترز به عما إذا قال ذلك منفصلاً، فإنه بعد الفراغ رجوع عن اليمين، ولا يصح ذلك. فإن قلت: الحديث بإطلاقه لا يفصل بين المتصل والمنفصل؟ قلت: الدلائل الدالة من النصوص وغيرها على لزوم العقود هي التي توجب الاتصال، فإن جواز الاستثناء منفصلاً يُفضي إلى إخراج العقود كلِّها من المقصود من البيوع والأنكحة وغيرها، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى، كذا ذكر العيني. وذكر صدر الشريعة في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 فَلا شَيْءَ (1) عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. 5 - بَابُ الرَّجُلِ يَمُوتُ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ 749 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس: أن (2)   الاستدلال على امتناع التراخي حديث: فليكفِّر عن يمينه، فإنه أوجب الكفارة فلو جاز بيان التغيير أي الاستثناء متراخياً لما وجبت الكفارة في اليمين أصلاً لجواز أن يقول متراخياً إن شاء الله فتبطل يمينه. والمسألة خلافية بيننا وبين الشافعية مبسوطة بأدلتها في كتب الأصول. (1) قوله: فلا شيء (في المحلّى، قال عياض: أجمعوا على أن الاستثناء يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً، وعن ابن عباس له الاستثناء أبداً، وتأوَّله بعضهم أنه يستحب له أن يقول: إن شاء الله تبرُّكاً بقوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيتَ) ، وليس مراده أن ذلك رافع للحنث وساقط للكفارة، وأما إذا استثني في الطلاق والعتق وغيرهما ما سوى اليمين بالله فمذهب الشافعي وأبي حنيفة صحة الاستثناء فيها كاليمين، وقال مالك والأَوْزاعي: لا تصح إلاَّ في اليمين. انتهى. وفي المغني: أنه يصح الاستثناء في كل يمين مكفرة عند أحمد إلاَّ الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عنه فيهما أنه توقَّف في ذلك، وفي رواية: ليس له الاستثناء فيهما مثل قول مالك وغيره. انظر أوجز المسالك 9/65. وقال الغزالي: نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما جواز تأخير الاستثناء ولعله لا يصح النقل عنه. انظر بذل المجهود 14/282) ، أي لا يجب عليه البِرّ لأنه علَّق المقسم به على مشيئة الله تعالى وهي غير معلومة، نعم: لو قال: إن شاء الله لمجرَّد التبرُّك من غير قصد التعليق ينعقد يميناً. (2) قوله: أن سعد، هكذا رواه مالك وتابعه الليث وبكر بن وائل وغيرهما عن الزهري، وقال سليمان بن كثير، عن الزهري عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن سعد أخرج جميع ذلك النسائي. وأخرجه أيضاً من رواية الأَوْزاعي وابن عُيَينة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 سَعْدَ (1) بْنَ عُبادة اسْتَفْتَى رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ تَقْضِه، قَالَ: اقضِهِ (2) عَنْهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: مَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ أَوْ صدقة أو حج قضاها عنها أجزأ (3)   عن الزهري على الوجهين، وابن عباس لم يدرك القصة. فإنَّ أم سعد عَمْرة بنت مسعود، وقيل بنت سعد بن قيس الأنصارية الخزرجية من المبايعات، ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب في غزوة دُومة الجندل، وكانت في الربيع الأولى سنة خمس، وكان سعد بن عبادة عند ذلك معه وابن عباس كان حين ذلك مع أبويه بمكة، فتُرجَّح رواية من زاد عن سعد، ويحتمل أنه أخذه عن غيره، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". (1) أحد النقباء من الأنصار. (2) قوله: قال اقضه، أي استحباباً لا وجوبأً، خلافاً للظاهرية تعلُّقاً بظاهر الأمر، قائلين سواء كان بمال أو بدل، وأصحابنا خصُّوه بالعبادات المالية دون البدنية المحضة لقول ابن عباس: (لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد) ، أخرجه النسائي في سنه الكبرى، ونحوه عن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه. وفرَّقوا بين ما إذا أوصى المتوفَّى أيضاً بالنذر فيجب على الورثة ذلك من ثلث ماله وإن لم يوصِ لا يجب عليه، فإن أوفى تبرُّعاً فالمرجوُّ من سعة فضل الله أن يكون مقبولاً) (3) قوله: أجزأ ذلك، أي سقط عن ذمة الناذر ذلك إن شاء الله وهذا تعليق للإِجزاء عند عدم الوصية ويؤيده ما في صحيح البخاري، عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت قبل أن تحج فقال: لو كان عليها دَيْن أكنتَ قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقْضِ، فدَيْنُ الله أحقُّ بالقضاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله تَعَالَى. 6 - بَابُ مَنْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ فِي مَعْصِيَةٍ 750 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا طَلْحَةُ (1) بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال (2) : من نذر أن يُطيع اللع فَلْيُطِعْهُ (3) ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ (4) .   (وقد ذهب الجمهور إلى أن مَنْ مات وعليه نذر مالي أنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوصِ إلاَّ إنْ وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث، وشرط المالكية والحنفية أن يوصي بذلك مطلقاً، واستدل للجمهور بقصة أم سعد هذه، وقول الزهري: إنها صارت سنة بعد، ولكن يمكن أن يكون سعد قضاه من تركتها أو تبرَّع به. فتح الباري 11/585. (1) قوله: طلحة بن عبد الملك، الأَيْلي - بفتح الهمزة - وثقه أبو داود والنسائي وجماعة، كذا في "الإِسعاف". (2) قوله: قال: من نذر، قال الزرقاني: هذا الحديث رواه القعنبي ويحيى بن بكير وأبو مصعب وسائر رواة "الموطأ" عن مالك مسنداً، وأخرجه البخاري عن شيخه أبي عاصم الضحاك، عن مخلد وأبي نعيم الفضل بن دكين، والترمذي والنسائي، عن قتيبة بن سعيد الثلاثة عن مالك به، وتابعه عبيد الله، عن طلحة عند الترمذي. (3) قوله: فليطعه، أي وجوباً، فإن المباح يصير واجباً بالنذر، لقوله تعالى: (وليوفوا نذورهم) (سورة الحج: الآية 29) . (4) قوله: فلا يعصه، كما إذا نذر ترك الكلام مع أبويه أو ترك الصلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يسمِّ (1) فليُطع اللَّهَ وليكَفِّر (2) عَنْ يَمِينِهِ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ. 751 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (3) يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى ابن عباس فقالت: إنّي نذرت أن   أو حلف في ذلك فإنه يجب عليه أن لا يأتي بالمعصية (قال الموفق: نذر المعصية فلا يحل الوفاء به إجماعاً، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصيه"، ولأن معصية الله لا تحلُّ في حال، ويجب على الناذر كفارة يمين، روي نحو هذا عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن حندب وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، ورُوي عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه، فإنه قال فيمن نذر ليهدِمَنّ دار غيره لبنة لبنة لا كفارة عليه، وهذا في معناه، وروي هذا عن مسروق والشعبي وهو مذهب مالك والشافعي ... إلخ. المغني 9/3 - 4) ، بل يخالف ما نذر به وما حلف عليه ويوافق ما أمره ربه. (1) قوله: ولم يسمِّ، أي لم يعيِّن تلك المعصية بل قال: عليَّ معصية ربي ونحو ذلك، وكأنَّه حمل قوله: "من نذر أن يعصيه فلا يعصيه" على نذر المعصية غير مسماة وليس بظاهر، فإن الظاهر أن مراده صلى الله عليه وسلم الإِطلاق سمّى أو لم يسمَّ. (2) قوله: وليكفِّر عن يمينه، هذا على تقرير أنه حلف ظاهر، وأما إذا لم يحلف بل اكتفى على كلمة النذر فلأن كلمة النذر نذر بصيغة يمين بموجبه لأن النذر عبارة عن إيجاب المباح، وهو مستلزم لتحريم الحلال، وهو معنى اليمين، فيلزم ما يلزمه في اليمين إذا حنث. وفي المسألة تفصيل واختلاف مبسوط في كتب الأصول. (3) في نسخة: أخبرنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 أَنْحَرَ (1) ابْنِي، فَقَالَ: لا تَنْحَرِي ابنَك، وكفِّري (2) عَنْ يمينِك (3) ، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَالِسٌ: كَيْفَ (4) يَكُونُ فِي هَذَا كَفَّارَةٌ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أرأيتَ (5) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (6) : (والذين يظاهرون من   (1) أي أذبح. (2) قوله: وكفِّري عن يمينك، أي بكفارة اليمين، وفي رواية عن ابن عباس: ينحر مائة من الإِبل مقدار دية النفس، وروي عنه أيضاً: ينحر كبشاً أخذاً من فداء إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ورُوي قوله الأول عن عثمان وابن عمر، ورُوي الأخيران عن علي، كذا ذكره ابن عبد البر. (3) سمّى النذر يميناً لكونه موجب موجبه. (4) أي فإنه نذر معصية. (5) أي أخبرني (6) قوله: قال: (والذين يظاهرون ... ) (سورة المجادلة: الآية 2) ، غرضه إثبات أن لا تنافي بين المعصية ووجوب الكفارة، فإن الظهار أمر قبيح عرفاً وشرعاً، وقد قال الله تعالى في حق المظاهرين: (وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً وإن الله لعفو غفور) ، ثم جعل فيه الكفارة في الآية التالية، وهو تحرير رقبة: (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً) (سورة المجادلة: الآية 4) ، فكذلك نذر المعصية وإن كان ممنوعاً شرعاً يلزم فيه كفارة اليمين، وبه ظهر الجواب عن كلام ابن عبد البَرّ حيث قال: لا معنى للاعتبار في ذلك بكفارة الظهار، لأن الظهار ليس بنذر، ونذر المعصية جاء فيه نص النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وذلك لأن الظهار وإنْ لم يكن نذراً لكنه متشارك به في كونه معصية فإذا جاز وجوب الكفارة في الظهار جاز في النذر بالمعصية وهما متساويان في ورود النهي عنه صراحة أو إشارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 نسائهم) ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ مَا قَدْ رَأَيْتَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) نَأْخُذُ. وَهَذَا (2) مِمَّا وصفتُ لَكَ أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ، فَلا يعصيَنَّ، وليُكَفِّرَنَّ (3) ، عن يمين. 752 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (4) ابْنُ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صالح،   (1) وأخرج صاحب الكتاب في كتاب "الآثار" في مثل هذا، عن مسروق وابن عباس أنهما أمرا بذبح الكبش وقال: به نأخذ. (2) أي هذا من فروع ما ذكرتُ لك من الحكم الكلي. (3) قوله: وليكفِّرن عن يمينه، وبه قال أحمد في رواية، وفي رواية عنه: يلزمه في هذه الصورة ذبح الشاة. وقال مالك والشافعي: لا يلزمه شيء، كذا في "رحمة الأمة". (4) قوله: أخبرنا ابن سهيل بن أبي صالح، هكذا وجدنا في بعض النسخ، وفي بعضها سهيل بن أبي بن أبي صالح، وفي نسختين مصحّحتين: أخبرنا ابن أبي صالح، وهو الصحيح الموافق لما في رواية يحيى بن مالك: عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه ... إلخ. ولعل لفظ الابن على سهيل في نسخة الأولى من زيادات النساخ، فإن هذه الرواية لسهيل بن أبي صالح لا لابنه ولا لسهيل بن أبي بن أبي صالح، وهو سُهيل - بضم السين مصغَّراً - ابن أبي صالح، أبو زيد المدني، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وقال الحاكم: أحد أركان الحديث قد أكثر مسلم الرواية عنه في الأصول والشواهد وروى عنه مالك، وهو الحكم في شيوخ المدينة، الناقد لهم وأرَّخ وفاته ابن قانع سنة 138، وأبوه أبو صالح اسمه ذكوان السمّان الزيات المدني. قال أبو حاتم: ثقة، صالح، يحتج بحديثه، وقال أبو داود: سألت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: من حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فليُكَفِّر (1) عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ. قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.   ابن معين، من كان الثبت في أبي هريرة؟ فقال: ابن المسيب وأبو صالح وابن سيرين، والأعرج، مات سنة 101 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب". (1) قوله: فليكفِّر عن يمينه، أي بعد الحنث، فإنه لو قدَّم الكفارة، ثم حنث لا يجوز عندنا لأن سبب وجوب الكفارة هو الحنث لا إرادته ولا اليمين، فإنه عقد للبرّ لا للحنث، ولا يجوز تقديم الشيء على سببه، وذهب الشافعي إلى إجزاء التكفير بالمال قبل الحنث، وأما الصوم فلا يجزئ في ظاهر مذهبه، وفي وجه يجوز تقديمه أيضاً، وبه قال مالك وأحمد، كذا في "البناية". وقال الزرقاني (شرح الزرقاني 3/65) : ظاهر هذا الحديث إجزاء التكفير قبل الحنث ومنع ذلك أبو حنيفة وأصحابه، والعجب أنهم لا تجب الزكاة عندهم إلاَّ بتمام الحول، وأجازوا تقديمها قبله من غير أن يرووا مثل هذه الآثار، وأبوا من تقديم الكفارة قبل الحنث مع كثرة الرواية والحجة في السنَّة ومن خالفها محجوجٌ بها، قاله ابن عبد البر. وهذا كلام صدر عن الغفلة عن أصول الحنيفة فإن الحول عندهم إنما هو سبب لوجوب أداء الزكاة لا لوجوبه، وسببه ملك النصاب، وقالوا: لا يجوز تقديم الزكاة على ملك النصاب ويجوز بعد ملكه على الحول بخلاف الحنث فإنه سبب لوجوب الكفارة لا لوجوب أدائه حتى يجوز تقديمه، وجَعْل اليمين سبباً غير معقول، وما ذكره من كون ظاهر الحديث المذكور جواز التقديم غير مقبول، فإن الواو لمطلق الجمع لا للترتيب على الأصح. فمن أين يُفهم التقديم. وفي المقام كلام طويل. ليس هذا موضعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 7 - بَابُ مَنْ حَلَفَ (1) بِغَيْرِ اللَّهِ (2) 753 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع (3) عمر بن الخطاب، وهو يقول: ولا وَأَبِي (4) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا (5) بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ثُمَّ ليبررْ (6) أَوْ ليصمُتْ (7) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَحْلِفَ بِأَبِيهِ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ثمَّ ليبرُرْ أَوْ ليَصْمُتْ. 8 - بَابُ الرَّجُلِ يَقُولُ: مَالُه فيِ رِتَاج الْكَعْبَةِ 754 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (8) أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى مِنْ   (راجع أوجز المسالك 9/69 - 70) . (1) سمع: في رواية كان ذلك في سفر غزاة. (2) حلف بالأب حسبما اعتادوه. (3) سمع: في رواية كان ذلك في سفر غزاة. (4) حلف بالأب حسبما اعتادوه. (5) التخصيص بذكر الآباء إما بحسب المورد أو بناء على أن الحلف به كان غالباً عندهم وإلاَّ فالحكم عام. (6) من بررت في يمينه إذا صدق فيه وفعل على حسبه. (7) بضم الميم على الرواية المشهورة وحُكي بالكسر: أي ليسكت. (8) قوله: أخبرني مالك ... إلخ، في "موطأ يحيى: وشرحه للزرقاني: (مالك، عن أيوب بن موسى) بن عمرو بن سعيد بن العاصي المكي الأموي ثقة، مات سنة 132 هـ، (عن منصور بن عبد الرحمن) بن طلحة بن الحارث العبدري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 وُلْد (1) سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحَجَبِيّ، عَنْ أَبِيهِ (2) ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ فِيمَنْ قَالَ: مَالِي فِي رِتَاج (3) الْكَعْبَةِ يُكَفِّرُ ذَلِكَ بِمَا يُكَفِّر الْيَمِينَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ بَلَغنا هَذَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وأحبُّ إِلَيْنَا أَنْ يفيَ (4) بِمَا جَعَلَ (5) على نفسه، فيتصدَّق (6) بذلك ويُمسك   (الحجبي) بفتح الحاء والجيم نسبة إلى أبي حجابة الكعبة المكي ثقة أخطأ ابن حزم في تضعيفه (عن أمه) صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية لها رؤية، وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": هذا الحديث أخرجه مالك والبيهقي بسند صحيح وصححه ابن السكن، ورواه أبو داود نحوه عن عمر من قوله. انتهى. (1) أي من أولاده. (2) هكذا في كثير من النسخ لهذا الكتاب وتخالفه رواية يحيى (في نسخة يحيى: منصور الحجبي: ولكن في النسخ المصرية منصور بن عبد الرحمن الحجبيّ، كما في "موطأ محمد": قال الحافظ: هو ابن صفية بنت شيبة، ثقة، من الخامسة، أخطأ ابن حزم في تضعيفه. تقريب التهذيب 2/276)) (3) قوله: في رِتاج الكعبة، بكسر الراء بمعنى الباب، يقال: جعل فلان ماله في رتاج الكعبة (وفي "المحلّى": المراد في هذا الحديث نفس الكعبة، لأنه أراد أن ماله هدي إلى الكعبة لا إلى بابها. انظر الأوجز 9/115) أي نذره لها هدياً، كذا في "المغرب" وغيره. (4) من الوفاء. (5) أي بما ألزمه على نفسه بالنذر. (6) لأن جعله في رتاج الكعبة عبارة عن التصدُّق به في سبيل الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 مَا يقُوْتُه (1) ، فَإِذَا (2) أَفَادَ مَالا تصدَّق بِمِثْلِ مَا كَانَ أَمْسَكَ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامَّة مِنْ فُقَهَائِنَا. 9 - بَابُ اللَّغْو مِنَ الأَيْمان 755 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قَالَتْ: لَغْوُ الْيَمِينِ: قَوْلُ الإِنسان: لا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. اللَّغْوُ (3) ما حلف عليه الرجل، وهو يرى   (1) أي قدر ما يكفيه لئلا يحتاج إلى المذلة والمسألة. (2) أي حصل مالاً آخر كافياً. (3) قوله: اللغو ... إلخ، اختلفوا في تفسير اللغو المذكور في قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله بالغو في أَيْمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) (سورة البقرة: الآية 225) على أقوال: الأول: أنه أن تحلف على شيء وأنت غضبان، أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس. الثاني: هو الحلف على المعصية مثل أن لا يصلِّيَ ولا يصنع الخير، أخرجه وكيع وعبد الرزاق وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير. الثالث: أن تحرِّم ما أحل الله لك، أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس. الرابع: أن تحلف على الشيء، ثم تنسى فلا يؤاخذ الله فيه، ولكن يجب الكفارة إذا تذكَّر، أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم، عن النخعي. الخامس: وهو مختار أصحابنا أن اللغو هو أن تحلف على الشيء ظانّاً أنه صادق وهو في الواقع كاذب (واختلفوا في لغو اليمين، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية، هو أن يحلف بالله على أمر يظنه على ما حلف عليه ثم يتبين أنه بخلافه، سواء قصده فسبق على لسانه إلاَّ أن أبا حنيفة ومالكاً قالا: يجوز أن يكون في الماضي وفي الحال، وقال أحمد: هو في الماضي، ثم اتفقوا ثلاثتهم على أنه لا إثم ولا كفارة، وعن مالك: أن لغو اليمين أن يقول: لا والله وبلى والله على وجه المحاورة من غير قصد إلى عقدها. وقال الشافعي: لغو اليمين ما لم يعقده، وإنما يُتَصَوَّر ذلك عنده في قوله: لا والله وبلى والله عند المحاورة والغضب واللجاج من غير قصد سواء كانت على ماضٍ أو مستقبل وهو رواية عن أحمد. رحمة الأمة ص 301) ، فلا مؤاخذة فيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 أَنَّهُ حقٌ، فاستَبَان (1) لَهُ بَعْدُ أَنَّهُ عَلَى غير ذلك، فهذا (2) من اللغو عندنا.   لا كفارة ولا إثماً وهو المروي عن إبراهيم، أخرجه عبد بن حميد، عن ابن عباس أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن عائشة أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي وعن أبي هريرة أخرجه ابن جرير. السادس: هو كلام الرجل في بيته وفي المزاح والهزل: لا والله وبلى والله، من غير قصد اليمين، أخرجه وكيع والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة، وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس، وأبو الشيخ عن ابن عمر وروى نحوه مرفوعاً من حديث عائشة، أخرجه ابن جرير وابن حبان وابن مردويه والبيهقي، والآثار مبسوطة في "الدر المنثور". (1) أي ظهر. (2) قوله: فهذا من اللغو، فلا يجب فيه كفارة ولا إثم، وأما إذا حلف على ماضٍ كاذباً عمداً ففيه الإِثم دون الكفارة، وفيه خلاف الشافعي، وإذا حلف على مستقبل ولم يبرّ عمداً ففيه الكفارة والإِثم، وهو المسمى باليمين المنعقدة. (1) رخّص: أي أجاز له. (2) بخرَصها: بالفتح بمعنى التقدير والتخمين. (3) رخّص: أي أجاز له. (1) رخّص: أي أجاز له. (2) بخرَصها: بالفتح بمعنى التقدير والتخمين. (3) بالفتح فسكون فضمّ، جمع وَسَق - بفتحتين - وهو مقدار ستّين صاعاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 كِتَابُ (1) البُيوع فِي التِّجَارَاتِ والسَّلَم (2) 1 - بَابُ بَيْعِ (3) الْعَرَايَا 756 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ الله بن عمر، عن   (1) في نسخة: أبواب (2) بفتحتين: نوع من أنواع البيوع: بيع آجلٍ بعاجلٍ بشروط مذكورة في موضعها (3) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ (1) لِصَاحِبِ العَرِيَّة أَنْ يبيعَها بِخِرْصِهَا (2) . 757 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخَّص فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ (3) أَوْ في خمسة أوسق (4) . شكَّ   (1) أي أجاز له (2) بالفتح بمعنى التقدير والتخمين (3) بالفتح فسكون فضم جمع وَسَق - بفتحتين - وهو مقدار ستين صاعا (4) قوله: وفي خمسة أوسق، قال شارح المسند: اختلفوا في أن هذه الرخصة يقتصر على مورد النص، وهو النخل أم يتعدى إلى غيرها على أقوال: أحدها: اختصاصها بالنخل، وهو قول أهل الظاهر على قاعدتهم في ترك القياس. الثاني: تعدِّيها إلى العنب بجامع ما اشتركا فيه من إمكان الخرص، فإن ثمرتها متميِّزة مجموعة في عناقيدها بخلاف سائر الثمار فإنها متفرقة مستترة بالأوراق، وبهذا قال الشافعي. الثالث: تعدّيها إلى كل ما ييبس ويُدَّخر من الثمار، وهذا هو المشهور عند المالكية، وجعلوا ذلك علَّة في محل النص، وأناطوا به الحكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 دَاوُدُ (1) لا يَدْرِي أَقَالَ خَمْسَةً أَوْ فِيمَا دُونَ خَمْسَةٍ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَذَكَرَ (2) مالك بن أنس أن العرية إنما   الرابع: تعديتها إلى كل ثمرة مدَّخر وغير مدَّخرة، هذا قول محمد بن الحسين، وهو قول للشافعي. ووقع في حديث أبي هريرة عند البخاري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص في بيع العرايا فيما دون الخمسة أوسق أو خمسة أوسق، فاعتبر من قال بجواز العرايا بمفهوم العدد، ومنعوا ما زاد عليه، واختلفوا في جواز الخمسة للشك المذكور، والراجح عند المالكية الجواز في الخمسة فما دونها، وعند الشافعية فيما دونها لا في خمسة وهو قول الحنابلة وأهل الظاهر. فمأخذ المنع أن الأصل التحريم، وبيع العرايا رخصة، فيؤخَذ بما يتيقّن ويُلغَى ما وقع فيه الشكّ، والسبب فيه أن النهي عن بيع المزابنة هل وقع متقدِّماً، ثم وقعت الرخصة في العرايا، أو النهي عن المزابنة وقع مقروناً مع الرخصة، فعلى الأول لا يجوز في الخمسة للشك في رفع التحريم، وعلى الثاني يجوز للشك في قدر التحريم، ويرجح الأول بما عند البخاري: قال سالم: أخبرني عبد الله، عن زيد بن ثابت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص بعد ذلك لصاحب العرية، قال ابن عبد البر: وقال آخرون لا يجوز إلاَّ في أربعة أوسق لوروده في حديث جابر فيما أخرجه الشافعي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أذن لصاحب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول: الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة. قال الحافظ: يتعَّين المصير إليه، وأما حدّاً، فلا يجوز تجاوزه فليس بالواضح. انتهى. وهذا كله عند غيرنا، وأما عند أصحابنا الحنفية فذكر العدد في الحديث واقع اتفاقاً، وهو خلاف الظاهر. (1) أي شيخ مالك: أيَّ ذلك قال أبو سفيان؟. (2) قوله: وذكر مالك ... إلخ، تفصيل المقام وتنقيحه على ما في "فتح الباري" وشرح "مسند الإِمام" للحصكفي وغيره أنهم اختلفوا في تفسير العرية المرخَّص بها على أقوال: الأول: أن العريَّة عطية تمر النخل دون الرقبة، وقد كانت العرب إذا دهمتهم سَنَة تطَوَّع أهل النخل بمن لا نخل معه، ويعطيهم من تمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   النخلة، فإذا وهب رجل ثمرة نخله، ثم تأذّى بدخوله عليه رُخِّص للواهب أن يشتري رطبها من الموهوب له بتمرٍ يابس بمثل كيله خرصاً. هذا هو المشهور من مذهب مالك، وشرطه عنده أن يكون البيع بعد بدوِّ الصلاح، وأن يكون بثمن مؤجَّل إلى الجُذاذ لا حالٍّ لئلا يلزم الربا بالنسيئة، وأن لا تكون هذه المعاملة إلاَّ مع المعُرِي المالك خاصة. قال ابن دقيق العيد: يشهد لهذا التفسير أمران: أحدهما: أن العريَّة مشهورة في ما بين أهل المدينة متداوَلَة بينهم، وقد نقل مالك هكذا، الثاني: ما وقع في بعض طرق رواية زيد رخّص لصاحب العرية، فإنه يُشعر باختصاصه بصفة تميِّزها عن غيره. القول الثاني: أن يكون لرجل نخلة أو نخلتان في حائط رجل له نخل كثير، فيتأذّى صاحب النخل الكثير من دخول صاحب القليل، فيقول له: أنا أعطيك خرص نخلك تمراً، فرُخِّص لهما ذلك، وهذا رواية عن مالك. والقول الثالث: أنها نخل كانت توهَب للمساكين فلا يستطعون أن ينتظروا بها، فرُخِّض لهم أن يبيعوها بما شاؤوا من التمر، رواه أحمد من حديث زيد، وهو وإن خالف فيما ذكره مالك من أن المراد بصاحب العرية واهبها، لكنه محتمل، فإن الموهوب له صار بالهبة صاحباً لها، وعلى هذا لا يتقيد البيع بالواهب، بل هو وغيره سواء، وحُكي عن الشافعي تقييد الموهوب له بالمسكين وهو اختيار المزني تلميذ الشافعي، ومستنده ما ذكره الشافعي في "مختلف الحديث"، عن محمود بن لبيد قال: قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ قال: فلان وفلان وأصحابه شكَوْوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يحضر، وليس عندهم ذهب ولا فضة يشترون بها منه، وعندهم فضل تمر، فرخّص لهم أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر يأكلونها رطباً. قال الشافعي: قوله: يأكلونها رطباً، يدل على أن مشتري العريَّة يشتريه ليأكلها رطباً، وأنه ليس له رطب يأكلها غيرها، ولو كان المراد من صاحب العرية صاحب الحائط كما قال مالك لكان لصاحب الحائط في حائطه رطب غيره، ولم يفتقر إلى بيع العرية، قال ابن المنذر: هذا لا أعرف أحداً ذكره غير الشافعي، وقال السبكي: لم يذكر الشافعي إسناده وكل من حكاه إنما حكاه عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الشافعي ولم يجد البيهقي له سنداً، قال: ولعلَّ الشافعي أخذه من "سِيَر الواقديّ"، وعلى تقدير صحته فليس قيد الفقير في كلام الشارع. واعتبرت الحنابلة هذا القيد منضماً إلى ما اعتبره مالك فعندهم لا يجوز بيع العرية إلاَّ لحاجة صاحب الحائط إلى البيع أو لحاجة المشتري إلى الرطب. والقول الرابع: ما قاله الشافعي أن العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة أو أكثر بخرصه من التمر بأن يخرص الرطب ويقدر كم ينقص إذا يبس، ثم يشتري بخرصه تمراً، فإن تفرَّقا قبل أن يتقابضا فسد البيع. وللعرية صور، منها: أن يقول رجل لصاحب الحائط: بعيني ثمر هذه النخلة أو نخلات معينة، فيخرصها ويبيعه ويقبض منه الثمن ويسلِّم إليه النخلات، فينتفع برطبها. ومنها: أن يهب صاحب الحائط فيتضرَّر الموهوب له بانتظار صيرورة الرطب تمراً، أو لا يحب أكلها رطباً فيبيع ذلك الرطب من الواهب أو غيره بخرصه بتمرٍ يأخذه معجَّلاً، وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعي والجمهور. ومنع أبو حنيفة ومن تبعه صور البيع كلها، وقصر العرية على الهبة، وهي أن يعري الرجل رجلاً ثمر نخل من نخيله ولا يسلِّمه، ثم يظهر له ارتجاع تلك الهبة، فرخص له أن يحبس ذلك، ويعطيه بقدر ما وهب له من الرطب بخرصه تمراً. وحمله على ذلك أخذاً لعموم النهي عن المزابنة وعن بيع الثمر بالتمر، قال ابن نجيم في "البحر الرائق": أصحابنا خَرَجوا عن الظاهر بثلاثة أوجه: الأول: إطلاق البيع على الهبة، والثاني: قوله رخّص خلاف ما قرروه لأن الرخصة إنما تكون بعد ممنوع، والمنع إنما كان في البيع دون الهبة، الثالث: التقيد بخمسة أوسق أو ما دونها، لأنه على مذهبنا لا فائدة له، فإن الهبة لا تتقيد، وقيل: لأنهم لم يفرِّقوا في الرجوع بالهبة بين ذي رَحِم وغيره، وبأنه لو كان الرجوع جائزاً فليس إعطاؤه التمر بدل الرطب، بل هو تجديد هبته، لأنَّ الهبة الأولى لم تكمل بعدم القبض. ومنهم من قال: إذا تعارض المُحرِّم والمبيح قُدِّم المحَرِّم، وهو مردود بأنَّ الرخصة متصلة بالنهي، وقد ثبت في البخاري: أنه نهى عن بيع المزابنة ثم رخَّص بعد ذلك في بيع العرايا، فبطل القول بالنسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 تَكُونُ أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ النَّخْلُ، فيُطْعِمُ (1) الرجلَ مِنْهَا ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ أَوْ نَخْلَتَيْنِ يلقُطُها (2) لِعِيَالِهِ، ثُمَّ يثقُل (3) عَلَيْهِ دخولُه حائطَه، فَيَسْأَلُهُ (4) أَنْ يَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْهَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِمَكِيلَتِهَا تَمْرًا عِنْدَ (5) صِرام النَّخْلِ، فَهَذَا (6) كلُّه لا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا، لأَنَّ التمرَ كلَّه كان للأول (7) وهو يعطي   (1) أي فيهب رجلاً ثمرة واحدة فما فوقها. (2) بضم القاف يأخذها الرجل الموهوب له لعياله. (3) أي يشق على مالك النخل دخول الموهوب له الثمر في بستانه مرة بعد أخرى لصرم الثمر الموهوب. (4) قوله: فيسأله، أي فيسأل الواهب الموهوب له أن يتجاوز الموهوب له عن تلك الثمرة للواهب على أن يعطيه الواهب بقدر كيليها ثمراً عند الصِّرام - بالكسر - أي قطع ثمر النخل. (5) قوله: عند، متعلق بالإِعطاء وهذا قيد احترازيّ، فإنه لو أعطى من التمر مقدار كيلها في الحال لا يجوز. (6) قوله: فهذا كله لا بأس به عندنا، حمل كلام مالك على ما اختاره أبو حنيفة أن العرية ليست ببيع، بل هو فروع الهبة (مما لا شك فيه أن مذهب الحنفية في ذلك قريب من مذهب الإِمام مالك، لأن كونها موهوبة شرط عند مالك أيضاً، وكذا يُشترط جواز بيعها بالوهب، وحاصل الاختلاف أنها رجوع الواهب في هبته بالبدل عند الحنفية، وشراء الواهب هبته عند المالكية، وقال الشافعي وأحمد: خمسة أوسق مستثنى من نهي المزابنة، فيجوز بيعها من الواهب وغيره مع اختلافهم في شروط الجواز. انظر لامع الداري 6/128) ، وليس كذلك فإن مذهب مالك في ذلك معروف من أنه قائل بالرخصة في بعض صور المزابنة وهو بيع العرية، وهو بيع عنده حقيقةً لا مجازاً، والدليل عليه تقييده بقوله عند صرام النخل، فإن صورة العطية غير مقيدة عنده بهذا القيد ولا عند غيره. (7) أي لصاحب النخلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 مِنْهُ مَا شَاءَ (1) فَإِنْ شَاءَ سلَّم لَهُ (2) تَمْرَ النَّخْلِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا بَمَكِيلَتِهَا مِنَ التمر، لأن هذا (3) لا يُجعل بيعاً،   (1) أيْ أيّ قدرٍ شاء. (2) أي للموهوب له. (3) أي هذا العطاء ليس ببيع حقيقةً، بل مجازاً. (1) قوله لو جعل بيعاً ... إلخ، قد شيّد الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/213 - 215) أركانه، فإنه بعد ما خرَّج طرقه من حديث زيد بن ثابت وابن عمر وجابر وسهل بن أبي حثمة وأبي هريرة النهي عن المزابنة، والرخصة في بيع العرايا، قال: فقد جاءت هذه الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتواترت الرخصة في بيع العرايا، وقَبِلها أهل العلم جميعاً، ولم يختلفوا في صحة مجيئها، وتنازعوا في تأويلها، فقال قوم: العرايا أن الرجل يكون له النخل والنخلتان في وسط النخل الكثير لرجل آخر. قالوا: وقد كان أهل المدينة إذا كان وقت الثمار خرجوا بأهليهم إلى حوائطهم، فيجيء صاحب النخلة والنخلتين بأهله، فيضُرّ ذلك بأهل النخل الكثير، فرخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل النخل الكثير أن يعطي صاحب النخلة أو النخلتين خَرْص ماله من ذلك تمراً لينصرف هو وأصحابه، ويخلص تمر الحائط كله لصاحب النخل الكثير، وقد روي هذا القول عن مالك، وكان أبو حنيفة في ما سمعتُ أحمدَ بنَ أبي عمران يذكر أنه سمعه عن محمد بن سماعة، عن أبي يوسف، عنه، قال: معنى ذلك عندنا أن يعري الرجل ثمر نخلة من نخله، فلا يسلم ذلك إليه حتى يبدوَ له، فرخّص له أن يحبس ذلك ويعطيه مكانه خرصه تمراً، وكان هذا تأويل أشبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وأولى مما قال مالك، لأن العرية إنما هي العطية. انتهى. وفيه ما لا يخفى، فإن العرية وإن كان يستعمل بمعنى العطية إلاَّ أنه ليس بمقتصر عليه، فقد ذكروا أن العرية فعيلة بمعنى مفعولة، أو بمعنى فاعلة، فمن جعلها مفعولة، قال هي من عري النخل إذا أفردها عن النخل ببيع ثمارها رطباً، وقيل: من عراه يعروه إذا أتاه، وتردد إليه لأن صاحبها يتردد إليها، ومن جعلها فاعلة جعلها مشتقة من قولهم: عريت النخلة، بفتح العين وكسر الراء، فكأنها عريت عن حكم أخواتها على أنه لو سلّم أن العرية معنى العطية ليس إلا فهو لا يستلزم أن يكون بيع العرايا عبارة عن العطية بل العرية بنفسها بمعنى العطية، وبيعها غير الهبة، كما مرَّ في القول الأول من الأقوال المذكورة سابقاً، ثم قال الطحاوي: فإن قال قائل: ذكر في حديث زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بتمر، ورخَّص في العرايا، فصارت العرايا في هذا الحديث أيضاً هي بيع ثمر بتمر، قيل له: ليس في الحديث من ذلك شيء، إنما فيه ذكر الرخصة في العرايا مع ذكر النهي عن بيع الثمر بالتمر، وقد يقرن الشيء بالشيء، وحكمهما مختلف. انتهى. وفيه أن هذا التقرير إن يمشي في خصوص هذه العبارة، فماذا يقول فيما أخرجه عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يطعم، وقال: لا يباع منه شيء إلاَّ بالدراهم والدنانير إلاَّ العرايا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص فيها، وما أخرجه عن عمرو بن دينار الشيباني قال: بعتُ ما في رؤوس نخلي بمائة وسق، إن زاد فلهم، وإن نقص فعليهم، فسألت ابن عمر عن ذلك؟ فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر إلاَّ أنه رخَّص في العرايا. وما أخرجه عن جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة إلاَّ أنه أرخص في العرايا. وما أخرجه عن سهل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر إلاَّ أنه رخَّص في العرية أن يُباع بخرصها من التمر يأكلها أهلها رطباً. فهذه العبارات وأمثالها صريحة في أن بيع العرايا داخل في المزابنة وبيع الثمر بالتمر، وأن الرخصة فيه بعد النهي عن المزابنة مطلقاً، والتزام أن الاستثناء في هذه منقطع، فمع عدم صحته في بعضها التزم أمر غير ملتزم، ومُفْضٍ إلى إخلال الكلم، ثم قال الطحاوي: فإن قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 وَلَوْ جُعل (1) بَيْعًا مَا حلَّ (2) تَمْرٌ بِتَمْرٍ إلى أجل.   قائل: قد ذُكر التوقيف في حديث أبي هريرة على خمسة أوسق، وفي ذكر ذلك ما ينفي أن يكون حكم ما هو أكثر من ذلك كحكمه، قيل له: ما فيه ما ينفي شيئاً، وإنما يكون كذلك لو قال: لا يكون العرية إلاَّ في خمسة أوسق، إنما فيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص في خمسة أوسق وفي ما دون خمسة أوسق فذلك يحتمل أن يكون رسول الله قد رخص فيه لقوم في عرية لهم هذا مقدارها، فنقل أبو هريرة ذلك، وأخبر بالرخصة فيما كانت. انتهى. وفيه أنَّ مثل هذا الاحتمال المحض لا يُسمع ما لم يدل عليه دليل، وإلاَّ لفسدت الأحكام واختَلَّ النظام، ولا ريب في أن الظاهر الذي يجب المصير إليه إلاَّ إذا خالفه دليل معارض له ما قاله القائل، ثم قال: فإنْ قال قائل: ففي حديث ابن عمر وجابر: أنه رخص في العرايا، فصار ذلك مستثنًى من بيع الثمر بالتمر، قيل له: قد يجوز أن يكون قصد بذلك إلى المُعْرِي فرخَّص له أن يأخذ تمراً بدلاً من الثمر في رؤوس النخل لأنه يكون في معنى البائع، وذلك له حلال، فيكون الاستثناء لهذه العلة. انتهى. وفيه أن هذا عدول عن الحقيقة الظاهرة من غير حجة، وأمثال هذه التأويلات قبولها كبناء بيت وهدم قصر، ثم قال: فإن قال قائل: لو كان تأويل هذه الآثار ما ذهب إليه أبو حنيفة لما كان لذكر الرخصة معنى؟ قيل له: قد اختُلف فيه، فقال عيسى بن أبان: معنى الرخصة في ذلك أن الأموال كلها لا يملك بها أبداً إلاَّ من كان مالكها، لا يبيع رجل ما لا يملك ببدل، فالمُعري لم يكن مَلَكَ العرية لأنه لم يكن قبضها، والتمر الذي يأخذه بدلاً منها قد جُعل طيّباً له، فهذا هو الذي قصد بالرخصة إليه. انتهى. وفيه أن هذا تكلُّف تستبشعه الطبائع السليمة، فإن ملك المعري للبدل على التقرير المذكور ليس على سبيل البيع لا حقيقةً ولا حكماً، لا شرعاً ولا عرفاً، بل ليس له ملكه، لكون الهبة مشروطة بالقبض، فلا يذهب وهم أحد إلى عدم جوازه، فضلاً عن أن يذكر لفظ الرخصة فيه. هذا ما ظهر في الوقت وفي المقام كلام لا يسعه المقام. (2) لدخول الربا فيه من جهة النسيئة واحتمال عدم التساوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 2 - بَابُ مَا يُكره مِنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبدُوَ (1) صَلاحُهَا 758 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ، عن عبد الله بن عمر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يبدوَ (2) صلاحُها. نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ. 759 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الرِّجَالِ (3) مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ عَمْرة: أَنَّ (4) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن بيع الثمار حتى ينجوَ مِنَ الْعَاهَةِ (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي (6) أَنْ يُباع شَيْءٌ مِنَ الثِّمَارِ عَلَى أَنْ يُترك في   (1) حتى يبدو صلاحها: بأن يصلح لتناول الناس وعَلْف الدوابّ. (2) حتى يبدو صلاحها: بأن يصلح لتناول الناس وعَلْف الدوابّ. (3) لُقِّب به لأنه كان له عشرة أولاد رجال وكنيته في الأصل أبو عبد الرحمن، كذا قال الزرقاني. (4) هذا مرسل، وصله ابن عبد البَرّ من طريق خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي الرِّجَالِ، عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن عائشة، ذكره السيوطي في "التنوير". (5) أي الآفة. (6) قوله: لا ينبغي أن يُباع شيء ... إلخ، لا خلاف للعلماء في جواز بيع الثمار بعد بدوّ الصلاح، واختلفوا في تفسيره، فعندنا هو أن يأمن العاهة والفساد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 النَّخْلِ حَتَّى يبلغَ (1) ، إلاَّ أَنْ يحمَرَّ أَوْ يصفَرَّ أَوْ يبلغَ بعضُه، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (2) فَلا بَأْسَ بِبَيْعِهِ عَلَى أَنْ يُترك حَتَّى يبلغَ (3) ، فَإِذَا لَمْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ كان أخضر أو كان كُفَرَّى (4) فلا   وعند الشافعي ظهور الصلاح بظهور النضج ومبادئ الحلاوة، وقيل: بدوّ الصلاح إذا اشتراها مطلقة يجوز عندنا، وعند الشافعي ومالك وأحمد لا يجوز البيع بشرط القطع قبل بدوّ الصلاح، يجوز فيما ينتفع به اتفاقاً، وبشرط الترك لا يجوز بالاتفاق. والبيع بعد بدوّ الصلاح على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يبيعها قبل أن تصير منتَفَعاً بها بأن لم يصلح لتناول بني آدم وعَلْف الدوابّ، فقال شيخ الإسلام: لا يجوز، وذكر القُدُوري والأسبيجابي يجوز. والثاني: ما إذا باعه بعد ما صار منتفعَاً به، إلاَّ أنه لم يتناه عِظَمُها فالبيع جائز إذا باع مطلقاً أو بشرط القطع، وبشرط الترك فاسد لأنه شرط لا يقتضيه العقد، وفيه نفع لأحد المتعاقدين. والثالث: ما إذا باعه بعد ما تناهى عِظَمه، فالبيع جائز عند الكل إذا باعه مطلقاً أو بشرط القطع، وبشرط الترك لا يجوز في القياس، وهو قولهما ويجوز في الاستحسان وهو قول محمد والشافعي ومالك وأحمد. واختلف أصحابنا في البيع قبل بدوّ الصلاح، فعامَّة مشائخنا على أنه لا يجوز، وهو قول شمس الأئمة السرخسي وجواهر زاده والجمهور، وقال بعضهم: يجوز لكونه منتفعاً به في الحال أو المال إلاَّ أن يشترط تركه على الشجر. والتفصيل في "البناية" وغيره. (1) أي إلى أن يُدرك. (2) أي أحد من الصور المذكورة. (3) أي إلى كماله. (4) بضم الكاف والفاء المفتوحة وبالراء المشددة المفتوحة: طلع النخل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 خَيْرَ (1) فِي شِرَائِهِ عَلَى أَنْ يُترك حَتَّى يَبْلُغَ. وَلا بَأْسَ بِشِرَائِهِ عَلَى أَنْ يُقطع   (والكُفَرّى: وعاء الطلع وقشره الأعلى، وقيل: هو الطلع حين ينشق. المنتقى 4/222) . (1) قوله: فلا خير في شرائه، أي لا يجوز شراؤه بهذا الشرط، وهذا بالاتفاق. وإنما الخلاف في البيع قبل بدو الصلاح مطلقاً من غير اشتراط قطع ولا تبقية، فمقتضى الأحاديث المذكورة البطلان (قال العيني: مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق عدم جواز بيع الثمار على الأشجار، وبه قال مالك في رواية وأحمد في قول. لامع الدراري 6/132) ، وبه قال الشافعي وأحمد وجمهور العلماء، وهو قولٌ لمالك، ووافق في قوله الثاني أبا حنيفة في جواز البيع، قال في "شرح المسند": استدل أبو حنيفة فيما ذهب إليه بما أخرجه مرفوعاً: من باع نخلاً مؤبَّراً فثمرته للبائع إلاَّ أن يَشترط المبتاع. فجعله للمشتري بالشرط، فدلَّ على جواز بيعه مطلقاً، وقال: لا يصلح لأصحاب الشافعي الاستدلال بأحاديث الباب فإنهم تركوا ظاهرها في إجازة البيع قبل بدوّ الصلاح بشرط القطع ولم يُفهم ذلك من الحديث مع أن له معارضات أخر، وحديث التأبير لا معارض له، فتعين العمل به. ويقال في أحاديث النهي إنه للإِرشاد على العزيمة بدليل ما في "صحيح البخاري" عن زيد قال: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون الثمار، فإذا جَدَّ (في الأصل أخذ، وهو تحريف، وسقطت كلمة (عاهات) بعد قشام فزدناها، أخرجه البخاري في باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها 3/33) الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدَّمَانُ ((الدَّمَان) : بفتح الدال وتخفيف الميم: عفن يصيب النخل فيسوَدُّ ثمره، وجاء في غريب الخطابي بالضم) ، أصابه مُراضٌ ((مُراض) : داء في الثمرة فتهلك) ، أصابه قُشَام ((قُشام) : هو أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بلحاً) ، عاهات يحتجُّون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت الخصومة عنده: لا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر كالمشُوْرَة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 ويُباع (1) . وَكَذَلِكَ بَلَغَنَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أنَّه قَالَ: لا بَأْسَ بِبَيْعِ الكُفَرَّى عَلَى أَنْ يُقطع، فَبِهَذَا نَأْخُذُ. 760 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد (2) ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ كَانَ لا يَبِيعُ ثمارَه حَتَّى يَطْلُعَ (3) الثُرَيَّا يَعْنِي بَيْعَ (4) النَّخْلِ. 3 - بَابُ الرَّجُلِ يبيعُ بَعْضَ الثمرَ (5) وَيَسْتَثْنِي بَعْضَهُ 761 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بكر، عن   (1) قوله: ويباع، قال القاري: هذا قيد اتفاقي لكثرة وقوعه. (2) عبد الله بن ذكوان. (3) قوله: حتى يطلع الثُرَيّا، بضم المثلثة وفتح الراء المهملة وتشديد الياء المثناة التحتية النجم المعروف لأنها تنجو من العاهة حينئذٍ، وعند أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا طلع النجم صباحاً رُفعت العاهة عن كل بلدة، والنجم الثريّا. وعند أحمد والطهاوي والبيهقي، عن ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يُؤْمَن عليها العاهة، قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا طلعت الثريّا (انظر جامع الأصول 1/468) . قال الزرقاني: طلوعها صباحاً يقع في أول فصل الصيف، وذلك عند اشتداد الحرّ وابتداء نضج الثمار، وهو المعتبر في الحقيقة وطلوع النجم علامة له. (4) أي بيع ثماره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 أَبِيهِ (1) : أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ بَاعَ حَائِطًا (2) لَهُ يُقَالُ لَهُ الأفْراق (3) بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ بِثَمَانِي (4) مِائَةِ دِرْهَمٍ تَمْرًا. 762 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الرِّجال، عَنْ أُمِّهِ عَمْرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهَا كَانَتْ تَبِيعُ ثِمَارَهَا، وَتَسْتَثْنِي (5) مِنْهَا. 763 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ (6) وَيَسْتَثْنِي مِنْهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِأَنْ يبيع الرجل ثمره، ويستثني   (5) قوله: عن أبيه، هو أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم الأنصاري، وقد مرت تراجم عمرو بن حزم وأبي بكر وابنه عبد الله وغيرهم في مواضع متفرقة. وصاحب القصة محمد بن عمرو بن حزم جدّ عبد لله، قال ابن حبان في "الثقات": كنيته أبو عبد الملك، وُلد سنة عشر في العهد النبوي، ومات يوم الحرّة سنة ثلاث وستين، روى عنه ابنه أبو بكر وغيره. (1) قوله: عن أبيه، هو أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم الأنصاري، وقد مرت تراجم عمرو بن حزم وأبي بكر وابنه عبد الله وغيرهم في مواضع متفرقة. وصاحب القصة محمد بن عمرو بن حزم جدّ عبد لله، قال ابن حبان في "الثقات": كنيته أبو عبد الملك، وُلد سنة عشر في العهد النبوي، ومات يوم الحرّة سنة ثلاث وستين، روى عنه ابنه أبو بكر وغيره. (2) أي بستاناً. (3) بفتح الهمزة وسكون الفاء (الأفراق: بفتح فسكون ورابعه ألف، وهو بغير الألف في "شرح الزرقاني" وهو تحريف، قال البكري: الأفراق: بفتح أوله، وبالراء والقاف: على وزن أفعال: كأنه جمع فرق: وهو موضع بالمدينة: فيه حوائط نخل، وذكر هذا الحديث عن مالك. معجم ما استعجم 1/176) . (4) أي بمقدارها تمر. (5) أي بعضاً معيّناً منها. (6) في نسخة: يبيع ثمارها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 بعضَه إِذَا اسْتَثْنَى شَيْئًا (1) مِنْ جُمْلَتِهِ رُبْعًا أَوْ خُمْسًا أَوْ سُدْسًا. 4 - بَابُ مَا يُكره مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ 764 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (2) عبد الله بن يزيد مولى   (1) قوله: شيئاً، معّينا من جُملته بأحد من الكسور كالثلث ونحوه، وأما إذا استثنى شيئاً مجهولاً فلا يجوز لجهالة المبيع بجهالة المستثنى، وقد ورد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثُنْيَا في البيع إلا أن تُعْلَمَ، أخرجه الترمذي وغيره. ويجور أيضاً إذا استثنى نخلاً معيّنة معدودة لأن الباقي معلوم مشاهدةً فلا تُفضي الجهالة إلى المنازعة. وأما إذا باع ثماراً واستثنى أرطالاً معلومة، فإن كانت مجذوذةً جاز، فإن الباقي يُعرف بكيله على الفور، وإن كانت على الشجر فعند الشافعي وأحمد لا يجوز، خلافاً لمالك ولأبي حنيفة في رواية الحسن عنه، وعلى ظاهر الرواية عند الحنفية يجوز، لأن الأصل أن ما يجوز إيراد العقد عليه انفراداً يصح استثناؤه بخلاف استثناء الحمل وأطراف الحيوان فإنه لا يجوز بيعه فكذا استثناؤه، كذا في "الهداية" وشروحها. (2) قوله: أخبرنا عبد الله بن يزيد ... إلخ، قد أخرجه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة والحاكم والدارقطني والبيهقي والبزار كلهم من حديث زيد بن عيَّاش أنه سأل سعد بن أبي وقاص، الحديث. وذكر الدارقطني في "العلل" أن إسماعيل بن أمية وداود بن الحسين والضحاك بن عثمان وأسامة بن زيد وافقوا مالكاً على إسناده. وذكر - ابن المديني أن أباه حدّثه عن مالك، عن داود بن الحصين، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن عياش أبي عياش، وسماع أبي، عن مالك قديم، قال: فكأن مالكاً كان علّقه عن داود، ثم لقي شيخه عبد الله بن يزيد، فحدّثه به، فحدّث به مرة عن داود، ثم استقر رأيه على التحديث، ورواه البيهقي من حديث ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، هو مرسل قويّ، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 الأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَّ زَيْدًا (1) أَبَا عيَّاش مولى لبني   (1) قوله: أن زيداً، قد أعلّ أبو حنيفة هذا الحديث من أجله، وقال: مداره على زيد بن عيّاش وهو مجهول، وكذا قال ابن حزم، وتعقّبوهما بأن الحديث صحيح، وزيد ليس بمجهول، قال الزرقاني: زيد كنيته أبو عيّاش واسم أبيه عيّاش المدني، تابعي، صَدوق، نقل عن مالك أنه مولى سعد بن أبي وقاص، وقيل: إنه مولى بني مخزوم، وفي "تهذيب التهذيب" لابن حجر العسقلاني: زيد بن عيّاش أبو عيّاش الزُرْقي، ويقال: المخزومي روى عن سعد وعنه عبد الله بن يزيد وعمران بن أبي أنيس، ذكره ابن حبان في "الثقات" وصحح الترمذي وابن خزيمة وابن حبان حديثه المذكور، وقال الدارقطني: ثقة، وقال الحاكم في "المستدرك": هذا حديث صحيح لإِجماع أئمة النقل على إمامة مالك، وأنه محكم في كل ما يرويه إذ لم يوجد في روايته إلا الصحيح خصوصاً في رواية أهل المدينة، والشيخان لم يخرجاه لما خَشِيا من جهالة زيد. انتهى. وفي "فتح القدير شرح الهداية": قال صاحب "التنقيح": زيد بن عيّاش أبو عيّاش الزرقي المدني ليس به بأس، ومشائخنا ذكروا عن أبي حنيفة بأنه مجهول، ورُدَّ طعنه بأنه ثقة، وروى عنه مالك في "الموطأ" وهو لا يروي عن مجهول، وقال المنذري: كيف يكون مجهولاً، وقد روى عنه ثقتان عبد الله بن يزيد وعمران بن أبي أنيس، وهما مما احتجّ بهما مسلم في "صحيحه" وقد عرفه أئمة هذا الشأن، وأخرج حديثه مالك مع شدّة تحريه في الرجال، وقال ابن الجوزي في "التحقيق": قال أبو حنيفة: إنه مجهول، فإن كان هو لم يعرفه فقد عرفه أئمة النقل. انتهى. وفي "غاية البيان شرح الهداية": نقلوا تضعيفه عن أبي حنيفة ولكن لم يصح ضعفه في كتب الحديث، فمن ادّعى فعليه البيان. انتهى. وفي "البناية" للعيني عند قول صاحب "الهداية" زيد بن عيّاش ضعيف عند النقلة: هذا ليس بصحيح، بل هو ثقة عند النقلة. انتهى. وفي "التلخيص الحبير": قد أعلّ هذا الحديث جماعة منهم الطحاوي والطبري وابن حزم وعبد الحق بجهالة زيد، والجواب أن الدارقطني قال: إنه ثقة ثبت، وقال المنذري: روى عنه اثنان ثقتان، وقد اعتمده مالك مع شدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 زُهْرَةَ (1) ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَمَّنِ اشْتَرَى الْبَيْضَاءَ (2) بالسُّلت (3) ؟ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أيُّهما أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْبَيْضَاءُ، قَالَ: فَنَهَانِي عَنْهُ (4) ، وَقَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عمّنْ اشْتَرَى التَّمْرَ بِالرُّطَبِ؟ فقال (5) : أ (6) ينقص الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْهُ (7) .   تحريه، وصححه الترمذي والحاكم وقال: لا علم أحداً طعن فيه. انتهى. وبالجملة فالجهالة عن زيد مرتفعة، جهالة العين وجهالة الوصف كلاهما بتصريح النُّقّاد (وفي بذل المجهود 15/19: والأصل أنه وقع الاختلاف في جرح زيد بن عيّاش وتعديله بين أبي حنيفة ومالك - رحمهما الله - فرواية مالك تقتضي تعديله ضمناً وتبعاً، وثبت الجرح عن أبي حنيفة صراحةً فلا يُقاوم تعديل مالك بجرح أبي حنيفة خصوصاً لم يخالف الإِمام في زمانه أحد فلا عبرة بمن بعده في ذلك والله أعلم) . (1) بضم الزاء قبيلة: يُنسب إليها الزهري. (2) أي الشعير كما في رواية، ووهم وكيع، فقال: عن مالك الذُّرَة ولم يقله غيره، والعرب تطلق البيضاء على الشعير، والسمراء على البُرّ، كذا قال ابن عبد البر. (3) بضم السين وسكون اللام: ضرب من الشعير لا قشر له يكون في الحجاز، قال الجوهري. (4) أي عن بيع أحدهما بالآخر للتفاوت في المنفعة (ونهيُ سعد عن التفاضل في السلت بالبيضاء يقتضي أنهما عنده جنس واحد، ولذلك أخذ حكمهما من منع التفاضل في الرطب بالتمر، وهذا مذهب مالك أن السلت والحنطة والشعير جنس واحد في الزكاة وفي منع التفاضل. المنتقى 4/243. وأما عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد فهما صنفان انظر لامع الدراري 6/117. وفي البذل 15/19: أما بيع البيضاء بالسلت فما قال فيه سعد رضي الله عنه من النهي إن كان محمولاً على البيع يداً بيد فهو على الورع والاحتياط، لمشابهته بالحنطة أوقعت الشبهة فيه فنهاه احتياطاً لكن الحكم فيه أنهما نوعان مختلفان فيجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً إذا كان يداً بيد، وأما إذا حمل على النسيئة فذلك لا يجوز انظر الأوجز 11/137) . (5) أي لمن حوله من الصحابة كما في رواية. (6) بهمزة الاستفهام. (7) لعدم التماثل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (1) نَأْخُذُ. لا خَيْرَ فِي أن يشتري الرجل   (1) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال أحمد والشافعي ومالك وغيرهم، قالوا: لا يجوز بيع التمر بالرطب لا متفاضلاً ولا متماثلاً يداً بيد كان أو نسيئة، وأما التمر بالتمر والرطب بالرطب فيجوز ذلك متماثلاً لا متفاضلاً يداً بيد لا نسيئة، وفيه خلاف أبي حنيفة حيث جوّز بيع التمر بالرطب متماثلاً إذا كان يداً بيد لأن الرطب تمر، وبيع التمر بالتمر جائز متماثلاً من غير اعتبار الجودة والرداءة، وقد حُكي عنه أنه لما دخل بغداد سألوه عن هذا، وكانوا أشداء عليه بمخالفته الخبر، فقال: الرطب إما أن يكون تمراً أو لم يكن تمراً، فإن كان تمراً جاز، لقوله صلى الله عليه وسلم: التمر بالتمر مثلاً بمثل، وإن لم يكن تمراً جاز، لحديث: إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم. فأوردوا عليه الحديث، فقال: مداره على زيد بن عياش وهو مجهول، أو قال: ممن لا يقبل حديثه، واستحسن أهل الحديث هذا الطعن منه حتى قال ابن المبارك: كيف يُقال إن أبا حنيفة لا يعرف الحديث، وهو يقول: زيد ممن لا يُقبل حديثه، قال ابن الهمام في "الفتح" (فتح القدير 6/168 - 169) : رُدّ ترديده، بأنّ ههنا قسماً ثالثاً، وهو أنه من جنس التمر ولا يجوز بيعه بالآخر كالحنطة المقلية بغير المقلية لعدم تسوية الكيل بهما فكذا الرطب والتمر لا يسوّيهما الكيل، وإنما يسوّي في حال اعتدال البدلين، وهو أن يجفّ الآخر، وأبو حنيفة يمنعه، ويعتبر التساوي حال العقد، وعُروض النقصِ بعد ذلك لا يمنع من المساواة في الحال إذا كان موجبه أمراً خلقياً، وهو زيادة الرطوبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 قَفِيز (1) رُطَبٍ بقفيزٍ مِنْ تمرٍ، يَدًا بِيَدٍ (2) ، لأَنَّ الرُّطَب يَنْقُصُ إِذَا جَفَّ فَيَصِيرُ أَقَلَّ (3) من قفيز، فلذلك فسد البيع فيه.   بخلاف المقلية بغيرها، فإنه في الحال يُحكم بعدم التساوي لاكتناز أحدهما، وتخلخل الآخر. ورُدَّ طعنه في زيد بأنه ثقة كما مرّ، وقد يُجاب أيضاً بأنه على تقدير صحة السند، فالمراد النهي نسيئة، فإنه ثبت في حديث أبي عياش هذا زيادة "نسيئة" أخرجه أبو داود عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن يزيد أنّ أبا عيّاش أخبره أنه سمع سعداً يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر نسيئة، وأخرجه الحاكم والطحاوي في "شرح معاني الآثار"، ورواه الدارقطني، وقال: اجتماع هؤلاء الأربعة أي مالكٍ وإسماعيل بن أمية والضحاك ابن عثمان وآخر على خلاف ما رواه يحيى بن أبي كثير يدل على ضبطهم للحديث وأنت تعلم أن بعد صحة هذه الرواية يجب قبولها، لأن المذهب المختار عند المحدثين هو قبول الزيادة وإن لم يروِها الأكثر إلا في زيادة تفرد بها بعض الحاضرين في المجلس، فإن مثله مردود كما كتبناه في "تحرير الأصول" وما نحن فيه لم يثبت أنه زيادة في مجلس واحد، لكن يبقى قوله في تلك الرواية الصحيحة: أينقص الرطب إذا جفّ، عرياً عن الفائدة إذا كان النهي عنه للنسيئة. انتهى كلام ابن الهمام. وهذا غاية التوجيه في المقام مع ما فيه الإِشارة إلى ما فيه وللطحاوي كلام في "شرح معاني الآثار" (2/199 وبسط شيخنا على هذا الحديث في الأوجز 11/37 فارجع إليه) مبنيّ على ترجيح رواية النسيئة وهو خلاف جمهور المحدثين وخلاف سياق الرواية أيضاً، ولعل الحق لا يتجاوز عن قولهما وقول الجمهور. (1) القفيز مكيال يسع اثني عشر صاعاً، كذا في "المنتخب". (2) أي وإن كان قبضاً بقبض وإن كان أحدهما نسيئة، فظاهر عدم جوازه لحرمة النسأ في الأموال الربوية. (3) أي فيدخل فيه الربا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 5 - بَابُ مَا لَمْ يُقبض مِنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ 765 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ حَكِيمَ (1) بْنَ حزم ابْتَاعَ (2) طَعَامًا أَمَرَ بِهِ (3) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلنَّاسِ، فَبَاعَ حَكِيمٌ الطعامَ قَبْلَ أَنْ يستوفِيَه (4) ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ (5) ، وَقَالَ: لا تَبِعْ طَعَامًا ابتعتَه حَتَّى تستوفِيَه. 766 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ابتاع (6) طعاماً فلا يبعه (7) حتى يَقْبِضَه.   (1) قوله: أن حكيم بن حزام، قال الزرقاني: بمهملة وزاء معجمة بن خويلد بن أسد ابن عبد العُزّى القرشي الأسدي، ابن أخي خديجة أم المؤمنين، أسلم يوم الفتح، وصحب وله أربع وسبعون سنة، وعاش إلى سنة أربع وخمسين أو بعدها. (2) أي اشترى. (3) أي بشرائه. (4) أي يقبضه من البائع. (5) أي بيعَه. (6) أي اشترى. (7) بصيغة النهي، وفي رواية: فلا يبيعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (1) نَأْخُذُ. وَكَذَلِكَ (2) كلُّ شَيْءٍ بِيْع مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلا يَنْبَغِي أَنْ يبيعَه الَّذِي اشْتَرَاهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ، وَكَذَلِكَ (3) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ (4) : أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ فَهُوَ الطَّعَامُ أنْ يُباع حَتَّى يُقْبَض. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (5) : وَلا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلا مِثْلَ ذَلِكَ. فَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَأْخُذُ، الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مِثْلُ الطعام،   (1) قوله: وبهذا نأخذ، اختلفوا في هذه المسألة، فقال مالك: يجوز جميع التصرفات في غير الطعام قبل القبض لورود التخصيص في الأحاديث بالطعام، وقال أحمد: إن كان المبيع مكيلاً أو موزوناً لم يجز بيعه قبل القبض، وفي غيره يجوز، وقال زفر ومحمد والشافعي: لا يجوز بيع شيء قبل القبض طعاماً كان أو غيره لإطلاق الأحاديث. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى جواز بيع غير المنقول قبل القبض، لأن النهي معلول بضرر انفساخ العقد لخوف الهلاك، وهو في العقار وغيره نادر، وفي المنقولات غير نادر، كذا في "البناية". (2) أي لا يجوز بيعه قبل القبض. (3) قوله: وكذلك قال عبد الله بن عباس إلخ، قال السيد مرتضى في "عقود الجواهر المُنيفة في أدلة الإِمام أبي حنيفة": أبو حنيفة عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: نُهينا عن بيع الطعام حتى يُقبض، قال ابن عباس وأحسب كل شيء مثل الطعام (أي في عدم جواز بيعه قبل القبض، وهذا من اجتهاده. بذل المجهود 15/171) ، لا يجوز بيعه حتى يقبض، كذا أخرجه الحارثي من طريق إسماعيل بن يحيى عنه، وأخرجه الأئمة الستة بلفظ: الذي نهى عنه رسولُ الله فهو الطعام أن يُباع حتى يُقْبَض، قال: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. (4) أي صاحب الكتاب. (5) أخرجه البخاري وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 لا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ الْمُشْتَرِي شَيْئًا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الدُّور (1) والعَقَار (2) وَالأَرَضِينَ الَّتِي لا تُحوّل أنْ تُباع قَبْلَ أنْ تُقبض، أَمَّا نَحْنُ فَلا نُجيز (3) شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُقبض. 767 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَبْتَاعُ (4) الطَّعَامَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ (5) عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي نَبْتَاعُهُ فِيهِ إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ قَبْلَ (6) أنْ نبيعَه. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا كان (7) يُراد بهذا   (1) بالضمّ جمع دار. (2) بالفتح: كل ملك ثابت كالدار والنخل، كذا في "المصباح". (3) لعموم الروايات. (4) أي نشتري. (5) أي بعث إلينا رجلاً يأمرنا بانتقال المشتَرَى من المكان الذي اشتُري فيه. (6) متعلِّق بالانتقال. (7) قوله: إنما كان، يعني ليس المقصود من هذا عدم جواز البيع في مكان الشراء، فإن الأمكنة كلها سواسية في ذلك، بل المقصود منه تحصيل القبض التامّ حتى لو جوز البيع هناك تسارع الناس إلى البيع قبل القبض في ذلك المكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 الْقَبْضُ (1) لِئَلَّا يبيعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يقبضَه فَلا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا اشْتَرَاهُ رجلٌ حَتَّى يَقْبِضَهُ. 6 - بَابُ الرَّجُلِ يَبِيعُ الْمَتَاعَ أَوْ غَيْرَهُ نَسِيئَةً (2) ثُمَّ يَقُولُ: انْقُدْني (3) وأضعُ عَنْكَ 768 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد (4) ، عَنْ بُسْر (5) بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحِ (6) بْنِ عبيدٍ مَوْلَى السَّفَّاح أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ بَاعَ   (قال الباجي: معناه - والله أعلم - أنه اشتراه جزافاً، وقد ورد ذلك مفسراً وقال النووي: في الحديث جواز بيع الصبرة جزافاً وهو مذهب الشافعي وأصحابه: بيع الصبرة من الحنطة والتمر وغيرهما صحيح، وليس بحرام، وهل هو مكروه؟ فيه قولان للشافعي، أصحهما: مكروه كراهة تنزيه، والثاني ليس بمكروه، ونقل عن مالك أنه لا يصح البيع إذا كان بائع الصبرة جزافاً يعلم قدرها. انظر أوجز المسالك 15/200) . (1) أي بهذا الأمر بالانتقال. (2) الزناد: بكسر الزاء. (3) بضم الباء فسكون السين. (4) الزناد: بكسر الزاء. (5) بضم الباء فسكون السين. (6) قوله: عن أبي صالح بن عبيد، بالضم مصغَّراً - مولى السَّفَّاح - بفتح السين المهملة وتشديد الفاء لقب لأوّل خلفاء بني العباس وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. هكذا وجدنا العبارة في نسخةٍ شرح عليها القاري، وفي "موطأ يحيى" (2/672) : مالك عن أبي الزناد، عن بسر بن سعيد، عن عبيد بن أبي صالح مولى السفاح، انتهى وفي "جامع الأصول" 1/571 أبو صالح عبيد بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 بَزّاً (1) مِنْ أَهْلِ دارِ نَخْلَةَ (2) إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَى كُوفَةَ فَسَأَلُوهُ (3) أَنْ يَنْقُدُوه، ويَضَعَ عَنْهُمْ، فَسَأَلَ زيدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَقَالَ: لا آمُرُكَ أنْ تأكُلَ (4) ذَلِكَ وَلا تُوْكِلَه. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَنْ وَجَب له دَيْن على إنسان إلى أجل،   أبي صالح مولى السفاح تابعي، روى عن زيد بن ثابت، وروى عنه بسر بن سعيد. انتهى. وفي "كتاب الثقات" لابن حبان: عبيد بن خزاعة عداده في أهل المدينة، يروي عن زيد بن ثابت، وروى عنه بسر بن سعيد. (1) قوله: أنه باع بَزّاً، بفتح الباء وتشديد الزاء المعجمة، عن ابن دريد، هو المتاع من الثياب خاصة، وعن الليث ضرب من الثياب، وعن ابن الأنباري رجل حسن البَزّ أي حسن الثياب، وقال محمد في "السِّيَر الكبير" هو عند أهل الكوفة ثياب الكَتّان والقطن، لا ثياب الصوف والخَزّ، كذا في "شرح القاري" عن "المغرب". (2) قال الزرقاني: محلة بالمدينة فيه البزّازون. (3) قوله: فسألوه، أي طلب أهل دار نخلةَ من البائع، وهو أبو صالح عبيد أن يُعطوه الثمن نقداً، ويحطّ هو بعض الثمن عنهم. (4) قوله: أن تأكل ذلك، أي الثمن الذي تأخذه عنهم معجّلاً ولا تُوكله لهم ما تحط عنه، يعني لا يجوز لك هذا أن تضع بعض الثمن، وتأخذ عوضه ما بقي معجّلاً، فإنه يكون كمن اشترى مائةً مؤجَّلة بخمسين معجلة فيدخل النسأ والتفاضل في الجنس الواحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 فَسَأَلَ (1) أَنْ يَضَع (2) عَنْهُ، ويُعَجَّل لَهُ (3) مَا بَقِيَ لَمْ ينبغِ ذَلِكَ لأَنَّهُ يعجِّل قَلِيلا بِكَثِيرٍ دَيْناً، فَكَأَنَّهُ (4) يَبِيعُ قَلِيلا نَقْدًا بِكَثِيرٍ دَيْناً. وَهُوَ قَوْلُ (5) عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (6) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (7) . 7 - بَابُ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الشَّعِيرَ بِالْحِنْطَةِ 769 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ: أنَّ سُلَيْمَانَ بن يسار أخبره:   (كذا في المنتقى 6/65) . (1) أي المديون. (2) أي يحط قدراً من دَيْنه. (3) أي للدائن. (4) هذا إذا أراد المعاوضة والمقابلة، وإن أراد كل واحد التبرع فلا بأس به. (5) أي عدم جواز مثل هذا. (6) أخرجه عنه مالك في "الموطأ". (7) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الحكم بن عُتَيْبة والشعبي ومالك، وأجازه ابن عباس ورآه من المعروف، وحكاه اللخمي عن ابن القاسم من المالكية، وعن ابن المسيّب والشافعي القولان، واحتج المُجيز بخبر ابن عباس: لما أمر رسولُ الله بإخراج بني النضير، قالوا: لنا على الناس ديون لم تحل، فقال: ضعوا وتعجَّلوا. وأجاب المانعون باحتمال أن هذا الحديث قبل نزول تحريم الربا كذا في "شرح الزرقاني" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ (1) بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فنِيَ (2) عَلَفُ دابَّته فَقَالَ لِغُلامِهِ: خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ فاشترِ بِهِ (3) شَعِيرًا وَلا تَأْخُذْ (4) إلاَّ مِثْلًا (5) بِمِثْلٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَسْنَا نَرَى بَأْسًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ (6) الرَّجُلُ قَفِيزَيْنِ مِنْ   (3/321، والأوجز 11/327) . (1) قوله: أن عبد الرحمن بن الأسود، هو ممن وُلد عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ويقال: إنَّ له صحبة وكان أبوه من المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا قال ابن حبان في "كتاب الثقات"، وذكر ابن الأثير الجزري في "أسد الغابة" عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري: كان ذا قدر كبير بين الناس وهو ابن خال النبي صلى الله عليه وسلم، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولا تصح له رؤية ولا صحبة، روى عنه سليمان بن يسار ومروان وغيرهما. (2) قوله: فَنِي، بفتح الفاء وكسر النون أي فُقد وعُدم عَلَف دابَّته بفتحتين. (3) أي بدل ذلك. (4) قوله: ولا تأخذ إلخ، هكذا أخرجه مالك عن سعد بن أبي وقاص وابن معيقيب أيضاً، ومبناه على أن البُرّ والشعير جنس واحد، وقال مالك: هو الأمر عندنا - أي بالمدينة - أن البُرّ والشعير جنس واحد، لتقارب المنفعة، وبهذا قال أكثر الشاميين، وقد يكون من خبز الشعير ما هو أطيب من خبز الحنطة، وهذا خلاف الجمهور، قال الزرقاني: لم يتفرد به مالك حتى يُشنِّع عليه بعض أهل الظاهر - والله حسيبه - ويقول: القِطّ أفقه من مالك، فإنه إذا رُميت له لقمتان: إحداهما شعير، فإنه يذهب عنها ويقبل على لقمة البُرّ (شرح الزرقاني 3/293، والمنتقى 5/2) . (5) أي بلا زيادة ولا نقصان. (6) بشرط التقابض في المجلس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 شَعِيرٍ بِقَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ يَدًا بِيَدٍ. وَالْحَدِيثُ (1) الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ (2) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: الذهب (3) بالذهب مثلاً   (1) قوله: والحديث المعروف، هذا الحديث رُوي من طرق جمع من الصحابة بألفاظ متقاربة بعضها مطوَّلة وبعضها مختصرة على ما بسطه الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" والعيني في شرحها والسيوطي في "الدر المنثور" وغيرهم، فأخرج الستة ومالك والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي من حديث عمر مرفوعاً: الذهب بالورق رباً إلاَّ هاءَ وهاءَ، والبُرّ بالبُرّ رباً إلاَّ هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلاَّ هاءَ وهاءَ، والتمر بالتمر رباً إلاَّ هاءَ وهاءَ. وأخرج مسلم والنسائي والبيهقي وعبد بن حميد من حديث أبي سعيد الخدري: الذهب بالذهب مثل بمثل يداً بيد، والفضة بالفضة مثل بمثل يداً بيد، والبُرّ بالبُرّ مثل بمثل يداً بيد، والشعير بالشعير مثلاً بمثل يداً بيد، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد. وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعاً: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاَّ مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق، إلاَّ مثلاً بمثل. وحديث عبادة أخرجه الجماعة إلاَّ البخاري، وفي الباب عن أبي الدرداء أَخرجه مالك والنسائي، وبلال عند الطبراني والطحاوي، وأبي هريرة عند مسلم، ومعمر بن عبد الله عند مسلم، وأبي بكر عند البزار، وعثمان عند مسلم والطحاوي، وهشام بن عامر عند الطبراني، والبراء وزيد بن أرقم عند البخاري ومسلم، وفضالة بن عبيد عند الطحاوي وأبي داود، وابن عمر عند الطحاوي والحاكم، وأبي بكرة عند البخاري ومسلم، وأنس عند الدارقطني. (2) أي فيما يؤخذ به ذلك الحكم. (3) قوله: الذهب بالذهب، بالرفع على أن المعنى بيع الذهب بالذهب، أو بالنصب أي بيعوا الذهب. وقد ورد في كثير من الرويات في هذا الحديث ذكر الأشياء الستة الذهب والفضة والملح والتمر والبُرّ والشعير، وهذا الحديث أصل في باب الربا، وقد أغرب الظاهرية حيث لم يحرِّموا الربا إلاَّ في هذه الأشياء الستَّة دون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 بِمِثْلٍ. وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلا بِمِثْلٍ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلا بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلا بِمِثْلٍ. وَلا بَأْسَ (1) بِأَنْ يَأْخُذَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ (2) أَكْثَرُ، وَلا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُ يَدًا بِيَدٍ، فِي ذَلِكَ (3) أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.   غيرها، وغيرهم من العلماء متفقون على أن الحكم معلول، ومتعدٍّ إلى غيرها حسب تعدِّي العلَّة، واختلفوا في العلَّة، فعند مالك هي الادِّخار والاقتيات والطعم، وعند الشافِعي الطعم والثمنية، وعندنا القدر والجنس، فعندنا إذا اتَّحد القدر - أي الكيل والوزن - والجنس حَرُم التفاضل والنسأ، وإذا اختلف الجنس حلَّ التفاضل وحرم النسأ. وقد عُرف تفصيل ذلك في كتب الفقه. (1) من ههنا كلام صاحب الكتاب. (2) الواو حالية. (3) قوله: في ذلك، أي في جواز التفاضل عند اختلاف الجنس أخبار كثير، ففي حديث عبادة عند الأربعة ومسلم في آخره: إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. وفي رواية الترمذي في آخر حديثه: بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البُرّ بالتمر كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم لا يَرَوْن أن يُباع البُرّ بالبُرّ إلاَّ مِثلاً بمثل، والشعير بالشعير إلاَّ مثلاً بمثل، فإذا اختلف الأصناف فلا بأس أن يُباع متفاضلاً إذا كان يداً بيد، وهذا قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال الشافعي: الحجة في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: بيعوا الشعير بالبُرّ كيف شئتم يداً بيد، وقد كره قوم من اهل العلم أن يباع الحنطة بالشعير إلاَّ مثلاً بمثل، وهو قول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 8 - بَابُ الرَّجُلِ يَبِيعُ الطَّعَامَ نَسِيئَةً ثُمَّ يَشْتَرِي بِذَلِكَ (1) الثَّمَنِ شَيْئًا آخَرَ 770 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، حدَّثنا أَبُو الزِّناد (2) ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ: كَانَا يَكْرهان أَنْ يَبِيعَ الرجلُ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ بِذَهَبٍ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِذَلِكَ الذَّهَبِ تَمْرًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا. قَالَ مُحَمَدٌّ: وَنَحْنُ لا نَرَى بَأْسًا (3) أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا تمراً قبل أن   مالك بن أنس، والقول الأول أصح (في المغني 4/27، البر والشعير جنسان، هذا هو المذهب وبه يقول الشافعي وإسحاق وأهل الرأي وغيرهم، وعن أحمد أنهما جنس واحد، وحكي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وحماد ومالك وغيرهم، قال النووي: قال مالك والأوزعي ومعظم علماء المدينة والشام: إنهما صنف واحد، قال ابن رشد: أما حجة مالك فإنه عَمَل سلفه بالمدينة، وقال الموفق: ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بيعوا البُرّ بالشعير كيف شئتم يداً بيد"، وهذا صريح صحيح لا يجوز تركه بغير معارض مثله. انتهى. انظر لامع الداري 6/117) . انتهى. (1) عبد الله بن ذكوان. (2) عبد الله بن ذكوان. (3) قوله: ونحن لا نرى بأساً، أي يجوز عندنا ذلك لأن المنهيّ عنه إنما هو بيع ما لم يقبض لا الشراء بما لم يُقْبض ولا الشراء بالدَّيْن، وقد ذكر مالك الكراهة (قال شيخنا في الأوجز 11/210: ظاهر كلام الإِمام مالك - رضي الله عنه - أنه نهى عن ذلك وكرهه، لأنه أدخله في بيع الذريعة، ولذا أباح إذا شرى البائع التمر من غير المشتري. وتقدَّم سابقاً أن بيوع الذريعة محرَّمة عند مالك وأحمد خلافاً للحنفية والشافعية) أيضاً عن ابن شهاب وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مثل قول ابن المسيب وابن يسار. وقال: إنما نَهَوْا عن أن لا يبيع الرجل حنطة بذهب، ثم يشتري بالذهب تمراً قبل أن يقبض الذهب من بائعه الذي اشترى منه الحنطة، فأما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 بقبضها إِذَا كَانَ التَّمْرُ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ دَيْناً (1) . وَقَدْ ذُكر هَذَا الْقَوْلُ (2) لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَلَمْ يَره شَيْئًا (3) وَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ. وهو قولُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 9 - بَابُ مَا يُكره مِنَ النَّجَش (4) وتلقِّي (5) السِّلَع (6) 771 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر: أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تلقِّي السِّلَعِ حَتَّى تهبط (7) الأسواق،   أن يشتري بالذهب التي باع بها إلى أجل من غير بائعه، ويُحيل الذي اشترى منه التمر على غريمه الذي باع منه الحنطة فلا بأس به، وقد سألتُ عن ذلك غير واحد من أهل العلم فلم يَرَوْا بأساً. انتهى. ولعل كراهتهم كانت للتهمة، لا لأمر شرعي. (1) فإنه إنْ كان دَيْناً لا يجوز لأنه بيع الكالئ بالكالئ وقد نهى عنه. (2) أي قول ابن المسيب وغيره. (3) أي شيئاً مقبولاً. (4) قوله: حتى تهبط الأسواق، أي تنزل في الأسواق، وتدخل في البلاد، وورد في رواية عن ابن مسعود أنه عليه السلام نهى عن (في الأصل: "أن"، وهو خطأ) تلقي (قال الخطابي: وقد كره التلقّي جماعة من العلماء منهم مالك والأوزعي والشافعي واحمد وإسحاق، ولا أعلم أحداً منهم أفسد البيع غير أنَّ الشافعي - رضي الله عنه - أثبت الخيار للبائع قولاً بظاهر الحديث وأحسبه مذهب أحمد ولم يكره أبو حنيفة التلقي ولا جعل لصاحب السلعة الخيار إذا قدم السوق، وكان أبو سعيد الإِصطخري يقول: إنما يكون له الخيار إذا كان المتلقي قد ابتاعه بأقلّ من الثمن، فإذا ابتاعه بثمن مثله فلا خيار له. بذل المجهود 15/104. وفي هذا عدة أبحاث بسطها في الأوجز 11/368) الجلب، أخرجه الترمذي وغيره. (5) إنما نُهُي عنه، وكذا عن التلقي لكونه متضمناً للغرر. (6) قوله: فأما النجش فالرجل إلخ، قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله. ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد البيع في صورة النجش، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، والمشهور عند الحنابلة كذلك إذا كان ذلك بمواطأة البيع أو صنعه، والأصح عند الحنفية والشافعية صحة البيع مع الإِثم، والنَّجَش لا يتم إلاَّ بأمور: منها أن لا يريد الناجش شراءه، ومنها أن يزيد في الثمن ليقتدي به السوام أكثر مما يُعطون لو لم يسمعوا سومه، وأما مواطأة البيع وجعلُه الجُعل على الناجش، على ذلك فليس بشرط إلاَّ أنه يزيد في المعصية، وقيد ابن العربي وابن عبد البر وابن حزم التحريم (قال القسطلاني في (باب النجش) : لا يجوز ذلك البيع الذي وقع بالنجش، وهو مشهور مذهب الحنابلة إذا كان بمواطأة البائع أو صنعه، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار. والأصح عند الشافعية وهو قول الحنفية صحة البيع مع الإِثم. لامع الدراري 6/54) في النجش بأن يكون الزيادة فوق ثمن المثل، فلو أن رجلاً رأى سلعة تُباع بدون قيمتها فزاد لينتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشاً، بل يؤجَر على ذلك، ووافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية وهو المفهوم من كلام صاحب "النهاية حاشية الهداية" حيث قال: أما إذا كان الراغب يطلب السلعة من صاحبها بدون قيمتها، فزاد رجل في الثمن، إلى أن يبلغ فيمتها فلا بأس به وإن لم يكن له رغبة في ذلك، كذا في "شرح مسند الإِمام الأعظم. (7) قوله: حتى تهبط الأسواق، أي تنزل في الأسواق، وتدخل في البلاد، وورد في رواية عن ابن مسعود أنه عليه السلام نهى عن (في الأصل: "أن"، وهو خطأ) تلقي (قال الخطابي: وقد كره التلقّي جماعة من العلماء منهم مالك والأوزعي والشافعي واحمد وإسحاق، ولا أعلم أحداً منهم أفسد البيع غير أنَّ الشافعي - رضي الله عنه - أثبت الخيار للبائع قولاً بظاهر الحديث وأحسبه مذهب أحمد ولم يكره أبو حنيفة التلقي ولا جعل لصاحب السلعة الخيار إذا قدم السوق، وكان أبو سعيد الإِصطخري يقول: إنما يكون له الخيار إذا كان المتلقي قد ابتاعه بأقلّ من الثمن، فإذا ابتاعه بثمن مثله فلا خيار له. بذل المجهود 15/104. وفي هذا عدة أبحاث بسطها في الأوجز 11/368) الجلب، أخرجه الترمذي وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 وَنَهَى (1) عَنِ النَّجَش. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. كل ذلك مكروه، فأمّا النَّجش (2)   (1) إنما نُهُي عنه، وكذا عن التلقي لكونه متضمناً للغرر. (2) قوله: فأما النجش فالرجل إلخ، قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله. ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد البيع في صورة النجش، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، والمشهور عند الحنابلة كذلك إذا كان ذلك بمواطأة البيع أو صنعه، والأصح عند الحنفية والشافعية صحة البيع مع الإِثم، والنَّجَش لا يتم إلاَّ بأمور: منها أن لا يريد الناجش شراءه، ومنها أن يزيد في الثمن ليقتدي به السوام أكثر مما يُعطون لو لم يسمعوا سومه، وأما مواطأة البيع وجعلُه الجُعل على الناجش، على ذلك فليس بشرط إلاَّ أنه يزيد في المعصية، وقيد ابن العربي وابن عبد البر وابن حزم التحريم (قال القسطلاني في (باب النجش) : لا يجوز ذلك البيع الذي وقع بالنجش، وهو مشهور مذهب الحنابلة إذا كان بمواطأة البائع أو صنعه، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار. والأصح عند الشافعية وهو قول الحنفية صحة البيع مع الإِثم. لامع الدراري 6/54) في النجش بأن يكون الزيادة فوق ثمن المثل، فلو أن رجلاً رأى سلعة تُباع بدون قيمتها فزاد لينتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشاً، بل يؤجَر على ذلك، ووافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية وهو المفهوم من كلام صاحب "النهاية حاشية الهداية" حيث قال: أما إذا كان الراغب يطلب السلعة من صاحبها بدون قيمتها، فزاد رجل في الثمن، إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 فَالرَّجُلُ يَحْضُرُ فَيَزِيدُ (1) فِي الثَّمَنِ (2) وَيُعْطِي (3) فِيهِ مَا لا يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ ليُسمع بِذَلِكَ غَيْرَهُ فَيَشْتَرِيَ (4) عَلَى سَوْمه، فَهَذَا لا يَنْبَغِي. وَأَمَّا تلقِّي السِّلَعِ فَكُلُّ أَرْضٍ كَانَ ذَلِكَ (5) يَضُرُّ (6) بِأَهْلِهَا فَلَيْسَ يَنْبَغِي (7) أَنْ يُفعل ذَلِكَ بِهَا، فَإِذَا كَثُرَتِ الأَشْيَاءُ بِهَا (8) حَتَّى صَارَ ذَلِكَ لا يَضُرُّ بِأَهْلِهَا فَلا بَأْسَ بذلك (9) إن شاء الله تعالى (10) .   أن يبلغ فيمتها فلا بأس به وإن لم يكن له رغبة في ذلك، كذا في "شرح مسند الإِمام الأعظم. (1) عند المبايعة. (2) أي ثمن المبيع. (3) أي يظهر عطاؤه أكثر، وكذا إذا مدح السلعة فوق الحدّ ليغترَّ المشتري. (4) أي فيشتري الغير على ما قاله الناجش به فيغترَّ به. (5) أي التلقّي. (6) بأن كان فيه قحط وغلاء. (7) لإِفضائه إلى الضرر. (8) أي بتلك الأرض. (9) أي بالتلقي. (10) قوله: إن شاء الله، قَيَّد الحكم به لعدم وجود ما يدل على ذلك نصاً، وإنما حكم به لأن النهي بالتلّقي معلول بإجماع القائسين بالإِضرار والغرر، وهو مفقود في صورة عدم الضرر، وظاهر أحاديث النهي عن التلقي الإِطلاق، وبه أخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الشافعي وغيره سواء ضرَّ به أهل البلد أم لا (في الهداية: ونهى عن تلقي الجالب، وهذا إذا كان يضُرُّ بأهل البلد، فإن كان لا يضرّ فلا بأس به إلاَّ إذا لبَّس السعر. بذل المجهود 15/104، وفي هامشه: أن المنع منه لحقّ أهل البلد وبه قال مالك، وقال الشافعي لحقّ الجالب، كذا في العارضة) ، وتعلق قوم بظاهرها، فقالوا ببطلان البيع بالتلّقي. وللطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/200) في هذه المسألة كلام نفيس، فإنه أخرج أولاً من حديث ابن عباس: لا تستقبلوا السوق، ولا يتلق بعضكم بعضاً. ومن حديث ابن عمر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلقى السلع حتى يدخل الأسواق، ومن حديث أبي سعيد لا تلقوا شيئاً حتى يقوم بسوقكم، ومن حديث أبي هريرة: لا تلقوا الرُّكبان، وقال: احتجَّ قوم بهذه الآثار، فقالوا: من تلقّى شيئاً قبل دخوله السوق، واشتراه فشراؤه باطل، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل مدينة لا يضرّ التلقي بأهلها فلا بأس به فيها، ثم أخرج من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كنا نتلقّى الركبان فنشتري منه الطعام جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى نُحوِّلَه من مكانه. وبسند آخر عنه: كانوا يشترون الطعام من الرُّكبان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه. وقال: ففي هذه الآثار إباحة التلقِّي، وفي الأول النهي، فأَوْلى بنا أن نجعل ذلك على غير التضادّ، فيكون ما نهى عنه من التلقِّي لما في ذلك من الضرر على غير المتلقِّين من المقيمين في الأسواق ويكون ما أبيح من التلقي هو الذي لا ضرر فيه على المقيمين. ثم أخرج لإِبطال قول من قال بالبطلان من حديث أبي هريرة مرفوعاً: لا تلقَّوْا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه شيئاً فهو بالخيار إذا أتى السوق، فعُلم منه أن البيع مع التلقّي صحيح مع الإِثم فإنه إن كان باطلاً لم يكن للخيار فيه معنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 10 - بَابٌ الرَّجُلُ يُسْلِم (1) فِيمَا يُكال (2) 772 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نافع: أن عبد الله بن عمر كَانَ يَقُولُ: لا بَأْسَ بأنْ يبتاعَ (3) الرجلُ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ معلومٍ بسِعر (4) مَعْلُومٍ إِنْ كَانَ (5) لِصَاحِبِهِ (6) طَعَامٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، مَا لم يكن (7) في زَرْع   (1) يبتاع: أي يُشترى. (2) بالكسر: أي مقدار معلوم. (3) يبتاع: أي يُشترى. (4) بالكسر: أي مقدار معلوم. (5) أي سواء كان عنده ذلك الطعام المسلم فيه أو لم يكن بشرط أن يكون التحصيل ممكناً. (6) وهو البائع. (7) قوله: مَا لَمْ يَكُنْ فِي زَرْعٍ إلخ، يؤيده ما في رواية أبي داود عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 لَمْ يَبْدُ (1) صلاحُها أَوْ فِي تَمْرٍ لَمْ يَبْدُ صلاحُها، فإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ وَعَنْ شِرَائِهَا حَتَّى يبدُوَ صلاحُها. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا عِنْدَنَا لا بَأْسَ بِهِ. وَهُوَ السَّلَم (2) يُسلم الرَّجُلُ فِي طَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ بِكَيْلٍ (3) مَعْلُومٍ مِنْ صِنْفٍ (4) مَعْلُومٍ، وَلا خَيْرَ (5) فِي أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ مِنْ زَرْعٍ مَعْلُومٍ أَوْ مِنْ نَخْلٍ مَعْلُومٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى.   ابن عمر: لا تُسْلفوا في النخل حتى يبدو صلاحها (فيه إشارة إلى أن يكون المسلم فيه موجوداً من حين العقد إلى وقت حلول الأجل. بذل المجهود 15/146) . وما عند الطبراني من حديث أبي هريرة: لا تُسْلفوا في ثمر حتى يأمن صاحبها عليها العاهة. وبه أخذ أصحابنا حيث شرطوا في جواز السَّلَم كون المُسْلَم فيه موجوداً من حين العقد إلى محل الأجل وفيما بينهما، خلافاً للشافعي فيما إذا كان موجوداً عند حلول الأجل فقط وذلك لأن القدرة على التسليم بالتحصيل، فلا بد من الاستمرار، ولذا قالوا: لو أسلم في حنطة جديدة تخرج من زرعه فسد، وفي مطلقة صح. وتفصيله في كتب الفقه. (1) أي لم يَظهر. (2) أي هذا العقد هو المسمى بالسَّلَم وبالسَّلَف أيضاً. (3) قوله: بكيل معلوم، هذا في المكيلات، وفي الموزونات بوزن معلوم، وفي المذروعات بذراع معلوم، وفي المعدودات المتقاربة بعدد معلوم، فإن السلم جائز في كل منها ولا يجوز فيما يتفاوت تفاوتاً فاحشاً، وفيما لا يمكن تعيينه بالبيان. (4) أي نوعاً ووصفاً. (5) لاحتمال الفساد بالعاهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 11 - بَابُ بَيْعِ (1) الْبَرَاءَةِ 773 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ حدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ بَاعَ (2) غُلامًا لَهُ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْبَرَاءَةِ. وَقَالَ الَّذِي (3) ابْتَاعَ (4) العبدَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْعَبْدِ دَاءٌ (5) لَمْ تُسَمَّه لِي، فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: بَاعَنِي (6) عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: بعتُه بِالْبَرَاءَةِ (7) ، فَقَضَى (8) عُثْمَانُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ: لَقَدْ بَاعَهُ وما (9) به داء يعلمه،   (1) قوله: أنه باع، هكذا في نسخة عليها شرح القاري، وظاهره ان البائع هو سالم بن عبد الله بن عمر، وألفاظ الرواية تأبى عنه، فالصحيح ما في "موطأ يحيى" مالك عن يحيى عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ الله بن عمر باع غلاماً له (شرح الزرقاني 3/255) الحديث. (2) قوله: أنه باع، هكذا في نسخة عليها شرح القاري، وظاهره ان البائع هو سالم بن عبد الله بن عمر، وألفاظ الرواية تأبى عنه، فالصحيح ما في "موطأ يحيى" مالك عن يحيى عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر باع غلاماً له (شرح الزرقاني 3/255) الحديث. (3) أراد بذلك الردَّ على ابن عمر بخيار العيب. (4) أي اشتراه. (5) أي مرض لم تذكره لي عند البيع ولم تشترط البراءة منه. (6) أي ابن عمر. (7) أي بشرط البراءة عن كل عيب. (8) أي حكم. (9) نافية والواو حالية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 فَأَبَى (1) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ، فَارْتَجَعَ الْغُلامَ (2) فصحَّ (3) عِنْدَهُ الْعَبْدُ، فَبَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنا (4) عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ بَاعَ غُلامًا   (1) أي امتنع من الحلف (قال الباجي: لم يكن إباؤه عن اليمين، لأنه رضي الله عنه كان دلَّس بعيبه، وعلمُه وفهمُه يقتضي معرفته بأن لا أثم في يمين بارَّة، ولكنه لا يخلو من أحد أمرين، إما أنه اعتقد أن البيع بالبراءة يُبرِّئه مما علم وما لم يعلم، والثاني: التصاون عن اقتطاع الحقوق بالأَيْمان، وهكذا يجب أن يكون حكم ذوي الأنساب والأقدار. المنتقى 4/186) . (2) قوله: فارتجع الغلام، أي من المشتري إلى ابن عمر بسبب العيب لمّا امتنع ابن عمر من الحلف. (3) أي صحَّ عن المرض عند ابن عمر (في المغنى 4/198: فباعه ابن عمر بألف درهم، وكذا في التلخيص الحبير 3/24، وفي الموطأ بألف وخمسمائة درهم، هذا هو الصحيح، أما ما جاء بألف إما غلط من الناسخ أو الراوي اكتفى على ذكر الألف وترك المئات اختصاراً. أوجز المسالك 11/69) . (4) قوله: بلغنا عن زيد إلخ، قد ذكر الشُّمُنِّي وغيره من أصحابنا أنَّ الذي اشترى العبد من ابن عمر وجرى معه ما جرى كان زيد بن ثابت، وهذا البلاغ الذي ذكره صاحب الكتاب يخالفه أنه لو كان مذهب زيد في ذلك البراءة المطلقة لما خاصم مع ابن عمر عند عثمان بعد ما ذكر البراءة من كل عيب إلاَّ أن تكون عنه رويتان في ذلك مقدّمة ومؤخّرة، لكن الكلام في ثبوت كون المشتري المذكور هو زيد بن ثابت وتخاصمه مع ابن عمر، وقد ذكره من علماء الشافعية الرافعيُّ وغيره أيضاً، قال الحافظ في "تخريج أحاديثه": أخرجه مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد عن سالم عن أبيه، ولم يسمِّ زيد بن ثابت، وصححه البيهقي، وأخرجه يزيد بن هارون عن يحيى، وابن أبي شيبة عن عبّاد بن العوام عنه، وعبد الرزاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 بالبراءة فهو بريْ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَكَذَلِكَ بَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِالْبَرَاءَةِ وَرَآهَا (1) بَرَاءَةً جَائِزَةً. فَبِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَأْخُذُ (2) مَنْ بَاعَ غُلامًا أَوْ شَيْئًا، وتبرَّأ (3) من كل عيب، ورضي بذلك المشتري   من وجه آخر عن سالم ولم يسمِّ أحد منهم المشتري، وتعيين هذا المبهم ذكره في "الحاوي" للماوردي، وفي "الشامل" لابن الصبّاغ بغير إسناد، وزاد أنَّ ابن عمر كان يقول: تركت اليمين فعوَّضني الله عنها. انتهى. (التلخيص الحبير 3/24) . (1) أي ابن عمر. (2) قوله: نأخذ: أي لكونه موافقاً للقياس لا بقول عثمان، وقد اختلف العلماء فيه فمذهبنا أنه إذا شرط البراءة من كل عيب، وقَبِلَه المشتري ليس له أن يردَّه بعيب سواء سمى البائع جملة العيوب أو لم يسمِّ، وسواء علم عيوبَه أو لم يعلم بعضَها، لأنَّ في الإِبراء معنى الإِقساط، والجهالة في الإِسقاط لا تفضي إلى المنازعة، ويدخل فيه البراءة عن العيب الموجود وقت العقد، والحادث قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرواية عنه، وقال محمد: لا يدخل فيه الحادث، وهو قول زُفَر والحسن والشافعي ومالك وأبي يوسف في رواية، وللشافعي في شرط البراءة أقوال: في قول: يبرأ مطلقاً، وفي قول: لا يبرأ عن عيب، لأن في البراءة معنى التمليك، وتمليك المجهول لا يصح، وبه قال أحمد في رواية، وفي رواية عنه: يبرأ عما لا يعلمه دون ما يعلمه، وفي قول الشافعي وهو الأصح عندهم، وهو رواية عن مالك: لا يبرأ في غير الحيوان، ويبرأ في الحيوان عما لا يعلمه دون ما يعلمه، كذا في "البناية". (3) بأن قال: أبيع وأنا بريء من كل عيب فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وَقَبَضَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ (1) عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ لأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ برَّأَه (2) مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ (3) قَالُوا: يبرَأُ الْبَائِعُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، فَأَمَّا مَا عَلِمَهُ وَكَتَمَهُ (4) فَإِنَّهُ لا يبرأ منه، وقالوا (5) : إذا باعه بيع المبرأت (6) بَرِئَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يعلمه (7) ، إذا قال: بعتك (8) بيعَ المبرات، فَالَّذِي يَقُولُ أَتَبَرَّأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وبيَّن ذلك (9)   (1) قوله: فهو بريء من كل عيب، لحديث: المسلمون عند شروطهم، أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة والترمذي والحاكم من حديث عمرو والدارقطني والحاكم من حديث أنس، وابن أبي شيبة مرسلاً عن عطاء، وفي رواية الترمذي زيادة: إلاَّ شرطاً حَرَّم حلالاً وأحلَّ حراماً، كذا في "التلخيص". (2) أي البائعَ أي قَبِل براءته. (3) أي علماؤها منهم مالك. (4) أي لم يبيِّنْه للمشتري. (5) قوله: وقالوا، الظاهر أن الضمير راجع إلى أهل المدينة، وقال القاري: أي والحال أن فقهائنا قالوا. (6) بصيغة المجهول. (7) بيان لبيع المبرات (في جميع نسخ الموطأ: بيع المبرات، وهو تحريف بيع الميراث، لأن بيع الميراث بيع براءة عندهم. انظر هامش الأوجز 11/69) . (8) في نسخة: نبيعك. (9) أي أوضح الإِبراء العام الذي هو مفاد بيع المبرأت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 أَحْرَى (1) أَنْ يَبْرَأَ لِمَا اشْتَرَطَ مِنْ (2) هَذَا، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُنَا وَالْعَامَّةِ. 12 - بَابُ بَيْعِ (3) الْغَرَرِ 774 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَازِمِ (4) بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) نَهَى عن بيع الغَرَر.   (في جميع نسخ الموطأ: بيع المبرات، وهو تحريف بيع الميراث، لأن بيع الميراث بيع براءة عندهم. انظر هامش الأوجز 11/69) . (1) أي أليق لكونه مصرَّحاً. (2) أي من بيع المبرات. (3) أبو حازم: اسمه سلمة. (4) أبو حازم: اسمه سلمة. (5) قوله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ، هذا حديث مرسل باتفاق رواة مالك، ورواه أبو حذافة عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو منكر، والصحيح ما في "الموطأ" ورواه ابن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد، وهو خطأ، وليس ابن أبي حازم بحجة إذا خالفه غيره، وهذا الحديث محفوظ عن أبي هريرة، ومعلوم أن ابن المسيب من كبار رواته، كذا قال ابن عبد البر. وذكر في "التلخيص": أن النهي عن بيع الغرر أخرجه مسلم وأحمد وابن حبان من حديث أبي هريرة، وابن ماجة وأحمد من حديث ابن عباس، وفي الباب، عن سهل بن سعد عند الدارقطني والطبراني، وأنس عند أبي يعلى، وعلي عند أحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ. بَيْع الغَرَر كلُّه (1) فَاسِدٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ. 775 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لا رِبَا (2) في الحيوان (3) ، وإنما نُهي (4)   وأبي داود وعمران بن حصين عند ابن أبي عاصم، وابن عمر عند البيهقي وابن حبان. (1) قوله: كله، أي بجميع أقسامه كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء ولبن في ضرع ونحو ذلك مما هو مبسوط في كتب الفقه. (2) أي ليس التفاضل فيه بجنسه أو بغير جنسه رباً لعدم كونه موزوناً ولا عددياً متقارباً، وسيجيء تفصيل هذا فيما سيأتي. (3) قوله: في الحيوان، قال الزرقاني: المختلف جنسه كمتحدٍ وبيع يداً بيد، فإنْ بِيع إلى أجل واختلفت صفاته جاز وإلا منع عند مالك وأجازه الشافعي مطلقاً، وهو ظاهر قول ابن المسيّب لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بعض أصحابه أن يعطي بعيراً في بعيرين إلى أجل، فهو مخصَّص لعموم حرمة الربا، وأجيب بحمله على مختَلِف الصفة والمنافع، جمعاً بين الأدلة، ومنعه أبو حنيفة اتفقت الصفات أو اختلفت لقوله تعالى: (وحرم الربا) (سورة البقرة: الآية 275 تمام الشاهد: وأحل الله البيع وحرم الربا) وهذه زيادة. انتهى. وسيجيء تفصيل هذا البحث عن قريب إن شاء الله. (4) قوله: وإنما نُهي، ذكر ابن حجر في "التلخيص" أنّ النهي عن بيع المضامين والملاقيح، أخرجه إسحاق بن راهويه والبزار من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً، وفي إسناده ضعف وفي الباب عن عمران بن حصين، وهو في البيوع لابن أبي عاصم، وعن عباس في "الكبير" للطبراني والبزار، عن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق، وإسناده قوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 عَنِ (1) الْحَيَوَانِ عَنْ ثَلاثٍ: (2) عَنِ الْمَضَامِينِ (3) وَالْمَلاقِيحِ (4) ، وحَبَل (5) الحَبَلَة. وَالْمَضَامِينُ (6) مَا فِي بُطُونِ (7) إِنَاثِ الإِبل، والملاقيح ما في ظهور الجمال (8) .   (1) في نسخة: من. (2) أي ثلاث صور. (3) جمع مضمون. (4) جمع ملقوح. (5) بفتحتين فيهما. وغلط من سكن الباء، قاله ابن حجر. (6) هذا التفسير من مالك كما ذكره الزرقاني أو من ابن المسيب على ما ذكره شارح "المسند". (7) أي من الأولاد. (8) قوله: ما في ظهور الجمال، جمع جمل، وهو ذَكَر الإِبل لأنه يُلقح الناقة، ولذا سُمِّيت النخلة التي يُلقح بها الثمار فحلاً، قال الزرقاني: وافق الإِمام على هذه التفسير جماعة من الأصحاب، وعَكَسَه ابن حبيب فقال: المضامين ما في الظهور والملاقيح ما في البطون، وزعم أن تفسير مالك مقلوب، وتُعٌقِّب بأن مالكاً أعلم منه باللغة. انتهى. وفي "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي في حرف الضاد المعجمة: قال أبو عبيدة معمرة بن المثنى فيما رأيته في "غريب الحديث" له وهو أول من صنف غريب الحديث عند بعض العلماء، وعند بعضهم النضر بن شُميل، قال: المضامين ما في أصلاب الفحول، وكذلك قاله صاحبه أبو عبيد القاسم بن سلاّم، وكذلك ذكره الجوهري وغيرهم، وقال "صاحب المحكم": المضامين (قال ابن الأثير: جمع مضمون: وهو ما في صُلب الفحل، ضمن الشيء بمعنى تضمّنه، ومنه قولهم: مضمون الكتاب كذا وكذا. "جامع الأصول" 1/569) ما في بطون الحوامل كأنّهنّ تضمَنّه، وقال الأزهري في "شرح ألفاظ المختصر": المضامين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 776 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ أَخْبَرَنَا نَافِعٌ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر: أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ (2) حَبَل الحَبَلة.   ما في أصلاب الفحول سُمّيت بذلك لأنّ الله أودعها ظهورها، فكأنها ضمنتها، وحكى صاحب "مطالع الأنوار" عن مالك أنه قال: المضامين الأجنّة في البطون، وعن ابن حبيب من أصحابه: هو ما في ظهور الإِبل الفحول. انتهى. وفيه أيضاً في حرف اللام: واحد الملاقيح عند صاحب "صحاح اللغة" ملقوحة، وكذلك قال أبو عبيد والقاسم بن سلاّم والأزهري وغيرهم: إن الملاقيح الأجنّة في بطون الأمهات واحدها ملقوحة لأن امها لقحتها أي حملتها فاللاقح الحامل، ولم يخصّها الأزهري وابن الفارس بالإِبل وخصها أبو عبيد والجوهري بالإِبل. انتهى. ويظهر من هذا كلَّه أنهم اختلفوا في تفسير المضامين والملاقيح التي نُهي عن بيعها في الحديث بعد ما اتفقوا على أن المراد بهما ما في البطون من الأجنّة وما في أصلاب الفحول من النُّطف التي تكون مادّة للأولاد، ولم تقع بعد في الرحم، ففسر بعضهم الأول بالأول والثاني بالثاني، وعكس بعضهم ولكلٍ وجهة ومناسبة، وكان هذان البيعان من بيوع الجاهلية يبيعون ولد الناقة قبل أن تولد، وقبل أن تقع نطفة الفحل في البطن، وإنما نُهي عنهما لأن فيهما غرراً وبيع ما ليس عنده، وما لا يقدر على تسليمه. ولقد أعجب علي القاري حيث فسر قوله ما في ظهور الجمال بقوله من الوبر، وأراد به الشعر الذي على الظهر. ولعل ما ذكرنا ظاهر على كل من له مهارة في فنون الحديث وغريبه فكيف خفي على هذا المتبحِّر؟ ولا عجب، فإن لكل عالم زلة، ولكل جواد كبوة. (1) كذا أخرجه الستة من حديث نافع عن ابن عمر، ذكره العيني. (2) قوله: عن بيع حَبَل الحَبَلة، بفتح الباء والحاء فيهما ورواه بعضهم بسكون الباء في الأول، قال القاضي عياض: هو غلط، والصواب الفتح، والأول مصدر بحبلت المرأة، والحبل مختص بالآدميات ويقال في غيرهن من الحيوانات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وَكَانَ (1) بَيْعًا يَبْتَاعُهُ الْجَاهِلِيَّةُ يَبِيعُ (2) أحدُهم الجَزُور (3) إِلَى أَنْ تُنْتَجَ (4) النَّاقَةُ (5) ، ثُمَّ تُنتَجُ الَّتِي في   الحمل، قال أبو عبيد: لا يقال شيء من الحيونات حبل إلا ما جاء في هذا الحديث، والحَبَلة جمع حابل كَظَلَمَة وظالم، وقيل: الهاء للمبالغة. واختلفوا في المراد بحبل الحبلة المنهي عنه فقيل: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة، ويلد ولدها، وهذا تفسير ابن عمر ومالك والشافعي وغيرهم، وقيل: هو بيع ولد الناقة الحامل في الحال، وبه قال أبو عبيد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو أقرب إلى اللغة، والبيع فاسد على كلا المعنين، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات". وفي "شرح المسند": قال ابن التين: محصل الخلاف هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين، وعلى الأول: هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها؟ وعلى الثاني هل المراد بيع الجنين الأول أو بيع جنين الجنين، فصارت أربعة أقوال. انتهى. فعِلَّة النهي إما جهالة الأجل أو أنه غير مقدور تليمه أو أنه بَيْع ما في بطون الأنعام، وحكى صاحب "المحكم" في تفسيره قولاً خامساً: أنه بَيْع ما في بطون الأنعام، وهو أيضاً من بيوع الغرر، لكن هذا إنما فسَّر به ابن المسيّب بيع المضامين كما رواه مالك، وفسَّر به غيره بيع الملاقيح، وحُكي عن ابن كيسان وأبي العباس المبرد أن المراد بالحبلة الكَرْمة، وحبلها أي حملها وثمرها قبل أن يبلغ الإِدراك، كما نُهي عن بيع ثمر النخلة حتى تزهي. وهو قول شاذ. (1) هذا تفسير من ابن عمر، كذا ذكره ابن عبد البر. (2) بيان لابتياع أهل الجاهلية. (3) بفتح الجيم وضم الزاء: الناقة. (4) قال السيوطي: بضمّ أوله وفتح ثالثه فعل لازم البناء للمفعول: أي تلد الناقة. (5) قوله: الناقة، قال القاري: أي المبيعة. انتهى. وهذا قيد مخلّ مختل، والظاهر هو الإِطلاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 بَطْنِهَا (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذِهِ الْبُيُوعُ كلُّها مَكْرُوهَةٌ، (2) وَلا يَنْبَغِي (3) لأَنَّهَا غَرَر عِنْدَنَا، وَقَدْ نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعِ الغَرَر. 13 - بَابُ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ 777 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى (4) عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمر بالتَّمْر (5) وبيع العنب بالزبيب كَيْلاً.   (1) أي بعد كِبَرها. (2) أي فاسدة غير جائزة. (3) أي لا يجوز. (4) قوله: نهى عن بيع المزابنة، قال السيوطي في "تنوير الحوالك": زاد ابن بكير: والمحاقلة. والمزابنة (المزابنة بيع التمر على الشجر بجنسه موضوعاً على الأرض، من الزَبن وهو الدفع لأن أحد المتابعين إذا وقف على غبن فيما اشتراه أراد فسخ العقد وأراد الآخر إمضاءه وتزابنا أي تدافعا. وكل واحد يدفع صاحبه عن حقه لما يزداد منه، وخص بيع الثمر على رؤوس النخل بجنسه بهذا الاسم، لأن المساواة بينهما شرط وما على الشجر لا يحصر بكيل ولا وزن، وإنما يكون مقدراً بالخرص وهو حدث وظن لا يؤمن فيه من التفاوت. بذل المجهود 15/23) ، مشتقة من الزبن، وهو المخاصمة والمدافعة، والمحاقلة من الحقل وهو الحرث وموضع الزرع، قال ابن عبد البر: تفسير المزابنة في حديث ابن عمر وأبي سعيد. وتفسير المحاقلة في حديث أبي سعيد إما مرفوع أو من قول الصحابي الراوي، فيُسلّم له الأمر لأنه أعلم به. (5) قوله: بيع الثمر بالتمر، الأول بالثاء المثلثة المفتوحة مع الميم كذلك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 778 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (1) ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمُحَاقَلَةُ اشْتِرَاءُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ، وَاسْتِكْرَاءُ الأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَأَلْتُ (3) عَنْ كِرَائِهَا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ (4) . 779 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصَين، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَحْمَدَ (5) أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالُمَحَاقَلَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ فِي رؤوس النخل بالتمر، والمحاقلة كراء الأرض.   وهو رُطَب النخل، والثاني بفتح التاء المثناة الفوقية: اليابس، وكذا الفرق بين العِنَب بكسر الأول وفتح الثاني والزبيب، فالأول رطب، والثاني يابس. (1) قوله: السيوطي: أخرجه الخطيب في رواته من طريق أحمد بن أبي طيبة عيسى بن دينار الجرجاني، عن مالك، عن الزهري عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة به موصولاً. (2) قوله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا مرسل عند جميع رواة "الموطأ" وكذا عند بقية أصحاب ابن شهاب، وقد رَوى النهيَ جماعةٌ من الصحابة: منهم جابر وابن عمر وأبو هريرة ورافع بن خَديج وكلهم سمع منه ابن المسيب، كذا قال ابن عبد البر. (3) في نسخة: سألنا. أي ابن المسيب. (4) سيجيء تفصيل ما يتعلق بهذا المقام في "باب المعاملة والمزابنة". (5) في نسخة: ابن أبي أحمد، وهو الصحيح الموافق لما مرّ في غير موضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُزَابَنَةُ عِنْدَنَا اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ (1) فِي رؤوس النَّخْلِ (2) بالتَّمْر كَيْلًا (3) لا يُدرى التمرُ الَّذِي أُعْطِيَ أَكْثَرُ (4) أَوْ أَقَلُّ، وَالزَّبِيبُ بِالْعِنَبِ لا يُدرى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، وَالْمُحَاقَلَةُ اشْتِرَاءُ الحَبّ (5) فِي السُّنْبُلِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا لا يُدرى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وَهَذَا كُلُّهُ مَكْرُوهٌ (6) وَلا يَنْبَغِي مُبَاشَرَتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ وَقَوْلُنَا (7) . 14 - بَابُ شِرَاءِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ 780 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد (8) ، عن سعيد بن   (1) أي الرطب. (2) قوله: في رؤوس النخل، هذا القيد من الصحابة وهو اتفاقي عند الجمهور كما أن قيد الكيل اتفاقي، فإنه متى كان جزافاً بلا كيل فهو أولى بالمنع وعن هذا لم يجوِّزوا بيع الرطب المجذوذ من النخل بتمر مجذوذ، ودلّ عليه زيد بن عياش، عن سعد، وقد مرّ البحث فيه. (3) أي بالتخمين الجزاف. (4) أي من الثمر على النخل. (5) من الحنطة وغيرها. (6) أي منهيّ عنه لعدم التساوي المشروط في الأموال الربوية. (7) وهو قول الجمهور سلفاً وخلفاً، بل قول الكلّ (وهذه المسألة متفق عليها بين الأئمة. بذل المجهود 15/23) . (8) عبد الله بن زكوان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 الْمُسَيِّب قَالَ: نُهي (1) عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ. قَالَ (2) : قلتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أرأيتَ (3) رَجُلا اشْتَرَى شَارِفًا (4) بِعَشْرِ شياهٍ (5) - أَوْ قَالَ شَاةً - فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا لِيَنْحَرَهَا (6) فَلا خيرَ (7) فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: وَكَانَ مَنْ أدركتُ مِنَ النَّاسِ يَنْهَوْن عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ، وَكَانَ يُكْتَبُ فِي عُهُود (8) العمّال (9) في زمان (10) أبَانَ (11) وهشام (12)   (1) بصيغة المجهول. (2) أي أبو زناد. (3) أي أخبرني. (4) قوله: شارفاً، قال الزرقاني: بشين معجمة وألف وراء مهملة وفاء: المُسِنّة من النُّوْق، والجمع الشرف. (5) جمع شاة. (6) أي ليذبحها، وفي نسخة: ليتّجرها. (7) قوله: فلا خير في ذلك، أي لا يجوز إذ كأنه اشترى الحيوان بلحم، فإنْ لم يرد نحرها جاز لأن الظاهر أنه اشترى حيواناً بحيوان فيوكَلُ إلى نيته وأمانته، ولا ربا في الحيوان، كما مرّ عنه، قاله إسماعيل القاضي المالكي نقله عنه الزرقاني. (8) بالضم جمع عهد أي دفاتر أحكامهم. (9) جمع عامل. (10) هو زمان عبد الملك بن مروان. (11) أي ابن عثمان بن عفان. (12) أي ابن إسماعيل المخزومي. وسيأتي ذكره في "باب عهدة الثلاث والسنة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 يُنْهَوْن (1) عَنْ ذَلِكَ (2) . 781 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصين، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يقول: وكان من مَيْسر (3) أهل الجاهلية يَبْع اللَّحم بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ. 782 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ بلغه (4) : أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (5) نَأْخُذُ. مَنْ بَاعَ لَحْمًا مِنْ لحم الغنم بشاةٍ حيّة   (1) معروف أو مجهول. (2) أي عن بيع الحيوان باللحم. (3) بفتح الميم وكسر السين كالقمار. (4) قوله: أنه بلغه، لم يذكره في "موطأ يحيى" وإنما فيه عن زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث. قال ابن عبد البر: لا أعلمه يتصل من وجه ثابت، وأحسنُ أسانيده مرسل سعيد هذا، ولا خلاف عن مالك في إرساله، ورواه يزيد بن مروان عن مالك عن ابن شهاب عن سهل بن سعد. وهذا إسناد موضوع لا يصح عند ملك. انتهى. وقال الحافظ في "التلخيص": أخرجه أبو داود في "المراسيل" ووصله الدارقطني في "الغريب" عن مالك عن الزهري عن سهل، وحَكَم بتضعيفه، وصوّب الرواية المرسلة التي في "الموطأ"، وتبعه ابن عبد البر وابن الجوزي، وله شاهد من حديث ابن عمر، عند البزار، وفيه ثابت بن زهير ضعيف، وله شاهد أقوى منه من رواية الحسن عن سمرة. وقد اختُلف في صحة سماعه منه، أخرجه الحاكم والبيهقي وابن خزيمة. انتهى. (5) قوله: وبهذا نأخذ، اختلفوا فيه فجوّز أبو حنيفة وأبو يوسف والمزني تلميذ الشافعي بيع اللحم بالحيوان سواء كان اللحم من جنس ذلك الحيوان أو لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   مساوياً لما في الحيوان أو لا، بشرط التعجيل، أما بالنسيئة فلا، لا لإمتناع السلم في الحيوان واللحم وذلك لأنه باع موزوناً بما ليس بموزون، إذ الحيوان ليس بموزون عادةً، ولا يُعرف قدر ثقله بالوزن، لأنه يثقل نفسه تارة ويخففها أخرى، واتحاد الجنس مع اختلاف المقدارية لا يمنع التفاضل، وإنما يمنع النَساء فقلنا به. وقال محمد: إن باعه بلحم غير جنسه كلحم البقر بالشاة الحية، ولحم الجَزُور بالبقرة الحية يجوز كيف ما كان، وإن كان من جنسه كلحم شاة بشاة حية، فشرطه أن يكون اللحم المفرز أكثر من اللحم الذي في الشاة ليكون لحم الشاة بمقابلة مثله من اللحم، وباقي اللحم بمقابلة السقط، وهو ما لا يُطلق عليه اسم اللحم كالكرش والجلد والأكارع ولو لم يكن كذلك يتحقق الربا، إما لزيادة السقط إن كان اللحم المفرز مثل لحم الحيوان، أو زيادة اللحم إن كان لحم الشاة أكثر، فصار كبيع الحلّ أي دهن السمسم بالسمسم، والزيتون بدهنه، فإنه لا يجوز إلا على ذلك الاعتبار، ولو كانت الشاة مذبوحة مسلوخة إذا تساويا وزناً جاز اتفاقاً إذا كانت مفصولة عن السقط وإن كانت بسقطها لا يجوز غلا على الاعتبار المذكور. وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يجوز بيع اللحم بالحيوان أصلاً في متحد الجنس (قال الموفق: لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، وهو مذهب مالك والشافعي وقول فقهاء المدينة السبعة. وحُكي عن مالك: أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معدّ للذبح، ويجوز بغيره، وقال أبو حنيفة: يجوز مطلقاً، لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه، أشبه بيع اللحم بالدرهم أو بلحم من غير جنسه. المغني 7/37) ، ولو باعه بلحم من غير جنسه، فقال مالك وأحمد يجوز، وللشافعي قولان، والأصح: لا، لعموم النهي. ولا يخفى أن السمع وارد بالنهي مطلقاً، فمنه قويّ، ومنه ضعيف، فمن القوي رواية مالك، وأبي داود في المراسيل - ومرسل سعيد بن المسيب حجة بالاتفاق - وأخرجه ابن خزيمة، عن أحمد بن حفص السلمي: حدثني إبراهيم بن طهمان عن الحجاج بن الحجاج، عن قتادة عن الحسن عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 لا يُدى اللحمُ (1) أَكْثَرُ أَوْ مَا فِي الشَّاةِ أَكْثَرُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ (2) مكروهٌ لا يَنْبَغِي. وَهَذَا مِثْلُ الْمُزَابَنَةِ (3) وَالْمُحَاقَلَةِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ ودُهن السِّمْسِم (4) بالسِّمْسِم. 15 - بَابُ الرَّجُلِ يُساوِمُ الرجلَ بِالشَّيْءِ فَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَحَدٌ 783 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يبع (5) بعضكم على   سمرة، وقال البيهقي: إسناده صحيح، ومن أثبت سماع الحسن، عن سمرة فهو عنده موصول، ومن لم يثبته فهو عنده مرسل جيد، والمرسل عندنا حجة مطلقاً، وأسند الشافعي إلى رجل مجهول من أهل المدينة: أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع حيّ بميت، وأسند أيضاً عن أبي بكر الصديق أنه نهى عن بيع اللحم بالحيوان، وبسنده إلى القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن أنهم كرهوا ذلك، كذا حقّقه ابن الهمام في "فتح القدير"، وكأنه أشار إلى ترجيح ما وافقته الروايات الحديثية. (1) أي المفرز المبيع. (2) لاحتمال الربا. (3) أي في تحقيق شبهة الربا. (4) بكسر السينين (كنجد) بالفارسية. (5) قوله: لا يبع (في الحديث أربعة أبحاث: الأول: في معنى البيع، والثاني: في المراد بالبعض، والثالث: في شرط النهي، والرابع: فيمن خالف الحديث فباع على البيع. انظر الأوجز 11/266) ، بالجزم على النهي، وفي رواية: لا يبع بالخبر مراداً به لنهي. قال الباجي: أي لا يشتر، وقال ابن حبيب: إنما النهي للمشتري على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 بعض (1) .   البائع، قال الباجي: ويُحْتَمَل حملُه على ظاهره، فيُمنع البائع أيضاً أن يبيع على يبيع أخيه إذا ركن المشتري إليه، وقال عياض: الأَوْلى حمله على ظاهره، وهو أن يعرض سلعة على المشتري برخص ليزهِّده في شراء سلعة الآخر الراكن إلى شرائها، وقال الأُّبِّي: البيع حقيقةً إنما هو إذا انعقد الأول فلما تعذّرت الحقيقة حُمل على أقرب المجاز إليها، وهو المراكنة، وإذا كانت العلّة ما يؤدي إليه من الضرر فلا فرق بين المساوم على سوم غيره، والبيع على البيع، كذا في "شرح الزرقاني". وبهذا يظهر أن ما اختاره صاحب الكتاب من حمل هذا الحديث على السوم على سوم غيره ليس على ما ينبغي فإن النهي عنه مفاد الحديث: لا يسوم الرجل على سوم أخيه، وفي رواية: لا يستام الرجل، أخرجه المصنف في كتاب "الآثار" والشيخان وغيرهم من حديث أبي هريرة، والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر. وأما حديث الباب فقد أخرج نحوه الشيخان من حديث أبي هريرة ومسلم من حديث عقبة فلا ضرورة فيه على حمله على السوم وإن كان ذلك صحيحا بناء على أن البيع من الأضداد يُطلق على الشراء أيضا بل هو محمول على ظاهره المتعارف فكما أن الشراء على الشراء مكروه كذلك البيع على البيع (قال الحافظ ابن حجر: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار افسخ لأبيعك بأنقص أو يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأزيد، وهو مجمع عليه، وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئاً ليشتريه فيقول له ردّه لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص منه، أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر. فتح الباري 4/353) . (1) زاد ابن وهب والقعنبي وعبد الله بن يوسف في هذا الحديث عن مالك بسنده: ولا تلقّوا السلع حتى تُهبط بها إلى الأسواق، قال ابن عبد البر: هي زيادة محفوظة من حديث مالك وغيره عن نافع عن ابن عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي إِذَا سَاوَمَ (1) الرجلُ الرجلَ بِالشَّيْءِ أَنْ يَزِيدَ (2) عَلَيْهِ (3) غيرُه فِيهِ حَتَّى يَشْتَرِيَ أَوْ يَدَعَ (4) . 16 - بَابُ مَا يُوجِبُ الْبَيْعَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي 784 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (5) نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر: أن   (1) السوم والاستيام تشخيص قيمة شيء وتقديرها عند المبايعة، قال في "منتهى الأرب": الاستيام (بهاوكردن) بالفارسية. (2) قوله: أن يزيد، إنما يُكره (قال الحافظ: ذهب الجمهور إلى صحة البيع المذكور مع تأثيم فاعله، وعند المالكية والحنابلة في فساده روايتان، وبه جزم أهل الظاهر. فتح الباري 4/35) هذا إذا تراوض الرجلان على السلعة، البائع والمشتري وركن أحدهما إلى الآخر، فساومه آخر بالزيادة لأن فيه إضراراً وأما إذا ساوم الرجل ولم يجنح قلب البائع إليه فلا بأس للآخر أن يساوم بالزياد لأن هذا بيع من يزيد وهو جائز، كذا في "شرح الطحاوي". (3) أي على ذلك الرجل القاصد للشراء المساوم. (4) أي يترك فيشتريه الآخر. (5) قوله: أخبرنا نافع، قال الزرقاني: أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه يحيى القطان وأيوب والليث في الصحيحين، وعبيد الله وابن جريج عند مسلم، كلهم عن نافع نحوه، وتابع نافعاً عبدُ الله بن دينار عن ابن عمر عند الشيخين، وجاء أيضاً من حديث حكيم بن حزام عند البخاري. انتهى. وذكر الحافظ في "تخريج أحاديث الهداية" أنه جاء من حديث سَمُرة، أخرجه النسائي وابن ماجة ونحوه لأبي داود عن أبي بُردة، وللنسائي عن عبد الله بن عمرو. انتهى. وقال السيوطي: هذا أحد الأحاديث التي رواها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الْمُتَبَايِعَانِ (1) كلُّ واحدٍ مِنْهُمَا بالخِيار (2) عَلَى صَاحِبِهِ ما لم يتفرَّقا (3) ، إلاَّ بيعَ   مالك في "الموطأ" ولم يعمل به. قال مالك بعد روايته: ليس لهذا الحديث عندنا حدٌّ معروف، ولا أمر معمول به، وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أنَّ هذا الحديث ثابت وأنه من أثبت ما نَقَل العدول، وأكثرهم استعملوه وجعلوه أصلاً من أصول الدين في البيوع، وردَّه مالك وأبو حنيفة وأصحابهما، ولا أعلم أحداً ردَّه غير هؤلاء (في قوله: لا أعلم أحداً رده غير هؤلاء، قصور كبير من مثله، فقد نقل عياض وغير عن معظم السلف وأكثر أهل المدينة وفقهائها السبعة - وقيل إلاَّ ابن المسيب - إلى آخر ما بسطه الزرقاني والحافظ في الفتح. كذا في أوجز المسالك 11/319) ، وقال بعض المالكيين: دفعه مالك بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به وذلك عنده أقوى من خبر الرجال، وقال بعضهم: لا تصح هذه الدعوى، لأن سعيد بن المسيب وابن شهاب رُوي عنهما العمل به، وهما من أجلِّ فقهاء المدينة، ولم يُرْوَ عن أحد ترك العمل به نصّاً إلاَّ عن مالك، وربيعة يخلف عنه، وقد كان ابن أبي ذئب وهو من فقهاء المدينة في عصر مالك يُنكر على مالك اختياره ترك العمل به. انتهى. (1) أي كل واحد من البائع والمشتري، وفي رواية للصحيحن: البيِّعان. (2) أي في القبول والردّ. (3) قوله: ما لم يتفرَّقا، اختلفوا في تأويله على أقوال: الأول: أن معناه التفرُّق بالأقوال وهو قول إبراهيم النخعي وسفيان الثوري في رواية وربيعة الرأي ومالك وأبي حنيفة ومحمد فقالوا: المراد به أنه إذ قال البائع: بعت، وقال المشتري: اشتريت، فقد تفرَّقا بالأقوال، ولا شيء لهما بعد ذلك من خيار، ويتم البيع، ولا يقدر المشتري على ردّ البيع إلاَّ بخيار الرؤية أو خيار العيب أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   خيار الشرط. الثاني: أن المراد التفرُّق بالأبدان فلا يتمُّ البيع بدونها، وبه يلزم البيع، وهو قول ابن المسيّب والزهري وعطاء بن أبي رباح وابن أبي ذئب وسفيان بن عيينة والأَوْزاعي والليث بن سعد وابن أبي مُلَيكة والحسن البصري وهشام بن يوسف وابنه عبد الرحمن وعبد الله بن حسن القاضي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد ومحمد بن جرير الطبري وأهل الظاهر، وحدّ التفرق أن يغيب كل واحد منهما عن صاحبه حتى لا يراه، قاله الأَوْزاعي، وقال الليث: أن يقوم أحدهما، وقال آخرون: هو افتراقهما من مجلسهما، أو نقلهما. وحجتهم في ذلك بأنه ورد في الخبر لفظ: المتبايعين واسم البيع لا يجب إلاَّ بعد البيع، وسلفهم في ذلك من الصحابة: ابن عمر، فإنه حمل الحديث على التفرق بالأبدان، وأثبت به خيار المجلس، فكان إذا ابتاع بيعاً وهو قاعد، قام ليجب له، أخرجه الترمذي وغيره. وأبو برزة الأسلمي فإنَّ رجلين اختصما إليه فرس بعد ما تبايعا وكانا في سفينة، فقال: لا أراكما افترقتما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، حكاه الترمذي، وأخرجه أبو داود والطحاوي وغيرهما. والقول الثالث: أن معناه التفرق بالأبدان، لكن لا على ما فهمه أصحاب القول الثاني، قال عيسى بن أبان معناه أن الرجل إذا قال لرجل: قد بعتك عبدي هذا بألف درهم، فللمخاطب بذلك القول أن يقبل ما لم يفارق صاحبه، فإذا افترقا لم يكن له بعد ذلك أن يقبل، قال: ولولا أن هذا الحديث جاء ما علمنا ما يقطع للمخاطب من القبول، فلما جاء هذا الحديث علمنا أن افتراق أبدانهما بعد المخاطبة بالبيع يقطع القبول، قال: وهذا أَوْلى ما حُمل عليه الحديث (قال شيخنا في الأوجز 11/318: والأوجه عندي في معنى الحديث - إن كان صحيحاً فمن الله، وإن كان خطأ فمِنّي ومن الشيطان - أن المراد بالتفرق هو التفرق بالأبدان، والمراد بالمتبايعين المتساومان، والحديث من باب خيار القبول في المجلس، والمعنى أن كل واحد منهم بالخيار في المجلس، البائع في النُّكول عن الإِيجاب والمشتري في القبول، فإذا انقضى المجلس فلم يبقَ الإِيجاب ولا حقُّ القبول، فتأمل. ثم رأيت الحافظ قد حكاه عمن سلف فللَّه الحمد والمنَّة، فقال: وقالوا: وقت التفرق في الحديث هو ما بين قول البائع قد بعتك وبين قول المشتري اشتريت، قالوا: فالمشتري بالخيار في قوله: اشتريت أو تركه، والبائع بالخيار إلى أن يوجب المشتري، هكذا حكاه الطحاوي عن عيسى بن أبان منهم، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك. اهـ) ، لأنّا رأينا الفرقة التي لها حكم فيما اتفقوا عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 الخيار (1) .   هي الفرقة في الصرف، فكانت تلك الفرقة إنما يجب بها فساد عقد متقدِّم ولا يجب بها صلاحه، وهذه الفرقة المرويَّة في خيار المتبايعين إذا جعلناها على ما ذكرنا فسد بها ما كان تقدم من عقد المخاطب، وإن جعلناها على ما قالت الفرقة الثانية يتم بها بخلاف فرقة الصرف، ولم يكن لها أصل فيما اتفقوا عليه، وهذا التفسير مروي أيضاً عن أبي يوسف رحمه الله، هذا ملخَّص ما في "شرح معاني الآثار" (2/203) للطحاوي، وشرحه المسمى "بنخب الأفكار في تنقيح معاني الاثار" للعيني، ولعل المنصف غير (في الأصل: الغير وهو خطأ) المتعصب يستيقن بعد إحاطة الكلام من الجوانب في هذا البحث والمتأمل فيما ذكرنا وما سنذكره أن أولى الأقوال هو ما فهمه الصحابيان الجليلان، وفهم الصاحبي وإن لم يكن حجة لكنه أولى من فهم غيره بلا شبهة، وإنْ كان كل من الأقوال مستنداً إلى حجة. (1) قوله: إلاَّ بيعَ الخيار، أي إلاَّ بيع شُرط فيه الخيار إلى ثلاثة أيام، فإنه يبقى فيه الخيار بعد تفرُّق الأقوال أيضاً، وكذا بعد تفرُّق الأبدان، وهذا أحد المعاني التي ذُكرت فيه وهو مشترك بين القائلين بالتفرُّق قولاً وبين القائلين بالتفرُّق بدناً، فإنهم متفقون على بقاء الخيار في البيع بشرط الخيار بعد التفرُّق. وثانيها: أن معناه إلاَّ بيعاً شُرط فيه أن لا خيار لهما في المجلس فيلزم بنفس البيع ولا يكون فيه خيار، وهذا مختصٌّ بالقائلين بالتفرُّق بدناً الذي يحتجون بهذا الحديث لإِثبات خيار المجلس. وثالثها: قال النووي: وهو أصحُّها أي على رأيهم أن المراد التخيير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 قال محمد: وبهذا (1) نأخذ،   بعد تمام العقد قبل مفارقة المجلس يعني يثبت لهما الخيار ما لم يتفرَّقا إلاَّ أن يتخايرا في المجلس، ويختارا إمضاء البيع فيلزم البيع بنفس التخاير، ولا يدوم إلى المفارقة (انظر بذل المجهود 15/127) . (1) قوله: وبهذا نأخذ، وفيه وفي قوله الآخر بعد ذكر التفسير: وهو قول أبي حنيفة: تصريح بأنهما لم يتركا هذا الحديث بالقياس ولم يَدَعا العمل به كما هو المشهور على الألسنة، بل إنهما حملا الحديث على ما حَمَل عليه النخعي، أخذا به واحتجّا به في إثبات خيار القبول فيما إذا أَوْجَبَ أحد المتبايِعَيْن فإنَّ للآخر حينئذٍ الخيار في أن يقبلَه أو يردَّه ما لم يتفرقا قولاً، فإذا تفرَّقا قولاً وتمَّ الكلام من الجانبين إيجاباً وقبولاً فلا خيار له إلاَّ في بيع الخيار الذي يكون شرط الخيار لأحدهما أو لهما إلى ثلاثة أيام، كما هو مذهب غيره وقد أورد البيهقي في "سننه" قاصدا التشنيع على أبي حنيفة، من طريق ابن المديني، عن سفيان يعني ابن عيينة أنه حدث الكوفيين بحديث البيّعان بالخيار، قال: فحدثوا به أبا حنيفة، وقال: إن هذا ليس بشيء أرأيتَ إن كانا في سفينة إلخ، قال ابن المديني: إن الله سائله عما قال. انتهى. قال السيد مرتضى الحسيني في "عقود الجواهر المنيفة في أدلة الإِمام أبي حنيفة": هذه حكاية منكرة لا تليق بأبي حنيفة مع ما سارت به الرُّكبان، وشُحنت به كتب أصحابه ومخالفيه من شدة ورعه وزهده ومخافته من الله وشدة احتياطه في الدين، وعلى تقرير صحة الحكاية لم يُرد بقوله هذا ليس بشيء: الحديث، وإنما أراد أنه ليس هذا الاحتجاج بشيء يعني تأويله بالتفرُّق بالأبدان، فلم يردّ الحديث، بل تأويله بأن التفرق المذكور فيه هو التفرق بالأقوال، ولهذا قال: أرأيت لو كانا في سفينة أو تاويل المتبايعين بالمتساومين، وهو لم ينفرد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 وَتَفْسِيرُهُ (1) عِنْدَنَا عَلَى مَا بَلَغَنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي أَنَّهُ قَالَ: المتبايعان   باجتهاده في هذا القول، بل وافقه عليه شيخ إمامه الذي يُقتدى به، وشيخه من قبل والثوري والنخعي وغيرهم. انتهى. (1) قوله: وتفسيره عندنا، لما ورد على قوله: وبهذا نأخذ، أن الحديث بظاهره يثبت خيار المجلس، والحنفية ليسوا بقائلين به، فكيف يصح قوله وبهذا نأخذ؟ أشار إلى الجواب عنه بتفسير الحديث بالتفرُّق القولي، وقد طال الكلام بين أصحاب التفرُّق القولي ومثبتي خيار المجلس نقضاً ودفعاً. أما أصحاب خيار المجلس فأوردوا على أصحاب التفرق القولي بوجوه: - الأول: أنه تفسير مخالف للمتبادر، والجواب عنه على ما في "شرح معاني الآثار" و "فتح القدير" وغيرهما أن التفرق كثيراً ما استُعمل في الكتاب والسنَّة في التفرُّق القولي، كما في قوله تعالى: (وما تفرَّق الذين أوتوا الكتاب إلاَّ من بعد ما جاءتهم البينة) (سورة البينة: الآية 4) ، وقوله تعالى: (وإنْ يتفرَّقا يُغْن اللَّهُ كلاًّ من سَعَته) (سورة النساء: الآية 130) . والمراد به تفرق قول الزوجين في الطلاق بأن يقول الزوج طلقتك، والمرأة قبلت، وقوله صلى الله عليه وسلم: افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. - والثاني: أن الخبر ورد بلفظ المتبايعين والبيِّعين، وهذا اللفظ لا يُطلق إلاَّ بعد حصول التفرُّق القولي وتمام العقد، فلا يكون الخيار إلاَّ بعده وإن هو إلاَّ خيار المجلس، فلا بد أن يُحمل التفرق على التفرق البدني، والجواب عنه على ما في "الهداية" وشروحها أن هذا إغفال منهم عن مقتضى اللغة، فإن المتساومين أيضاً قد يسمَّيان متابعين لمناسبة القرب وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا يبيع الرجل على بيع أخيه، فقد سمى قرب البيع بيعاً، فيمكن أن يكون سمى غير (في الأصل الغير وهو خطأ) المتفرقين قولاً في هذا الحديث بالمتبايعين لقربهما منه، وأيضاً المتبايع بالحقيقة إنما يكون من يباشر العقد، لا قبله ولا بعده، فإن كلاًّ منهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   بعد الفراغ وقبل المباشرة متبايع مجازاً باعتبار ما كان أو ما يكون، وحالة المباشرة إنما هي ما إذا صدر عن أحدهما الإِيجاب وقَصَد الآخر تلفُّظ القبول، ولم يتفرغ بعد. - والثالث: أن هذا التفسير يخالف ما فهمه ابن عمر، وعمل على وفقه كما مرَّ ذكره، فلا يُعتبر به وأجاب عنه الزيلعي وغيره بأنه تقرَّر في الأصول أن تأويل الصحابي لمحتمل التأويل، واختياره لأحد التأويلين ليس بحجة ملزمة على غيره، ولا يمنعه عن اختيار تأويل يغايره وفيه نظر ظاهر عندي فإنه بعد تسليم ما حقق في "الأصول" لا شبهة في أن تأويل الصحابي أقوى وأحرى بالقبول من تأويل غيره، وتقليده أولى من تقليد غيره، وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار": قد يجوز أن يكون ابن عمر أشكلت عليه الفُرقة التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم ما هي؟ فاحتملت عنده الفرقة بالأبدان على ما ذهب إليه عيسى بن أبان، واحتملت عنده الفرقة بالأقوال على ما ذهبنا إليه ولم يحضره دليل يدل أنه بأحدهما أولى منه بما سواه، ففارق بائعه ببدنه احتياطاً، ويحتمل أيضاً أن يكون فعل ذلك لأن بعض الناس يرى أن البيع لا يتم إلاَّ بذلك، وهو يرى أن البيع يتم بغيره، فأراد أن يتم البيع في قوله وقول مخالفه. انتهى. وهو ليس بشيء فيما يظهر لي فإن مثل هذه الاحتمالات لو اعتُبرت لم يحصل الجزم بكون فعل واحد من الصحابة أمراً مذهباً له لجواز أن يكون فعله احتياطاً، وظاهر سياق قصة ابن عمر المرويَّة في الكتب تشهد شهادة ظاهرة على أنه كان مذهباً له، وهو الذي نسبه إليه أصحاب الاختلاف، وذكروه في معرض الخلاف. ثم قال الطحاوي: وقد رُوي عنه ما يدلُّ على ان رأيه كان الفُرقة بخلاف ما ذهب إليه البيع يتم بها، وذلك أن سليمان بن شعيب قال: نا بشر بن بكر، حدثني الأَوْزاعي، حدثني الزهري، عن حمزة بن عبد الله عن ابن عمر أنه قال: ما أدركت الصفقة حياً فهو من مال المبتاع، فهذا ابن عمر قد كان يذهب فيما أدركت الصفقة حياً فهلك بعدها أنه من مال المشتري، فدل ذلك على أنه كان يرى أن الصفقة تتم بالأقوال قبل الفرقة التي تكون بعد ذلك وأن المبيع ينتقل بذلك من ملك البائع إلى المشتري حتى يهلك من ماله إذا هلك. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وعندي فيه ضعف ظاهر، فإنه ليس فيه التصريح بنفي خيار المجلس ولزوم البيع قبل التفرُّق البدني، وغاية ما فيه الإِطلاق وتقييده بالهلاك بعد التفرق سهل لا سيما إذا عُلم أنه كان مذهبه ذلك، أنه لا يلزم البيع إلاَّ بعد الفرقة وإذا جاز ذكر الاحتمال في ذلك الأثر جاز فيه بالطريق الأَوْلى مع أنه لا لزوم بين كونه ملكاً للمشتري وبين انتفاء خيار المجلس، فإن حصول الملك لا ينافي خيار الرؤية وخيار العيب، فيجوز أن لا ينافي خيار المجلس أيضاً. والرابع: أنَّ هذا التفسير يخالف ما قضى به أبو برزة، ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الطحاوي والبيهقي أنهم اختصموا إليه في رجل باع جارية فنام معها البائع، فلما أصبح قال: لا أرضى، فقال أبو برزة: إن النبي عليه السلام قال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا في خباء شَعره. وأخرجا أيضاً عن أبي الوضيء: نزلنا منزلاً، فباع صاحب لنا من رجل فرساً، فأقمنا في منزلنا يومَنا وليلَتَنَا، فلما كان الغد قام الرجل يسرِّج فرسه، فقال صاحبه: إنك قد بعتني، فاختصما إلى أبي برزة، فقال: إن شئتما قضيتُ بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا وما أُراكما تفرقتما. وأجاب عنه الطحاوي بقوله: في هذا الحديث ما يدُّل على أنهما تفرَّقا بأبدانهما، لأن فيه أن الرجل قام يسرِّج فرسه، فقد تنحّى بذلك من موضع إلى موضع فلم يراعِ أبو برزة ذلك، وقال: ما أراكما تفرَّقتُما؟ أي لمّا كنتما متشاجِرَيْن أحدكما يدَّعي البيع والآخر يُنكره لم تكونا تفرقتما الفُرقة التي يتمُّ بها البيع. انتهى. ولي فيه نظر: أما أولاً فلأنَّ هذا التأويل إن صح في الأثر الثاني لم يصح في الأثر الأول، وأما ثانياً فلأنه يحتمل أن يكون أبو برزة يظن أن الافتراق إنما يكون بغيبوبة أحدهما من الآخر، لا مجرَّد القيام والافتراق فلا يلزم عليه رعاية التنحِّي، وأما ثالثاً: فلأنَّ حمل التفرُّق الواقع في كلام أبي برزة على التفرُّق القولي مما يأبى عنه الفهم السليم، وكيف يُظَنُّ به أنه حكم بمجرد التخاصم بعدم التفرُّق القولي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ولم يطلب من المدَّعي بيِّنته ولا من المدَّعى عليه حلفاً؟ وبالجملة فلا شبهة في أن ابن عمر وأبا برزة ذهبا إلى التفرُّق البدني وتأويل كلماتهما بما يأبى عنه السباق والسياق غير مرضي، غاية ما في الباب أن لا يكون قولهما ومذهبهما حجة على غيرهما، وهو أمر آخر قد عرفتَ ما عليه. وأما أصحاب التفرق القولي، فأوردوا لتأييد تفسيرهم وإبطال ما ذهب إليه مخالفهم وجوهاً عديدة: منها أن إثبات خيار المجلس وحمل التفرُّق على التفرق البدني يخالف قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أَوْفوا بالعقود) (سورة المائدة: الآية 1) ، وهذا عقد قبل التخيير. وقوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاَّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم) (سورة النساء: الآية 29) . وبعد الإِيجاب والقبول يصدق (تجارةً عن تراضٍ) من غير توقُّف على التخيير، فقد أباح الله الأكل قبله، وقوله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايعتُم) (سورة البقرة: الآية 282) فإنه أمر بالتوثُّق بالشهادة كيلا يقع التجاحد للبيع، والبيع يصدق قبل الخيار بعد الإِيجاب والقبول، فلو ثبت الخيار وعدم اللزوم بعده للزم إبطال هذه النصوص، وفيه ما ذكره ابن الهمام في "فتح القدير" من أنّا نمنع تمام العقد قبل الافتراق، والتخيير، ونقول: العقد الملزم إنما يُعرف شرعاً، وقد اعتبر الشرع في كونه ملزماً اختيار الرضى بعد الإِيجاب والقبول بالأحاديث الصحيحة، وكذا لا يتمُّ التجارة عن التراضي إلاَّ به شرعاً، فإنما أباح الأكل بعد الاختيار، والبيع وإنْ صَدَق بعد الإِيجاب والقبول لكن التام منه متوقِّف على الافتراق أو الاختيار. ومنها أن إثبات خيار المجلس يعارضه حديث النهي عن البيع الغَرَر، فإنَّ كل واحد لا يدري ما يحصل له هل الثمن أم المثمّن. ومنها أنه خيار مجهول العاقبة فيبطل خيار الشرط إذا كان كذلك. وفيهما ما فيهما، فإنه منقوص بخيار الرؤية وخيار التعيين وغير ذلك، ومنها ما ذكره الطحاويّ أن حديث: من ابتاع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، قَالَ: مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَنْطِقِ (1) الْبَيْعِ إِذَا قَالَ الْبَائِعُ: قَدْ بعتُك فَلَهُ (2) أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يقل (3) الآخرُ: قد اشتريت، فإذا قال   طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه، يدل على أنه إذا قبضه حلَّ له بيعه، وقد يكون قابضاً له قبل افتراق بدنه وبدن بائعه، وأقرَّه السيد المرتضى في "عقود الجواهر". وعندي هو ضعيف، فإن هذا الحديث وأمثاله ساكتة عن ما وقع فيه البحث، فيُقَيَّد بالقبض والافتراق مع أنه لا يدل إلاَّ على حرمة البيع قبل الاستيفاء، لا على ثبوت جوازه بعده متصلاً وإن منعت عنه الموانع الأُخَر. وفي المقام كلام مبسوط، مظانُّه الكتب المبسوطة، وفيما ذكرناه كفاية لأُلي الفطنة. وقد شيَّد الطحاوي أركان المسألة بالنظر والقياس وقال: إنّا قد رأينا الأموال تملك بعقود في أبدان وفي أموال ومنافع وأبضاع، فكان ما يُملك من الأبضاع هو النكاح، فكان ذلك يتم بالعقد لا بفُرقة بعده، وكان ما يملك به المنافع هو الإِجارات، فكان ذلك أيضاً مملوكاً بالعقد، لا بالفرقة بعد العقد، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك الأموال المملوكة بسائر العقود من البيوع وغيرها تكون مملوكة بالأقوال لا بالفرقة، وهذا هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. انتهى. وفيه أيضاً ما فيه، فإن كثيراً من الأحكام كخيار الرؤية وخيار التعيين وخيار العيوب ثابتة في البيع دون أمثاله، فللخصم أن يقول ليكن خيار المجلس من هذا القبيل. (1) أي عن نطق ما يتعلق به من إيجاب وقبول وشرط. (2) أي للبائع. (3) قوله: ما لم يقل الآخر قد اشتريت، قال في "الهداية" إذا أوجب أحد المتعاقِدَيْن البيع فالآخر بالخيار إن شاء قَبِل في المجلس وإن شاء ردَّه. وهذا خيار القبول، لأنه لو لم يثبت له الخيار يلزمه حكم العقد من غير رضاه وإذا لم يفد الحكم بدون قبول الآخر فللموجب أن يرجع لخلوه عن إبطال حق الغير وإنما يمتدّ إلى آخر المجلس، لأن المجلس جامع للمتفرقات، فاعتبرت ساعاته ساعةً واحدة دفعاً للعُسْر وتحقيقاً لليُسْر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 الْمُشْتَرِي (1) : قَدِ اشتريتُ بِكَذَا وَكَذَا فَلَهُ (2) أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلِ الْبَائِعُ قَدْ بِعْتُ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 17 - بَابُ الاخْتِلافِ فِي الْبَيْعِ (3) بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي 785 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ (4) أنَّ ابنَ مَسْعُودٍ كَانَ يحدِّث (5) أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أيُّما (6) بَيِّعان (7) تَبَايَعَا، فالقولُ قولُ البائع أو يترادّان.   (1) أي ابتداءً. (2) أي المشتري. (3) قوله: بلغه، وصله الشافعي والترمذيّ من طريق ابن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن عون بن عبد الله، عن ابن مسعود، وقال الترمذي: مرسل وعون لم يدرك ابن مسعود، كذا في "التنوير". (4) قوله: بلغه، وصله الشافعي والترمذيّ من طريق ابن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن عون بن عبد الله، عن ابن مسعود، وقال الترمذي: مرسل وعون لم يدرك ابن مسعود، كذا في "التنوير". (5) قوله: كان يحدث الخ ... ، قال ابن عبد البر: جعل مالك حديث ابن مسعود كالمفسِّر لحديث ابن عمر في الخيار، إذ قد يختلفان قبل الافتراق، والترادّ إنما يكون بعد تمام البيع فكأنه عنده منسوخ لأنه لم يدْرِكْ العمل عليه، وقد ذُكر له حديث ابن عمر، فقال: لعلَّه مما تُرك ولم يعمل، لكن حديث ابن مسعود منقطع لا يكاد يتصل، أخرجه أبو داود وغيره بأسانيد منقطعة. انتهى. (6) قال الكرماني: زيدت "ما" على "أيّ" لزيادة التعميم. (7) البَيِّع بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة البائع، وفيه تغليب أي البائع والمشتري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا اخْتَلَفَا (1) فِي الثَّمَنِ (2) تَحَالَفَا (3) وَتَرَادَّا (4) الْبَيْعَ - وَهُوَ (5) قولُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا - إذا كان   (1) أي البائع والمشتري. (2) أي في قدره. (3) قوله: تحالفا، لكون كلٍّ منهما مدَّعياً من وجه، ومنكراً من وجه، فإن نَكَل أحدهما ثبت دعوى الآخر، وإن حلفا فُسخ البيع، وهذه الزيادة أي ذكر التحالف وإن لم يقع في حديث ابن مسعود في ما أخرجه الشافعي والنسائي والدارقطني ولم يقع في روايتهم ذكر الترادّ أيضاً، ووقع عند الترمذي وابن ماجه وأحمد ومالك والطبراني وأبي داود والحاكم والبيهقي والنسائي والدارقطني من طريق آخر ذكر الترادّ دون التحالف، لكنه ورد في ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات "المسند" من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن جَدِّه، والطبراني والدارمي من هذا الوجه، فقال: عن القاسم عن أبيه عن ابن مسعود مرفوعاً: إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بيِّنة لأحدهما على الآخر تحالفا. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": تفرَّد بهذه الزيادة، وهي قوله: "والسلعة قائمة" ابن أبي ليلى. وهو محمد بن عبد الرحمن الفقيه، وهو ضعيف سيِّئ الحفظ، وأما قوله: "تحالفا" فلم يقع عند أحد منهم، وإنما عندهم: فالقول ما قال البائع أو يترادّانِ البيع. انتهى. (4) في نسخة: ويرادّا. (5) قوله: وهو قول أبي حنيفة (وبه قال الشافعي ومالك في رواية، وعنه القول المشتري مع يمينه وبه قال أبو ثور وزفر، لأنَّ البائع يدَّعي زيادة ينكرها المشتري، والقول قول المنكر. انظر المغني 4/211) ، إذا اختلف المتبايعان، فادَّعى أحدهما ثمناً، وادَّعى البائع أكثر منه أو ادَّعى البائع بقدر من المبيع وادَّعى المشتري أكثر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 الْمَبِيعُ قَائِمًا (1) بِعَيْنِهِ، فإنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدِ اسْتَهْلَكَهُ (2) ، فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا فِي قَوْلِنَا فَيَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ الْقِيمَةَ (3) . 18 - بَابُ الرَّجُلِ يَبِيعُ الْمَتَاعَ بِنَسِيئَةٍ فَيُفْلِسُ (4) الْمُبْتَاعُ 786 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن ابي بكر بن   منه، وأقام أحدهما البيّنة قضي له بها وإن أقاما البينة فالبينة المثبتة للزيادة أولى ولو لم يكن لأحدهما بينة قيل للمشتري: إما أن ترضى بالثمن الذي ادَّعاه البيِّع وإلاَّ فسخنا الَبْيع، وقيل للبائع: إما أن تُسلِّم ما ادَّعاه المشتري وإلاَّ فسخناه، فإن لم يتراضيا استخلف الحاكم كلاًّ منهما على دعوى الآخر. وفسخ البيع. هذا إذا كان المبيع قائماً، وإن كان هالكاً (قال الموفق: وإن كانت السلعة تالفة، واختلفا في ثمنها بعد تلفها فعن أحمد روايتان: إحداهما يتحالفان مثل لو كانت قائمة، وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك، والأخرى: القول قول المشتري مع يمينه اختارها أبو بكر: وهذا قول النخعي والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة. الأوجز 11/325) ، ثم اختلفا، لم يتحالفا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، والقول قول المشتري، لأن التحالف بعد القبض على خلاف القياس ثبت بالنص، وقد ورد بلفظ: البيِّعان إذا اختلفا والمبيع قائم بعينه فالقول ما قال البائع وترادّا، وعند محمد: تحالفا ويفسخ البيع على قيمة الهالك لوجود الدعوى والإِنكار من الطرفين. والمسألة مبسوطة بدلائلها وتفاريعها في "الهداية" وشروحها. (1) أي موجوداً بنفسه لا هالكاً. (2) أي لا يتحالفان، بل يُقضى بالبيِّنة على البائع وبالحَلِف على المشتري. (3) أي قيمة الهالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنّ (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيُّما (2) رجلٍ (3) بَاعَ مَتَاعًا، فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ (4) وَلَمْ يَقْبِضِ (5) الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ (6) بِعَيْنِهِ فَهُوَ (7) أحقُّ بِهِ، وإنْ مَاتَ (8)   (4) قوله: أنّ، قال ابن عبد البر: هكذا هو في جميع "الموطآت" مرسلاً، وبجميع الرواة عن مالك، إلا عبد الرزاق فإنه وصله عن مالك عن ابن شهاب، عن أبي بكر، عن أبي هريرة، وكذا رواية أصحاب الزهري عنه مختلفة في إرساله ووصله، ورواية من وصله صحيحة، فقد رواه عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر، عن أبي هريرة، وبشير بن نهيك وهشام بن يحيى، كلاهما عن أبي هريرة مرفوعاً، الثلاثة في الفلس دون حكم الموت، والحديث محفوظ لأبي هريرة لا يرويه غيره فيما علمت. (1) قوله: أنّ، قال ابن عبد البر: هكذا هو في جميع "الموطآت" مرسلاً، وبجميع الرواة عن مالك، إلا عبد الرزاق فإنه وصله عن مالك عن ابن شهاب، عن أبي بكر، عن أبي هريرة، وكذا رواية أصحاب الزهري عنه مختلفة في إرساله ووصله، ورواية من وصله صحيحة، فقد رواه عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر، عن أبي هريرة، وبشير بن نهيك وهشام بن يحيى، كلاهما عن أبي هريرة مرفوعاً، الثلاثة في الفلس دون حكم الموت، والحديث محفوظ لأبي هريرة لا يرويه غيره فيما علمت. (2) قوله: أيّما، مركّب من "أيّ" وهي اسم ينوب مناب الشرط، ومن "ما" المبهمة الزائدة، وهي من المقحمات التي يُستغنى بها عن تفصيلٍ غير حاضر، أو تطويل غير مخلٍّ، قاله الطيبي. (3) بالجر مضاف إليه لأيّ. (4) أي اشتراه. (5) أي من المشتري. (6) أي فوجد البائعُ متاعَه بعينه عند المشتري المفلس. (7) أي البائع أحقّ (أي كائناً مَنْ كان وارثاً أو غريماً. فتح الباري 5/63) بأخذ ذلك الشيء بدَيْنه من سائر الغرماء. (8) قوله: وإن مات ... إلخ، هذا الحديث صحيح ثابت من رواية الحجازيين والبصريين، وهو نصّ في الفرق بين الحيّ والميت، وأجمع على القول به فقهاء المدينة والحجاز والبصرة والشام، وإنْ اختلفوا في بعض فروعه، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 المشتري (1) فصاحب المتاع فيه أُسوةٌ (2) للغُرماء (3) .   مذهب مالك وأحمد، وسرّ الفرق أنّ ذمّة المشتري عيّنت بالفلس، فصار البيع بمنزلة من اشترى سلعة فوجد بها عيباً فله ردّها، واسترجاع شيئه، ولا ضرر على بقية الغرماء لبقاء ذمّة المشتري، وفي الموت وإن عُيِّنت الذمة أيضاً، لكنها ذهبت رأساً، فلو اختص البائع بسلعة عظُم الضرر على سائر الغرماء لخراب ذمّة الميت، ومذهب الشافعي أن البائع أحقُّ بمتاعه في الموت أيضاً لحديث أبي داود وابن ماجه وغيرهما عن ابي المعتمر عمرو بن نافع عن عمر بن خلدة الزرقي، قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس، فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّما رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه. ورُدَّ بأنّ أبا المعتمر مجهول الحال فيكون حديث التفريق أرجح، وبأنه يحتمل أن يكون في الودائع والمغصوب ونحو ذلك، فإنه لم يذكر فيه البيع، ومذهب الحنيفية في ذلك أن صاحب المتاع ليس بأحق لا في الموت ولا في الحياة لأن المتاع بعد ما قبضه المشتري صار ملكاً خالصاً له والبائع صار أجنبياً منه كسائر أمواله، فالغرماء شركاء البائع فيه كلتا الصورتين، وإن لم يقبض فالبائع أحقّ لاختصاصه به، وهذا معنى واضح لولا ورد النص بالفرق، وسلفهم في ذلك عليّ رضي الله عنه، فإنّ قتادة روى عن خلاّس بن عمرو عن عليّ أنه قال: هو أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها. وأحاديث خلاس عن عليّ ضعيفة، ورُوي مثله عن إبراهيم النَّخَعي، ومن المعلوم أن كلَّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويُردّ إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عبرة للرأي بعد ورود نصِّه، كذا حققه ابن عبد البر والزرقاني (وبسطه شيخنا في الأوجز 11/353) . (1) أي المفلس الذي لم يردّ الثمن. (2) بالضم أي هو مساوٍ لهم، وأحد الشركاء معهم يأخذ مثل ما يأخذون ويحرم عما يحرمون. (3) في نسخة: الغرماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 قَالَ محمدٌ: إِذَا مَاتَ (1) وَقَدْ قَبَضَهُ فَصَاحِبُهُ فِيهِ أُسوةٌ لِلْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ (2) أحقُّ بِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الغُرماء حَتَّى يستوفيَ حَقَّهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَقْبِضْ (3) مَا يَشْتَرِي، فَالْبَائِعُ أحقُّ بِمَا بَاعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ. 19 - بَابُ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الشَّيْءَ أَوْ يَبِيعُهُ فَيغْبَنُ (4) فِيهِ أَوْ (5) يُسَعِّر (6) عَلَى الْمُسْلِمِينَ 787 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن دينار، عن عبد الله بن   (1) أي المشتري والحال أنه قبض المبيع. (2) أي صاحب المتاع وهو البائع. (3) وإنْ قَبَضَ فهو أسوة للغرماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 عُمَرَ: أَنَّ رَجُلا (1) ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ (2) فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بايعتَه فَقُلْ: لا خِلابَةَ (3) . فَكَانَ الرجل إذا باع فقال: لا خِلابَةَ.   (4) قوله أنّ رجلاً، لم يُسَمَّ الرجل في هذه الرواية، ولأحمد وأصحاب السنن والحاكم، من حديث أنس أن رجلاً من الأنصار، كان يُبايع عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وكان في عُقدته - أي رأيه وعقله - ضعف، وكان يَبْتاع، فأتَوْا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن البيع، فقال: إنّي لا أصبر على البيع، فقال: إذا بايعتَ فقل: لا خِلابَةَ. ووقع في رواية الحاكم والطبراني والشافعي والدارقطني: أن ذلك الرجل حبَّان بالفتح وتشديد الباء ابن منقذ بذال معجمة بعد قاف مكسورة ابن عمرو الأنصاري، ووقع عند ابن ماجه والبخاري في "التاريخ" أن القصة لوالده منقذ بن عمرو، وجعله ابنُ عبد البَرّ أصح، كذا في "التلخيص" (3/21) . (5) مجهول، أي يُغْبَن في المبايعة. (6) قوله: فقل لا خِلابة (بكسر المعجمة وتخفيف اللام: أي لا خديعة. وقد ذهب الشافعية والحنفية إلى أن الغبن غير لازم، فلا خيار للمغبون، سواء قلّ الغبن أو كثر، وأجابوا عن الحديث بأنها واقعة وحكاية حال، قال ابن العربي: إنه كله مخصوص بصاحبه، لا يتعدى إلى غيره. وقال مالك في بيع المغابنة: إذا لم يكن المشتري ذا بصيرة كان له فيه الخيار، وقال أحمد في بيع المسترسل: يُكره غبنه وعلى صاحب السلعة أن يستقصي له، وحُكي عنه أنه قال: إذا بايع فقال: لا خلابة فله الردّ. انظر بذل المجهود 15/173. وبسط شيخنا الكلام على هذا الحديث في الأوجز 11/388 فارجع إليه) ، بالكسر أي لا نقصان ولا غَبْن، أي لا يلزم مني خديعتك، زاد في رواية البخاري في "التاريخ" والحاكم والحُمَيدي وابن ماجه: وأنت في كل سلعة ابتعتَها بالخيار ثلاثةَ أيام. وقال التوربشتي: لقّنه هذا القول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 قَالَ مُحَمَّدٌ: نُرى (1) أَنَّ هَذَا كَانَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ خَاصَّةً. 788 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ (2) بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخطَّاب مَرَّ عَلَى حَاطِبِ (3) بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ (4) فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِمَّا أَنْ تزيدَ (5) فِي السِّعْرِ،   ليلفظ به عند البيع ليطلّع به صاحبه على أنّه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة، ليرى له ما يرى لنفسه. وكان الناس في ذلك الزمان إخواناً لا يغبنون أخاهم المسلم، وينظرون له أكثر ما ينظرون لأنفسهم. (1) قوله أنّ رجلاً، لم يُسَمَّ الرجل في هذه الرواية، ولأحمد وأصحاب السنن والحاكم، من حديث أنس أن رجلاً من الأنصار، كان يُبايع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في عُقدته - أي رأيه وعقله - ضعف، وكان يَبْتاع، فأتَوْا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن البيع، فقال: إنّي لا أصبر على البيع، فقال: إذا بايعتَ فقل: لا خِلابَةَ. ووقع في رواية الحاكم والطبراني والشافعي والدارقطني: أن ذلك الرجل حبَّان بالفتح وتشديد الباء ابن منقذ بذال معجمة بعد قاف مكسورة ابن عمرو الأنصاري، ووقع عند ابن ماجه والبخاري في "التاريخ" أن القصة لوالده منقذ بن عمرو، وجعله ابنُ عبد البَرّ أصح، كذا في "التلخيص" (3/21) . (2) مجهول، أي يُغْبَن في المبايعة. (3) قوله: فقل لا خِلابة (بكسر المعجمة وتخفيف اللام: أي لا خديعة. وقد ذهب الشافعية والحنفية إلى أن الغبن غير لازم، فلا خيار للمغبون، سواء قلّ الغبن أو كثر، وأجابوا عن الحديث بأنها واقعة وحكاية حال، قال ابن العربي: إنه كله مخصوص بصاحبه، لا يتعدى إلى غيره. وقال مالك في بيع المغابنة: إذا لم يكن المشتري ذا بصيرة كان له فيه الخيار، وقال أحمد في بيع المسترسل: يُكره غبنه وعلى صاحب السلعة أن يستقصي له، وحُكي عنه أنه قال: إذا بايع فقال: لا خلابة فله الردّ. انظر بذل المجهود 15/173. وبسط شيخنا الكلام على هذا الحديث في الأوجز 11/388 فارجع إليه) ، بالكسر أي لا نقصان ولا غَبْن، أي لا يلزم مني خديعتك، زاد في رواية البخاري في "التاريخ" والحاكم والحُمَيدي وابن ماجه: وأنت في كل سلعة ابتعتَها بالخيار ثلاثةَ أيام. وقال التوربشتي: لقّنه هذا القول ليلفظ به عند البيع ليطلّع به صاحبه على أنّه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة، ليرى له ما يرى لنفسه. وكان الناس في ذلك الزمان إخواناً لا يغبنون أخاهم المسلم، وينظرون له أكثر ما ينظرون لأنفسهم. (1) قوله: نُرى، أي نظن أن هذا الحكم خاص به، وللنبي صلى الله عليه وسلم أن يخصّ من شاء بما شاء. قال النووي: اختلف العلماء في هذا الحديث، فجعله بعضهم خاصاً به: وأنه لا خيار بغبن، وهو الصحيح، وعليه الشافعي وأبو حنيفة، وقيل: للمغبون الخيار لهذا الحديث بشرط أنْ يبلغ الغَبن ثلث القيمة. انتهى. وقال ابن عبد البر: قال بعضهم: هذا خاصّ بهذا الرجل وحده، وجَعَل له الخيار ثلاثة أيام اشترطه أو لم يشترطه لمَا كان فيه الحرص على المبايعة مع ضعف عقله ولسانه، وقيل: إنما جَعل له أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثاً مع قوله: لا خِلابة. (2) قوله: يونس بن يوسف بن حِماس بالكسر، من عُبَّاد أهل المدينة، ثقة، قال ابن حبان: هو يوسف بن يونس. ووهم من قَلَبه، كذا في "التقريب". (3) قوله: حاطب بن أبي بَلْتَعة، بفتح الموحّدة وسكون اللام وفتح الفوقية والمهملة، عمرو بن عمير اللخمي حليف بني أسد، شهد بدراً، ومات في سنة 30، قاله الزرقاني. (4) أي بالمدينة. (5) أي بأن تبيع بمثل ما يبيع أهل السوق، وقال القاري: إن (لا) ههنا محذوفة أي بأن لا تزيد، ولا حاجة إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ (1) مِنْ سُوقِنَا. قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي أَنْ يُسَعَّر عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فيُقال لَهُمْ (2) : بِيْعُوا كَذَا وَكَذَا بِكَذَا وَكَذَا، ويُجْبَرُوا (3) عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 20 - بَابُ الِاشْتِرَاطِ فِي الْبَيْعِ وَمَا يُفْسِده 789 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: اشْتَرَى مِنِ امْرَأَتِهِ (4) الثَّقَفِيَّةِ جَارِيَةً (5) واشترطَتْ عَلَيْهِ (6) إِنَّكَ إِنْ بِعْتها فَهِيَ لِي بِالثَّمَنِ الَّذِي تبيعُها (7) بِهِ، فَاسْتَفْتَى (8) فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فقال: لا تَقْرَبْها (9) وفيها   (1) أي متاعه لئلا يضُرّ بأهل السوق وبغيرهم. (2) أي لا يجوز له التسعير بسعر معيَّن عليهم. (3) فإن قال ذلك على سبيل المشورة لا بأس به. (4) قوله: امرأته الثففية، بفتحتين نسبة إلى ثقيف قبيلة، وهي زينب بنت عبد الله بن معاوية بن عتّاب بن الأسعد بن غاضرة، صحابية لها رواية عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ زوجها، وروى عنها ابنُ أخيها وبسر بن سعيد، كذا في "استيعاب ابن عبد البر". (5) أي مملوكة لها. (6) أي على زوجها المشتري. (7) أي في ذلك الوقت، وإن كان زائداً على ثمنها في الحال. (8) أي سأل ابن مسعود عن حكم هذا العقد. (9) أي الجارية المشتراة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 شرطٌ لأحدٍ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. كلُ شَرْطٍ (2) اشتَرط الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ (3) الْبَيْعِ، وَفِيهِ (4) منفعةٌ لِلْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَهُوَ (5) قول أبي حنيفة رحمه الله.   (1) أي من البائع والمشتري. (2) قوله: كل شرط لخ الضابط فيه على ما في "الهداية" وشروحها، أن كل شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد المتعاقِدَيْن أو المعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق يفسد البيع إذا لم يكن متعارفاً، ولم يرد به الشرع كشرط الأجل في الثمن والمثمن وشرط الخيار، ولم يكن متضمِّناً للتواثق كالشرط بشرط الكفيل بالثمن فإنه جائز. وذلك كمن اشترى حنطة على أن يطحنها البائع أو ثوباً على أن يخيطه أو عبداً على أن لا يبيعه المشتري بعد ذلك أو لا يبيعه إلا منه، ونحو ذلك. فإن كان مقتضى العقد لا يفسد، كشرط الملك للمشتري وتسليم الثمن ونحو ذلك، وكذا إذا لم يكن فيه نفع لأحد المتبايعين، أو فيه نفع للمعقود عليه وليس من أهل الاستحقاق، كمن باع ثوباً، أو حيواناً سوى الرقيق، على أن لا يبيعه ولا يهبه، وكذا إذا كان متعارفاً كما إذا اشترى نعلين بشرط أن يحذوه البائع، والفروع مبسوطة في كتب الفروع (بسط شيخنا بعضها في الأوجز 11/83) . (3) أي ليس من مقتضياته. (4) أي والحال أن في ذلك الشرط. (5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يُضمن، ولا بيع ما ليس عندك، أخرجه أبو داود والترمذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 790 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لا يطَأ الرَّجُلُ ولِيدةً إِلا ولِيدَته (1) ، إِنْ شَاءَ بَاعَهَا، وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا، وَإِنْ شَاءَ صَنَعَ بِهَا ما شاء.   والنسائي، وبه قال الشافعي إلا أنه خصه بما سوى شرط العتق واستثنى البيع مع شرط العتق منه وهو رواية عن أبي حنيفة بدليل حديث بَريرة في "الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تشتريها عائشة، وتشترط الولاء لمواليها، فإنما الولاء لمن أعتق. وسيجيء هذا الحديث مع ما له وما عليه، وبه تعلّق ابن أبي ليلى، فقال: البيع جائز والشرط باطل مطلقاً، وقال ابن شبرمة: البيع والشرط جائزان، مستدلاً بما رُوي عن جابر: بعتُ من النبي صلى الله عليه وسلم ناقةً وشرط لي حملانها إلى المدينة أخرجه الحاكم وغيره. ونحن نقول شرط جابر لم يكن في صُلب العقد، وحديث النهي العام يُقدَّم على حديث بَريرة الخاص لتقدُّم النافي على المبيح. وزيادة تفصيل هذه المسألة في "فتح القدير". (1) قوله: إلا وليدته، كأنه أراد أنه لا يطأ الرجل جارية إلا جارية له مملوكة ملكاً صحيحاً إن شاء باعها أو وهبها، وإن لم يشأ لم يفعل، وصَنَعَ بها ما شاء من العتق والتدبير وغير ذلك، والجارية التي ليست كذلك لا يحل وطؤها، فإنها إما مملوكة للغير كجارية الزوجة والوالدين، أو مملوكة له ملكاً فاسداً كما إذا اشتراها بالبيع بشرط أن لا يبيعها ولا يهبها ونحو ذلك، فلا يحل وطؤها لأنها مملوكة ملكاً خبيثاً، ولا يجوز له بيعها وشراؤها والتصرف فيها، بل يجب الإِقالة من العقد السابق. وعلى هذا يطابق هذا الأثر ترجمة الباب مطابَقَةً ظاهرة، جعل صاحب الكتاب هذا الأثر تفسيراً لقولهم: إن العبد لا يحل له أن يتسرى أي يأخذ جارية ويطأها، وحمله على معنى أن لا يطأ الرجل إلا وليدته التي يملك فيها التصرفات ما شاء، وهذا مختص بالحرّ، فإن العبد المملوك للغير إنْ مَلَكَ جارية كما إذا كان مأذوناً، لا يجوز له هبتها، فلا يحل له وطؤها وإن أذن له المولى. وهذا المعنى وإن كان يمكن استنباطه لكنه أجنبيّ عما ترجم به الباب إلا أن يكون غرضه منه مجرد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهَذَا (1) تَفْسِيرٌ: أَنَّ العبدَ لا يَنْبَغِي أَنْ يَتَسرَّى (2) ، لأَنَّهُ إِنْ وَهَبَ لَمْ يَجز هِبَتُهُ، كَمَا يَجُوزُ هِبَةُ الحُرّ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.   ذكر الإِشارة إليه. ثم وجدت في "شرح معاني الآثار" ما يوافق ما فهمته، ففيه: نا فهد نا أبو غسان نا زهير، عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: لا يحلّ فرْجٌ إلا فرج إن شاء صاحبه باعه، وإن شاء وهبه، وإن شاء أمسكه، لا شرط فيه. نا محمد بن النعمان نا سعيد بن منصور نا هشيم، أخبرنا يونس بن عبيد، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يكره أن يشتري الرجل الأمة على أن لا يبيع ولا يهب، فقد أبطل عمر بيع عبد الله، وتابعه عبد الله على ذلك. انتهى. ثم وجدت في "الدر المنثور" للسيوطي في تفسير سورة المؤمنين، عند قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون) الآية (سورة المؤمنون: الآية 5) ، أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة، عن ابن عمر: أنه سُئل عن امرأة أحلّت جاريتها لزوجها؟ فقال: لا يحلّ لكَ أن تطأ فرجاً إلا أنْ شئتَ بعت، وإن شئت وهبت، وإن شئت أعتقت. وأخرج عبد الرزاق، عن سعيد بن وهب قال: قال رجل لابن عمر: إنّ أمّي كان لها جارية فإنها أحلّتْها لي أطواف عليها، فقال: لا يحلّ لك إلا أن تشتريها أو تهبها لك. انتهى. وعلى هذا يفيد الأثر أمراً آخر هو إبطال تحليل الفروج وعاريَتِها، وهِبَتِها، وعدمِ جوازِ الوطء، بنحو ذلك. (1) أي هذا القول من ابن عمر. (2) من التسرّي وهو أخذ الجارية للوطء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 21 - بَابُ مَنْ بَاعَ نَخْلًا مؤبَّراً (1) أَوْ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ 791 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنْ عبد الله بن عمر: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ بَاعَ (2) نَخْلا قَدْ أُبِّرتْ، فثمرتُها (3) لِلْبَائِعِ إِلا أَنْ   (1) قوله: من باع نخلاً مؤبَّراً، خصّ النخل مع ان غيره في حكمه، لكثرته في المدينة، وظاهر القيد بالتأبير يقتضي أنه لو لم يكن مؤبَّراً فليس كذلك، على طريق مفهوم المخالفة، وبه قال مالك والشافعي إن الثمرة للمشتري مطلقاً إذا لم تؤبَّر، وعندنا القيد اتفاقي، والحكم غير مختلف. واستدل الطحاوي به في "شرح معاني الآثار" على جواز بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها وقد مرّ تفصيله. (2) قوله: من باع نخلاً مؤبَّراً، خصّ النخل مع ان غيره في حكمه، لكثرته في المدينة، وظاهر القيد بالتأبير يقتضي أنه لو لم يكن مؤبَّراً فليس كذلك، على طريق مفهوم المخالفة، وبه قال مالك والشافعي إن الثمرة للمشتري مطلقاً إذا لم تؤبَّر، وعندنا القيد اتفاقي، والحكم غير مختلف. واستدل الطحاوي به في "شرح معاني الآثار" على جواز بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها وقد مرّ تفصيله. (3) قوله: فثمرتها إلخ، لأن العقد إنما وقع على رقبة النخل، والاتصال وإن كان خلقة لكنه ليس للقرار بل للقطع، بخلاف بيع العرصَة يدخل فيه البناء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 يَشْتَرِطَهَا (1) الْمُبْتَاعُ. 792 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عبد الله بن عمر: أخبرنا مالك،، عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ بَاعَ (2) عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ (3) ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. 22 - بَابُ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ تُهدى إِلَيْهِ 793 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ (4) عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ اشْتَرَى مِنْ عاصم بن عدي   (1) قوله: إلا أن يشترطها المبتاع، أي المشتري بأن يقول: اشتريت النخلة بثمرها، وكذا إذا قال اشتريت العبد بماله، فإنه يدخل فيه المال، لكن لا بد أن يكون المال معلوماً عند الشافعي وأبي حنيفة للاحتراز عن الغَرَر، ظاهر مذهب المالكية والحنابلة والظاهرية الإِطلاق. ويُستفاد من أمثال هذه الأحاديث أنّ الشرط الذي لا ينافي العقد لا يفسد، كذا في "شرح المسند". (2) قوله: قال من باع إلخ، هذا موقوف في رواية نافع، ورفعه سالم عن أبيه، أخرجه البخاري ومسلم، ورواه النسائي من طريق سالم عن أبيه عن عمر مرفوعاً وفيه ضعيف. (3) قوله: وله مال..إلخ، استدل به المالكية على أن العبد يملك، قال أحمد والشافعي في القديم: يملك إذا ملّكه سيّدُه مالاً، وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: لا يملك أصلاً واللام للاختصاص والانتفاع، كذا في "شرح المسند". (4) في بعض النسخ: أنّ عبد الرحمن بن عوف قال: إنه اشترى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 جَارِيَةً، فَوَجَدَهَا (1) ذَاتَ زَوْجٍ فَرَدَّهَا (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَكُونُ (3) بيعُها طلاقَها (4) ، فَإِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَهَذَا (5) عَيْبٌ تُرَدُّ بِهِ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 794 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ (6) بْنَ عَامِرٍ أَهْدَى (7) لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ جَارِيَةً مِنَ الْبَصْرَةِ وَلَهَا زَوْجٌ، فَقَالَ عُثْمَانَ: لَنْ أَقْرَبَهَا (8) حَتَّى يفارِقَها زوجُها، فأَرْضَى ابنُ عامر زوجَها   (1) أي ظهر له بعد الشراء أنها ذات زوج. (2) أي بخيار العيب. (3) أي لا يكون بيع الجارية المتزوِّجة طلاقاً وفُرقةًَ من زوجها، كما قاله بعض العلماء. (4) في نسخة: طلاقاً. (5) قوله: فهذا عيب، قال في "المحيط" وغيره: النكاح والدَّيْن عيب في العبد والجارية، وعند الشافعي إن كان الدَّيْن عن شراء أو استقراض بغير إذن المَوْلى فليس بعيب لأنه يتأخر إلى ما بعد العتق. (6) قوله: أنّ عبد الله، قال الزرقاني: هو ابن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، وُلد في العهد النبوي، وأُتي به إليه فتَفَل عليه، قال ابن حبان: له صحبة، ولاّه ابن خاله عثمان بن عفان البصرة سنة 29 هـ، وافتتح خراسان وكرمان، مات بالمدينة سنة سبع أو ثمان وخمسين، وأبوه صحابي من مُسْلمة الفتح. (7) أي وهب. (8) أي لن أطأها لحُرْمتها علي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 فَفَارَقَهَا (1) . 23 - بَابُ (2) عُهْدة الثلاثِ والسَّنَةِ 795 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ؟، قَالَ:   (1) أي طَلَّقها فحلَّتْ لعثمان بعد العدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 سَمِعْتُ أبانَ بْنَ عُثْمَانَ وَهِشَامَ (1) بْنَ إِسْمَاعِيلَ يُعلّمان النَّاسَ عُهدةَ الثَّلاثِ والسَّنَةِ، يَخْطُبَانِ (2) بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لَسْنَا نَعْرِفُ (3) عُهْدَةَ الثلاث، ولا عهدة السنَةِ إلا أن   (2) قوله: وهشام، هو ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، والي المدينة لعبد الملك بن مروان، ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات". (1) قوله: وهشام، هو ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، والي المدينة لعبد الملك بن مروان، ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات". (2) قوله: يخطبان به على المنبر، قال الزرقاني: فالعمل به أمر قائم بالمدينة، قال الزهري: والقضاة منذ أدركنا يقضون بهما. وروى أبو داود عن الحسن البصري عن عقبة مرفوعاً: عهدة الرقيق ثلاث. ولم يسمع الحسن من عقبة، وروى ابن أبي شيبة، عن الحسن، عن سمرة مرفوعاً: عهدة الرقيق ثلاثة أيام. وفي سماع الحسن من سَمُرة خلاف. (3) قوله: لسنا نعرف، يعني في الشرع بالطريق الذي يجب به العمل، فإن عهدة الثلاث والسنة إن كان من فروع خيار العيب، فليس بمنكَرٍ وإلا فلم يثبت إلا خيار الشرط، أو العيب، أو خيار الرؤية، أو خيار التعيين، أو نحو ذلك، قال في كتاب "الحجج" (ص 201) : لو كان عندكم في ذلك حديث مفسَّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من أصحابه لاحتججتم به، وإنما هذا رأي منكم اصطلحتم عليه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 يَشْتَرِطَ (1) الرجلُ خيارَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ خيارَ سَنَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَا اشْتَرَطَ (2) ، وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلا يَجُوزُ الْخِيَارُ (3) إلا ثلاثة أيام.   وليس يقبل هذا منكم إلا بالحجة والبرهان، وكيف فرّقتم بين الرقيق في هذا وبين الدوابّ، وهو حيوان يحدث فيهما شيء، كما يحدث في الحيوان. (1) قوله: إلا أن يشترط، يشير إلى أن العهدة المنقولة إن كانت بالشرط يدخل في خيار الشرط، فيُعتبر بما شرطا، لكن لا تخصيص له بالثلاث والسنة، وإلا فلا. (2) قوله: على ما اشترط، سواء كان خيار شهر أو سنة أو أكثر، وبه قال أبو يوسف ومحمد، واستُدل لهما بحديث" المسلمون على شروطهم": وذكر صاحب "الهداية" في دليلهما: أن ابن عمر أجاز الخيار إلى شهرين، وقال في العناية لهما حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الخيار إلى شهرين وقال الأنزاري: روى أصحابنا في شروح "الجامع الصغير" إن ابن عمر أجاز الخيار إلى شهرين، وكذا ذكره فخر الإِسلام وقال العتابي: إن ابن عمر باع بشرط الخيار شهراً، وقال في: المختلف: رُوي أنه باع جارية وجعل المشتري الخيار إلى شهرين وهذا كله لم يثبت بإسناد صحيح، كذا في "البناية" وقد يُسْتَدلُّ لهما بأن الخيار إنما شُرع للحاجة إلى الفكر والتأمل وقد تمس الحاجة إلى الأكثر فصار كالتأجيل في الثمن. (3) قوله: فلا يجوز الخيار إلا إلى ثلاثة أيام، وبه قال زُفَر والشافعي وأحمد، وحجتهم حديث حَبَّان بن منقذ، وقد مرّ ذكره من قبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 24 - بَابُ بَيْعِ (1) الْوَلاءِ 796 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ (2) نَهَى (3) عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَهِبَتِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (4) . لا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَلاءِ، وَلا هِبَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، والعامَّة من فقهائنا.   (1) قوله: أن رسول الله إلخ، هكذا أخرجه أبو حنيفة عن عطاء بن يسار، عن ابن عمر، وعند الشيخين وغيره من طريق ابن دينار، عن ابن عمر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، واعتنى أبو نعيم بجمع طرقه، عن عبد الله بن دينار، فأورده عن خمسةٍ وثلاثين نفساً عنه، وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه: من طريق عبيد الله بن عمرو بن دينار وعمرو بن دينار كلهم عن ابن عمر، وعند الدارقطني في "غرائب مالك" عن عبد الله بن دينار، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، وظاهره أن ابن دينار لم يسمع هذا الحديث من ابنِ عمر وليس كذلك ففي "مسند الطيالسي" أن شعبة قال له: أسمعتَ ابنِ عمر وليس يقول هذا؟ فحلف بسماعه، وفي الباب أخبار كثيرة، والتفصيل في "شروح المسند". (2) قوله: أن رسول الله إلخ، هكذا أخرجه أبو حنيفة عن عطاء بن يسار، عن ابن عمر، وعند الشيخين وغيره من طريق ابن دينار، عن ابن عمر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، واعتنى أبو نعيم بجمع طرقه، عن عبد الله بن دينار، فأورده عن خمسةٍ وثلاثين نفساً عنه، وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه: من طريق عبيد الله بن عمرو بن دينار وعمرو بن دينار كلهم عن ابن عمر، وعند الدارقطني في "غرائب مالك" عن عبد الله بن دينار، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، وظاهره أن ابن دينار لم يسمع هذا الحديث من ابنِ عمر وليس كذلك ففي "مسند الطيالسي" أن شعبة قال له: أسمعتَ ابنِ عمر وليس يقول هذا؟ فحلف بسماعه، وفي الباب أخبار كثيرة، والتفصيل في "شروح المسند". (3) لكونه ليس بمال. (4) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال الجمهور سلفاً وخلفاً، إلاّ ما رُوى عن ميمونة أنها وهبت سليمان بن يسار لابن عباس، وروى عبد الرزاق عن عطاء جواز أن يأذن السيد لعبد أن يوالي من شاء، وجاء عن عثمان جواز بيع الولاء، وكذا عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 797 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ وَلِيدَةً (1) فتُعتقها، فقال أهلها (2) :   عروة وابن عباس. ولعلهم لم يبلغهم الحديث وقد أنكر ذلك ابن مسعود في زمان عثمان، وقال: أيبيعُ أحدُكم نسبه؟ أخرجه عبد الرزاق، كذا في "فتح الباري" وغيره. (1) قوله: وليدة، أي جارية، هي بَرِيرة، بفتح الباء وكسر الراء الأولى، كما صرَّح به أبو حنيفة في روايته عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، وكانت مكاتَبة لقوم من الأنصار، وقيل لبني هلال، والحديث مرويّ في الصحيحين والسنن وغيرها، وفي بعض الروايات: أنها جاءت إلى عائشة تستعين بها في كتابتها، وفي بعضها عن عائشة: جاءت بريرة فقالت: كاتب أهلي على تسع أواقٍ (قد اختلفت الروايات في قصة بريرة وجمع بينها شيخ شيخنا في البذل 16/261، فارجع إليه) ، في كل عام أوقية فأعينيني، فقالت: إنْ أحَبُّوا أن أعدَّها لهم عُدَّة واحدة، وأعتقك، فعلت، ويكون ولاؤك لي فأبَوْا ذلك إلا أن يكون الولاء لهم. وظاهره يدل على جواز بيع المكاتب إذا رضي بذلك، ولو لم يعجز نفسه، وهو قول الأَوْزعي والليث ومالك وابن جرير وابن المنذر، ومنعه أبو حنيفة والشافعي في أصح القولين وبعض المالكية، وأجابوا عن قصة بريرة بأنها عجزت نفسها، واستعانتها بعائشة يدل على ذلك، وهو يحتاج إلى دليل، وذهب جمع من العلماء إلى جواز بيع المكاتَب إذا وقع التراضي بذلك، كذا في "شرح المسند". (2) أي مالكوها المكاتبون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 نَبِيعُكِ عَلَى أَنَّ وَلاءَهَا (1) لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ (2) لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لا يمنعك (3) ذلك،   (1) أي بشرط أن يكون ولاؤك لنا لا لها. (2) أي شرطهم. (3) قوله: لا يمنعك ذلك، أي لا يمنعك من الشراء شرطهم، فإن الشرط باطلٌ شرعاً، وظاهره أن البيع بالشرط الفاسد جائزٌ، والشرط باطل، وبه قال قوم، وخصه قوم بشرط العتق، وقد مر البحث فيه، وللطحاوي في "شرح معاني الآثار" كلام طويل محصَّله بعد روايات هذه القصة، أن الاشتراط من أهل بريرة لم يكن في البيع، بل في أداء عائشة الكتابة إليهم بدليل رواية عروة، عن عائشة، جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواقٍ فأعينيني، ولم يكن قضت من كتابتها شيئاً، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك، فإن أحبوا أنْ أُعطيهم ذلك جميعاً، ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت فأبَوْا، وقالوا: إن شاءت أن تحسب عليك فلتفعل، ويكون ولاؤك لنا، فذكرت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا يمنعكِ ذلك - أي لا ترجعين لهذا المعنى عما كنت نويت في عتاقها من الثواب - اشتريها فأعتقيها، فكان ذكر الشراء ههنا ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قبل بين عائشة وأهل بريرة. انتهى ملخَّصاً. وغير خفيّ على الماهر العارف بطرق القصة أن ما أوَّلها به ليس بصحيح، وأنَّ كثيراً من الطرق دالَّة على أن ذكر البيع كان جرى قبل ذلك وأنَّ الشرط كان في البيع (قال السندي على البخاري: هذا مشكل جداً، لأنه شرط مفسد ومع ذلك تغرير للبائع والخَديعة له، وأوَّله بعضهم لكن السوق يأباه فالوجه أنه شرط مخصوص بهذا البيع وقع لمصلحة اقتضته، وللشارع التخصيص في مثله. وقريب منه ما قاله في الكوكب الدرّي. وقال الرازي في التفسير الكبير: إن اللام بمعنى على أي اشترطي عليهم الولاء. بذل المجهود 16/362) ، ورواية عروة مختصرة، والحديث يفسر بعضُ طرقه بعضاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 فَإِنَّمَا الولاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، لا يتحوَّل (2) عَنْهُ، وَهُوَ كَالنَّسَبِ (3) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 25 - بَابُ بَيْعِ أُمَّهَاتِ (4) الأَوْلادِ 798 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر، قال (5) :   (1) أي وشرط غير المعتق يكون الولاء له باطل شرعاً. (2) أي لا ينتقل منه، لا بالشرط ولا بسبب من أسباب الانتقال. (3) أي في اللزوم. (4) قوله: قال: قال عمر، هذا موقوف على عمر وعند الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً: إذا أولد الرجل أمته ومات عنها فهي حرة، وقال الدارقطني: الصحيح وقفه على ابن عمر عن عمر، وكذا قال البيهقي وعبد الحق، وقال ابن دقيق العيد: المعروف فيه الوقف، الذي رفعه ثقة، وفي الباب عن ابن عباس مرفوعاً: أيُّما أمةٍ ولدت من سيِّدها فهي حرة عن دُبُر منه، أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، وله طرق، وفي إسناده الحسين بن عبد الله الهاشمي ضعيف جداً. وعنه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مارية التي استولدها النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها ولدها، أخرجه ابن ماجه والبيهقي، وفي سنده ضعيف. وأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: سمعت عَبيدة السَّلْماني قال: سمعت عليّاً يقول: اجتمع رأيي ورأي ابن عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، ثم رأيت بعد ذلك أن يبعن، فقلت له: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إلينا من رأيك وحدك. وأخرج نحوه البيهقي، وأخرج عبد الرزاق بسندٍ حسن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أيُّما وليدةٍ (1) وَلَدَتْ مِنْ سيِّدها فإنَّه لا يَبِيعُهَا وَلا يَهَبُهَا وَلا يُورِّثها (2) ، وَهُوَ يَسْتَمْتِعُ (3) مِنْهَا فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّة. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (4) نَأْخُذُ. وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   رجوع عليّ عن الجواز، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون بيع أمهات الأولاد مباحاً في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ونهى عنه في آخر حياته، فلم يشتهر ذلك النهي، فلما بلغ عمر أجمعوا على النهي، ومما يدل على الإِباحة في العهد النبوي حديث جابر: كنا نبيع أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ لا نرى بذلك بأساً، أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حبان وأبو داود وابن أبي شيبة، كذا في "التلخيص الحبير" للحافظ ابن الحجر. (5) قوله: قال: قال عمر، هذا موقوف على عمر وعند الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً: إذا أولد الرجل أمته ومات عنها فهي حرة، وقال الدارقطني: الصحيح وقفه على ابن عمر عن عمر، وكذا قال البيهقي وعبد الحق، وقال ابن دقيق العيد: المعروف فيه الوقف، الذي رفعه ثقة، وفي الباب عن ابن عباس مرفوعاً: أيُّما أمةٍ ولدت من سيِّدها فهي حرة عن دُبُر منه، أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، وله طرق، وفي إسناده الحسين بن عبد الله الهاشمي ضعيف جداً. وعنه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مارية التي استولدها النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها ولدها، أخرجه ابن ماجه والبيهقي، وفي سنده ضعيف. وأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: سمعت عَبيدة السَّلْماني قال: سمعت عليّاً يقول: اجتمع رأيي ورأي ابن عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، ثم رأيت بعد ذلك أن يبعن، فقلت له: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إلينا من رأيك وحدك. وأخرج نحوه البيهقي، وأخرج عبد الرزاق بسندٍ حسن رجوع عليّ عن الجواز، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون بيع أمهات الأولاد مباحاً في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ونهى عنه في آخر حياته، فلم يشتهر ذلك النهي، فلما بلغ عمر أجمعوا على النهي، ومما يدل على الإِباحة في العهد النبوي حديث جابر: كنا نبيع أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ لا نرى بذلك بأساً، أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حبان وأبو داود وابن أبي شيبة، كذا في "التلخيص الحبير" للحافظ ابن الحجر. (1) أي جارية. (2) قال القاري: بالتشديد والتخفيف، أي لا يعطيها الإِرث من ماله. (3) أي ينتفع بها في حياته بالخدمة والوطء. (4) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال الأئمة الثلاثة، خِلافاً لبشر بن غياث وداود الظاهري ومن تبعه، وذكر ابن حزم أن جواز البيع مرويّ عن أبي بكر وعَليّ وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وزيد بن ثابت وغيرهم، كذا في "البناية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 26 - بَابُ بَيْعِ الْحَيَوَانِ (1) بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً (2) وَنَقْدًا 799 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسان، أَنَّ الْحَسَنَ (3) بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، أَخْبَرَهُ (4) أنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَاعَ جَمَلاً (5) لَهُ يُدعى (6) عُصَيْفِيراً (7) بعشرين بعيراً إلى أجل.   (1) قوله: الحسن، هو الحسن بن محمد المعروف بابن الحنفية بن علي بن أبي طالب كما ذكره الزرقاني، لا الحسن بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كما ظنه القاري، وقد اشتبه المحمَّدَيْن، وأحد العليَّيْن بالآخر. (2) فيه انقطاع فإن الحسن لم يدرك عليّاً. (3) قوله: الحسن، هو الحسن بن محمد المعروف بابن الحنفية بن علي بن أبي طالب كما ذكره الزرقاني، لا الحسن بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب كما ظنه القاري، وقد اشتبه المحمَّدَيْن، وأحد العليَّيْن بالآخر. (4) فيه انقطاع فإن الحسن لم يدرك عليّاً. (5) بفتحتين أي بعيراً. (6) بصيغة المجهول أي يسمَّى. (7) بلفظ تصغير عصفور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 800 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اشْتَرَى رَاحِلَةً (1) بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَة (2) مَضْمُونَةٍ (3) عَلَيْهِ، يُوفِّيها (4) إِيَّاهُ بالرَّبَذة. قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ خِلافُ هَذَا (5) . 801 - أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذُؤَيْب (6) ، عَنْ يَزِيدَ (7) بْنِ عبد الله بن   (1) أي ناقة قويَّة ترحل عليها. (2) بوزن أفعلة جمع بعير. (3) أي ثابتة في ذمَّة ابن عمر إلى أجل. (4) قوله: يوفّيها، من التوفية أو الإِيفاء، أي يعطي ابن عمر تلك الأَبْعرة. إياه، أي البائع. بالربذة بفتح الراء المهملة والباء الموحدة فذال معجمة: قرية قريب المدينة. (5) أي خلاف ما دل عليه الأثران المذكوران. (6) قوله: ابن أبي ذؤيب، بصيغة التصغير ذكره ابن حبان في "ئقات التابعين" حيث قال: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب الأسدي الحجازي، يروي عن ابن عمر، روى عنه ابن أبي نجيح، ومن قال: إنه ابن أبي ذئب فقد وهم. انتهى. وذكر في "تهذيب التهذيب" أنه إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب، وقيل أبي ذؤيب، روى عن ابن عمر وعطاء بن يسار، وعنه ابن أبي نجيح، وثقه الدارقطني، وأبو زرعة، وابن سعد. انتهى ملخصاً. وأما ابن أبي ذئب فهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب المدني، روى عن عكرمة ونافع وخلق، وعنه معمر وابن المبارك ويحيى القطّان ذكره الذهبي في "الكاشف". (7) قال ابن حجر في "التقريب": يزيد بن عبد الله بن قسيط مصغَّراً، ابن أسامة الليثي أبو عبد الله المدني الأعرج، ثقة مات سنة 122 هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 قُسَيْط، عَنْ أَبِي حَسَنٍ الْبَزَّارِ (1) ، عَنْ رجلٍ مِنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: أَنَّهُ (2) نَهَى عَنْ بَيْعِ الْبَعِيرِ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، وَالشَّاةِ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ. وبلغنا (3) عن   (1) قوله: البزّار، بتشديد الزاي المعجمة آخره راء مهملة نسبة إلى بيع البزر، كما أن البزّاز بالمعجمتين نسبة إلى بيع البزّ أي الثياب، ذكره السمعاني. قال ابن حبان في "ثقات التابعين": أبو الحسن البزار يروي عن علي: لا يصح الحيوان بالحيوان نسيئة روى عنه أبو العُميس. انتهى. (2) قوله: أنَّه نهى، وعند عبد الرزاق من طريق ابن المسيّب عن عليّ: كره بعيراً ببعيرين نسيئة. وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عنه، فهذا يخالف ما أخرجه مالك عن عليّ. وجاء عن ابن عمر أيضاً ما يخالف ما رواه عنه، فأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه سأل ابن عمر عن بعير ببعيرين إلى أجلٍ فكرهه، قال الحافظ في "التلخيص": يمكن الجمع بأنه كان يرى فيه الجواز وإن كان مكروهاً على التنزيه. انتهى. (3) قوله: وبلغنا إلخ، هذا البلاغ قد أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بطرقه من حديث سَمُرة وابن عمر وابن العباس وجابر، وجعله ناسخاً لما جاء في الجواز، وأخرج عن ابن مسعود: السَّلَف في كل شيء إلى أجلٍ مسمّى ما خلا الحيوان، وكذا أخرجه عن حذيفة. وفي "شرح المسند": استدلوا في ذلك بما أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث الحسن، عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ووصححه الترمذي وقال غيره: رجاله ثقات، ورواه ابن حبان والدارقطني، ورجاله ثقات أيضاً، وأخرجه الترمذي أيضاً من حديث جابر بإسناد ليِّن. واحْتجَّ من أجاز بحديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يجهِّز جيشاً، فنفدت الإِبل فأمره أن يأخذ على قلائص (قلائص: جمع قلوص، وهي الناقة الشابّة، مجمع بحار الأنوار 4/313) الصدقة، فكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 النبي صلى الله عليه وسلم: نهى (1) عن بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً، فَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا. 27 - باب الشِّركة (2) فِي الْبَيْعِ 802 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي (3) أَبِي قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ البزَّ (4) فِي زَمانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وإنَّ عُمَرَ قَالَ: لا يبيعُه (5) فِي سُوقِنَا (6) أَعْجَمِيٌّ (7) ،   يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، أخرجه أبو داود والدارقطني، قال الحافظ: إسناده قويّ، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم استسلف بعيراً بكراً - البكر: الصغير من الإِبل، والرَّبَاعي بالفتح: ما له ست سنين، قاله ابن حجر - وقضى رَبَاعياً، أخرجه البخاريّ. وأخرج عبد الرزاق أن رافع بن خديج اشترى بعيراً ببعيرين، فأعطى أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غداً، وهو قول ابن المسيّب وابن سيرين. وحيث تعارضَتْ الأدلة في بيع الحيوان نسيئةً يُقَدَّم الحظر فتُرَجَّح الأدلَّة السابقة. (1) في نسخة: أنه نهى. (2) قوله: أخبرني أبي، هو يعقوب المدني مولى الحُرُقة، مقبول، وابنه عبد الرحمن الحُرقي، نسبة إلى حرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء المهملة بعدها قاف: بطن من همدان، وقيل: من جهينة، وهو الصحيح، ابنه أبو شبل العلاء مولى الحرقة، مات سنة 132 هـ، ذكرهما ابن حبان في "الثقات"، كذا في "التقريب" و "الأنساب". (3) قوله: أخبرني أبي، هو يعقوب المدني مولى الحُرُقة، مقبول، وابنه عبد الرحمن الحُرقي، نسبة إلى حرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء المهملة بعدها قاف: بطن من همدان، وقيل: من جهينة، وهو الصحيح، ابنه أبو شبل العلاء مولى الحرقة، مات سنة 132 هـ، ذكرهما ابن حبان في "الثقات"، كذا في "التقريب" و "الأنساب". (4) بتشديد الباء، بعدها زاء معجمة: أي الثياب. (5) بصيغة الخبر مراد بها النهي، وفي نسخة لا يبعه بالنهي. (6) أي سوق المدينة. (7) أي غير عربي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا (1) فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُقِيمُوا فِي الْمِيزَانِ وَالْمِكْيَالِ. قَالَ يَعْقُوبُ: فَذَهَبْتُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ لَكَ (2) فِي غَنِيمَةٍ بَارِدَةٍ؟ قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: بَزٌّ، قَدْ علمتُ مَكَانَهُ (3) ، يَبِيعُهُ صَاحِبُهُ (4) برُخص (5) ، لا يَسْتَطِيعُ بَيْعَهُ (6) ، أَشْتَرِيهِ لَكَ ثُمَّ أبيعُه لَكَ، قَالَ: نَعَمْ، فَذَهَبْتُ فَصَفَقْتُ (7) بِالْبَزِّ، ثُمَّ جئتُ بِهِ، فطرحتُ (8) فِي دَارِ عُثْمَانَ، فَلَمَّا رَجَعَ عُثْمَانَ فَرَأَى العُكُوْم (9) فِي دَارِهِ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا (10) : بَزٌّ جَاءَ بِهِ يَعْقُوبُ، قَالَ: ادْعُوهُ لِي، فجئتُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قلتُ: هَذَا الَّذِي قلتُ لَكَ، قَالَ: أَنَظَرْتَه (11) ؟ قلتُ: كفيتُك (12) ولكن رابَه (13)   (1) أي لم يعرفوا مسائل الشرع في المعاملات كالعرب. (2) أي هل لك ميل إلى منفعة زائدة؟ (3) أي عرفت موضعاً يُباع فيه. (4) أي مالكه. (5) أي بسعر أرخص من سعر السوق. (6) أي لأنه عجمي، لا يقدر على بيعه بالسوق، أو لغير ذلك. (7) أي اشتريته من الصفقة وهو العقد. (8) أي ألقيتُه فيه. (9) بالضم بمعنى العِدْل. (10) أي أهل بيت عثمان. (11) أي أبصرته وتأمَّلته، ما فيه نقص. (12) أي صرت لك كافياً عن هذه المؤنة. (13) أي ألقاه في الريب والشك مخافة أن يمنعوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 حَرَسُ (1) عُمَرَ، قَالَ: نَعَمْ، فَذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى حَرَسِ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ يَبِيعُ بَزِّيْ فَلا تَمْنَعُوهُ (2) ، قَالُوا: نَعَمْ (3) ، جِئْتُ بِالْبَزِّ السوقَ، فَلَمْ أَلْبَثْ (4) حَتَّى جعلتُ ثَمَنَهُ فِي مِزْوَدٍ (5) وَذَهَبْتُ بِهِ (6) إِلَى عُثْمَانَ وَبِالَّذِي (7) اشتريتُ الْبَزَّ مِنْهُ (8) فَقُلْتُ (9) : عُدَّ الَّذِي لَكَ فاعتَدَّه وَبَقِيَ مَالٌ كَثِيرٌ، قَالَ: فَقُلْتُ لِعُثْمَانَ: هَذَا لَكَ، أَما (10) إِنِّي لَمْ أَظْلِمْ بِهِ (11) أَحَدًا، قَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَفَرِحَ بِذَلِكَ، قَالَ (12) : فَقُلْتُ: أَمَا إِنِّي قَدْ علمتُ مَكَانَ بَيْعِهَا مِثْلِهَا   (1) بفتحتين: جمع الحارس، أي حُفّاظ عمر في السوق المانعين عن بيع العجمي. (2) أي من البيع في السوق. (3) أي لا نمنعه. (4) أي لم أمكث. (5) بكسر الميم وفتح الواو: وعاء للزاد. (6) أي بذلك الثمن. (7) أي بائع البَزّ. (8) أي من ذلك الرجل. (9) قوله: فقلت، قال القاري: فقلت أي لبائعه: عُدّ الذي لك أي من ثمنه فاعتدَّه بتشديد الدال، أي عدَّه وأخذه وبقي مال كثير أي زائد على قدر ثمنه. (10) حرف تنبيه. (11) أي لم أنقص حق أحدٍ. (12) قوله: قال، أي يعقوب، فقلت لعثمان. أما، حرف تنبيه. قد علمت مكان بيعها، أي مكاناً تباع فيه الثياب مثلها، أي بمثلها في الفائدة أو أفضل أي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 أَوْ أَفْضَلَ، قَالَ: وعائدٌ أَنْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، إِنْ شئتَ، قَالَ: قَدْ شئتُ، قَالَ: فقلتُ: فَإِنِّي باغٍ خَيْرًا فَأَشْرِكْنِي، قَالَ: نَعَمْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فِي الشِّرَاءِ (1) بِالنَّسِيئَةِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لواحدٍ مِنْهُمْ رَأْسُ مَالٍ، عَلَى أنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا، وَالْوَضِيعَةُ (2) عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: وَإِنْ وَليِ (3) الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ أحدُهما دُونَ صَاحِبِهِ، وَلا يَفْضُلُ (4) وَاحِدٌ مِنْهُمَا صاحبَه فِي الربح، فإن ذلك   أنفع مما بعته. قال عثمان: وعائدٌ أنت؟ أي أراجع أنت إلى مثل هذه الصفقة النافعة؟ وهل تريد أن تشتري البزّ بالسعر الأرخص، وتبيعه بالنفع؟ قال يعقوب: قلت: نعم إن شئت أنت يا عثمان، قال عثمان: قد شئتُ أنا مثل هذه المرابحة، قال يعقوب: فقلت لعثمان: إني باغٍ - طالب خير - نفعاً وفائدة. فأشركني، بفتح الهمزة أي اجعلني لك شريكاً في ما يحصل من الربح، قال عثمان: نعم أنت شريك في الربح بيني وبينك، أي الربح بيني وبينك على التناصف (قال أبو عمر: أجمع العلماء على أنَّ القِراض سُنَّة معمول بها. أوجز المسالك 11/407) . (1) أي شراء مال من غير نقد ثمنه، بل مؤجَّلاً. (2) قوله: والوضيعة، على وزن فعيلة، بمعنى الخسران والنقصان، يقال: وضع في تجارته إذا خسر ولم يربح، وبيع الوضيعة بخلاف بيع المرابحة، كذا في "المُغرب" وغيره، يعني لا بد أن يشترط الاشتراك في النقصان كما اشترط الاشتراك في الربح، فإنْ شَرَطَ الربح دون الوضيعة فالشركة فاسدة. (3) من الولاية أي باشَرَ وعَمِل. (4) أي لا يزيد واحد في الربح الآخرَ بل يستويان. (1) أي ذلك العقد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 (1) لا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ (2) أَحَدُهُمَا رِبْحَ مَا ضَمِنَ صَاحِبُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 28 - بَابُ الْقَضَاءِ (3) 803 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مالك، ابْنُ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يَمنع (4) أحدُكُم جارَه أَنْ يَغْرِزَ (5) خَشَبةً (6) فِي جِدَارِهِ (7) ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو هريرة: ما لي أَراكم عنها   (2) بيان لسبب عدم الجواز، أي سببه أن لا يأكل أحدهما ربح ما ضمنه الآخر، أو بدل من ذلك أي لا يجوز ذلك وهو أن يأكل. (3) بصيغة النفي مراداً به النهي، وفي رواية: بالنهي. (4) بصيغة النفي مراداً به النهي، وفي رواية: بالنهي. (5) أي يركز فوق جداره، أو في وسط جداره. (6) قوله: خَشَبةً، بفتحتين والتنوين بصيغة الواحد، وفي رواية "خَشَبه" بالضمير بصيغة الجمع، قال الحافظ في "التلخيص": هذا الحديث متفق عليه، ورواه الشافعي وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، وفي الباب عن ابن عباس، ومجمع بن جارية عند ابن ماجه، وقال عبد الغني بن سعيد: كل الناس يقولون خشبه بالجمع إلا الطحاوي فإنه يقوله بلفظ الواحد، قلت: لم يقله الطحاوي إلاَّ نقلاً عن غيره، قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى، يقول: سألت ابن وهب عنه، فقال: سمعت من جماعة "خشبة" على لفظ الواحد، قال: وسمعت روح ابن الفرج، يقول: سألت أبا زيد والحارث بن مسكين ويونس عنه، فقالوا خشبةً بالنصب والتنوين، ورواية مجمع يشهد لمن رواه بالجمع. (7) قوله: في جداره، قال الزرقاني: النهي للتنزيه فيستحب أن لا يمنع عند الجمهور ومالك وأبي حنيفة والشافعي في الجديد جمعاً بينه وبين قوله عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 مُعْرِضِينَ؟ واللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا (1) عِنْدَنَا عَلَى وَجْهِ التوسُّع مِنَ الناس بعضهم   السلام: لا يحل لامرئ من مال أخيه إلاَّ ما أعطاه عن طيب نفس منه، رواه الحاكم. وقال الشافعي في القديم وأحمد وإسحاق وأصحاب الحديث: يُجبر إن امتنع، واشترط بعضهم تقدُّم استئذان الجار لرواية أحمد: مَنْ سأله جاره، وكذا لابن حبان، قال البيهقي: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلاَّ عمومات لا يُنْكَر أن يخصها، وقد حمله الراوي على ظاهره، وهو أعلم بما حدَّث به، يشير إلى قول أبي هريرة: ما لي أراكم عنها - أي عن هذه المقالة - معرضين. ففي "الترمذي" لمّا حدثهم بذلك طأطؤا رؤسهم، فقال: والله لأرميَنَّ أي لأصرخن بهذه المقالة بين أكتافكم، رويناه بالفوقية جمع كتف، وبالنون جمع كَنَف بفتحها بمعنى الجانب، قال ابن عبد البر: أي لأُشِيْعَنَّ هذه المقالة فيكم، ولأقرعنَّكم بها كما يضرب الإِنسان بالشيء بين كتفيه، فيستيقظ من غفلته، أو الضمير للخشبة أي إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به، لأجعلنَّ الخشبة بين رقابكم كارهين، وأراد به المبالغة، قاله الخطابي. وبهذا التأويل جزم إمام الحرمين، وقال: إن ذلك وقع من أبي هريرة، حين كان يلي إمرة المدينة، لكن عند ابن عبد البَرّ، من وجه آخر: لأرمينَّ بها بين أعينكم وإن كرهتم، وهذا يرجِّح التأويل الأول. (1) قوله: وهذا عندنا، أي هذا الخبر عندنا محمول على الندب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 عَلَى بَعْضٍ، وحُسْن الخُلُق، فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَلا يُجْبَرون عَلَى ذَلِكَ. بَلَغَنَا أَنَّ شُريحاً اختُصِم (1) إِلَيْهِ (2) فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لِلَّذِي وَضَعَ الْخَشَبَةَ: ارفَعْ رِجْلَك (3) عَنْ مطيَّة (4) أَخِيكَ. فَهَذَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ، والتوسُّع أَفْضَلُ. 29 - بَابُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ 804 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصين، عَنْ أَبِي غَطَفَان بْنِ طَرِيفٍ المُرّي (5) ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَن وهب (6) هبةً لصلةِ رحم،   (قال صاحب "المحلى": أمر ندب عند أبي حنيفة، وأمر إيجاب عند أحمد وإسحاق وأهل الحديث، وللشافعي وأصحاب مالك قولان: أصحهما الندب كذا في الأوجز 11/227. وقال الموفق: أما وضع الخشبة إن كان يضرُّ بالحائط لضعفه عن حمله لم يجز بغير خلاف نعلمه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، وإن كان لا يضرّ به إلاَّ أن به غنية عنه لإِمكان وضعه على غيره، فقال أكثر أصحابنا: لا يجوز أيضاً، وهو قول الشافعي وأبي ثور، لأنه انتفاع بملك الغير بغير إذنه فلم يجز، وأشار ابن عقيل إلى الجواز لحديث الباب، فأما إنْ دعت الحاجة إلى وضعه بحيث لا يمكنه التسقيف بدونه فإنه يجوز له وضعه بغير إذنه، وبهذا قال الشافعي في القديم، وقال في الجديد: ليس له وضعه، وهو قول أبي حنيفة ومالك المغني 4/555) والأولوية، لاستحباب التوسع على الناس، وحُسْن الخلق في ما بينهم، الذي مقتضاه عدم المنع، فأما في الحكم الشرعي الظاهر الذي يتعلق بالقضاة فليس فيه جبر، فإن منع فله المنع، وإن لم يمنع فهو أحسن. (1) بصيغة المجهول، أي تخاصم بعضهم بعضاً عنده. (2) في نسخة: عنده. (3) كناية عن رفع الخشبة عن الجدار. (4) أي مركبه. وهذا من قبيل الأمثال الدائرة. (5) نسبة إلى مُرَّة، بطن من غطفان. (6) قوله: من وهب هبة (بسط الكلام عليه الباجي في المنتقى 6/116) ، أي شيئاً موهوباً، أو المعنى من فعل هبة على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 أَوْ عَلَى وَجْهِ صدقةٍ، فَإِنَّهُ لا يَرْجِعُ (1) فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى (2) أنَّه إِنَّمَا أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ (3) ، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ، يَرْجِعُ فِيهَا إِنْ لَمْ يرضَ مِنْهَا (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَنْ وَهَبَ (5) هِبَةً لِذِي رَحِمٍ محرم،   طريق التجريد، بقصد صلة رحم، أي قرابة، أو وهبة للفقير على وجه الصدقة في سبيل الله فلا يجوز للواهب الرجوع فيه، ومن وهب هبة مجرَّدةً لقصد الثواب دون الصلة والتصدُّق يجوز له الرجوع، وهذا في "الموطأ" موقوف على عمر، قال الحافظ في "التلخيص": ورواه البيهقي من حديث ابن وهب عن حنظلة عن سالم بن عبد الله بن عمر نحوه، قال: ورواه عبيد الله بن موسى، عن إبراهيم، عن حنظلة مرفوعاً، وهو وهم، وصححه الحاكم وابن حزم، وروى الحاكم من حديث الحسن، عن سمرة مرفوعاً: إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع. وأخرجه الدارقطني ومن حديث ابن عباس بسندٍ ضعيف. (1) أي لا يجوز له ولا يعمل برجوعه. (2) بصيغة المعروف، أي يظن الواهب، أو بصيغة المجهول. (3) أي الجزاء والمكافأة الدنيوية والعوض. (4) أي من تلك الهبة. (5) قوله: من وهب هبة إلخ، تفصيله بحيث تظهر فوائد قيوده، على ما في "الهداية" وشروحه: أن الهبة لا تخلو إما أن تكون مقبوضة، أو غير مقبوضة، فإن كانت غير مقبوضة يجوز للواهب الرجوع فيها ويعمل برجوعه لأن الهبة غير (في الأصل "الغير" وهو تحريف) المقبوضة لا تفيد ملكاً كما قال النخعي: لا يجوز الهبة حتى تُقْبض، والصدقة تجوز قبل أن تقبض، ويدل على اشتراط القبض حديث نحلة أبي بكر الصديق كما سيأتي، وإن كانت مقبوضة، فلا يخلو إما أن يكون لذي رحم محرم، أي لذي قرابة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ، فَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَقَبَضَهَا، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إِنْ لَمْ يُثَبْ (1) مِنْهَا، أَوْ يُزَدْ (2) خَيْرًا (3) فِي يَدِهِ (4) ، أَوْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكه (5) إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   المحرمية، كالأصول والفروع، وإما أن يكون لغيره سواء كان أجنبياً محضاً أو كان ذا قرابة، ولم يكن محرماً كبني الأعمام، أو كان محرماً ولم يكن ذا رحم كالأخ الرضاعي، فإن كان الأول فلا يصح الرجوع فيه، لأن المقصود صلةُ الرحم، وقد حصل، وكذلك في هبة أحد الزوجين للآخر ويدل عليه حديث سمرة مرفوعاً: إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها، اخرجه الحاكم وقال: على شرط البخاري، والدارقطني والبيهقي في سُنَنيْهما، وضعَّفه ابنُ الجوزي بالكلام في أحد رواته عبد الله بن جعفر وخطأه ابن دقيق العيد، وقال: هو على شرط الترمذي، وإن كان الثاني فإن كان على سبيل الصدقة على الفقير يُقصد بها وجه الله فحسب فلا رجوع أيضاً، وإلاَّ فله رجوع، إلاَّ أن يمنع مانع، نحو أن يعوِّض عنها الموهوب له، فحينئذٍ تنقلب الهبة لازمة، وكذا إذا زاد الموهوب له في الموهوب خيراً، كالغرس والبناء وكذا إذا خرج من ملكه بالبيع أو الهبة، وكذا إذا هلك الموهوب أو مات أحدهما، وفي المسألة أبحاث استدلالاً واختلافاً مذكورة في مظانها. (1) مجهول من الإِثابة بمعنى العود والرجوع أي إن لم يعوض. (2) أي ذلك الشيء الموهوب. (3) أي منفعةً وزيادة. (4) أي الموهوب له. (5) أي الموهوب له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 30 - بَابُ النُّحْلَى (1) 805 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُميد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُعمان بْنِ بَشير، يُحدِّثانه عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: إنَّ أَبَاهُ (2) أَتَى بِهِ (3) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال (4) :   (1) قوله: قال: إن أباه، هو بشير بن سعد بن جُلاَس بن زيد بن مالك الخزرجي الأنصاري أبو النعمان، شهد بدراً وأحداً والمشاهد بعدها، والعَقَبة الثانية، وهو أول من بايع أبا بكر الصديق يوم السقيفة، وقُتل مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة يوم عين التمر سنة 12، وابنه النُّعْمان بضم النون، وُلد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بست سنين، وقيل: بثمان سنين، قال ابن عبد البر: لا يصحِّح بعض أهل الحديث سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندي صحيح، استعمله معاوية على حمص، ثم على الكوفة، واستعمله عليها بعده ابنه يزيد، ولمّا مات دعا الناس إلى خلافة ابن الزبير بالشام، فقتله أهل حمص سنة أربع وستين، كذا في "أسد الغابة في معرفة الصحابة" وابنه محمد أبو سعيد من ثقات التابعين، ذكره في "التقريب" وغيره. (2) قوله: قال: إن أباه، هو بشير بن سعد بن جُلاَس بن زيد بن مالك الخزرجي الأنصاري أبو النعمان، شهد بدراً وأحداً والمشاهد بعدها، والعَقَبة الثانية، وهو أول من بايع أبا بكر الصديق يوم السقيفة، وقُتل مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة يوم عين التمر سنة 12، وابنه النُّعْمان بضم النون، وُلد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بست سنين، وقيل: بثمان سنين، قال ابن عبد البر: لا يصحِّح بعض أهل الحديث سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندي صحيح، استعمله معاوية على حمص، ثم على الكوفة، واستعمله عليها بعده ابنه يزيد، ولمّا مات دعا الناس إلى خلافة ابن الزبير بالشام، فقتله أهل حمص سنة أربع وستين، كذا في "أسد الغابة في معرفة الصحابة" وابنه محمد أبو سعيد من ثقات التابعين، ذكره في "التقريب" وغيره. (3) أي بالنعمان. (4) قوله: فقال، قال الزرقاني: رَوَى هذا الحديث عن النعمان بن بشير عددٌ كثير من التابعين، منهم عروة بن الزبير عند مسلم وأبي داود والنسائي، وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوي، والمفضل بن المهلَّب عند أحمد وأبي داود والنسائي، وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أبي عوانة، والشعبي في "الصحيحين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلامًا (1) كَانَ لِي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَكُلٌّ وَلَدِكَ نحلتَه مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَأَرْجِعْه (2) . 806 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ (3) نَحَلَها جُذاذ عشرين   (1) أي عبداً مملوكاً لي. (2) قوله: فأرجعه، أمر وجوب عند طاوس والثوري وأحمد في رواية وإسحاق والبخاري، فإنهم قالوا: يجب التسوية في الهبة بين الأولاد، وقالوا: لو وهب من غير تسوية فهي باطلة، وعند الجمهور هو أمر ندب، والتفاضل مكروه (قال الموفق: يجب على الإِنسان التسوية بين أولاده في العطية، إذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل، فإن فاضل بينهم أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين، إما ردَّ ما فضَّل به البعض، وإما بإتمام نصيب الآخر، قال: فإن خصَّ بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه، مثل اختصاصه بحاجة أو زمانه أو عمى أو كثرة عالة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته، أو غير ذلك فقد رُوي عن أحمد ما يدل على جوازه، ويدل ظاهر لفظه المنع من التفضيل على كل حال، والأول أَولى، وقال مالك والليث والشافعي وأصحاب الرأي: ذلك جائز. انظر: "المغني" 5/664 و 665) ولا يبطل الهبة، كذا ذكره الزرقاني. (3) قوله: كان نحلها جذاذ، بكسر الجيم وضمها وبدالين مهملتين، وقيل: بمعجمتين، بمعنى القطع، قاله القاري. وفي "موطأ يحيى" جادّ عشرين وسقاً، قال الزرقاني: هو صفة للثمر من جَدّ إذا قطع، يعني أن ذلك يجدُّ منها، وقال الأصمعي: هذه أرض جادّ مائة وسق أي يُجَدّ ذلك منها فهو صفة النخل التي وهبها ثمرتها، يريد نخلاً يُجَدُّ منها عشرون وسقاً، والوسق ستون صاعاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ (1) ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةَ (2) مَا مِنَ النَّاسِ أحبُّ إليَّ (3) غِنًى بَعْدِي منكِ، وَلا أعزُّ (4) عليَّ فَقْرًا منكِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ مِنْ مَالِي جُذاذ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَوْ كُنْتِ جَذَذْتِيْه (5) ، واحتَزْتِيه (6) كَانَ (7) لَكِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وارث (8) ، وإنما (9) هو   (1) قوله: بالعالية، قال القاري: أي بقرية من العوالي حول المدينة، وفي "موطأ يحيى": بالغابة بمعجمة وموحدة: موضع على بريد من المدينة. (2) تصغير للشفقة. (3) أي بالنسبة إلى بقية الورثة. (4) أي أشقُّ وأصعب. (5) أي قطعتيه. (6) بإسكان الحاء المهملة والزاء المعجمة بينهما فوقية مفتوحة أي حَذْتِيه وجمعته أي قبضته. (7) لأن الحيازة والقبض شرط الملك في الهبة (الحيازة والقبض شرط في تمام الهبة عند الأئمة الثلاثة، وتصح عند احمد بغيره. (شرح الزرقاني 4/44) . (8) قوله: وارث، أي من يرث مني لأنه داخل في تَرِكتي، وغير خارج من ملكي، وهذا نص على أن الهبة لا تفيد الملك، إلاَّ مَحُوزة مقبوضة، وهو مذهب الخلفاء الأربعة الراشدين، والأئمة الثلاثة، وقال أحمد وأبو ثور: تصح الهبة والصدقة من غير قبض، ورُوي ذلك عن عليّ من وجه لا يصح، قاله ابن عبد البر. (9) قوله: وإنما هو أخوك، كذا في بعض النسخ، وعليه شرح القاري، وفسره بمحمد بن أبي بكر وفي "موطأ يحيى": وإنما هو - أي الوارث لما تركته - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 أخوكِ (1) وأختاكِ، فَاقْسِمُوهُ عَلَى (2) كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ، قَالَتْ: يَا أبتِ (3) ، واللَّهِ لَوْ كَانَ (4) كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ (5) ، إِنَّمَا هِيَ (6) أَسْمَاءُ، فَمَنِ الأُخْرَى؟ (7) قَالَ: ذُو بَطْنِ (8) بنتِ خَارِجَةَ أُراها (9) جَارِيَةً، فوَلَدَتْ (10) جَارِيَةً. 807 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبير، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عبدٍ القادريِّ (11) أنَّ عُمَرَ بْنَ الخطاب قال: ما بالُ   أخواك وهو الظاهر، والمراد بهما ابناه محمد وعبد الرحمن، وأختاك وهي أسماء بنت أبي بكر وأمّ كلثوم، التي كانت في بطن زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير الأنصاري، وولدت بعد وفاته، قال الزرقاني: يريد به من يرثه بالبنوَّة، لأنه ورثه معهم زوجتاه أسماء بنت عُميس وحبيبةُ وأبوه أبو قحافة. (1) في نسخة: أخواك. (2) أي حسب الفرائض المذكورة في الكتاب. (3) في نسخة: أبي. (4) كناية عن شيء كثير، أزيد مما وهبه لها. (5) أي طلباً لرضاك. (6) أي الأخت. (7) أي التي ذكرتَها بقولك: أختاك. (8) أي الكائنة في بطن بنت خارجة. (9) أي أظنها أنها أنثى، قيل ذلك لرؤيا رآها، وعُدَّ هذا من كراماته. (10) أي بنت خارجة بعد موت أبي بكر. (11) بتشديد الياء صفة لعبد الرحمن، نسبة إلى قارة قبيلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 رجالٍ يَنْحَلُون (1) أبناءَهم نُحْلاً (2) ، ثُمَّ يُمسكونها (3) ، قَالَ (4) : فَإِنْ مَاتَ ابنُ أَحَدِهِمْ (5) قَالَ: مَالِي بِيَدِي (6) وَلَمْ أُعْطِهِ أَحَدًا، وَإِنْ مَاتَ هُوَ (7) قَالَ: هُوَ لِابْنِي (8) ، قَدْ كُنْتُ أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ. مَنْ نَحَلَ (9) نِحْلَةً لَمْ يَحُزْها الَّذِي نُحِلَها حَتَّى تَكُونَ إِنْ مَاتَ لِوَرَثَتِهِ فَهِيَ بَاطِلٌ. 808 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ: مَنْ نَحَلَ وَلَدًا لَهُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ (10) أَنْ يحوز نُحْلة   (1) بفتح أوَّله وثالثه، أي يُعطون. (2) قوله: نُحْلاً، بالضم فسكون: عطية، قاله الزرقاني، أو بكسر ففتح جمع نِحْلة بمعنى المنحول، أي عطاءً، قاله القاري. (3) من الإِمساك، أي لا يقتضونه للموهوب له. (4) أي عمر بن الخطاب. (5) أي الموهوب له. (6) أي في قبضتي. (7) أي الأب الواهب. (8) أي ليحرم بقية ورثته، مع أن الهبة بدون القبض غير مفيد للملك. (9) قوله: من نحل، أي أعطى نِحلة بالكسر أي عطيَّة ومنحولاً لم يحُزْها - بضم الحاء المهملة بعدها زاء معجمة - من الحوز أي لم يجمعها ولم يقبضها الذي نُحِلَها، بصيغة المجهول، أي الذي أُعْطِيَها، وهو الموهوب له، حتى تكون أي النحلة إن مات لورثته، أي الواهب، فهي - أي تلك النحلة - باطلٌ، لا تفيد ملكاً، بل هو مشترك بين الورثة. (10) قوله: لم يبلغ، أي لم يصل إلى حدِّ أن يحوز ويقبض الموهوب له، بأن لم يبلغ سنّ التمييز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 فَأَعْلَنَ بِهَا، وَأَشْهَدَ (1) عَلَيْهَا، فَهِيَ جَائِزَةٌ، وإنَّ وَليَّها (2) أَبُوهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلَّه نَأْخُذُ. يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يسوِّي (3) بَيْنَ وَلَدِهِ (4) فِي النُحْلة (5) ، وَلا يُفَضِّلُ بعضَهم عَلَى بعضٍ، فَمَنْ نَحَل نُحْلة وَلَدًا أَوْ غَيْرَهُ، فَلَمْ يَقْبِضْهَا الذي نُحِلَها (6) حتى مات الناحل   (1) بيان للإِعلان، وهو أمر مستحبّ. (2) قوله: وإنَّ وليَّها أبوه، الظاهر أنَّ "إنَّ" مشددة مكسورة، واسمها وليها، وخبره أبوه، أي: إنَّ وليّ هذه النحلة هو أبوه الواهب، فإنَّ قبضه ينوب مناب قبض الصغير، ويُحتمل أن يكون أن وصايته وَوَلِيَ فعل ماضٍ وفاعله أبوه أي من أعطى للصغير نحلة، فأعلن بها، فهو جائز، وإن كان وليها الأب. (3) قوله: أن يسوّي، قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار": اختلف أصحابنا في السويَّة، فقال أبو يوسف: يُسوَّى فيها الأنثى والذكر، وقال محمد بن الحسن: بل يجعلها بينهم على قدر المواريث للذكر مثل حظ الأنثيين، انتهى. ثم رجَّح قول أبي يوسف بأن قوله صلى الله عليه وسلم: سوّوا بينهم في العطية كما تحبون أن يسووا لكم في البّر، دليل على أنه أراد التسوية بين الإِناث والدكور (قال الموفق: التسوية المستحبة أن يقسم على حسب قسمة الله تعالى الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وبهذا قال عطاء وشريح وإسحاق ومحمد بن الحسن، قال عطاء: ما كانوا يقسمون إلاَّ على كتاب الله تعالى. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن مبارك: تُعطى الأنثى مثل ما يُعطى الذكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد: "سوِّ بينهم". المغني 5/666، والأوجز 12/257) . (4) بفتحتين أو بضم فسكون، أي أولاده. (5) أي العطية. (6) بصيغة المجهول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 و (1) المنحول فَهِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى النَّاحِلِ (2) ، وَعَلَى وَرَثَتِهِ (3) وَلا تَجُوزُ (4) لِلْمَنْحُولِ حَتَّى يَقْبِضَهَا، إلاَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ، فَإِنْ قَبَضَ وَالِدُهُ لَهُ (5) قَبْضٌ، فَإِذَا أَعْلَنَهَا وأَشْهد بِهَا فَهِيَ جَائِزَةٌ لِوَلَدِهِ، وَلا سَبِيلَ (6) لِلْوَالِدِ إِلَى الرَّجْعَةِ فِيهَا، وَلا إِلَى اغْتِصَابِهَا (7) بَعْدَ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهَا. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 31 - بَابُ العُمْرى (8) والسُّكْنى 809 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سلمة بن   (1) الواو بمعنى أو. (2) إنْ كان حيّاً. (3) إنْ كان ميّتاً. (4) أي لا يجوز للموهوب له ذلك الموهوب أن يتصرف فيه. (5) أي في حكم قبضه. (6) لعدم جواز رجوع الواهب من ذي الرحم المحرم، إلاَّ أن يكون العقد السابق مما اشتمل على أمر ممنوع، كما في قصة النعمان وأبيه. (7) أي أخذها منه جبراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا (1) رَجُلٍ أُعمر (2) عُمرى لَهُ ولِعَقِبِه (3) فإنَّها للذي   (8) أيّما: مركب من "أي" مضاف إلى ما بعده ومن "ما" الزائدة. (1) أيّما: مركب من "أي" مضاف إلى ما بعده ومن "ما" الزائدة. (2) بصيغة المجهول. (3) قوله: ولعقبه، أي ورثته، وهو بفتح العين وكسر القاف، ويجوز إسكانها مع فتح العين وكسرها، أولاد الإِنسان ما تناسلوا، ذكره النووي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 يُعطاها (1) لا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا، لأَنَّهُ أَعْطَى (2) عَطَاءً وَقَعَتِ الْمَوَارِثُ فِيهِ. 810 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أنَّ ابْنَ عُمَرَ وَرَّث حَفْصَةَ (3) دَارَهَا، وَكَانَتْ حَفْصَةُ قَدْ أَسْكَنَتْ بِنْتَ زَيْدِ (4) بْنِ الْخَطَّابِ مَا عَاشَتْ (5) ، فَلَمَّا تُوفيت بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ قَبَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر المسكن، ورأى (6) أنه له.   (1) بصيغة المجهول. (2) قوله: لأنه أعطى إلخ، هذا مدرج من قول أبي سلمة، بيَّن ذَلِكَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عن أبي سلمة، عن جابر فيما أخرجه مسلم، وقال محمد بن يحيى الذهلي: إنه من قول الزهري، ولمسلم من طريق جابر قال: جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تُفسدوها فإنه من أعمر عمرى، فهي للذي أعمرها حيّاً وميتاً ولعقبه. وللطحاوي في "شرح معاني الآثار" روايات كثيرة في هذا الباب. (3) قوله: ورَّث حفصة، أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب دارَها أي بعد موتها. (4) هي بنت عمه. (5) أي ما دامت حياتها. (6) قوله: ورأى أنه له، أي ظن أنه حقه إرثاً من أخته حفصة، دلَّ هذا على أن السكنى عنده عارية ترجع إلى المعطي وإلى ورثته بعد موته، بعد موت من أعطى له السكنى وأما العمرى فعنده أنها له ولعقبه بعده، ليس فيه ردّ ولا رجوع، أخرجه الطحاوي عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الْعُمْرَى هِبَةٌ (1) فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا (2) فَهُوَ لَهُ، وَالسُّكْنَى لَهُ عَارِيَةٌ تُرْجَعُ إِلَى (3) الَّذِي أَسْكَنَهَا، وَإِلَى (4) وَارِثِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا، وَالْعُمْرَى أَنْ قَالَ هِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ أو لم يقل ولعقبه فهو سواء (5) .   (1) قوله: هبة، أي شرعاً، لورود الأحاديث الكثيرة بما يفيد ذلك، وأما ما نُقل عن ابن الأعرابي أنه قال: لم يختلف العرب في أن العُمْرى والرُّقْبى والمنحة والعرية والسكنى، أنها على ملك أربابها ومنافعها لمن جُعلت له، ونقل إجماع أهل المدينة على ذلك، فردَّه العيني بأن دعوى الإِجماع غير صحيحة، لاختلاف كثير من الصحابة فيه، وكونه عند العرب تمليك المنافع لا يضر إذا نقلها الشارع إلى تمليك الرقبة، كما في الصلاة. (2) داراً كان أو بستاناً. (3) أي في حال حياته. (4) أي بعد وفاته. (5) قوله: فهو سواء، أي في كون ذلك الشيء المعمر: له ولعقبه بعده ذكر لفظ عقبه أم لم يذكره، لإِطلاق كثير من الأحاديث الواردة في هذا الباب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 كِتَابُ الصَّرْفِ (1) ، وَأَبْوَابِ (2) الرِّبا 811 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لا تَبِيعُوا الوَرِق (3) بِالذَّهَبِ، أحدُهما غائبٌ (4) وَالآخَرُ ناجزٌ (5) ، فَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ (6) إِلَى أنْ يَلِجَ (7) بيتَه فَلا تُنْظِرْه (8) . إِنِّي (9) أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّماءَ، والرَّماء (10) هُوَ الرِّبَا.   (1) الوَرِق: بكسر الراء والسكون: الفضّة. (2) أي نسيئة. (3) الوَرِق: بكسر الراء والسكون: الفضّة. (4) أي نسيئة. (5) أي نقد. (6) أي استمهلك البائع أو المشتري، وطلب منك التأخير. (7) أي يدخل بيته. (8) من الإِنظار، أي فلا تمهله. (9) استئناف تعليلي. (10) قوله: والرَّماء، هو بفتح الراء المهملة بهده ميم: الربا، وهو تفسير من ابن عمر على ما هو الظاهر لاتفاق نافع وابن دينار عليه، قاله الزرقاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 812 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لا تَبِيعُوا الذَّهب بِالذَّهَبِ إِلا مثْلاً (1) بمثْل، وَلا تَبِيعُوا الوَرِق بالوَرِق إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ، وَلا تَبِيعُوا الذَّهَبَ (2) بالوَرِق أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالآخَرُ ناجزٌ، وَإِنِ استنظركَ (3) حَتَّى يَلِجَ بيتَه فَلا تُنظر، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرِّبا (4) . 813 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ (5) ؟، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري، أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ (6) إِلا مثْلاً بمثْل، وَلا تُشِفُّوا (7) بعضَها عَلَى بَعْضٍ، وَلا تَبِيعُوا الوَرِق بالوَرِق إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ، وَلا تُشِفُّوا بعضَها عَلَى بَعْضٍ، وَلا تَبِيعُوا مِنْهَا شَيْئًا غائباً (8) بناجزٍ.   (1) أي في الوزن. (2) وكذا العكس. (3) أي طلب منك النظرة إلى المهلة. (4) زاد في "موطأ يحيى" بعده: والرماء الربا (5) هو مولى ابن عمر. (6) أي إلاّ حال كونهما متماثِلَيْن أي متساويين وزناً من غير اعتبار الجَوْدة والرداءة. (7) قوله: ولا تُشِفُّوا، قال الزرقاني: بضم الفوقية وكسر الشين المعجمة وضم الفاء المشددة، من الإِشفاف، أي لا تفضلوا، والشفُّ هو الزيادة، وفيه دليل على أن الزيادة وإن قلّت حرام لأن الشفوف الزيادة القليلة، ومنه شفافة الإِناء لبقية الماء. (8) قوله: غائباً بناجز، بنون وجيم وزاء معجمة أي مؤجَّلاً بحاضر، بل لا بد من التقابض في المجلس، ولا خلاف في منع الصرف المؤخرّ إلا في دينار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 814 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى (1) بْنُ أَبِي تَمِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لا فَضْلَ بينهما (2) .   في ذمة أحدٍ صرفه الآن، أو في دينار في ذمة وصرفه في ذمة أخرى فيتقاصّان معاً، فذهب مالك إلى جواز الصورتين بشرط حلول ما في الذمة وأن يتناجزا في المجلس، وأجاز أبو حنيفة الصورتين معاً وإن لم يحلّ ما في الذمة فيهما لمراعاة براءة الذمم وأجاز الشافعي الأولى دون الثانية، قاله القاضي عياض (قال الموفق: ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر. ويكون صرفاً بعين وذمة في قول أكثر أهل العلم، ومنع منه ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة لأن القبض شرط وقد تخلَّف، ولنا ما روى أبو داود والأثرم عن ابن عمر كنت أبيع الإِبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، الحديث وفيه: فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وليس بينكما شيء، قال أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر، لم يختلفوا أن يقضيه إياه بالسعر إلا ما قال أصحاب الرأي: إنه يقضيه مكانها ذهباً على التراضي لأنه بيع في الحال فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس، ولنا حديث ابن عمر المذكور، فإن كان المقضيّ الذي في الذِّمة مؤجَّلاً فقد توقف فيه أحمد، وقال القاضي: يحتمل وجهين: أحدهما المنع وهو قول مالك ومشهور قولي الشافعي لأن ما في الذمة لا يستحق قبضه، والآخر الجواز، وهو قول أبي حنيفة لأن الثابت في الذمة بمنزلة المقبوض. المغني 4/55) . (1) قوله: موسى بن أبي تميم المدني، قال أبو حاتم: ثقة ليس به بأس ذكره السيوطي، وقال الزرقاني: ليس له في "الموطأ" مرفوع إلا هذا الحديث الواحد. (2) قوله: لا فضل بينهما، أي لا زيادة لأحدهما على الآخر مع التقابض، فإن اختلف الجنسان حلّ التفاضل مع حرمة النَّسَاء، كما في رواية عليّ عند ابن ماجة والحاكم: فمن كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب، ومن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق، والصرف هاءَ وهاءَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 815 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ (1) بن أوس ابن الحَدَثان، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ (2) : أَنَّهُ (3) الْتَمَسَ صَرْفاً بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ: فَدَعَانِي طَلْحَةُ (4) بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: فتراوَضْنا (5) حَتَّى اصطَرَف (6) مِنِّي، فَأَخَذَ طلحةُ الذهبَ يُقَلِّبُها (7) فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى (8) يأتِيَني خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ (9) ، وعمرُ بْنُ الْخَطَّابِ يسمع كلامه،   (1) قوله: عن مالك، قال ابن الأثير في "جامع الأصول": مالك بن أوس ابن الحَدَثان بن عوف بن ربيعة، أبو سعيد النصري، من بني نصر بن معاوية، اختُلف في صحبته، وأبوه صحابي، قال ابن عبد البَرّ: الأكثر على إثباتها، وقال ابن مَنْذَه: لا يثبت، روى عن العشرة المبشّرة وغيرهم، مات بالمدينة سنة اثنتين وتسعين. والحَدَثان بفتح الحاء والدال المهملتين، والنَّصْري بفتح النون. (2) أي أخبر ابنَ شهاب. (3) قوله: أنه التمس، أي طلب صرفاً أي بيع الصرف: بيع مائة دينار من ذهب عنده بالفضة. (4) أي أحد العشرة المبشرة. (5) قوله: فتراوَضْنا، بإسكان الضاد المعجمة، يقال: تراوض البائع والمشتري إذا جرى بينهما حديث البيع والشراء، والزيادة والنقصان، فيرتضي أحدهما بما يرتضي به الآخر. (6) أي أخذ طلحة مني ما كان عندي صرفاً. (7) من التقليب أي يجعل ظهره بطناً وبطنه ظهراً. (8) أي اصبر إلى إتيانه. (9) قوله: من الغابة، قال الزرقاني: بغين معجمة فألف فموحدة، موضع قرب المدينة به أموال لأهلها، وكان لطلحة بها مال نخل وغيره، وإنما قال ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 فَقَالَ (1) : لا، وَاللَّهِ لا تُفَارِقْهُ حَتَّى تأخُذَ (2) مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ (3) : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بالفِضّة (4) رِبًا إِلا هآءَ (5) وَهآءَ (6) ، والتمرُ بالتمرِ رِبًا إِلا هآءَ (7) وهآءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلا هآءَ وهآءَ.   طلحة لظنه جوازه كسائر البيوع، وما كان بَلَغَه حكم المسألة، قال المأزري: وإنه كان يرى جواز المواعدة في الصرف، كما هو قول عندنا، أو إنه لك يقبضها وإنما أخذ يقلِّبها. (1) أي لمالك بن أوس. (2) أي عوض الذهب في المجلس. (3) أراد به الاستناد بالسُّنَّة على ما أفتاه به. (4) في نسخة: بالورق. (5) قوله: إلا هاء وهاء (قال ابن الأثير: هاء وهاء هو أن يقول كل واحد من البيّعين: هاء فيعطيه ما في يده كالحديث الآخر: "إلاّ يداً بيد" يعني مقابضة في المجلس، وقيل: "خذ وأعط". وقال الطيبي: محله النصب على الحال، والمستثنى منه مقدر يعني بيع الذهب بالذهب رباً في جميع الحالات إلا حال التقابض، ويُكنى عن التقابض بقوله: هاء وهاء، لأنه لازمه، وعبّر بذلك لأن المعطي قال: خذ بلسان الحال سواء وُجد معه لسان المقال أو لا، فالاستثناء مفرَّغ. انظر "لامع الدراري على جامع البخاري" 6/115 - 116) ، قال النووي: فيه لغتان المدّ والقصر، والمد أفصح وأشهر وأصله هاك، فأُبدلت المدّ من الكاف، ومعناه خُذْ هذا، ويقول لصاحبه مثله. (6) في "موطأ يحيى" بعده: والبُرّ بالبُرّ رباً إلا هاء وهاء. (7) أي في جميع الأحوال إلا أن يقال من الجانبين خذ هذا، خذ هذا، ويحصل التقابض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 816 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَوْ عَنْ سُلَيْمَانَ (1) بْنِ يَسَارٍ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بَاعَ سِقايةً (2) مِنْ ورِقٍ أَوْ ذهبٍ بأكثرَ مِنْ وَزْنِهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا إِلا مِثْلا (3) بِمِثْلٍ، قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا نَرَى بِهِ بَأْسًا (4) ، فقال له أبو الدرداء: من يعذِرُني (5)   (1) قوله: أو عن سليمان بن يسار، الشك لعلّه من صاحب الكتاب، فإن في رواية يحيى الأندلسي عن عطاء بن يسار من دون شك. (2) قوله: سِقاية، بالكسر هي البرادة: الإِناء التي يبرد فيها الماء، قاله الزرقاني. (3) أي سواء في القدر. (4) قوله: ما نرى به بأساً (قال أبو عمر: لا أعلم أن هذه القصة عرضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من هذا الوجه، ورواه الشافعي في "الرسالة" فقرة 1228، بتحقيق الأستاذ أحمد شاكر) ، بمثل هذا البيع، وإنما قال ذلك إما لأنه حمل نهي الفضل على المسبوك، الذي به التعامل وقيم المتلفات، ورأى جوازه في الآنية المصوغة من الذهب والفضة ونحوهما، وإما لأنه كان لا يرى ربا الفضل، كما كان مذهب ابن عباس أوّلاً أخذاً من حديث: "لا ربا إلا في النسيئة" من أنّ الربا إنما هو في تأجيل أحدهما وتعجيل الآخر، لا في الفضل حالّاً، وقد قال قوم به، وخالفهم الجمهور بشهادة الأخبار الصحيحة، ولا حجة بقول أحد مخالف للكتاب والسُّنّة كائناً من كان، وقد ثبت في بعض الرويات رجوع ابن عباس عن هذه الفُتيا بعد ما وصلت إليه الرويات، كما بسطه الحازمي في "كتاب الناسخ والمنسوخ". (5) قوله: من يعذِرُني، بكسر الذال المعجمة أي من يلومه على فعله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 مِنْ مُعَاوِيَةَ، أُخْبِرُهُ (1) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويُخبرني عَنْ رَأْيِهِ، لا أُساكِنْكَ (2) بأرضٍ (3) أنتَ بِهَا، قَالَ: فقدِم (4) أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَخْبَرَهُ (5) ، فَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ لا يَبِيعَ ذَلِكَ (6) إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ، أَوْ (7) وَزْنًا بِوَزْنٍ. 817 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْط الليثي:   ولا يلومني على فعلي، أو من يقوم بعذري إذا جازَيْتُه بصنعه، أو من ينصرني، يقال: عذرته إذا نصرتهُ. (1) قوله: أخبره، أي أخبره أنا بالحديث، ويخبرني هو عن رأيه ويقول: ما أرى به بأساً، ولا رأْيَ بعد الكتاب والسُّنّة، وفيه زجر عظيم على مَنْ يردّ الحديث بالرأي أو يقابله به، ولقد عظُمت هذه البلّية في الأزمنة المتأخرة في الطوائف المقلّدة، إذا وصل إليهم حديث مخالف لمذهبهم ردّوه برأيهم وقابلوه برأي أئمتهم، فالله يهديهم ويصلحهم. (2) قوله: لا أساكنك، فيه جواز أن يهجر المرء من لم يسمع ولم يطعه وصدر منه أمر غير مشروع، لا للبُغْض والعناد والهوى بل لوجه الله خاصة، ويشهد له نصوص كثيرة، ذكرها السيوطي في رسالته "الزجر بالهجر". (3) أي أرض الشام. (4) أي إلى المدينة. (5) أي بما جرى بينه وبين معاوية. (6) أي الذهب والفضة مطلقاً. (7) شك من الراوي ومعناهما واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 أَنَّهُ رَأَى سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُراطِلُ (1) الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، قَالَ: فَيُفَرِّغُ (2) الذَّهَبَ فِي كِفّةِ الْمِيزَانِ، ويُفَرِّغُ الآخَرُ الذهبَ فِي كِفَّتِهِ الْأُخْرَى، قَالَ: ثُمَّ يَرْفَعُ الْمِيزَانَ، فَإِذَا اعْتَدَلَ (3) لِسَانُ (4) الْمِيزَانِ؟، أَخَذَ (5) وَأَعْطَى صاحبَه (6) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ عَلَى مَا جَاءَتِ الآثَارُ، وَهُوَ قولُ أبي حنيفة والعامّة من فقهائنا.   (1) قوله: يُراطل، من رطلتُ الشيء كنصر: وزنته بيدك لتعرف وزنه تقريباً، قاله القاري. (2) بيان لكيفية المراطلة. قوله: فيفرّغ، بالتشديد والتخفيف، أي يلقيه في كِفّة الميزان بكسر الكاف وتشديد الفاء، وجاء ضم الكاف، وهو أحد جانبيه اللذين يوضع فيهما الأشياء وتوزن. (3) بأن لم يرتفع أحد الكِفَّتين عن الأخرى بل استويا. (4) قوله: لسان الميزان، بكسر اللام (زبانه ترازو) (بالفارسية) كذا في "منتهى الأرب"، وفي "البرهان القاطع": زبانه بفتح أول (بروزن بهانه آنجه درميان شاهين ترازوباشد وشاهين بروزن لاحين جوب ترازو) (بالفارسية) . انتهى. (5) أي مال صاحبه. (6) أي ماله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 1 - باب الربا قيما يُكال (1) أَوْ يُوزَن 818 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: لا رِبَا إِلا فِي ذَهَبٍ أَوْ فضّةٍ أَوْ مَا يُكال أَوْ يُوزن مِمَّا يُوكل أَوْ يُشرب. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا كَانَ مَا يُكال مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَانَ مَا يُوزَنُ مِنْ صنفٍ واحدٍ (2) ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا، إِلا مِثْلا (3) بِمِثْلٍ، يَدًا (4) بيدٍ، بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُؤْكَلُ ويُشرب وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 819 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ (5) : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلا بِمِثْلٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَامِلَكَ (6) عَلَى خَيْبَرَ - وَهُوَ رجل من بني عدي من   (1) قوله: من صنفٍ واحدٍ، وإن لم يكن مأكولاً ولا مشروباً كالجصّ والنورة ونحوهما، فإنّ علة حرمة الربا عندنا هو القدر والجنس، فإذا وُجدا حَرُم الربا، وإذا وُجد أحدهما حلّ الفضل، وحرم النسأ، والمسألة بحَذافيرها مبسوطة في "الهداية" وشروحها. (2) قوله: من صنفٍ واحدٍ، وإن لم يكن مأكولاً ولا مشروباً كالجصّ والنورة ونحوهما، فإنّ علة حرمة الربا عندنا هو القدر والجنس، فإذا وُجدا حَرُم الربا، وإذا وُجد أحدهما حلّ الفضل، وحرم النسأ، والمسألة بحَذافيرها مبسوطة في "الهداية" وشروحها. (3) أي متساوياً في الكيل والوزن. (4) أي قبضاً بقبض في المجلس. (5) قوله: قال، قال: هذا حديث مرسل في "الموطأ" ووصله داود بن قيس، عن زيد، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث، قاله ابن عبد البر. (6) اسمه سواد بن غزيّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 الأَنْصَارِ - يَأْخُذُ الصَّاعَ (1) بِالصَّاعَيْنِ (2) ، قَالَ: ادْعُوهُ لِي (3) ، فدُعِيَ (4) لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَأْخُذِ الصاعَ بِالصَّاعَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا يُعطوني (5) الجَنِيبَ بالجَمع إِلا صَاعًا بِصَاعَيْنِ، قَالَ (6) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِعِ الجَمْع بِالدَّرَاهِمِ وَاشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا. 820 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (7) عَبْدُ الْمَجِيدِ بن سُهَيْل   (1) أي من التمر الجيّد. (2) أي من التمر الرديء. (3) أي اطلبوه عندي. (4) بالمجهول أي طلب ذلك العامل عنده. (5) قوله: لا يُعطوني، أي أصحاب التمر ومُلاّكه، أي لا يبيعونني الجنيب بالجَمْع إلا بالتفاضل، ولا يبيعونني بالمساواة، قال الحافظ في "التلخيص": الجنيب بالفتح نوع من التمر وهو أجوده والجمع بإسكان الميم تمر رديء يُخلَط لرداءته، وعامل خبير صاحب القصة هو سواد بن غزيّة، حُكي ذلك عن الدارقطني، وذكره الخطيب في "مبهماته" قال: وقيل: مالك بن صعصعة. (6) علّمه صورة لا تدخل فيها (في الأصل: "فيه"، وهو خطأ) الربا، مع حصول المقصود. (7) قوله: أخبرنا عبد المجيد بن سهيل والزهري، وهكذا وجدنا في نسخ عديدة من هذا الكتاب، وكذا هو في نسخة عليها شرح القاري، وظاهره أن لمالكٍ في هذه الرواية شيخين روياه عن ابن المسيّب: أحدهما: عبد المجيد، وثانيهما: الزهري، والذي يظهر أن الواو الداخلية على الزهري من زلّة الناسخ، وهو صفة لعبد المجيد نفسه، وهو شيخ لمالك في هذه الرواية لا غيره، واختلفوا في تسميته، فقيل: عبد المجيد كما في الكتاب، وقيل: عبد الحميد، وليس بصحيح ففي "موطأ يحيى" وشرحه للزرقاني: مالك عن عبد الحميد بالمهلة ثم الميم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 وَالزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدري وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ (2) رَجُلا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَ بِتَمْرٍ جنيبٍ (3) ، فَقَالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم   كذا رواه يحيى وابن نافع وابن يوسف، وقال جمهور رواة "الموطأ": عبد المجيد بميم تليها جيم، وهو المعروف، وكذا ذكره البخاري والعُقيلي، وهو الصواب والحقّ الذي لا شك فيه، والأول غلط، قاله أبو عمر: ابن سهيل، بالتصغير زوج الثريا بنت عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، ثقة حُجَّة، له مرفوعاً في "الموطأ" هذا الحديث الواحد، عن سعيد بن المسيّب إلخ، وفي "إسعاف السيوطي": عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو محمد المدني عن عمه أبي سلمة وسعيد بن المسيّب وأبي صالح ذكوان وعنه مالك والدراوردي وآخرون، وثقه النسائي وابن معين. انتهى. ومثله في "التقريب" و "الكاشف" وغيرهما. (1) قوله: وعن أبي هريرة، قال ابن عبد البر: ذِكْر أبي هريرة لا يوجد في غير رواية عبد المجيد، وإنما المحفوظ عن أبي سعيد كما رواه قتادة عن ابن المسيب عنه، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة وعقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد. انتهى. وقال أيضاً في "الاستذكار": الحديث محفوظ عن أبي سعيد وأبي هريرة. انتهى. وهذا بناءً على كون راوي الزيادة أي عبد المجيد ثقة فلا تكون زيادته شاذّة. (2) قوله: استعمل رجلاً، أي جعله عاملاً، قال الزرقاني: هو سَوَاد - بخِفّة الواو - بن غَزِيَّة بمعجمتين بوزن عطيّة، كما سمّاه الدراوردي عن عبد المجيد، عند أبي عوانة والدارقطني. (3) قوله: بتمر جنيب، هكذا هو في رواية الشيخين وجماعة وذكر جمع من الحنفية منهم صاحب "الهداية" و "النهاية" و "العناية" وغيرهم، في بحث المزابنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 أَكُلّ (1) تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنَّ الصَّاعَ (2) مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ (3) ، وَالصَّاعَيْنِ (4) بِالثَّلاثَةِ (5) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلا تَفْعَلْ، بِعْ تَمْرَكَ (6) بالدراهم، ثم اشترِ بالدراهم جَنيِباً،   في هذا الحديث: أنه أُهدي إلى رسول الله رُطَباً، فقال: أوكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ وبنَوْا عليه ما ذهب إليه أبو حنيفة من جواز بيع الرطب بالتمر مثلاً بمثل من غير اعتبار نقصان الرطب عند الجفاف لأنه صلى الله عليه وسلم سماه تمراً، والتمر يجوز بيعه بمثله، ولا وجود لما ذكروه في شيء من الطرق كما حقّقه الزيلعي والعيني. (1) بهمزة الاستفهام، أي هل كل تمره جنيب كما أتيت به عندي؟. (2) أي نأخذ الصاع من الجنيب. (3) أي من الجمع. (4) من الجنيب. (5) من الجمع. (6) قوله: بِع تمرك إلخ، أشار إليه بما يجتنب به عن الربا مع حصول المقصود، وبه احتج جماعة من فقهائنا وغيرهم، على جواز الحيلة في الربا، وبنَوْا عليها فروعاً، والحق أن العبرة في أمثال هذا على النية فإنما لكل امرئ ما نوى، ونقل ابن القيم في "إغاثة اللهفان" عن شيخه أنه لا دلالة للحديث على ما ذكروه لوجوه، أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع سلعته الأولى، ثم يبتاع بثمنها سلعة، ومعلوم أن ذلك يقتضي البيع الصحيح، ومتى وُجد البَيْعان الصحيحان فلا ريب في جوازه. والثاني: أنه ليس فيه عموم وليس فيه أنه أمره أن يبتاع من المشتري ولا أمره أن يبتاع من غيره، ولا بنقد ولا بغيره، الثالث: أنه إنما يقتضي حصول البيع الثاني بعد انقضاء الأول، وهو بعيد عما راموه. وفي المقام أبحاث طويلة مظانُّها الكتب المبسوطة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وَقَالَ (1) فِي الْمِيزَانِ مِثْلُ ذَلِكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 821 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ رَجُلٍ (2) : أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، عَنْ رَجُلٍ يَشْتَرِي طَعَامًا مِنَ الْجَارِ (3) بدينارٍ وَنِصْفِ دِرْهَمٍ،   (1) قوله: وقال في الميزان مثل ذلك، أي قال في ما يوزن إذا احتيج إلى بيع بعضه ببعض مثلَ ذلك القول الذي قال في التمر المكيل، أي يباع غير الجيد الموزون بثمن، ثم يُشترى به موزون جيد، وهذ القول: قال البيهقي: الأشبه أنه من قول أبي سعيد، يعني قوله: وكذلك الميزان، كما رواية. (2) قوله: عن رجل أنه سأل، في "موطأ يحيى" وشرحه: مالك عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم الخزاعي، قال أبو حاتم: شيخ مدني صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات"، أنه سأل سعيد بن المسيب، فقال: إني رجلٌ أبتاع الطعام يكون من الصكوك (قال الباجي: يريد من الصكوك التي تخرج بالأعطية لأهلها على وجه الهبة والعطية المحضة دون وجه من المعاوضة. المنتقى 5/12) - جمع صك - بالجار، بالجيم الساحل المعروف، فربما ابتعت منه بدينار ونصف درهم، أفأُعطي بالنصف طعاماً؟ فقال سعيد: لا، ولكن أعطِ أنت درهماً، وخذ بقيته طعاماً. انتهى، وبه يُعلم الرجل المبهم. (3) حمله القاري على الشريك في التجارة، والذي يظهر من "موطأ يحيى" وشرحه، أنه اسم موضع قرب المدينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 أخبرنا مالك، أ (1) يعطيه (2) ديناراً أو نصف (3) دِرْهَمٍ طَعَامًا؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ يُعْطِيهِ دِينَارًا وَدِرْهَمًا، ويَرُدُّ (4) عَلَيْهِ الْبَائِعُ نِصْفَ دِرْهَمٍ (5) طَعَامًا. قَالَ محمدٌ: هَذَا الْوَجْهُ أحبُّ إِلَيْنَا، وَالْوَجْهُ الآخَرُ (6) يَجُوزُ أَيْضًا إِذَا لَمْ يُعطه (7) مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي اشْتَرَى أقلَّ مِمَّا يُصِيبُ (8) نِصْفُ الدِّرْهَمِ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ الأَوَّلِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهُ (9) أَقَلَّ مِمَّا يُصِيبُ نِصْفُ الدِّرْهَمِ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ الأَوَّلِ، لَمْ يَجُزْ (10) ، وَهُوَ قولُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   (1) بهمزة الاستفهام. (2) أي ذلك المشتري. (3) أي بقدره طعاماً. (4) ليكون بيعاً ثانياً، وإسقاطاً للدَّيْن. (5) أي بقدره الطعام. (6) هو الذي منعه ابن المسيب (بسط الكلام عليه في "الأوجز" 11/238، فارجع إليه. (7) أي البائع. (8) أي من مقدار يقابل نصف الدرهم في البيع الأول. (9) أي ذلك الطعام الذي اشتراه. (10) لكونه مؤدياً إلى الربا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 2 - بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الْعَطَايَا (1) أَوِ الدَّيْن عَلَى الرَّجُلِ فَيَبِيعُهُ (2) قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَه 822 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: أَنَّهُ سَمِعَ جميل المؤذِّن (3) يَقُولُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إِنِّي رجلٌ أَشْتَرِي (4) هَذِهِ الأَرزاقَ الَّتِي يُعطيها (5) النَّاسُ بِالْجَارِ (6) فأبتَاعُ (7) مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَ الطَّعَامَ الْمَضْمُونَ (8) عليَّ إِلَى ذَلِكَ الأَجَلِ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَتُرِيدُ أَنْ تُوَفِّيَهُمْ (9) مِنْ تِلْكَ الأَرْزَاقِ الَّتِي ابتعتَ (10) ؟ قَالَ: نَعَمْ.   (1) قوله: جميل المؤذن، هو جَميل بفتح الجيم بن عبد الرحمن المؤذن المدني، أمه من ذرية سعد القرظ، سمع ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز، وعنه مالك بواسطة يحيى وبلا واسطة، قاله الزرقاني. (2) أي من أصحابها. (3) قوله: جميل المؤذن، هو جَميل بفتح الجيم بن عبد الرحمن المؤذن المدني، أمه من ذرية سعد القرظ، سمع ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز، وعنه مالك بواسطة يحيى وبلا واسطة، قاله الزرقاني. (4) أي من أصحابها. (5) في نسخة: يُعطاها بالمجهول. (6) قوله: بالجار، قال القاري: بتخفيف الراء مدينة بساحل البحر بينه وبين المدينة يوم وليلة، كذا في "النهاية". وقال الزرقاني: موضع بساحل البحر يُجمع فيه الطعام ثم يفرَّق على الناس بصكاك وهو الورق التي يَكتب فيها وليُّ الأمر برزق من الطعام لمستحقه. (7) أي أشتري إلى أجل في الثمن. (8) أي الذي اشتريتُه وهو مضمون عليَّ من جهة الثمن. (9) أي أصحاب الأرزاق الذين باعوه أولاً. (10) أي اشتريتَ أولاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 فَنَهَاهُ (1) عَنْ ذَلِكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي (2) لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يستوفيَه لأنَّه غَرَر (3) فَلا يُدْرى (4) أَيَخْرُجُ (5) أَمْ لا يَخْرُجُ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 823 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ مَيْسرة: أنَّه سَمِعَ رَجُلا يَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أَبِيعُ الدَّيْن (6) ، وَذَكَرَ لَهُ شَيْئًا (7) مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: لا تَبِعْ إلاَّ مَا آوَيْتَ (8) إِلَى رحلِك. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَ دَيْنًا لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ   (1) قوله: فنهاه عن ذلك، قال الزرقاني: قال مالك: وذلك رأيي أي خوفاً من التساهل في ذلك حتى يشترط القبض من ذلك الطعام أو يبيعه قبل أن يستوفيه فمنع من ذلك سداً للذريعة الذي يُخاف منه التطرُّق إلى محذور. (2) قوله: لا ينبغي إلخ، استنباط هذا الحكم من الأثر المذكور غير ظاهر. (3) أي بيع فيه تردد. (4) بصيغة المعروف أو المجهول. (5) أي من المديون. (6) أي دَيْني على إنسان. (7) أي بعض صوره. (8) قوله: إلاَّ ما آويتَ، من الإِيواء. إلى رَحْلك، بالفتح أي منزلك أي لا تبع إلاَّ ما قبضتَه لئلا يكون البيع بالغرر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 إلاَّ مِنَ (1) الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ لأَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ غررٌ لا يُدْرى (2) أَيَخْرُجُ مِنْهُ أَمْ لا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 3 - بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ الدَّيْن فَيَقْضِي (3) أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَهُ 824 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا حُميد بْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: اسْتَسْلَفَ (4) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَضَى خَيْرًا مِنْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ (5) : هَذِهِ خَيْرٌ مِنْ دَراهمي الَّتِي أَسْلَفْتُكَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ علمتُ (6) وَلَكِنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ (7) . 825 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ (8) : أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم   (1) قوله: إلاَّ من الذي، أي من المديون، لأنه ليس فيه غرر. (2) معروف أو مجهول. (3) استسلف: أي أخذ قرضاً. (4) استسلف: أي أخذ قرضاً. (5) قوله: فقال الرجل، كأنه خشي أن يكون ذلك رباً. (6) أي كونها خيراً. (7) أي راضية. (8) قوله: عن أبي رافع، هو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أوَّلاً مولى العباس فوهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، اسمه على الأشهر أسلم القبطي، وقيل: إبراهيم أو ثابت أو هرمز أو سنان أو صالح أو يسار أو عبد الرحمن أو يزيد أو قزمان، توفي في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 اسْتَسْلَفَ (1) مِنْ رجلٍ (2) بَكْراً (3) فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ صَدَقَةٍ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يقضيَ (4) الرجلُ   خلافة عثمان، وقيل: في خلافة عليّ وهو الصواب، كذا ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" وغيره. (1) قوله: استسلف، أي أخذ سلفاً وقرضاً، وفيه دليل للجمهور في تجويز ثبوت الحيوان في الذمَّة قرضاً، ولمن ذهب إلى تجويز السلف فيه، لأنه يصير معلوماً ببيان الجنس والسنّ والصفة وبعد ذلك ينتفي التفاوت إلاَّ اليسير، ومنعه أصحابنا قائلين بأن التفاوت في الحيوانات فاحش في المالية باعتبار المعاني الباطنية، فلا يمكن توصيفه بحيث لا يُفضي إلى المنازعة، ولا ثبوتُه في الذمة ولا أداء مثله، وهذا معنى دقيق قوي يجب اعتباره لولا ورود النصوص بخلافه، وقد مرَّ بعض ما يتعلق بهذا المقام في ما مرَّ، وأجاب الطحاوي في "شرح معاني الآثار" عن حديث الباب وأمثاله باحتمال أن يكون هذا قبل تحريم الربا ثم حُرِّم الربا وحرم كل قرض جر منفعة، ورُدَّت الأشياء المستقرضة إلى مثلها، فلم يجز القرض إلاَّ في ما له مثل، وقد كان أيضاً يجوز قبل بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ثم نسخ، وبسط ذلك بسطاً بسيطاً لا يرجع حاصله إلاَّ إلى الحكم بالنسخ بالاحتمال وبالرأي، والأَوْلى أن يُقال بترجُّح أحاديث الحرمة على أحاديث الجواز. (2) في "مسند أحمد" ما يفيد أنه أعرابي، وفي "أوسط الطبراني" عن العرباض ما يُفهم أنه هو، ويُفْهَم من "سنن النسائي" والحاكم أنه غيره. (3) قال السيوطي: بالفتح الصغير من الإِبل كالغلام من الآدميين. (4) قوله: أن يقضي، أي يؤدي الرجل الذي استسلف منه بَكْرَه من إبل الصدقة، قال النووي: هذا مما يُستشكل فيُقال: كيف قضى من إبل الصدقة أجود من الذي يستحقه الغريم مع أن الناظر في الصدقات لا يجوز تبرُّعُه منها، والجواب أنه عليه السلام اقترض لنفسه فلما جاءت إبل الصدقة اشترى منها بعيراً رَبَاعياً ممن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 بَكْرَه، فَرَجَعَ (1) إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا (2) إلاَّ جَمَلا رَبَاعياً خِيّاراً (3) ، فَقَالَ: أَعْطِهِ (4) إِيَّاهُ، فَإِنَّ (5) خِيَارَ النَّاسِ أحسنُهم قَضَاءً. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ (6) نأخُذُ. لا بأسَ بِذَلِكَ (7) إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطَ (8) اشتُرِطَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله.   استحقه، فملكه بثمنه وأوفاه متبرعاً بالزيادة من ماله، ويدل عليه أن في صحيح مسلم قال: اشْتَرُوا فأعطوه إياه (أو أنه أيضاً من المسلمين المفتقرين، فكان له حق في بيت المال أيضاً، كذا في "الكوكب الدري" 2/340) . والرَّبَاعي من الإِبل بالفتح ما استكمل ست سنين ودخل في السابعة، كذا في "تنوير الحوالك". (1) أي عاد أبو رافع. (2) أي في إبل الصدقة. (3) بالكسر أي جيداً حسناً. (4) أي أعطِ الرباعي لذلك الغريم. (5) قوله: فإنَّ، أي فإن خيار الناس عند الله وأكثرهم ثواباً أحسنهم قضاءً للديون الذين يتبرعون بالفضل ولا يبخسون. (6) قوله: وبقول ابن عمر، لا حاجة إليه بعد رواية المرفوع وكان الأحسن أن يقول: وبهذا الحديث نأخذ وبقول رسول الله نأخذ، ولعله إنما لم يقله لكون بعض ما في الحديث من جواز قرض الحيوان مخالفاً له. (7) أي بقضاء دَيْنه أفضل مما أخذه. (8) قوله: إذا كان من غير شرط اشترط، أي حالة المداينة والعقد لئلا يكون رباً، فإن كل قرض جرَّ به منفعة فهو حرام، كما وردت به الأخبار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 826 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا (1) فَلَا يَشْتَرِط (2) إلاَّ قضاءَه (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي (4) لَهُ أَنْ يَشترط أَفْضَلَ (5) مِنْهُ (6) وَلا يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَحْسَنَ (7) مِنْهُ، فَإِنَّ الشَّرْطَ فِي هَذَا لا يَنْبَغِي. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 4 - بَابُ مَا يُكره مِنْ قَطْعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ 827 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أنَّه قَالَ: قطع (8)   (1) أي استقرض قرضاً. (2) أي عند العقد. (3) إلاَّ قضاء مثله من دون زيادة ونقصان. (4) أي لا يحل لمن أسلف. (5) أي في الكمية. (6) أي من الذي أعطى. (7) أي في الكيفية. (8) قوله: أنه قال قطع الورق والذهب، الظاهر أن مراده من قطعهما نقص شيء منهما لتصير أخفّ وزناً من الدراهم المتعارفة، وفي معناهما غشّهما لأنه نوع سرقة بل أكبر لسراية ضررها إلى العامة، وكأنه أشار إلى أن فاعله من قُطّاعِ الطريق الذين قال الله في حقهم: (إنما جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورسولَه ويَسْعَونَ فِي الأَرْضِ فَساداً أن يُقَتَّلوا أوْ يُصَلَّبوا) ، الآية (سورة المائدة: الآية 33) ، كذا ذكره القاري في "شرحه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 الوَرِق (1) وَالذَّهَبِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي (2) قَطْعُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِغَيْرِ منفعة.   وقال أيضاً: مراد محمد من قطعها كسرهما، وإبطال صورهما وجعلهما مصنوعاً وظروفاً. انتهى. وقال بيري زاده في "شرحه": لم نعلم ما المراد من القطع في قول ابن المسيّب غير أن ابن الأثير قال: كانت المقابلة بها في صدر الإِسلام عدداً لا وزناً، فكان بعضهم يقُصُّ أطرافها فنُهوا عنه. انتهى. وقال "شارح المسند": أظن أن قول ابن المسيب: قِطَع الوَرِق بكسر القاف وفتح الطاء المهملة جمع قطعة، وهي التي تُتَّخذ من الذهب أو الورق فلوساً صغيرة ليُرفق التعامل بها كما هو الرائج في زماننا كالدواوين في الحرمين والخماسيات في اليمن. وإنما عدها من الفساد في الأرض لأنه ربما لا يلاحظ المتعامل بها اموراً واجبةً في التقابض والتماثل (قيل: أراد الدراهم والدنانير المضروبة، يسمَّى كل واحدة منهما سكة، لأنه طبع بسكة الحديد أي لا تُكسر إلاَّ بمقتضى كرداءتها أو شك في صحة نقدها، وإنما كره ذلك لما فيها من اسم الله تعالى، أو لأن فيه إضاعة المال، وقيل: إنما نهى أن يعاد تبراً، وأما للمنفعة فلا. بذل المجهود 15/122. وفي الأوجز 11/178: الصحيح من معانيه أنه إنْ كسره أصلاً ففيه إضاعة، لأن المسكوك يروج ما لا يروج غير المسكوك مع أنَّ إنفاق المسكوك لا يفتقر فيه إلى وزنه لكونه معلوم المقدار فيأخذه كل أحد من غير تردُّد أو ريبة، وأما إذا كسر شيئاً منه فإما أن يكسر ما يحس به أنه مكسور فهو داخل في الأول، لأنه لا ينفق نفاق الصحيح، وإن أخذ منه شيئاً غير معلوم للرأي في بادئ نظره كما يفعله البعض بإلقائه في أدوية حاودة ففيه تغرير وخديعة) . انتهى. (1) أي الفضة. (2) أي لا يحلُّ لما فيه من الضرر العام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 5 - باب المعاملة والمزارعة في النخل (1) والأرض 828 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ حَنْظَلَةَ (2) الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ أنَّه سَأَلَ رَافِعَ بْنَ خَدِيج عَنْ كِراء الْمَزَارِعِ (3) فَقَالَ: قَدْ نُهي عَنْهُ (4) ، قَالَ حَنْظَلَةُ: فقلتُ لِرَافِعٍ: بالذهب (5) والورق؟   (1) قوله: أن حنظلة، هو ابن قيس بن عمرو بن حصن الزرقي الأنصاري التابعي الكبير، قيل: وله صحبة، ذكره الزرقاني. (2) قوله: أن حنظلة، هو ابن قيس بن عمرو بن حصن الزرقي الأنصاري التابعي الكبير، قيل: وله صحبة، ذكره الزرقاني. (3) جمع مزرعة بالفتح: موضع الزرع. (4) قوله: قد نُهِي عنه، ظاهره منع كرائها مطلقاً، وإليه ذهب الحسن وطاوس والأصم، ومن حجتهم حديث الصحيحين وغيرهما مرفوعاً: "من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها، فإن لم يفعل فليمسك" وتأوَّل مالك وأصحابه أحاديث المنع على كرائها بالطعام أو بما تُنبته، وأجازوا كرائها بما سوى ذلك لحديث أحمد وأبي داود عن رافع مرفوعاً: "من كانت له أرض فليزرعها أخاه ولا يكرها بثُلث ولا ربع ولا طعام مسمّىً"، وتأوَّلوا النهي عن المحاقلة بأنها كِراء الأرض بالطعام، وجعلوه من باب الطعام بالطعام نسيئة، وأجاز الشافعية والحنيفية كراءها بكل معلوم من طعام أو غيره لما في "الصحيح" عن رافع بعد قوله: أما بالذهب والفضة فلا بأس به: إنما كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وأقيال الجداول، فيهلك هذا ويسلم هذا، فلذلك زجر عنه، وأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس به. فبَّين أن علة النهي الغرر، وأجاز أحمد كراءها بجزء مما يزرع فيها، كذا في "شرح الزرقاني". (5) أي هل يجوز ذلك أم لا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 قَالَ رَافِعٌ: لا بَأْسَ بكِرائها (1) بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِكِرَائِهَا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْحِنْطَةِ (2) كَيْلا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا (3) مَا لَمْ يُشْتَرط ذَلِكَ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإِنِ اشْتُرِط مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا (4) كَيْلا مَعْلُومًا فَلا خَيْرَ فِيهِ (5) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. وَقَدْ سُئل عَنْ كِرائها سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِالْحِنْطَةِ كَيْلا مَعْلُومًا فرخَّص (6) فِي ذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ ذَلِكَ إلاَّ مِثْلُ الْبَيْتِ يُكْرَى (7) . 829 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عن سعيد بن المسيب: أنَّ (8) رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) أي الأرض المزروعة. (2) أي نحوها من الشعير والذرة من المثليات. (3) أي صنفاً معيناً. (4) أي من تلك الأرض. (5) قوله: فلا خير فيه، أي لا يحل ذلك فلعله لا يخرج منه إلاَّ ذلك القدر المعهود فهذا الشرط لكونه فاسداً يفسد العقد، نعم كرائها بثلث ما يخرج أو ربعه ونحو ذلك من الكسور جائز كما سيأتي. (6) أي أجازه. (7) أي ليس ذلك إلاَّ مثل كراء البيت بالذهب والفضة والحنطة الملومة وغير ذلك، فكما جاز ذلك جاز هذا. (8) قوله: أن رسول الله، مرسل أرسله جميع رواة "الموطأ" وأكثر أصحاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 حِينَ (1) فَتَحَ خَيْبَرَ، قَالَ لِلْيَهُودِ (2) : أُقِرُّكُمْ (3) مَا أَقَرّكم اللَّهُ عَلَى أنَّ الثمرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، قَالَ (4) : وَكَانَ (5) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ عبدَ اللَّهِ بْنَ رَواحة، فَيَخْرُصُ (6) بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. ثُمَّ يَقُولُ: إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وإن شئتم   ابن شهاب، ووصله منهم طائفة، منهم صالح بن أبي الأخضر، فزاد عن أبي هريرة، قاله ابن عبد البر. (1) قوله: حين فتح خبير، بوزن جعفر مدينة كبيرة ذات حصون ونخل على ثمانية بُرُد من المدينة إلى جهة الشام، وكان فتحه في صفر سنة سبع عند الجمهور، وفي "الصحيحن" عن ابن عمر: لمّا ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها فسألوه أن يقرّهم بها على أن يكفوه العمل، ولهم نصف الثمر، قاله الزرقاني. (2) الذين كانوا بخيبر. (3) قوله: أقِرُّكم، أي أثبّتكم على نخل خيبر على أن تعملوا فيها، والثمر بيننا وبينكم، أي على التناصف كما في رواية الصحيحين وغيرهما: ما دام أقرَّكم الله أي إلى ما شاء الله، وقد كان عازماً على إخراج اليهود من جزيرة العرب، فذكر ذلك لليهود منتظراً القضاء والوحي فيهم إلى أن حضرته الوفاة فأجلى اليهود بعده عمر من جزيرة العرب إلى الشام، قال القرطبي: يحتمل أنه حدّ الأجل فلم ينقله الراوي. (4) أي ابن المسيّب. (5) قوله: وكان، هذا ههنا ليس للاستمرار فإنه إنما بعثه عاماً واحداً، فإنَّ عبد الله بن رَواحة بالفتح بن ثعلبة بن امرئ القيس الأنصاري من أهل بدر، استشهد في غزوة مؤتة سنة ثمان، كما ذكره ابن الأثير وغيره. (6) قوله: فيخرص، أي يقدّر ما على النخيل من الثمار خرصاً وتخميناً، ويفصل حصة النبي صلى الله عليه وسلم وحصة اليهود خرصاً، ويقول: إن شئتم فلكم كله وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلنا كله وأضمن مقدار نصيبكم، فأخذوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 فَلِي، قَالَ (1) : فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ. 830 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابن شهاب، عن سليمان بن يسار: أن (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فيخرُص بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ، قَالَ: فَجَمَعُوا حُلِيّاً (3) مِنْ حُلِيّ نِسَائِهِمْ، فَقَالُوا (4) : هَذَا لَكَ (5) ، وخفِّف (6) عَنَّا، وتجَاوَزْ (7) في القِسْمة، فقال: يا معشر اليهود،   الثمرة كلها، وفي رواية: أنه خرص عشرين ألف وسق فأدَّوْا عشرة ألف وسق، قال ابن عبد البر: الخرص في المساقاة لا يجوز عند جميع العلماء لأن المساقِيَيْن شريكان لا يقتسمان إلاَّ بما يجوز به بيع الثمار بعضها ببعض وإلاَّ دخلته المزابنة، قالوا: وإنما بعث رسول الله من يخرص على اليهود لإِحصاء الزكاة لأن المساكين ليسوا شركاء معيَّنين، فلو ترك اليهود وأكلها رطباً والتصرف فيها أضرّ ذلك سهم المسلمين قالت عائشة: إنما أمر رسول الله بالخرص لكي تُحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتُفرَّق. (1) أي ابن المسيب. (2) هذا مرسل في "الموطأ"، وموصول بطريق عن جابر وابن عباس، عند أبي داود وابن ماجه. (3) بضم الحاء وكسر اللام وشد الياء: جمع، أو بفتح الحاء وسكون اللام: مفرد. (4) لعبد الله بن رواحة. (5) أي هدية لك. (6) أي اجعل التخفيف علينا. (7) أي سامح فيها واغمض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 وَاللَّهِ (1) إِنَّكُمْ لَمِنْ أبغضِ خَلْقِ اللَّهِ إليَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي أَنْ أحِيْفَ عَلَيْكُمْ، أَمَّا الَّذِي عَرَضْتُمْ (2) مِنَ الرَّشوة فَإِنَّهَا سُحْتٌ (3) وَإِنَّا لا نأكلُها (4) ، قَالُوا: بِهَذَا (5) قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ (6) بِمُعَامَلَةِ النخل على   (1) قوله: والله إنكم، أي وإن كنتم أبغض خلق الله إليَّ لكونكم - مع كونكم من أهل الكتاب - لم تُسلموا، لكن لا يحملني هذا البغض على أنْ أحيفَ أي أجور وأظلم عليكم، من الحَيْف بمعنى الجور. فإنَّ الظلم لا يحل على أحد ولو كان كافراً. (2) أي أحضرتم عندي لتخفيف القسمة. (3) بالضم، أي حرام. (4) لحرمتها. وفيه تعريض على اليهود، فإنهم كانوا أكّالين للسحت والرشوة، كما أخبر به الكتاب. (5) قوله: بهذا، أي بهذا العدل الذي تفعله، أو بهذا الامتناع عن أكل السحت قامت السموات بغير عَمَد، والأرض استقرت على الماء، ولولاه لفسدتا. قال ابن عبد البر: فيه دليل على أن الرشوة عند اليهود أيضاً حرام، ولولا حرمته عندهم ما عيَّرهم الله بقوله: (أكّالون للسُّحْت) وهو حرام عند جميع أهل الكتاب. (6) قوله: لا بأس بمعاملة إلخ، المعاملة بلغة أهل المدينة عبارة عن دفع الأشجار الكروم أو النخيل وغير ذلك إلى مَن يقوم بإصلاحها على أن يكون له سهم معلوم من ثمرها، ويقال له المساقاة أيضاً، وهو عقد جائز عندهما وعليه الفتوى، وبه قال أحمد وأكثر العلماء ويشترط ذكر المدة المعلومة وتسمية جزءٍ مما يخرج مشاعٍ، إلاَّ أن الشافعي خصه بالنخل والكرم في قوله الجديد، وعمم في كل شجر في قوله القديم، وحجتهم في ذلك حديث معاملة خبير وغير ذلك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 الشَّطْر (1) ، وَالثُّلُثِ، وَالرُّبْعِ، وَبِمُزَارَعَةِ الأَرْضِ الْبَيْضَاءِ عَلَى الشَّطْرِ، وَالثُّلُثِ، وَالرُّبْعِ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكره ذَلِكَ ويَذكر (2) أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 6 - بَابُ إِحْيَاءِ الأَرْضِ (3) بِإِذْنِ الإِمام أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ 831 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عروة، عن أبيه قال:   والمزارعة عبارة عن عقد على الأرض البيضاء أي الخالية من الزرع ببعض معيَّن مما يخرج عنه، وبجوازه قال الجمهور، وروي عند ابن أبي شيبة وغيره عن علي وابن مسعود وسعد وجماعة من التابعين من بعدهم، وقد ورد في بعض روايات معاملة خيبر العقد على الزرع أيضاً. وأما أبو حنيفة فحكم بفسادهما مستدلاً بالنهي عن المخابرة، ورُدّ ذلك من حديث جابر عند مسلم، وزيد بن ثابت عند أبي داود، ورافع بن خديج عند مسلم، وغيره كذا في "البناية". (1) بالفتح: أي النصف. (2) قوله: ويَذكر، والجواب عن حديث معاملة خيبر بأنَّ ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ليس بعقد مساقاة، بل هم كانوا عبيداً له، والذي قَدَّر لهم كان نفقةً لهم، وتُعُقِّب بأنهم لو كانوا عبيداً لما صح إجلاؤهم إلى الشام، وقد يُقال: إنه منسوخ بالنهي عن المخابرة، وفيه أن الظاهر أن الأمر بالعكس، فإن المعاملة التي وقعت في العهد النبوي دام عليها عَمَلُ أبي بكر وعمر إلى وقت الإِجلاء، ولو كان منسوخاً لنقضوها، والجمهور حملوا حديث النهي عن المخابرة على ما إذا تضمَّن على الغرر، كما ورد في النهي عن كراء الأرض. وفي المقام تفصيل ليس هذا موضعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 قَالَ (1) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أحيى أرضاً (2) ميّتة فهي له، وليس (3) لعِرْقٍ   (3) قوله: قال: قال، هذا مرسل باتفاق رواة الموطأ، واختلف أصحاب هشام، فطائفة روَوْه مرسلاً كمالك، وطائفة: عنه عن أبيه، عن سعيد بن زيد وطائفة: عنه، عن وهب بن كيسان، عن جابر، وطائفة: عنه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن جابر، وهو حديث مقبول تلّقاه فقهاء المدينة وغيرهم، كذا قال ابن عبد البر. وذكر الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" وغيره أنَّ هذا الحديث رُوي من طريق تسعة من الصحابة بألفاظ متقاربة: 1 - ابن عباس عند الطبراني وابن عدي 2 - وعائشة عند البخاري وأبي يعلى المَوْصلي وأبي داود الطيالسي والدارقطني وابن عدي، 3 - وسعيد بن زيد عند أبي داود والترمذي والنسائي والبزار، 4 - وجابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان وابن شَيْبة، 5 - وعبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني، 6 - وفضالة بن عبيد عند الطبراني، 7 - ومروان عنده أيضاً، 8 - وصحابي آخر عنده أيضاً، 9 - وسمرة عند الطحاوي. (1) قوله: قال: قال، هذا مرسل باتفاق رواة الموطأ، واختلف أصحاب هشام، فطائفة روَوْه مرسلاً كمالك، وطائفة: عنه عن أبيه، عن سعيد بن زيد وطائفة: عنه، عن وهب بن كيسان، عن جابر، وطائفة: عنه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن جابر، وهو حديث مقبول تلّقاه فقهاء المدينة وغيرهم، كذا قال ابن عبد البر. وذكر الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" وغيره أنَّ هذا الحديث رُوي من طريق تسعة من الصحابة بألفاظ متقاربة: 1 - ابن عباس عند الطبراني وابن عدي 2 - وعائشة عند البخاري وأبي يعلى المَوْصلي وأبي داود الطيالسي والدارقطني وابن عدي، 3 - وسعيد بن زيد عند أبي داود والترمذي والنسائي والبزار، 4 - وجابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان وابن شَيْبة، 5 - وعبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني، 6 - وفضالة بن عبيد عند الطبراني، 7 - ومروان عنده أيضاً، 8 - وصحابي آخر عنده أيضاً، 9 - وسمرة عند الطحاوي. (2) قوله: أرضاً ميّتة، قيل بالتشديد، ولا يقال بالتخفيف فإنه إذا خفف حُذفت منه تاء التأنيث، والميتة والمَوات بالفتح والمَوَتان بفتحتين: الأرض الخراب التي لم تعمر، سُميت بذلك تشبيهاً لها بالميتة في عدم الانتفاع. (3) قوله: وليس لعِرْق (قال الحافظ في الفتح 5/19: في رواية الأكثر بتنوين عرق، وظالم: صفة له، وهو راجع إلى صاحب العرق، أي: ليس لذي عرق ظالم، أو إلى العرق، أي: ليس لعرق ذي ظلم، ويروى بالإِضافة، ويكون الظالم صاحب العرق، فيكون المراد بالعرق الأرض، وبالأول جزم مالك والشافعي والأزهري، وابن فارس، وغيرهم) ، بالكسر، قال الخطّابي في "شرح سنن أبي داود": من الناس من يرويه بإضافته إلى الظالم، وهو الغارس الذي غرس في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 ظَالِمٍ حَقٌّ (1) . 832 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: من أحيى أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذ. من أحيى أَرْضًا مَيْتَةً بِإِذْنِ الإِمام أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَهِيَ لَهُ (2) ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لا يكون له (3) إلاَّ أن يجعلها له   غير حقه، ومنهم من يجعل الظالم نعتاً للعرق، ويريد به الغراس والشجر، وجعله ظالماً لأنه نبت في غير محله، واختار الأزهري وابن فارس ومالك والشافعي كونه بالتنوين كما بسطه النووي في "تهذيب الأسماء واللغات) . (1) أي في بقائه. (2) قوله: فهي له، لأنه مال مباح غير مملوك سَبَقَتْ يدُه إليه فيملكه كما في الاحتطاب والاصطياد من اشتراط إذن الإمام، وبه قال أبو يوسف والشافعي وأحمد وبعض المالكية، ونُقل عن مالك أنه إن كان قريباً من العامر في موضع يتسامح الناس فيه افتقر إلى إذن الإِمام وإلاَّ فلا، وحجتهم إطلاق الأحاديث الواردة في هذا الباب، وأما أبو حنيفة فاشترط في كونه له إذنَ الإِمام، واستدل له بحديث: "الأرض لله ورسوله ثم لكم من بعدي، فمن أحيى شيئاً من مَوَتان (في الأصل موتات، وهو تحريف) الأرض فله رقبتها"، أخرجه أبو يوسف في "كتاب الخراج" فإنه أضافه إلى الله ورسوله، وكل ما أضيف إلى الله ورسوله لا يجوز أن يختص به إلاَّ بإذن الإِمام، وذكر الطحاوي أن رجلاً بالبصرة قال لأبي موسى: أقطعني أرضاً لا تضرُّ بأحد من المسلمين، ولا أرض خراج، فكتب أبو موسى إلى عمر، فكتب عمر إليه: أقطعه له فإن رقاب الأرض لنا، كذا في "البناية". (3) أي لا يملكه الذي أحياه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 الإِمام، قَالَ: وَيَنْبَغِي (1) للإِمام إِذَا أَحْيَاهَا أنْ يجعلَها لَهُ (2) وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَكُنْ لَهُ. 7 - بَابُ الصُّلْحِ فِي الشِرْب (3) وَقِسْمَةِ الْمَاءِ (4) 833 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (5) بْنُ أَبِي بَكْرٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي (6) سَبِيلِ مَهْزُورٍ ومُذَيْنِبٍ: يُمسك حتى يبلغ   (1) أي يُستحب. (2) أي للذي أحياه. (3) الشِّرب: هو بالكسر عبارة عن نصيب الماء. (4) وقسمة الماء: أي المشترك. (5) قوله: عبد الله بن أبي بكر، أي ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، قال ابن عبد البر: لا أعلمه يتصل بوجه من الوجوه مع أنه حديث مدني مشهور مستعمل عندهم، وسئل البزار عنه فقال: لست أحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ حديثاً يثبت، انتهى. وهو تقصير منهما، فله إسناد موصول عن عائشة عند الدارقطني في "الغرائب" والحاكم وصححاه، وأخرجه أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن. واختلفوا في معنى الحديث، فقيل: معناه يرسل صاحب الحائط الأعلى جميع الماء في حائطه حتى إذا بلغ الماء إلى كعبي من يقوم فيه أغلق مدخل الماء، وقيل: يسقي الأول حتى يروي حائطه، ثُمَّ يُمسك بعد ريِّه ما كان من الكعبين إلى أسفل ثم يرسل، كذا في "شرح الزرقاني". (6) قوله: في سبيل مَهْزُور، بفتح الميم وإسكان الهاء وضم الزاء وسكون الواو آخره. ومذينب (في معجم البلدان: مذينب: بوزن تصغير المذنب وادٍ بالمدينة. الأوجز 12/218) ، بضم الميم وفتح الذال وياء مسكنة، وكسر النون بعده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسِلُ الأَعْلَى عَلَى الأَسْفَلِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ، لأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ: لِكُلِّ (1) قَوْمٍ مَا اصطلحُوا وَأَسْلَمُوا (2) عَلَيْهِ مِنْ عُيُونِهِمْ وَسُيُولِهِمْ وَأَنْهَارِهِمْ وشِرْبهم (3) . 834 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ (4) أنَّ الضحَّاك (5) بْنَ خَلِيفَةَ سَاقَ خَلِيْجاً (6) لَهُ حَتَّى النَّهْرِ الصَّغِيرِ (7) مِنَ العُرَيْض (8) ، فَأَرَادَ أَنْ يمرَّ بِهِ (9) فِي أَرْضٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَأَبَى (10)   باء. واديان يسيلان بالمطر بالمدينة يتنافس أهل المدينة في سيلهما، قاله الزرقاني. (1) أي ليس فيه حدٌّ معين شرعاً، بل الأمر مفوَّض إلى آراء الشركاء. (2) أي انقادوا واتفقوا عليه. (3) أي نصيبهم من المياه. (4) هو يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَسَنٍ الْمَازِنِيُّ. (5) قوله: أنَّ الضحاك بن خليفة، بن ثعلبة الأنصاري الأشهلي، شهد غزوة بني النضير، وليست له رواية وكان يُتَّهم بالنفاق، ثم تاب وأصلح، كذا في "الإِصابة" وغيره. (6) بالفتح: النهر الصغير يُقطع من النهر الكبير. (7) ليس هذا في "موطأ يحيى"، لعله يعني النهر الصغير تفسيراً للخليج. (8) بالضمّ وادٍ بالمدينة (عريض: ناحية من المدينة في طرف حرَّة واقم (الحرة الشرقية) ، قد شملها العمران اليوم. (9) أي بذلك الخليج. (10) أي امتنع منه ومنعه منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: لِمَ (1) تَمْنَعُنِي وَهُوَ لَكَ (2) منفعةٌ تَشْرَبُ بِهِ (3) أَوَّلا وَآخِرًا، وَلا يضرُّك، فَأَبَى (4) ، فكلَّم (5) فِيهِ عمرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَدَعَا (6) محمدَ بنَ مَسْلمة فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّي (7) سبيلَه فَأَبَى (8) ، فَقَالَ عَمَرُ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ (9) مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ تَشْرَبُ بِهِ أَوَّلا وَآخِرًا وَلا يضُرَّك؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: لا (10) وَاللَّهِ، فَقَالَ (11) عُمَرُ: واللَّهِ ليمُرَّنَّ بِهِ (12) وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ (13) . فأَمره (14) عمر أن   (1) أي لأي سبب. (2) قوله: وهو لك منفعة، قال الباجي: يحتمل أنه كان شَرَط له ذلك، ويحتمل أن يريد أن ذلك حكم الماء أن الأعلى أولى حتى يروى. (3) بيان للمنفعة. (4) أي امتنع ابن مسلمة. (5) أي الضحّاك. (6) أي عمر. (7) أي يتركه بما يفعله من إجراء الخليج. (8) أي ابن مسلمة مع حكم عمر. (9) أي في الإِسلام أو في الصحبة. (10) أي لا أرضى به. (11) في نسخة: قال. (12) أي بالخليج. (13) قاله مبالغة في الزجر. (14) قوله: فأمره عمرُ أن يُجْريه، أي أمر عمر الضحاك أن يُجري بخليجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 يُجْرِيَه (1) . 835 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى الْمَازِنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ (2) : أنَّه (3) كَانَ فِي حَائِطِ جدّه رَبِيْعٌ (4) لعبدِ الرحمن (5) بن عوف،   في أرض ابن مسلمة ولو لم يرضىَ به. قيل: إن عمر لم يقضِ على محمد بذلك، وإنما حلف على ذلك ليرجع إلى الأفضل (قال الباجي: ويحتمل أن يكون عمر رضي الله عنه لم يقضِ بذلك على محمد بن مسلمة، وإنما أقسم عليه لما أقسم تحكماً عليه في الرجوع إلى الأفضل فقد يقسم الرجل على الرجل في ماله تحكماً عليه وثقةً بأنه لا يحنثه فيبرُّ بقسمه. المنتقى 6/46، والأوجز 12/231) ثقةً أنه لا يحنثه (في الأصل: "لا يحلفه"، وهو خطأ) ، وقيل: هو على سبيل الحكم، وقال مالك: كان يقال: تحدث للناس أقضية بقدر ما يُحدثون من الفجور، فلو كان الشأن معتدلاً في زماننا كاعتداله في زمن عمر رأيت أن يُقضى له بإجراء مائه في أرضك لأنك تشرب به أولاً وآخراً، ولا يضرك، ولكن فسد الناس، فأخاف أن يطول وينسى ما كان عليه جري الماء، فيدَّعي به جارك في أرضك، كذا في "شرح الموطأ" للباجي. (1) في نسخة: يجيزه. (2) أي يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني. (3) قوله: أنَّه، ضمير للشأن. كان في حائط، أي بستان. جدّه، أي جدّ يحيى، وهو أبو حسن تميم بن عبد عمرو الأنصاري الصحابي، قاله الزرقاني. وقد مرت ترجمته وترجمة ابن ابنه وابن ابن ابنه. (4) على وزن فعيل: النهر الصغير. (5) أحد العشرة المبشرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 فَأَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يحوِّله (1) إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْحَائِطِ هِيَ (2) أَرْفَقُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَقْرَبُ إِلَى أَرْضِهِ (3) ، فَمَنَعَهُ صَاحِبُ (4) الْحَائِطِ، فكلَّم عبدُ الرَّحْمَنِ عمرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقض (5) لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بِتَحْوِيلِهِ. 836 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الرِّجال، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن (6)   (1) من التحويل أي يصرف ربيعه في جهة أخرى من حائط أبي حسن. (2) أي تلك الجهة أرفق وأسهل سقياً. (3) أي أرض ابن عوف. (4) أي أبو الحسن. (5) قوله: فقضى، أي حكم بتحويله لعبد الرحمن، لأنه حمل حديث: "لا يمنع أحدكم جاره" على ظاهره، وعدّاه إلى كلِّ ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه، وقال مالك: ليس العمل على الحديث عمر هذا، ولم يأخذ به مالك، وروي عنه أنه إن لم يضرّ قضى عليه. والمشهور من مذهب مالك وأبي حنيفة عدم القضاء بشيء من ذلك إلاَّ بالرضاء لحديث: " لا يحلُّ مال امرء مسلم إلاَّ عن طيب نفس منه"، وروى أصبغ عن ابن القاسم: لا يؤخذ بقضاء عمر على محمد بن مسلمة في الخليج، ويؤخذ بتحويل الربيع، لأن مجراه ثابت لابن عوف في ناحية، وهذا قول الشافعي في القديم، وفي قوله الجديد: لا يُقضى بشيء من ذلك، كذا ذكره الزرقاني (4/34) . (6) مرسل، وصله أبو قرة موسى بن طارق، وسعيد الجمحي عن مالك به سنداً عن عائشة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 أنَّ (1) رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يُمْنَع (2) نَقْعُ بِئْرٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. أيُّما رجلٍ كَانَتْ لَهُ بِئْرٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْهَا أَنْ يَسْتَقُوا (3) مِنْهَا لِشِفَاهِهِمْ وَإِبِلِهِمْ وَغَنَمِهِمْ، وَأَمَّا لِزَرْعِهِمْ (4) وَنَخْلِهِمْ فَلَهُ (5) أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.   (1) في نسخة: عن. (2) قوله: لا يُمنع، بصيغة المجهول. والنقع، بفتح النون وسكون القاف، قال بعض الرواة عن مالك: أي فضل مائها، يقال ينقع به أي يروي به، قال الباجي: ويروى: رهو (قال أبو الرجال: النقع والرهو هو الماء الواقف الذي لا يسقى عليه أو يسقى وفيه فضل. شرح الزرقاني 4/31، والمنتقى 6/39) ماء، وهو بمعناه. (3) قوله: أن يستقوا، أي أن يستقوا من تلك البئر لشفاههم ودوابِّهم، وهو جمع شَفَة بالفتح وهو شرب بني آدم بشفتهم، وأصله شفهه، ولذا صُغِّر بشُفيه وجُمع بشفاه، يقال هم أهل الشفة أي لهم حق الشرب بشفاههم، قاله العيني. (4) أي إن قصدوا أن يستقوا منها لزرعهم وأشجارهم. (5) قوله: فله، أي لصاحب الماء أن يمنع من ذلك سواء أضَرَّ به أو لم يُضِرَّ، لأنه حقٌ خاص ولا ضرورة في ذلك، ولو أبيح ذلك لانقطعت منفعة الشرب. وهذا بخلاف مياه البحار والأنهار الكبار والأودية غير (في الأصل: الغير المملوكة، وهو خطأ) المملوكة لأحد، فإن للناس فيها حق الشرب وسقي الدوابّ، والأشجار وغير ذلك، لحديث: "الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والكلأ، والنار"، أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس، والطبراني من حديث ابن عمر، وغيرهما. وأما إذا كان الماء محرزاً في الأواني، وصار مملوكاً له بالإِحراز ففيه حق المنع. والمسألة بتفاريعها مبسوطة في الهداية وشروحها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 8 - بَابُ الرَّجُلِ يُعْتِق نَصِيبًا (1) لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ أَوْ يُسَيِّبُ سَائِبَةً (2) أَوْ يُوصي بِعِتْقٍ 837 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُروة، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَيَّبَ سَائِبَةً (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) في الحديث المشهور: "الولاء لمن   (1) قوله: سيّب سائبة، لا خلاف في جواز العتق بلفظ أنت سائبة، أو بشرط أن لا ولاء بينهما، ولزومه، وإنما كره جماعة من العلماء العتق بلفظ السائبة لاستعمال الكفار لها في الأنعام المسيّبة للأصنام، واختلفوا في ولائه، فذهب مالك إلى أنه لا يُوالي أحداً وأن ميراثه للمسلمين وعقله إن جَنَى عليهم وهو مذنب جمع من السلف والخلف (وإليه ذهب مالك وجماعة من أصحابه وكثير من السلف، وقال ابن الماجشون وابن نافع والشافعي ولاؤه للمعتق. شرح الزرقاني 4/100) ، وذهب جمع من المالكية والشافعي والحنفية إلى أن ولاءه لمعتقه، كذا في "شرح الزرقاني". (2) قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، استدلال على أن ولاء السائبة للمعتق لا لغيره، بالحديث المشهور عند أهل الحديث "الولاء لمن أعتق" من غير تخصيص بعبد دون عبد، وبقول ابن مسعود: "لا سائبة في الإِسلام" أي لا حكم لها على ما كان في الجاهلية من سقوط حق المعتق في الولاء، وبأنه لو صح أن يكون ولاء السائبة لغير معتقه لا له لصح أن يشترط شارط على المالك بعتق عبده بشرط أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 أَعْتَقَ"، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لا سائبةَ فِي الإِسلام (1) ، وَلَوِ اسْتَقَامَ (2) أَنْ يُعتق الرجلُ سَائِبَةً فَلا يَكُونُ لِمَنْ أَعْتَقَهُ وَلاؤُهُ (3) لاسْتَقَامَ لِمَنْ (4) طَلَبَ مِنْ عائشةَ أَنْ تُعْتِق، وَيَكُونُ الولاءُ لِغَيْرِهَا، فَقَدْ طَلَبَ (5) ذَلِكَ مِنْهَا، فقال (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، وَإِذَا اسْتَقَامَ أَنْ لا يَكُونَ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَاءٌ اسْتَقَامَ أَنْ يُسْتَثْنَى عَنْهُ (7) الْوَلاءُ فَيَكُونَ لِغَيْرِهِ، وَاسْتَقَامَ أَنْ يَهَبَ الْوَلاءَ وَيَبِيعَهُ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَهِبَتِهِ. وَالْوَلاءُ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ (8) وَهُوَ لِمَنْ أَعْتَقَ (9) إِنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً أَوْ غَيْرَهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 838 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع، عن ابن عمر   لا يكون الولاء للمعتق بل له، فإنه لا فرق بين ذلك وبين هذا، وقد دلَّت قصة بريرة كما مرَّ ذكرها على أنه لا يجوز ذلك، وبأنه لو صح ذلك لصح انتقال الولاء عن المعتق بيعاً وهبة، وهو باطل بالنصوص الواردة وقد مرَّ ذكرها. (3) قوله: سيّب سائبة، لا خلاف في جواز العتق بلفظ أنت سائبة، أو بشرط أن لا ولاء بينهما، ولزومه، وإنما كره جماعة من العلماء العتق بلفظ السائبة لاستعمال الكفار لها في الأنعام المسيّبة للأصنام، واختلفوا في ولائه، فذهب مالك إلى أنه لا يُوالي أحداً وأن ميراثه للمسلمين وعقله إن جَنَى عليهم وهو مذنب جمع من السلف والخلف (وإليه ذهب مالك وجماعة من أصحابه وكثير من السلف، وقال ابن الماجشون وابن نافع والشافعي ولاؤه للمعتق. شرح الزرقاني 4/100) ، وذهب جمع من المالكية والشافعي والحنفية إلى أن ولاءه لمعتقه، كذا في "شرح الزرقاني". (4) قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، استدلال على أن ولاء السائبة للمعتق لا لغيره، بالحديث المشهور عند أهل الحديث "الولاء لمن أعتق" من غير تخصيص بعبد دون عبد، وبقول ابن مسعود: "لا سائبة في الإِسلام" أي لا حكم لها على ما كان في الجاهلية من سقوط حق المعتق في الولاء، وبأنه لو صح أن يكون ولاء السائبة لغير معتقه لا له لصح أن يشترط شارط على المالك بعتق عبده بشرط أن لا يكون الولاء للمعتق بل له، فإنه لا فرق بين ذلك وبين هذا، وقد دلَّت قصة بريرة كما مرَّ ذكرها على أنه لا يجوز ذلك، وبأنه لو صح ذلك لصح انتقال الولاء عن المعتق بيعاً وهبة، وهو باطل بالنصوص الواردة وقد مرَّ ذكرها. (1) أي إنما كان عادة أهل الجاهلية. (2) أي لو صح. (3) أي ولاء المعتق سائبة. (4) وهم موالي بريرة. (5) بالمجهول والمعروف، أي مولى بريرة. (6) ردّاً عليهم وإبطالاً لشرطهم. (7) أي المعتق. (8) فلا يُباع ولا يوهَب ولا ينتقل. (9) أي سواء فيه إعتاقه سائبة أو غير سائبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً (1) لَهُ فِي عبدٍ (2) وَكَانَ لَهُ (3) مِنَ الْمَالِ مَا يبلغُ (4) ثمنَ الْعَبْدِ، قُوِّم (5) قيمةَ العَدْل، ثُمَّ أُعطِيَ (6) شركاؤُه حِصَصَهم (7) وعَتَقَ عليه (8) العبدُ،   (1) قوله: شِركاً، بكسر الشين، وفي رواية للبخاري: شِقصاً على وزنه، وفي أخرى عنده، نصيباً، والكل بمعنى واحد. (2) قوله: في عبد، وكذا في أمة كما في رواية عند مسدَّد في "مسنده": من أعتق شِرْكاً له في مملوك، وأصرح منه ما في رواية الدارقطني والطحاوي: عبداً وأمة، وشذّ ابن راهويه فقال بتخصيص الحكم في العبد، وقال: لا تقويم في عتق الإِناث، قال القاضي عياض: أنكره عليه حُذّاق الأصول، لأن الأَمَة في هذا المعنى كالعبد. (3) أي للمعتق. (4) قوله: ما يبلغ ثمن العبد، أي قدر قيمة بقيمة العبد، كما في راوية النسائي: وله مال يبلغ قيمة أنصباء شركائه، فإنه يضمن لشركائه أنصباءهم ويُعتَق العبد. (5) قوله: قُوِّم، مجهول من التقويم. قيمة العدل، بالفتح أي الوسط من غير زيادة ولا نقصان، ويوضحه رواية مسلم: لا وَكْسَ ولا شططَ (الوكس: بفتح الواو وسكون الكاف بعدها مهملة: النقص، والشطط: الجور. فتح الباري 5/152) . (6) بصيغة المجهول أو المعروف فما بعده مرفوع أو منصوب. (7) أي قيمة حصصهم. (8) أي على ذلك المعتق الضامن، فالولاء كلُّه له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 وإلاَّ (1) فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا أُعتِقَ (2) . قَالَ محمد: وبهذا (3) نأخذُ من أعتق   (1) قوله: وإلاَّ، أي إن لم يكن له مال عتق منه ما عتق - بفتح العين في الأول، ويجوز الفتح والضم في الثاني قاله الدراوردي، وردَّه ابن التين بأنه لم يقله غيره، وإنما يُقال عتق بالفتح، وأعتق بضم الهمزة، ولا يعرف عتق بضم أوله - وهذه الجملة من المرفوع الموصول عند مالك، وزعم جماعة أنه مدرَج تعلُّقاً بما في "صحيح البخاري" عن أيوب: قال نافع: وإلاَّ فقد عتق منه ما عتق. قال أيوب: لا أدري أشيء قاله نافع أم هو في الحديث؟ والصحيح أنه ليس بمدرج كما حقَّقه في "فتح الباري" (5/154) . (2) وفي رواية: عتق. (3) قوله: وبهذا نأخذ (إن المسألة خلافية شهيرة جداً. ذكر النووي فيها عشرة مذاهب. والعيني على البخاري أربعة عشر مذهباً، وفي الأوجز عشرين مذهباً وفي آخرها: اختلاف هذه المذاهب كلها مبنيّ على اختلاف في أصل كلي، وهو أن العتق مجتزئ عند الإِمام أبي حنيفة ومن وافقه في فروع هذا الفصل مطلقاً بمعنى في حالتي اليُسر والعُسر معاً، وليس بمجتزئ مطلقاً عند صاحبيه ومن وافقهما، ومجتزئ في حالة العسر دون اليسر في المشهور من أقوال الأئمة الباقية. لامع الدراري 6/440) ، وبه قال أبو يوسف وقتادة والثوري والشعبيّ، وهو مرويّ عن عمر وغيره، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، إلاَّ أنَّ مبنى الحكم عندهما على أن العتق لا يتجزأ فإعتاق البعض إعتاق كلِّه، وهو مذهب الشافعي في ما إذا كان المالك واحداً وكان المعتق معسراً، أما لو كان موسراً يبقى ملك الساكت كما كان حتى يجوز له بيعه وهبته، وبه قال مالك وأحمد. وأما أبو حنيفة فقال بالتجزِّي فخيَّر الساكت بين الإِعتاق والاستسعاء والتضمين إن كان المعتق موسراً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 شِقْصاً (1) فِي مَمْلُوكٍ فَهُوَ حُرٌّ (2) كلُّه، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أعتَقَ مُوسِرًا (3) ضَمِنَ حِصَّةَ (4) شَرِيكِهِ مِنَ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا (5) سَعَى العبدُ لِشُرَكَائِهِ فِي حِصَصِهِمْ. وَكَذَلِكَ (6) بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَق عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا أَعْتَقَ، وَالشُّرَكَاءُ بِالْخِيَارِ: إن شاؤا (7) أعتقوا كما أعتق، وإن شاؤا ضَمَّنُوه (8) إن كان موسراً، وإن شاؤا استَسْعَوْا (9) العبدَ   وبين الأوَّلين إن كان معسراً، كذا في "البناية". واستدل الطحاوي لمذهبهما وقال: إنه أصح القولين بأحاديث مرفوعة دالَّة على مذهبهما، واستُدل له بما أخرجه عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كان لنا غلام بيني وبين أمي وأخي الأسود فأرادوا عِتْقَه وكنت يومئذٍ صغيراً، فذكر الأسود ذلك لعمر فقال: أعتقوا أنتم، فإذا بلغ عبد الرحمن فإن رغب فيما رغبتم أعتق وإلاَّ ضمَّنكم. (1) بالكسر: أي نصيباً في مملوك مشترك. (2) لأن العتق لا يتجزَّأ. (3) أي ذا مال ويسار يقدر على أداء الضمان. (4) أي قدر قيمته. (5) أي فقيراً غير قادر على الضمان. (6) قوله: كذلك بلغنا، قد ورد ذلك من طرق عدَّة من الصحابة، منهم أبو هريرة عند الأئمة الستة، وابن عمر عندهم، وجابر عند الطبراني، وغيرهم كما بسطه الزيلعي في "نصب الراية"، وأخرجه الطحاوي من طرق عديدة. (7) بيان للخيار. (8) أي المعتق، أي جعلوه ضامناً وأخذوا الضمان منه. (9) أي طلبوا العبد من السعاية فيؤديهم من المال مقدار حصصهم ليعتق كله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 فِي حِصَصِهِمْ، فَإِنِ اسْتَسْعَوْا أَوْ أَعْتَقُوا كَانَ الْوَلاءُ (1) بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ، وَإِنْ ضَمَّنُوا المعتِق كَانَ الولاءُ (2) كُلُّهُ لَهُ، وَرَجَعَ (3) عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضُمّن وَاسْتَسْعَاهُ بِهِ (4) . 839 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نافع: أن عبد الله بن عمر أعتق ولد زنى وأمَّه (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَهُوَ حسنٌ (6) جميل، بلغنا عن   (1) لأن العتق وقع منهم جميعاً. (2) لخلوص عتق الكلّ له. (3) أي المعتق الضامن. (4) بيان للرجوع أي طلب منه السعاية بقدر ما أداه (حاصل مذاهب الأئمة الستة في ذلك أن الرجل إذا أعتق بعض مملوكه يعتق كله في الحال بغير استسعاء عند الأئمة الثلاثة وصاحبي أبي حنيفة، وقال الإِمام الأعظم رحمه الله تعالى: يستسعى في الباقي وإن كان العبد مشتركاً بينهما فأعتق أحدهما نصيبه، فقال الإِمام أبو حنيفة: الشريك الآخر مخيَّر بين الثلاث: يعتق نصيبه أو يستسعى العبد، فالولاء لهما في الوجهين، أو يغرَّم الأول فالولاء له ويستسعى العبد، وقال صاحباه: ليس له إلاَّ الضمان مع اليسار أو السعاية مع الإِعسار ولا يرجع العبد على المعتق بشيء والولاء للمعتق في الوجهين، وقالت الأئمة الثلاثة في المشهور عنهم: إن كان الأول موسراً يغرم والولاء له، وإلاَّ فقد عتق منه ما عتق ولا يستسعي. لامع الدراري 6/441) . (5) أي والدته التي زنت. (6) قوله: وهو حسن جميل، أي عتق ولد الزنا وأمه، وكذا عتق العبيد الفسّاق أو الأراذل، وأحسن منه عتق الصالحين ذوي الأنساب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 ابْنِ عباسٍ أَنَّهُ سُئل عَنْ عَبْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِبَغِيَّةٍ (1) وَالآخَرُ لرِشْدَةٍ (2) : أيُّهُمَا يُعْتَق؟ قَالَ: أَغْلاهُمَا (3) ثَمَنًا بدينارٍ (4) . فَهَكَذَا (5) نَقُولُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 840 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: تُوفِّي (6) عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي نومٍ (7) نامَه، فَأَعْتَقَتْ عَائِشَةُ رِقَابًا (8) كَثِيرَةً. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ (9) أَنْ يُعْتَق عَنِ الْمَيِّتِ، فإنْ كان   (1) قوله: لبَغِيَّةٍ، بفتح الباء وكسر الغين المعجمة وتشديد الياء، أي زانية أو بكسر الباء وسكون الغين وفتح الياء: مصدر بمعنى الزنا وهما نسختان، قاله القاري. (2) بكسر الراء وسكون الشين: أي صالحة. (3) بالمعجمة أي أعلاهما ثمناً. (4) أي ولو كان التزايد بدينار. (5) قوله: فهكذا نقول وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الجمهور: إن الأَوْلى أن يعتق ما كان ثمنه أكثر، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي ذر: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب قال: أكثرها ثمناً، وأنْفَسُها عند أهلها، وفي رواية: أغلاها ثمناً. (6) في طريق مكة سنة 53، وقيل بعدها. (7) أي فجأة في نومه. (8) أي مماليك كثيرة عن أخيها عبد الرحمن. (9) قوله: لا بأس أن يعتق عن الميت (قال ابن عبد البر: الصدقة والعتق كل منهما جائز عن الميت إجماعاًَ، والولاء للمعتق عند مالك وأصحابه قاله الزرقاني، وهكذا نقل الإِجماع على ذلك الباجي، كذا في الأوجز 10/380) ، فإن العتق من أفضل أنواع الصدقة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 أَوْصَى بِذَلِكَ (1) كَانَ الْوَلاءُ لَهُ (2) ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوصِ كَانَ الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَيَلْحَقُهُ (3) الأجر إن شاء الله تعالى (4) .   والصدقة بجميع أقسامها وكذا العبادات المالية والبدنية ثوابها يصل إلى الميت، ويكون باعثاً لمغفرته، ورفع درجاته، وبه وردت الأخبار وشهدت به الآثار، كما بسطه السيوطي في "شرح الصدور في أحوال الموتى والقبور" وغيره في غيره، وورد في العتق عن الميت آثار من أحسنها ما أخرجه النسائي عن واثلة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقلنا: إن صاحباً لنا قد مات، فقال رسول الله: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار. (1) أي بالعتق. (2) أي للميت فينتقل إلى ورثته، لأنه هو المعتق حقيقة بالوصية. (3) أي من أعتق له وهو الميت. (4) قوله: إن شاء الله، متعلق بلحوق الأجر، والظاهر أنه لمجرَّد التبرك واختيار الأدب في تعليق الأحكام على المشيئة الإِلهية لا للشك في الحكم، فإنه لا شبهة في وصول الأجر إلى الميت إذا أعتق الحي عنه، وأوصل ثوابه إليه، وإنْ لم يوص. نعم إن كان الإِعتاق أو شيء من الصدقات واجباً على الميت فإن أوصى به يجب على الوصيّ تنفيذه في ثُلُث ما ترك ويُحكم ببراءة ذمَّته عن ذلك الواجب، وإن لم يوص وتبرع الوصيّ بأداء ما وجب عليه يُحكم ببراءة الذمة إن شاء الله تفضُّلاً منه ومِنَّةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 9 - بَابُ بَيْعِ (1) المدبَّر 841 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الرّجال، محمد بن   الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 عبد الرحمن، عن أمِّه عَمْرَة بنت عبد الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَعْتَقَتْ جَارِيَةً لَهَا عَنْ دُبُرٍ (1) مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَكَتْ (2) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَشْتَكِيَ، ثُمَّ إِنَّهُ (3) دَخَلَ عَلَيْهَا رجلٌ سِنْدِي (4) ، فَقَالَ لَهَا (5) : أنتِ مَطبُوبَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: ويلَك، مَنْ طَبَّني (6) ؟ قَالَ: امْرَأَةٌ مِنْ نَعْتِها (7) كَذَا وَكَذَا، فَوَصَفها، وَقَالَ: إنَّ فِي   (1) بضمتين: أي من عقبها وبعد موتها أي جعلتها مدَّبرة. (1) بضمتين: أي من عقبها وبعد موتها أي جعلتها مدَّبرة. (2) أي مرضت أياماً. (3) ضمير الشأن. (4) بكسر السين: نسبة إلى السند مملكة معروفة كالهند. (5) قوله: فقال لها: أنت مطبوبة، أي مسحورة، يقال: طَبَّه أي سَحَره، وفي رواية: أن عائشة مرضت فتطاول مرضها، فذهب بنو أخيها إلى رجل فذكروا له مرضها، فقال: إنكم تخبروني خبر امرأة مطبوبة، فذهبوا ينظرون، فإذا جارية لها سحرتها، وكانت قد دبَّرتها، الحديث. (6) أي من سحرني. (7) أي من وصفها كذا وكذا، وذكر وصفها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 حَجْرها (1) الآنَ (2) صَبِيًّا قَدْ بَالَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ادْعُوا لِي (3) فُلانَةً جَارِيَةً (4) كَانَتْ تخدُمها، فَوَجَدُوهَا فِي بَيْتِ جِيرَانٍ لَهُمْ فِي حَجْرها صبيٌّ، قَالَتْ: الآنَ (5) حَتَّى أَغْسِلَ بَوْلَ هَذَا الصَّبِيِّ، فَغَسَلَتْهُ ثُمَّ جَاءَتْ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: أَسَحَرْتِنِي (6) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: لِمَ (7) ؟ قَالَتْ: أَحْبَبْتُ (8) العتقَ، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لا تَعْتَقِيْنَ (9) أَبَدًا. ثُمَّ أَمَرَتْ عَائِشَةُ ابْنَ أُخْتِهَا (10) أَنْ يبيعَها مِنَ الأَعْرَابِ (11) ممن يسيء ملَكَتها، قالت:   (1) بفتح الحاء وسكون الجيم. (2) أي في هذا الوقت. (3) أي اطلبوا عندي. (4) بدل من فلانة وبيان لها. (5) أي أحضر الآن فلتصبر حتى أغسل البول. (6) بهمزة الاستفهام وصيغة الخطاب. (7) أي بأيّ سبب سحرتني. (8) أي أردت أن تموت حتى أعتق. (9) أي زجراً وعقوبةً لك، فمن عجَّل بالشيء قبل أوانه عُوقب بحرمانه. (10) في نسخة: ابن أخيها. (11) قوله: من الأعراب، أي البداوي. ممن يسيء ملكتها، أي يشُقُّ عليها بكثرة خدمتها وقلة راحتها، يقال: فلان حسن المَلَكة، بفتحات أي حسن الصنع إلى مماليكه وسيِّئ الملكة أي يسيء صحبة المماليك، كذا في "النهاية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 ثُمَّ ابتَعْ لِي (1) بِثَمَنِهَا رَقَبَةً (2) ثُمَّ أَعْتِقْهَا، فَقَالَتْ عَمْرَةُ: فلبثَتْ (3) عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الزَّمَانِ، ثُمَّ إِنَّهَا رَأَتْ فِي الْمَنَامِ أَنِ اغْتَسِلِي مِنْ آبَارٍ ثَلاثَةٍ يَمُدُّ بعضُها بَعْضا فَإِنَّكِ تُشْفَيْنَ (4) . فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ إسماعيلُ بنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدِ بْنِ زُرَارة، فَذَكَرَتْ أُمُّ عَائِشَةَ الَّذِي رَأَتْ (5) ، فَانْطَلَقَا إِلَى قَنَاة (6) ، فوجدَا آبَارًا ثَلاثَةً (7) يُمدُّ بعضُها بَعْضًا، فاستَقَوْا مِنْ كل بئر منها ثلاث (8) شُجُبٍ حتى مَلؤوا الشُّجُب مِنْ جَمِيعِهَا، ثُمَّ أتَوْا بِذَلِكَ الْمَاءِ إِلَى عَائِشَةَ، فَاغْتَسَلَتْ فِيهِ فشُفِيَتْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَمَّا نَحْنُ فَلا نَرَى (9) أَنْ يُبَاع المدبَّر، وهو قول زيد بن   (1) أي اشتر لي. (2) أي جارية أخرى. (3) أي في ذلك المرض بسبب السِّحر. (4) بصيغة المجهول. (5) أي منامها. (6) قوله: إلى قناة، القناة: بالفتح مجرى الماء تحت الأرض، كذا في "المغرب" وفي "النهاية": القني: الآبار التي تُحفر في الأرض متتابعة يُستخرج ماؤها ويسيح على وجه الأرض، كذا قال القاري. (7) أي متقاربة متصلة يصل المدد من بعضها إلى بعض. (8) قوله: ثلاث شجب، قال القاري: بضمتين جمع شَجْب بالفتح فسكون، وهي القربة البالية. (9) قوله: فلا نرى أن يُباع، وذلك لما أخرجه الدارقطني من رواية عبيدة بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 ثَابِتٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر، وَبِهِ نَأْخُذُ. وهو قول أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا. 842 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: مَنْ أَعْتَقَ (1) وَلِيدَةً عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ، فإنَّ لَهُ أنْ يَطَأَهَا وَأَنْ يزوِّجها، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَلا أَنْ يَهَبَهَا، وَوَلَدُهَا (2) بِمَنْزِلَتِهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (3) وَالْعَامَّةِ من فقهائنا.   حسان، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: "المدبر لا يباع ولا يوهب" وهو حرّ من ثلث المال. قال الدارقطني: لم يسنده غير عبيدة، وهو ضعيف، وإنما هو عن ابن عمر من قوله، وأخرجه أيضاً عن علي بن ظبيان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً: المدبّر من الثلث. وعليّ ضعيف، والموقوف أصح، كما بسطه الزيلعي في "نصب الراية" والعيني. (1) أي عَلَّق عتقها بموته ودبرها. (2) قوله: وولدها بمنزلتها، فإن الحمل يتبع أمه في الرقّ والحرية، وكذا الولد. (3) قوله: وهو (وفي البدائع: ولد المدبرة من غير سيدها بمنزلتها لإِجماع الصحابة على ذلك، فإنه روي عن عثمان خوصم إليه في أولاد مدبرة، فقضى أن ما ولدته قبل التدبير عبد، وما ولدته بعد التدبير مدبر، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد منهم فيكون إجماعاً، وهو قول شريح ومسروق، وعطاء وطاووس ومجاهد وابن جبير والحسن وقتادة، ولا يُعرف في السلف خلاف ذلك، وإنما قال به بعض أصحاب الشافعي فلا يعتدُّ به بخلاف الإِجماع. أوجز المسالك 13/5) قول أبي حنيفة، خلافاً للشافعي فإنه قال: إن المدبرة إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 10 - بَابُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَاتِ وَادِّعَاءِ النَّسَب 843 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ عُتْبَة (1) بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ (2) إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بن أبي وقاص   ولدت من نكاح أو زنىً لا يصير ولدها مدبَّراً، وإن الحامل ذات دُبُر صار ولدها مدبَّراً. وعن جابر بن زيد وعطاء لا يتبعها ولدها في التدبير حتى لا يعتقَ بموت سيِّدها، كذا ذكر القاري. (1) قوله: كان عُتْبة بن أبي وقاص، هو بضم العين وسكون التاء، ابن أبي وقاص، مالك الزهري مات على شركه، كما جزم به الدمياطي. قال الحافظ في "الإصابة": ولم أرَ من ذكره في الصحابة إلا ابن مَنْذَه، واشتد إنكار أبي نعيم عليه، وقال: هو الذي كسر رَبَاعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ما علمتُ له إسلاماً، وفي "مصنَّف عبد الرزاق" أنه صلى الله عليه وسلم دعا على عُتبة حين كسر رَبَاعيته أن لا يَحُولَ عليه الحولُ حتى يموتَ كافراً، فكان كذلك ورُوي عن سعد بن أبي وقّاص، كما أخرجه ابن إسحاق عنه: ما حَرَصْتُ على قتل رجل قطّ حرصي على قتل أخي عتبة، لما صنع برسول الله، ولقد كفاني منه قول رسول الله: اشتد غضبُ الله على من دمّى وجهَ رسوله، وزَمْعة - الذي ادّعى عتبة ابن جاريته - بفتح الزاء المعجمة وسكون الميم وقد تُفْتَح: ابن القيس العامري والد سودة أم المؤمنين، وابنه عبد القرشي العامري أخو سودة، كان من سادات الصحابة من مُسلمة الفتح، ولم تُسَمّ الوليدة في رواية، وابنها المخاصَم فيه كان من صغار الصحابة، اسمه عبد الرحمن، وأصل القصة أنه كانت لهم في الجاهلية إماء تزنين، وكانت سادتهن تأتيهن في خلال ذلك، فإذا أتت إحداهن بولد ربما يدّعيه السيد، وربما يدّعيه الزاني، فإن مات السيّد، ولم يكن ادّعاه ولا أنكر فادعاه ورثته لحق به إلا أنه لا يشارك مستلحقه في ميراثه إلا أن يستلحقه فبل القسمة، وإن كان أنكره السيد لم يُلحق به، وكان لزمعة بن قيس أَمَةٌ تزني، وكان يطأها زمعة أيضاً، فظهر بها حمل كان يُظَنّ أنه من عتبة أخي سعد، فأوصى عتبة إلى أخيه قبل موته أن يستلحقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 أَنَّ ابْنَ وَليدةِ (1) زَمْعَةَ مِنِّي (2) فاقْبِضْه (3) إِلَيْكَ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سعدٌ، وقال: ابن   به، فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشَّبَه، فاحتج بوصية أخيه واستلحاقه، فلما تخاصم عبد بن زمعة مع سعد أبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوى الجاهلية، وقال: "الولد للفراش"، أي لصاحب الفراش وهو الزوج والسيّد، وللعاهر الزاني الحَجَر، بفتحتين على الأشهر، أي الخيبة والخسران، ولا حق له في الولد بالوطء المحرم، وإن كان مشابهاً له صورة وصدر منه الدعوى، يقال: فلان في فيه الحجر والتراب كنايةً عن حرمانه، وقيل: المراد بالحجر الرجم بالحجارة، وفيه ضعف فليس كل زانٍ يُرجم، وقيل: هو بفتح الأول وسكون الجيم أي المنع، وظاهر الحديث بإطلاق لفظ الفراش ووروده في مورد خاص: وهو ولد جارية زمعة يقتضي أن يكون الولد للفراش مطلقاً، سواء كانت المستفرشة أَمَة وصاحب الفراش سيداً أو المستفرشة زوجة وصاحب الفراش زوجاً من غير احتياج إلى ادعائهما، واختلف العلماء في ولد الأمة بعد اتفاقهم على أن ولد الزوجة للزوج، وإن أنكره أو لم يشبهه بعد إمكان الوطء لقيام العقد مقامه، فذهب الشافعية وغيرهم إلى أن ولد الأمة يلحق بسيدها أقرَّ أو لم يقِرّ بعد ثبوت الوطء، فإن الأمة تشترى لوجوه كثيرة فلا تكون فراشاً إلا بعد ثبوت الوطء، وقال الحنيفية: لا تكون فراشاً إلا بولد استلحقه قبل، فما تلده بعده فهو له، وإن لم يَنْفِه، وأما الولد الأول فلا يكون له إلا إذا أقرَّ به. وفي الحديث مباحث ومذاهب مبسوطة في "فتح الباري"، وشرح الزرقاني. وفيما ذكرناه منهما كفاية ههنا وسيأتي بعض ما بقي. (2) أي أوصى عند موته إلى أخيه سعد أحد العشرة المبشرة. (1) أي جارية. (2) أي من مائي وهو ابني. (3) أي خذه وضمّه إليك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 أخِي (1) قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ أَخِي فِيهِ، فقام إيه عبدُ بْنُ زَمعة، فَقَالَ: أَخِي (2) وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلد عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا (3) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ أَخِي عُتْبَة، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعة: أَخِي (4) ابنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ لَكَ (5) يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعة، ثم قال: الولد للفراش   (1) أي هذا ابن أخي عتبة فأنا أحق به. (2) أي هو أخي، وابن جارية أبي. (3) أي ساق كل منهما صاحبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدافعا عنده. (4) أي هو أخي، وابن جارية أبي. (5) قوله: هو لك، زاد القعنبي عند البخاري وغيره: هو اخوك يا عبد زمعة، بضم الدال على الأصل، ويروى بالنصب والنون، منصوب على الوجهين، وسقط في رواية النسائي أداءة النداء، فبنى على ذلك بعض الحنفية ان المراد أنه هو لك، وأنه عبدٌ لابن زمعة لأنّه ابن أمة أبيه لا أنه ألحقه به، قال القاضي عياض: وليس كما زعم، فإن الرواية بيا، وعلى تقدير إسقاطها فعبد علم، والعلم يحذف منه حرف النداء، مع أن رواية القعنبي صريحة في رد هذا الزعم، وظاهر الحديث يفيد الاستلحاق، وإن لم يدّع السيد، ولم يقل به الحنفية مع أن الأخ لا يصلح استلحاقه عند الجمهور، لكونه متضمناً على الإِقرار على الغير من دون تصديقه، ولذا قالت طائفة: إنه صلى الله عليه وسلم قضى بعلمه أنه أخوه لأن زمعة كان والد زوجته، وفراشه كان معلوم عنده لا بمجرّد دعوى عبد على أبيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم من خصائصه الحكم بعلمه، وللطهاوي في "شرح معاني الآثار" كلام طويل محصَّله: أن معنى هو لك، أي بيدك تمنع من سواك كاللقطة، أو عبدك لا أنه أخوك، وإلا لما أمر النبي سودة بالاحتجاب منه، ورُدّ بأن ظاهر الروايات بل صريح بعضها نصّ في الحكم بالأخوة، والأمر بالاحتجاب إنما كان احتياطاً للشبة لما أنه رأى في ذلك الولد مشابهة عتبة بن أبي وقاص وفي المقام أبحاث طويلة مذكورة في "شرح الموطأ"، لابن عبد البر والزرقاني وغيرهما (انظر الأوجز 12/296) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 والعاهر الحَجَر، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ (1) بِنْتِ زَمْعة: احْتَجِبِي مِنْهُ (2) لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِه بعُتْبة، فَمَا رَآهَا (3) حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 11 - بَابُ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ 844 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا جعفر بن محمد، عن أبيه: (5) أن   (1) قوله: لسودة، هي أم المؤمنين، سودة بالفتح بنت زمعة بن قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن عدي بن النجار تزوجها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ موت خديجة قبل عائشة، وقيل بعدها، وكانت امرأة ثقيلة فأسنّت عند رسول الله فهمَّ بطلاقها، فقالت: لا تطلقني وإني وهبت يومي لعائشة، وكانت وفاتها في آخر زمان عمر، كذا ذكره ابن عبد البر في "الاستعاب". (2) أي من عبد الرحمن بن وليدة زمعة والد سودة. (3) أي سودة. (4) أي حتى توفي. (5) قوله: عن أبيه، أي محمد الباقر بن زين العابدين، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. قال ابن عبد البر: هذا الحديث مرسل في "الموطأ" ووصله عن مالك جماعة فقالوا: عن جابر، منهم عثمان بن خالد وإسماعيل بن موسى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافُ (1) ذَلِكَ، وَقَالَ: ذكر   وأسنده عن جعفر عن أبيه عن جابر جماعة. انتهى. وفي "التلخيص الحبير" ذكر ابن الجوزي في "التحقيق" عدد من روى هذا الحديث، فزادوا على عشرين صحابياً، وأصح طرقه حديث ابن عباس أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والشافعي وزاد فيه عن عمرو بن دينار أنه قال: إنما كان ذلك في الأموال، وإسناده جيد، قاله النسائي. ثم حديث أبي هريرة أخرجه الشافعي وأصحاب السنن وابن حبان وإسناده صحيح، قاله أبو حاتم. وحديث جابر: قضى رسول الله بالشاهد الواحد ويمين الطالب، أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي من رواية جعفر عن أبيه عنه، وقال الدارقطني: كان جعفر ربما أرسله وربما وصله. وفي رواية ابن عدي، وابن حبان من طريق إبراهيم بن أبي حيّة، وهو ضعيف، عن جعفر عن أبيه عن جابر مرفوعاً: أتاني جبريل وأمرني أنْ أقضي باليمين مع الشاهد. انتهى ملتقطاً. وبهذه الأحاديث ذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة إلى القضاء بشاهد واحدٍ ويمين المدّعي. (1) قوله: خلاف ذلك، وهو أنه لا يجوز عود اليمين إلى المدعي، ففي "مصنف ابن أبي شيبة": نا سويد بن عمرو نا أبو عوانة عن مغيرة عن إبراهيم والشَّعْبي في الرجل يكون له الشاهد مع يمينه قال: لا يجوز إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين. وقال ابن أبي شيبة أيضاً: نا حماد بن خالد عن ابن أبي ذئب عن الزهري قال: هي بدعة، وأول من قضى بها معاوية، وسنده على شرط مسلم. وفي "مصنف عبد الرزاق": أخبرنا معمر عن الزهري قال: هذا شيء أحدثه الناس، لا بد من شاهدين، كذا أورده السيد مرتضى في "الجواهر". وبهذه الروايات وأمثالها وبالحديث الصحيح: "البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر:، وغيره من الأحاديث المشهورة المفيدة لحصر اليمين على المدّعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 ذَلِكَ (1) ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، قَالَ (2) : سَأَلْتُه (3) عَنِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَقَالَ: بِدْعَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهَا (4) مُعَاوِيَةُ، وكان   عليه، وبظاهر قوله تعالى: (واستشْهِدُوا شَهِدَيْن مِن رِجالِكم) (سورة البقرة: الآية 282) الآية، ذهب أصحابنا والثوري والأوزعي والزهري والنخعي وعطاء وغيرهم إلى بطلان القضاء بشاهد ويمين، وأجابوا عن الأحاديث السابقة بطرق: منها التأويل بأن المراد قضى بشاهدٍ واحدٍ للمدعي ويمين للمدَّعَى عليه، وهو مردود بنصوص بعض الروايات. ومنها الكلام في طريق حديث ابن عباس وأبي هريرة بالانقطاع في السند كما بسطه الطحاوي، وليس بجيد، فإن الكلام فيها ليس بحيث يسقط الاحتجاج بها كما لا يخفى على الماهر. ومنها أنّ أخبار الآحاد إذا أثبتت زيادة على القرآن والأحاديث المشهورة لا تعتبر بها، فإن الزيادة نسخ وخبر الواحد لا ينسخهما، وهذه قاعدة مبرهنة في أصول الحنيفية غير مسلّمة عند غيرهم، فإن ثبتت تلك القاعدة بما لا مردّ له ثبت المرام وإلا فالكلام موضع نظر وبحث (وفي البذل 15/293: كتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه - رضي الله عنه - قوله بيمين وشاهد، هما للجنس، والمعنى قضى بهذا أحياناً وبذاك أحياناً إذا لم يوجد شاهد للمدَّعي، والحاجة إلى ذلك التأويل للجمع بقوله الكلي: البّينة على المدعي إلخ. وهو مشتهر بل قريب من المتواتر. اهـ) . (1) أي خلاف ما مرّ. (2) أي ابن أبي ذئب. (3) أي ابن شهاب. (4) أي باليمين مع الشاهد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 ابْنُ شِهَابٍ أَعْلَمُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَدِينَةِ (1) مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَيْضًا، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح قَالَ (2) : أَنَّهُ (3) قَالَ: كَانَ الْقَضَاءُ الأَوَّلُ (4) لا يُقبل إِلا شَاهِدَانِ، فَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ عبدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ. 12 - بَابُ اسْتِحْلافِ (5) الْخُصُومِ 845 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصَين، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا غَطَفان (6) بْنَ طرَيْف المُرّي (7) يَقُولُ: اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وابنُ مُطيع (8) فِي دَارٍ إِلَى مروانَ (9) بْنِ الْحَكَمِ، فَقَضَى (10) عَلَى زَيْدِ بن   (1) هكذا في نسخة عليها شرح القاري، وفي نسختين معتَمَدَتين: أعلم أهل المدينة بالحديث. (2) أي ابن جريج. (3) أي ابن أبي رباح وكان أعلم أهل مكة بالحديث في عصره. (4) أي في الزمان الأوّل، زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. (5) أبا غطفان: اسمه سعد. (6) أبا غطفان: اسمه سعد. (7) بضم الميم وتشديد الراء. (8) أي عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي المدني، له رؤية، قُتل مع ابن الزبير، سنة ثلاث وسبعين، ذكره الزرقاني. (9) أي حين كونه أميراً بالمدينة من جهة معاوية. (10) أي حكم مروان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ (1) ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: أحْلِفُ لَهُ مَكَانِي (2) ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لا وَاللَّهِ إِلا عِنْدَ مَقَاطِعِ (3) الْحُقُوقِ، قَالَ (4) : فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ أَنَّ حقَّه (5) لحقٌّ، وَأَبَى (6) أَنْ يَحْلِفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ (7) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ (8) زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نأخذ   (1) أي عند المنبر النبوي. (2) أي في مكان لا عند المنبر. (3) أي عند المنبر الذي يُقطع عنده الحقوق ويتميّز الحق من الباطل. (4) أي أبو غطفان. (5) أي حقه في الدار لثابت. (6) أي امتنع زيد من الحلف عند المنبر. (7) قوله: يعجب من ذلك، أي يتعجب من امتناع زيد مع علمه أن اليمين تغلّظ بالمكان، وأن المنبر مقطع الحقوق، قال في "فتح الباري": وجدت لمروان سلفاً فأخرج الكرابيسي بسند قويّ عن ابن المسيّب قال: ادّعى مدعٍ على آخر أنه غصب له بعيراً فخاصمه إلى عثمان فأمره ان يحلف عند المنبر، فقال: أحلف له حيث شاء، فأبى عثمان أن يحلف إلا عند النبر، فغرم له بعيراً مثل بعيره ولم يحلف. (8) قوله: وبقول زيد بن ثابت نأخذ، يعني أنه لا يلزم على المدعى عليه إلا اليمين عند الاستحلاف من دون تعيين زمان أو مكان، ولا يلزم عليه ان يحلف في المسجد أو عند المنبر النبوي، أو بين الركن والمقام، فإن فعل ذلك لا بأس به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وَحَيْثُمَا (1) حَلَفَ الرَّجُلُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَوْ رَأَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ مَا أَبَى أَنْ يُعْطِيَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُعْطي مَا لَيْسَ عَلَيْهِ، فَهُوَ (2) أحقُّ أَنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ مِمَّنِ اسْتَحْلَفَهُ (3) . 13 - بَابُ الرَّهْن 846 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عن سعيد بن المسيب (4) أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يُغْلَقُ الرَّهْن (5) .   (وفي "الشرح الكبير"، لابن قدامة: إن رأى الحاكم تغليظها بلفظٍ أو زمن أو مكان جاز، وظاهر كلام الخرقى أن اليمين لا تغلَّظ إلا في حق أهل الذمة، ولا تغلَّظ في حق المسلم، وبه قال أبو بكر. وممن قال: لا يشرع التغليظ بالزمان والمكان في حق المسلم أبو حنيفة وصاحباه، وقال مالك والشافعي: تغلَّظ ثم اختلفا، كذا في الأوجز 12/134) . (1) قوله: وحيثما، يعني في أيّ مكان حلف المدَّعى عليه فهو جائز، فإنه لو رأى زيد أن الحلف عند المنبر لازم له ما أنكر أن يؤدِّي الحق الذي عليه، وهو اليمين عند المنبر، ولكنه كره أن يُعْطي ما لا يجب عليه لئلا يُتَوَهّم أنه لازم. (2) أي زيد بن ثابت. (3) أي مروان بن الحكم. (4) قوله: عن سعيد بن المسيّب، هذا مرسل عند جميع رواة "الموطأ" إلا معن بن عيسى فوصله عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر، وهو موصول من حديثه عند ابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي بلفظ: "لا يُغْلَق الرهن من راهنه، له غُنْمه وعليه غُرْمه"، ورواه الشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بلفظ: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، وله غنمه وعليه غرمه". قال الشافعي: غنمه زيادته، وغرمه هلاكه. وله طرق بسطها الحافظ في "التلخيص". (5) قوله: لا يُغْلَق الرهن، يقال: غَلِق الرهن، بغين مفتوحة وكسر اللام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: "لا يُغلق الرَّهْنُ"، أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَرْهَنُ الرَّهْنَ (1) عِنْدَ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ (2) لَهُ: إِنْ جئتُك بمالِك إِلَى (3) كَذَا وَكَذَا، وَإِلا فَالرَّهْنُ لَكَ (4) بِمَالِكَ، قَالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يُغْلَقُ الرَّهْنُ، وَلا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ (5) بمالِه. وَكَذَلِكَ نَقُولُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَكَذَلِكَ فسّره (6) مالك بن أنس.   وقاف، يَغْلَق بفتح أوّله واللام غلقاً: أي استحقّه المرتهن إذا لم يفتك في الوقت المشروط قاله الجوهري، قال صاحب "النهاية": كان هذا من قول أهل الجاهلية، أن الراهن إذا لم يردّ ما عليه في الوقت المعين مَلَكَه المُرْتَهِن فأبطله الإِسلام، واستَدل بهذا الحديث جمع من العلماء على أن الرهن إذا هلك في يد المرتهن لا يضيع بالدين، بل يجب على الراهن أداء غُرْمه وهو الدين، وردّه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بأنه قال أهل العلم في تأويله غير ما ذكرت، ثم أخرج عن مغيرة عن إبراهيم في رجل دفع إلى أجل رهناً، وأخذ منه دراهم، وقال: إن جئتك بحقك إلى كذا وإلا فالرهن لك بحقك. وأخرج عن طاوس وسعيد بن المسيّب ومالك مثل ذلك، فعُلم أن الغلق المذكور في الحديث هو الغلق بالبيع لا بالضياع. (1) أي الشيء المرهون. (2) أي الراهن. (3) أي إلى مدة معينة. (4) أي مبيع لك ومغلَق عندك عوض مالك. (5) بل يردّه على الراهن ويأخذ منه ماله أو يبيعه بإذنه ويأخذ قدر ماله ويرد الفضل. (6) ذكر تفسيره يحيى في "موطئه" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 14 - بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ 847 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (1) بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الجُهَيني أَخْبَرَهُ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلا (2) أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ (3) الَّذِي (4) يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ، أَوْ (5) يُخْبِرُ بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسأَلَها. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (6) . مَنْ كانت عنده شهادة لإِنسان   (وبهذا فسره أحمد، كذا في الأوجز 12/143) . (1) قوله: عن عبد الله بن عمرو، بفتح العين، بن عثمان بن عفان الأموي، ولقبه بالمطْرَاف، بسكون الطاء المهملة وفتح الراء ثقة شريف تابعي مات بمصر سنة 96 هـ. أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيَّ، وفي رواية يحيى: عن أبي عمرة الأنصاري، قال ابن عبد البر: هكذا رواه يحيى وابن القاسم وأبو مصعب ومصعب الزبيري، وقال القعنبي ومعن ويحيى بن بكير: عن ابن أبي عمرة، وكذا قال ابن وهب وعبد الرزاق: عن مالك وسَمَّياه بعبد الرحمن فرفعا الإِشكال، وهو الصواب، وعبد الرحمن هذا من خيار التابعين، كذا في "شرح الزرقاني". (2) بحرف الاستفهام. (3) جمع شهيد يعني الشاهد. (4) أي خيرهم الذي يؤدّي الشهادة قبل أن يسأله صاحب الحق. (5) شك من الراوي. (6) قوله: وبهذا نأخذ، قد يقال إنه معارَض بحديثٌ: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي من بعدهم قوم يشهدون ولا يُستشهدون". الحديث أخرجه الشيخان، وعند الترمذي: ثم يجيء قوم يعطون الشهادة قبل أن يُسألوها، وعند ابن حبان: "ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل على يمين قبل أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 لا يَعْلَمُ ذَلِكَ الإِنسان بِهَا، فليُخْبِرْه (1) بِشَهَادَتِهِ، وإنْ لم يَسأَلْها إياه.   يُستحلف، ويشهد على الشهادة قبل أن يُستشهد". وجُمع بينهما بحمل حديث الباب، وهو حديث زيد على أداء الشهادة الحقّة، والثاني على شاهد الزور. وبحمل الثاني على الشهادة في باب الأَيْمان كأن يقول أشهد باللَّه ما كان كذا لأنّ ذلك نظير الحلف وإن كان صادقاً والأول على ما عدا ذلك. وبحمل الثاني على الشهادة على المسلمين بأمر مغيَّب كما يشهد أهل الأهواء على مخالفيهم بأنهم من أهل النار، والأوّل على من استعدّ للأداء وهي أمانة عنده. وبحمل الثاني على ما إذا كان يعلم به صاحبها فيُكره التسرع إلى أدائها والأول على ما إذا كان صاحبها لا يعلم بها، كذا في "التلخيص الحبير" (4/204) . (1) إحياءً للحقوق ودفعاً للأضرار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 كِتَابُ اللُّقَطة (1) 848 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: أَنَّ ضَوَالَّ الإِبل (2) كَانَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِبِلا مُرْسَلَةً (3) تَنَاتَجُ لا يَمَسّها   (1) قوله: أن ضوالّ الإِبل، جمع ضالّة (قال الخطابي: الضالة لا يقع على الدراهم والدنانير والمتاع ونحوها، وربّما اسم للحيوان الذي يضل عن أهلها كالإِبل والبقر والطير، كذا في الأوجز 12/301) ، مثل دابّة ودوابّ، والأصل في الضلال الغَيْبة، ومنه قيل للحيوان الضائع ضالّة، ويقال لغير الحيوان ضائع ولقطة يقال: ضلّ البعير إذا غاب وخفي عن موضعه، كذا ذكره الزرقاني نقلاً عن الأزهري. (2) قوله: أن ضوالّ الإِبل، جمع ضالّة (قال الخطابي: الضالة لا يقع على الدراهم والدنانير والمتاع ونحوها، وربّما اسم للحيوان الذي يضل عن أهلها كالإِبل والبقر والطير، كذا في الأوجز 12/301) ، مثل دابّة ودوابّ، والأصل في الضلال الغَيْبة، ومنه قيل للحيوان الضائع ضالّة، ويقال لغير الحيوان ضائع ولقطة يقال: ضلّ البعير إذا غاب وخفي عن موضعه، كذا ذكره الزرقاني نقلاً عن الأزهري. (3) قوله: إبلاً مرسلة، أي متروكة مهملة لا يتعرّضها أحد. تَنَاتَج، أي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 أَحَدٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ زَمَنِ (1) عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمَرَ بِمَعْرِفَتِهَا وَتَعْرِيفِهَا، ثُمَّ تُباع فَإِذَا جَاءَ صاحبُها (2) أُعطي ثمنَها. قَالَ مُحَمَّدٌ: كِلا (3) الْوَجْهَيْنِ حسنٌ. إِنْ شَاءَ الإِمام تَرَكَهَا حَتَّى يَجِيءَ أَهْلُهَا، فَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا الضَّيْعة (4) أو لم يجد من يرعا (5) ها فباعها،   تتناتج بعضها بعضاً فحذف إحدى التائين. لا يمسّها أحد، أي لا يمسكها أحد، وذلك للنهي عن أخذ ضالّة الإِبل، فعن زيد الجُهني: جاء رجلٌ يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: اعرف عفاصها ووكاءَها وعرِّفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك، قلت: فضالّة الغنم؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب - وفي رواية خذها - قلت: فضالة الإِبل؟ قال: ما لك ولها؟ معها سقاؤها ترد الماء وتأكل (في الأصل تروى، وهو خطأ) الشجر، فذرها حتى يجدها ربُّها، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم، فظاهره أن ضالّة الإِبل لا ينبغي أخذُها لعدم خوف ضياعها، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد في البقر والإِبل والفرس، إن الترك أفضل، وقال أصحابنا وغيرهم: كان ذلك إذ ذاك لغلبة أهل الصلاح، وفي زمننا لا يأمن وصول يدٍ خائنة، ففي أخذه إحياؤها، فهو أولى. وقد بسط الكلام فيه ابن الهمام، ويؤيد ما قال أصحابنا ما ثبت في زمان عثمان لانقلاب الزمان حيث أمر بتعريفها بعد التقاطها خوفاً من الخيانة ثم يبيعها وإمساك ثمنها في بيت المال لأربابها. (1) في نسخة: زمان. (2) أي مالكها. (3) أي ما كان في زمن عمر وما كان في زمن عثمان. (4) بالفتح أي التَّلف والضياع. (5) من رعي الكلأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 ووقَّف (1) ثَمَنَهَا حَتَّى يَأْتِيَ أَرْبَابُهَا فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ. 849 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ رَجُلا وَجَدَ لُقَطة (2) ، فَجَاءَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ لُقَطَةً، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: عَرِّفْهَا (3) ، قَالَ: قَدْ فعلتُ، قَالَ: زِدْ، قَالَ: قَدْ فعلتُ، قَالَ: لا آمُرُكَ (4) أنْ تأكُلَها، لَوْ شئتَ (5) لَمْ تأخُذْها. 850 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ يُحَدِّثُ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ ضحَّاكٍ (6) الأَنْصَارِيَّ حَدَّثَه: أَنَّهُ وَجَدَ بَعِيرًا بالحَرّة (7) فعَرَّفه، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَه، قَالَ ثَابِتٌ لِعُمَرَ: قَدْ شَغَلَني عَنْهُ ضَيْعَتيِ (8) ، فقال   (1) بتشديد القاف من التوقيف، أي جعل ثمنها موقوفاً ومحفوظاً. (2) أي شيئاً ملتقطاً، بفتح القاف أو سكونها. (3) أي افعل فيه تعريفاً معروفاً في الشرع في المجامع والمجالس. (4) أي لا أجيزك أكلها. (5) أي كان لك بد من أخذها فإذا أخذتها وجب عليك حفظها لأنه أمانة. (6) قوله: أنّ ثابت بن ضَحّاك، بفتح الضاد وتشديد الحاء بن خليفة الأنصاري الأشبيلي، الصحابي الشهير، توفي سنة أربع وستين على الصواب، كما في الإِصابة وغيره. (7) بالفتح وتشديد الراء موضع قرب المدينة. (8) قوله: ضيعتي، بالفتح بمعنى العقار والمتاع أي شغلني عن تعريفه الاشتغال بعقاري فإني مشغول به لا أجد فرصة أن أُعرِّفها مرّة بعد مرة. وفي "موطأ يحيى": شغلني عن ضيعتي، أي منعني تعريفه عن عقاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 لَهُ عُمَرُ: أرْسِلْه حَيْثُ وَجَدْتَه (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نأخُذُ. مَنِ الْتَقَطَ (2) لُقطة تُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلا (3) ، فَإِنْ عُرِفت وَإِلا تَصَدَّقَ بِهَا، فَإِنْ كَانَ (4) مُحْتَاجًا أَكَلَها (5) ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا (6) خَيَّره (7) بَيْنَ الأَجْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَغْرِمها (8) له،   (1) أي في المكان الذي وجدته. (2) قوله: من التقط لقطة تساوي إلخ، الفرق بين لقطة العشرة فصاعداً وبين لقطة ما دونها مرويّ عن أبي حنيفة. وعنه إن كانت مائتي درهم يُعَرِّفها حولاً، وإن كانت أقلّ منها إلى عشرة يُعرّفها شهراً وإن كانت أقل من العشرة يُعَرِّفها على حسب ما يرى. وعنه أنه إن كان ثلاثة فصاعداً يُعَرِّفعا عشرة أيام، وإن كانت درهماً فصاعداً يعرّفها ثلاثة أيام وإن كانت دانقاً فصاعداً يعرفها يوماً، وشيء من هذا ليس بتقدير لازم. وقال الشافعي ومالك وأحمد بالتعريف بالحول من غير فصل بين القليل والكثير لحديث: "من التقط شيئاً فليُعَرّفه سنةً" أخرجه ابن راهويه، وفي الباب روايات كثيرة في التعريف بالحول وأجيب عنه بأنه ليس بتقدير لازم فورد في رواية: التعريف بثلاثة أعوام أخرجه البخاري من حديث أبيّ بن كعب، وظاهر الأحاديث أن الكثير يعرف فيه حولاً، والعشرة فما فوقها كثير عندنا بدليل تقدير نصاب السرقة والمهر به، وما دونه قليل. والمسألة مبسوطة بحذافيرها في "البناية" و "فتح القدير" وغيرهما. (3) أي سنة كاملة. (4) أي الملتقط. (5) قوله: أكلها، يشير إلى أنه لو كان غنياً لم يأكلها لعدم الضرورة بل يحفظ أو يتصدق على المساكين. (6) أي مالكها. (7) أي الملتقط من التخيير. (8) أي يضمنها له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَرَّفَهَا عَلَى قَدْرِ (1) مَا يَرَى أَيَّامًا، ثُمَّ صَنَعَ بِهَا كَمَا صَنَعَ (2) بِالأُولَى، وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهَا إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا كَالْحُكْمِ فِي الأُولَى، وَإِنْ رَدَّهَا (3) فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ بَرِئَ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَمَانٌ. 851 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مُسْنِدٌ (4) ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ: مَنْ أَخَذَ ضَالّة فَهُوَ ضَالٌّ (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخُذ. وَإِنَّمَا (6) يَعْنِي بذلك من أخذها ليَذهب   (1) أي حسب ما يظن أياماً معدودة أنه إذا عَرَّفَ فيها ظهر مالكها إنْ كان. (2) أي يتصدق أو يأكل. (3) أي اللقطة. (4) قوله: وهو مسند ظهره إلى الكعبة، فيه جواز الجلوس مستنداً بالكعبة وبجدار القبلة في المسجد، وجواز جعل الكعبة وجهتها خلفه، وهو ثابت بآثار أُخر أيضاً. (5) قوله: فهو ضالّ، أي عن طريق الصواب أو آثم أو ضامن إن هلكت عنده، عبر به عن الضمان للمشاكلة، وأصل هذا في حديث معروف أخرجه أحمد عنده، عبر به عن الضمان للمشاكلة، وأصل هذا في حديث معروف أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن زيد مرفوعاً: "من آروى ضالّة فهو ضالّ ما لم يُعَرِّفْها" فقيّد الضلال بمن لم يُعَرِّفها، فلا حجة لمن كره اللقطة مطلقاً في أثر عمر هذا، ولا في قوله صلى الله عليه وسلم: "ضالّة المسلم حرق النار" أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن الجارود العبدي، لأن الجمهور حملوه على ما إذا أخذه من غير تعريف، كذا في "شرح الزرقاني". (6) قوله: إنما يعني بالمعروف، أي إنما يريد عمر رضي الله عنه بقوله: من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 بِهَا، فَأَمَّا مَنْ أَخَذَهَا ليردَّها (1) أَوْ لِيُعَرِّفَهَا (2) فلا بأس به. 1 - باب الشفعة (3) 852 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمارة (4) ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْم أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ (5) فِي أرض فلا شُفعة فيها، ولا   أخذ ضالّة فهو ضالّ، من أخذ اللقطة ليذهب بها ويتصرف فيها، أو بالمجهول أي إنما يُراد بذلك القول وأمثاله مرفوعاً كان أو موقوفاً. (1) أي على مالكها. (2) أي ليُعْرَف مالكها فيردّها إليه. (3) عُمارة: بضم العين ابن عمرو بن حزم الأنصاري. (4) عُمارة: بضم العين ابن عمرو بن حزم الأنصاري. (5) قوله: إذا وقعت الحدود، جمع حدّ، وهو ما يتميّز به الأملاك بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 شُفْعَةَ (1) فِي بِئْرٍ وَلا فِي فَحْلِ نَخْلٍ. 853 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (2) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى (3) بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقسم، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلا شُفْعَةَ فِيهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ جَاءَتْ (4) فِي هَذَا أحاديث مختلفة، فالشريك   القسمة، وأشار به إلى وقوع القسمة. فالشفعة تثبت في ما لم يقسم، فإذا قُسم ومُيِّز بين أملاك الشركاء ثم باع أحدهم حصته فلا شُفعه بسبب الاشتراك. (1) قوله: وَلا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ وَلا فِي فَحْلِ نخل، أي ذكر نخل، وكذا في كل شجر إلا إذا بيع تبعاً للأرض، وفيه أن الشفعة خاص بالعقار والحوائط وعند البيهقي عن ابن عباس مرفوعاً: الشفعة في كل شيء، ورجاله ثقات، وبه قال عطاء شاذاً آخذاً بظاهره، فقال بالشفعة في كل شيء حتى الثياب، وحمله الجمهور على الأرض لدلالة كثير من الأحاديث على ذلك. (2) قوله: عن أبي سلمة، وفي "موطأ يحيى": عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة، وهو مرسل عن مالك عند أكثر رواة الموطأ، ووصله ابن الماجشون وأبو عاصم النبيل وابن وهب عن أبي هريرة، واختلف فيه رواة ابن شهاب أيضاً، فمنهم من وصله، ومنهم من أرسله، كما بسطه ابن عبد البر في "التمهيد". (3) أي حكم. (4) قوله: قد جاءت في هذا، يعني وردت في هذا الباب أحاديث مختلفة، بعضُها تدل على انحصار الشفعة على الشركة وأن لا شفعة بالجوار، وبعضها تدل على ثبوت الشفعة للجوار، وهي واردة بطرق كثيرة بألفاظ مختلفة وحملها مالك والشافعي وأحمد القائلون بعدم الشفعة بالجوار على الجار الشريك وهو حَمْل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 أحقُّ (1) بِالشُّفْعَةِ مِنَ الْجَارِ، وَالْجَارُ أحقُّ مِنْ غَيْرِهِ، بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 854 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (2) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلى الثَّقَفِيُّ، أَخْبَرَنِي عَمْرو بْنُ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ الشَّريد بْنِ سُوَيد (3) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجَارُ أحقُّ بصَقَبه (4) . وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ (5) أبي حنيفة والعامّة من فقهائنا.   بعيد، وأجاب مثبتوه عن الأحاديث الدالة على أن لا شفعة بعد القسمة على نفي الشفعة بالشركة وهو مَحْمَل صحيح توفيقاً وجمعاً. كما هو مبسوط في "شروح الهداية". (1) تقديماً للأقوى على الأدنى. (2) قوله: عبد الله بن عبد الرحمن، قال في "التقريب": عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلَى أي بالفتح وسكون العين وفتح اللام ابن كعب الطائفي، أبو يعلى الثقفي، صدوق. وعمرو بن الشَّريد، بفتح المعجمة، الثقفي، أبو الوليد الطائفي ثقة والشريد بن سويد الثقفي صحابي، شهد بيعة الرضوان. (3) بصيغة التصغير. (4) قوله: بصّقّبه، بفتحتين أي بشفعته. قال القاري: أخرجه أبو داود والبخاري والنسائي وابن ماجه، وفي رواية لأحمد، والأربعة بلفظ: "الجار أحق بشفعة جاره، ينظر له إن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً. (5) وبه قال الثوري وابن المبارك ذكره الترمذي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 1 - بَابُ المكاتَب (1) 855 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ (2) مِنْ مُكَاتَبَتِهِ شَيْءٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ (3) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ العَبْد (4) فِي شَهَادَتِهِ (5) وَحُدُودِهِ وَجَمِيعِ أمره (6) ، إلا أنه لا سبيل   (1) قوله: ما بقي عليه من مكاتبته، أي مال كتابته شيء ولو قلّ، وعند ابن أبي شيبة عنه قال: المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم، وورد مرفوعاً عند أبي داود والنسائي والحاكم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: العبد مكاتب ما بقي عليه من مكاتبته درهم، قاله الزرقاني. (2) قوله: ما بقي عليه من مكاتبته، أي مال كتابته شيء ولو قلّ، وعند ابن أبي شيبة عنه قال: المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم، وورد مرفوعاً عند أبي داود والنسائي والحاكم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: العبد مكاتب ما بقي عليه من مكاتبته درهم، قاله الزرقاني. (3) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور السلف والخلف، وكان فيه اختلاف الصحابة، فعند ابن عباس يُعتق المكاتب بنفس عقد الكتابة، وهو غريم المولى بما عليه من بدل الكتابة، ففي "مصنف ابن أبي شيبة" عنه قال: إذا بقي عليه خمس أوراق أو خمس ذَوْد أو خمس أوسق فهو غريم. وعند ابن مسعود: بعتق إذا أدَّى قدر قيمتهة نفسه، فأخرج عبد الرزاق عنه قال: إذا أدَّى قدر ثمنه فهو غريم. وعند زيد بن ثابت: لا يعتق وإن بقي عليه درهم، أخرجه عنه الشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي. ومثله أخرجه ابن أبي شيبة عن عمر وعثمان، وعبد الرزاق عن أم سلمة وعائشة وابن عمر، وهو مؤيَّد بالأحاديث المرفوعة الثابتة، كذا ذكره العيني في "البناية". (4) أي المكاتب. (5) أي في باب الشهادات، وحدود الزنا أو السرقة وغيره. (6) أي جملة أحكامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 لِمَوْلاهُ (1) عَلَى مَالِهِ مَا دَامَ مُكَاتَبًا. 856 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ: أَنَّ مُكَاتَبًا (2) لابْنِ الْمُتَوَكِّلِ هَلَكَ (3) بِمَكَّةَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ (4) بَقِيَّةً (5) مِنْ مُكَاتَبَتِهِ، وَدُيُونِ النَّاسِ، وَتَرَكَ ابْنَةً (6) ، فَأَشْكَلَ (7) عَلَى عَامِلِ مَكَّةَ الْقَضَاءُ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ (8) إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنِ ابْدَأْ (9) بِدُيُونِ النَّاسِ فاقْضِها، ثُمَّ اقْضِ (10) مَا بقي عليه مُكَاتَبَتِهِ، ثُمَّ اقْسِمْ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ بين ابنته ومواليه.   (1) أي لا يجوز له التصرف في كسبه لأنه مالك في يده. (2) قال الزرقاني: اسمه عبّاد. (3) أي مات. (4) أي على ذمّته ومات قبل الأداء. (5) أي قدراً من مال كتابته الذي كاتبه مولاه عليه. (6) أي من ورثته. (7) قوله: فأشكل، أي وقع الإِشكال على أمير مكة وعاملها من جانب عبد الملك بن مروان الخليفة إذ ذاك الحكم في هذه الصورة لعدم علمه بذلك وتردُّده في أنه مات حرّاً أم عبداً. (8) قوله: فكتب، أي كتب ذلك العامل إلى ابن مروان، وكان بالشام يسأله عن الحكم في هذه الصورة. (9) أي أدِّ أوّلاً ديون الناس على المكاتب من ماله. (10) أي إلى مولاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (1) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا أَنَّهُ (2) إِذَا مَاتَ بُدِئ بدُيُونِ النَّاسِ ثُمَّ بِمُكَاتَبَتِهِ (3) ، ثُمَّ مَا بَقِيَ كَانَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ الأَحْرَارِ مَن كَانُوا (4) . 857 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عِنْدِي: أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلا عَنْ رَجُلٍ كاتبَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى وَلَده ثُمَّ هلك (5)   (1) قوله: وبهذا نأخذ، تفصيله على ما في "الهداية"، وشروحها، أنه إذا مات المكاتب من غير أداء جميع بدل كتابته أدّى بعضه أو لم يؤد شيئاً، فإن كان له مال لم تنفسخ الكتابة، وقضى ما عليه من بدل الكتابة وحُكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته، وما بقي فهو ميراث لورثته وتعتق أولاده المولودون في الكتابة والمشترون فيها، فإن كان عليه دَيّنَ للناس بُدِئ بأدائه. وهو المرويّ عن عليّ، أخرجه ابن شيبة وعبد الرزاق، وابن مسعود أخرجه البيهقي، وبه قال الحسن وابن سرين والنخعي والشعبي والثوري وعمرو بن دينار وإسحاق بن راهوية، وأهل الظاهر. وعند الشافعي تبطل الكتابة ويحكم بموته عبداً، وما ترك فهو لمولاه لا لورثته، وبه قال أحمد وقتادة وعمر بن عبد العزيز، وإمامهم فيه زيد بن ثابت أخرجه البيهقي عنه. وإن لم يترك وفاءً وترك ولداً مولوداً في الكتابة يبقى في كتابة أبيه على نجوم أبيه لدخوله في كتابته، فإذا أدى حُكم بعتق أبيه قبل موته، وعُتق الولد. والمسألة مبسوطة بذيولها في موضعها بدلائلها. (2) أي المكاتب. (3) أي بأدائها إلى المولى. (4) رجالاً أو نساءاً من أصحاب الفرائض أو العصبات. (5) أي مات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ بَنِينَ، أيسعَوْن فِي مُكَاتَبَةِ أَبِيهِمْ أَمْ هُمْ عَبِيدٌ (1) ؟ فَقَالَ: بَلْ يَسْعَون (2) فِي كِتَابَةِ أَبِيهِمْ، وَلا يُوضَعُ (3) عَنْهُمْ لِمَوْتِ أَبِيهِمْ شَيْءٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة فإذا أدَّوْا عَتِقوا جميعاً. 858 - أخبرنامالك أَخْبَرَنَا مخبرٌ أَنَّ أمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تُقَاطِعُ (4) مُكَاتَبِيْها بِالذَّهَبِ والوَرِق. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. 1 - بَابُ السَّبَق (5) فِي الْخَيْلِ 859 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سعيد قال: سمعت   (1) أي أرقّاء خالصون لا يسعَوْن. (2) لكونهم مكاتبين. (3) أي لا يحطّ عنهم ولا ينقص شيء. (4) قوله: كانت تقاطع، أي تأخذه منهم عاجلاً في نظير ما كاتبهم عليه. مكاتبيها بالذهب والوَرِق، بكسر الراء أي الفضة وكانت قد كاتبت عدة، منهم سليمان وعطاء وعبد الله وعبد الملك، كلهم أبناء يسار، وكلهم أخذ العلم عنها، وعطاء أكثرهم حديثاً، وسليمان أفقههم، وكلهم ثقات، وكاتبت أيضاً نبهان ونفيعاً، كذا في "شرح الزرقاني". (5) ليس بِرِهان الخيل باس: أي لا بأس بما يتراهن عليها عند المسابقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: لَيْسَ برهانِ (1) الْخَيْلِ بَأْسٌ، إِذَا أَدْخَلُوا فِيهَا محلِّلاً (2) إِنْ سَبَق (3) أخَذّ السَّبَقَ (4) ، وَإِنْ سُبق (5) لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ (6) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِنَّمَا يُكْرَهُ (7) من هذا أن يضيع كل واحد   (1) ليس بِرِهان الخيل باس: أي لا بأس بما يتراهن عليها عند المسابقة. (2) بكسر اللام هو من يكون باعثاً على حِلّ العقد. (3) أي ذلك المُحَلِّل. (4) أي ذلك المال الذي وُضع عند ذلك. (5) بالمجهول أي سبقه غيره. (6) أي لم يغرَّم شيئاً. (7) قوله: إنما يُكره إلخ، تفصيله على ما في "المحيط" و "الذخيرة" وغيرهما، أن المسابقة إن كانت بغير شرط وعوض فهو جائز، وإن كان بعوض وشرط فإن كان من الجانبين بأن يقول الرجل لآخر إن سبق فرسك أو إبلك أو سهمك أعطيتك كذا، وإن سبق فرسي وغير ذلك أخذت منك كذا، أو يضع كل منهما مالاً بشرط أن السابق أيهما كان يأخذهما، فهو غير جائز لأنه من صور القمار والميسر المنهيّ عنه، وفيه تعليق التمليك بالخطر، فأما إذا كان المال من أحدهما بأن يقول: إن سبقتني فلك كذا، وإن سبقناك فلا شيء لنا، أو كان المال من اثنين لثالث، بأن يقولا إن سبقتَنا فالمالان لك، وإن سبقناك فلا شيء عليك، فهو جائز، وإنما جازت المسابقة في غير صورة القمار لاشتماله على التحريض لا سيما في آلات الحرب كالفرس والسهم وغير ذلك، والمراد بالجواز في صورة الجواز حلّ أخذ المال لا الاستحقاق، فإنه لا يستحق بالشرط شيءٌ لعدم العقد والقبض، صرحّ به في "الفتاوي البزازية"، وهكذا الحال في المسابقة بالأقدام، والشرط في المسائل، قال في "الذخيرة": لم يذكر محمد في "الكتاب" المخاطرة في الاستباق بالأقدام، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 مِنْهُمَا سَبَقاً (1) ، فَإِنْ سَبَقَ أحدُهما أَخَذَ السَّبقَينْ (2) جَمِيعًا، فَيَكُونُ هَذَا كَالْمُبَايَعَةِ (3) ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ السَّبق مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ كَانُوا (4) ثَلاثَةً والسَّبق مِنِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَالثَّالِثُ لَيْسَ مِنْهُ سَبْقٌ، إِنْ سَبَق (5) أخَذَ (6) وَإِنْ لَمْ يسبقْ لَمْ يَغْرَمْه (7) ، فَهَذَا لا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا. وَهُوَ   ولا شك أن المال إذا كان مشروطاً من الجانبين لا يجوز، وإن كان كان من جانب واحد يجوز لحديث الزهري: كانت المسابقة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيل، والركاب، والأرجل. ولأن الغزاة يحتاجون إلى رياضة أنفسهم كما يحتاجون إلى رياضة الدوابّ. وحُكي عن الشيخ الإِمام أبي بكر محمد بن الفضل: أنه إذا وقع الخلاف في المتفقِّهَيْن في مسألةٍ فأرادا الرجوع إلى الأستاذ وشرط أحدهما لصاحبه أنه إن كان الجواب كما قلت أعطيتك كذا، وإن كان الجواب كما قلت فلا آخذ منك شيئاً ينبغي أن يجوز وإن كان من الجانبين لا يجوز. (1) أي مالاً للغالب (السبق - بفتحتين - ما يجعل من المال رهناً على المسابقة، وهو الذي يسمى جُعْلاً، بضم الجيم وسكون العين، ويشترط عند المالكية أن يكون مما يصح بيعه، كذا في الأوجز 8/397) . (2) سَبَق نفسه وسَبَق غيره. (3) أي كالقمار. (4) أي المتسابقون. (5) أي الثالث. (6) أي ذلك المال. (7) أي لم يضمن لغيره شيئاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 المحلِّل (1) . الَّذِي قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ. 860 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِنَّ القَصْواءَ (2) نَاقَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَسْبق (3) كُلَّمَا وَقَعَتْ فِي سَبَاق (4) ، فَوَقَعَتْ (5) يَوْمًا فِي إِبِلٍ، فسُبقت (6) ، فَكَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ (7) كَآبَةٌ (8) أَنْ سُبِقَتْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الناس (9) إذا   (1) أي الثالث. (2) قوله: إن القصواء، بالفتح هي الناقة المقطوعة الأذن في الأصل، والعضباء في الأصل مشقوقة الأذن، وكان لرسول الله ناقة تسمّى بهذين الاسمين، وكان ذلك لقباً لها، ولم تكن مشقوقة الأذن ولا مقطوعتها، كذا في "فتح الباري" وغيره. (3) أي على غيرها من النُّوق. (4) أي مسابقة. (5) قوله: فوقعت، في رواية البخاري عن أنس: كالنبي صلى الله عليه وسلم ناقةٌ تسمَّى العضباء لا تُسْبَق، فجاء أعرابي على قَعُوْدٍ - وهو بالفتح: ما استحق للركوب من الإِبل - فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقال: حقٌّ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وَضَعَه. (6) أي صارت مسبوقة. (7) في نسخة: المؤمنين. (8) بمدّ الألف أي حزن وملال بسبب أن صارت الناقة النبوية مسبوقة. (9) قوله: إن النَّاسَ، قال القاري: يشير إلى مفهوم قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) ومفهوم الحديث أنهم إذا خفضوا أو أرادوا خفض شيء رفعه الله نقضاً عليهم وتنبيهاً لهم أنه هو الرافع الخافض لا رافعَ لما خفضه، ولا خافض لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 رَفَعُوا (1) شَيْئًا، أَوْ أَرَادُوا رَفْعَ شَيْءٍ وَضَعَه اللَّهُ (2) . قال محمد: وبهذا نأخُذُ. لا بأس (3) بالسَّبْقِ في النَصْل والحافر والخُفِّ.   رفعه، وأنهم لو اجتمعوا على شيء لم يقدِّره الله لم يقدروا عليه، ولم يصلوا إليه، وإن كان من جملتهم الأنبياء والأولياء. (1) أي في زعمهم. (2) أي خَفَضَه وأظهر فيه نقضاً. (3) قوله: لا بأس بالسبق، بالفتح والسكون: مصدر، أي المسابقة في النَصْل هو بالفتح، حديدة السهم أي في المسابقة في السهام. والحافر، أي حافر الخيل والبغال والحمير. والخُفّ، أي خفُّ الإِبل. وقد ورد: "لا سبق إلا في نَصْل أو خف أو حافر" أخرجه الترمذي وحسّنه وابن حبان وصححه عن ابي هريرة مرفوعاً. وبه قَصَر مالك والشافعي جواز المسابقة بهذه الأشياء، وخصّه بعض العلماء بالخيل. وأجازه عطاء في كل شيء قاله الزرقاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 أَبْوَابُ السِّيَر (1) 861 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ (2) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا ظَهَرَ الغُلول (3) فِي قَوْمٍ قَطُّ إلاَّ أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعْب (4) ، ولا فشا (5) الزنى في قوم قطّ إلاَّ كَثُر فيهم (6)   (1) قوله: أنه بلغه عن ابن عباس، هذا موقوف في حكم المرفوع لأنه مما لا يُدرك بالرأي، وقد أخرجه ابن عبد البَرّ، عن ابن عباس موصولاً، وفي سنن ابن ماجه، نحوه مرفوعاً من حديث ابن عباس. (2) قوله: أنه بلغه عن ابن عباس، هذا موقوف في حكم المرفوع لأنه مما لا يُدرك بالرأي، وقد أخرجه ابن عبد البَرّ، عن ابن عباس موصولاً، وفي سنن ابن ماجه، نحوه مرفوعاً من حديث ابن عباس. (3) بالضم وهو السرقة من الغنيمة قبل القِسْمة. (4) بالضم أي الخوف من العدوّ والجبن. (5) أي كَثُر. (6) كما في قصص بني إسرائيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 الْمَوْتُ، وَلا نَقَصَ قومٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إلاَّ قُطِع (1) عَلَيْهِمُ الرزقُ، وَلا حَكَم قومٌ بِغَيْرِ الحقِّ إلاَّ فَشَا فِيهِمُ الدمُ (2) ، وَلا خَتَرَ (3) قَوْمٌ بِالْعَهْدِ إلاَّ سُلِّط (4) عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ. 862 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا نافع، عن ابن عمر: أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ (5) سرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فغَنِموا إِبِلا كَثِيرَةً، فَكَانَ سُهمانُهم اثنَيْ عَشَر بَعِيرًا، ونُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا.   (1) أي قُطع بركته عنهم أو نقصه. (2) أي ظهر فيهم القتال وسَيْل الدماء. (3) أي غَدَر وخالف العهد. (4) جزاءً بما كسبوه. (5) قوله: بعث سَريّة، بفتح السين وتشديد الياء بعد الراء المكسورة، قطعة من الجيش تبلغ أربع مائة ونحوها، سُمِّيت بها لأنَّها تسير في الليل ويخفى ذهابها فهي فاعلة بمعنى مفعولة، قاله السيوطي، وذلك في شعبان سنة ثمان قبل فتح مكة، قاله ابن سعد. وذكر غيره أنها كانت في الجمادى الأولى، وقيل: في رمضان، وكان أميرها أبو قتادة، وكانوا خمسة عشر رجلاً. قِبَل، بكسر القاف وفتح الباء أي جهة نجد، وأمرهم أن يَشُنُّوا الغارة، فقاتلوا فغنموا إبلاً كثيرة، وعند مسلم: فأصبنا إبلاً وغنماً، وذكر بعض أهل السِّيَر أنها مائتا بعير، وألفا شاةٍ، فكان سُهمانهم، بضم السين جمع سهم أي نصيب كل واحد اثني عشر بعيراً، وفي "موطأ يحيى": أو أحد عشر بعيراً بالشك، ونُفِّلوا بضم النون مبنيّ للمفعول، أي أُعْطِي كلٌّ واحد منهم زيادةً على السهم المستحق بعيراً بعيراً، يقال: نَفَّل الإِمام الغازي، إذا أعطاه زائداً على سهمه، ونَفَله نفلاً بالتخفيف، ونَفَّله تنفيلاً مشدَّداً، لغتان فصيحتان، والنَّفَل بفتحتين الغنيمة، وجمعه أنفال، كذا ذكره الزرقاني والعيني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 قَالَ مُحَمَّدٌ: كَانَ النَّفل لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَفِّل مِنَ الخُمُس أهلَ الْحَاجَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (1) : (قُل الأنفالُ للَّهِ والرسولِ) ، فأما اليوم   (1) قوله: وقد قال الله تعالى، ذكر أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في باب الغنيمة حين تشاجروا يوم بدر في تقسيمها، فالمعنى (قل الأنفال) أي الغنائم (للَّهِ والرسول) فقسمها بينهم رسول الله على السوية، يعني حكم الغنائم لله والرسول، ونزل بعد (واعلموا أنَّ ما غنمتم من شيء فإنَّ لله خُمُسَه وللرسول ولذي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) . واتفقوا على أنَّ ذكر الله وقع للتبرُّك، وذهب الحنفية إلى سقوط سهم ذوي القربى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا قالوا: أنْ لا سهم للرسول بعده، فعندهم يقسم خُمس الغنيمة على المحاويج من اليتامى وابن السبيل والمساكين، وعند طائفة من العلماء: سهمُ الرسول باقٍ يصرفه الخليفة حسبما رآه، وما بقي بعد الخُمُس يقسم على الغزاة حسب حصصهم المقرَّرة شرعاً. وذهب بعض المفسِّرين إلى أن المراد من الآية كونُ الغنائم كلِّها لله ولرسوله يصرفها إلى من يشاء ما يشاء، وقالوا: صار هذا الحكم منسوخاً بورود المصارف، ولذا أسهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر بعض من لم يحضر غزوته. وقال بعضهم: المراد بالأنفال هو الزيادات على سهم الغنيمة، وإنَّ المعنى الزيادات حكمها لله وللرسول يعطيها من يشاء لا استحقاق لهم فيها. والروايات في كل ما ذكرنا مبسوطة في " الدر المنثور" وغيره، وذَكَر أصحابنا في كتبهم أن للإِمام أن ينفِّل حالة القتال فيقول: من قتل قتيلاً فله سَلَبه، أو يقول للسريَّة: قد جعلت لكم الربع بعد الخُمس لأنه نوع تحريض على الجهاد ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام إلا من الخمس لأنه لا حق للغانمين فيها فله الخيار فيه، وما سواه تعلّق فيه حقهم على السواء، فلا يبطل حقهم. إذا عرفتَ هذا كلَّه، فاعلم أنه لا يخلو إمّا أن يكون المراد بالنَّفَل في قول صاحب الكتاب: (كان النفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم) : الغنيمة، كما اختاره القاري، فهو بفتحتين، وحينئذٍ يكون المعنى: كانت الغنيمة للرسول خاصة، يصرفها إلى من يشاء ويعطي من يشاء ما يشاء، ويكون الآية سنداً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 فَلا نَفَلَ بَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ إلاَّ مِنَ الخُمُس لِمُحْتَاجٍ. 1 - بَابُ الرَّجُلِ يُعْطِي (1) الشَّيْءَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ 863 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ سُئِل عَنْ رَجُلٍ يُعطي الشَّيْءَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (2) ، قَالَ: فَإِذَا بَلَغَ (3) رأسَ مَغزاته (4) فَهو لَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا بَلَغَ وَادِيَ القُرى فَهو لَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَائِنَا: إِذَا دَفَعَهُ (5) إِلَيْهِ صَاحِبُهُ فَهُوَ لَهُ.   عليه على أحد الأقوال الواردة فيه. وحينئذٍ يكون قوله: يُنفِّل من الخمس أي خمس الغنيمة الذي هو مصروف إلى الإمام. أهل الحاجة، بياناً للتنفيل الزائد، لكن لا يرتبط حنيئذٍ قوله: فأما اليوم، أي بعد العصر النبوي فلا نَفْل بالفتح فالسكون أي لا زيادة على السهام بعد إحراز الغنيمة بدار الإِسلام إلاَّ من الخمس لمحتاج لا لغنيّ لأنه خارج عن مصرفه بما قبله ارتباطاً مناسباً. وإمّا أن يكون المراد بالنفل في قوله: (كان النفل) الزيادة، فحينئذٍ يكون المعنى كان إعطاء الزيادة موكولاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له الاختيار في أن ينفل بعد الإِحراز أو قبله بعد رفع الخمس أو قبله، فأما اليوم فلا نفل بعد الإِحراز إلاَّ من الخمس. وحينئذٍ يكون الآية سنداً على تأويله الآخر، ويكون قوله: (ينفّل من الخمس أهلَ الحاجة) بياناً للتنفيل من الخمس. فليحرر هذا المقام. (1) في سبيل الله: أي في طريق الغزو. (2) في سبيل الله: أي في طريق الغزو. (3) أي المعطى له. (4) قوله: رأس مَغْزاته، بفتح الميم وسكون الغين المعجمة، موضع الغزو، ومحل العدوّ فهو له، أي للمعطى له أي يملكه، وفي "موطأ يحيى" وشرحه: مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا أعطى شيئاً في سبيل الله يقول لصاحبه: إذا بلغتَ وادي القُرَى - بضم القاف وفتح الراء مقصورة: موضع بقرب المدينة، لأنه رأس المغزاة، فمنه يدخل إلى أول الشام - فشأنك به. يعني أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 2 - بَابُ إِثْمِ الْخَوَارِجِ (1) وَمَا فِي لُزُومِ الْجَمَاعَةِ (2) مِنَ الْفَضْلِ 864 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمة بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْري يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَخْرُجُ فِيكُمْ (3) قَوْمٌ تُحقِّرُون (4)   ملَّكه له، وإنما قال ذلك خيفةَ أن يرجع المعطي فتتلف العطية ولم يبلغ صاحبه مراده فيها، فإذا بلغ الوادي كان أغلب أحواله أن لا يرجع حتى يغزو. (5) أي دفعه المعطي إلى المعطى له أو قبضه فهو له، كما في سائر الهِبَات والعطيّات (أوجز المسالك 8/244) . (1) يخرج فيكم: أي في ما بينكم أيها الأمة. (2) قوله: تُحَقِّرُوْن، من التحقير. صلاتكم مع صلاتهم وأعمالكم مع أعمالهم، أي تظنون عباداتكم حقيرة قليلة بالنسبة إلى عباداتكم لكمال جهدهم في تحسين الأعمال الظاهرة، واهتمامهم في أدائها وإتيان آدابها من غير مبالاة بفساد الأعمال الباطنة والأمور القلبية وخبثها. يقرؤون القرآن لا يجاوز، أي القرآن أو ثواب جميع أعمالهم. حَنَاجِرهم، بفتح الأوَّلين وكسر الرابع، جمع الحَنْجرة، بفتح الأول وسكون الثاني، بمعنى الحلقوم، يعني أنَّ الله لا يرفعها ولا يقبلها فكأنها لا تجاوز حناجرهم، وقيل: إنهم يقرءون القرآن مع غير علم بما فيه ولا عمل بما فيه فلا يحصل لهم إلاَّ مجرد القراءة ولا يترتَّب عليها آثارها. (3) يخرج فيكم: أي في ما بينكم أيها الأمة. (4) قوله: تُحَقِّرُوْن، من التحقير. صلاتكم مع صلاتهم وأعمالكم مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 صلاتَكم مع صلاتهم، وأعمالَكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآنَ لا يجاوزُ حَنَاجِرَهم، يمرُقون (1) مِنَ الدِّين مروقَ السَّهم مِنَ الرمَّية، تَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلا تَرَى شَيْئًا، تَنْظُرُ فِي القِدْح فَلا تَرَى شَيْئًا، تَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلا تَرَى شيئاً، وتَتَمارى في الفُوق.   أعمالهم، أي تظنون عباداتكم حقيرة قليلة بالنسبة إلى عباداتكم لكمال جهدهم في تحسين الأعمال الظاهرة، واهتمامهم في أدائها وإتيان آدابها من غير مبالاة بفساد الأعمال الباطنة والأمور القلبية وخبثها. يقرؤون القرآن لا يجاوز، أي القرآن أو ثواب جميع أعمالهم. حَنَاجِرهم، بفتح الأوَّلين وكسر الرابع، جمع الحَنْجرة، بفتح الأول وسكون الثاني، بمعنى الحلقوم، يعني أنَّ الله لا يرفعها ولا يقبلها فكأنها لا تجاوز حناجرهم، وقيل: إنهم يقرءون القرآن مع غير علم بما فيه ولا عمل بما فيه فلا يحصل لهم إلاَّ مجرد القراءة ولا يترتَّب عليها آثارها. (1) قوله: يمرقون، بضم الراء أي يخرجون من الدين، أي طاعة الإِمام أو دين الإِسلام. مُروُق، بضمتين أي كخروج السهم من الرميَّة، بفتح الراء وكسر الميم وشدِّ الياء، أي الصيد المرمي إليه السهم. تنظر، أنت أيها الرامي، أو ينظر بالغائب. في النصل، بالفتح هو الحديدة التي على رأس السهم. فلا ترى، عليه شيئاً من آثار الدم. تنظر في القِدْح، بكسر القاف أي أصل السهم فلا ترى عليه شيئاً. تنتظر في الريش، أي ريش السهم المركب عليه، فلا ترى شيئاً. وتتمارى، أي تشكك (هكذا في الأصل والظاهر تشك) في الفُوق بالضم موضع الوتر من السهم، هل فيه شيء من أثر الدم، والحاصل أنه ليس لهم من قبول العبادات وقراءة القرآن نصيب، كذا في "شرح القاري" وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ. لا خَيْرَ فِي الْخُرُوجِ (1) ، وَلا يَنْبَغِي إلاَّ لُزُومُ الْجَمَاعَةِ. 865 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا (2) السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا. قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ حَمَلَ السِّلاحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَاعْتَرَضَهُمْ بِهِ لِقَتْلِهِمْ (3) ، فَمَنْ قَتَلَهُ (4) فَلا شَيْءَ (5) عَلَيْهِ، لأَنَّهُ (6) أحلَّ دمَه بِاعْتِرَاضِ (7) الناسِ بِسَيْفِهِ. 866 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ   (1) أي عن طاعة الإِمام وموافقة أهل الإِسلام ومتابعة السلف الكرام (قد بسط الحافظ الكلام على الخوارج وعلى بَدْء خروجهم أشدّ البسط في "فتح الباري" 12/298) . (2) قوله: من حمل علينا، أي على أهل الإِسلام إفساداً وعناداً. السلاح، بالكسر أي آلات الحرب. فليس منا، أي من أهل طريقنا. والحديث مخرَّج في الصحيحين والسنن. (3) أي لقتل المسلمين. (4) أي ذلك الحامل لدفع فساده وبقاء نفسه وأصحابه. (5) أي من الدية والقصاص. (6) أي مَنْ حَمَل السيف وقَصَد الفساد في الأرض. (7) في نسخة: باعتراضه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ (1) : أَلا (2) أُخْبِرُكُمْ أَوْ أُحَدِّثُكم أَوْ (3) أُحَدِّثُكم بخيرٍ مِنْ كَثِيرٍ (4) مِنَ الصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى (5) ، قَالَ: إصلاحُ ذاتِ البين (6) ، وإياكم والبِغْضَةَ (7) فإنما هي الحالقة (8) .   (1) قوله: يقول ألا أخبركم، هذا موقوف على سعيد عند جميع رواة "الموطأ" إلاَّ إسحاق بن بشر، وهو ضعيف فإنه رواه عن مالك، عن يحيى، عن سعيد، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه الدارقطني، عن يحيى، عن سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرسلاً. وأخرجه البزار من طريق أم الدرداء، عن أبي الدرداء مرفوعاً. وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث أبي الدرداء مرفوعاً، كذا ذكره ابن عبد البر وغيره. (2) حرف تنبيه. (3) شك من الراوي. (4) أي بأكثر ثواباً من كثير من العبادات النافلة. (5) أي أخبرنا. (6) قوله: إصلاح ذات البين، أي إصلاح الحال التي بين الناس، وأنها خير من نوافل الصلاة وما ذُكر معها، قاله الباجي. وقال غيره: أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحة وأُلفة، أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين الناس لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية. وفي "المُغرب" قولهم: إصلاح ذات البين أي الأحوال التي بينهم، وإصلاحها بالتعهُّد والتفقُّد، ولمّا كانت ملابِسَةً للبين وُصفت به فقيل ذات البين. (7) بكسر الباء وسكون الغين تأنيث: شدَّة البغض. (8) قوله: فإنما هي الحالقة، في رواية يحيى: فإنها هي الحالقة أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تُهلك، وتستأصل الدين كما يحلق الموسى الشعر. قال الباجي: أي أنها لا تُبقي شيئاً من الحسنات حتى تذهب بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 3 - بَابُ قَتْلِ النِّسَاءِ (1) 867 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عن ابن عمر: أنَّ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ (2) امْرَأَةً مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي أَنْ يُقتلَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَغَازِي امرأةٌ وَلا شيخٌ (3) فانٍ، إلاَّ أنْ تُقاتِلَ المرأة فتُقتل.   (1) قوله: رأى في بعض مغازيه، أي غزوة فتح مكة كما في "أوسط الطبراني" من حديث ابن عمر. والحديث مخرَّج في الصحيحين والسنن - إلاَّ سنن ابن ماجه - ومسند أحمد وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وفي بعض رواياتهم: رأى امرأة مقتولة فقال: ها ما كانت هذه تقاتل فلِمَ قتلت؟ وبهذا الحديث أجمع العلماء على عدم جواز قَتْل النساء والصبيان لضعفهن عن القتل، وقُصٌورهم عن الكفر، وفي استبقائهم منفعة بالاسترقاق أو الفداء. وحكى الحازمي قولاً لبعض العلماء بجواز ذلك على ظاهر حديث الصعب بن جثامة عند الأئمة الستة: سئل رسولُ الله عن أهل الدار يبيِّتون من المشركين فيُصاب من نسائهم وذراريهم؟ قال: هم منهم. وأشار أبو داود إلى نسخ حديث الصعب بأحاديث الني، كذا في "فتح الباري" وغيره من شروح صحيح البخاري. (2) قوله: رأى في بعض مغازيه، أي غزوة فتح مكة كما في "أوسط الطبراني" من حديث ابن عمر. والحديث مخرَّج في الصحيحين والسنن - إلاَّ سنن ابن ماجه - ومسند أحمد وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وفي بعض رواياتهم: رأى امرأة مقتولة فقال: ها ما كانت هذه تقاتل فلِمَ قتلت؟ وبهذا الحديث أجمع العلماء على عدم جواز قَتْل النساء والصبيان لضعفهن عن القتل، وقُصٌورهم عن الكفر، وفي استبقائهم منفعة بالاسترقاق أو الفداء. وحكى الحازمي قولاً لبعض العلماء بجواز ذلك على ظاهر حديث الصعب بن جثامة عند الأئمة الستة: سئل رسولُ الله عن أهل الدار يبيِّتون من المشركين فيُصاب من نسائهم وذراريهم؟ قال: هم منهم. وأشار أبو داود إلى نسخ حديث الصعب بأحاديث الني، كذا في "فتح الباري" وغيره من شروح صحيح البخاري. (3) قوله: ولا شيخ فان، أي من كِبَر سِنّه وخرف عقله، وأما إن كان كاملَ العقل ذا رأي في الحرب فيُقتل، وهو المراد من حديث: "اقتلوا شيوخ المشركين"، وعند الشافعي: يُقتل الشيخ مطلقاً، وفي رواية: قوله كقولنا، وبه قال مالك، كذا لا يُقتل عندنا المُقْعَد والأعمى والزَّمِن ومقطوع الأيدي والأرجل إلاَّ إذا كانوا ذوي رأي. والمرأة إذا كانت مقاتِلة أو مَلِكة ذات رأي ومشورة في الحرب تُقتل دفعاً للفساد وإلاَّ لا، كذا قال العيني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 4 - بَابُ الْمُرْتَدِّ (1) 868 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ (2) بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عبدٍ القاريٌّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قِبَل (3) أَبِي مُوسَى، فَسَأَلَهُ (4) عَنِ النَّاسِ، فَأَخْبَرَهُ ثُمّ قَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ مُغْرِبَةِ (5) خَبَرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ كفر بعد إسلامه، فقال:   (1) قوله: عبد الرحمن (بسط شيخنا الكلام عليه في الأوجز 12/179، وقال: وما ذكره صاحب "التعليق الممجد" من ترجمته التبس عليه من ترجمة أخي جَدّه، فإنَّ عامل عمر المتوفّي سنة 88 هـ هو عبد الرحمن القاري، وولادة الإِمام مالك بعد وفاته، فكيف يروي عنه، بل عبد الله بن عبدٍ القاريّ أخو عبد الرحمن، وعبد الرحمن هذا كان عامل عمر رضي الله عنه، وجَدّ يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، أخرج له مالك في الموطأ، وكذلك عبد الرحمن بن محمد هو الذي روى عنه مالك في هذا الحديث) بن محمد بن عبد القاريّ، هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد كما في "موطأ يحيى" ونسبته بتشديد الياء إلى قارة بطن من العرب، وكان من أهل المدينة عامل عمر بن الخطاب على بيت المال، ثقة، روى عنه عروة، وحميد بن عبد الرحمن وابناه إبراهيم ومحمد، مات سنة 88 ثمان وثمانين، ذكره السمعاني وأبوه، قال في "التقريب": محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد - بغير إضافة - القاري بغير همز، المدني، مقبول. (2) قوله: عبد الرحمن (بسط شيخنا الكلام عليه في الأوجز 12/179، وقال: وما ذكره صاحب "التعليق الممجد" من ترجمته التبس عليه من ترجمة أخي جَدّه، فإنَّ عامل عمر المتوفّي سنة 88 هـ هو عبد الرحمن القاري، وولادة الإِمام مالك بعد وفاته، فكيف يروي عنه، بل عبد الله بن عبدٍ القاريّ أخو عبد الرحمن، وعبد الرحمن هذا كان عامل عمر رضي الله عنه، وجَدّ يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، أخرج له مالك في الموطأ، وكذلك عبد الرحمن بن محمد هو الذي روى عنه مالك في هذا الحديث) بن محمد بن عبد القاريّ، هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد كما في "موطأ يحيى" ونسبته بتشديد الياء إلى قارة بطن من العرب، وكان من أهل المدينة عامل عمر بن الخطاب على بيت المال، ثقة، روى عنه عروة، وحميد بن عبد الرحمن وابناه إبراهيم ومحمد، مات سنة 88 ثمان وثمانين، ذكره السمعاني وأبوه، قال في "التقريب": محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد - بغير إضافة - القاري بغير همز، المدني، مقبول. (3) بكسر القاف، أي من جانب أبي موسى الأشعري وجهته من اليمن. (4) أي سأل عمر عن أحوال الناس. (5) بضم الميم على صيغة الفاعل أي قصة مغربة وخبر غريب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 مَاذَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ: قرَّبناه (1) فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَهَلا (2) طَبَقْتُمْ عَلَيْهِ بَيْتًا - ثَلاثًا - وَأَطْعَمْتُمُوهُ كلَّ يومٍ رَغِيفًا، فاستبتموه لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، اللَّهم إِنِّي لَمْ آمُر، وَلَمْ أَحْضُر، وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ شَاءَ الإِمام (3) أَخَّرَ الْمُرْتَدَّ ثَلاثًا (4) إِنْ طَمِع فِي تَوْبَتِهِ، أَوْ سَأَلَهُ (5) عَنْ ذَلِكَ المرتدُّ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ الْمُرْتَدُّ (6) فَقَتَلَهُ فلا بأس بذلك.   (1) بتشديد الراء أي أحضرناه فقتلناه. (2) قوله: فهلاّ، حرف تحضيض. طبَّقتم، بتشديد الباء من التطبيق عليه، أي أغلقتم عليه بيتاً وحبستموه فيه ثلاثاً، أي ثلاث ليال وأطعمتموه كل يوم رغيفاً أي بقدر سد الرمق ليضيق عليه الأمر فيتوب، فاستبتموه أي طلبتم منه التوبة لعله يتوب من كفره، ويرجع إلى أمر الله أي دينه الإِسلام، ثم قال عمر: اللَّهم إني لم آمر ولم أحضر - أي هذه الوقعة - ولم أرض به إذ بلغني خبره فلا تؤاخذني به. والحاصل أن المرتد (قال ابن بطال: اختُلف في استتابة المرتد، فقيل: يُستتاب فإن تاب وإلاَّ قُتل وهو قول الجمهور، وقيل: يجب قتله في الحال، جاء ذلك عن الحسن وطاووس. وبه قال أهل الظاهر. فتح الباري 12/269) يُستمهل ثلاث ليال ويُستتاب، فإن تاب تاب وإلاَّ قُتل لحديث: "من بدل دينه فاقتلوه". (3) هذا أولى وأحسن. (4) هذا التحديد من قوله تعالى: (تَمَتَّعُوا في داركم ثلاثة أيام) . (5) أي طلب المرتد المهلة. (6) أي لم يستمهله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 5 - بَابُ مَا يُكره مِنْ لُبْس الْحَرِيرِ والدِّيباج (1) 869 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَى حُلّةً سِيَراء (2) تُباع عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ (3) ، فقال: يارسول اللَّهِ لَوِ اشتريتَ (4) هَذِهِ الحُلّةَ فلبستَها (5) يَوْمَ الجمعة   (1) قوله: حلة سيراء، روي بالإِضافة كما يُقال: ثوب حرير، وعن بعضهم بالتنوين على الصفة أو البدل، والحُلَّة ثوبان إزار ورداء، والسِّيَراء قال في "النهاية" بكسر السين وفتح الياء نوع من البزّ يخالطه حرير كالسيور أي الخطوط، أو شرحه بعضهم بالحرير الخالص، كذا ذكره السيوطي في "شرح سنن ابن ماجه" وغيره. (2) قوله: حلة سيراء، روي بالإِضافة كما يُقال: ثوب حرير، وعن بعضهم بالتنوين على الصفة أو البدل، والحُلَّة ثوبان إزار ورداء، والسِّيَراء قال في "النهاية" بكسر السين وفتح الياء نوع من البزّ يخالطه حرير كالسيور أي الخطوط، أو شرحه بعضهم بالحرير الخالص، كذا ذكره السيوطي في "شرح سنن ابن ماجه" وغيره. (3) قوله: عند باب المسجد، أي المسجد النبوي، وعند مسلم: رأى عمر عطارد التميمي يقيم حُلَّة في السوق وكان رجلاً يغشَى الملوك ويصيب منهم. (4) هو لمجرد التمنِّي أي لو اشتريتُه لكان أحسن. (5) قوله: فلبستَها يوم الجمعة وللوفود، وفي رواية للبخاري: فلبستَها للعيد والوفد. وللنسائي: وتجمَّلتَ بها للوفود والعرب إذا أتَوْك، وإذا خطبتَ الناس يوم عيد وغيره. والمراد بالوفود القاصدون الذين كانوا يجيئون إليه من قِبَل السلاطين وغيرهم، ودلَّ الحديث (قال الباجي: الحديث يقتضي أن يوم الجمعة شُرع فيه التجمل. وأيضاً قد شُرع التجمل للواردين والوافدين في المحافل التي تكون لغير آية مخوفة كالزلازل والكسوف وعند الحاجة إلى التضرُّع والرغبة كالاستسقاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر رضي الله عنه على ما دعا إليه من التجمّل في هذين الموطنين، وإنما أنكر عليه لُبْس هذا النوع فثبت أنَّ التجمل إنما شُرع بالجميل من المباح. المنتقى 7/229) على أنه يُستَحَبّ لُبْس أحسن الثياب في الجمعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 وَلِلْوُفُودِ (1) إِذَا قَدِموا عَلَيْكَ؟ قَالَ: إِنَّمَا يَلْبَس (2) هَذِهِ مَنْ لا خلاقَ (3) لَهُ فِي الآخِرَةِ. ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حُلَلٌ (4) فَأَعْطَى عُمَرَ مِنْهَا حُلَّة (5) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسوتَنِيْها (6) وَقَدْ قُلتَ (7) فِي حُلَّةٍ عُطَارِدٍ (8) مَا قُلْتَ؟ قَالَ: إِنِّي لم أَكْسُكَها (9)   والعيدين، وأنه يجوز التجمّل إذا عَرِيَ عن الكِبْر والاحتقار والشهرة للأحباب وأصحاب الملاقاة والمعارف ليكون أهْيَبَ وأعزَّ في نظرهم. (1) أي الوفود جمع الوافد. (2) في رواية: إنما يلبس الحرير. (3) قوله: من لا خلاقَ له، بالفتح أي لا نصيب له من نعيم الجنة، وهذا على سبيل التشديد وإلاَّ فلا بد للمؤمن من نعيم الجنة، ولُبْس الحرير فيها، ولو بعد مدة، وقيل: معناه من يلبسها في الدنيا يكون محروماً من لُبْسها في الآخرة، وإن دخل الجنة. وقد مرَّ نظير ذلك في شرب الخمر. (4) أي من جنس تلك الحُلَّة السيراء. (5) أي واحدة. (6) قوله: كسوتَنيها، أي أكسوتنيها؟ كما في بعض الروايات بهمزة الاستفهام، سأله عنه لما حصل له التعجُّب من إعطائه إياه مع تحريمه سابقاً. (7) أي والحال أنَّك قلت في مثلها ما قلت. (8) قوله: في حلَّة عُطارِد، بضم العين وكسر الراء، ابن حاجب بن زرارة بن عدي التميمي الدارمي. وفد في بني تميم وأسلم وحسن إسلامه، وله صحبة وهو صاحب الحُلَّة السِّيَراء، كذا في "الإِصابة" وغيره. (9) أي لم أُعطها لِلبسك بل للانتفاع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 لتَلْبِسها (1) فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مِنْ أمِّه (2) مُشْرِكًا بِمَكَّةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ وَالذَّهَبَ، كُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِلذُّكُورِ مِنَ الصِّغَارِ (3) وَالْكِبَارِ، وَلا بأسَ به للإِناثَ لولا بَأْسَ بِهِ (4) أَيْضًا بالهديَّة إِلَى الْمُشْرِكِ الْمُحَارِبِ، مَا لَمْ يُهْدَ إِلَيْهِ سلاحٌ (5) أَوْ دِرْعٌ. هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 6 - بَابُ مَا يُكره (6) مِنَ التختُّم بِالذَّهَبِ 870 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا عبد الله بن دينار، عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتَماً (7) مِنْ ذَهَبٍ، فَقَامَ (8) رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) قوله: لتَلْبَسَها، فيه دليل على جواز هبة ما يَحْرُم لُبْسه، وجواز بيعه وشرائه لعدم انحصاره في اللبس. (2) قوله: أخاً له من أمه، سماه ابن الحذّاء: عثمان بن حكيم، ونقله ابن بشكوال، قال الدمياطي: هو السلمي أخو خولة بنت حكيم بن أمية وهو أخو زيد بن الخطاب لأمه فمن أطلق أنه أخو عمر لأمه لم يصب، وقيل: يحتمل أن عمر رضع من أم أخيه فيكون أخاً له لأمه رضاعاً، كذا في "شروح صحيح البخاري". (3) قوله: من الصغار، الكراهة في حقهم للأولياء فلا يجوز لهم أن يُلْبِسوهم لباساً محرَّماً لئلا يعتادوه. (4) في بعض النسخ: ولا بأس بالهديَّة أيضاً. (5) أي آلات الحرب أو درع الحديد فإن في هديته إليه إعانة له على فساد. (6) خاتَما: بفتح التاء ما يُخْتَم به. (7) خاتَما: بفتح التاء ما يُخْتَم به. (8) أي خطيباً على المنبر كما في روايةٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 فَقَالَ: إِنِّي كنتُ (1) أَلْبَس هَذَا الْخَاتَمَ، فَنَبَذَهُ (2) ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَلْبَسُه أَبَدًا (3) ، قَالَ: فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يتختَّم بِذَهَبٍ وَلا حَدِيدٍ وَلا صُفْر (5) وَلا يَتَخَتَّمُ (6) إلاَّ بالفضَّة. فَأَمَّا النساء فلا بأس بتختُّم الذهب لهُنَّ (7) .   (1) أي كونه مباحاً قبل ذلك. (2) أي طرحه وألقاه (إن الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو خاتم الذهب. قال الباجي: وروى ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق ثم نبذه ونبذ الناس. وهذا وهم والله أعلم بالصواب. المنتقى 7/254) . (3) قوله: والله لا ألبسه أبداً، أي لتحريمه، زاد في رواية الصحيحين: ثم اتخذ خاتماً من فضَّة فاتخذ الناس خواتيم الفضَّة، قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعده صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان وقع منه في بئر أريس. (4) أي من ذهب، كما في شمائل الترمذي. (5) قوله: ولا صُفْر، قال القاري: بضم فسكون هو النحاس، وقيل: أجوده، لما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن بُرَيْدة، عن أبيه: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من حديد، فقال: ما لي أراك عليكَ حلية أهل النار؟ ثم جاءه وعليه خاتم من شَبه (بفتح المعجمة والموحدة، ضرب من النحاس يُشبه الذهب. بذل المجهود 17/112) ، فقال: ما لي أجد عليك ريح الأصنام؟ فقال: يا رسول الله من أي شيء أتخذه؟ قال: من ورقٍ ولا تُتِمَّه مثقالاً. (6) حصر إضافي لا حقيقي فإنه يجوز بالعقيق وغيره. (7) لِحِلَّة الذهب لهن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 7 - بَابُ الرَّجُلِ يُمرّ عَلَى مَاشِيَةِ (1) الرَّجُلِ فيحتلبُها (2) بِغَيْرِ إِذْنِهِ 871 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يحتلبَنَّ أحدُكم مَاشِيَةَ امْرِئٍ (3) بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أيُحِبّ أحدُكم أَنْ تُؤتى مُشْرَبته فتُكسَر خزِانتُه فَيَنْتَقِلَ (4) طَعَامُهُ؟ فَإِنَّمَا تَخْزُن لَهُمْ ضُروعُ مَوَاشِيهِمْ أطعمتَهم، فَلا يحلَبَنَّ (5) أحدٌ مَاشِيَةَ امرئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ. لا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ مرَّ عَلَى مَاشِيَةِ رجل أن   (1) قوله: ماشية امرئ، أي دوابّ رجل: من البقر والغنم والإِبل وغيرها. بغير إذنه، أي صراحةً أو دلالةً. أيحبُّ، بهمزة الاستفهام بمعنى الإِنكار. أحدكم أن تؤتى، أي يأتي آتٍ. مُشْربته، بضم الميم وفتح الراء، الغرفة أي البيت الفوقاني الذي يوضع الطعام فيه. فتُكْسَر، بالمجهول. خِزانته، بكسر الخاء، ولا تُفتَح الخزانة كما لا تكسر القصعة. فينتقل طعامه، أي المجموع في الغرفة، أي فكما لا يحب أحدكم ذلك بل يحزن به، فكذلك ينبغي أن لا يحلب ماشية غيره بغير إذنه. فإنما تخزُن، بضم الزاء أي تحفظ لهم أي ملاك المواشي. ضُروع، بالضم جمع ضرع: الثدي الذي فيه اللبن. مواشيهم أطعمتَهم، مفعول تخْزُن. والمراد بالأطعمة الأشربة على سبيل التمثيل والتوسيع فالضروع كالخِزانة في الغرفة لا يجوز كسرها وأخذ ما فيها. (2) في نسخة: فينقل. (3) قوله: ماشية امرئ، أي دوابّ رجل: من البقر والغنم والإِبل وغيرها. بغير إذنه، أي صراحةً أو دلالةً. أيحبُّ، بهمزة الاستفهام بمعنى الإِنكار. أحدكم أن تؤتى، أي يأتي آتٍ. مُشْربته، بضم الميم وفتح الراء، الغرفة أي البيت الفوقاني الذي يوضع الطعام فيه. فتُكْسَر، بالمجهول. خِزانته، بكسر الخاء، ولا تُفتَح الخزانة كما لا تكسر القصعة. فينتقل طعامه، أي المجموع في الغرفة، أي فكما لا يحب أحدكم ذلك بل يحزن به، فكذلك ينبغي أن لا يحلب ماشية غيره بغير إذنه. فإنما تخزُن، بضم الزاء أي تحفظ لهم أي ملاك المواشي. ضُروع، بالضم جمع ضرع: الثدي الذي فيه اللبن. مواشيهم أطعمتَهم، مفعول تخْزُن. والمراد بالأطعمة الأشربة على سبيل التمثيل والتوسيع فالضروع كالخِزانة في الغرفة لا يجوز كسرها وأخذ ما فيها. (4) في نسخة: فينقل. (5) إعادةً للحكم بعد ضرب المثل تأكيداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 يَحْلِبَ مِنْهَا شَيْئًا (1) بِغَيْرِ أَمْرِ أَهْلِهَا (2) ، وَكَذَلِكَ إِنْ مرَّ عَلَى حَائِطٍ (3) لَهُ فِيهِ نَخْلٌ أَوْ شَجَرٌ (4) فِيهِ ثَمَرٌ فَلا يأخُذَنَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلا يأكلُه إلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِ إلاَّ أَنْ يُضْطَرْ (5) إِلَى ذَلِكَ، فَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَغْرَمُ (6) ذَلِكَ لأَهْلِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. 8 - بَابُ نُزُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَمَا يُكره مِنْ ذَلِكَ. 872 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا نافع، عن ابن عمر: أن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ (7) لِلنَّصَارَى وَالْيَهُودِ   (1) أي، ولو قلَّ. (2) أي مالكها. (3) أي بستان. (4) تعميم بعد التخصيص. (5) قوله: إلاَّ أن يضطر، فإن حالة الاضطرار تبيح المحرمات لقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عَادٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيْم) سورة البقرة: الآية 173) ، فتبيح أكل الحلال مملوك الغير بالطريق الأولى إلاَّ أنه يضمِّنه قيمته أداءً لحقه نظراً للجانبين. (6) أي يضمن قدر قيمته. (7) قوله: ضرب، أي عيّن لهم حين أراد إخراجهم من جزيرة العرب إقامة ثلاث ليال على سبيل المُهلة. يتسوقون، أي يذهبون إلى السوق، ويقضون حوائجهم فيه وغيره ثم يخرجون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 وَالْمَجُوسِ (1) بِالْمَدِينَةِ إِقَامَةَ ثَلاثِ لَيَالٍ يَتَسوَّقُون ويقضُون حَوَائِجَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ أحدٌ مِنْهُمْ يُقِيمُ (2) بَعْدَ ذَلِكَ (3) . قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَمَا حَولهما (4) مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (5) ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لا يبقى (6) دينان في جزيرة العرب. فأخرج   (1) هم عبدة النار. (2) أي في المدينة وما حولها. (3) أي بعد ثلاث ليال. (4) كجُدَّة وخيبر وغيرهما. (5) قوله: من جزيرة العرب (قال صاحب المحلى بعد حديث الباب: فلا يمكن للكافر مشركاً كان أو يهودياً أو نصرانياً من السكنى في أرض العرب، ويجب إخراجهم منه، وبه أخذ أبو حنيفة ومالك، وهو قول للشافعي غير أنه خصَّ المنع بالحجاز خاصة، ثم قال في الهداية وشرحه: إنهم لا يمكَّنون من السكنى في أرض اليمن ويمنعون أن يتخذوا أرض العرب مسكناً ووطناً بخلاف سائر الأمصار. أوجز المسالك 14/59) ، قال القاري: هي ما أحاط به بحر الهند، وبحر الشام، ثم دجلة والفرات، أو ما بين ساحل البحر إلى أطراف الشام طولاً، ومن جدة إلى ريف العراق عرضاً كذا في "القاموس". وقال الأصمعي: من أقصى عدن إلى ريف العراق طولاً، ومن جدَّة وساحل البحر إلى أطراف الشام عرضاً، قال الأزهري: سُمِّيت جزيرة، لأن بحر فارس وبحر السودان أحاط بجانبها، وأحاطها بالجانب الشمالي دجلة والفرات. (6) أي لا يجتمع (قال الزرقاني: خبر بمعنى النهي للرواية قبله: لا يبقينَّ. شرح الزرقاني 4/234) دين الإِسلام وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِهَذَا الْحَدِيثِ. 873 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَكِيمٍ (1) ، عَنْ عمر بن الْعَزِيزِ قَالَ: بَلَغَنِي (2) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يبقينَّ دِينَانِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ فَعَلَ (3) ذَلِكَ (4) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَأَخْرَجَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. 9 - بَابُ الرَّجُلِ يُقيم الرجلَ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيَجْلِسَ فِيهِ وَمَا يُكره مِنْ ذَلِكَ. 874 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقول: لا يُقيم (5) أحدُكم الرجلَ من   (1) قوله: أخبرنا إسماعيل بن حكيم، هكذا في نسخة عليها شرح القاري وغيرها، والصحيح إسماعيل بن أبي حكيم كما في "موطأ يحيى". (2) قوله: قال بلغني، هذا مرسل في "موطأ" وموصول في الصحيحين وغيرهما عن عائشة وغيرها من طرق، وفي بعضها قالت: كان من آخِرِ ما تكلَّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب. وفي رواية من حديث ابن عباس وابن عمر وغيرهما في الصحيحين وغيرهما: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب. (3) في زمان خلافته في سنة عشرين، كما ذكره السيوطي في "تاريخ الخلفاء". (4) أي ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (5) لأن فيه إضرار به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 مَجْلِسِهِ فَيَجْلِسَ فِيهِ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ. لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَصْنَعَ هَذَا بِأَخِيهِ وَيُقِيمَهُ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يَجْلِسَ فِيهِ. 10 - بَابُ الرُّقَى (2) 875 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَتْنِي عَمْرة: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهِيَ تَشْتَكِي (3) ، ويهودية تَرْقيها، فقال: ارقيها (4) بكتاب الله.   (1) قوله: فيجلس فيه، بل ينبغي أن يجلس حيث وجد خالياً وإلاَّ فحيث انتهى المجلس، ولا يقعد وسط الحلقة، فعند الطبراني والبيهقي وغيرهما مرفوعاً: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فإن وُسِّع له فليجلس، وإلاَّ فلينظر إلى أوسع مكان يراه فيجلس فيه إن شاء وإلاَّ انصرف ولا يزاحم غيره فيؤذيه. وعند الترمذي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه: ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم من قعد وسط الحلقة، وعند الشيخين من حديث ابن عمر مرفوعاً: لا يقيم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفَّسحوا وتوسَّعوا. (2) تشتكي: أي مريضة. (3) تشتكي: أي مريضة. (4) قوله: ارقيها بكتاب الله، أي بالقرآن إن رُجِيَ إسلامها أو التوراة إن كانت معرَّبة بالعربي أو أمن تغييرهم لها، فتجوز الرقية به، وبأسماء الله وصفاته، وباللسان العربي، وبما يُعرف معناه من غيره بشرط اعتقاد أن الرقية لا تؤثر بنفسها، بل بتقدير الله، قال عياض: اختلف قول مالك في رقية اليهودي والنصراني المسلم، وبالجواز قال الشافعي إذا رقوا بكتاب الله، كذا قال الزرقاني. وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بأسَ بالرُّقى بِمَا كَانَ (1) فِي الْقُرْآنِ، وَمَا (2) كَانَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ لا يُعْرَفُ مِنْ كَلامٍ فَلا يَنْبَغِي أَنْ يُرقَى بِهِ. 876 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، أن سُلَيْمَانَ بْنَ يَسار أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ (3) : أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم دخل بيت   "شرح القاري": يحتمل أن يكون أمراً بأن ترقيها بما في كتاب التوراة من أسماء الله الحسنى وصفاته العُلى مما يعرف صحته ومعناه، ويحتمل أن يكون على صيغة المتكلم أي أنا أرقيها بكتاب الله فيكون متضمناً للنهي عن رقيها. (1) قوله: بما كان في القرآن، أي بآياته وحروفه، وكذا مطلق الذكر بشرط أن يكون بلسان عربي أو غيره ويعرف معناه، وكذا يجوز أن يُكتب شيء من القرآن أو غيره على شيء ويغسل به ويسقى المريض. - ولآيات الشفاعة الواردة في القرآن - والقرآن كله شفاء - ولسورة الفاتحة في هذا الباب تأثير بليغ مجرّب، ولا يجوز أن يُكتب شيء من القرآن بالدم أو غيره من النجاسات، ومن حَكَم بجوازه فقد أتى بما يرضى به الشيطان. وأما ما كان لا يُعرف معناه بأن يكون فيه ألفاظ مجهولة المعنى غريبة المبنى فلا يجوز أن يُرقى به لاحتمال أن يكون فيه كلمة كفر أو شرك مما يتضمَّنُه رقى أكثر أرباب الرقى إلاَّ أن يكون عُرِض على النبي صلى الله عليه وسلم وأجازه، وزيادة التفصيل في هذا البحث في "مدارج النبوة" و "المواهب اللدنيَّة" وشرحه، و "الحصن الحصين" وشرحه. (2) في نسخة: بما. (3) قوله: أخبره، أي سليمان بن يسار. هذا مرسل عند جميع رواة "الموطأ" ويسند معناه من طرق ثابتة، وقد أخرجه البزار من طريق عروة، عن أم سلمة، قاله ابن عبد البر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 أُمِّ سَلَمَةَ وَفِي الْبَيْتِ صبيٌّ يَبْكِي (1) ، فَذَكَرُوا أنَّ بِهِ العينَ (2) ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَلا تستَرْقُون (3) لَهُ مِنَ الْعَيْنِ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ. لا نَرَى بِالرُّقْيَةِ بَأْسًا إِذَا كَانَتْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. 877 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيفة: أن عمر (4) بن   (1) أي بشدة وكثرة. (2) أي النظرة التي يصيب من شخص فيعجبه ويضرُّه. (3) قوله: أفلا تسترقون له من العين، هذا وأمثاله مصرَّح بجواز الرقية، وورد في الروايات المنع من الرقية، فعن ابن مسعود مرفوعاً: أن الرُّقى - جمع رقية - والتمائم - جمع تميمة، وهي ما يعلَّق في العنق أو يُشَدّ في العضد من التعويذات - والتِّوَلة - بالكسر ثم الفتح، هي شيء من أنواع السحر، أو شبيه به تفعله النساء لمحبة الأزواج -: شرك، أخرجه ابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإِسناد، وهو وأمثاله محمول على الرُقّى والتمائم على اعتقاد أنها تدفع البلاء وأن لها تأثيراً بنفسها كاعتقاد أرباب الطبائع والجهالة، وما خلا عن هذا الاعتقاد فلا بأس به، وقيل: المنهي عنه ما كان بغير لسان العرب، فلم يدرِ ما هو، فلعله قد دخل فيه سحر أو كفر فأما إذا كان معلوم المعنى، وكان فيه ذكر الله فيستحب الرُّقَى به، ويجوز تعليقه، كذا حققه الخطابي في حواشي سنن أبي داود وغيره (في المجتبى: اختُلف في الاستشفاء بالقرآن بأن يقرأ على المريض أو الملدوغ الفاتحة، أو يُكتب في ورق ويُعلَّق عليه أو في طست ويُغسل ويسقى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعوِّذ نفسه، قال: وعلى الجواز عمل الناس اليوم، وبه وردت الآثار، ولا بأس بأن يشدَّ الجنب والحائض التعاويذ على العضد إذا كانت ملفوفة. أوجز المسالك 14/373) . (4) قوله: أن عمر بن عبد الله، هكذا في نسخة عليها شرح القاري وغيره، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ السَّلَمي، أَخْبَرَهُ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعم أَخْبَرَهُ، عَنْ عُثْمَانَ (1) بْنِ أَبِي الْعَاصِ: أَنَّهُ أَتَى (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عُثْمَانُ: وَبِي وَجَع (3) حَتَّى كَادَ يُهْلِكُني قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امْسَحْهُ (4)   وفي "موطأ يحيى": عَمرو بفتح العين، وقال السيوطي في "الإِسعاف": عمرو بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي، عن نافع بن جبير، وعنه يزيد بن خصيفة، وثقه النسائي. انتهى. ونسبته السَّلَمي بفتحتين، قاله الزرقاني. (1) قوله: عن عثمان بن أبي العاص، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف ثم أمَّرَه أبو بكر وعمر، مات سنة إحدى وخمسين، ذكره في "أسد الغابة: وغيره. (2) قوله: أنه أتى، القصة مخرَّجة عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ذكره الحافظ المنذري في كتاب "الترغيب والترهيب". وفي بعضها: أتاني رسول الله وبي وَجَعٌ قد كاد يُهْلكني، وعند مسلم: أنه شكَى إلى رسول الله وجعاً يجده في جسده منذ أسلم. وعنده أيضاً زيادة: "بسم الله" قبل "أعوذ"، وزيادة "وأحاذر: بعد "أجد"، وعند الترمذي وغيره عن محمد بن سالم، قال لي ثابت البناني: إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي، ثم قل: بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من شرِّ ما أجدُ من وجعي هذا، ثم ارفع يدك ثم أعِدْ ذلك وتراً. قال أنس بن مالك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بذلك. وهذه الأدعية الواردة في هذه الروايات وأمثالها مما هو مذكور في كتب الحديث، وجمع كثيراً منها صاحب "المواهب" وغيره، من الأدوية الروحانية الإِلهية نافعة جداً، بل لا أثر للأدوية الطبعية تاماً بدونها، وقد جرَّبتُ نفعَها وأخذتُ بحظها، وقد عرض لي مراتٍ أمراض مهلكة أعجزت الأطباء فعالجت بهذه فكأني نشطت من عِقال. ولله الحمد على ذلك ومن كمل إيمانه وحَسُنَ اعتقاده، وجد مثل ما وجدته. (3) بفتحتين أي مرض شديد. (4) أي موضع الوجع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 بِيَمِينِكَ سبعَ مراتٍ (1) وَقُلْ: أَعُوذُ بعزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ، ففعلتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ (2) بِي فَلَمْ أَزَلْ بعدُ آمرُ بِهِ (3) أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ. 11 - بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْفَأْلِ وَالِاسْمِ الْحَسَنِ 878 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (4) ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَقْحَة (5) عِنْدَهُ: مَنْ يَحْلِبُ هَذِهِ النَّاقَةَ؟ فَقَامَ (6) رجلٌ فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ؟ فَقَالَ لَهُ مُرَّة (7) ، قَالَ (8) : اجْلِسْ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَحْلِبُ هَذِهِ النَّاقَةَ؟ فَقَامَ رجلٌ فقال له: ما اسمك؟ قال:   (1) لهذا العدد تأثير بليغ في الرقى. (2) أي من الوجع. (3) أي بعد هذه الوقعة. (4) وصله ابن عبد البر من طريق ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن عبد الرحمن بن جبير، عن يعيش الغفاري. (5) قوله: لِلَقحة، اللقحة بالفتح والكسر ناقة قريبة العهد بالنتاج. (6) أي ليحلبها. (7) بضم الميم وتشديد الراء. (8) قال ابن عبد البر: ليس هذا من باب الطِّيَرة، لأنه محال أن ينهى عن شيء ويفعله، وإنما هو باب طلب الفأل الحسن، وقد كان أخبر أن شرّ الأسماء حرب، ومُرَّة، فأكد ذلك حتى لا يسمِّي بهما أحد. (1) بالفتح ثم السكون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 حربٌ (1) قَالَ: اجْلِسْ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَحْلِبُ هَذِهِ النَّاقَةَ؟ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: يَعِيش (2) قَالَ: احْلِبْ. 12 - بَابُ الشُّرْبِ قَائِمًا 879 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَا لا يَرَيَان بشُرْب الإِنسان وَهُوَ قَائِمٌ بَأْسًا (3) . 880 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (4) مُخْبِرٌ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم كانوا (5) يشربون قياماً.   (2) على وزن يبيع. (3) أي شدَّة وكراهة. (4) قوله: أخبرني مخبر، في "موطأ يحيى": مالك أنَّه بلغه أن عمر إلخ، قال شارحه: بلاغ مالك صحيح كما قال ابن عيينة. (5) قوله: كانوا يشربون قياماً، ظاهره أنهم كانوا يعتادون من غير اعتقاد كراهة، وهو مفاد قول ابن عمر: كنا نشرب ونحن قيامٌ ونأكل ونحن نسعى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أخرجه أحمد في مسنده وبه تمسك مالك وغيره في أنه لا كراهة في ذلك، وأيَّدوه بما ورد من شربه صلى الله عليه وسلم قائماً من زمزم ومن فضل وضوئه، أخرجه البخاري والترمذي وغيرهما، وبحديث كبشة دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من فِي قِرْبة معلَّقة قائماً، أخرجه الترمذي، وقال قوم بكراهة الشرب قائماً ما عدا شربَ فضل الوضوء وزمزم، فإنه مستحب قائماً وأخذوا بما ورد من النهي عن الشرب قائماً، أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه ومسلم من حديث أنس، ومسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، وفي روايته: لا يشرب أحدكم قائماً فمن نسي فليستقيء، وفي رواية أحمد عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشرب قائماً فقال: قم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا نَرَى بِالشُّرْبِ (1) قَائِمًا بَأْسًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 13 - بَابُ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ (2) الفضَّة 881 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ زَيْدِ (3) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (4) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله   فقال: لِمَ؟ فقال: أيسرُّك أن يشرب معك الهرُّ؟ قال: لا، قال: قد شرب معك من هو شرٌّ منه، وهو الشيطان، ورجاله ثقات قاله الدَّميري في "حياة الحيوان"، وذهب جمع من العلماء إلى كون حديث النهي منسوخاً بحديث الجواز، وقال بعضهم بالعكس. قال النووي في "شرح صحيح مسلم": من زعم نسخاً فقد غلط غلطاً فاحشاً، وكيف يُصار إلى النسخ مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ وأنّى له ذلك. انتهى. والحق في هذا الباب على ما ذكره البيهقي والنووي والقاريّ، والسيوطي وغيرهم: أن النهي للتنزيه، والفعل لبيان الجواز (هو مختار أكثر أصحابنا حتى إن الحلبي نقل عليه الإِجماع، كذا في الأوجز 14/272) ، وذكر الطحاوي وغيره أنَّ النهي لأمر طبِّي فإن في الشرب قائماً آفاتٍ لا لأمرٍ شرعي. (1) قوله: بالشرب، أي إذا كان لحاجةٍ أو أحياناً وإلاَّ فالأَوْلى هو الشرب قاعداً، لأنه كان هَدِيَ النبي صلى الله عليه وسلم المعتاد، كما ذكره في "زاد المعاد". (2) زيد هو أكبر ولد ابن عمر على ما قيل، ولد في حياة جدِّه، وثقه ابن حبان ذكره السيوطي وغيره. (3) زيد هو أكبر ولد ابن عمر على ما قيل، ولد في حياة جدِّه، وثقه ابن حبان ذكره السيوطي وغيره. (4) قال في "التقريب" ثقة، مات بعد السبعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 عَنْهُ، عَنْ أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ (1) فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ (2) فِي بَطْنِهِ نَارَ جهنَّم. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخُذ. يُكره (3) الشربُ فِي آنِيَةِ الفضَّة وَالذَّهَبِ وَلا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا فِي الإِناء المفضَّض (4) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا.   (1) في رواية لمسلم زيادة: "ويأكل"، وفي رواية له أيضاً زيادة: والذهب. (2) قوله: إنما يُجرجر، بضم أوّله وفتح ثانيه وكسر رابعه من الجرجرة، صوت وقوع الماء في الجوف، ورواه بعض الفقهاء بالبناء للمفعول، ولا يُعرَف في الرواية، ونار جهنم مفعول الفعل بالنصب، والفاعل ضمير الشارب، أو هو فاعل بالرفع كذا ذكره السيوطي. والحديث أخرجه الشيخان والطبراني، وفي رواية في آخره: إلا أن يتوب. وفي الباب عن حفصة عند الطبراني، وابن عباس عند أبي يعلى والطبراني، وابن عمر عند الطبراني في "الصغير" و "الأوسط" ومعاوية عند أحمد، وأبي هريرة عند النسائي، والبراء عند البخاري، وعليّ عند الطبراني، وحذيفة عند أبي حنيفة وغيره، وأسانيد بعضها وإن كانت ضعيفة لكنه غير مضرّ كما بسطه "شارح المسند". وقد اتفق العلماء على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة للرجل والمرأة، قال الحافظ: ويلتحق بهما ما في معناهما مثل التطيّب والتكحُّل وسائر وجوه الاستعمال وهو قول الجمهور وشذّ من خالفه (كذا في فتح الباري 10/97) . (3) أي تحريماً. (4) قوله: في الإِناء المفضّض، قال "شارح المسند": مذهب الحنفية أنه يحلّ الشرب من الإِناء المفضّض، أي المزوّق بالفضة، والركوب على السرج المفضض، والجلوس على كرسي مفضض بحيث يتقي موضع الفضة، وكذا الإِناء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 14 - بَابُ الشُّرْبِ وَالأَكْلِ بِالْيَمِينِ (1) 882 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ (2) بْنِ عُبَيْد الله، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا أَكَلَ (3) أَحَدُكُمْ فليَأكُل بِيَمِينِهِ، وَلْيَشْرَبْ (4) بِيَمِينِهِ، فإنَّ   المضبّب بالذهب أو الفضة، أي المشدود. والذي تقرر عند الشافعي أن الضبّة إن كانت من الفضة، وهي كبيرة للزينة تحرم، وللحاجة تجوز، وتحرم ضبّة الذهب مطلقاً، ووافق مالك وإسحاق احنفية في ضبّة الفضة، والأصل في ذلك ما أخرجه البخاري عن عاصم، قال: رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضة (انظر فتح الباري 10/101) ، وأما المطلي بالذهب والفضة فلا بأس به. (1) قوله: عن أبي بكر بن عُبيد الله، بضم العين ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهذا مما اتفق عليه رواة الموطأ إلا يحيى، فقال: أبي بكر بن عبد الله بن عبد الله بن عمر، بفتح العين وهو خطأ، قاله ابن عبد البر، قال الزرقاني: أبو بكر هذا تابعي، ثقة، مات بعد الثلاثين ومائة، وأبوه عبيد الله شقيق سالم بن عبد الله. قال ابن عبد البر في رواية يحيى بن بكير: في هذه الرواية زيادة عن أبيه عن ابن عمر، ولم يتابعه أحد من أصحاب مالك، ولا ينكر أن أبا بكر يروي عن جدّه. (2) قوله: عن أبي بكر بن عُبيد الله، بضم العين ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهذا مما اتفق عليه رواة الموطأ إلا يحيى، فقال: أبي بكر بن عبد الله بن عبد الله بن عمر، بفتح العين وهو خطأ، قاله ابن عبد البر، قال الزرقاني: أبو بكر هذا تابعي، ثقة، مات بعد الثلاثين ومائة، وأبوه عبيد الله شقيق سالم بن عبد الله. قال ابن عبد البر في رواية يحيى بن بكير: في هذه الرواية زيادة عن أبيه عن ابن عمر، ولم يتابعه أحد من أصحاب مالك، ولا ينكر أن أبا بكر يروي عن جدّه. (3) أي أراد الأكل. (4) عند مسلم وأبي داود: إذا شرب فليشرب بيمينه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 الشَّيْطَانَ (1) يَأْكُلُ بشِماله وَيَشْرَبُ بشِماله. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ بِشِمَالِهِ وَلا يَشْرَبُ بِشِمَالِهِ إلاَّ مِنْ عِلَّة (2) . 15 - بَابُ الرجل يشرب ثم يُناول (3) مَنْ عَنْ يَميِيْنه 883 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِي (4) بلَبن قَدْ شِيْب بِمَاءٍ، وعن يمينه أعرابي، وعن   (على الاستحباب عند الجمهور، ويُكره تنزيهاً لا تحريماً عند الجمهور فعلهما بالشمال إلا لعذر وأخذ جمع من الحنابلة والمالكية حرمة الأكل والشرب بالشمال لأن فاعل ذلك الشيطان أو شبهه. انظر أوجز المسالك 14/251) . (1) قوله: فإن الشيطان يأكل بشماله، حمله بعضهم على المجاز بأن الشيطان يحمل أولياءه على ذلك، وردّه ابن عبد البر وغيره بأنه ليس بشيء فإنه إذا أمكنت الحقيقة بوجهٍ ما لا يجوز الحمل على المجاز، ومن نفى عن الجن والشيطان الأكل والشرب فقد وقع في إلحادٍ وضلالةٍ وقد بسط الكلام في هذا البحث القاضي بدر الدين الشلبي الدمشقي في كتابه "آكام المرجان في أحكام الجان". وهو كتاب نفيس لم يسبقه بمثله أحد. (2) أي مرض أو ضرورة. (3) قوله: أُتي، بصيغة المجهول وهو في دار أنس، بلبن حُلب من شاةٍ داجن. قد شِيب، بكسر الشين أي خُلط، ومُزج على ما كانت عادتهم بماء من البئر التي كانت في دار أنس، وقد بين ذلك كله في رواية عند البخاري، والحديث مخرّج عند الشيخين، وعند الأربعة وغيرهم، وعن يمينه أعرابي لم يسم في رواية، وزعم بعضهم أنه خالد بن الوليد وهو غلط، فإن الأعرابي كان ههنا عن يمينه، وخالد كان عن يساره في القصة التي بعده فاشتبه عليه حديث سهل في الأشياخ الذين منهم خالد مع الغلام وهو ابن عباس كما في رواية ابن أبي شيبة وغيره بحديث أنس في أبي بكر والأعرابي، وهما قصتان كما بسطه ابن عبد البر، وأيضاً لا يُقال لخالد أعرابي فإنه من أجلَّة قريش، كذا في "شرح الزرقاني". (4) قوله: أُتي، بصيغة المجهول وهو في دار أنس، بلبن حُلب من شاةٍ داجن. قد شِيب، بكسر الشين أي خُلط، ومُزج على ما كانت عادتهم بماء من البئر التي كانت في دار أنس، وقد بين ذلك كله في رواية عند البخاري، والحديث مخرّج عند الشيخين، وعند الأربعة وغيرهم، وعن يمينه أعرابي لم يسم في رواية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 يساره أبو بكر الصديق رضي الله عته، فَشَرِبَ (1) ثُمَّ أَعْطَى الأَعْرَابِيَّ، ثُمَّ قَالَ: الأَيْمَنُ (2) فَالأَيْمَنُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ. 884 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ   وزعم بعضهم أنه خالد بن الوليد وهو غلط، فإن الأعرابي كان ههنا عن يمينه، وخالد كان عن يساره في القصة التي بعده فاشتبه عليه حديث سهل في الأشياخ الذين منهم خالد مع الغلام وهو ابن عباس كما في رواية ابن أبي شيبة وغيره بحديث أنس في أبي بكر والأعرابي، وهما قصتان كما بسطه ابن عبد البر، وأيضاً لا يُقال لخالد أعرابي فإنه من أجلَّة قريش، كذا في "شرح الزرقاني". (1) قوله: فشرب، في رواية للبخاري: فقال عمر - وخاف أن يعطي الأعرابي -: أعط أبا بكر يا رسول الله فأعطى أعرابياً. (2) قوله: الأيمن فالأيمن؟، ضُبط بالنصب أي أعط الأيمن، وبالرفع على تقدير الأيمن أحق قاله الكرماني وغيره، ويؤيد الرفع قوله في بعض طرق الحديث: الأيمنون فالأيمنون، قال الزرقاني: قال أنس: هو سنّة أي تقدمة الأيمن (إن الجمهور على سنيته خلافاً لابن حزم القائل بالوجوب. أوجز المسالك 14/276) ، وإن كان مفضولاً، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم فقال: لا يجوز تقدمة غير الأيمن إلا بإذنه. وأما حديث أبي يعلى الموصلي بإسناد صحيح عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استقى قال: ابدؤوا بالكبراء، أو قال: بالأكابر، فمحمول على ما إذا لم يكن على جهة يمينه أحد، بل كانوا كلهم تلقاء وجهه مثلاً، وإنما لم يستأذن الأعرابي ههنا، واستأذن الغلام في الحديث الذي بعده استئلافاً لقلب الأعرابي وشفقةً أن يحصل في قلبه شيء يَهْلِك به لقربه بالجاهلية، ولم يجعل للغلام ذلك لأنه لقرابته وسِنِّه دون الأشياخ، فاستأذنه تأدُّباً وتعليماً بأنه لا يدفع لغير الأيمن إلا بإذنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 السَّاعِدِيِّ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتي بِشَرَابٍ (1) فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ (2) وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ (3) فَقَالَ لِلْغُلامِ: أَتَأْذَنُ لِي فِي أَنْ أُعْطِيَه (4) هَؤُلاءِ (5) ؟ فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا أُوثِرُ (6) بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ (7) : فَتَلَّه (8) رسول الله صلى الله عليه وسلم في يَدِهِ. 16 - بَابُ فَضْل إِجَابَةِ (9) الدَّعْوَةِ 885 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا دُعي (10) أحدُكم إلى وليمة (11)   (1) بالفتح أي مشروب وكان لبناً كما ورد في رواية. (2) أي صغير لم يبلغ مبلغ الرجال. (3) أي شيوخ الصحابة وكبراؤهم منهم خالد بن الوليد. (4) أي ذلك اللبن. (5) أي أشياخ الصحابة. (6) من الإِيثار أي لا أختار بحصتي من سؤرك وما أستحقه لكوني يمينَك على نفسي غيري. (7) أي الراوي. (8) بتشديد اللاَّم: أي وضعه ودفعه في يد الغلام. (9) دُعِيَ: أي طُلب. (10) دُعِيَ: أي طُلب. (11) هي طعام النكاح مشتقّ من الوَلْم بمعنى الجمع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 فليأتِها (1) . 886 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا ابْنُ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ (2) : بِئْسَ الطَّعَامُ طعامُ الْوَلِيمَةِ يُدعى لها (3) الأغنياءُ ويُترك   (1) قوله: فليأتها، وفي رواية لمسلم: إذا دعا أحدكم أخوه فليُجِيبْ عرساً كان أو غيره، وزاد في رواية: فإنْ كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليبرّك أي يدعو له بالبركة. وبظاهر هذه الروايات ذهب الظاهرية إلى وجوب إجابة الدعوة مطلقاً، وذهب بعض المالكية إلى وجوب إجابة الوليمة دون غيرها، وعند غيرهم الأمر للندب إلا أنّ الندب في الوليمة آكد (كذا في الأوجز 9/447) . (2) قوله: أنه كان يقول، قال ابن عبد البر: جُلّ رواة مالك لم يصرِّحوا برفعه، ورواه روح بن القاسم مصرِّحاً برفعه، وكذا أخرجه الدارقطني في "الغرائب" من طريق إسماعيل بن سلمة بن قعنب، عن مالك مصرِّحاً برفعه، والحديث مخرّج في صحيح البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وغيرهم بألفاظ متقاربة، منها شرّ الطعام طعام الوليمة يُدعى لها الأغنياء ويُترك الفقراء. وفي الباب عن ابن عمر عند أبي الشيخ، وعن ابن عباس عند البزار، ذكره الحافظ في "التلخيص" (وكذا في فتح الباري 9/245) . (3) قوله: يُدعى لها، أي طعام الوليمة التي شأنها أن يُدْعى لها الأغنياء ويُترك الفقراء، فالتعريف في الوليمة للعهد الخارجي، وكان من عادتهم أنهم يدعون لها الأغنياء، وجملة "يدعى لها" استئناف بيان للشربة أو هو صفة للوليمة، بجعل اللام للعهد الذهني، وعلى كل تقدير فليس فيه وفي أمثاله من الأخبار المرفوعة تقبيح طعام الوليمة مطلقاً بل طعام الوليمة الخاص، ومنهم من حمله على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 الْمَسَاكِينُ (1) ، وَمَنْ لَمْ يأتِ (2) الدعوةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ (3) ورسولَه. 887 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سمعتُه يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا (4) دَعَا رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى طعامٍ صَنَعَه (5) ، قَالَ أَنَسٌ: فذهبتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ (6) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا من شعير ومَرَقاً (7) فيه   مطلق الوليمة، وقوله "يُدعى لها" بياناً واقعياً باعتبار الغالب فاحتاج إلى حذف "مِنْ" التبعيضية، والأَوّل أَوْلى كما حقّقه الطيبي وغيره من محشِّي المشكاة. (1) قوله: ويُترك المساكين، قال النووي: بيَّن الحديث وجه كونه شرّ الطعام بأنه يُدعى له الغنيّ ويُترك المحتاج لأكله، والأَوْلى العكس وليس فيه ما يدلّ على حرمة الأكل إذ لم يقل أحد بحرمة الإِجابة، وإنما هو ترك الأولى، والقصد من الحديث الحثّ على دعوة الفقير وأن لا يقتصر على الأغنياء. (2) قوله: ومن لم يأت الدعوة، الظاهر منه مطلق الدعوة، وحمله جمع من شُرّاح الحديث على الوليمة بناءً على وجوب إجابته جمعاً بينه وبين الروايات الأخَر. (3) هذا يدل على أنه مرفوع مسند لأنه لا دخل في هذا الحكم لرأي الصحابة. (4) بتشديد الياء: الذي يخيط الثياب. قال الحافظ: لا يُعرف اسمه. (5) أي طبخه وهيّأه. (6) أي الداعي. (7) شوربا بفتحتين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 دُبَّاء (1) ، قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ (2) الدُبَّاء مِنْ حَوْلِ (3) القَصْعة (4) ، فَلَمْ أَزَلْ (5) أُحبّ الدُبَّاء مُنْذُ يَوْمِئِذٍ.   (باللغة الأردية) . (1) قوله: فيه دُبّاء، بضم الدال وشدّ الباء والمدّ، الواحدة دباءة فهمزته منقلبة عن حرف علّة أي فيه قرع، قاله الزرقاني. وعند الترمذي وغيره زيادة: وقُدَيْد أي لحم مملوح مُجَفّف في الشمس أو غيرها، قال علي القاري في شرح "شمائل الترمذي": في الحديث جواز أكل الشريف طعام مَنْ دونه من محترف وغيره وإجابة دعوته ومؤاكلة الخادم، وفيه الإِجابة إلى الطعام وإن كان قليلاً، ذكره العسقلاني، وأنه يُسَنَّ محبّة الدُّبّاء لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا كل شيء كان يحبه، ذكره النووي، وأن كسب الخيّاط ليس بِدَنِيّ. (2) بالتّاءين من التتبُّع: أي يطلب ويتجسس الدُّبّاء من أطراف القصعة. (3) قوله: من حول القَصْعة، هي بالفتح ما يأكل منها عشرة أنفس، وفي بعض نسخ "شمائل الترمذي" حول الصَّحْفة، وهي بالفتح إناء يأكل منها خمسة أنفس، وفي رواية متفق عليها حوالَيْ القصعة، وهو بفتح اللام وسكون الياء مفرد اللفظ مجموع المعنى أي من جوانبها، ولا يعارضه نهيه صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وقوله: كل مما يليك، لأنه للقذر والإِيذاء. وفيه دليل على أن الطعام إذا كان مختلفاً يجوز أن يمُدّ يده إلى ما لا يليه إذا لم يعرف من صاحبه كراهة، وكذا في "جمع الوسائل لشرح الشمائل" للقاري. (4) في نسخة: الصفحة (في نسخة: "الصفحة"، وهو خطأ) . (5) قوله: فلم أزل، وفي نسخة قال: هذا قول أنس أي فلم أزل أحبّ الدباء محبة شرعية أو زائدة على ما كان قبل من حين رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتَّبعه ويحبّه (قال القاري في جمع الوسائل: كان سبب محبته صلى الله عليه وسلم له ما فيه من إفادة زيادة العقل والرطوبة المعتدلة. أوجز المسالك 9/455) . وفي جامع الترمذي عن أبي طالوت قال: دخلت على أنس بن مالك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 888 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ (1) لأُمّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سمعتُ (2) صَوْتَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً   وهو يأكل القرع، وهو يقول: ما لَكِ شجرةً ما أُحِبُّكِ إلا لحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكِ (انظر سنن الترمذي 4/384، باب ما جاء في أكل الدُبَّاء، كتاب الأطعمة) . (1) قوله: قال أبو طلحة، هو جدّ إسحاق شيخ مالك في هذه الرواية، وزوج أمّ أنس، اسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام النجّاري الخزرجي الأنصاري شهد بيعة العقبة، وشهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتُه في الجيش خير من مائة رجل، مات سنة 31 أو سنة 34 أو سنة 51 على الاختلاف، وزوجته أم سليم بضم السين بنت مِلْحان بن خالد بن زيد بن حرام النجّارية الأنصارية، اسمها سهلة بالفتح أو رُمَيْلة مصغّراً، أو رُمَيْثة أو مُليكة مصغرين، أو الغُميضاء أو الرُّميصاء (صحابية، فاضلة، توفيت في خلافة عثمان: تقريب التهذيب 2/622) بضم أولهما، كانت تحت مالك بن أبي النضر، والد أنس في الجاهلية؟، فلما جاء الله بالإِسلام أسلمت مع قومها وعرضت الإِسلام على زوجها فغضب وهلك كافراً، فتزوّجها أبو طلحة وولدت له غلاماً مات صغيراً، وهو أبو عمير المذكور في حديث النُّغَيْر، ثم ولدت له عبد الله بن أبي طلحة فبُورك فيه، وهو والد إسحاق، وإخوته كانوا عَشَرة، كلهم أخذ عنهم العلمَ، كذا ذكره ابن عبد البَرّ في "الاستيعاب". (2) وكان ذلك في غزوة الخندق كما صرح به في رواية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 أَعْرِفُ (1) فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عندكِ مِنْ شَيْءٍ (2) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فأخْرَجَتْ أَقْرَاصًا (3) مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أخذَتْ خِمَارًا (4) لَهَا ثُمَّ لَفَّتْ الخُبزَ بِبَعْضِهِ (5) ، ثُمَّ دَسَّتْهُ (6) تَحْتَ يَدَيَّ وَرَدَّتْنِي (7) بِبَعْضِهِ؟، ثُمَّ أرسلَتْني إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذهبتُ بِهِ (8) ، فوجدتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم جالساً (9) في   (1) قوله: أعرف فيه الجوع، فيه ردّ على دعوى ابن حِبّان أنه لم يكن يجوع، وأنّ أحاديث ربط الحجر على البطن تصحيف محتجاً بقوله صلى الله عليه وسلم يُطعمني ربي ويسقيني، ورُدَّ بأن الأحاديث صحيحة فوجب الحمل على اختلاف الأحوال كما بسطه القسطَلاّني في "المواهب". (2) أي لأكله. (3) قوله: أقراصاً، جمع قٌرْص بالضم قطعة من عَجِين مقطوع منه، ويقال لقطعة الخبز، ولأحمد: عمدت أم سليم إلى نصف مُدّ من شعير فطحنته. وعند البخاري: إلى مُدّ من شعير فطحنته. ثم عملته عصيدة أي خلطته بالسَّمْن. ولمسلم: أتي أبو طلحة بمدّين من شعير فأمر فصنع طعاماً. قال الحافظ: ولا منافاة لاحتمال تعدُّد القصة أو أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر. (4) بالكسر أي القنعة التي تقنع بها المرأة رأسها. (5) أي الخمار، أي جعل الخبز ملفوفاً فيه. (6) بتشديد السين: أي أدخلته بقوة تحت إبطي. (7) أي جعلت بعض الخمار رداء عليّ حفاظة من الشمس وغيره. (8) أي بذلك الخبز. (9) قوله: جالساً في المسجد، المراد به الموضع الذي أعدّه للصلاة عند الخندق في غزوة الأحزاب لا المسجد النبوي، فإن القصة كانت خارج المدينة، كما صرح به شرّاح "صحيح البخاري". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ (1) ، فَقَالَ لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أ (2) أرسَلك أَبُو طَلْحَةَ؟ قلتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ: بِطَعَامٍ (3) ؟ فقلتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا (4) ، قَالَ: فانطلقتُ (5) بَيْنَ يَدَيْهِمْ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، فأخبرتُه (6) ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أمَّ سُليم قَدْ جَاءَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ (7) ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهم (8) ،   (1) أي وقفتُ عندهم قاصداً أن أخْلُوَ برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضر ذلك الخبز عنده. (2) بهمزة الاستفهام. (3) في رواية يحيى: "لطعام" بللام أي لأجله. (4) قوله: قوموا، ظاهره أنه فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله، وأول الكلام يقتضي أن أمَّ سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس، فيُ جمع بأنهما أرادا بإرسال الخبز أن يأخذه فيأكله. فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حوله استحيى وأظهر أنه يدعوه ليقوم وحده إلى المنزل ليحصل قصده من إطعامه. وأكثر الروايات في صحيح مسلم وغيره يقتضي أن أبا طلحة استدعاه، كذا ذكره الحافظ في "فتح الباري". (5) قوله: فانطلقت بين أيديهم، أي متقدِّماً عليهم، وفي رواية: فلما قلت له: إن أبي يدعوك، قال لأصحابه: تعالوا، ثم أخذ بيدي فشدّها، ثم أقبل بأصحابه حتى إذا دَنَوا أرسل يدي فدخلت وأنا حزين لكثرة ما جاء معه. (6) في رواية فقال أبو طلحة: يا أنس فضحتنا. (7) أي بالجماعة الكثيرة. (8) أي قدر ما يكفيهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 كَيْفَ نَصْنَعُ؟ فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ (1) ، قَالَ: فَانْطَلَقَ (2) أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ (3) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ هُوَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلا (4) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلُمِّي (5) يَا أمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ، فَجَاءَتْ بِذَلِكَ (6) الْخُبْزِ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُتّ (7) ، وعَصَرت أُمُّ سُلَيْمٍ عُكّةً لَهَا (8) ، فآدَمَتْه (9) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَا شاء الله (10) أن يقول، ثم   (1) قوله: الله ورسوله أعلم، أي منك ومنّا بحالك وحالنا، أشارت بحُسن عقلها إلى أن لا ينبغي التحيّر والحزن، فإنه أعلم فلما جاء بالناس لا بد أن يظهر أمرٌ خارق العادة. (2) أي من بيته مستقبلاً لنبيِّه. (3) قوله: حتى لقي، زاد في رواية فقال: يا رسول الله ما عندنا إلاّ قرص عملته أم سليم، وفي رواية قال: إنما أرسلتُ أنساً يدعوك وحدك ولم يكن عندنا ما يُشبع من أرى، فقال رسول الله: ادخل فإن الله سيُبارِكُ في ما عندك. (4) أي في بيت أبي طلحة وقعد من معه بالباب. (5) قوله: هَلُمِّي، قال الزرقاني: بالياء على لغة تميم، وفي رواية: هَلُمَّ بلا ياء على لغة الحجاز أي هات يا أمّ سليم ما عندكِ. (6) الذي كانت أرسلت به مع أنس. (7) بضم الفاء وتشديد التاء: أي كسر كسرات وقطعت قطعات. (8) قوله: عُكّة لها، بضم العين وتشديد الكاف: إناء من جلد مستدير يُجعل فيه السمن غالباً، وعند أحمد فقال: هل من سمن؟ فقال أبو طلحة: قد كان في العُكَّة شيء فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى خرج منه. (9) أي جعلت ما خرج إداماً له. (10) قوله: ما شاء الله أن يقول، عند مسلم: فمسحها ودعا بالبركة، وعند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ (1) ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا (2) ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، حَتَّى (3) أَكَلَ الْقَوْمُ (4) كلُّهم، وَشَبِعُوا وَهُمْ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ (5) رجلاً.   أحمد: فتح رباطها أي العُكّة وقال: بسم الله اللَّهم أعظم فيها البركة، وفي رواية له: ثم مسح القرص فانتفخ وقال بسم الله. (1) أي ممن كانوا قعدوا خارج البيت. (2) في رواية لأحمد، ثم قال لهم: قوموا وليدخل عشرة مكانكم. (3) أي فما زال يدخل عشرة عشرة حتى إلخ. (4) قوله: حتى أكل القوم كلُّهم، ولمسلم من حديث أنس: حتى لم يبق منهم إلا دخل فأكل حتى شبع، وفي رواية له: ثم أخذ ما بقي، فجمعه ودعا له بالبركة، فعاد كما كان، وفي رواية لأحمد ثم أكل صلى الله عليه وسلم وأهل البيت وتركوا سؤراً، أي فضلاً، وفي رواية لمسلم: وأفضلوا ما بلغوا جيرانهم. قال الحافظ ابن حجر: سئلت في مجلس الإِملاء عن حكمة تبعيضهم، فقلت: يحتمل أنه عرف قلة الطعام، وأنه في صحفة واحدة فلا يُتَصَورّ أن يتحلّقها ذلك العدد الكثير، فقيل: لِمَ لا دخل الكُلّ، ويُنْظِر من لم يسعه التحليق، وكان أبلغ في اشتراك الجميع في الاطّلاع على المعجزة بخلاف التبعيض في الدخول لاحتمال تكرُّر وضع الطعام في الصفحة، فقلت: يحتمل أنّ ذلك لضيق البيت (فتح الباري 6/591) . (5) بالشكّ من الراوي، وعند مسلم من حديث أنس: ذكر ثمانين من غير شك، وعند أحمد كانوا نيِّفاً وثمانين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يَنْبَغِي (1) لِلرَّجُلِ أَنْ يُجيب الدَّعْوَةَ الْعَامَّةَ، وَلا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا لِعِلَّةٍ، فَأَمَّا الدَّعْوَةُ الْخَاصَّةُ فَإِنْ شَاءَ أَجَابَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُجب. 889 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَعَامُ الاثْنَيْنِ (2) كافٍ لِلثَّلاثَةِ وَطَعَامُ الثَّلاثَةِ كافٍ للأربعة.   (1) قوله: ينبغي، على سبيل السُّنّيّة والتأكُّد. للرجل أنْ يجيب الدعوة العامة، التي لا تكون لرجل خاص بحيث لو علم الداعي أنه لا يحضر لا يفعله. ولا يتخلّف عنها، أي عن الدعوة العامة. إلا لعِلّة بالكسر، كمرض وحاجة ونحو ذلك، فأمّا الدعوة الخاصة فإن شاء أجاب وهو السُّنّة إذا خلا عن الرياء والسمعة ونحو ذلك، لأنه من حُسْن العِشرة. وإن شاء لم يُجِبْ، إلا إذا خاف ملال أخيه. (2) قوله: طعام الاثنين، أي الطعام الذي يشبع الاثنين كافٍ للثلاثة، والمشبع للثلاثة كافٍ للأربعة. وفي "صحيح مسلم" من حديث عائشة: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية، وعند ابن ماجة: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة. وعند الطبراني: كلوا جميعاً ولا تفرّقوا فإن الطعام الواحد يكفي الاثنين. والغرض من هذه الأحاديث الحضّ على المكارمة والتقنُّع بالكفاية، والمواساة بأنه ينبغي إدخال ثالث لطعامهما ورابع أيضاً حسبما يحضر وإن البركة تنشأ من كثرة الاجتماع (قال ابن بطال: الاجتماع على الطعام من أسباب البركة. فتح الباري 10/574) فكلما ازداد الجمع زادت، كذا في "الكوكب الدراري" وفتح الباري" وغيرهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 17 - بَابُ فَضْلِ الْمَدِينَةِ (1) 890 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا (2) بَايَعَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسلام، ثُمَّ أَصَابَهُ وَعَك (3) بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقِلْنِي (4) بَيْعَتِي، فَأَبَى (5) ، ثُمَّ جاء فقال: أقلني   (1) قوله: أن أعرابياً، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في "ربيع الأبرار" أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور، صرّحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن كان محفوظاً فلعله رجل آخر، وفي "الذيل" لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري. (2) قوله: أن أعرابياً، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في "ربيع الأبرار" أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور، صرّحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن كان محفوظاً فلعله رجل آخر، وفي "الذيل" لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري. (3) قوله: وَعَك، بالفتح وبفتحتين، الحُمَّى، وكانت المدينة في أوائل الإِسلام ذا وباءٍ وحُمَّى شديدة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، بنقل حُمَّاها إلى الجُحْفة وكانت إذ ذاك مسكن اليهود وصارت المدينة أطيب البلاد أرضاً وهواءً وماءً ورد بذلك أخبار بسطها السيوطي في رسالته "كشف الغُمَّى عن فضل الحُمَّى". (4) من الإِقالة، أي رُدّ عليّ بيعتي فإني لست براضٍ به (قوله: (أقلني بيعتي) إنما كان ظناً منه أن البيعة كما كانت انعقدت به صلى الله عليه وسلم فكذلك انفساخها منوط بمشيئته وإرادته، ولم يكن الأمر كذلك بل المدار في ذلك على عقيدة المسترشد وإرادته إن ثبت على عهده الذي عقد فذلك وإلا انفسخ، وإنما أبى النبي صلى الله عليه وسلم إقالته ذلك الذي عهد لأنه كان ارتداداً من الإِسلام، فكيف لا ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. الكوكب الدرّي 4/459) . (5) قوله: فأبى، وقيل: إنما استقاله من الهجرة، ولم يُرِدْ الارتداد عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي؟، فَأَبَى، فَخَرَجَ (1) الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ (2) ، تَنْفِي خَبَثها وتَنْصع طِيبها. 18 - بَابُ اقْتِنَاءِ (3) الْكَلْبِ 891 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصيفَة، أَنَّ السَّائِبَ بن   الإِسلام، ولو أراد الردّة لقتله هناك، وقيل: استقاله من القيام بالمدينة، وقيل كانت بيعته على الإِسلام إنْ كانت بعد (في الأصل: "قبل الفتح"، وهو تحريف. انظر شرح الزرقاني (4/221) الفتح فلم يُقِلْه، لأنه لا يحل الرجوع إلى الكفر، وإن كان قبله فهي على الهجرة والمُقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه الأصلي. (1) أي من المدينة إلى البدو. (2) قوله: إن المدينة كالكِير، بكسر الكاف المنفخ الذي يُنفخ به النار، أو الموضع المشتمل عليها. تَنْفي، بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء. خَبثَها، بفتحتين ما تبرزه النار من وسخ وقذر من الذهب والفضة، ويروى بضم الخاء وسكون الباء. وتَنْصَع، بفتح الفوقية، وفي رواية بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد من النصوع، بمعنى الخلوص أي يخلص ويميز. طِيْبها، بكسر الطاء وسكون الياء، شبّه المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد بالكير، وما يدور عليه بمنزلة الخبث فيذهب الخبث ويبقى الطيب، فكذا المدينة تنفي شِرارها (قال العيني: فإن قلت إن المنافقين سكنوا في المدينة وماتوا بها ولم تنفهم، قلت: كانت المدينة دارهم أصلاً ولم يسكنوها بالإِسلام ولا حبّاً له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يُرِد صلى الله عليه وسلم بضرب المثل إلا من عقد الإِسلام راغباً فيه ثم خبث قلبه. عمدت القاري 10/246) بالبلاء وتطهّر خيارهم وتزكّيهم، كذا في "شرح الزرقاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 يَزِيدَ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ (1) بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ وَهُوَ رجلٌ مِنْ شَنُوءَة، وَهُوَ (2) مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ (3) أُنَاسًا مَعَهُ، وَهُوَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنِ اقْتَنَى (4) كَلْبًا لا يُغني به   (3) قوله: سفيان بن أبي زُهير، بضم الزاء، قال ابن المديني وخليفة: اسم أبيه الفرد، وقيل: نمير بن عبد الله بن مالك، ويقال له النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن نصر بن زهران، نزل المدينة، وكان رجلاً من أَزْد بفتح الهمزة وسكون الزاء المعجمة، شَنُوءَة بفتح الشين وضم النون بعد الواو همزة مفتوحة ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سباء، قبيلة معروفة، كذا ذكره الزرقاني. (1) قوله: سفيان بن أبي زُهير، بضم الزاء، قال ابن المديني وخليفة: اسم أبيه الفرد، وقيل: نمير بن عبد الله بن مالك، ويقال له النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن نصر بن زهران، نزل المدينة، وكان رجلاً من أَزْد بفتح الهمزة وسكون الزاء المعجمة، شَنُوءَة بفتح الشين وضم النون بعد الواو همزة مفتوحة ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سباء، قبيلة معروفة، كذا ذكره الزرقاني. (2) هذا كلام أحد الرواة والظاهر أن قائله السائب بن يزيد. (3) أي سمع سفيان حال كونه يحدِّث عند باب المسجد النبوي. (4) قوله: من اقتنى، من الاقتناء، وهو من القِنْية بالكسر أي اتّخذ كلباً. لا يغني به، أي لا يحفظ صاحبه به أولا يحفظ الكلب بنفسه، أو لأجل صاحبه، وفي "موطأ يحيى": لا يغني عنه زرعاً، بالفتح أي حرثاً. ولا ضِرعاً، بالفتح المراد به المواشي أصحاب الضروع كالغنم والبقر. نقص من عمله، أي أجر أعماله وثواب عباداته كل يوم من أيام الاقتناء ما لم يتب. قيراط، قال الباجي: هو قدر لا يعلمه إلا الله يعني أن الاقتناء يكون سبباً لنقصان ثوابه وحرمانه، فإن من السيئات ما يحبط الحسنات، وقيل: المراد من النقص أن الإِثم الحاصل بقدر قيراط أو قيراطين فيوازن ذلك القدر من أجر عمله، وقيل: المراد أنه لو لم يتخذه لكان عمله كاملاً، فإذا اتخذه نقص من ذلك العمل. وسبب النقص إما امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه كلب أو ما يلحق المارِّين من الأذى أو عقوبة لمخالفة النهي عن الاتخاذ، وفي رواية ابن عمر نقص من عمله قيراطان، قال الزرقاني: قيل من عمل الليل قيراط، ومن عمل النهار قيراط، وقيل: من الفرض قيراط، ومن النفل قيراط، ولا يخالفه قوله في الحديث السابق: قيراط لأن الحكم للزائد أو يُنَزّل على حالين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 زَرْعًا وَلا ضَرْعًا نُقِص مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ. قَالَ (1) : قُلْتُ: أَنْتَ سمعتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إيْ (2) وربِّ الْكَعْبَةِ وربِّ هَذَا الْمَسْجِدِ. قَالَ محمدٌ: يُكره (3) اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ لِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ، فَأَمَّا كَلْبُ الزَّرْعِ أَوِ الضَّرْعِ أَوِ الصَّيْدِ أَوِ الْحَرَسِ (4) فَلا بَأْسَ بِهِ. 892 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ (5) بْنِ مَيْسَرة، عَنْ إِبْرَاهِيمَ   (1) أي السائب من سفيان طلباً لتحقيق روايته. (2) بالكسر (إي) حرف جواب بمعنى: ورب هذا المسجد، الواو للقسم، هكذا لفظ البخاري، وفي رواية سليمان بن بلال: ورب هذه القبلة، قال الحافظ: القسم للتوكيد وإن كان السامع مصدقاً، كذا في الأوجز 15/163) كلمة إيجاب أي نعم أنا سمعته منه. (3) قوله: يكره اقتناء الكلب لغير منفعة، هذا بالإِجماع، وأما بيعه فلا يجوز عند الشافعي مطلقاً، وبه قال أحمد، وعند بعض المالكية يجوز بيع الكلب المأذون بإمساكه، وعندنا يجوز مطلقاً إلا إذا كان عقورا لا يقبل التعليم والأدلّة مذكورة في الهداية وشروحها. (4) بالفتح أي حفاظة البيوت وغيرها. (5) قوله: عن عبد الملك بن مَيْسَرة، بفتح الميم وفتح السين بينهما ياء مثناة تحتية، كذا ضبطه في "المغني" وفي "تهذيب التهذيب" عبد الملك بن ميسرة الهلالي، أبو زيد العامري الكوفي، روى عن ابن عمر وأبي الطفيل وطاوس وسعيد بن جبير وغيرهم، وعنه شعبة ومسعر ومنصور، قال ابن معين والنسائي والعجلي: ثقة، وذكره البخاري في من مات في العشر الثاني من المائة الثانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 النَّخَعي قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَهْلِ الْبَيْتِ الْقَاصِي (1) فِي الْكَلْبِ يَتَّخِذُونَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: فَهَذَا (2) للحرَس. 893 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا - إِلا كلبَ ماشيةٍ أَوْ ضَارِيًا (3) - نُقِص مِنْ عمله كلَّ يوم قيراطان.   انتهى ملخصاً. وهناك ابن ميسرة آخر وهو عبد الملك بن أبي سليمان ميسرة العزرمي الكوفي، روى عن أنس وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير، وعنه شعبة والثوري والقطان وغيرهم، وثقه أحمد وابن معين والنسائي وابن مسعود وغيرهم مات سنة 145، ذكره في تهذيب التهذيب" أيضاً. (1) أي البعيد عن العمارة المحتاج إلى لحراسة. (2) قوله: فهذا، أي هذا الذي رخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل البيت القاصي كان للحفظ، فعُلم جوازه منه. (3) قوله: أو ضارياً، أي معلَّماً للصيد معتاداً له، ومقتضى هذه الرواية حصر الجواز في كلب الصيد وحفظ المواشي، وفي رواية أبي هريرة عند مسلم والترمذي وغيرهما إلا كلبَ حرث أو ماشية، ومدار الحصر على اختلاف المقامات واعتقاد السامعين، فالمقام الأول اقتضى إخراج كلب الصيد، والثاني استثناء كلب الزرع ولا تنافي في ذلك، كذا في: كواكب الدراري". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 19 - بَابُ مَا يُكره مِنَ الْكَذِبِ وَسُوءِ الظَّنِّ والتجسُّس (1) وَالنَّمِيمَةِ (2) 894 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ (3) عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْذِبُ (4) امْرَأَتِي؟ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خَيْرَ (5) فِي الْكَذِبِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أعِدُها (6) وأقولُ، قَالَ (7) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا جُناح (8) عَلَيْكَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فِي جِدّ (9) ولا هزل،   (1) قوله: عن عطاء بن يسار، ليس في "موطأ يحيى" ذكره، بل فيه مالك عن صفوان بن سليم أن رجلاً، الحديث، قال ابن عبد البر: لا أحفظه مسنداً بوجه من الوجوه، ورواه ابن عيينة عن صفوان، عن عطاء مرسلاً. (2) بحذف الاستفهام أي أأكذبُ من امرأتي؟. (3) قوله: عن عطاء بن يسار، ليس في "موطأ يحيى" ذكره، بل فيه مالك عن صفوان بن سليم أن رجلاً، الحديث، قال ابن عبد البر: لا أحفظه مسنداً بوجه من الوجوه، ورواه ابن عيينة عن صفوان، عن عطاء مرسلاً. (4) بحذف الاستفهام أي أأكذبُ من امرأتي؟. (5) أي بل هو شرّ كلّه من امرأته كان أو من غيرها. (6) قوله: أعِدُها، بحذف همزة الاستفهام أي أعِدُها من الوعدة. وأقولُ، أي لها بلساني أفعلُ لك كذا وكذا ولا يكون في نيّتي إيفاؤه. (7) في رواية "يحيى": فقال أي في جوابه. (8) قوله: لا جُناح، بالضم أي لا إثم عليك في ذلك، للفرق بين الكذب والوعد لأن ذلك ماضٍ وهذا مستقبل، وقد يمكنه تصديق خبره فيه، قاله الباجي في "شرح الموطأ". (9) قوله: في جِدّ، بكسر الجيم وتشديد الدال خلاف الهَزْل، والهَزْل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 فَإِنْ وسعَ الْكَذِبُ (1) فِي شَيْءٍ فَفِي خَصْلة واحدةٍ أَنْ ترفَعَ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ عَنْ أخيك مظلمة، فهذا نرجوا أَنْ لا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. 895 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا أبو زناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِيَّاكُمْ (2) والظنَّ، فإن الظنَّ أكذب (3) الحديث،   بالفتح إظهار ما ليس في قلبه وصدق همّته بلسانه لرضاء المخاطب وسروره ونحو ذلك. (1) قوله: وسع الكذب، اي إنْ جاز في صورة ففي صورة واحدة وهي أَنْ تَرْفَعَ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ عَنْ أَخِيكَ مَظْلِمة بكسر اللام أي ظلماً بسبب الكذب، ومنه الكذب للإِصلاح بين الناس، وفيه إشارة إلى أن التعريض في مثل هذه الصور أحوط. (2) قوله: إياكم والظن، أي احذروا وقُوا أنفسَكم من الظنّ، أي ظَنّ السوء بالمسلم وهو تهمة يميل إليها (في الأصل إليه، وهو تحريف) القلب بلا دليل، ويركن إليها ولمراد به عقد القلب، وحكمه على غيره بالسوء بلا دليل، وهو حرام كسوء القول، وأما الخواطر وحديث النفس فعفو، كذا حققه الغزالي في "إحياء العلوم". (3) قوله: أكذب الحديث، أي حديث النفس لأنه يكون بوسوسة الشيطان في قلب الإِنسان، قال الخَطّابي: ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تُناط به الأحكام غالباً، بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضرّ بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بلا دليل، وقال عياض: استدل بالحديث قوم على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي، حمله المحققون على ظنٍّ مجرّدٍ عن دليل ليس مبنيّاً على أصل ولا تحقيق نظر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 وَلا تجسَّسُوا (1) وَلا تَنَافَسُوا (2) وَلا تَحَاسَدُوا (3) وَلا تَبَاغَضُوا (4) وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عبادَ (5) اللَّهِ إِخْوَانًا (6) . 896 - أخبرنا مالك، أخبرنا أبو زناد، عن الأعرج، عن   (1) قوله: ولا تجسّسوا، من التجسّس، وهو البحث والتفتيش عن معائب الناس وسرائرهم، وفي رواية: بزيادة "ولا تحسّسوا" بالحاء مكان الجيم من التحسس، وهو بمعنى التجسس، ومنهم من فرّق بأن الذي بالحاء استماع حديث القوم، والثاني البحث عن العورات، وقيل غير ذلك، كما بسطه الزرقاني في "شرحه". (2) قوله: ولا تنافسوا، من المنافسة، الرغبة في الشيء وطلب الانفراد به، وعُلُوّه فيه، والمنهي عنه التنافس في أمور الدنيا لطلب العلوّ والفخر على الناس، وأما في أمور الخير فجائز، بل مستحب لقوله تعالى: (فليتنافس المتنافسون) سورة المطفّفين: الآية 26) . (3) قوله: ولا تحاسدوا، من الحسد وهو تمنِّي زوال ما أنعم الله على غيره أراده لنفسه أم لم يُرد، وأما تمنِّي مثله لنفسه من غير أن يزول عن غيره فهو غِبْطة بالكسرة جائزة. (4) قوله: ولا تباغضوا، أي لا تكسبوا أسباباً مفضية إلى البغض والعداوة، وهو مذموم إذا كان لغير الله، وأما إن كان في الله فهو مندوب، وكذا التدابر أي مهاجرة أخيه وترك السلام والكلام معه، كأنّ كلاًّ منهما يُوْلي دُبُره ويُعرض عن أخيه فإن لم يكن في الله فهو حرام، وإن كان لله كمهاجرة أهل البدع من حيث ابتداعُهم فهو مندب، كما بسطه السيوطي في رسالته "الزجر بالهجر". (5) أي عبيده الخوّاص الكاملين. (6) خبر بعد خبر أي متآخِين ومتحابِّين في ما بينهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ شَرِّ النَّاسِ (1) ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي (2) يَأْتِي هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ. 20 - بَابُ الاسْتِعْفَافِ (3) عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَالصَّدَقَةِ 897 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخُدري: أن ناساً (4) من الأنصار سألوا   (1) أي عند الله يوم القيامة. (2) قوله: الذي يأتي، تفسير لذي الوجهين وإشارة إلى أنه ليس المراد به تعدد الوجه حقيقة فما جعل الله لرجل من وجهين في جسده، بل المراد أنه يأتي قوماً بوجه وقوماً بوجه آخر، فيظهر عند كل أحد ما يخفيه عن الآخر كذباً وخداعاً، وإفساداً ونفاقاً. (3) قوله: أنّ أناساً، قال الحافظ ابن حجر: لم يتعيَّن لي أسماؤهم إلا أنّ في النسائي ما يدل أن أبا سعيدٍ الراوي منهم، وللطبراني عن حكيم بن حزام أنه خوطب ببعض ذلك لكنه ليس أنصاريَّاً إلا بالمعنى الأعمِّ، وردّه العيني بأنّ في النسائي عن أبي سعيد: سرَّحَتْني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة فأتيته فاستقبلني، فقال: من استغنى أغناه الله، الحديث وزاد فيه: من سأل وله أوقية فقد ألحف، فقلت: ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله. وليت شعري أيّ دلالة هذا من أنواع الدلالات وليس فيه شيء يدل على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم. (4) قوله: أنّ أناساً، قال الحافظ ابن حجر: لم يتعيَّن لي أسماؤهم إلا أنّ في النسائي ما يدل أن أبا سعيدٍ الراوي منهم، وللطبراني عن حكيم بن حزام أنه خوطب ببعض ذلك لكنه ليس أنصاريَّاً إلا بالمعنى الأعمِّ، وردّه العيني بأنّ في النسائي عن أبي سعيد: سرَّحَتْني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة فأتيته فاستقبلني، فقال: من استغنى أغناه الله، الحديث وزاد فيه: من سأل وله أوقية فقد ألحف، فقلت: ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله. وليت شعري أيّ دلالة هذا من أنواع الدلالات وليس فيه شيء يدل على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى أنفَذَ (1) مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: مَا يكنْ (2) عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَه (3) عَنْكُمْ، مَنْ يستعِفَّ (4) يَعُفَّه (5) اللهُ، وَمَنْ يستَغْن (6) يُغنه اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ (7) يُصَبِّرْه اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أحدٌ عَطَاءً هُوَ خيرٌ (8) ، وأوسعُ مِنَ الصَّبْرِ (9) . 898 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أباه (10)   (1) أي أفرغ وأفنى، ولم يبق منه شيء. (2) شرطية وفي رواية: ما يكون فما موصولة. (3) قوله: فلن أدّخره، بتشديد الدال المهملة أي لن أحفظه وأجعله ذخيرة معرضاً عنكم بل كل ما يكون عندي أعطيه لكم. (4) يتشديد الفاء وكسر العين أي يطلب العفة، ويكفّ عن السؤال. (5) قوله: يَعُفَّه، بفتح حرف المضارع وضم العين وفتح الفاء المشددة، أو من الإِعفاف أي يرزقه العفّة ويوفقه ما يمنعه عن الذِّلّة. (6) قوله: ومن يستغن، أي يُظهر الغنى بما عنده عن المسألة. يُغنه الله، من الإِغناء أي يمدّه بالغنى عن الناس فلا يحتاج إلى أحد. (7) قوله: ومن يتصبّر، بتشديد الباء أي يعالج صبراً ويتكلّفه مع الضيق. يُصَبِّره الله، أي يرزقه صبراً ويوفقه له. (8) في رواية خيراً بالنصب صفة عطاء. (9) لكونه جامعاً لمكارم الأخلاق. (10) قوله: أن أباه، أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وفي رواية أحمد بن منصور البلخي، عن مالك، عن عبد الله، عن أبيه، عن أنس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 أَخْبَرَهُ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ (1) رَجُلا مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهل (2) عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ سَأَلَهُ أَبْعِرَةً (3) مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ (4) : فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرف (5) الغضبُ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ الغضبُ فِي وَجْهِهِ أَنْ (6) يَحْمَرَّ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي مَا (7) لا يَصْلُحُ لِي وَلا لَهُ، فَإِنْ منعتُه كرهتُ (8) المنعَ، وَإِنْ أعطيتُه أَعْطَيْتُهُ مَا لا (9) يَصْلُحُ لِي وَلا لَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لا أَسْأَلُكَ مِنْهَا (10) شَيْئًا أَبَدًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي أَنْ يُعطى مِنَ الصَّدَقَةِ (11) غنياً. وإنما نَرَى (12)   (1) أي جعله عاملاً وناظراً. (2) بالفتح وسكون الشين: بطن من الأوس. (3) قوله: أَبْعِرَة، بالفتح وسكون الباء وكسر العين جمع بعير، أي سأله عدداً من تلك الإِبل زيادة على قدر عمله. (4) أي الراوي. (5) أي بأثره وهو الحُمْرة. (6) لشدّة الغضب وكظمه الغيظ. (7) ومنه مال الصدقة. (8) لكونه جبلّته على الجود والكرم. (9) لعدم حِلّه لي وله. (10) أي من الصدقة. (11) أي إلا العامل عليها بقدر عمله. (12) أي نَظُنّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذَلِكَ (1) ، لأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ غَنِيًّا (2) ، وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا لأَعْطَاهُ مِنْهَا. 21 - بَابُ الرَّجُلِ يَكْتُبُ إِلَى الرَّجُلِ يَبْدَأُ (3) بِهِ 899 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَتَبَ (4) إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ يُبايعه (5) فَكَتَبَ (6) : بِسْمِ الله الرحمن الرحيم، أما بعد (7) ، لعبد   (1) أي ذلك الكلام الدالّ على الامتناع لذلك العامل. (2) قوله: كان عنيّاً، كما يفيده قوله إنْ أعطيتُه أعطيته بما لا يصلح لي وله، فلا يحلّ له من مال الصدقة إلا بقدر عمله لقوله تعالى: (إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَراءِ والمَسَاكِين وَالعَامِلِين عَلَيها) سورة التوبة: الآية 60) . (3) قوله: أنه كتب، في رواية البخاري، عن ابن دينار قال: شهدت ابن عمر حين اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، يعني بعد قتل عبد الله بن الزبير، وانتظام المُلْك له وتفرُّده به، ومبايعة الناس له. (4) قوله: أنه كتب، في رواية البخاري، عن ابن دينار قال: شهدت ابن عمر حين اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، يعني بعد قتل عبد الله بن الزبير، وانتظام المُلْك له وتفرُّده به، ومبايعة الناس له. (5) جملة حالية. (6) أعاده تفسيراً وتثبتاً. (7) قوله: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، هذه كلمة ينبغي استعمالها في صدور الكتب والرسائل، وقد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في صدور مكاتبته إلى كسرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 اللَّهِ (1) عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، سلامٌ عَلَيْكَ (2) ، فَإِنِّي أحمَد (3) إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ وأُقِرُّ (4) لك بالسمع (5) والطاعة على   وهرقل وغيرهما، ويقال: أول من تكلم بها داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويُستحبُّ أيضاً البداية بالبسملة، وعليه كانت كُتُب النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت حكاية كتابة سليمان إلى مَلِكة سبأ بلقيس: "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم"، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب أولاً باسمك اللَّهم، كما كان أهل الجاهلية يكتبونه حتى نزلت: (بسم الله مَجراها ومُرسها) سورة هود: الآية 41) فكتب بسم الله إلى أن نزلت: (قال ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) فكتب بسم الله الرحمن إلى أن نزلت آية كتاب سليمان، فكتب البسملة التامَّة، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو عبيد عن الشعبي. وفي الباب، عن أبي مالك أخرجه أبو داود في "مراسيله"، وميمون بن مهران، أخرجه ابن أبي حاتم، وكذا عبد الرزاق وابن المنذر، عن قتادة، كما ذكره السيوطي في "الدرّ المنثور". (1) قوله: لعبد الله، أي هذا مكتوب لأجله أو اللام بمعنى إلى، ووصفه بعبد الله إشارة إلى أنه ينبغي له الخضوع وعدم الاغترار بالملك. (2) سلام عليك، بالتنكير وهو والتعريف فيه متساويان، وقيل: التنكير أوْلى اقتفاءً بما في القرآن: (سلامٌ على نوح) و (سلام على إبراهيم) وغير ذلك، وقيل عند الخطاب والمشافهة التعريف أَوْلى اقتداءً بالأحاديث الواردة به. (3) أي أُنهي (والأظهر أن يقال أحمد الله منتهياً إليك، كذا في الأوجز 15/115) إليك حمده. (4) من الإِقرار. (5) أي سمع ما تأمره وتنهاه، والإِطاعة فيه لقوله تعالى: (أطيعُوا اللَّهَ وأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأولي الأمرِ مِنْكُم) سورة النساء: الآية 59) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 سُنَّةِ اللَّهِ (1) ، وسُنَّة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا اسْتَطَعْتُ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ إِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ إِلَى صَاحِبِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِصَاحِبِهِ (3) قَبْلَ نَفْسِهِ. 900 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّناد، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِعَبْدِ اللَّهِ مُعَاوِيَةَ أمير المؤمنين، من زيد بن ثابت (4) .   (1) قوله: على سُنَّة الله، أي على طريقته وطريقة رسوله وشريعته، أشار بذلك إلى ما ورد "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق"، أخرج الترمذيُّ نحوَه وغيره. (2) أي في ما قدرت (قال الباجي: على حسب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليهم من قوله: "فيما استطعتم"، وأنه إذا التزم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بشرط الاستطاعة فبأن يشترط ذلك لغيره أَوْلى وأحرى. أوجز المسالك 15/264) فإن التكليف والاتِّباع ليس إلاَّ بحسب الوسع، وما هو خارج عنه. (3) أي يذكره قبل ذكره. (4) قوله: من زيد بن ثابت، تتمَّته: سلامٌ عليك أمير المؤمنين ورحمة الله، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاَّ هو، أما بعد: فإنك كتبتَ تسألني عن ميراث الجَدّ والإِخوة، وإن الكلالة وكثيراً مما نقضي به في هذه المواريث لا يعلم مبلغها إلاَّ الله، وقد كنا نحضر من ذلك أموراً عند الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعينا منها ما شِئنا أن نعيَ، فنحن نُفتي بعدُ من استفتانا في المواريث، كذا أورده السيوطي في "الدر المنثور"، في آخر سورة النساء مسنداً إلى رواية الطبراني عن خارجة بن زيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 وَلا بَأْسَ (1) بِأَنْ يَبْدَأَ الرَّجُلُ بِصَاحِبِهِ قَبْلَ نَفْسِهِ فِي الْكِتَابِ. 22 - بَابُ الاسْتِئْذَانِ (2) 901 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُليم، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يسار (3) : أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رجلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ   (1) قوله: ولا بأس، إعادة لما مرَّ تأكيداً. ومراده به بيان الجواز من غير كراهة أخذاً من فعل زيد وابن عمر وإلاَّ فالأفضل هو البداية بنفسه قبل ذكر صاحبه اقتداءً بكتاب سليمان، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى السلاطين فإنها مُصَدَّرة بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النَّجاشي وإلى كِسرى وإلى غير ذلك، بل قد وردت فيه أخبار قولية سردها السيوطي في "الجامع الصغير" وعليّ المُتَّقي في "منهج العُمَّال في سنن الأقوال"، فأخرج الطبراني في "المعجم الأوسط" عن أبي الدرداء مرفوعاً: "إذا كتب أحدكم إلى إنسان فليبدأ بنفسه وإذا كتب فليُتَرِّبْه فإنه أنجح للحاجة" وهو من التتريب أي يُلقي التراب عليه ليجفَّ وينجح، وأخرج الطبراني في "الكبير" من حديث النعمان بن بشير: إذا كتب أحدكم إلى أحد فليبدأ بنفسه، وأخرج الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي هريرة: العجم يبدأون بكبارهم إذا كتبوا فإذا كتب أحدكم فليبدأ بنفسه. (2) عن عطاء بن يسار: قال ابن عبد البر: مرسل صحيح لا أعلمه يُسْنَد من وجه صحيح صالح. (3) عن عطاء بن يسار: قال ابن عبد البر: مرسل صحيح لا أعلمه يُسْنَد من وجه صحيح صالح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 أستأذِنُ (1) عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا (2) فِي الْبَيْتِ، قَالَ: استأذِن عَلَيْهَا، قَالَ: إِنِّي أخدِمُها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتُحِبُّ (3) أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لا، قَالَ: فاستَأذِنْ عَلَيْهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الاسْتِئْذَانُ حَسَن (4) ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ عَلَى كُلِّ (5) مَنْ يَحْرُم عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَتِهِ وَنَحْوِهَا. 23 - بَابُ التَّصَاوِيرِ (6) والجَرَس وَمَا يُكره مِنْهَا 902 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ سالم بن عبد الله، عن   (1) بحذف حرف الاستفهام. (2) قوله: إني معها في البيت، يعني أنا وأمّي يكونان في بيت واحدٍ، والاستئذان إنما شُرع في غير بيته فكأنه أراد بذكر هذا ثم بذكر خِدمته لها الاطلاع على علَّة شرعية الاستئذان في مثل هذا، أو قصد التخفيف لتعسُّر الاستئذان في كل مرة، فنبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على علَّة شرعية بقوله: أتحبّ أن تراها - أي أمك - عريانة؟! باستفهام إنكاري، يعني إذا لم تحبه فإنْ دخلت عليها بلا إذن فلعلها عند ذلك تكون عريانة فتراها كذلك (إن ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز إلاَّ أنه أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها ونحوهما، انظر الأوجز 15/124) . (3) بهمزة الاستفهام. (4) أي مستحب مستحسن. (5) ولو كان من محارمه لا على زوجته وأَمَته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 الْجَرَّاحِ (1) مَوْلَى أُم حَبيبة عَنْ أُمّ حَبِيبَةَ (2) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: العِيْرُ (3) الَّتِي فِيهَا جَرَس لا تَصْحَبُهَا الْمَلائِكَةُ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَإِنَّمَا رُوي (5) ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ لأَنَّهُ يُنْذَر بِهِ العدوُّ. 903 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا أبو النضر (6) مولى عمر بن   (6) قوله: عن الجرّاح، قال القاري: بالفتح وتشديد الجيم. انتهى. وقال السيوطي في "إسعاف المبطَّأ": كنيته أبو الجرّاح، عن مولاته أم حَبيبة وعثمان، وعنه سالم وغيره، وثَّقه ابن حبان، ويقال اسمه الزبير. (1) قوله: عن الجرّاح، قال القاري: بالفتح وتشديد الجيم. انتهى. وقال السيوطي في "إسعاف المبطَّأ": كنيته أبو الجرّاح، عن مولاته أم حَبيبة وعثمان، وعنه سالم وغيره، وثَّقه ابن حبان، ويقال اسمه الزبير. (2) أخت معاوية أمّ المؤمنين. (3) بالكسر أي القافلة. (4) أي ملائكة الرحمة غير الكَتَبَة. (5) في نسخة: نرى. قوله: وإنما رُوي ذلك، أي تعليق الجرس في أعناق الدوابّ لأنه يُنذَر - مجهول - من الإِنذار أي يُخَوَّف به العدو، فجاز ذلك بهذه النيَّة ليكون أهيبَ وأخوف في نظر الكفار، قال عليّ القاري: فيه أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد ورد: الجرس مزامير الشيطان، رواه أحمد في "مسنده" ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة، ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة: "لا تصحبن الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس"، وأبو داود بلفظ "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس". (6) قوله: أخبرنا أبو النضر، سالم بن أبي أميَّة مولى عمر بن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عُتبة - بضم العين - ابن مسعود الهذلي. أنه، أي عبد الله بن عتبة هكذا في نسخ عديدة، وعليها شرح القاري، وفيه اختلاج من وجوه: أحدها: أن أبا النضر إنما هو مولى لعمر بن عبيد بن معمر التيمي لا لعمر بن عبد الله بن عبيد الله كما مرَّ ذكره في (باب الوضوء من المذي) . وثانيها: أن سالماً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَهَ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ يَعُوده (1) ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ (2) سهلَ بنَ حُنَيف (3) ، فَدَعَا أَبُو طَلْحَةَ إِنْسَانًا (4) يَنزع (5) نَمَطاً تَحْتَهُ، فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: لِمَ   أبا النضر لم يروِ هذا الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَهَ بْنِ مَسْعُودٍ بل عن ابنه عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أحد الفقهاء السبعة. وثالثها: أن صاحب الرواية والداخل على أبي طلحة ليس هو عبد الله بن عتبة بل ابنه كما حققه ابن عبد البر (قال ابن عبد البر: لم يختلف رواة الموطأ في إسناد هذا الحديث ومتنه. وزَعَم بعض العلماء أن عبيد الله لم يلقَ أبا طلحة، وما أدري كيف قال ذلك، وهو يروي حديث مالك هذا؟ وأظنه لقول بعض أهل السِّيَر: مات أبو طلحة سنة 34 هـ، وعبيد الله حينئذٍ لم يكن ممن يصح له السماع، وهذا ضعيف، والأصح أن وفاة أبي طلحة بعد الخمسين، كذا في الأوجز 15/146) . فالصواب ما في "موطأ يحيى": مالك عن أبي النضر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه دخل على أبي طلحة. فلعل تبديل عبيد في قوله مولى عمر بن عبيد بعبد الله تبديل عن عبيد الله بابن عبد الله، وتبديل ابن عبد الله بن عتبة بعن عبد الله من زلَّة النساخ، وفي بعض نسخ هذا الكتاب أخبرنا أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود إلخ، وهذا هو الصحيح. (1) أي لعيادته في مرضه. (2) أي عند أبي طلحة. (3) بصيغة التصغير. (4) أي من خدمه. (5) قوله: ينزع، أي ليخرج نَمَطاً كان تحته، وهو بفتح النون وفتح (في الأصل: "كسر الميم"، وهو خطأ. انظر مجمع بحار الأنوار 4/787) الميم: ضرب من البسط له خمل رقيق، قاله السيوطي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 تنزِعُه (1) ؟ قَالَ: لأنَّ فِيهِ (2) تَصَاوِيرُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهَا مَا قَدْ علمتَ (3) . قَالَ: سهل: أوَلْم يقل إلاَّ ما كان   (1) أي لأيِّ سبب تخرجه من تحتك؟. (2) أي في ذلك النمط. (3) قوله: ما قد علمت، من أنَّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة. وفي رواية عند الشيخين: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة. وعند أبي داود والنسائي وابن حبان: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا جنب ولا كلب. والمراد بالجنب الذي يعتاد ترك الغسل ويتهاون به قاله الخطابي، ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان: أتاني جبريل فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلتُ إلاَّ أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قِرام - بالكسر أي ستْر - فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُرْ برأس التمثال الذي في البيت فيقطع فيصير كهيأة الشجرة ومُرْ بالسِتر فيقطع فيجعل وِسادتين منبوذتين توطآن ومُرْ بالكلب فيُخرج. وفي الباب أخبار أُخَر مبسوطة في "كتاب الترغيب والترهيب" للمنذري وغيره، قال ابن حجر المكي الهَيْتَمي في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر": عَدُّ هذا أي تصوير ذي روح على أي شيء كان كبيرة هو صريح الأحاديث الصحيحة، ولا ينافيه قول الفقهاء: يجوز ما على الأرض وبساط ونحوهما من كل مُمْتَهَن، لأن المراد أنه يجوز بقاؤه ولا يجب إتلافه، وأما جعل التصوير لذي روح فهو حرام مطلقاً، ثم رأيت في "شرح مسلم" ما يصرح بما ذكرته حيث قال ما حاصله: تصوير صورة الحيوان حرام من الكبائر سواء صنعه لما يُمْتَهَن أو لغيره، سواء كان ببساط أو درهم أو ثوب، وأما تصوير صورة الشجر ونحوها فليس بحرام، وأما المصوَّر بصورة الحيوان فإن كان معلَّقاً على حائط أو ملبوس كثوب أو عِمامة مما لا يُمتهن فحرام، أو ممتهناً كبساط يُداس ووسادة فلا يحرم. لكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟ الأظهر أنه عامّ في كل صورة. هذا تلخيص مذهب جمهور علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم كالشافعي ومالك والثوري وأبي حنيفة وغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 رَقْماً (1) فِي ثوبٍ؟ قَالَ: بلَى (2) ، وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ (3) لِنَفْسِي. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَصَاوِيرَ مِنْ بِسَاطٍ يُبْسَط أَوْ فِرَاشٍ (4) يُفرَش أَوْ وِسادةٍ (5) فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ. إِنَّمَا يُكره (6) مِنْ ذَلِكَ فِي السِّتْرِ وَمَا يُنصب (7) نَصْباً. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا.   (1) بالفتح أي نقشاً (نقشاً ووشياً. كذا في الأوجز 15/147) . قوله: إلاَّ ما كان رقماً، ظاهره جواز الرقم في الثوب مطلقاً وهو قول طائفة، وذهب جماعة إلى المنع مطلقاً، وقالت طائفة بالفرق بين الممتهَن والمعلَّق، وقالت جماعة: إن كانت ثابتة الشكل قائمة الهيأة حرم، وإن تفرقت الأجزاء جاز، قال ابن عبد البر: إنه أعدل الأقوال. (2) أي قد قال ذلك وجوَّز إبقاء التصوير في البساط. (3) من التطيب أي أطْهَر للتقوى واختيار الأولى. (4) حرف الترديد للتنويع والتوضيح. (5) بالكسر ما يُتَوَسَّد ويُتَّكى به. (6) لما فيه من تعظيم الصورة. (7) أي يُقام ويُعلَّق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 24 - بَابُ اللَّعِب (1) بالنَّرْد (2) 904 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسرة، عَنْ سَعِيدِ (3) بْنِ أَبِي هندٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى (4) الأَشْعَرِيِّ (5) : أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ لَعِبَ بالنَّرد فقد عصى الله ورسولَه (6) .   (1) سعيد: قال السيوطي: سعيد بن أبي هند الفزاري المدني مولى سمرة، وثقه ابن حبان، مات في أول خلافة هشام. (2) اسمه عبد الله بن قيس من أجِلَّة الصحابة، مات سنة أربع وأربعين، ذكره في "أسد الغابة" وغيره. (3) سعيد: قال السيوطي: سعيد بن أبي هند الفزاري المدني مولى سمرة، وثقه ابن حبان، مات في أول خلافة هشام. (4) اسمه عبد الله بن قيس من أجِلَّة الصحابة، مات سنة أربع وأربعين، ذكره في "أسد الغابة" وغيره. (5) نسبة إلى أشعر بالفتح قبيلة باليمن. (6) قوله: ورسوله، وفي رواية أبي داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي موسى "من لعب بالنردشير فكأنما صَبَغ يده بدم خنزير". ولمسلم وأبي داود وابن ماجه: "فكأنما غَمَسَ يده في لحم خنزير ودمه". وعند أحمد وأبي يعلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 قَالَ مُحَمَّدٌ: لا خَيْرَ (1) بِاللَّعِبِ كلِّها مِنَ النَّرْد (2) والشِّطْرنج (3) وغير ذلك.   والبيهقي وغيرهم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مثل الذي يلعب النرد ثم يقوم يصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي". وعند البيهقي، عن يحيى بن أبي كثير: مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قوم يلعبون بالنرد، فقال: "قلوب لاهية وأيدٍ عاملة وألْسِنة لاغية" وبهذه الأحاديث ذهب أكثر العلماء إلى كون اللعب بالنرد حراماً (وفي المحلى: وبتحريم النرد قالت الأئمة الأربعة والجمهور، وقال أبو إسحاق المروزي من الشافعية: يُكره ولا يحرم. الأوجز 15/90) ، تُرَدُّ به شهادة اللاعب. وهناك أقوال لبعض الشافعية مخالِفَةً لهذا القول قد ردَّها ابن حجر المكي في "الزواجر". (1) قوله: لا خير باللعب كلِّها، فإنه إن كان مقامراً به فهو مَيْسِر محرَّم بالكتاب، وإن لم يكن مقامراً فهو عبث باطل لحديث: "كل لهو يُكره إلآَّ ملاعبةَ الرجل زوجتَه ومشيته بين هدفين - أي هدف السهم المرمي - وتعليم فرسه"، أخرجه ابن حبان في "كتاب الضعفاء" بسند ضعيف. وفي الباب عن عقبة بن عامر بلفظ: "ليس من اللهو إلاَّ ثلاث: تأديب الرجل فرسَه، وملاعبته مع أهله، ورميه بقوسه ونَبْله" أخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد والطبراني. وعند النسائي وإسحاق بن راهويه ومعجم الطبراني من حديث جابر بن عبد الله، والبزار وابن عساكر من حديث جابر بن عميرة مرفوعاً: "كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب إلاَّ أربعة: ملاعبة الرجل أهلَه، وتأديب الرجل فرسَه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلُّم الرجل السباحة". وعند الحاكم بسند ضعيف من حديث أبي هريرة نحوه، ذَكَرَ ذلك كلَّه الزيلعي في: نصب الراية" والعيني في "البناية". (2) لما مر فيه من الأخبار. (3) قوله: والشِّطرنج، بكسر الشين المعجمة، وقد يقال بكسر السين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 25 - بَابُ النَّظَرِ إِلَى اللَّعِبِ (1) 905 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أبو النَّضْر، أنه أخبره من سمع   المهملة، ولا يُقال بالفتح كذا في "القاموس" وغيره، واختلفوا فيه على أقوال: قيل: مباح لما فيه من تشحيذ الخواطر. وقيل: مكروه تنزيهاً ما لم يُقامَر به أو يُفضى إلى تضييع الصلوات، وهو الأصح عند الشافعية، وذكر الدَّميري في "حياة الحيوان أنَّ تجويزه مرويّ عن عمر وأبي هريرة وأبي اليسر والحسن البصري والقاسم بن محمد وأبي مجلز، وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم. وقيل: هو مكروه تحريماً إن خلا عن القمار وتضييع الصلوات، وإلاَّ فحرام، وهو مذهب أصحابنا، ونسبه الدميري إلى أحمد ومالك أيضاً. وذكر ابن حجر المكي في "الزواجر" أنَّ المنع منه مأثور عن أبي موسى الأشعري، فإنه قال: لا يلعب بالشطرنج إلاَّ خاطئ، وعن ابن عمر قال: إنه شرٌّ من الميسر، وابن عباس والنخعي ومجاهد وإسحاق بن راهويه وغيرهم. ويؤيدهم ما أخرجه الأثرم في "جامعه" بسند ضعيف من حديث واثلة مرفوعاً: إن لله في كل ثلاث مائة وستين نظرة إلى خلقه ليس لصاحب الشاه فيها نصيب، والمراد به صاحب الشطرنج لقوله شاه. وأخرج أبو بكر الآجُرِّي من حديث أبي هريرة: إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بهذه الأزلام النرد والشطرنج وما كان من اللهو فلا تسِّموا عليهم. وفي رواية: أشد الناس عذاباً يوم القيامة صاحب الشاه (انظر كنز العمال 15/40644) . وهذه الروايات على تقدير ثبوتها دالَّة على كراهة التحريمية أو الحرمة (وقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريم الشطرنج وعليه الأئمة الثلاثة، وحكى البيهقي إجماع الصحابة على ذلك. وذهب الشافعي إلى كراهته تنزيهاً على الصحيح المشهور عنه ما لم يواظب عليها. انظر أوجز المسالك 15/93) . وفي المقام نظر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 عَائِشَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ (1) صوتَ أُنَاسٍ يَلْعَبُونَ (2) مِنَ الحَبَش (3) وَغَيْرِهِمْ يومَ عَاشُورَاءَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أتُحِبَّن (4) أَنْ تَرَيْ (5) لَعِبَهم؟ قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فجاؤوا (6) ، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) بَيْنَ النَّاسِ فَوَضَعَ كفَّه عَلَى الْبَابِ، ومَدَّ يَدَهُ (8) ، ووضعتُ ذَقني (9) عَلَى يَدِهِ، فَجَعَلُوا يَلْعَبُونَ (10) وَأَنَا أَنْظُرُ (11) ، قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يقول: حسبك (12) ، قالت:   (1) قوله: سمعت صوت أناس، وفي رواية: صبيان من الحبشة. وفي الحديث دليل على إباحة اللعب المباح والنظر إليه تطيباً وتشريحاً بشرط أن لا ينجرَّ إلى أمر مكروه، وشذَّ من استند لإِباحة الغناء لا سيما مع لمزامير والرقص للنساء والأمارد بهذا، وتفوَّه بأن النبي نظر إلى رقص الحبشة، وهو قول باطل قد قام لردِّه حملة الشريعة قديماً وحديثاً. ومن أراد تفصيل المرام فليرجع إلى كتاب "السماع" من إحياء العلوم وغيره. (1) قوله: سمعت صوت أناس، وفي رواية: صبيان من الحبشة. وفي الحديث دليل على إباحة اللعب المباح والنظر إليه تطيباً وتشريحاً بشرط أن لا ينجرَّ إلى أمر مكروه، وشذَّ من استند لإِباحة الغناء لا سيما مع لمزامير والرقص للنساء والأمارد بهذا، وتفوَّه بأن النبي نظر إلى رقص الحبشة، وهو قول باطل قد قام لردِّه حملة الشريعة قديماً وحديثاً. ومن أراد تفصيل المرام فليرجع إلى كتاب "السماع" من إحياء العلوم وغيره. (2) بالحربة وغيرها. (3) بفتحتين جنس من السودان. (4) بهمزة الاستفهام. (5) في نسخة: ترين. (6) أي قريب الدار. (7) أي خارج باب حجرة عائشة. (8) لزيادة الحجاب. (9) أي من داخل الحجرة. (10) في المسجد النبوي. (11) إلى لعبهم. (12) أي يكفيك، أي هل كفاكِ؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 وأسكتُ مَرَّتَيْنِ (1) أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ لِي: حسبُكِ، قُلْتُ: نَعَمْ. فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ فَانْصَرَفُوا. 26 - بَابُ الْمَرْأَةِ تَصِلُ (2) شَعْرَهَا بِشَعْرِ غَيْرِهَا 906 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُميد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عام حَجَّ (3) وهو على المنبر (4) يقول: يا أهلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ (5) - وَتَنَاوَلَ (6) قُصَّةً (7) مِنْ   (1) أي لم أقرّ بالكفاية. (2) عام حج: أي في السنة التي حجّ فيها. (3) عام حج: أي في السنة التي حجّ فيها. (4) أي منبر مسجد المدينة. (5) أي أين علماؤكم العارفون بالسنن حيث لا يمنعون مِنْ مثل هذا. (6) أي أخذ في يده. (7) قوله: قُصّة (هي شعر الناصية والمراد قطعة من الشعر، كذا في الأوجز 15/9. وحرسيّ قال الجوهري: الحرس هم الذين يحرسون السلطان والواحد حرسي لأنه قد صار اسم جنس فنُسِب إليه. عمدة القاري 22/63) من شعر، بضم القاف وتشديد الصاد، خصلة مجتمعة من الشعور تزيدها المرأة في شعرها لتُظهر كثرتها، كانت في يد حَرَسيّ بفتحتين أي واحد من الحرس أي الخدم الذين يحرسون وفي رواية للشيخين: أنه أخرج كُبّة من شعر فقال: ما كنت أرى أحداً يفعله إلا اليهود، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزور. وعند الطبراني بسند ضعيف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً بقُصَّةٍ، فقال: إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 شعرٍ، كَانَتْ فِي يَدِ حَرَسيّ - سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَيَقُولُ: إِنَّمَا هَلَكَتْ (1) بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ (2) نِسَاؤُهُمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يُكره لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ شَعْرًا إِلَى شَعْرِهَا (3) أَوْ تَتَّخِذَ قُصَّة شَعْرٍ، وَلا بَأْسَ بِالْوَصْلِ فِي الرَّأْسِ (4) إِذَا كَانَ (5) صُوفًا (6) . فَأَمَّا الشَّعْرُ مِنْ شُعُورِ النَّاسِ فَلا يَنْبَغِي (7) . وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله تعالى.   نساء بني إسرائيل كنّ يجعلن هذا في رؤوسهن، فلُعِنّ وحُرِّم عليهن المساجد. وفي الصحيحين والسنن: قال رسول الله: لعن الله الواصلة والمستوصلة. وفي الباب أخبار كثيرة بسطها المنذري في كتاب "الترغيب والترهيب" وغيره دالّة على كون الوصل كبيرة لا يحلّ بحال وإنْ أَمَرَها زوجُها. (1) أي بالعذاب والبلاء. (2) أي القُصَّة. (3) وإن لم يكن قُصَّة مجتمعة بل طاقاً مفرداً. (4) أي في شعره. (5) أي الموصول. (6) أي شعر (مذهب الحنفية أن الوصل بشعر الآدمي حرام وبغيره يجوز وهو مذهب ابن عباس والليث، وحكاه أبو عبيدة عن كثير من الفقهاء وهو مؤدَّى ما رواه أبو داود عن سعيد بن جبير والإِمام أحمد، كذا في الأوجز 15/12) الضأن، وكذا غيره من الحيوانات. (7) لحرمة استعمال جزء الآدمي لكرامته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 27 - بَابُ الشَّفَاعَةِ (1) 907 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لكلِّ نبيٍّ دَعْوَةٌ (2) ، فَأُرِيدُ إن شاء الله أن   (1) قوله: دعوة، أي دعاء مستجاب لإِهلاك قومه أو هدايتهم، أو رفع البلاء عنهم إلى غير ذلك مما ورد أن الأنبياء دعَوْا به فاستجيب لهم. وفيه إشعار بأنه لا يلزم أن يكون كل دعاء نبيّ مستجاباً. (2) قوله: دعوة، أي دعاء مستجاب لإِهلاك قومه أو هدايتهم، أو رفع البلاء عنهم إلى غير ذلك مما ورد أن الأنبياء دعَوْا به فاستجيب لهم. وفيه إشعار بأنه لا يلزم أن يكون كل دعاء نبيّ مستجاباً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 أختبئ (1) دعوتي شفاعةً لأُمّتي يومَ القيمة. 28 - باب الطيب للرجل (2) 908 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد: أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَتَطَيَّبُ بالمِسك المُفَتَّت (3) الْيَابِسِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بأسَ (4) بالمِسك للحَيّ وللميّت أن   (1) قوله: أن أختبيء، أي أختفي وأدخّر دعائي لأمتي يوم القيامة فإنّ احتياجهم عند ذلك أكثر، وفقرهم إلى دعائي في ذلك اليوم أظهر. (2) المفتّت: بتشديد التاء الأولى أي المكسَّر. (3) المفتّت: بتشديد التاء الأولى أي المكسَّر. (4) قوله: لا بأس بالمسك، بل يُستَحَبّ استعماله، بل استعمال الطيب مطلقاً حيّاً وميتاً لاستعماله من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حيّاً وميّتاً، بل قد ورد أن الطيب مما لا يُرَدُّ. وفي "المقامة المسكية"، لجلال الدين السيوطي: قد طُيِّب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنوط عند وفاته وفَضَلت منه فضلة، فأوصى عليّ أن يُحَنَّط به تبرّكاً بفضلاته، وأوصى سلمان رضي الله عنه احتضاره أن يُرَشّ به البيت في أثر الصحيح، وقال: إنه يحضرني ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولكن يجدون الريح، وكم روينا حديثاً صحيحاً جاء فيه ذكر المسك صريحاً، من ذلك انه شبّه به دم الشهيد وخلوف فم الصائم، وجعل له عليه المزيد، وقد أمر به صلى الله عليه وسلم الحائض إذا تطهّرت واغتسلت. انتهى. وفي "حياة الحيوان" حقيقته دم يجتمع في سُرَّة الغزال أي الظبي بإذن الله في وقت معلوم من السنة بمنزلة الموادّ التي تنصبّ إلى الأعضاء، وهذه السُرّة جعلها الله معدناً للمِسك فهي تثمر في كل سنة. انتهى. وقال النووي في "شرح صحيح مسلم" عند حديث "المسك أطيب الطيب": دل الحديث على أنه طاهر، يجوز استعماله في البدن، والثوب، ويجوز بيعه، وهذا كله مُجْمَع عليه ونقل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 يَتَطَيَّبَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. 29 - بَابُ الدُّعَاءِ 909 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عن أنس بم مَالِكٍ، قَالَ: دَعَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الَّذِينَ قَتلوا (1) أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاثِينَ غَدَاةً، يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وذَكْوان وعُصَيَّة: عصتِ اللَّهَ ورسولَه. قَالَ أَنَسٌ: نَزَلَ فِي الَّذِينَ قُتلوا بِبِئْرِ مَعُونَة قرآنٌ قَرَأْنَاهُ حَتَّى نُسخ: بلِّغوا قَوْمَنَا أنَّا قَدْ لَقِينا ربَّنا ورضي الله عنا ورضينا عنه.   أصحابنا عن الشيعة مذهباً باطلاً وهم محجوجون بإجماع المسلمين وبالأحاديث الصحيحة في استعمال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. انتهى. (1) قوله: على الذين قَتلوا، أي من المشركين. أصحاب بئر مَعُوْنة بفتح الميم وضمّ العين المهملة وسكون الواو بعدها نون، موضع بين مكة وعُسْفان، وذلك في صفر على رأس ستةٍ وثلاثين شهراً من الهجرة. ثلاثين غداةً أي صباحاً يدعو على رِعْل - بكسر الراء وسكون المهملة - بطن من بني سُلَيم، وذَكْوَان - بفتح المعجمة - بطن من بني سليم أيضاً، وعُصَيَّة - بالتصغير - عَصَتِ الله ورسولَه: أي هذه الطوائف. والحديث مروي في "صحيح مسلم" وغيره، وكانت السرِيَّة تُعرف بسرِيَّة القُرّاء (وكانت مع بني رعل وذكوان فتح الباري 7/279. وكانت هذه السرية في أوائل سنة أربع، كذا في اللامع 8/364) ، وكانوا سبعين، وقيل: أربعين، وقيل ثمانين. قال أنس: نزل في الذين قُتلوا أي في حق المقتولين قرآن أي بعض منه قرأناه أولاً ثم نُسخ أي تلاوته وهو قوله تعالى حكاية عنهم: (بلّغُوا قومنا أنا قد لقينا ربنا) ، يحتمل فاعلاً ومفعولاً ورضي عنا ورضينا عنه، كذا ذكره القاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 30 - بَابُ رَدِّ السَّلامِ 910 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِيُّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ بْنِ عُمَرَ، فَكَانَ يسلِّم (1) عَلَيْهِ، فَيَقُولُ (2) : السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَيَقُولُ (3) مثلَ مَا يُقال لَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا لا بَأْسَ بِهِ. وَإِنْ زَادَ الرَّحْمَةَ (4) وَالْبَرَكَةَ فَهُوَ أَفْضَلُ (5) . 911 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ الطُّفَيْلَ (6) بْنَ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ يأتي   (1) بصيغة المجهول أي يُسلِّم عليه الناس. (2) أي المسلِّم. (3) أي ابن عمر. (4) بأن قال: ورحمة الله وبركاته. (5) قوله: فهو أفضل، لقوله تعالى: (وإذا حُيِّيتُم بتحيةٍ فَحَيُّوا بأَحْسَنَ منها أو رُدُّوْهَا) (سورة النساء: الآية 86) لما ورد في الأحاديث عند أصحاب السنن مما يدلّ على فضل الزيادة. (6) قوله: أن الطُّفَيل، بضم الطاء وفتح الفاء ابن أُبَيّ بضم الألف وفتح الباء وتشديد الياء، ابن كعب الأنصاري الخزرجي، من ثقات التابعين، ويقال: إنه وُلد في العهد النبوي وهو عزيز الحديث، وكنيته أبو بطن بالفتح، كذا ذكره ابن الأثير في "جامع الأصول". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فيغدُوْ مَعَهُ (1) إِلَى السُّوقِ، قَالَ: وَإِذَا غَدَوْنا إِلَى السُّوقِ لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سقَّاطٍ (2) ، وَلا صَاحِبِ بيعٍ (3) ، وَلا مِسْكِينٍ (4) ، وَلا أحدٍ (5) إِلا سَلَّمَ عَلَيْهِ. قَالَ الطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا (6) فَاسْتَتْبَعَنِي (7) إِلَى السُّوقِ، قَالَ: فَقُلْتُ (8) مَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ؟ وَلا تَقِفُ (9) عَلَى الْبَيِّعِ، وَلا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ، وَلا تُسَاوِمُ بِهَا، وَلا تَجْلِسُ فِي مَجْلِسِ السُّوقِ، اجْلِسْ بِنَا ههنا   (1) أي يذهب الطفيل مع ابن عمر صباحاً إلى السوق. (2) قوله: على سقّاط، قال الزرقاني: بفتح السين وشد القاف بائع رديء الطعام، ويقال له سقطي أيضاً، والمتاع الرديء سقط والجمع أسقاط. (3) أي مطلقاً، أيَّ بائع كان، وفي "موطأ يحيى": صاحب بيته وهو بمعناه. (4) أي محتاج في السوق. (5) تعميم بعد تخصيص. (6) أي في يوم من الأيام. (7) أي طلب مني أن أتبعه. (8) لابن عمر. (9) قوله: ولا تقف على البَيِّع، بفتح الباء وشد التحتية المكسورة مثل البائع، أي لا تقف على البيع لتشتري أو تبيع. ولا تسأل عن السِّلَع - بكسر ففتح - جمع سلعة: المتاع الذي في معرض البيع. ولا تساوم، من المساومة بها أي لا تسأل عن قيمة السلعة، وما يتعلق بها. ولا تجلس في مجلس السوق، أي لتنظر إلى من يمّر بها، ويعامل فيها، وإذا كان كذلك فما يُخْرِجك إلى السوق؟ بل هو عبث، اجلس بنا ههنا نتحدّث في أمور ديننا ودنيانا ولا نذهب إلى السوق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 نَتَحَدَّثُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا بَطْنٍ وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ (1) إِنَّمَا نَغْدُوْ (2) لأَجْلِ السَّلامِ، نُسَلِّمُ (3) عَلَى مَنْ لَقِينَا. 912 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الْيَهُودَ (4) إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ فَإِنَّمَا يَقُولُ: السام عليكم، فقولوا (5) : عليك.   (1) أي كان بطنه عظيماً وبه كُنِّي بأبي بطن. (2) أي نذهب إلى السوق. (3) قوله: نسلّم على من لَقينا، أي لإِدراك هذه الفضيلة المتضمِّنة لإِنشاء السلام، وقد ورد به الترغيب الوافر، فأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود مرفوعاً والبخاري في "الأدب المفرد" موقوفاً: السلام اسم من أسماء الله وضعه في الأرض فأفشوه بينكم، وإذا مرّ الرجل بالقوم فسلّم عليهم فردُّوا عليه كان له عليهم فضل درجة، وإن لم يردوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم وأفضل. ونحوه عند البيهقي من حديث أبي هريرة. وفي "الأدب المفرد" من حديث أنس، وعند الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة: ألا أدلّكم على أمر إذا أنتم فعلتم تحاببتم: أفشوا السلام بينكم. وقال: وفي الباب عن عبد الله بن سلام وشريح ابن هانئ عن أبيه وعبد الله بن عمرو والبراء وأنس وابن عمر. (4) قوله: إن اليهود. وعند البخاري: إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم. (5) قوله: فقولوا عليك، بلا واو لجميع رواة الموطأ، وعند البخاري بالواو، وجاءت الأحاديث في صحيح مسلم بحذفها وإثباتها وهو أكثر. واختار ابن حبيب المالكي الحذف لأن الواو تقضي إثباتها على نفسه حتى يصح العطف، فيدخل معهم في ما دَعَوْا به، وقيل: هي للاستئناف لا للعطف، وقال القرطبي: كأنه قال: والسام عليك، والأَوْلى أن يقال: إنها للعطف غير أنّا نُجاب فيهم ولا يُجَابون كما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 913 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ وَهْبُ بْنُ كَيْسان، عَنْ مُحَمَّدِ (1) بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَمَانِيٌّ (2) فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ زَادَ (3) شَيْئًا مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا (4) قَالَ (5) ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ (6) هَذَا؟ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ (7) قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ قَالُوا: هَذَا الْيَمَانِيُّ الَّذِي يَغْشاك (8) ،   روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النووي: الصواب جواز الحذف، والإِثبات، وهو أجود، ولا مفسدة فيه لأن السام هو الموت، وهو علينا وعليهم، وقال عياض: قال قتادة: مرادهم بالسام السأمة أي تسأمون دينكم مصدر سئمت سامة وسآمة وسآماً مثل رضاعاً، وجاء هكذا مفسَّراً مرفوعاً، وعلى هذا فرواية حذف الواو أحسن. (1) قوله: عن محمد بن عمرو بن عطاء، بن عباس بن علقمة العامري، القرشي، المدني، من ثقات التابعين، روى عن أبي حميد، وأبي قتادة، وابن عباس، كذا في "جامع الأصول". (2) بفتح الياء وكسر النون وشد الياء أي من أهل اليمن. (3) أي ذلك المسلم اليمانيّ. (4) أي مع ذكر الرحمة والبركة. (5) أي للناس الحاضرين في مجلسه. (6) أي هذا المسلِّم الذي زاد على بركاته من هو؟. (7) قوله: هو يومئذ، هذا كلام أحد من الرواة، والظاهر أنه محمد بن عمرو يعني أن ابن عباس كان قد ذهب بصره، وصار أعمى في ذلك الوقت. فلذلك سأل الناسَ عن ذلك الرجل وإلا لرآه بعينه ولم يسأل عن تشخيصه. (8) أي يأتيك ويتردّد في مجلسك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 فَعَرَّفُوهُ (1) إِيَّاهُ حَتَّى عَرَفَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ السَّلامَ انْتَهَى إِلَى الْبَرَكَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا قَالَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَلْيَكْفُفْ (2) ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ السُّنَّة أَفْضَلُ (3) .   (1) أي ذكروا نَعْته ووصفه حتى عرفه. (2) أي ليمسك عن الزيادة. (3) قوله: فإن اتباع السنة أفضل، لأن العمل الكثير في بدعة ليس خيراً من عمل قليل في سُنّة، وظاهره أن الزيادة على وبركاته خلاف السُّنّة مطلقاً كما يفيده ظاهر قول ابن عباس ويوافقه ما في "موطأ يحيى": مالك عن يحيى بن سعيد أن رجلاً سلّم على ابن عمر فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، والغاديات والرائحات (النعم الآتية غدوة وروحة. انظر الأوجز 15/119) ، فقال ابن عمر: وعليك ألفاً، ثم كأنه كره ذلك. ويطابقه ما أخرجه البيهقي على ما ذكره في "الدر المنثور" عن عروة بن الزبير أن رجلاً سلّم عليه فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال عروة: ما ترك لنا فضلاً إن السلام انتهى إلى البركة. لكن قد ورد في بعض الأخبار المرفوعة تجويز الزيادة فعند أبي داود والبيهقي: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليكم، فردّ عليه، فجلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عشرة، ثم جاءه آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردّ عليه، فجلس، فقال: عشرون ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردّ عليه فقال: ثلاثون ثم أتى آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: أربعون، وقال: هكذا تكون الفضائل. وفي كتاب "عمل اليوم والليلة" لابن السُنّي - قال النووي: في "الأذكار" إسناده ضعيف - عن أنس: كان الرجل يمر بالنبي صلى الله عليه وسلم يرعى دوابّ أصحابه، فيقول: السلام عليك يا رسول الله، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته مغفرته ورضوانه، فقيل يا رسول الله تسلِّم عليّ هذا سلاماً ما تسلّمه على أحد من أصحابك، قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 31 - بَابُ الدُّعَاءِ (1) 914 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، وَقَالَ: رَآنِي ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَدْعُو (2) فَاُشير بِأُصْبُعَيَّ أُصْبُعٍ مِنْ كلِّ يدٍ فَنَهَانِيْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ نأخذُ. يَنْبَغِي أَنْ يُشير بأصبعٍ وَاحِدَةٍ (3) . وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 915 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يحيى بن سعيد، أنه سمع   وما يمنعني من ذلك وهو ينصرف بأجر بضعة عشر رجلاً (لكن الحديث أيضاً ضعيف، فالمعروف في السنّة هو الانتهاء إلى البركة وإليه أشار الإِمام محمد، كذا في الأوجز 15/104) . فالأولى القول بتجويز ذلك أحياناً والاكتفاء على "بركاته" أكثرياً. (1) قوله: وأنا أدعو فأشير بأصبعيّ، أي بكلا الأصبعين فنهاني عن ذلك، الظاهر أنه كان عند الإِشارة في التشهّد، فإنه يستحب فيه التوحيد، فمعنى أدعو أتشهّد، ويوافقه ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن بشر بن حرب أنه سمع ابن عمر يقول: إنّ رفعكم أيديكم في الصلاة لبدعة، والله ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، يعني الإِشارة بأصبعه. وعن أبي هريرة: أن رجلاً كان يدعو بأصبعيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدّ أحدّ، أي أشِر بواحدة، أخرجه الترمذي والنسائي والبيهقي. وعلى هذا فلا يناسب إيراد هذا الأثر في هذا الباب ويحتمل أن يكون المراد الدعاء حقيقة. (2) قوله: وأنا أدعو فأشير بأصبعيّ، أي بكلا الأصبعين فنهاني عن ذلك، الظاهر أنه كان عند الإِشارة في التشهّد، فإنه يستحب فيه التوحيد، فمعنى أدعو أتشهّد، ويوافقه ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن بشر بن حرب أنه سمع ابن عمر يقول: إنّ رفعكم أيديكم في الصلاة لبدعة، والله ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، يعني الإِشارة بأصبعه. وعن أبي هريرة: أن رجلاً كان يدعو بأصبعيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدّ أحدّ، أي أشِر بواحدة، أخرجه الترمذي والنسائي والبيهقي. وعلى هذا فلا يناسب إيراد هذا الأثر في هذا الباب ويحتمل أن يكون المراد الدعاء حقيقة. (3) قوله: بأصبع واحدة، قال القاري: أي حالة الدعاء مطلقاً، وكذا في التشهد عند قول أشهد أن لا إله إلا الله انتهى. ولا نعرف رفع الأصبع في حالة الدعاء مطلقاً فلْيُتأمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ ليُرفَع (1) بدعاءِ وَلَده مِنْ بَعده. وَقَالَ بِيَدِهِ فرفَعَها إِلَى السَّمَاءِ. 32 - بَابُ الرَّجُلِ يَهْجُرُ (2) أَخَاهُ 916 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يَحِلُّ (3) لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلاثِ ليالٍ (4) ، يَلْتَقِيَانِ (5) ، فيُعرض (6) هَذَا ويُعرض هَذَا، وَخَيْرُهُمُ (7) الذي يبدأ بالسلام.   (1) قوله: إن الرجل ليُرفَعُ، أي في درجاته ومنزله - وإن لم يكن بالغاً إليها بعمله - بدعاء ولده له بقوله: اللهم اغفر لي، ولوالديّ، ونحو ذلك. من بعده، أي بعد موته كما ورد: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية، وعلم يُنتَفَع به، وولد صالح يدعو له. أخرجه ابن ماجه وغيره. وقال بيده، أي أشار ابن المسيّب بيده فرفعها إلى السماء تفهيماً لعلو درجات الرجل. ولعليّ القاريّ في تفسير هذه الكلمة ما لا ينبغي ذكره كما لا يخفى على من راجع شرحه. (2) لا يحل: هكذا وجدنا في نسخ هذا الكتاب، والذي في "موطأ يحيى" وغيره عن أبي أيوب: أن رسول الله قال: لا يحل إلخ. (3) لا يحل: هكذا وجدنا في نسخ هذا الكتاب، والذي في "موطأ يحيى" وغيره عن أبي أيوب: أن رسول الله قال: لا يحل إلخ. (4) قوله: فوق ثلاث ليال، قال القاضي: ظاهره إباحة ذلك في الثلاث لأن البشر لا بد له من غضب وسوء الخُلُق فسومح تلك المدة. (5) جملة مستأنفه لبيان الهجر. (6) من الإِعراض. (7) قوله: وخيرهم، أي أفضلهما وأكثر ثواباً منها الذي يبدأ أخاه بالسلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي (1) الْهِجْرَةُ بين المسلمين.   الذي هو جالب للمحبة، ودافع للنفرة وعند أبي داود: فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه، فإن ردّ فقد اشتركا في الأجر وإن لم يردّ عليه فقد باء بالإِثم، وخرج المسلم من الهجرة. (1) قوله: لا ينبغي الهجرة (والسلام يخرج من الهجران عند مالك والأكثرين، وعند أحمد: لا بد من عودته إلى الحالة التي كان عليها أولاً. شرح الزرقاني 4/261) بين المسلمين، أي إذا كان لأمر غير ديني، وأما إذا كان كذلك فهو جائز، قال ابن عبد البر: العموم مخصوص بحديث كعب بم مالك ورفيقيه (في الأصل رفيقه هو تحريف) ، حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجرهم، وأجمع العلماء على أن من خاف من مكالمة أحد وصِلته ما يفسد عليه دينه أو يدخل عليه مضرة في دنياه أنه يجوز له مجانبته وبعده، ورب هجر جميل خير من مخاطبة (هكذا في الأصل والظاهر مخالطة، كما في الأوجز 14/143) مؤذية. انتهى. وقال النووي: وردت الأحاديث بهجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنّة وأنه يجوز هجرانهم دائماً، والنهي عن الهجران فوق ثلاث ليال إنما هو لمن هجر لحظّ نفسه ومعائش الدنيا، وأما هجران أهل البدع ونحوهم فهو دائم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 33 - بَابُ الْخُصُومَةِ فِي الدِّين (1) وَالرَّجُلُ يَشْهَدُ (2) عَلَى الرَّجُلِ بِالْكُفْرِ 917 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سعيد، أن عمر بن عزيز قَالَ: مَنْ جَعَل دِينَهُ غَرَضاً (3) لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التنقُّل (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي (5) الخصومات في الدين.   (1) غَرَضا: "نشانه"بالأردية. بفتحتين أي هدفاً لسهم الخصومة. (2) في نسخة النقل، أي الانتقال من شيء إلى شيء. (3) غَرَضا: "نشانه"بالأردية. بفتحتين أي هدفاً لسهم الخصومة. (4) في نسخة النقل، أي الانتقال من شيء إلى شيء. (5) قوله: لا ينبغي، قال القاري: لعله أراد المجادلة في أصول الدين بالأدلة العقلية مخالفاً لقواعد المجتهدين الذين مدار أمرهم على الأدِلَّة النقلية، إما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 918 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُّما امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: كَافِرٌ، فَقَدْ بَاءَ (1) بِهَا أَحَدُهُمَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسلام أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الإِسلام بِذَنْبٍ (2) أَذْنَبَهُ بكفرٍ، وإنْ عَظُم جُرمه (3) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.   بالطرق القطعية وإما بالشواهد الظنية. انتهى. وهذا تخصيص من غير مخصص فإن المجادلة في فروع الدين أيضاً كذلك. (1) قوله: فقد باء بها أحدهما، قال الباجي: إن كان المقول له كافراً فهو كما قال، وإن لم يكن خيف على القائل أن يصير كذلك. انتهى. ومعنى باء به: رجع به أي بالكفر (كذا في الأوجز 15/266) . (2) قوله: بذنب أذنبه، أي ارتكبه، وإن كان كبيرةً أو أكبر الكبائر أو كان ذنب عقيدة ما لم يبلغ إلى حدّ الكفر، فإن انجرَّ سوء اعتقاده إلى الكفر جاز تكفيره. ومن ثَمَّ نُقل عن السلف - منهم إمامنا أبو حنيفة - أنا لا نكفِّر أحداً من أهل القبلة، وعليه بنى أئمة الكلام عدم تكفير الروافض والخوارج والمعتزلة والمجسِّمة وغيرها من فِرَق الضلالة سوى من بلغ اعتقاده منهم إلى الكفر، وأما ما وشح به متأخِّرو الفقهاء كتبهم من أنَّ سبّ الشيخين كفر ونحو ذلك فهو من تخريجاتهم مخالفاً لسلفهم فإن لم يكن مؤوَّلاً فهو مردود. (3) بالضمّ أي كَبُرَ ذنبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 34 - بَابُ مَا يُكره مِنْ أَكْلِ الثُّومِ (1) 919 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ (2) بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ (3) - وَفِي رِوَايَةٍ: الْخَبِيثَةِ (4) - فَلا يقربنَّ (5) مسجدَنا (6) ، يُؤذِينا بِرِيحِ الثُّوم.   (1) قوله: عن سعيد بن المسيب، قال السيوطي في "تنوير الحوالك": قال ابن عبد البر: هكذا هو في "الموطأ " عند جميعهم مرسل إلاَّ ما رواه محمد بن معمر عن روح بن عباده، عن صالح بن أبي الأخضر، ومالك عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة موصولاً. وقد وصله معمر ويونس وإبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب. قلت: رواية معمر أخرجها مسلم، ورواية إبراهيم أخرجها ابن ماجه، ورواية يونس عزاها ابن عبد البر إلى ابن وهب، وللبخاري من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في غزوة خيبر. (2) قوله: عن سعيد بن المسيب، قال السيوطي في "تنوير الحوالك": قال ابن عبد البر: هكذا هو في "الموطأ " عند جميعهم مرسل إلاَّ ما رواه محمد بن معمر عن روح بن عباده، عن صالح بن أبي الأخضر، ومالك عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة موصولاً. وقد وصله معمر ويونس وإبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب. قلت: رواية معمر أخرجها مسلم، ورواية إبراهيم أخرجها ابن ماجه، ورواية يونس عزاها ابن عبد البر إلى ابن وهب، وللبخاري من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في غزوة خيبر. (3) قوله: من هذه الشجرة، يعني الثُّوم. وفيه مجاز، لأنَّ المعروف لغة أن الشجر ماله ساق وما لا ساق له فنجم، وبه فسَّر ابن عباس قوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (سورة الرحمن: الآية 6) ، كذا في "شرح الزرقاني". (4) صفة الشجرة. (5) بفتح الياء وتشديد النون، وفيه مبالغة فإن القرب إذا كان ممنوعاً فالدخول بطريق أَوْلى. (6) قوله: مسجدنا، قيل: هذا خاصّ بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والجمهور على ذلك أنه عام في كل المساجد، ومعنى مسجدنا، يعني ماجد المسلمين، ويدل عليه عموم التعليل بقوله: يؤذينا بريح الثُّوم، جملة مستأنفة أو حالية، بل ورد في رواية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا كُرِه ذَلِكَ (1) لِرِيحِهِ، فَإِذَا أمَتَّه (2) طَبْخاً فَلا بَأْسَ (3) بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. 35 - بَابُ الرُّؤْيَا (4) 920 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ (5) يَقُولُ: سمعتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم   فإن الملائكة تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم، وهذا يدل على أن علَّة النهي هو الرائحة الكريهة المؤذية لأهل المسجد من بني آدم والملائكة. وبه استُدِلَّ على كراهة كلِّ ما له رائحة كريهة كالبصل والفجل والكُراث ونحو ذلك، ومثله شرب الدخان المتداول في هذه الأزمان، وتداوله بليَّة عامة شملت الخواصّ والعوامّ اختلفت فيه أقوال الكرام فمن محرَّم، ومن مبيح بلا كراهة، ومن حاكم بالكراهة تحريماً أو تنزيهاً. وقد حققت الأمر فيه رسالتي "ترويح الجنان بتشريح حكم شرب الدخان" فلتُراجع. (1) أي أكل الثوم أو قرب المسجد بعد أكله. (2) من الإِماتة، أي أزلته، ودفعته بالطبخ مع اللحم وغيره. (3) قوله: فلا بأس به، لقول علي: نُهي عن أكل الثوم إلاَّ مطبوخاً أخرجه الترمذي، وذكر أنه روي مرفوعاً. (4) أبا سلمة: ابن عبد الرحمن بن عوف. (5) أبا سلمة: ابن عبد الرحمن بن عوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 يَقُولُ: الرُّؤْيَا (1) مِنَ اللَّهِ والحُلْم مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى (2) أَحَدُكُمُ الشَّيْءَ (3) يَكْرَهُهُ فلينفُثْ (4) عَنْ يَسَارِهِ (5) ثَلاثَ مَرَّاتٍ إِذَا اسْتَيْقَظَ، وليتعوَّذ (6) مِنْ شرِّها   (1) قوله: الرؤيا من الله (في المسوى، في قوله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فيه بيان أنه ليس كل ما يراه الإِنسان في منامه يكون صحيحاً، إنما الصحيح فيه ما كان من الله يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة أمّ الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها، وهي على أنواع: قد يكون من فعل الشيطان يلعب بالإِنسان، أو يريه ما يحزنه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بأن يبصق عن يساره، ويتعوذ بالله منه كأنه يقصد به طرده إخزاءً، وقد يكون من حديث النفس كمن يكون في أمر أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر، والعاشق يرى معشوقه، وقد يكون ذلك من مزاج الطبيعة كمن غلب عليه الدم يرى الفصد والرعاف والحمرة، ومن غلبه الصفراء يرى النار والأشياء الصفر، ومن غلب عليه السوداء يرى الظلمة والأشياء السود، والأهوال والموت، ومن غلب عليه البلغم يرى البياض والمياه والثلج، ولا تأويل لهذه الأشياء. أوجز المسالك 15/69) ، في رواية يحيى الصالحة، وهي صفة موضَّحة، وهي ما فيها بشارة أو تنبيه على غفلة، ومعنى كونها من الله من فضله ورحمته أو من إنذاره وتبشيره أو من تنبيهه وإرشاده. والحُلم، بضم الحاء هو لغة عامٌّ للرؤية الحسنة والسيئة غير أن الشرع خص الخير باسم الرؤيا، والشرّ باسم الحلم. من الشيطان، أي من إلقائه وتخويفه ولعبه بالنائم. (2) أي في المنام. (3) أي أمراً مكروهاً يحزنه. (4) بضمّ الفاء وكسرها، وهذا لطرد الشيطان. (5) تخصيصه لكونه جانب الشيطان. (6) قوله: وليتعوذ من شرِّها، أي شر تلك الرؤيا يقول إذا استيقظ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 فَإِنَّهَا (1) لَنْ تَضُرَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. 36 - بَابُ جَامِعِ الْحَدِيثِ (2) 921 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (3) يَحْيَى بن سعيد، عن مُحمد بن حَبَّان، عن يحيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّان، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن بيعتين (4) ، عن لِبْستين (5) ، وَعَنْ صَلاتَيْنِ، وَعَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ، فَأَمَّا   أعوذ بما عاذت به ملائكةُ الله ورسلُه من شر رؤياي هذه أنْ يصيبني فيها ما أكره في ديني أو دنياي، أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة، عن إبراهيم النخعي. وأخرج ابن السُّنِّي التعوُّذ بلفظ: اللهم إني أعوذ بك من عمل الشيطان وسيئات الأحلام. وفي "الصحيح" بعد ذكر التعوُّذ: ولا يحدث بها أحداً، وفي رواية لمسلم: وليتحول عن جنبه الذي كان عليه، وفي رواية للشيخين: فليقم فليصل. (1) أي تلك الرؤيا. (2) قوله: أخبرنا يحيى بن سعيد، الأنصاري، عن محمد بن حَبّان بفتح الحاء وتشديد الباء، عن يحيى، عن محمد بن يحيى بن حبّان، هكذا في نسخ عديدة، وعليها شرح القاري، والصحيح ما في بعض النسخ (ومنها النسخة التي اعتمد عليها الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف. انظر ص 238) : أخبرنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن الأعرج إلخ، كما يظهر من معاينة طرق الحديث. (3) قوله: أخبرنا يحيى بن سعيد، الأنصاري، عن محمد بن حَبّان بفتح الحاء وتشديد الباء، عن يحيى، عن محمد بن يحيى بن حبّان، هكذا في نسخ عديدة، وعليها شرح القاري، والصحيح ما في بعض النسخ (ومنها النسخة التي اعتمد عليها الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف. انظر ص 238) : أخبرنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن الأعرج إلخ، كما يظهر من معاينة طرق الحديث. (4) قال ابن حجر: بفتح الباء، ويجوز الكسر على إرادة الهيأة. (5) بكسر اللام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 الْبَيْعَتَانِ: المنابذةُ (1) وَالْمُلامَسَةُ، وَأَمَّا اللِّبْسَتَانِ: فَاشْتِمَالُ الصمَّاء وَالاحْتِبَاءُ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ كَاشِفًا عَنْ فَرْجِهِ (2) ، وَأَمَّا الصَّلاتَانِ: فَالصَّلاةُ (3) بَعْدَ الْعَصْرِ (4) حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسِ وَالصَّلاةُ (5) بَعْدَ الصُّبْحِ (6) حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَمَّا الصِّيَامَانِ فَصِيَامُ يَوْمِ الأَضْحَى (7) وَيَوْمِ الْفِطْرِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله.   (أي عن الهيئتين من هيئات اللباس) . (1) قوله: المنابذة والملامسة، هذان من بيوع الجاهلية، فالأول أن ينبذ أي يطرح الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ إليه الآخر من غير تأمل، ويقول كل واحد: هذا بهذا. والثاني أن يلمس الرجل ثوبه ولا يتبيَّن له ما فيه، وإنما نُهِي عنهما لكونهما من بيوع الغرر. (2) قوله: كاشفاً عن فرجه، قيد لكل منهما لإِفادة أنَّ الصَّماء والاحتباء إنما مُنع عنهما لأجل كشف العورة، فإن أمن من ذلك فلا بأس به، وقد روى أبو داود في سننه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحِبْوَة، والإِمام يخطب، ثم ذكر أنهم كانوا يحتبون حال الخطبة، ولم يكرهها إلاَّ عبادة بن نسي، وقال الخطابي: إنما نُهي عنه حال الخطبة لأنه يجلب النوم، ويعرض طهارته للانتقاض. وقال السيوطي في "مرقاة الصعود" الحِبْوة بكسر الحاء وضمها، اسم من الاحتباء، وهو أن يضم الإِنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعها به مع ظهر، ويشدُّه عليه، وقد يكون باليدين عوض الثوب. (3) أي النافلة دون القضاء. (4) أي بعد صلاته. (5) أي النوافل ما خلا سنَّة الفجر. (6) أي بعد طلوع الصبح الصادق. (7) أي يوم عيد الأضحى في ذي الحجة، ويوم الفطر في شوّال، فإنهما يوما فطر وأكل وشرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 922 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي مُخْبرٌ: أنَّ ابْنَ عُمَرَ (1) قَالَ - وَهُوَ يُوصي (2) رَجُلا -: لا تَعْتَرض (3) فِيمَا لا يَعْنِيكَ، وَاعْتَزِلْ عَدُوَّكَ، وَاحْذَرْ خَلِيلَكَ إلاَّ الأَمِينَ، وَلا أَمِينَ إلاَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ، ولا تصحب   (1) في بعض النسخ المعتمدة مكان ابن عمر عمر، ومثله أخرجه أبو يوسف في "كتاب الخراج"، عن عمر. (2) أي ينصح رجلاً من أحبابه وخدّامه. (3) قوله: لا تعترض، أي لا تتعرض ولا تشتغل فيما لا يعنيك أي لا يفيدك في الدين والدنيا فإن من حسن الإِسلام تركه ما لا يعنيه، أخرجه الترمذي وغيره مرفوعاً. واعتزال من الاعتزال، عدوك، أي كن منه على حذرك ولا تخالطه فيضربك. واحذر، من الحذر بمعنى الخوف خليلك، من أن يخونك في دينك أو دنياك. ولا أمين، أي بأمانة كاملة إلاَّ من خشي الله فإن من لم يخشه لا يبالي بالخيانة. ولا تصحب فاجراً، أي فاسقاً كي لا تتعلم من فجوره، فإن الصحبة مؤثِّرة والنفس أمّارة ولذا ورد "المرء على دين خليله فلينظر من يخالل". ولا تفشِ، من الإِفشاء بمعنى الإِظهار إليه أي الفاجر. سرّك - بالكسر وتشديد الراء - لأنه غير مأمون في دينه وأمر نفسه فكيف في أمر غيره. واستشر، من الاستشارة بمعنى طلب المشورة في أمرك دينّياً كان أو دنيوياً الذين يخشون الله، فإنهم بنصحونك، ويخلصون الأمر لك، وفيه تنبيه على فضل المشورة ويؤيده قوله تعالى لنبيِّه: (وَشَاوِرْهُم في الأَمْرِ) سورة آل عمران: الآية 159) ، وقوله في وصف أصحابه: (وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى) سورة الشورى: الآية 38) ، وأخرج الطبراني في "الأوسط"، عن أنس مرفوعاً: "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 فَاجِرًا كَيْ تتعلَّم مِنْ فُجُورِهِ، وَلا تُفشِ إِلَيْهِ سرَّك، وَاسْتَشِرْ فِي أَمْرِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْن اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ. 923 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبير الْمَكِّيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى (1) أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بشِماله، وَيَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ (2) الصَمَّاء أَوْ يَحْتَبِيَ في ثوب واحد، كاشفاً عن فرجه.   (1) قوله: نهى أن يأكل الرجل بشماله إلخ، علَّة النهي عن الأكل بالشمال لكون الأكل من باب الإِكرام واليمين موضوعة له، وللتجنُّب عن مشابهة الشيطان، فإنه يأكل بشماله ويشرب بشماله، وأما النهي عن المشي في نعل واحدة وكذا في خفِّ واحد فقيل: لأن الشيطان يمشي كذلك، وقيل: هو إرشادي لئلاّ يكون أحد الرجلين أرفع من الأخرى فيكون سبباً للعِثَار، وقيل: لما فيه من قلَّة المروة، وقيل: غير ذلك، وثبت عند الطبراني وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انقطع شسع نعله مشى في نعل واحدة والأخرى في يده حتى يجد شسعها، وهو محمول على بيان الجواز. وقد فصَّلت هذا البحث بما له وما عليه في رسالتي "غاية المقال في ما يتعلَّق بالنعال". (2) قوله: وأن يشتمل الصمَّاء، بالفتح وتشديد الميم، هو أن يشتمل الرجل بالثوب الواحد على أحد شقيه فيظهر أحد شقيه ليس عليه ثوب، هذا هو تفسير مالك، وصرح به في رواية أبي سعيد الخدري، وعند اللغويين هو أن يشتمل بالثوب حتى يخلِّل به جسده، لا يرفع منه جانباً فلا يبقى ما يخرج منه يده، ولذلك سُمِّيت صمّاء لسد المنافذ كلها كالصخرة الصمّاء لا خرق فيها ولا صدع (فيكره على هذا لعجزه عن الاستعانة بيده فيما يعرض له في الصلاة كدفع بعض الهوامّ. اهـ. كذا في الأوجز 14/203) ، كذا ذكره الزرقاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكره لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ بِشِمَالِهِ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصمَّاء، وَاشْتِمَالُ الصمَّاء أَنْ يَشْتَمِلَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ (1) ، فَيَشْتَمِلُ بِهِ (2) فَتَنْكَشِفُ عَوْرَتُهُ مِنَ النَّاحِيَةِ الَّتِي تُرفع (3) مِنْ ثَوْبِهِ، وَكَذَلِكَ الاحتباءُ (4) فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ. 27 - بَابُ الزُّهْدِ وَالتَّوَاضُعِ (5) 924 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ (6) رَاكِبًا وماشياً.   (1) أي واحد. (2) بحيث يستر بدنه كله. (3) أي تنكشف وتظهر. (4) قوله: وكذلك الاحتباء، بأن يقعد على ألْيَتَيْه، وينصب ساقيه ملتفّاً بثوب أو بيده (كذا في شرح الزرقاني 4/277) . (5) قوله: كان يأتي قباء، بضم القاف ممدوداً ومقصوراً أي مسجد قباء - وهو أول مسجد أُسِّس على التقوى - راكباً، أحياناً، وماشياً، أحياناً وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم فإنه كان قادراً على الركوب كل مرة فترك ذلك واختار المشي مع بعد المسافة تواضعاً. (6) قوله: كان يأتي قباء، بضم القاف ممدوداً ومقصوراً أي مسجد قباء - وهو أول مسجد أُسِّس على التقوى - راكباً، أحياناً، وماشياً، أحياناً وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم فإنه كان قادراً على الركوب كل مرة فترك ذلك واختار المشي مع بعد المسافة تواضعاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 925 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حدَّثه هَذِهِ الأَحَادِيثَ الأَرْبَعَةَ، قَالَ أَنَسٌ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يومئذٍ (1) أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ رَقَّع بَيْنَ كَتِفَيْهِ برقاعٍ ثَلاثٍ، لَبَّد بعضَها فَوْقَ بَعْضٍ، وَقَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ رأيتُ يُطْرَحُ (2) لَهُ صاعُ تمرٍ فَيَأْكُلُهُ (3) حَتَّى يَأْكُلَ حَشَفَه (4) ، قَالَ أَنَسٌ: وَسَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يوماً، و (5) خرجت معه (6) حتى دخل   (1) قوله: وهو يومئذٍ، أي يوم رؤيتي على الحالة المذكورة. أمير المؤمنين وخليفة رسول الله في الأرضين، ومع هذا السلطان والجاه اختار التواضع والزهد في اللبس وغيره لله. رأيته قد رقَّع من الترقيع ماضٍ معروف كما اختاره القاري، أو كنفع أي جعل رقعة مكان قطع الثوب كما اختاره الزرقاني (4/279، وفي المحلى: وروي أنه رضي الله عنه خطب وهو خليفة وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة. كذا في الأوجز 14/208) . بين كتفيه، أي في ثوبه وقميصه في المقام الذي بين كتفيه برقاع ثلاث بالكسر، وفي بعض الروايات برُقَع بالضم ثم الفتح كل منها جمع رقعة بالضم، وهي قطعة من الثوب وغيره تخاط أو تلزق مكان قطع الثوب. لبَّد، من التلبيد أي ألزق بعضها ببعض وجعل فوق بعض لأن المقصود كان هو الستر لا الفخر حتى تصلح الخياطة وترفق الرقعة. (2) بصيغة المجهول أي يلقي بين يديه. (3) لكمال تواضعه وحذره عن صنيع أرباب الفخر من أكل النقيّ، وترك الرديء. (4) بفتحتين أي رديء التمر ويابسه. (5) حالية. (6) أي عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 حائطاً (1) ، فسمعته يقول (2) : و (3) بيني وَبَيْنَهُ جِدَارٌ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ: عُمر بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بخٍ بخْ وَاللَّهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ لتتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ ليُعذِّبنَّك، قَالَ أَنَسٌ: وَسَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وسلَّم (4) عَلَيْهِ رَجُلٌ، فردَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، ثُمَّ سَأَلَ (5) عُمَرُ الرجلَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ قَالَ الرَّجُلُ: أحمَد اللَّهَ إِلَيْكَ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هذه أردتُ منك.   (1) أي بستاناً. (2) قوله: فسمعته يقول: أي يخاطب نفسه ويعاتبها، فيقول عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وخليفتهم ورأسهم وناظم أمورهم، بَخٍ بَخْ، أي عظم الأمر، وفخم، الأول منون، والثاني مسكَّن - وجاء تسكينهما وتشديدهما - كلمة تقال عند الرضى والتعجب بالشيء كذا في "القاموس". والله يا ابن الخطاب خاطَبَ نفسه، لتتقيَنَّ الله أي تخافه، وتحذر عقابه، في أمور نفسه ومن هو أميره، أو ليعذبَنَّك الله، فلا تغترَّ بالخلافة فإنها ناجية إذا اتصلت بالتقوى وهالكة إذا انضمت مع الهوى (وفي المحلى: إذا كان مثل عمر رضي الله عنه يقول ذلك من الخوف، فغيره أولى بذلك فلا يأمن مكر الله إلاَّ القوم الخاسرون. كذا في الأوجز 15/315) . (3) أي والحال أن بيني وبينه جدار البستان أنا خارجه وهو داخله. (4) جملة حالية. (5) قوله: ثم سأل عمر الرجل، من كمال تواضعه وحسن خُلُقه: كيف أنت؟ أي كيف حالك؟ فقال الرجل: أحمد الله إليك أي حمداً منتهياً إليك، قال عمر: هذه أي هذه الكلمة المتضمنة لحمد الله أردت منك بسؤالي عنك. قال الزرقاني: قد وافق عمر المصطفى في ذلك، فأخرج الطبراني بسند حسن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: كيف أصبحتَ يا فلان؟ فقال: أحمد الله إليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي أردتُ منك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 926 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الخطاب يبعث (1) إلينا بأحِظَّائنا من الأَكارع والرؤوس. 927 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ (2) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ: خَرَجْتُ (3) مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُرِيدُ الشَّامَ (4) ، حَتَّى إِذَا دَنَا (5) مِنَ الشَّامِ أَنَاخَ عمر، وذهب   (1) قوله: كان عمر بن الخطاب يبعث إلينا، أي إلى أمهات المؤمنين. بأحظَّائنا، أي حظوظنا وأنصبائنا. من الأكارع والرؤوس، أي أكارع الغنم ورؤوسها عند ذبحها. والمعنى أنّا نأكل منها ولا نرغب عنها لزهدنا في الدنيا ورغبتنا في العقبى، كذا قال القاري. والأكارع بفتح الهمزة جمع كُراع بالضم، وهي أطراف الشاة من الأيدي والأرجل، والحظ بالفتح والتشديد جمعه حظوظ، وحِظّاء بالكسر والتشديد ذكره في "القاموس" وغيره. (2) أي ابن محمد بن أبي بكر الصديق. (3) أي في زمان خلافته. (4) أي يقصد عمر بلاد الشام ويسافر إليه. (5) قوله: حتى إذا دنا، أي قرب من الشام أناخ أي أجلس عمر بعيره. وذهب لحاجته، قضاء حاجته، قال أسلم: فطرحت فَرْوتي - بالفتح - أي ألقيت فروتي الذي كنت ألبسه. بين شِقَّيْ، بالكسر طَرَفَيْ رَحْلي، بالفتح أي رحل بعيري، فلما فرغ عمر من قضاء الحاجة عمد أي قصد لغاية تواضعه إلى بعيري الذي كان عليه الفروة، فركبه على الفرو الذي كان عليه، وركب أسلم مولاه على بعيره أي سيده عمر، فخرجا يسيران إلى الشام على تلك الهيئة حتى لقيهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 لِحَاجَةٍ (1) ، قَالَ أَسْلَمُ: فَطَرَحْتُ فَرْوَتي بَيْنَ شِقَّي رَحْلي، فَلَمَّا فَرَغَ عُمَرُ عَمَدَ إِلَى بَعِيرِي فَرَكِبَهُ عَلَى الْفَرْوَةِ وَرَكِبَ أَسْلَمُ بعيرَه، فَخَرَجَا يَسِيرَانِ حَتَّى لَقِيَهُمَا أَهْلُ الأَرْضِ، يتلقَّوْن (2) عُمَرَ، قَالَ أَسْلَمُ: فَلَمَّا دنَوْا مِنَّا أشَرْتُ لَهُمْ إِلَى عُمَرَ، فَجَعَلُوا يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ، قَالَ عُمَرُ: تطمَحُ أبصارُهم إِلَى مراكبِ مَن لا خَلاقَ لَهُمْ، يُرِيدُ (3) مَرَاكِبَ الْعَجَمِ. 928 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْكُلُ خُبْزًا مَفْتُوتًا (4) بِسَمْنٍ، فَدَعَا (5) رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَجَعَلَ (6) يَأْكُلُ ويتَّبعُ (7) بِاللُّقْمَةِ وَضَرَ الصحفة، فقال له عمر:   أهل الأرض أي سُكَّان الشام يستقبلونه ويلاقونه، فلما دَنَوْا أي قربوا منا أشرت لهم إلى عمر أنه هو الراكب على الفرو لئلا يظنوا المولى عبداً والعبد سيداً لاختلاف المركبين، فجعلوا أي أهل الشام يتحدَّثون بينهم تعجُّباً من صنيع عمر وتواضعه وهو أمير المؤمنين. قال عمر لمّا رأى تحدّثهم وتعجبهم: تطمح أي تقع وتطرح أَبْصَارُهُمْ إِلَى مَرَاكِبِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُمْ أي لا نصيب لهم من ملوك العجم الكفرة ككسرى، وقيصر، فكانوا يظنون أن مركب أمير المؤمنين مثل مراكبهم في الفخر والزينة والشهرة. (1) في نسخة: لحاجته. (2) في نسخة: يبتغون. (3) أي يقصد عمر من قوله: من لا خلاق لهم. (4) من فتّ الخبز إذا كُسر إلى قطعات. (5) أخبرنا مالك، ليأكل معه. (6) ذلك الرجل. (7) قوله: ويتّبع، بشد الفوقية باللقمة أي لقمة الخبز. وَضَر الصحفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 كَأَنَّكَ مُفْقِرٌ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ سَمْنًا وَلا رَأَيْتُ أَكْلا بِهِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا آكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يُحيي الناسُ مِنْ أَوَّلِ مَا أُحْيَوا. 38 - بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ 929 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَّى السَّاعَةُ (1) ؟ قَالَ (2) : وما أعدّدْتَ لها؟ قال:   - بالفتح - أي القصعة وهو بفتح الواو وفتح الضاد المعجمة بعده راء مهملة. الوسخ أي وسخ القصعة وما تعلق به من أثر السمن. فقال له عمر، لذاك الرجل البادي: كأنك مُفْقِرٌ، بضم الميم وكسر القاف أي ذا فقر واحتياج حيث تتّبع وسخ الإِناء فلعلك لا تجد إداماً وفي بعض النسخ: مقفر بتقديم القاف، والقفر الخالي. قال ذلك الرجل: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ سَمْنًا وَلا رَأَيْتُ أَكْلا به أي بالسمن منذ كذا وكذا، أي من مدة ذكرها، فقال عمر، بكمال تواضعه وحسن مرافقة وموافقة رعيته لمّا سمع أن في رعيته من لا يتيسّر له أكل السمن مدة مديدة، وكانت تلك السنة سنة قحط وجدب: لا آكل السمن حتى يُحيى - مجهول - من الإِحياء، الناس أي يعيش الناس عيشاً طيباً. من أول ما أُحْيَوا، أي كما كانوا يحيون سابقاً أي حتى يحصل لهم المطر والخصب ويتيسّر لهم الرزق والإِدام. (1) أي في أي وقت تقوم القيامة. (2) قوله: قال: وما أَعْدَدتَ لها، أي ما هَيأْت للساعة من الأعمال الصالحة حيث تشتاق إليها، وتسأل (هذا الرجل هو ذو الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد، كذا في فتح الباري 10/555) عن وقتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 لا شَيْءَ (1) ، وَاللَّهِ إِنِّي لَقَلِيلُ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَإِنِّي لأحبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ (2) : إِنَّكَ مَعَ مَنْ أحببتَ. 39 - بَابُ فَضْلِ الْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَةِ 930 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا أبو الزِّناد (3) ، عن الأعرج، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ (4) بالطّوَّاف الَّذِي   (1) أي ما هيّهات لها شيئاً من الطاعات. (2) قوله: قال، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك مع من أحببت، يعني إن حبَّك في الله بلّغك إلى مرافقة من تُحِبُّه، وإن كنتَ قليل العمل، وفي معناه ما ورد: "المرء مع من أحبّ: أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، وشاهده قوله تعالى: (ومن يُطع الله والرسولَ فأولئكَ مَعَ الذِين أنْعَمَ الله عَليهِم مِن النَّبِيِّين والصِّدِيقين والشُّهَداءِ والصَّالِحِين وحَسُنَ أولئك رَفِيْقَا) سورة النساء: الآية 69) . (3) عبد الله بن ذكوان. (4) قوله: ليس المسكين (قيل: في الحديث حجة لما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك أن المسكين هو الذي لا يملك شيئاً وأنه أسوء حالاً من الفقر، كذا في الأوجز 14/254) ، أي المسكين الكامل في المسكنة الذي يربو الصدقة عليه ويضاعف لها ثواباً. ليس بالطّوَّاف، بصيغة المبالغة أي كثير الطواف والدور على الناس للسؤال فيعطيه واحد لقمة وآخر لقمتين فيرجع، بل الكامل في المسكنة هو الذي ليس عنده ما يكفيه ويغنيه إلاّ أنه لتعفُّفه وترك سؤاله وإلحاحه. لا يُفطن، أي لا يُعلم مسكنته. ولا يقوم يسأل الناس، بل هو مُنْزَوٍ في بيته قانع صابر معتمد على ربه، فهذا المسكين الذي إذا أُعطي أصاب المعطي ثواباً مضاعفاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، تردُّه اللقمةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، قَالُوا (1) : فَمَا (2) الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي مَا عِنْدَهُ مَا يُغْنيه وَلا يُفطَن (3) لَهُ فيُتصدَّق عَلَيْهِ (4) ، وَلا يَقُومُ (5) فَيَسْأَلُ النَّاسَ (6) . قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا (7) أحقُّ بِالْعَطِيَّةِ، وَأَيُّهُمَا أعطيتَه زَكَاتَكَ أَجْزَاكَ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. 931 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زيد بن أسلم، عن معاذ (8) بن   (1) أي الصحابة الحاضرون. (2) في رواية: فمن. (3) بصيغة المجهول. (4) أي لا يعلم أنه مسكين حتى يُتصدَّق عليه - بصيغة المجهول - لعدم اطلاع الناس على حاله. (5) أي من بيته. (6) قوله: فيسأل الناس، برفع المضارع في الموضعين عطفاً على المنفي أي لا يفطن فلا يتصدق عليه، ولا يقوم فلا يسأل الناس، أو بالنصب فيهما بأن مضمرةً جواباً للنفي، قاله بعض شراح "المصابيح". (7) قوله: هذا، يعني ليس الغرض من الحديث نفي المسكنة عن السائل الطوّاف وحصره على المتعفف حتى لا يجزئ أداء الزكاة وغيرها إلى الطوّاف، بل الغرض منه أن هذا أحق بالعطية، وثواب الصدقة عليه أكثر، وأيّهما - طوّافاً كان أو غيره - أعطيت زكاته أجزأ لكون كل منهما من أفراد مطلق المسكين. (8) قوله: عن معاذ بن عمرو بن سعيد، عن معاذ، عن جدّته، هكذا في نسخ متعددة، والصواب ما في "موطأ يحيى" وشرحه: مالك عن زيد بن أسلم العدوي، عن عمرو - بفتح العين - بن سعد بن معاذ نسبة إلى جدّه، إذ هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُعَاذٍ؟، عَنْ جَدَّتِهِ: أن رضي الله عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ (1) ، لا تحقِرَنّ (2) إِحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُراع شاة مُحرق. 932 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن أبي بُجَيْد (3)   عمرو بن معاذ بن سعد بن معاذ الأشهلي، المدني يكنى أبا محمد، وقلبه بعضهم فقال: معاذ بن عمرو وهو تابعي، ثقة، عن جدّته، قال ابن عبد البر: قيل اسمها حواء بنت يزيد بن السكن، وقيل: إنها جدة ابن بجيد أيضاً صحابية مدنية. (1) قوله: يا نساء (وروي بضم الهمزة منادى مفرد، والمؤمنات: صفة له، فيُرفع على اللفظ وبنصب بالكسر على المحل، ولا تحقرن: نهي يحتمل أن يكون للمهدية أو المهدي إليها. والكراع بالضم: ما دون العقب من الرجل للمواشي والدواب وهو مؤنث. ولعل تذكيره لغة "شرح الزرقاني " 4/421) المؤمنات، بإضافة العام إلى الخاص، وفي رواية يا نساء المؤمنات بالرفع. لا تحقرن إحداكن، يُحتمل أن يكون نهياً للمُهْدى إليها، وأن يكون نهياً للمهدية لجارتها أي لا تستنْكِفَنّ من إهداء شيء حقير أو قبوله. ولو كان كُراع شاة بالضم ما دون العقب من المواشي والدواب. محرق، نعت لكراع، والمراد به المبالغة في إهداء شيء وقبوله من غير استنكافه بسبب قِلّته أو حقارته، كذا في "شرح الزرقاني" وغيره. (2) بنون التوكيد. (3) قوله: عن أبي بُجَيد، بضم الباء وفتح الجيم، وفي نسخة ابن بجيد، وهو الموافق لما في "موطأ يحيى" وغيره، الأنصاري، ثم الحارثي نسبة إلى بني حارثة بطن من الخزرج من الأنصار عن جدّته هي أم بجيد مشهورة بكنيتها، واسمها حَوّاء بفتح الحاء وتشديد الواو، بنت يزيد بن السكن، قال ابن حجر في "تعجيل المنفعة في رجال الأربعة": اتفق رواة الموطأ على إبهام ابن بجيد إلا يحيى بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْحَارِثِيِّ، عَنْ جَدَّتِهِ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رُدُّوا (1) الْمِسْكِينَ وَلَوْ بظِلْفٍ (2) مُحرقٍ. 933 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سُمَيّ (3) عَنْ أَبِي صَالِحٍ (4) السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما رجل (5) يمشي   بكير فقال: عن محمد بن بجيد، وبه جزم ابن البرقي فيما حكاه أبو القاسم الجوهري في "مسند الموطأ"، ووقع في أطراف المِزِّي أن النسائي أخرجه من وجهين: عن مالك عن زيد، عن عبد الرحمن بن بجيد ولم يترجم في "التهذيب" لمحمد بل جزم في "مبهماته" أنه عبد الرحمن، وليس بجيد فإن النسائي إنما رواه غير مسمّى كأكثر رواة الموطأ، ومستند من سمّاه عبد الرحمن ما في السنن الثلاثة عن الليث عن سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن بجيد، ولا يلزم من كون شيخ المقبري عبد الرحمن أن لا يكون شيخ زيد بن أسلم فيه آخر اسمه محمد، كذا في "شرح الزرقاني ". (1) أي أعطوه. (2) قوله: ولو بظِلف (قال الباجي: حضّ بذلك صلى الله عليه وسلم على أن يعطي المسكين شيئاً، ولا يرده خائباً، وإن كان ما يعطاه ظلفاً محرقاً، وهو أقل ما يمكن أن يعطي، ولا يكاد أن يقبله المسكين، ولا ينتفع به إلا وقت المجاعة والشدة. المنتقى 7/234) ، قال القاري: بالكسر للبقر والغنم، كالحافر للفرس والبغل، والخف للبعير. محرق، على النعت، والمراد به المبالغة على إعطاء السائل أو محمول على أيام القحط الكامل. (3) بالتصغير. (4) اسمه ذكوان، وكان بائع السمن فلقب سمّاناً بالفتح وتشديد الميم. (5) قال الحافظ: لم يسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 بِطَرِيقٍ (1) فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا، فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ (2) ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ (3) يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ (4) : لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ (5) الَّذِي بَلَغَ بِي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ (6) خُفّه (7) ثُمَّ أَمْسَكَ (8) الخُفَّ بِفِيه حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ الله له   (1) قوله: بطريق، وعند الدارقطني يمشي بطريق مكة، وفي رواية له: يمشي بفلاة. (2) أي من البئر. (3) قوله: يلهث يأكل الثرى، بفتح الأول مقصوراً التراب النديّ، واللهث شدة توتر النفس من تعب وغيره، ويقال: لهث الكلب لسانه إذا أخرجه من شدة العطش، كذا في "النهاية" وغيره. (4) أي ذلك الرجل في نفسه. (5) قوله: مثل الذي، ضبطه بعضهم بالنصب، وفاعل بلغ الكلب أي بلغ مبلغاً مثل الذي بلغ بي، وبعضهم بالرفع على أنه فاعل والكلب مفعول. (6) أي من الماء. (7) بالضم وتشديد الفاء "موزه" (باللغة الأردية) . (8) قوله: ثم أمسك الخف، أي رأسه بفمه ليصعد من البئر لعُسر الرقيّ من البئر، حتى رَقِيَ - بفتح الراء وكسر القاف - أي صعد من البئر، فسقى الكلب أي ذلك الماء، زاد في رواية الصحيحين: فأرواه أي جعله ريّاناً. فشكر الله له، أي قبل عمله واستحسنه، ورضي منه، فغفر له تجاوز عن سئاته وأدخله الجنة. واستشكل سقيه الكلب من خفِّه بأن سؤر الكلب ولعابه نجس فيلزم تنجُّس خفّه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا (1) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ (2) لأَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِد (3) رَطْبَةٍ (4) أَجْرٌ. 40 - بَابُ حَقِّ الْجَارِ 934 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ عَمْرة حدَّثته: أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا زَالَ جَبْرَئِيلُ يُوصيني بِالْجَارِ (5) حتى ظننتُ (6) لَيُوَرِّثَنَّه (7) .   وأجيب بأنه يجوز أن يكون خارج البئر إناء فأخرج الماء بالخف، وجعله فيه وسقاه منه، وعلى تقدير التسليم إنما بعثه على ذلك الضرورة والشفقة، وغسل الخف بعده ممكن. هذا كله على تقدير ثبوت نجاسة لعاب الكلب في الأديان السابقة أيضاً وإلا فلا إشكال. (1) قوله: قالوا، أي الصحابة الحاضرون، سُمِّي منهم سراقة بن مالك عند أحمد. (2) أي في الإِحسان إليها. (3) بالفتح ثم الكسر. (4) قوله: رطبة، أي برطوبة الحياة يعني في الإِحسان إلى كلّ ما له حياة أجر، قيل: هذا في بني إسرائيل، أما في إلإِسلام فهو مخصص بما لم يؤمَر بقتله وإهلاكه كالكلب والخنزير، ورُدّ بأنه لا حاجة إليه فإن الأمر بالقتل لا يستلزم أن لا يكون في الإِحسان إليه أجراً. (5) أي، بالشفقة والإِحسان به. (6) أي ظننت بكثرة وصيّته وشدّة اهتمامه أنه يجعله وارثاً. (7) في نسخة: لَيورثّه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 41 - بَابُ اكْتِتَابِ الْعِلْمِ (1) 935 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم: أن انْظُرْ (2) مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ سُنَّتِهِ (3) أَوْ حَدِيثِ عُمَرَ أَوْ نَحْوِ هَذَا (4) فَاكْتُبْهُ لِي (5) فإني قد خفت   (1) أن انظر: بيان لما كتبه أي تأمل وتفكر ما وصل إليك أو في روايتك من الأحاديث. (2) أن انظر: بيان لما كتبه أي تأمل وتفكر ما وصل إليك أو في روايتك من الأحاديث. (3) أي طريقته المروية تقريراً أو بلاغاً. (4) من أحاديث بقية الخلفاء وغيرهم. (5) قوله: فاكتبه لي هذا أصل في كتابة العلم والشريعه وفي رواية أبي نعيم في" تاريخ أصبهان" عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب إلى أهل الآفاق انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه وذكره البخاري في صحيحه تعليقا فيستفاد منه كما أفاده الحافظ ابتداء تدوين الحديث النبوي وقال الهروي في" ذمّ الكلام" لم تكن الصحابة والتابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها حفظا ويأخذونها لفظاً إلا كتاب الصدقات والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الإستقصاء التام حتى خيف على عمر بن عبد العزيز الدروس وأسرع الموت في العلماء فأمر أبا بكر بن محمد بالكتابة كذا في" إرشاد الساري" ومما يُستدلُ به في الباب قول أبي هريرة ما من أصحاب رسول الله أحد أكثر حديثا مني عنه إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب أخرجه البخاري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 دُرُوسَ (1) الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَلا نَرَى بِكَتَابَةِ الْعِلْمِ بَأْسًا (2) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 42 - بَابُ الْخِضَابِ (3) 936 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بن   والترمذي وغيرهما وكذا ما أخرجه البخاري وغيره في حديث طويل أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ خطبة بمكة فقال رجل من اليمن يقال له أبو شاه: اكتبه لي يا رسول الله فقال: اكتبوا لأبي شاه. وكذا ما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأخمد وغيرهم من أنه سُئِلَ عليٌّ: هل عندكم كتاب فقال: لا إلا كتاب الله أو ما في هذه الصحيفة فأخرج صحيفة فيها بعض أحكام الدية ونحو ذلك فنهذه الأخبار والآثار أجاز الجمهور كتابة العلم وتدوينه لا سيما إذا خاف ذهاب العلم فحينئذ يكون واجبا وقد كان الصحابة ومن قَرُبَ منهم مستغنين عن ذلك غير معتادين لذلك لاعتمادهم على حفظهم وكثرة حملة العلم فيهم فلما صار الأمر إلى ما صار احتيج إلى الكتابة إبقاءً للشريعة. (1) بالضم أي اندراس العلم بموت العلماء. (2) قوله بأسا وقد ورد عن أبي سعيد: استأذنّا عن رسول الله في الكتابة فلم يأذن لنا. وهو محمول على أول الأمر لما يُخاف باختلاطه بكتاب الله أو على عدم الضرورة بدليل ما عن أبي هريرة: كان رجل من الأنصار يجلس إلى رسول الله فيسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظ فشكاه ذلك إليه فقال رسول الله: استعن بيمينك. وأومأ بيده للخط أخرجهما الترمذي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 عَبْدِ يغُوث كَانَ جَلِيسًا (1) لَنَا، وَكَانَ أَبْيَضَ (2) اللِّحْيَةِ وَالرَّأْسِ، فَغَدَا (3) عَلَيْهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَدْ حَمَّرَهَا، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: هَذَا (4) أَحْسَنُ، فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي (5) عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَيَّ الْبَارِحَةَ (6) جاريتَها نُخَيْلةَ (7) فأقسمَتْ (8) عَلَيَّ لأَصْبِغَنَّ، فَأَخْبَرَتْنِي (9) أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كان يصبغ (10) .   (3) جليسا: أي مجالساً ومصاحباً. (1) جليسا: أي مجالساً ومصاحباً. (2) أي كان شعر لحيته ورأسه أبيض. (3) قوله: فغدا عليهم، أي فمرّ عبد الرحمن عليهم يوماً من الأيام صباحاً، وقد جعلها أحمر وصبغها بالحمرة. (4) أي هذا اللون أحسن بالنسبة إلى البياض. (5) قوله: إن أمي، أطلق عليها أمّ لأنها أم المؤمنين، قال الله تعالى: (وأزواجه أمهاتهم) . (6) أي في الليلة الماضية. (7) قوله: نُخَيْلة، بضم النون وفتح الخاء معجمة عند يحيى وغيره، ومهملة عند البعض، وسكون التحتية، اسم جارية لعائشة، قاله الزرقاني. (8) أي عائشة أو نخيلة من جانب عائشة. (9) أي عائشة بواسطة أو نخيلة عنها. (10) قوله: كان يصبغ، قال الزرقاني: قال مالك: في هذا الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصبغ ولو صبغ لأرسلت بذلك عائشة إلى عبد الرحمن بن الأسود مع قولها إن أبا بكر كان يصبغ أو بدونه، وقد أنكر أنس كونه صلى الله عليه وسلم صبغ. وقال ابن عمر: إنه رآه يصبغ بالصفرة. وقال أبو رمثة: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران وله شعر قد علاه الشيب وشيبه مخضوب بالحناء. رواه الحاكم وأصحاب السنن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 قَالَ مُحَمَّدٌ: لا نَرَى بِالْخِضَابِ بالوَسَمة (1) وَالْحِنَّاءِ (2) والصُّفْرة   وسئل أبو هريرة: هل خضب رسول الله؟ قال: نعم. رواه الترمذي. وجُمع بأنه صبغ في وقت وترك في معظم الأوقات فأخبر كلٌ بما رأى. (1) قوله: بالوَسَمة، بفتحتين، وبفتح الأول وسكون الثاني، وبكسره أيضاً على ما في "القاموس" و "المغرب"، هو ورق النيل، والخضاب به صرفاً لا يكون سواداً خالصاً بل مائلاً إلى الخضرة، وكذا إذا خلط بالحناء وخضب به، نعم لو خضب الشعر أوّلاً بالحنّاء صِرفاً ثم الوسمة عليه يحصل السواد الخالص فيكون ممنوعاً كما سيأتي ذكره. (2) قوله: والحِنّاء، بكسر الحاء وتشديد النون، ورق معروف يخضب النساء به أيديهن وأرجلهن، ويكون لونه أحمر. والصفرة بالضم أي غير الزعفران فإنه مكروه للرجال. بأساً أي خوفاً وضيقاً ففي "مسند أحمد" عن أبي أمامة مرفوعاً: يا معشر الأنصار حمِّروا أو صفِّروا وخالِفُوا أهل الكتاب. وإن تركه أبيض من غير خضاب فلا بأس، وأما الخضاب بالسواد الخالص فغير جائز لما أخرجه أبو داود (أخرجه أبو داود في سنن رقم 4212 باب الترجل، ويقول المنذري كما في درجات مرقاة الصعود ص 171: أخرجه النسائي وفي إسناده عبد الكريم ولم ينسبه أبو داود، ولا النسائي وذكر بعضهم أنه عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري والصواب أنه عبد الكريم بن مالك الجزري وهو من الثقات اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه، فالحديث صحيح مختصراً) ، والنسائي وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح الإِسناد عن ابن عباس مرفوعاً: يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام (دانه دان سينهائى كبوتران بالفارسية) ، لا يريحون رائحة الجنة. وجنح ابن الجوزي في "العلل المتناهية" إلى تضعيفه مستنداً بما رُوي أن سعداً والحسين بن عليّ كانا يخضبان بالسواد، وليس بجيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 بَأْسًا، وَإِنْ تَرَكَهُ أَبْيَضَ فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ، كلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ (1) . 43 - بَابُ الْوَلِيِّ (2) يَسْتَقْرِضُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ 937 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ (3) إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي (4) يَتِيمًا وَلَهُ إِبِلٌ فَأَشْرَبُ (5) مِنْ لَبَنِ إِبِلِهِ؟ قَالَ لَهُ ابن عباس:   فلعله لم يبلغهما الحديث، والكلام في بعض رواته ليس بحيث يُخرجه عن حيز الاحتجاج به، ومن ثمَّ عدّ ابن حجر المكي في "الزواجر" الخضاب بالسواد من الكبائر ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعاً: من خضب بالسواد سودّ الله وجهه يوم القيامة، وعند أحمد: وغيِّروا الشيب ولا تقربوا السواد. وأما ما في "سنن ابن ماجه" مرفوعاً: إن أحسن ما اختضبتم به هذا السواد أرغب لنسائكم وأهيب لكم في صدور أعدائكم، ففي سنده ضعفاء فلا يُعارِض الروايات الصحيحة، وأخذ منه بعض الفقهاء جوازه في الجهاد. (1) أي من الخضاب والترك. (2) رجل: في رواية: أعرابي. قد أخرج هذه القصة سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والنحاس أيضاً. (3) رجل: في رواية: أعرابي. قد أخرج هذه القصة سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والنحاس أيضاً. (4) أي في تربيتي وحفظي. (5) قوله: فأشرب من لبن إبله، يحتمل أن يكون خبراً وأنْ يقدَّر استفهاماً (كما في نسخة يحيى: أفأشرب) وعلى كلّ تقدير فمراده الاستفتاء، قال له ابن عباس. إنْ كنت تبغي ضالة إبله، أي تطلب ما فقد من إبله وضاع من مال وتخدم في ما يتعلق بحاله. وتهنأ، أي تطلي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 إِنْ كنتَ تَبْغِي ضالَّة إِبِلِهِ، وتَهْنَأ جَرْبَاها وَتَلِيطُ حَوْضَهَا، وَتَسْقِيهَا يَوْمَ وِرْدِها فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بنَسْلٍ، وَلا ناهكٍ فِي حَلبٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا (1) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه ذكر   يقال: هنأ الإِبل، إذ طلاه ودلك على جسده القَطران بالفتح وهو دواء يُطلى به الإِبل المبتلاة بالجرب وغيره. جرباها (والجربى: مؤنث أجرب، كذا في المحلى. أوجز المسالك 14/339) ، بالفتح إبله الجرباء بالقطران. وتليط حوضها، وفي نسخة تلوط أي تطيّنه وتصلحه، وليحيى: تلُطّ بضم اللام وتشديد الطاء. وتسقيها، أي الإِبل يوم ورودها بالكسر أي شربها، فاشرب من لبنه فإنك (في الأصل: "فإنه") تستحقه من خدمتك، غير مضرّ بالنصب أي حال كونك غير ضارّ، بنسل بفتحتين أي بالولد الرضيع، ولا ناهكٍ بكسر الهاء أي غير ضائع في حلب، يقال: نهكت الناقة أنهكها إذا لم يبق في ضروعها لبناً، والحَلَب بفتحتين اللبن المحلوب وبتسكين اللام الفعل، والمعنى غير مستأصل اللبن، كذا ذكره القاري وغيره (قال الباجي: وقوله: فاشرب غير مضر بنسل: والحديث على معنى إباحة له ليشرب من لبنها على شرطين: أحدهما: لا يضر بأولادها. والثاني: أن لا يستأصل في البن. المنتقى 7/238) . (1) قوله: بلغنا، هذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق، وابن سعد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير وابن المنذر والنّحاس في "ناسخه" والبيهقي في سننه من طرق عن عمر، قال: إني أنزلت نفسي في مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيتُ استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف، فإذا أيسرتُ قضيت. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عليّ، عن ابن عباس: ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف يعني القرض. وكذا أخرجه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عنه، وأخرج عبد بن حميد والبيهقي من طريق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 وَالِيَ الْيَتِيمِ، فَقَالَ: إِنِ اسْتَغْنَى استعفَّ، وَإِنِ افْتَقَرَ أَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ قَرْضًا. بَلَغَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فسرَّ هَذِهِ الآيَةَ (وَمَنْ كَانَ غنيّاً فلْيَسْتَعْفِفْ ومَن كان فقيراً ليأكل بالمَعْرُوفِ) قَالَ: قَرْضًا (1) . 938 - أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ (2) ، عَنْ صِلَة (3) بْنِ زُفَر: أَنَّ رَجُلا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَوْصِنِي (4) إِلَى يَتِيمٍ، فَقَالَ: لا تشتَرِيَنَّ (5) مِنْ مَالِهِ شَيْئًا وَلا تَسْتَقْرِضْ مِنْ   ابن جبير عنه قال: والي اليتيم إن كان غنياً فليستعفف ولا يأكل، وإن كان فقيراً أخذ من فضل اللبن، وأخذ بالقوت لا يجاوزه، وما يستر من عورته فإذا أيسر قضى، وإنْ أعسر فهو في حِلّ. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عنه، قال: إذا احتاج والي اليتيم وضع يده فأكل من طعامهم ولا يلبس منه ثوباً ولا عمامة. وأخرج ابن المنذر والطبراني عنه قال: يأكل وليّ مال اليتيم بقدر قيامه على ماله، ومنفعته له ما لم يسرف أو يبذِّر. وفي الباب آثار أُخَر مبسوطة في "الدر المنثور" للسيوطي. (1) أي في معنى الأكل بالمعروف. (2) هو عمرو بن عبد الله بن علي السبيعي الهمداني الكوفي. (3) قوله: عن صلة، هو صلة بكسر الصاد وفتح اللام، بن زُفَر بضم الزاء وفتح الفاء أبو العلاء العبسي الكوفي، روى عن عمار وحذيفة وابن مسعود وعليّ، وابن عباس، وعنه أبو وائل، وأبو إسحاق السَّبيعي، وأيوب السختياني وغيرهم، قال الخطيب وابن خراش وابن حبان: ثقة، وكذا عن ابن معين والعِجلي وابن نمير، مات في خلافة مصعب بن الزبير، كذا في "تهذيب التهذيب". (4) أي انصحني في أمرِ يتيمٍ هو كفالتي. (5) بصيغة النهي مع النون المشددة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 مَالِهِ شَيْئًا (1) . وَالاسْتِعْفَافُ (2) عَنْ مَالِهِ عِنْدَنَا أَفْضَلُ. وهو قول أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا. 44 - بَابُ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى عَورة (3) الرَّجُلِ. 939 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ: بَيْنَا (4) أَنَا أَغْتَسِلُ وَيَتِيمٌ كَانَ فِي حَجْر أَبِي، يَصُبُّ أَحَدُنَا عَلَى صَاحِبِهِ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا عَامِرٌ وَنَحْنُ كَذَلِكَ، فَقَالَ: يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إِلَى عَوْرَةِ بَعْضٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي كُنْتُ لأَحْسَبُكُمْ خَيْرًا مِنَّا. قلت (5) :   (1) قوله: ولا تستقرض من ماله شيئاً، هذا بظاهره دالّ على عدم جواز الاستقراض أيضاً وهو محمول على حالة الاستغناء وعدم الحاجة، وأما عند الحاجة فيجوز كما دلت الآثار السابقة فإن اضطر إلى الأكل جاز أكله. (2) هذا قول المؤلف أي الكفّ عن ماله ولو استقراضاً إذا لم يحتج إليه أفضل من غيره. (3) بينا: في نسخة: بينما. قوله: بَيْنَا أَنَا أَغْتَسِلُ وَيَتِيمٌ كَانَ فِي حَجْر - بالفتح - أبي، يعني كان في تربية أبي عامر. يصُبّ أحدنا، أي أحد منا، أنا واليتيم، وكانا يغتسلان عاريين في موضع واحد فيلقي الماء أحدهما على صاحبه الآخر. إذ طلع علينا، أي ظهر علينا جاء إلينا أبي عامر بن ربيعة ونحن واليتيم كذلك أي نغتسل ونصب الماء فقال أي عامر متعجباً وزاجراً: ينظر بعضكم إلى عورة بعض وهو حرام، والله إني كنت لأَحسبكم أي نظنكم خيراً مّنا أي في الديانة والتقوى، وقد ظهر خلاف ذلك حيث لا تخاف الله وتنظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه. (4) بينا: في نسخة: بينما. قوله: بينا أنا أغتسل ويتيم كان في حَجْر - بالفتح - أبي، يعني كان في تربية أبي عامر. يصُبّ أحدنا، أي أحد منا، أنا واليتيم، وكانا يغتسلان عاريين في موضع واحد فيلقي الماء أحدهما على صاحبه الآخر. إذ طلع علينا، أي ظهر علينا جاء إلينا أبي عامر بن ربيعة ونحن واليتيم كذلك أي نغتسل ونصب الماء فقال أي عامر متعجباً وزاجراً: ينظر بعضكم إلى عورة بعض وهو حرام، والله إني كنت لأَحسبكم أي نظنكم خيراً مّنا أي في الديانة والتقوى، وقد ظهر خلاف ذلك حيث لا تخاف الله وتنظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه. (5) قوله: قلت، أي في خاطري: قوم، أي هم قوم وُلدوا - مجهول - في الإِسلام أي وعُلِّموا الأحكام ولم يولدوا في شيء من الجاهلية ليكونوا معذورين في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 قَوْمٌ وُلِدوا فِي الإِسلام لَمْ يُوْلَدوا فِي شَيْءٍ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاللَّهِ لأظنَّكم الخَلْفَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ (1) أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَوْرَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ (2) إلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ لمُداواة وَنَحْوِهِ (3) . 45 - بَابُ النَّفْخِ فِي الشُّرْب (4) 940 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ (5) بْنُ حَبِيبٍ مَوْلَى سَعْدِ بْنِ   الجهل ببعض الآداب الدينية: والله لأظنكم الآن الخَلْف بفتح الخاء وسكون اللام لا بفتحها، ففي "المصباح" هو خلف صدق من أبيه إذا قام مقامه، وهو خَلْف سوء بالسكون هذا أكثر كلامهم، ومنهم من يجيز الفتح والسكون في النوعين، وعلى السكون جاء التنزيل (فخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمِ خَلْفٌ أضَاعُوا الصَّلاة) سورة مريم: الآية 59) ، كذا ذكره القاري. (1) وكذا للصبي المراهق. (2) وكذا الكافر. (3) قوله: إلاَّ من ضرورة لمداواة، بالضم ونحوه (في نسخة: ونحوها) فإن الضرورات تُبيح المحظورات فيجوز النظر إلى عورة الرجل والمرأة للاحتقان، والختان، والخفض أي ختان المرأة، وموضع القرحة وغير ذلك، ومن مواضع الضرورة حالة الولادة فيجوز للقابلة النظر إلى فرج المرأة، ومنها النظر إلى موضع البكارة إذا احتيج إليه في مسألة العِنِّين. والبسط في كتب الفقه. (4) قوله: أخبرنا أيوب بن حبيب، قال الذهبي في "الكاشف": أيوب بن حبيب المدني، عن أبي المثنّى، وعنه مالك وفليح وثقه النسائي، وقال أيضاً في "الكنى": أبو المثنى الجهني، عن سعد وأبي سعيد، وعنه أيوب ومحمد بن أبي يحيى ثقة. انتهى. وقال ابن عبد البر: لم أقف على اسمه. (5) قوله: أخبرنا أيوب بن حبيب، قال الذهبي في "الكاشف": أيوب بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى الْجُهَنِيِّ (1) قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَرْوان بْنِ الْحَكَمِ فَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ (2) الخُدري عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ (3) : أسمعتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ؟ قال: نعم (4) ، فقال   حبيب المدني، عن أبي المثنّى، وعنه مالك وفليح وثقه النسائي، وقال أيضاً في "الكنى": أبو المثنى الجهني، عن سعد وأبي سعيد، وعنه أيوب ومحمد بن أبي يحيى ثقة. انتهى. وقال ابن عبد البر: لم أقف على اسمه. (1) بالضم نسبة إلى جهينة. (2) سعد بن مالك. (3) استخبار. (4) قوله: قال نعم، سمعته نهى عن النفخ في الشراب، وروي النهي عنه أيضاً من حديث ابن عباس عند أحمد، وزيد بن ثابت عند الطبراني، وزاد ابو سعيد الخُدري على الجواب ذاكراً سؤال رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوابه عند نهيه عن النفخ في الشراب، فقال: فقال له أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل ممن حضر ذلك المجلس: إني لا أَرْوَى - بفتح الألف وسكون الراء - من نَفَس - بفتحتين - واحد، يعني لا يحصل لي الريّ من الماء في تنفُّس واحد، فلا بدَّ لي أن أتنفَّس في الشراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبِنْ - أمرٌ من الإِبانة - القَدَح - بالفتح - أي قدح الشراب عن فيك ثم تنفس، قال ذلك الرجل: فإني أرى القَذَاة - بالفتح - عود أو شيء في الشراب يتأذى به الشارب فيه أي الماء، فلا بدَّ لي أن أنفخ في الشُرب ليذهب ذلك القذاة. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأهرقها بسكون الهاء من الإِراقة بزيادة الهاء أي فأرق تلك القذاة عن الشراب، ولا تنفخ فيه. وإنما نهى عن النفخ في الشراب لئلا يقع من ريقه فيه شيء فيقذِّره، وقد يتغير الماء بالنفخ (والأطباء الروميون في هذا الزمان يشدِّدون في النهي عن النفخ أشد النهي، ويزعمون أن النفس تخرج الأبخرة الحارة السمية المشتملة على الجراثيم فتختلط بالشراب فإذا شربه أحد عن ذلك ترجع هذه الجراثيم إلى الجوف فتحدث أمراضاً كثيرة، كذا في الأوجز 14/265) ، وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لا أرْوَى مِنْ نَفَس وَاحِدٍ، قَالَ: فأبِنْ القَدَحَ عَنْ فِيكَ ثُمَّ تنفَّس، قَالَ: فَإِنِّي أَرَى الْقَذَاةَ فِيهِ، قَالَ: فأهرِقْها. 46 - بَابُ مَا يُكْرَهُ (1) مِنْ مُصَافَحَةِ النِّسَاءِ 941 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ اُمَيْمَة (2) بِنْتِ رُقَيْقَة أَنَّهَا قَالَتْ: أتيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في نسوة تُبَايِعُه (3) فقلنا:   الحديث دليل على إباحة الشرب من نَفَس واحد لأنه لم ينه الرجل عنه، بل قال له ما معناه: إنْ كنت لا تروى من واحد فأبِن القدح، حكاه ابن عبد البر عن مالك، وورد النهي عن ذلك أيضاً، ومجرد الجواز لا ينفي الكراهة، فعند الترمذي: لا تشربوا واحدة كشُرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثُلاث وسَمُّوا إذا أنتم شربتم. (1) قوله: عن أُمَيْمة، بضم الهمزة وفتح الميم وتحتية ساكنة ثم ميم، بنت رُقَيْقَة بقافين على وزن أميمة، وهي أخت خديجة أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد، فخديجة خالة أميمة، وأبوها نجاد بن عبد الله بن عمير، وقيل: عبد الله بن نجاد القرشي، كذا في "الاستيعاب" وغيره. (2) قوله: عن أُمَيْمة، بضم الهمزة وفتح الميم وتحتية ساكنة ثم ميم، بنت رُقَيْقَة بقافين على وزن أميمة، وهي أخت خديجة أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد، فخديجة خالة أميمة، وأبوها نجاد بن عبد الله بن عمير، وقيل: عبد الله بن نجاد القرشي، كذا في "الاستيعاب" وغيره. (3) في نسخة: نبايعه. قوله: في نسوة تبايعه، قال القاري: صفة لجماعة النسوة، ويحتمل أن يكون بنون المتكلم، وتُسمّى هذه البيعة بيعة النساء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُبايُعك عَلَى أَنْ لا نُشرك بِاللَّهِ شَيْئًا (1) ، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَقْتُلَ (2) أَوْلادَنَا، وَلا نَأْتِيَ بِبُهْتانٍ نَفْتريه (3) بَيْنَ أَيْدِينَا (4) وَأَرْجُلِنَا، وَلا نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ (5) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَا استطعتُنَّ (6) ، وأطقْتُنَّ، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بنا (7) منَّا بأنفسنا،   (قال الباجي: هذه البيعة التي ذكرتها أميمة كانت بالمدينة بعد الحديبية، المنتقى 7/307) ، قال الله تعالى: (يَا أيُّهَا النَّبِيُ إذا جَاءَك المؤمناتُ يُبَايِعْنَكَ على أن لا يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً ولا يَسْرِقْنَ، ولا يَزْنِينَ، ولا يَقْتُلْنَ أولادَهن ولا يَأتِيْنَ بِبُهتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيدِيهِنَّ، وأَرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِيْنَكَ في معروفٍ فَبَايِعْهُنَّ واستَغْفِر لَهُنَّ الله) سورة الممتحنة: الآية 12) . (1) عامّ لكونه في سياق النفي. (2) كما كانت عادة أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية إملاق. (3) أي نختلقه. (4) قوله: بين أيدينا وأرجلنا، قال الزرقاني: أي من قِبَل أنفسنا فكنّى بالأيدي والأرجل عن الذات، لأن معظم الأفعال بهما، أو أن البهتان ناشئ عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل ثم يبرزه بلسانه. (5) قوله: معروف، أي في ما عُرف شرعاً وفيه إشارة إلى أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. (6) أي هذا كله بحسب طاقتكن. (7) قوله: أرحم، أي حيث قال الله: (فاتَّقوا الله مَا اسْتَطَعْتُم) سورة التغابن: الآية 16) ، وقال رسوله: فيما استطعتُنَّ، فأوجبا الامتثال بحسب الطاقة البشرية ولم يُكَلِّفا بما ليس في الوسع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 هَلُمَّ (1) نُبايعك يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إنِّي لا أُصافِحُ النساءَ (2) ، إِنَّمَا قُولِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي (3) لامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ (4) مِثْلَ قولي لامرأة واحدة.   (1) قوله: هلُمَّ، أي تعال نبايعك باليد كما تبايع الرجل بالمصافحة، وعند النسائي فقلن: ابسُطْ يدك نصافحك. (2) قوله: إني لا أصافح النساء، فيه دليل على أنه لا ينبغي المصافحة عند البيعة بالنساء، وأن بيعة النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء لم تكن بأخذ اليد، وهو مُفاد قول عائشة: ما مست يدُ رسول الله يدَ امرأة قط إلاَّ امرأةً يملكها، أخرجه البخاري، وفي رواية له عنها: "ما مسَّت يده يد امرأة قط في مبايعة، ما يبايعهن إلاَّ بقوله: قد بايعتُكِ على ذلك". وأخرج أبو نعيم في "كتاب المعرفة" من حديث نُهَيَّةَ بنت عبد الله البكرية قالت: وفدت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فبايع الرجال وصافحهم، وبايع النساء ولم يصافحهن. وعند أحمد من حديث ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصافح النساء. وجاءت اخبار ضعيفة بمصافحته النساء عند البيعة أحياناً، فعند الطبراني من حديث معقل بن يسار: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح النساء في بيعة الرضوان من تحت الثوب، وأخرج ابن عبد البر، عن عطاء وقيس بن أبي حازم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع لم يصافح النساء إلاَّ على يده ثوب (وضع الثوب على يده كان في أول الأمر، كذا في الأوجز 15/262) ، كذا ذكره ابن حجر والزرقاني، ولعله محمول على مصافحة العجائز، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب "لا أصافح النساء" الثابت بالطرق الصحيحة صريح في عدم مصافحته. (3) أي في حصول البيعة ووجوب الطاعة. (4) شكّ من الراوي في اللفظ والمعنى واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 47 - بَابُ فَضَائِلِ أَصْحَابِ (1) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 942 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وقَّاص يَقُولُ: لَقَدْ جَمَعَ لِي (2) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْه يَوْمَ أُحُد. 943 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثاً (3) فأمَّر (4) عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ (5) النَّاسُ (6) فِي إِمْرَته، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إنْ تَطْعَنُوا فِي إمْرَته فَقَدْ كُنْتُمْ تطعنون (7) في إمْرَة أبيه من قبلُ،   (1) قوله: لقد جمع لي، أي قال يوم غزوة أُحد ارْمِ فداك أَبي وأمّي، وكذا جمع للزبير بن العوام كما عند الترمذي وغيره، وفيه منقبة عظيمة لهما. (2) قوله: لقد جمع لي، أي قال يوم غزوة أُحد ارْمِ فداك أَبي وأمّي، وكذا جمع للزبير بن العوام كما عند الترمذي وغيره، وفيه منقبة عظيمة لهما. (3) بالفتح، أي أرسل جيشاً (قال الحافظ: هو البعث الذي أمر بتجهيزه في مرض وفاته. فتح الباري 7/87) . (4) أي جعله أميراً عليهم. (5) قوله: فطعن الناس في إمرته، قال القاري: بكسر الهمزة أي في إمارته وولايته لكونه صغير القوم وحقيرهم في الصورة، ولأنه من الموالي، وكان في القوم أبو بكر وعمر. (6) أي المنافقون أو أجلاف العرب. (7) قوله: فقد كنتم تطعنون، أي قبل ذلك في إمارة أبيه زيد بن حارثة متبنَّى رسول الله وحِبِّه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 وأيْمُ (1) اللَّهِ إنْ (2) كَانَ (3) لخَليقاً (4) للإِمْرة، وإنْ كَانَ (5) لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ مِنْ بَعْدِهِ (6) . 944 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (7) بْنِ معْمَر، عَنْ عُبَيد (8) يَعْنِي ابْنَ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر (9) فقال: إن عبداً (10)   (1) بهمزة مفتوحة بمعنى القسم. (2) مخففَّة من مثقّلة مكسورة. (3) أي أسامة. (4) أي لائقاً. (5) أي أسامة. (6) أي بعد أبيه زيد. (7) في نسخة عبيد الله. (8) قال ابن حجر في "التقريب": عبيد بن حُنين بنونين مصغَّراً، أبو عبد الله المدني ثقة، قليل الحديث، مات سنة خمس ومائة. (9) أي للخُطبة. (10) قوله: إن عبداً، وصف نفسه بالعبودية لأنها المرتبة الكاملة اقتداءً بقوله تعالى في حقه: (سُبْحَان الَّذِي أَسرَى بِعَبْدِه لَيلاً) سورة الإِسراء: الآية 1) ، وبقوله تبارك: (الذي نَزَّلَ الفُرقَان علَى عَبْدِه) سورة الفرقان: الآية 1) ، وبقوله تعالى: (أرأيت الَّذِي ينهى * عبداً إذا صلى) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 خيَّره اللع تَعَالَى بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَه مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا (1) مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ (2) ، فَاخْتَارَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَهُ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ (3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: فَدَيْناك بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، قَالَ: فَعَجِبْنَا (4) له، وقال الناس: انظروا إلى هذا   سورة العلق: الآية 9 - 10) ، وبقوله تعالى: (وأنَّه لَمَّا قَام عَبْدُ الله يَدْعُوه كَادوا يَكُونُوا عَلَيْهِ لِبَداً) سورة الجِنّ: الآية 19) فإن المراد بالعبد في هذه الآيات هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أبهم الأمر، ولم يعيِّن نفسه من بدو الأمر إحالةً على إفهام حُذّاق الصحابة وامتحاناً لفهمهم، ولئلا يحصل لهم الملال دفعة بسماع خبر مصيبةٍ عظيمة. (1) قوله: من زَهرة الدنيا، بالفتح أي بهجتها وزينتها، قال النووي في "شرح صحيح مسلم": المراد بزهرة الدنيا نعيمها وأعراضها وحدودها، شبَّهها بزهرة الروض. (2) أي ما عنده من لَذَّة العقبى والدرجات العلى. (3) قوله: فبكى أبو بكر، لما أنه كان من أفقه الصحابة وأعلمهم بالأسرار النبوية، ففهم أن مراده بالعبد المخيَّر المختار ما عند الله هو نفسه، فبكى حزناً على فراقة، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا أي أنت عندي بآبائنا معاشرَ المسلمين، وأمهاتنا، فإن بقاءك خير لنا من بقاء آبائنا وأمهاتنا. (4) قوله: قال فعجبنا، أي قال أبو سعيد الخُدْري: فتعجبنا - نحن حُضَّارَ الصحابة - من بكاء أبي بكر، وقال الحاضرون بعضهم لبعض على سبيل الاستعجاب: انظروا إلى هذا الشيخ مع كِبَر سنِّه ووفور علمه يخبر رسول الله بخبر عبد من عباد الله، وهو يَفْدي الآباء والأمهات عليه. وهذا التعجب إنما كان لعدم وصول الأفهام إلى ما فهمه أبو بكر، ثم ظهر لهم ما ظهر له أن العبد الذي أخبر عنه رسولُ الله كان نفسَه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 الشَّيْخِ يُخبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ عبدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ المُخَيَّر (1) ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أعلَمنا بِهِ (2) . وَقَالَ (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أمنَّ النَّاسِ (4) عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ متَّخَذاً (5) خَلِيلا لاتَّخذتُ أبا بكر   (1) أي بين الأمرين الدنيا والعقبى. (2) أي بهذا الأمر، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم وبسرّه، وفيه منقبة عظيمة لأبي بكر بإقرار الصحابة. (3) أي في تلك الخطبة. (4) قوله: إن أمنَّ الناس، قال ذلك تسلية لأبي بكر، ودفعاً لحزن حصل له بخبر الرحلة النبوية، وإظهاراً لفضله على سائر الصحابة، ومعناه أن أمنَّ الناس اسم تفضيل من المنّ يعني كثير المنَّة والإِحسان عليّ في صحبته وماله أبو بكر حيث صحبه إذا لم يصحبه غيره فكان رفيقه في الغار، وأسلم حين لم يسلم أحد من الرجال، وكان له عند ذلك على ما رُوي أربعون ألفاً أنفقها كلَّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لأحدٍ عندنا يدٌ إلاَّ قد كافأناه ما خلا أبا بكر فإنَّ له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة (قال الحافظ: فإن ذلك يدل على ثبوت يد لغيره إلاَّ أن لأبي بكر رجحاناً، فالحاصل أنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم في ذلك. فتح الباري 7/13) ، وما نفعني مال أحد قطٌّ ما نفعني مال أبي بكر. (5) قوله: ولو كنت متخذاً، قال النووي في "شرح صحيح مسلم": قال القاضي: أصل الخلَّة الافتقار والانقطاع، فخليل الله المنقطع إليه، وقيل: الخلَّة الاختصاص، وقيل: الخلَّة الاصطفاء، وقيل: الخليل من لا يسع قلبه غيره، والمعنى أن حبّ الله لم يُبْقِ في قلبه موضعاً لغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 خَلِيلا وَلَكِنْ أُخُوَّةُ (1) الإِسلام، وَلا يُبْقَيَنَّ (2) فِي الْمَسْجِدِ خَوخة إلاَّ خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ. 945 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ (3) بْنِ   (1) أي الإِخوة الحاصلة بيني وبينه بسبب الإِسلام كافية، وفي رواية: ولكن أخي وصاحبي، وفي رواية لمسلم والترمذي: إلاَّ أني أبرأ إلى كلٍّ خلٍّ من خلِّه، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، إنَّ صاحبكم خليل الله. (2) قوله: ولا يُبْقَيَنَّ، بصيغة المجهول في المسجد. خَوْخَة، بالفتح باب صغير إلى المسجد يدخل منه، إلاَّ خوخة أبي بكر، وفيه منقبة عظيمة لأبي بكر، وإشارة إلى استخلافه لكونه الخليفة محتاجاً إلى المسجد في كل وقت، وقد ورد نظير ذلك لعليّ من قوله صلى الله عليه وسلم: "سُدُّوا الأبواب كلَّها إلاَّ باب علي"، أخرجه أحمد والنسائي في "السنن الكبرى" والضياء في "المختارة" والحاكم والترمذي الطبراني وغيرهم بألفاظ متقاربة متعددة، وقد أخطأ ابن الجوزي حيث حكم بوضعه زعماً منه أنه معارِضٌ لما في الصحاح من حديث خوخة أبي بكر، وليس كذلك فإن عليّاً لم يكن له باب إلاَّ إلى المسجد، وكان الأصحاب لهم بابان باب إلى المسجد وباب إلى خارجه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدِّ الأبواب إلاَّ باب عليّ ثم أحدث الناس الخوخة إلى المسجد، فأمر الناس بسدِّها إلاَّ خوخة أبي بكر، وكانت القصة الأولى قبل غزوة أحد، والثانية في مرض الوفاة النبوية، كذا حققه الحافظ ابن حجر في "القول المسدد في الذب عن مسند أحمد" (وكذا في فتح الباري 7/15) والسيوطي في "شد الأثواب في سد الأبواب". (3) هو إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شَمَّاس الأنصاري المدني، ذكره ابن حبان في "ثقات التابعين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ ثَابِتَ (1) بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاس (2) الأَنْصَارِيَّ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ خَشِيْتُ أَنْ أكونَ قَدْ هلكتُ قَالَ: لِمَ (3) ؟ قَالَ: نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نُحِبَّ أَنْ نُحْمَدَ (4) بِمَا لَمْ نَفْعَلْ، وَأَنَا امْرُؤٌ أُحِبّ الحمدَ، (5) ، وَنَهَانَا عَنِ الخُيَلاء (6) ، وَأَنَا امْرُؤٌ أحِبُّ الجمالَ (7) ، ونهانا الله   (1) هو من أعلام الأنصار شهد أحداً وما بعدها، وكان خطيب الأنصار، استُشهد يوم اليمامة سنة 12 هـ، كذا في "جامع الأصول". (2) بفتح الشين المعجمة وتشديد الميم. (3) في نسخة: ثم قال: بِمَ، أي لأيِّ شيء هلكتَ. (4) قوله: نهانا الله أن نُحِبَّ أن نُحْمَدَ، بصيغة المجهول. بما لم نفعل، أي بقوله تعالى: (ولا تَحْسَبنَّ الذين يَفْرَحُونَ بمَا أُتُوا ويُحِبُّون أن يُحمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) (سورة آل عمران: الآية 188) الآية نزلت في شأن المنافقين. (5) أي ثناء الناس لي. (6) بضم الخاء وفتح الياء، الكبر. (7) قوله: وأنا امرؤ أحب الجمالَ، كأنه ظنَّ أن مجرد حبِّ الجمال من الخُيلاء، وقد نهي عنه بقوله تعالى: (إنَّ الله لا يُحِبُّ كلِّ مُخْتَالٍ فَخُوْر) سورة النساء: الآية 36) ، وقد روى الترمذي عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرَّةٍ من كبر، فقال رجل: إنه يعجبني أن يكون ثوبي حسناً ونعلي حسناً، فقال: إن الله يحب الجمال، ولكن الكِبْر مِنْ بَطَرَ الحق، وغَمَص الناس، أي احتقرهم وافتخر عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 أَنْ نرفعَ (1) أصواتَنا فَوْقَ صوتِكَ، وَأَنَا رجلٌ جَهِيْر (2) الصوتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ثَابِتُ، أَمَا (3) تَرْضىَ أَنْ تَعِيشَ (4) حَمِيدًا (5) ، وتُقْتَلَ شَهِيدًا (6) ، وتَدْخُلَ الْجَنَّةَ (7) . 48 - بَابُ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 946 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا (8) ربيعة، عن (9) أبي   (1) قوله: أن نرفع أصواتنا، بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصوَاتَكم فَوقَ صَوتِ النَّبِي ولا تَجْهَروا له بالقَوْل كجَهْرِ بعضِكم لِبَعضٍ أن تَحْبَط أعمَالُكم وَأنْتُم لاَ تَشعُرون) سورة الحجرات: الآية 2) . (2) أي عالي الصوت، وكان في سمعه ثقل، من كان كذلك يكون جهير الصوت غالباً. (3) بهمزة، وما نافية قاله تسليةً له. (4) أي في الدنيا. (5) أي محموداً. (6) وكان كذلك. (7) قوله: وتدخل الجنة، قال القاري: لعل قوله صلى الله عليه وسلم ببشارته إلى الجنة متضمِّن أنه ليس ممن يظنُّ نفسَه أنه في الخصائل الدنيَّة والشمائل الرديَّة. (8) قوله: أخبرنا ربيعة عن أبي عبد الرحمن، هكذا في نسخ عديدة، والصواب في بعض النسخ موافقاً لما في "موطأ يحيى" وغيره: عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سمع إلخ، وهو المعروف بربيعة الرأي. (9) في نسخة: بن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ليس بالطويل بالبائن (1) ، وَلا بِالْقَصِيرِ، وَلا بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ، وَلَيْسَ بِالآدَمِ، وَلَيْسَ بالجَعْد القَطَط، وَلا بالسَّبِط، بَعَثَهُ اللَّهُ على رأس أربعين سنة (2) ،   (1) قوله: ليس بالطويل البائن، مِنْ بَانَ إذا ظَهَر أي المُفْرط في الطول، ولا بالقصير أي البائن كما صرح به في رواية مسلم عن البراء يعني أنه بينهما، وعند البخاري عن أنس: كان رَبْعة من القوم. ولا بالأبيض الأمهق، من المهق، شدة البياض أي ليس شديد البياض، كلون الجِصّ. وليس بالآدم، بالمد، أي لا شديد السمرة، وإنما كان يخالط بياضه الحُمْرة. وليس بالجَعْد، بفتح الجيم وسكون العين ودال مهملة أي منقبض الشعر، يتجعّد ويتكسّر كشعر الحبش، والزِّنج. القَطَط، بفتح القاف والطاء الأولى ويجوز كسرها، وهومقابل السَّبِط بفتح السين وكسر الموحدة، أي المنبسط المسترسل يعني أن شعره ليس نهاية في الجعودة ولا في السبوطة بل وسطاً بينهما كذا في "شرح شمائل الترمذي " لعلي القاري وغيره. (2) قوله: على رأس أربعين سنة، أي آخر أربعين سنة من عمره، وهذا القول بأنه بُعث في الشهر الذي ولد فيه، والمشهور عند الجمهور أنه وُلد في ربيع الأول وبُعث في رمضان، فعلى هذا يكون حين البعث أربعون سنة ونصف أو تسع وثلاثون ونصف، فمن قال أربعين ألغى الكسر، أو جبر. وأما ما رواه الحاكم أنه بُعث وهو ابن ثلاث وأربعين (وقال القاري: ولعل الجمع بينهما بأن بعث النبوة في أول الأربعين وبعث الرسالة في رأس ثلاثة وأربعين، كذا في الأوجز 14/213) ، وعن مكحول أنه بُعث ابن اثنين وأربعين فشاذّ، كذا ذكره الحافظ ابن حجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ (1) ، وَبِالْمَدِينَةِ (2) عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً (3) وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ (4) شَعْرَةً بَيْضَاءَ. 49 - بَابُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُستحب مِنْ ذَلِكَ (5) 947 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بن دينار، أن ابن عمر:   (1) قوله: فأقام بمكة عشر سنين، عند البخاري عن ابن عباس: لَبِث بمكة ثلاث عشرة سنة، وبُعث لأربعين، ومات وهو ابن ثلاث وستين، وجمع السُّهَيلي بأن من قال ثلاث عشرة عدَّ من أول ما جاء به المَلَك، ومن قال عشراً: عدّ ما بعد الفترة، فإنّ الوحي فتر بعد ما نزل ثلاث سنين، كما رواه أحمد. وهناك أقوال وروايات أُخَر مبسوطة في "فتح الباري". (2) أي بعد الهجرة، وهذا بالاتفاق. (3) قوله: على رأس ستين، روي عن جمع من الصحابة منهم معاوية في عمره ثلاث وستون، وروي عن ابن عباس وأنس وعائشة ستون، وروي عنهم ما يوافق المشهور أيضاً فهو المعتمد. (4) قوله: عشرون، أي بل أقلّ، فعند البخاري عن عبد الله بن بسر: كان في عنفقته شعرات بيض، وفي "صحيح مسلم" عن أنس: كان في لحيته شعرات أبيض، وعند ابن سعد عن أنس: ما كان في رأسه ولحيته إلا سبع عشرة أو ثماني عشرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا (1) ، أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ جَاءَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فصلى عليه، ودعا ثم انصرف.   (5) قوله: كان إذا أراد سفراً، وفي رواية عبد الرزاق: كان إذا قدم من سفرٍ أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. وفي رواية: كان يقف على قبره، فيصلي على النبي وعلى أبي بكر وعمر. وفي رواية عن نافع: كان ابن عمر يسلّم على القبر، ورأيته مائة مرة أو أكثر يأتي ويقول: السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي. وظاهره أنه كان دأبه وإن لم يسافر، كذا في "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" و "المواهب" وشرحه، وفي الباب عن أنس عند البيهقي وابن أبي الدنيا، وجابر عند البيهقي، وأبي أيوب عند أحمد الطبراني والنسائي. (1) قوله: كان إذا أراد سفراً، وفي رواية عبد الرزاق: كان إذا قدم من سفرٍ أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. وفي رواية: كان يقف على قبره، فيصلي على النبي وعلى أبي بكر وعمر. وفي رواية عن نافع: كان ابن عمر يسلّم على القبر، ورأيته مائة مرة أو أكثر يأتي ويقول: السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي. وظاهره أنه كان دأبه وإن لم يسافر، كذا في "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" و "المواهب" وشرحه، وفي الباب عن أنس عند البيهقي وابن أبي الدنيا، وجابر عند البيهقي، وأبي أيوب عند أحمد الطبراني والنسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 قَالَ مُحَمَّدٌ: هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ (1) يَأْتِي قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 50 - بَابُ فَضْلِ الْحَيَاءِ (2) 948 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، يرفعه (3) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من حُسْن إسلام المرأ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: هَكَذَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ (5) أَنْ يَكُونَ تَارِكًا لِمَا لا يعنيه.   (1) بيان لهكذا أي يحضر عنده ويصلي ويسلم عليه. (2) قوله: يرفعه، هذا مرسل عند جميع رواة الموطأ إلا خالد بن عبد الرحمن الخرساني فوصله عن مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحسين، عن أبيه، وخالد ضعيف، قاله ابن عبد البر. والحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي ابن ماجه وأحمد والطبراني والحاكم وغيرهم من طرق، كما بسطه السيوطي، والزرقاني. (3) قوله: يرفعه، هذا مرسل عند جميع رواة الموطأ إلا خالد بن عبد الرحمن الخرساني فوصله عن مالك، عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين، عن أبيه، وخالد ضعيف، قاله ابن عبد البر. والحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي ابن ماجه وأحمد والطبراني والحاكم وغيرهم من طرق، كما بسطه السيوطي، والزرقاني. (4) بالفتح من عناه إذا تعلقت عنايته به أي ما لا يفيده من فضول الأقوال وسيئات الأعمال (قال ابن عبد البر: هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة، كذا في الأوجز 14/120) . (5) لقوله تعالى: (والذِّينَ هُمْ عَن اللَّغْوِ مُعْرِضُون) سورة المؤمنون: الآية 3) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 949 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ (1) بْنُ صَفْوَانَ الزُّرَقِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ الرُّكَانَيِّ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقاً (2) ، وخُلُق (3) الإِسلام الْحَيَاءُ. 950 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُخْبِرٌ (4) ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ (5) يَعِظُ (6) أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْه (7) فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمان.   (1) قوله: سَلَمَة، بفتحتين ابن صفوان بن سلمة الزُّرَقي، بضم الزاء، وفتح الراء، نسبة إلى بني زريق، مدني ثقة عن يزيد بن طلحة الرُّكاني بالضم، نسبة إلى ركانة، وهو والد طلحة، وهو ابن عبد يزيد بن هاشم، وذكر ابن حبان يزيد هذا في "ثقات التابعين" كذا في "شرح الزرقاني ". (2) بضمتين وتسكِّن اللام أي خصلة وطريقة شرعت فيه. (3) أي طبع هذا الدين الذي به قوامه: الحياء. (4) في "رواية يحيى": مالك عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر. (5) قال الحافظ: لم أعرف اسم الواعظ ولا أخيه. (6) أي ينصحه ويلومه على كثرته وأنه يضره. (7) أي اتركه على هذا الخلق، ولا تمنعه فإن الحياء شعبة من شعب الإِيمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 51 - بَابُ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ 951 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي (1) بَشير بْنُ يَسَارٍ، أَنَّ حُصَين بْنَ مِحْصَن أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَمَّةً لَهُ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهَا (2) زَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ (3) لَهَا: أَذَاتُ (4) زوجٍ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَزَعَمَتْ (5) أَنَّهُ قَالَ لَهَا: كَيْفَ أنتِ لَهُ؟ فَقَالَتْ: مَا آلُوهُ إِلا مَا عجزْتُ عَنْهُ، قَالَ: فَانْظُرِي أَيْنَ أنتِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جنّتُك أَوْ (6) نارُك.   (قال الباجي: إن خلق الإِسلام الحياء، والحياء يختص بأهل الإِسلام والمراد بالحياء - والله أعلم - الحياء فيما شرع فيه الحياء، وأما حياء يؤدي إلى ترك التعلم فليس بمشروع. كذا في المنتقى 7/213، والأوجز 14/136) . (1) قوله: أخبرني، بشير هو بشيرعلى وزن فعيل، بن يَسار بالفتح، الحارثي، المدني، وثقه ابن معين، وقال ابن سعد: كان شيخاً كبيراً أدرك عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قليل الحديث، وشيخه في هذه الرواية هو حُصَين مصغراً، ابن مِحْصن بكسر الأول وسكون الثاني وفتح الثالث، ذكره ابن حبان في "ثقات التابعين"، وقال ابن السكن: يُقال له صحبة غير أن روايته عن عمّته، وليست له رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا في "تهذيب التهذيب"، و"تقريب التهذيب". (2) أي أنّ عمّته قالت. (3) أي قال لها رسول الله حين أتت عنده. (4) بهمزة استفهام. (5) قوله: فزعمت أنه، أي فقالت: إنه قال لها رسول الله: كيف أنتِ لزوجك في الرضاء والسخط والخدمة؟ فقالت: ما آلوه أي ما أُقَصِّر في خدمته ورضائه ما استطعت، فقال له (في الأصل: زيادة "له"، وهو خطأ) رسول الله لها: انظري أي تأمّلي وتفكّري في كل وقت أين أنت منه؟ أهو راضٍ عنك؟ أم ساخط؟ فإن رضي عنك يُدخلك الجنة، وإنْ سخط عليك يُدخلك النار، فهو باعث دخول الجنة والنار. (6) في نسخة: و. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 52 - بَابُ حَقِّ الضِّيَافَةِ 952 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ المَقْبُرِي، عَنْ أَبِي شُرَيح (1) الْكَعْبِيِّ: أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: من كَانَ يُؤْمِنُ (2) بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ (3) فلْيُكْرِم (4) ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ (5) يومٌ ولَيلة، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كان بعد   (1) قوله: عن أبي شُريح، بضم الشين مصغّراً. الكعبي، نسبةً إلى كعب بن عمرو بطن من خزاعة، اسمه خويلد بن عمرو على الأشهر، أو عمرو بن خويلد، أو هانئ، أو كعب بن عمرو أو عبد الرحمن، أسلم قبل الفتح مات بالمدينة سنة 68 هـ، كذا في "الاستعاب" وغيره. (2) أي إيماناً كاملاً. (3) ذكره إشارة إلى أنه يوم الثواب والعذاب، فمن آمن به إيماناً كاملاً طلب الأعمال الحسنة وتجنّب عن السيئة. (4) قوله: فليُكْرم، قال الزرقاني: الأمر بالإِكرام للاستحباب عند الجمهور لأن الضيافة من مكارم الأخلاق لا واجبة لقوله جائزة، والجائزة تفضُّل وإحسان، هكذا استدل به الطحاوي وابن بطال وابن عبد البر، وقال الليث وأحمد: تجب الضيافة ليلةً واحدةً للحديث المرفوع: "ليلة الضيف واجبة على كل مسلم" وأجاب الجمهور عن هذا وما أشبهه أن هذا كان في صدر الإِسلام حين كانت المواساة واجبة وبأنه محمول على ضيافة المضطرِّين. (5) قوله: جائزته، بالرفع مبتدأ أي منيحته وعطيّته وإتحافه بأفضل ما يُقْدر عليه يوم وليلة، بالرفع خبر للمبتدأ ويُروى جائزته بالنصب فيكون مفعولاً ثانياً، والمعنى وهي يوم وليلة. والضيافة ثلاثة أيام يعني من غير تكلُّف، كالتكلف الذي في اليوم الأول، فإذا مضت الثلاث فقد مضى حق الضيف، فما كان بعد ذلك فهو صدقة. في التعبير عنه إشارة إلى التنفير عنه، ولا يحل له أي للضيف أن يثوي بفتح الياء وسكون الثاء المثلثة وكسر الواو أي يقيم عنده من أضافه حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوي عِنْدَهُ حَتَّى يُحرِجَه. 53 - بَابُ تَشْمِيتِ (1) الْعَاطِسِ 953 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ (2) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنْ عَطَس (3) فشمِّتْه (4) ، ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ، ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ ثُمَّ إِنْ عطس فقل له: إنك   يُحْرِجَه بضم الياء وكسر الراء أي يوقعه في الحرج والضيق، كذا في "شرح الزرقاني". (1) أبيه: هو أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم الأنصاري. (2) أبيه: هو أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم الأنصاري. (3) بفتح الطاء. (4) قوله: فشمّته، ظاهر الأمر للوجوب (قال النووي في "الأذكار": قال أصحابنا: التشميت سنّة على الكفاية لو قال بعضهم أجزأ عنهم، لكن الأفضل أن يقول كل واحد منهم، واختلف أصحاب مالك، فقال القاضي عبد الوهاب سنّة كفاية، وقال ابن مزين: يلزم كلِّ واحد منهم، واختاره أبو بكر بن العربي، والصحيح من مذهب الحنفية أنها تجب على الكفاية، وفي رواية يستحب، وفي "سفر السعادة" ظاهر الأخبار الصحيحة الافتراض عيناً. 1 هـ. أوجز المسالك 15/134) ، وبه قال أصحابنا وغيرهم: إن جواب العطسة واجب إلا أنه مقيّد بما إذا حَمِدَ لحديث: إذا عطس أحدكم فحمد الله، فشمّتوه، وإذا لم يحمد فلا تشمّتوه، أخرجه البخاري في "الأدب المفرد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 مضنوكٌ (1) . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: لا أَدْرِي (2) أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا عَطَس فشمِّتْه، ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فشمِّتْه، فَإِنْ لَمْ تُشَمِّتْهُ حَتَّى يَعْطُسَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا أَجْزَاكَ (3) أَنْ تُشَمِّتَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً. 54 - بَابُ الفِرار مِنَ (4) الطَّاعُونِ 954 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ (5) بْنُ الْمُنْكَدِرِ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ (6) أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: إن هذا الطاعون (7)   (1) قوله: إنك مضنوك، بضاد معجمة أي مزكوم، والضُّناك بالضم الزكام، والقياس مضنك ومزكم، لكنه جاء على ضنك وزكم، قاله ابن الأثير في "النهاية". (2) قوله: لا أدري، أي لا أحفظ قوله إنك مضنوك هل قال بعد العطسة الثالثة أو الرابعة، وعند أبي داود وأبي يعلى وابن السُّنِّي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا عطس أحدكم فليشمِّتْه جليسه، فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ولا يشمِّت بعد ثلاث. (3) أي يكفي التشميت الواحد لأن العبادات المتجانسة تتداخل. (4) محمد: في رواية يحيى: وأبو النضر. (5) محمد: في رواية يحيى: وأبو النضر. (6) في رواية يحيى: أن عامراً سمع أباه يسأل عن أسامة: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون شيئاً: فقال أسامة سمعتُه يقول الحديث. (7) قوله: إن هذا الطاعون، فسره كثير من أصحاب الغريب، وشرّاح الحديث بالوباء وهو كل مرض عام بسبب فساد الهواء، وليس بجيد، بل هو أخص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 رِجْزٌ (1) أُرْسِل عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَوْ أُرْسِل (2) عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ - شَكَّ (3) ابْنُ الْمُنْكَدِرِ فِي أَيِّهِمَا قَالَ - فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ (4) بِأَرْضٍ فلا تدخلوا   منه بدليل أنه ورد في الحديث أن الطاعون لا يدخل المدينة، وورد أن المدينة كان فيها (في الأصل: "فيه"، وهو خطأ) وباء الحُمّى، ولذا قال القاضي عياض: أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، وقال النووي: هو بثر وورم مؤلم جدّاً يخرج مع لهب يحصل مع خفقان القلب والقيء، ويخرج في الآباط والأيدي والأصابع وسائر الجسد، وقد بسط الكلام في تحقيق معناه، وذكر الاختلاف فيه وإيراد الأخبار الواردة فيه الحافظ ابن حجر في رسالته "بذل الماعون في فضل الطاعون". (1) بكسر الراء أي عذاب (الرجز: بالزاي. العذاب، وبالسين: الخبث أو النجس أو القذر، وقد يرد بمعنى العذاب أيضاً، قال الحافظ: المحفوظ بالزاي أي عذاب، كذا في الأوجز 14/82) . (2) قوله: أو أرسل على بني إسرائيل، أخرج قصة نزوله على قوم فرعون وعلى بني إسرائيل عبدُ بن حميد والطبري وابن أبي حاتم وإبراهيم الحربي وغيرهم، وقد ورد أنه مات من قوم موسى بالطاعون في يوم واحد سبعون ألفاً، وورد أيضاً عند أحمد والبخاري أن الطاعون كان عذاباً على الأمم السابقة، وهو رحمة وشهادة لهذه الأمة. وورد أيضاً عند أحمد والطبراني وابن خزيمة وأبي يعلى وغيرهم أنّ الطاعون وخزُ أعدائكم من الجنّ، وهو - بالفتح - الطعن غير (في الأصل الغير، وهو تحريف) النافذ. وقد بسط الكلام على هذه الأخبار مع فوائد شريفة الحافظ في "بذل الماعون". (3) أي في أنّ أيّ هذين اللفظين قال. (4) أي بوقوعه ببلد أنتم خارجون عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 عَلَيْهِ (1) وَإِنْ وَقَعَ فِي أَرْضٍ فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ (3) قد رُوي عن غير واحد (4) ،   (1) قوله: فلا تدخلوا عليه، قال ابن دقيق العيد: الذي يترجّح عندي في النهي عن الفرار، وعن الدخول أن الإِقدام عليه تعرُّض للبلاء ولعله لا يصبر عليه، وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكّل، فمنع ذلك لاغترار النفس، وأما الفرار فقد يكون داخلاً في باب التوغل في الأسباب متصوراً بصورة من يحاول النجاة مما قدر عليه فيقع التكليف في القدوم كما يقع في الفرار فأمر بترك التكلُّف فيهما. (2) قوله: فراراً منه، أي لأجل الفرار عن الطاعون، فإن قضاء الله لا يُرَدّ: (ولو كنتم في بروج مشيّدة) (سورة النساء: الآية 78) ، وفيه إشارة إلى أنه لو خرج لا لهذا القصد بل لحاجته فلا بأس به، وقد أخرج الطبري في تفسير قوله تعالى: (أَلَم تَرَ إلي الذِّينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم وَهُم ألُوفٌ حَذَرَ المَوتِ فَقَالَ لَهُمُ الله الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (سورة البقرة: الآية 243) ، من طريق محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبِّه قال: كان حزقيل بن بورى، ويقال له ابن العجوز هو الذي دعا للقوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، قال ابن إسحاق: فبلغني أنهم خرجوا من بعض الأوباء من الطاعون أو من سقم كان يصيب الناس، حذراً من الموت، الحديث. ونحوه عند عبد الرزاق، وابن أبي حاتم وغيرهم. (3) أي مشهور. (4) أي عن كثير من الصحابة بطرق متعددة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 فَلا بَأْسَ إِذَا وَقَعَ (1) بِأَرْضٍ أَنْ لا يَدْخُلَهَا اجْتِنَابًا لَهُ. 55 - بَابُ الغِيبة (2) والبُهْتان (3) 955 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ (4) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ، أَنَّ الْمُطَّلِبَ (5) بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَب المخزومّي: أخبره أن رجلاً سأل   (1) أي الطاعون (وقد وقع النهي عن القدوم عليه وعن الفرار عنه، فالنهي الأول لبيان الحذر عن التعرض للتلف، والثاني لبيان لزوم التوكل والرضا بقضاء الله ولبيان أن العذاب الواقع لسبب المعصية لا يدفعه الفرار، وإنما يدفعه التوبة والاستغفار، كذا في الأوجز 14/76) وكذا الحكم في كل وباء عامّ. (2) قوله: أخبرنا الوليد بن عبد الله بن صيّاد: هو أخو عمارة بن عبد الله بن صيّاد، قال الزرقاني: لم يذكره البخاري في "تاريخه" ولا ابن أبي حاتم، ولا ترجم له ابن عبد البر، لكن ذكره ابن حبان في "الثقات" وكفى برواية مالك عنه توثيقاً. (3) قوله: أن المطّلب بن عبد الله بن حنطب، وقع في "موطأ يحيى": حويطب، وهو غلط وهو أبو الحكم المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حَنْطَب بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الطاء المهملة بعدها باء موحَّدة ابن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم المخزومي، القرشي، المدني من ثقات التابعين، كذا في "جامع الأصول". وذكر الحافظ أن روايته هذه مرسلة وهو كثير الإِرسال، ولعله أخذه من عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي هريرة، وقد أخرجه مسلم والترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة. (4) قوله: أخبرنا الوليد بن عبد الله بن صيّاد: هو أخو عمارة بن عبد الله بن صيّاد، قال الزرقاني: لم يذكره البخاري في "تاريخه" ولا ابن أبي حاتم، ولا ترجم له ابن عبد البر، لكن ذكره ابن حبان في "الثقات" وكفى برواية مالك عنه توثيقاً. (5) قوله: أن المطّلب بن عبد الله بن حنطب، وقع في "موطأ يحيى": حويطب، وهو غلط وهو أبو الحكم المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حَنْطَب بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الطاء المهملة بعدها باء موحَّدة ابن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم المخزومي، القرشي، المدني من ثقات التابعين، كذا في "جامع الأصول". وذكر الحافظ أن روايته هذه مرسلة وهو كثير الإِرسال، ولعله أخذه من عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي هريرة، وقد أخرجه مسلم والترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما الْغِيبَةُ (1) ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنْ تَذْكُرَ (2) مِنَ الْمَرْءِ مَا يَكْرَهُ أَنْ يَسْمَعَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا (3) ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: إذا قلتَ باطلاً (4) فذلك   (1) قوله: ما الغيبة، أي ما حقيقتها وما هيتها التي أمرنا الله تعالى بالاجتناب عنها بقوله: (ولا يَغْتَب بعضُكم بَعضاً أيُحِبُّ أحَدُكُم أنْ يَأكُلَ لَحْمَ أخِيْهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه) (سورة الحجرات: الآية 12) . (2) قوله: أنْ تذْكُرَ، أي هو ذكرك من المرء مسلماً كان أو كافراً، بالغاً كان أو صبياً، متّقياً كان أو فاجراً، سواء كان الذكر كتابةً أو نطقاً، أو رمزاً أو إشارةً أو محاكاةً، ونحو ذلك، لكن يُشترط أن يكون في الغيبة فإن كان في حالة الحضرة فهو ليس بغيبة بل من أنواع السب مشافهة. ما يكره أن يسمع، أي شيئاً يكرهه ويحزن منه إن سمعه المغتاب في دينه أو دنياه أو خُلُقه أو أهله، أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته إلى غير مما يتعلق به. وقد استثنى الفقهاء صوراً (قال عيسى بن دينار: لا غيبة في ثلاث: إمام جائر، وفاسق معلن فسقه، وصاحب بدعة المنتقى 7/312) من الغيبة حكموا بجوازها لضرورة أو لمصلحة، بسطها الغزالي في "إحياء العلوم"، وقد شرعت في تأليف رسالة طويلة في هذا الباب مشتملة على الأحاديث والحكايات مع ذكر ما يجوز منها، وما لا يجوز منها، في السنة الثانية والثمانين بعد الألف والمائتين من الهجرة وكتبت منها أجزاء كثيرة ثم وقعت عوائق عن إتمامها وأسأل الله أن يوفقني لاختتامها. (3) أي وإن كان ما ذكره حقاً صادقاً كأنه ظن أن الغيبة لا يكون إلا بالكذب فاستفسر عن حقيقة الأمر. (4) أي قولاً كاذباً في حقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 الْبُهْتَانُ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ (2) الزِّلّةَ (3) تَكُونُ مِنْهُ مِمَّا يَكْرَه، فَأَمَّا صَاحِبُ الْهَوَى (4) المُتَعَالِنُ بِهَوَاهُ المتعرِّف (5) بِهِ، وَالْفَاسِقُ الْمُتَعَالِنُ بِفِسْقِهِ فَلا بَأْسَ (6) ، أَنْ تَذْكُرَ هَذَيْنِ بِفِعْلِهِمَا. فَإِذَا ذكرتَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ الْبُهْتَانُ، وَهُوَ الكذب (7) .   (1) أي هو قسم آخر، وهو الافتراء والبهتان وهو أعظم من الغيبة معصيةً (قال الباجي: لما فيه من الباطل. أوجز المسالك 15/284) . (2) قوله: المسلم، تقييده اتفاقي كما قيد في بعض الروايات بالأخ وإلا فالغيبة تعم الكافر، وتحرم غيبة الذِّمِّيّ كالمسلم، وفي غيبة الكافر الحربي قولان. (3) قوله: الزّلة، بفتح الزاء وتشديد اللام أي المعصية على سبيل الغفلة. (4) أي من يتبع هو نفسه ويبتدع برأيه. (5) أي الطالب الشهرة به. (6) قوله: فلا بأس أن تذكر، لكن لا لغرض التحقير بل ليحذر الناس منهما، ويحصل الزجر والحياء لهما، وقد ورد: "أترغبون عن ذكر الفاجر بما فيه اهتكوه حتى يعرفه الناس، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس". وعند أبي الشيخ: "من ألقى جلباب الحياء فلا غِيبة له". (7) أي نوع منه هو الافتراء والكذب على الغير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 56 - بَابُ النَّوَادِرِ (1) 956 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ (2) الْمَكِّيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أَغْلِقُوا الباب (3) ، وأَوْكُوا السِّقاء،   (1) أبو الزبير: محمد بن مسلم بن تَدْرُس. (2) أبو الزبير: محمد بن مسلم بن تَدْرُس. (3) قوله: أغلقوا الباب، بفتح الهمزة من الإِغلاق، أي حراسةً للنفس والمال من أرباب الفساد والشيطان. وأَوْكُوا، بفتح الهمزة وسكون الواو من الإِيكاء أي اربطوا. السِّقاء، بكسر السين القِرْبة التي يُسقى منها أي شُدّوا رأسها بالوِكاء وهو بالكسر الخيط الذي يُشدُّ به فم القِرْبة، وهذا للمنع من الشيطان واحتراز عن الوباء الذي ينزل في ليلة من السَّنةَ كما ورد به في الأخبار. وأكْفِئُوا الإِناء، بقطع الهمزة وكسر الفاء، وبوصلها وضمّ الفاء الأولى رُباعي، والثاني ثلاثي أي اقلبوه ولا تتركوا للعق الشيطان والهوامّ المؤذية. أو خمِّروا، من التخمير بمعنى تغطية الإِناء، قيل: إنه شك من الراوي، وقيل: هو من الحديث أي أكفوه إن كان خالياً وخمّروه إن كان شاغلاً، وأطفئوا المصباح، من الإِطفاء أي عند الرُّقاد. فإن الشيطان لا يفتح غَلَقاً بفتحتين أي باباً مُغْلَقاً إذا ذُكر اسم الله عليه. ولا يَحلّ، بفتح حرف المضارع وضم الحاء. وِكاءً، خيطاً رُبط به. ولا يكشف إناءً، إذا خُمِّر أو أُكفي. وإن الفويسقة تصغير الفاسقة أي الفأرة. تَضْرِمُ (قال القاري: بضم التاء وكسر الراء المخففة، وفي نسخة: بتشديدها أي توقد النار وتحرق. مرقاة المفاتيح 8/231) بفتح حرف المضارع وكسر الراء من الضرم أي تُوقِد على الناس بيتهم بأن تجرّ الفتيلة المشتعلة فتلقيها على ثوب أو غيره، وهذه الأوامر إرشادية (ويحتمل أن تكون للندب لا سيما فيمن ينوي امتثال الأمر. كذا في المرقاة) ، وفيها منافع دينية ودنيوية، كذا في "شرح الزرقاني" وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 وأَكفئوا الإِناء - أَوْ خمِّروا الإِناء - وَأَطْفِئُوا الْمِصْبَاحَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ غَلَقاً، وَلا يَحُلّ وِكاءً، وَلا يَكْشِفُ إِنَاءً، وَإِنَّ الفُوَيْسِقَة تَضْرِم عَلَى النَّاسِ بيتَهم (1) . 957 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ فِي مِعى وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سبعة أمعاء (2) .   (1) في نسخة: بيوتهم. (2) قوله: في سبعة أمعاء، جمع مِعًى بالكسر مقصوراً وهو الأشهر، وفيه الفتح والمد، وجمع المقصور أمعاء، كعنب وأعناب، والممدود أمعية كحمار وأحمرة. وقد رُوِي هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما بطرق عديدة، واختلفوا في معناه لما أن الحسِّ يرفعه فرُبَّ كافر يأكل قليلاً والمسلم كثيراً، فقيل: إن اللام عهدية، والمراد خاص، وهو ما في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة: أن رجلاً كان يأكل كثيراً، فأسلم، فكان يأكل قليلاً فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن المؤمن يأكل في مِعًى واحد، الحديث. وبهذا جزم ابن عبد البَرّ وقال: لأنَّ المعانية وهي أصحّ علوم الحواسّ تدفع أن يكون ذلك في كل مؤمن وكافر، وقيل: ليست حقيقية العدد مرادة بل المراد قلة أكل المؤمن، وكثرة أكل الكافر، وقيل: المؤمن لقلة حرصه يشبعه ملأ معى واحد، والكافر لا يشبعه إلاَّ ملأ أمعائه السبعة، وقيل: المؤمن إذا أكل سمّى، والكافر لم يسمّ فيشترك معه الشيطان، فيأكل كثيراً. والحكم على هذه الأقوال غالبيّ، وقيل غير ذلك، كما بسطه الزرقاني في "شرحه" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 958 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيم (1) يَرْفَعُهُ (2) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: السَّاعِي (3) عَلَى الأَرْمِلَةِ (4) وَالْمِسْكِينِ، كَالَّذِي (5) يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ (6) كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ. 959 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدِّيلِيُّ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ (7) مَوْلَى أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلَ ذَلِكَ.   (وبسط شيخنا في الأوجز 14/259) . (1) بالتصغير. (2) أي يجعل صفوان هذا الخبر مرفوعاً. (3) أي بالخدمة والنفقة (قال الحافظ: معنى الساعي الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين. فتح الباري 9/499) . (4) قوله: على الأرْمِلة، بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الميم، المرأة التي مات زوجها وهي فقيرة وجمعها الأرامل، والحديث مخرَّج عند الشيخين والنسائي وأحمد والترمذي وابن ماجه من رواية أبي هريرة، ذكره القاري. (5) أي في الثواب. (6) قال القاري للشك أو للتنويع. (7) قوله: عن أبي الغيث (أبو الغيث: مولى ابن مطيع لا أبي مطيع كما في التقريب (1/281) واسم أبي الغيث سالم المدني ثقة من الثالثة) مولى أبي مطيع، ذكر في "تهذيب التهذيب" و "التقريب" مولى ابن مطيع، وأنّ اسم أبي الغيث سالم المدني، ذكره ابن حبان في "الثقات" (قال ابن حبان: أبو الغيث، مولى عبد الله بن مطيع بن الأسود القرشي، عداده في أهل المدينة يروي عن أبي هريرة، روى عنه ثور بن يزيد. كتاب الثقات (4/306)) وثقه ابن سعد وابن معين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 960 - أخبرنا مالك، أخبرنا محمد بن عبد الله بْنِ صَعْصعة، أَنَّهُ سَمِعَ سعيدَ بْنَ يَسَار (1) أَبَا الحُباب (2) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يُرِيد اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ (3) . 961 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ وَحَمْزَةَ (4) ابنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الشُّؤْمَ (5) فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ.   (1) بفتح الياء والسين. (2) بضم الأول. (3) قوله: يُصِبْ منه، قال القاري: أي ابتلاه بالمصائب والأمراض وهو بضم أوله وكسر ثانيه، وفاعله ضمير راجع إلى الله، وضمير "منه" راجع إلى "مَنْ"، والرواية بالبناء للفاعل في الأشهر على ما ذكره السيوطي، والحديث رواه البخاري وأحمد. (4) هو شقيق سالم بن عبد الله، مدني ثقة كذا في "التقريب". (5) قوله: إن الشؤم، بضم الشين، وواوه همزة خُفِّفَت فصارت واواً وهو ضد اليُمْن. في المرأة والدار والفرس، أي كائن فيها، وقد اختلفوا في معناه لكونه مخالفاً لظاهر الأحاديث الواردة بنفي الطِّيَرة ونفي الشؤم على أقوال، منها: ما أشار إليه صاحب الكتاب من أن أصل الحديث إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس، فليس فيه إثباته فيها بل معناه إنْ كان في شيء ففي هذه الأشياء لكنه ليس فيها ولا في غيره، وهذا اللفظ أخرجه مالك وأحمد والبخاري وابن ماجه من حديث سهل بن سعد، والشيخان من حديث ابن عمر، ومسلم والترمذي من حديث جابر، وفيه أن بعض طرق الحديث مصرِّحة بوجود الشؤم في هذه الأشياء ففي بعضها عند الشيخين "لا عدوى وطِيَرة، إنما الشؤم في ثلاثة". ومنها: أنه إخبار عما كان يعتقده أهل الجاهلية، وقد أنكرت عائشة على أبي هريرة حين سمعت أنه يروي ذلك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ. 962 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: كنت مع عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِالسُّوقِ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ (1) بْنِ عُقْبَةَ، فَجَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ (2) أَنْ يُناجِيَه، وَلَيْسَ مَعَهُ أحدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُناجِيَه، فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَجُلا آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً (3) قال (4) : فقال لي   وقالت: ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يطيِّرون بذلك. وفيه أنه لا معنى لإِنكاره فقد وافق أبا هريرة جمعٌ من الصحابة بروايته من غير ذكر الجاهلية. ومنها: وهو أرجحها أن الشؤم يكون في هذه الثلاثة غالباً بحسب العادة لا بحسب الخلقة ولا يكون شيء من ذلك إلا بقضاء الله وقدره، فمن وقع شيء من هذه الأشياء أبيح له تركه، وهناك أقوال أُخَر أيضاً مبسوطة، في" فتح الباري" (6/61، وفي بذل المجهود 16/251، أن الطيرة بمعنى الشؤم الذاتي والنحوسة الذاتية منتفية حيث أوردها بلفظ إن الشرطية الدالة على أنه غير واقع، فالمعنى لو تحقق الشؤم في شيء بهذا المعنى لكان في هذه الثلاثة لكنه غير متحقق فيها فلا يتحقق في شيء، وأما الشؤم بمعنى ما يلحق من المضار أحياناً أو قلة الجدوى في بعض أفرادها نسبة إلى البعض الآخر منها فغير منفي بل أثبته بعد قوله الشؤم في الدار إلى آخره) وغيره. (1) قوله: خالد بن عُقْبة، بضم العين وسكون القاف ابن أبي معيط القريشي الأموي، صحابي من مُسلمة الفتح وداره كانت بسوق المدينة، ذكره الزرقاني. (2) أي يقصد أن يُسارِرَ ابن عمر. (3) أي صرنا أربعة أنا وابن عمر والمناجي وآخر. (4) أي ابن دينار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 وَلِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَا: اسْتَرْخِيَا (1) شَيْئًا فَإِنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يَتَنَاجَى (2) اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ (3) . 963 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ (4) : إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يسقط ورقُها، وإنها   (1) أي استأخرا عن هذا الموضع قليلاً بحيث لا يسمعان التناجي. (2) بألف مقصورة. (3) قوله: اثنان دون واحد، لأنه يُوقع الحزن والملال في قلبه، وقد يخطر بباله أن التناجي في ما يتعلق بحاله فيتأذّى به، وهو منافٍ لحُسْن العِشرة والمودَّة، وخصه بعضهم بالسفر لأنه مظنة الخوف وليس بجيِّد، بل العلة عامة والحكم يعُمُّ بعمومها. (4) قوله: قال، في رواية للبخاري: قال ابن دينار: صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُتي بجُمَّارة، فقال: إن من الشجر أي من جنسه شجرةً بالنصب اسم لإِنّ وخبرها مقدم، والتنوين للتنويع أي نوعاً لا يسقط بضم القاف معروف، فاعله وَرَقُها بفتحتين أي في أيام سقوط أوراق الأشجار. وإنها، بكسر الهمزة أي تلك الشجرة. مثل، بكسر الميم أو بفتحتين. المسلم، أي حاله العجيب الغريب، وصفته كصفة تلك الشجرة، ووجه الشبه أنه كما لا يسقط ورقها، وكذلك لا يذهب نور إيمانه ولا تسقط دعوته كما هو عند الحارث ابن أبي أسامة عن ابن عمر: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا يسقط لها أنملة، أتدرون ما هي؟ قالوا: لا، قال: هي النخلة، لا يسقط لها أنملة (في الأصل أبلمة، وهو تحريف والصواب أنملة كما في فتح الباري 1/145) ولا يسقط لمؤمن دعوة فحدِّثوني ما هي؟ خطاب إلى الحاضرين من الصحابة، واستُفيد منه جواز اختبار العالم حُضَّار مجلسه. قال فوقع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 مَثَلُ الْمُسْلِمِ فحدِّثوني مَا هِيَ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ: فاستحييتُ، فَقَالُوا: حَدِّثْنا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِيَ؟ قَالَ: النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فحدَّثتُ (1) عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِالَّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لأَنْ تَكُونَ (2) قُلْتَها أحبُّ إليَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا. 964 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غِفار (3) غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ: سَالَمَهَا اللَّهُ وعُصَيَّةُ: عصتِ الله ورسولَه.   الناس في شجر البوادي، أي ذهبت أفكارهم إلى أشجار البادية دون النخلة. فوقع في نفسي أنها النخلة، أي ظننت أن هذه التي شُبِّه بها المسلم هي النخلة. فاستحييت، من أن أتكلم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعمر وغيرهما من أكابر الصحابة توقيراً لهم وهيبةً. فقالوا: حدَّثنا، بصيغة الأمر، كذا في "فتح الباري" وغيره. (1) أي أخبرته بأنه وقع في قلبي ولم أذكره حياءً. (2) أي أن قولك إنها النخلة في الحضرة النبوية عند اختباره كان أحبَّ لي من كذا وكذا من الدنيا لأنه منقبة عظيمة. (3) قوله: غِفار، قال القاري: منوَّناً، وغير منوَّن: رهطٌ منهم أبو ذر الغِفاري. غفر الله لها، أي أقول ذلك في حقهم، وكان بنو غفار يسرقون الحُجَّاج فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلموا ليذهب عنهم ذلك العار. وأسلم، بالفتح قبيلة أخرى. سالمها الله، أي صنع الله ما يوفقهم ولا يؤذيهم. وإنما دعا لهما لأنهما دخلا في الإِسلام بغير حرب. وعُصَيَّة، يالتصغير جماعة قتلوا قُرَّاء بئر معونة عصت الله ورسوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 965 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا حِينَ نُبَايِعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السَّمْعِ (1) وَالطَّاعَةِ (2) يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ (3) . 966 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا عبد الله بن دينار، عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِ (4) الحِجْر: لا تَدْخلوا عَلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ المعذَّبين (5) إلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلا تَدْخُلُوا عليهم أنْ يصيبكم (6) مثلَ ما أصابهم.   (1) أي سمع الأوامر والنواهي. (2) أي طاعة الله ورسوله وأولي الأمر. (3) بكمال شفقته (قال صاحب المحلى: أي يلقن أحدهم أن يقول: "فيما استطعت" لئلا يدخل في بيعته ما لا يطيقه، قاله النووي، كذا في الأوجز 15/257) . (4) قوله: لأصحاب الحِجْر، بكسر الحاء وسكون الجيم أي في حقهم، وهم ثمود قوم صالح المذكورون في قوله تعالى: (ولَقَدْ كَذَّبَ أصْحَابُ الحِجْرِ المُرْسَلِين) (سورة الحجر: الآية 80) وحِجْر مدينتهم بين المدينة النبوية وبين الشام، وكان مروره صلى الله عليه وسلم عليها في سنة غزوة تبوك، ولمّا مرّ به قال: لا تدخلوا مسكن الذين ظلموا إلاَّ أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم، وتقنَّع بردائه وأسرع السير حتى جاز الوادي، ذكره البغوي في "تفسيره". (5) بصيغة المفعول. (6) أي كراهة أن يصيبكم مثله أو لئلّا يصيبكم مثله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 967 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي مُحَيريز (1) قَالَ: أدركتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: مِنْ (2) أَشْرَاطِ (3) السَّاعَةِ الْمَعْلُومَةِ الْمَعْرُوفَةِ (4) أَنْ تَرَى (5) الرَّجُلَ يَدْخُلُ الْبَيْتَ لا يشُكُّ مَنْ رَآهُ أَنْ يَدْخُلَهُ لِسُوءٍ (6) غَيْرَ أَنَّ الجُدُر (7) تُوارِيه. 968 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عَمِّي أَبُو سُهَيْلٍ (8) قَالَ: سمعتُ أَبِي (9) يَقُولُ: مَا أَعْرِفُ (10) شَيْئًا مِمَّا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ إلاَّ النداء بالصلاة.   (1) قوله: عن أبي مُحَيْريز، بضم الميم وفتح الحاء وسكون الياء وكسر الراء ثم سكون الياء ثم زاء معجمة. وفي نسخة ابن محيريز وهو أبو محيريز عبد الله بن محيريز بن جنادة المكي، من رهط أبي محذورة كان يتيماً في حَجره، روى عن أبي محذورة وأبي سعيد الخُدري ومعاوية وعبادة بن الصامت، وأمّ الدرداء وغيرهم، تابعي ثقة من خيار المسلمين، كذا في "التهذيب التهذيب". (2) تبعيضية، والغرض منه بيان فساد الزمان وشيوع العصيان. (3) جمع شرط بالفتح بمعنى العلامة. (4) صفة للساعة أو للأشراط. (5) بصيغة الخطاب. (6) أي لمعصية من زنا أو سرقة. (7) بضمتين، جمع جدار يعني أن الجدر تستره. (8) اسمه نافع. (9) هو مالك بن أبي عامر الأصبحي جدّ الإِمام مالك. (10) قوله: ما أعرف شيئاً مما أدركت الناس، أي الصحابة. عليه إلاَّ النداء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 969 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (1) مُخْبِرٌ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنِّي (2) أُنَسىَّ لأَسُنَّ.   بالصلاة، أي الأذان فإنه باقٍ على ما كان عليه، لم يدخل فيه تغيُّر ولا تبديل بخلاف غيره حتى الصلاة فقد أُخِّرت عن أوقاتها، كذا قال الباجي، ومما يوافقه قول أبي الدرداء حيث دخل على أمّ الدرداء مُغْضَباً فقالت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً إلاَّ أنهم يصلون جميعاً. وهذا بالنسبة إلى زمان الصحابة والتابعين، فكيف لو رأيا زماننا هذا الذي شاعت فيه البدعات وراجت المنكرات أو اتُّخذت البدعة سنة، والسنَّة بدعة، وصار المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فإنا لله وإنّا إليه راجعون. (1) قوله: أخبرني مخبر، قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً ولا مقطوعاً من غير هذا الوجه، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد في غير "الموطأ" مسندة ولا مرسلة ومعناه صحيح في الأصول. انتهى. قال الزرقاني: وما وقع في "فتح الباري" أنه لا أصل له فمعناه يُحتجُّ به لأنَّ البلاغ من أقسام الضعيف وليس معناه أنه موضوع إذ ليس البلاغ بموضوع عند أهل الفن لا سيَّما من مالك. (2) قوله: إني أُنَسّى، قال القاري: بتشديد السين بمعنى على المفعول أي يرد عليَّ النسيان. لأَسُنَّ، بفتح فضم فتشديد أي لأبين طريقاً يسلك في الدين فهو سبب لإِيراد النسيان وعروضه. انتهى. ووقع في "موطأ يحيى": إني لأَنْسَى أو أُنَسَّى لأسُنَّ، الأول بصيغة المعروف والثاني بصيغة المجهول، وأو للشك عند بعضهم، وقال عيسى بن دينار، وابن نافع: ليست للشك، بل معنى ذلك أنسى أنا أو يُنسِّني الله، ووجهه أن يُراد: إني لأَنْسَى في اليقظة وأُنَسّى في النوم فأضاف النسيان في اليقظة إليه، لأنها حالة التحرُّز، والنسيان في النوم إلى الله لما كانت حالاً لا يقبل التحرز، ويحْتمل أن يراد: إني أنسى حسب ما جرت به العادة من النسيان مع السهو والذهول، أو أُنَسّى مع تذكُّر الأمر، فأضاف الثاني إلى الله كذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 970 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، بْنُ أَنَسٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَادَةَ (1) بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ عُتْبَةَ: أَنَّهُ رَأَى (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَلْقِيًا (3) فِي الْمَسْجِدِ (4) ، وَاضِعًا إِحْدَى يديه (5) على الأخرى.   ذكره الباجي. وذكر القاضي عياض في "الشفا" أنه رُوي: إني لا أنسى ولكني أُنَسَّى لأسنّ، وروي: لست أنسى ولكني أُنَسَّى لأسن. (1) قوله: عَنْ عُبَادَةَ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عُتْبَةَ، هكذا وجدنا في نسخ عديدة. والذي في "موطأ يحيى": مالك، عن عباد عن تميم المازني، عن عمه، وهكذا أخرجه البخاري في أبواب المساجد، وأبواب اللباس، وأبواب الاستئذان، ومسلم في أبواب اللباس، وأبو داود في الأدب، والترمذي في الاستئذان، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الصلاة: كلهم من طريق مالك. ونص الترمذي على أن عمّ عباد بن تميم المازني هو عبد الله بن زيد المازني، وكذا نص عليه شُرّاح صحيح البخاري: ابن حجر في "فتح الباري"، والعيني في "عمدت القاري"، والكرماني في "الكواكب الدراري"، والقسطلاّني في "إرشاد الساري". وذكروا أيضاً أن عَبّاد بفتح العين وتشديد الباء، وأن عبد الله بن زيد عَمُّه أخو أبيه لأمه، وقد مرَّ منا ذكرهما في ما سبق. (2) فيه جواز الاستلقاء والاتكاء وأنواع الاستراحة في المسجد. (3) حال. (4) أي المسجد النبوي. (5) قوله: واضعاً إحدى يديه على الأخرى، قال الخطّابي: فيه بيان جواز هذا الفعل، والنهي الوارد فيه، وهو ما رُوي عن جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع الرجل إحدى يديه على الأخرى وهو مستلقٍ، أخرجه مسلم وغيره منسوخ، وبه جزم ابن بطّال، وقال الحافظ ابن حجر: الظاهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان ذلك في وقت الاستراحة لا في مجتمع الناس لما عُرف من عادته صلى الله عليه وسلم من الجلوس بينهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 971 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا كَانَا يَفْعَلانِ ذَلِكَ (1) . قَالَ مُحَمَّدٌ: لا نَرَى بِهَذَا بَأْسًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 972 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَوْ دُفِنْتِ (2) مَعَهُمْ قَالَ: قَالَتْ: إِنِّي إِذًا لأَنا (3) الْمُبْتَدِئَةُ بِعَمَلِي. 973 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ قَالَ: قَالَ سَلَمَةُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا شَأْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَمْ يُدْفن مَعَهُمْ (4) ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ كانوا يومئذٍ متشاغلين (5) .   بالوقار التام. وجمع البيهقي والبغوي بأن النهي حيث يخشى بدوّ العورة والجواز حيث يُؤمَن ذلك. وهو أولى من دعوى أن النهي منسوخ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. (1) قوله: كانا يفعلان ذلك، وكذا نُقل فعل ذلك أي الاستلقاء واضعاً إحدى رجليه على الأخرى عن ابن مسعود وابن عمر وأسامة بن زيد وعثمان وانس، أخرجه ابن أبي شيبة، وبه قال الحسن البصري والشعبي وابن المسيِّب ومحمد بن الحنفية وغيرهم. ورُوي عن محمد بن سيرين ومجاهد وطاووس والنخعي وابن عباس وكعب بن عجرة الكراهة، كذا في "عمدة القاري". (2) أي لو وَصَّيْتِ بأن تدفني مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحجرة لكان أحسن. (3) أي إني حينئذٍ لمستأنفة بعملي في المستقبل، ويحبط عملي الماضي، يعني لو فعلتُ ذلك لحبط عملي كأنها قالته تواضعاً وأدباً. (4) أي مع نبيِّه وضجيعَيْه. (5) أي في أمر الفتنة فلم يتيسِّر لهم ذلك ودفنوه بقرب البقيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 974 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار (1) : أن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ وُقِيَ (2) شَرَّ اثْنَيْنِ وَلَجَ (3) الجنَّة - وَأَعَادَ (4) ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ - مَنْ وُقِيَ شَرَّ اثْنَيْنِ وَلَجَ الْجَنَّةَ مَا بَيْنَ لحَيَيْه وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ. 975 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى (5) بْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يَقُولُ: لا تُكثروا (6) الْكَلامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الله، فتقسُوَ (7) قلوبُكم   (1) قوله: عن عطاء بن يسار، مرسلاً بلا خلاف أعلمه عن مالك، قاله ابن عبد البر. قال الزرقاني: ورواه البخاري والترمذي موصولاً من حديث سهل بن سعد، والعسكري وابن عبد البر وغيرهما عن جابر، والترمذي والحاكم وابن حبان عن أبي هريرة، والبيهقي والديلمي عن أنس. (2) مجهول أي حُفظ. (3) من الولوج بمعنى الدخول. (4) قوله: وأعاد، أي أعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول ثلاث مرات، وقال له رجل في كل مرة ألا تخبرنا؟ فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الرابعة مفسِّراً "من وُقي شرّ إثنين ولج الجنة". ما بين لَحْيَيْه - بفتح اللام: هما العظمان النابتتان في جانب الفم اللتان عليهما شعر اللحية وما بينهما هو اللسان - وما بين رجليه يعني فرجه، ووقع في "موطأ يحيى" تكرارها العبارة ما بين لحييه وما بين رجليه ثلاث مرات، قال ابن بطال: دل الحديث على أن أعظم البلايا على المرء في الدنيا لسانه وفرجه فمن وُقِيَ شرَّهما وُقِيَ أعظم الشرّ. (5) خاتم أنبياء بني إسرائيل. (6) أي بل أكثروا ذكر الله. (7) بالنصب أي بسبب الغفلة عن الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 فَإِنَّ الْقَلْبَ (1) الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ (2) اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ (3) وَلا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ (4) وَانْظُرُوا فِيهَا كَأَنَّكُمْ (5) عَبِيدٌ، فَإِنَّمَا النَّاسُ (6) مُبتَلًى (7) ومُعافىً فَارْحَمُوا (8) أَهْلَ الْبَلاءِ (9) واحمدوا الله تعالى على العافية (10) .   (1) تعليل للنهي. (2) أي من رحمته ولطفه. (3) قوله: ولكن لا تعلمون، أي هذا الأمر أنَّ كثرة الكلام بغير الذكر يُقسي القلب، وأنه بعيد من الله، وورد مثل هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: لا تُكثر الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوةٌ للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي، أخرجه الترمذي. (4) جمع رب أي لا تنظروا إلى المذنبين بنظر الحقارة كما ينظر الربّ إلى عبده. (5) ليحصل لكم الخشية والخوف. (6) أي لا يخلو الناس عن أحد هذين. (7) أي بالذنوب (أو العاهات والمصائب كذا في الأوجز 15/280) . (8) بالدعاء لهم، وستر عيبوهم. (9) أي المبتلين بالذنوب. (10) من الذنوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 976 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنِي سُمَيٌّ (1) مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ (2) السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ (3) مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أحدَكم نومَه وطعامَه وشرابه، فإذا قضى   (1) قوله: حدَّثني سمّي، هكذا عند جميع رواة الموطأ إلاَّ أنَّ عند بعضهم: "عن سُمَيّ" بدون ذكر التحديث، وشذّ خالد بن مخلد، فقال: مالك، عن سهيل أخرجه ابن عدي، وذكر الدارقطني أن ابن الماجشون رواه عن مالك، عن سهل وأنه وهم فيه، والمحفوظ عن مالك عن سمّي، ورواه عتيق بن يعقوب، عن مالك عن أبي النضر، أخرجه الدارقطني والطبراني ووهم فيه أيضاً على مالك، ورواه روّاد بن الجراح، عن مالك، عن ربيعة، عن القاسم، عن عائشة، وعن سمّي، عن السمّان إلخ، فزاد إسناداً آخر أخرجه الدارقطني، وقال: أخطأ فيه روّاد وليس ممن يُحتجّ به، والمعروف أنّّ مالكاً تفرَّد بهذا الإِسناد بهذه الرواية عن سمّي حتى قال عبد الملك الماجشون، قال مالك: ما لأهل العراق يسألوني عن حديث "السفر قطعة من العذاب؟ " فقيل: لم يروه عن سُمَيّ غيرك، فقال: لو عرفت ما حدَّثت به. وكذا تفرد سُمَيّ بروايته عن أبي صالح ولا يُحفظ عن غيره، وروى أبو مصعب عن عبد العزيز الدراوردي، عن سهيل، عن أبيه مثله. وهذا يدلُّ على أنَّ له في حديث سهيل أصلاً، وأما أبو صالح فلم يتفرَّد به بل رواه عن أبي هريرة سعيد المقبري عند أحمد وجمهان عند ابن عدي ولم ينفرد به أبو هريرة أيضاً، فرواه الدارقطني والحاكم بإسناد جيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وجابر عند ابن عدي بأسانيد ضعيفة. هذا ملخص ما بسطه ابن عبد البر وابن حجر. (2) اسمه ذكوان. (3) قوله: قطعة، بالفتح، أي جزء من العذاب، وبيَّن وجهه بقوله: يمنع أحدكم أي في السفر نومه وطعامه وشرابه بنصب أواخرها بنزع الخافض أو على أنه مفعول ثانٍ، والأول أحدكم أي يمنع السفر أحدكم معتاده في النوم وغيره. وسئل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 أحدُكم نَهمته (1) مِنْ وَجْهِهِ (2) فَلْيُعَجِّلْ (3) إِلَى أَهْلِهِ. 977 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ علمتُ أَنَّ أَحَدًا (4) أَقْوَى عَلَى هَذَا الأَمْرِ مِنِّي لَكَانَ أنْ أُقدِّم (5) فيُضرب عُنُقِي أهونُ عليَّ (6) ،   إمام الحرمين حين جلس موضع أبيه: لِمَ كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور لأن فيه فراقَ الأحباب، قال ابن بطال: ولا تعارض بينه وبين حديث ابن عمر مرفوعاً: "سافروا تصحّوا"، لأنه لا يلزم من الصحة بالسفر لما فيه من الرياضة أن لا يكون قطعة من العذاب. انتهى. وفي "شرح الزرقاني" ورد عليَّ سؤال من الشام هل ورد السفر قطعة من سقر كما هو دارجٌ على الألسنة فأجبت لم أقف على هذا اللفظ، ولم يذكره الحافظان السخاوي والسيوطي في الأحاديث المشهورة على الألسنة، فلعل هذا اللفظ حدث بعدهما، ولا تجوز روايته بمعنى الحديث الوارد إذ من شرط الرواية بالمعنى أنْ يُقطع بأنه أُدِّي بمعنى اللفظ الوارد، وقطعة من سقر لا يؤدِّي معنى قطعة من العذاب بمعنى التألم من المشقة لأن لفظ سقر يقتضي المشقة جداً. انتهى. وفي "شرح القاري": ما اشتهر على الألسنة أن السفر قطعة من السقر فليس بمحفوظ، وإنما يُحكى عن عليّ (الحديث أخرجه البخاري في باب العمرة تحت باب السفر قطعة من النار) . (1) بفتح النون أي حاجته. (2) أي مقصده، وعند ابن عدي: فإذا قضى أحدكم وطره من سفره. (3) من التعجيل: أي فليرجع إلى أهله عاجلاً لينجو من العذاب والمشقة. (4) أي أحد من الصحابة أقوى على إقامة الخلافة وانتظامها. (5) أي بين يدي الناس. (6) أي أسهل عليَّ من تحمُّل هذا الأمر الخطير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 فَمَنْ وَليَ هَذَا الأَمْرَ بَعْدِي (1) فَلْيَعْلَمْ أَنْ سَيَرُدُّهُ عَنْهُ (2) القريبُ والبعيدُ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كنتُ لأُقَاتِلُ النَّاسَ عَنْ نَفْسِي. 978 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي مُخْبرٌ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه، قال: كان الناس (3) وَرَقاً (4) لا شَوْكَ فِيهِ، وَهُمُ الْيَوْمَ شَوْكٌ (5) لا وَرَقَ فِيهِ، إِنْ تركتَهم (6) لَمْ يَتْرُكُوكَ وَإِنْ نقدتَهم نَقَدُوكَ. 979 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ (7) عَلَيْهِ السَّلامُ أَوَّلَ النَّاسِ ضيَّف الضيف،   (1) أي من صار وليّاً للخلافة بعد موتي. (2) قوله: فليعلم أن سيردَّه عنه، أي عن نفسه باللطف والعنف. القريب والبعيد، أي أهل بلده وغيرهم، أو الأقارب والأجانب. وأيم الله قسم. إن كنت، أي قد كنت لأقاتل الناس خاصة وعامة عن نفسي حتى لا يكون لأحد عليَّ اعتراض في ديني ودنياي وعرضي، كذا ذكره القاري. (3) أي السابقون الأولون. (4) يفتحتين: أي كورق من أوراق الأشجار الخالية عن الشوك، أي لم يكن ضرر في مصاحبتهم. (5) أي يضرّ مجالستهم ويصل النقصان منهم. (6) قوله: إن تركتهم، أي إن تركتهم على حالهم ولم تتعرَّضْ منهم لا يتركونك بل يبحثون عن حالك، وإن نقدتهم بأن تكلَّمت في حقهم ما هو حق، وتعرضت بأحوالهم، وميَّزت بين حقهم وباطلهم نقدوك، وتكلموا في حقك عوضاً ولو بالباطل. وأشار بذلك إلى فساد الزمان وأهله وهذا بالنسبة إلى عصره فما باله من عصرنا هذا؟. (7) قوله: كان إبراهيم، الخليل على نبينا وعليه السلام. أول الناس ضيّف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 وَأَوَّلَ النَّاسِ (1) اخْتَتَنَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ قصَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى الشَّيْبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا؟ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَارٌ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: ربِّ زِدْنِي وَقَارًا. 980 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُه عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ (2) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كأني   الضيفَ، وكان له فيه اهتمام بليغ حتى كان لا يأكل بغير ضيف. وأول الناس اختتن، من الاختتان وهو ابن ثمانين سنة بالقَدوم بالفتح كما أخرجه الشيخان وهو بالفتح - اسم آلة النجّار - يعني الفاس، وقيل هو اسم موضع وقع اختتانه فيه، وفي رواية لابن حبان وغيره: أنه اختتن وهو ابن مائة وعشرين وعاش بهده ثمانين. وأول الناس قص شاربه، أي قطعه. وأول الناس رأى الشيب، أي بياض الشعر، فقال: يا رب ما هذا؟ سأله تعجُّباً لمّا لم يكن له سابقة به. فقال الله: وقار، أي باعث وقار وعزة بين الناس، فقال: رب زدني وقاراً. وكذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تنتفوا الشيب فإنه نور الإِسلام". ومن أوليات إبراهيم أنه أول من قصَّ أظفاره واستحدَّ، ذكره ابن أبي شيبة، عن أبي سعيد، وأول من تَسَرْوَل، وأول من فرق كما عند ابن أبي شيبة عن أبي هريرة، وأول من خضب بالحِنّاء والكتم، أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعاً، وأول من خطب على المنبر أخرجه ابن أبي شيبة، عن سعد بن إبراهيم عن أبيه، وأول من قاتل في سبيل الله أخرجه ابن عساكر عن جابر، وأول من رتب العسكر ميمنة وميسرة، أخرجه ابن عساكر عن حسان بن عطية، وأول من عمل القسي، أخرجه ابن أبي الدنيا، عن ابن عباس، وأول من عانق، أخرجه ابن أبي الدنيا عن تميم الداري، وأول من ثرّد الثريد، أخرجه ابن سعد عن الكلبي، وأول من اتخذ الخبز المبلقس أخرجه الديلمي عن نبيط بن شريط، وأول من راغم، أخرجه أحمد، عن مطرف، كذا ذكره السيوطي. (1) في نسخة: من. (2) في بعض أسفاره حين رأى موسى يذهب إلى مكة ملبِّياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 أَنْظُرُ (1) إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَهْبِطُ (2) مِن ثنيَّة (3) هَرْشي مَاشِيًا، عَلَيْهِ ثَوْبٌ أَسْوَدُ. 981 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَنْصَارَ ليُقطِع (4) لَهُمْ بالبَحرين (5) ، فَقَالُوا: لا وَاللَّهِ إلاَّ أَنْ تُقْطِع (6) لإِخوانِنا مِنْ قُرَيْشٍ مِثْلَهَا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي (7) أَثَرَة فَاصْبِرُوا حَتَّى تلقَوْني.   (1) فيه إثبات حياة الأنبياء وأنهم يحجّون ويصلّون. (2) أي ينزل. (3) بفتح الثاء المثلثة وكسر النون وتشديد الياء. وهَرْشي، يفتح الهاء وسكون الراء بعدها شين مفتوحة مقصورة موضع بين مكة والمدينة، كما في "النهاية". (4) أي من إقطاع الأراضي بالبحرين. (5) بلد قريب البصرة. (6) قوله: إلاَّ أن تقطع، أي لا نرضى بأن تقطع لنا إلاَّ أن تقطع لنا مرتين أو ثلاث مرات لإِخواننا من قريش المهاجرين، فإن لهم علينا فضلاً. وهذا من كمال زهد الأنصار ومواساتهم للمهاجرين. (7) قوله: إنكم سترون بعدي، أي بعد موتي أَثَرة (قال الحافظ: أشار بذلك إلى أن الأمر يصير في غيرهم فيختصون دونهم بالأموال وكان الأمر كما وصف صلى الله عليه وسلم، وهو معدود فيما أخبر به من الأمور الآتية فوقع كما قال. فتح الباري 7/118) بفتحتين أي يستأثر عليكم غيركم في ما تستحقونه من المناصب العلية كالإِمارة والقضاء فاصبروا حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 982 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ (1) بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ (2) يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يقول (3) : إنما   تلقَوْني أي يوم القيامة. ورواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي بلفظ إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، كذا في "شرح القاري". (1) هكذا في نسخ عديدة وفي نسخة علقمة بن وقاص وهو الصحيح الموافق لروايات كثيرين، قال في "التقريب" علقمة بن وقّاص بتشديد القاف الليثي المدني، ثقة ثبْت. أخطأ من زعم أن له صحبة، وقيل: إنه وُلد في العهد النبوي، مات في خلافة عبد الملك. (2) في نسخة: ابن وقّاص. (3) قوله: يقول، هذا الحديث أحد أركان الإِسلام قد أخرجه جمع من العظام، فرواه البخاري في "صحيحه" في مواضع (انظر رقم: 1، 54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953) : في باب الوحي بلفظ: "إنما الأعمال بالنيات" وفي كتاب النكاح بلفظ: "العمل بالنية"، وفي كتاب العتق بلفظ: "الأعمال بالنية"، وكذا في الهجرة، وفي كتاب الأيمان بلفظ إنما الأعمال بالنية، وكذا في كتاب الحِيَل. وعند مسلم في الجهاد "إنما الأعمال بالنية"، وكذا أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وعند ابن حبان والحاكم "الأعمال بالنيات". وهذه الطرق كلها تدور على يحيى بن سعيد، عن التيمي، عن علقمة، عن عمر. وذكر ابن دحية أنه أخرجه مالك في "الموطأ" ونسبه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" وفي "التلخيص الحبير" إلى الوهم، وقال: صدر هذا الوهم من الاغترار بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك، وردّه السيوطي في "تنوير الحوالك" بقوله في "موطأ محمد بن الحسن"، عن مالك أحاديث يسيرة زائدة على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامرئٍ (1) مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هجرتُه (2) إِلَى اللَّهِ ورسولهِ فَهِجْرَتُهُ (3) إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصيبُها أَوِ امرأةٍ (4) يتزوَّجُها فهجرتُه إِلَى مَا   ما في سائر الموطآت، منها حديث إنما الأعمال بالنية، وبذلك يتبين صحة قول من عزى روايته إلى "الموطأ" ووهم من خطأه في ذلك. انتهى. وهذا الحديث لم يصح إلاَّ من هذا الطريق الفرد، فلم يصح عن رسول الله إلاَّ عن عمر، ولا عن عمر إلاَّ من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلاَّ من رواية التيمي، ولا عن روايته إلاَّ من رواية يحيى، وانتشر عنه وصار مشهوراً، فرواه أكثر من مائتي إنسان، وقد وردت لهم متابعات لا يخلو أسانيدهم عن شيء كما حققه الحافظ في "شرح النخبة" وغيره. (1) قوله: وإنما لامرئ ما نوى، ذكر القرطبي وغيره أنه تأكيد للجملة الأولى، والأَوْلى ما ذكره النووي أنها تفيد اشتراط تعيين المنوي كمن عليه فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعيَّنها. والجملة الأولى تفيد اشتراط مطلق النية، ومعناه إنما ثواب الأعمال بالنية وهذا متفق عليه، أو صحة الأعمال بالنية، وفيه خلاف مشهور بين الحنفية والشافعية في العبادات الغير (هكذا جاء في الأصل: (الغير المقصودة) وهو استعمال خاطئ، وغلط شائع، لما جمع فيه من إدخال "ال" عل "غير" مع الإِضافة إلى ما فيه "ال" وصوابه أن يقال (العبادات غير المقصودة) المقصودة. (2) أي كان قصده من هجرته وتركه دار الحرب طاعةَ الله ورسوله ورضاه. (3) أي فهي موجبة للثواب ولرضاء الله ورسوله. (4) قوله: أو امرأة، ذكرها على حدة مع دخولها تحت دنيا للزيادة في التحذير لأن الافتتان بها أشدّ، وقيل: خصّها (في الأصل: "خصه"، وهو خطأ) بالذكر لما أن رجلاً هاجر من مكة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 هَاجَرَ (1) إِلَيْهِ. 57 - بَابُ الْفَأْرَةِ (2) تَقَعُ فِي السَّمْن 983 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبيد اللَّهِ (3) بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ (4) : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل (5) عن فأرة وقعت   المدينة ليتزوج امرأة تسمَّى أم قيس، وكان يقال له مهاجر أم قيس، فلهذا خَصَّ في الحديث ذكر المرأة، قال الحافظ في "فتح الباري": قصة مهاجر أم قيس، رواها سعيد بن منصور والطبراني، لكن ليس فيه أن هذا الحديث سيق لأجله. (1) أي من أمور الدنيا لا خلاق له في العقبى. (2) عبيد الله: نسبة إلى جَدِّهِ فإنه عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة - بالضم - بن مسعود. (3) عبيد الله: نسبة إلى جَدِّهِ فإنه عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة - بالضم - بن مسعود. (4) قوله: عن عبد الله بن عباس، ظاهره أن الحديث من مسند ابن عباس، وكذا رواه القعنبي وغيره، ورواه أشهب وغيره عنه بترك ابن عباس، وذكر ميمونة بعد عبيد الله، وأبو مصعب ويحيى بن بكير عنه بإسقاطها، والصواب ما في "موطأ يحيى": مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ميمونة، واختَلف فيه أصحاب ابن شهاب أيضاً، فرواه ابن عيينة ومعمر عنه على الصواب، والأوْزاعي بإسقاط ميمونة، وعقيل مرسلاً بإسقاطهما، كذا ذكره ابن عبد البر. (5) قوله: سئل، السائل هو ميمونة كما رواه الدارقطني من طريق يحيى القطان وجويرية كلاهما، عن مالك به أن ميمونة استفتت عن الفأرة تقع في السمن أي الجامد، كما في رواية ابن مهدي، عن مالك، وكذا ذكرها أبو داود الطيالسي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 فِي سَمْنٍ فماتتْ؟ قَالَ: خُذُوهَا (1) وَمَا حَوْلَهَا مِنَ السَّمْن فَاطْرَحُوهُ (2) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا كَانَ السَّمْنُ (3) جَامِدًا (4) أُخذت الفأرةُ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ السَّمْنِ فرُمِيَ بِهِ، وأُكل (5) مَا سوى ذلك، وإن كان   في "مسنده" عن سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب وزاد البخاري عن ابن عيينة، عن ابن شهاب فماتت، وعند أبي داود وغيره من حديث أبي هريرة سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الفأرة تقع في السمن قال: إذا كان جامداً فألقوها وما حولها (قال الباجي: هذا يقتضي أنه سئل عن سمن جامد ولو كان ذائباً لم يتميز ما حولها من غيره ولكنه لما كان جامداً نجس ما جاورها بنجاستها، وبقي الباقي على ما كان عليه من الطهارة. المنتقى 7/292) ، وإن كان مائعاً فلا تقربوها، وبه أخذ الجمهور في الجامد والمائع، إن المائع ينجس كله دون الجامد، وخالف في المائع جمع منهم الزهري والأَوْزاعي، كذا في "شرح الزرقاني ". (1) أي الفأرة. (2) أي ألقوه، وكلوا الباقي (في البذل: فيه دليل على المسألة الفقهية، وهي أن النجاسة إذا لم يُعلم وقت وقوعها يحكم بوقوعها بالنسبة إلى الوقت الحادث إلى أقرب الأوقات كأنها وقعت في هذا الوقت، فإن الفأرة لم يُعلم بأنها متى وقعت في السمن، وهل كان السمن وقت وقوعها سائلاً أو جامداً أو كان بين بين، فاعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوعها في الحال. انظر أوجز المسالك 15/ 185) . (3) وكذا نحوه من الأشربة. (4) في بعض النسخ جامساً وهو بمعناه. (5) لعدم وصول النجاسة إليه بسبب جموده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 ذَائِبًا (1) لا يُؤكل مِنْهُ (2) شَيْءٌ، واسْتُصبحَ (3) بِهِ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 58 - بَابُ دِبَاغِ (4) الْمَيْتَةِ 984 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي وَعلة (5) الْمِصْرِيِّ، عَنْ عبد الله بن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا دُبِغ الإِهَاب (6) فقَدْ طهُر (7) . 985 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (8) يَزِيدُ بن عبد الله بن قُسيط (9) ،   (1) أي مائعاً سائلاً. (2) لتنجسه كله. (3) قوله: استُصبح، مجهول من الاستصباح أي استُعمل في السراج وغيره، وقيَّده الفقهاء في كتبهم بغير المسجد فلا يجوز فيه الاستصباح بالسمن والدهن النجس. (4) عبد الرحمن بن وَعلة بالفتح. (5) عبد الرحمن بن وَعلة بالفتح. (6) هو بالكسر الجلد الغير المدبوغ، وجمعه أُهُب بضمتين وفتحتين، كذا في "المصباح" و "المغرب". (7) بضم الهاء. (8) في كثير من النسخ زيد وليس بصواب. (9) على صيغة التصغير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَان، عَنْ أمَّه (1) ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُستمتع (2) بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبغت. 986 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن عبيد الله بن   (1) قال الزرقاني: هي تابعية مقبولة لا يُعرف اسمها. (2) قوله: أمر أن يُستمتع، أي يُنتفع على أيّ وجه كان، وفي رواية للنسائي وابن حبان، عن عائشة مرفوعاً: دباغ جلود الميتة طهورها، وفي رواية للنسائي: ذكاة الميتة دباغها، وعند الدارقطني والبيهقي عنها: طهور كلِّ أديم دباغه. وفي الباب عن زيد مرفوعاً: دباغ جلود الميتة طهورها، وسلمة بن المحبَّق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى في غزوة تبوك على بيت فإذا قِرْبة معلقة فسال الماء فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة، فقال: دباغها ذكاتها، وبهذه الأحاديث ونظائرها ذهب الجمهور إلى الطهارة بالدباغة مطلقاً إلاَّ أنهم استَثنَوْا من ذلك جلد الإِنسان لكرامته وجلد الخنزير لنجاسة عينه، واستثنى أيضاً جلدَ الكلب مَنْ ذهب إلى كونه نجس العين، وهو قول جمع من الحنيفة وغيرهم، ولم يدل عليه دليل قويّ بعد، ومنهم من ذهب إلى طهارة جلد مأكول للحم بالدبغ دون غيره أخذاً من قصة شاة ميمونة، قال النووي: هو مذهب الأَوْزاعي وابن المبارك وإسحاق بن راهويه. انتهى. والأحاديث المطلقة العامة حجة عليهم، ومنهم من قال: لا يطهر شيء من الجلود بالدباغ، قال النووي: رُوي هذا عن عمر وابنه عبد الله وعائشة وهو أشهر الروايتين عن أحمد، وإحدى الروايتين عن مالك. انتهى. والأحاديث الواردة في الطهارة بالدباغة حجة عليهم، وقال أحمد في القديم: لا يطهر جلد الميتة بالدباغ، ثم رجع عنه لمّا رأى قوة الأخبار الواردة فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ (1) : مرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم بساة كَانَ أَعْطَاهَا مَوْلًى لِمَيْمُونَةَ (2) زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْتَةٍ (3) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلا (4) انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: إِنَّمَا حُرِّم أَكْلُهَا (5) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا دُبِغَ إِهَابُ الْمَيْتَةِ فَقَدْ طَهُرَ، وَهُوَ (6) ذَكَاتُهُ وَلا بَأْسَ بِالانْتِفَاعِ (7) بِهِ، وَلا بَأْسَ بِبَيْعِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا رحمهم الله.   (بسط شيخنا مذاهب العلماء في دباغ الجلود الميتة وطهارتها بالدباغ في الأوجز، فارجع إليه 9/187) . (1) قوله: قال: مرَّ، هكذا رواه جمع من رواة الموطأ عن عبيد الله مرسلاً كابن بكير والقعبني، والصحيح وصله عن ابن عباس كما رواه يحيى وابن وهب وابن القاسم وجماعة معمر ويونس والزبيدي، وعقيل من أصحاب ابن شهاب، كذا قال ابن عبد البر. (2) قوله: كان أعطاها مولى لميمونة، في رواية يحيى: أعطاها مولاة لميمونة. وظاهرهما أن تلك الشاة قد أعطاها مولى أو مولاة لأحد. والذي في عامة الكتب: صحيح مسلم وسنن النسائي وسنن أبي داود وغيره: أنها تصدَّقَ بها على مولاة لميمونة. (3) صفة لشاة. (4) حرف تحضيض وفي رواية: أفلا. (5) قوله: إنما حُرِّم أكلها، مجهول من التحريم أو معروف ثلاثي بضم الراء أي لم يحرم إلاَّ أكل الميتة لا الانتفاع بأجزائها وجلدها، واستدل بظاهره الزهري كما حكاه أبو داود وأحمد عنه أن جلود الميتة طاهرة ينتفع بها بغير الدباغة، وردّه الجمهور بأنه ورد التقييد بالدباغ في رويات أخرى صحيحة فوجب القول به، كذا في "فتح الباري". (6) أي ذبحُه كذكاته بالفتح أي ذبحه. (7) وأما قبل الدبغ فلا يجوز البيع ولا الانتفاع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 59 - بَابُ كَسْب الحَجّام 987 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا حُميد الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَجم (1) أَبُو طَيْبة رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ (2) أَنْ يُخَفِّفُوا (3) عَنْهُ مِنْ خَرَاجِه (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ أَنْ يُعطى الْحَجَّامُ أَجْرًا عَلَى حِجَامَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (5) .   (1) قوله: حجم أبو طيبة، اسمه نافع، وقيل: ميسرة، وقيل: دينار، ذكره السيوطي. وفي "جامع الأصول": أبو طيبة نافع الحجام مولى محيصة بن مسعود الأنصاري صحابي معروف، وطَيْبة بفتح الطاء وسكون الياء وبالباء الموحدة. (2) أي موالِيَه. (3) من التخفيف. (4) قوله: من خَراجه، بالفتح هو ما يجعل العبد على نفسه لسيِّده في كل يوم. (5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الجمهور (كذا في الأوجز 15/201 أخذا من أحاديث حجامة النبي صلى الله عليه وسلم وإعطائه أجره وقال ابن عباس: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخدعين وبين الكتفين وأعطى الحجام أجره ولو كان حراما لم يعطه. أخرجه الترمذي في الشمائل وروي: كسب الحجام خبيث أخرجه الترمذي وغيره وعند أحمد وأصحاب السنن عن محيصة: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام فنهاه فذكر له الحاجة فقال: أعلفه نواضحك. وحمله الجمهور على النهي للتنزيه ومنهم من قال محل الجواز ما إذا كانت الأجرة معلومة والمنع ما إذا كانت مجهولة وجنح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 988 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمَمْلُوكُ وَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ (1) وَلا يصلُح (2) لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يُنفق مِنْ مَالِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْن سَيِّدِهِ إِلا أنْ يأْكُلَ (3) أَوْ يَكْتَسيَ (4) أَوْ يُنْفِقَ (5) بِالْمَعْرُوفِ (6) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلا أَنَّهُ يرخَّص لَهُ فِي الطَّعَامِ الَّذِي يُوَكَّلُ أَنْ يُطْعِمَ (7) مِنْهُ، وَفِي عَارِيَةِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا (8) . فَأَمَّا هِبَةُ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ أَوْ كِسْوَةُ ثَوْبٍ فَلا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. 989 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زيد بن أسلم، عن أبيه قال: كنت لعمر بن الخطاب تسعُ صِحاف (9)   الطحاوي إلى نسخ حديث المنع بحديث الجواز كذا في" جمع الوسائل شرح الشمائل" لعلي القاري) . (1) لكونه مالكاً لرقبته ويده. (2) أي لا يجوز. (3) أي المملوك. (4) في نسخة: أو يلبس. والمعنى واحد. (5) من الإِنفاق أي في بعض ضرورياته أو المراد به التصدُّق بما يعلم رضى مولاه. (6) قَيْد للأخير أو للكلّ. (7) أي يطعم منه غيره فقيراً أو جليساً. (8) من المنافع. (9) قوله: تسع صِحاف، بكسر الصاد جمع صَحفة بالفتح وهي القصعة الواسعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 يَبْعَثُ (1) بِهَا (2) إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا كَانَتِ الظُّرفَةُ (3) أَوِ الفاكهةُ أَوِ القَسْم، وَكَانَ يَبْعَثُ بآخِرهن (4) صَفْحَةً إِلَى حَفْصَةَ (5) ، فَإِنْ كَانَ (6) قِلَّةٌ أَوْ نُقْصَانٌ كَانَ بِهَا. 990 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ (7) : وَقَعَتِ (8) الْفِتْنَةُ - يَعْنِي فِتْنَةَ (9) عُثْمَانَ - فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أهل بدر (10) أحد، ثم وقعت   (1) أي في عهد خلافته. (2) أي بواحدة منها إلى واحدة منهن. (3) قوله: إذا كانت الظُّرَفة، بالضم أي إذا وجدت بالتحفة من المأكول والمشروب. أو الفاكهة أو القَسْم، بالفتح أي القسمة من اللحم وغيره، قاله القاري. (4) أي بعد أن يرسل إلى سائر الأزواج. (5) لكونها بنته فلا تضرّ القلة ولا تحزنها. (6) قوله: فإن كان، أي فإن وُجدت قلة في كمية ذلك الشيء المبعوث أو نقصان في كيفيته كان ذلك بحصة حفصة لكونها آخر الحصص، والنقصان إنما يظهر في الآخر. (7) قوله: يقول، مقصوده الإِشارة إلى ارتفاع البركة بوقوع الفتنة، وأنّ الفتن معدن المحن، وأنه لا يأتي زمان إلا وبعده شرٌّ منه. (8) أي في سنة 35 هـ. (9) أي فتنة شهادته. (10) أي من الأصحاب الذين كانوا في غزوة بدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 فِتْنَةُ (1) الحَرَّة فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ (2) الْحُدَيْبِيَةِ أَحَدٌ، فَإِنْ وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ لَمْ يبقَ بِالنَّاسِ طِباخٌ (3) . 991 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كلُّكُم راعٍ (4) وكلُّكم مسؤولٌ عن رَعِتَّته (5) ، فَالأَمِيرُ (6) الَّذِي عَلَى النَّاسِ راعٍ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مسؤول عنهم (7) ، والرجل راعٍ على أهله (8) وهو مسؤول عَنْهُمْ، وامرأةُ الرجلِ راعيةٌ عَلَى مَالِ زَوْجِهَا، وهي مسؤولة عَنْهُ (9) ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ راعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وهو   (1) قوله: ثم وقعت فتنة الحرّة، بفتح الحاء وتشديد الراء المهملة أرض ذات حجارة سود بقرب المدينة الطيبة وكانت الفتنة هناك زمن يزيد سنة 63 ابتُلي بها أهل المدينة ابتلاءً شديداً. (2) أي الذين حضروا الحديبية مع الرسول وبايعوه تحت الشجرة. (3) قوله: لم يبق بالناس طِباخ، بالكسر بمعنى العقل، يعني إنْ وقعت فتنة ثالثة لا يبقى في الناس عقل ولا خير ويذهب بركة وجود الصحابة الذين هم زينة الدنيا والدين مطلقاً. (4) قوله: كلكم راعٍ، من الرعاية بمعنى الحفاظة أي كلكم راعٍ لرعيته وناظم لأمور من يتبعه، فيُسأل كل عن رعيته عما وقع منه في حقهم من العدل والظلم. (5) بالفتح ثم الكسر ثم التشديد مع الفتح. (6) أي السلطان ومن ينوب منابه. (7) أي عمّا صدر منه فيهم. (8) أي زوجته وأولاده وخوادمه وغيرهم ممن يَعُوله. (9) أي عن مال زوجها أنفقت في محله أم في غيره؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 مسؤول عنه (1) ، فكلُّكُمْ راعٍ (2) وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عن رعيّته. 992 - أخبرنا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: إن الغادر (3) يقوم يوم القيمة يُنصب لَهُ لواءٌ، فَيُقَالُ هَذِهِ غُدرة فُلَانٍ. 993 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا (4) الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القيمة. 994 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عن ابن عمر:   (1) من جهة أمانته وخيانته. (2) قوله: فكلكم راع، قال القاري: هذا تأكيد لما قبله مُجْمَلاً ومفصَّلاً في صورة النتيجة، ولا يبعد أن يقال: إن الرجل وحده مسؤول عن رعيته من أعضائه وهي السمع والبصر واليد والرجل واللسان والأذن ونحو ذلك كما يشير إليه قوله تعالى: (إنَّ السَمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلّ أولئك كَانَ عنه مسؤُولاً) (سورة الإِسراء: الآية 36) والحديث رواه الشيخان وأحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر. (3) قوله: إن الغادر، أي من يغدر بعهده ويخلف في وعده من الكفار وغيرهم، يقوم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد. يُنصَب، بصيغة المجهول أي يُرفع له. لواء، بالكسر يكون علامة على غدرته يطلع عليها الناس فيُقال من جانب الملائكة هذه غُدرة فلان بالضم. (4) قوله: في نواصيها، جمع ناصية مقدّم الرأس إشارة إلى فضل الخيل لكونه آلة الجهاد. وكون الخير في ناصيته إلى يوم القيامة إشارة إلى دوام فتح أهل الإِسلام وغلبتهم بخيلهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 أَنَّهُ رَآهُ (1) يَبُولُ قَائِمًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَالْبَوْلُ جَالِسًا أَفْضَلُ. 995 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: ذَرُونِي (2) مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ من   (1) قوله: أنه رآه، أي رأى عبدُ الله بن دينار ابنَ عمر يبول قائماً، ولعله كان أحياناً اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان من أشد الناس اقتداءً به حتى في المباحات والاتفاقيات، وقد روى حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم أتى سُباطة قوم فبال قائماً، أخرجه أبو داود وغيره. وروى الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً من جُرح كان بمأْبضه، وهو بهمزة ساكنة: عرق في باطن الركب. وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن مجاهد قال: ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً إلا مرة في كثيب أعجبه. وعن الشافعي: كانت العرب تستشفي وجع الصلب بالبول قائماً. فلعله كان به إذ ذاك وجع صلب، وقيل لم يكن هناك موضع القعود فبال قائماً. وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبول قائماً. وهذا كله لبيان الجواز وإلا فالعادة المستمرة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو البول قاعداً حتى قالت عائشة: مَنْ حَدّثكم أنّ رسول الله بال قائماً فلا تصدِّقوه، أخرجه النسائي والترمذي وقال: إنه أحسن شيء في الباب، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، كذا فصله السيوطي في "مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود" و "زهر الرُّبى على المجتبى" وغيرهما. (2) قوله: ذروني، أي اتركوني ما تركتكم ولا تتعرضوا بالتفتيش والسؤال، فإنما هلك من كان قبلكم من الأمم السابقة كبني إسرائيل بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم كما ذكر الله في كتابه في قصة البقرة وسؤال رؤية الله ودخول قرية الجبّارين وغير ذلك. فما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما لم أنه عنه فاسكتوا عنه ولا تتعرّضوا له بالسؤال والتشديد فيشدد الله عليكم. وفيه إشارة إلى أن الأصل في الأشياء الإِباحة ما لم يرد دليل المنع، وفي رواية ابن جرير وأبي الشيخ وابن مردويه عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَمَا نهيتُكم عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ. 996 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزنَّاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ ابنَ أَبِي قُحافة (1) نَزع ذَنوباً أَوْ ذَنوبين (2) ، فِي نَزْعه ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ (3) ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَاسْتَحَالَتْ (4) غَرْباً، فلم أرَ عبقريّاً (5) من الناس ينزع   أبي هريرة: خَطَبنَا رسولُ لله فقال: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فقام عكاشة بن مِحصن الأسدي فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: أما إني لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عني ما سكّت عنكم فإنما هلك مَنْ قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فأنزل الله: (يا أيّها الَّذِيْنَ آمنوا لا تسألوا عن أشياءَ إن تُبْدَ لكم تسُؤْكُم) (سورة المائدة: الآية 101) . وفي الباب عن أبي أمامة الباهلي عند ابن جرير والطبراني وابن مردويه، وابن عباس عند ابن مردويه، وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما كما بسطه السيوطي في "الدر المنثور". (1) أي أبا بكر، وأبو قُحافة بالضم كنية والده. (2) بالفتح: الدلو الكبير، أي أخرج من البئر. (3) أي يتجاوز عنه ولا يأخذه بضعفه لعدم تقصيره. (4) بالفتح: الدلو الكبير من الذنوب أي فصارت تلك الدلو دلواً عظيماً أخرج به ماءً كثيراً. (5) بفتح العين وسكون الباء وفتح القاف وكسر الراء وشدّ الياء: أي شديداً قوياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 نَزْعه (1) ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسَ بعَطَن (2) . 60 - بَابُ التَّفْسِيرِ (3) 997 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصَين، عَنْ أَبِي يَرْبُوعٍ (4) الْمَخْزُومِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثابت يقول: الصلاة   (1) منصوب بنزع الخافض أي كنزعه (فيه إشارة إلى إشاعة أمره وإجراء أحكامه. فتح الباري 7/39) . (2) قوله: حتى ضرب الناس بعَطَن، بفتحتين موضع يجلس فيه الدوابّ حول الحوض والماء للسقي. والمعنى نزع عمر ورَوي الناس بشربهم حتى جعلوا العطن، أبركوا دوابّهم للسقي لكثرة الماء. وفي حديث إشارة كالصراحة إلى قلة مدة خلافة أبي بكر وإلى ما وقع في زمن خلافته من اضطراب الأحوال بسبب ارتداد العرب وظهور المتنبئين، وإلى قوة عمر في أمر الدين وطول خلافته وشيوع الدين في زمنه، وقد وقع كل ذلك كما أرى، وكانت رؤيته ذلك مناماً كما في رواية الصحيحين وغيرهما، بينا أنا نائم رأيتُني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة، الحديث. وبه ظهر ما في كلام القاري حيث فسر قوله رأيت بقوله أي علمت بالكشف أو الإِلهام، أو رأيت في المنام. انتهى. فإن الترديد مختلّ النظام لثبوت الرؤية المنامية برواية الأحلام، ومن المعلوم أن منام الأنبياء وحي عند علماء الإِسلام. (3) قوله: عن أبي يربوع المخزومي، في نسخة: ابن يربوع، وهو الموافق لما في "موطأ يحيى"، وهو عبد الرحمن بن سعيد بن يَربوع بفتح الياء المخزومي، أبو محمد المدني، نُسب إلى جَدّه، من ثقات التابعين، ذكره في "التقريب". (4) قوله: عن أبي يربوع المخزومي، في نسخة: ابن يربوع، وهو الموافق لما في "موطأ يحيى"، وهو عبد الرحمن بن سعيد بن يَربوع بفتح الياء المخزومي، أبو محمد المدني، نُسب إلى جَدّه، من ثقات التابعين، ذكره في "التقريب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 الوُسطى (1) صلاة الظهر.   (1) قوله: الصلاة الوسطى، أي المذكورة في قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاةِ الوسطى) (سورة البقرة: الآية 238) وقد اختلف فيه الصحابة ومن بعدهم، وتخالفت الروايات عنهم، فعن ابن عباس عند البيهقي وابن جرير وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وسعيد بن منصور أنها صلاة الصبح، ومثله عن عليّ عند البيهقي، وابن عمر عند ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وابن المنذر وعبد بن حميد، وورد مثله عن عطاء وجابر بن زيد وطاوس وعكرمة. هذا أول الأقوال، الثاني: أنها صلاة الظهر وهو قول زيد بن ثابت أخرجه البخاري وأبو داود وابن جرير والطحاوي وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وابن أبي حاتم وأحمد وابن منيع والضياء المقدسي وغيرهم، وهو مرويّ عن ابن عمر عند الطبراني، وعن أبي سعيد الخدري عند البيهقي، وعن عليّ عند ابن المنذر. والثالث: أنها العصر وهو مذهب عليّ رجع إليه بعد ما كان يظن أنها الصبح لمّا سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة ومسلم والنسائي وغيرهم، وهو المرويّ عن ابن عمر عند ابن جرير والطحاوي وعبد بن حميد وعن أبي أيوب عند البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وعن أبي سعيد الخدري عند الطحاوي وابن المنذر، وعن أم سلمة عند ابن أبي شيبة وابن المنذر، وعن عائشة عند ابن جرير وابن أبي شيبة، وعن حفصة عند عبد بن حميد وغيره. والرابع: أنها صلاة المغرب ورد ذلك عن ابن عباس عند ابن عباس عند ابن أبي حاتم. وهناك أقوال أخر مبسوطة في "فتح الباري" وغيره، والآثار المذكورة وغيرها مبسوطة في "الدر المنثور" والذي يظهر بعد التنقيد أن أصح الأقوال هو القول الثالث لكونه موافقاً لكثير من الأحاديث الصحيحة المرفوعة، وإليه ذهب أكثر الصحابة كما ذكره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 998 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ (1) ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ مُصْحَفًا لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: إِذَا بلغتَ هَذِهِ الآيَةَ (2) فآذِنِّي (3) ، فَلَمَّا بلغتُها آذَنُتها (4) فَقَالَتْ: حَافِظُوا (5) عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى، وَصَلاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ. 999 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن القَعْقَاع (6) بن   الترمذي، وجمهور التابعين كما ذكره الماوردي، وأكثر علماء الأثر كما قاله ابن عبد البر، وهو الصحيح عند الحنفية والحنابلة، وذهب أكثر الشافعية وبعض المالكية مخالفاً لقول إماميهما أنها الصبح. (1) هو عمرو بن رافع العدوي مولاهم، مقبول، ذكره في "التقريب". (2) أي التي فيها ذكر الصلاة الوسطى. (3) أي أخبرني. (4) أي أعلمتها. (5) قوله: حافظوا، أي أكتب هكذا بزيادة "وصلاة العصر"، وهذه الكتابة وكتابة عائشة قبل أن تُجْمَع المصاحف المختلفة على مصحفٍ واحد في زمن عثمان فإنه لم يُكتب بعد ذلك إلا ما أُجمع عليه وثبت بالتواتر أنه قرآن، قاله ابن عبد البر. (6) بفتح القافين بينهما عين ساكنة: كِنَانِيٌّ، مدني، ثقة، ذكره في "الكاشف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي يُونُسَ (1) مَوْلَى عَائِشَةَ، قَالَ: أَمَرَتْني أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا، قَالَتْ: إِذَا بلغتَ هَذِهِ الآيَةَ فآذِنِّي (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصلاة الوسطى) ، فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذنَتْها وأَمَلَّتْ (2) عَلَيَّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَصَلاةِ الْعَصْرِ (3) وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (4) ، سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 1000 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عُمَارَةُ بْنُ صَيَّادٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ (5) في الباقيات الصالحات: قول العبد:   (1) قال الزرقاني: من ثقات التابعين، لا يُعرف اسمه. (2) أي (فأمَلّتْ: بتشديد اللام من الإِملال وبتخفيفها من الإِملاء وكلاهما بمعنى أي ألقت. بذل المجهود 3/200. وفي نسخة القاري: فقالت بدل وأمَلَّت، وفي البذل: فأملت) كتَبتْ عليّ وأمرَتْني بكتابتها هكذا. (3) قوله: وصلاة العصر، استَدل به وبحديث حفصة مَنْ قال: إن الصلاة الوسطى غير العصر، يجعل العطف للمغايرة، ومن قال باتحادهما يجعل العطف للبيان، وهو الموافق لما رُوي عن عائشة وحفصة. (4) أي: ساكنِين أو خاشِعِين أو داعِين، على اختلاف التفاسير. والأول أوفق بشأن نزولها فإنها نزلت نَسْخاً للتكلُّم في الصلاة كما بسطْتُه في رسالتي "إمام الكلام في ما يتعلّق بالقراءة خلف الإِمام. (5) قوله: يقول في الباقيات الصالحات، أي في تفسير قوله تعالى: (المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدنيا والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عندَ رَبِّكَ ثواباً وخيرٌ أملاً) (سورة الكهف: الآية 46) ، وهذا التفسير منقول موقوفاً ومرفوعاً كما بسطه السيوطي في "الدر المنثور"، فأخرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. 1001 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابن شهاب وسئل (1) عن   ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن ابن عباس قال في تفسيره: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إلاَّ الله والله أكبر. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "استكثروا من الباقيات الصالحات قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال التكبير والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله. ونحوه أخرجه سعيد بن منصور وأحمد وابن مردويه من حديث النعمان بن بشير والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في "المعجم الصغير" والحاكم وابن مردويه والبيهقي من حديث أبي هريرة، والطبراني وابن مردويه من حديث أبي الدرداء، وابن مردويه من حديث أنس، وابن أبي شيبة وابن المنذر من حديث عائشة كلهم ذكروه مرفوعاً وهو المنقول عن عثمان، أخرجه أحمد وابن جرير وابن المنذر، وعن ابن عمر أخرجه ابن جرير والبخاريّ في "تاريخه". (1) قوله: وسئل، أي والحال أن ابن شهاب سئل عن المحصنات من النساء في قوله تعالى (والمحصنات من النساء إلاَّ ما ملكت أيمانكم) عطفاً على أمهاتكم في قوله قبله: (حُرِّمت عليكم أمهاتُكم وبناتُكم وأخواتُكم) (سورة النساء: الآية 23، 24) الآية، قال ابن شهاب: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: هن ذوات الأزواج، فالمعنى حُرِّمت عليكم المحصنات بالفتح اللاتي لهن أزواج ما لم يُطلِّقوا أو يموتوا (إلاَّ ما ملكت أَيْمانكم) يعني السبايا التي سُبين ولهن أزواج في دار الحرب فإنه يحل لمُلاَّكهن وطؤهنَّ بعد الاستبراء لأنَّ بالسبي وتخالف الدارين يرتفع النكاح. وهذا التفسير مرويّ عن ابن عباس عند ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 المحصَنات مِنَ النِّسَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: هنَّ ذَوَاتُ الأَزْوَاجِ. وَيَرْجِعُ (1) ذَلِكَ إِلَى أَنَّ اللَّهُ حَرَّمَ الزِّنَا. 1002 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رأيتُ (2) مثلَ مَا رغِبت هَذِهِ الأُمَّةُ عَنْهُ، من   والحاكم والبيهقي، وعن ابن مسعود عند أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد، وعن أنس عند ابن المنذر وغيرهم من الصحابة والتابعين. وأخرج الطحاوي وعبد الرزّاق وابن شيبة وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين جيشاً إلى أوطاس فلقوا عدواً فظهروا عليهم، وأصابوا سبايا فكان ناساً من أصحابه تحرَّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله هذه الآية. (1) أي حاصل هذا التفسير حرمة الزِّنا. (2) قوله: ما رأيت مثل ما رغبت هذه الأمة عنه، وأعرضت عنه بأن تركت العمل بمقتضاها مثل هذه الآية فإن الآية ناصَّة على أنه يجب الصلح بين المتنازعين وإرشاد الباغين إلى حكم الله ورسوله فإن أبَوْا فالقتل إخلاءً للعالم عن شرِّهم وقد ترك أكثر الناس العمل به، وكان نزول هذه الآية لمّا كانت امرأة من الأنصار تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فحبسها فجاء قومها وقومه واقتتلوا بالأيدي والنعال. وقيل: نزلت لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أُبيّ المنافق راكباً على حمار، فلما أتاه قال: إليك عني لقد آذاني نَتَنُ حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه فشتما، ووقعت المقاتلة بالأيدي والنعال، كذا ذكره البغوي في "معالم التنزيل"، وقال أيضاً: فيه دليل على أن البغي لا يُزيل اسم الإِيمان، ويدلُّ عليه مل رُوي عن علي أنه سئل وهو القدوة في قتال أهل البغي عن أهل الجمل وصِفّين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 هَذِهِ الآيَةِ: (وإنْ (1) طَائِفَتَانِ مِنَ اْلمُؤْمِنِينْ (2) اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوْا بَيْنَهُمَا، فَإن بغتْ (3) إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ (4) إِلَى أَمْرِ الله فإن فاءت فأصلحوا (5) بينهما. 1003 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْلِ اللَّهِ (6) عزَّ وجلَّ: (الزاني لا   أهم مشركون؟ قال: من الشرك فرّوا، فقيل: منافقون؟ فقال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلاَّ قليلاً، قيل: فما حالهم؟ قال: إخوانُنا بَغوْا علينا. (1) شرطية. (2) فيه حجة قويه لأهل السنَّة على أن الكبائر لا تُخرج العبد عن الإِيمان. (3) من البغي وهو الخروج عن الحدّ، أي تعدَّت. (4) أي ترجع إلى حكم الله. (5) بالعدل بحملها على الإِنصاف والرضاء بحكم الله. (6) قوله: في قول الله، قال البغوي: اختلف العلماء في معنى هذه الآية (سورة النور: الآية 3) وحكمها، فقال قوم: قدم قوم المهاجرون المدينة، وفيهم الفقراء لا مال لهم ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا وهم يومئذٍ مشركات، فرغب ناس من فقراء المهاجرين إلى نكاحهن لينفقن عليهم، فنزلت (وحُرِّم ذلك على المؤمنين) لأنهن مشركات، هذا قول مجاهد وعطاء وقتاة والزهري والشعبي. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة وكانت بمكة بغيٌّ يقال لها عناق، وكانت صديقته في الجاهلية، فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها، فقال مرثد: إن الله حرَّم الزنا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 يَنْكِحُ (1) إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا ينكحها إلاَّ زانٍ أو مشرك) ، قَالَ (2) : وَسَمِعْتُهُ (3) يَقُولُ: إِنَّهَا نُسخت (4) هَذَه الآيَةُ بِالَّتِي بَعْدَهَا ثُمَّ قَرَأَ: (وَأَنْكِحُوا (5) الأَيامى (6) مِنْكُمْ والصالحين من عبادكم وإمائكم) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا   فقالت: فانكحني، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه، وقال: لا تنكحها. فعلى قوم هؤلاء كان التحريم خاصاً في حق أولئك دون سائر الناس. وقال قوم: المراد بالنكاح هو الجماع ومعناه الزاني لا يزني إلاَّ بزانية أو مشركة، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك. وقال سعيد بن المسيّب وجماعة: إن حكم هذه الآية منسوخ، وكان نكاح الزانية حراماً بهذه الآية فنسخها قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى) (سورة النور: الآية 32) فدخلت الزانية في أيامى المسلمين (ورجح هذا القول الإِمام أبو جعفر الطبري وقال: وأَوْلى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: عنى في هذا الموضع الوطء. وإن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كل مشرك، وإن الزاني من المسلمين حرام عليه كل مشركة من عبدة الأوثان. تفسير الطبري 8/58) . (1) هو وما بعده خبر بمعنى النهي. (2) أي يحيى بن سعيد. (3) أي سعيد بن المسيّب. (4) بصيغة المجهول. (5) خطاب إلى الأولياء. (6) جمع أيَّم: مَنْ لا زوج لها وهو مطلق يشمل الزانية وغيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 لا بَأْسَ بِتَزَوُّجِ (1) الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ فَجَرَتْ (2) ، وَإِنْ يَتَزَوَّجْهَا مَنْ لَمْ يفجُرْ (3) . 1004 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ: (وَلا جُنَاح (4) عَلَيْكُمْ فِيمَا عرَّضتم به من خِطبة النساء أو أكْنَتُم في أنفسكم) ، قال: أن (5) تقول   (1) قوله: بتزوّج المرأة (في بذل المجهود 10/19: مذهب الحنفية في ذلك، وهو ما قاله الجمهور بأن الزانية لا يحرم نكاحها على الزاني ولا على غيره، وكذلك لا يحرم نكاح الزاني بالمؤمنة ولا بالزانية، وقد خالف في ذلك الشيخ ابن القيم في "زاد المعاد" وقال بالحرمة. والله أعلم) ، وإن كان بمن زنى بها وإن كانت حُبْلَى بالزنى، لكن إذا تزوجت الحبلى بالزنا بغير الزاني لا يحل له الوطء إلى وضع الحمل وإن نكحت بالزاني يجوز له الوطء. (2) أي زنت. (3) أي من لم يزنِ. (4) قوله: ولا جُناح، بالضم أي لا إثم. عليكم فيما عرَّضتم به (سورة البقرة: الآية 235) ، من التعريض، وهو التلويح بشي يَفهم به السامع مراده من غير التصريح من بيان لما خطبة - بالكسر - وهي التماس نكاح النساء المعتدات المذكورات في ما قبل هذه الآية. أو أكننتم أي أضمرتم وأخفيتم في أنفسكم، كذا في "معالم التنزيل". (5) بيان للتعريض أي هو قولك للمرأة في حال العدَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 لِلْمَرْأَةِ وَهِيَ فِي عِدَّتها مِنْ وَفَاةِ (1) زَوْجِهَا: إِنَّكَ عليَّ (2) كَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَإِنَّ اللَّهَ سَائِقٌ (3) إِلَيْكِ رِزْقًا، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ. 1005 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عمر، قال: دُلُوك (4) الشَّمس مَيْلها.   (1) وكذا في عدَّة طلاقها. (2) أي عندي مكرَّمة. (3) أي موصلٌ إليك رزقاً حسناً يعني بتزويجي إيّاك. (4) قوله: دُلوك الشمس، أي المذكور في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غَسَق - بفتحتين - الليل وقرآنَ الفجرِ كان مشهوداً) (سورة الإِسراء: الآية 78) ، وفيه إشارة إلى الصلوات المكتوبات وأوقاتها، فقرآن الفجر إشارة إلى صلاة الفجر. ومعنى قوله مشهوداً: يشهده ملائكة الليل والنهار المتعاقبون يجتمعون عند ذلك، وبه فسَّر ابن عباس في رواية ابن جرير وابن شيبة وابن مسعود كما في رواية سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر، وأبو هريرة في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه البخاري ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم وعبد الرزاق وابن مردويه، وغسق الليل أشار به إلى صلاة العشاء، وبه فسَّره ابن مسعود أخرجه عنه الطبراني، وعن ابن عباس غسق الليل بدء الليل، أخرجه ابن جرير، وأخرج ابن أبي شيبة، عن مجاهد وعبد الرزاق، عن أبي هريرة: غسق الليل غروب الشمس، فيكون إشارة إلى صلاة المغرب، وعن ابن عباس أنه ظلمة الليل أخرجه ابن الأنباري وابن المنذر فيكون شاملاً لصلاتَيْ المغرب والعشاء، وهو أَوْلى الأقوال. ودلوك الشمس فسره ابن مسعود بالغروب كما أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه، وكذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 1006 - أخبرنا مالك، حدثنا داود بن الحصين، عن (1) ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ يَقُولُ: دُلوك الشَّمْسِ مَيْلها (2) وَغَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وظُلْمته. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا قَوْلُ (3) ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: دُلوكها غُرُوبُهَا، وكلٌّ حَسَن (4) .   أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ، فيكون إشارة إلى المغرب ولا يكون لصلاة الظهر ذِكْرٌ في هذه الآية وكذا للعصر، وفسَّره ابن عمر بالزوال أخرجه مالك وعبد الرزاق وابن شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وهو رواية عن ابن عباس فيكون إشارة إلى صلاة الظهر، ويُستفاد العصر من قوله إلى غسق الليل. والآثار في هذا الباب مبسوطة في "الدر المنثور". (1) قوله: عن، في "موطأ يحيى": مالك عن داود بن الحصين أخبرني مُخْبِر عن ابن عباس، قال ابن عبد البَرّ في "الاستذكار": المُخبر المُبْهم عكرمة، كان مالك يكتم اسمه لكلام ابن المسيّب فيه. (2) أي زوالها من نصف النهار. (3) وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين، وقول ابن مسعود اختاره النخعي ومقاتل والضحاك والسُّدِّي، كذا ذكره البغوي. (4) قوله: وكلٌّ حسن، لأن اللفظ يجمع المعنين فإن أصل الدلوك الميلان، والشمس تميل إذا زالت وإذا غربت، لكن لا يخفى أن التفسير بالزوال أولى القولين لكثرة القائلين، ولأنّا إذا حملنا عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها بخلاف الغروب كذا قال البغوي، ومما يؤيد ترجيح تفسير الزوال بموافقته لكثير من الأخبار المرفوعة، فأخرج ابن مروديه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم لدلوك الشمس، قال: لزوال الشمس. وأخرج البزار وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 1007 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ: أَنّ (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا أجَلُكم (2) فِيمَا خَلا مِنَ الأُمَمِ، كَمَا (3) بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ (4) الشَّمْسِ؟، وَإِنَّمَا مَثَلُكم (5) وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمّالاً (6) فقال: من يعمل لي إلى   بسند ضعيف، عن ابن عمر مرفوعاً: دلوك الشمس زوالها. وأخرج ابن جرير، عن عقبة بن عمرو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر. وأخرج ابن جرير عن أبي برزة الأسلمي: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الظهر حين زالت الشمس ثم تلا هذه الآية. (1) هذا الحديث معروف بحديث القيراط، أخرجه البخاري في مواضع، ومسلم والترمذي وغيرهم وله طرق كثيرة. (2) بفتحتين أي مدة بقائكم بالنسبة إلى من مضى من الأمم. (3) أي التشبيه في القلة. (4) مصدر ميميّ بمعنى الغروب. (5) قوله: وإنما مثلكم، المثل بفتحتين في المعنى كالمِثْل بكسر الميم، وهو النظير ثم قيل: للمقول (في الأصل: المعقول هو تحريف) السائر الممثل مضربه بمورده مثل، ولم يضربوا مثلاً إلاَّ بقول فيه غرابة، وههنا تشبيه للمركَّب بالمركب فالمشبَّه والمشبَّه به هما المجموعان الحاصلان في الطرفين، وإلاَّ كان القياس أن يقول كمثل أقوام استأجرهم رجل، كذا قال العيني في "عمدة القاري" (عمدة القاري 5/53) . (6) بضم العين وتشديد الميم جمع عامل أي قوماً يعملون له العمل بالأجرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قيراطٍ (1) قِيرَاطٍ؟ قَالَ: فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ (2) ، ثُمَّ قَالَ (3) : مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ (4) النَّصَارَى عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ (5) : من يعمل لي من الصلاة العصر إلى المغرب الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، أَلا (6) فَأَنْتُمُ الَّذِينَ يَعملون مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، قَالَ (7) : فَغَضِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وقالوا: نحن أكثر عملاً (8)   (1) قوله: على قيراط قيراط، قال الكرماني في "الكواكب الدراري" القيراط نصف دانق، وأصله قرّاط بالتشديد لأن جمعه قراريط فأُبدل أحد حرفَيْ التضعيف كما في الدينار، والمراد به ههنا النصيب والحصة، وكُرِّر ليدل على تقسيم القراريط على جمعيهم كما هو عادة كلامهم. (2) أي فهذا مثل اليهود استعملهم الله بأجر إلى مدة طويلة فعملوا. (3) أي ذلك الرجل المستعمِل. (4) إشارة إلى قلَّة مدة النصارى بالنسبة إلى اليهود. (5) أي المستعمِل. (6) حرف تنبيه نبَّه به النبي صلى الله عليه وسلم على فضل هذه الأمة. (7) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (8) قوله: نحن أكثر عملاً، قال الكرماني: فإن قلت قول اليهود ظاهر، لأن الوقت من الصبح إلى الظهر أكثر من العصر إلى المغرب، لكن قول النصارى لا يصلح إلاَّ على مذهب الحنفية حيث يقولون: وقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثليه، وهذا من جملة أدلتهم فما هو جواب الشافعية عنه حيث قالوا: هو مصير الظل مثلاً وحينئذٍ لا يكون وقت الظهر أكثر من وقت العصر؟ قلت: لا نسلِّم أن وقت الظهر ليس بأكثر منه، ولئن سلَّمنا فليس هو نصّاً في أن كلاً من الطائفتين = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 وَأَقَلُّ (1) عَطَاءً، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ (2) مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي (3) أُعطيه مَنْ شِئْتُ (4) . قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ على أن تأخير العصر أفضل (5) من   = أكثر عملاً لصدق أن كلَّهم مجتمعين أكثر عملاً، أو يُقال: لا يلزم من كونهم أكثر عملاً أكثر زماناً لاحتمال كون العمل أكثر في زمان أقلّ، وجاء في آخر صحيح البخاري في باب السُّنَّة، قال أهل التوراة ذلك. انتهى كلامه. ومثله في "عمدة القاري" وغيره. (1) بالنسبة إلى الأمة المحمدية الآخذة بقيراطين. (2) أي نقصت من حقكم الذي قرَّرت لكم جزاءً لعملكم شيئاً. (3) أي تفضُّلي وإحساني. (4) أي فإني مختار لا أُسأل عما أفعل فلا ينبغي تكلُّمكم إلاَّ إنْ كنت نقصت حقكم (قال الحافظ: فيه حجة لأهل السنَّة على أن الثواب من الله على سبيل الإِحسان منه جلَّ جلاله. فتح الباري 4/446) . (5) قوله: أفضل من تعجيلها، استنبط أصحابنا الحنفية أمرين: أحدهما: ما ذكره أبو زيد الدبوسي في كتابه "الأسرار" وتبعه الزيلعي شارح "الكنز" وصاحب "النهاية شرح الهداية" وصاحب "البدائع" وصاحب "مجمع البحرين" في "شرحه" وغيره، أنّ وقت الظهر من الزوال إلى صيرورة ظل كل شيء مثليه، ووقت العصر منه إلى الغروب كما هو رواية عن إمامنا أبي حنيفة، وأفتى به كثير من المتأخرين، وجه الاستدلال به بوجوه كلها لا تخلو عن شيء، أحدها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: إنما أجلكم فيما خلا كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس يفيد قلة زمان هذه الأمة بالنسبة = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = إلى زمان من خلا، وزمان هذه الأمة هو مشبَّه بما بين العصر إلى المغرب فلا بد أن يكون هذا الزمان أقلّ من زمان اليهود، أي من الصبح إلى الظهر، ومن زمان النصارى أي من الظهر إلى العصر ولن تكون القلة بالنسبة إلى زمان النصارى إلاَّ إذا كان ابتداء العصر من حين صيرورة الظل مثليه، فإنه حينئذٍ يزيد وقت الظهر، أي من الزوال إلى المثلين، على وقت العصر من المثلين إلى الغروب، وأما إن كان ابتداء العصر حين المثل فيكونان متساويين. وفيما ذكره في "قتح الباري" و "بستان المحدثين" و "شرح القاري" وغيرها: أما أولاً: فلأن لزوم المساواة على تقدير المثل ممنوعة فإن المدة بين الظهر والعصر لو كان بمصير ظل كل شيء مثله يكون أزيد بشيء من ذلك الوقت إلى الغروب على ما هو محقق عند الرياضيين، إلاَّ أن يُقال هذا التفاوت لا يظهر إلاَّ عند الحساب، والمقصود من الحديث تفهيم كل أحد. وأما ثانياً: فلأن المقصود من الحديث مجرد التمثيل، ولا يلزم في التمثيل التسوية من كل وجه. وأما ثالثاً: فلأن قلة مدة هذه الأمة إنما هي بالنسبة إلى مجموع مُدَّتَيْ اليهود والنصارى، لا بالنسبة إلى كل أحد، وهو حاصل على كلّ تقدير. وأما رابعاً: فلأنه يحتمل أن يُراد بنصف النهار في الحديث نصف النهار الشرعي، وحينئذٍ فلا يستقيم الاستدلال. وأما خامساً: فإنه ليس في الحديث إلاَّ أن ما بين صلاة العصر إلى الغروب أقلّ من الزوال إلى العصر، ومن المعلوم أن صلاة العصر لا يتحقق في أول وقته غالباً، فالقلة حاصلة على كل تقدير، وإنما يتمُّ مرام المستدل إنْ تمَّ لو كان لفظ الحديث ما بين وقت العصر إلى الغروب وإذ ليس فليس. وثانيها: أن قول النصارى نحن أكثر عملاً لا يستقيم إلاَّ بقلة زمانهم ولن تكون القلة إلاَّ في صورة المثلين، وفيه ما مرَّ سابقاً وآنفاً. وثالثها: ما نقله العيني أنه جعل لنا النبي صلى الله عليه وسلم من زمان الدنيا في مقابلة من كان قبلنا من الأمم بقدر ما بين صلاة العصر إلى الغروب، وهو يدل على أن بينهما أقلَّ من ربع النهار، لأنه لم يبقَ من الدنيا ربع الزمان لحديث: بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبّابة والوسطى، فنسبة ما بقي من الدنيا إلى قيام الساعة مع ما مضى مقدار ما بين السبّابة والوسطى. = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = قال السهيلي (انظر عمدة القاري 5/53) : وبينهما نصف سبع لأن الوسطى ثلاثة أسباع كل مفصل منهما سبع، وزيادتها على السبّابة نصف سبع. انتهى. وفيه أيضاً ما مرَّ سالفاً. ثم لا يخفى على المستيقظ أن المقصود من الحديث ليس إلاَّ التمثيل والتفهيم. فالاستدلال لو تمَّ بجميع تقاريره لم يخرج تقدير وقت العصر بالمثلين إلاَّ بطريق الإِشارة. وهناك أحاديث صحيحة صريحة دالة على مضيّ وقت الظهر ودخول وقت العصر بالمثل، ومن المعلوم أن العبارة مقدَّمة على الإِشارة، وقد مرَّ منّا ما يتعلق بهذا المقام في صدر الكلام. الأمر الثاني ما ذكره صاحب الكتاب من أن هذا الحديث يدل على أن تأخير العصر - أي من أول وقتها - أفضل من تعجيلها. وقال بعض الأعيان متأخِّري المحدثين في " بستان المحدثين" ما معرَّبه: ما استنبطه محمد من هذا الحديث صحيح، وليس مدلول الحديث إلاَّ أن ما بين صلاة العصر إلى الغروب أقل من نصف النهار إلى العصر ليصح قلة العمل وكثرته، وذا لا يحصل إلاَّ بتأخير العصر من أول الوقت. انتهى. ثم ذكر كلاماً مطوَّلاً محصُّله الردُّ على من استدل به في باب المثلين، وقد ذكرنا خلاصته، ولا يخفى أن هذا أيضاً إنما يصح إذا كان الأكثرية لكل من اليهود والنصارى وإلاَّ فلا، كما ذكرنا، مع أنه إنْ صح فليس هو إلاَّ بطريق الإِشارة والأحاديث الدالَّة على التعجيل بالعبارة مقدَّمة عليه عند أرباب البصارة. وقد مر منا ما يتعلق به في صدر الكتاب، والله أعلم بالصواب. ألا ترى، تنوير للمدعى أنه صلى الله عليه وسلم جعل ما بين الظهر إلى العصر، أي إلى صلاة العصر أكثر مما بين العصر، أي صلاته إلى المغرب، أي وقته وهو غروب الشمس في هذا الحديث، ومن عجَّل العصر، أي صلَّاه في أول وقته وهو صيرورة الظل مثلاً كما هو رأي جمهور العلماء وبه قال صاحب الكتاب وصاحبه أبو يوسف وهو رواية عن شيخهما أبي حنيفة، بل قيل: إنه رجع إليه وهو الموافق للأحاديث الصحيحة الصريحة. كان ما بين الظهر، أي أول وقته وهو الزوال إلى العصر، أقل مما بين = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 [خاتمة المعلق] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = العصر، أي وقت صلاته إلى المغرب، قال صاحب "بستان المحدثين" معترضاً عليه انقضاء المثل على حسب قواعد الأظلال إنما يكون عند بقاء رُبع النهار في أكثر البلاد فيكون الوقتان متساويين، لا أقل وأكثر، ثم قال مجيباً يمكن التوجيه بأن مراد الإِمام محمد من قوله ما بين الظهر ما بين وقته المتعارف للصلاة يعني متأخراً عن ابتداء وقته لا سيما في الصيف فإن الإِبراد فيه مستحب. انتهى بمعرَّبه، وفيه ما فيه، فإن وقّت الظهر من الزوال إلى المثل حسبما حققه الحساب يكون أقل من رُبع النهار تحقيقاً، وإن كان ربع النهار تقريباً، وكلام صاحب الكتاب مبنيّ على التحقيق لا على التقريب، فهذا يدل على تأخير العصر، قال القاري: في "شرحه": لا يخفى أن الحديث بظاهره يدل على تأخير دخول وقت العصر كما قال به أبو حنيفة لا على تأخيره بطريق الأفضلية. انتهى. وأنت تعلم أنه دعوى بلا دليل، بل الظاهر خلافه كما ذكرنا تفصليه، وتأخير العصر، أي من أول وقتها أفضل، أي أكثر ثواباً من تعجيلها، أي أدائها في أول وقتها ما دامت الشمس بيضاء نقيّة، بتشديد الياء، وهذا بيان لمدة التأخير، وبيَّن معنى البيضاء النقية بقوله: لم تخالطها، أي الشمس صُفْرة، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا، أي فقهاء العراق (ويؤيدهم حديث: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى، فهذا يشير إلى قصر المدة، قال العيني: فشبَّه ما بقي من الدنيا إلى قيام الساعة مع ما انقضى بقدر ما بين السبابة والوسطى من التفاوت. عمدة القاري 5/53) وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا المقام في صدر الكتاب، والعلم عند من عنده أمّ الكتاب. [خاتمة المعلق] هذا آخر الكلام في هذا التعليق، والحمد لله على أن جعل لنا التوفيق خير رفيق، والصلاة على رسوله وآله وصحبه الفائزين بأعلى التحقيق، وكان اختتامه يوم الخميس الثامن من شعبان من شهور السنة الخامسة والتسعين بعد الألف والمائتين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 تَعْجِيلِهَا، أَلا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ أَكْثَرَ مِمَّا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَنْ عجَّل الْعَصْرَ كَانَ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ أَقَلَّ مِمَّا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ الْعَصْرِ، وَتَأْخِيرِ الْعَصْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَعْجِيلِهَا، مَا دَامَتِ الشَّمْسُ بيضاءَ نقيَّة لَمْ تُخالطها صُفْرةٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تعالى.   = من الهجرة حين إقامتي بالوطن حُفظ عن شرور الزمن، وكان الشروع فيه في شوال من السنة الحادية والتسعين حين إقامتي بحيدر آباد الدكن نقّاها الله عن البدع والفتن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 الخاتمة (يقول الفقير إليه تعالى الدكتور تقي الدين الندوي القاطن بمدينة العين أستاذاً ومعلماً في جامعة الإِمارات العربية المتحدة: فرغت من خدمة هذا الكتاب والتعليق عليه يوم الجمعة في 25 ذي القعدة 1411 هـ، الموافق 7 يونيو 1991 م. اللهم تقبله منا كما تقبلت من عبادك المقربين الصالحين، واجعله خالصاً لوجهك الكريم واغفر لنا ما وقع منا من الخطأ والزلل، وما لا ترضى به من العمل، فإنك عفو كريم رب غفور رحيم.)