الكتاب: دراسة في السيرة المؤلف: عماد الدين خليل الناشر: دار النفائس - بيروت الطبعة: الثانية - 1425 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- دراسة في السيرة عماد الدين خليل الكتاب: دراسة في السيرة المؤلف: عماد الدين خليل الناشر: دار النفائس - بيروت الطبعة: الثانية - 1425 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] المقدمة هذا كتاب دراسي (أكاديمي) أريد منه بالدرجة الأولى عرض وتحليل الهيكل الأساسي المتفق عليه لأحداث سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوزيع مساحات البحث بشكل متكافىء على كافة جوانب الموضوع.. وهذا الكتاب يجيء ثمرة طبيعية لتدريس هذه المادة في كلية الآداب ما يزيد على الست سنوات، الأمر الذي أتاح لي احتكاكا عمليا مباشرا بالموضوع، ودفعني للبحث عن أشد الصور المنهجية ملائمة لتوصيل المادة للطالب الجامعي، وتمكينه من الإحاطة بوحداتها الأساسية إحاطة علمية مركزة ومتوازنة، ترفض الجنوح صوب الخيال القصصي الإسرائيلي، والتهويل الأسطوري، أو التطرف- في الوقت ذاته- صوب النظرة المادية التي تقتل في السيرة روحها وتطمس على شخصيتها. كما أن هذه الدراسة تسعى لتجاوز منطق الدفاع- قدر الإمكان- لكي تجعل الحقائق المجردة نفسها تشكل في ذهن الدارس النسق الحقيقي للسيرة، وتدفع كل ما علق بها في الماضي والحاضر من تهاويل وإضافات ومفتريات ما كان لها أن تصمد أمام (الواقعة) التاريخية نفسها، وليس غير الواقعة التاريخية حكما وقاضيا. ومن ثم كان الرجوع إلى طبقة المصادر الأساسية في الموضوع (وبخاصة سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري ومغازي الواقدي وأنساب البلاذري وصحيح البخاري ... ) ، والتعامل المباشر معها. وتجاوز (التضخّم) الذي عانته المصادر المتأخرة، و (الارتجال) الذي مارسته المراجع الحديثة، أمران لازمان لبناء صورة أقرب إلى الواقع التاريخي قدر المستطاع «1» .   (1) عن نقد مصادر السيرة انظر جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام، الفصل الأول ص 6- 35 ومقاله القيم في مجلة (المجمع العلمي العراقي) المجلد الأول، السنة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 إن سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم تجربة غنية بأحداثها، زاخرة بدلالاتها، متنوعة بمعطياتها، وما كان لباحث يسعى إلى إيفائها حقها من البحث والتحليل إلا أن يوسع نطاق رؤياه ويصبّ اهتماماته على هذه الجوانب جميعا؛ حركية وسياسية وعسكرية وشخصية وفقهية وروحية وواقعية وغيبية وعقيدية وحضارية. ولم أشأ- من أجل تركيز الصورة وتحديد أبعادها بدقة- أن التزم الخط الزمني لأحداث السيرة، ذلك الخط الذي وقع في أسره معظم الباحثين، فضاعت في مجراه حقائق، وطمست دلالات وقيم، ما كان لها أن تضيع أو تنطمس لو قسمت وقائع السيرة إلى وحدات متجانسة خصص لكل وحدة منها مساحة مناسبة في البحث، استقصيت فيها سائر جوانبها ونسقت جلّ وقائعها، وحللت معظم دلالاتها وقيمها. ومعروف أن التزام المجرى الزمني يدفع الباحث إلى أن يحشر في النقطة الواحدة، أو المقطع الواحد، مجموعة أحداث ووقائق متنافرة متقاطعة غير متجانسة، ويلجئه أحيانا أخرى إلى تقطيع الواقعة الواحدة إلى أجزاء متناثرة لا يضمها إطار واحد ولا يوحدها تجانس نوعي، وهذا- بطبيعة الحال- نتيجة محتمة للسعي وراء منطق التقسيم الرياضي الصارم للأيام والسنين، وهو الأسلوب الذي اعتمده مؤرخونا القدماء وعرفوه باسم (الحوليات) ، حيث لم يكن علم التاريخ ولا مناهج البحث فيه قد استكملت أسبابها بعد. من أجل ذلك جاء هذا البحث يعرض أحداث السيرة كوحدات محددة الأبعاد، وبخاصة في عصرها المدني حيث تكثر الروايات وتتكاثف الأخبار وتزدحم التفاصيل.. تناولت فيها على التوالي: محمد بين الميلاد والنبوة، الدعوة في عصرها المكي، تحليل للهجرة، دولة الإسلام في المدينة، الصراع مع الوثنية، العلاقات بين الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية، الصراع مع اليهود، ثم حركة النفاق في العصر المدني. وبقدر ما رأيت في بعض الروايات والأخبار قوة وأهمية، فوقفت عندها طويلا محللا مستنتجا، رابطا إياها في نسقها النوعي من الوقائع، بقدر ما لمست في روايات وأخبار أخرى ضعفا وانعدام أهمية فأغفلتها إغفالا تاما، أو مررت بها مرورا سريعا معتمدا في ذلك على المقياس الصارم وهو قبول كل ما لا يتعارض مع آيات القرآن الكريم ومعطيات السنن الصحيحة، ورفض ما عدا ذلك أو- على الأقل- عدم التسليم المطلق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 إن اعتماد بعض المؤرخين المحدثين على عدد من مصادر المتأخرين (كالحلبي وأبي الفدا والمقريزي وابن الأثير.. إلخ) كمصادر محورية، وتغافلهم عن واحد أو أكثر من المصادر الأساسية الواردة، آنفا، جعلهم يتركون ثغرات عميقة في صلب أبحاثهم، كما دفعهم إلى سرد الكثير من الإضافات (المتأخرة) التي لا تعرفها المصادر الأولى، ومن ثم تضخيم وقائع السيرة إلى أضعاف حجمها الحقيقي على حساب الوقائع نفسها. لذا كان لا بد- مرة أخرى- من عرض كافة الروايات على معطيات القرآن والسنة والمصادر الأولى- على ما في الأخيرة من إضافات وثغرات- وعلى مقولات العقل الخالص، ثم على الأرضية التاريخية التي تحركت فوقها الأحداث، ونمت، واكتسبت ملامحها النهائية. وكل ما لا ينسجم مع هذا أو مع ذاك كان له أن يلغى من حساب المؤرخ الجاد، أو ينسحب- على الأقل- إلى الخط الثاني من روايات السيرة ووقائعها الغنية المتشابكة. إن النبي العربي- يقول الدكتور جواد علي «1» - هو «محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. وهو عبد الله ورسوله، ونبي وبشر مثل سائر البشر إلا في النبوة ونزول الوحي عليه. فقد ورد في القرآن الكريم: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «2» . وعلى هذه الآية وبوحيها يجب السير في تدوين السيرة النبوية وتاريخها، ولو سار المؤرخ بموجبها وبموجب وحي آيات القرآن الآخرى، لجنب نفسه الوقوع في المزالق والماخذ، وجعل السيرة النبوية، سيرة حية: سيرة نبي مرسل بالمعنى الإسلامي الصحيح الذي نجد روحه في الآية المذكورة. ولو جنب أصحاب السير المتأخرون سيرهم القصص الإسرائيلي الذي أدخل على السيرة وعلى الإسلام، والذي لا يتفق مع هذه الآية ومع أحكام القرآن، لأراحوا السيرة وجنّبوا الناس الأخذ بهذا القصص الذي بنى عليه بعض المستشرقين أحكاما وآراء أساءت كثيرا إلى الإسلام، وأرادوا بها التشكيك بصاحب الرسالة والمسلمين» «3» .   (1) تاريخ العرب في الإسلام، الجزء الأول، هو من أدق المراجع الحديثة في السيرة، ولا تقل عنه دقة وأهمية أبحاث كل من: صالح أحمد العلي ومحمد عزة دروزة وإبراهيم أحمد الشريف ومحمد الغزالي في الطبعات الأخيرة لكتابه (فقه السيرة) التي خرج الشيخ الألباني أحاديثها، ومحمد سعيد رمضان ومحمود شيت خطاب، (انظر قائمة المصادر والمراجع) . (2) سورة الكهف: الآية 110. (3) جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام 1/ 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ويؤكد المؤرخ المذكور أن «في أغلب الروايات التي يتصل سندها بكعب الأحبار أو محمد بن كعب القرظي أو النعمان السبائي، وهم من مسلمة يهود، أو غيرهم من مسلمة أهل الكتاب طابع القصص الإسرائيلي، وفي أغلبه دسّ على الرسول وعلى الإسلام، كما في قصة الغرانيق وفي أمور أخرى ... ويظهر من دراسة هذا النوع من القصص أن أصحابه كانوا يريدون من روايته ونشره وإدخاله بين المسلمين أمرا، وأن قلوبهم لم تكن مسلمة كألسنتهم، وأنهم كذبوا على التوراة والإنجيل أحيانا وذلك على سبيل التودد إلى المسلمين والتقرب إليهم على ما يبدو» .. ويمضي إلى القول بأن مما يلاحظ «أن معظم هذا القصص المتقدم هو ما يرد في الكتب المتأخرة، أما الكتب الواصلة إلينا من أول عهد المسلمين بالتدوين، فقد كانت تتحاشاه في الغالب، ولا تميل إليه ولا إلى الخوارق والمعاجز، وهو قصص مخالف لما جاء في القرآن الكريم عن الرسول ولحديث الرسول، ولروح الإسلام، ولهذا وجب أن يكون اعتماد المؤرخ على هذا الموارد المتقدمة المحترمة في نظر النقاد أمثال: كتب الصحاح في الحديث وسيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري. وسندنا الأول بالطبع ومرشدنا قبل كل هذه هو القرآن» «1» . وعلى المستوى الحربي يقول محمود شيت خطاب، بصدد المنهج الذي اعتمده في كتابه عن (الرسول القائد) : «وقد أغفلت ذكر الحوادث التي لا يمكن أن تحدث في الحرب فعلا، تلك الحوادث التي يرددها بعض المؤرخين ليثبتوا للناس أن انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم كان بالخوارق غير الاعتيادية بالدرجة الأولى، لا بتطبيق مبادىء الحرب. ومن الغريب أنهم يعتبرون ذلك من مظاهر الإيمان برسالة النبي.. لقد كان محمد واقعيا بعيدا عن الخيال، وكان إذا أراد شيئا هيّأ له أسبابه.. وقد عمل بكل مبادىء الحرب المعروفة، إضافة إلى مزاياه الشخصية الآخرى في القيادة، لهذا انتصر على أعدائه، ولو أغفل شيئا من الحذر والحيطة والاستعداد لتبدّل الحال غير الحال» «2» . ونحن نلتقي بهذا التحذير من تضخيم السيرة، وبخاصة فيما قبل البعثة، بحشد من القصص والإسرائيليات والخوارق، في كتاب محمد عزة دروزة القيّم   (1) جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام 1/ 33- 34. (2) الرسول القائد، المقدمة ص 6- 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 (عصر الرسول) فهو يقول: «من العجيب أن يكون في القرآن آيات كثيرة فيها الكفاية لرسم صورة صادقة لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها قرائن وإشارات ودلالات عديدة تساعد على التعرف على نشأته وسيرته قبل البعثة، ثم يعمد بعض المسلمين بل بعض علمائهم إلى تجاوز ذلك إلى ما لا تساعد عليه نصوص القرآن، بل ما تتناقض معه. فإذا كنت ممن تسنى لهم أن يستمعوا قصة من هذه القصص التي تتلى في حفلات المولد، فقد سمعت ولا ريب نماذج من الغلوّ الذي يكاد يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم شخصية لاهوتية أو في نطاق اللاهوتية. ولقد وقع غير واحد من كتاب السيرة والشمائل وشراحها في هذا الغلوّ (وبخاصة ما يتعلق بالميلاد) دون أن يكون لذلك أصل من قرآن أو سند من حديث صحيح أو دعامة من منطق معقول. ويبدو أن غلاة المسلمين لم يكتفوا بالوقوف عند الإنسان الكامل في النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتجلى بالتميز في عظم الخلق وصفاء النفس وكبر القلب وقوة الإيمان، والمهمة العظمى التي اضطلع بها، ورأوا أنه لا بد أن يكون من لوازم نبوته واصطفائه أن تكون ثمة مقدمات وبشائر» «1» . لكن أيا من المؤرخين السابقين، أو غيرهم من المؤرخين الجادّين، لم يقل إن الضرورة المنهجية الملحّة لرفض الإسرائيليات والقصص والخوارق تدعونا أن نقطع السيرة عن أية صلة لها بعالم الغيب (الميتافيزيقا) - كما يرغب دعاة التفسير المادي للتاريخ أن يكون- لأن معنى هذا بوضوح نكران لنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم واتصاله عن طريق الوحي غير المرئي- بعالم (الغيب) في السماء، كما أنهم لم يقولوا- ولا أي من المؤرخين الجادين- أن رفض القصص والخوارق يدعونا بالضرورة إلى رفض الاعتقاد بأن الله سبحانه طمس على أعين المشركين الذين حاصروا دار الرسول صلى الله عليه وسلم، قبل هجرته، سعيا وراء قتله، أو أنه صدّهم عن إلقاء القبض عليه وهو مختبىء وصاحبه في الغار، أو أنه أنزل ملائكته من السماء لتنصر القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة في معركة بدر، ومعارك أخرى تلتها.. إن كثيرا من وقائع السيرة، وأخبارها أوضح من أن تتكلف فيها الشروح والتفاسير والتعليقات، ومن ثم فهي لن تحتاج إلا إلى قدر معقول من تنسيق المادة الأولية وترتيبها، قائم على منهج علمي في الانتقاء والاستبعاد، ليس كذلك   (1) عصر الرسول 1/ 25- 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الذي اعتمده كثير من الباحثين المحدثين، وبخاصة طبقة المستشرقين الأولين التي حكّمت الظن وانساقت وراء الهوى، وهي تنتقي وتستبعد، أو تحلل وتستنتج وفق منهج بحث لا تقرّه بداهات العلم. وهنا أحب أن أقف بعض الوقت لأعرض بإيجاز لهذه المسألة المنهجية، التي سوف لن أعود إليها مرة أخرى إلا لماما، خوف أن تندّ بي عن المنهج الموضوعي في دراسة السيرة من مصادرها (الأساسية) وبيئتها (الواقعية) بعيدا عن الرؤى والإسقاطات المعاصرة، شخصية ومذهبية، مما يتطلب بحثا آخر يضم مطولات من الردود والإثباتات والتحليل والمناقشات أحسب أنها تتم فعلا وأنها في طريقها إلى الظهور «1» . يقول الدكتور جواد علي «.. أخذ على بعض المستشرقين تسرعهم في إصدار الأحكام في تاريخ الإسلام، وتأثرهم بعواطفهم لأخذهم بالخبر الضعيف في بعض الأحيان، وحكمهم بموجبه، ولإصدارهم أحكاما بنيت على الألفاظ المشتركة أو التشابه، مع قولهم بوجوب استعمال النقد، وباحتراسهم في الأمور ووجوب التأكد من معرفة الآخذ قبل الحكم عليه.. وآية ذلك أن معظم المستشرقين النصارى هم من طبقة رجال الدين أو من المتخرجين من كليات (اللاهوت) وأنهم إن تطرقوا إلى الموضوعات الحسّاسة من الإسلام حاولوا جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصراني. وطائفة المستشرقين من يهود وخاصة بعد تأسيس (إسرائيل) وتحكم الصهيونية في غالبيتهم، يجهدون أنفسهم لردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصل يهودي، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء» «2» . ويمضي الدكتور جواد علي إلى القول بأن كثيرا من المستشرقين «غالوا في كتاباتهم في السيرة النبوية، وأجهدوا أنفسهم في إثارة الشكوك في السيرة. وقد أثاروا الشك حتى في اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو تمكنوا لأثاروا الشك حتى في وجود النبي. وطريقة مثل هذه دفعتهم إلى الاستعانة بالشاذ والغريب فقدموه على المعروف المشهور. استعانوا بالشاذ ولو كان متأخرا، أو كان من النوع الذي   (1) يذكر أحد الأساتذة أن صديقه الدكتور حسين مؤنس أخبره أنه يعكف منذ مدة ليست بالقصيرة على دراسة كافة معطيات المستشرقين في حقل السيرة، ومناقشتها مناقشة شاملة في بحث مستقل. (2) تاريخ 1/ 8- 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 استغربه النقدة وأشاروا إلى نشوزه، تعمدوا ذلك لأن هذا الشاذ هو الأداة الوحيدة في إثارة الشك. ومهما قالوا في نسبة التاريخ الصحيح في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن سيرة الرسول هي أوضح وأطول سيرة نعرفها بين سير جميع الرسل والأنبياء.. والذين يؤاخذون المستشرقين على سلوكهم هذا المسلك من النقد يؤاخذون كذلك من يحاول من المسلمين كتابة التاريخ متأثرا بعاطفته وهواه. فهم لا يريدون توجيه اللوم إلى المستشرقين وحدهم لتأثرهم بعاطفتهم ثم يتركون من يركب هذا المركب من الشرقيين دون لوم ولا تعنيف» «1» . فالمنهج العلمي هو المنهج العلمي، والخروج عنه خروج عن العلم الصحيح سواء مارسه رجل في أقصى الغرب أم في أقصى الشرق، وسواء كان وراءه إنسان يتعبد في كنيسة أم يصلّي في مسجد.. والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يقول (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) .. ولم يحدد صلى الله عليه وسلم هوية الكاذبين وانتما آتهم الدينية والجغرافية. ويحدثنا الدكتور (صالح أحمد العلي) كيف أن بداية الحركة الاستشراقية في مواقفها الظنية والعاطفية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت قد جانفت العلم كثيرا، ثم بدأت تعتدل شيئا فشيئا، «لقد تناول المستشرقون الغربيون حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما تناولوا من الأبحاث عن التاريخ الإسلامي. ولا شك أن التعصب والتحامل كانا يطغيان على كتابات المستشرقين القدامى نظرا لتأثرهم بروح التعصب الديني الذي كان مسيطرا ومتبلورا بتأثير الحروب الصليبية، ونظرا لضعف معرفتهم باللغة العربية، وقلة المصادر المتوفرة لديهم. غير أنه لم يخل الغرب منذ أوائل العصور الحديثة من مفكرين معتدلين امتدحوا الإسلام «2» ولكن منذ القرن التاسع عشر بدأ الاهتمام بدراسة المخطوطات العربية وطبعها، وأخذ المستشرقون يدرسون تاريخ الشرق لذاته متّبعين الطريقة العلمية التي كانت قد قطعت شوطا كبيرا من التقدم في الغرب. ومع أن فريقا منهم لم يتقن كل ذلك، إلا أن عددا غير قليل كان يتميّز بسعة الاطلاع، وبعد النظر، وعمق التفكير، مما ساعدهم على إنتاج مباحث تستثير التفكير والتقدير، رغم أنه لا يمكن القول بأن أحكامهم نهائية» «3» .   (1) تاريخ 1/ 9- 11. (2) انظر عنهم نور اندريه: محمد ص 243- 247. (3) محاضرات في تاريخ العرب 1/ 255- 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ويعود جواد علي ليبين لنا كيف أن (كايتاني) وهو من كبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعتمد منهجا (معكوسا) في البحث يذكرنا بكثير من المختصين الجدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفق منهج خاطىء من أساسه إذ أنهم يبيّتون فكرة مسبقة ثم يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك. فلقد كان كايتاني «ذا رأي وفكرة، وضع رأيه وكوّنه في السيرة قبل الشروع في تدوينها، فلما شرع بها استعان بكل خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويها، وتمسّك بها كلها، ولا سيما ما يلائم رأيه، لم يبال بالخبر الضعيف، بل قواه وسنده وعدّه حجة، وبنى حكمه عليه. ومن يدري؟ فلعله كان يعلم بسلاسل الكذب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنه عفا عنها وغضّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها، لأنه صاحب فكرة يريد إثباتها بأية طريقة كانت، وكيف يتمكن من إثباتها وإظهارها وتدوينها إن ترك تلك الروايات وعالجها معالجة نقد وجرح وتعديل على أساليب البحث الحديث؟» «1» . ومن المستشرقين أنفسهم من دفعهم جدّهم وموضوعيتهم- وهم ليسوا بالقليل- إلى نقد وتفنيد الأخطاء المنهجية التي مارسها رفاقهم في دراسة التاريخ عامة وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، وإلى تعرية الدوافع التي تكمن وراء موقفهم هذا، سواء كانت محتشدة في الوعي أو منسربة في اللاشعور.. «لقد رأى (دينيه) أنه من المتعذر، إن لم يكن من المستحيل، أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة، وأنهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغا يغشي على صورتها الحقيقية من شدة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من اتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد فإنا نلمس من خلال كتاباتهم محمدا يتحدث بلهجة ألمانية، إذا كان المؤلف ألمانيا، وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطاليا، وهكذا تتغير صورة محمد بتغير جنسية الكاتب. وإذا بحثنا في هذه السير عن الصورة الصحيحة فإنا لا نكاد نجد لها من أثر. إن المستشرقين يقدمون لنا صورا خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة! إنها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التي يؤلفها أمثال (وولتر سكوت) و (إسكندر ديماس)   (1) تاريخ 1/ 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وذلك أن هؤلاء يصورون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس عليهم إلا أن يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أما المستشرقون فلم يمكنهم أن يلبسوا الصورة الحقيقية لأشخاص السيرة، فصوروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري. وأن الدكتور (سنوك هيرغرنجة) ليقول بحق في نهاية نقده لكتاب المستشرق غريم (إننا نرى أن الأستاذ غريم لو اقتصر على درس السيرة النبوية القديمة وبحثها بعمق لكان أفضل، وأن الثمار التي كان يمكن أن يجنيها من مثل هذا الدرس لهي أجدر ببلوغ الغاية التي توخّاها، ولكنه ظن أن هذا عمل ليست له أهمية كبيرة، وأراد أن يطرف الناس بنبأ جديد ففشل في وضع السير النبوية) ..» «1» . وفي ختام كتاب (آتيين دينيه) القيم (الشرق كما يراه الغرب) ترد بعض الآراء حول (المنهج) حيث يقول «لقد أصاب الدكتور سنوك هيرغرنجة بقوله «إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقضي عليها بالعقم إذا سخرت لآية نظرية أو رأي سابق» . هذه حقيقة يجمل بمستشرقي العصر جميعا أن يضعوها نصب أعينهم، فإنها تشفيهم من داء الأحكام السابقة التي تكلفهم من الجهود ما يجاوز حدّ الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شك خاطئة «2» . فقد يحتاجون في تأييد رأي من الآراء إلى هدم بعض الأخبار، وليس هذا بالأمر الهين، ثم إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا، وهذا أمر لا ريب مستحيل. إن العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل الجوهرية كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامح والميول.. إلخ لا سيما إدراك تلك القوى الباطنة التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات» . ثم ما يلبث دينيه أن يضرب (مثلا عكسيا) فيقول: «ما رأي الأوروبيين في عالم من أقصى الصين يتناول المتناقضات التي تكثر عن مؤرخي الفرنسيين ويمحصها بمنطقها الشرقي البعيد، ثم يهدم قصة (الكاردينال ريشيليو) كما نعرفها، ليعيد لنا ريشيليو آخر له عقلية كاهن من كهنة بكين وسماته وطباعه!؟ إن مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة فيما يتعلق برسمهم الحديث في سيرة   (1) آتيين دينيه: محمد رسول الله، مقدمة عبد الحليم محمود ص 27- 28 وانظر عن بعض نماذج تخبط المستشرقين في دراسة السيرة: المقدمة نفسها ص 28- 33 وهوامشها. وعن موقف القسيس لامانس (النموذجي) من السيرة انظر: المقدمة ص 35- 41. (2) انظر رأي جواد علي في كايتاني قبل قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الرسول صلى الله عليه وسلم ويخيل إلينا أننا نسمع محمدا يتحدث في مؤلفاتهم إما باللهجة الألمانية أو البريطانية أو الفرنسية ولا نتمثله قط- بهذه العقلية والطباع التي ألصقت به- يحدّث عربا باللغة العربية» ، وينتهي المستشرق الفرنسي- الذي أعلن إسلامه- إلى القول «إن صورة نبيّنا الجليلة التي خلفها المنقول الإسلامي تبدو أجلّ وأسمى إذا قيست بهذه الصور المصطنعة الضئيلة التي صيغت في ظلال المكاتب بجهد جهيد» «1» . ويحدثنا المستشرق البريطاني المعاصر (مونتكمري وات) في كتابه (محمد في مكة) كيف «إن عزيمة محمد في تحمّل الاضطهاد من أجل عقيدته، والخلق السامي للرجال الذين آمنوا به، وكان لهم بمثابة القائد، وأخيرا عظمة عمله في منجزاته الأخيرة، كل ذلك يشهد باستقامته التي لا تتزعزع؛ فاتهام محمد بأنه دجّال Imposteur يثير من المشاكل أكثر مما يحلّ، ومع ذلك فليس هناك شخصية كبيرة في التاريخ حطّ من قدرها في الغرب كمحمد. فقد أظهر الكتاب الغربيون ميلهم لتصديق أسوأ الأمور عن محمد. وكلما ظهر أي تفسر نقدي لواقعة من الوقائع ممكنا قبلوه» . ثم يقدم (وات) قاعدة منهجية تكاد تكون بديهة من بداهات المنهج الأساسية، إلا أنها في موقف الغربيين إزاء شخصية محمد تضيع ويوقف العمل بها.. «فإذا أردنا أن نصحح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدده، فيجب علينا في كل حالة من الحالات، لا يقوم الدليل القاطع على ضدّها، أن نتمسك بصلابة بصدقه، ويجب علينا ألا ننسى أيضا أن الدليل القاطع يتطلب لقبوله أكثر من كونه ممكنا، وأنه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه» «2» . وفي مكان آخر يضرب (وات) بالمستشرق الفرنسي (لامانس) مثلا على الانحرافات المنهجية التي يمارسها كثير من المستشرقين، وبخاصة ذلك (الخطأ) الذي سبق أن ذكرناه والذي يقوم على جعل الوقائع التاريخية مجالا انتقائيا للتدليل على فكرة مسبقة أو اتجاه محدّد سلفا. إن لامانس «للأسف!! يتجاوز الأدلة كثيرا في ناحية أخرى، إذ أن طريقته العابثة (!!) في المعالجة ليست طريقة علمية (!!) ، فهو يرفض هذا الرأي ويقبل الآخر حسب أفكاره الخاصة ومعتقداته، دون أن يعبأ بالموضوعية. ففي عبارة (الأحابيش وعبيد أهل مكة) نجد أن (الواو)   (1) دينيه: محمد، المقدمة ص 43- 44. (2) محمد في مكة ص 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 تفسيرية تشير إلى أن الأحابيش من ضمن العبيد، بينما نجد في عبارة (الأحابيش ومن أطاعهم- أي القرشيين- من قبائل كنانة وأهل تهامة) أن (الواو) تدل على تمييز تام. ولكن لماذا يفعل لامانس ذلك؟ يبدو أنه يؤكد تحقيق النظرية التي يحاول التدليل عليها» «1» . ونحن نستطيع أن نحصل على عشرات، بل مئات، من هذا (الانتقاء الكيفي) أو التفسير (الاختياري) للنصوص التاريخية في كثير من كتب المستشرقين وبخاصة أجيالهم الأولى. فبروكلمان- على سبيل المثال- لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة، ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أشد ساعات محنته، ولكنه يقول «ثم هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضا على كل حال» «2» . ويتغاضى (إسرائيل ولفنسون) عن حادثة نعيم ابن مسعود في معركة الخندق كسبب في انعدام الثقة بين المشركين واليهود «3» ، ولعله يريد أن يوحي بذلك أن اليهود لا يمكن أن يخدعوا!! ودرمنغم يشير هو الآخر، وبوضوح أشد، إلى الأزمة المنهجية التي تعرّض معظم البحاث الغربيين عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لأخطاء لن يغفرها العلم، وكيف أنها في العقود الأخيرة- بدأت تخف تدريجيا. إن سيرته- يقول درمنغم- «تحاط في زماننا بكثير من التحفظات، ولا ريب في مجاوزة النقد للحد أحيانا على وجوه مختلفة مع الأسف، ولكن من المؤكد أنه لا يحدث اليوم عن حياة محمد بتعابير ووجهات نظر كالتي جاءت في كتب التراجم الأخيرة التي ظهرت في المكتبة الفرنسية منذ خمسين سنة ككتاب واشنطن أرفنج» ، ويمضي درمنغم إلى القول بأنه «جد في البحث العلمي بعض العلماء في القرن التاسع عشر ومنهم كوسان دوبرسفال وموير وفيسل ومرغليوث ونولدكه وشپرنجر وهورغرنجه ودوزي، ثم تناوله- أي النبي صلى الله عليه وسلم- مؤخرا كايتاني ولا مانس وماسنيون ومونته وكازانوفا وبيل وهوار وهوداس وأرنولد ومارسيه وغريم وغولدسيهر وغودفروا ومونبيه وغيرهم. ومن المؤسف حقا أن غالى بعض هؤلاء المتخصصين في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عامل هدم على الخصوص.. ومن المحزن ألا تزال النتائج التي انتهى إليها   (1) محمد في مكة ص 242- 243. (2) تاريخ الشعوب الإسلامية ص 53- 54. (3) تاريخ اليهود في بلاد العرب ص 145- 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المستشرقون سلبية ناقصة، ولن تقوم سيرة على النفي، وليس من مقاصد كتابي أن يقوم على سلسلة من المجادلات المتناقضة ... ومن دواعي الأسف أن كان الأب لامانس، الذي هو من أفضل المستشرقين المعاصرين، ومن أشدهم تعصبا، وأنه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبي الإسلام فعند هذا العالم اليسوعي أن الحديث إذا وافق القرآن كان منقولا عن القرآن، فلا أدري كيف يمكن تأليف التاريخ إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلا أن يؤيد أحدهما الآخر؟» «1» . وهذا يقودنا إلى موقف بعض المستشرقين من القرآن، كمصدر أساسي من مصادر السيرة، ذلك أن اعتماد القرآن في هذا المجال يمكن أن يعتبر سلاحا ذا حدين، اعتمد جانبه الإيجابي مؤرخون كجواد علي وصالح أحمد العلي ومحمد عزة دروزة، واعتمد الجانب السلبي مستشرقون كوات وشپرنجر، وولفنسون، وغيرهم، وذلك بنفي الكثير من أحداث السيرة، ما دامت لم ترد في القرآن الكريم؛ وكأن القرآن كتاب تاريخي خاص بتفاصيل حياة محمد صلى الله عليه وسلم!! وهذا مكنهم من عملية انتقاء مغرضة ذات طابع سلبي معاكس، وهي التشكيك ورفض كل رواية لا ترد مؤيداتها في القرآن، إذا كان في هذه الرواية تمجيد للنبي صلى الله عليه وسلم، أو إذا كان في نفيها تأكيد لأحدى وجهات النظر الاستشراقية. فمثلا نجد Sprenger يرى أن اسم النبي ورد في أربع سور من القرآن هي آل عمران والأحزاب ومحمد والفتح، وكلها سور مدنية، ومن ثم فإن لفظة (محمد) لم تكن اسم علم للرسول قبل الهجرة، وإنما اتخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتصاله بالنصارى «2» !! وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد التقط اسم (محمد) من خلال قراآته لنبوآت الإنجيل فأين ذهب إذن (محمد) الحقيقي الذي بشر به العهدان القديم والجديد؟ وهنالك مثل آخر، إن إسرائيل ولفنسون يشير، بصدد مهاجمة يهود بني النضير، إلى أن مؤرخي العرب يذكرون سببا آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهودية ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم «لكن المستشرقين- يقول ولفنسون ينكرون صحة هذه الرواية ويستدلون على كذبها بعدم وجود ذكر لها في سورة   (1) حياة محمد: المقدمة ص 8، 10- 11. (2) انظر جواد علي: تاريخ 1/ 78 وهوامشها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير.. والذي يظهر لكل ذي عينين (!!) أن بني النضير لم يكونوا ينوون الغدر بالنبي واغتياله على مثل هذه الصورة لأنهم كانوا يخشون عاقبة فعلتهم هذه من أنصاره «1» ولو أنهم كانوا ينوون اغتياله غدرا لما كانت هناك ضرورة لإلقاء الصخرة عليه من فوق الحائط، كان في استطاعتهم أن يفاجئوه وهو يحادثهم إذ لم يكن معه غير قليل من أصحابه «2» » ، ويبدو أن ولفنسون يغافل هنا مسألة التركيب النفسي (لليهودي) وتجنّبه المعروف لأيّة مجابهة حقيقية!! إننا في مجال الانتقاء والتفسير والنفي الاعتباطي هذا، نرجع- مرة أخرى- إلى عبارة (وات) الذكية والتي قالها في هذا الصدد، لكنه لم يلتزم العمل بها دائما!! .. «.. إذا أردنا أن نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد محمد، فيجب علينا في كل حالة من الحالات لا يقوم الدليل القاطع على ضدها أن نتمسك بصلابة بصدقه، ويجب ألا ننسى أيضا أن الدليل القاطع يتطلب لقبوله أكثر من كونه ممكنا، وإنه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه» «3» . وفضلا عن هذا، نجد أن الطابع العلماني، الوضعي، للمناهج الغربية في تعاملها مع تاريخنا، أوقع عددا من المستشرقين في خطأ آخر مفاده أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يخطو خطوة واحدة وهو يعلم مسبقا ما الذي يليها!! أي إن نشاطه كانت توحي به الظروف (الراهنة) ومتطلباتها ولوازمها. وأبرز مثل في هذا المجال ما ذكره (فلهاوزن) وعدد من رفاقه حول قومية الحركة الإسلامية في عصرها المكي، وأنها لم تنتقل إلى المرحلة العالمية- في العصر المدني- إلا بعد أن أتاحت لها (الظروف) ذلك، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليفكر بذلك من قبل، وما قالوه حول اعتماد الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب (اللاعنف) في العصر المكي وتحوله إلى القوة بعد أن شكل دولة في المدينة وتجمع حوله المقاتلون «لقد كان في وسع محمد- يقول فلها وزن- من طريق عقيدة تتجاوز دائرة معتنقيها الدائرة التي ترسمها رابطة الدم، أن يحطم رابطة الدم هذه لأنها لم تكن بريئة من العصبية وضيقها، ولا كانت ذات صبغة خارجية عارضة، هذا هو الذي جعلها لا تتسع لقبول عنصر غريب عنها، ولكن محمدا لم يرد ذلك. ومن الجائز أيضا أنه لم يكن يستطيع أن   (1) وهل كانت سايكولوجية الاغتيال ترتكز دائما على حسابات عقلية؟ (2) تاريخ اليهود ص 135- 137. (3) محمد في مكة ص 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 يتصور إمكان رابطة دينية في حدود غير حدود رابطة الدم» «1» . وفي مكان آخر يقول «وليس ثمّ ما يدعو الإنسان لأن يعيب عليه- أي محمد- أنه حقق إنشاء مملكة الله في الأرض على الأساس الطبيعي الذي وجده أمامه، فهو وإن كانت الضرورات العملية، في كثير من الأحيان، قد اضطرته أو هي انحرفت به إلى استعمال وسائل غير مقدّسة، من غير أن يسند ذلك إلا إلى الله، فلا يسوغ للمؤرخ من أجل ذلك أن يعتبره منافقا» «2» . ويرفض (سير توماس أرنولد) في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) هذه الرؤية الخاطئة فيقول «من الغريب أن ينكر بعض المؤرخين أن الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادىء الأمر أن يكون دينا عالميا برغم هذه الآيات البيّنات «3» .. ومن بينهم السير وليم موير إذ يقول (إن فكرة عالمية الرسالة قد جاءت فيما بعد، وأن هذه الفكرة، على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنه فكر فيها، فقد كانت الفكرة غامضة، فإن عالمه الذي كان يفكر فيه إنما كان بلاد العرب، كما أن هذا الدين الجديد لم يهيّأ إلا لها. وأن محمدا لم يوجه دعوته، منذ بعث إلى أن مات، إلا للعرب دون غيرهم) . وهكذا نرى أن نواة عالمية الإسلام قد غرست، ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فإنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج» «4» . وفي مكان آخر يقول أرنولد «لم تكن رسالة الإسلام مقصورة على بلاد العرب بل إن للعالم أجمع نصيبا فيها، ولم يكن هناك غير إله واحد، كذلك لا يكون هناك غير دين واحد يدعى إليه الناس كافة» «5» . ولم يقف أرنولد وحده؛ بمواجهة هذا الخطأ الواضح إنما هناك كولدزيهر «6»   (1) الدولة العربية وسقوطها ص 4. (2) المصدر السابق ص 22. (3) يستشهد أرنولد بالآيات التالية: سورة 36 آية 69- 70، سورة 21 آية 107، سورة 25 آية 1، سورة 24 آية 7، سورة 61 آية 9 ... الخ. .44 -34 The Caliphate:pp. (4) وكايتاني آخر من يؤكد هذا الرأي 324 -323 Annali dell Islam:vol ,V.pp.: عن أرنولد: الدعوة إلى الإسلام هامش 2 ص 49- 50. (5) المصدر السابق ص 48. (6) عن أرنولد: الدعوة، هامش 1 ص 8452.vorles ungen uber den Islam ,P , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ونولدكه «1» وسخاو «2» الذي يؤكد «أن الرسالة الإلهية ليست مقصورة على العرب، بل إن إرادة الله تشمل جميع المخلوقات، ومعنى ذلك خضوع الإنسانية كلها خضوعا مطلقا. وقد كان لمحمد بوصفه رسولا من الله، حق المطالبة بهذه الطاعة، وقد كان عليه أن يطالب بها، وهذا ما ظهر من أول الأمر جزء لا ينفصل من جملة ما أراد تحقيقه من مبادىء ... » «3» . ويرفض أرنولد الخطأ الآخر الذي يرى أن محمدا قد تحوّل إلى القوة بمجرد أن واتته الظروف، وهو رأي قد صرّح به- نقلا عن فلهاوزن- بعض الباحثين ولاسيما ميور عندما تحدث عن مذبحة بني قريظة فقال «إن الدعائم التي سار عليها محمد قدما كانت سياسية محضة، إذ أنه لم يكن قد أقر حتى ذلك الحين طريقة إكراه الناس على اعتناق الإسلام أو معاقبتهم على رفضه..» «4» .. إذ يقول أرنولد «إنما المهم أن نتبين كيف أن محمدا، عندما رأى أنه على رأس جماعة مسلّحة من أتباعه لم يتحوّل دفعه واحدة، كما قد يريدنا البعض على الاعتقاد، من داعية مسالم إلى متعصّب يحمل سيفه بيده ويفرض دينه على كل من استطاع، وقد أكّد الكتّاب الأوروبيون على ذلك مرارا» «5» . إلا أن أرنولد لم ينج من الوقوع في الخطأ نفسه عند ما يقول «كانت رغبة محمد ترمي إلى تأسيس دين جديد، وقد نجح في هذا السبيل، ولكنه في الوقت نفسه أقام نظاما سياسيا له صفة جديدة متميزة تميزا تاما. وكانت رغبته بادىء الأمر مقصورة على توجيه بني وطنه إلى الاعتقاد بوحدانية الله» «6» . غير أن أسوأ نموذج يمكن أن نجده لهذه الانحراف المنهجي، حول مسألة تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم بالظروف الراهنة، وتحركه وفق مستلزماتها، ما ذكره بندلي جوزي، أحد رواد التفسير المادّي للتاريخ الإسلامي، في كتابه (من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام) حيث يقول «إن سياسة النبي مع المكيين قد تغيّرت كثيرا في المدينة تحت تأثير عوامل جديدة ولأسباب عديدة أوجدتها الظروف وأدى إليها الاختيار وحب النبي لوطنه الأصلي وأهله وذويه إلى غير ذلك من   (1) عن المصدر السابق، نفس الصفحة والهامش308 -307.WZKM ,vol.XXi ,pp.. (2) عن المصدر السابق، نفس الصفحة والهامش. (3) أرنولد: الدعوة، هامش 1 ص 48. (4) المصدر السابق، هامش 1 ص 54. (5) المصدر السابق، ص 53- 54. (6) المصدر السابق، ص 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الانفعالات النفسية والعوامل السياسية التي ظهرت بعد موقعتي بدر وأحد وحصار المدينة، وكان من نتائجها أن النبي أخذ يلطّف من سياسته نحو إخوانه المكيين، كما أن أصحاب السلطة في مكة رأوا- بعد ما أصابهم في موقعة بدر، وبعد ما لحق بتجارهم من الخسائر- أن يتساهلوا في أمور كثيرة مع النبي على شروط تضمن لهم بقاء الكعبة والحج وعكاظ على ما كانت عليه قبل الإسلام، وأن يشملهم بالعفو- إلا بعض أشخاص- ويشركهم في عمله الجديد الذي أخذوا يتوقعون منه خيرا لأنفسهم. وربما كان من شروط التفاهم «1» أن يبقى النبي في المدينة وألايتعرض في كلامه لأمورهم المالية، فكانت الحديبية، وسياسة (تأليف القلوب) أو بعبارة أخرى سياسة التسامح والتساهل المتبادل) Compromis (فصار الناس (يدخلون في دين الله أفواجا) لا عن اعتقاد بصحة الدين الجديد الذي لم يكونوا يعرفون عنه إلا الشيء القليل، بل عن رغبة في التقرب من أصحاب السلطة الجدد، وحفظا لمراكزهم القديمة وثروتهم المجموعة في أجيال. يخيل لي- يقول جوزي- إن من جملة الشروط التي اتفق عليها الطرفان في الحديبية أو في زمان ومكان آخرين، أن يكفّ النبي عن الطعن في الملأ المكي، وأن لا يحرّض صعاليك العاصمة الحجازية وأرقاءها عليه، وهذا- على ما يظهر لي- أحد أهم أسباب خلو السور المدنية، ولاسيما تلك التي نزلت في الدور الأخير، من العبارات القارصة والطعن في سكان مكة «2» . وهناك سبب آخر لا يقل خطورة عن الذي ذكرناه الآن، وهو أن حالة النبي الاجتماعية في المدينة تغيرت- كما هو معلوم- تغيرا ظاهرا أدى إلى تغيير نفسيته. فكان من نتائج هذا التغيير ومن الأسباب التي ذكرنا بعضها وغيرها مما لم نذكر (؟) أن بعض إصلاحات النبي الاجتماعية والدينية جاءت مبتورة، وفيها شيء مما يدعوه الأوروبيون: التساهل» «3» . ويمضي بندلي جوزي إلى القول بأن «الدور المكي كان دور تمهيد   (1) أي تفاهم هذا؟ وفي أي مكان وزمان تم؟ وأية رواية أوردته؟ وفي أي مصدر على الإطلاق؟ (2) هذه غاية ما يمكن أن يصل إليه مؤرخ من خروج على مستلزمات البحث العلمي، وعبث صريح بالوقائع التاريخية، وإلا ففي أي زمان ومكان وضعت هذه الشروط؟ وأين هي من شروط صلح الحديبية التي تواترت بنصوصها الحرفية في كافة المصادر والمراجع؟ (3) من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام ص 49- 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 واستعداد، دور بثّ دعوة جديدة بين طبقات الأمة، دور حرب ونزاع كلامي بين رجل ثابت في مبادئه، مخلص في عمله، وبين طبقة من الناس شعرت بالخطر على ثروتها وزعامتها في البلاد، فهبّت تقاوم ذلك الرجل وتناوئه، دور جهود وأحلام لو تحققت كلها لقلبت البلاد رأسا على عقب. ما أجمل هذا الدور وما أعظمه وما أحلى تلك الأحلام والمساعي التي بذلت في تحقيقها!! وأما الدور الثاني فكان دور عمل وتنظيم، ودور حروب وافتتاحات، ودور سياسة ومكاشفات أدّت إلى تساهل من الطرفين. ومعنى التساهل في مثل هذه الثورات الاجتماعية هو التنازل عن بعض مطالب أو مبادىء، أو التلطّف في الطلب، والرجوع عن بعض الأفكار، أو وضعها في قالب يرضاه الفريقان. وهذا ما كان من أمر النبي العربي، ورئيس جمهورية مكة (أبو سفيان) الخبير المحنك الذي كان يتكلم بلسان الملأ المكي، هذا يعترف بسيادة النبي الروحية والعالمية، ويهجر الأوثان، ويؤدي الزكاة ويقيم الصلاة، وذاك يتعهد أن تبقى مكة مركز البلاد العربية الديني وأن يجعل لأعيان مكة وقادة أفكارها حظا في إدارة المملكة أو الجمهورية الروحية الجديدة، وأن يتركهم وشأنهم يتاجرون ويعيشون كما يشاؤون. أما الفريق الثالث (أي الفقراء) ، وهو الطرف الذي استعرّت الحرب لأجله، وظهرت الدعوة لتحسين أحواله، فقد أرضوه في بادىء الأمر بشيء من الصدقات والزكاة ثم نسوه أو تناسوه بعد وفاة النبي وخلفائه الأولين، فرجع إلى حالته الأولى بل إلى ما هو أسوأ منها» «1» . إن فهم السيرة لا يمكن أن يتم إلا وفق نظرة شمولية تدرس حركة الإسلام كخطوات في برنامج شامل مرسوم في علم الله، ومحدّد في قرآنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن سوى منفّذ لهذا البرنامج بأسلوب يعتمد على قدراته وأخلاقيته وذكائه وإمكاناته الفذة في التخطيط والتنفيذ.. ورغم أن القرآن الكريم نزل منجّما، وراحت آياته تنزل على مكث لكي تلامس الأحداث وتعلق عليها (بعد وقوعها) إلا أنه بمجموعه كمبدأ (أيديولوجية) لا يخرج عن نطاق كونه برنامجا إلهيا شاملا ترتبط ممارساته الجزئية بكليّات شاملة محددة سلفا في علم الله. ومن ثم فإن (الظروف الراهنة) ليست هي الحتمية المؤقتة التي تحدد مسار الإسلام وخطى   (1) من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام ص 51- 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 رسوله إنما هناك (الهدف) الذي يفرض أحيانا (وقفة) ضد الأعراف والظروف و (تمردا) عليها و (انقلابا) شاملا على مواضعاتها، وهذا ما يبدو واضحا منذ أول لحظة، في الشعار الحاسم الذي طرحه الرسول صلى الله عليه وسلم بوجه الجاهلية (لا إله إلا الله!!) ، فأي ظرف راهن، موقوت، أوحى بهذا الشعار الانقلابي الشامل الذي جاء يدمر على الوجود الجاهلي جلّ قيمه وأهدافه ومعالمه ومفاهيمه وعاداته وتقاليده؟! إن توماس أرنولد يشير إلى ذلك بوضوح عندما يقول «لا يعزب عن البال كيف ظهر جليا أن الإسلام حركة حديثة العهد في بلاد العرب الوثنية، وكيف كانت تتعارض والمثل العليا في هذين المجتمعين تعارضا تاما. ذلك أن دخول الإسلام في المجتمع العربي لم يدل على مجرد القضاء على قليل من عادات بربرية وحشية فحسب وإنما كان انقلابا كاملا لمثل الحياة التي كانت من قبل ... والواقع أن المبادىء الأساسية في دعوة محمد كانت تعارض كثيرا ما كان ينظر إليه العرب نظرة ملؤها التقدير والإجلال حتى ذلك الحين، كما أنها كانت تعلّم حديثي العهد بالإسلام أن يعدوا من الفضائل صفات كانوا قبل إسلامهم ينظرون إليها نظرة الاحتقار» «1» . إن القرآن الكريم كان قضية فوقية جاءت آياته لتقود الإنسان في كل زمان ومكان إلى عصر جديد، ولم يكن (ينفعل) انفعالا مؤقتا بالوضع السائد، سلبا وإيجابا، كما يتصور معظم المستشرقين مسيحيين وماركسيين، وإنما كان ينظر نظرة شمولية بعيدة كل البعد عن ردّ الفعل المباشر، وهذا هو الذي يفسر لنا الكثير من الأخطاء التي مارستها مناهج البحث الغربية. ونحن لا نطلب من الغربيين هنا أن يؤمنوا أن القرآن منزل من السماء وأن محمدا رسول.. وإنما نطلب أن يكونوا أكثر تجرّدا وموضوعية فينظروا إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كوحدة عضوية متكاملة، وإلى القرآن الكريم كبرنامج Ideology مترابط، تعلو معطياته على الظروف الموقوتة زمانا ومكانا، رغم ملامساتها اليومية المباشرة للوقائع الزمانية والمكانية، ولكنها الملامسة التي تنبثق عنها قيم ودلالات   (1) الدعوة إلى الإسلام ص 61- 62، وانظر بالتفصيل غولدتسيهر في مؤلفه Muhammedanis che Studien ,Vol.i.: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ذات طابع شمولي ما كان للمستشرقين أن يغافلوا عن أبعادها!! وكما كشف المستشرقون، بتعمقهم ونفاذهم وإحاطتهم، النقاب عن الكثير من الجوانب المضطربة الغامضة في تاريخنا الإسلامي عامة، بما فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم- بأخطائهم المنهجية آنفة الذكر- طرحوا الكثير من النتائج والمعطيات الموضوعية الخاطئة، وهذا أمر طبيعي، فالخطأ لا ينتج إلّا الخطأ، والبعد عن الموضوعية، لا يقود إلا إلى نتائج لا تحمل من روح العلم والجدية إلا قليلا. وليس هنا مجال عرض هذه المعطيات والنتائج، ومناقشتها، فلهذا مجال آخر كما سبق وأن ذكرنا ... إلّا أننا نطرح فيما يلي نماذج محدودة فحسب من حصاد ضخم يمكن أن يجنيه كل دارس بتأن ورويّة، لما كتبوه عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حصاد يحمل في ثناياه عناصر تناقضه واضطرابه وخروجه عن البحث المنهجي الدقيق. يقول بروكلمان: «في هذه الأثناء كان مسلمو مكة، على ما تقول الروايات، يعانون أزمة جديدة. ذلك أن حديث محمد عن إسرائه العجيب، برفقة جبريل إلى بيت المقدس، ومن ثم إلى السماء، كان قد أوقع موجة من الشك في نفوس بعض المؤمنين، ولكن أبا بكر ضرب بإيمانه الراسخ مثلا طيبا لهؤلاء المتشككين فزايلتهم الريب والظنون. ومن الجائز أن تكون هذه الرحلة السماوية التي كثيرا ما أشير إليها بعد في الأساطير الغريبة التي خلفتها لنا الكتب الإسلامية جميعها، أقدم من ذلك عهدا، ولعلها ترجع إلى الأيام الأولى للبعثة النبوية. وأمثال هذه الرؤى في أثناء تهجّد العرّاف معروفة ثابتة لدى بعض الشعوب البدائية» «1» . «وقد حالت الظروف بين الرسول وبين الشروع في شن حملة نظامية مباشرة على المشركين. فقد كانت فكرة الشرف العربية القديمة تمسك المهاجرين عن محاربة إخوانهم من قريش في حين كان المدنيون غير شديدي الميل إلى تعكير صفو السلم مع جيرانهم الأقوياء.. حتى إذا كان شهر رجب الحرام وجه جماعة من الغزاة بأوامر سرّية، فوفقت إلى مباغتة قافلة بالعروض، كانت حاميتها   (1) تاريخ الشعوب الإسلامية ص 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 العسكرية تتقدمها مطمئنة إلى حرمة الشهر، فأصابت غنائم عظيمة عادت بها إلى المدينة. ولكن هذا النقض للقانون الخلقي القبلي لم يلبث أن أثار عاصفة من الاستنكار في المدينة نفسها، فما كان من محمد إلا أن أنكر صنيع أتباعه، الذي تم وفقا لرغباته بلا خلاف، وعزاه إلى سوء فهم لأوامره. ولم يجرؤ على إعلان شرعية الحرب ضد المشركين، وتوزيع الغنائم حتى في الشهر الحرام، إلا في آيات متأخرة، بعد أن كانت الغنائم العظيمة قد أثارت مطامعه إثارة كافية» «1» . «وتأثرت اتجاهات النبي الدينية، في الأيام الأولى من إقامته في المدينة، بالصلة التي كانت بينه وبين اليهود، وأغلب الظن أنه كان يرجو، عقب وصوله إلى المدينة، أن يدخل اليهود في دينه، وهكذا حاول أن يكسبهم عن طريق تكييف شعائر الإسلام بحيث تتفق وشعائرهم في بعض المناحي.. ولم يطل العهد بمحمد حتى شجر النزاع بينه وبين أحبار اليهود، فالواقع أنهم على الرغم مما تم لهم من علم هزيل في تلك البقعة النائية، كانوا يفوقون النبي الأمي في المعلومات الوضعية وفي حدة الإدراك. فالفجوات المختلفة التي تكشف عنها علمه بالعهد القديم والتي كان قد تركها عارية في السور المكية، لم يعد من الممكن أن تظل خافية عليهم. ولكن إشارتهم الساخرة إلى هذه الفجوات كانت أعجز من أن تزعزع إيمانه بصحّة ما يوحى إليه» «2» . «وكان على محمد أن يعوّض خسارة (أحد) التي أصابت مجده العسكري، من طريق آخر، ففكر في القضاء على اليهود، فهاجم بني النضير لسبب واه» «3» . «وفي سنة 628 (7 هـ) حاول النبي أن يعوض فشله الظاهري في الحديبية فقاد المسلمين في حملة على المستعمرة اليهودية الغنية في خيبر» «4» .   (1) تاريخ الشعوب الإسلامية ص 48- 49. (2) المصدر السابق ص 47، ولا بد من الإشارة هنا إلى تعليق لمترجمي الكتاب: البعلبكي وفارس، ورد بصدد هذه العبارة، ومفاده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم أن التوراة مبدلة لأن فرق اليهود كانت مختلفة، وإن السامريين (اليهود الذين يسكنون اليوم في نابلس- قبل قيام إسرائيل-) يقولون إن لديهم توراة هي الصحيحة، بينما التوراة التي يملكها سائر اليهود غير صحيحة. ثم أن في العهد القديم أساطير كثيرة، فإذا كان محمد قد رفضها فإنه قد فعل ذلك على أساس علمي و (رفض الخطأ ليس جهلا) : المترجمان، حاشية 1 ص 47. (3) المصدر السابق ص 52. (4) المصدر السابق ص 56، وما لبث بروكلمان أن ذكر في نفس الصفحة أن المستقبل ما عتم أن برر موقف النبي في الحديبية؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 دوزي: «كان محمد يشاطر بني جلدته نظرتهم (القائمة على الاحتقار) إلى اليمنيين والزراع حتى ليؤثر عنه أنه سمع رجلا ينشد بيتا يشير فيه إلى أنه حميري وليس أسلافه من ربيعة ولا مضر، فقال له ما معناه: أفّ لك، إن هذا نسب يبعدك عن الله ورسوله. ويقال أيضا أنه رأى محراثا في بيت رجل من أهل المدينة، فذكر له أنه ما دخل دار قوم إلا دخلها الذل. إلا أنه لما يئس من حمل أهل جنسه من التجار والبدو على اعتناق مبادئه، ولما رأى أنه مهدد في حياته منذ أن مات عمه وحاميه أبو طالب، فقد اضطر لتناسي هذه النظرة وقبول كل مساعدة من أي جانب صدرت عنه. فرحب بوفود عرب المدينة الذين عطفوا عليه وأكرموه لما أنزل به المكيون من الاضطهاد والتنكيل» «1» . «وطال أمد النضال بينهم وبين مشركي مكة حتى استغرق ثماني سنوات نشرت خلالها جيوش المسلمين الرعب في شتى بقاع شبه الجزيرة مما حمل كثيرا من القبائل على اعتناق الدين الجديد ... وانتهى الأمر أخيرا بفتح مكة، الذي يصوّر الذروة التي آلت إليها قوة محمد. ففي هذا اليوم تطلّع أهل المدينة للأخذ بثأرهم من هؤلاء التجار المتكبرين الساخرين بهم.. غير أن أحلامهم تلاشت إذ أمر الرسول قواده باصطناع الرأفة البالغة، وساعده المكيون- صامتين- في تحطيم أصنامهم المنصوبة في الكعبة.. تعبدها شتى القبائل التي اعترفت بمحمد رسولا لله، والغيظ يملأ قلبها، وكتمت في نفسها الانتقام إلى يوم تسنح لها فيه الفرصة من هؤلاء الأجلاف: يهود المدينة (!!) الذين دنسوا الشرف بغزوهم لبلدهم. وبعد أن تم فتح مكة رأت القبائل الباقية على شركها عدم جدوى المقاومة واعتنقت الإسلام، تحت عامل الخوف من حرب مهلكة، إذ كان قواد محمد يدعون للدين حاملين القرآن في يد والسيف في أخرى» «2» . فلهاوزن: «ولم يبق الإسلام على تسامحه- بعد بدر- بل شرع في الأخذ بسياسة الإرهاب في داخل المدينة، وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحول.. أما اليهود فقد حاول أن يظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد. وفي غضون سنوات قليلة أخرج كل الجماعات اليهودية، أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة حيث كانوا يكوّنون جماعات متماسكة كالقبائل العربية، وقد   (1) تاريخ مسلمي الأندلس 1/ 27. (2) المصدر السابق 1/ 27- 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 التمس لذلك أسبابا واهية ... » «1» . مركوليوث: «عاش محمد هذه السنين الست، بعد هجرته إلى المدينة على التلصص والسلب والنهب، ولكن نهب أهل مكة قد يبرّره طرده من بلده ومسقط رأسه وضياع أملاكه وكذلك بالنسبة إلى القبائل اليهودية في المدينة. فقد كان هناك على أي حال سبب ما- حقيقيا كان أم مصطنعا- يدعو إلى انتقامه منهم، إلا أن خيبر التي تبعد عن المدينة كل هذا البعد لم يرتكب أهلها في حقه ولا في حق أتباعه خطأ يعتبر تعديا منهم جميعا، لأن قتل أحدهم رسول محمد لا يصح أن يكون ذريعة للانتقام.. وهذا يبين لنا ذلك التطور العظيم الذي طرأ على سياسة محمد، ففي أيامه الأولى في المدينة أعلن معاملة اليهود كمعاملة المسلمين، لكنه الآن (بعد سنة 6 هـ) أصبح يخالف تماما موقفه ذاك. فقد أصبح مجرد القول بأن جماعة ما غير مسلمة يعتبر كافيا لشن الغارة عليها ... وهذا يفسر لنا تلك الشهوة التي سيطرت على نفس محمد، والتي دفعته إلى شن غارات متتابعة، كما سيطرت على نفس الإسكندر من قبل ونابليون من بعد ... إن استيلاء محمد على خيبر يبين لنا إلى أي حد قد أصبح الإسلام خطرا على العالم» «2» . نولدكه: «لو أن القبائل العربية استطاعت أن تعقد بينها محالفات حربية دقيقة ضد محمد للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينية، والذود عن استقلالهم، لأصبح جهاد محمد ضدهم غير مجد، إلا أن عجز العربي عن أن يجمع شتات القبائل المتفرقة قد سمح له أن يخضعهم لدينه، القبيلة تلو الآخرى، وأن ينتصر عليهم بكل وسيلة، فتارة بالقوة والقهر، وتارة بالمحالفات الودية والوسائل السلمية» «3» . «كان النبي لا يتحرج في اختيار الوسائل التي تضمن له النجاح والظفر في الوقت الذي كان خياليا، ولم يكن له سلطان على خياله وعواطفه» «4» . بندلي جوزي «5» : «لا شك أن النبي العربي لم يقصد بأقواله وأفعاله في مكة   (1) الدولة العربية وسقوطها ص 15- 16. (2) مرغوليوث: محمد وقيام الإسلام ص 262- 263 عن فتحي عثمان: أضواء على التاريخ الإسلامي ص 169- 170. (3) تاريخ العالم للمؤرخين 8/ 11 عن فتحي عثمان: أضواء ص 170. (4) عن فتحي عمثان: أضواء ص 171- 172. (5) بندلي جوزي (1871- 1942) من أهل القدس، تخصص في قازان باللغات السامية والدراسات الشرقية، وتولى التدريس في معهد الرهبان ثم في جامعة قازان ثم في جامعة باو إلى أن توفي، وقد عده المستشرقون الروس مرجعا من مراجعهم: عن كتاب نجيب العقيقي: المستشرقون، جزء 3 ص 931. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 والمدينة إلى أن يستأصل أسباب الشر الاجتماعي، ويقتل جميع جراثيمه، كما يحاول أن يفعل اليوم جماعة الاشتراكيين على اختلاف أسمائهم ونزعاتهم، بل كانت غايته الكبرى أن يخفف من وطأة تلك الأمراض على بعض طبقات الناس ممن خلقوا بعد قسمة الأرزاق أو وقعوا في الفقر والرق لأسباب لم يقو على مقاومتها، وإلا فلو أراد أن يقتل جراثيم الأمراض الاجتماعية كلها لكان لجأ بعد أن أصبح صاحب الأمر والنهي في جزيرة العرب، إلى وسائل غير تلك التي ذكرناها. وما مثل النبي من هذا الوجه إلا كمثل سائر الأنبياء الذين سبقوه، ولا سيما أنبياء بني إسرائيل، أي أنه فضّل استعمال الوسائل الأدبية- إلا فيما ندر من الظروف- على غيرها من الطرق التي لجأ إليها بعصرنا بعض مصلحي وسياسيي أوروبا كلينين وموسوليني وغيرهما.. وعليه يمكننا أن نقول إن محمدا أجاد في وصف الأمراض الاجتماعية العربية وتعدادها أكثر منه في علاجها واستئصال جراثيمها..» «1» . مونتكمري وات: «إن زيارة محمد لحراء، وهو جبل قريب من مكة، بصحبة عائلته أو بدونها، ليست مستحيلة، ويمكن أن يكون ذلك للفرار من أتون المدينة خلال فصل الصيف للذين لا يستطيعون التوجه إلى الطائف، ويمكن للتأثير اليهودي- المسيحي ولا سيما مثل الرهبان، أو تجربة شخصية لمحمد، أن يكون قد أثار فيه الحاجة للخلوة والرغبة فيها» «2» . «تعتبر كلمة ناموس عادة مشتقة من كلمة Nomos اليونانية، وهي تعني إذن (الشريعة) أو (الكتب المقدسة) ، وهذا يتفق تماما مع ذكر موسى. وقد أبدى ورقة ملاحظة، بعد أن أخذ محمد يتلقى الوحي، وهي تعني أن ما نزل على محمد مماثل لكتب اليهود والمسيحيين المقدسة. كما أن محمدا سمع ما يوهمه بأنه مؤسس أمة ومشرع لها. وإذا كان محمد، كما يبدو، مترددا بطبعه، فإن هذا التشجيع بإقامة بناء ضخم على تجاربه يرتدي أكبر أهمية لتطوره الداخلي.. وقد تأثرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيرا بأفكار ورقة» «3» . وفي مكان آخر من كتاب وات نقرأ هذه العبارات «ادعى كايتاني أن سكان المدينة رضوا بمحمد ككاهن أعلى فقط لأنهم كانوا بحاجة إلى الاستقرار الداخلي   (1) من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام ص 44- 45. (2) محمد في مكة ص 81. (3) المصدر السابق ص 92- 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 في المدينة، وليس لأنهم يقبلون تعاليم القرآن بأكملها. وبعضهم كانوا مسلمين حقا.. ومن الممكن أيضا أن يكون محمد، نوعا ما، حاملا للأفكار اليهودية المسيحية في القرآن، بألفاظ عربية جاهلية، ولهذا أساء فهمها- كما يقول كايتاني ولكن المدنيين الذين كانوا يدافعون عن محمد كانوا يفهمون مبادىء الإسلام الأساسية ويؤمنون بها. فالله خالق الكون وسيّد العالم، وهو الحكم في اليوم الأخير، ومحمد حامل رسالة الله إلى العرب. وكان المسلمون يقيمون مجتمعا جديدا في المدينة، وكان هذا المجتمع يتطلب أساسا فكريا واضحا ومحددا. ومن الممكن أن يكون القليل من المسلمين في المدينة يدفعه حماس ديني قوي ولكنهم كانوا جميعا مؤمنين بالروابط الدينية ليشاركوا في بناء مجتمع يقوم على هذه الروابط بدلا من روابط النسب» «1» . ويحضرنا، ونحن نعرض لتناقض المستشرقين في مسألة الأخذ عن الصحف القديمة، قول جواد علي بهذا الصدد «لا أهمية ولا معنى لقول شپرنكر أن محمدا قرأ وأخذ من مصدر آخر هو (صحف إبراهيم) المذكورة في القرآن الكريم. وقد ردّ على هذا الرأي نولدكه بقوله (لو فرضنا أن محمدا أخذ من هذه الصحف ونسبه لنفسه وادعاه على أنه وحي أوحى الله به إليه، لو فرضنا ذلك، فإن من غير المعقول عندئذ ذكر محمد لتلك الصحف في القرآن، لأن ذكرها فيه معناه إرشاد الناس إلى المورد الذي أخذ منه واتهام نفسه، ولهذا لا يعقل الأخذ بكلام شپرنكر) » «2» . ونمضي مع وات لنراه يقول في مكان آخر «لم يكن الإسلام.. حركة رجال من طبقة مستضعفة من حثالة الناس أو من طفيليين صعاليك حطوا رحالهم في مكة، ولم يستمد الإسلام قوته من رجال الدرجة السفلى من السلم الاجتماعي، بل من أولئك الذين كانوا في الوسط وأدركوا الفرق بينهم وبين أصحاب الامتيازات في الذروة، فأخذوا يقنعون أنفسهم بأنهم أقل امتيازا منهم، فنشأ صراع ليس بين الملاكين والمعوزين، بل بين الملاكين والذين هم أقل منهم» «3» .   (1) محمد في مكة ص 234- 235. (2) تاريخ العرب في الإسلام 1/ 142- 143، وليس شپرنكر أول من صرح بهذا القول، بل قالت به قريش أيضا في مبدأ نزول الوحي. المصدر السابق ص 143، وانظر حول مسألة (أمية) الرسول صلى الله عليه وسلم وما دار حولها من مناقشات: جواد علي: المصدر السابق ص 136- 143. (3) محمد في مكة ص 159- 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 «كان الأشخاص الذين اتصل بهم محمد (في الطائف) ، وهم عبد ياليل وإخوته، ينتمون لقبيلة عمرو بن عمير المنتمية للأحلاف، فكانوا بذلك أنصار قريش، وربما راود محمدا الأمل باستمالتهم إليه بالتلويح لهم بتحريرهم من سيطرة مخزوم المالية» «1» . ونتوقف عن سرد هذه (النماذج) للأخطاء (الموضوعية) التي قادت إليها الثغرات العديدة في (مناهج) البحث الاستشراقية لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي كثيرة لا يحصيها عدّ.. وننتقل- من ثمّ- لكي نعرض لهذه السيرة نفسها، وفق (منهج) أقرب ما يكون (لروح) هذه السيرة و (بنيتها) و (معطياتها) و (أرضيتها التاريخية) و (مصادرها الأساسية) . أستميح القارىء عذرا إن قصّرت أو أخطأت، وأنتظر الفرصة التي يتيحها لي لتلافي التقصير وتسديد الخطأ.. فكل بنى آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون.. وصدق رسول الله. عماد الدين خليل   (1) محمد في مكة ص 221 عن لامانس: الطائف ص 212، 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الفصل الأول محمد صلى الله عليه وسلم بين الميلاد والنبوّة [1] ولد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل (حوالي سنة 570- 571 م) لأبوين عريقين في نسبهما ينتمي أحدهما، وهو عبد الله، إلى عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب وتنتمي الآخرى، وهي آمنة، إلى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب حيث تلتقي مع نسب زوجها عبد الله «1» . وكان منبت محمد صلى الله عليه وسلم في أسرة لها شأنها بعض ما أعد الله لرسالته من نجاح. فالمجتمع العربي الأول كان يقوم على العصبيات القبلية الحادة، العصبيات التي تفنى القبيلة كلها دفاعا عن كرامتها الخاصة وكرامة من يمت إليها «2» . وقد توفي أبوه، وهو في بطن أمه، خلال عودته من تجاره له إلى الشام، ونظرا إلى ما نعرفه من وجود الأوبئة في يثرب، ولا سيما وباء الملاريا (حمى يثرب) فلا يستبعد أن يكون هذا المرض هو السبب في وفاة عبد الله في المدينة ودفنه هناك «3» . وما أن رأت عينا محمد صلى الله عليه وسلم النور حتى أرسلت أمه إلى جده عبد المطلب «إنه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه» ، فجاءه وحمله إلى الكعبة حيث راح يدعو   (1) ابن هشام: تهذيب السيرة ص 20- 21 ابن سعد: الطبقات 1/ 1/ 61- 64 المسعودي مروج الذهب 2/ 265- 266، وانظر عن نسب الرسول وأجداده: مونتكمري وات: محمد في مكة ص 61- 266، وابن كثير: البداية والنهاية 2/ 252- و 259 وخليفة بن خياط: تاريخ 1/ 8- 9 البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 91- 92 وعن تسمية (محمد) انظر بالتفصيل جواد علي في 75- 90. (2) محمد الغزالي: فقه السيرة ص 58. (3) جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام ص 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الله ويشكر له ما أعطاه، ثم أعاده إلى أمه ريثما يلقى مرضعة له، ووقع اختياره على امرأة من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة بنت أبي ذؤيب «1» استصحبته معها إلى مضارب بني سعد حيث ظل محمد صلى الله عليه وسلم يشب وينمو، يشرب من لبن مرضعته ويتنفس من هواء الصحراء الطلق ويزداد قوة وصحة وعافية، ولم يبلغ السنتين من عمره، حيث فطمته حليمة، حتى حملته وزوجها إلى أمه في مكة، وهما أحرص ما يكونان على مكثه فيهم لما كانوا يرون من بركته، فكلمات حليمة أمه وقالت لها «لو تركت ابنك عندي حتى يغلظ، فإني أخاف عليه وباء مكة» ، ولم تزل بها حتى أجابتها إلى طلبها «2» . وهناك، بعد أشهر من عودته إلى مضارب بني سعد، وقعت حادثة شق الصدر وعاد أخوه من الرضاعة يوما، وهو يلهث، فقال لأمه وأبيه، وهما يرعيان أغناما لهما خلف دورهم: ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيضاء فاضجعاه وشقّا بطنه، فهما يسوطانه «3» ، فخرجت حليمة وزوجها نحوه فوجداه قائما منتقع الوجه فسألاه: ما لك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو.. وسرعان ما عادت به حليمة وزوجها إلى خبائهما «4» . وظن الأب أن الغلام قد أصيب وطلب من زوجته أن تعيده إلى أهله قبل أن يستفحل به ذلك ويظهر، فحملته مرضعته وقدمت به إلى أمه فأعلمتها أنه قد بلغ، وأنها قد قضت الذي عليها، فأخذته أمه حيث ظلت ترعاه في حماية وإشراف من جده عبد المطلب. وعندما بلغ السادسة من عمره توفيت أمه بالأبواء، وهي في طريق عودتها إلى مكة في أعقاب زيارة لأهلها من   (1) ابن هشام ص 28 البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 93. (2) ابن هشام ص 30- 31 ابن سعد 1/ 1/ 70 وانظر.L.Caetani ,Annali Dell Islam ,vol.I.p. 125 ,151 (3) أي يحركانه. (4) وفي صيغة أخرى للحادث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق قلبه فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ... ثم لأمه وأعاده إلى مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- يعني مرضعته- أن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون (أخرجه مسلم 1/ 101- 102 وأحمد 3/ 121) ويرى درمنغم أن هذه (القصة) نشأت عن قول القرآن أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ... وأن هذه العملية أمر باطني قام على تطهير ذلك القلب وتوسيعه ليتلقى رسالة الله عن حسن نية ويبلغها بإخلاص تام ويحتمل عبثها الثقيل (حياة محمد ص 48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 بني عديّ بن النجار قصدت بها أن تزيره إياهم، فتولى أمره جده عبد المطلب الذي كان يقعده إلى جواره في مجلسه في ظل الكعبة، ويقول لبنيه إذا ما أرادوا إبعاده عنه «دعوا ابني، فو الله إن له لشأنا» ثم يمسح ظهره بيده ويسرّه ما يراه يصنع «1» . لم تطل رعاية الجد وعطفه الذي عوّض حفيده حدب الأب وحنان الأم، إذ ما لبث أن توفي، ومحمد لم يجاوز الثامنة من عمره فتولى أمره عمه أبو طالب، لأنه وعبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم كانا لأم واحدة «2» ، ولم يكن أبو طالب بالرجل الموفور المال، وكان يعيل عددا من الأبناء الأمر الذي اضطر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يعينه في كسب قوته حسب طاقته، فكان يرعى له الأغنام وعندما قرر عمه الخروج في تجارة إلى الشام- وكان قد بلغ آنذاك التاسعة من عمره- رجاه أن يصحبه معه، فرق له أبو طالب وقال «والله لآخرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا» «3» . لدى وصول المركب مدينة بصرى الواقعة على طريق التجارة إلى الشام، وهي أبعد مكان رآه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وأقصى موقع زاره في بلاد الشام «4» نلتقي برواية طرحها عدد من مؤرخي السيرة القدماء دون نقد ولا تمحيص، تقول إنهم لما نزلوا قريبا من بصرى دعاهم إلى الطعام راهب يدعى (بحيرى) منقطع إلى صومعته يدرس فيها التوراة والإنجيل ويعبد الله.. فلما حضروا جميعا راح بحيرى يركز أنظاره على الصبيّ ويلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده كأنه كان يبحث ويمعن النظر في الصفات والملامح التي تحدثت عنها التوراة والإنجيل في النبي الذي حان موعد ظهوره. حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى وقال له: يا غلام، أسألك بحق اللّات والعزّى إلّا ما أخبرتني عما أسألك عنه. فأجابه محمد: لا تسألني باللات والعزّى فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما. قال بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه. قال محمد: سلني ما بدا لك، فجعل بحيرى يسأله عن أشياء من حاله في نومه   (1) ابن هشام 31- 33 ابن سعد 1/ 1/ 70- 71، 73- 74، المسعودي: مروج الذهب 2/ 275 البلاذري: أنساب 1/ 81- 82، 94- 95 اليعقوبي: تاريخ 2/ 7، 9 انظر.Caetani Op.cit ;1 -131، 156: (2) الطبري: تاريخ 2/ 277. (3) ابن هشام 33- 34 الطبري: تاريخ 2/ 277 ابن سعد 1/ 1/ 75- 79- 80 البلاذري: أنساب 1/ 96. (4) جواد علي: تاريخ العرب ص 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وهيئته وأموره، فجعل محمد يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفاته.. فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابن أخي.. قال: ما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال بحيرى صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنّه شرا فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم «1» . كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قام منذ صباه- لمساعدة عمه الفقير كثير العيال- برعي الأغنام لأهله وأهل مكة، كما قام بأعمال أخرى.. ولكن الرعي وهذه المساعدات لم تفده وقد بلغ هذا العمر، ولهذا كان أبو طالب يفكر في رزق يسوقه الله إليه يكون فيه أمن وطمأنينة له وكان ذلك عن طريق البيع والشراء والتجارة على عادة أغلب أهل مكة في ذلك العهد، وقد تكسّب محمد بالاشتغال بالبيع والشراء مستقلا بأعماله أحيانا ومشتركا مع غيره أحيانا أخرى.. وقد تاجر بشراء البزّ وبيعه يشتريه من سوق حباشة، على طريق اليمن، وهي سوق مشهورة لبيع هذه البضاعة، ويبيعه في مكة.. وقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمانة والصدق في المعاملة، ولكنه لم يكسب من عمله في البيع والشراء مالا يذكر ولا ثروة تساعده وتساعد عمه أبا طالب في تمشية أموره.. لذا عرض عليه عمه أن يسهم في تجارة خديجة علها تدر عليه ربحا «2» . وورد في بعض كتب السير «3» أن محمدا قام لخديجة بسفرة أو سفرتين أو أربع سفرات إلى اليمن، إلى سوق حباشة أو إلى جرش، وذلك قبل قيامه بسفرته المشهورة إلى بصرى.. وأن خديجة دفعت له بعيرا عن كل سفرة قام بها إلى اليمن وأربع بكرات عن سفرته إلى بلاد الشام «4» .   (1) ابن هشام ص 34- 36 الطبري: تاريخ 2/ 277- 279 ابن سعد 1/ 1/ 76 البلاذري: أنساب 1/ 96- 97 المسعودي: مروج 2/ 286 ابن الأثير: الكامل 2/ 37- 38 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 283- 286 المقدسي: البدء والتاريخ..Caetani:Op.cit ;1 -160 134 /4 ولم يقف إزاء الرواية ناقدا ممحصا سوى ابن سيد الناس في (عيون الأثر) ص 43 (مكتبة القدس، القاهرة 1356 هـ) والذهبي في (تاريخ الإسلام) 1/ 38، 39 (مكتبة القدس القاهرة) انظر بحث (تحقيق قصة بحيرى) للدكتور محسن عبد الحميد (مجلة الجامعة، عدد 4 سنة 9 ص 69- 73) وسوف نرجع إلى هذه الرواية كرة أخرى لدى الحديث عن العلاقات بين الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية. (انظر ص 271- 272) . (2) جواد علي ص 109- 110. (3) إمتاع الأسماع، السيرة الحلبية، الروض الأنف، عيون الأثر ... (4) جواد علي ص 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بلغ محمد صلى الله عليه وسلم العشرين من عمره وبدأ يسهم في تجارب قريش السياسية والعسكرية والدينية، حيثما رأى في هذه التجارب حقا وعدلا، رافضا- من جهة أخرى- كل تصوراتها الخاطئة ومعتقداتها الوثنية وأخلاقياتها المتهافتة الساقطة.. اشترك، وهو في العشرين من عمره، في حرب الفجار التي سميت كذلك لوقوعها في الأشهر الحرم، والتي نشبت بين كنانة وقريش من جهة وبين قيس عيلان من جهة أخرى، وكان قائد قريش وكنانة فيها حرب بن أمية الذي تمكن وسط النهار أن يتجاوز الهزيمة التي مني فيها أول الأمر وأن يحقق النصر على قيس. وكان محمد صلى الله عليه وسلم آنئذ ينبّل لأعمامه ويرد عنهم نبال عدوهم «1» . واشترك في حلف الفضول الذي تم عقده في أعقاب حرب الفجار التي يبدو أنها كانت الدافع الأساسي الذي استفز زعماء قريش لعقد هذا الحلف الذي يصفه ابن سعد بأنه «أشرف حلف كان قط» . وكان أول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب، فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم وغيرها من عشائر قريش في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما وتعاقدوا وتعاهدوا بالله «لنكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه» كما تعاهدوا على «التاسي في المعاش» وسموا ذلك الحلف (حلف الفضول) . وقد قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد نبوته، وهو يسترجع ذكرياته «ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم.. ولو دعيت به- في الإسلام- لأجبت» «2» . وقد روى كل من المسعودي واليعقوبي «3» وعدد من المؤرخين أن سبب إنشاء هذا الحلف إنما كان بسبب الغبن الذي ألحقه أحد سادة قريش: العاص بن وائل السهمي برجل من اليمن، حيث ماطله في ثمن السلعة التي اشتراها منه، حتى يئس الرجل، فعلا جبل أبي قبيس ونادى قريشا وهي في مجالسها حول الكعبة بشعر يصف فيه ظلامته «فمشت قريش بعضها إلى بعض ... » . ويظهر من   (1) ابن هشام ص 36 ابن سعد 1/ 1/ 10- 82 المسعودي: مروج 2/ 268- 269 اليعقوبي 2/ 12- 13 المقدسي.Caetani:Op ,cit ,1 -163. 136 -135 /4 وانظر عن أيام الفجار بالتفصيل البلاذري: أنساب 1/ 100- 103 وابن كثير: البداية 2/ 289- 290 ويقرر إسرائيل ولفنسون (تاريخ اليهود) أن قريشا خاضت أربع فجارات كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم في أولاها عشر سنين وفي آخرها أربع عشرة أو خمس عشرة سنة وانظر: درمنغم ص 55- 59 وجواد علي ص 107- 108. (2) ابن سعد 1/ 1/ 82 المسعودي: مروج 2/ 270- 271 اليعقوبي 2/ 13- 14 المقدسي 4/ 136- 137 ابن الأثير: الكامل 2/ 41- 42 ابن كثير: البداية 2/ 290- 293. (3) المصدران السابقان، نفس الصفحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 دراسة الأصول القديمة لروايات حلف الفضول أن الحاجة إلى الأمن والاستقرار بعد حرب الفجار هي التي دفعت قبائل قريش إلى الاجتماع في دار عبد الله بن جدعان للتفاوض في أمر إحلال الأمن والسلام في مكة لأن حياة أهل مكة تقوم على الوافدين إليها من الحجاج والتجار، وأن الذي دعا إلى ذلك نفر من قريش وأن الذي تزعم الدعوة وتبناها وجمع بين الرؤساء هو عبد الله بن جدعان أحد أثرياء مكة «1» . وفي الخامسة والثلاثين من عمره مارس صلى الله عليه وسلم مهمة التحكيم في مسألة وضع الحجر الأسود. كانت قريش قد أجمعت أمرها على إعادة بناء الكعبة وتسقيفها بعد ما أصابها من السيول المنحدرة إليها من المرتفعات المجاورة، وبعد محاولة لسرقة محتوياتها من قبل نفر من قريش، وكانت الكعبة منضودة من حجارة بعضها فوق بعض من غير ملاط «2» وكان البحر قد رمى بسفينة لرجل من تجار الروم قريبا من جدة، فتحطمت وحمل خشبها إلى مكة للإفادة منه في أعمال البناء. وصادف أن كان بمكة آنذاك رجل قبطي نجار فارتأوا ضرورة البدء بالعمل. وتعاونت قبائل قريش جميعا في البناء، كل تناول جانبا، هدما وبناء. وعندما بلغوا موضع الركن حيث يوضع الحجر الأسود، اختصموا، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الآخرى، فانحاز كل رجل إلى قبيلته، وتأهب الجميع للقتال. وظل الأمر على ذلك أربع ليال. وحينئذاك تقدم أبو أمية بن المغيرة- وكان عامئذ أسنّ قريش- فقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه. فأقرّوا رأيه، وراحوا ينتظرون أول داخل، فكان محمدا صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد!! فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال: هلمّ إليّ ثوبا، فجيء به، فأخذ الحجر فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بجانب من الثوب ثم ارفعوه جميعا. ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده ثم بنى عليه «3» .   (1) جواد علي ص 109 وانظر عن هذا الحلف بالتفصيل مونتكمري وات: محمد في مكة ص 23- 25، 39- 40 وجواد علي ص 108- 109. (2) الطبري تاريخ 2/ 283. (3) ابن هشام ص 40- 42 الطبري 2/ 287- 290 ابن سعد 1/ 1/ 93- 95 البلاذري: أنساب 1/ 100 المسعودي: مروج 2/ 271- 273 اليعقوبي: تاريخ 2/ 14- 15 ابن الأثير: الكامل 2/ 42- 45 المقدسي 4/ 139- 140 ابن كثير: البداية 2/ 298- 305 وانظر: درمنغم: حياة محمد ص 64- 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 في الخامسة والعشرين من عمره كان محمد صلى الله عليه وسلم قد اجتاز تجربة زواجه الأول وكانت تجربة ناجحة لعبت دورا كبيرا في حياته قبل البعثة وبعدها على السواء. وكان محمد قد اختير بوساطة عمه أبي طالب، من قبل السيدة خديجة ذات الشرف والمال في قريش ليكون أمينا لتجارتها إلى الشام برفقة خادمها ميسرة لما كانت قد سمعته عن محمد «من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه» . وقد وافق محمد على القيام بالمهمة لقاء أجر غير زهيد قررت خديجة منحه إياه لدى عودته رابحا من الشام. ولقد عاد بعدئذ مضاعفا، بصدقه وأمانته ونشاطه ربح التجارة التي كلف بإدارتها، فأعجبت خديجة به، وزادها إعجابا وتقديرا ما حدثها به خادمها ميسرة عن أخلاق محمد وصفاته. وعلى عادة العرب في الوضوح والصراحة وعدم الالتواء، بعثت إليه من يقول له: إني قد رغبت فيك لقرابتك وشرفك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثم عرضت عليه الزواج. وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على خطبتها لو يقدر على ذلك «1» . استشار محمد صلى الله عليه وسلم أعمامه فخرج معه عمه حمزة (رضي الله عنه) ودخل على خويلد بن أسد فخطب ابنته لابن أخيه، فوافق الأب وتم الزواج المبارك، فكان من ثماره أبناء رسول الله كلهم إلا إبراهيم، وهم: القاسم، وكان صلى الله عليه وسلم يكنى به، وعبد الله (الذي يلقب بالطاهر والطيب) وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. وقد توفي القاسم وعبد الله قبل مبعثه، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن إلى المدينة «2» . [2] إن الإطار التاريخي لسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم، منذ مولده حتى وفاته، يضم حشدا كبيرا من الروايات، يكثر ويتكاثف في مرحلة ويقل ويتباعد طيلة الأربعين سنة التي سبقت مبعثه في غار حراء، فلا يكاد يغطي سوى مساحات قليلة من هذه   (1) ابن هشام ص 37- 38 ابن سعد 1/ 1/ 82- 85 البلاذري: أنساب 1/ 97- 99: اليعقوبي 2/ 15- 16. (2) ابن هشام ص 38 الطبري: تاريخ 2/ 280- 282 ابن سعد 1/ 1/ 85 ابن الأثير: الكامل 2/ 39- 40 ابن كثير: البداية 2/ 293- 295 المقدسي 4/ 138- 139 وانظر erhel eid:regnerpS 831- 1; tic.pO:inateaC des Mohammed 1 -194.: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 السنين الطويلة ولا يكاد يرسم سوى خطوط عريضة عن طفولة وشباب الرجل الذي قدّر له أن يعيد صياغة الحياة الدنيا بما ينسجم ونواميس الكون.. وتلك هي الصعوبة الكبرى في تاريخ الرجال الكبار في حياة البشرية. إن اهتمام الناس بأبطالهم يقتفي أثر النواميس الطبيعية ذاتها، فحيثما تجمعت الأضواء في جانب حيثما زادت الظلال المجاورة عتمة وخفاء.. وما أن يبرز البطل فجأة على مسرح الأحداث حتى تسلط عليه الأضواء فلا يتبقى من سيرته أية مساحة غير معرضة للإنارة والتلوين.. لكنه قبل أن يظهر.. قبل أن يجيء من وراء الكواليس، يحيطه الغموض، ويصعب على الناظرين تمييز جل مساحات حياته مهما امتدت سنوّ هذه الحياة.. إن أربعين سنة من حياة رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم هي الأرضية التي أقيمت عليها نبوته الشامخة.. ترى ما الذي قدمته لنا الروايات عن أمداء هذه الأرضية؟ .. النسب الأصيل لأمه وأبيه في بيئة (ترفض) الهجناء والمختلطين.. اليتم السريع للأب والأم ولما يتجاوز المولود عهد طفولته.. الفقر والحرمان في صحراء تزيد نار الفقر والحرمان اشتعالا.. رحلتان بعيدتان إلى الشام إحداهما صبيا برفقة عمه أبي طالب والآخرى شابا مسؤولا عن تجارة للسيدة خديجة.. الإسهام الحريص في عدد من الأحداث المهمة التي شهدتها مكة: حرب الفجار، حلف الفضول، بناء الكعبة.. الزواج بالسيدة خديجة بعد عودته من رحلته الثانية إلى الشام.. الرفض الحاسم لقيم الوثنية وعاداتها وأخلاقياتها وتقاليدها.. ثم فترات من العزلة والتأمل في غار حراء بعيدا عن صخب مكة وضجيجها. وبين هذه الأحداث المرئية الأبعاد جميعا لمحات غير مرئية الأبعاد، ذات دلالة عميقة، أكدتها الروايات والأسانيد، جاءت بمثابة إرهاصات أولية عن أن هذا الإنسان سيلعب دوره في القضية الكبرى في تاريخ البشرية، قضية الحوار المفتوح بين السماء والأرض.. الخير العميم الذي راح يتدفق في مضارب مرضعته حليمة بعد إعسار وجفاف، شق صدره واستخراح علقة سوداء من قلبه قبل أن يتفتح وعيه على الحياة.. إشارات أولى عن نبوته تصدر عن الراهب (بحيرى) على تخوم الشام.. ولن نذكر هنا أية واقعة أخرى لعب الخيال الشعبي والإسرائيلي دورا بارزا فيها. تلك هي النقاط الأساسية التي لم يتمكن (باحث) لحدّ الآن أن يعثر على ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 يفوقها أهمية أو ما يضيف إليها حقائق أخرى، ولن نلقي اللوم على رواتنا ومؤرخينا فتلك هي كما قلنا طبيعة التاريخ، فالأبطال- أنبياء وغير أنبياء- يظلون مجهولين يتحركون في مناطق الظلال لكي ما يلبثوا أن ينتقلوا فجأة لأداء أدوارهم حيث تسلط الأضواء.. ولنا أن نحمد الله سبحانه على أن هيأ لنا هذا القليل عن هذه المرحلة الطويلة الأساسية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذه القلة- على ندرتها- يمكن أن تقدم لنا الكثير إذا ما استنطقناها بالأسلوب العلمي الهادىء الرصين، بعيدا عن ضجيج النزعات الخطابية والإنشائية والتهويلية. إن البطل في التاريخ، نبيا أو غير نبي، لكي يلعب دوره الحاسم، لا بدّ أن يستكمل شرطين أساسيين أحدهما يتعلق بتكوينه الذاتي الخاص، والآخر بالعالم الذي يضطرب فيه عبر دوائره التي تبدأ بعلاقاته الضيقة ثم تتسع عبر الإقليم والوطن والجماعة والشعب والأمة، لكي تشمل العالم كله.. ومن ثم فإن أي حوار ينفتح بين الإنسان والعالم سوف لن يبعث أبطالا إن لم يكن كلا القطبين مهيأ لإنجاح ذلك الحوار.. وهكذا فإن أية دراسة عن حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وبعده، سوف لن تتوغل في فهم هذه الحياة، توغلا كافيا، إن لم تضع في حسبانها هذين الطرفين، وتتمعن فيهما عن كثب بقدر ما تسعفها الوقائع والأحداث. فأما ما يتعلق بالجانب الذاتي لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فيبدو أن الظروف (البيئية) و (الوراثية) التي تسهم معا في تكوين الإنسان وتمنحه صفاته الخلقية والخلقية، وتصوغ بنيانه الجسدي والنفسي، وتحدد قدراته العقلية واستجاباته العاطفية قد اجتمعت لكي تجعل من محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان المهيّأ لتحمل المسؤولية التي أنيطت به بعد أربعين سنة من ميلاده.. أربعة عقود في حياة الإنسان المحدودة، تمثل امتدادا زمنيا طويلا أريد به أن يستكمل محمد الإنسان كل مساحات تكوينه الذاتي ونضجه البشري قبل أن يتاح له أول لقاء مع الوحي الأمين، وما أصعب اللقاء الأول بين ممثلي السماء والأرض، وما أشق الحوار!! طيلة هذه العقود الأربعة ومحمد صلى الله عليه وسلم يأخذ ويتلقى ويجابه ويهضم ويتمثل شتى المؤثرات الوراثية والبيئية لكي يحولها إلى خلايا تبني كيانه وسمات مادية وروحية تهيئة لليوم العظيم. فعن (أصالة) أبيه وأمه أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في دمه وأعصابه أصالة الشخصية ووضوحها ونقائها، وكسب على المستوى الاجتماعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 احتراما وتقديرا في بيئة كانت تستهجن مجهولي الأنساب وتحتقر الخلطاء. ومن مرارة اليتم ووحشة العزلة وانقطاع معين العطف والحنان، قبس الرسول صلى الله عليه وسلم الصلابة والاستقلال والقدرة على التحمل، والإرادة النافذة، والتحدي الذي لا تنكسر له قناة. وبالفقر والحرمان تربى ونما بعيدا عن ترف الغنى وميوعة الدلال واتكالية الواجدين. وعبر رحلته الأولى إلى الشام في رعاية عمه، فتح محمد صلى الله عليه وسلم عينيه ووعيه تجاه العالم الذي يتجاوز حدود الصحراء وسكونها إلى حيث المجتمعات المدنية التي تضطرب نشاطا وقلقا، والجماعات العربية التي فصلتها عن شقيقاتها في الصحراء الأم، سلطات أجنبية أحكمت قبضتها على الأعناق، وساقت الشيوخ والأمراء العرب إلى ما تريد هي وتهوى لا ما يريدون ويهوون. وفي رحلته الثانية إلى الشام، مسؤولا عن تجارة السيدة خديجة، تعلم الرسول الكثير الكثير، عمّق في حسّه معطيات الرحلة الأولى وزاد عليها إدراكا أكثر لما يحدث في أطراف عالمه العربي من علاقات بين الغالب والمغلوب، والسيّد والمسود، وإفادة أغنى من كل ما يتعلمه الذين يرحلون من مكان إلى مكان فيتعلمون من رحيلهم طبائع الجماعات والشعوب، وكنه العلاقات بينها واختلاف البيئات والأوضاع.. ويزدادون مرونة وقدرة على التعامل المنفتح الذي لا ينقطع له خيط مع شتى الطبائع، وفهما لما يتطلبه الإنسان في عصر من العصور بعد اطلاع مباشر على عينات من هذا الإنسان في سعادته وهنائه، أو في تعاسته وشقائه.. وفوق هذا وذاك فقد أتيح للرسول في رحلته هذه تنمية وامتحان قدراته الخاصة التي تعلمها أيام الرعي صبيا، وها هو الآن (يدير) تجارة لسيدة تملك الكثير، فيعرف كيف يحيل القليل كثيرا، ويصمد إزاء إغراء الذهب والفضة أمينا لا تلحق أمانته ذرة من غبار.. قديرا على الارتفاع فوق مستويات الإغراء إلى آخر لحظة. ثم يجيء إسهامه في القضايا الكبرى التي عاشتها مكة آنذاك، متنوعا شاملا مغطيا شتى مساحات العمل البشري الجماعي، وكأنه أريد له أن يجرب كل شيء، أن يسهم عاملا في كل اتجاه، وأن يا بني عبر نشاطاته المتنوعة جميعا شخصية قادرة على التصدي لكل مشكلة، والإسهام الإيجابي الفعال في كل ما من شأنه أن يعيد حقا أو يقيم عدلا.. في حرب الفجار مارس الرسول صلى الله عليه وسلم شؤون القتال، وفي حلف الفضول شارك في تجربة السياسة والحكم، وفي بناء الكعبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أعرب عن بداهته المثيرة للإعجاب في حل المشاكل التي تلعب فيها المعتقدات والقيم والمقدسات دورا كبيرا.. وخلال هذا وذاك يتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم فيمارس في أعقاب زواجه ذاك، كبرى التجارب الاجتماعية في حياة الإنسان، وينجح في التجربة، ومن وراء نجاحه ذاك تقف السيدة البرّة التي وضعها الله في طريق رسوله لكي تكون سنده النفسي Caetani:Op.cit ;1 -138 Sprenger:die lehre الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 السنين الطويلة ولا يكاد يرسم سوى خطوط عريضة عن طفولة وشباب الرجل الذي قدّر له أن يعيد صياغة الحياة الدنيا بما ينسجم ونواميس الكون.. وتلك هي الصعوبة الكبرى في تاريخ الرجال الكبار في حياة البشرية. إن اهتمام الناس بأبطالهم يقتفي أثر النواميس الطبيعية ذاتها، فحيثما تجمعت الأضواء في جانب حيثما زادت الظلال المجاورة عتمة وخفاء.. وما أن يبرز البطل فجأة على مسرح الأحداث حتى تسلط عليه الأضواء فلا يتبقى من سيرته أية مساحة غير معرضة للإنارة والتلوين.. لكنه قبل أن يظهر.. قبل أن يجيء من وراء الكواليس، يحيطه الغموض، ويصعب على الناظرين تمييز جل مساحات حياته مهما امتدت سنوّ هذه الحياة.. إن أربعين سنة من حياة رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم هي الأرضية التي أقيمت عليها نبوته الشامخة.. ترى ما الذي قدمته لنا الروايات عن أمداء هذه الأرضية؟ .. النسب الأصيل لأمه وأبيه في بيئة (ترفض) الهجناء والمختلطين.. اليتم السريع للأب والأم ولما يتجاوز المولود عهد طفولته.. الفقر والحرمان في صحراء تزيد نار الفقر والحرمان اشتعالا.. رحلتان بعيدتان إلى الشام إحداهما صبيا برفقة عمه أبي طالب والآخرى شابا مسؤولا عن تجارة للسيدة خديجة.. الإسهام الحريص في عدد من الأحداث المهمة التي شهدتها مكة: حرب الفجار، حلف الفضول، بناء الكعبة.. الزواج بالسيدة خديجة بعد عودته من رحلته الثانية إلى الشام.. الرفض الحاسم لقيم الوثنية وعاداتها وأخلاقياتها وتقاليدها.. ثم فترات من العزلة والتأمل في غار حراء بعيدا عن صخب مكة وضجيجها. وبين هذه الأحداث المرئية الأبعاد جميعا لمحات غير مرئية الأبعاد، ذات دلالة عميقة، أكدتها الروايات والأسانيد، جاءت بمثابة إرهاصات أولية عن أن هذا الإنسان سيلعب دوره في القضية الكبرى في تاريخ البشرية، قضية الحوار المفتوح بين السماء والأرض.. الخير العميم الذي راح يتدفق في مضارب مرضعته حليمة بعد إعسار وجفاف، شق صدره واستخراح علقة سوداء من قلبه قبل أن يتفتح وعيه على الحياة.. إشارات أولى عن نبوته تصدر عن الراهب (بحيرى) على تخوم الشام.. ولن نذكر هنا أية واقعة أخرى لعب الخيال الشعبي والإسرائيلي دورا بارزا فيها. تلك هي النقاط الأساسية التي لم يتمكن (باحث) لحدّ الآن أن يعثر على ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 يفوقها أهمية أو ما يضيف إليها حقائق أخرى، ولن نلقي اللوم على رواتنا ومؤرخينا فتلك هي كما قلنا طبيعة التاريخ، فالأبطال- أنبياء وغير أنبياء- يظلون مجهولين يتحركون في مناطق الظلال لكي ما يلبثوا أن ينتقلوا فجأة لأداء أدوارهم حيث تسلط الأضواء.. ولنا أن نحمد الله سبحانه على أن هيأ لنا هذا القليل عن هذه المرحلة الطويلة الأساسية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذه القلة- على ندرتها- يمكن أن تقدم لنا الكثير إذا ما استنطقناها بالأسلوب العلمي الهادىء الرصين، بعيدا عن ضجيج النزعات الخطابية والإنشائية والتهويلية. إن البطل في التاريخ، نبيا أو غير نبي، لكي يلعب دوره الحاسم، لا بدّ أن يستكمل شرطين أساسيين أحدهما يتعلق بتكوينه الذاتي الخاص، والآخر بالعالم الذي يضطرب فيه عبر دوائره التي تبدأ بعلاقاته الضيقة ثم تتسع عبر الإقليم والوطن والجماعة والشعب والأمة، لكي تشمل العالم كله.. ومن ثم فإن أي حوار ينفتح بين الإنسان والعالم سوف لن يبعث أبطالا إن لم يكن كلا القطبين مهيأ لإنجاح ذلك الحوار.. وهكذا فإن أية دراسة عن حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وبعده، سوف لن تتوغل في فهم هذه الحياة، توغلا كافيا، إن لم تضع في حسبانها هذين الطرفين، وتتمعن فيهما عن كثب بقدر ما تسعفها الوقائع والأحداث. فأما ما يتعلق بالجانب الذاتي لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فيبدو أن الظروف (البيئية) و (الوراثية) التي تسهم معا في تكوين الإنسان وتمنحه صفاته الخلقية والخلقية، وتصوغ بنيانه الجسدي والنفسي، وتحدد قدراته العقلية واستجاباته العاطفية قد اجتمعت لكي تجعل من محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان المهيّأ لتحمل المسؤولية التي أنيطت به بعد أربعين سنة من ميلاده.. أربعة عقود في حياة الإنسان المحدودة، تمثل امتدادا زمنيا طويلا أريد به أن يستكمل محمد الإنسان كل مساحات تكوينه الذاتي ونضجه البشري قبل أن يتاح له أول لقاء مع الوحي الأمين، وما أصعب اللقاء الأول بين ممثلي السماء والأرض، وما أشق الحوار!! طيلة هذه العقود الأربعة ومحمد صلى الله عليه وسلم يأخذ ويتلقى ويجابه ويهضم ويتمثل شتى المؤثرات الوراثية والبيئية لكي يحولها إلى خلايا تبني كيانه وسمات مادية وروحية تهيئة لليوم العظيم. فعن (أصالة) أبيه وأمه أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في دمه وأعصابه أصالة الشخصية ووضوحها ونقائها، وكسب على المستوى الاجتماعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 احتراما وتقديرا في بيئة كانت تستهجن مجهولي الأنساب وتحتقر الخلطاء. ومن مرارة اليتم ووحشة العزلة وانقطاع معين العطف والحنان، قبس الرسول صلى الله عليه وسلم الصلابة والاستقلال والقدرة على التحمل، والإرادة النافذة، والتحدي الذي لا تنكسر له قناة. وبالفقر والحرمان تربى ونما بعيدا عن ترف الغنى وميوعة الدلال واتكالية الواجدين. وعبر رحلته الأولى إلى الشام في رعاية عمه، فتح محمد صلى الله عليه وسلم عينيه ووعيه تجاه العالم الذي يتجاوز حدود الصحراء وسكونها إلى حيث المجتمعات المدنية التي تضطرب نشاطا وقلقا، والجماعات العربية التي فصلتها عن شقيقاتها في الصحراء الأم، سلطات أجنبية أحكمت قبضتها على الأعناق، وساقت الشيوخ والأمراء العرب إلى ما تريد هي وتهوى لا ما يريدون ويهوون. وفي رحلته الثانية إلى الشام، مسؤولا عن تجارة السيدة خديجة، تعلم الرسول الكثير الكثير، عمّق في حسّه معطيات الرحلة الأولى وزاد عليها إدراكا أكثر لما يحدث في أطراف عالمه العربي من علاقات بين الغالب والمغلوب، والسيّد والمسود، وإفادة أغنى من كل ما يتعلمه الذين يرحلون من مكان إلى مكان فيتعلمون من رحيلهم طبائع الجماعات والشعوب، وكنه العلاقات بينها واختلاف البيئات والأوضاع.. ويزدادون مرونة وقدرة على التعامل المنفتح الذي لا ينقطع له خيط مع شتى الطبائع، وفهما لما يتطلبه الإنسان في عصر من العصور بعد اطلاع مباشر على عينات من هذا الإنسان في سعادته وهنائه، أو في تعاسته وشقائه.. وفوق هذا وذاك فقد أتيح للرسول في رحلته هذه تنمية وامتحان قدراته الخاصة التي تعلمها أيام الرعي صبيا، وها هو الآن (يدير) تجارة لسيدة تملك الكثير، فيعرف كيف يحيل القليل كثيرا، ويصمد إزاء إغراء الذهب والفضة أمينا لا تلحق أمانته ذرة من غبار.. قديرا على الارتفاع فوق مستويات الإغراء إلى آخر لحظة. ثم يجيء إسهامه في القضايا الكبرى التي عاشتها مكة آنذاك، متنوعا شاملا مغطيا شتى مساحات العمل البشري الجماعي، وكأنه أريد له أن يجرب كل شيء، أن يسهم عاملا في كل اتجاه، وأن يا بني عبر نشاطاته المتنوعة جميعا شخصية قادرة على التصدي لكل مشكلة، والإسهام الإيجابي الفعال في كل ما من شأنه أن يعيد حقا أو يقيم عدلا.. في حرب الفجار مارس الرسول صلى الله عليه وسلم شؤون القتال، وفي حلف الفضول شارك في تجربة السياسة والحكم، وفي بناء الكعبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أعرب عن بداهته المثيرة للإعجاب في حل المشاكل التي تلعب فيها المعتقدات والقيم والمقدسات دورا كبيرا.. وخلال هذا وذاك يتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم فيمارس في أعقاب زواجه ذاك، كبرى التجارب الاجتماعية في حياة الإنسان، وينجح في التجربة، ومن وراء نجاحه ذاك تقف السيدة البرّة التي وضعها الله في طريق رسوله لكي تكون سنده النفسي واليقيني الأول في السنين الصعبة الطويلة التي تطيش معها ألباب الثائرين الذين بعثوا لتغيير العالم والانقلاب على الأوضاع والمألوفات. هكذا تبدو حياة رسولنا الكريم قبل مبعثه، سلسلة مترابطة الحلقات، منطقية التعاقب من التجارب والخبرات في شتى المساحات: عائلية ونفسية واقتصادية وحركية وحربية وسياسية ودينية واجتماعية. أما البعد الأخلاقي في حياة الرسول المديدة هذه فيتمثل واضحا نقيا في انسلاخه الحاسم عن كل ممارسات الجاهليين اللاأخلاقية التي كانت تعج بها الحياة العربية في المدينة والصحراء: شربا للخمر واستمراء للزنى ولعبا للميسر وتصعيدا للربا وتهافتا على مال اليتيم ووأدا للبنات وظلما للذين لا يقدرون على ردّ الظلم، واستعبادا محزنا للذين لا يعرفون طعم الحرية.. ممارسات شتى لا يحصيها العدّ، كانت تجري على مسرح الجزيرة العربية، وممثلتها مكة، ليل نهار.. ويغدو من تعاقبها وتكرارها أن تصبح إلفا وعادة، ثم تتجاوز هذا لكي ما تلبث أن تصبح مفاخر ومكرمات يتبارى العرب في الإتيان بالمزيد المزيد منها.. ومحمد صلى الله عليه وسلم بعيد عن هذا كله، منسلخ منه.. ولقد منحه موقفه النبيل هذا نظافة وطهرا لم يعرفهما إنسان قط، وعلمه في الوقت نفسه كيف يكون الرفض والتمرد على الوضع الدنيء، الوضع اللا إنساني مهما حمّل هذا الوضع من تبريرات انتقلت به من كونه إثما وفسقا وفجورا إلى مرتبة الإلف والعادة، ثم إلى مصاف القيم والمفاخر والمعتقدات. ولم يبق- ثمة- إلا البعد الروحي- الفكري، وهو أشد الأبعاد ثقلا وخطرا في حياة الإنسان. والروايات القليلة التي تحدثنا عن عزلة الرسول صلى الله عليه وسلم بعيدا عن صخب مكة وضجيجها، حينا بعد حين، وعن انقطاعه إلى الصحراء وحيدا، متأملا، باحثا، منقبا، مقلبا وجهه في أمداء السماوات والأرض.. هذه الروايات تكفي لالتقاط الإشارة الأخيرة الحاسمة المتممة للصورة التي علينا أن نعرفها عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فكما علمه الانشقاق الأخلاقي عن الوضع المكي القدرة على الرفض والتمرد، فقد جاء تغرّبه وعزلته وانقطاعه إمدادا نفسيا باتجاه آخر، لكنه متمم، وبدونه لا يمكن لإنسان ما أن يلعب دوره الحاسم الكبير.. إنه إمداد باتجاه الاندماج والاتصال، بمواجهة رفض الجاهلية والتمرد على قياداتها وأعرافها وسلطاتها.. اندماج بالكون على انفساحه.. بالعالم الجديد الذي جاء لكي ينقل البشرية إليه، بالنواميس التي سيبعث عما قريب كي يجعل الإنسان في كل مكان وزمان يعود إليها وينسجم في مساراتها المعجزة، مغادرا مواضعه المنحرفة الخاطئة التي ساقته إليها زعامات جائرة، وسلطات مستبدة وألوهيات زائفة، وأعراف وبيئات مليئة بالدنس والوحل والخطيئة، واتصال- عبر البحث والقلق والتقلب الطويل- بالسلطة الواحدة التي تشرف على الكون وتحرك الإنسان والخلائق في ساحاته الكبرى وفق خرائط غاية في الدقة والإتقان.. اتصال بالمصدر الوحيد للحيوان والأشياء، بالإرادة التي تنبثق عنها سائر الإرادات وتؤول إليها.. بالله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.. كان محمد صلى الله عليه وسلم إذن يستكمل- دون أن يدري- بناءه النفسي واستعداداته التجريبية وخبراته التي بنتها السنون الطويلة والأعمال التي غطت كل المساحات.. كان يضع- بمشيئة الله- اللمسة الأخيرة الحاسمة، للإنسان الذي سيغدو نبيا عما قريب.. إن عزلة رسولنا وانقطاعه، واتساع مساحات هذه العزلة والانقطاع، عكسا إزاء طغيان الجاهلية، وطردا تجاه يوم الوحي، كانت بمثابة الإرهاص الأكبر والأخطر والأخير، في الوقت نفسه، إلى أن موعد القطاف قد حان، وأن هذه الشخصية التي ربتها عناية الله في مدى أربعين سنة، قد غدت على استعداد تام للتلقي، والاتصال المباشر بمبعوث الله في آخر حلقة من حلقات تعاليم السماوات للأرض!! وإزاء هذا الهكيل المرئي من حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، يقف عدد من الإشارات والأحداث، ملفتا الأنظار في ذلك الحين، وفي كل حين، إلى أن هذا الإنسان من بين كل الناس، قد اختير لأداء دور ما، لإنجاز عمل أو الانقلاب على وضع.. وأن هنالك عناية تفوق كل العنايات واهتماما يتعدى كل الاهتمامات تجاه هذا الإنسان بالذات تمهد له الطريق، وتسهم إسهاما غيبيا يندّ عن التحليل والتعليل في تكوينه النفسي الذي سيمكنه من أن يكون نبيا عما قريب.. وأن هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الأحداث الموثوقة التي انتزعناها من بين حشد من الأحداث والروايات الضعيفة والمكذوبة، لهي، فضلا عن كونها أسلوبا من أساليب العناية الإلهية في تربية الأنبياء والشهداء والقديسين، أشبه بالرموز المكثفة والدلالات العميقة على أبعاد الدور الذي سيلعبه هذا الإنسان. إن تدفق الخير على مضارب القبيلة التي احتضنت محمدا طفلا، بعد أيام العسر والمجاعة والجفاف، توحي- فيما توحي- إلى أن مجاعة العالم كله، وجفاف الروح الإنسانية جميعا وعسر الحضارة البشرية في تمخضها الدائم، تنتظر من يعيد توجيهها وصياغتها من جديد فيحيل الجوع شبعا وريا، وجفاف الروح امتلاء وانطلاقا، وعسر الحركة الحضارية تدفقا وإبداعا.. وأن هذا الطفل الذي تفجرت بميلاده ينابيع الخير سيكون هذا الرجل.. وأنه قد آن الأوان ... وهذه الحادثة ستقال مرارا وتكرارا بعد أن يكبر الطفل ويفتح وعيه على الحياة، وستلعب دورها ولا ريب في صياغته النفسية وفي لفت الأنظار إلى تفرده وتميزه، والتمهيد لقبول الدور (الخاص) الذي سيلعبه بعد عدة عقود من السنين. ومن أجل مزيد من لفت النظر والتمهيد تجيء إشارات عدد من اليهود والنصارى إلى أن ظهور النبي الموعود قد حان وأن العصر الراهن بإرهاصاته إنما هو عصر النبوة الجديدة وهي إشارات الأديان السابقة جميعا، وإقرارها بصدق رسالة النبي الأخير التي أكدتها عهودهم القديمة والحديثة على السواء، ومن ثم تلعب دورها- هي الآخرى- في عملية لفت النظر والتمهيد للنبوة الجديدة كي لا تجيء فجأة دونما سوابق من إشارات وأحداث ذات دلالة وإرهاصات، وسواء على المستوى العربي الجاهلي أم على المستوى الديني اليهودي- النصراني، فإن هذه الإشارات قد جاءت وليس ثمة معذر لكل من يقول إن رسالة الرسول تنزلت مفاجأة دون مقدمات ولا تمهيد. وأما حادثة شق الصدر، فهي ولا ريب مما يندّ عن مواضعات علمنا البشري في ميداني النفس والتشريح، لأنها- كأية تجربة أو حدث روحي- لا تخضع لمقاييس العقل والحسّ المحدودة، وكيف يخضع الكليّ المطلق للمقيد المحدود؟! يكفينا أن نلتقط منها رمزا أو دلالة تغطي مساحة ما في صورة الأربعين سنة من حياة محمد. يقول محمد الغزالي «لو كان الشر إفراز غدة في الجسم ينحسم بانحسامها، ولو كان الخير مادة يزود بها القلب كما تزود الطائرة بالوقود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فتستطيع السمو والتحليق، لقلنا: إن ظواهر هذه الآثار مقصودة، ولكن أمر الخير والشر أبعد من ذلك، بل من البديهي أنه بالناحية الروحية في الإنسان ألصق. وإذا اتصل الأمر بالحدود التي يعمل الروح في نطاقها، أو بتعبير آخر، عندما ينتهي البحث إلى ضرورة استكشاف الوسائل التي يسير بها الروح هذا الغلاف المنسوج من اللحم والدم، يصبح البحث لا جدوى منه، لأنه فوق الطاقة. وشيء واحد هو الذي نستطيع استنتاجه من هذه الآثار، أن بشرا ممتازا كمحمد صلى الله عليه وسلم لا تدعه العناية عرضا للوساوس الصغيرة التي تتناوش غيره من سائر الناس. فإذا كانت هناك (موجات) تملأ الآفاق، وكانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها والتأثر بها، فقلوب النبيين- بتولي الله لها- لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة ولا تهتز لها، وبذلك يكون جهد المرسلين في متابعة الترقي لا في مقاومة التدني، وفي تطهير العامة من المنكر لا في التطهر منه، فقد عافاهم الله من لوثاته» «1» . وهذا يكفي.. فما دمنا بصدد تحليل المؤثرات البيئية والوراثية والغيبية في تكوين الرسول صلى الله عليه وسلم وتهيئته للرسالة، فإن حادثة شق الصدر تقف في القمة من المؤثرات جميعا، صياغة روحية- مادية لشخصية النبي الإنسان، وتهيئة من لدن العليم بمنسربات النفوس، الخبير بتعقيدات الشخصية البشرية.. لكي يكون هذا الرجل بالذات، ووفق تكوينه الموجّه هذا، قادرا على التقاط إشارة السماء ومقابلة الوحي، وتحمل المسؤولية، نبيا إلى الناس جميعا، صعدا بهم إلى القمم الشامخة التي تنقطع دونها أنفاس الرجال!! وعلى قدر ما تشح الروايات والأحاديث عن حياة الرسول الإنسان قبل مبعثه.. على قدر ما تزيد وتتسع لكي تمنحنا ما فيه الكفاية عن العالم الذي ولد فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أمر معروف أيضا.. إن المدى يتسع هنا لكي يحتوي في دوائره الممتدة شيئا فشيئا، عشائر وقبائل وشعوبا وأمما كانت قد مهدت بممارساتها وتوقعاتها في الوقت نفسه الطريق إلى المولد الجديد.. بالأحرى إن تاريخ العالم كله، في فترة قد تتجاوز الأربعة أو الخمسة قرون، بعد استنفاد النصرانية دورها ومهمتها، هي الساحة التي تهم الباحثين في مجال كهذا، وما أكثر   (1) فقه السيرة ص 64- 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الروايات والأحاديث والأبحاث عن هذه المساحات الواسعة زمانا ومكانا!! مما لا يتسع بحث خاص بالسيرة لمجرد الإشارة إليه «1» . ومن ثم فإن كل ما يمكن أن يقال، إيجازا وتركيزا لهذا المدى الواسع، هو أن العالم كان قد فسد في القرن الذي ولد فيه الرسول، والإنسان- ثانية- كان قد ضاع.. الإنسان فردا والإنسان في جماعة.. حيثما التفتنا، أنى قلبنا وجوهنا في جهات العالم الأربع فلن نعثر إلا على الفساد والضياع. وابتداء بأعمق أعاميق النفس البشرية وانتهاء بالعالم في مداه الشامل، مرورا بالتجارب والممارسات الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لا نجد إلّا السوس ينخر في البنيان، والعفن ينسرب عميقا في ضمائر الأشياء والتجارب والممارسات، لكي ما يلبث السوس والعفن أن يفسدا كل شيء ويدنسا كل حياة. هكذا.. في كل ميدان، وفي أي اتجاه، لا نعثر إلا على الفساد والضياع.. إن العالم الذي بعث فيه محمد عالم في أمسّ الحاجة إلى منقذ، وهو يفسّر بوضعه الراهن ذاك لماذا جاء الرسول في ذلك العصر بالذات.. إن القرآن الكريم، تحدث فيما بعد، عن أبعاد الأزمة البشرية عندما قال: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «2» !! لقد جاءت هذه الآية بمثابة إنذار وبشارة في الوقت نفسه، إنذارا إلى أن هذا العفن الذي يغمر العالم إنما هو صنع أبائه أنفسهم، وأنهم يغرقون الآن إلى أذقانهم بما صنعوا!! وبشارة لكل الذين انشقوا على دنس العصر واستعلوا على عفنه وفساده، وآلوا على أنفسهم أن يتحملوا المسؤولية، وأن يسيروا وراء رسولهم بعيدا عن الحفرة التي كان العالم يختنق فيها، من أجل أن (يخرجوا) بالناس، من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله، وتلك هي قمة الحرية التي بعث الرسول لكي يمنحها للإنسان، وغاية الدور الكبير الذي يفسّر مبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم.   (1) انظر على سبيل المثال شهادات بتلر في (فتح العرب لمصر) وغوستاف لوبون في (حضارة العرب) وتاريخ العالم للمؤرخين وجيبون في (الأمبراطورية الرومانية) وهـ. ج. ولمز في (مختصر تاريخ العالم) ومكاريوس في (تاريخ إيران) وكرستنسن في (إيران في عهد الساسانيين) . وانظر بالتفصيل الفصول الأولى من كتاب الندوي (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) ومقال المؤلف (ملاحظات في الميلاد) : مجلة الوعي الإسلامي، السنة الثامنة. (2) سورة الروم: آية 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 إن مهمة أي دين سماوي شامل هي أن ينقل البشرية من وضع معين إلى وضع أرقى منه وفقا للمهمة التي أنيطت بالإنسان عندما استخلفه الله على الأرض واستعمره فيها ... وعندما انتصف القرن السادس للميلاد كانت جميع الأديان والمذاهب قد عجزت تماما، بما عانت من تمزقات وما استضافته من أجسام وقيم خاطئة غريبة، عن أداء دورها المنشود ... وما كان لها، من ثم، إلا أن تفسح الطريق للقادم الجديد كي يأخذ على عاتقه مهمة القيادة في عملية الإعمار والتحضّر، ولقد كان محمد هذا القادم.. وبعد أربعين سنة من ميلاده تلقى رسالة الإسلام إلى العالم كله فأشار إلى الطريق الواحد لكل من يريد أن يحيا كإنسان استخلفه الله في الأرض وكرّمه على العالمين.. وإلا فإن هنالك ألف طريق!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الفصل الثاني الدعوة في عصرها المكي [1] أخذت خلوات الرسول صلى الله عليه وسلم وانعزاله عن مجرى الحياة المكية الصاحب تزداد وتتسع وهو يقترب من الأربعين حيث أعده الله سبحانه لأول لقاء مع وحيه الأمين من أجل تكليفه مسؤولية النبوة وإخراج الناس- بها- من ظلمات الجاهلية ودنسها إلى نور الإسلام ونقائه. فكان يغادر مكة بين الحين والحين، مجتازا أسوارها الجبلية، منقلا خطواته الثابتة الواسعة عبر رمال الصحراء المترامية حتى تحجب عنه البيوت والأسواق ويغيبه الأفق وتستقبله شعاب مكة وبطون أوديتها ثم يلج بعيدا إلى جبل النور حيث ينتهي به المطاف إلى غار هناك يدعى (غار حراء) ، فيمكث فيه الأيام والأسابيع الطوال لا يعود إلى مكة إلا ريثما يتزود بالطعام والماء ثم يقفل عائدا إلى المكان الذي سيبعث فيه إلى العالم كله. وتذكر الروايات أنه كان يجاور في حراء من كل سنة شهرا فإذا قضى شهره ذاك انصرف إلى الكعبة فطاف بها سبعا ثم عاد إلى بيته «1» . استغرق محمد صلى الله عليه وسلم في تفكير عميق مركز، كان يشغله أمدا طويلا، تفكير في حالة قومه وفي أوضاعهم وفي تقربهم من الأوثان، وفي الكون والحياة ومصير الإنسان، والموت وما بعد الموت، وفيما شاكل ذلك من أمور تطوف برأس المفكر المتبصر في هذه الحياة فتصرفه إلى النظر فيها وتبعده عن التفكير في التماس الملذات التي يقع في غرامها الإنسان في هذه السن على المعتاد. كان   (1) ابن هشام ص 45- 46 الطبري: تاريخ 2 / 300، ابن سعد 1/ 1/ 129، البلاذري: أنساب 1/ 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الرسول حائرا مفكرا يريد الوصول إلى شيء مقنع له مطمئن يحل له كل هذه الأسئلة والألغاز التي كانت قد تراكمت في فكره وتوالت عليه.. وتقول الأخبار إنه كان منذ صغره يحب الخلوة والانزواء.. حتى بانت عليه، إذ لم يظهر عليه ميل إلى عبث ولهو ولعب وغير ذلك مما يلهي من في سنه ويجعله يمضي وقته بها حتى يبلغ رشده. فعرف بين أهل مكة بالهدوء وبعدم الميل إلى المعاكسة.. كما عرف بالجد وبكراهيته العدوان وإهانة الناس والاستخفاف بهم ليتم وفقر وإملاق، كل ذلك حبه لأهل مكة ولقومه مما جعلهم ينظرون إليه نظرة تختلف عن نظرتهم إلى الآخرين من الشبان والرجال الطائشين النزقين «1» . وراحت ملامح الطريق إلى النبوة تزداد ايحاء ووضوحا وتقترب بمحمد يوما بعد يوم من نداء الله. وتحدثنا عائشة (رضي الله عنها) أن أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح، وحبب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده «2» . وفي رمضان من السنة الأربعين من عمره خرج محمد صلى الله عليه وسلم كعادته إلى غار حراء متأملا متفكرا مقلبا وجهه في السموات، وفي ليلة اثنين من الليالي الأخيرة من الشهر نفسه جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. ولنستمع إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم نفسه وهو يحدثنا عن تجربة لقائه الأول الحاسم مع مبعوث الله إلى أنبيائه الكرام: «فجائني جبريل وأنا نائم بخط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارىء. فغتني به «3» حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارىء. فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ماذا أقرأ؟ فغتني به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ماذا أقرأ؟ فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «4» فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت   (1) جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام، ص 144- 145. (2) ابن هشام ص 45، الطبري 2/ 298، ابن سعد 1/ 1/ 129، البلاذري: أنساب 1/ 105 البخاري: تجريد 1/ 5. (3) غتني: عصرني عصرا شديدا (عن تهذيب سيرة ابن هشام) . (4) سورة العلق: الآيات 1- 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل!! فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك. فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك. ثم انصرف عني. وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها «1» فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا أعلى مكة ورجعوا إليّ. ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يا ابن عم واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة!!» «2» . وعن جابر قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت في حراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنودي، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فلم أر شيئا. فنظرت فإذا أنا به- يعني الملك- بين السماء والأرض، فانطلقت إلى خديجة فقلت: دثروني. فدثروني وصبوا علي ماء فأنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ «3» ..» «4» . وقد رأى بعض الصحابة- فيما سيتلو من أيام- رسولهم صلى الله عليه وسلم وقد ظهرت وبدت عليه علائم نزول الوحي، ورأوه وقد نزل عليه الوحي واشتد به، وقد أجمعوا كلهم على أنه كان يعاني في أثنائه شدة وصعوبة، يبقى على ذلك ما شاء الله، فلا يهدأ ولا يذهب عنه الروع إلا بعد انتهاء الوحي، فيجلس عندئذ وقد تصبب عرقا، يجلس ليرتاح ويجفف عرقه، ثم يتلو على من عنده من أصحابه ما وعاه وما حفظه من الوحي. فإذا قصم عنه كان قد وعى كل ما قاله الملك له وحفظه لا يذهب عنه حرف. وقد ورد في سورة طه (المكية) ما يفيد أن   (1) مضيفا إليها: ملتصقا بها (عن تهذيب سيرة ابن هشام) . (2) ابن هشام ص 46- 47، الطبري: تاريخ 2/ 298- 302، وانظر البلاذري: أنساب 1/ 108- 110، البخاري: تجريد 1/ 5، المقدسي 4/ 140- 142. وفي عدد من الروايات إنها قالت له «ابشر فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقوي الضعيف وتعين على نوائب الحق» . (3) سورة المدثر: الآيتان 1- 2. (4) البخاري: تجريد 1/ 6، البلاذري: أنساب 1/ 109- 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه وذلك في الآية: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «1» فحثّ على التثبيت في السماع وعلى ترك الاستعجال في تلقيه وتلقنه. وقد ورد في موضع آخر من القرآن الكريم: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «2» . انطلقت خديجة (رضي الله عنها) إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي كان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ورقة: «قدّوس، قدّوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر «3» الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت» . فرجعت خديجة وأخبرت محمدا بما قاله ورقة، فذهب بنفسه إليه وطلب ورقة منه أن يعيد حديثه، فلما أتمه صلى الله عليه وسلم قال ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذّبن ولتؤذين ولتخرجن ولتقاتلن! ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصرا يعلمه. ثم أدنى رأسه منه فقبّل يافوخه. ثم عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى منزله «4» . كانت خديجة (رضي الله عنها) أول المؤمنين بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان لإيمانها ذاك أثر عميق في معنوية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يجابه بالتوحيد شرك العرب جميعا، فكان كلما سمع من معارضيه ردا أو تكذيبا، شكى ما يلقى لزوجته البرّة فتثبته وتخفف عنه وتهوّن عليه أمر الناس. وكان علي (رضي الله عنه) أول من آمن من الذكور، ولم يتجاوز- بعد- العاشرة من عمره، حيث كان الرسول قد أخذه ليعيله في داره تخفيفا عن أبي طالب الذي لم يكن يملك ما يكفيه وأبناءه جميعا. وكان زيد بن حارثة ثالث من أسلموا، وكان هو الآخر يقطن مع الرسول   (1) سورة طه: الآية 114. (2) القيامة: 16- 19، وما بعدها عن جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام ص 134- 135، وانظر عن صور نزول الوحي ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 21- 22. وعن مفهوم الوحي ومداه وكيفية بدء اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم ووقت نزول القرآن وأوائل آياته وأثر الوحي لأول عهده في نفس النبي انظر: دروزة: سيرة الرسول، 1/ 121- 146 و Encyclopeadia of Islam مادتي Rasul و Nabi والفصل السادس من كتاب Tor Andrea: ومقال Bell في مجلة العالم الإسلامي) The Muslim World (عدد 24، سنة 1934. (3) الناموس الأكبر: الملك الذي جاءه بالوحي. وأصل الناموس صاحب سر الرجل (عن تهذيب ابن هشام) . (4) ابن هشام ص 48، الطبري 2/ 299- 302، ابن سعد 1/ 1/ 129- 130 وانظر البلاذري: أنساب: 1/ 111 والبخاري: تجريد 1/ 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 صلى الله عليه وسلم في بيته، حيث كانت خديجة قد اختارته من بين عدد من العبيد الغلمان الذين استقدمهم أحد التجار من الشام فرآه الرسول فاستوهبه منها فوهبته له فأعتقه وتبناه قبل مبعثه. أما رابع المسلمين وأول الرجال فهو أبو بكر عتيق بن أبي قحافة الذي ما إن أسلم حتى راح يدعو إلى الله من يثق به محمد، ويتردد عليه ويجلس إليه. وبجهوده ودأبه ومقدرته على الإقناع أسلم قادة الدعوة ورواد الحركة الإسلامية الأولى: عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقاص، طلحة بن عبيد الله، وأعقب هؤلاء النفر التسعة مجموعة أخرى من المسلمين الأوائل وهم: أبو عبيدة بن الجراح، أبو سلمة بن عبد الأسد، الأرقم ابن أبي الأرقم، الذي اتخذ الرسول من داره الواقعة على الصفا مخبأ سريا للحركة الإسلامية، عثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله، عبيدة بن الحارث، سعيد ابن زيد بن عمرو وامرأته فاطمة أخت عمر بن الخطاب، أسماء وعائشة ابنتا أبي بكر، خباب بن الأرت، عمير بن أبي وقاص، عبد الله بن مسعود، مسعود بن القارىء، سليط بن عمرو، عياش بن أبي ربيعة وامرأته أسماء بنت سلامة، خنيس ابن حذافة، عامر بن ربيعة، عبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد، جعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عميس، حاطب بن الحارث وامرأته فاطمة بنت المجلل وأخوه حطاب وامرأته فكيهة بنت يسار، معمر بن الحارث، السائب بن عثمان بن مظعون، المطلب بن أزهر وامرأته رملة بنت أبي العوف، نعيم بن عبد الله، عامر ابن فهيرة، خالد بن سعيد بن العاص وامرأته أمينة بنت خلف، حاطب بن عمرو، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، واقد بن عبد الله، خالد وعامر وعاقل وأياس بنو البكير بن عبد ياليل، عمار بن ياسر وأبوه وأمه، صهيب بن سنان الرومي «1» . ويلاحظ أن أول من أسلم كان من أحداث الرجال أو من لدات الرسول صلى الله عليه وسلم أو ممن لا يكبره في السن كثيرا، أما الشيوخ المسنون فلم يستجيبوا لدعوته استكبارا وأنفة، فللسن عند العرب منزلة.. والعرف أعمق جذورا في نفوس المسنين. وكان من العار على المسن تغيير ما هو عليه وما ورثه عن آبائه وأجداده «2» ولم يكن عدد المسلمين قد جاوز الأربعين شخصا في هذه الفترة، هم   (1) ابن هشام ص 49- 54، الطبري: تاريخ 2/ 306- 307، 309- 318، البلاذري: أنساب 1/ 112- 113، المسعودي: مروج 2/ 276- 278، اليعقوبي 2/ 18- 19، المقدسي 4/ 143- 146، ابن الأثير: الكامل 2/ 57- 60 ابن كثير: البداية 3/ 24- 33. (2) جواد علي: تاريخ ص 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 كل من أسلموا خلال هذه المدة: ثلاث أو أربع سنين، وكل ذخيرة الإسلام وعدته للمستقبل. وهي مدة طويلة كان من الممكن إسلام أضعاف أضعاف هذا العدد لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بالدعوة فيها جهارا، ولكنه لم يكن يومئذ قد كلّف وجوب الجهر بالإسلام وبالتبليغ إلا لمن وجد في قلبه ميلا للإسلام، ولهذا لم يتجاوز المسلمون يومئذ العدد المذكور القليل بالنسبة لسكان مكة- الذين كانوا عدة آلاف- والكثير في اتحاده وإيمانه وقوة عقيدته وتضحيته في سبيلها «1» . وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه بالتزام الحيطة والحذر والتخفي وعدم الإعلان عن الإسلام إلى أن يقضي الله أمره. فكانوا إذا أرادوا الصلاة خرجوا فرادى إلى الشعاب والبرية يصلون على حذر ولهم عيون ترى القادم لتنبيه المصلين عليه فلا يؤخذوا على غرة، ويظهر أمرهم للناس، وقد بقوا على ذلك طوال مدة الاستخفاء «2» . ويحدثنا ابن هشام كيف أن سعد بن أبي وقاص خرج يوما في نفر من المسلمين الأوائل إلى شعب من شعاب مكة، فإذا بجماعة من المشركين يظهرون عليهم، وهم يصلون فاستنكروا عملهم وعابوا عليهم ما يصنعون، وما لبث الطرفان أن دخلا في شجار عنيف واضطر سعد- يومئذ- أن يجرح رجلا من المشركين، فكان كما يقول ابن هشام «أول دم أهرق في الإسلام» «3» وكان سعيد ابن زيد يقول: استخفينا بالإسلام سنة، ما نصلي إلا في بيت مغلق أو شعب خال ينظر بعضنا لبعض «4» . وفي رواية للبلاذري أن النبي وأصحابه كانوا إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فصلوا، فرادى ومثنى، فبينما رجلان من المسلمين يصليان في إحدى شعاب مكة إذ هجم عليهما رجلان من المشركين «كانا فاحشين» فناقشوهما ورموهما بالحجارة، ساعة، حتى خرجا فانصرفا «5» . هذان الحادثان من الاعتداء على المسلمين خلال صلاتهم في الشعاب، وأمثالهما وإن بدوا وكأنهما عبث من عبث الصبيان، لكنهما تركا أثرا في نفوس جهال مكة، وحمل الرسول على نصح المسلمين بالتخفي والتزام البيوت مدة من الزمن حتى تستقر الأحوال وتهدأ الأعصاب ودخل هو وجماعة من أصحابه بيت الأرقم بن أبي الأرقم وبقي فيه مختفيا مع جماعته لا يخرج إلى أن أذن الله له   (1) جواد علي: تاريخ ص 158. (2) المرجع السابق ص 159. (3) تهذيب ص 54- 55، الطبري: تاريخ 2/ 318، البلاذري: أنساب 1/ 116. (4) أنساب: 1/ 116. (5) المصدر السابق: 1/ 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 بالخروج. وكان بعض المسلمين الذين بقوا خارج البيت يراجعون دار الأرقم لتلقي أوامر النبي وتنفيذ ما يحتاج إليه. وفي هذه الدار أيضا أسلم بعض المسلمين ... وليس في كتب الأخبار والسير والتواريخ تاريخ مضبوط للوقت الذي استخفى فيه الرسول والمسلمون في دار الأرقم. فالروايات في ذلك مضطربة، ولكن المرجح على ما يبدو من غربلتها أنه كان في أواخر السنة الثالثة من النبوة أو في السنة الرابعة أي في أواخر عهد الكتمان.. والروايات متضاربة في مدة الاستخفاء في دار الأرقم فهناك من يجعل مدتها شهرا فقط «1» ثم إنها متضاربة كذلك في كيفية الاستخفاء هل كان استخفاء تاما من الناس في تلك الدار فلا يخرج منها أحد؟ أو كان استخفاء في أوقات قصيرة من النهار وذلك في أوقات اجتماعهم بالنبي مثلا لأجل الصلاة وتوضيح الإسلام والتبشير به من الله وقبول أحد فيه «2» ؟ ويؤكد أرنولد أن شدة معارضة قريش (ربما) كانت السبب الذي من أجله اتخذ محمد صلى الله عليه وسلم مقره في السنة الرابعة من البعثة في دار الأرقم.. وكانت هذه الدار في مركز متوسط يؤمها الحجيج والغرباء. وقد استطاع الرسول أن يواصل فيها نشر مبادىء الإسلام بين الذين كانوا يقصدونه في هدوء وطمأنينة. وتعد الفترة التي قضاها محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الدار فترة هامة في الدعاية الإسلامية بمكة حتى أن كثيرا من المسلمين يؤرخون دخولهم في الإسلام بتلك الأيام التي كان الرسول يبث فيها الدعوة بدار الأرقم «3» . إلا أن سرية الدعوة في هذا العهد وتواصي المسلمين بالحذر والحيطة وتلافي الاصطدام المباشر مع المشركين، لا يعني أن المجابهة العقيدية بين الدين الجديد والشرك كانت صامتة، بل إننا نجدها على أعنف ما تكون في القرآن الكريم نفسه وفي آياته الأولى. ففي سورة العلق حملة عنيفة على أحد زعماء قريش، في وقت لم يكن النبي قد آمن بدعوته- بعد- سوى نفر يعدون على الأصابع، ومن ثم يتبين لنا الموقف العصيب الذي واجهه الرسول صلى الله عليه وسلم والجرأة   (1) السيرة الحلبية: 1/ 319. (2) جواد علي: تاريخ ص 165- 166. (3) الدعوة إلى الإسلام ص 38 وعن دار الأرقم: انظر Encyclopeadia of Islam vol I.p.p. 434 -53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 العظيمة التي واجه بها هذا الموقف بأمر ربه، بما كان يوجهه إلى الزعيم القوي الغني الطاغي: المغيرة بن هشام المخزومي، مما يوحي إليه من آيات فيها الصفعات الداميات والشرر المحرق: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ. كَلَّا لا تُطِعْهُ ... «1» . ثم بما كان من تثبيت القرآن له على دعوته وعبادته وثباته فيهما فعلا، تبين لنا العظمة الخلقية والإيمان العميق والجرأة الشديدة في الحق على كل باغ مهما كان قويا عاتيا. ولقد كان هذا دأبه في كل المواقف التالية لهذا الموقف العصيب سواء كانت في الخطوات الأولى أو ما بعدها، وفي هذا سر من أسرار اصطفائه للرسالة العظمى من دون ريب «2» . [2] وما لبث الوقت أن حان لإعلان الدعوة، وأصدر الله سبحانه أمره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن (يصدع) بما جاءه منه وأن يتجاوز الطور السري للدعوة الذي استغرق ما يزيد على الثلاث سنوات إلى الجهر والعلن تنفيذا لأمر الله فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «3» ولقوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «4» وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ «5» . وقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الدور الجديد للدعوة بأن صعد إلى الصفا ودعا بني المطلب أن يجتمعوا إليه، فاجتمع إليه منهم حوالي الأربعين، فيهم عدد من أعمامه، وبدأ حديثه معهم: يا بني فلان، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقاطعه أبو لهب ساخرا: تبا لك!! ما جمعتنا إلا لهذا. ثم انصرف بنو عبد المطلب في أعقابه «6» . ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ أن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته   (1) سورة العلق: الآيات 15- 19. (2) دروزة: سيرة الرسول 1/ 162. (3) سورة الحجر: الآية 94. (4) سورة الشعراء: الآيتان 214- 215. (5) سورة الحجر: الآية 89. (6) الطبري: تاريخ 2/ 319، البلاذري: أنساب 1/ 119- 121، ابن سعد 1/ 1/ 133، ابن الأثير: الكامل 2/ 60- 63، ابن كثير: 3/ 38- 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد وأن يكون له وقع كبير على بقية القبائل.. على أن هذا لا يعني أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش كخطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية. والواقع أن كثيرا من الآيات المكية كانت تنص على أن القرآن ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «1» الأمر الذي يدل على أن فكرة الدعوة العالمية كانت قائمة منذ هذا الوقت المبكر «2» . ما لبث الرسول صلى الله عليه وسلم أن جوبه بمعارضة شديدة من قومه، وبإجماع منهم على مقاومته وصدّه، سيما بعد الحملات الشديدة التي راح يشنها على آلهتهم وأصنامهم «3» ووقف عمه أبو طالب ينافح عنده ضد قريش، فرأى زعماؤها أن يبعثوا إليه وفدا من أشرافهم علهم يقنعونه بوقف ابن أخيه عن المضي في دعوته، أو- على الأقل- بالتخلي عن إسناده وحمايته. والتقى رجالات الوفد بأبي طالب وقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلّي بيننا وبينه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه «4» . مضى الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه، يظهر دين الله ويدعو إليه، بينما ظل بعض كبار أصحابه كأبي بكر وسعيد بن زيد وعثمان على سريتهم وكتمانهم، زيادة في الحيطة، أما حمزة وأبو عبيدة وعمر- فيما بعد- فقد راحوا يجهرون «5» . واشتد العداء بين محمد والوثنية عمقا، وامتلأت صدور المشركين حقدا عليه وهم يرونه يعلن حربه التي لا هوادة فيها ضد قيمهم وآلهتهم، وراحوا يكثرون الحديث في   (1) سورة يوسف: الآية 104، وانظر: سورة الأنعام: الآية 90، سورة القلم: الآية 52، سورة التكوير: الآية 27. (2) صالح أحمد العلي: محاضرات في تاريخ العرب 1/ 328- 329. وعن الدائرة الواسعة لعشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التي وسعتها علاقات الزواج والمصاهرة انظر بالتفصيل المصدر السابق 1/ 329- 333، وعن أسماء المسلمين في العصر المكي انظر القوائم الدقيقة التي ثبتها العلي في كتابه آنف الذكر ص 381- 390 والملحق الأخير لكتاب مونتكمري وات: محمد في مكة وقوائم كايتاني في كتابه (حوليات الإسلام) وانظر كذلك: وات، المرجع السابق ص 144- 147. (3) انظر البلاذري: أنساب 1/ 115- 116. (4) ابن هشام ص 54- 55، الطبري: تاريخ 2/ 322- 323، اليعقوبي 2/ 19- 20. (5) البلاذري: أنساب 1/ 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أمره، ويتامرون ضده، ويحضّ بعضهم بعضا عليه. ثم ارتأوا أن يقابلوا أبا طالب مرة أخرى وقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك، فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. فبعث أبو طالب إلى ابن أخيه وقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، فابق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق «1» . ظن الرسول صلى الله عليه وسلم أن عمه قد ضعف عن نصرته، وأنه ربما خذله وأسلمه لأعدائه فقال: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه» فما كان جواب عمه إلا أن قال: «اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبدا» «2» . وعندما أدركت قريش إصرار أبي طالب على حماية ابن أخيه، ساروا إليه ثالثة، ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة، وقالوا: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه واتخذه ولدا، فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفّه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل. فأجابهم أبو طالب: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدا «3» . ويورد ابن سعد رواية لا نجدها في المصادر الآخرى، ولا ندري مدى صحتها، تشير إلى محاولة مبكرة من زعماء قريش لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أنهم بعد فشل مفاوضاتهم مع أبي طالب وعجزهم عن إغراء الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: «ما خير من أن يغتال محمد» . فلما كان مساء تلك الليلة، فقد الرسول صلى الله عليه وسلم، فبحث عنه أبو طالب فلم يجده فظن أنه قد أصيب بمكروه، فجمع فتيانا من بني هاشم وبني المطلب وأمر كلا منهم أن يحمل حديدة صارمة لقتال زعماء القوم إذا ثبت قتلهم لمحمد صلى الله عليه وسلم. إلا أن أبا طالب سرعان ما أبلغ أن محمدا يجلس الآن في داره بالصفا بمنأى عن الشر. وفي اليوم التالي صحب أبو طالب ابن أخيه إلى   (1) ابن هشام ص 55- 56، الطبري 2/ 323. (2) ابن هشام ص 65، الطبري: تاريخ 2/ 326، ابن الأثير 2/ 64. (3) ابن هشام ص 56- 57، الطبري 2/ 326- 327، ابن سعد 1/ 1/ 134- 135، ابن الأثير: الكامل: 2/ 64- 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أندية القرشيين ومعه فتيان بني هاشم والمطلب، و؟؟ راح يقول لهم: «يا معشر قريش، هل تدرون ما هممت به؟ قالوا: لا، فأخبرهم الخبر وقال للفتيان: اكشفوا عما في أيديكم، فكشفوا فإذا كل رجل منهم يحمل حديدة صارمة. فقال: والله لو قتلتموه ما بقيت ومنكم أحدا حتى نتفانى نحن وأنتم. فانكسر القوم، وكان أبو جهل أشدهم انكسارا «1» . ولعل هذه الرواية تفسّر لنا لماذا سكت القرشيون في السنين التالية عن وقف خطر انتشار الدعوة بقتل الرسول، واكتفائهم بفتنة ضعاف المسلمين، وأنهم لم يعودوا إلى اعتماد أسلوب الاغتيال إلا بعد أن حزب الأمر، وامتد نشاط الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خارج مكة وبدأ المسلمون هجرتهم صوب يثرب لتأسيس دولتهم هناك. أدركت قريش ألا جدوى من أية محاولة تبذل لاستمالة أبي طالب ووقف حمايته للرسول صلى الله عليه وسلم، فقررت أن تدع أسلوب المفاوضة والحوار إلى العنف والقوة، وأن تعلن حربها ضد الدعوة الجديدة والمنتمين إليها، وأن تدفع كل قبيلة منها إلى أن تنقضّ على المسلمين من أبنائها فتعمل فيهم تعذيبا وتفتنهم عن دينهم، فنفذت القبائل تعليمات الزعامة الوثنية وصبّت على رؤوس المسلمين عذابها ومطارداتها وأذاها، وأغرت سفهاءها بالرسول صلى الله عليه وسلم فكذبوه وأذوه واتهموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون، ومحمد ماض في هجومه على دينهم واعتزال أوثانهم ورفض قيمهم وأعرافهم. وكانوا يجتمعون قريبا من الكعبة حتى إذا طاف بها الرسول صلى الله عليه وسلم غمزوه ببعض القول فكان يرد عليهم «أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح» «2» وعندما كانوا يأخذون بمجامع ردائه ويقولون له أنت الذي تقول كذا وكذا في عيب آلهتنا وديننا، كان يجيبهم بصراحة لا التواء فيها «نعم أنا الذي أقول ذلك» . وسعى أحدهم- مرة- إلى إلحاق الأذى به فلوى ثوبه في عنقه وخنقه خنقا شديدا، فنافح أبو بكر دونه وهو يقول «أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» «3» . وقال أبو جهل، وقد أغاظه ازدياد أتباع النبي يوما بعد يوم: والله لئن رأيت محمدا يصلي، لأطأن رقبته. فبلغه أنه يصلي فأقبل مسرعا فقال: ألم أنهك   (1) الطبقات 1/ 1/ 135. (2) كناية عن الهلاك إن لم يؤمنوا (عن تهذيب سيرة ابن هشام) . (3) ابن هشام ص 57- 60، الطبري: تاريخ 2/ 332- 333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 يا محمد عن الصلاة؟ فانتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب: أتنتهرني وتتهددني وأنا أعز أهل البطحاء؟ «1» . وعندما اقترب موسم الحج خاف زعماء قريش أن يفيد الرسول صلى الله عليه وسلم من فرصة التجمع البشري هذه فيتصل بوفود العرب وقبائلها ويعرض عليها الإسلام فدعا أحد كبارهم وهو الوليد بن المغيرة قومه إلى أن يجتمعوا إليه وأعلمهم أن الموسم قد حضر وأن وفود العرب قادمة إلى مكة، وأن عليهم أن يصدروا في أمر الرسول عن رأي واحد كيلا يختلفوا ويكذب بعضهم بعضا. فقال بعضهم: نقول إنه كاهن، فأجاب الوليد: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. فقال آخرون: نقول مجنون. أجاب: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا وسوسته. قالت فئة ثالثة: نقول شاعر. فأجاب الوليد: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قال بعضهم: فنقول ساحر. أجاب الوليد: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما تقول أنت؟ قال: «والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق «2» وإن فرعه لجناة «3» ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل. وإنّ أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته. وتفرق القوم على هذا الرأي وانتشروا في مداخل مكة ومسالكها حيث تمر الوفود لأداء مناسك الحج، فكلما مرّ بهم وفد حذروه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم واتهموه بالسحر. وجاءت محاولتهم هذه بعكس النتائج التي توقعوها، ذلك أن العرب صدروا ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها، فكأن قريشا سعت- من حيث لم تشعر ولم ترد- إلى نشر الدعوة الناشئة في الآفاق «4» . مضت الدعوة تشق طريقها الصعب في مكة بين قبائل قريش رجالا ونساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين وأسلم حمزة بن عبد المطلب غضبا لابن أخيه من أبي جهل الذي آذاه وشتمه   (1) البلاذري: أنساب 1/ 126. (2) العذق: النخلة (عن تهذيب سيرة ابن هشام) . (3) الجناة: ما يجنى (المصدر السابق) . (4) ابن هشام: ص 57- 58، البلاذري: أنساب 1/ 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ونال منه، ورأت قريش أن تعود- ثانية- حيث لم تجد الفتنة والاضطهاد، إلى أسلوب المفاوضة والإغراء، فاجتمع أشرافها من كل قبيلة: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، أبو سفيان بن حرب، النضر بن الحارث، أبو البختري بن هشام، الأسود بن عبد المطلب، زمعة بن الأسود، الوليد بن المغيرة، أبو جهل بن هشام، عبد الله بن أبي أمية، العاص بن وائل، نبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف اجتمعوا بعد غروب الشمس قريبا من الكعبة وقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتهم. فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا، فقالوا له: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فأجابهم رسول الله: ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم. حينذاك طلب زعماء قريش منه أن يأتيهم بمعجزة ما، أن يوسع عليهم وادي مكة، أو يفجر فيه الأنهار، أو يبعث أحد آبائهم حيا كي يخبرهم عن صدق نبوته، أو يجعل لهم جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، أو يسقط السماء عليهم كسفا، أو يسأل ربه أن يبعث معه ملكا يصدقه بما يقول «فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا فيما تزعم. فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل» . فما كان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن ظلّ يردد عليهم «ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» «1» .   (1) ابن هشام: ص 64- 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وخلال ذلك كان أتباع الدين الجديد يقاسون شتى أنواع العذاب والاضطهاد وكانت كل قبيلة تثب على من فيها من المسلمين، أحرارا وعبيدا، فتحبسهم وتعذبهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي ينصب عليهم ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. وقد روى مجاهد أن المستضعفين من المسلمين ألبسوا دروع الحديد، وصهروا في الشمس حتى بلغ الجهد منهم «1» . كان بلال بن رباح مؤمنا صادق الإيمان، طاهر القلب، وكان سيده أمية بن خلف الجمحي يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد ... فيضع أمية في عنقه حبلا ويأمر الصبيان فيجرونه. وكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب ويصرخ أحد أحد، فيقول أحد أحد والله يا بلال. وظل بلال على هذه الحال إلى أن أعتقه أبو بكر وأعتق معه ست رقاب أخرى من ضعفاء مكة من الرجال والنساء، وعندما قال له أبوه، يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا، لو أنك إذ فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك. أجاب أبو بكر: يا أبت إني إنما أريد الله عزّ وجلّ «2» . يقول عمرو بن العاص: مررت ببلال وهو يعذب في الرمضاء، لو أن بضعة لحم وضعت لنضجت، وهو يقول: أنا كافر باللات والعزى، وأمية بن خلف مغتاظ عليه فيزيده عذابا فيغشى عليه ثم يفيق.. ويقول حسان بن ثابت: اعتمرت، فرأيت بلالا في حبل طويل، تمده الصبيان، ومعه فيه عامر بن فهيرة وهو يقول: أحد أحد، أنا كافر باللات والعزى، فأضجعه أمية على الرمضاء. ويقول مجاهد: جعلوا في عنق بلال حبلا وأمروا صبيانهم أن يشتدوا به بين جبلي مكة، ففعلوا ذلك وهو يقول: أحد أحد.. ويقول عروة: كان بلال من المستضعفين من المؤمنين وكان يضرب حين أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون ... ويقول بلال نفسه: أعطشوني يوما وليلة، ثم أخرجوني فعذبوني في الرمضاء في يوم حار «3» .   (1) البلاذري: أنساب 1/ 158. (2) المصدر السابق 1/ 184- 185، ابن هشام ص 69- 71. (3) البلاذري: أنساب 1/ 185- 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وكان أبو فكيهة المسمى (أفلح) عبدا لصفوان بن أمية، فمر به أبو بكر وقد أخذه أمية بن خلف فربط في رجله حبلا وأمر به فجرّ ثم ألقاه في الرمضاء.. وجعل يغلظ عليه ويخنقه ومعه أخوه أبيّ بن خلف يقول: زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره، ولم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات، ثم أفاق فاشتراه أبو بكر وأعتقه «1» . وكانت زنيرة قد عذبت حتى عميت، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى فعلتا بك ما ترين، فقالت وهي لا تبصره: وما تدري اللات والعزى من يعبدهما ممن لا يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء.. فاشتراها أبو بكر وأعتقها. وكانت النهدية أمة لامرأة من بني عبد الدار وكانت تعذبها وتقول: والله لا أقلعت عنك أو يعتقك بعض من صباتك فابتاعها أبو بكر وأعتقها. وكانت أم عنيس أمة لبني زهرة فكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها فابتاعها أبو بكر وأعتقها «2» . وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم في رمضاء مكة، فيمر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة!! وقتلت أمه وهي تأبى إلا الإسلام فكانت أول شهيدة في الإسلام، ويقال إنها أغلظت لأبي جهل في القول فطعنها في بطنها.. وكان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول «3» .. وجيىء بخباب بن الأرت فجعلوا يلصقون ظهره بالأرض على الرضف حتى ذهب ماء متنه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوما يشكو ما أصابه فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد كان الرجل من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد حتى يخلص إلى ما دون عظمه من لحم وعصب، ويشق بالمناشير، فلا يرده ذلك عن دينه وأنتم تعجلون. والله ليمضين هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله وحده، والذئب على غنمه «4» . ويحدثنا خباب نفسه فيقول: لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما أتيت الأرض إلا بظهري (ثم كشف خباب عن ظهره فإذا هو قد برص) ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يتمنين أحدكم الموت) لتمنيته «5» !!.   (1) البلاذري: أنساب 1/ 194- 195. (2) المصدر السابق 1/ 196. (3) المصدر السابق 1/ 158- 159. (4) المصدر السابق 1/ 176. (5) المصدر السابق 1/ 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وكان صهيب بن سنان الرومي من المؤمنين المستضعفين الذين يعذبون في الله، وكان يمر بقريش يصحبه خباب وعمار، فكانوا يقولون: هؤلاء جلساء محمد ويهزؤون ... فيرد صهيب: نحن جلساء نبي الله، آمنا وكفرتم وصدقناه وكذبتموه، ولا خسيسة مع الإسلام ولا عز مع الشرك. فجعلوا يعذبونه ويضربونه وهم يقولون: أنتم الذين منّ الله عليكم من بيننا «1» ؟ وكان أبو جهل إذا سمع بالرجل قد أسلم، له شرف ومنعة، أنّبه وأخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك. لنسفهن حلمك ولنقبحن رأيك ولنضعن شرفك. وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفا أغرى به «2» . واجتمع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يوما فقالوا: والله ما سمعت قريش بهذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا! قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. فقال: دعوني فإن الله سيمنعني. وانطلق إلى الكعبة، وقريش في أنديتها، وراح يتلو هناك بصوت عال الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ ... «3» فتأمل القرشيون فيه وجعلوا يتسائلون: ما يقول ابن أم عبد؟ أجاب بعضهم إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه وجعلوا يضربون في وجهه وهو ماض في تلاوة السورة، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وآثار اللطمات على وجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك؟ قال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، لئن شئتم لأغادينهم غدا بمثلها! قالوا: لا. حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون «4» . وروى الطبري في سياق تفسير آيات سورة العنكبوت (8- 9) أن سعد بن أبي وقاص كان يقول لأمه التي أخذت تلح عليه بالارتداد «يا أمه، والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا، ما تركت ديني» «5» ! ويظهر أن بعض المسلمين قد تضعضعوا أمام المحنة ولم يطيقوا تحمل الأذى والاضطهاد، وأنهم أبدوا شكهم في نصر الله الموعود للمسلمين فنزلت   (1) البلاذري: أنساب 1/ 184. (2) المصدر السابق 1/ 198. ابن هشام ص 71- 72. (3) سورة الرحمن: الآيات 1- 4. (4) الطبري: تاريخ 2/ 234- 235. (5) دروزة: سيرة الرسول 1/ 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الآيات (11- 15) من سورة الحج تحمل على هذا النوع من الناس بأسلوب عام حملة لاذعة في سياق وبيان مراتب الناس من عبادة الله والاعتراف به والإخلاص له، فالمخلص يجب أن يؤمل في رحمة الله ونصره وإن تأخرا، وإذا لم ينلهما في الدنيا فهو نائلهما في الآخرة، والإيمان المشروط بألّا ينال صاحبه إلا النفع، لا يليق بمؤمن صادق لأن الإيمان مسألة مستقلة لا علاقة لها بأعراف الدنيا المتقلبة على الناس وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ. يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ «1» «2» . عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به «3» !! ومن جهة أخرى، لنا أن نتساءل فيما إذا كان من المسلمين من كان يقابل الأذى والعدوان بمثله في مكة، أو همّ بذلك؟ فنقول إن في بعض الآيات ما يلهم بالإيجاب الذي نعتقد أنه مما يتّسق مع طبيعة الأمور، إذ لا يصح أن يفترض خضوع المسلمين كافة للأذى وصبرهم عليه، وكان فيهم الأقوياء في أشخاصهم أمثال عمر وحمزة، كما كان فيهم الأقوياء بعصبياتهم أيضا وخاصة في بيئة مثل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره قويت فيهما العصبية الاجتماعية وكانت ناظما مهما في علاقات الناس بعضهم ببعض. إلا أن القرآن أمرهم أن يكفوا أيديهم لأن وقت المجابهة لم يحن بعد. وهنالك من الآيات «4» ما يلهم بقوة أن بعض المسلمين كانوا أحيانا يوجهون الشتائم إلى الكفار بسبيل التنديد بهم وبعقائدهم مواجهة، وهذا لا يكون إلا من أناس أقوياء الشخصية جرآء على الباطل مهما قوي أصحابه وبالتالي تلهم بقوة أن من المسلمين من كانوا كذلك وكانوا لا يرون أن يسكتوا على الكفار وفجارهم «5» . وفي تفسير الطبري لآيات سورة النحل (125- 128) عن بعض التابعين أن بعض المسلمين في مكة قالوا: يا رسول الله لو أذن لنا الله   (1) سورة الحج: الآيتان 11- 12. (2) دروزة: سيرة الرسول 1/ 283- 284. (3) ابن هشام ص 72. البلاذري: أنساب 1/ 197. (4) سورة الأنعام: الآية 108. (5) دروزة: سيرة الرسول 1/ 309- 310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 لانتصرنا من هؤلاء الكلاب، فأنزل الله الآيات المذكورة «1» . [3] أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سنتين من الجهر بالدعوة، ألا قدرة له على حماية أتباعه من البلاء الذي ينزل بهم ليل نهار، وأن الزعامة الوثنية ماضية في عنفها واضطهادها وتعذيبها لهم، مصممة على استخدام أي أسلوب لوقف الدعوة عند حدها وخنقها وهي بعد في المهد.. ورأى أن يمنح المعذبين المضطهدين فترة من الوقت يستردون فيها أنفاسهم ويستعيدون قواهم النفسية والجسدية، ويعودون ثانية إلى ساحة الصراع وهم أقدر وأصلب.. وعسى الله أن يحدث- خلال ذلك- أمرا كان مفعولا. فأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة «فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد» حتى يجعل الله لهم فرجا مما هم فيه. فاستجاب له المسلمون وتسلل عدد منهم من مكة صوب الساحل، كي تقلّهم سفينتان كانتا متجهتين صوب الجنوب. وخرج نفر من قريش في آثارهم، وعندما بلغوا الساحل كانت السفن قد بعدت عنه «2» . وكان أول من هاجر منهم، عثمان بن عفان وامرأته رقية ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، الزبير بن العوام، مصعب بن عمير، عبد الرحمن بن عوف، أبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، عثمان بن مظعون، عامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حيثمة، أبو سيرة بن أبي رهم وسهيل بن بيضاء. وقد أمّر عليهم جميعا عثمان بن مظعون. ثم خرج جعفر ابن أبي طالب، وتتابع المهاجرون منفردين أو مع أهليهم، حتى اجتمعوا بأرض الحبشة بضعة وثمانين مهاجرا عدا أبنائهم الصغار الذين خرجوا معهم أو ولدوا هناك «3» .   (1) دروزة: سيرة الرسول، هامش 1، 1/ 312 وعن تفسير الآيات التي تعرضت لمقاومة المشركين للدعوة، انظر: تفسير الطبري 2/ 219، 7/ 27، 184، 207، 8/ 17، 9/ 151، 14/ 48- 51، 15/ 75، 107- 110، 16/ 11، 17/ 6، 92، 18/ 126، 139، 23/ 20- 25، 40، 80، 29/ 14- 15، 96، 124، 138. (2) الطبري: تاريخ 2/ 329. (3) ابن هشام ص 72- 73، الطبري 2/ 329- 331، ابن سعد 1/ 1/ 136- 137، اليعقوبي: تاريخ 2/ 22. ابن الأثير: الكامل 2/ 76- 77. ابن كثير: البداية 2/ 66- 69. المقدسي : 4 / 149- 151. وانظر عن المهاجرين بالتفصيل: البلاذري: أنساب 1/ 198- 229، حيث يقدم معلومات مفصلة عن مسألة الهجرة إلى الحبشة لا نجد غالبها في المصادر الآخرى. وهو يذكر- فيما يستعرض من تفاصيل- أن أبا بكر الصديق (رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 كان اختيار الحبشة دارا لهجرة المسلمين خطوة موفقة من خطوات الرسول المدروسة. فهناك، إضافة إلى الصفة التي وصف ملكها بها في الحديث المروي عن النبي، تيسّر السفر إليها بالسفن، ومساعدة الرياح الموسمية لهذا السفر البحري في ظروفه، فضلا عن العلاقات المذهبية الطيبة بين الإسلام والنصرانية.. بل إنه ليخطر بالبال أن من أسباب اختيار الحبشة أمل وجود مجال للدعوة فيها وأن يكون هدف انتداب جعفر متصلا بهذا الأمل. ولعل ما روي عن إسلام النجاشي وغيره من الأحباش ووفادة بعضهم على النبي مسلمين مستطلعين ما يستأنس به على صحة هذا الخاطر، إذ يرى أثر نجاح لهذه الدعوة في هاتيك الديار. ولعل حادثة انتصار الأحباش لنصارى اليمن التي كانت حاضرة في أذهان العرب كانت ذات تأثير أيضا في توجيه الهجرة إلى هذه البلاد، فالمسلمون بهذا يكسبون حليفا قويا تجمع بينهم وبينه الرابطة الدينية، والمشركون يقع في نفوسهم شيء من الخوف والتوجس والجنوح إلى الارعواء بسبب توثق الصلة بين المسلمين وهذا الحليف القوي «1» ، هذا إلى أن اختيار منطقة كاليمن أو يثرب سوف يعرض المهاجرين لبطش العناصر الوثنية واليهودية المنتشرة هناك. ويضطرب (وات) في تحليل أسباب الهجرة إلى الحبشة وبقاء المسلمين هناك ردحا طويلا، بين خمسة أسباب أولها الهروب من الاضطهاد وثانيها البعد عن خطر الارتداد وثالثها ممارسة النشاط التجاري ورابعها السعي للحصول على مساعدة حربية من الأحباش. ثم يشكك في جدوى الاعتماد على هذه الأسباب ويقول: «من الصعب مقاومة الفكرة القائلة بوجوب الاطمئنان إلى السبب الخامس وهو أنه نشأ انقسام قوي في الرأي داخل أمة الإسلام الناشئة» «2» . وفي مكان سابق كان وات قد قال «ويبدو أن إقامة خالد بن سعيد الطويلة في الحبشة تشير إلى أنه   عنه) عزم هو الآخر على الهجرة إلى الحبشة بسبب أذى المشركين واضطهادهم له. ولقد غادر مكة فعلا إلا أن سيد قبائل القارة الحارث بن يزيد الملقب بابن الدغينة اعترضه في الطريق واقنعه بالرجوع وأعلن للمشركين عن جواره له. لكن أبا بكر استمر- وهو في مكة- يؤدي شعائر الإسلام ويدعو إليه، الأمر الذي دفع ابن الدغينة إلى إنهاء جواره له، فما كان من أبي بكر إلا أن قال: أرجع إليك جوارك وأرضى بجوار الله!!. (أنساب: 1/ 205- 206، وانظر الرواية في البخاري: تجريد 2/ 71- 72، درمنغم: حياة محمد ص 12- 124 ... (1) دروزة: سيرة الرسول 1/ 272- 273. وانظر بوهل في.Ency.art:Muhammad (2) انظر بالتفصيل وات: محمد في مكة ص 182- 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 كان على خلاف مع محمد في سياسته وأنه لم يكن يوافق على التوجيه السياسي المتزايد للإسلام، ولا على أهمية الدور السياسي لمحمد بسبب نبوته، ولو أن خالدا اهتم بالنواحي السياسية للرسالة لدفن خلافه مع محمد وعاد إلى مكة قبل السنة السابعة للهجرة» «1» . يستنتج وات من هذه الأخبار القليلة التي ساقها- كما يقول صالح العلي- حدوث خلاف في الرأي بين المسلمين، وخاصة مع أبي بكر الذي كانت له مكانة قوية عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرى أن الرسول أوعز لمخالفي أبي بكر بالهجرة إلى الحبشة تفاديا للأخطار التي قد تنجم عن هذا الخلاف. غير أن الأدلة التي يسوقها وات ليست قوية، فإن بعض من هاجر إلى الحبشة كعثمان وطلحة كانوا من أصحاب أبي بكر، وتروي بعض الروايات أن أبا بكر هو الذي جاء بهم إلى الرسول ليسلموا. كما أن اختفاء أسماء بعض المسلمين الأول المهاجرين وعدم لعبهم دورا رئيسيا في السياسة فيما بعد، وخاصة في عهد أبي بكر، لا يمكن أن يعزى إلى خلافهم معه فقط بل قد يرجع إلى انشغالهم بأمور أخرى في الحياة. والواقع أن أبا بكر استعان بكثير ممن أسلم عند فتح مكة أو بعدها وبأولاد كثير ممن قاوم الإسلام، فلو أهمل أبو بكر رجلا لماضيه لكان الأجدر به أن يهمل هؤلاء ولا يسلمهم قيادة الجيوش الإسلامية التي أحسنوا قيادتها. والواقع أن الآيات القرآنية «2» توحي بأن دافع الهجرة هو الاضطهاد الشديد الذي وقع على المسلمين والمحاولات التي بذلها المشركون لفتنتهم، وأنها هي التي دفعت الرسول إلى الإيعاز إليهم بالهجرة «3» ، الأمر الذي كاد أن يدفع أبا بكر نفسه إلى الهجرة لولا أن أجاره أحد الزعماء «4» . كان المهاجرون ينتمون إلى مختلف القبائل: فمن بني هاشم واحد ومن بني عبد بن قصيّ واحد ومن نوفل واحد (حليف) ومن عبد شمس اثنان (واحد حليف) ومن تيم اثنان ومن أسد بن عبد العزى أربعة، ومن عدي خمسة (منهم   (1) محمد في مكة ص 162. (2) انظر سورة العنكبوت: الآيات 1- 23، 10، سورة البروج: الآية 10، سورة القصص: الآية 57، سورة الزمر: الآية 10، سورة النحل: الآية 41، 110. (3) العلي: محاضرات 1/ 368. (4) البلاذري: أنساب 1/ 205- 206 وانظر هامش 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 واحد حليف) ومن أمية سبعة (منهم أربعة حلفاء) ومن زهرة سبعة (منهم ثلاثة حلفاء) ومن عبد الدار سبعة ومن مخزوم ثمانية (منهم واحد حليف) ومن عامر سبعة (منهم واحد حليف) ومن الحارث بن فهر ثمانية ومن جمح اثنا عشر ومن سهم أربعة عشر (منهم واحد حليف) «1» . وبمجرد إلقاء نظرة سريعة على هذه القائمة تتبدى لنا سعة الدائرة البشرية التي امتدت إليها الدعوة الإسلامية لكي تجذب إليها عناصر من شتى القبائل المكية، وتجاوزت بذلك دائرة العصبية الضيقة في طريقها الطبيعي صوب الاتساع والشمول لكي تضم العرب جميعا ... وهذا (التنوع) في أصول المهاجرين إلى الحبشة يقدم لنا دليلا آخر لما سنذكره فيما بعد بصدد رفض فكرة (الدافع المادي) للانتماء إلى الدعوة الجديدة أو مقاومتها. فلا يعقل أن يكون هذا الدافع هو الذي قاد هؤلاء الرجال، ذوي الأصول القبلية العديدة، والذين ينتمي أغلبهم إلى أسر مكية عريقة، إلى الإسلام، تماما كما لا يعقل أن يكون دافع (العصبية القبلية) وحده هو الرائد في هذا الميدان بما تطرحه علينا القائمة الآنفة من (تنوع) في الأصول. ولا ننسى هنا (المرأة المسلمة) التي تحملت أعباء الاضطهاد والهجرة، جنبا إلى جنب مع الرجل في سبيل الهدف الذي آمنت به.. وستتكرر هذه المواقف مرة تلو مرة، في السلم والحرب، لكي يتبين لنا المدى الواسع الذي أفسحه الإسلام للمرأة، والمكانة العالية التي رفعها إليها، والمسؤوليات الجسيمة التي حمّلها إياها، بعد ما كانت تعانيه من ضيق واحتقار وإهمال في عهود الجاهلية. ويذكر دروزة أنه باستثناء النفر من حلفاء قريش ونسائهم لا تذكر الروايات أسماء أرقاء ومساكين في جملة المهاجرين، وأن تعليل ذلك يعود إلى أن ضغط زعماء قريش كان أكثر شدة على أبناء أسرهم لأنهم تحسّبوا من عواقب إسلامهم بالنسبة لعامة الناس وسائر شباب الأسر، في حين أنه لم يكن ما يخشونه من مثل ذلك من المساكين والأرقاء والفقراء والغرباء، وأن هذه صورة مخالفة لما قد يكون في الأذهان «2» . عند ما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنوا واطمأنوا بأرض   (1) العلي: ص 364. (2) دروزة: سيرة الرسول 1/ 272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الحبشة قرر زعماؤها أن يبعثوا في طلبهم رجلين قديرين إلى النجاشي لكي يردوا المهاجرين فيمارسوا معهم من جديد الفتنة والاضطهاد. واتجه الموفدان عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى الحبشة وهما يحملان الهدايا للنجاشي ولبطارقته. وبدا بالبطارقة فسلما كلا هدية وقالا له: إنه قد لجأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلم بما عابوا عليهم. فقال البطارقة: نعم. وعند ما اتجه عمرو ورفيقه إلى النجاشي وعرضا عليه طلبهما بتسليم المهاجرين، وقالت البطارقة من حوله: صدقا أيها الملك، قومهم أعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما، غضب النجاشي وقال: لا والله، إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمهم إليهما، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني «1» . وما لبث النجاشي أن دعا المهاجرين لحضور مجلسه، وعند ما سألهم عن طبيعة الدين الذي دفعهم إلى مفارقة قومهم، تقدم جعفر بن أبي طالب وقال: «أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.. فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله. فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على   (1) ابن هشام: ص 73- 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 من سواك.. ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك» . فطلب منه النجاشي أن يقرأ عليه شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله، فتلا عليه صدرا من سورة مريم. فبكى والله النجاشي حتى أخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، وقال النجاشي «إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما» «1» . لكن عمرو بن العاص لم ييأس، وعاد إلى النجاشي في اليوم التالي وقال له: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. فاستدعاهم وسألهم، فأجابه جعفر: «نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول» . فتناول النجاشي عودا وقال: والله ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود فأبدى بطارقته استياءهم فردهم وأعلن عن حمايته للمهاجرين وقال لمن حوله: ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فغادر عمرو ورفيقه أرض الحبشة عائدين إلى مكة «2» . بلغت طلائع المهاجرين، بعد شهرين من إقامتهم في الحبشة أنباء تشير إلى أن أهل مكة قد اعتنقوا الإسلام، فقفل بضعة وثلاثون رجلا منهم عائدين إلى بلادهم، وما أن اقتربوا منها حتى أيقنوا كذب تلك الأنباء، فتسلل بعضهم مستخفيا إلى مكة، ودخل آخرون بجوار بعض المشركين، ورجعت فئة ثالثة من حيث أتت «3» . وقد ظل معظم المهاجرين في أرض الحبشة حتى السنة السادسة للهجرة حيث عقد الرسول صلى الله عليه وسلم مع قريش صلح الحديبية وبعث إلى النجاشي عمرا ابن أمية الضمري يطلب إعادة المهاجرين إلى بلادهم فحملهم في سفينتين وقدم بهم على الرسول صلى الله عليه وسلم في أعقاب فتحه خيبر في مطلع السنة السابعة. ولقد سرّ الرسول صلى الله عليه وسلم سرورا عظيما لمقدمهم حتى إنه قبل زعيمهم جعفر بن أبي طالب واحتضنه قائلا: ما أدري بأيهما أنا أسرّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ وكان عدد العائدين من الحبشة قريبا من العشرين رجلا وعددا من النساء والأطفال الذين   (1) ابن هشام ص 75- 76. اليعقوبي: تاريخ 2/ 23- 24. (2) ابن هشام ص 76- 77. الطبري: تاريخ 2/ 335. المقدسي: 4/ 151- 152. ابن الأثير: الكامل 2/ 79- 82. ابن كثير: البداية 3/ 70- 79. (3) ابن هشام ص 88- 89. ابن سعد 1/ 1/ 148. البلاذري: أنساب 1/ 227- 228 الطبري: تاريخ 2/ 340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ولدوا هناك، فضلا عن بعض الأرامل اللواتي توفي أزواجهن أيام الإقامة في الحبشة «1» . وكان بعض المهاجرين قد غادر الحبشة في بداية عهد المسلمين بالهجرة إلى المدينة فمات بعضهم في مكة، واعتقل البعض الآخر، وتمكنت فئة ثالثة من اللحاق بالمدينة والاشتراك في معركة بدر وما تلاها من وقائع «2» . [4] عند ما أيقنت قريش أنها قد هزمت في محاولتها استرداد المهاجرين إلى الحبشة، وأن الإسلام أخذ ينتشر بين القبائل، فضلا عن إسلام عمر بن الخطاب الذي عزّز جانب المسلمين في صراعهم ضد الوثنية «3» ، حتى إن عبد الله بن مسعود كان يقول «ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم قاتل قريشا، حتى صلّى عند الكعبة وصلينا معه «4» » . والحق- كما يقول أرنولد- أن إسلام عمر بن الخطاب يعدّ نقطة تحول في تاريخ الإسلام، فقد استطاع المسلمون أن يسلكوا منذ ذلك الحين مسلكا أشد جرأة، وبدأ المؤمنون يجهرون بتأدية شعائر الإسلام جماعات حول الكعبة «5» . حينذاك عقدت قريش اجتماعا في مطلع السنة السابعة من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، قرر فيه زعماؤها أن يتعمدوا أسلوبا جديدا في مجابهة الحركة الإسلامية يقوم على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب الذين كان أبو طالب قد دعاهم إلى ما هو فيه من منع الرسول صلى الله عليه وسلم دون قريش، وكل من يساندهم وينتمي إليهم مسلمين ومشركين، وأن تكون هذه المقاطعة شاملة لكافة المعاملات والعلائق الاجتماعية والمالية. ويذكر البلاذري أن قريشا توعدت بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، «سرا أو علانية» بعد أن أصرّ على مهاجمة آلهتهم فقال أبو طالب «اللهم إن قومنا قد أبوا إلا البغي، فعجّل نصرنا وحل بينهم وبين قتل ابن أخي» . وقالت قريش: لا صلح بيننا وبين بني هاشم بني المطلب ولا رحم ولا حرمة إلا على قتل هذا الرجل الكذاب   (1) ابن هشام ص 267- 268. الطبري: تاريخ 343. ابن سعد 3/ 1/ 78. (2) ابن سعد 1/ 1/ 129 وعن الهجرة إلى الحبشة والعودة منها انظر وات: محمد في مكة، ملحق (و) و (ز) . (3) انظر تفاصيل إسلامه ابن الأثير: الكامل 2/ 83- 87. وابن كثير: البداية: 3/ 79- 82. و.Ency.vol.Iv P. 67 (4) ابن هشام ص 79. (5) الدعوة إلى الإسلام ص 39- 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 السفيه. وعمد أبو طالب إلى الشعب بابن أخيه وبني هاشم وبني المطلب، وكان أمرهم واحدا، وقال: نموت من عند آخرنا قبل أن يوصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني المطلب، ودخل الشعب من كان من هؤلاء مؤمنا أو كافرا «1» . كتبت قريش صحيفة بالمقاطعة، وتعاهدت على تنفيذ بنودها وعلقتها في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم، وقد جاء فيها «باسمك اللهم. على بني هاشم وبني المطلب على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، ولا يعاملوهم حتى يدفعوا إليهم محمدا فيقتلوه «2» » . فلما سرى النبأ في مكة انضم بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب ودخلوا معه الشعب المسمى باسمه «3» . استمرت المقاطعة سنتين وعدة أشهر، كان لا يصل المسلمين خلالها شيء إلا سرّا، يحمله إليهم مستخفيا من أراد مساعدتهم من قريش بدافع من عصبية أو نخوة أو عطف. ولاقى المسلمون ونبيهم صلى الله عليه وسلم خلال ذلك آلاما قاسية من الجوع والخوف والعزلة والحرب النفسية «4» . ولا بد من الإشارة هنا إلى أن حلف الفضول الذي عقدته بعض بطون قريش وتعاهدت فيه على منع الظلم في مكة، قد تعطّل، فلم يتناد أصحابه بنصرة المظلومين ممن كان يقع عليهم العذاب. ويبدو أن الملأ من قريش كان يخشى أن يطالب بنو هاشم حلفاءهم من أصحاب الفضول بالوقوف إلى جانبهم، ومن أجل ذلك كان حرصهم على الإجماع وعلى التواثق على ذلك في صحيفة مكتوبة. وقد استجابت كل البطون القرشية- ما عدا بني هاشم وبني المطلب- لأنهم اعتبروا الدعوة الإسلامية ذات خطر على مكة يهدد الجميع بالخراب لذلك اجتمعوا وتضامنوا على إيقاف هذا التيار» . شددت الزعامة الوثنية من حملتها ضد النبي صلى الله عليه وسلم وراحت تهمزه وتهزأ به   (1) أنساب الأشراف 1/ 230. (2) محمد حميد الله: الوثائق ص 44. (3) ابن هشام ص 82- 83. الطبري: تاريخ 2/ 335- 336. ابن سعد: 1/ 139- 140. البلاذري: أنساب 1/ 229- 230. اليعقوبي: تاريخ 2/ 24- 25. ابن الأثير: الكامل 2/ 87- 90. ابن كثير: البداية: 3/ 84- 87. (4) ابن هشام ص 83. الطبري: تاريخ 2/ 136. البلاذري: أنساب 1/ 334. (5) أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول ص 274- 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وتخاصمه وتدفع من يرميه بالحجارة ويضع في طريقه الشوك. وفي الجهة المقابلة مضى الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته لا يصده عائق، وتنزلت آيات القرآن متتالية كالحمم تقرع الرؤوس الوثنية واحدا واحدا.. أبو لهب يدفع زوجته أم جميل بنت حرب لكي تحمل الشوك وتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر فيجابهه القرآن تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ «1» ، وأمية بن خلف يقف في درب الرسول حتى إذا مرّ به همزه ولمزه، فيندد به القرآن وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ. وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ. نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ «2» .. وأبو جهل بن هشام يجابه الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول له: «والله يا محمد لتتركن سبّ آلهتنا أو لتسبن إلهك الذي تعبد» فتجيء تعليمات القرآن وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «3» ، والنضر بن الحارث بن كلدة، يعقب الرسول في مجالسه فيحدثهم عن ملوك فارس وعظمتهم ثم يقول «والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبتها كما اكتتبها محمد، فيسخر به القرآن وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً «4» ويندد به يْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «5» . والأخنس بن شريق الثقفي، أحد أشراف القوم، وممن يستمع لكلامهم، يتصدى لرسول الله ويرد عليه، فينزل الله فيه وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «6» .. والوليد بن المغيرة يتساءل: أينزل على محمد، وأترك وأنا كبير قريش وسيدها؟ ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف، ونحن عظيما القريتين؟ فيجيبه القرآن وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ... «7» .   (1) سورة تبت: الآيات 1- 5. (2) سورة الهمزة: الآيات 1- 9. (3) سورة الأنعام: الآية 108. (4) سورة الفرقان: الآيتان 5- 6. (5) سورة الجاثية: الآيتان 7- 8. (6) سورة القلم: الآيات 10- 13. (7) سورة الزخرف: الآيتان 31- 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وأبيّ بن خلف يجد رفيقه عتبة بن أبي معيط، يجلس إلى الرسول ويستمع منه فيقسم ألا يكلمه حتى يأتيه فيتفل في وجهه، فيفعل ذلك عدو الله فيقرعه القرآن وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا ... «1» . ويمشي أبيّ بن خلف إلى الرسول بعظم بال ويقول له: أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرمّ؟ ويفتّه أبيّ في يده ثم ينفخه في الريح بوجه رسول الله، فيجيبه الرسول: نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك الله النار!! ويردّ القرآن: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ «2» . ويعترض الرسول صلى الله عليه وسلم عدد من رؤوس الوثنية وذوي الكلمة في قومهم، فيقولون: يا محمد هلمّ فلنعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فيأمره القرآن قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «3» .. وآخرون يضعون في قدره الذي يطبخ فيه رحم شاة أو يطرحونها عليه وهو يصلّي، فكان يخرج به في أعقاب صلاته ويقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق «4» ... طالت أيام الحصار، واشتد الأذى بالمنقطعين في شعب أبي طالب، فلم يكن لأحد من قريش أن يزوجهم أو يتزوج منهم، ولا أن يبيعهم أو يبتاع منهم فعصرهم الجوع عصرا. وكان المحاصرون لا يخرجون من الشعب طيلة سني الحصار «إلا من موسم إلى موسم حتى بلغهم الجهد، وتضاغى صبيانهم فسمع ضغاؤهم من وراء الشعب. وقال عبد الله بن عباس: حصرنا في الشعب ثلاث سنين، وقطعوا عنا الميرة حتى أن الرجل ليخرج بالنفقة فما يباع شيئا حتى مات   (1) سورة الفرقان: الآيتان 27- 29. (2) سورة يس: الآيات 78- 80. (3) سورة الكافرون: الآيات 1- 6. (4) ابن هشام ص 83- 88. الطبري: تاريخ 2/ 337- 343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 منا قوم «1» » . ولم يكن ما يجيئهم سرا ليسكت نداء الجوع الذي لا يرحم، حتى إن أحدهم اضطر يوما أن يطحن قطعة من جلد بعير ويمزجها بالماء ويلتهمها التهاما.. وبدأ بعض رجالات قريش وشبابها يتذمرون للظلم الصارخ الذي نزل بحماة الرسول من بني هاشم وبني المطلب، فسعوا إلى وقف القطيعة، وتمزيق الصحيفة الغادرة، وإعادة الأمور إلى مجاريها. وكان على رأس هؤلاء هشام بن عمرو، الذي تصله ببني هاشم صلة من قرابة، وكان ذا شرف في قومه، وكان قد بذل جهده أيام الحصار في إيصال الطعام سرّا إلى الشعب.. فلقد اتصل بزهير بن أبي أمية، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، وقال له: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ أما أني لأحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك أبدا. فأجابه زهير: فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله إن لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها. قال هشام: قد وجدت رجلا. قال: فمن هو؟ أجابه هشام: أنا. قال زهير: أبغنا رجلا ثالثا. وتمكن هشام من إقناع ثلاثة رجال آخرين هم المطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب، بضرورة تمزيق الصحيفة وإنهاء المقاطعة. واتعد الرجال الخمسة على اللقاء ليلا بأعلى مكة وهناك أجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام بتمزيق الصحيفة. وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم. وفي صباح اليوم التالي أقبل زهير على الناس وقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فرد عليه أبو جهل: كذبت، والله لا تشق!! قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حيث كتبت. وسرعان ما أيده رفاقه الثلاثة. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل!! وما لبث المطعم أن قام إلى الصحيفة فمزقها «2» . ثم لبس ورفاقه السلاح واتجهوا إلى الشعب وأمروا بني هاشم وبني المطلب بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا. وعند ما رأت قريش ذلك أسقط في أيديها وعرفت أنهم لن يسلموهم «3» .   (1) البلاذري: أنساب 1/ 235- 236. (2) ابن هشام ص 89- 91. الطبري: 2/ 341- 343. البلاذري: أنساب 1/ 235- 236. ابن الأثير: الكامل 2/ 87- 90. (3) ابن سعد: 1/ 1/ 141. البلاذري: أنساب 1/ 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 [5] ما لبث الرسول صلى الله عليه وسلم أن فجع بأعز أقربائه إليه: زوجته البرّة خديجة وعمه أبي طالب ففقد بذلك سنديه النفسي والاجتماعي، وحزن لفقدهما حزنا عميقا، حتى أن ذلك العام- الذي سبق الهجرة بثلاث سنين- سمي بعام الحزن. وانتهزت قريش الفرصة فألحقت بالرسول صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب. وقد اعترضه- مرة- أحد سفهاء قريش في الطريق، ونثر على رأسه ترابا، فدخل الرسول بيته والتراب على رأسه فقامت إحدى بناته لتنفضه عنه وهي تبكي ورسول الله يقول لها: لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك «1» !! ونظرا إلى أن الحجة الرئيسية للمقاطعة- التي لم يمض عليها كبير وقت- هي حماية (بني هاشم) للمسلمين، وإنها كان لها تأثير سيء في أعمال بني هاشم، فالظاهر أنهم أدركوا الأضرار التي تنجم عن استمرار حمايتهم للرسول صلى الله عليه وسلم. ويبدو أنهم بعد موت أبي طالب بدؤوا يتخلون عن تلك الحماية. ولعل أبا طالب هو العامل الأكبر في استنهاض همم بني هاشم لمساندة الرسول وحمايتهم له، فلما مات خففت هاشم من تأييدها وربما أدركت- بعد المقاطعة- ما يصيبها من أضرار مادية ومعنوية إذا استمرت في حمايته، لذا أخذت تتخلى عن ذلك، ويتجلى هذا واضحا في أعقاب رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف «2» . أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أن القيادة الوثنية في مكة مصرّة على الوقوف بوجه دعوته ماضية في إلحاق أذاها به، واضطهاد أتباعه وفتنتهم عن دينهم، فرأى أن يغادرها إلى مكان آخر ينشر فيه دعوة الإسلام ويطلب من أهله النصر والمنعة، فوقع اختياره على الطائف حيث تقطن ثقيف كبرى القبائل العربية بعد قريش. فغادر مكة في شوال من السنة العاشرة للبعثة، يصحبه زيد بن حارثة. ولما انتهى إلى هناك عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادتها وأشرافها، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وعرض عليهم المهمة التي جاء من أجلها وهي أن ينصروه على الإسلام ويمنعوه من قومه، فلم يلتفتوا إليه وعلقوا على دعوته ساخرين، فقال أحدهم:   (1) ابن هشام: ص 99. الطبري: تاريخ 2/ 343- 344. ابن سعد 1/ 1/ 141. اليعقوبي: تاريخ 2/ 28- 29. ابن الأثير: الكامل 1/ 90- 91. وانظر البلاذري: أنساب 1/ 236- 237. (2) العلي: محاضرات 1/ 375- 376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 إنني أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك!! فغادرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن طلب منهم أن يكتموا ما جرى بينه وبينهم، إذ كره أن يبلغ قومه ذلك فيجرئهم عليه. لكن زعماء ثقيف لم يستجيبوا لطلبه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به، ويرمونه بالحجارة، فلم يكن يرفع قدما ويضع أخرى إلا على الحجارة، حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وكانا هناك، فتفرق عنه سفهاء الطائف وقدماه تنزفان دما، فعمد إلى ظل كرمة ونادى ربه: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس.. يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» !! فلما رآه ابنا ربيعة، وشاهدا ما لقي، تحركت له رحمهما، فطلبا من غلام نصرانيّ لهما يدعى (عدّاس) أن يحمل إليه طبقا من عنب. فلما أتى به الغلام ووضعه بين يديه، مدّ الرسول صلى الله عليه وسلم يده قائلا: باسم الله، ثم بدأ يأكل العنب، فعجب الغلام لسماعه عبارة لم يألف سماعها في أرض وثنية، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فسأله الرسول: ومن أي البلاد أنت، وما دينك؟ أجاب: نصرانيّ، من أهل نينوى. فسأله الرسول: من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى؟ أجاب الغلام دهشا: وما يدريك ما يونس بن متّى؟ قال الرسول: ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبيّ. فأكب عدّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوسعه لثما وتقبيلا.. وما أن غادر الرسول البستان حتى حذره سيداه: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه «1» !! عندما قفل الرسول صلى الله عليه وسلم عائدا إلى مكة كانت الأمور هناك قد بلغت حدا   (1) ابن هشام ص 101- 103. الطبري: تاريخ 2/ 344- 346. ابن سعد 1/ 1/ 42 البلاذري: أنساب 1/ 227. اليعقوبي: تاريخ 2/ 29- 30. المقدسي: 4/ 55 ابن الأثير: الكامل 2/ 91- 93. ابن كثير 26/ 135- 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 كبيرا من السوء، ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه مضطرا إلى أن يحتمي بجوار أحد من زعماء قريش، ريثما يواصل طريق الدعوة.. فبعث إلى مكة رجلا يلتمس له الجوار، وعرض الرجل الأمر على الأخنس بن شريق وسهيل بن عمرو فرفضا متعللين ببعض الأسباب، ووافق المطعم بن عدي على الجوار، ولبس وبنوه وأقرباؤه السلاح استعدادا لكل طارىء. ومن ثم دخل الرسول مكة وراح يواصل المهمة الملقاة على عاتقه. وجابهه- يوما- جماعة من القرشيين بزعامة أبي جهل، بسخرياتهم المألوفة، فصرخ الرسول في وجوههم « ... أما أنت يا أبا جهل فو الله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا. وأما أنتم يا معشر الملأ من قريش، فو الله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون، وأنتم كارهون» «1» . لم ييأس الرسول صلى الله عليه وسلم وقرر أن يستمر في عرض دعوته على قبائل العرب القادمة إلى مكة في مواسم الحج والعمرة والتجارة، ويخبرهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدّقوه ويمنعوه حتى يبين الله ما بعثه به. وكان يتبعه عمه أبو لهب إلى منزل كل قبيلة يذهب إليها فيناديهم «إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم.. إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه» «2» . عرض الرسول دعوته وحمايته على كندة وبني كلب فأبوا عليه ... وعرضها على بني عامر بن صعصعة، فسأله أحد رجالها (بحيرة بن فراس) : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فأجاب الرسول: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، فقال الرجل: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك!! كما عرض الرسول دعوته وحمايته على بني حنيفة، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم ... وعرضها على بني محارب وفزارة وغسان ومرة وسليم وعبس وبني نضر وبني البكاء والحارث بن كعب وعذرة والحضارمة، دون   (1) الطبري: 2/ 347- 348. البلاذري: أنساب 1/ 227. وانظر ابن سعد: 1/ 1/ 142. (2) ابن هشام: ص 104- 105. الطبري: تاريخ 2/ 348- 349. ابن سعد: 1/ 1/ 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أن تستجيب له إحداها.. وهكذا مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الإسلام ويطلب نصرة القبائل واحدة واحدة وهي تأبى عليه وتصدّ عن هديه، ولم يكتف بذلك بل راح يتصدّى لكل قادم إلى مكة له مكانة في قومه.. يعرض عليه مبادىء الدين الجديد ويدعوه إلى الله «1» .   (1) ابن هشام: ص 104- 107. الطبري: 2/ 349- 351. ابن سعد: 1/ 1/ 145. البلاذري: أنساب 1/ 237- 238. ابن الأثير: الكامل 2/ 93- 94. ابن كثير: البداية 3/ 128- 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الفصل الثالث مسائل من العصر المكي [1] ليس بإمكان أي مؤرخ أن يحدّد الأبعاد الكاملة لطبيعة اللقاء الأول، وما تلاه من لقاآت بين الوحي الكريم وبين محمد صلى الله عليه وسلم.. وكل ما ذكرته الروايات، اعتمادا على رؤية الرسول وهو يتلقى الوحي، أو أحاديثه القصيرة الموجزة بهذا الصدد، لا يعدو أن يكون (وصفا) خارجيا للتجربة التي تمخض عنها البناء القرآني المعجز.. وما دام الأمر في امتداده وغيابه يندّ عن المشاهدة المباشرة والفحص التجريبي باعتباره أمرا (غيبيا) ، فليس من السهل أن نخوض فيه، كما أنه ليس من السهل أن نخوض في أي من الأمور الغيبية التي لم يتح لأجهزتنا الحسيّة والعقلية التعامل معها، والإحاطة بأبعادها علما. وكل المحاولات- الشرقية والغربية- التي جهدت من أجل تحليل تجربة (الوحي) تحليلا يخضعها في نهاية الأمر للمعرفة البشرية المحدودة، وقعت في الخطأ من حيث أنها اعتمدت الظن والتخمين في مسألة من أخطر المسائل الغيبية.. والأهم من ذلك هو ما تمخض عنه هذا الأسلوب الإلهي في تعليم البشرية، والذي يعدّ من المصادر اليقينية للمعرفة. فالقرآن- إذن- والحركة الإسلامية التي رافقته، على خط متواز صاعد، هما اللذان يجب أن ينصبّ عليهما البحث والتحليل ومحاولة الإحاطة، من أجل أن تكون المحاولة جادة وليست ضربا في غير هدف! لقد تنزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم في أعقاب فترة زمنية طويلة، جاوزت الأربعين عاما، كانت الإرادة الإلهية تهيء فيها- كما رأينا- الممهدات البيئية والوراثية لتكوين (الشخصية) التي سيلقى على عاتقها حمل مسؤولية الرسالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الصعبة.. وأعقب ذلك تمهيد نفسي وذهني (مباشر) تمثّل بتلك الأسابيع الطوال من العزلة والتأمل والتحنث في غار حراء، انشقاقا على الأعراف والممارسات الجاهلية، واندماجا في الكون على مداه، وبحثا عن (العلّة الكافية) لخلقه على هذه الصورة من الدقّة والتنسيق والتماسك والنظام، وسعيا وراء (الشريعة) التي تعيد الإنسان إلى الانسجام مع النواميس التي تتحرك بموجبها السماوات والأرض.. وما لبث الوحي الأمين أن جاء، في اللحظة المناسبة والمكان المناسب اللذين اختارتهما العناية الإلهية لإرسال محمد إلى الناس كافة.. محمد الذي لم يكن يعرف، حتى هذه اللحظة، المصير الذي ينتظره، والدور الذي سيكلف بأدائه إزاء الإنسان والعالم. ومن ثم جاءت (هزّة) الوحي مفاجأة مذهلة لهذا الرجل المنعزل في الغار بعيدا عن الناس.. رافقها وأعقبها رعب وقلق وشك واضطراب وتمزق نفسي وحمى قاسية، جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر المكان في أعقاب كل لقاء، وهو يرتجف خوفا وإشفاقا، من أجل أن يلجأ إلى سنده العاطفي الأول والأخير متمثلا بزوجته البرة خديجة التي كانت عند حسن الظن دوما.. وما أن اطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صدق رسالته، في أعقاب تأكيدات خديجة وابن عمها ورقة بن نوفل، وإثر تكرر نزول الوحي عليه، حتى بدأ- بأمر من هذا الوحي- بالعمل.. كان عليه أن يدع مرحلة (العزلة) والانقطاع، وأن يمزق دثار الخوف والقلق والشك.. وأن ينطلق ليبدأ أولى اتصالاته من أجل بناء الحلقات الأولى من الدعاة، أولئك الذين كتب عليهم، أن يتحملوا شرف الانضواء إلى أول قاعدة بشرية للدعوة الإسلامية في تاريخها الطويل.. وإذ كانت الدعوة الجديدة تتحرك تحت شعار (لا إله إلا الله) بكل أبعاده الشاملة وآفاقه الرحبة، فقد كانت تمثل ردا حاسما على كل القيم الجاهلية، وانقلابا جذريا على مواضعات العصر وممارساته ومطامحه القريبة العاجلة.. وكان ارتطامها بمراكز السلطة والنفوذ والتوجيه في مجتمع كهذا أمرا محتما.. ومن ثم كان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتاز مرحلة من (العمل السرّي) ، غير المعلن، من أجل أن يرسي دعائم حركته ويضم إليها أوثق العناصر وأعمقها إيمانا، ويسعى خلال ذلك إلى مزيد من توثيق هذا الإيمان وتعميقه في نفوس الدعاة.. فعليهم ستقع المسؤولية، وعلى مدى مقدرتهم على التحمل سيقوم البناء.. ولقد بدأ الرسول اتصالاته بأقرب الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 إليه، من أجل مزيد من السرية والكتمان: الزوجة والصديق وابن الأخ والابن (المتبنّى) .. ثم انطلق بعد ذلك في توسيع نطاق الدعوة، يعضده ساعده الأيمن أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) .. وما لبثت اللبنات أن ازدادت عددا، والبناء ارتفاعا، والأسس عمقا ورسوخا.. استمر العمل السرّي ثلاث أو أربع سنوات، على خلاف في الروايات، والدعوة خلاله تسير ببطء شديد، رغبة في التركيز والاختيار البصير بالعناصر الأكثر جدارة وكفاءة ومقدرة على تحمل مسؤولية الإيمان.. وكان القرآن الكريم يتنزل خلال ذلك مؤكّدا على قضية واحدة وأمر واحد، لم يتجاوزه إلى (المسائل) الآخرى إلا قليلا، تلك هي قضية (العقيدة) التي راح القرآن يحبك، بأسلوبه المعجز وآياته البينات، جوانبها الشاملة وبناءها المتشابك في نفوس أتباعه وعقولهم وضمائرهم، ويحيلهم واحدا بعد آخر، ويوما بعد يوم، إلى شخوص حيّة تتحرك بالقرآن، فتكون حركتها تعبيرا حيويا واقعيا عن التصور الجديد الذي طرحه القرآن، والذي جاء لينعكس بالضرورة على السلوك اليومي للإنسان المسلم.. وكلما تقدم الزمن بالدعوة الإسلامية وتنزلت الآيات البينات لبناء العقيدة، كلما نمت قواعد الدعوة الإسلامية وازدادت (تمثلا) لهذه الآيات، الأمر الذي جعلها تنمو بشكل مواز تماما لنمو البناء العقيدي الذي يطرحه القرآن ذاته لكي يحرك به (واقع) النفس البشرية ويتعامل معها تعاملا حركيا يرفض منطق الجدل واللاهوت والنظريات. ولقد مرت هذه السنون الطويلة من مرحلة العمل السرّي ولم يتجاوز عدد الدعاة خلالها- كما رأينا- الخمسين رجلا وامرأة، وهو عدد قليل جدا إذا ما قورن بهذا الامتداد الزمني الطويل. إلا أن التركيز والعمق الذي تميز به كل واحد من هؤلاء، جعل المنتمين إلى الإسلام قادرين، بعد قليل، على تحمل الضغوط الوثنية القاسية التي ستصبّ عليهم من أجل فتنتهم عن دينهم: تعذيبا واضطهادا وقتلا ونفيا وسخرية وقطيعة واحتقارا.. وعلى تجاوز (المحنة) السوداء وهم أصلب عودا وأعمق ثقة وأشد إيمانا.. وفي جوارهم آيات القرآن تشد أزرهم وتعمق يقينهم الجديد.. والرسول صلى الله عليه وسلم يقودهم من ساحة إلى ساحة صوب مشارف الفوز والانتصار. ولا ريب أن اعتماد (المقاييس المادية) - كما فعل عدد من المستشرقين أمثال كريمر وجرمه وغيرهما- لفحص الدوافع التي قادت المسلمين وغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 المسلمين للانتماء إلى الدين الجديد أو إلى أية عقيدة أو دين، أمر يرفضه واقع (التجربة) في أبعادها الشاملة الرحيبة، فلم يكن البحث عن (الحق) والتشبث في الانتماء إليه، أمر معدة تبحث عن طعامها وجسد يرنو إلى الإشباع، بقدر ما هي مسألة نفسية متكاملة يلعب فيها الظمأ الروحي واليقين الفكري والقناعة الذاتية دورها الأول والأخير، بحيث أن سائر الأمور الآخرى الحسّية والجسدية بقيت (ثانوية) بالنسبة لهذه العوامل الأساسية. هذا على المستوى النفسي، أما على المستوى التاريخي، فإن هذا المقياس (المادي) الذي أخذ يشيع في العقود الأخيرة، كإسقاط معاصر على الوقائع التاريخية الماضية، سرعان ما يتهافت بمجرد إلقاء نظرة متأنية على قوائم المسلمين الأول الذين كان أكثرهم- كما يقول صالح العلي- من التجار ورجال الطبقة الوسطى، وممن كانت لهم عشائر تحميهم وتدفع عنهم، بل حتى وجود الحلفاء والمستضعفين في الإسلام، لا ينهض دليلا على صحة هذا الرأي. إذ أن هؤلاء نالوا كثيرا من الاضطهاد بسبب عقائدهم، ومنّوا بكثير من الآمال إذا تركوه، فرفضوا وأصرّوا على التمسك بالدين الجديد، مما يدل على أن دافع العقيدة هو الذي كان يدفعهم إلى اعتناق الإسلام. والواقع أن الروايات أشارت صراحة إلى دوافع بعضهم، فعثمان بن مظعون كان من قبل ظهور الإسلام من الباحثين عن الدين، وسعيد بن زيد بن عمرو وهو ابن الرجل الذي كان حنيفيا يبحث عن دين إبراهيم، وخالد بن سعيد بن العاص اعتنق الإسلام لأنه رأى نفسه في المنام على حافة هاوية من النار يدفعه إليها أبوه، ويدفعه عنها رجل آخر لينقذه منها، ويمكن تفسير ذلك بانشغال عقله الباطن في الأمور الدينية واعتناقه الإسلام لاعتقاده بأن فيه المنجى والمخلص، أما عمر بن الخطاب الذي أسلم بعد هذه الفترة فقد أسلم لتأثره من سماعه آيات القرآن ومن رؤيته أخته تتأذى «1» . ترى! كم من المسلمين قادتهم إلى الإسلام تلك (الهزة الوجدانية) التي أحدثتها آيات القرآن الكريم الساحرة المعجزة وهي تتلى عليهم، فتغسل ضمائرهم وتزيل رين قلوبهم، وتعيد ألق الذكاء إلى عقولهم، ونور اليقين إلى بصائرهم وأفئدتهم؟ وهل بعد هذه (الهزة) الشاملة التي تنقل الإنسان من حال إلى حال، تفكير (منفعي) محدود في أمعاء تمتلىء طعاما، وجيوب تفيض فضة وذهبا؟! ما   (1) محاضرات في تاريخ العرب 1/ 338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الذي دفع عثمان بن عفان، وهو في قمة قريش غنى ومكانة وأمانا ومحبة وجاها، إلى أن يتمرد على جاهليته، ويقف في لحظات الدعوة الأولى، الصعبة، الغامضة، الخطيرة، بمواجهة قومه وعشيرته، رافضا الغنى والمكانة والجاه والمحبة، مختارا بدلا منها الفقر والاحتقار والزراية والخوف والكراهية؟ حتى إنه ليستهين بسياط عمه وهي تنزل على ظهره من أجل أن يعود ثانية إلى حظيرة الآباء والأجداد؟ وما الذي دفع أبا بكر- وعشرات غيره- إلى أن ينفقوا من أموالهم الخاصة التي سهروا وكدحوا على جمعها وتنميتها، ينفقوها حتى آخر درهم، حتى أن الرسول ليسأل رفيقه الصديق: وما الذي أبقيت لعيالك يا أبا بكر؟ فيكون جوابه: أبقيت لهم الله ورسوله!! وما الذي دفع سعد بن أبي وقاص، الغني المدلل، إلى أن يرفض توسلات أمه، وقد أوثقته رباطا، من أجل أن يرتد عن دينه، حتى ليسلمها الهم من جراء ذلك إلى المرض، فما يكون جوابه إلا أن يقول للأم التي هي أعز الأحبة على قلوب الأبناء: والله يا أم لو رأيتك تموتين مائة مرة ثم تعودين ثانية إلى الحياة ما ردّني ذلك عن ديني!! .. وغير عثمان وأبي بكر وسعد ... كثيرون!! لقد انتمى إلى الإسلام- كما يقول مونتكمري وات- شباب من أفضل العائلات، وخالد بن سعيد أفضل ممثل لهذه الفئة، ولكن هنالك آخرون غيره وكانوا ينحدرون من أقوى العائلات وأشهر القبائل، تربطهم روابط متينة بالرجال الذين يملكون السلطة في مكة، وكانوا في مقدمة أعداء محمد. ومن المهم أن نشير إلى أنه وجد في معركة بدر أمثلة على الأخوة والآباء والأبناء والعم وابن الأخ الذين كانوا يقاتلون في صفوف كلا الحزبين. ويمضي (وات) إلى القول بأن أهم فكرة نستخرجها من هذا (العرض عن المسلمين الأول) هو أن الإسلام الفتي كان في الأساس حركة شباب، إذ أن معظم الذين نعرف أعمارهم لم يتجاوزوا الأربعين عند الهجرة- وبعضهم كانوا أصغر كثيرا- وكثير منهم كانوا قد اعتنقوا الإسلام منذ ثماني سنوات. ولم يكن الإسلام، من جهة ثانية، حركة رجال من طبقة مستضعفة من حثالة الناس أو من طفيليين صعاليك حطوا رحالهم في مكة. ولم يستمد الإسلام قوته من رجال الدرجة السفلى في السلم الاجتماعي بل من أولئك الذين كانوا في الوسط «1» . ثم ما يلبث (وات) أن يقع في نفس الخطأ الذي   (1) محمد في مكة ص 159- 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وقع فيه معظم الغربيين الذين يجدون أنفسهم ملزمين بتطبيق مقاييسهم الخاصة على تاريخنا.. وقد ناقشنا هذه المسألة في مقدمة هذه الدراسة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وإلى أي دين كان ينتمي هؤلاء المترفون الأغنياء ومتوسطو الحال، الذين ينتمون إلى أشهر القبائل المكية وأعلاها سلطة ومكانة؟ إلى الدين الذي كانت حملات كتابه الكريم تتنزل منذ بداياتها الأولى (العلق، القلم وغيرهما) «1» صواعق على رؤوس الأغنياء والزعماء، تلك الآيات التي «.. نددت بالأغنياء الذين يقبضون أيديهم عن مساعدة الطبقات المعوزة وحثت على الإنفاق كثيرا، كما أنها حاربت الزعامة الطاغية الباغية المعتزة بالقوة والمتكبرة عن الحق» «2» . وهكذا تبدو طبيعة الدعوة الإسلامية منذ بدئها، عظيمة رائعة في حدبها على هذه الطبقة التي تتألف منها عادة أكثرية الجماهير، وتحريرها ورفع مستواها «3» . [2] ولن تتكامل الصورة إلّا بأن نتجاوز، في تحليلنا هذا، مرحلة الدعوة السريّة إلى المرحلة المكية عامة لنرى في الجهة المقابلة الدوافع الحقيقية التي قادت المشركين وزعماءهم إلى مقاومة الدعوة، وهي دوافع لا تنصبّ على الجانب المادي فحسب، بل تمتد إلى كل مساحات التصوّر والشعور والحياة الجاهلية، وإن كان للجانب (المادي) أهمية كبيرة بين هذه الدوافع إلا أنه لا يمكن أن يغطي المساحة كلها ويحجب الدوافع الآخرى، الدينية والنفسية والسياسية والثقافية، عن أعين الباحثين، ذلك «أن مقاومة المشركين للإسلام، رغم الجمود الظاهر لديانتهم، يمكن تعليله بأن دينهم، وإن لم يكن يلعب دورا كبيرا ظاهرا في حياتهم   (1) انظر سورة الزخرف: الآيتان 22- 23، سورة هود: الآية 116، سورة المزمل: الآيتان 11- 12، سورة الإسراء: الآية 16، سورة الواقعة: الآيات 41- 48، سورة الحاقة: الآيات 25- 29، سورة الهمزة: الآيات 1- 4، سورة سبأ: الآيات 31- 37، سورة غافر: الآيتان 47- 48، سورة إبراهيم: الآية 21، سورة الأحزاب: الآيتان 66- 67، سورة الأعراف: الآيات 36- 40، سورة الفرقان: الآية 21، سورة الأنعام: الآية 133، سورة الجاثية: الآية 31، سورة الجن: الآية 24، سورة النازعات: الآيتان 28- 29، سورة النبأ: الآيتان 21- 22، وانظر صالح أحمد العلي: محاضرات 1/ 357- 359. (2) محمد عزة دروزة: سيرة الرسول 1/ 165. (3) المرجع السابق 1/ 181- 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 اليومية، إلا أنه كان متغلغلا ومتعمقا في اللاشعور فيهم، فهم يعيشون فيه دون أن يفهموه أو يدركوه، كما أنه لطول أمد استقراره لم تكن هناك حاجة للتحدث به أو الدفاع عنه. ولكن الإسلام بنقده لدينهم كان تحديه موجها لا إلى عقائدهم فحسب بل إلى ذاتيتهم وإلى كيانهم الروحي، فاندفعوا يدافعون عنه بقوة. ومما زاد في قوة هذه المقاومة، روح المحافظة التي تتجلى عند البدو بصورة خاصة. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تبين أثر روح المحافظة في المقاومة غير المفكرة التي واجهوا الإسلام بها وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ «1» .. ومما زاد في عنف مقاومتهم أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للوحدانية كانت جديدة عليهم، فلم يكن قد أتاهم من قبله رسول» «2» . ولا ريب أن هذا الدافع (اللاشعوري) هو الذي يفسّر لنا إصرار زعماء (الشرك) ، خلال تعذيبهم للمسلمين، وضغوطهم ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يدعوا سبّ آلهتهم وشتم آبائهم وأجدادهم وهو الأمر الذي كان يتكرر كثيرا في ميدان العلاقات الوثنية- الإسلامية، كما يفسّر لنا تشبث رجل عاقل كأبي طالب بدينه الوثني، رغم حمايته المعروفة لابن أخيه، بحجة أن هذا التغيير لا يليق برجل كبير موقر مثله.. فتغيير دين الآباء والأجداد (عار) لا يلائم كبار رجالات مكة وشيوخها أولئك الذين كان يقود خطاهم إحساس (رجعي) متأصل في نفوسهم، تعبر عنه الآية الكريمة، وقالوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «3» .. وغيرها كثير.. ولعل من أهم أسباب المقاومة كذلك- يقول دروزة- ما كان للزعامة الوثنية من دور خطير في المجتمع العربي حيث كان الزعماء- وخاصة الزعماء الأغنياء- يتمتعون بنفوذ السيادة.. ومنها ما كان من رسوخ عصبية التقاليد في المجتمع العربي، وما استهدفته الدعوة من هدم كثير من تقاليد العرب الأصلية والفرعية، أو تعديلها: كالشرك على أنواعه، والاستشفاع بالملائكة، وما شاب الشرك من وثنية مادية، وكالعصبية الاجتماعية الضيقة وما كانت تتشدد فيه من حزبيات عائلية   (1) سورة سبأ: الآية 43، وانظر: سورة الزخرف: الآيات 22- 24، سورة لقمان: الآية 21، سورة البقرة: الآية 170، سورة المائدة: الآية 104، سورة الصافات: الآيات 69- 71. (2) العلي: محاضرات 1/ 341- 342. (3) سورة الزخرف: الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وقبلية «1» ، وشؤون القيان والمرأة والرقيق والتحريم والتحليل في كثير من الأمور.. وخوف الزعامة القرشية وأغنياء مكة معا على ما كان لهم ولمكة من مركز ومنافع أدبية ومادية عظيمة، بسبب وجود بيت الله في مكة وسدانتهم له.. ثم هناك ما أثاره فيهم الإنذار بالبعث والقيامة، والوصف المسهب للحياة الآخروية، الوارد في القرآن من عجب واستغراب، لا سيما أن هذا لم يكن مما هو معروف بهذه الصراحة والإسهاب عند الأمم الكتابية التي كان لها أثر في أفكار العرب ومعارفهم. ولعل في تجريد الأغنياء والأقوياء من أسباب قوتهم ومكانتهم، وتحقيرهم الدائم، إثارة للسواد على الزعماء وتحريضا على عصيانهم فيما يأمرونهم به من عدم الاستجابة إلى الدعوة. وقد كانت طبيعة النبي البشرية، من أسباب المقاومة كذلك.. إذ كان العرب يتخيّلون أن النبي لا بد أن يكون ذا قوى خارقة يفترق بها عن طبائع البشر ويستطيع أن يفعل ما لا يفعله سائر الناس من خوارق المشاهد.. فلما رأوه مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وسمعوه يعلن بلسان القرآن أنه بشر مثلهم.. جحدوا نبوته وكذبوا صلته بالله، ونعتوه بالمجنون والشاعر أو الساحر أو الكاهن «2» .. ونمضي في تعمّق أسباب المقاومة الوثنية للدعوة، فنجد (وات) يحدثنا عن مجموعة أخرى من الأسباب، مؤكدا في الوقت نفسه دور الأسباب التي سبق ذكرها.. «إن السبب الأساسي في المعارضة كان بدون شك، أن زعماء قريش وجدوا أن إيمان محمد بأنه نبي ستكون له نتائج سياسية، وكانت السنة العربية القديمة تقول: إن الرئاسة في القبيلة يجب أن تكون من نصيب أكثر الرجال حظا من الحكمة والحذر والعقل، فلو أن أهالي مكة أخذوا يؤمنون بإنذار محمد ووعيده وجعلوا يستفسرون عن الطريقة التي يجب أن تدار بها شؤونهم، فمن ذا الذي يحق له نصحهم غير محمد نفسه؟» ويمضي وات إلى القول بأن زعماء مكة كانوا من بعد النظر بحيث أقروا بالتناقض بين تعاليم القرآن الأخلاقية ورأس المال التجاري الذي كان عماد حياتهم.. كما كان العرب بطبيعتهم، أو حسب تربيتهم محافظين.. ويقول الزهري بأن سبب المعارضة، بالإضافة إلى مهاجمة الأصنام، القول بأن مصير أجدادهم النار، ويرتبط احترام الأجداد هذا ارتباطا وثيقا بتقديس   (1) انظر تفسير ابن كثير لآيات سورة الأنعام: الآيات 33- 36. (2) انظر بالتفصيل: دروزة: سيرة الرسول 1/ 183- 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 العادات والتقاليد القديمة. وبينما كان بعض المعارضين ذوي نزعة فردية قوية، فقد كان أكثرهم محافظة يعترف ببعض الولاء للجماعة، فكانوا يرون إذن في نزعة الإسلام لإحداث انقسامات حادة في العائلة دليلا آخر على أن التخلي عن الطريق الذي سلكه الأجداد يؤدي إلى نتائج وخيمة، وربما بدا لهم ذلك جديرا بتهديم المجتمع بأكمله، وكان هذا ما يحدث فعلا ... وما يلبث (وات) أن يخلص إلى القول بأن أسباب معارضة الإسلام- إذا وضعنا جانبا كل مصلحة شخصية- كانت الخوف من نتائجه السياسية والاقتصادية والنزعة المحافظة الصرفة، وكانت المشكلة التي جابهها محمد لها جوانب اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية، غير أن رسالته كانت في الأساس دينية بحيث أنها حاولت علاج الأسباب الدينية الكامنة لهذه المشكلة ولكنها انتهت لمعالجة الجوانب الآخرى ولهذا اتخذت المعارضة أشكالا مختلفة «1» . إن شعار (لا إله إلا الله) الذي أمر محمد صلى الله عليه وسلم برفعه في وجه الجاهلية، جاء انقلابا شاملا على كل المستويات الدينية والاجتماعية والفكرية والنفسية والأخلاقية والسياسية والسلوكية، إذ هو إشعار واضح بضرورة ردّ الأمر كله إلى الله (الحاكم) و (المشرع) وتجريد الإنسان فردا وجماعة، من الخضوع لمقاييسه الجزئية القاصرة، واتباع (الهوى) و (الظن) في كل صغيرة وكبيرة. ولقد رأينا خلال عرضنا للطور العلني للدعوة أن جلّ كلمات القرشيين ومرتكزات حوارهم مع أبي طالب، أو مع محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، من أجل إقناعه بالعدول عن دعوته، ما كانت لتنصب على الدفاع عن مصالحهم المادية، بقدر تشبثها بمعتقداتهم وقيمهم، كما نلمح من خلالها إدراكهم الكامل لأبعاد عبارة (لا إله إلا الله) وخطورتها الشاملة إزاء وجودهم الجاهلي كله. ويمكن أن نذكر هنا- على سبيل المثال- رواية ابن سعد التي تقول إن وفدا من زعماء قريش قدموا إلى أبي طالب ليلتمسوا إليه أن يكف ابن أخيه، فاستدعاه وقال له «يا ابن أخي، هؤلاء عمومتك وأشراف قومك وقد أرادوا أن ينصفوك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا أسمع!! قالوا: تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك. قال أبو طالب: قد أنصفك القوم فاقبل منهم. فقال رسول الله: أرأيتم إن أعطيتكم هذه، هل أنتم معطيّ كلمة   (1) محمد في مكة ص 214، 215- 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 إن أنتم تكلمتم بها ملكتم العرب، ودانت لكم بها العجم؟ فقال أبو جهل: إن هذه كلمة مربحة، نعم وأبيك، لنقولنها وعشر أمثالها!! فقال الرسول: قولوا (لا إله إلا الله) !! فاشمأزوا ونفروا منها وغضبوا وقاموا وهم يقولون وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ» «2» . فليست الحركة الإسلامية إذن حركة طبقة ضد طبقة، فقد انتمى إليها أناس من شتى الطبقات. وسواء كانت هذه السمة (الطبقية) ناتجة عن تحرك الفقراء ضد الأغنياء، كما يرى بعض الباحثين، أو من الأغنياء لكبت ما تحسّسوا منه رائحة ثورة شاملة سيقوم بها الفقراء ضد مصالحهم ومراكزهم، كما ارتأى باحثون آخرون «3» ، فإن هذه الافتراضات، التي ينقض بعضها بعضا، تعود لكي تنتقض نهائيا بمجرد عرضها على (الواقعة التاريخية) نفسها.. إذا ما أردنا البحث الموضوعي الجاد، وإلا فإن التخمين والاستنتاج والإسقاط المعاصر على التاريخ، دون رؤية وارتكاز على أبعاد الواقعة نفسها يقودنا ولا ريب إلى (إسرائيليات) من نوع جديد، تتدثر بدثار العلم والموضوعية وما هي منهما بشيء!! [3] بعد أن تم بناء القاعدة (الصلبة) للدعوة متمثلة بأولئك الرواد الأوائل من المسلمين الذين انتموا للإسلام عبر سنيه الصعبة وغربته، والذين علمتهم التجارب المقدرة على الصمود بوجه الضغوط مهما غلا الثمن، والذين أنضجتهم حشود الآيات القرآنية التي كانت تتنزل (على مكث) حينا بعد حين ... أصدر الله أمره إلى رسوله الكريم أن يتجاوز المرحلة السريّة للدعوة صوب الجهر والإعلان ... وهذا أمر لا بدّ منه لدعوة عالمية شاملة جاءت لكي تثبت وجودها المنظور في الأرض العربية أولا، وفي العالم المحيط ثانيا.. كل ذلك في فترة لا تعدو ما تبقى للرسول صلى الله عليه وسلم من سني عمره المحدود.   (1) سورة ص: الآية 6. (2) الطبقات 1/ 1/ 135 وانظر المصدر نفسه 1/ 1/ 137 والبلاذري: أنساب 1/ 126، 128، 133، 1 4 1 وابن الأثير: الكامل 2/ 65. (3) انظر عبد العزيز الدوري ورفاقه: تفسير التاريخ ص 15- 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 كان اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بعشيرته الأقربين في أطراف مكة هو بداية العهد الجديد، وقد انتهى ذلك الاجتماع الحاشد بصدّ محزن عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنذاره.. ومنذ تلك اللحظة انفجر الصراع الواضح المكشوف بين المعسكرين.. المشركون الذين استخدموا كل أسلوب والتمسوا كل وسيلة لوقف حركة الإسلام إلى الأمام ... والمسلمون الذين لم يؤمروا بالعنف- طيلة العصر المكي- لئلا يتعرضوا لعملية إبادة تحقق للوثنية ما كانت تأمله وترجوه.. وقد بدأ رجال الملأ نشاطهم المضاد في سلسلة من الاتصالات المبطنة بالوعد والوعيد مع أبي طالب ومحمد صلى الله عليه وسلم، فلما أعقبت- جميعها- فشلا، وأعلن النبي عن موقفه الذي لا مهادنة فيه ولا مساومة، في كلمته الحاسمة «والله يا عم..» وجدت الوثنية نفسها مسوقة إلى استخدام أساليب العنف والاضطهاد والحرب النفسية، لوقف الخطر الجديد، وانقضّت كل عشيرة على أبنائها وعبيدها المسلمين تعمل فيهم تعذيبا وتحطيما للمعنويات واضطهادا، ولم ينج الرسول نفسه من هذا البلاء النازل، وهو وأصحابه صامدون صابرون للمحنة، تسندهم تجارب سنين طويلة من العمل والنمو العقيدي، وتمنحهم المعنوية والثقة آيات القرآن البينات التي كانت تتنزل في قلب المحنة لكي ترفع المؤمنين إلى أفق الأمل واليقين بالنصر.. وإلى جانب هذا وذاك كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينفخ في أصحابه روح الثبات والمقاومة ويرسم لهم بذكائه الثاقب، وبالهدي الإلهي، الطرائق والأساليب التي تقترب بهم يوما بعد يوم من الهدف الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وعد أصحابه ببلوغه مهما طال الطريق وعظمت المصائب.. ولم يكن التخطيط للهجرة الموقوتة إلى الحبشة، والاتصال المستمر بالقبائل والوفود القادمة إلى مكة، والذهاب إلى الطائف، ولقاآت العقبة الثلاث إلا خطوات على الطريق.. وكلما ازدادت المحنة وعظم البلاء ساق الله إلى الدعوة رجالا كبارا لهم وزنهم في مجرى الأحداث وقدرتهم على المقاومة والتحدي والتغيير. ولم يكن إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلا أمثلة بيّنة على الإرادة المعجزة التي تسوق، وفق منطقها وقضائها الذي لا رادّ له، رجالا من قلب الجاهلية، ومن صميم زعامتها، إلى ساحة الحركة الجديدة، ليسوا أتباعا عاديين، وإنما قادة وزعماء يلعبون دورهم في إيجاد نوع من التوازن في القوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 بين الدين الجديد والجاهلية يمكّن الإسلام من أن يشق طريقه وسط ركام من العوائق والمصاعب والآلام. وإذ شعرت قريش أنها أخفقت في كل الأساليب التي اعتمدتها لوقف انتشار النار، فقد ارتأت في أعقاب اجتماع عقده زعماؤها أن ترفع سلاح (المقاطعة الشاملة) كعقاب (جماعي) للمسلمين وحماتهم من بني هاشم وبني المطلب، علها تضعف قدرة أتباع محمد على المقاومة، وتدفع حماتهم، الذين تشدهم إليهم نخوة العصبية، إلى أن ينفضوا من حولهم ويتركوهم وحيدين، معزولين، مجردين من الحماية، وسط عاصفة الغضب الهوجاء التي اجتاحت صدور المشركين وساحات مكة.. إلا أن السلاح الجديد يثلم هو الآخر إزاء مقاومة المسلمين وقدرتهم العجيبة على التحمل، وإزاء التركيب الاجتماعي في مكة، ذلك الذي دفع عددا من أبنائها الذين تربطهم العصبية بواحد أو أكثر من المحاصرين في شعب أبي طالب إلى أن يتحركوا لوقف هذه المظلمة، وتمزيق الصحيفة التي سطرت فيها كلمات القطيعة.. ويخرج المسلمون من الأسر الصعب بعد ثلاث سنين من العزلة والجوع والحرب النفسية، وهم أصلب عودا، وأغنى تجربة، وأكثر قدرة على التحرك صوب الهدف الذي آلوا أن يسيروا إليه وراء رسولهم، حتى ولو كلّفهم ذلك أنهارا من الدماء.. وكانت الأحداث تتلاحق والاضطهاد الوثني يزداد عنفا وشراسة، ويزيده فتكا وإيلاما، وفاة سندي الرسول العاطفي والاجتماعي: الزوجة والعم، وفشل رحلته إلى الطائف، وكأن إرادة الله كانت تعد، من وراء الظلام الذي ازداد عتمة وكثافة، بالفجر القادم الذي لا ريب فيه ... ولن يكون ذلك إلّا بالأسباب.. وهل بعد (الأسباب) التي منحها الرسول فكره وأعصابه وطاقاته وهمومه جميعا، بقادرة على أن تحقق (وعد الله) ! وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ... «1» .   (1) سورة الأنعام: الآية 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 [4] في هذه الفترة، جاءت حادثة (الإسراء والمعراج) «1» تثبيتا للرسول صلى الله عليه وسلم على طريق المقاومة الطويل، وتكريما له في أعقاب سنين طويلة من العمل والصمود والكدح، وتتويجا لهذه السنين الصعبة، رفعه إلى قلب السماوات، وأطلعه على جوانب الإعجاز الإلهي الباهر في الكون الكبير وهي امتحان- في الوقت نفسه- لقدرات أصحابه على تصوّر المدى الذي ينافحون مع رسولهم صلى الله عليه وسلم من أجل إخراج (الإنسان) إليه، وهو مدى رحيب يتجاوز أبعاد الملموس والمسموع والمنظور، وينأى عن الأحجام المباشرة للأشياء، ويمتد بعيدا صوب الآفاق التي بإيمان الإنسان بها وحركته صوبها يغدو إنسانا وإلّا فهو كالأنعام، وأضل من الأنعام التي لا تعرف غير أن تأكل وتشرب وتنام، ولا ترى إلّا الأشياء المرئية التي تنعكس إشعاعاتها على قرنية عينيها، ولا تسمع إلا الأصوات التي تلامس طبلات أذنيها، وأمّا ما وراء ذلك فهو العدم الذي لا تحس به ولا تعرف عنه شيئا!! ورواية الإسراء والمعراج ترد في صحيح البخاري بهذا الشكل: «عن مالك ابن صعصعة (رضي الله عنه) أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: بينما أنا في الحطيم- وربما قال في الحجر- مضطجعا إذ أتاني آت فقد قال، وسمعته يقول، فشقّ ما بين هذه إلى هذه ... فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض، قال الراوي وهو البراق، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلّم عليه، فسلمت عليه فردّ السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح ... » ومن ثم تستعرض   (1) قبل الهجرة بعام وبعض عام، وكان عمر الرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك- كما يروي المسعودي- إحدى وخمسين سنة وثمانية أشهر وعشرين يوما (مروج 2/ 283) . ولا بد أن نشير إلى أن هنالك خلافا في زمن وقوع الحادثة حيث يذهب بعضهم إلى أنها وقعت قبيل منتصف العهد المكي: ولم يكن المهاجرون إلى الحبشة قد هاجروا إليها بعد (انظر دروزة: سيرة الرسول 1/ 222) ، ونحن نرجح الروايات التي تجعلها في أواخر العصر المكي انسجاما مع مغزاها ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الرواية، بنفس الأسلوب، اجتياز الرسول السماوات السبع واحدة بعد واحدة ولقاآته بيحيى وعيسى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم عليهم السلام،، وكل منهم يستقبل الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: (مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح) . ويستأنف الراوي حديثه «ثم رفعت- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم- إلى سدرة المنتهى، فإذا نبتها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال جبريل: هذه سدرة المنتهى. وإذا أربعة أنهار، نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رفع لي البيت المعمور، فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم!! قال: فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت..» ثم تستعرض الرواية التماسات الرسول من الله سبحانه تخفيف عدد الصلوات إلى أن أنقصها إلى خمس ... «قلت ... أرضى وأسلم، فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» «1» . وفي حديث لعبد الله بن مسعود، في سيرة ابن هشام ترد الرواية التالية: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق، وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في منتهى طرفها، فحمل عليها، ثم خرج به صاحبه يريه الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، قد جمعوا له، فصلى بهم ثم أتي بثلاث آنية ... إلى آخر الحديث» «2» . قال ابن إسحاق: وحدثت عن الحسن أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه، فخرج بي إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، بين البغل   (1) التجريد الصريح 2/ 68- 70 وانظر حديث أنس بن مالك عن أبي ذر: نفس المصدر 1/ 38- 39، الطبري: تاريخ 2/ 307- 309 ابن سعد 1/ 1/ 132- 133. (2) ابن هشام ص 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 والحمار في فخذيه جناحان، يحفز بهما رجليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه، ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته ... إلى آخر الرواية «1» ... » . وأما الآيات الكريمة التي وردت بشأن حادثتي الإسراء والمعراج فنجدها في سورتي (الإسراء) و (النجم) أولاهما سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «2» والآخرى وَلَقَدْ رَآهُ «3» نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «4» «فتعليل الإسراء- كما نصت الآية- أن الله يريد أن يري عبده بعض آياته. ثم أوضحت آيات المعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد بالفعل بعض هذه الآيات الكبرى. وقد اختلف العلماء، من قديم، أكان السري الخارق بالروح وحده أم بالروح والجسد جميعا؟ والجمهور على القول الأخير» «5» . في صبيحة اليوم التالي غدا الرسول صلى الله عليه وسلم على قريش، فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس «هذا والله الأمر البيّن! والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟» . وذهب الناس إلى أبي بكر، رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم وأول رجل آمن بدعوته، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر، في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلّى فيه ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى ها هو ذاك في المسجد يحدّث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه! فهذا أبعد مما تعجبون منه. وأقبل أبو بكر على الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال أبو بكر: يا نبي الله فصفه لي،   (1) ابن هشام ص 93- 94. (2) سورة الإسراء: الآية 1. (3) يعني جبريل. (4) سورة النجم: الآيات 13- 18. (5) الغزالي: فقه السيرة ص 135 وانظر Tor Andrae:Mahomet ,p. 94 وهو من القائلين بإسراء محمد بالروح دون الجسد. وعن التأثيرات الأدبية لحادث الإسراء والمعراج والروايات التي أضيفت إليها فيما بعد، على (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانتي انظر: Miguel Asin:Islam and the Divine Comedy.Tr.H.Sunderland) London 6291 (. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فإني قد جئته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فرفع لي- أي بيت المقدس- حتى نظرت إليه» ثم راح يصفه لأبي بكر وأبو بكر يقول: صدقت، أشهد أنك رسول الله. حتى إذا انتهى الرسول من وصفه، التفت إلى صاحبه وقال: أنت يا أبا بكر الصدّيق «1» !! وينقل ابن إسحاق عن الحسن قوله: إن كثيرا ممن أسلم ارتد في أعقاب سماعهم الرسول يتحدث بأمر الإسراء والمعراج «2» ، ولا ريب أن في هذا التعليق مبالغة إذا ما عرضناه على المنطق الذي ناقش به أبو بكر الصديق القضية كلها: إن المسلمين الأوائل الذين انتموا للإسلام، في عهد محنته، تصديقا، بما يجيئهم من الرسول صلى الله عليه وسلم من خبر السماء لا يمكن أن يهزهم نبأ الإسراء والمعراج، ويردهم إلى حظيرة الكفر.. لكن هذا لا يمنع أن (قلة) من ضعاف الإيمان، الذين يؤرجحهم التردد، ويرهقهم طغيان قريش وحربها النفسية قد يجدون في هذا النبأ مجالا للانقلاب إلى عالم الكفر الذي خرجوا منه عن غير وعي أصيل، والخلاص من الامتحان والاضطهاد اللذين أدركوا أنهما سيزدادان في أعقاب النبأ الجديد. يؤكد هذا ما ورد في مسند أحمد «3» من حديث ابن عباس الذي قال فيه «أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره إلى بيت المقدس، وبعيرهم، فقال ناس: نحن نصدّق محمدا بما يقول؟ فارتدوا كفارا، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل» أي في معركة بدر. هذا هو الهيكل العام لقضية الإسراء والمعراج، وردود الفعل التي أثارتها. وقبل أن نبدأ تحليل (البعد الزمني) للقضية، وهو أخطر ما في الموضوع، لا بد أن نستعرض- أولا- القيم والمعاني التي تتبدى من خلالها. لقد أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تأكيدا للرباط المتين الذي يشد البلدين إلى بعضهما، حيث انطلق الأنبياء على مدار القرون، يدعون إلى عبادة الله الواحد ورفض الصنميات الفانية.. في مكة حيث أقام إبراهيم أبو الأنبياء، وابنه إسماعيل أول بيت لله على الأرض.. وفي القدس حيث انبعثت نبوات متتالية تكافح من أجل تعزيز دعوة النبي الأب إبراهيم. وهناك كان الأنبياء الكرام السابقون ينتظرون (خاتمهم) لكي يؤمهم في صلاة جماعية،   (1) ابن هشام ص 94- 95 وانظر ابن سعد (1/ 1/ 144. (2) ابن هشام ص 94. (3) حديث رقم 4546. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 تعبيرا عن الدور الواحد الذي جاؤوا إلى العالم لأدائه، واتجاها إلى الهدف الواحد الذي بعثوا لتحريك الناس إليه، وسجودا لله الواحد الذي كرم الإنسان وشرفه بالدين.. ووقوفا وراء النبي الذي جاء لكي يتمم البناء ويضع اللبنات المحكمة الأخيرة فيه.. ويمضي.. ومنذ البدء كان الله سبحانه قد أخذ ميثاق النبيين وعهدهم على أن يصدق بعضهم بعضا ويتمم اللاحقون منهم الشوط الذي كان السابقون قد بلغوه وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «1» . ثم تجيء التحيات المتبادلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين إخوانه السابقين عليهم السلام، وهو يصعد بصحبة جبريل عبر السماوات، تأكيدا وتعزيزا لهذه (الوحدة) النبوية التي لا انفصام لها وتقديرا للمبعوث (الأخير) الذي كتب عليه شرف إتمام البناء وإكمال الدين وتحميل الإنسان مسؤوليته الكاملة، أيا كان هذا الإنسان. إن نبينا صلى الله عليه وسلم يحدثنا بنفسه فيقول: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلّا وضعت هذه اللبنة؛ فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين» «2» . وكان المسيح (عليه السلام) قد أكد لأتباعه على هذا الرجل الذي سيبعث لإتمام البناء «3» . وفي ليلة الإسراء والمعراج، يقول محمد الغزالي «تأكدت الصفة الأولى لهذا الدين وهي أنه دين الفطرة، ففي الحديث (.. ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن ... ) إن سلامة الفطرة لبّ الإسلام، ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة عليل القلب. إن الفطرة الرديئة كالعين الحمئة لا تسيل إلا قذرا وسوادا، وربما أخفي هذا السواد الكريه وراء الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «2» والآخرى وَلَقَدْ رَآهُ «3» نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «4» «فتعليل الإسراء- كما نصت الآية- أن الله يريد أن يري عبده بعض آياته. ثم أوضحت آيات المعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد بالفعل بعض هذه الآيات الكبرى. وقد اختلف العلماء، من قديم، أكان السري الخارق بالروح وحده أم بالروح والجسد جميعا؟ والجمهور على القول الأخير» «5» . في صبيحة اليوم التالي غدا الرسول صلى الله عليه وسلم على قريش، فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس «هذا والله الأمر البيّن! والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟» . وذهب الناس إلى أبي بكر، رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم وأول رجل آمن بدعوته، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر، في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلّى فيه ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى ها هو ذاك في المسجد يحدّث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه! فهذا أبعد مما تعجبون منه. وأقبل أبو بكر على الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال أبو بكر: يا نبي الله فصفه لي،   (1) ابن هشام ص 93- 94. (2) سورة الإسراء: الآية 1. (3) يعني جبريل. (4) سورة النجم: الآيات 13- 18. (5) الغزالي: فقه السيرة ص 135 وانظر Tor Andrae:Mahomet ,p. 94 وهو من القائلين بإسراء محمد بالروح دون الجسد. وعن التأثيرات الأدبية لحادث الإسراء والمعراج والروايات التي أضيفت إليها فيما بعد، على (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانتي انظر: . (1926 nodnoL) dnalrednuS.H.rT.ydemoC eniviD eht dna malsI:nisA leugiM الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فإني قد جئته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فرفع لي- أي بيت المقدس- حتى نظرت إليه» ثم راح يصفه لأبي بكر وأبو بكر يقول: صدقت، أشهد أنك رسول الله. حتى إذا انتهى الرسول من وصفه، التفت إلى صاحبه وقال: أنت يا أبا بكر الصدّيق «1» !! وينقل ابن إسحاق عن الحسن قوله: إن كثيرا ممن أسلم ارتد في أعقاب سماعهم الرسول يتحدث بأمر الإسراء والمعراج «2» ، ولا ريب أن في هذا التعليق مبالغة إذا ما عرضناه على المنطق الذي ناقش به أبو بكر الصديق القضية كلها: إن المسلمين الأوائل الذين انتموا للإسلام، في عهد محنته، تصديقا، بما يجيئهم من الرسول صلى الله عليه وسلم من خبر السماء لا يمكن أن يهزهم نبأ الإسراء والمعراج، ويردهم إلى حظيرة الكفر.. لكن هذا لا يمنع أن (قلة) من ضعاف الإيمان، الذين يؤرجحهم التردد، ويرهقهم طغيان قريش وحربها النفسية قد يجدون في هذا النبأ مجالا للانقلاب إلى عالم الكفر الذي خرجوا منه عن غير وعي أصيل، والخلاص من الامتحان والاضطهاد اللذين أدركوا أنهما سيزدادان في أعقاب النبأ الجديد. يؤكد هذا ما ورد في مسند أحمد «3» من حديث ابن عباس الذي قال فيه «أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره إلى بيت المقدس، وبعيرهم، فقال ناس: نحن نصدّق محمدا بما يقول؟ فارتدوا كفارا، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل» أي في معركة بدر. هذا هو الهيكل العام لقضية الإسراء والمعراج، وردود الفعل التي أثارتها. وقبل أن نبدأ تحليل (البعد الزمني) للقضية، وهو أخطر ما في الموضوع، لا بد أن نستعرض- أولا- القيم والمعاني التي تتبدى من خلالها. لقد أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تأكيدا للرباط المتين الذي يشد البلدين إلى بعضهما، حيث انطلق الأنبياء على مدار القرون، يدعون إلى عبادة الله الواحد ورفض الصنميات الفانية.. في مكة حيث أقام إبراهيم أبو الأنبياء، وابنه إسماعيل أول بيت لله على الأرض.. وفي القدس حيث انبعثت نبوات متتالية تكافح من أجل تعزيز دعوة النبي الأب إبراهيم. وهناك كان الأنبياء الكرام السابقون ينتظرون (خاتمهم) لكي يؤمهم في صلاة جماعية،   (1) ابن هشام ص 94- 95 وانظر ابن سعد (1/ 1/ 144. (2) ابن هشام ص 94. (3) حديث رقم 4546. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 تعبيرا عن الدور الواحد الذي جاؤوا إلى العالم لأدائه، واتجاها إلى الهدف الواحد الذي بعثوا لتحريك الناس إليه، وسجودا لله الواحد الذي كرم الإنسان وشرفه بالدين.. ووقوفا وراء النبي الذي جاء لكي يتمم البناء ويضع اللبنات المحكمة الأخيرة فيه.. ويمضي.. ومنذ البدء كان الله سبحانه قد أخذ ميثاق النبيين وعهدهم على أن يصدق بعضهم بعضا ويتمم اللاحقون منهم الشوط الذي كان السابقون قد بلغوه وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «1» . ثم تجيء التحيات المتبادلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين إخوانه السابقين عليهم السلام، وهو يصعد بصحبة جبريل عبر السماوات، تأكيدا وتعزيزا لهذه (الوحدة) النبوية التي لا انفصام لها وتقديرا للمبعوث (الأخير) الذي كتب عليه شرف إتمام البناء وإكمال الدين وتحميل الإنسان مسؤوليته الكاملة، أيا كان هذا الإنسان. إن نبينا صلى الله عليه وسلم يحدثنا بنفسه فيقول: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلّا وضعت هذه اللبنة؛ فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين» «2» . وكان المسيح (عليه السلام) قد أكد لأتباعه على هذا الرجل الذي سيبعث لإتمام البناء «3» . وفي ليلة الإسراء والمعراج، يقول محمد الغزالي «تأكدت الصفة الأولى لهذا الدين وهي أنه دين الفطرة، ففي الحديث (.. ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن ... ) إن سلامة الفطرة لبّ الإسلام، ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة عليل القلب. إن الفطرة الرديئة كالعين الحمئة لا تسيل إلا قذرا وسوادا، وربما أخفي هذا السواد الكريه وراء ألوان زاهية، ومظاهر مزوقة، بيد أن ما ينطلي على الناس لا يخدع به رب الناس.. وفي المعراج شرعت الصلوات الخمس، شرعت في السماء لتكون معراجا يرقى بالناس كلما تدلّت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا..» «4» .   (1) سورة آل عمران: الآية 81. (2) أخرجه البخاري 6/ 436 ومسلم 7/ 64- 65. (3) انظر فصل (الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية) في هذه الدراسة. (4) الغزالي: فقه السيرة ص 142- 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 والنيل والفرات، ما صلتهما بالرحلة عبر السماوات؟ «لقد عرف محمد في هذه الرحلة أن رسالته ستنساح في الأرض، وتتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات وتنتزع هذه البقاع من مجوسية الفرس وتثليث الروم، بل إن أهل هذه الأودية سيكونون حملة الإسلام جيلا في أعقاب جيل، وهذا معنى رؤية النيل والفرات في الجنة، وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة كما يظن السذّج والبله» «1» . وفي رواية أنس بن مالك التي ذكرها البخاري في صحيحه «2» ، يرد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « ... ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان ما أدري ما هي؟ ..» .. ونحن نسمع اليوم من رواد الفضاء، عن الألوان التي تتراءى لهم عبر رحلاتهم في الفضاء وإلى القمر، لا يدرون ما هي.. وهل يضم عالمنا الأرضي كل الألوان وكل المسميات؟! وهل بمقدور لغات العالم كله ومصطلحاته أن (تعبّر) عن (موجودات) الكون الفسيح وأحداثه التي تنأى عن علمنا وبداهاتنا ومسلماتنا «3» ؟ «إن رؤية طرف من آيات الله الكبرى في ملكوت السماوات والأرض له أثره الحاسم في توهين كيد الكافرين وتصغير جموعهم ومعرفة عقباهم.. والله عزّ وجلّ يتيح لرسله فرص الاطلاع على المظاهر الكبرى لقدرته حتى يملأ قلوبهم ثقة فيه واستنادا إليه إذ يواجهون قوى الكفار المتألبة ويهاجمون سلطانهم القائم.. لقد جاء الإسراء والمعراج قريبا من منتصف فترة الرسالة التي مكثت ثلاثة وعشرين عاما وبذلك كانا علاجا مسح متاعب الماضي، ووضع جذور النجاح للمستقبل» «4» . ولم تكن حادثة الإسراء والمعراج معجزة قاهرة أريد منها قهر الناس على الاعتقاد بصدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم كما كان يحدث للأنبياء السابقين، ذلك أن القرآن الكريم سلك أسلوبا آخر في الإقناع يقوم على التأمل والمشاهدة والتجريب والحجة والبرهان، وإلا لكانت حادثة الإسراء والمعراج قد جاءت في الأيام   (1) الغزالي: فقه السيرة ص 139. (2) التجريد 1/ 38- 39. (3) يقول م. كريسي موريسون في كتابه Man Does Not Stand Alon ص 182 «إذا كانت الروح الخالدة تستطيع رؤية الأشياء كما هي، فإنها تقدر أن تكتسب جميع الحواس المختلفة الرقيقة التي لكل الكائنات الحية، وبذا تستطيع أن تدخل في ميادين جديدة عجيبة للمعرفة والتجربة والشعور ... وهناك ألوان أزهى من أن تتحملها عيون البشرية تنتظر تطور قدرتنا على الإحاطة بها ... » !! (4) الغزالي: فقه السيرة، مقتطفات ص 138، 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الأولى للدعوة حيث ضيق المشركون الخناق عليها وطاردوا أتباعها في كل مكان «فقد تكفل القرآن الكريم بإقناع أولي النهي من أول يوم، وجاءت في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ضربا من التكريم لشخصه، والإيناس له، غير معطلة للمنهج العقلي الذي اشترعه القرآن. وقد اقترح المشركون على النبي- يوما- أن يرقى في السماء، فجاء الجواب من عند الله قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا؟ «1» فلما رقي في السماء بعدئذ، لم يذكر قط أن ذلك رد على التحدي أو إجابة على الاقتراح السابق» «2» على العكس وجدنا الروايات تحدثنا عن أن صعوبة تصديق حادث غيبي كهذا دفع المشركين إلى مزيد من التحدي والاستهتار وردّ نفرا من المسلمين من ضعاف الإيمان إلى كفرهم!! ومهما يكن من أمر فإن حادث (التكريم) هذا «ترك ثماره في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم فاستراح إلى حمد الخالق وقل اكتراثه لذم الهمل من الجاحدين والجاهلين، ثم نشط إلى متابعة الدعوة، موقنا أن كل يوم يمر بها هو خطوة إلى النصر القريب» «3» . تأتي بعد ذلك مسألة البعد (الزمني) لحادثة الإسراء والمعراج، هذه التي اجتاز بها الرسول في ليلة واحدة، أو جزء من ليلة، المسافات الفاصلة بين مكة والقدس، وهي المسافات التي تتضاءل وتضيع إذا ما عرضناها على الأمداء الكونية الهائلة التي قطعها الرسول صلى الله عليه وسلم عبر السماوات، في أعماق ذلك الليل!! ولنرجع إلى القرآن نفسه نتمعن في بعض آياته ونستنطقها حول هذه المسألة. فهنالك حشد من الآيات واللمسات والإشارات منبثة في حنايا السور، نذكر منها- على سبيل المثال- هذه الآيات الموحية ذات الدلالة العميقة قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «4» وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ «5» يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا «6» قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ «7» وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ «8» ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «9» يَسْئَلُهُ مَنْ   (1) سورة الإسراء: الآية 93. (2) الغزالي: فقه السيرة ص 140. (3) المرجع السابق، مقتطفات ص 145. (4) سورة البقرة: الآية 259. (5) سورة يونس: الآية 45. (6) سورة الإسراء: الآية 52. (7) سورة المؤمنون، الآية 113. (8) سورة الروم: الآية 55. (9) سورة السجدة: الآية 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «1» إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً «2» وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «3» إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «4» ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ «5» ... إن بين هذه الآيات المنبثة في حنايا القرآن، وغيرها، ترابطا وانسجاما رياضيا دقيقا، وإن فيها تأكيدا مستمرا على الحقيقة «الطبيعية» التي لم تتكشف بعض جوانبها للعلم إلا أخيرا، تلك هي أن الزمن في الأرض والزمن في أمداء الكون ليسا سواء، وأن هناك فرقا شاسعا بين الوحدة الزمنية الأرضية والوحدة الزمنية الكونية يبلغ تارة 000، 365 ضعف ويبلغ تارة أخرى 000، 250، 18 بحساب القرآن الكريم نفسه!! ومن أجل ذلك سيشده الناس يوم القيامة، وسيظنون أن حياتهم الدنيا لم تكن سوى ساعة من نهار وأنهم لم يلبثوا إلا قليلا.. ومن أجل ذلك لنا أن نتصور لا بحسابنا الأرضيّ، ولكن بحساب المطلقات القرآنية الأمداء الزمانية (للأيام الست) التي خلق فيها الله سبحانه بناء السماوات والأرض، وأعدّ كرتنا الأرضية لاستقبال الحياة وإنمائها وتطويرها على يد الإنسان خليفة الله في الأرض وسيد مخلوقاتها. ولنتدبر- بعد ذلك- هذه الآية سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً «6» . إن الملائكة والروح، وقد تجردت من عوائق الجسد والتراب التي تقيد الإنسان، وتجاوزت قوانين الزمان والمكان الأرضية النسبية، تصعد الآن في طريقها إلى بارئها عبر معارج وأمداء لا يحيطها قط خيال إنسان، لأنها ستجتاز هذه الأمداء التي تبعثرت فيها خمسمائة مليون مجرة، في كل منها آلاف المجموعات الشمسية، كمجموعتنا وأكبر، تجتازها في يوم واحد لكنه ليس كأيامنا، إنه بحساب أيامنا ثمانية عشر مليونا وربع المليون يوما.. إنه اليوم الكوني الذي أشار إليه (أينشتاين) في (نسبيته) التي قادته إلى آفاق جديدة رحبة في ميدان العلوم الطبيعية والرياضية، حتى إنه ليقال إن وصول إنسان ما إلى إحدى المجرّات يحتاج إلى خمسمائة سنة ضوئية، لكن هذا   (1) سورة الرحمن: الآية 29. (2) سورة طه: الآية 104. (3) سورة الحج: الآية 47. (4) سورة الأعراف: الآية 54. (5) سورة غافر: الآية 49. (6) سورة المعارج: الآيات 1- 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الإنسان نفسه إذا ما تيسر له جهاز ينقله عبر الفضاء بسرعة الضوء فإنه سيختزل هذه المدة الشاسعة إلى ما يقرب من خمسين سنة فحسب!! إن الملائكة والروح المتخفف من أعباء الجسد وشد الأعضاء لا يعجزها أن تفوق في حركتها سرعة الضوء، ومن ثم فهي تعرج الكون كله في طريقها إلى خالق الكون جلّ وعلا في يوم واحد في حساب حركتها الزمنية عبر الكون لا بحسابنا.. ومن ثم ينادي الله في علاه رسوله الكريم وهو يشقى بدعوة أناس يرون يوم الحساب بعيدا كبعد السراب فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً «1» ، وهذا يقربنا بعض الشيء من فهم حادثتين زمنيتين عرضهما علينا القرآن الكريم في سيرة نبيين من أنبيائه عليهم السلام تكريما لهما وتقديرا: حادثة نقل عرش بلقيس في جزء من اللحظة وحادثة الإسراء والمعراج التي نحن بصددها. ونحن نقرأ عن الحادثة قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ. قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ. فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ «2» . ألا تلفتنا في هذا العرض عبارات كهذه عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها؟ ثم ألا يثير تساؤلنا تفوق (الإنسان) الذي عنده علم من الكتاب على (العفريت) وتمكنه من اختزال عملية النقل من ست ساعات إلى سدس اللحظة، وربط سليمان إتيانه العلم من قبلها بكونه مسلما، أي منقادا لأمر الله وسننه ونواميسه؟ ثم ألا يعني هذا كله إن منح (علم الكتاب) لرجل أو عفريت أو نبي أو ملك هو اطلاعه على الدستور الرياضي والطبيعي لقوانين الكون ومن ثم تسخيرها إلى أقصى مدى ممكن لتحقيق منجزات زمنية ومكانية تبدو بالمقاييس الراهنة خارقة معجزة؟ إن الناس قبل أن يسخّروا قوى البخار والكهرباء والذرة كانوا يقطعون عدة مئات من الأميال في شهرين أو ثلاثة، ولو قيل لهم آنذاك إن بإمكان الإنسان- لو   (1) سورة المعارج: الآيات 5- 7. (2) سورة النمل: الآية 38- 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 حظي بمزيد من العلم بنواميس الطبيعة وسننها- أن يختزل هذه المدة إلى أيام وإلى ساعات فإنهم سوف لن يصدقوا وسيتهمون القائل بشطط الخيال على أقل تقدير.. ومضت القرون وسخّر البخار والكهرباء والذرة وصرنا نصل إلى أطراف الأرض في ساعات معدودة، ونجتاز عالمنا الصغير صوب القمر، ونتطلع للذهاب إلى ما هو أبعد في مجموعتنا الشمسية، ولو قال لنا قائل الآن إنه سيجيء يوم يكشف فيه العلماء عن مزيد من (السنن والقوانين) الطبيعية والرياضية وأنهم سيتمكنون بذلك من صنع أجهزة تنقل الإنسان إلى القمر في ساعتين أو ثلاث لاتهمناه هو الآخر بشطط الخيال.. لكن ذلك اليوم سيجيء، وسيجيء حتما طالما كان هنالك سعي دائب للكشف عن مزيد من جوانب العلم الذي تسير به السماوات والأرض. وكثيرا ما يتكلم المتكلمون عن محاولات تجري لنقل الأجسام والأشياء من مكان إلى مكان بعيد، بسرعة كسرعة الضوء، بعد تفكيكها إلى تكويناتها الذرية الأولى وإعادة تركيبها من جديد في المكان الذي استقرت فيه متحدية حواجز المكان والزمان، وهذا الأمر كذلك لا يستبعد أن يتحقق في يوم قريب أو بعيد ... وهل كان بإمكان أحد قبل قرنين من الزمان أن يصدق أن بإمكان قنبلة لا تتجاوز حجم الكتاب، عوملت فيها الذرات التافهة الحقيرة معاملة خاصة معقدة، أن تدمر مدينة كبيرة بأسرها وتمحقها محقا من الوجود في دقائق ولحظات؟! إن القوانين والسنن الطبيعية التي تسير السماوات والأرض إلى غاياتها المرسومة في علم الله، والطاقات التي تحتويها هذه الكتلة الكونية هي هي في كل زمان.. والذي يتاح له الاطلاع على بعض جوانبها وفاعلياتها يستطيع أن يأتي بالعجب العجاب، وأن يتحدى الوقائع المألوفة ويتجاوز تحديات المكان والزمان ... فكيف وأن هذا العلم يمنح مباشرة من الله سبحانه معززا بإراداته التي لا تغلب لذلك الرجل الذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ «1» ، أو إلى نبي كسليمان عليه السلام، هل يعجزهما أن يأتيا بعرش بلقيس عبر آلاف الأميال في جزء تافه ضئيل من لحظة زمنية، أو يتحققا من إمكانية حدوث أمر كهذا؟ أما حادثة الإسراء والمعراج التي نحن بصددها، فإن ما يلفت نظرنا فيها ما   (1) سورة النمل: الآية 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ورد في البخاري عن مالك بن صعصعة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل على (براق) يضع خطوه عند أقصى طرفه انطلق به بصحبة جبريل إلى السماوات السبع ... إن البراق، هذا الذي يضع خطوه عند أقصى طرفه والذي يقطع المسافات الشاسعة في لحظات، يشتق اسمه من عالم الضوء والكهرباء، وهي تسمية ذات مغزى عميق جاءت في عصر لم يكن أحد فيه يعرف شيئا عن قوانين الضوء وسرعته وطاقات الكهرباء وإمكاناتها، وهي كما يبدو رمز مدهش للتعبير عن الانسجام الكامل بين رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سنن العلوم وقوانينها، تلك الرحلة التي لم يرد لها أن تكون إعجازا يفحم المشركين بعد إذ لم تقنعهم معجزة القرآن ذاتها، بقدر ما أريد لها أن تكون رحلة تكريم يطلع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على أطراف الكون الذي أبدع الله صنعه وأتقن حبكته، وإن كان من بديهات القول أن بإمكان الله سبحانه أن يتجاوز السنن والقوانين في أية لحظة يشاء، لأنه جلت قدرته صانع السنن والقوانين. لكن هذه الحقيقة الكبيرة لا تمنعنا من القول بأن رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أن تجد لها تفسيرا وتحليلا على نطاق الطبيعة والرياضيات لا يتجاوز- بطبيعة الحال- الظن والتخمين ... وفي صبيحة اليوم التالي عندما تحدى مشركو مكة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم بيت المقدس إن كان رآه حقا، طفق الرسول يصفه وكأنه معروض عليه عرضا، أزقته وأسواقه وباحاته وكنائسه وطرقاته. عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما كذبتني قريش قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» !! وأنا أنظر إليه!! لحظة من لحظات تجاوز الأبعاد والحواجز الزمانية والمكانية تعتمد السنن نفسها التي نقل فيها عرش بلقيس وأسري بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى القدس ثم عرج به في جزء من ليلة إلى أقصى الكون.. السنن التي جعلت عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فيما بعد يصرخ وهو في مسجد المدينة (يا سارية الجبل.. الجبل) سارية الذي كان يقاتل في العراق ويتعرض وجنده لكمين قاتل. هذا عن سنن الكون في أبعاده المادية، فماذا عن الروح وطاقاتها وأساليبها في التعامل مع النواميس؟ إن الله سبحانه الذي هو صانع السنن والقوانين يهب بعض عبادة القدرة الخارقة التي يتمكن بها العبد من طبيعته الخاصة ومما يحيط بها من أشياء وموجودات، فيصنع المستحيل. وتبدو هذه (المستحيلات) خوارق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بالنسبة لأناس ينظرون من الخارج، لكن القضية بالنسبة للعبد نفسه لا تعدو أن تكون قضية (علمية) تعتمد قوانين الروح وطاقاتها لتسخير الأشياء والموجودات، ولتحطيم الحواجز الخارجية للزمان والمكان.. لقد كشف العلم الطبيعي، نفسه، وفي العقود الأخيرة، ومن خلال تحليله لخواص المادة وتوغله في تركيبها الباطني، عن حقيقة خطيرة، هي أن الطاقة أو الحركة إنما هي قاعدة المادة وأساس الأشياء، وأن تركيب الذرات وما تحتويه من تكوينات أدق كالنيوترونات وما تضمه هذه من تركيبات أشد دقة وضالة يؤول في نهاية المطاف إلى طاقة حركية غير مادية هي التي تتشكل منها الذرات والجزئيات، وهي التي تصوغ في (سرعتها) و (إبطائها) وطبيعة حركتها أشكال الأشياء الصلبة والسائلة والغازية! فإذا كانت الوحدة الأساسية للبناء الطبيعي المادي قد تكشفت عن الحركة اللامادية أفلا يمكن القول إذن بأن الطاقة الروحية التي تتميز بالوعي والانفصال والامتثال والاستشراف والإرادة يمكن أن تتعامل مع هذه الطاقة (اللامادية) بشكل من الأشكال، وتطوعها لأمرها فتذعن وتلبي؟ إن إشارة ضوئية غير ملموسة توجه مركبة فضائية في غاية التعقيد إلى أهدافها في ظروف تقرب من المستحيل لغير المتوغلين في قوانين العلوم الرياضية والطبيعية، أفلا يمكن لإشارات الروح أن تحقق في عالم الطبيعة ما هو أكثر استحالة وإعجازا لمن لم يعرف، ولن يعرف، عن الروح إلا قليلا؟ إن انهيار الأساس المادي للأشياء، الذي كشف عنه العلم أخيرا، يقربنا خطوات من فهم وإدراك طبيعة التعامل بين الروح والمادة، ولكنها خطوات نحسب أنها ستطلعنا على وحدة البناء الكوني، فوحدة خالقه جل وعلا، ولكنها لن تطلعنا بحال على كل أبعاد وخصائص الروح الإنساني، ولا على كل سننه وقوانينه. هذا الروح الذي هو نفخة الله في الطين، ومصدر الحياة والفكر والإرادة والتقدم، سيظل مستغلقا على الإدراك والتحليل الكاملين، لأن خلافتنا على الأرض لا تقتضي هذا التكشف الكامل، ولأن المقادير الضئيلة التي يمنحنا الله إياها في عالم الروح، توازي فاعليتها المقادير الضخمة التي مكننا من معرفتها في عالم الطبيعة. وهذا التوازن الحضاري الفذ بين الروح والمادة في ميدان الكشف والمعرفة، هو ما يقودنا إليه في حشد كبير من الآيات التي تدعونا إلى أن نفتح كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 منافذنا على الطبيعة لاستكشاف قوانينها وطاقاتها وتسخيرها لتنمية الحياة البشرية وتطويرها.. يقابل هذا الحشد آية كريمة واحدة تقول: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «1» «2» .   (1) سورة الإسراء: الآية 85. (2) انظر عن هذا الموضوع بالتفصيل بحث (القرآن والبعد الزمني) للمؤلف: مجلة الوعي الإسلامي عدد 91 سنة 8 و (معاول في جدار العلمانية) للمؤلف، نفس المجلة عدد 55، 60 سنة 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الفصل الرابع تحليل للهجرة [1] وضع رسولنا «1» صلى الله عليه وسلم خطواته الأولى في الدرب صوب المدينة وقلبه يخفق بهذا الدعاء: (وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) وكان يعلم جيدا أن حركة الإنسان في التاريخ لا تستقيم وتصل إلى هدفها إلا بأن يرفع الإنسان بصره وفؤاده وعقله وسمعه وحسّه إلى السماء يتلقى عنها الصدق والنصر.. صدق الحركة وانتصار قيمها.. لكنه لم ينس لحظة أن هذا التوجه إلى السماء يجب أن يقترن بثبات الخطى على الأرض، وبتحمل مسؤولية البصر والسمع والفؤاد بأمانة كاملة.. وبصياغة الحرية الإنسانية بما ينسجم، في المدى القريب والبعيد، مع قدر الله ونواميسه وسننه. وبدون هذا التناغم بين مشيئة الله وحرية الإنسان.. بين نور السماء وشفافيتها وبين كثافة الأرض ووعورة الطريق.. بدون هذا الحوار الدائم الفعال بين الإنسان وخالق الإنسان.. بين انطلاق الروح وشد الجسد.. بدون هذا التواصل الدائم.. بين الحضور والغياب.. بين عالم المشاهدة المباشرة والغيب البعيد.. بدون هذا وذاك لن تكون هناك حركة جادة، ولا مصير عظيم. إن الرسول صلى الله عليه وسلم ظل قلبه يخفق بدعاء الله.. وهو يرسم الخطط، ويضع الضمانات، ويهيىء المواد والإمكانات والدفوع الكفيلة بإيصاله إلى هدفه.. لم يجىء هذا الدعاء قبل التخطيط فحسب، ولا جاء بعده فحسب، فليس في علاقة   (1) انظر: خطوات في الهجرة والحركة، للمؤلف، بيروت، الدار العلمية- 1971. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الإرادة البشرية بالمشيئة الإلهية- خلال الحدث- قبلية ولا بعدية.. وإنما تسير الاثنتان في انسجام رائع، لأن هذه من تلك ولأن الإنسان في أصغر جزئيات الحركة وفي أكبرها إنما ينفذ قدر الله وناموسه في الأرض، في مدى الحرية التي اتيحت له. أما أن يجيء الدعاء والتوجه قبل التخطيط فحسب، أو بعد التنفيذ فحسب، فهو من قبيل الثنائيات التي ترفضها مبادىء السماء أشد الرفض لأنها تفصل بين الله والإنسان، وتقسم حظ الاثنين في حركة التاريخ بما لا يتفق أساسا والسنن الكبرى. إن الرسول صلى الله عليه وسلم هيأ الأسباب (الإرادية) الكاملة لنجاح الحركة وهو ينظر إلى الله، ووضع خطواته الأولى على الدرب وهو يدعو الله.. وما لبثت الأسباب أن أتت أكلها، والخطوات أن انتهت إلى هدفها، وظل الرسول ينظر إلى الله ويدعوه. استغرق (هيكل) الهجرة زمنا طويلا.. حمل الرسول وأصحابه معاولهم وبدأوا يحفرون الأسس من أجل أن يستقيم البناء. إن الإسلام جاء لكي يعبر عن وجوده في عالمنا من خلال دوائر ثلاث، يتداخل بعضها في بعض، وتتسع صوب الخارج لكي تشمل مزيدا من المساحات: دائرة الإنسان، فالدولة، فالحضارة. ولقد اجتاز الإسلام في مكة دائرة الإنسان، ثم ما لبثت العوائق السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية أن صدته عن المضي في الطريق صوب الدائرة الثانية حيث الدولة، لأنه بلا دولة ستظل دائرة الإنسان، التي هي أشبه بنواة لا يحميها جدار، ستظل مفتوحة على الخارج المضاد بكل أثقاله وضغوطه وإمكاناته المادية والروحية، ولن يستطيع الإنسان (الفرد) أو (الجماعة) التي لا تحميها (دولة) أن يمارسا مهمتهما حتى النهاية، سيما إذا كانت قيمهما وأخلاقياتهما تمثلان رفضا حاسما لقيم الواقع الخارجي والتجربة المعاشة، ولا بد إذن من إيجاد الأرضية الصالحة التي يتحرك عليها المسلم، قبل أن تسحقه الظروف الخارجية أو تنحرف به عن الطريق، وليست هذه الأرضية سوى الدائرة الثانية، وليست هذه الدائرة سوى الدولة التي كان على المسلمين أن يقيموها وإلا ضاعوا!! وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم تبدأ منذ اللحظات التي أدرك فيها أن مكة لا تصلح لقيام الدولة وأن واديها الذي تحاصره الجبال، وكعبتها التي تعج بالأوثان، لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 يمكن أن تكون الوطن، ومن ثم راح الرسول يجاهد من أجل الهجرة التي تمنح المسلمين دولة ووطنا، وتحيط كيانهم الغضّ بسياج من إمكانيات القوة والتنظيم والأرض!! ولن نستطيع أن نحدد بالضبط تلك البدايات.. لكنا نعلم- كما مرّ بنا- أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ نشاطا واسعا ومشهودا إثر خروج المسلمين من حصارهم القاسي في (شعب أبي طالب) ، ذلك الحصار الذي استغرق سنين طوالا، وجاء إشارة حاسمة إلى أن المشركين عامة، والقيادة الوثنية القرشية على وجه الخصوص، لا يمكن بحال أن تهادن المبدأ الجديد، الذي جاء يمثل رفضا حاسما لكل قيم الوثنية وأهدافها وتقاليدها ومصالحها.. وأنهم سيظلون يدفعون حتى النهاية الأخطار التي يمثلها الإسلام بوجه أهدافهم وتقاليدهم ومصالحهم. والرسول صلى الله عليه وسلم- الذي علمتنا سيرته مدى الواقعية الإيجابية التي كان يتمتع بها، والحرص على الطاقة الإنسانية ألّا تتبدد في غير مواضعها- سرعان ما نجده يتحرك صوب الخروج إلى مكان جديد يصلح لصياغة الطاقات الإسلامية في إطار دولة تأخذ على عاتقها الاستمرار في المهمة بخطى أوسع، وإمكانات أعظم بكثير من إمكانات أفراد تتناهبهم شرور الوثنية من الداخل وتضغط عليهم قيم الوثنية من الخارج ويستنزف طاقاتهم البناءة اضطهاد قريش، بدلا من أن تمضي هذه الطاقات في طريقها المرسوم. إن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بدأت فعلا يوم خرج إلى الطائف، فصدّ صدّا قاسيا، لكنه لم ييأس، لأنه يعلم يقينا أن الخاتمة ستكون له، فقط إذا استمر على بذل جهده البشري الكامل في البحث والتخطيط للهجرة التي ستعقب دولة، وللدولة التي ستعقب انتصارا ... ووقف عند أسفل جدار لبستان في الطائف، ريثما يستريح، ونادى ربه (إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي) !! ثم واصل الطريق وراح يتصل دون كلل بوفود القبائل التي كانت تنهال على مكة في مواسم الحج، يعرض عليهم الدين الجديد، ويعرض مع الدين الجديد طلبا بأن يمنحوه أرضهم ويحموه، لكي يتمكن من (الإسراع) في أداء مهمته الصعبة قبل أن يجيء البين ويضطرب المصير. إن الهجرة كان يمكن أن تكون إلى الطائف، أو إلى ديار أية قبيلة عربية قوية الجانب عزيزة المنال، سواء كانت بلادها في الشرق أو في الغرب.. لكن أيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 من هذه القبائل (بنو كندة، بنو عامر بن صعصعة، بنو حنيفة.. الخ) لم تمد يدها مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومرحبة بهجرته إلى أرضها وديارها.. فقد أعمت الوثنية الجاهلية قلوبهم وأبصارهم عن الشرف الذي كان يمكن أن يحظوا به لو قالوا للرسول: بايعنا.. ونصرنا!! ويمضي الرسول صلى الله عليه وسلم في بحثه عن الطريق الذي سيهاجر عليه وأصحابه صوب هدفهم المحتوم. وكان أن بعث الله نفرا من يثرب.. ساقتهم إرادته التي لا تغلب، إلى الرسول في السنة العاشرة للبعثة.. فالتقوا به عند العقبة، المنفذ الذي يجتازه القادمون من يثرب صوب أم القرى، وعرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم مبادىء الإسلام، غاية في الوضوح والسماحة والعدل والمساواة والانسجام مع تكوين الإنسان ونشاطه وأهدافه.. فما كان منهم إلا أن لبوا الطلب، وأعلنوا إسلامهم، ووعدوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم سيرجعون إلى يثرب ويبشرون بدعوته العادلة هناك، وقالوا «إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى الله أن يجمعهم بك.. فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك» ، وقفلوا عائدين إلى بلدهم، وراحوا يدعون قومهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم «فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم» «1» . ومما ساعد هؤلاء الرواد، والذين أعقبوهم، على التحرك لنشر الدعوة في يثرب، وساعد بالتالي على نجاح (الهجرة) ، أن الأوس والخزرج كانوا في هذا الوقت أصحاب الكلمة العليا في يثرب، وكانوا قد أصبحوا سادة الموقف فيها، وأصبح اليهود يعتبرون موالي لهم، فإذا تحالف النبي مع الأوس والخزرج ودخلوا في دينه، كان له ألا يخشى اليهود، كما كان في مقدور الأوس والخزرج أن يدخلوا في المدينة من شاؤوا دون أن يخشوا اعتراض اليهود عليهم «2» . وما لبثت السنة التالية أن جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، في نفس المكان، بوفد ثان من أوس يثرب وخزرجها: اثنا عشر رجلا، من بينهم الستة الذين أسلموا من قبل ... جاؤوا لا ليعلنوا إسلامهم هذه المرة بل ليبايعوا الرسول على الإسلام، تمسكا بأهدافه والتزاما بقيمه وأخلاقياته. ولم يشأ الرسول أن يتسرع الخطوة التالية ويعرض عليهم طلبه القديم: أن يمنحوه أرضهم وبلدهم وأن يحموه.. إنه بذكائه   (1) ابن هشام ص 108 الطبري: تاريخ 2/ 353- 355. (2) إبراهيم الشريف: مكة والمدينة ص 382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 العجيب وبالهدي الإلهي الذي يمده بنوره، كان ينتظر نتيجة مساعي أصحابه الجدد، ويجسّ النبض ويختبر الإمكانات. إنه في المرة الأولى اكتفى بأن يعرض الإسلام وأن يودع الستة الذين أسلموا دون أية بيعة، وفي المرة الثانية بايعوه على الجانب السلمي- إذا صح التعبير- من برنامج الإسلام «ألا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوه في معروف» «1» . وأرسل معهم داعيته الشاب مصعب بن عمير- الذي لم يشأ أن يجازف به في المرة الأولى- أرسله هذه المرة بعد أن استبانت له ملامح المستقبل، لكي يتولى شؤون الدعوة والتثقيف العقائدي هناك. ومرت أشهر وأشهر ومصعب يعمل في المدينة بهمة لا تعرف كللا ولا فتورا.. يتحرك بالقرآن، ويحرك أفئدة الناس هناك وعقولهم بالقرآن.. كانت آيات الله تملك في بنيتها المعجزة سحر الإقناع، وكان مصعب يزيدها سحرا في تلاوته إياها وسط حشود الناس التي كانت تجتمع، مبهورة الأنفاس من حوالي مصعب، في أزقة المدينة وطرقاتها، وهو يتلو آيات من القرآن الكريم.. وعندما اقترب موسم الحج من السنة الثانية عشرة للبعثة، غادر مصعب يثرب، يطير به الشوق للقاء رسوله وقائده. في مكة اجتمع به وعرض عليه نتائج مساعيه في يثرب، وأنه عما قريب سيلتقي الرسول بوفد كبير منهم تقرّ له عينه ويطمئن به باله. وعند العقبة أيضا.. اجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم بأعضاء الوفد الموسّع الجديد.. كان يضمّ هذه المرة ثلاثا وسبعين رجلا وامرأتين.. اتفق معهم سرّا على أن يوافوه في الثلث الثاني من الليل، حين ينام الناس وتغافل العيون.. يتسللون إليه واحدا واحدا واثنين اثنين.. وتمت البيعة الثانية.. البيعة الكبرى.. هذه المرة صريحة واضحة مكتملة، على كل جوانب الإسلام، سلما كان أم قتالا- بعد أن أذن الله لرسوله بالقتال- ومدّوا إليه أيديهم مصافحين، ومقسمين بالله الواحد الذي آمنوا به، أنهم سيحمون الرسول صلى الله عليه وسلم وينصرونه، وأنهم سيرفعون السلاح مدافعين بوجه أية قوة في الأرض، سوداء كانت أم حمراء، تسعى إلى الفتك به وبدعوته وأصحابه، وسأله أحدهم: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال- يعني اليهود-   (1) ابن هشام ص 109 الطبري: تاريخ 2/ 356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 حبالا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم «1» ، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم «2» . وقبل أن يرجعوا اختار الرسول صلى الله عليه وسلم من بينهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس «3» ، ليشرفوا بأنفسهم على سير الدعوة في يثرب، حيث استقام عود الإسلام هناك وكثر مثقفوه، وحيث أراد الرسول- بفقهه العميق لأساليب الدعوة- أن يشعرهم أنهم لم يعودوا غرباء لكي يبعث إليهم أحدا من غيرهم، وأنهم غدوا أهل الإسلام وحماته وأنصاره، ثم قال لهم: ارفضّوا إلى رحالكم، فقال له أحدهم، وقد شعروا أن نبأهم بدأ يتسرب إلى قريش: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا!! فأجابه رسول الله: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم «4» . خطوات محكمة، واستخدام حصيف للإمكانات، وفقه عميق لخطوات الحركة.. يرافق هذا كله هدي السماء الذي لم يفارق خطى الرسول لحظة، والذي ساق إليه- بما أوجده من ظروف صعبة في يثرب- هذه الوفود التي جاءت تحمل إليه ما كان يرجوه ويعمل على تحقيقه جاهدا. «رجعنا إلى مضاجعنا- يقول أحد المبايعين- فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلّة قريش فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم، منكم! فانبعث من هناك، من مشركي قومنا، يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه! - وبعضنا ينظر إلى بعض- وقد صدقوا، لم يعلموه!» . «ونفر الناس من منى.. وتأكدوا صحة الخبر، فخرجوا في طلب القوم فلم يدركوا، وكانوا قد رحلوا، سوى اثنين: سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو-   (1) أي القبر والمنزل (عن تهذيب سيرة ابن هشام) . (2) ابن هشام 112- 113 الطبري: تاريخ 2/ 363. (3) انظر البلاذري: أنساب 1/ 252- 253، وعن لقاآت العقبة انظر بالتفصيل ابن هشام ص 107- 129 وبوهل في.Ency.art:Muhammad (4) ابن هشام ص 113- 114 الطبري: تاريخ 2/ 364- 365 ابن سعد 1/ 1/ 150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وكلاهما كان نقيبا- فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه وأوثقوه رباطا ثم اقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه من شعره الكث» ... لكنه سرعان ما تذكر اثنين من تجار المشركين، كان يجيرهما لدى مرورهما بيثرب ويمنعهما ممن كان يريد ظلمهما هناك، فاستجار بهما فهرعا إليه وخلصاه من أيدي القرشيين، فانطلق إلى يثرب ليلحق برفاقه الذين سبقوه إليها «1» ، وراحت قريش تشدد قبضتها على المسلمين في مكة وتزيد من اضطهادهم، بعدما رأت من تجاوب أهل يثرب معهم «فأصاب المسلمين جهد شديد، وكانت الفتنة الآخرة، وكانت فتنتين، فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة.. وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة» «2» . [2] أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أوامره إلى أصحابه بأن يبدأوا هجرتهم، مختفين، متفرقين قدر الإمكان.. وبدأت طرقات مكة وبيوتها وأزقتها ونواديها تشهد يوما بعد يوم غيابا مستمرا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أما هو صلى الله عليه وسلم فكان ينتظر تأمين هجرة أصحابه.. ثم يبدأ هو ومن سيختارهم للبقاء معه، خطواته صوب المدينة ريثما يتلقى إشارة الوحي الأمين بالتحرك. وفتح القرشيون يوما أعينهم على مكة وقد أقفرت من المسلمين!! لقد غادروها صوب المهمة التي تنتظرهم مخلفين وراءهم أموالا وبيوتا ونساء وأطفالا وشيوخا ومتاعا كثيرا ... إن الهدف الذي تحركوا من أجله أغلى وأثمن من الأموال والبيوت والمتاع، وأكثر إلحاحا من تلبية مطالب جسدية أو حياتية أو اجتماعية.. إنهم مستعدون لأن يبذلوا أرواحهم ودماءهم في سبيل هذا الهدف الذي ينتظرهم هناك في نهاية الهجرة، فكيف لا يتخلون عن الأموال والنساء والمتاع؟ وها هي رؤوس قريش تجتمع في (دار الندوة) قبل أن تفلت الفرصة من أيديهم ولات حين مندم.. وطرحت آراء باعتقال الرسول صلى الله عليه وسلم وتكبيله بالأغلال أو   (1) ابن هشام ص 114- 115 الطبري: تاريخ 2/ 3 65، 367- 368 ابن سعد 1/ 1/ 150 البلاذري: أنساب 1/ 254. (2) الطبري: تاريخ 2/ 366 البلاذري: أنساب 1/ 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 بنفيه بعيدا في منقطع الصحراء، وفي الحالتين كان صوته سيصل، مجتازا الحواجز والعوائق، ومن ثم فإن رأيا بقتله وتفريق دمه بين القبائل هو الذي حاز الموافقة والإعجاب. إنهم إن استطاعوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد استطاعوا قتل الدعوة التي لم تستكمل أسبابها بعد.. وإن طالبتهم بنو هاشم بدمه فسيشيرون إلى العشائر جميعا وإلى سيوف أبنائها حيث تقطر دماء الرسول!! ويجيء أمر الله يحمله الوحي إلى الرسول: تحرك يا محمد. كانت تلك هي الإشارة التي ينتظرها الرسول صلى الله عليه وسلم بفارغ الصبر، لكن شوقه للهجرة، وتحرقه لأن يضع خطواته على الأرض الموعودة حيث أصحابه القدامى والجدد ينتظرونه على أحرّ من الجمر.. ورغم يقينه الكامل بأن الله معه يرعاه، ويسدّد خطاه، فإنه لم يتعجل الحركة، ولم يرتجل الخطوات. كان عليه أن يخطط للهجرة، مستخدما كل ما وهب من إمكانات الفكر والبصيرة والإرادة.. لأنه بهذا وحده يستحق نصر الله ووعده.. وإلا فلأي شيء منحنا الله بصائر وعقولا وحرية وقدرة على التحرك والتخطيط؟ وما أبرع البرنامج الذي رسمه رسولنا صلى الله عليه وسلم من أجل أن يصل إلى الهدف بأكبر قدر ممكن من الضمانات!! انتقى من بين أصحابه أول اثنين أسلما في تاريخ الدعوة: أبا بكر وعليا رضي الله عنهما، واستبقاهما لكي يؤديا الأدوار التي رسمت لهما في حركة الهجرة. أما علي فلكي يؤدي مهمة مزدوجة.. الإيهام ورد الأمانات إلى أهلها، وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم «نم على فراشي، وتسجّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» «1» . ورب قائل يقول: إن وراء الهجرة هدفا أكبر بكثير من التمسك بجزئيات أخلاقية قد يسمح الظرف الخطير بتجاوزها. لكن منطق رسول الإسلام شيء آخر.. ما الفرق بين الإسلام وبين المبادىء الآخرى إذا كان هو متأسيا بها في تخليه عن أخلاقياته في ساعات المحنة والخطر؟ وماذا سيقول المشركون لو غادر (الأمين) مكة دون أن يردّ إليهم أمانتهم،؟ ما أسرع ما يمكن أن يتهموه، حيث يأكلهم الغيظ: الأمين تحول إلى سارق، وضاعت الأمانة.. وحاشاه! أما أبو بكر فقد اختير ليكون رفيق النبي وأخاه في هجرته.. تسلل إليه   (1) ابن هشام ص 121 الطبري: تاريخ 2/ 372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الرسول في ضحى أحد الأيام، على غير عادته في التردد على داره صباحا أو مساء.. خطوة من خطوات الإيهام والتدبير بأولئك الذين يريدون أن يمكروا به.. ودهش أهل الدار لمجيء الرسول في وقت لم يعتادوه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إلى دهشتهم، بل يتجه إلى رفيقه فورا ويطلب منه أن يخرج ابنتيه من المكان، فيطمئن أبو بكر الرسول بأنه ليس ثمة ما يخشى، ويتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله أذن لي في الخروج والهجرة» فيرد عليه الصديق وهو يهتز فرحا: «الصحبة يا رسول الله؟» فيجيبه الرسول: «الصحبة» . وتقول عائشة: «فو الله ما شعرت قط، قبل ذلك اليوم، أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبي يبكي يومئذ» !! ومعا استكملا الخطة ووضعا الأسباب، وتركا- من ثم- مصيرهما ومصير الدعوة لله، صانع المصائر ومقدر الأقدار ... التسلل من شباك خلفي على غفلة من قريش.. التوجّه جنوبا على طريق اليمن واللجوء إلى إحدى مغارات جبل ثور هناك.. التوقف عن السير ثلاثة أيام ريثما تخف محاولات القرشيين المستميتة في البحث عن الرسول، ثم الانطلاق- بعد ذلك- صوب يثرب في طريق وعر غير مطروق، يعينهما في ذلك دليل ماهر من المشركين أنفسهم، اختير اعتمادا على كفاءته العالية كدليل، وعلى أمانته التي لا بد وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد سبر أغوارها، أما أنباء تحركات القرشيين ومطارداتهم فسيأتيهما بها عبد الله بن أبي بكر، وأما توفير الطعام فسيقوم به راعي أبي بكر، عامر بن فهيرة، الذي كلّف بإراحة الأغنام عند الغار مساء كل يوم كي يحتلبها المهاجران ويشربا من لبنها.. كما كلفت أسماء بتوفير الطعام في المرحلة التالية من الهجرة، وأما آثار الأقدام الذي سيخلفها عبد الله بن أبي بكر لدى ذهابه وإيابه، والتي تقود إلى الغار مباشرة فإن هناك راعي أبي بكر يعود في الأمسيات في أعقاب عبد الله لكي تطمس حوافر الأغنام على خطوات الرجال!! خطة محكمة ورائعة.. ولا يبقى إلا أن يتنزل نصر الله على قادة استكملوا كل الأسباب التي منحهم الله إياها.. إنه التوافق المنغم الرائع، الذي تحدثنا عنه، بين مشيئة الله وإرادة الإنسان، وبين هدي الله وخطوات عباده الأبرار.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 [3] وفي تجربة الهجرة يتنزل نصر الله، فعلا مباشرا مرئيا، ثلاث مرات.. فيما عدا خط الهجرة والتاريخ كله حيث إرادة الله التي لا رادّ لها.. لكننا هنا نريد أن نشير إلى أفعال الله المباشرة في هجرة رسوله صلى الله عليه وسلم. مرة لدى مغادرته داره في أعقاب ليل مريع، أحاط أبناء القبائل المسلحون طيلة ساعاته بدار الرسول ينتظرون اللحظة التي سيطيحون فيها برأسه ويفرقون دمه بين القبائل.. إلا أن هذه اللحظة السوداء لم تجىء ولن تجيء. لقد فتح الرسول صلى الله عليه وسلم الباب على مصراعيه وراح يقرأ آيات من سورة يس: يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1» !! .. وعبر هذا السدّ الذي أغشى به الله أبصار المشركين انطلق الرسول ورفيقه إلى الهدف.. على الصراط المستقيم. ومرة أخرى عند الغار.. وما أخطر ساعات الغار بأيامها ولياليها. لقد رأى أبو بكر بأم عينيه نعال المشركين المطاردين الحانقين تخفق عند أسفل الغار، فارتعد فرقا.. ليس على نفسه، فما أهون النفس على أصحاب رسول الله، وعلى رفيقه وصدّيقه بالذات! لكن على الرسول نفسه، وعلى ما يمثله الرسول. فيهمس في أذنه «لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا!!» ، ويجيء رد الرسول منبثقا عن تلك اللحظات العليا حيث يقف الله مع عباده يدفع عنهم: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» .. وتطيش ألباب المشركين، وعبثا يرهق مقتفو الآثار أنفسهم.. إن الرسول ورفيقه في حماية الله.. وكفى.. ودون الوصول إليه المستحيل.. ولو اجتمعت جنود الأرض كلها عند الغار تطالب برأسه.. وما أروع كلمات الله وهو يعلن هذه الحماية التي لا حماية بعدها: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «2» .   (1) سورة يس: الآيات 1- 9. (2) سورة التوبة: الآية 4 0. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ومرة ثالثة في الطريق إلى يثرب، بعد ثلاث ليال من المكوث في الغار.. إن (سراقة بن مالك) الذي خلبت لبّه الجائزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بالرسول حيا أو ميتا، يلهث الآن ركضا وراءها، بفرسه المنطلقة ورمحه المصوب إلى هدفه.. إن سراقة كألوف من الأعراب، بل كألوف من الناس، نلتقي بهم في كل مكان وزمان.. أولئك الذين ما أن تبرق أمام أعينهم قطع النقود، وتطرق أسماعهم أصوات الذهب والفضة وهي ترن، حتى يصبحوا على استعداد لأن يبيعوا مبادئهم وضمائرهم وشرفهم وعرضهم، من أجل أن يصلوا إلى قطع النقود ويضعوا أيديهم على أكوام الذهب والفضة.. إنهم موجودون في كل مكان وزمان. ولذا كانت خير وسيلة للإتيان بالزعماء الهاربين من وجه الظلم والطغيان هو أن يعلن عن جائزة قدرها ( ... ) لمن يأتي بالهارب حيا أو ميتا ... لكن إرادة الله لن تدع الرغائب السافلة تطغى على الأهداف العليا ... إن هذا الطغيان يحدث- يوم يحدث- عندما يتخلى أصحاب الأهداف الكبيرة عن حشد طاقاتهم والتخطيط العاقل لخطواتهم، والتلقي الكامل عن خالقهم، حينذاك تغدو كل آمالهم وتمنياتهم كالزبد الذي يذهب جفاء ولا ينفع الناس.. أما والرسول قد استكمل الأسباب فإن سراقة تعثر به فرسه وتمرغه بالتراب، كلما اقترب من هدفه، مرة ومرتين.. فيطلب الأمان.. إنه الآن لا يطارد رجلين مرهقين، قد عصرهما الجوع، وأرهقهما السفر الطويل، والتشرّد.. لكنه يقف بإزاء جند الله التي لا ترى، فأنى له ما يريد؟ إنه بعد دقائق يلوي زمام فرسه ويقفل عائدا.. وكلما رأى أحدا من اللاهثين كالكلاب الجائعة ردّه قائلا: كفيت هذا الوجه. وذلك ما طلبه منه الرسول!. ويحدثنا جماعة من الأنصار عن أيام الانتظار القلقة التي سبقت وصول الرسول صلى الله عليه وسلم فيقولون «لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرّتنا، ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فو الله لا نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك في أيام حارّة حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أول من رآه رجل من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع، وإنا ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 جدكم «1» قد جاء!! فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل نخلة ومعه أبو بكر رضي الله عنه في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وازدحم عليه الناس وما يعرفونه من أبي بكر، حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر فأظلّه بردائه فعرفناه عند ذلك» «2» . وقال البراء «جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في الهجرة، فما رأيت أشد فرحا منهم بشيء من النبي صلى الله عليه وسلم، حتى سمعت النساء والصبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله قد جاء.. قد جاء» «3» . وفي اليوم الثاني عشر من ربيع الأول (24 أيلول 632 م) من السنة الثالثة عشرة للبعثة، وصل الرسول وصاحبه يثرب حيث جرى لهما استقبال حافل من قبل أولئك الذين انتظروا رسولهم طويلا.. وها هي تكبيراتهم تشق أجواء الفضاء.. إنهم سيبدؤون معه، وبه، ومن أجله وأجل دعوته، عهدا جديدا كتب لهم شرف وضع أسسه التي سيقوم عليها البناء.. الدائرة الثانية من دوائر الدعوة، دائرة الدولة التي ستحمي المسلمين أفرادا وجماعات، وستمنح الإسلام خطوات حاسمة وسريعة في طريق النصر.. فلا عجب أن يخرج الأنصار بأسلحتهم يستقبلون الرسول، فها هم أولاء الجنود الذين سينضمون إلى إخوانهم المهاجرين، وسيبنون معا، بقوة العقيدة والسلاح، الدولة التي ستصنع حضارة تشرف الإنسان، في كل مكان، وتباركه، وتضعه موضعه الحق الذي أراده له الله عندما استخلفه ومنحه السيادة على العالمين. إن اليوم الثاني عشر من ربيع الأول هو نهاية حركة حاسمة من أجل إقامة (الدولة) لكنه في الوقت نفسه بدء حركة حاسمة أخرى من أجل تعزيز الدولة وإقامة (الحضارة) تماما كما كانت بعثة الرسول- في البدء- حركة صوب تكوين (الإنسان) صانع الدول والحضارات!!   (1) الجد: الحظ. (2) ابن هشام ص 128- 129 الطبري: تاريخ 2/ 381- 382 ابن سعد 1/ 1/ 157- 158 البخاري: تجريد 2/ 74 البلاذري: أنساب 1/ 263 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 11- 12. (3) ابن سعد 1/ 1/ 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 [4] ولن نغادر حركة الهجرة قبل أن نستمد منها تعاليم أخرى قد تعيننا على فهم وتفسير تاريخ البشرية عامة وتاريخنا الإسلامي على وجه الخصوص.. إن أي حدث تاريخي- كما يتضح من خطوة الهجرة- إنما يجيء تعبيرا عن إرادة الله التي تصوغه من خلال إرادة الإنسان، أو مباشرة، عن طريق اتصالها بالزمن والتراب، ولا يمكن دراسة تاريخ الكون والطبيعة، وتاريخ البشرية والأحياء إلا من هذا المنطلق. إن الفعل الإلهي يتخذ أشكالا ثلاثة لخلق الحدث وصياغته، أولها مباشرة الفعل التاريخي (كما حدث في تجربة الهجرة، في تلك اللحظات التي كان الرسول يجابه فيها موقفا يتعدى حدود قدراته وإرادته وتخطيطه) ، والشكل الثاني يتم عن طريق ما يمكن تسميته بالسببية التاريخية، أي تهيئة الأسباب لتوجيه الأحداث هذه الوجهة أو تلك.. وقد تكون هذه الأسباب مادية طبيعية أو حيوية إنسانية، وقد تجيء على شكل مجموعة من السنن التي تنظم حركة الكون والحياة والإنسان، والتي تفرض حتمية قانونية على بعض أحداث التاريخ (وقد رأينا في تجربة الهجرة كيف هيّأ الله سبحانه الأسباب لأن تكون يثرب الأرضية التي تقوم عليها دولة الإسلام، ولأن يكون أبناؤها الطّاقات البشرية التي تنصر هذه الدولة وتحميها ريثما يتم البناء) . أما الشكل الثالث للفعل الإلهي فيجيء عن طريق الحرية الإنسانية ذاتها، والتي هي في مداها البعيد جزء من إرادة الله في خلق الأفعال والأحداث. لقد منح الله الحرية للإنسان، ابتداء، لكي يصنع تاريخه الفردي والجماعي، ولكي يشكل مصيره فردا وجماعة، اعتمادا على ما ركب في وجوده من قوى العقل والإرادة والانفعال والحسّ والحركة (وهذا يبدو في تجربة الهجرة من خلال تلك الخطط الاجتهادية التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي قدمت لحركته صوب إقامة الدولة، ضمانات حاسمة في طريق النصر) . والإنسان بدوره، عندما يستخدم حريته لصناعة الحدث وتوجيه المصير إنما يعتمد على مقدمات لا يمكنه بحال الاستغناء عنها؛ الزمن، التراب، ثم التعاليم والقيم والأعراف والتقاليد، وضعية كانت أو دينية.. وها هو الرسول في هجرته ينسّق خطواته صوب هدفه، مستخدما هذه العناصر الثلاث، متخذا منها عجينته في صياغة الحركة وضمان الأهداف. إن معظم مذاهب التفسير التاريخي، وضعية كانت أو دينية، قدمت معطياتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 متخطية الإجابة عن هذا السؤال المهم: ما هي العلاقة بين الله سبحانه وبين الطبيعة، بما فيها القوى المادية، والإنسان بما أنه روح ومادة، في صنع التاريخ وإقامة الحضارات؟ وهل من المحتم أن تتكىء أحداث التاريخ على عامل واحد من هذه العوامل الثلاث ويلغى العاملان الآخران، أو على الأقل يغدوان ظلالا باهتة لفاعلية العامل الرئيسي؟ ولماذا هذه الجدران التي أقيمت بين الله والطبيعة والإنسان؟! إن معظم مذاهب التفسير تخطّت الإجابة عن هذا السؤال تاركة في طريقها ثغرة عميقة، ومنغلقة، في بحثها عن الفرضية الخاطئة التي تمنح صفة الفاعلية لعامل واحد وتلغي العوامل الآخرى إلغاء.. ومن ثم برز التفسير السحري (الميتافيزيقي) للتاريخ وتطور ليعبر عن نفسه بالتفسير اللاهوتي الذي ساد تفكير مثقفي العصور الوسطى الأوروبية، كما برز التفسير الفردي (البطولي) للتاريخ، والتفسيرات الطبيعية التي بلغت أقصى حدتها بالمادية التاريخية التي يصفونها (بالعلمية) !! ولقد أدرك بعض فلاسفة التاريخ المعاصرين، وعلى رأسهم أشبنغلر وتوينبي وكيسرلنج والناقد كولن ولسون، أبعاد هذا الخطأ، فعادوا خطوة متمعنة إلى الوراء لكي يجيبوا على السؤال الأول، ويجتازوا- من ثم- طريقا مرصوفا لا ثغرات فيه. والحق أن التفسير الحضاري، تقدم خطوات في هذا المجال، خطوات تتسم إلى حد ما- بالاتزان والتعقل والموضوعية والشمول الذي يستند إلى نظرة كلية وإدراك عميق لمقومات الحدث التاريخي، ولكن الموقع الذي رصد منه هؤلاء التاريخ وفلسفوا حركته، تقف أمامه كثير من المرتفعات كسدود وحواجز تمنع الرؤية الكاملة والحكم الشامل الصحيح كما أن التجربة النفسية التي لامسوا بها أحداث التاريخ تحمل الكثير من عناصر الذاتية المزدوجة والتأثيرات العلمانية، لذا فإنهم لم يقدروا على إعادة الالتئام الكامل بين فاعلية العوامل الثلاث، وأبقوا بعض الجدران المزيفة، مرئية وغير مرئية، بين الحضور والغياب، والله والإنسان، والمادة والروح، والطبيعة وما وراء الطبيعة. صحيح أنهم أعلنوا أن الحدث التاريخي لا يمكن أن تصنعه قوة واحدة، لأن أية (حركة) تاريخية إنما هي نتاج لقاء خلاق بين الله والإنسان والطبيعة- بما فيها الزمن- وأن إغفال أي عنصر منها إنما هو جهل بالأسس الحقيقية لحركات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 التاريخ.. لكنهم لم ينجوا من الوقوع في أسر المذهبية المحدودة، والنظرة الذاتية، واضطراب التجربة النفسية في عملية الاستشراف والاستقراء التاريخي، الأمر الذي أدى إلى تأرجح مواقع رؤياهم، والوقوع بالتالي في كثير من الأخطاء، ليس هذا بطبيعة الحال مجال سردها وتحليلها. إن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم تعلمنا كيف يرتبط تاريخ الدعوات بالحركة.. حركة الإنسان الفرد وحركة الجماعة، كما تعلمنا أنه ليس من المحتم أبدا أن تكون (الحركة) صدورا عن صراع النقيضين كما أكد هيغل وماركس وغيرهما، بل إنها في كثير من الأحيان تجيء بمثابة استجابة داخلية، مقرونة بعمل خارجي، لنداء من فوق.. إن هذا الحوار بين القيم العليا والوجود السفلي هو الذي يحرك- في أحيان كثيرة- أحداث التاريخ على خط صاعد. إن المثل الأعلى كان دائما بمثابة هدف يتحرك إليه الذين يتخبطون من تحت أو الذين يتقلبون في الظلمات، أو الذين يتعذبون بشتى صنوف العذاب وتمنعهم القوى المضادة من تحقيق أهدافهم (والهجرة تمثل حركة هذه الجماعة الأخيرة) .. إن بحث الضائعين والحائرين والمعذبين والمأسورين، عن النجاة، عن مثل أعلى، عن هدف يطمحون للوصول إليه.. هذا البحث الجاد كان في معظم الأحيان المحرك الذي يسوق الأفراد والجماعات إلى مصائرهم، ويصنع تاريخهم.. وإذن فإن من الخطأ والتزييف أن نصدر حكما على كل حركات التاريخ بأنها جاءت نتيجة لصراع النقيضين.. إن (الصراع) نفسه يتخذ أشكالا عديدة لا تقتصر على تقابل الضدين وتغلّب أحدهما على الآخر.. إنه يبدو- أحيانا- إرادة ذاتية تسعى إلى التوحد والإئتمان الذاتي في وجدان الإنسان ومع المحيط الخارجي، ويبدو أحيانا أخرى رغبة فعّالة في تحقيق تفاهم متبادل وسلم عام بين الإنسان والوجود.. وهو يبدو أحيانا ثالثة عملية استقطاب للقوى والطاقات، وتنظيم لها، وحماية لمقدراتها من أجل أن تصبّ جميعا في مجرى المبادىء الجديدة والدعوات الكبرى (كما حدث في تجربة الهجرة) ، وكل هذه الأشكال من الصراع لا نجد فيها تقابل نقيضين بقدر ما نجد محاولة للالتئام والتوحد والاستقطاب والتجمع.. وبعد هذا- وخلاله أيضا- لا بدّ للحركات أن تجتاز صراعا بين النقائض، لكنها نقائض من مستويات شتى: نفسية وفكرية وعقيدية ووجدانية وعرفية واجتماعية وسياسية واقتصادية.. إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 آخره.. بمعنى آخر إنها نقائض بشرية، فيها كل ما في الإنسان من مكونات روحية ونفسية ومادية.. ومن التزييف لتاريخ الحركات أن نقصر النقائض على جانب فحسب هو الجانب العقلي (كما عند هيغل) أو المادي الاقتصادي (كما عند أنغلز وماركس) ، لأن هذين الجانبين لا يغطيان كل مساحة الفاعلية الإنسانية التي تنبثق عن رغبة إرادية شاملة في مصارعة كل ما يتعارض مع إرادتها ووجودها وأهدافها، مادية كانت أو روحية «1» .   (1) للتوسع في هذه المسألة انظر بالتفصيل كتاب المؤلف: (التفسير الإسلامي للتاريخ) المقدمة والفصل الثالث. (دار العلم للملايين، بيروت- 1975) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الفصل الخامس دولة الإسلام في المدينة بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة يسعى إلى إنجاز المهام الملقاة على عاتقه في مطلع المرحلة الجديدة من الدعوة والتي تستهدف إنشاء (الدولة الإسلامية) على أسس راسخة وتهيئة كافة الشروط والمتطلبات لتحقيق هذا الهدف. ولقد كان بناء المسجد الخطوة الأولى على هذا الطريق ثم أعقبه إصدار (الوثيقة) والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وتشكيل جيش إسلامي مقاتل يمتلك القدرة على حماية الدولة الناشئة والمساعدة على تحقيق أهدافها في الوقت نفسه. [ القواعد الأولى لدولة الإسلام في المدينة ] أولا: المسجد: دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة في ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من مبعثه وكان راكبا ناقته (القصواء) وكلما مر بعشيرة من أنصاره رجوه أن ينزل فيهم وقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة فيجيبهم: خلوا سبيلها- أي الناقة- فإنها مأمورة، فجاوزت به بني سالم بن عوف وبني بياضة وبني ساعدة وبني الحارث بن خزرج وبني عدي بن النجار، حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت في المكان الذي بنى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مسجده، وكان يومئذ مربدا «1» لغلامين يتيمين من بني النجار يربيهما معاذ بن عفراء، فنزل عنها الرسول صلى الله عليه وسلم وحمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله ووضعه في بيته حيث نزل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ضيفا لحين إتمام بناء المسجد والحجرات التي أقام فيها الرسول وأهله بعد قليل. وعندما سأل عن المربد لمن هو؟ أجابه معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان وسأرضيهما عنه فاتخذه مسجدا «2» .   (1) المربد: موضع يجفف فيه التمر. (2) ابن هشام: تهذيب ص 130- 131 الطبري: تاريخ 2/ 396 ابن سعد: طبقات 1/ 1/ 160 المسعودي: مروج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره في البدء ببناء المسجد وأسهم بنفسه في العمل جنبا إلى جنب مع المهاجرين والأنصار، وعندما رأى هؤلاء رسولهم الكريم يجهد كما يجهدون نشطوا في أداء المهمة وراحوا ينشدون: لئن قعدنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل لا عيش إلا عيش الآخره.. ... اللهم ارحم الأنصار والمهاجره فيجيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم: لا عيش إلا عيش الآخره.. ... اللهم ارحم المهاجرين والأنصار «1» كان أسعد بن زرارة الأنصاري قد بنى- قبيل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم- جدارا حول المربد دونما سقف وجعل قبلته إلى بيت المقدس وراح يصلي فيه بأصحابه حتى مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بدأ بأن أمر أصحابه باقتلاع ما في الباحة من نخيل وأشجار وتصريف ما فيها من ماء آسن وبدأ بناء المسجد باللبن فجعله مربع الشكل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وعرضه كذلك وجعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع أقيم اللبن فوقها، وجعل قبلته صوب بيت المقدس وجعل له ثلاثة أبواب، وجيء بجذوع الأشجار ليقام عليها سقف متواضع من جريد رغبة من الرسول صلى الله عليه وسلم في إنجاز العمل بأسرع وقت، وإلى جانب المسجد أقيم عدد من الحجرات سقفت هي الآخرى بجذوع النخل لسكنى الرسول وأهله «2» . وسرعان ما غدا (المسجد) رمزا لما يتسم به الإسلام من شمولية وتكامل، فقد أصبح مركزا روحيا لممارسة الشعائر وأداء العبادات، ودائرة سياسية عسكرية لتوجيه علاقات الدولة في الداخل والخارج، ومدرسة علمية وتشريعية يجتمع في ساحاتها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتدار في باحاتها الندوات وتلقى على منبرها المتواضع التعاليم والكلمات، ومؤسسة اجتماعية يتعلم المسلمون فيها النظام والمساواة ويمارسون التوحد والأخاء والانضباط. ومما لا ريب فيه أن (نقص)   الذهب 2/ 279- 280 البلاذري: فتوح البلدان 10/ 4- 5 أنساب الأشراف 1/ 266 البخاري: تجريد 2/ 272 ابن الأثير: الكامل 2/ 109- 110 ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 214- 221 وانظر بالتفصيل السمهودي: وفاء الوفا 1/ 229- 256. (1) ابن هشام 131 الطبري 2/ 396- 397 ابن سعد 1/ 2/ 2- 3 البخاري 2/ 73 وانظر بالتفصيل السمهودي 1/ 229- 256. (2) ابن سعد 1/ 2/ 2- 3 البلاذري: فتوح البلدان. 1/ 4- 5 وانظر بالتفصيل المسهودي 229- 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أموال الدولة الإسلامية في سنيّها الأولى وانشغالها الدائم في الداخل والخارج لم يمكنها من بناء وإنشاء مزيد من المؤسسات المتخصصة لكي تمارس كل منها المهمة التي عهدت إليها، الأمر الذي جعل المسجد يزدحم بالوظائف والمهام ويغدو- على بساطته- (مجمعا) تلتقي فيه وتصدر منه كافة عمليات الحكومة وجزآ مهما من نشاطات الجماعة الإسلامية في علاقاتها الداخلية والخارجية على السواء. لقد كان بناء المسجد هو الخلية الأولى للبناء الاجتماعي للأسرة والجماعة بوصفه أداة صهر المؤمنين بالإسلام في وحدة فكرية واحدة من خلال حلقات العلم والقضاء والعبادة والبيع والشراء وإقامة المناسبات المختلفة.. فلم يكن المسجد معبدا أو مقرا للصلاة وحدها بل كان شأنه شأن الإسلام نفسه متكاملا في مختلف جوانب الدين والسياسة والاجتماع «1» . ثانيا: الصحيفة: كانت خطوة الرسول صلى الله عليه وسلم الثانية في المدينة إصدار وثيقة نظم بموجبها العلاقات بين المجتمع المسلم الجديد نفسه وبينه وبين الكتل البشرية التي تعايشت في المدينة وبخاصة اليهود، وقد جاء فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس ... وأن المؤمنين لا يتركون مغرما «2» بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة «3» ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافرا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض من دون الناس، وأن من تبعنا من يعود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم ... وأنه لا يجير مشرك مالا لقرشي ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن.. وأنه لا يحل لمؤمن أقر ما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا «4» ولا يؤويه.. وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا   (1) أنور الجندي: الإسلام وحركة التاريخ ص 32. (2) المغرم: المثقل بالدين الكثير العيال. (3) الدسيعة: الكبيرة. (4) المحدث: المجرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 محاربين.. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم- مواليهم وأنفسهم- إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ «1» إلا نفسه وأهل بيته.. وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح.. وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم.. وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.. وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله ... وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، إلا من حارب في الدين.. وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج أمن ومن قعد أمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم) «2» . إن نصوص الصحيفة توافق القرآن الكريم في المبادىء العامة من حيث اعتبار المسلمين أمة واحدة من دون الناس، ومن حيث التراحم والتعاون بينهم، ومن حيث الاحتفاظ برابطة الولاء وما يترتب عليها من حقوق الموالاة، ثم من حيث مراعاة حقوق القرابة والصحبة والجوار، كذلك تحديد المسؤولية الشخصية والبعد عن ثارات الجاهلية وحميتها وفي وجوب الخضوع للقانون ورد الأمر إلى الدولة بأجهزتها للتصرف بالأمور، وفي شؤون الحرب والسلم، وأن حرب الأفراد وسلمهم إنما تدخل في الاختصاص العام فلا تحدث فرديا، كذلك معاونة الدولة في إقرار النظام والأخذ على يد الظالم وعدم نصر المحدث أو إيوائه «3» . إن الصحيفة أعطت صفة للجماعة الإسلامية فقررت أنهم أمة واحدة من دون الناس.. وبهذا التقرير ألغى النبي الحدود القبلية أو على الأقل لم يجعل لها وجودا رسميا بالنسبة للدولة، أو بلفظ آخر ارتفع هو عن المستوى القبلي المحدد وبهذا أصبح الإسلام ملكا لمن دخل فيه، فدخل بناء على هذه القاعدة شعوب كثيرة في الإسلام دون أن يضع الرسول أمامها عقبات تحول بينها وبين الاشتراك   (1) يوتغ: يهلك. (2) ابن هشام ص 134- 138 ابن كثير 3/ 224- 226 المقدسي: البدء والتاريخ 4/ 153- 154 محمد حميد الله: مجموعة الوثائق ص 59- 62. (3) أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية والإسلام ص 293- 394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 في حياة العالم الإسلامي «1» . لقد أقرت الصحيفة مفهوم الحرية الدينية بأوسع معانيه وضربت عرض الحائط مبدأ التعصب ومصادرة الآراء والمعتقدات، ولم تكن المسألة مسألة تكتيك مرحلي ريثما يتسنى للرسول صلى الله عليه وسلم تصفية أعدائه في الخارج لكي يبدأ تصفية أخرى إزاء أولئك الذين عاهدهم.. وحاشاه.. إنما صدر هذا الموقف السمح المنفتح عن اعتقاد كامل بأن اليهود باعتبارهم أهل كتاب سيتجاوبون مع الدعوة الجديدة وينهدون لإسنادها في لحظات الخطر والصراع ضد العدو الوثني المشترك كما أكدت بنود الصحيفة نفسها- أو أنهم- على أسوأ الاحتمالات- سيكفون أيديهم عن إثارة المشاكل والعقبات ووضع العراقيل في طريق الدعوة وهي تبني دولتها الجديدة وتصارع قوى الوثنية التي تتربص على الحدود. لكن الذي حدث بعد قليل من إصدار الوثيقة، وطيلة سني العصر المدني، غيّر مجرى العلاقات بين المسلمين واليهود وجمد البنود المتعلقة بهم، لا لشيء إلا لأنهم اختاروا (النقض) على الوفاء، والخيانة على الالتزام، والانغلاق على مصالحهم القومية على الانفتاح على الأهداف العامة الكبيرة للأديان السماوية جمعاء. إن إصدار الوثيقة يمثل تطورا كبيرا في مفاهيم الاجتماع السياسية، فهذه جماعة تقوم لأول مرة في الجزيرة العربية على غير نظام القبيلة وعلى غير أساس رابطة الدم، حيث انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، ثم ترابطت هذه الجماعة المسلمة مع اليهود الذين يشاركونهم الحياة في المدينة إلى أمد ولأول مرة بحكم القانون حيث ترد الأمور إلى الدولة، ومن خلال تغيير شامل وتحول سريع طوى الدستور صفحة اجتماعية طابعها القبلية، وفتح صفحة جديدة أكثر إيجابية وأقرب إلى الترابط والتكافل والوحدة الفكرية «2» . ثالثا: المؤاخاة: وخطا الرسول صلى الله عليه وسلم خطوته الآخرى التي أراد أن يحل بها الأزمة المعاشية التي اجتاحت المهاجرين بعد مغادرتهم مكة، وينظم علاقاتهم الاجتماعية بإخوانهم الأنصار، ريثما يستعيد المهاجرون مقدرتهم المالية ويتمكنوا   (1) أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية والإسلام ص 395 وانظر شرح الصحيفة وتحليلها: المصدر نفسه ص 394- 399 وفلهوزن: الدولة العربية ص 11- 15 وفتحي عثمان: دولة الفكرة ص 59- 63. (2) أنور الجندي: الإسلام وحركة التاريخ ص 33- 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 من بلوغ مستوى الكفاية الاجتماعية، فاعتمد أسلوب المؤاخاة والمشاركة بين الطرفين وقال (تاخوا في الله أخوين أخوين) فكان ممن تاخوا- على سبيل المثال- وثبتت لنا المصادر أسماءهم: أبو بكر الصديق مع خارجة بن زهير، عمر بن الخطاب مع عتبة بن مالك، أبو عبيدة بن الجراح مع سعد بن معاذ، عبد الرحمن ابن عوف مع سعد بن الربيع، الزبير بن العوام مع مسلمة بن سلامة، عثمان بن عفان مع أوس بن ثابت، طلحة بن عبيد الله مع كعب ن مالك، سعيد بن زيد مع أبي بن كعب، مصعب بن عمير مع أبي أيوب خالد بن زيد، أبو حذيفة بن عتبة مع عباد بن بشر، عمار بن ياسر مع حذيفة بن اليمان، أبو ذر الغفاري مع المنذر ابن عمرو، حاطب بن أبي بلتعة مع عويم بن ساعدة، سلمان الفارسي مع أبي الدرداء، بلال مع أبي رويحة «1» . بلغ من تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم على المؤاخاة أن ميراث الأنصاري كان يؤول بعد وفاته إلى أخيه المهاجر بدلا من ذوي رحمه من الأخوة أو الأبناء أو النساء.. واستمر ذلك حتى موقعة بدر التي حظي فيها المسلمون بمقادير لا بأس بها من الغنائم والأموال فأنزل الله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، فعاد التوارث سيرته الأولى «2» . وقد تلقى الأنصار أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم بفرح عميق وفتحوا قلوبهم ودورهم لرفاقهم في العقيدة حتى أن الواقدي يذكر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحول من بني عمرو بن عوف في قباء إلى المدينة تحول أصحابه من المهاجرين فتنافست فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان فما نزل أحد منهم على أحد إلا بقرعة سهم «3» كما أعلن الأنصار أنهم يهبون الرسول صلى الله عليه وسلم كل فضل في خطط بلدهم وقالوا له: إن شئت فخذ منا منازلنا فقال لهم خيرا وخط لأصحابه في كل أرض ليست لأحد أو موهوبة من الأنصار «4» . ولما غنم المسلمون أموال بني النضير دعا الرسول الأنصار وذكرهم بما   (1) ابن هشام ص 138- 139 البلاذري: أنساب 1/ 270- 271 ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 226- 229 وانظر السمهودي: وفاء الوفا 1/ 190- 191. (2) سورة الأنفال: الآية 75. ابن سعد 1/ 2/ 1 البلاذري: أنساب 1/ 270. (3) الواقدي: مغازي رسل الله 1/ 378. (4) البلاذري: أنساب 1/ 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 صنعوا للمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وإثرتهم على أنفسهم ثم قال: (إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله عليّ من بني النضير وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم) فأجابه زعماء الأوس والخزرج: يا رسول الله بل تقسمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله «1» . وقابل المهاجرون إيثار إخوانهم وسماحتهم بتقدير كامل وسماحة مماثلة رافضين منذ البدء أن يكونوا إتكاليين على إخوانهم وعالة على أولئك الذين آووهم وقاسموهم.. وليست قصة عبد الرحمن بن عوف مع أخيه الأنصاري سعد بن الربيع سوى مثل واحد من عديد من الأمثلة على هذا التقابل الأخوي العادل في الأخذ والعطاء. روى البخاري أن المهاجرين لما قدموا المدينة آخى رسول الله بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها فإذا انقضت عدتها فتزوجها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ثم تبع الغدو.. وما لبث أن جاء يوما وعليه آثار زينة فقال النبي: مهيم؟ أجاب: تزوجت. فقال: كم سقت إليها؟ قال عبد الرحمن: نواة من ذهب. لقد كان (الإخاء) تجربة رائدة في تاريخ العدل الاجتماعي، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه مثلا على مرونة الإسلام وانفتاحه في الظرف المناسب على أشد (أشكال) العلاقات الاجتماعية مساواة وعدلا، ورد فيه، وفق المنطق الإلهي الذي لا يحابي ولا يداجي، على كل القائلين بأن الإسلام جاء لكي يمثل (إصلاحا) جزئيا للمسألة الاجتماعية لأن (العصر) الذي تصوغه (وسائل الانتاج) لم يتح له أن يتحرك لصياغة عالم جديد من العلاقات لم تسمح المرحلة الانتاجية بعد بصياغته ولم تأمر بها. وسنرى فيما بعد، عبر سني الدعوة الحافلة، المزيد من التجارب الاجتماعية التي تصفع هذا التحليل الخارجي الصارم، تلك التجارب التي لا تقل في خطورتها ودلالتها عن تجربة الإخاء.   (1) الواقدي: 1/ 379. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 روى ابن سعد أن عددا من أبناء القبائل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعقاب فتح خيبر فكلّم الرسول أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة ففعلوا «1» . وروى الواقدي أن المسلمين لما فتحوا حصون خيبر وجدوا هنالك متاعا وسلاحا وأثاثا كثيرا «فأما الطعام والأدم والعلف فلم يخمس يأخذ منه الناس حاجتهم» «2» . كما يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نادى، خلال حصار الطائف، أن أي عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر. فخرج إليه بضعة عشر رجلا فأعتقهم وسلم كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه ويحمله «3» . ويروى أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم استقرض في أعقاب فتح مكة مبلغ ثلاثين ألف درهم من عدد من أغنياء قريش وقسمها بين أصحابه من أهل الضعف، فيصيب الرجل خمسين درهما أو أقل أو أكثر «4» . ويروي البلاذري أن يهود فدك صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصف الأرض فكان يصرف ما يأتيه منها إلى أبناء السبيل «5» . وفي رواية أخرى له عن أبيض بن جمال أنه استقطع رسول الله الملح الذي بمأرب فقال رجل: إنه كالماء العد فأبى أن يقطعه إياه «6» . وفي أنساب الأشراف أن رجلا من بلقين قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى فقلت: يا رسول الله لمن المغنم؟ قال: لله سهم ولهؤلاء أربعة أسهم. قلت: فهل أحد أحق بالمغنم من أحد؟ قال: لا، حتى السهم يأخذه أحدكم من جنبه فليس بأحق به من أحد» «7» . وعن أبي بكر قال: «سمعت رسول الله يقول: إنما هي- أي فدك- طعمة أطعمنيها الله حياتي فإذا مت فهي بين المسلمين» «8» . وكان عمر بن الخطاب يقول: كان للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا فكانت بنو النضير حبسا لنوائبه وكانت فدك لابن السبيل وكانت خيبر قد جزّأها ثلاثة أجزاء، فجزآن للمهاجرين وجزء كان ينفق منه على أهله فإن فضل رد على فقراء المهاجرين «9» ، وليست مسألة توزيع أموال بني النضير الكثيرة على فقراء المهاجرين وحجبها عن الأنصار، كي لا تكون الأموال دولة بين الأغنياء فحسب، عنا ببعيدة.   (1) طبقات 2/ 1/ 78. (2) مغازي 2/ 680. (3) المصدر السابق 3/ 932. (4) المصدر السابق 3/ 863- 864. (5) فتوح البلدان 1/ 33. (6) المصدر السابق 1/ 88. (7) البلاذري: أنساب 1/ 352- 353. (8) المصدر السابق 1/ 519. (9) المصدر السابق 1/ 519 الواقدي 1/ 377- 378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 لقد نجحت التجربة لأن الأرضية التي أقيمت عليها والقيادة التي خططتها ونفذتها استكملتا كل شروط النجاح في مجتمع شاب يحكمه مبدأ العطاء قبل الأخذ، وتشده أواصر العقيدة وحدها ويوجهه الإيمان العميق في كل حركاته وأعماله وفاعلياته، ويقوده الرسول (الأسوة) الذي ضرب بتجرده وإيثاره وانسلاخه عن الأخذ وعطائه الدائم مثلا عاليا ومؤثرا يحرك حتى الحجارة الصم لكي تنبجس فيتدفق منها الماء. وأنى لتجربة كهذه أن تفشل وتتعثر والرسول صلى الله عليه وسلم يخوض مع أصحابه تجربة الفقر والجوع في سني الهجرة الأولى ويعاني كما يعانون بل أكثر مما يعانون، دون أن يفكر يوما بأن يمتطي (منصبه الأعلى) ليسلك طريقا آخر غير الذي يسلكه أتباعه، فيثري ويفتقرون، ويشبع ويجوعون، ويأخذ ويعطون. أولم يشك له أصحابه يوما الجوع ويكشفوا عن بطونهم التي شد كل منهم عليها حجرا لكي يؤكدوا له ما يعانونه، فإذا به يبتسم وقبل أن يتكلم يكشف عن بطنه فإذا بقطعتين من الحجارة قد شدتا عليها؟ روى البخاري أن أنس بن مالك قال: ما أعلم النبي رأى رغيفا مرققا حتى ألحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط. وعن عائشة قالت: إنّا كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلّة في شهرين وما أوقدت في بيوت رسول الله نار، فقال لها عروة ابن الزبير: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء. وقالت لقد توفي رسول الله وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رق لي. وعن أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة فاستقبلنا أحد فقال: يا أبا ذر قلت: لبيك يا رسول الله فقال ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا أموت وعندي منه دينار إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه، ثم مشى فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وقليل ما هم!! وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: «كان لنا جيران من الأنصار نعم الجيران.. كانوا يهدوننا بعض الطعام» ، وصلى عليه السلام مرة جالسا من شدة الجوع. قدموا له عصير اللوز فقال: أخروه عني هذا شراب المترفين. وتوفي ودرعه مرهونة عند يهودي اشترى منه ثلاثين قدحا من الشعير أخذها لطعام أهله. ولم يكن لديه قط قميصان معا، ولا رداآن، ولا إزاران، ولا نعلان. وأهدي إليه من الشام جبة وخفان فلبسهما حتى تمزقا.. وحج في قطيفة لا تساوي أربعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 دراهم. كان يلبس الصوف- أرخص شيء وأكثره إيلاما للجسد- ويخصف النعل ويرقع القميص ويركب الحمار. وكانت له حصيرة ينام عليها، ويبسطها في النهار فيجلس عليها، ولقد نام عليها حتى أثرت في جنبه. وكانت له مخدة من جلد حشوها ليف. وأحيانا ينام على عباءة تثنى مرتين فطوتها زوجته حفصة أربع مرات، فلما نام عليها كان من لينها أن استغرق في النوم حتى فاتته صلاة الليل فنهى حفصة عن ذلك وأمرها أن تعيد العباءة إلى وضعها الأول. ورأت امرأة من الأنصار ما ينام عليه فأهدته مرتبة من الجلد حشوها صوف فأمر عائشة بأن تردها، أمرها ثلاث مرات وعائشة أم المؤمنين وزوجة رسول الله تقول: فلم أردها حتى أمرني ثلاث مرات لأنني كنت أحب أن يكون في بيتي مثل هذا. ولم يكن يحب الفقر ولا يرضى به وكان في دعائه يستعيذ منه. وكان يستطيع أن يملك ثروة جزيرة العرب كلها. وكان يعطي كما وصفه أعرابي (عطاء من لا يخشى الفقر) . ولو احتفظ بنصيبه من الغنائم كأي فرد من جيشه لكان من أغنياء العرب.. ولكن ما دامت البشرية قد كتب عليها أن تعيش قرونا عديدة وفيها الفقر والغنى فخير نظام تصل إليه هو ذلك الذي يجعل حكامها في جانب الفقراء، فما أبشع أن تجتمع السلطة والغنى في جانب واحد.. وعشرات غير هذه الوقائع والأمثلة.. عشرات «1» . إن تجربة المؤاخاة نجحت وكان لا بد لها أن تنجح ما دامت قد استكملت الشروط وتهيأت لها الأسباب في القيادة والقاعدة على السواء، وبغض النظر عن عدد الذين تاخوا عشرات كانوا أم مئات أم ألوفا. وخلال ذلك أخذت الصلاة شكلها النهائي، وفرضت زكاة الفطر، وكتب الصيام، ورسمت الحدود، وفرض الحلال والحرام وحدد الأذان كنداء يدعى به المسلمون إلى الصلوات الخمس وكانوا يجتمعون لمواقيتها دونما دعوة، أما القبلة فقد كانت لأول أمرها متجهة صوب بيت المقدس ثم تحولت إلى الكعبة بعد سنة ونصف من الهجرة «2» . رابعا: الجيش: هنالك أسباب عديدة ومتشعبة تفسر عدم السماح للرسول   (1) انظر بالتفصيل محمد جلال كشك (الحق المر) ص 44- 48 ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 282- 284. (2) انظر: الطبري: تاريخ 2/ 400: 415- 418 وابن سعد 1/ 2/ 3- 5 والبلاذري: أنساب 1/ 271- 273 وابن الأثير: الكامل 2/ 115 وانظر بالتفصيل ابن كثير 2/ 231- 233، 252- 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 صلى الله عليه وسلم بإعلان الجهاد المسلح ضد الوثنية حتى أواخر العصر المكي، وعلى وجه التحديد الأيام التي سبقت بيعة العقبة الثانية، وهذه الأسباب ترتبط ولا ريب بالإسلام كحركة، وبالأرضية أو البيئة التي يتحرك عليها. إذ لم يكن بمقدور الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمح لأصحابه بالقتال قبل أن يكتمل نموهم العقيدي ويصل مرحلة النضج، وقبل أن يزداد (عددهم) بما يمكنهم من توجيه ضرباتهم وتحمل الضربات المضادة من جهة أخرى دون أن يتعرضوا للتشتت والفناء، وقبل أن يضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطواته الأولى صوب بناء (الدولة) التي ستحمل العقيدة الجديدة وتحميها، منتقلا بذلك من مرحلة بناء الإنسان المسلم والجماعة المسلمة والتي استغرقت العصر المكي كله إلى هذا الطور الجديد. وفي الجهة المقابلة كانت (البيئة) التي يتحرك فيها الإسلام بيئة قبلية تعير اهتماما كبيرا لصلات النسب والقربى، الأمر الذي مكن الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يجد حماية (طبيعية) في عشيرته بني هاشم التي ذاقت معه- بسبب تقاليد مكة القبلية- أشد تجاربه ألما، والمتمثلة بسني الحصار الصعب في شعب أبي طالب. وكان رفع السلاح بوجه المشركين سيستفز عشيرة الرسول نفسه، ويبعدها عن نصرته فتتركه وأصحابه وحيدين ليس من يحميهم، فتحصدهم سيوف قبائل قريش جميعا. أما وهو ينشر دعوته (سلما) ويتعرض وأصحابه لذلك الاضطهاد الذي لم يصل حد محاولة القتل إلا في اللحظات الأخيرة، فإن ذلك لم يؤدّ إلى إبقاء بني هاشم وأحلافهم إلى جانب دعوته فحسب بل استفز نخوة الكثيرين من رجالات وأبناء القبائل الآخرى للظلم الذي يلحق بأبنائهم وإخوانهم ودفعهم إلى مناصرة الدعوة الجديدة أو الانتماء إليها. وما يقال عن التركيب القبلي للمجتمع المكي، يقال عن جزيرة العرب كلها حيث كانت قبائلها ستقف مرتاحة لزعيمتها قريش وهي تحصد رؤوس مجموعة من بنيها القتلة الذين حملوا السلاح ضد آبائهم وإخوانهم، ومهتاجة مغضبة إزاء الظلم والقسوة والاضطهاد الذي ينصب على الدعاة الجدد دون أن يحملوا سلاحا أو يقتلوا أحدا.. هذا فضلا عن الأمل العميق في هداية قريش وانتمائها إلى الدين الجديد واعتمادها- كأعرق قبيلة في الجزيرة- منطلقا إلى العرب جميعا. إلا أن مرحلة بناء الإنسان والجماعة المسلمة ما كادت تشرف على نهايتها ويضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطواته الأولى صوب بناء الدولة الإسلامية في يثرب، وتصعّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 قريش اضطهادها ومقاومتها لأتباع الدين الجديد حتى نزل الإذن بالقتال المسلح، قبيل بيعة العقبة الثانية التي أنهت العصر المكي وفتحت الطريق إلى العصر المدني الجديد. يقول ابن هشام: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل.. وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم، فهم بين مفتون في دينه ومعذب في أيديهم وبين هارب في البلاد فرارا منهم، منهم من بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة أو في كل وجه. فلما عتت قريش على الله عزّ وجلّ، وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه وعذبوا ونفوا من عبده وصدق نبيه واعتصم بدينه، أذن الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم بالقتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، فكانت أول آية أنزلت في إذنه له بالحرب وإحلاله له الدماء والقتال قول الله تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «1» ثم أنزل الله تبارك وتعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ... » «2» . ورغم أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كان معظمهم قد مارسوا القتال في جاهليتهم وعرفوا كيف يحملون السلاح ويستخدمونه في ظروف لا (يبقى) فيها من لا يحمل سلاحا، ورغم أن الأنصار الذين قامت دولة الإسلام في المدينة على أكتافهم قد أعربوا للرسول يوم بيعتهم الأخيرة في العقبة عن قدراتهم في القتال وبأسهم في الحرب وقالوا: «نحن أبناء الحروب ورثناها كابرا عن كابر» إلا أن الظروف الجديدة التي بدأ الإسلام يجتازها، وتصاعد الموقف الحربي بينه وبين القوى الوثنية وبخاصة في أعقاب الهجرة إلى المدينة، ونزول الآيات القرآنية تؤذن ببدء القتال المسلح، حتّم على الرسول أن ينمّي هذه القدرات وأن يدفع أتباعه إلى   (1) سورة الحج، الآيات: 39- 41. (2) سورة البقرة، الآية: 139. ابن هشام ص 116- 117 البلاذري: أنساب 1/ 286 وانظر: محمد عزة دروزة: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 2/ 319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 مزيد من التدريب والمهارة العسكرية في مواجهة الأعداء الذين يحيطون بالدولة الجديدة إحاطة السوار بالمعصم. وراح الرسول القائد طيلة العصر المدني يعمل دونما وهن على تعليم أتباعه فنون القتال وتدريبهم على استعمال السلاح رافعا شعارا واضحا لا غموض فيه وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ «1» ، معتمدا في سعيه لتكوين (المقاتل المسلم) على أسلوبين متوازيين: التوجيه المعنوي والتدريب العملي، في أولاهما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسعى إلى رفع معنويات المقاتلين، يمنحهم أملا يقينيا بالنصر أو الجنة. ومنذ تلك اللحظات وفيما بعد ظل هذا (الأمل) يحدو الجندي المسلم في ساحات القتال ويدفعه إلى بذل كل طاقاته النفسية والجسدية والفنية من أجل كسب المعارك أو الموت تحت ظلال السيوف مجتازا باستشهاده الخاطف السريع الجسر الذي يصل أرض المعركة بالجنة، حيث الخلود الدائم والنعيم المقيم ولذة القرب من الله سبحانه الذي قال مخاطبا المؤمنين وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ «2» . وهذا (البذل) الذي شهده تاريخ الإسلام منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يفجر طاقات المسلم القتالية ويحيل كلا منهم إلى عشرة مقاتلين. وسنرى الرسول الآن وفيما بعد ينادي أصحابه دوما في لحظات المصير الحرجة بين النصر والهزيمة لكي يهرعوا إلى الحسنيين: النصر أو الجنة.. كان يقول لهم: (جاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم) ويناديهم: (إن الله تعالى يقول: ما من عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيلي إلا ضمنت له أن أرجعه مأجورا غانما.. أو شهيدا أغفر له، وأرحمه، وأدخله الجنة) ويعلمهم: (من أرسل نفقة في سبيل الله فله بكل درهم سبعمائة درهم) ويبين لهم (من أعان مجاهدا في سبيل الله أظله الله يوم لا ظل إلا ظله) ، (من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمهما الله على النار) ، (من جرح في سبيل الله ختم له بخاتم الشهداء له نور يوم القيامة، ويأتي، جرحه له لون الزعفران وريح المسك يعرفه بها الأولون والآخرون ويقولون: فلان عليه طابع   (1) سورة الأنفال، الآية: 60. (2) سورة آل عمران، الآيتان: 169 و 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الشهداء) وكان يقول لأصحابه (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، و (مقام أحدكم في سبيل الله خير من عبادة أحدكم في سبيل الله ستين سنة) ، ويقول (حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله) ويقول (من مات ولم يغز أو يجهز غازيا أو يخلف غازيا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة) ، ويقول (والذي جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتله حتى يقتل فذاك الشهيد الممتحن في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة) ويناديهم مرارا (إن السيف محاء الخطايا) وإنكم (إذا تركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) «1» . أما الأسلوب الثاني الذي اعتمده الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو التدريب العملي، فقد سعى من خلاله إلى اعتماد كل طاقات الأمة القادرة على البذل والعطاء: رجالا ونساء وصبيانا وشبابا وشيوخا، وإلى التمرس على كل مهارة في القتال طعنا بالرمح وضربا بالسيف ورميا بالنبل ومناورة على ظهور الخيل، كما أكد على ضرورة تعلم القتال في كل ميدان برا وبحرا، تنفيذا لشعار الله وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ على إطلاق القوة. قال (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي) ، والرمي يعني إصابة الهدف.. وحتى العصر الحديث والحروب التقنية تجيء الانتصارات بالدرجة الأولى بمدى مقدرة الجندي على إصابة هدفه بالرصاصة أو القنبلة أو الصاروخ.. وقال (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) دفعا لأصحابه إلى التمرس على الفروسية وتعلّم ركوب الخيل في قتال يلعب فيه الفرسان دورا كبيرا، وقال وكأنه ينظر إلى المدى البعيد حيث ستنساح رقعة دولته إلى أطراف القارات وسواحل البحار والمحيطات، كيف لا وما هي بالدولة الإقليمية أو العنصرية وإنما هي دولة منفتحة على العالم كله، على الإنسان أيا كان هذا الإنسان: (غزوة في البحر خير من عشر غزوات في البر، والمائد فيه كالمتشحط في دمه، ومن أجاز البحر فكأنما أجاز الأودية جميعا) وقال (من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل رقبة محررة) والأمر سواء: سهم ينطلق في سبيل الله وحده من أجل تحرير الإنسان من العبودية للعباد و (عبد) يحرر من سيده لكي يغدو إنسانا.   (1) انظر: محمد جلال كشك (الحق المر) ص 65- 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وقال صلى الله عليه وسلم وهو يمزج خطي التربية العسكرية المتوازيين: التوجيه والتدريب والأمل بالنصر أو الجنة، وتقديم الجهد في ساحة القتال أو في الخطوط الخلفية صنعا للسلاح أو إمدادا به (إن الله عزّ وجلّ ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر، الجنة.. صانعه يحتسبه في عمل الخير والرامي به ومنبله) وشاهد رجل في أطراف المدينة عقبة بن عامر يحمل السلاح ويمارس التهديف راكضا من مكان إلى مكان فسأله (تختلف بين هذين الموضعين وأنت شيخ كبير؟) أجابه الشيخ: (سمعته يقول: من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا) بهذه اللهجة الحاسمة (ليس منا) ! ذلك أن الذي لا يعرف السلاح ابتداء والذي يعرفه حينا من الوقت ثم ينساه سواء.. على العكس أن هؤلاء الذين يذهبون إلى سوح القتال وهم يحملون سلاحا لا يعرفون كيف يضربون به، سرعان ما يتعرضون للارتباك والرعب فتحصد رؤوسهم ويكونون كارثة على رفاقهم الذين يشل الموقف قدرتهم على استخدام السلاح. بهذه الإجراآت الأربع وضع القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم القواعد الأولى لدولة الإسلام في المدينة، وأخذت التشريعات المنبثقة عن هذين المصدرين تنمو وتتسع يوما بعد يوم، لا بطرائق نظرية تجريدية منفصلة عن الحياة والواقع وإنما وفق نفس الأسلوب الذي كانت الآيات المكية تتنزل فيه لكي تبني العقيدة في أذهان ونفوس الإنسان والجماعة المسلمة، وهو أسلوب يرتبط ارتباطا عضويا حيويا بالواقع الحركي والتجربة الحية المعاشة، ومن ثم تجيء معطياته أشد التصاقا بحركة المسلمين ونمو دولتهم، وأكثر التحاما بتجربتهم المحسوسة وواقعهم المعاش، وأعمق فهما وإدراكا لمتطلباتها وأبعادها القانونية والسلوكية، نظرا لمواكبتها لمشاكلهم وتجاربهم اليومية ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم. لقد بدأت مرحلة بناء الدولة الإسلامية (العقائدية) في أعقاب الهجرة، حيث كانت المرحلة السابقة، مرحلة بناء الإنسان المسلم والجماعة المسلمة، قد اكتسبت ملامحها الأساسية في العصر المكي وغدا المسلمون أفرادا وجماعات على استعداد نفسي وذهني كاملين لتقبل ما سيجيء من تشريعات وما سيفرض من تنظيمات ويوضع من حدود ويرسم من علاقات، بعد أن هيأهم النضج العقيدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 لتقبل كل ما يصدر عن رسول الله و (الإسلام) لله و (الإيمان) به و (التقوى) خلال ممارسته في السر والعلن و (الإحسان) في إنجازه على أحسن ما يكون الإنجاز، دون تردد أو سلبية أو خيانة أو غش أو تملص أو رفض أو تهرب.. إنما هو الخضوع اليقيني المتبصر بأن هذا الذي يتنزل في ميدان التشريع والتقنين إنما هو الحق المطلق والخير الكامل والصواب الذي ليس بعده إلا الضلال المبين. وقد أتاح هذا التطور المبرمج لسير الدعوة الإسلامية أن يشاد البناء الجديد على أسس متينة متوغلة في أعماق النفس المسلمة على المستوى الفردي والجماعي على السواء، فجاء متماسكا مترابطا ثابت الأركان، فضلا عن أن الإحساس الجديد (بالزمن) و (بالمسؤولية) و (يقظة الضمير) التي غرستها العقيدة الإسلامية في النفوس دفعت المسلم ليس إلى تقبل التشريعات والحدود والأوامر الجديدة وتنفيذها بدقة فحسب بل إلى كسب الوقت والمسارعة في تحويلها إلى وقائع معاشة وتجارب وترجمات يومية وصيغ منقوشة على صفحة المكان والزمان، كما دفعتهم إلى السعي (للإحسان) في الأداء والإبداع في التنفيذ من أجل بلوغ المرحلة القصوى من رضا الله وطاعته، وقد أتاح هذا كله اطرادا عجيبا في نموّ الأجهزة التشريعية للدولة الناشئة وسرعة مدهشة في نزول متطلباتها إلى الشارع والبيت والسوق والمسجد والميدان، الأمر الذي يفسر لنا على المستوى الحضاري الاختزال الزمني المدهش الذي مارسه المسلمون وهم يبنون عالمهم الجديد وحضارتهم المتوازنة. لقد أسهم القرآن والرسول، جنبا إلى جنب، في رسم الخطط ووضع التشريعات وبناء المؤسسات وتغطية المتطلبات المتزايدة للدولة الجديدة. ولم يكن الدستور (أو الوثيقة) وحدها- رغم خطورتها في هذه المرحلة- هي كل شيء، كما يحاول الكثير من الباحثين أن يصوروا من خلال مبالغتهم «1» ، فالوثيقة   (1) نذكر هنا من بين عدد كبير من الأمثلة حول إعطاء أهمية مبالغ فيها للوثيقة (أو الدستور) ما ورد في كتاب (مكة والمدينة) للشريف ( ... يدل الدستور على مقدرة فائقة من الناحية التشريعية وعلى علم كبير بأحوال الناس وفهم الظروف ... ولا نكاد نعرف من قبل دولة قامت منذ أول أمرها على أساس دستور مكتوب غير هذه الدولة الإسلامية؛ فإنما تقوم الدول أولا ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور ولكن النبي ما كاد يستقر في المدينة وما كاد العام الأول من هجرته ينتهي حتى كتب هذه الصحيفة المهمة جدا لأنها حددت شكل الدولة الإسلامية، وكذلك هي مهمة لفهم الحوادث التي نشأت بعدها) ص 387- 388 وانظر فلهوزن الدولة العربية ص 1- 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ليست سوى لبنة واحدة في البناء التشريعي الكبير الذي وقع عبء إقامته على عاتق القرآن الكريم قبل كل شيء، هذا إلى أن الكثير مما ورد في الوثيقة لا يعدو أن يكون برنامجا مرحليا بالنسبة للخارطة الثابتة الدائمة لدولة الإسلام واستراتيجيتها التشريعية الشاملة، ومن ثم فإن التأكيد على أهمية الوثيقة، فضلا عن أنه يعد بحد ذاته خطأ تاريخيا وموضوعيا، فإنه يحجب في الوقت نفسه الحجم الحقيقي للتشريع القرآني الذي كان يتمخض باستمرار عن مزيد من القوانين والتشريعات ويقود الباحث بالتالي إلى الرؤية الغربية الوضعية التي تجد في (الوثيقة) محاولة بشرية أولية من المحاولات التي قام بها المشرعون على مدار التاريخ لتنظيم شؤون دولتهم الناشئة، وإنه يجب ألا يغيب عن بالنا أبدا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ينطق عن الهوى وأنه كان يصدر في الخطوط العريضة للدعوة عن وحي الله وأن هذا الوحي يبدو أكمل ما يبدو في القرآن الكريم نفسه، وكل الإنجازات والأعمال الآخرى إنما هي امتداد وتوسيع وتفسير فحسب لهذا الأصل (الإلهي) الكبير. وثمة مسألة أخرى تجدر الإشارة إليها في هذا المجال، تلك هي إطلاق اسم (دولة المدينة) أو الدولة (اليثربية) على دولة الإسلام الأولى بحكم قيامها بالمدينة المنورة، ذلك أن تعبير (دولة المدينة) قد يسوق ههنا إلى لبس يوهم أن المقصود أنها كانت دولة من النوع الذي يقوم فيه الكيان الإقليمي للدولة على (مدينة) من المدن) City -State (مثل أثينا أو إسبرطة في التاريخ القديم. والحق أن (دولة الهجرة) ارتبطت بيثرب ارتباطا عارضا، ولقد كانت دولة عقيدية عالمية من أول يوم، وكان من الممكن أن تقوم في أي مكان يتبنى الفكرة ويدين للعقيدة «1» ، كذلك فإن الدولة الجديدة في المدينة هي دولة الهجرة لا دولة المهاجرين. فالمهاجرون هنا لا يعمدون إلى إفناء السكان الأصليين أو إجلائهم ولا يقيمون المستعمرات أو يصطنعون الحواجز بينهم وبين سكان المدينة التي انتقلوا إليها. وهكذا لا نجد تجارب توطين الأوروبيين في أمريكا أو أستراليا أو جنوب أفريقيا على اختلاف درجات حرارتها. إنها دولة فكرية عقيدية سكانها المقيمون فيها من قبل والمهاجرون الوافدون سواء في الاعتبار الإنساني والحقوق القانونية.. والعقيدة معروضة على كل إنسان بحكم إنسانيته، أيا كان   (1) انظر ما سبق وأن ذكرناه لدى دراسة وتحليل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 موطنه وأيا كانت عشيرته. إنها دولة مفتوحة لا تغلق نفسها على جماعة معينة شأن أية دولة (دينية) أخرى قامت من قبل في التاريخ لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» . إن هذه الدولة فذة في تاريخ البشرية لأنها أقرت مبدأين لا وجود لهما إلا في دولة غير دينية، وأول هذين المبدأين هو حرية الأديان وهي حرية لا تقرها الدولة الإسلامية وتسمح بها فحسب بل إنها تتعهد برعايتها. وثانيهما هو مبدأ تعريف فكرة الوطن والدولة في أوسع معانيها تسامحا وإنسانية وهو مبدأ يكفل المساواة في الحقوق والواجبات الوطنية بين جميع أفراد الدولة على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وعاداتهم «2» . لقد استكملت دولة الإسلام كل مستلزمات البناء القانوني للدولة والذي يقوم على أركان ثلاثة: الأمة، والسيادة الخارجية والداخلية، ثم الإقليم.. ولكنها ما أخذت مكانها ودورها في التاريخ لواحد من هذه الأركان. فلقد قامت (دولة الهجرة) على (أمة) .. ولكنها أمة تقوم على أساس الفكر والعقيدة، فهي (أمة) لا يمكن حصرها أو ضبطها لأنها لا تحدها لغة أو جنس أو وطن، فقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيدته على كل فرد وقبيلة ومدينة استطاع أن يعرض هذه العقيدة عليها، وترك المجال أمام (الإمكانيات الأيديولوجية) لا (الحتمية الجغرافية) . وكان (لدولة الهجرة) (سيادة) داخلية وخارجية.. ولكنها (سيادة) تحققت في واقع الأمر من أول يوم في الإطار المثالي الذي تطلعت إليه فلسفة القانون إلى وقتنا ولم تفلح في أن تجد له سبيلا إلى التنفيذ. فهي سيادة قائمة على الاختيار الحر في اعتناق الفكرة من جانب الأفراد وفي الاجتماع لإقامة الدولة من جانب المجموع، ومن   (1) سورة الحشر، الآيات 8- 10، فتحي عثمان. دولة الفكرة ص 16- 17. (2) الشريف: مكة والمدينة ص 383- 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ثم تأسست سياسة الدولة الجديدة فعلا وواقعا على تقديس الحرية الإنسانية بحيث تكون هذه الحرية هي أساس الدولة الفكري وقانونها الأعلى. وكان لدولة الهجرة (إقليم) اختارته الظروف لها وكان اختيارا موفقا ... لكنها لم ترتبط به ولم تقتصر عليه، وكان من الممكن أن تقوم في أي مكان آخر يقبل الدعوة، مكة أو الطائف مثلا ... ذلك أن الدولة الجديدة دولة (فكرة) والفكرة تجد وطنها في كل مكان يوجد فيه عقل إنسان «1» . لقد كان من حسن حظ البشرية أن الإسلام تبرأ من أول يوم من حواجز الجنس والأرض واللسان واستهدف قيام الأخوة العالمية بين المؤمنين، «ولما كانت دعوة الإسلام لم تأت من البداية إلى بلد بعينه فإنها كانت خطوة تقدمية إلى الأمام نحو تحقيق ما بذلت المحاولات لتحقيقه من بعد وهو تدويل المجتمع الإنساني ... وبجانب عالمية الدعوة فإن الإسلام أقام نظام (الحج) ونظام (الخلافة) من أجل تحقيق هذا الهدف» «2» . إن دولة الإسلام هي دولة (العقيدة) التي قامت منذ البدء على أن السلطة الحاكمة العليا هي الله.. القوة المحايدة التي تقرر المبادىء والموجهات العامة، إذ هي لا تميل مع فرد أو جماعة ولا تنحاز لحاكم أو محكوم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا «3» . لقد أعطى الإسلام بمجتمعه الأول ذلك النموذج الذي عاش مدى العصور في نفوس المسلمين وعقولهم مثلا يحتذى وصورة شامخة من صور المثل الأعلى للمجتمع الإنساني السليم المتكامل الذي يقوم على الإخاء والحب والتسامح والتكامل، وليس هذا المجتمع صورة مثالية غير واقعية ولكنه تطبيق أمين لمفهوم الإسلام ومضمونه (وأيديولوجيته) . وما تزال صورة هذا المجتمع الإسلامي الأول باتساقها وصلابتها وسلامتها في فهم مضمون الإسلام ومنهجه، تعطي علامة القوة في تطبيق الإسلام. فمن هذه الجماعة الإسلامية انطلقت (الدعوة الإسلامية) إلى العالم كله، وليس صحيحا ما يدعيه بعض المستشرقين ومن تابعهم من أن سياسة   (1) فتحي عثمان: دولة الفكرة ص 18- 22. (2) حميد الله الحيدر آبادي: دولة الإسلام والعالم، عن فتحي عثمان المصدر السابق ص 58- 59. (3) سورة النساء، الآية: 59، فتحي عثمان: المرجع السابق ص 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 هذه الجماعة لا تلائم طبيعة العمران أو أنها توفقت إلى رجال يندر اجتماعهم في عصر.. ولم يكن مجتمع المدينة، كما تحاول أن تصوره مختلف كتب السيرة، مجتمع حرب وغزوات وقتال، فلو أننا أحصينا عدد الغزوات الكبرى فيه وأيامها لما تجاوز ذلك في مجموعه بضعة شهور في خلال عشر سنوات. ومن هنا فإن المجتمع الإسلامي في المدينة قد قام فعلا وبنى خلالها دعامتين واضحتين: نظام مجتمع ونظام دولة، كما بنى تشريعا وقانونا» «1» .   (1) أنور الجندي: الإسلام وحركة التاريخ ص 50- 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الفصل السادس الصراع مع الوثنية (المرحلة الأولى) السرايا بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم فور تثبيت أسس دولته الجديدة في المدينة صراعا (مرحليا) ضد الوثنية العربية وزعيمتها قريش تمثل بشن حروب صغيرة متقطعة ضد القوافل والمواقع الوثنية، أطلق عليها المؤرخون اسم (السرايا) ، استهدفت إرباك قريش وحلفائها وإضعافهم وتحطيم معنوياتهم وضرب نشاطهم التجاري الذي يمثل عصب حياتهم وشريان وجودهم، والحصول على مورد للتموين والتسليح في أعقاب الأزمة المالية التي كان المسلمون يعانونها في مطلع عهدهم بالهجرة. كما استهدفت السرايا إنذار أعداء الدولة الناشئة من غير قريش وحلفائها كاليهود في الداخل وجماعات البدو في الخارج بأن المسلمين قادرون على الرد ومستعدون للتصدي لأي عدوان يستهدف منجزاتهم التي حققوها طيلة أربعة عشر عاما من الجهد والعناء. ومن جهة أخرى جاءت هذه الهجمات أشبه بمناورات حية كان المقاتل المسلم يجسّ عن طريقها نبض أعدائه ويختبر إمكاناتهم الحربية، ماديا ومعنويا، ويمارس مزيدا من التدريب وتنمية قدراته وطاقته على الصمود. كانت المجموعة الأولى من السرايا قد انطلقت منذ منتصف السنة الأولى للهجرة. انطلق حمزة رضي الله عنه في رمضان من تلك السنة على رأس ثلاثين رجلا من المهاجرين ليعترض قافلة لقريش عند ساحل البحر ولقي أبا جهل في ثلاثمائة رجل فحجز بينهما مجدي بن عمرو الجهني.. ولم يقع اشتباك وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 يحمل لواء حمزة في هذه المحاولة رجل يدعى أبا مرثد. وفي شوال انطلق عبيدة بن الحارث على رأس ستين رجلا من المهاجرين يحمل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى بطن «رابغ» ، فالتقوا بمائتين من المشركين يقودهم أبو سفيان على ماء يدعى «أحياء» ، فوقعت بين الطرفين مناوشات بالسهام دون أن يدخلا في اشتباك مباشر. وفي ذي القعدة خرج سعد بن أبي وقاص في عشرين رجلا مشيا على الأقدام فكانوا يكمنون نهارا ويسيرون ليلا، وفي اليوم الخامس بلغوا الخرّار حيث أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يجاوزوها، وكانت القافلة القرشية قد سبقت سرية المسلمين بيوم كامل فلم يدركوها. وفي صفر من السنة الثانية خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه على رأس عدد من أصحابه مستهدفا قريشا وبني ضمرة حتى بلغ «ودّان» فوادعه بنو ضمرة ثم قفل عائدا إلى المدينة ولم يلق كيدا، ثم ما لبث صلى الله عليه وسلم أن استخلف على المدينة أبا سلمة ابن عبد الأسد وانطلق لغزو قريش حتى انتهى به المطاف إلى العشيرة قريبا من ينبع، فأقام بها أياما ووادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم قفل عائدا إلى المدينة. وبعد أيام معدودات من عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة العشيرة قام كرز بن جابر الفهري بغارة على مواشي المدينة وإبلها التي تسرح في أطرافها، فلاحقه الرسول بنفسه حتى بلغ وادي (سفوان) قريبا من بدر، وفاته كرز ولم يدركه فرجع إلى المدينة وسميت هذه المطاردة باسم بدر الأولى «1» . وما أن قفل عائدا إلى المدينة حتى جرد ثمانية مقاتلين (وقيل اثني عشر) من المهاجرين بقيادة عبد الله بن جحش وكتب كتابا وأمره ألا ينظر فيه قبل مسيرة يومين فيمضي لما أمره الرسول به ولا يستكره من أصحابه أحدا. وبعد يومين فتح عبد الله الكتاب السري وقرأ ما فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بوادي نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارها» . وما أن أتم عبد الله قراءة الكتاب حتى قال: سمعا وطاعة. ثم التفت إلى أصحابه وقال: قد أمرني الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمضي   (1) ابن هشام ص 142- 145 الطبري: تاريخ 2/ 402- 410 ابن سعد 2/ 1/ 1- 5 الواقدي 1/ 9- 13 المسعودي: التنبيه والإشراف ص 200- 203 البلاذري: أنساب 1/ 287 اليعقوبي: تاريخ 2/ 57- 58 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 13- 15 ابن حزم: جوامع ص 100- 104 ابن الأثير: الكامل 2/ 111- 112 ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 244- 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 إلى نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لأمر رسول الله. فأجابه أصحابه جميعا ومضوا حتى نزلوا بنخلة، فمرت بهم قافلة لقريش تحمل تجارة لمكة فهاجموها وقتلوا أحد أفرادها وهو عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين آخرين وقفلوا عائدين بالبضائع والأسيرين إلى المدينة. وعندما أبلغوا الرسول صلى الله عليه وسلم تفاصيل الحادث قال: ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم وأوقف التصرف بالأموال والأسيرين وأبي أن يأخذ من ذلك شيئا، فأسقط في أيدي القوم وعنفهم إخوانهم فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وغنموا الأموال وأسروا الرجال، لكن آيات القرآن الكريم سرعان ما تنزلت لتحدد الموقف الحازم إزاء القيادة الوثنية التي كانت قد سبقت إلى انتهاك الأشهر الحرم، فقاتلت المسلمين الجدد فيها وعذبتهم واضطهدتم وفتنتهم عن دينهم، وإنه قد آن للمسلمين أن يردوا على هذا الانتهاك الصريح لأن التشبث بحرمة الشكليات هزيمة لا مبرر لها في ساحة الصراع العنيف بين المعسكرين يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا «1» «2» . ويمكن اعتبار سرية عبد الله بن جحش الجسر الذي اجتازه صراع المناوشات بين الإسلام والوثنية صوب القتال المنظم المكشوف الذي بدأته معركة بدر. ذلك أن هذه السرية كشفت، بسبب توغل مقاتليها بعيدا إلى طريق التجارة المكية- اليمنية، مدى خطورة الدولة الناشئة على تجارة مكة خاصة ووجودها الوثني عامة، كما أن الاشتباك الذي وقع بين الطرفين وأدى إلى قتل وثنيّ وأسر آخرين أبان عن رغبة المقاتلين المسلمين برفع السلاح بوجه الوثنية دونما تردد أو مساومة، هذا فضلا عن المنطلق المبدئي الجديد الذي حددته الآيات السالفة والذي ضربت فيه شكليات التقاليد القديمة ونفخت في المقاتل المسلم روحا جديدة دفعته إلى مزيد من المجابهة والصراع والتحدي للقيادة المكية التي كانت   (1) سورة البقرة: الآية 217. (2) ابن هشام ص 145- 147 الطبري: تاريخ 2/ 410- 415 ابن سعد 2/ 1/ 5 الواقدي 1/ 13- 19 البلاذري: أنساب 1/ 371- 372 المسعودي: التنبيه ص 203 اليعقوبي: تاريخ 2/ 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 قد سبقت المسلمين- كما بين القرآن- إلى تجاوز الحرمات والاستهتار بالأعراف. وهكذا يمكننا القول بأن معركة بدر الكبرى لو لم تحدث بسبب غياب شروطها الواقعية لحدثت معركة أخرى بديلة عنها بسبب توافر الشروط الموضوعية للقتال الحاسم بين المعسكرين. [ منجزات السرايا ] حقق الرسول صلى الله عليه وسلم بسراياه الأولى عددا من المنجزات العامة يمكن حصرها بما يلي: 1- الاستطلاع: استطاع المسلمون التعرف على الطرق المحيطة بالمدينة والمؤدية إلى مكة، خاصة الطرق التجارية الحيوية لقريش بين مكة والشام، كما استطاعوا التعرف على قبائل المنطقة وموادعة بعضها. 2- القتال: أ- أثبت المسلمون أنهم أقوياء ويستطيعون الدفاع عن أنفسهم وعقيدتهم تجاه المشركين من قريش والقبائل المجاورة وأهل المدينة وتجاه اليهود، وقد أراد المسلمون من ذلك أن تترك لهم الحرية الكاملة لنشر دعوتهم دون تدخل من أعدائهم. ب- تحالف المسلمين مع بعض القبائل المجاورة. 3- الكتمان: ابتكر الرسول أسلوب الرسائل المكتومة للمحافظة على الكتمان وحرمان العدو من الحصول على المعلومات التي تفيده عن حركات المسلمين. والكتمان أكبر عامل من عوامل مبدأ المباغتة التي هي إحداث موقف لا يكون العدو مستعدا له. والكتمان من جملة الوسائل المهمة التي تؤدي إلى المباغتة وهي أهم مبدأ من مبادىء الحرب. وقد سبق المسلمون غيرهم في ابتكار هذا الأسلوب الدقيق. 4- الحصار الاقتصادي: هدد المسلمون أهم طريق تجارية بين مكة والشام فأصبحت قوافل قريش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 غير آمنة حين تسلك هذا الطريق مما أثر أسوأ الأثر على تجارة قريش التي تعيش عليها، وهدد مكة بالحصار الاقتصادي لمحاولة حرمانها من سلوك طريق مكة الشام بأمان «1» . وكما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يوجد في داخل المدينة أداة للحكم وأن ينظم شؤونها الداخلية كذلك حرص عن طريق السرايا على أن يضم إلى المدينة ما حولها من ريف وقبائل، وأن يخطط لها مجالها ويقرر حدودها ويعقد لها أحلافا مع القبائل النازلة حولها، لأن الحاضرة لا تستطيع أن تعيش بنفسها ولا تستغني عن ريف يمدها بالمؤن ويكون مجالا لنشاطها. وكان هذا أحد أسباب قيام النبي بعدة سرايا ابتدأت من المدينة واتجهت إلى جميع الجهات فأمنت هذا الريف، وعقدت في أثناء هذه السرايا أحلافا مع القبائل المجاورة. إذ أنه لا بد لسكان المدن التي تقوم في وسط جو بدوي أن تعمل حسابا كبيرا لغزوات البدو ولا يكون ذلك إلا عن طريق محالفة البدو ثم كسر شوكتهم بالضرب على أيديهم عند اللزوم وإشعارهم دائما بقوة المدينة وقدرتها على الضرب «2» . وكانت استراتيجية الرسول في توجيه سراياه، وغزواته كذلك، تعتمد الحذر الدائم والحرص على أن يعرف من أخبار القبائل ما يمكنه من تدبير أمره لإقرار هيبة الدولة في نفوس البدو، فكان لا يترك فرصة لهم للتجمع لغزوه ومهاجمته بل كان يقظا سريع الحركة ما يكاد يسمع بتجمع أعدائه حتى يفاجئهم قبل أن يستكملوا أمرهم فيشتت شملهم ويلقي الرعب في قلوبهم. فالهجوم عنده أقوى وسائل الدفاع، وتحطيم قوة العدو قبل أن تكتمل أفضل من تركها تتجمع ثم الصمود لها. ولقد أتاحت هذه الظروف للدولة الإسلامية في المدينة فرصة الاستقرار «3» .   (1) محمود شيت خطاب: الرسول القائد ص 60- 61. (2) أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة ص 400. (3) المرجع السابق ص 451. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 معركة بدر الكبرى وقد بدأت الأسباب الواقعية التاريخية التي قادت إلى المعركة الحاسمة تتجمع إلى بعضها منذ اللحظة التي أبلغ فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أن قافلة كبيرة لقريش تضم ألف بعير قادمة من الشام صوب مكة يقودها أبو سفيان في ثلاثين أو أربعين تاجرا مكيا «1» ، وبمبادرة لا تردد فيها قال لأصحابه: (هذه عير قريش، فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها) «2» . ونظرا إلى أن نداء الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن أمرا ملزما بل كان ندبا، ونظرا إلى أن أحدا لم يكن يتوقع أن لقاء مسلحا حاسما سيتمخض عن التحدي الجديد هذا، فقد خرج بعض المسلمين بقيادة رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم لمهاجمة القافلة، وتخلّف بعضهم الآخر، كما أن هؤلاء خرجوا ولم يأخذوا أهبتهم الكاملة من السلاح والتأهب.. «3» وما أن سمع أبو سفيان بنبأ تحرك المسلمين لمجابهة قافلته حتى أرسل إلى مكة على جناح السرعة ضمضم بن عمرو الغفاري وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد تعرّض لها في الطريق.. وما إن وصل ضمضم إلى مكة حتى جدع بعيره، وحوّل رحله، وشق قميصه وراح يصرخ: يا معشر قريش!! اللطيمة اللطيمة!! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث!! وسرعان ما استجاب الناس لندائه وهرعوا إلى الكعبة وهم يقولون: أيظن محمد وأصحابه أن   (1) وقيل سبعين «من قبائل قريش كلها» : الطبري: تاريخ 2/ 421 وعن حجم القافلة انظر: الواقدي 1/ 27- 28 ابن حزم: جوامع ص 104- 106 المقدسي 4/ 182- 184 ابن الأثير: الكامل 2/ 113- 115 ابن كثير 3/ 248 252. (2) ابن هشام ص 148 وانظر: الطبري: تاريخ 2/ 421، 427، ابن سعد 2/ 1/ 6 الواقدي 1/ 20. (3) ابن سعد 2/ 1/ 6 الواقدي 1/ 20- 21 البلاذري: أنساب 1/ 288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 تكون كعير ابن الحضرمي (الذي كان قد قتل في سرية ابن جحش) كلا.. والله ليعلمن ذلك. فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا.. وتجمعت قريش كلها تسعمائة وخمسين مقاتلا تصحبهم مائة فرس ولم يتخلف من أشرافها أحد خلا أبا لهب الذي يبدو أن مرضه وكبره أقعده عن اللحاق بالمستنفرين «1» ، واستطاع أبو سفيان خلال ذلك أن يفلت من قبضة المسلمين بإسراعه وتجنبه الطريق الداخلي صوب الساحل. وما أن اطمأن على قافلته حتى أرسل إلى رفاقه في مكة: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم وأموالكم ورجالكم فقد نجّاها الله فارجعوا. إلا أن أبا جهل ابن هشام كان أبعد نظرا منه عندما أصرّ على الخروج والنزول في بدر حيث ان للعرب هناك سوقا يجتمعون له كل عام ثلاثة أيام «ننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها» «2» . فما دامت سرايا المسلمين قد حققت للدولة الجديدة في المدينة طيلة الأشهر السابقة نصرا عسكريا وإعلاميا ونفسيا ضد قريش وثبتت كلمة الإسلام ورايته في أعماق الصحراء فإنه لا بد لقريش أن تردّ بنفس الأسلوب وتعلم العرب الذين ينتمون إليها أن الكلمة كلمتها وأن الصحراء ستظل موطىء أقدامها دون منازع. وفي الجبهة الآخرى كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد انطلق بأصحابه البالغ عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا مستخلفا على المدينة (أبا لبابة) ومقيما (عمرو بن أم مكتوم) إماما على الصلاة بالناس، ودفع اللواء الأبيض إلى مصعب بن عمير الداعية الشاب، وأما الرايتان السوداوان فقد حمل علي إحداهما وتدعى العقاب، أما الآخرى فقد حملها بعض الأنصار. ووزع الرسول صلى الله عليه وسلم السبعين بعيرا التي كانت بحوزة المسلمين على أصحابه كل ثلاثة يتناوبون واحدا منها، ولم يكن معهم من الخيول سوى اثنتين. وعندما وصلوا قريبا من بدر حيث طريق القوافل بين مكة وبلاد الشام بعث الرسول إلى هناك اثنين من أتباعه ليتحسسا له الأخبار عن قافلة أبي   (1) ابن هشام ص 148- 151 الطبري: تاريخ 2/ 421- 422، 427- 431 ابن سعد 2/ 1/ 7 الواقدي 1/ 28- 30 البلاذري: أنساب 1/ 290- 291. (2) ابن هشام ص 155- 156 الطبري: تاريخ 2/ 424، 438 ابن سعد 2/ 1/ 7 الواقدي 1/ 43- 45 البلاذري: أنساب 1/ 290- 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 سفيان التي كانوا يظنون أنها لا زالت في المنطقة، وانطلق هو وأصحابه في أعقابهما «1» وما لبث الرسول صلى الله عليه وسلم أن عسكر بأصحابه قريبا من ماء بدر، وعندما حلّ المساء بعث ثلاثة من رجاله المعتمدين هم الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص على رأس جماعة من المسلمين ليستطلعوا جلية الأخبار ويعرفوا شيئا عن مصير القافلة، فاستطاعوا إلقاء القبض على اثنين من سقاة قريش جاؤوا بهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معتقدين أنهما من أتباع أبي سفيان، إلا أنهما أكدا انتماءهما للجيش القرشي الذي يعسكر الآن قريبا من المسلمين تحجبهم التلال والكثبان عنهم، فقال الرسول: أخبراني عن قريش. قالوا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى. فقال لهم: كم القوم؟ قالا: لا ندري. قال: كم تنحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، فقال صلى الله عليه وسلم: القوم بين التسعمائة والألف، ثم سألهما: فمن فيها من أشراف قريش؟ فطفقا يستعرضان عددا من قادة قريش فيهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود وغيرهم، وحينذاك أقبل الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه وقال: هذه مكة ألقت إليكم أفلاذ كبدها «2» ، وقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رغم ضياع الهدف القريب المتمثل بقافلة أبي سفيان فإن عليه أن يقود أصحابه إلى هدف أبعد: أن تظل كلمتهم تتردد في جنبات الصحراء، وألايتراجع وجودهم العسكري الذي بنته السرايا السابقة صوب المدينة فتكون الهزيمة بعينها في نظر العرب جميعا. ورغم قلة السلاح ونقص الاستعداد فإن الرسول كان يجد أنه لا مناص من التوغل في الصحراء لتحقيق هذا الهدف البعيد وكأنه، بإحساسه الصادق العميق، كان يرى الهدف الذي خرجت قريش من أجله والذي تجاوز منطق الدفاع عن مصالحها التجارية المتمثلة بحماية قافلة أبي سفيان إلى تحدي المسلمين. فإن لم يتصدّ لها الإسلام في أوّل تحد حاسم فإن نكسة خطيرة ستصيب الدعوة والدولة الإسلامية على السواء. استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وأذاع عليهم تفاصيل ما ورده من أنباء عن قريش فقام أبو بكر الصديق فقام وأحسن، وقام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: «يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله   (1) ابن هشام ص 151- 152 ابن سعد 2/ 1/ 6- 7 الواقدي 1/ 23- 27. (2) ابن هشام ص 154- 155، 156- 157 الطبري: تاريخ 2/ 422- 424، 425، 436- 437 ابن سعد 2/ 1/ 8- 9 الواقدي 1/ 52- 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى.. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى (برك الغماد) (مدينة في الحبشة) لجالدنا معك من دونها حتى تبلغها» . وبهذا عبّر المهاجرون على لسان قادتهم عن رغباتهم العميقة في القتال دون الدعوة، وإطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رأى وجوب أخذ رأي الأنصار بعد ذلك سيما وأنهم في بيعتهم له في العقبة لم يلتزموا بقتال خارج مدينتهم، فسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس! فقام سعد بن معاذ فقال: «قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا إنما جئت به هو الحق. فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف عنك رجل واحد، فسر على بركة الله» . فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم «2» . وتقدم بأصحابه حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به، فسأله الحباب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلا أنزلك الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الحباب: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه ثم نبني عليها حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي، ثم أمر بتنفيذ خطته. وعرض عليه سعد بن معاذ أن يقام له عريش يتولى منه قيادة المعركة، فنفذ الرسول رأيه. وما لبثت السماء أن أمطرت مطرا خفيفا فلبدت أرض الصحراء بما يتيح للمسلمين الحركة السريعة فوقها، وراح الرسول يدعو الله: اللهم هذي قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني. وعند ما حلّ الفجر صلّى بالمسلمين وراح ينظمهم صفوفا ويحرضهم على القتال «3» . ما لبث الرسول أن أرسل عمّار بن ياسر وابن مسعود رضي الله عنهما فأطافا   (1) سورة المائدة: الآية 24. (2) ابن هشام ص 152- 153 الطبري: تاريخ 2/ 434- 435 ابن سعد 2/ 1/ 8 الواقدي 1/ 48- 49 وانظر البخاري: التجريد 2/ 76. (3) ابن هشام ص 154- 155، 156- 157 الطبري: تاريخ 2/ 425، 440- 441 الواقدي 1/ 53- 54، 56، 58- 59 البلاذري: أنساب 1/ 293 ابن سعد 2/ 1/ 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 بالمشركين ثم رجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله القوم مذعورون فزعون، إن الفرس ليريد أن يصهل فيضرب وجهه مع أن السماء تسحّ عليهم.. وفي معسكر قريش حدث خلاف بين قادتها، وطرح بعضهم، وعلى رأسهم حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة، رأيا بالتخلي عن القتال والعودة إلى مكة بعد ما عرفوا من نزول المسلمين قريبا منهم، إلا أن أبا جهل أصرّ على الحرب واستثار عامر بن الحضرمي بتذكيره بمقتل أخيه عمرو في سرية عبد الله بن جحش فصرخ واعمراه واعمراه الأمر الذي استفز قريشا جميعا ودفعها إلى اتخاذ موقف القتال. وفي صبيحة الجمعة السابع عشر من رمضان تقدم الأسود بن عبد الأسد المخزومي الذي عرف بشراسة الطبع وسوء الخلق وقال: أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم أو لأهدمنه أو أموتنّ دونه! فتصدى له حمزة بن عبد المطلب وتمكن من قتله في الحوض نفسه. وبرز عتبة بن ربيعة يحف به أخوه شيبة وابنه الوليد ودعا إلى المبارزة فخرج إليه ثلاثة من فتيان الأنصار فسألهم القرشيون: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم حاجة، ونادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فاستجاب الرسول لهذا التحدي وأمر عبيدة بن الحارث وحمزة وعليا رضي الله عنهم أن يتصدوا لهم. وسرعان ما تمكن حمزة من قتل شيبة وفعل علي ذلك بغريمه الوليد، أما عبيدة فقد جرح غريمه وأصابه هو الآخر بجرح مميت فانقضّ علي وحمزة على الفتى القرشي وأجهزا عليه وحملا عبيدة إلى معسكر المسلمين حيث توفي هناك «1» . استفزت هذه البداية كلا المعسكرين فزحفا نحو بعضهما، وأصدر الرسول أوامره إلى أصحابه ألا يهاجموا حتى يأذن لهم وأن يبعدوا مهاجميهم القرشيين بالنبال، وسوّى صفوفهم، ورجع إلى العريش يصحبه أبو بكر رضي الله عنه وراح يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد) فيرد عليه أبو بكر: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك! وما لبث الرسول صلى الله عليه وسلم أن انتبه فجأة وقال والبشر يكسو وجهه: (أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله!! هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع) «2» .. وانطلق الرسول صلى الله عليه وسلم يحضهم على القتال (والذي نفسي بيده لا يقاتلهم   (1) ابن هشام ص 158- 160 الطبري: تاريخ 2/ 425- 426، 442- 446 ابن سعد 2/ 1/ 10- 11 الواقدي 1/ 52، 62- 70. (2) عن دور الملائكة في المعركة انظر: الطبري: تاريخ 2/ 453- 454، 462، 463 والواقدي 1/ 70- 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر إلّا أدخله الله الجنة) فقال عمير ابن الحمام وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه وقاتل القوم حتى قتل «1» . وراح الرسول صلى الله عليه وسلم يجالد المشركين بنفسه ويتقدم الصفوف حتى أن عليا رضي الله عنه قال فيما بعد: لما أن كان يوم بدر وحضر البأس التقينا برسول الله وكان أشد الناس بأسا وما كان منا أحد أقرب إلى العدو منه «2» ، ثم ما لبث أن أخذ حفنة من الحصباء واستقبل قريشا بها وصاح: شاهت الوجوه، وضربها بوجوههم ونادى أصحابه: شدوا، فحمل المسلمون حملة صادقة تسوقهم إلى أعدائهم موجة من الإيمان العارم ورغبة عميقة في الاستشهاد، وراحوا يحصدون صناديد قريش ويأسرون أبطالها.. وحمل معاذ بن عمرو بن الجموح على أبي جهل وقد لجأ إلى مجموعة كثيفة من الأشجار يحيط به عدد من أتباعه فضربه فقطع ساقه. ويتحدث معاذ عما تبع ذلك فيقول «ضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي فلما آذتني جعلت عليها رجلي ثم تمطيت بها حتى طرحتها. ثم مرّ بأبي جهل وهو جريح معوّذ فضربه حتى أصابه بجرح لم يستطع معه حراكا وظل معوّذ يقاتل حتى قتل. ومرّ عبد الله بن مسعود بأبي جهل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة فوضع رجله على عنقه وقال: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ فأجاب أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا! فاحتزّ عبد الله رأسه «3» . وما لبثت الهزيمة أن حاقت بالمشركين الذين فرّوا من ساحة القتال لا يلوون على شيء مخلفين وراءهم ما يربو على سبعين قتيلا ومثلهم أسرى «4» . أما خسائر المسلمين فقد بلغت أربعة عشر شهيدا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، والتمس الرسول صلى الله عليه وسلم رأس أبي جهل فجاء بها عبد الله بن مسعود فحمد الله ثم أمر   (1) ابن هشام ص 160- 161 الطبري: تاريخ 2/ 446- 448 الواقدي 1/ 67، 70- 71، 81 وانظر البخاري 2/ 77. (2) الطبري: تاريخ 2/ 426. (3) الطبري: تاريخ 2/ 254- 256 وانظر الواقدي 1/ 86- 91. (4) الطبري: تاريخ 2/ 474 ابن سعد 2/ 1/ 11 الواقدي 1/ 138- 144، 147- 152 وانظر: المسعودي: التنبيه ص 205 اليعقوبي: تاريخ 2/ 37. أما خسائر المسلمين فقد بلغت أربعة عشر شهيدا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار: الطبري 2/ 477 ابن سعد 2/ 1/ 11 الواقدي 1/ 102، 145- 147. وعن قوائم مسلمي بدر انظر ابن كثير: البداية 2/ 315- 325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أن يطرح قتلى المشركين في قليب قريب.. وسمعه أصحابه في جوف الليل وهو يقول: (يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ويا أميّة بن خلف ويا أبا جهل هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا) ؟ فسأله أصحابه: يا رسول الله أتنادي قوما قد جيّفوا؟ قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني «1» . بعت الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن الحارثة إلى المدينة ليبشروا أهلها بانتصار المسلمين، وأقبل في أعقابهما بعد تسعة عشر يوما من غيابه عنا مستصحبا معه أسرى المشركين بعد أن قسّم الغنائم على المسلمين على السواء. وعند الروحاء قريبا من المدينة لقيه المسلمون الذين لم يخرجوا للقتال يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين،.. وما أن وصل المدينة حتى فرّق الأسارى بين أصحابه وقال: استوصوا بالأسارى خيرا، وما لبثت قريش أن بعثت في فداء أسراهم، ففودي كل أسير بين الألف والأربعة آلاف درهم ومن لم يكن منهم يملك شيئا منّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم «2» . [ أسباب انتصار المسلمين في معركة بدر الكبرى ] ثمة أسباب عديدة تمخضت عن انتصار القلة على الكثرة في معركة بدر الحاسمة، ولا بأس هنا أن نلخص أهم هذه الأسباب التي عرضها (خطّاب) في كتابه (الرسول القائد) لأنها يمكن أن تعد الأسباب النموذجية التي تفسر لنا الكثير من الانتصارات التي حققها المسلمون ضد أعدائهم الذين يفوقونهم عددا وعدة، ليس في عصر الرسول فقط بل فيما تلاه من عصور وأول هذه الأسباب: القيادة الموحدة: كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائد العام للمسلمين في معركة بدر، وكان المسلمون يعملون كيد واحدة تحت قيادته يوجههم في الوقت الحاسم للقيام بعمل حاسم، وهذا هو واجب القائد الكفء. وكان ضبط المسلمين في تنفيذ أوامر قائدهم مثالا رائعا للضبط الحقيقي المتين، وإذا كان الضبط أساس الجنديّة، وإذا كان الجيش الممتاز هو الذي يتحلى بضبط ممتاز، فقد كان جيش المسلمين جيشا ممتازا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، وأن معنى الضبط هو إطاعة الأوامر وتنفيذها   (1) ابن هشام ص 161- 163 الطبري 2/ 449- 450، 456- 457 الواقدي 1/ 81، 111- 112. (2) ابن هشام ص 163- 168 الطبري 2/ 458- 459 ابن سعد 2/ 1/ 12 والواقدي 1/ 114- 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 بحرص وأمانة وعن طيبة خاطر، وقد فعل المسلمون ذلك لأن قائدهم يتحلى بصفات القائد المثالي.. ضبطا للأعصاب في الشدائد، شجاعة نادرة في المواقف، مساواة لنفسه مع أصحابه، استشارة في كل عمل حاسم. أما المشركون فلم يكن لهم قائد عام، كان أكثر سراة قريش مع قوات المشركين ولكن البارزين من هؤلاء على ما يظهر رجلان هما عتبة بن ربيعة وأبو جهل، ولم يكونا على رأي واحد وليس لهم هدف موحد، لذلك طغت الأنانية الفردية على المصلحة الموحدة أثناء القتال. التعبئة الجديدة: طبّق الرسول صلى الله عليه وسلم في (مسير الاقتراب) من المدينة إلى بدر تشكيلة لا تختلف بتاتا عن التعبئة الحديثة في حرب الصحراء، كان لهم مقدمة وقسم أكبر ومؤخرة، واستفاد من دوريّات الاستطلاع للحصول على المعلومات، وتلك هي الأساليب الصحيحة لتشكيلات مسير الاقتراب في حرب الصحراء حتى في العصر الحاضر. أما في المعركة فقد قاتل المسلمون بأسلوب الصفوف بينما قاتل المشركون بأسلوب الكر والفر وهو أسلوب قديم لا يلائم الأوضاع المستجدة. العقيدة الراسخة: رأينا كيف كان جواب المهاجرين والأنصار للرسول حين استشارهم في قتال قريش، فقد كان للمسلمين أهداف معينة يعرفونها ويؤمنون بها هي أن تترك الحرية الكاملة لهم لبث دعوتهم حتى تكون كلمة الله العليا، فما هي أهداف قريش من حربها إلا أن تنحر الجزور وتطعم الطعام وتشرب الخمر وتعزف القيان فتسمع العرب بمسيرها فيهابونها أبدا بعدها؟ وهل نستطيع تسمية ذلك أهدافا أم أن ذلك طيش وغرور وعصبية جاهلية؟ المعنويات العالية: شجع الرسول أصحابه قبل القتال وأثناءه وقوّى معنوياتهم حتى لا يكترثوا بتفوق قريش عليهم عددا، ولم تكن معنويات الذين مارسوا الحرب وعرفوها من المسلمين عالية فحسب إنما كانت معنويات الأحداث الصغار الذين لم يمارسوا حربا ولا قتالا عالية أيضا ... لقد أثبتت كافة الحروب في كافة أدوار التاريخ أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 التسليح والتنظيم الجيدين والقوة العددية غير كافية لنيل النصر ما لم يتحلّ المقاتلون بالمعنويات العالية بالإضافة إلى كل ذلك «1» ، ولقد تمخضت معركة بدر عن نتائج مهمة، فقد هددت طرق تجارة المكيين وهي عصب حياتهم وأضعفت هيبة مكة ونفوذها على العرب، ونمّت قوة الإسلام وعززت دولته الجديدة في المدينة، وانفسح المجال لنشر دعوته وازداد التضامن بين المهاجرين والأنصار قوة وتماسكا. وكان تشريع خمس الغنائم في أعقاب بدر ذا خطورة عظيمة نظرا لأنه أول تشريع قرآني مالي رسمي غير الزكاة توطد به بيت المال في الإسلام وتيسر تحقيق ما دعا إليه القرآن من مساعدة الطبقات المحتاجة والإنفاق في سبيل مصالح المسلمين العامة بأسلوب رسمي غير قائم على التبرّع «2» .   (1) انظر بالتفصيل: شيت خطاب: الرسول القائد ص 78- 84. (2) عزة دروزة: سيرة الرسول 2/ 329- 330. وعن الآيات المتعلقة بمعركة بدر انظر: سورة الأنفال: الآيات 1 4، 5- 14، 17- 19، 20- 28، 36- 44، 45- 49، 67- 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 معركة أحد راحت قريش تعد العدة كي تثأر من المسلمين في أعقاب الهزيمة النكراء التي منيت بها في بدر، وأقسم أبو سفيان ألّا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا، فخرج في ذي الحجة على رأس مائتي راكب من قريش، تدفعه رغبة إنتقامية عاتية، ليبر بيمينه، وعندما بلغ مشارف المدينة، تسلل ليلا إلى أحياء بني النضير، وطرق الباب على أحد زعمائهم (حيي بن أخطب) ، فدفعه خوفه إلى أن يغلق الباب، فانصرف أبو سفيان إلى سلام بن مشكم، سيد بني النضير، آنذاك، فاستضافه وقدم له بعض المعلومات. وفي فجر اليوم التالي قام أبو سفيان بإرسال جماعة من أصحابه إلى ناحية (العريض) في المدينة فحرقوا نخيلها وقتلوا رجلا من الأنصار وحليفا له وهما يعملان في حرث لهما، ثم انصرفوا راجعين. وعندما انتشر نبأ الهجوم بين الناس خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه لطلبهم، واستعمل على المدينة «بشير بن عبد المنذر» فلما أحس أبو سفيان وأصحابه أنهم مدركون تخففوا من أزوادهم ومعظمها من السويق، طارحين إياها في عرض الطريق، وتمكنوا من النجاة «1» . وإذ شددت النتيجة التي تمخضت عنها معركة بدر من قبضة المسلمين على طريق مكة التجاري إلى الشام، قررت قريش من أجل أن تتجاوز هذا الحصار أن تسلك في تجارتها طريقا آخر، دلها عليه بعض العارفين، وهو الذي يتجه إلى العراق، صوب الشمال الشرقي بعيدا عن يثرب، وقد عبّر (صفوان بن أمية) عن   (1) ابن هشام ص 169- 170 الطبري 2/ 483- 485 ابن سعد 2/ 1/ 20 الواقدي 1/ 181- 182 المسعودي: التنبيه ص 207 البلاذري: أنساب 1/ 310 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 16- 17 ابن حزم: جوامع ص 152- 153 ابن الأثير: الكامل 2/ 139- 140 ابن كثير 3/ 344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 مخاوف القرشيين بقوله: إن محمدا وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع وأصحابه لا يبرحون الساحل وأهل الساحل قد وادعوهم، ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا، ونحن في دارنا هذه.. إنما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف، وفي الشتاء إلى أرض الحبشة «1» . وقد خرجت إحدى قوافلهم تحمل مقادير كبيرة من الفضة، يقودها عدد من الرجال فيهم أبو سفيان، ويدلها على الطريق الجديد (فرات بن حيان) ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سرعان ما بلغته أنباء القافلة الغنية فبعث على جناح السرعة، سرية يقودها زيد بن حارثة، تمكن من مباغتة القافلة في منطقة في نجد تدعى (ماء القردة) فهرب رجالها تاركين بضائعهم لقمة سائغة للقائد المسلم الذي عاد بها إلى المدينة كي يقتسمها المسلمون «2» . كانت هذه المقدمات تسوق قريشا إلى الإسراع بتوجيه ضربة قاصمة للمسلمين انتقاما لما لحقهم بمعركة بدر، وكسرا للحصار الاقتصادي الذي ازدادت وطأته في أعقاب بدر وذي القردة، واجتمع عدد من زعمائها، ممن أصيب أقرباؤهم ببدر، بأبي سفيان وتم الإتفاق على أن يتنازل أهل مكة عن أموالهم في القافلة التي قدم بها أبو سفيان من الشام قبيل معركة بدر لاستخدامها في التهيؤ للمعركة المرتقبة. استنفرت قريش كل قادر على حمل السلاح من أبنائها، ودعت الأحابيش وحلفاءها من قبائل كنانة، وأهل تهامة وثقيف للانضمام إليها فبلغوا ثلاثة آلاف رجل بضمنهم سبعمائة دارع ومائتا فرس وثلاثة آلاف بعير.. واستدعيت النساء للخروج كي يثرن الحمية في نفوس المقاتلين ويمنعنهم من الفرار، وتولى القيادة أبو سفيان، فسار بهم طاويا الصحراء حتى نزل قريبا من جبل أحد شمالي المدينة، وعندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بعث ثلاثة من أصحابه ليأتوه بأخبارهم   (1) الواقدي 1/ 197. (2) ابن هشام ص 173 الطبري 2/ 492- 493 ابن سعد 1/ 2/ 24- 25 الواقدي 1/ 197- 198 البلاذري: أنساب 1/ 374 اليعقوبي: تاريخ 2/ 59 ابن الأثير: الكامل 2/ 145 ابن كثير: 4/ 4- 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وأمر بتشديد الحراسة على المدينة، وعرض على أصحابه أن يظلوا في المدينة، ويدعوا قريشا حيث نزلت [فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها] فكأنه صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يعتمد الخطة التي يسمونها اليوم «حرب الشوارع» أو «الحارات» ، فحيثما كان المهاجمون أكثر عددا من المدافعين كان الأجدر أن يحتمي هؤلاء داخل مدنهم، كي يتمكنوا من إنزال ضرباتهم بالعدو الذي سيجد نفسه مضطرا إلى التشتت في أنحاء المدينة التي لا يعرف الكثير عن منعطفاتها وزواياها، هذا فضلا عن أن قتالا كهذا سيتيح حتى للنساء والأطفال أن يشاركوا في القتال، إلا أن المسلمين الذين فاتهم شرف القتال في بدر، وخاصة الشباب منهم ألحوا بالخروج وقالوا: يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرونا أنا جبنّا عنهم وضعفنا!! وأيد عبد الله بن أبي- زعيم المنافقين-، غير صادق، رأي الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما ألح عدد من كبار الصحابة على الخروج قائلين: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج جبنا عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفرك الله عليهم ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم، وندعو الله به، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا ... وقال مالك بن سنان: يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسنيين، إما أن يظفرنا الله بهم، أو يرزقنا الشهادة. وقال حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي هذا خارجا من المدينة. وقال النعمان ابن مالك أخو بني سالم: يا رسول الله لم تحرمنا الجنة؟ فو الذي لا إله إلا هو لأدخلنها. سأل الرسول صلى الله عليه وسلم بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. فقال الرسول: صدقت. وقال أياس بن أوس: يا رسول الله، نحن بنو عبد الأشهل نرجو أن نذبح ويذبح فينا فنصير إلى الجنة ويصيرون إلى النار مع أني يا رسول لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فيقولون: حصرنا محمدا في صياصي يثرب وآطامها فيكون هذا جرأة لقريش. وقال عبد الله بن جحش: اللهم إني أسألك أن ألقى العدو غدا، فيقتلوني، ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني وتسألني فيم ذلك، فأقول فيك «1» .   (1) الواقدي 1/ 199- 200 و 1/ 210- 213، 233 وانظر عن بطولات أحد بالتفصيل: الطبري 2/ 503، 505- 506، 516، 517، 518، 520، 522، 529، 530، 532، 533، 534- 535. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ومما لا ريب فيه أن مواقف كبار الصحابة هؤلاء تبين لنا أن الإلحاح على الخروج للقتال بعيدا عن المدينة، لم يجىء من الشباب والذين لم يشهدوا بدرا فحسب، بل أسهم معهم في ذلك عدد من كبار المسلمين، الأمر الذي يفسر لنا استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لوجهة النظر هذه، وعدم تردده في قبولها اعتمادا على ثقته الكبيرة بهذا العدد الكبير من أتباعه الراغبين في الخروج. وخوفا من أن يطول النقاش، وتتعرض وحدة الصف المسلم للخطر، وتلبية لنداء الشباب المتحمسين للقتال والشهادة، أسوة بإخوانهم في بدر أسرع الرسول صلى الله عليه وسلم فدخل بيته ولبس درعه وحمل سلاحه، وما أن رآه المسلمون الذين ألحوا بالخروج حتى ندموا وقالوا: استكرهنا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك، وعرضوا عليه أن يعود إلى رأيه الأول، إلا أنه أجابهم «ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل، فانظروا ما أمرتكم به فافعلوه، فلكم النصر ما صبرتم» ، ومن ثم غادر المدينة على رأس ألف مقاتل، بعد أن وضع نساءها وصبيانها في الحصون والآطام حتى إذا قطعوا شوطا من الطريق إلى أحد انسحب ابن أبيّ بثلث الناس وقال مبررا ذلك: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس؟ فتبعهم عبد الله بن عمرو ابن حزام يحثهم على الرجوع لإخوانهم، فلم يستجيبوا، وكان الأنصار قد عرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستعين باليهود فرفض «1» . عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه السبعمائة قريبا من أحد جاعلا ظهورهم إليه وسوّى صفوف المسلمين، وطلب منهم ألايقاتلوا حتى يأمرهم بذلك، واختار خمسين رجلا وضعهم على الجبل وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وقال له: انضح الخيل عنا بالنبال لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبت لا نؤتين من قبلك، ولبس صلى الله عليه وسلم درعين زيادة في الحيطة ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير. أما قريش فعبأت رجالها بمواجهة المسلمين وقسمت فرسانها الذين بلغوا مئتي رجل إلى قسمين، أحدهما في الميمنة بقيادة خالد بن الوليد والآخر في الميسرة بقيادة   (1) ابن هشام ص 173- 176 الطبري 2/ 499- 504 ابن سعد 2/ 1/ 26- 27 الواقدي 1/ 200- 219 المسعودي: التنبيه ص 211 اليعقوبي: تاريخ 2/ 38- 39 البلاذري: أنساب 1/ 312- 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 عكرمة بن أبي جهل، وسلم اللواء إلى بني عبد الدار، وراح أبو سفيان يحرضهم على القتال ... فقالوا: ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع «1» . وما أن التقى الطرفان (السبت منتصف شوال) ودنا بعضهم من بعض حتى راحت هند بنت عتبة والنسوة يحرضن الرجال ويضربن الدفوف وينشدن الأراجيز الحماسية للتحريض على القتال. ورفع المسلمون شعارهم: أمت أمت، وراحوا يتنادون به ليعرف بعضهم بعضا، وجرد رسول الله سيفه ونادى: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فسأله أبو دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ أجابه: أن تضرب به العدو حتى ينحني، فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، واستلم السيف، وعصب رأسه بعصابة حمراء كعادته، واندفع إلى قلب المعركة لا يعترضه أحد من المشركين إلا قتله. وراح حمزة يقتطف رؤوس القرشيين واحدا واحدا ويحدث في صفوفهم خللا واضطرابا، وهو ينهدّ عليهم يمينا وشمالا، لولا أن كمن له وحشي- غلام جبير ابن مطعم- الذي يجيد الإصابة بحربته الحبشية، والذي كان قد وعد من قبل سيده، أن ينال حريته إذا ما تمكن من قتل حمزة. ويحدثنا وحشي كيف قضى على العملاق « ... وهززت حربتي حتى إذا رضيت عنها، دفعتها عليه فوقعت في ثلته حتى خرجت من بين رجليه. فأقبل نحوي، فغلب فوقع، وأمهلته حتى إذا مات جئت، وأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم تكن لي بشيء حاجة غيره ... » «2» . استمرت المعركة بين المعسكرين غير المتكافئين، إلا أن حرارة الإيمان والرغبة العميقة في الشهادة مكنت القلة أن تواصل القتال وتقتل من المشركين أضعاف قتلاها، وتحرز انتصارا تدريجيا. شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد حمل على المسلمين فرمته الرماة فتراجع واختفى ... وأعاد المحاولة مرة أخرى ونبال الرماة تنهال على أصحابه فتقتل منهم من تقتل   (1) ابن هشام ص 176- 177 الطبري 2/ 507، 512 ابن سعد 2/ 1/ 27- 28 الواقدي 1/ 219- 223 البلاذري: أنساب 1/ 316- 317. (2) ابن هشام ص 177- 179 الطبري 2/ 516- 517 الواقدي 1/ 223- 228 وانظر بالتفصيل البخاري: التجريد 2/ 81- 82 والواقدي (كذلك) 1/ 285- 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وتضطرهم إلى الانسحاب «1» . وقاتل مصعب بن عمير دون الرسول صلى الله عليه وسلم حتى قتل على يد ابن قميئة الليثي الذي ظنه الرسول صلى الله عليه وسلم فتسلم اللواء علي رضي الله عنه بأمر من الرسول، وراح المسلمون يجالدون أعداءهم حتى أنزل الله نصره عليهم وصدقهم وعده، فراحوا يستأصلونهم بالسيوف حتى كشفوهم عن مواقعهم، وكانت الهزيمة لا شك فيها «2» . إلا أن لحظة من لحظات الضعف البشري ساقت الرماة الذين كانوا على جبل أحد إلى نسيان أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ومغادرة مواقعهم لمشاركة إخوانهم في مطاردة المشركين وجمع الغنائم، فنادى عبد الله بن جبير: أما علمتم ما عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إليكم؟ فلم يلتفتوا إليه، وقالت طائفة أخرى من الرماة: بل نطيع الرسول صلى الله عليه وسلم فنثبت في مكاننا. وبقي ابن جبير في عشرة من أصحابه أمرهم بالانتشار بالجبل لئلا يتيحوا ثغرة للعدو، واستقبلوا الشمس فانقض خالد عليهم يتبعه عكرمة، وقام بحركة التفاف من وراء الجبل «3» ، فجرح وقتل الرماة الذين ثبتوا في أماكنهم، وراح عبد الله بن جبير يقاتلهم بما تبقى معه من نبال حتى فنيت، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر فكسر جفن سيفه وراح يقاتلهم حتى قتل «4» ، وخرجت أمعاؤه من ضربات الرماح «5» ، ثم انقض خالد بخيالته على ظهور المسلمين يعمل فيهم قتلا وجرحا، وصرخ صارخ أن محمدا قد قتل، فتشتت المسلمون تحت وقع المباغتة المميتة، وما أن رأى المشركون المنهزمون ما فعل خالد، حتى عادوا ثانية إلى ساحة القتال، وأوقعوا المسلمين في شقي الرحى، وراحوا يحصدونهم حصدا «6» . ولم يفقد الرسول صلى الله عليه وسلم رباطة جأشه، وقدرته على القيادة والتخطيط للخروج من المحنة القاسية التي كادت تأتي على أصحابه، ودعوته، وتعرض مصير ست   (1) الطبري 2/ 510 الواقدي 1/ 225- 229. (2) ابن هشام ص 179- 181 الطبري 2/ 507- 510، 513 ابن سعد 2/ 1/ 28- 29 الواقدي 1/ 229- 231 البلاذري: أنساب 1/ 317- 318 خليفة بن خياط 1/ 27- 28. (3) الواقدي 1/ 284 البلاذري: أنساب 1/ 318- 319. (4) الواقدي 1/ 232. (5) الواقدي 1/ 284. (6) ابن هشام ص 181 الطبري 2/ 509- 510 ابن سعد 2/ 1/ 29 الواقدي 1/ 229- 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 عشرة سنة من الجهد والعذاب للضياع ... فرأى أن يتخذ من مكان قيادته مركزا يتجمع المسلمون فيه ثانية كي لا يتبعثروا وينفرد المشركون بهم ويحيلوا نصرهم إلى عملية إبادة شاملة، فاتجه صوب الشعب يصحبه أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وجماعة من المسلمين بلغوا ثلاثين رجلا، بينما كان الآخرون قد تشتتوا في أطراف الميدان، وعاد بعضهم إلى المدينة. ورأت طائفة أخرى أن يبعثوا إلى عبد الله بن أبي كي يطلب الأمان لهم من أبي سفيان وقالوا: يا قوم، إن محمدا قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فاعترض أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل فقاتلوا ما قاتل عليه محمد، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل. وراح الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتل، حتى صارت قوسه شظايا، ويقاتل معه أصحابه المحيطون به، قتالا بطوليا مريرا، تساقط منهم خلاله الكثير وهم ينافحون عن نبيهم ودعوتهم. وقف ستة رجال من الأنصار، يدافعون عنه صلى الله عليه وسلم ويقتلون دونه وكان آخرهم رجل يسمى زياد بن السكن، أصابه جرح مميت فنادى الرسول صلى الله عليه وسلم ادنوه مني فأدنوه منه فوسده قدمه وبه أربعة عشر جرحا، فمات هناك. ورمى سعد ابن أبي وقاص، دون الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول يناوله النبل ويقول: فداك أبي وأمي. وترّس أبو دجانة بنفسه دون الرسول صلى الله عليه وسلم يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل، وخلص بعض المشركين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعتزمون قتله، وانهالت الحجارة عليه ... فأصيبت رباعيته، وجرح وجهه وكلمات شفته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، فجعل الدم يسيل على وجهه وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يمسح الدم ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ ... وما لبث أن أدركه أبي ابن خلف وهو يقول: أي محمد لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منها؟ فقال: دعوه، وتناول حربته واستقبل بها غريمه وقذفه بها فاستقرت في عنقه فسقط عن فرسه يتلوى ومات في عودته إلى مكة «1» ، وأقبل الحباب بن المنذر يصيح يا آل سلمى فأقبلوا كتلة واحدة وهم يهتفون لبيك داعي الله لبيك، وترتفع حناجرهم بشعار   (1) ابن هشام ص 181- 184 الطبري: تاريخ 2/ 514- 519 ابن سعد 2/ 1/ 29 الواقدي 1/ 239- 262 البلاذري: أنساب 1/ 318- 321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 المسلمين: أمت أمت «1» ، وقاتل كعب ابن مالك قتالا شديدا حتى جرح سبعة عشر جرحا «2» ، ونثر أبو طلحة كنانته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان راميا، وجعل يصيح: يا رسول الله نفسي دون نفسك، فلم يزل يرمي بها سهما سهما حتى فنيت نبله وهو يقول لنبيه: نحري دون نحرك جعلني الله فداك «3» . وانقض سعد بن أبي وقاص باحثا عن أخيه الذي كسر رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم ليقتله ولكنه أفلت منه «4» . وقاتل طلحة بن عبيد الله عن النبي قتالا شديدا، وأصابه سهم شلّ إصبعه حتى أن سعد ابن أبي وقاص قال عنه: يرحمه الله إنه كان أعظمنا غناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، لزم النبي وكنا نتفرق عنه ونؤوب إليه، لقد رأيته يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم يترس بنفسه!! وقال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي في الدنيا وهو من أهل الجنة فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله «5» ، وقد تلقى وهو يقاتل المشركين، ضربة قاسية على رأسه، من أحد المشركين، فنزف منه الدم، وأغمي عليه، فقال الرسول لأبي بكر: عليك بابن عمك فجاءه وراح ينضح الماء على وجهه، ولما أفاق سأل: ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أجابه أبو بكر: خيرا، هو أرسلني. فرد طلحة: الحمد لله، كل مصيبة بعده جلل «6» . وأقبل وهب بن قابوس المزني، وابن أخيه الحارث بن عقبة، ومعهما غنم لهما فدخلا المدينة، فلقياها قد خلت من الناس! فقالا: أين الناس؟ فقيل بأحد، وخبرا الخبر، فخرجا مقاتلين حتى قتلا «7» . ومرّ أحد المقاتلين على خارجة بن زيد وبه ثلاثة عشر جرحا كلها قد خلص إلى مقتل فقال: أما علمت أن محمدا قد قتل؟ قال خارجة: إن قتل محمد فإن الله حي لا يموت، فقاتل عن دينك، فقد بلّغ محمد رسالة ربه «8» . وقاتلت نسيبة بنت كعب مع زوجها، وولديها، وأبلت بلاء حسنا فجرحت اثني عشر جرحا بين طعنة برمح وضربة بسيف، ودافعت عن الرسول صلى الله عليه وسلم إزاء محاولات قتله من قبل المشركين دفاعا مستميتا، ولما جرح أحد ابنيها، وراح الدم ينزف منه بغزارة، من عضده اليسرى، سعت أمه إليه وربطت   (1) الواقدي 1/ 234. (2) الواقدي 1/ 236. (3) الواقدي 1/ 243. (4) الواقدي 1/ 245. (5) الواقدي 1/ 254- 255. (6) الواقدي 1/ 255 وانظر عن البطولات كذلك، المصدر نفسه 1/ 256- 262، 274- 284، 391. وعن بطولات النساء انظر: المصدر نفسه 1/ 264- 274، 292 وانظر هامش (30) وما يليه. (7) البلاذري: أنساب 1/ 326. (8) المصدر السابق 1/ 326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 جرحه بعصابة كانت قد أعدتها لمداواة الجرحى ثم قالت له انهض يا بني فضارب القوم، والرسول صلى الله عليه وسلم يناديها: ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ ويلتفت إلى أصحابه قائلا: ما التفت يمينا وشمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني، فسألته نسيبة: ادع الله أن نرافقك في الجنة قال: اللهم اجعلهم رفاقي في الجنة. فقالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا «1» . وخرجت السميراء بنت قيس، وقد أصيب ابناها، فلما نعيا لها قالت: ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا، وهو بحمد الله على ما تحبين. قالت: أرونيه أنظر إليه، فأشاروا لها إليه فقالت: كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل «2» . ولقيت أم أيمن جماعة من المنهزمين، فجعلت تنثر التراب في وجوههم وتقول: هاك المغزل فاغزل به «3» . تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصمود لهجمات المشركين وعرف المسلمون الذين تشتتوا في ميدان المعركة، في أعقاب التفاف خالد، وانتشار شائعة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، عرفوا أن رسولهم لم يمت فتجمعوا حوله، وطلب صلى الله عليه وسلم منهم أن يتراجعوا صوب جبل أحد وأن يحصبوا المشركين بالحجارة، وأن لا يسمحوا لهم بأن يلتفوا عليهم من فوقهم. وسعت فرقة من القرشيين إلى الالتفاف حول المسلمين كرة أخرى والانقضاض عليهم من جبل أحد فتصدى لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من المهاجرين حتى أجلوهم عن الجبل، ونهض صلى الله عليه وسلم إلى صخرة أحد ليعلوها فلم يستطع لشدة إعيائه وثقل دروعه فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض حتى استوى عليها. وأدرك المشركون أن دون إبادة المسلمين وتفتيتهم المستحيل وكانوا قد أصابهم التعب والجراح فاثروا الانسحاب مكتفين بهذا القدر من النصر على المسلمين وهو قدر كما اعتقدوا ليس بالقليل، وأشرف أبو سفيان على مرتفع عال ونادى بأعل صوته: إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر أعل هبل! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: قم فأجبه وقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فطلب أبو سفيان من عمر أن يقترب وقال له: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك   (1) الواقدي 1/ 268- 273. (2) الواقدي 1/ 292. (3) البلاذري: أنساب 1/ 326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الآن، فانصرف أبو سفيان ومن معه وهو ينادي: إن موعدكم بدر للعام القابل، فقال صلى الله عليه وسلم لعمر قل: نعم هو بيننا وبينكم موعد «1» !! وتوقف القتال، وقد خسر المسلمون بضعة وسبعين قتيلا، وقيل خمسة وستين، أما المشركون فلم يزد عدد قتلاهم على ثلاثة وعشرين رجلا «2» . ولم تغب عن ذهنه صلى الله عليه وسلم وهو يعاني التعب والسهر والجراح، أن المشركين ربما فكروا بهجوم حاسم على المدينة فقطعوا الطريق على المسلمين في أحد وعرضوهم لمصير أشد حلكة وخطرا من المعركة نفسها، فطلب من علي رضي الله عنه أن يخرج في أعقاب القوم فينظر ماذا يصنعون، وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، وأقسم الرسول صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم فيها) ، لكن عليا ما لبث أن عاد، ليخبره بأن المشركين امتطوا الإبل ويمموا وجوههم شطر مكة «3» . ومن أجل مزيد من ضمان عدم عودة المشركين لمهاجمة المدينة، انتدب صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا من أصحابه لمتابعة المشركين والتأكد من عدم اعتزامهم الرجوع «4» . لقد أجمع المؤرخون على اعتبار نتيجة أحد نصرا للمشركين على المسلمين، لكن الحقائق العسكرية لا تتفق مع ما أجمع عليه هؤلاء. لقد كان بإمكان المشركين القضاء على قوات المسلمين في معركة أحد، بعد أن استطاعوا إحاطتهم من كافة الجوانب، بقوات متفوقة عليهم تفوقا ساحقا، ومع ذلك استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشق طريقه بين القوات المحيطة به ويخلص تسعة أعشار قواته من فناء أكيد. إن فشل المشركين في القضاء على قوات المسلمين بعد أن أحاطوهم بقواتهم المتفوقة يعتبر اندحارا لهم، وإن نجاح المسلمين في الخروج من تطويق المشركين والتخلص منه بخسائر عشرة بالمائة بقواتهم القليلة يعتبر نصرا لهم. وبالإضافة إلى نجاح المسلمين في التخلص من الفناء التام في أحد فقد نجحوا في   (1) ابن هشام ص 186- 187 الطبري 1/ 521- 522، 526- 527 ابن سعد 2/ 1/ 33 الواقدي 1/ 294- 298 البلاذري: أنساب 1/ 327. (2) ابن سعد 2/ 1/ 29- 30، البلاذري: أنساب 1/ 328- 335 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 34. (3) ابن هشام ص 187 الطبري 2/ 527- 528 الواقدي 1/ 298- 299. (4) البخاري: التجريد 2/ 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 معرفة المنافقين في صفوفهم قبل المعركة وبعدها، مما أتاح لهم القيام بالتطهير التام في صفوفهم بعد أحد على هدى وبصيرة، وبذلك تظهر الفائدة العظيمة لغزوة أحد للمسلمين. إن نتيجة أحد نصر تعبوي «1» للمشركين على المسلمين ولكنه فشل سوقي «2» للمشركين، ولا يعد النصر التعبوي شيئا يذكر إلى جانب الفشل السوقي «3» . فزع الناس لقتلاهم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد، فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمض فقال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر في الأموات أنت أم في الأحياء؟ قال: أنا في الأموات فأبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم عني السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف «4» . وخرج صلى الله عليه وسلم يبحث عن جسد حمزة فوجده ببطن الوادي، قد بقرت بطنه فقال صلى الله عليه وسلم: لولا أن تحزن صفية، ويكون سنّة من بعدي، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم!! فلما رأى المسلمون حزن الرسول صلى الله عليه وسلم وغيظه قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب، إلا أن الآيات القرآنية نزلت بالقيم الثابتة التي تتجاوز مواقف الانفعال والآلام وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ «5» فعفا الرسول صلى الله عليه وسلم ونهى عن المثلة، ثم أمر بحمزة فسجي ببردة ثم   (1) التعبية: هي الأعمال العسكرية في المعركة: خطاب: الرسول القائد، هامش 1 ص 125. (2) السوق: هو الاستفادة من المعارك للحصول على الغرض من الحرب. ومن ذلك يتضح أن السوق يعني نتائج الحرب كلها بينما تعني التعبية نتائج معركة محلية واحدة: المرجع السابق، هامش 1 ص 125. (3) شيت خطاب: الرسول القائد ص 124- 125. (4) ابن هشام ص 187- 188 الطبري 2/ 528 الواقدي 1/ 292- 293. (5) سورة النحل، الآيتان: 126- 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 صلى عليه ثم أمر بالقتلى يوضعون إلى جانب حمزة واحدا واحدا، فصلى عليهم وعليه حتى أنه صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة هي عدد القتلى من المسلمين، وآثر صلى الله عليه وسلم مصعبا بن عمير وهو مقتول ببردة له، وقال: «رحمك الله، لقد رأيتك بمكة وما بها أرق خلّة ولا أحسن حلة منك، ثم أنت في أشعث بردة» «1» . وجاءت صفية بنت عبد المطلب وقد سمعت بأن أخاها قد مثل به فقالت: ما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء الله!، وكان بعض المسلمين قد حملوا قتلاهم ليدفنوهم في المدينة فنهاهم صلى الله عليه وسلم قائلا: «ادفنوهم حيث صرعوا» . ثم وقف عليهم وقال: «أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يجرح في الله إلا ويبعثه الله يوم القيامة، يدمى جرحه، اللون لون دم والريح ريح مسك» ، ثم قفل صلى الله عليه وسلم وأصحابه عائدين إلى المدينة في نفس اليوم السبت الخامس عشر من شوال «2» . لم يلبث الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي أن قام بمناورة عسكرية استهدفت تحقيق أهداف عدة منها إرهاب العدو، مشركين وأعرابا، منافقين ويهودا، وإشعارهم أن المسلمين لا زالوا على قوتهم ومقدرتهم القتالية، وأن هزيمة أحد لم توهنهم عن أهدافهم، ومنها رفع معنويات المسلمين وإزالة الآثار النفسية المؤلمة، التي خلفتها معركة أحد، والتي كان بإمكانها أن تحفر في نفوسهم خنادق وحفرا لا تمحوها الأيام، فنادى مناديه في السادس عشر من شوال أن يتهيأ الناس لطلب العدو وألايخرج معهم أحد لم يشترك في معركة أحد، يوم أمس، وانطلق صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال من المدينة، وكان المشركون قد بلغوا الروحاء على بعد ليلتين من المدينة، وعسكروا هناك، وأجمعوا أمرهم على العودة ثانية لقتال المسلمين بعد أن أدركوا أنهم لم يستأصلوا شأفتهم، لكن رجلا من خزاعة، حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، مر بهم وأعلمهم أن محمدا يطلبهم على رأس قوة كبيرة من المسلمين تتحرق شوقا لقتالهم، انضم   (1) البلاذري: أنساب 1/ 336. (2) ابن هشام ص 188- 190 الطبري 2/ 528- 529، 532 الواقدي 1/ 289- 290، 309- 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 إليها حتى الذين لم يشهدوا أحدا، فعدل المشركون عن رأيهم، واستأنفوا طريق عودتهم إلى مكة، إلا أن أبا سفيان رأى أن يستفز المسلمين ويرهبهم فدس إليهم من يخبرهم، أن قريشا عائدة لاستئصالهم، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: حسبنا الله ونعم الوكيل. وأقام هناك ثلاثة أيام، ثم قفل عائدا وقد حقق الأهداف التي توخاها من مناورته تلك «1» . لقد جاءت هزيمة أحد تعليما قيما للمسلمين، عبر دروب صراعهم المرير ضد الأعداء. وكأن إرادة الله شاءت أن يكبو المسلمون هذه الكبوة، بعد سلسلة الانتصارات التي حققوها قبل بدر وبعدها، لأن الانتصار الدائم يعرض الجماعة لنوع من اليقين الأعمى والاتكالية السالبة ويحشر في صفوفهم الكثير الكثير من ضعاف الإيمان وطالبي المغانم، فلا بد من هزة عنيفة تنخل المنتمين إلى الدعوة وتسقط عنهم أولئك الذين لا يقدرون على الصمود ومجابهة الخطر وجها لوجه، وممارسة الموت بإيمان. ولقد ظل القرآن الكريم، الذي خصص الكثير من آياته في سورة آل عمران لهذه التجربة المرة، ظل طيلة العصر المدني، كما كان شأنه في العصر المكي، يعلم المسلمين بالتجارب والأحداث ويا بني حركتهم بالهزائم والانتصارات وتتنزل آياته مفرّقة وعلى مكث، واحدة واحدة، ومجموعة مجموعة، إثر كل حدث يمارسه المسلمون، وعقب كل تجربة يخوضونها ... تتنزل لكي تمتزج مع حيوية التجربة المعاشة، وواقعيتها وثقلها، لكي ما تلبث هذه الآيات أن تغدو جزآ من كيان المسلم، متمثلا في لحمه ودمه وعصبه ووجدانه، إنه الارتباط الشرطي الذي أشار إليه «علم النفس» ، إن القيم والتعاليم إذا ارتبطت بحدث خطير له في النفوس وقع كبير سرعان ما تستقر في أعماق النفوس والقلوب والعقول، وتبقى هنالك حتى النهاية، تؤتي ثمارها نضجا للتجربة وتقويما للحركة واستقامة على الطريق.   (1) ابن هشام ص 191- 193 الطبري 2/ 534- 536 ابن سعد 2/ 1/ 34- 35 الواقدي 1/ 334- 340 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 35 المسعودي: تنبيه ص 211 البلاذري: أنساب 1/ 338- 339 ابن حزم: جوامع ص 175 ابن الأثير: الكامل 2/ 164- 165 ابن كثير: البداية 4/ 48- 52. وعن الآيات المتعلقة بمعركة أحد انظر: سورة آل عمران: الآيات 121- 128، 137- 161، 164- 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ولا بأس هنا أن نختار فقرات من (فقه السيرة) يعقّب فيها محمد الغزالي على موقف القرآن الكريم إثر معركة (أحد) من الهزيمة التي كان لا بد منها في علم الله وقدرته لكي يتعلم المسلمون من نارها الممحصة وعن طريق ما يرتبط بها من آيات بينات ملامح الطريق وما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ «1» فلقد «ترفق القرآن الكريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين في أحد على عكس ما نزل في بدر من آيات، ولا غرو فحساب المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر. في المرة الأولى قال: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «2» . أما في أحد فقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «3» . حسب المخطئين ما لحقهم من أوضار الهزيمة، وفي القصاص العاجل درس يذكر المخطىء بسوء ما وقع فيه. وقد اتجهت الآيات إلى مزج العقاب الرقيق بالدرس النافع وتطمين النفوس المؤمنة، حتى لا يتحول انكسارهم في الميدان إلى قنوط يغل قواهم، وحسرة تشل انتاجهم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «4» ، ثم مضى الوحي يذكر المسلمين ما جهلوا من سنن الحياة ويذكرهم بما نسوا من ذلك، فيبين أن المؤمن مهما عظمت بالله صلته فلا ينبغي أن يغتر به أو يحسب الدنيا دانت له أو يظن أن قوانينها الثابتة طوع يديه! كلا، كلا. فالحذر البالغ والعمل الدائم هما عدتا المسلم لبلوغ أهدافه المرسومة، ويوم يحسب المسلم أن الأيام كلها كتبت له، وأن شيئا منها لم يكن عليه، وأن أمجاد الدارين تنال دون بذل التكاليف الباهظة، فقد سار في طريق الفشل الذريع إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ... «5» أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ   (1) سورة آل عمران: الآية 179. (2) سورة الأنفال: الآيتان 67- 68. (3) سورة آل عمران: الآية 152. (4) سورة آل عمران: الآيات 137- 139. (5) سورة آل عمران: الآية 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «1» . وأولو الألباب يستحيون أن يطلبوا السلعة الغالية بالثمن التافه، وهم يبدون استعدادهم للتضحية بأنفسهم لقاء ما ينشدون، بيد أن الاستعداد أيام الأمن يجب ألايزول أيام الروع. إن الإنسان في عافيته قد يتصور الأمور سهلة مبسطة، وقد يتأدى به ذلك إلى المجازفة والخداع، فليحذر المؤمن هذا الموقف وليستمع إلى تأنيب الله لمن تمنوا الموت ثم حادوا عنه لما جاء وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ «2» ، ثم عاتب الله عز وجل من أسقط في أيديهم وانكسرت همتهم لما أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات. ما كذلك يسلك أصحاب العقائد، إنهم أتباع مبادىء لا أتباع أشخاص، ولو افترض أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل وهو ينافح عن دين الله فحقّ على أصحابه أن يثبتوا في مستنقع الموت، وأن يردوا المصير نفسه الذي ورده رائدهم، لا أن ينهاروا ويتخاذلوا ... إن عمل محمد صلى الله عليه وسلم ينحصر في إضاءة الجوانب المعتمة في فكر الإنسان وضميره، فإذا أدى رسالته ومضى فهل يسوغ للمستنير أن يعود إلى ظلماته فلا يخرج منها؟ لقد جمع صلى الله عليه وسلم الناس حوله على أنه عبد الله ورسوله، والذين ارتبطوا به عرفوه إماما لهم في الحق وصلة لهم بالله، فإذا مات عبد الله ظلت الصلة الكبرى بالحي الذي لا يموت باقية نامية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ «3» .. ولعل ما ترتب على عصيان الأوامر في هذه الموقعة درس عميق يتعلم منه المسلمون قيمة الطاعة والجندية ... فإحسان الطاعة كإحسان القيادة. فكما أن إصدار الأوامر يحتاج إلى حكمة، فإن إنفاذها يحتاج إلى كبح وكبت، ولكن عقبى الطاعة في هذه الشؤون تعود على الجماعة بالخير الجزيل. لذلك لما دهش المسلمون للكارثة التي قلبت عليهم الأمور، بيّن الله أنهم هم مصدرها، فما أخلفهم موعدا ولا ظلمهم حقا أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «4» ... » «5» .   (1) سورة آل عمران: الآية 142. (2) سورة آل عمران: الآية 143. (3) سورة آل عمران: الآية 144. (4) سورة آل عمران: الآية 165. (5) انظر بالتفصيل: محمد الغزالي: فقه السيرة ص 280- 289 والمؤلف: في النقد الإسلامي المعاصر ص 136- 139، 139- 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ولذلك أيضا يحدثنا مجاهد بأن الملائكة حضرت معركة أحد لكنها لم تقاتل لما كان من المسلمين، كما يحدثنا عبد الحميد بن سهيل بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمد يوم أحد بملك واحد «1» ، هذا بينما كان مقاتلو بدر قد تلقوا ساعة الصمود والصبر معونة سماوية قدرت بالاف من الملائكة مردفين! كما تلقى الرجال الذين قاوموا وراء الخندق، فيما بعد، عشرين ليلة، باذلين كل جهدهم وإمكاناتهم، معونة إلهية أخرى جاءت على شكل ريح عاتية لم تدع للمعسكر الوثني، بعد التصدع النفسي الذي أصابه، فرصة للتجمع والتفكير والاستقرار، فكان الانسحاب ... ذلك هو منطق العون الإلهي الذي علمنا إياه الإسلام منذ تجربة الهجرة وما قبلها ... إن مدد الله لا يتنزل إلا على أولئك الذين استكملوا الأسباب البشرية جميعا ... حركة وعقلا وإرادة وتصميما، وبدون ذلك لن تتنزل معونة الله حتى لو حبسوا أنفسهم في المساجد ليلا ونهارا. وجدت الوثنية العربية فرصتها للانتقام من المسلمين في أعقاب هزيمتهم في أحد وراحت توجه إليهم الضربات الغادرة كلما تمكنت منها، متجاوزة في ذلك أعرافها وقيمها الجاهلية التي درجات عليها مئات السنين. فبعد وقت قصير من عودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد قدم عليه وفد من قبيلتي عضل والقارة في صفر، وقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام. فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم معهم سبعة من أصحابه ... مرثد بن أبي مرثد، خالد بن أبي البكير، معتب بن عبيد، عاصم بن ثابت، خبيب بن عدي، زيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، وأمّر عليهم مرثد بن أبي مرثد «2» . فانطلق الدعاة يجتازون الصحراء حتى إذا بلغوا ماء الرجيع بين عسفان ومكة، حيث تقطن بنو هذيل، غدر بهم أعراب عضل والقارة، فاستصرخوا عليهم هذيلا، التي كان زعيمها سفيان بن خالد قد قتل على أيدي المسلمين في أعقاب أحد حيث حشد أتباعه للهجوم على المدينة، فلم يرع الدعاة إلا والرجال بأيديهم السيوف يحيطون بهم، فشهروا أسيافهم ليقاتلوهم فقال لهم رجال بني هذيل: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكن نريد   (1) البلاذري: أنساب 1/ 322. (2) يجعلهم ابن سعد عشرة: 2/ 1/ 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أن نصيب بكم مالا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألانقتلكم. فأما خالد ومرثد وعاصم ومعتب فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا، وانطلقوا يقاتلون وعاصم ينشد: ............... ... ... الموت حق والحياة باطل وكل ما حمّ الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آثل حتى قتلوا جميعا. وأما إخوانهم الثلاثة، فقد أسرتهم هذيل وحملتهم إلى مكة لتبيعهم بها، ومعنى هذا أنها تسلمهم لمصارعهم، حتى إذا بلغوا الظهران تمكن عبد الله بن طارق من انتزاع يده من الحبل الذي شدت به، وإشهار سيفه، فانهال عليه آسروه ضربا بالحجارة حتى قتل. واقتيد خبيب وزيد إلى مكة حيث استبدلا هناك بأسيرين كانا في مكة. فأما زيد فقد ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله ثأرا لأبيه، أمية بن خلف، وبعث به إلى مكان خارج مكة ليلاقي مصيره، واجتمع حوله رهط من قريش وسأله أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي! فقال أبو سفيان للملأ من حوله: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا! ثم قتل زيد رحمه الله «1» . وخرجوا بخبيب إلى نفس المكان ليصلبوه فسألهم أن يمنحوه فرصة يركع فيها ركعتين، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. فكان خبيب أول من سنّ ركعتي القتل عند المسلمين. وعندما رفعوه على الخشبة وأوثقوه، رفع وجهه إلى السماء فقال: اللهم إنّا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا ... اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا! وصلبوه وهو ينشد:   (1) ابن هشام ص 194- 196 الطبري 2/ 538- 542 ابن سعد 2/ 1/ 39- 40 الواقدي 1/ 354- 363 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 36- 37 ابن حزم: جوامع ص 176- 178 المقدسي 4/ 209- 211 ابن كثير: البداية 4/ 62- 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع وقد خيّروني الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير مجزع فو الله ما أرجو إذا مت مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي «1» وفي صفر في نفس العام، قدم أبو براء عامر بن مالك، الملقب بملاعب الأسنة، على رسول الله في المدينة، فعرض عليه الرسول الإسلام، ودعاه إليه، فلم يسلم، ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك، إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك. وعندما أعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم، إنه يخشى عليهم أهل نجد، بعد أن أصيب أصحابه في ماء الرجيع، قال: أنا جار لهم فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك «2» . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف يقينا أن انتصار دعوته وانتشارها لا يتحقق بغير تضحيات، وأن الانسياق وراء الحيطة والحذر في ميدان التضحية والفداء لا يقود إلى النصر، وأن عليه أن يختار في هذه اللحظات القلقة، الطريق الصعب كي لا تقول العرب إن الرسول قد عجز عن الاستمرار في الطريق حتى النهاية، أخافته مقاتل أصحابه، هذا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يبعث أصحابه هذه المرة لكي ينتحروا، فهم الآن أكثر عددا، وفي جوار رجل وضعهم في جواره، ولم يعرف عن العرب، حتى تلك اللحظة، إنهم خرقوا قدسية الجوار، ولا علم للرسول صلى الله عليه وسلم بالغيب، فلينطلق أصحابه على بركة الله. سار الدعاة الأربعون بقيادة المنذر بن عمرو، حتى نزلوا بئر معونة قريبا من ديار بني عامر، وتقدم حرام بن ملحان، بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زعيم القوم، عامر بن الطفيل، لكن عامرا ما أن نظر في الكتاب حتى عدا على حرام فضربه برمح في جنبه خرج من الشق الآخر، وهو ينادي: فزت ورب الكعبة! ثم   (1) ابن هشام ص 197- 199 الطبري: تاريخ 2/ 541 الواقدي 1/ 357- 361 المسعودي: التنبيه ص 212- 213 خليفة بن خياط 1/ 36- 37. (2) ابن هشام ص 200 الطبري 2/ 545- 546 ابن سعد 2/ 1/ 36. ويذكر الواقدي 1/ 349 بأن نبأ مأساة الرجيع وصل المدينة في نفس اليوم الذي وصل فيه نبأ الكارثة الآخرى في بئر معونة، إلا أن تريث الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستجابة لطلب أبي براء يوحي بأن الرجيع سبقت حادثة بئر معونة رغم عدم إمكان الجزم بذلك. وانظر خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 36- 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 استصرخ عليهم بني عامر فلم يجيبوه، التزاما بجوار أبي براء، فاستصرخ بقبائل سليم المجاورة، فأجابوه وأحاطوا بالدعاة وهم في رحالهم، فهرعوا إلى سيوفهم، وقاتلوا القوم قتالا مريرا، حتى حصدوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد فقد انسحب جريحا من المجزرة، وتمكن من الوصول إلى المدينة حيث قتل شهيدا في الخندق «1» . وكان الدعاة قد تركوا في سرحهم اثنين من رفاقهم هما عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد الأنصاري، فلم ينبههما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم حول العسكر، فأقبلا لينظرا فإذا إخوانهما يتضرجون بدمائهم، ومن حولهم المغيرون على خيولهم، فرأى عمرو أن يعود إلى المدينة، ليخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث، وأما رفيقه فقد قال: ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، أحد أصدقائه، وما كنت لأبقى حتى تخبرني عنه الرجال، ثم انقض على القوم، حتى سقط، متضرجا بدمائه «2» . وفي ذي القعدة من السنة الرابعة للهجرة، حل الموعد الذي ضربه المسلمون مع أبي سفيان للقاء جديد في بدر، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هناك على رأس ألف وخمسمائة من أصحابه، وأقام ثمانية أيام، ينتظر أبا سفيان، الذي كان قد غادر مكة على رأس مقاتليها، وعندما بلغ الظهران، بدأت تتناوشه المخاوف من لقاء المسلمين، وأخذ يفكر بالرجوع قائلا: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فقفلوا عائدين إلى مكة. وعندما أيقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان قد نكل عن الموعد، عاد إلى المدينة، وقد حقق نصرا معنويا ضد قريش، كما عزز مكانة المسلمين في الصحراء بعدما تعرضت له من تأرجح في أعقاب أحد «3» .   (1) ابن هشام ص 200- 201 الطبري 2/ 546- 547، 549- 550 ابن سعد 2/ 1/ 36- 39 الواقدي 1/ 346- 348 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 38- 39 البلاذري: أنساب 1/ 375 اليعقوبي تاريخ 2/ 61 المقدسي 4/ 211- 212 ابن حزم: جوامع ص 178- 180 ابن الأثير: الكامل 2/ 171- 172 ابن كثير: البداية 4/ 71- 74. (2) ابن هشام ص 201 الطبري 2/ 547 الواقدي 1/ 348- 352 اليعقوبي: تاريخ 2/ 61. (3) ابن هشام ص 209- 210 الطبري 2/ 559- 561 ابن سعد 2/ 1/ 42- 43 الواقدي 1/ 384- 391 البلاذري: أنساب 1/ 339- 340 المسعودي: التنبيه ص 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وانطلق الرسول صلى الله عليه وسلم في أعقاب ذلك صوب قبائل نجد ردا على ما لحق بدعاته في مأساتي الرجيع وبئر معونة، فيما سمي «بغزوة ذات الرقاع» ، بسبب الحجارة التي أوهنت أقدامهم فشدوا عليها رقاعا، وربما لوجود جبل هناك بهذا الاسم، إلا أن غطفان، كبرى قبائل نجد، جمعت للرسول جمعا عظيما، وعندما تقارب الطرفان تخوف أحدهما الآخر، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن من المجازفة الاشتباك مع قوات تفوق المسلمين أضعافا مضاعفة فقفل عائدا إلى المدينة «1» .   (1) ابن هشام ص 206 الطبري 2/ 555- 557. ويذهب ابن سعد (2/ 1/ 43- 44) إلى أن قبائل غطفان انسحبت من أماكنها، وهربت الأعراب إلى رؤوس الجبال وكذلك يؤكد البلاذري: أنساب 1/ 340- 341. وانظر الواقدي 1/ 395- 402 والبخاري: التجريد 2/ 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 معركة الخندق عندما بدأت الهزائم تحدق باليهود، سيما بعد إجلاء بني النضير، رأى هؤلاء أن يتحركوا بوجه السرعة لتوجيه ضربة قاصمة للدولة الإسلامية قبل أن يشتد ساعدها ويحدق خطرها بالوجود اليهودي في جزيرة العرب ... وأدركوا أن استثارة قريش وحدها ضد المسلمين أمر غير مضمون العواقب، وأن انفراد كل قوة وثنية في مهاجمة مواقع الدين الجديد سوف يمكن الإسلام من تصفيتها واحدة بعد الآخرى، فلا بد إذا من أن تتجمع القوى الوثنية كلها بزعامة قريش وتتحرك لاستئصال شأفة الإسلام ومن ورائها مكر اليهود وأموالهم.. خرج خمسة من زعماء اليهود وهم سلام بن أبي الحقيق، كنانة بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب (من بني النضير) وأبو عمار وهوذا بن قيس (من بني وائل) وقدموا إلى مكة واتصلوا بقادة قريش ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم حتى نستأصله! وجاءت هذه الدعوة في فترة كانت قريش تعاني فيها من حصار المسلمين الاقتصادي، وتزداد يقينا بأن معركة أحد لم تفعل شيئا، فاستجابت للعرض اليهودي بينما انطلق النفر الخمسة إلى غطفان ودعوهم إلى حرب المسلمين لقاء إعطائهم تمر خيبر مدة سنة، وأخبروهم بأنهم سيكونون معهم وأن قريشا قد أعدت العدة لهذا الأمر، وكذلك فعل اليهود مع عدد من القبائل اليهودية الآخرى «1» . انطلقت الأحزاب الوثنية البالغ عددها عشرة آلاف مقاتل «2» صوب   (1) ابن هشام ص 211- 212 الطبري 2/ 565- 566 ابن سعد 2/ 1/ 47 الواقدي 2/ 441- 443 البلاذري: أنساب 1/ 343 اليعقوبي: تاريخ 2/ 41. (2) يخطىء المسعودي (التنبيه ص 216) في القول بأن عدد الأحزاب بلغ أربعة وعشرين ألفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 المدينة.. قريش وأحلافها من بني كنانة وأهل تهامة والأحابيش يقودها أبو سفيان ابن حرب، وغطفان يقودها عيينة بن حصن الفزاري، وبنو مرة يقودها الحارث بن عوف، واشجع يقودها مسعود بن رخيلة.. وما أن سمع الرسول صلى الله عليه وسلم أنباء التحرك الخطير حتى بدأ يخطط لصد أكبر هجوم على الإسلام منذ مولد الدعوة الإسلامية، وكان الأمر يحتم اتخاذ خطة دفاعية، فاستشار أصحابه ورسم معهم ما يجب عمله وهو يقضي فيما أشار به سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق لحماية الأجزاء الشمالية المكشوفة من المدينة.. أما الأجزاء الآخرى فكانت تتمتع بحصانة طبيعية حيث تمتد حرة واقم إلى الشرق، وحرة الوبرة إلى الغرب وتتكاثف أشجار النخيل إلى الجنوب.. وكان سائر المدينة فيما عدا جهة الشمال كما يقول ابن سعد: مشبكا بالبنيان فهي كالحصن «1» .. الأمر الذي جعل فكرة حفر الخندق أمرا يمكن تنفيذه قبل انقضاض الأحزاب.. قسم الرسول أصحابه إلى مجموعات كل منها تتكون من عشرة أشخاص كلفوا بحفر أربعين ذراعا.. وأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم مع سائر العاملين في حفر الخندق بهمة ودأب، وراح ينقل التراب مع أصحابه وينشد وإياهم وقد غطى التراب على بطنه وصدره: لا همّ، لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأولى لقد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا وكلما وصلوا المقاطع الأخيرة مدها الرسول رافعا بها صوته «2» .. ويحدثنا أحد الصحابة الذين كانوا يعملون في الخندق فيقول: كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليضرب مرة بالمعول ومرة يغرف بالمسحاة التراب ومرة يحمل التراب في المكتل، وقد رأيته يوما بلغ منه فجلس صلى الله عليه وسلم ثم اتكأ على حجر على شقه الأيسر، فذهب به النوم فرأيت أبا بكر وعمر واقفين على رأسه يبعدان الناس أن يمروا به فينبهوه «3» ، وقد أدى هذا كله إلى جعل أصحابه يتفانون في العمل ولا يغادر أحدهم موقعه لقضاء حاجياته إلا بعد استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم وما أن ينتهي حتى يعود   (1) ابن سعد 2/ 1/ 48 الواقدي 2/ 450. (2) ابن سعد 2/ 1/ 51 الواقدي 2/ 449. (3) الواقدي 2/ 453. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 على جناح السرعة لإتمام ما كلف به إيمانا واحتسابا، وفي هؤلاء العاملين نزلت كلمات الله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» «2» . كان لتقسيم العمل وإسهام الرسول فيه إلى جانب أصحابه، والإيمان العميق الذي كان يدفع المسلمين إلى بذل كل طاقاتهم لإنجاز الخطة الدفاعية، وشعورهم بعظم الخطر المحدق بهم، إن هوجمت المدينة قبل أن ينجز حفر الخندق، فضلا عن تأميل الرسول صلى الله عليه وسلم جنده بالنصر القريب في الأرض وبالأجر العريض في السماء. كان لهذه الأمور جميعا الأثر الحاسم في تمكين المسلمين من حفر الخندق الذي يمتد اثني عشر ألف ذراع في ستة أيام قبل أن يدهمهم الأعداء.. ومن أجل استكمال الخطة الدفاعية عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمقاتلين الثلاثة آلاف «3» وراء الخندق جاعلا ظهورهم إلى جبل سلع، موزعا النساء والأطفال في القلاع الحصينة كي يتمكن المسلمون من التحرك بسهولة ويسر إذا حدث وتسرب المشركون إلى الداخل.. كما شكل كتائب من أصحابه أمرها بأن تعسكر في جهات المدينة الآخرى سيما وأن هنالك مناطق في الشرق والغرب والجنوب يمكن اجتيازها دون عناء كبير.. كما شكّل جماعات أخرى تتجول في المدينة لحراستها من غدرات اليهود.. وتظهر التكبير من أجل رفع معنويات أهليها «4» ، وأسهم بنفسه صلى الله عليه وسلم في حراسة الخندق إسوة بأصحابه فكان يبيت منفردا هنالك، كما يحدثنا الواقدي، في ثلمة كان يخاف أن يتسلل منها المشركون حتى يلفحه البرد «5» . أقبلت قوات الأحزاب البالغة حوالي عشرة آلاف مقاتل وعسكرت قريبا من المدينة في الجهات الممتدة شمالا، وسرعان ما فوجئت بالخندق وقد سد عليها   (1) سورة النور: الآية 62. (2) ابن هشام ص 212- 213 الطبري 2/ 566- 568. (3) يخطىء ابن حزم (جوامع ص 187) بقوله في أن عدد المسلمين في الخندق كانوا تسعمائة. (4) ابن سعد 2/ 1/ 48 الواقدي 2/ 450- 454. (5) الواقدي 2/ 463- 464. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الطريق إلى المدينة فقال زعماؤها: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، وقرروا أن يضربوا الحصار على المسلمين ويسعون بين الحين والحين إلى أن يجدوا ثغرة في دفاعهم يتسربون منها للداخل.. وظل المسلمون مفتحي الأعين حذرين إزاء أية محاولة يمكن أن تمنح المشركين جسرا يعبرون عليه إليهم فتكون الطامة الكبرى. وطالت أيام الحصار تخللها رمي بالنبال دون أن يحدث اشتباك حاسم بين المعسكرين، ورأت مجموعة من فرسان قريش أن تقوم بهجوم سريع علها تنفذ إلى الداخل.. فتقدم عمرو بن عبد ود العامري وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبي وهب، بعد أن أوعزوا إلى أصحابهم بالتهيؤ للقتال واختاروا مكانا ضيقا من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمته وسرعان ما تصدى لهم الزبير وعلي وعمر رضي الله عنهم في نفر من المسلمين، تمكنوا من إجلاء الخيول المغيرة بعد أن قتل علي رضي الله عنه قائدها عمرو بن عبد ود «1» . كما جرت محاولات عديدة للتسلل إلى داخل المدينة من أماكن أخرى ولقد تمكنت كتيبة قرشية شديدة المراس من التوغل في معسكر المسلمين إلا أنهم تصدوا لها واشتبكوا معها في قتال استغرق معظم النهار وجزآ من الليل واضطروها أخيرا إلى الانسحاب.. وحاولت قوة من الفرسان بقيادة خالد بن الوليد أكثر من مرة أن تنتهز غرة من المسلمين لإيجاد موضع قدم في الداخل، إلا أن المسلمين كانوا يردونها بالحجارة والنبال على أعقابها، هذا بينما ظلت طلائع الأحزاب تتجول ليلا باحثة عن منفذ تنساب منه إلى قلب المدينة لتطويق المسلمين من الخلف ولكن دون جدوى «2» .. وكل الضحايا الذين سقطوا خلال أيام الحصار لا يجاوزون العشرة من الطرفين «3» . لم يكن حصار المشركين وحده هو الذي يضيق الخناق على المسلمين بل كان هنالك من الداخل ما يزيدهم إرهاقا وخوفا وعناء.. الأقوات القليلة المتناقصة يوما بعد يوم، وشبح الجوع الذي لا يرحم «4» ، والبرد القارص في ليالي   (1) ابن هشام ص 217- 218 الطبري 2/ 573- 574 ابن سعد 2/ 1/ 48- 49 الواقدي 2/ 470- 472 البلاذري: أنساب 1/ 345. (2) ابن سعد 2/ 1/ 49 وانظر: الواقدي: 2/ 464- 469، 472- 473، 474. (3) الواقدي 2/ 495- 496. (4) انظر الواقدي 2/ 465، 475- 476، 489. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الشتاء الطويلة «1» ، والحرب النفسية العاتية التي شنتها جيوب المنافقين في صفوف المسلمين مخذلة معوقه مخوفة.. والسهر القاسي في الليالي الطويلة حتى أن محمد بن مسلمة قال: كان ليلنا بالخندق نهارا حتى فرجه الله «2» ، ثم جاء انتقاض بني قريظة علامة خطر أكيدة لمعسكر المسلمين الصامد، فعظم البلاء واشتد الخوف حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يسمح لأحد من أصحابه بالتوجه إلى داخل المدينة ألا وهو يحمل سلاحه حذرا من غدر بني قريظة «3» ، وعن أيام المحنة تلك تحدث القرآن الكريم فيما بعد: ... إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً ... «4» . نشط الرسول صلى الله عليه وسلم في العمل على كل الجبهات العسكرية والنفسية لبعث روح المقاومة والصمود في صفوف أتباعه المتعبين القلقين، فراح يرفع معنوياتهم وينفخ فيها الأمل بالنصر في اللحظات التي تتعرض فيها لليأس المرير. إنه، وهم يحفرون الخندق، يؤملهم بأن خيولهم ستطأ في يوم قريب عواصم العالم القديم وستتهاوى تحت وقع سنابكها عروش كسرى وقيصر، وستمرغ بأسيافهم أنوف كانت تستعلي على الناس زيفا وخديعة وكذبا. وعندما تجيء الأخبار مؤكدة نبأ انتقاض بني قريظة، ينادي: الله أكبر. أبشروا يا معشر المسلمين «5» ويعدهم بأن مفاتيح الكعبة ستسلم إليه في يوم من الأيام. وزادهم معنوية وصمودا تلك الأمثلة العالية من التضحية والصبر والبطولة ضربها بعض أخوانهم فالتمعت في قلب المحنة شررا تحرك المقاتلون على ضوئه إلى أهدافهم، دفاعا عن المصير الذي صاغوا بدمائهم وأعصابهم جوانب منه، وسينطلقون فيما بعد لإتمام صياغته إيمانا واحتسابا. وعلى الجبهة العسكرية لم يدع الرسول وأصحابه ثغرة ينفذ منها العدو ولا ترك جانبا يمكن أن يعزز خطة الدفاع والمقاومة إلا اعتمده ونفذه بسرعة، وها هو   (1) انظر الواقدي 2/ 463، 475- 476، 489. (2) الواقدي 2/ 468. (3) الواقدي 2/ 474. (4) سورة الأحزاب: الآيتان 10- 11. (5) ابن هشام ص 215 الطبري 2/ 572. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الآن يسعى إلى تفتيت جبهة الأحزاب وبدون ذلك لا يتحقق النصر ولا يزول الخطر.. فيبعث إلى قائدي غطفان وبني مرّة ويغريهما بثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما ويتخليا عن الحصار، وانتهت اتصالاته بهما إلى كتابة وثيقة صلح بين الطرفين، تعمد الرسول أن يؤجل توقيعها ريثما يستشير قادة الأنصار أصحاب المدينة، فبعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعرض عليهما الأمر فقالا له: يا رسول الله، أمرا تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم ... والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر، فأجاب سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحى ما فيها وقال: ليجهدوا علينا! ومن ثم اطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رغبة أصحابه عامة والأنصار خاصة في الصمود حتى النهاية بوجه الأحزاب «1» . لم يأل الرسول جهدا لتحقيق هدفه في تفتيت جبهة الأحزاب وتقطيع الرباط الذي يشد بعضها إلى بعض لا سيما ذلك الذي يوحد بين الوثنية في الخارج ويهود قريظة في الداخل، إذ أن أي تنسيق يحدث بين الطرفين سيمنح المشركين طريقا أمينا يختارونه عبر أحياء بني قريظة إلى قلب المدينة، وهنالك تقع الكارثة ويجد المسلمون أنفسهم وهم محاطون بالاف المشركين يجوبون ديارهم ويعملون فيهم قتلا وأسرا وتشريدا. وما لبثت العناية الإلهية أن ساقت إليه رجلا قد أسلم حديثا يدعى نعيم بن مسعود، فعرض على الرسول خدماته قائلا: إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة «2» .   (1) ابن هشام ص 216- 217 الطبري 2/ 572- 573 ابن سعد 2/ 1/ 49 الواقدي 2/ 477- 480 البلاذري: أنساب 1/ 346- 347. (2) ابن هشام ص 218- 219 الطبري 2/ 578 الواقدي 2/ 480- 481. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 غادر نعيم بن مسعود معسكر المسلمين صوب بني قريظة، وكان نديما لهم في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليهم وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهائن من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه!! .. فقالوا له: لقد أشرت بالرأي. ثم خرج نعيم حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه من زعماء مكة: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وأنه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلغه لكم، نصحا لكم فاكتموا عني، فقالوا نفعل، قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ إليك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم؟ فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهائن من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.. واتجه نعيم بعد ذلك إلى غطفان وأقنعهم بما أقنع به قريشا «1» . وفي ليلة السبت من شوال السنة الخامسة للهجرة أرسلت قريش وغطفان عكرمة بن أبي جهل في نفر من القبيلتين إلى بني قريظة لكي يقولوا لهم إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه. فأرسل لهم اليهود، إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهائن من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإننا نخشى إذا ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تذهبوا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك منه «2» !.   (1) ابن هشام ص 219- 220 الطبري 2/ 578- 579 الواقدي 2/ 481- 482. (2) ابن هشام ص 220 الطبري 2/ 579 ابن سعد 2/ 1/ 49- 50 الواقدي 2/ 482- 485. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فلما عاد الوفد الوثني وأخبر قريشا وغطفان بما دار من حديث مع بني قريظة ازداد يقين القبيلتين بما قاله نعيم بن مسعود وأرسلوا إلى بني قريظة: إنّا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا وقاتلوا. وعندما بلغ بني قريظة ذلك، قال زعماؤها: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن سنحت لهم الفرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلدكم. فكان جوابهم لقريش وغطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهائن، فأبى المشركون الاستجابة لطلبهم وتحقق بذلك هدف الرسول صلى الله عليه وسلم من تفتيت الجبهة الوثنية- اليهودية، وكان ذلك بداية النصر الذي بدأ يلوح في الأفق في أعقاب حصار جاوز العشرين يوما. ولما كان المسلمون قد استكملوا جدهم في العمل والصمود فإن نصر الله المباشر سرعان ما تنزل رياحا شتائية شديدة البرودة سلطها الله سبحانه على معسرات المشركين فراحت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم وتنزع خيامهم، فلم يعد يقرّ لهم معها قرار.. وحينذاك بعث الرسول صلى الله عليه وسلم صحابيا موثوقا من كبار أصحابه هو حذيفة بن اليمان لكي يتسلل إلى معسكرات المشركين ويطّلع على جلية الأخبار. ويحدثنا حذيفة نفسه عن المهمة التي كلف بها: «دعاني الرسول صلى الله عليه وسلم ليلا وقال: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدث شيئا حتى تأتينا، فذهبت ودخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. وقام أبو سفيان وقال: يا معشر قريش لينظر كل امرىء من جليسه؟ فأخذت بيد الرجل الذي كان بجانبي فقلت له: من أنت؟ فقال: فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش والله إنكم ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام وأطلق عقال جمله، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي ألاأحدث شيئا حتى آتيه ثم شئت لقتلته بسهم لكني عدت وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر..» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وعندما سمعت غطفان بما فعلت قريش قفلت هي الآخرى عائدة إلى بلادها «1» . ومد المسلمون أبصارهم فجر اليوم التالي إلى ما وراء الخندق فلم يروا أحدا فعرفوا آنذاك إن مقاومتهم التي جاوزت العشرين يوما قد آتت ثمارها، وأن إيمانهم قد صمد لأخطر محنة جابهوها طيلة حياة الكدح والمطاردة والحرب والكفاح.. ليس هذا فحسب، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلمهم أن الموقف العسكري إزاء الوثنية قد تبدل أساسا وانقلب من الدفاع إلى الهجوم فقال مخاطبا جموع المقاتلين عند الخندق: لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم «2» . ومن الحق أن يعتبر ارتداد الأحزاب عن المدينة نصرا عظيما، ولا نرتاب في أنه كان ذا أثر كبير فيما تم من تعالي الإسلام وانتشار قوته ودعوته فيما بعد.. وإنه كان لهذا الارتداد أثره السلبي والإيجابي في آن واحد، إذ جعل العرب المتربصين والأعداء والمنافقين يرون في هذه النتيجة دلالة النصر الرباني والقوة المعنوية العظيمة فيقفون عند حدهم. ولم يفكر المكيون بعد بمتابعة عدوانهم «3» ، ولم يعد في الإمكان بعد هذا اليوم أن يتجمع خصوم المدينة على هذه الصورة، فقد أصبحت قريش تشك في ولاء القبائل العربية، كما أصبحت القبائل نفسها تشك في قدرة قريش وفي إمكانها التغلب على المسلمين «4» .   (1) ابن هشام ص 220- 222 الطبري 2/ 579- 581 ابن سعد 2/ 1/ 50 الواقدي 2/ 487- 491. (2) ابن هشام ص 233 الطبري 2/ 593 البخاري: تجريد 2/ 82. وعن الآيات المتعلقة بمعركة الخندق انظر: سورة الأحزاب: الآيات 9- 27. (3) دروزة 2/ 245- 246. (4) الشريف: مكة والمدينة ص 458. وعن سرايا ما بعد الخندق أحيل القارىء إلى ابن سعد 2/ 1/ 56- 68 الواقدي 2/ 531- 571 والمسعودي: التنبيه ص 218- 221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الفصل السابع الصراع مع الوثنية (المرحلة الثانية) صلح الحديبية من مركز القوة الذي أحرزه المسلمون بعد الخندق، قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينطلق ليعتمر بأصحابه في مكة مستهدفا تحقيق أهداف ثلاثة، أولها إشعار الناس جميعا أن علاقات الإسلام بالقوى الآخرى ليس شرطا لها أن تظل قائمة على الحرب والعنف والقتال، وأن بالإمكان أن تسودها فترات من السلم والتهادن والتعايش المشترك على خلاف المذاهب والاتجاهات. وثانيها تجميد الصراع ضد قريش، ذلك الذي استغرق معظم مساحات الدرب الطويل الذي اجتازته الدعوة الإسلامية، والالتفات إلى الجهات الآخرى لغرض التركيز عليها، سيما بعد التصعيد الذي شهده الصراع ضد اليهود من جهة، وضد البيزنطيين وحلفائهم نصارى العرب من جهة أخرى. وأما ثالث الأهداف فهو إقرار حقيقة أن مكة ومقدّساتها ليست حكرا للوثنية تمارس فيها تقاليدها بحرية، وتسيطر على مقدراتها، فتسمح بدخولها لمن تشاء وتمنع من تشاء.. على العكس، إن المسلمين أحفاد إبراهيم عليه السلام أبي الحنيفية، وباني الكعبة، أحق وأجدر بدخول الحرام الآمن، وممارسة شعائرهم القائمة على التوحيد الخالص، الذي من أجله أقيم البلد الحرام في الوادي غير ذي الزرع. ثم أن المسلمين المهاجرين ورسولهم صلى الله عليه وسلم لا زالوا يحنّون وطنهم القديم ويطوون جوانحهم- عبر سني الصراع الطويل- على الشوق العارم إلى الديار التي ولدوا فيها، وترعرعوا بين أكنافها، وآثروا دعوة الحق بين طرقاتها وأحيائها.. الحنين الذي كان بلال قد باح به في أيام الهجرة الأولى، والحمى تعتصره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ألا ليت شعري هل ابيتنّ ليلة ... بفخ وحولي أذخر وجليل؟ وهل أردنّ يوما مياه مجنّة ... وهل تبدونّ لي شامة وطفيل؟ وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يجيب على السؤال ويعلن- في ذي القعدة- أنه سيتجه إلى مكة معتمرا، لا يريد حربا، ويستنفر العرب وأهل البوادي من حوله ليخرجوا معه، ويخشى أن تعرض له قريش بحرب، أو تصده عن البيت «1» . أبطأ كثير من الأعراب عن الاستجابة لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم تخوفا من نشوب قتال مع قريش لا يهمهم من قريب أو بعيد، وانطلق المهاجرون والأنصار، ومن لحق بهم من مسلمي المناطق المجاورة، يسوقون الهدي صوب مكة، وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم باستبدال ملابسهم بثياب الإحرام، ليأمن الناس الحرب، وليعلمهم أنه إنما خرج زائرا لبيت الله الحرام ومعظما له. وعندما بلغ المسلمون عسفان، الواقعة على بعد مرحلتين من مكة، لقيهم من يقول لهم إن قريشا قد خرجت بمقاتليها وفرسانها لمجابهة المسلمين ومنعهم من دخول مكة مهما كان الثمن!! فكان جواب الرسول: (يا ويح قريش!! لقد أكلتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوه، وأن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة) . وطلب من أحد الأدلّاء أن يقودهم، عبر طرق غير مسلوكة، إلى مكان آخر تجنبا للصدام مع قريش، فقادهم الدليل في أراض وعرة، ومسالك جبلية، وانتهى بهم إلى أرض سهلة عند منعطف الوادي أسفل مكة تدعى الحديبية. وعندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلّا أعطيتهم إياها) ، كان فرسان قريش يكرون عائدين اعتقادا منهم أن محمد صلى الله عليه وسلم اجتاح مكة عنوة «2» . رأت قريش، وقد لمست رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم وإصراره على دخول مكة وأداء العمرة، أن تبعث إليه من يكلمه بالأمر ويقنعه بأن لا جدوى من محاولته تلك،   (1) ابن هشام ص 249 الطبري 2/ 620 ابن سعد 2/ 1/ 69 الواقدي 2/ 572- 573. (2) ابن هشام ص 229- 251: الطبري 2/ 623- 624 الواقدي 2/ 574- 594. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 واعتقدت أن مجرد السماح للمسلمين بدخول بلدهم، بعد ذلك الصراع الحامي، يمثل هزيمة منكرة لقريش، زعيمة الوثنية، وتنازلا لخصومها كي يطؤوا حرمها المقدس ... وستقول العرب: لقد نكصت قريش عن حماية البيت الحرام، ولم تعط الأمر حقه، ثم ما تلبث أن تنصرف عنها. كان بديل بن ورقاء الخزاعي أول سفراء قريش إلى معسكر المسلمين، فقدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يصحبه رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه: ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته (فمن صدّنا عنه قاتلناه) . فرجع بديل إلى قريش وقال: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، وأن محمدا لم يأت لقتال وإنما جاء زائرا هذا البيت. فما كان من زعماء قريش إلا أن اتهموه وعنفوه وقالوا له: وإن كان جاء لا يريد قتالا، فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تحدث بذلك عنا العرب. وما لبثوا أن بعثوا إلى المسلمين سفيرهم الثاني: مكرز بن حفص، الذي عاد بما كان رفيقه قد عاد به إلى زعماء قريش «1» . وكان الحليس بن علقمة، سيد الأحابيش، السفير الثالث، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: إن هذا من قوم يتألّهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي ينساب صوبه في عرض الوادي، قفل عائدا قبل أن يقابل الرسول صلى الله عليه وسلم إعظاما لما شهد، وأخبر القرشيين بالذي رأى، فقالوا له: اجلس، إنما أنت أعرابي لا علم لك!! فغضب عند ذاك وقال منددا: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم.. أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له: مه يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. ثم ما لبثوا أن بعثوا سفيرهم الرابع: عروة بن مسعود الثقفي، وعندما جلس بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، أجمعت أو شاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضّها بهم؟ إنها قريش قد خرجت، وقد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا. وأيم الله لكأنني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا! فعنّفه أبو بكر الذي كان يجلس وراء الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أنحن ننكشف عنه؟ وراح عروة يتناول   (1) ابن هشام ص 251- 252 ابن سعد 2/ 1/ 70 الواقدي 2/ 593- 594. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف بسلاحه على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم فجعل يقرع يد المفاوض ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألاتصل إليك!! فيجيبه عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك!! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم. وعاد عروة إلى قريش ليعلمها بما حدثه به الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه لم يأت يريد حربا، وليقول لها: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه. ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا. فروا رأيكم «1» . رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث من جهته سفيرا إلى قريش ليوضح لهم الهدف الذي جاء المسلمون من أجله، فاختار خراش بن أمية الخزاعي لأداء المهمة، إلّا أن خراشا ما أن بلغ مكة حتى عقر أشرافها بعيره وأرادوا الفتك به لولا أن منعته الأحابيش، فخلوا سبيله لكي ما يلبث أن يرجع إلى معسكر المسلمين. ليس هذا فحسب بل إن قريشا أرسلت خمسين من رجالها المسلّحين ليتسلّلوا إلى معسكر المسلمين ويصيبوا بعض رجاله في محاولة لاستفزاز الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى اتخاذ إجراء انتقامي يعزز موقف قريش لدى العرب. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم فوّت عليهم الفرصة بعد ما جاء به أصحابه من أسرى دون عناء كبير، فعفا عنهم وخلّى سبيلهم «2» . ويحدثنا رجل من معسكر المسلمين فيقول: «أتيت شجرة فكسحت شوكها ثم اضطجعت في ظلها، فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فتحولت إلى شجرة أخرى، فعلقوا سلاحهم ثم اضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم، فاستللت سيفي على أولئك الأربعة وهم رقود، وأخذت سلاحهم، ثم قلت: لا يرفع أحدكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه!! ثم جئت بهم أقودهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء عمي برجل آخر حتى وقفنا بهم على رسول الله في سبعين من المشركين ... فنظر إليهم رسول الله فقال: (دعوهم يكن لهم بدء الفجور) وعفا عنهم» «3» . وفي رواية أخرى للواقدي   (1) ابن هشام ص 252- 254 الطبري 2/ 628 ابن سعد 2/ 1/ 70 الواقدي 2/ 594- 600 اليعقوبي: تاريخ 2/ 45. (2) الطبري 2/ 631 الواقدي 2/ 602. (3) الطبري 2/ 629- 630. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتفظ بأسرى قريش رهائن ريثما تطلق من في أيديها من مسلمين كانوا قد دخلوا مكة لزيارة أهليهم وكانوا أحد عشر رجلا، فاستجابت قريش لعرضه فأطلق سراحهم «1» . لم ييأس الرسول وكأنه كان يرى بثاقب بصره الثمار الحلوة التي ستجنيها الدعوة الإسلامية إذا ما سادت العلاقات السلمية فترة من الوقت مع قريش زعيمة الوثنية، فدعا عمر بن الخطاب ليسفر له لدى قريش فقال عمر: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس في مكة من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكني أدلك على رجل أعز بها مني: عثمان ابن عفان. انطلق عثمان إلى مكة ودخل في جوار قريب له يدعى أبان بن سعيد بن العاص ريثما يبلغ زعماء قريش ما جاء به فأجابه هؤلاء: إن شئت أن تطوف في البيت فطف! فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله. وراح عثمان يتصل بمسلمي مكة المستضعفين من الرجال والنساء ويقول لهم: «إن رسول الله يبشركم بالفتح» ، فكانت الدموع تسيل من أعينهم فرحا بذلك وهم يقولون: أقرىء رسول الله منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر أن يدخله بطن مكة «2» . وما لبثت قريش أن اعتقلته فبلغ الرسول وأصحابه أن عثمان قد قتل «3» . لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ من التهيؤ للقتال ... بعد فشل كل محاولاته الودية لدخول مكة.. وبعد الموقف السيء الذي وقفته قريش من سفرائه إليها، ودعا الناس إلى البيعة على عدم الفرار والصمود بوجه قريش، فانهال عليه المسلمون يبايعونه وهو واقف تحت شجرة سميت فيما بعد بشجرة الرضوان نسبة إلى البيعة التي تمت تحتها، ولم يتخلف عن مبايعته أحد من أصحابه، إلا أن الأنباء ما لبثت أن جاءت لتنفي ما أشبع عن مقتل عثمان ... وأعقب ذلك قيام قريش بإرسال سهيل بن عمرو سفيرا خامسا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ربما لتخوفها من استعداد   (1) الواقدي 2/ 603- 604 وانظر: المقريزي: إمتاع الأسماع 1/ 290. (2) الواقدي 2/ 601. (3) ابن هشام ص 254- 255 الطبري 2/ 631- 632 ابن سعد 2/ 1/ 70 الواقدي 2/ 600- 602. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 المسلمين للقتال ومبايعتهم الرسول على الصمود، وكلفت رجلها أن يسعى جاهدا لمصالحة محمد صلى الله عليه وسلم شرط أن يرجع عنهم هذا العام «فو الله لا تحدث العرب عنا أن محمدا دخلها علينا عنوة أبدا» «1» . التقى سهيل بالرسول صلى الله عليه وسلم وأدرك الرسول، عندما لمحه قادما من بعد، أن قريشا تسعى للصلح. وجرى بين الطرفين كلام طويل انتهى بالموافقة على الصلح ولم يبق إلّا صياغة الوثيقة ... هناك وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر وقال: يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى ... قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى ... قال: فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟ أجاب أبو بكر: يا عمر الزم أمره فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله ... ورأى عمر، الذي فطر على الصراحة والوضوح، أن يلتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ويطرح عليه نفس الأسئلة ... فكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني ... ثم ما لبث أن دعا عليا ليملي عليه صيغة الصلح وقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم. فكتبها، ثم قال لعلي: اكتب (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيلا بن عمرو) فقال سهيل: لو شهدت إنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فأجابه الرسول إلى ما أراد «2» . كان الصلح يقضي بعقد هدنة أمدها عشر سنوات «3» ، وأن يرجع المسلمون هذا العام ولهم أن يدخلوا مكة في العام المقبل والسيوف في أغمادها، وإن لكل قبيلة الحق بالدخول في عهد مع أي من الطرفين تشاء ... وأنه لا إسلال ولا إغلال.. وإن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه فعليه أن يرده، ومن جاء قريشا ممن مع محمد صلى الله عليه وسلم لا تجد نفسها ملزمة برده ... وسرعان ما أعلنت خزاعة دخولها في عقد محمد وعهده ... بينما دخلت بنو بكر عقد قريش وعهدها ... وقبل أن يتم إملاء الشروط وصل معسكر المسلمين أبو جندل، ابن المفاوض القرشي سهيل بن عمرو، وهو يرسف بالحديد فانقض عليه أبوه يضرب وجهه   (1) ابن هشام ص 255- 256 الطبري 2/ 632- 633 الواقدي 2/ 603- 605 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 43- 44. (2) ابن هشام ص 256- 257 الطبري 2/ 633- 634 الواقدي 2/ 606- 607. (3) يخطىء اليعقوبي في قوله بأن مدة الهدنة كانت ثلاث سنوات. تاريخ 2/ 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ويأخذ بتلابيبه قائلا للرسول: إن شروط الصلح قد أبرمت قبل وصول أبي جندل فأجابه الرسول: صدقت ... وراح أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: ... يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فما كان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ... إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله.. وإنا لا نغدر بهم.. ووثب عمر وراح يمشي إلى جوار أبي جندل ويقول: اصبر يا أبا جندل فإنهم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب!! وعندما تمّ إملاء الكتاب شهد على الصلح أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن سهيل بن عمرو وسعد ابن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعن الجانب المشرك مكرز بن حفص وحويطب بن عبد العزى «1» . لم يرتح المسلمون لأحداث الصلح ونتائجه سيما وأنهم جاؤوا يحملون أملا بدخول مكة والطواف في البيت العتيق في أعقاب رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم، وها هم يعودون من حيث جاؤوا دون أن يتحقق أملهم، هذا فضلا عما في بنود الصلح نفسها وصيغته من أمور رأوا فيها تنازلا للمشركين. هذا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستشر أصحابه على غير ما ألفوا منه في هذا الاتفاق المقترح مع أنه في شؤون الحرب والسلم التي سلفت كان يرجع إليهم.. وربما نزل على رأيهم وهو له كاره.. لكنه اليوم ينفرد بالعمل ويقرّ ما يكرهون على عير ضرورة ملجئة «2» . ثم جاءت قضية تسليم أبي جندل لأعدائهم إثارة جديدة لأعصابهم المرهقة وحنقهم الذي عبر عنه (عمر) صراحة. من أجل ذلك كله [دخل عليهم أمر عظيم حتى كادوا يهلكون] وعندما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بنحر الهدي وحلق رؤوسهم إيذانا بالعودة للمدينة.. لم يستجيبوا له لأول مرة في حياتهم.. فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد استشارة زوجته أم سلمة إلا أن يخرج عليهم فينحر ويحلق رأسه، فلما رأى أصحابه ذلك راحوا   (1) ابن هشام ص 257- 258 الطبري 2/ 634- 636 ابن سعد 2/ 1/ 70- 71 الواقدي 2/ 607- 609، 611- 612 البلاذري: فتوح البلدان 1/ 41، أنساب 1/ 350- 352 وانظر عن نص وثيقة الصلح: محمد حميد الله: الوثائق ص 77- 80. (2) محمد الغزالي: فقه السيرة ص 359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ينحرون ويحلقون وهم يتميزون غيظا وألما حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما «1» ، دون أن يدركوا أن الصلح الذي تمخض عن مرونة الرسول وتنازله عن بعض الشكليات في صياغة الوثيقة وبنودها كان أكبر فتح في تاريخ الدعوة الإسلامية منذ انبعاثها قبل تسع عشرة سنة، وأن الرسول بموقفه ذاك قد فتح طريقا جديدا أمام الحركة الإسلامية أوصلها إلى آفاق جديدة ومساحات واسعة لم يكن أحد من المسلمين يطمع في الوصول إليها قبل مرور سنين وسنين. وفي طريق العودة نزلت آيات القرآن الكريم لتؤكد البعد الحقيقي للصلح مع زعيمة الوثنية إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «2» ، وتستطرد الآيات الكريمة مؤكدة دخول المسجد الحرام عما قريب وتحقق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم التي تجيء دوما كفلق الصبح: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً «3» . ولم يكن هذا الفتح كما يقول ابن هشام سوى صلح الحديبية: [فما فتح في الإسلام.. يقول الزهري.. فتح قبله كان أعظم منه. إنما كان القتال حيث التقى الناس ... فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ... ولقد دخل في تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر] بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة ثم خرج في فتح مكة بعد سنتين على رأس عشرة آلاف رجل «4» . وما من شك أن مجرد دخول قريش في عهد مع المسلمين يمثل اعترافا منها   (1) الواقدي 2/ 613- 616. (2) سورة الفتح، الآيتان 1 و 2. (3) سورة الفتح، الآية: 27. (4) ابن هشام ص 258- 259 الطبري 2/ 638 وانظر: الواقدي 2/ 609- 610، 624. وعن الآيات المتعلقة بالحديبية انظر: سورة الفتح: الآيات 1- 6، 10- 13، 18- 20، 24- 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 بالدولة الفتية والدين الجديد بعد حرب الإفناء الطويلة التي شنتها ضدهما.. ولما كانت قريش هي زعيمة الوثنية وحامية حمى الحرم المقدس فإن توابعها من القبائل العربية المنتشرة في الجزيرة رأت نفسها في حل من الانتماء لزعامتها والارتباط بمصيرها وأن لها الحرية المطلقة في أن تختار المعسكر الذي تراه مناسبا دخولا في دينه أو صداقة معه.. وقد فتح ذلك المجال أمام المسلمين لكي ينشطوا وينتشروا في الآفاق لكسب مزيد من الأصدقاء والحلفاء والمنتمين إلى الدين الجديد، مستغلين من جهة أخرى فترة السلم التي أتاحتها شروط الحديبية. وكان انضمام خزاعة إلى معسكر المسلمين نصرا كبيرا للرسول صلى الله عليه وسلم ذلك أن جزآ كبيرا من الأحابيش الذين كانت قريش تعتمد عليهم يعدون من بطونها، وبذلك ضمّ محمد جزآ كبيرا من هذه القوة إلى جانبه وأضعف بذلك مركز قريش الحربي «1» . ويرى (أرنولد) أن الحروب المتصلة التي كان الرسول قد شنها على أهل مكة قد جعلت حتى ذلك الحين القبائل، التي تقيم جنوبي هذه المدينة حتى تخوم اليمن، بعيدين بعدا يكاد يكون تاما عن سلطان الدين الجديد.. ولكن هدنة الحديبية جعلت الاتصال مع بلاد العرب الجنوبية أمرا ميسورا في ذلك الحين «2» . وقد كان لانتشار الإسلام في اليمن في الفترة التي أعقبت الحديبية أهمية خاصة من الناحية العسكرية، فقد جعل قريشا محفوفة بالمسلمين من الشمال والجنوب وبذلك تقرر مصير مكة وقريش نهائيا «3» ... هذا في الوقت الذي كانت قريش فيه قد توخت أهدافا سطحية دفعتها إليها العصبية الجاهلية وهي رد المسلمين عن زيارة البيت الحرام هذا العام ليعودوا إلى زيارته في العام المقبل، ورد الذين يسلمون من قريش بدون رضى أوليائهم حتى لا يكثر عدد المسلمين وأن ينالوا بهذه الهدنة الاستقرار للتفرغ لتجارتهم وهو أهم هدف حيوي بالنسبة لقريش «4» . ولم ينس الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينتزع من هذه الفرصة الثمينة كل ما يستطيع انتزاعه، فضلا عن كسب الناس إلى الإسلام وصداقتهم لدولته.. صراعا ضد   (1) الشريف: مكة والمدينة ص 469. (2) الدعوة إلى الإسلام ص 57. (3) شيت خطاب: الرسول القائد ص 212. (4) المصدر السابق ص 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 القوى الآخرى المضادة للإسلام كاليهود الذين تكتلوا في خيبر والمواقع المجاورة له، والبيزنطيين وحلفائهم العرب الذين ازداد تكالبهم في الجهات الشمالية بازدياد نشاط الإسلام هناك، فضلا عن التجمعات القبلية البدوية المنتشرة في الصحراء والتي كانت تنتظر الفرصة السانحة لإنزال الضربات بأتباعه. وها هو الرسول وقد فصم عقدها بهدنته مع زعيمتها قريش يوجه إليها السرايا تلو السرايا طيلة السنة السابعة ليصدها عن المضي فيما تبتغيه وليشعرها بمقدرة المسلمين على العقاب! خرج عمر بن الخطاب على رأس ثلاثين رجلا إلى إحدى قبائل هوازن، وكان يسير برجاله ليلا ويكمن نهارا، وما إن سمع أعداؤه خبر هجومه المباغت حتى فروا فقفل عائدا ولم يلق كيدا. وخرج أبو بكر الصديق إلى نجد، وبشير بن سعد إلى بني مرّة على رأس ثلاثين رجلا أصيب بعضهم فاضطر إلى العودة إلى المدينة، وانطلق غالب بن عبد الله، يقود مائة وثلاثين رجلا إلى بني عبد بن ثعلبة فأغاروا عليهم واستاقوا نعمهم وعادوا بها إلى المدينة، وما لبث بشير بن سعد أن خرج ثانية على رأس سرية أخرى للهجوم على بعض القبائل من غطفان بدأت تتحرك للهجوم على المسلمين، فباغتها سعد واستاق نعمها «1» . وطيلة الأشهر الأولى من السنة التالية استمرت السرايا الإسلامية تغادر المدينة منطلقة إلى أهدافها التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحددها لها في قلب الصحراء.. خرج غالب بن عبد الله الليثي ليغير على بني الملوح بمنطقة تدعى الكديد. ويحدثنا أحد أبطال السرية فيقول: «.. نزلنا بطن كديد بعد العصر، فبعثني أصحابي ربيئة، فعمدت إلى تل يطلعني على الحيّ، فانبطحت عليه، قبيل المغرب، فخرج منهم رجل فنظر فرآني منبطحا على التل فقال لامرأته: والله إني لأرى على هذا التل سوادا ما كنت رأيته أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب جرت بعض أوعيتك! فنظرت فقالت: والله ما فقدت شيئا. قال: فناوليني قوسي فناولته، فرماني بسهم فوضعه في جنبي، فنزعته فوضعته، ولم أتحرك، ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك. فقال الرجل: أما والله لقد خالطه سهماي ولو كان طليعة لتحرك. وأمهلناهم حتى إذا سكنوا وذهبت   (1) الطبري 3/ 22- 23 ابن سعد 2/ 1/ 85- 87 الواقدي 2/ 722- 731 المسعودي التنبيه ص 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 عتمة من الليل، شننا عليهم الغارة، فقتلنا من قتلنا واستقنا النعم وقفلنا عائدين بعد أن جاءنا منهم ما لا قبل لنا به ... » ولم يكن عدد أفراد هذه السرية يجاوز البضعة عشر رجلا «1» . وانطلق شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا إلى بني عامر فشن عليهم الغارة وأصاب نعما وشاء «2» . وسار أبو عبيدة عامر بن الجراح في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار مستهدفين قبائل جهينة.. وكان الطريق طويلا، فنفد ما معهم من قوت، وراح الجوع يعتصرهم، وقال رجل منهم: كان أبو عبيدة يقبض لنا قبضة من التمر، ثم تمرة تمرة، فنمصها ونشرب عليها الماء إلى الليل حتى نفد ما في الجراب فكنا نجني الخبط، إذ جعنا جوعا شديدا، وما لبث البحر أن ألقى إلينا حوتا ميتا فأكلنا منه حتى شبعنا «3» . وسرايا أخرى قادها مسلمون آخرون، انطلقت إلى أهدافها بشجاعة، وعادت وقد لقنت الأعراب ودعاة الفتنة دروسا لن ينسوها «4» . ولم يقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند حد اعتماد الهدنة مع قريش لتأديب الأعراب، بل نشط منذ أواخر السنة السادسة، وحتى فتح مكة، في توجيه دعاته وسفرائه إلى كبار أمراء العرب الوثنيين وزعمائهم ومشايخهم يدعوهم إلى الإسلام، في نفس الفترة التي كان قد وجّه فيها سفراءه ومبعوثيه إلى أباطرة العالم وملوكه يعرض عليهم الدعوة التي بعث بها إلى الناس جميعا.. أرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي، أمير البحرين والمناطق الشمالية المطلة على الخليج العربي، وكتب إليه كتابا جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسول الله إلى المنذر بن ساوى. سلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإن كتابك جاءني ورسلك، وإن من صلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا فإنه مسلم، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ومن أبى فعليه الجزية» . فأسلم المنذر ومعه الكثيرون من   (1) الطبري 3/ 27- 28 ابن سعد 2/ 1/ 89- 91 الواقدي 2/ 750- 752. (2) الطبري 3/ 29 ابن سعد 2/ 1/ 91- 92 الواقدي 2/ 753- 755. (3) الطبري 3/ 32- 33 ابن سعد 2/ 1/ 95 الواقدي 2/ 774- 777. (4) انظر: الطبري 3/ 34- 36 وابن سعد 2/ 1/ 91- 96 والواقدي 2/ 741، 752- 753، 777- 780. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 رعاياه، أما الذين بقوا على مجوسيتهم فصالحهم الرسول صلى الله عليه وسلم على الجزية، على ألا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. وبقي العلاء هناك أميرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحرين «1» . وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجلندي الأزديين بعمان، فصدقا النبي وأقرا ما جاء به، فعرض الزكاة على أموال مسلميهم والجزية على من بقي على مجوسيته من أتباعهم «2» . وبعث سليط بن عمرو إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن علي الحنفيين ملكي اليمامة، ويبدو أن ذهاب وفد بني حنيفة في السنة التالية المسماة بعام الوفود كان استجابة من زعماء هذه القبيلة الكبيرة لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتد مسيلمة هناك «3» . وخرج عمرو بن كعب الغفاري يصحبه خمسة عشر رجلا إلى ذات أطلاح على حدود الشام، فوجدوا جمعا كثيرا، فدعوهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا، وانقضوا على أصحاب عمرو فأبادوهم جميعا، وتحامل عمرو حتى بلغ المدينة «4» فيما يذكر بمأساتي الرجيع وبئر معونة، ويبين لنا كم كانت الدعوة إلى الإسلام تعطي من تضحيات قبل أن تتمكن من تثبيت أقدامها في قلب الصحراء. وإلى زعماء اليمن ومشايخها وبقايا ملوك حمير بعث الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ ابن جبل ومالك بن مرارة يحملان إليهم وإلى أهل اليمن دعوة الإسلام، فأسلم الكثيرون منهم «5» . كما كتب صلى الله عليه وسلم إلى أمراء كندة وحضرموت رسائل مطولة يشرح لهم فيها تعاليم الإسلام وشرائعه. ويسرد ابن سعد أسماء عدد كبير من الزعماء العرب في الجنوب والشمال ممن تلقوا نداء الإسلام من الرسول صلى الله عليه وسلم فاستجاب له كثير منهم، وبقي الآخرون على شركهم. ومن بين هؤلاء الذين راسلهم الرسول على سبيل المثال: خالد بن ضماد الأزدي، ونعيم بن أوس أخي تميم الداري، والحصين بن أوس الأسلمي، وبنو قرة   (1) الطبري 3/ 29، 137 ابن هشام ص 375 ابن سعد 1/ 2/ 19 البلاذري: فتوح 1/ 95- 99 وعن نصوص الكتب المتبادلة بين الرسول وأمير البحرين انظر حميد الله: الوثائق ص 144- 153. (2) الطبري 3/ 29 ابن هشام ص 375 ابن سعد 1/ 2/ 18 البلاذري: فتوح 1/ 92. (3) ابن هشام ص 375 الطبري 2/ 644- 645 ابن سعد 1/ 2/ 18. (4) الطبري 3/ 29. (5) ابن سعد 1/ 2/ 20- 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ابن عبد الله، وبنو الضباب بن الحارث بن كعب، ويزيد بن الطفيل الحارثي، وبنو قنان بن ثعلبة من بني الحارث، وعبد يغوث بن وعلة الحارثي، وبنو زياد بن الحارث، ويزيد بن المحجل الحارثي، وبنو فهد حلفاء بني الحارث، وعاصم بن الحارث، وبنو جرول الطائيين، وعامر ابن أسود الطائي وقومه طيىء، وبنو جوين الطائيين، وبنو معن الطائيين، وجنادة الأزدي وقومه، وقبيلتا سعد وهذيم القضاعية وجذام وبنو زرعة، وبنو الربعة ابن جهينة، وبنو جعيل بن بلى، وأسلم بن خزاعة، وعوسجة بن حرملة الجهني، وبنو شفخ والجرمز بن ربيعة والحرقة وعمرو بن معيد الجهنيين، وبلال بن الحارث المزني، وبنو عمرو، والعدّاء بن خالد بن عامر، ومسيلمة الكذاب الذي ردّ على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نبي مثله، وسأله أن يقاسمه الأرض، وأن قريشا قوم لا يعدلون، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغني كتابك الكذب والافتراء على الله، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين..» . كما كتب الرسول صلى الله عليه وسلم لسلمة بن مالك من بني حارثة والعباس بن مرداس وهوذة بن نبيشة والأجبّ وراشد بن عبد الله وحرام بن عبد عوف السلميين، وجميل ابن رزام العدوي، وحصين بن فضلة الأسدي، وبني ضمرة بن بكر بن كنانة، والهلال أحد زعماء البحرين، وأسيبخت بن عبد الله صاحب هجر الذي جاء في كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إليه: « ... إنه قد جاءني الأقرع بكتابك وشفاعتك لقومك، وإني قد شفعتك وصدقت رسولك في قومك، فأبشر فيما سألتني وطلبتني بالذي تحب.. فإن تجئنا أكرمك وأن تقعد أكرمك أما بعد فإني لا أستهدي أحدا، وإن تهد إليّ أقبل هديتك وقد حمد عمالي مكانك، وأوصيك بأحسن الذي أنت عليه من الصلاة والزكاة وقرابة المؤمنين، وإني قد سميت قومك بني عبد الله، فمرهم بالصلاة وبأحسن العمل، وأبشر والسلام عليك وعلى قومك المؤمنين» . وإلى جماعة من العبيد وقطاع الطريق في جبل تهامة كتب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن استقبل وفدا منهم: «هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء، إنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فعبدهم حرّ ومولاهم محمد. ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من أدم أصابوه أو مال أخذوه فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 لهم، وما كان لهم من دين في الناس ردّ إليهم ولا ظلم عليهم ولا عدوان..» . كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني زهير بن أقيش وأبي ظبيان الأزدي وحبيب ابن عمر الأجيئي وسمعان بن عمرو الكلابي وبكر بن وائل والسعير بن عداء وبني عبد القيس، ونفاثة بن فروة الدئلي ملك السماوة، وبني عذرة ومطرف بن الكاهن الباهلي ونهشل بن مالك الوائلي وسعيد بن سفيان الرعلي ومسلمة بن مالك السلمي، وبني جناب، ومهري بن الأبيض أمير مهرة، وبني خثعم، وقبائل ثمالة والحدان في صحار، ووائل بن حجر قيل حضرموت «1» . وفي ذي القعدة من السنة التالية (7 هـ) حان موعد دخول المسلمين مكة فيما أسمته الروايات (عمرة القضاء) تنفيذا لشروط الحديبية. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر كل الذين شهدوا الحديبية بأن يتجهوا للعمرة، وأمر بحمل السلاح حذرا وحيطة. فلما علمت قريش ذلك أصابها الخوف، وأرسلت إليه رجلا لقيه بمرّ الظهران وأعرب له عن مخاوف قريش فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم «ما عرفت صغيرا ولا كبيرا إلا بالوفاء، وما أريد إدخال السلاح عليهم، ولكن يكون قريبا إليّ» . فعاد المبعوث لكي يطمئن قريشا أن المسلمين لا ينوون دخول مكة مسلّحين، وأنهم سيبقون السلاح بعيدا عنها «2» . وما إن اقترب المسلمون من مكة حتى انسحبت قريش صوب المرتفعات المحيطة خوفا من حدوث احتكاك بين الطرفين، إلا أنها عبرت عن غيظها بإشاعة بثتها بين الناس مفادها أن محمدا وأصحابه يعانون شدة وعسرة وجهدا، فاصطف بعضهم عند دار الندوة لينظروا إلى الرسول وإلى أصحابه، فلم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يجابه الشائعات بالأفعال، فشد رداءه وأخرج عضده اليمنى وقال: أرملوا بالبيت ليرى المشركون قوتكم، ثم استلم الركن وأخذ يهرول وأصحابه معه، حتى إذا واراهم البيت عن أعين القرشيين عادوا صوب الكعبة، فاعلين ذلك ثلاثا، ثم   (1) انظر بالتفصيل ابن سعد 1/ 2/ 18- 38 وعن نصوص الرسائل المتبادلة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أمراء العرب وملوكهم وزعمائهم انظر: حميد الله: الوثائق ص 144، 153، 156، 163، 218، 219، 226، 230، 233، 234، 236، 237، 238، 241، 244، 332. (2) الطبري 3/ 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 أمر بلالا أن يصعد إلى ظهر الكعبة فيؤذن هناك. وبعد ثلاثة أيام من إقامة المسلمين في مكة وأداء مراسيم العمرة، بعثت قريش إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من يقول له: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقفل الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه عائدا إلى المدينة، وصدقت رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم وكلمات الله: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً «1» !! كان لعمرة القضاء- وأحداث الحديبية من قبلها- أثرها الخطير في مكة نفسها، فإن أهلها رأوا من تضامن المسلمين وتعاونهم وتعاطفهم، وحسن نظامهم والتفاهم بينهم، واقتدائهم بنبيهم، ما جعلهم يدركون أن مثل هذه الجماعة لا يمكن الوقوف في وجهها وليس من أمل في التغلب عليها، حتى لقد كانت عمرة القضاء قضاء تاما على روح العناد والمقاومة في قريش، وحتى لقد أدرك عقلاؤها أن من الخير الانضمام إلى محمد، يتمثل ذلك في إسلام خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص وعثمان بن طلحة، حارس الكعبة. وبإسلام هؤلاء الثلاثة أسلم عدد كبير من أهل مكة وأصبحت مكة في حكم البلد الذي فتح أبوابه للدعوة الإسلامية، ولم يبق إلا أن تفتح أبوابها وتسلم القياد للمسلمين «2» ، ومن ثم يمكن اعتبار فتح مكة قد تم للمسلمين من يوم عمرة القضاء لأن هذه العمرة أثرت على معنويات قريش أعظم التأثير. إن عمرة القضاء فتحت قلوب قريش، وغزوة الفتح فتحت أبوابها «3» !!   (1) سورة الفتح، الآية: 27، ابن هشام ص 268- 270 الطبري 3/ 23- 25 ابن سعد 2/ 1/ 87- 89 الواقدي 2/ 731- 741 البلاذري: أنساب 1/ 353 المسعودي: التنبيه 228 ابن حزم: جوامع ص 219- 220 ابن الأثير: الكامل 2/ 227- 228 ابن كثير: البداية 4/ 226- 232. (2) الشريف: مكة والمدينة ص 468- 469. (3) شيت خطاب: الرسول القائد ص 238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 فتح مكة بدأت قريش تزداد يقينا، يوما بعد يوم، بأن شروط صلح الحديبية لم تكن في صالحها، وأنها إذا ما ظلت ملتزمة بها فسوف تجد نفسها في يوم قريب أو بعيد وحيدة عزلاء وسط بحر إسلامي تضرب أمواجه حدود أمبراطوريتي العالم القديم وتكتسح مواقع الوثنية البائدة. وحتى الشرط الذي ظنته لصالحها وظنه المسلمون إذلالا لهم، ذلك الذي يعطي قريشا الحق في استرداد من يلحق بالمسلمين ويحجب هذا الحق عن المسلمين، حتى هذا الشرط أخذ يلحق بمشركي مكة متاعب صارت تزداد مع الأيام. فالمضطهدون الهاربون من قبضة قريش كانوا يجدون أنفسهم ملزمين بعدم الالتحاق بإخوانهم ودولتهم الجديدة في المدينة وإلا ردوا إلى مضطهداهم تنفيذا للعهد، فكانوا يلجؤون إلى جبال تهامة المطلّة على طريق القوافل المكية إلى الشام، ويقومون من هناك بحروب عصابات ضد القوافل القرشية الذاهبة والآتية من الشام، فيقتلون حراسها وأصحابها ويغنمون أموالها، وكان يقودهم في نشاطهم هذا فدائي مسلم يدعى (أبا بصير) كان قد فرّ من مضطهديه في مكة إلى المدينة إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رده بصحبة اثنين من حراس مكة جاآ لكي يعيداه إلى سادته فقتل أحدهما واضطر الآخر إلى الفرار، ثم انطلق صوب جبال تهامة لكي يبدأ من هناك حربه ضد قريش، وأخذ يلتحق به كل هارب من جحيم الوثنية «1» . وما لبثت قريش أن وجدت نفسها مسوقة إلى أن تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم إلغاء هذ الشرط فأجابها إلى ما أرادت، ولكن الأيام مضت وقريش تزداد عزلة وتوترا   (1) انظر: الطبري 2/ 638- 639 الواقدي 2/ 624- 629 المقريزي: إمتاع الأسماع 3/ 304- 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وتجارتها بوارا وكسادا، والمسلمون يزدادون نشاطا ودأبا، ومن ثم راح زعماء مكة ينتظرون الفرصة لضرب المعاهدة وإبطال شروطها جميعا لأن ثماني سنوات أخرى من الصلح ستؤدي حتما إلى اختناق قريش، وما لبثت الأحداث أن مكنتها من تحقيق هدفها، إلا أنه لم تكن تدري آنذاك أنها تسعى إلى حفر قبرها بيدها وأنها تضع بيد الرسول صلى الله عليه وسلم المعول الذي سيهدم به آلهتها وأصنامها، وسيهيل التراب على قيمها الخاطئة وتقاليدها الظالمة وعقائدها الوثنية إلى الأبد. ذلك أن بني بكر حليفة قريش، اعتدت في شعبان من السنة الثامنة على خزاعة حليفة الرسول صلى الله عليه وسلم وداهمتها في ديارها فقتلت أحد رجالها، ففزعت خزاعة تدافع عن نفسها، واتسع نطاق القتال وراحت قريش ترفد حليفتها بالسلاح وبالرجال يقاتلون تحت جناح الليل حتى ألجأوا خزاعة إلى الحرم وقتلوا منها ثلاثة وعشرين رجلا، فنادت بنو بكر بزعيمها نوفل بن معاوية: إنّا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك فأجاب نوفل: لا إله اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ ورأت خزاعة أن قريشا قد نقضت عهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم إذ أسهمت في قتالها وهي حليفة المسلمين فبعثت عمرو ابن سالم الخزاعي في أربعين راكبا يعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم تفاصيل العدوان ويستنجده على الغادرين، وأعقبه بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة يؤكد ما ذهب إليه عمرو، ولم يزد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن قال لمن حوله: (كأنكم بأبي سفيان قد جاء يشد العقد ويزيد المدة) ، وكأنه صلى الله عليه وسلم اعتزم أمرا لم يشأ أن يكشفه لرسل خزاعة أو لأصحابه حرصا على السرية والكتمان، ولقد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ما لبثت قريش أن أدركت خطأها وأنها ليست بقادرة اليوم على مجابهة غضبة المسلمين وقد ازدادوا قوة وعددا فرأت أن تبعث زعيمها أبا سفيان إلى المدينة على جناح السرعة علّه يعيد الأمور إلى مجاريها ويجدّد مع المسلمين بنود معاهدة كان هو ورفاقه قد قتلوها «1» . التقى أبو سفيان بالرسول صلى الله عليه وسلم وكلمه في الأمر فلم يردّ عليه، فذهب إلى أبي بكر فتوسط لديه أن يكلم له الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل، فأتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال عمر: أنا أشفع لكم عند رسول الله؟ فو الله لو لم أجد إلا الذرّ (الغبار) لجاهدتكم به. فجاء إلى علي وقال: يا علي إنك أمسّ القوم   (1) ابن هشام ص 276- 279 الطبري 3/ 43- 45 ابن سعد 2/ 1/ 96- 97 الواقدي 3/ 781- 786، 788- 789 البلاذري: فتوح 1/ 42 أنساب 1/ 353- 354. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 بي رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعنّ كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه علي: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. ولم يكن هذا الأمر سوى الإعداد الحاسم لاستئصال رأس الوثنية واكتساحها. وعاد أبو سفيان خائبا لكي يخبر قريشا بفشل مسعاه «1» . حرص الرسول صلى الله عليه وسلم خلال التجهز على كتمان الأمر حتى عن أقرب أصحابه إليه من أجل أن يفاجىء مكة بهجومه الحاسم فلا تستطيع مقاومة ودفاعا فتذعن للأمر وتحقن الدماء، حتى أن زوجته عائشة عندما سألها أبوها أين ترينه يريد؟ أجابت: لا والله ما أدري! وما أن تمّ الإعداد والتجهز حتى انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه صوب مكة وأمرهم بالجد والهيؤ. وقد روى الواقدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة «ولا يعلم أحد وجهته وقائل يقول يريد قريشا وقائل يقول هوازن وآخر يقول يريد ثقيفا ... ولم يعقد الألوية ولم ينشر الرايات حتى بلغ (كديد) » . وعندما سأله أحد أصحابه في الطريق: يا رسول الله والله ما أرى آلة الحرب ولا تهيئة الإحرام، فأين تتوجه يا رسول الله؟ أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم حيث شاء الله «2» . وفي مكان آخر يقول الواقدي إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بالأنقاب (أي سد طرق المدينة) وعمى عليهم الأخبار فكان عمر بن الخطاب يطوف على الأنقاب قيّما بهم فيقول: لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ به ويسأل عنه «3» . وعندما ألح عليه أبو بكر بسؤاله: أين تريد يا رسول الله؟ أجابه الرسول: قريشا واخف ذلك يا أبا بكر «4» . ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم (اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها) . واستجاب الله لدعاء رسوله وأعلمه وحيه الأمين أن محاولة لأخبار قريش بتحرك الرسول صلى الله عليه وسلم قام بها أحد المسلمين (حاطب بن أبي بلتعة) حيث كتب إلى قريش بهدف الرسول صلى الله عليه وسلم كتابا حمّله امرأة أخفته في طيات شعرها وانطلقت صوب مكة، فأدركها علي   (1) ابن هشام ص 279- 280 الطبري 3/ 46- 47 ابن سعد 2/ 1/ 97 الواقدي 2/ 792- 795 البلاذري: فتوح 1/ 42. (2) الطبري 3/ 51- 52 الواقدي 2/ 796- 797. (3) مغازي 2/ 787- 796. (4) مغازي 2/ 792. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 والزبير في منتصف الطريق وأخذا الكتاب منها وقفلا عائدين ليسلماه إلى الرسول. فدعا الرسول حاطبا وسأله: ما حملك على هذا؟ فأجاب: أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيّرت ولا بدّلت، ولكني كنت أمرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه. فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق. فقال الرسول: وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع إلى أصحاب بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ إن ماضي حاطب في الجهاد في سبيل الدعوة وإسهامه مع رفاقه في مقاومة الوثنية في أوج عنفوانها يحجب عنه الآن الزلة الكبيرة التي ساقته قدماه إليها، والماضي الكبير يحجب الخطأ الكبير ما دام الإيمان لم ينقلب بعد إلى كفر صريح ... ونزلت كلمات الله لكي تحدد للمسلمين، انطلاقا من هذه المناسبة العابرة، موقفا دائما عليهم ألاينحرفوا عنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ... «1» . انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم في العاشر من رمضان مستخلفا على المدينة أبا رهم الغفاري ومستنفرا كل قادر على القتال من المسلمين، وعندما بلغ مر الظهران عسكر هناك في عشرة آلاف من المسلمين من بني سليم وبني غفار وبني مزينة وتميم وقيس وأسد التي دعاها لموافاته في المدينة، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار أحد. ولم تكن قريش، وقد عميت الأخبار عنها، تعرف حتى ذلك الحين شيئا عما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم هل يريد قريشا أم هوازن أم ثقيف «2» ؟ ويذكر الواقدي أن المسلمين عسكروا بمر الظهران ولم يبلغ قريشا حرف واحد من مسير رسول الله إليهم، فقد اغتموا وهم يخافون أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . وكان العباس عم الرسول قد التحق بمعسكر المسلمين وجعل هدفه أن تقتنع قريش بعدم جدوى المقاومة وأن يجيء زعماؤها فيستأمنوا الرسول قبل وقوع المحذور، فخرج يبحث عن رجل يذهب إلى مكة ليخبر أهلها بمكان معسكر المسلمين لكي يجيئوا فيعتذروا ويستأمنوا، وإذا به يسمع عن قرب أبا سفيان وهو يقول لبديل بن   (1) سورة الممتحنة، الآية: 1. ابن هشام ص 281- 282 الطبري 3/ 47- 49 ابن سعد 2/ 1/ 97 الواقدي 2/ 796- 799 البلاذري: أنساب 1/ 354 اليعقوبي: تاريخ 2/ 47- 48. (2) انظر: الطبري 3/ 55. (3) مغازي 2/ 814. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ورقاء وقد خرجا فيمن خرج من زعماء قريش يتحسسان الأخبار: ما رأيت نيرانا قط ولا عسكرا بهذا الشكل، فيجيبه بديل: هذه والله خزاعة قد حمشتها «أحرقتها» الحرب، فيرد أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها! فتقدم العباس إليهما وأعلمهما حقيقة الخبر وأردف أبا سفيان وراءه في محاولة لاستئمان الرسول صلى الله عليه وسلم إياه، أما صاحبه فقد قفل عائدا، ولمحهما عمر بن الخطاب وهما يجتازان معسكرات المسلمين فانطلق إلى الرسول قائلا: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه، إلا أن العباس سرعان ما أعلن جواره له. ولما رأى عمر يلح على قتله قال له: مهلا يا عمر فو الله إن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف. فأجابه عمر: مهلا يا عباس فلإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم! وأصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره إلى عمه أن يذهب بأبي سفيان إلى رحله فإذا أصبح أتاه به، وفي الصباح جيء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد!! استمر الرسول: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي.. أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. عند ذاك أعلن أبو سفيان إسلامه. وأراد الرسول أن يتخذ منه مفتاح أمان يفتح أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة الدماء ويكبت به روح المقاومة الوثنية المتعطشة للقتل والدماء، فأراد أن يشبع فيه عاطفة الفخر ويحقق هدفه عن هذا الطريق، فأعلن أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن. وبذلك سعى الرسول إلى تنفيذ أسلوب (منع التجول) لكي يتمكن من دخول مكة بأقل قدر من الاشتباكات والاستفزازات وإراقة الدماء. وجعل لدار أبي سفيان مكانة خاصة كي يكون ساعده في إقناع المكيين بالسلم والهدء. ولم يكتف الرسول بذلك بل أمر العباس أن يحجز أبا سفيان عند مدخل المضيق الذي ستنساب منه قوات المسلمين في طريقها إلى مكة فيراها رأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 العين فيزداد يقينا بألا قدرة للمكيين على المقاومة «1» . ووقف العباس وأبو سفيان حيثما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم وراحت قبائل المسلمين تمرّ حاملة راياتها الخاصة واحدة تلو الآخرى، وكلما مرت قبيلة كبّرت ثلاثا فسأل أبو سفيان: يا عباس من هذه؟ فيقول سليم، فيقول: ما لي ولسليم! ثم تمر القبيلة الآخرى فيسأل: يا عباس من هؤلاء؟ فيجيبه مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى إذا استعرضت القبائل كلها مرّ رسول الله في كتيبته (الخضراء) التي تضم ألف دارع من المهاجرين والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق خلل الحديد، فسأل أبو سفيان: سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟ فأجابه: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار. فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. فطلب منه العباس أن يسرع إلى قومه يعلمهم بما رأى وسمع «2» . دخل أبو سفيان مكة وراح يصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فانبرت له امرأته تقبح رأيه، وقام القوم مستنكرين قائلين: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ فاستأنف أبو سفيان: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، وأدركت الأغلبية العظمى من المكيين ألاجدوى في مخالفة زعيمها أبي سفيان وهو يدعوهم إلى الأمان قبل أن تكتسحها سيوف المسلمين، فتفرقت إلى دورها وإلى المسجد الحرام وأغلقت من دونها الأبواب «3» . وزع الرسول صلى الله عليه وسلم قواده لكي يدخلوا كل من الجبهة التي حددت له: سعد ابن عبادة وابنه يدخلان بقواتهما مكة من الجهة الشرقية، أبو عبيدة عامر بن الجراح يتقدم بقواته بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليدخل مكة من جهتها الغربية، الزبير بن العوام يقود خيل المهاجرين والأنصار إلى أعلى مكة حيث الحجون لكي يغرز راية المسلمين هناك، وخالد بن الوليد يدخل مكة من الجنوب حيث تجمع مقاتلو قريش وحلفاؤهم وأحابيشهم لمنع القوات الإسلامية من اجتياز مكة.   (1) ابن هشام ص 282- 286 الطبري 3/ 49- 54 ابن سعد 2/ 1/ 97- 98 الواقدي 2/ 799- 801، 814- 818 البخاري: تجريد 2/ 90 البلاذري: أنساب 1/ 355 اليعقوبي: تاريخ 2/ 48. (2) ابن هشام ص 286- 287 الطبري 3/ 54 الواقدي 2/ 818- 822 البخاري: تجريد 2/ 90. (3) ابن هشام ص 287 الطبري 3/ 54 الواقدي 2/ 822- 823. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قواده ألّا يقاتلوا إلا اضطرارا، وسمى نفرا من مكة أمر بقتلهم حتى ولو تعلقوا بأستار الكعبة بسبب مواقف كانوا قد اتخذوها ارتدادا عن الإسلام، أو قتلا لمسلمين، أو إيذاء لدعاتهم في مكة أو هجاء قبيحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بلغ عددهم ثمانية بين رجل وامرأة قتل بعضهم وفر البعض الآخر واستأمنت فئة ثالثة فأمنها الرسول صلى الله عليه وسلم وعفا عنها. وقد دخلت قوات المسلمين مكة من جهاتها الأربع بسهولة بالغة، بعد أن هزم خالد القوات القرشية التي اعترضت مسيرته في الجنوب وقتل وجرح منهم ثلاثة عشر رجلا «1» ، ولم يفقد من رجاله سوى اثنين كانا قد شذا عن الطريق التي سلكها «2» . وما أن تمت سيطرة المسلمين على مكة في العشر الأواخر من رمضان واستقر أمرهم فيها حتى خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من خيمته التي ضربت له بالحجون حيث رفض النزول في بيوت مكة طيلة مكوثه هناك «3» . خرج على راحلته فطاف بالبيت سبعا وتكبيرات المسلمين من ورائه تشق عنان الفضاء، ثم دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها وكسر أوثانها بيده وطرحها أرضا ومحا صور الملائكة والأنبياء، وعندما رأى إبراهيم عليه السلام مصورا في يده الأزلام يستقسم بها قال: قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ما شأن إبراهيم والأزلام ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «4» . ثم أمر بتلك الصور فطمست وخرج إلى الأصنام المصفوفة حول البيت والمشدودة بالرصاص فراح يعمل بها تحطيما ويقول وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «5» . وأرسل خالد بن الوليد إلى بطن نخلة ليهدم العزى كبير آلهة المنطقة، فانطلق خالد إلى هدفه فكسر الصنم وهدم بيته وسادنه يصرخ:   (1) وقيل ثمان وعشرين: الواقدي 2/ 825- 826، البلاذري: فتوح 1/ 44. (2) ابن هشام ص 289- 291 الطبري 2/ 56- 60، 63- 64 ابن سعد 2/ 1/ 98 الواقدي 2/ 823- 828 البلاذري: فتوح 1/ 44- 45 أنساب 1/ 355- 361 البخاري تجريد 2/ 90. (3) الواقدي 2/ 829. (4) سورة آل عمران، الآية: 67. (5) سورة الإسراء، الآية: 81. ابن هشام ص 291- 294 ابن سعد 2/ 1/ 98- 99 الواقدي 2/ 831- 832، 834، البلاذري: فتوح 1/ 46 البخاري: تجريد 2/ 90- 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أعزى اغضبي بعض غضباتك، دونما جدوى «1» . وانطلق عمرو بن العاص لهدم سواع، وكان حجرا، وجرى بينه وبين السادن هذا الحوار: السادن: ما تريد؟ عمرو: هدم سواع. السادن: لا تطيق هدمه. عمرو: أنت في الباطل بعد. وهدم الوثن فلم يجد في خزانته شيئا. وفي الوقت نفسه كان سعد بن زيد الأنصاري يهدم مناة، الإله الذي كانت الأوس والخزرج تعبده وتطوف به أيام الجاهلية «2» . ومن مكة أيضا بث الرسول صلى الله عليه وسلم سراياه في الجهات المحيطة تدعو إلى الإسلام وهي تحمل أمرا بعدم القتال، مستهدفا بذلك تعزيز انتصاره على الزعامة الوثنية ومدّ الدعوة إلى مناطق كانت قريش قد جعلتها حكرا على آلهتها وأصنامها «3» . وقف الرسول صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة وقد تجمع الناس في المسجد فخاطبهم قائلا: (لا إله إلا الله وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «4» . (يا معشر قريش ما ترون إني فاعل بكم؟ أجابوه بصوت واحد: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم! قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) . كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستهدف من حرصه على السلم تأليف القلوب وتوحيد كلمتها لتقبل على الإسلام، فلم يكن من السهل على قريش أن تقبل بمصيرها الذي آلت إليه وهي سيدة العرب دون منازع لأنها أعظمهم حضارة وأشدهم بأسا وأكثرهم مالا وفي بلدها البيت الحرام، ليس من السهل أن تقبل قريش بمصيرها   (1) الواقدي 2/ 870 الطبري 3/ 65 ابن سعد 2/ 1/ 105 خليفة بن خياط 1/ 51. (2) الطبري 3/ 66 الواقدي 2/ 870 ابن سعد 2/ 1/ 105- 106. (3) الطبري 3/ 66 ابن سعد 2/ 1/ 106- 108 الواقدي 3/ 875- 884 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 51. (4) سورة الحجرات: الآية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 هذا وتقبل على الإسلام طائعة وتحمل رايات الجهاد لو لم تعامل هذه المعاملة السلمية التي لم تكن تتوقعها، وبذلك انقلب موقفها من أشد الناس عداوة للإسلام إلى أحرص الناس على رفع راية الإسلام «1» . جلس الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده وقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فلما جيء به، قال له: هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم برّ ووفاء «2» . وأمر مؤذنه بلالا أن يصعد فيؤذن في الناس معلنا بشهادته انتهاء عهد الوثنية في مكة، قلب الوثنية، وبداية عهد جديد لا يعبد فيه غير الله، وفق التعاليم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: العبادة التي تحرر الإنسان وتباركه وتزكيه وتقوده إلى الفلاح الواحد في الدنيا والآخرة وترفع رأسه فلا يعود ينخفض مرة أخرى لقوة في الأرض بشرا كانت أم حجارة صماء «3» . وفي يوم الفتح هذا يقول الغزالي: «ترجع بنا الذكريات إلى رجال لم يشهدوا هذا النصر المبين، ولم يسمعوا صوت بلال يرن فوق ظهر الكعبة بشعار التوحيد، ولم يروا الأصنام مكبوبة على وجوهها.. إنهم قتلوا أو ماتوا إبان المعركة الطويلة التي نشبت بين الإيمان والكفر، ولكن النصر الذي يجني الأحياء ثماره اليوم لهم فيه نصيب كبير وجزاؤهم عليه مكفول عند من لا يظلم مثقال ذرة. إنه ليس من الضروري أن يشهد كل جندي النتائج الأخيرة للكفاح بين الحق والباطل، فقد يخترمه الأجل في المراحل الأولى وقد يصرع في هزيمة عارضة كما وقع لسيد الشهداء حمزة ومن معه. والقرآن الكريم ينبه أصحاب الحق إلى أن المعوّل في الحساب الكامل على الدار الآخرة لا على الدار الدنيا فهناك الجزاء الأوفى للمؤمنين والكافرين جميعا فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ «4» .   (1) شيت خطاب: الرسول القائد ص 239- 240. (2) ابن هشام ص 292- 293 الطبري 3/ 60- 61 ابن سعد 2/ 1/ 99 الواقدي 2/ 833- 838 البلاذري: فتوح 1/ 47- 48 أنساب 1/ 355- 356. وانظر عن نص خطبة الرسول في أعقاب فتح مكة: حميد الله: الوثائق ص 90- 91. (3) عن الآيات المتعلقة بفتح مكة انظر سورة التوبة: الآيات 8- 16، 23- 24، سورة الممتحنة: الآيات 1- 3. (4) سورة غافر، الآية: 77. فقه السيرة ص 418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ولّد سقوط مكة قاعدة الوثنية رد فعل عنيف لدى القبائل العربية في الشمال وعلى رأسها هوازن وثقيف، ورأت أن تتحرك لتوجيه ضربة قاصمة للقوات الإسلامية قبل أن يستفحل الخطر وتجد هذه القبائل نفسها محاطة من كل مكان. إذ أن السكوت إزاء ما يحققه المسلمون من انتصارات، يعني فتح الطريق أمامهم لتغطية الجزيرة كلها بدينهم الجديد، واكتساح مواقع الوثنية واحدة واحدة، سيما وأن (أم القرى) قد ألقت السلاح دونما قتال أو مقاومة، هذا إلى أن هذه القبائل كانت- لدى سماعها بمغادرة الرسول المدينة على رأس قواته- قد تجمعت خوفا من أن يغزوها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال زعماؤها بعد فتح مكة: «قد فرغ لنا، فلا ناهية له دوننا، والرأي أن نغزوه» . وتولت هوازن كبر المحاولة حيث جمعها زعيمها مالك بن عوف النصري وانضمت إليها ثقيف كلها، ولحق بهما بعد قليل قبائل نصر وجشم وسعد بن بكر وعدد من أبناء بني هلال وبني مالك، واتفق قادتهم على أن يسلموا بزعامة مالك ابن عوف، فرأى هذا أن يسير مع المقاتلين، نساؤهم وأطفالهم وأموالهم كي يستميتوا في القتال ... وعندما عسكر في أوطاس، أحد وديان هوازن، اعترض دريد بن الصمة الجشمي على رأي مالك في جلب النساء والأطفال والأموال، وسأله لم ذاك؟ فأجاب مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال دريد وهو شيخ كبير مجرب: راعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. فرفض مالك الأخذ برأيه أنفة واستعلاء ونادى قومه: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد «1» . عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأ هذا التحرك الوثني بعث أحد أصحابه مستخبرا، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم. فتسلل الرجل إلى مواقع العدو وعاد ليخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما أجمع عليه هؤلاء من قتال المسلمين. فانطلق الرسول صلى الله عليه وسلم في مطلع شوال على رأس اثني عشر ألف مقاتل كان من ضمنهم ألفان من المكيين أسلموا بعد الفتح. وسرعان ما وجد المسلمون أنفسهم مضطرين إلى اجتياز واد من أودية تهامة، شديد الانحدار يدعى حنينا، في   (1) ابن هشام ص 297- 299 الطبري 3/ 70- 72 الواقدي 3/ 885- 889. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 طريقهم لمجابهة التجمع الوثني، ولم يكن الصبح قد اتضح بعد، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الوادي فكمنوا لهم في شعابه ومضايقه، وتهيؤوا للانقضاض على المسلمين في جو يسوده المطر والضباب. وما أن دخلت قوات المسلمين الوادي حتى انقض عليهم أعداؤهم دفعة واحدة، من حيث لم يكونوا يتوقعون، فأصابهم الفزع والاضطراب وكرّوا راجعين لا يلوي أحد على أحد «1» !! انحاز الرسول صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ونادى: (أيها الناس هلموا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله) ، ثم تقدم بحربته أمام المقاتلين، وكان يقف إلى جانبه صامدا عشرات من المهاجرين والأنصار فيهم علي وأبو بكر وأسامة وعمر ... وقال للعباس ذي الصوت الجهوري «يا عباس اصرخ: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة» وسرعان ما انطلقت النداآت من بعيد (لبيك لبيك) ، وكان الرجل منهم إذا ما أراد ثني بعيره والانطلاق ثانية إلى قلب المعركة، لا يقدر على ذلك، لشدة التدافع والزحام وضغط المتراجعين، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويحمل سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره مخليا سبيلها، ومنطلقا صوب النداء. حتى إذا اجتمع إلى الرسول مائة من المقاتلين، استقبلوا العدو واقتتلوا معه قتالا مريرا وقال الرسول وقد رأى أصحابه يجتلدون مع المشركين: الآن حمي الوطيس. وتمكن علي ورجل من الأنصار من قتل حامل راية هوازن. وبدأت الكفة ترجح لصالح المسلمين، وما لبث المشركون أن أخذوا بالتراجع صوب الوراء وانقض عليهم المسلمون يعملون فيهم قتلا وأسرا ... وما أن عاد إلى الميدان أولئك الذين تراجعوا إلى الخلف من المسلمين، حتى وجدوا أسارى المشركين مكتفين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . تراجع المشركون بقيادة مالك بن عوف صوب الطائف، وعسكر بعضهم في أوطاس، وتوجهت فئة ثالثة نحو نخلة، ولم يتح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فرصة يستردون فيها قواهم ويعيدون تنظيم أنفسهم، فأرسل قوة من فرسان المسلمين لمطاردة أولئك الذين توجهوا نحو نخلة، وقوة ثانية بقيادة أبي عامر الأشعري كلفت بقتال المشركين في أوطاس، فأصابوه بسهم أودى بحياته، فأخذ الراية ابن عمه أبو   (1) ابن هشام ص 299- 301 الطبري 3/ 72- 74 ابن سعد 2/ 1/ 108 الواقدي 3/ 889- 897. (2) ابن هشام ص 301- 303 الطبري 3/ 74- 77 ابن سعد 2/ 1/ 109 الواقدي 3/ 897- 914 البلاذري: أنساب 1/ 365 اليعقوبي: تاريخ 2/ 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 موسى الأشعري وقاتلهم حتى فتح عليه وتمكن من هزيمتهم «1» . وبعد أن أمر الرسول بحبس سبايا معركة حنين وأموالها الكثيرة في مكان يدعى (الجعرانة) مجمّدا التصرف بها، انطلق صوب الطائف حيث اعتصم المنهزمون بحصونها المنيعة وأعدوا العدة للقتال، ونزل قريبا منها حيث عسكر هناك. وجرت مناوشات بين الطرفين ذهب ضحيتها نفر من المسلمين بنبال العدو، الأمر الذي دفع الرسول إلى إبعاد معسكره عن مدى النبال التي كانت تنطلق من حصون ثقيف. وظل يحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، قدمت خلالها وفود المناطق المجاورة معلنة إسلامها. واستمر القتال، عنيفا حينا ومتقطعا أحيانا، استعمل فيه المسلمون آلات الحصار لأول مرة كالمنجنيق والدبابة وقد تمكنت قوة من المسلمين من الزحف بدبابتهم إلى جدار الطائف وبدأوا بخرقه لولا أن أرسلت عليهم ثقيف قطعا من حديد محمية بالنار اضطرتهم إلى الانسحاب بعد أن سقط عدد منهم. وردا على المقاومة العنيفة التي أبداها المشركون، أمر الرسول بتقطيع كروم ثقيف المنتشرة في البساتين المجاورة لإرغامهم على التسليم، وتسلل إلى معسكر المسلمين من الطائف، آنذاك، نفر من عبيدها أعلنوا إسلامهم، فأعتقهم الرسول صلى الله عليه وسلم «2» . لم ير الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة للاستمرار في الحصار، وأدرك أن الطائف ستجد نفسها في يوم قريب أشبه بجزيرة منقطعة يحيط بها بحر طام من كل مكان، وستسعى إليه حينذاك طالبة الانتماء إلى الدين الجديد، رغبة وإيمانا لا حقدا وخوفا. وبدلا من أن تكون هذه المدينة ذات الطاقات البشرية المعروفة، على المسلمين في مستقبل الأيام، فإنها ستكون لهم. ولقد كانت رحلة تبوك الكبرى بعد ذلك بقليل مما يسوغ القول إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير خطرا من ترك الطائف إلى فرصة أخرى ورأى العودة والتعجيل برحلة تبوك «3» . لذلك كله لم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم   (1) ابن هشام ص 305 الطبري 33/ 78- 80 ابن سعد 2/ 1/ 109 الواقدي 3/ 915- 916 البلاذري: فتوح 1/ 65 أنساب 1/ 365 البخاري: تجريد 2/ 91- 92. (2) ابن هشام ص 307- 310 الطبري 3/ 83- 85 ابن سعد 2/ 1/ 114 الواقدي 3/ 923- 937 البلاذري: فتوح 1/ 65 أنساب 1/ 367 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 53. (3) دروزة: سيرة الرسول 2/ 369- 370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 أن يفتتحها عنوة، ولم يأمر بهجوم حاسم عليها، كما حدث في العام الماضي مع حصون خيبر على سبيل المثال، واكتفى بأن يدير القتال على أضيق نطاق، بحيث أن جميع من استشهد من أصحابه خلال الحصار لم يتجاوزوا اثني عشر رجلا «1» ، ومن ثم أمر أن يؤذن في الناس بالرحيل، فقفل المسلمون عائدين، بعد بضع وعشرين يوما من الحصار، إلى الجعرانة حيث جمعت السبايا والغنائم الكثيرة في أعقاب حنين: ستة آلاف رأس من السبي، وأربعة وعشرون ألف بعير، وأربعون ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية من الفضة. ولم يتسرع الرسول صلى الله عليه وسلم في توزيعها أملا في أن يعود قادة هوازن مسلمين فيرد عليهم سبيهم وأموالهم، ولكنهم لم يجيئوا إلا بعد انتظار طويل وزعت خلاله المغانم. وفي الجعرانة التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا منّ الله عليك. فسألهم الرسول: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم، فأجابوه: نساؤنا وأبناؤنا، فردهم إليهم عن طيب خاطر من المسلمين، وسألهم أن يخبروا زعيمهم مالك بن عوف الذي كان قد احتمى بالطائف أنه إن جاء مسلما ردّ عليه الرسول أهله وماله، فاستجاب مالك لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلل من الطائف حيث قدم عليه معلنا إسلامه، فرد عليه الرسول أهله وماله واستعمله على من أسلم من قومه والقبائل المجاورة. فأخذ مالك يداهم ثقيفا بمسلمي قومه، ويهاجم قطعانهم وقوافلهم حتى ضيق عليهم «2» . وبذلك حقق الرسول صلى الله عليه وسلم هدفين اثنين بسياسته المرنة هذه أولهما كسب قبيلة هوازن ذات الشوكة وحلفاءها إلى معسكر المسلمين، وثانيهما اتخاذها رأس حربة يضرب بها بقايا القوى الوثنية في المنطقة. بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مهمة توزيع الغنائم على جنده وأتباعه. وناداه الأعراب: يا رسول الله، أقسم علينا من الإبل والغنم، وازدحموا عليه حتى ألجؤوه إلى جذع شجرة اختطفت عنه رداءه فقال: ردّوا عليّ ردائي أيها الناس فو الله إن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعم لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا   (1) ابن هشام ص 310 الطبري 3/ 85 ابن سعد 2/ 1/ 114- 115 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 54- 55. (2) ابن هشام ص 311- 314 الطبري 3/ 86- 89 ابن سعد 2/ 1/ 110- 111 الواقدي 3/ 949- 956. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ولا جبانا ولا كذابا. ثم تقدم إلى بعير قريب منه فاستل منه وبرة جعلها بين إصبعيه ثم رفعها وقال: (أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة، إلا الخمس، والخمس مردود عليكم) !! ثم راح يوزع الغنائم، مختصا بقسمها الأكبر زعماء القبائل العربية التي أسلمت أخيرا من أجل أن يتألفهم وقومهم بها، فأعطى كل واحد منهم عشرات من الجمال. وعندما رأى الأنصار أن الغنائم قد حجبت عنهم، وانصبت بين أيدي قريش وقبائل المنطقة وجدوا في أنفسهم، وتناوشتهم الظنون، فراحوا يتهامسون بها، وقال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، ولم يشأ زعيمهم سعد بن عبادة إلا أن يصارح الرسول بما يدور بين أتباعه، فسأله الرسول: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ أجاب: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي، فقال له الرسول: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم في جموع الأنصار خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، والله ورسوله أمنّ وأفضل. قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فاويناك، وعائلا فاسيناك. أو؟؟ جدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) . فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا «1» . وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفرقوا وهم يعلمون يقينا البعد الحقيقي للدرس الذي منحهم إياه نبيهم ومعلمهم.   (1) ابن هشام ص 314- 318 الطبري 3/ 89- 94 ابن سعد 2/ 1/ 110- 111 الواقدي 3/ 943- 949، 956- 958 وانظر: البخاري: تجريد 2/ 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 إن هذه الكتلة النقية في تاريخ الحركة الإسلامية يجب أن تظل على نقائها تعطي ولا تأخذ، ولا تؤخر، لأن الذي قادها إلى الإيمان، ورفعها مجاهدة في طريقه اللاحب الطويل، شيء آخر غير اهتمامات الذهب والفضة.. إنه النور العميق الذي انقدح في أعماقهم يوم بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم.. وأما الكتل الجديدة في تاريخ الدعوة، فأسلوب التعامل معها، وكسبها، وكف أذاها، غير أسلوب التعامل مع كتلة كالأنصار آثر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبقى معها دوما: حيا وميتا (معاذ الله..- قال لهم الرسول- المحيا محياكم والممات مماتكم) !! قفل الرسول صلى الله عليه وسلم عائدا إلى مكة فأدى مناسك العمرة هناك في ذي القعدة وولى عتاب بن أسيد إمرة مكة، ومعاذ بن جبل تفقيه الناس في الدين وتعليمهم القرآن، ومنح عتابا راتبا يوميا مقداره درهم واحد!! وقد قام الأمير الشاب يوما خطيبا في الناس فأعرب عن قناعته بما يتقاضى أجرا على أتعابه، وقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم فليست بي حاجة إلى أحد. وقد حج عتاب بالمسلمين ذلك العام الذي شهد حجا مختلطا شمل المسلمين والوثنيين على السواء «1» . وفي الأيام الأخيرة من ذي القعدة ومطلع الشهر التالي كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد سلكوا طريق العودة إلى المدينة في أعقاب أكبر انتصارين حققهما الإسلام في صراعه مع الوثنية.   (1) ابن هشام ص 318 الطبري 3/ 94- 95 الواقدي 3/ 959- 960. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 عام الوفود وتصفية الوجود الوثني كان سقوط مكة زعيمة الشرك بأيدي الفاتحين، وهزيمة التحالف الوثني الأخير في حنين، آخر ضربتين حاسمتين للوجود الوثني في جزيرة العرب، انهار بعدها جدار الكفر وانطلقت حركة الإسلام بخفة وسرعة، حيث أزيلت العوائق، إلى كل مكان. وأدركت القبائل العربية التي ظلت على وثنيتها ألّا مناص لها من تحديد موقفها من الإسلام ودولته المتفردة بالحكم والسلطان في الجزيرة كلها، وأن عنادها وتشبثها بمواقفها السابقة فقد مبرراته بدخول مكة في الإسلام، وانتماء هوازن، أكبر القبائل الوثنية، للدين الجديد. فراحت هذه القبائل تتسابق في إرسال وفودها إلى المدينة، قاعدة الإسلام، مبايعة على الإسلام أو مصالحة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولكثرة هذه الوفود التي انهالت على المدينة في العام التالي لفتح مكة ومطلع الذي يليه، سماه المؤرخون (عام الوفود) ، وكان في طليعتها وفد ثقيف الذي قدم إلى المدينة في شهر رمضان في أعقاب عودة الرسول من غزوة تبوك. قال ابن إسحاق: «وإنما كانت العرب تربّص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش، كانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل، وقادة العرب، لا ينكرون ذلك. وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه فلما افتتحت مكة ودانت له قريش، ودوّخها الإسلام، عرفت العرب أنه لا طاقة بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله عزّ وجلّ أفواجا يضربون إليه من كل وجه» «1» . وكان عروة بن مسعود، أحد زعماء ثقيف، قد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم في طريق   (1) ابن هشام ص 342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 عودته، قبل أن يصل المدينة، وأعلن إسلامه، وقفل عائدا إلى الطائف يدعو قومه إلى الإسلام متحصنا بمنزلته فيهم ومحبتهم وطاعتهم له، إلا أن حميتهم الجاهلية أنستهم ذلك كله فرموه بالنبل من كل وجه وأصابه أحدها فخرّ صريعا، وعندما سئل، وهو يتضرج بدمائه: ما ترى في دمك؟ أجاب: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم. ومرت الشهور على مصرع عروة، وبدأت ثقيف تدرك ألا طاقة لها بحرب من حولها من القبائل العربية التي بايعت وأسلمت، فاتفق زعماؤها على أن يرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يكلمه، ووقع اختيارهم على عبد ياليل بن عمرو بن عمير، أحد أشراف الطائف، إلا أنه تخوّف أن يصنعوا به، بعد عودته، ما صنعوا بعروة، وطلب منهم أن يرسلوا برفقته رجالا من شتى عشائر ثقيف، فأجابوه واختاروا له خمسة رجال اتجه بهم إلى المدينة «1» . لقيهم المغيرة بن شعبة في أطراف المدينة فهرع ليبشر الرسول صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلما رآه أبو بكر وعرف النبأ رجاه ألا يسبقه إلى الرسول، حتى يكون الصدّيق أول من يحدثه بالنبأ، ففعل المغيرة. وعندما التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وبدؤوا حديثهم معه سألوه أن يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله عليهم ذلك فما برحوا يسألونه، سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى تنازلوا إلى التماس إبقائها شهرا واحدا، والرسول يأبى أن يدعها يوما واحدا.. وكان غرضهم من ذلك أن يسلموا- بعد عودتهم- من سخط سفهائهم ونسائهم وصبيانهم، وألا يروّعوا قومهم بهدمها، حتى ينتشر الإسلام بينهم، فسألوه أن يعفيهم من تحطيم أصنامهم بأيديهم فأجابهم إلى ذلك وأرسل معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة ليهدماها. وبعد أن أعلنوا إسلامهم، كتب لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتابا وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص رغم حداثة سنه، لكونه أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن «2» . عاد الوفد إلى الطائف يصحبه المغيرة وأبو سفيان، وتوجه المغيرة فور   (1) ابن هشام ص 336- 337 الطبري 3/ 96- 98 ابن سعد 1/ 2/ 52- 53 الواقدي 3/ 960- 963. (2) ابن هشام 337- 339 الطبري 3/ 98- 99 ابن سعد 1/ 2/ 53- 54 الواقدي 3/ 963- 969 ابن الأثير: الكامل 2/ 283- 284 ابن حزم: جوامع 255- 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وصوله إلى اللات وراح يعمل فيها ضربا بمعوله، وقومه يحمونه خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود. وخرجت نساء بني ثقيف حاسرات يبكين ويندبن إلههنّ وهو يتهاوى إلى الأرض قطعا من الحجارة الصماء. وما لبث المغيرة أن أتمّ مهمته، ومحا من الطائف ذلك المركز المهم الثالث في شمال الجزيرة، رمزها الوثني الذي حجبها عن الالتحاق بالدعوة الجديدة ردحا طويلا «1» . وغدا الطائفيون من أشد الجماعات إخلاصا للدعوة حتى أن المغيرة قال عنهم: «لا أعلم قوما من العرب ولا قبيلة كانوا أصحّ إسلاما ولا أبعد أن يوجد فيهم غش لله ولكتابه منهم» «2» .. وهكذا جاء البذار الذي زرعه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل عام واحد عند أسوار الطائف، بثماره الحلوة!! كان الوفد الثاني الذي قدم المدينة، بني تميم، وكان يترأسه عطارد بن حاجب في عدد كبير من رجالات تميم وأشرافها. وعندما وصلوا المسجد ظهرا، نادوا رسول الله من وراء حجراته: أن أخرج إلينا يا محمد! فخرج إليهم الرسول وهو غير مرتاح لأسلوبهم البدوي الخشن في ندائه، وقام زعيمهم فألقى كلمة عدّد فيها ماثر بني تميم وفضلهم في الناس. فأمر الرسول خطيبه ثابت بن قيس الخزرجي أن يرد على الرجل. فقام قيس خطيبا في المجتمعين، فبدأ كلامه بمحمد الله والثناء عليه ثم تطرق إلى نبوة الرسول وفضله وختم خطابه قائلا: « ... واستجاب لله حين دعاهم رسول الله، نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه ومن كفر جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا ... » ، وأعقبه الزبرقان بن بدر شاعر تميم بقصيدة أكبر فيها مكانة تميم بين العرب، فأمر الرسول شاعره حسان بن ثابت أن يرد على الرجل، فأجابه بقصيدة أخرى. ولما انتهى الطرفان من إلقاء خطبهم وقصائدهم أعلن وفد بني تميم الإسلام، فمنحهم الرسول الجوائز والعطايا «3» .   (1) ابن هشام ص 339- 340 الطبري 3/ 99- 100 الواقدي 3/ 969- 973 ابن حزم: جوامع 257- 258. (2) ابن سعد 1/ 2/ 54. (3) ابن هشام ص 342- 346 الطبري 3/ 115- 120 ابن سعد 1/ 2/ 40- 41 الواقدي 3/ 975- 980. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وأرسلت بنو عبد القيس وفدها إلى المدينة برئاسة الجارود بن عمرو، فأسلم وأصحابه، كما قدم وفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب، فتركه قومه في رحالهم وذهبوا لمقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أسلموا وقفلوا عائدين إلى ديارهم أعلن مسيلمة أنه قد أشرك في الأمر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وراح يتلو عليهم سجعه الذي ظن أنه إنما يضاهي به القرآن «1» . وقدم عدي بن حاتم الذي كان قد اعتنق النصرانية ولجأ إلى الشام إثر اتساع سلطان المسلمين، وقال له الرسول: «لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف. ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيمّ الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم» . وما لبث عدي أن أعلن إسلامه «2» . وراحت الوفود وزعماء القبائل تترى على المدينة: قدم فروة بن مسيك المرادي مفارقا لملوك كندة، فأعلن إسلامه، فاستعمله الرسول على قبائل مراد وزبيد ومذحج وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة. وقدم عمرو بن معد يكرب في رجال من بني زبيد فأعلنوا إسلامهم. وقدم وفد كندة، البالغ ثمانين رجلا بزعامة الأشعث بن قيس وأعلنوا إسلامهم، وقدم صرد بن عبد الله الأزدي في وفد من الأزد وأعلنوا إسلامهم، فأمّره الرسول على قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم منهم مشركي القبائل اليمنية المجاورة. كما قدم وفد آخر يحمل كتابا من ملوك حمير يعلنون فيه إسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، فأجابهم الرسول بكتاب يبين لهم فيه بعض فرائض الإسلام ويعلمهم بأنه سيرسل إليهم عددا من خيرة أصحابه فيهم معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة وغيرهم، وعليهم أن يؤدوا إليهم ما سيجبونه من صدقة وجزية، وأمّر عليهم معاذ ابن جبل «3» .   (1) ابن هشام ص 350- 352 الطبري 3/ 136- 138 ابن سعد 1/ 2/ 55- 56 وانظر البخاري: تجريد 2/ 96- 97. (2) ابن هشام ص 352- 356 الطبري 3/ 112- 115 ابن سعد 1/ 2/ 59- 60. (3) انظر: ابن هشام ص 356- 364 الطبري 3/ 120- 122، 132- 139 وانظر بالتفصيل ابن سعد 1/ 2/ 38- 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وقدمت كذلك وفود بلى والداريين (من لخم) وسلامان وغسان وغامد وبنو أسد وقال هؤلاء للرسول: قدمنا يا رسول الله من قبل أن ترسل إلينا رسولا فأنزل الله سبحانه فيهم يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ «1» ، كما قدمت وفود بهراء وبني البكاء وبني فزارة «2» . وأرسلت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى رسول الله، فقدم عليه، وأناخ بعيره عند باب المسجد ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين أصحابه، ووقف قريبا منه وقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ أجاب الرسول: أنا. قال الرجل: يا ابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ لك في المسألة فلا تجدنّ في نفسك. قال: لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك. قال: أنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، الله بعثك إلينا رسولا؟ قال: اللهم نعم. قال: فأنشدك بالله.. الله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كانت آباؤنا تعبد من دونه؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك بالله .... آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: اللهم نعم. ثم جعل ضمام يذكر فرائض الإسلام واحدة واحدة، حتى إذا فرغ قال: أشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا رسول الله. وانصرف راجعا حتى إذا قدم على قومه، اجتمعوا إليه فراح يصرخ فيهم: بئست اللات والعزى قالوا: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون! قال: ويحكم، إنهما والله لا ينفعان ولا يضرّان، وإن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. قال ابن عباس: فو الله ما أمسى ذلك اليوم وفي حيّه رجل ولا امرأة إلا مسلما «3» . ذلك وفد- يقول الغزالي- «يمثل بساطة الأميين في منطقهم، وسلامة طريقتهم في جدلهم وخلوّ أذهانهم من العقد التي تعترض الحق في مسيله السمح. ولا نكران في أن جهاد الدعوة القديم له أثره في الوصول إلى هذه النتائج السريعة، وهذا طبيعي، فإن تغيير دين ليس كتجديد زي، وضمام كان يستحضر في ذهنه وهو يسأل النبي، ثم وهو يخطب   (1) سورة الحجرات: الآية 17، وانظر: الطبري 3/ 96، 130. (2) الطبري: 3/ 122. (3) الطبري 3/ 124- 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 قومه، أن هذه الرسالة الجديدة مرّت بأطوار شتى من المحن والفتن ثم كشفت عن صدقها وسلامة جوهرها فليس إيمانه وإيمان قومه وليد ساعة من كلام» «1» . وبعد قليل استقبلت المدينة عددا آخر من الوفود انهالوا عليها من كل مكان: وفد محارب ووفد الرهاويين ووفد عبس «2» ، ووفد من طيىء برئاسة الشاعر زيد الخيل «3» ، ووفد بني عامر بن صعصعة «4» ... وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث بخالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب في نجران ليدعوهم إلى الإسلام، فاستجابوا لدعوته وأرسلوا إلى المدينة وفدا أعلن إسلامه، فأمّر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قيس بن الحصين، وألحق بهم- بعد مغادرتهم المدينة- عمرا بن حزم ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومبادىء الإسلام ويجبي صدقاتهم، وسلمه كتابا يبين فيه الكثير من تعاليم الإسلام التي كلف بإبلاغها للقاطنين هناك، وختم الكاب بقوله « ... وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم. ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يردّ عنها ... » «5» . وفي مقابل ذلك قام الرسول بإرسال أمرائه وعمّاله إلى المناطق التي انتشر فيها الإسلام والقبائل التي أعلنت انتماءها للدين الجديد لكي يجبوا الصدقات ويعلموا الناس أصول دينهم. فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء، وزياد بن لبيد الأنصاري إلى حضرموت وعدي بن حاتم إلى طيىء وبني أسد، ومالك بن نويرة إلى بني حنظلة، والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم إلى بني سعد، والعلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وعلي بن أبي طالب إلى اليمن «6» . وقد تمكن بعض أولئك الدعاة من نشر الإسلام بين عدد من القبائل اليمنية «7» . ثم   (1) فقه السيرة ص 457. (2) الطبري 3/ 139. (3) الطبري 3/ 145. (4) الطبري 3/ 144. وانظر عن الوفود بالتفصيل: ابن سعد 1/ 2/ 38- 86 واليعقوبي: تاريخ 2/ 68- 69 وابن كثير: البداية 5/ 40- 96 وأرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص 55- 61. (5) ابن هشام ص 365- 369 الطبري 3/ 126- 129 ابن سعد 2/ 1/ 122. (6) ابن هشام ص 370- 371 الطبري 3/ 147 وانظر اليعقوبي: تاريخ 2/ 69- 71. (7) الطبري 3/ 131- 132 ابن سعد 2/ 1/ 122 المسعودي: التنبيه ص 238- 239 خليفة بن خياط 1/ 58 البلاذري: فتوح 1/ 82 أنساب 1/ 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ما لبثت الدعوة الإسلامية أن أخذت تنتشر بسرعة في تلك الأصقاع. وشهدت السنة العاشرة إسلام عدد من الأبناء الفرس هناك وتوج ذلك بإسلام باذان حاكم اليمن الفارسي حيث أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابا يعلمه فيه بإسلامه «1» . وعندما أشرف العام التاسع للهجرة على نهايته وحان موعد الحج وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه مضطرا للبقاء في المدينة كي يتفرغ للوفود القادمة إليها دونما انقطاع، وأناب عنه لإمامة المسلمين في حجهم ذاك أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وما أن غادر أبو بكر المدينة في طريقه إلى البيت الحرام حتى نزلت آيات (براءة) من سورة (التوبة) تلك التي تعلن تصفية الوجود الوثني من شبه جزيرة العرب ومنح أتباعه وقتا كافيا للتفكير في الخروج من حضيض الجاهلية الذي ظلوا يتمرغون فيه مئات السنين، وها قد آن الأوان لكي يؤوبوا إلى الحق ويلتزموا الطريق المستقيم، وإلا فإن الدين الجديد سوف لن يمنحهم فرصة أخرى بعد ما صبر عليهم وقتا طويلا بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ «2» . وسرعان ما حمّل الرسول صلى الله عليه وسلم عليا بن أبي طالب هذه الآيات والتعليمات المرفقة بها وأمره أن ينطلق بها إلى الكعبة لكي يتلوها على جموع الحجاج هناك وفيهم الكثير من الذين لا يزالون على شركهم وجاهليتهم ... وبينما تولى أبو بكر إمارة الحج راح علي يتلو على الناس تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم وآيات براءة في يوم الأضحى: لا يقربن المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر.. وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما..» «3» .   (1) الطبري 3/ 158. (2) سورة التوبة، الآيات: 1- 3. (3) الطبري 3/ 122- 123 ابن سعد 2/ 1/ 121 البلاذري: أنساب 1/ 383 المقدسي 4/ 240- 241 ابن حزم: جوامع ص 258 ابن الأثير: الكامل 2/ 291- 292 ابن كثير: البداية 4/ 26- 39 المسعودي: مروج 2/ 290، التنبيه ص 237- 238. ويذكر المسعودي- المصدر السابق- إنه لم تمض سنة على ذلك حتى دخلت العرب في الإسلام، وكانوا أكثر من مائة ألف، وتعايروا بالشرك بينهم والمقام عليه. وانظر: دروزة: سيرة الرسول 2/ 28 هامش (1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 يقول محمد الغزالي بهذا الصدد: «ليعلم من يشاء أن تشريع قانون بمحو الوثنية كتشريع قانون بمحو الأمية، عمل إنساني نبيل. وإن اعتراضا عليه لا يصدر من رجل يؤثر الخير للأمم ويتمنى لها السمو والكرامة، وبحسب الإسلام أنه ظل اثنين وعشرين عاما يحارب الخرافة بالتعليم والتربية كلما أتيحت له فرص لنشر المعرفة وغرس الأدب، وبالقصاص والقتال كلما وقف في طريقه الجهال والضلال يبطلون سعيه أو يصدون عنه. وقد منح الإسلام الوثنية أول الأمر حق الحياة، وترك من يرتد عنه يرجع إليها إذا شاء، ولم يفعل ذلك إعزازا لها، إنما هو حسن ظن بعقل الإنسان وضميره.. فلما تبين أن الوثنيين يستخفون بكل شيء وأنهم يستغلون الحق الممنوح لهم في الفتنة والعدوان والقتل، لم يبق لتركهم من حكم.. ومن ثم نزل الوحي يعالن المشركين بالقطيعة ويرفض منهم كل اعتذار ثم يسرد ما أسلفوا من سيئات على أنه خليقة فيهم لم ينفكوا عنها يوما ولا يرجى أن ينفكوا عنها أبدا» «1» . إن مكة قاعدة الوثنية سقطت، وأصبحت الدولة الإسلامية هي القوة السياسية المتفردة في زعامة الجزيرة، فلا بد من تحديد جميع سكانها موقفهم في الولاء. فأما أهل الذمّة فكانت الجزية رمز انتمائهم وولائهم، وأما العرب فقد أعلنت معظم قبائلهم في عام الوفود وقبله عن انتمائها للدولة والدين الجديد، ولم يتبق إلا قلة كان لا بد من توجيه نداء إليها لتحديد موقفها. ووجود فئة لا تدين بمبادىء الدولة ولا تخضع لقوانينها أمر بالغ الخطورة في كيان الدولة الداخلي، وكان لا بد أن يخضع هؤلاء الناس لنظام الدولة أو يحاربوه، بمعنى أن يوضعوا في حكم الأعداء، ولكنهم أعداء داخليون يترتب على عدوانهم خطر كبير على كيان الدولة، ومن هنا لم يقبل الإسلام منهم إلا الدخول فيه. وليس للمشركين ديانة تحترم ولا مثل تفرض هذا الاحترام كأصحاب الديانات السماوية الآخرى التي اعترف بها الإسلام واعتبر الدين وحدة واحدة «2» . وواضح أنه لا يرد أي معنى من معاني مصادرة الحرية الدينية في هذه المقاطعة والحظر لأن البيت الحرام قد أصبح طاهرا من مظاهر الشرك،   (1) فقه السيرة ص 453- 454. (2) الشريف: مكة والمدينة، الصفحات 530- 536. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وأصبحت تقاليد الحج مثل ذلك وصار تحت السلطان الإسلامي، وليس من المعقول أن يسمح للمشركين بممارسة تقاليد الوثنية فيه، عدا ما له من الحق الطبيعي في سدّ بابه على أعدائه السياسيين والدينيين «1» . وقد أتي هذا البيان ثمرته، فإن النبي قد حج في العام العاشر حجته الأخيرة على النظام الإسلامي الكامل، وحج معه فيها حوالي مائة ألف من حاج العرب «2» ، لم يكن من بينهم مشرك واحد. وفي الفترة التي تقع بين إعلان براءة ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم طبّق الرسول قانون براءة بحذر شديد وكياسة سياسية بارعة وتجنب الاصطدام بالقبائل وإلا جرح كبرياءها وأثار عصبيتها، ولذلك كان يكتفي من وفودها بإعلان إسلامهم وانضمامهم إلى حكومته، ويرسل معهم عند عودتهم مسلمين يعلمونهم الإسلام في بلادهم «3» . والواقع أن (إعلان براءة) بوقف الوثنية نهائيا، أمر لا يمكن إدراك أبعاده إلا إذا نظرنا إلى المسألة من جانبيها (الحضاري) و (الاستراتيجي) كضرورتين يرتبط بعضهما ببعض وتسوقان إلى اتخاذ إجراء حاسم كهذا. فأما أولاهما فهي أن الوثنية، على خلاف سائر الأديان الآخرى، تمثل الدرك الأسفل في موقف الإنسان الديني من الكون، موقف يشده إلى الحجارة ويصده عن التقدم إلى الأمام ويحجب عن بصيرته الرؤية الشاملة لدور الإنسان في الأرض وعلاقته بالقوى الآخرى في الوجود. ولو بقي العربي على وثنيته لظل بحكم موقفه المحدود هذا، أسير جهله وتأخره، وسجين عالم تضيق آفاقه لكي ما تلبث أن تعزله عن العالم وتحصره في قلب الصحراء «4» . وأما ثانيتهما فتقوم على أن الدولة (العقيدية) التي أنشئت في قلب المنطقة العربية، وامتد نفوذها السياسي إلى كافة أرجاء الجزيرة، وبدأت تحشد قواها وطاقاتها الجهادية للانتقال صوب الخطوة التالية في التحرك إلى العالم المحيط كله.. هذه الدولة كان عليها أن تعتمد استراتيجية صارمة، واضحة المعالم، من أجل أن تحمي وجودها في شبه الجزيرة، من جيوب الوثنية العربية ومراكز القوى   (1) دروزة: سيرة الرسول 2/ 371. (2) انظر: المقريزي: إمتاع 1/ 512. (3) الشريف: مكة والمدينة ص 538. (4) انظر كتاب (تهافت العلمانية) للمؤلف، فصل (مواقع العلم والدين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الجاهلية، وأن تحيط مركز انطلاقها إلى العالم بسياج من الوحدة العقيدية والسياسية على السواء، لئلا تضرب من الخلف وهي تمارس صراعها مع القوى الخارجية، حاشدة له جل طاقاتها. وعلى ضوء هذا الارتباط بين الضرورتين الحضارية والاستراتيجية يمكن أن نتفهم موقف الحركة الإسلامية، نظرية وتطبيقا، إزاء عدد من الأديان. فمهادنتها اليهودية والنصرانية في شبه الجزيرة نفسها كان ينبثق عن كون الديانتين كتابيتين متقدمتين (فكريا) على سائر الديانات الآخرى السابقة والمعاصرة للإسلام، فضلا عن كونهما لا تمثلان- من الناحية الكمية- خطرا استراتيجيا على الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة. إلا أن اليهود عندما نشطوا قبل غزوة خيبر الحاسمة وبعدها لضرب الدولة، وإجراء اتصالات عديدة مع القوى الخارجية المتربصة، صدر أمر بعدم السماح لهم بالبقاء في الجزيرة، في أقسامها الشمالية على الأقل، وقد تمثل هذا الأمر بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع دينان في الجزيرة) ، كما تمثل بخطوات عمر بن الخطاب العملية لإجلاء معظم اليهود عن المنطقة. وموقف الإسلام- كذلك- من المجوسية والبوذية، وعدم سعيه لتصفيتهما- رغم تأخرهما الحضاري- يعود إلى أنهما لا يشكلان خطرا استراتيجيا مباشرا على قاعدة انطلاقه إلى العالم، شأن الوثنية في شبه الجزيرة. وهكذا يجيء إعلان (براءة) نصرا حضاريا واستراتيجيا لدولة الإسلام، وهي تتهيأ للخطوة التالية في (تحضير) العالم و (جهاد) قياداته (الكافرة) جميعا من أجل منح حرية الاعتقاد للإنسان حيثما كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الفصل الثامن العلاقات بين الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية [1] ترجع البدايات الأولى لعلاقة الإسلام بالنصرانية وزعيمتها الدولة البيزنطية إلى اللحظة التي وقف فيها ورقة بن نوفل قبالة الرسول، بعد ساعات بعثه نبيا إلى العالم، لكي يقول له: «والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبن ولتؤذين ولتخرجن ولتقاتلن ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه!» ثم أدنى رأسه منه وقبله «1» . لكن ورقة توفي قبل أن يدرك (اليوم) الذي كذب فيه الرسول وأوذي وأخرج وقوتل من قبل الوثنية العربية. بل إننا لنرجع بالبدايات إلى ما هو أبعد في الزمن.. إلى الإرهاصات المتبقية في العهدين القديم والجديد.. والحديث من رهبان النصارى وأحبار اليهود وكهان الوثنية وأحنافها كانوا قد تحدثوا، كما يقول ابن هشام «بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب من زمانه. أما الأحبار من يهود والرهبان من النصارى فما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه..» «2» . وقبل أن ندلف إلى تلك الإرهاصات والأحاديث لا بدّ أن نشير إلى الضعف   (1) ابن هشام: تهذيب ص 48. (2) نفسه ص 42 وانظر الطبري: تاريخ 2/ 295- 297. وعن الأحناف انظر: ملحق ج. من كتاب (محمد في مكة) لمونتكمري وات و Bell في مجلة العالم الإسلامي Islamic Quarterly أعداد 20 سنة 30 ومقالة (حنيف) لبوهل في دائرة المعارف الإسلامية.Tor Andrae:Mahomet ,p. 901: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 والتهافت اللذين يسودان تلك الرواية التي سبق وأن عرضنا لها بإيجاز «1» والتي تتحدث عن لقاء مبكّر تمّ بين محمد الصبي الذي صحب عمه أبا طالب في رحلته الأولى إلى بلاد الشام وبين بحيرى الراهب.. ونستطيع أن نجد في بحث الدكتور محسن عبد الحميد تقييما للرواية يضعها في مكانها الأقرب إلى الصواب. فهو، بعد أن يعرض بالنقد لأسانيد الرواية ومتونها، يخلص إلى القول بأن «.. هذه الروايات كلها مردودة سندا ومتنا لما فيها من الضعف والنكارة ولما فيها من فساد المتون وبطلانها من الناحية التاريخية وتعارضها مع قواعد العمران البشري والقوانين مما يثبت إثباتا قاطعا أن هذه الرواية موضوعة، نقلها المؤرخون وبعض المحدثين الذين لا يتشدّدون في شروط الرواية، ظنا منهم أنهم بذلك يضيفون دليلا جديدا يسند نبوة رسولنا الأعظم عليه الصلاة والسلام، ولم ينتبهوا إلى أن أمثال هذه القصص فيها من الشرّ أكثر مما فيها من الخير، لأن أعداء الإسلام منذ القديم أرادوا أن يروجوا أمثال هذه الروايات الواهنة كي يثبتوا وجود بحيرى وغيره من القسس في أطراف الجزيرة العربية الذين كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم- في زعمهم يتصل بهم ويأخذ عنهم. ولقد اهتم بهذه الروايات الباطلة الكاذبة المؤرخون والمستشرقون الغربيون وبنوا عليها أبا طيل ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يمكن أن تقف لحظة واحدة أمام الحقائق التاريخية، منهم وليام موير ومارغليوث ودرابر وغيرهم كثيرون حيث اعتبروا أن أسرار الإسلام كلها أخذها محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الراهب. ولم يدعهم تعصّبهم أن يفكروا كيف يمكن لطفل عمره تسع سنوات أن يأخذ كل هذه الأسرار في لقاء عابر من بحيرى أو أمثال بحيرى» «2» . والآن.. ما الذي قدمته الأناجيل ورجالاتها من معطيات بصدد النبوة الجديدة؟ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل «لا فظ، ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح» . وعن سهل مولى عتيبة- وكان نصرانيا من أهل مريس، يتيما في حجر   (1) انظر ص 33 و 34. (2) تحقيق قصة بحيرى، مجلة الجامعة، العدد الرابع، السنة التاسعة ص 69- 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 أهله وعمه- قال: «أخذت مصحفا لعمي فقرأته حتى مرت بي ورقة فأنكرت كتابتها حين مرت بي، ومسستها بيدي، فنظرت فإذا فصول الورقة ملصق بغراء ففتقتها فوجدت فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم أنه لا قصير ولا طويل أبيض ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة ويلبس قميصا مرقوعا، ومن فعل ذلك فقد برىء من الكبر، وهو يفعل ذلك، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد. فلما انتهيت إلى هذا جاء عمي فلما رأى الورقة ضربني وقال: ما لك وفتح هذه الورقة وقراءتها؟ فقلت: فيها نعت النبي أحمد. فقال: إنه لم يأت بعد» «1» . وقال أمية بن أبي الصلت لأبي سفيان- يوما-: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا، فكنت أظنه أني هو، وكنت أتحدث بذلك، ثم ظهر لي أنه من بني عبد مناف. ووصف الراهب (بكا) من بلاد الشام الرسول المنتظر لأبان بن سعيد حتى قال أبان: «فوصفه فما أخطأ في وصفه شيئا، ثم قال لي: هو والله نبي هذه الأمة، والله ليظهرن» . وتحدث راهب من عمورية إلى سلمان الفارسي وهو يجوب الأرض بحثا عن الحقيقة: «قد أظلّ زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين.. بين كتفيه خاتم النبوة» «2» . وماذا- بعد- في الإنجيل عن محمد، النبي الأخير؟: «من أبغضني- يقول عيسى عليه السلام- فقد أبغض الرب. ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة. ولكن من الآية بطروا وظنوا أنهم يعزونني (يغلبونني) وأيضا للرب، ولكن لا بد من أن تتم الكلمة التي في الناموس. إنهم أبغضوني مجانا (باطلا) فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب. روح القدس. هذا الذي من عند الرب خرج، فهو شهيد علي وأنتم أيضا، لأنكم قديما كنتم معي. في هذا قلت لكم لكيما تشكوا» «3» . والمنحمنا بالسريانية تعني محمدا «4» . كما ورد في الإنجيل ما يدل على انتقال النبوة من ولد إسحاق إلى ولد إسماعيل في قوله: «الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل   (1) ابن سعد: الطبقات 1/ 2/ 89. (2) محمد رواس قلعجي: محمد في الكتب المقدسة، مجلة حضارة الإسلام عدد 1- 2 سنة 8. (3) إنجيل يوحنا 15: 23- 26. (4) ابن هشام ص 44- 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، كذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره» «1» . والحجر الذي رفضه البناؤون كناية عن إسماعيل جد محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، ألا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البناء فيقولون: إلا وضعت هاهنا لبنة ليتمّ البناء؟ فأنا اللبنة، جئت، فختمت الأنبياء» . وقال المسيح للحواريين «إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون الآن أن تحتملوا، وأما متى جاء ذاك- روح الحق- فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم عن نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية» «2» . ويؤخذ من المخطوطات التي عثر عليها بجوار البحر الميت أن عيسى عليه السلام كان (مسيا) المسيحيين (ومسيا كلمة آرامية معناها الرسول) وأن هناك مسيا آخر سيأتي بعده وقد قال عنه المسيح «ومتى جاء المعزي- البارقليط- فهو يشهد لي» «3» . ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بعده فشهد له وأنصفه ودافع عنه وعن العقيدة الصحيحة التي جاء بها. وقد جاء في إنجيل برنابا، الذي استبعدته الكنيسة في العهد الأول وحرم البابا جلاسيوس قراءته سنة 492 م «4» ما يؤيد هذه المخطوطات، ويوضح ما فيها من إجمال، قال: «فلما كان الناس قد دعوني الله،   (1) إنجيل متى 21: 42، 43. (2) إنجيل يوحنا 16: 12، 13. (3) كلمة (المعزي) هذه التي وردت في إنجيل يوحنا هي ترجمة) Paraclete (ومعناها محمد أو أحمد أو محمود. وهناك كلمة تشابهها وهي) Peraclyte (ومعناها المعزي ... فإن كانت الأولى فإن عيسى عليه السلام يكون قد بشر بمحمد صراحة فيما ذكره إنجيل يوحنا، وهذا أمر لا لبس فيه ولا غموض، وإن كانت الثانية (المعزي) يكون عيسى قد كنى عن رسول الله بالمعزي بدلا من محمد، لأن الأوصاف التي ذكرت في إنجيل يوحنا لا تنطبق إلا على محمد: قلعجي: محمد في الكتب المقدسة، مجلة حضارة الإسلام، عدد 1- 2 سنة 8. (4) وقد أعلن تشارلس فرنسيس بوتر في كتابه (السنين المفقودة من عيسى تكشف) ص 127 ما يلي: «لدينا الآن وثائق كافية تدل على أن المخطوطات- المكتشفة في البحر الميت- هي حقيقة (هبة الله إلى البشر) لأن في كل ورقة تفتح تأتي إثباتات جديدة على أن عيسى كان كما قال عن نفسه (ابن الإنسان) أكثر منه (ابن الله) كما ادعي عليه وهو منه بريء» وقال في ص 12: «من العسير العثور على كتاب في العهد القديم لا يحتاج إلى تصحيحات تحت ضوء مخطوطات (البحر الميت) وكذلك ليس هناك كتاب في العهد الجديد لا يحتاج إلى تفسير شامل للآيات الأساسية التي تقوم عليها الشريعة» انظر: إبراهيم خليل أحمد: محمد في التوراة والإنجيل والقرآن، ص 92- 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وابن الله، على أني كنت بريئا في العالم، أراد الله أن يهزأ الناس في هذا العالم بموت يهوذا معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله» «1» . ويرد كذلك في نفس الإنجيل، غير المعتمد لدى النصارى، «ما أسعد الزمن الذي سيأتي فيه إلى العالم (28) صدقوني إني رأيته وقدمت له الاحترام كما رآه كل نبي (29) لأن الله يعطيهم روحه نبوة (30) ولما رأيته امتلأت عزاء قائلا: يا محمد ليكن الله معك (31) » «2» . وعن نسب الرسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا الإنجيل المذكور « (25) ومتى جاء رسول الله فمن نسل من يكون؟ (26) أجاب التلاميذ: من داود (27) فأجاب يسوع: لا تغشوا أنفسكم (28) لأن داود يدعوه في الأزل: الروح قائلا: قال الله ربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك ... (30) صدقوني لأني أقول لكم الحق، إن العهد صنع بإسماعيل لا بإسحاق» «3» . ونقرأ في إنجيل متى «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل» «4» . هذا وقد عقد السيد رشيد رضا في الجزء التاسع من (تفسير المنار) فصلا طويلا عن بشارات الكتب المقدسة بمحمد صلى الله عليه وسلم، أورد فيه ثماني عشرة بشارة مستمدة من أسفار العهد القديم والأناجيل، وناقش الشبهات التي يوردها المبشرون، وأورد من الحجج ما فيه المقنع بصواب استنتاجاته وقوة حججه. وليس هناك أي دليل على أن الأسفار المتداولة اليوم من العهدين القديم والجديد هي كل ما كان متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقبله، وليس يمنع أن يكون فيما لم يصل إلينا بشارات وأوصاف أكثر صراحة مما هو وارد في الأسفار المتداولة اليوم. [وآية الأعراف/ 157] الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ... قد نزلت في الذين تبعوا النبي من أهل   (1) إنجيل برنابا، الباب 220 وانظر إبراهيم خليل أحمد: المصدر السابق المقدمات ص 22- 23. (2) برنابا 41: 27 فما بعد. (3) برنابا 43: 25 فما بعد. (4) الإصحاح الخامس فقرة: 1. وانظر عن آثار محمد وأصحابه: إنجيل متى 4/ 17، 11/ 42- 44، 13/ 24- 32، 20/ 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الكتاب في مكة بناء على ما وجدوه فيه من صفات مطابقة لما كان بين أيديهم من أسفار، ومن المحال أن يكون ذلك جزافا. وهنالك إنجيل متداول ومنسوب إلى حواري اسمه برنابا فيه نصوص متفقة مع نصوص القرآن عن عيسى وحياته وشخصيته ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته «1» . وصدق الله العظيم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «2» ، وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ «3» . ورغم هذه البينات كلها فإن الغالبية العظمى من حملة الإنجيل (شكّوا) .. ليس هذا فحسب بل تحول شكهم إلى استنكار وسخرية ومعارضة ومقاومة ومجابهة، ثم إلى قتال مسلح حينا وتامر خفيّ أحيانا.. وكانت تلتمع بين الحين والحين أضواء تنير الطريق لرجالات النصرانية: رهبانا وقادة وحكاما إلى قلب الإسلام الرحيب المنفتح على كل دين جاء من عند الله، وقرآنه المصدق لما بين يديه من الكتاب، ونبيّه الممجّد لإخوانه الأنبياء الذين سبقوه كدحا على الدرب الطويل المنبثق عن المصدر الواحد والذاهب إلى المصير الواحد. [2] ويحدثنا (درمنغم) كيف أن مكة كانت تضم عددا كبيرا من نصارى من مختلف الأصول حيث كانت لهم مقبرة فيها.. وكان أناس من نصارى الحبشة قد جاؤوا إلى مكة ليحيوا النبي الجديد الذي أعرب عن عطفه على دينهم فدمغ باطل المشركين بالحجج البالغة التي يقره عليها أهل الكتاب.. وكان يصادف في عكاظ وفي الأسواق الآخرى أناسا من عرب نجران والحيرة.. وكان- كما أشار القرآن- يرى في الأسواق التي يقصدها نصارى آخرين من بلاد أخرى ولا سيما من الشام   (1) دروزة: عصر الرسول صلى الله عليه وسلم: هامش (1) جزء 1 ص 111. وعن نبوآت الأناجيل بالرسول وتحليلها انظر بالتفصيل: إبراهيم خليل أحمد: محمد بين التوراة والإنجيل والقرآن ص 43- 48، ومحمد رواس قلعجي: محمد في الكتب المقدسة: مجلة حضارة الإسلام عدد 1- 2 سنة 8، وجواد على: تاريخ العرب في الإسلام ص 83- 86 وانظر كذلك: علي عبد الجليل راضي: المسيح قادم، ومحمد فتحي عثمان: المسيح في الأناجيل الأربعة. (2) سورة البقرة: الآية 146. (3) سورة الصف: الآية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 لبيع ما معهم من البر.. وكان عملاء بني أسد من الغساسنة يقيمون بوسط مكة، أي بالقرب من الكعبة، ولكن أكثر أولئك النصارى كانوا يقيمون بالضواحي «1» . ولا ريب أن إيراد قصة ولادة يحيى وعيسى وإنكار ألوهية عيسى مما يوحي بأن أكثر المخاطبين من أهل الكتاب كانوا نصارى، ثم أن خبر انهزام الروم والبشرى بفوزهم مما يدل على ذلك أيضا.. وتلهم الآيات القرآنية أن النبي قد اتصل بهؤلاء النصارى ودعاهم إلى التصديق برسالته، وإن كان منهم من كان ذا سعة في المال يمكنه من الإنفاق في سبيل الخير، وأن منهم من كان قوي الشخصية والنفس بحيث لا يبالي بلوم المشركين، وأن منهم من كان متميزا بثقافته الدينية بحيث كان أهلا للرجوع إليه والاستشهاد به في أمر الرسالة «2» . وكان القرآن الكريم منذ الوقت المبكر من العهد المكي يؤكد- وظل على ذلك في مختلف أدوار التنزيل- على وحدة المصدر الذي صدر عنه القرآن والكتب السماوية ووحدة الأهداف والمبادىء التي تضمنها القرآن وتلك الكتب، وتأييد القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء السابقين والكتب السابقة، والتنويه بهم، واستشهد، وظل يستشهد، بأهل الكتاب على صحة رسالته النبوية والتنزيل القرآني بأسلوب يلهم استعدادهم للشهادة الإيجابية، والثقة بهم والاعتماد عليهم فيها، كما يلهم طبيعة وتوقع استجابتهم للدعوة الإسلامية واندماجهم فيها ونصرها وتأييدها «3» . ولم يخف محمد عطفه على النصارى، والقرآن مملوء بالشواهد على   (1) درمنغم: حياة محمد ص 125- 126. (2) الشريف: مكة والمدينة ص 232- 233. (3) انظر: سورة المدثر: الآية 31، سورة الأعلى: الآيتان 18- 19، سورة الأعراف: الآيتان 156- 157، سورة فاطر: الآيتان 31- 32، سورة يونس: الآيتان 37، 94، سورة يوسف: الآية 111، سورة الأحقاف: الآية 12، سورة طه: الآية 133، سورة الشعراء: الآية 197، سورة الأنعام: الآيات 20، 84- 90، 92، 114، سورة غافر: الآيتان 53- 54، سورة الشورى: الآية 13، سورة الأنبياء: الآيتان 7، 93، وانظر سور: الفجر، القمر، ص، الأعراف، يس، مريم، طه، الشعراء، النحل، القصص، يونس، هود، يوسف، الحجر، الأنعام، الصافات، سبأ، غافر، الزخرف، الدخان، الذاريات، نوح، إبراهيم، الأنبياء، المؤمنون، حيث ترد قصص أنبياء أهل الكتاب وأحوالهم الخاصة وسيرة أقوامهم معهم، مما يتطابق قليلا أو كثيرا مع ما ورد في كتب أهل الكتاب وما فيها من ثناء على هؤلاء الأنبياء ودعوة للتأسي بهم واحترامهم، مما يتضمن معنى التساوق والاتحاد والتطابق بين القرآن والكتب السماوية وبالتالي بين الإسلام وأهل الكتاب: دروزة: عصر الرسول 1/ 335- 344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ذلك.. فكان محمد يرى المثال في شهداء نصارى القرون القديمة وفي شهداء نصارى القرون الأخيرة في اليمن (شهداء الأخدود) وكان يثني على القسيسين والرهبان الذين قدر فضائلهم في تخوم الشام. وسرّ محمدا ما أسفر عنه انتصار الروم من عدم هدم كنائس النصارى وبيعهم التي (يذكر فيها اسم الله كثيرا) . وكان محمد صلى الله عليه وسلم يرى في أهل الكتاب الحلفاء الذين يؤيدون ما يقول، ويؤمنون بالحق الذي يدعو إليه والذين وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ «1» وكان محمد صلى الله عليه وسلم يتخذ من انضمام حملة العلم من أهل الكتاب إليه دليلا على صدق الإسلام وبطلان دعوى المشركين، وكان يصرح بأن رسالته مما بشر به الكتاب المقدس «2» . وللمسيح في القرآن مقام عال، فولادته لم تكن عادية كولادة بقية الناس، وهو رسول الله الذي خاطبه الله جهرا.. وهو كلمة الله الناطقة من غير اقتصار على الوحي وحده.. والقرآن يقصد النصرانية الصحيحة حينما يقول إن عيسى كلمة الله أو روح الله ألقاها إلى مريم وإنه من البشر.. وهو يذم مذهب القائلين بألوهية المسيح ومذهب تقديم الخبز إلى مريم عادة ثم أكله، وما إلى ذلك من مذاهب الأسماء النصرانية لا النصرانية الصحيحة. ولا يسع النصراني إلا أن يرضى بمهاجمة القرآن للثالوث المؤلف من الله وعيسى ومريم وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «3» . وبدلا من أن تكون النصرانية موحدة في فرقة واحدة في جزيرة العرب قائلة بالنظام والمحبة، كانت مجزأة إلى شيع متعادية منهمكة في المجادلات العقيمة، فلا عجب إذا بقي الإسلام بعيدا عن هذه المناقشات البيزنطية حول العقائد.. وما كان يقع في سبيل النصرانية المشرقية من المنازعات المذهبية موجب للخزي، فقد صار النصارى يضطهد بعضهم بعضا في سبيل معنى إحدى الكلمات، والعلماء يصرون على مجادلاتهم الكلامية، والخرافات تفسد الجمهور بفضل العدوى «4» . ومن الطبيعي- يقول دروزة- أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوحي إليه منذ الوقت المبكر بما أوحي، وظل يوحى إليه بمثله بأساليب متنوعة، قد وقف منذ البدء   (1) سورة المائدة: آية 83. (2) درمنغم: المرجع السابق ص 128- 130. (3) سورة المائدة: آية 116. المرجع السابق ص 131- 132. (4) المرجع السابق ص 138- 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 موقف المسالم المتحبب من الكتابيين في مكة، المتحد معهم في الأهداف والمبادىء، المحترم لأنبيائهم وكتبهم والمعترف بها والمؤيد لها.. ومضامين المفردات القرآنية التي أشرنا إليها آنفا، والأسلوب الهادىء الذي ظل متّسقا في أدوار التنزيل واحتوى استشهاد أهل الكتاب.. ثانيا إلى ما احتواه القرآن المدني من حملات عنيفة على اليهود بسبب مواقفهم الجاحدة الماكرة في المدينة، ثالثا، كل ذلك يسوغ القول بجزم إن الكتابيين في الإجمال قد وقفوا منذ البدء من الدعوة القرآنية موقف العطف والتأييد وظلوا كذلك إلى آخر العهد المكي وأنه لم يقع بينهم وبين النبي احتكاك وعداء كما وقع مع اليهود في المدينة «1» . إلا أن الكتابيين لم يبقوا عند هذا الحد، بل حقّقوا ما كان متوقعا من استجابتهم للدعوة واندماجهم فيها. ففي سورة الأعراف [الآية 157] نجد أن فريقا من النصارى واليهود في مكة وجدوا صفات النبي صلى الله عليه وسلم مطابقة لما في أيديهم من أسفار التوراة والإنجيل فامنوا به واتبعوه ونصروه فاستحقوا التنويه الذي احتوته الآية «2» . ولقد ذكرت روايات السيرة وكتب التراجم أسماء كثير من الكتابيين الذين اندمجوا في الدعوة في مكة تحمل طابع الأسماء النصرانية، كما أن بعض الروايات ذكرت قدوم وفد نصراني إلى مكة بعد البعثة مستطلعا نبأ النبي العربي وأعلن إيمانه به «3» . وفي نفس الوقت تنزلت آيات أخرى تعرض واقع الكتابيين من الاختلاف والنزاع والانشقاق مذاهب وشيعا فيما بينهم، ودعوتهم إلى الانضواء إلى راية القرآن الذي يمتّ إلى المصدر الذي تمتّ إليه كتبهم، والذي يعود بدين الله إلى صفائه ومبادئه السامية التي لا تحتمل في أصلها خلافا، واتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.. والتسليم بما جاء به القرآن من حلول لمشاكلهم وخلافاتهم المذهبية والنفسية.. ولعل من الحق أن يقال إنه كان لهذه الدعوة القرآنية أثر فيما كان من تنبه الكتابيين في مكة في مبدأ الأمر إلى ما   (1) دروزة: عصر الرسول 1/ 344- 345. (2) المرجع السابق 1/ 345- 348. وانظر كذلك سورة القصص: الآيات 52- 55، وسورة الإسراء: الآيات 107 109، وسورة الأحقاف: الآية 10، وسورة الرعد: الآية 36. (3) دروزة: عصر الرسول 1/ 348- 349. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وصل إليه أمرهم من خلاف، فكان ذلك عاملا في إقبالهم على الإسلام «1» . وبعد قليل احتضن نجاشي الحبشة المهاجرين من اضطهاد مكة، أولئك الذين قال لهم رسولهم وهو يبحث لهم عن موطن يأوون إليه ريثما تكسر حدة العدوان الوثني (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق..) وردّ المبعوثين اللذين أرسلتهما قريش لاسترداد المسلمين بعد أن أبى إلا أن يستمع لصوت الإسلام بمواجهة صوت الوثنية متمثلا بايات من القرآن الكريم اختارها جعفر بن أبي طالب من سورة مريم دفعت النجاشي إلى أن يرفع عودا صغيرا من الأرض ويقول: والله ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود! فاعترض بطارقته فأسكتهم وقال للمهاجرين: اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي من سبكم غرم، من سبكم غرم.. ثم التفت إلى المبعوثين المشركين قائلا: انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما «2» . وفيما بعد، عندما خطب الرسول صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي بأرض الحبشة تقديرا لموقفها الفذ في سبيل الدعوة، بمواجهة إغراآت أبيها زعيم الوثنية، أصدقها النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار وهو الذي ناب عن الرسول في خطبتها وكانت قبله عند عبيد الله بن جحش الذي كان قد ارتد إلى النصرانية «3» !! وفي المقابل نجد المسلمين، وهم قلة مضطهدة في مكة، يهزهم نبأ الهزيمة الساحقة التي مني بها الروم المسيحيون على أيدي الفرس الوثنيين، ويصيبهم بحزن عميق إزاء الفرح الذي غمر قلوب مشركي قريش، وتنزل آيات القرآن الكريم تتحدث عن الواقعة الحاسمة وتتنبأ بالانتصار الحاسم الذي سيحققه المعسكر النصراني ضد أعدائه المجوس، حيث يفرح المؤمنون الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ ... «4» .   (1) المرجع السابق 1/ 350- 353 وانظر سورة هود: الآية 110، وسورة فصلت: الآية 45، وسورة الشورى: الآيتان 3، 14، وسورة الزخرف: الآيات 63- 65، وسورة الجاثية: الآيتان 16- 17، وسورة مريم: الآيات 34- 36. (2) ابن هشام ص 72- 77. (3) المصدر السابق ص 381، الطبري 2/ 653- 654. (4) سورة الروم، الآيات: 1- 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وقد تحققت النبوءة القرآنية التي لا تخطىء، وفي بضع سنين ألحقت القوات البيزنطية، بقيادة هرقل، هزيمة ساحقة بالقوات الفارسية، استردت في أثرها بلاد الشام وفلسطين وأجزاء واسعة من العراق، وذهب هرقل إلى بيت المقدس لكي يسجد شكرا لله، وغمرت الفرحة قلوب القلة المضطهدة في ظلمات الوثنية. لكن هذا كله لم يمنع الكثرة من النصارى العرب أن تلعب دورها في العصر المدني بمواجهة الإسلام وتتخذ المواقف العدائية ضده على شتى المستويات بدفع من الدولة والكنيسة البيزنطية في معظم الأحيان، وبمعزل عنهما في بعض الأحيان. [3] والعصر المدني، على خلاف العصر المكي، غني بالروايات والأحداث التي تلقي ضوآ شاملا على العلاقات بين الطرفين، سيما وأن الإسلام كان قد تمكن آنذاك من بناء دولته التي تتجاوز في سياساتها وعلاقاتها الحدود الإقليمية والقومية صوب العالم المحيط حيث تقبع الدولة البيزنطية وحلفاؤها العرب وهم جميعا محسوبون على المعسكر النصراني، منتمون إليه جدا وإخلاصا، أو هزلا واكتسابا.. والأمر سواء. في السنين الأولى من العصر المدني كان الرسول صلى الله عليه وسلم منهمكا في تثبيت أسس الدولة الجديدة وفي مجابهة القوى الوثنية واليهودية، ولم يكن الامتداد الجغرافي للدولة الإسلامية آنذاك قد بلغ الحدّ الذي يستفز الدولة البيزنطية وحلفاءها العرب، ويدفعهم إلى إثارة المشاكل في طريق الإسلام وحكومته. ورغم ذلك فإننا نجد في السور المدنية آيات كثيرة في النصارى وعقائدهم وما كان بينهم من خلاف ونزاع وهي أكثر وأحدّ منها في القرآن المكي، وهي تحمل تنديدا أكثر.. وهذا الفرق يلهم أن دائرة الاتصال بين النبي صلى الله عليه وسلم والنصارى في العهد المدني كانت أوسع منها في ذلك العهد، وأن المؤثرات التي كان يخضع لها النصارى الذين لقيهم النبي واحتك بهم أكثر تنوعا، وأن الذين لقيهم في العهد المكي كانوا أكثر تجردا عن الهوى والرغبات المادية وأكثر استعدادا للاستجابة للدعوة والاندماج فيها. وهناك رواية تذكر إنه كان في المدينة جالية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 من النصارى تسكن في مكان يقال له سوق النبط «1» . إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن الجالية النصرانية في المدينة لم تكن ذات شأن وكيان يؤدي إلى أن يقع بينها وبين النبي والمسلمين صدام، وأن يصدر عنها مواقف عملية مؤذية وخطرة كما كان شأن اليهود، ومن ثم فإن الآيات التي وردت في حالة النصارى والتنديد بهم- مع ما في بعضها من عنف- إلا أنه لا يمكن أن تنعقد أية نسبة بينها وبين ما جاء في حق اليهود. هذا إلى أن هناك آيات تحتوي ثناء محببا عليهم وعلى أخلاقهم ومواقفهم مما يلهم أن الذين لقيهم النبي منهم في المدينة كانوا دمثي الأخلاق ليني الجانب غير جانحين إلى عنف وكيد «2» . وبمرور الوقت واتساع نفوذ الإسلام شمالا، ووصول أنباء انتصاراته على الوثنية واليهودية إلى قبائل الشمال.. بدأ المعسكر البيزنطي يفتح عينيه على الخطر المحدق بوجوده من جهة الجنوب. وأغلب الظن أن الأمبراطور البيزنطي وكبار قادته تصوروا الأمر- في بدايته- مجرد اندفاع قبلي كبير صوب الشمال، أو محاولة إمارة عربية ناشئة توسيع رقعتها الجغرافية كما كانت تفعل إمارة (كندة) أو (تدمر) على سبيل المثال، ورأوا أن بإمكان حلفائهم العرب أنفسهم أن يكفوا الدولة البيزنطية عناء وقف هذا الامتداد، وصد هذه الإمارة الطموحة عن الامتداد إلى الشمال. أكثر من هذا أنهم اعتقدوا أن بإمكان قبيلة من أتباعهم أن تتحرك صوب الجنوب- بإشارة من سادتها- لتضرب القوة الجديدة في قاعدتها نفسها وتقصم ظهرها.. وأغلب الظن أيضا أن هذا الاعتقاد هو الذي دفع القبائل القاطنة في دومة الجندل، في أقصى الشمال، والتي يتزعمها أكيدر بن عبد الملك الكندي الذي يدين بالنصرانية ويخضع لهرقل، إلى أن تتجمع وتتهيأ في زحف سريع   (1) دروزة: عصر الرسول 2/ 216- 222. (2) المرجع السابق 2/ 215، 253، وانظر عن وصف القرآن الكريم لحالة النصارى في العصر المدني ونقد أخطائهم: المصدر السابق 2/ 216- 222 وعن دعوتهم للإسلام ومواقفهم إزاءها 2/ 223- 230 وانظر بشكل خاص عن مسألة قدوم وفد من نصارى الشمال في أواسط العهد المدني ومناقشته للرسول بحكمة واعتناقه الدين الجديد: المصدر نفسه 2/ 225- 227 وتفاسير آيات سورة المائدة: الآيات 82- 86 (وبخاصة تفسير الطبري) وعن المناظرات والمناقشات بين النصارى والمسلمين انظر: المصدر السابق 2/ 236- 252، وعن وفد نجران 2/ 237- 248، والمؤلف يميل إلى أن قدوم الوفد كان بعد صلح الحديبية أي في أواخر السنة السادسة للهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 لضرب المسلمين في المدينة (في ربيع الأول من السنة الخامسة للهجرة) ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ زمام المبادرة، وتحرك بسرعة صوب الشمال، على رأس ألف من أتباعه، معتمدا أسلوب (إضرب قبل أن تضرب) . ومن أجل أن يباغت القوم في ديارهم أخذ يسير بأصحابه ليلا ويمكن نهارا، حتى اقترب من هدفه فجعلت القبائل العربية القاطنة هناك تهرب من بين يديه لا تلوي على شيء. وبعد أن بث سراياه في المنطقة قفل الرسول صلى الله عليه وسلم عائدا دون أن يلقى من العدو كيدا «1» . وهكذا يمكن اعتبار غزوة (دومة الجندل) هذه أول حلقة في سلسلة الصراع الحربي بين عالمي الإسلام والنصرانية، يؤكد هذا ما ذكره الواقدي من أنه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم وهو بصدد مهاجمة دومة الجندل: إنها طرف من أفواه الشام فلو دنوت لها لكان ذلك مما يفزع قيصر «2» . ولم يمض سوى عام وبعض عام حتى قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال عبد الرحمن بن عوف (في شعبان من السنة السادسة) لقتال قبيلة كلب النصرانية في نفس المنطقة وقال له: (اغز باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله، لا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليدا) ، وطلب منه أن يتزوج ابنة ملكهم إن استجابوا له، تعزيزا للعلاقات بين الطرفين وكسبا لودّ هذه القبيلة الموالية للعدو البيزنطي. فتقدم عبد الرحمن إلى دومة الجندل، ومكث هناك ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، أميرهم النصراني، وأسلم معه ناس كثير من قومه، بينما وافق الآخرون على الاستمرار في دفع الجزية مع البقاء على دينهم. ونفذ عبد الرحمن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتزوج تماضر ابنة الأصبغ وقدم بها إلى المدينة «3» . وقد كان من نتائج هذين الانتصارين أن أدركت القبائل الضاربة هناك أن حجم القوة الإسلامية وقدرتها على التحرك أكبر مما كانت تظن، وربما بلغ ذلك القيادة البيزنطية نفسها فكفت عن تكرار المحاولة، ردحا طويلا من الزمن، أتاح للمسلمين تحقيق انتصارهم على الوثنية، في صلح الحديبية، وتصفية المواقع   (1) ابن هشام ص 211، الطبري: تاريخ 2/ 564، ابن سعد 2/ 1/ 44- 45، الواقدي 1/ 402- 404، المسعودي: التنبيه والإشراف ص 214- 215، ابن حزم: جوامع ص 184- 185 ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 92. (2) مغازي رسول الله 1/ 403. (3) ابن سعد 2/ 1/ 64- 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 اليهودية في الشمال: خيبر والقرى المحيطة بها، وقيام رسولهم صلى الله عليه وسلم بمكاتبة ملوك وأمراء العالم، بمن فيهم الأمبراطور البيزنطي وأتباعه الغساسنة وحكام مصر والحبشة. [4] والحق أن المعسكر البيزنطي- النصراني هو الذي حظي بالقسط الأعظم من حركة الرسول العالمية المعروفة في التاريخ باسم (مكاتبة الملوك والأمراء) ، ربما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك أن الوشائج التي تربط الإسلام بهذه الجبهة، باعتبارها تنتمي إلى دين سماوي تنص مصادره الدينية على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ستقودهم إلى تفهم دعوته التي انطلق بها سفراؤه إلى ملوك وحكام هذا المعسكر، فضلا عن قربه الجغرافي من شبه الجزيرة، إلا أن ردود الفعل النصرانية لم تكن سواء، وتدرجات بين الانتماء إلى الدعوة الجديدة أو الموقف الودي منها، وبين الرفض الغاضب الوقح!! ولم يحدد مؤرخونا القدامى تواريخ هذه السفارات، فيجعلونها حينا في أواخر السنة السادسة، ويجعلونها حينا آخر السنة السابعة أو ما بعدها، إلا أن هذا الالتباس يزول فيما ذكره ابن إسحاق من أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق رجالا من أصحابه إلى ملوك العرب والعجم دعاة إلى الله عزّ وجلّ فيما بين الحديبية ووفاته «1» . وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات غداة فقال لهم: (إني بعثت رحمة وكافة، فأدوا عني يرحمكم الله، ولا تختلفوا علي كاختلاف الحواريين على عيسى ابن مريم) قالوا: يا رسول الله وكيف كان اختلافهم؟ قال: (دعا إلى مثل ما دعوتكم إليه، فأما من قرب به فأحب وسلم، وأما من بعد به فكره وأبى..) «2» . في أعقاب صلح الحديبية بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة من رجاله إلى العالم النصراني: دحية بن خليفة الكلبي إلى الأمبراطور البيزنطي هرقل، حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس حاكم مصر، عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي حاكم   (1) الطبري: تاريخ 2/ 644- 645. (2) المصدر السابق 2/ 64 5، ابن هشام ص 375- 376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الحبشة، شجاع بن وهب الأسدي إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق «1» . انطلق دحية إلى هرقل يحمل كتابا جاء فيه «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن تتولى فإن إثم الأكارين عليك» «2» . ويورد محمد حميد الله صورة أخرى للكتاب جاء فيها «.. إني أدعوك إلى الإسلام فإن أسلمت فلك ما للمسلمين وعليك ما عليهم. فإن لم تدخل في الإسلام فاعط الجزية فإن الله تبارك وتعالى يقول: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ «3» ، وإلا فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام أن يدخلوا فيه أو يعطوا الجزية» «4» . وهذه الصيغة أكثر انسجاما مع طبيعة الدعوة الإسلامية من الصيغة السابقة التي تكتفي بعرض الإسلام فقط دون تمييز بينه وبين الخضوع لسلطان الدولة الإسلامية بدفع الجزية والسماح للمواطنين بدفعها. وصادف أن وصل مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم بلاد الشام وهرقل يحج إلى بيت المقدس في احتفال مهيب، شكرا لله على ما منحه إياه من نصر حاسم على أعدائه الفرس. وهناك تسلم الأمبراطور كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأه. ويسرد لنا كل من ابن إسحاق والطبري نقلا عن رواتهما وبضمنهم بعض نصارى الشام، وأبو سفيان الذي كان حينذاك في رحلة تجارية لقريش إلى الشام، عددا من الروايات تشير إلى أن هرقل وكبير أساقفته المدعو (صغاطر) لما اطلعا على الكتاب قالا: إنه للنبي الذي كنا ننتظره، لا شك فيه، نعرفه بصفته ونجده في كتبنا باسمه. وإن صغاطر خرج على الروم وهم في الكنيسة فقال: يا معشر الروم، إنه قد جاءنا كتاب من أحمد، يدعونا فيه إلى الله عزّ وجلّ، وإني أشهد إن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد وضربوه حتى قتلوه. فلما عرف   (1) الطبري: تاريخ 2/ 644، خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 41. (2) الطبري: تاريخ 2/ 649. (3) سورة التوبة، الآية: 29. (4) مجموعة الوثائق ص 110، وانظر المصدر نفسه ص 106- 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 هرقل الخبر تنازل عن أقواله وقال: إنا نخافهم على أنفسنا! صغاطر والله كان أعظم عندهم وأجوز قولا مني «1» . ويورد اليعقوبي صيغة الرسالة الجوابية التي بعث بها هرقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجاء فيها «إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى. من قيصر ملك الروم. إنه جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى ابن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيرا لهم..» «2» !. غير أنا نشك في صحة هذه الروايات لما يغلب عليها من مبالغة وسرد قصصي سيما وأنها تتحدث عن فترة كان أمبراطور الروم قد غدا فيها سيد العالم في أعقاب انتصاره على غريمه الفارسي، وأن نشوة النصر لا يمكن أن تقوده إلى الحذر والتحسب لما ستجيء به الأيام، ولما يمكن أن يتمخض على أيدي قوم من العرب، لم يكن لهم حتى ذلك الحين وزن في الميدان الدولي «3» . ورغم ذلك فإن الاهتمام الذي أبداه هرقل تجاه السفارة النبوية وترحيبه بمبعوث النبي صلى الله عليه وسلم دفع حاشيته إلى الهياج، وزادهم هياجا ما عرضه عليهم- لا ندري جادا أم هازلا- من اعتناق الدين الجديد. وهرقل في نظرنا رجل سياسي، وأمر الدين لا يعنيه إلا بقدر ما يدعم ملكه، وقد تولى شؤون الدولة في وقت كانت الخلافات الكنسية حول طبيعة المسيح تغلي غليان المرجل وتثير في الأمة انقسامات مخيفة، وقد حاول التقريب بين وجهات النظر المتباينة وجمع الكنائس المتخاصمة على مذهب واحد، فعجز وتمرد عليه اليعاقبة وغيرهم في مصر والشام. فالكلام في الإلهيات ليس غريبا عليه، والتقريب بين وجهات النظر لمصلحة الدولة ديدنه، ولعله في أعماق قلبه يحس سخف أولئك المختلفين جميعا.. وشاءت لباقة قيصر السياسي أن يستدعي دحية وأن يحاول إيهامه بأنه أسلم، ثم أعطاه قدرا من الدنانير وصرفه. وعاد دحية إلى رسول الله بالنبأ فقال النبي: كذب عدو الله ليس بمسلم، وأمر بالدنانير فقسمت على المحتاجين «4» .   (1) انظر: الطبري، تاريخ 2/ 246- 651، وابن سعد 1/ 2/ 16. (2) تاريخ اليعقوبي: 2/ 67. (3) انظر الطبري: تاريخ 2/ 651. (4) الغزالي: فقه السيرة ص 385- 386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وانطلق شجاع بن وهب إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق، يحمل كتابا جاء فيه «سلام على من اتبع الهدى وآمن به. إني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك» . فماذا كان جواب الأمير الذي يتعاطى العمالة والتبعية لسيده البيزنطي؟ «من ينزع مني ملكي؟ أنا سائر إليه ولو كان باليمن» وأمر بإعداد الخيول، ثم قال للرسول: أخبر صاحبك ما ترى، كما كتب إلى قيصر يطلعه على ما جرى وما اعتزم عمله، فكتب إليه قيصر ألا تسير إليه، وأله عنه، ووافني بإيلياء «1» . ولم يستطع الحارث- بالطبع- أن يتحرك ضد المسلمين لأن أمره ليس بيده ولأن سيده البيزنطي كان أكثر ذكاء منه فلم يتحرك إلا بعد حوالي السنتين، وبعد أن تأكد من طبيعة الدولة الجديدة في الجنوب وأدرك أبعادها الحقيقية.. لكن (الصغار) كثيرا ما يندفعون أمام (الكبار) ويجاوزونهم خطوات وخطوات، ملتفتين إليهم بين الحين والحين بإعجاب، لكي يحظوا بتشجيعهم وهداياهم! وإلى النجاشي، حاكم الحبشة، بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ليتكلم معه بشأن المهاجرين، وليدعوه في الوقت نفسه إلى الإسلام، حاملا معه كتابيه بهذا الشأن وقد جاء في كتاب دعوته إلى الإسلام «.. من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة. سلم أنت، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والولاء على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا ونفرا معه من المسلمين، فإذا جاؤوك فأكرمهم، ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله، فقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحي، والسلام على من اتبع الهدى» «2» . ويحدثنا ابن إسحاق وابن سعد كيف أن النجاشي تقبّل الرسالة بقبول حسن وأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم برسالة رقيقة يعلن فيها إسلامه وأن ما قاله في عيسى عليه   (1) الطبري: تاريخ 2/ 652، وابن سعد 1/ 2/ 17. (2) الطبري: تاريخ 1/ 652، ابن سعد 1/ 2/ 15، وانظر النص الكامل في محمد حميد الله: الوثائق ص 99- 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 السلام هو الصدق والحق. وأنه قد استضاف ابن عمه وأصحابه على الرحب والسعة.. ويختم رسالته قائلا: «وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين. وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم.. وإن شئت أن أتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله» . ويختتم ابن إسحاق حديثه قائلا: «وقد ذكر لي أن النجاشي بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة، فإذا كانوا في وسط البحر غرقت بهم سفينتهم فهلكوا» «1» ، ولا يوجد من الوقائع والأدلة والروايات الآخرى ما يؤيد هذا الذي ذهب إليه ابن إسحاق.. وربما يكون موقف النجاشي الودي، سواء من مهاجري المسلمين أو خطبة الرسول لأم حبيبة بنت أبي سفيان، أو الرسالة التي دعاه فيها إلى الإسلام، هو الذي دفع إلى المبالغة في تقدير موقفه الطيب وإيصاله حد إعلانه الإسلام. وإلى المقوقس حاكم مصر القبطي انطلق حاطب بن أبي بلتعة، فاستقبله استقبالا حسنا لا يقل كرما وطيبة عن استقبال زميله الحبشي لمبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم وجرى حوار بين حاطب والمقوقس قال فيه حاطب: إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش وأعداهم له اليهود وأقربهم منه النصارى. وما بشارة موسى بعيسى عليه السلام إلا كبشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل. وكل نبي أدرك قوما فهم أمته، فحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدرك هذا النبي ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكننا نأمرك به. وقد أعرب المقوقس عن موقفه الودي من الرسول بأن بعث إليه رسالة جاء فيها: «لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليكم، أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وتدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم في القبط، وبثياب، وأهديت لك بغلة تركبها» . وقد دعا حاطب- في طريق عودته الجاريتين مارية وأختها سيرين إلى الإسلام فأسلمتا. وردا على هذا الموقف الطيب تقبل الرسول الهدية وتزوج مارية التي ولدت له- فيما بعد- إبراهيم،   (1) الطبري: تاريخ 2/ 652- 653، ابن سعد 1/ 2/ 15- 16، وانظر البلاذري: أنساب 1/ 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وبعث الآخرى إلى شاعره حسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن «1» . وكان من حصيلة هذه الزيجات المباركة والمواقف الطيبة، تعاطف أكثر لأصهار الرسول صلى الله عليه وسلم الأقباط مع المسلمين، وتعاون صادق مع فاتحيهم وهم يتحركون على أرض مصر لإسقاط الحكم البيزنطي وتحرير المصريين من تعسفه وتعصبه وجوره «2» . ويلاحظ أن كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصر يستهل بهذه العبارة «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط..» «3» . وهنا يجب أن نقف قليلا عند شخصية المقوقس هذا الذي تعرفه الرواية الإسلامية دائما بأنه عظيم القبط. فقد كانت مصر يومئذ ولاية رومانية تخضع لقيصر قسطنطينية، ولم يكن لأهلها القبط أي نوع من الاستقلال. ولم تكن هذه الحقيقة مجهولة في المدينة حيث تدل كتب النبي ورسائله على أن الأحداث والأوضاع السياسية التي كانت تسود الجزيرة العربية وما يجاورها من الممالك كانت معروفة من النبي وصحبه. وقد كان حاكم مصر الروماني في الوقت الذي نتحدث عنه هو الحبر كيروس، وهو في نفس الوقت حاكم مصر وبطريقها الأكبر، وقد استطاع البحث الحديث أن يلقي كثيرا من الضياء على شخصية المقوقس وأن يتعرف فيها على شخصية كيروس نفسه. وإذن فالمرجح أن المقوقس الذي تردد الرواية العربية اسمه إنما هو كيروس حاكم مصر الروماني «4» . ومما يؤيد هذه الحقيقة أن السفير النبوي قصد إلى الإسكندرية ليؤدي مهمته، وقد كانت الإسكندرية يومئذ مقر الحاكم العام الروماني «5» .   (1) ابن سعد 1/ 2/ 16- 17، الطبري: تاريخ 3/ 21- 22، الغزالي: فقه السيرة ص 387، وانظر محمد حميد الله: الوثائق ص 135- 138. (2) يمكن الرجوع في هذا المجال إلى كتابي: بتلر (فتح العرب لمصر) وتوماس أرنولد (الدعوة إلى الإسلام) . (3) راجع نص الكتاب في أخبار مصر لابن عبد الحكم ص 46 وصبح الأعشى للقلقشندي 6/ 377. (4) انظر بتلر: فتح العرب لمصر ص 126، 444 وما بعدها. (5) محمد عبد الله عنان: مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام ص 204- 205 وهوامشهما. ويشكك عبد الحميد بخيت (عصر الخلفاء الراشدين ص 543- 544) دون دليل مقنع بصحة النتيجة التي توصل إليها بتلر ونقلها عنه عنان، فيقول: «حاول ألفريد بتلر أن يحل بعض المشكلات المتعلقة بشخصية المقوقس فلم يخرج إلا بنتيجة واحدة قبلها الناس زمانا ولكنها الآن موضع شك كبير، ونعني بذلك قوله إن المقوقس هو قيرس (كيروس) ولم يستند في ذلك القول إلا على عبارات تحتمل أكثر من تفسير وجدها عند ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين ... ولو أن المقوقس هذا كان قيرس بالذات لذكرت ذلك المراجع العربية أو واحد منها على الأقل» وانظر: تاريخ الحضارة المصرية عدد 5 من المجلد الثاني ص 325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ونحن نجد في رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حكام العالم تأكيده الدائم على شهادة (لا إله إلا الله) في عصر طغت فيه الربوبيات الزائفة واتخاذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله. ولم يتهادن الرسول صلى الله عليه وسلم في طرح هذا الشعار إزاء حكام العالم، كما لم يتهادن به في صراعه مع الوثنية العربية منذ أول لحظة، فهو المنطلق الأساسي للدعوة الجديدة، والقاعدة التي يقوم عليها صرح الإسلام وبدونها يتميع ويتفكك ويضيع. ونلمح، في الوقت نفسه- وفيما وراء هذا الشعار- مرونة وتكييفا دبلوماسيا كان الرسول يصوغ بموجبه رسائله إلى الحكام فيعرض عليهم بعض جوانب اللقاء الديني بين الإسلام والنصرانية، ويمنيهم بالخير العميم في الدنيا والآخرة في حال انتمائهم للدين الجديد، الذي هو ليس سوى إتمام للشوط الذي كان موسى وعيسى عليهما السلام قد سارا عليه من قبل، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يدفع خلال السطور كلمات وعبارات ينذرهم فيها أنهم إن لم يستجيبوا فإنهم سيعرضون مراكزهم للخطر وزعاماتهم للبوار!! وكان صلى الله عليه وسلم فضلا عن هذا وذاك يقدر طبيعة الموقف الذي يصدر عنه (الحاكم) فيرد عليه بما يشبهه ويوازيه: تهديدا للحاكمين الذين يتمادون في الضلال ويشيحون عن مصدر النداء، ويعربون عن مواقفهم بكلمات وألفاظ عدائية، وقبولا وانفتاحا على الساسة الذين يصدرون عن نيات طيبة وإخلاص صادق. إلا أن المكسب الأكبر الذي حققه صلى الله عليه وسلم من وراء مكاتباته تلك، أنها جاءت حملة (إعلامية) على النطاق الدولي من أن هذا الدين ليس دين عرب أو جزيرة عربية، وإنما هو دين الإنسان حيثما كان هذا الإنسان.. ونداء إلى السلطات الحاكمة أن تستجيب للدعوة أو تسمح- على الأقل- لدعاتها بممارسة نشاطهم بحرية ولشعوبها في مقابلة هؤلاء الدعاة والاستماع إليهم لكي يختاروا عقيدتهم على بيّنة، بعيدا عن الضغط والقسر والإكراه.. وإنذارا لهذه السلطات بأنها إن لم تلبّ وتستجيب فإن جيوش الدعوة الجديدة ستنساح عما قريب في مشارق الأرض ومغاربها، لكي تسقط التيجان وتثل العروش وتنزل السلطات من مناصبها العليا، وتخرج الناس- بذلك وحده- من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. إن توسيع ميدان الدعوة بحيث تشمل المعمور من أرض الله يومئذ أمر يثير التأمل. لقد كان العرب يستكثرون النبوة على واحد منهم ويوسعونه جحودا، فما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 يكون شأن الروم والعجم وهم يرون العرب دونهم منزلة وحضارة وثقافة وسياسة؟ بيد أن أصحاب الرسالات لا ينظرون إلى الأمور على ضوء الحاضر الضيق، فإن ثقتهم العميقة في سيادة فكرتهم وامتداد نطاقها تعترض العقبات المفروضة في الطريق وتجعلها هباء منثورا.. ثم إن الخرافة التي أفسدت عقل بدوي تترب ثيابه رياح نجد هي بعينها الخرافة التي تفسد فكر كسرى عاهل الفرس العظيم. ما الفارق بين الحمى تصيب ملكا أو تصيب صعلوكا؟ إن الطبيب يصف لهما على الحالين دواء واجدا ويتخذ ضد عدواهما حصانات واحدة. وقد أراد النبي أن يشفي الكبار والصغار من أمراض نفوسهم، وأن يناولهم جميعا الدواء الذي يصحون به.. قد يكون أولئك الملوك محجبين وراء أسوار مشيدة وحولهم من الأتباع والجند والأبهة والرياش ما يبهر العين، لكن أي عين تنبهر لهذه المظاهر؟ إن الأنبياء لا يرون في القوم إلا أنهم جهال يجب أن يتعلموا، سفهاء يجب أن يسترشدوا، وأن ما حولهم من الدنيا يجعل تبعتهم أخطر «1» . لقد كانت سفارات الرسول وكتبه عملا بديعا من أعمال الدبلوماسية، بل كانت أول عمل قام به الإسلام في هذا الميدان.. لم يذهب عبثا كما رأينا.. ولا ريب أن النبي لم يكن يتوقع أن يلبي أولئك الملوك الأقوياء دعوته وهو ما يزال يكافح في بثها بين قومه وعشيرته، بيد أن إيفاد هذه البعوث يعد عملا متمما للرسالة النبوية. وكان العالم القديم الذي يتجه إليه النبي العربي بدعوته يقوم يومئذ على أسس واهية تنذر بالانهيار من وقت إلى آخر، وكانت الأديان القديمة قد أدركها الانحلال والوهن، فكانت الدعوة الإسلامية تبدو في جدتها وبساطتها وقوتها ظاهرة تستحق البحث والدرس، ولم يكن عسيرا أن يستشف أولو النظر البعيد ما وراء هذه الدعوة الجديدة من قوى تنذر بالانفجار، وقد كان الانفجار في الواقع سريعا جدا «2» . [5] في السنة الثامنة كان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتخذ موقفا حاسما إزاء القبائل العربية النصرانية الموالية للبيزنطيين، بعد المواقف الغادرة التي اتخذها بعض   (1) الغزالي: فقه السيرة ص 391- 392. (2) عنان: مواقف حاسمة ص 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أمرائها من دعاة الإسلام ورسلهم إلى الشام. وكانت حادثة مقتل الحارث بن عمير الأزدي مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى على يد شر حبيل بن عمرو الغساني في مؤتة هي التي استفزت الرسول صلى الله عليه وسلم لتأديب عرب الشمال الموالين للبيزنطيين «1» ، فجهز جيشا كبيرا- نسبيا- يبلغ ثلاثة آلاف مقاتل ولى قيادته زيد بن حارثة «2» وأمره بالانطلاق صوب الشمال لتأديب القبائل العربية على فعلتها- إن لم تستجب لدعوة الإسلام- وإشعارها بقوة الدولة الإسلامية وقدرتها على ردع الغادرين والمعتدين الذين يرون في الحماية البيزنطية سببا يدفعهم إلى الجرأة والعدوان، ولاستطلاع قوة وكفاية وطبيعة الأرض هناك. ونظرا لبعد الطرق واحتمال مجابهة قوى كثيرة العدد، ألحق الرسول صلى الله عليه وسلم بقائد الجيش قائدين احتياطيين هما جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، يتوليان الأمر، أحدهما بعد الآخر، في حالة إصابة القائد الأول، مما يدل على مدى بعد النظر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتمتع به. ومن السذاجة أن يتبادر إلى الأذهان أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم مسبقا المصير الذي كان ينتظر أعزّ أصحابه، فلم يعرف عنه أبدا أنه ساق أتباعه إلى حتوفهم أو رمى بهم في عمليات ينتحرون فيها. كل ما هنالك أن كثرة مشاغله منعته من قيادة الجيش بنفسه، ومن أجل ضمان وحدة قواته ومنعا للفوضى والاضطراب في أرض متطرفة شمالا، عين هؤلاء القادة الاحتياطيين «3» . خرج المسلمون في جمادى الأولى، رجالا ونساء وأطفالا، لتوديع المقاتلين الذاهبين إلى أقصى الشمال، وتعالت أصواتهم (صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين) ، وراح عبد الله بن رواحة الشاعر ينشد: لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع «4» تقذف الزبدا «5» أو طعنة بيدي حرّان مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا   (1) ابن سعد 2/ 1/ 92، الواقدي 2/ 755- 756، المسعودي: التنبيه والإشراف ص 230. (2) يورد اليعقوبي كعادته (تاريخ 2/ 54) رواية خاطئة مفادها أن جعفر بن أبي طالب ربما كان الأمير الأول على الجيش الذاهب إلى مؤنة. (3) ابن هشام ص 270، الطبري: تاريخ 3/ 36، ابن سعد 2/ 1/ 92- 93، الواقدي 2/ 756، البخاري: التجريد 2/ 89. (4) الفرع: السعة. (5) الزبد: رغوة الدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 حتى يقال، إذا مروا على جدثي، ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا وعندما ودعهم الرسول صلى الله عليه وسلم وانصرف راجعا أنشد ابن رواحة: خلف السلام على امرىء ودعته ... في النخل خير مشيع وخليل «1» مضت قوات المسلمين حتى بلغت معان جنوبي الأردن، فعسكرت فيها، وبلغ قادتها هناك أن الأمبراطور البيزنطي قد سمع نبأ التحرك الإسلامي فتقدم على رأس مائة ألف من الروم- فيما تذكر الروايات- وعسكر في ماب من أرض البلقاء. ويذكر المسعودي أن هرقل كان مقيما آنذاك في أنطاكية وأنه ولّى قيادة جيشه تيادوتس البطريق «2» ، ويؤكد بروكلمان ما ذهب إليه المسعودي مصححا اسم القائد البيزنطي (ثيودورس) «3» . وفي ماب التحقت بالقوات البيزنطية القبائل العربية الموالية من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلى، قادهم شرحبيل بن عمرو الغساني وبلغوا- فيما تذكره الروايات- مائة ألف. ولا ريب أن المبالغات التي أعقبت هذه المعركة التي انسحب فيها المسلمون كثرت من عدد العدو وجعلته يبلغ هذا الرقم الخيالي، وإن كان بمستطاع القبائل العربية الضاربة في المنطقة أن تهرع لنجدة سيدها بعشرات الآلاف من المقاتلين «4» . ظل المسلمون معسكرين في معان طيلة ليلتين، يتدبرون أمرهم، وقال بعضهم: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. إلا أن عبد الله بن رواحة اندفع بفورة حماس يعرفها جيدا من يعيش فورات التجربة الشعرية وانفعاليتها مقترنة بزخم إيماني لا ترده رؤية أو تمهل، راح ينادي أصحابه: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة!! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذين أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة!! فأجابه الناس الذين لم يعرفوا خوفا يوما أو تراجعا، والذين يدركون جيدا كم هو عظيم الهدف الذي خرجوا من أجله، وكم هي غالية (الشهادة) على   (1) ابن هشام ص 270- 271، الطبري: تاريخ 3/ 37، الواقدي 2/ 756- 759. (2) التنبيه والإشراف ص 230. (3) تاريخ الشعوب الإسلامية ص 59. (4) ابن هشام ص 271، الطبري 3/ 37، ابن سعد 2/ 1/ 93، الواقدي 2/ 760. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد والله صدق ابن رواحة «1» . غادر المسلمون معسكرهم في معان وانطلقوا شمالا حتى إذا بلغوا تخوم البلقاء لقيتهم جموع الروم والعرب في قرية من قرى البلقاء تدعى مشارف، فانحازوا صوب قرية مؤتة، وهناك عبأوا أنفسهم فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يسمى عباية ابن مالك وبدأ القتال المرير. وانطلق زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل حتى شاط في رماح القوم وغرق بدمائه، فتسلّم الراية جعفر بن أبي طالب ذو الثلاث والثلاثين سنة من العمر وانطلق يقاتل حتى إذا أحاط به العدو من كل مكان وسددوا إليه ضرباتهم، اقتحم عن فرسه الشقراء وضرب قوائمها بالسيف وراح يجالد القوم وهو ينشد: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردا شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها علي إذ لاقيتها ضرابها كان جعفر يحمل الراية بيمينه فلما قطعوها أخذها بشماله، فلما قطعوها احتضنها بعضديه حتى قتل في أعقاب ضربة من جندي رومي قطعته نصفين، فانقض عبد الله بن رواحة وحمل الراية وتقدم بها على فرسه. وفي موجة من الرعب الذي لا يرحم، منبثقا هذه المرة أيضا عن انفعالية الشعراء وتأرجحهم النفسي، وحساسيتهم، تردد عبد الله بعض التردد إلا أنه ما لبث أن تفوق على خوفه وتردده، ونزل عن فرسه لكي يشتبك بأعداء الله وهو ينشد: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلنه أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنة «2» ... ما لي أراك تكرهين الجنة؟ يا نفس إلّا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت ... أن تفعلي فعلهما هديت وأتاه ابن عم له بقطعة لحم وقال: شد بها صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت!! فأخذها منه واقتطع منها مضغة لكنه ما لبث أن سمع احتدام   (1) ابن هشام ص 271- 272، الطبري: تاريخ 3/ 37- 38، الواقدي 2/ 760. (2) الرنة: ترجيع شبيه بالبكاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 القتال قريبا منه، فخاطب نفسه: وأنت في الدنيا؟ ألقى قطعة اللحم من يده ثم أخذ سيفه وتقدم، فقاتل حتى قتل «1» . أخذ الراية رجل من المسلمين يدعى ثابت بن أقرم ونادى: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فتشاور الناس واتفقوا على تسليم القيادة لخالد بن الوليد. وفي قلب الفجيعة واحتدام القتال كان المسلمون ينفذون (قيما) ويصنعون أخرى.. ثابت بن أقرم وهو يرفض القيادة، لا خوفا أو جبنا ولكن إدراكا لقدراته وطلبا للأكفأ والأحسن، والمقاتلون وهم (يتشاورون) لاختيار قائدهم الجديد بعد فجيعتهم برؤسائهم الثلاث «2» .. ولقد كان خالد عند ظن أصحابه، التمعت عبقريته القتالية في لحظة الامتحان الخطير هذه، فجعل هدفه أن ينسحب بالمسلمين وأن يجنبهم عملية إبادة شاملة هي الآن قاب قوسين أو أدنى منهم.. وماذا بعد ضياع زهرة قوات المسلمين وتبعثر جثث ثلاثة آلاف مقاتل في الصحراء بعيدا عن رسولهم وأهليهم؟ سيقول الأمبراطور إن اندفاعا حماسيا من جزيرة العرب قد سحق، وعلى أعراب الجنوب ألا يفكروا مرة أخرى بمصارعة سيدة العالم، المنتصرة على الساسانيين، وسيقول أتباعه من نصارى العرب إن كلمة سيدنا هي الكلمة، وإن تبعيتنا وطاعتنا في مكانها، لن يحرفها نداء رجل جاء يدعونا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة العباد! وسترفع الوثنية واليهودية وحركة النفاق رؤوسها ثانية في قلب الجزيرة في محاولة لاسترداد مواقعها القديمة التي أزاحها عنها الإسلام. ولقد بدأ خالد تحقيق هدفه هذا بأن رسم خطة سعى فيها إلى إيهام العدو أن المسلمين لا زالوا في أماكنهم يقاتلون، فدفع مقدمتهم إلى مناوشة العدو، وأجرى تغييرات في مواقع جنده، بين ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة، وأرسل خلف الجيش عددا من الرجال والخيول يحدثون جلبة شديدة ويثيرون النقع، ليوهم العدو أن مددا قد جاءه، وما أن حلّ الظلام حتى انسحب من الميدان، وأخذ طريقه جنوبا، منقذا معظم المسلمين من فناء محقق «3» ، ولم يخسر   (1) ابن هشام: ص 272- 273، الطبري: تاريخ 3/ 39- 40، ابن سعد: 2/ 1/ 93، الواقدي 2/ 761. (2) ابن هشام ص 273، ابن سعد 2/ 1/ 64، الطبري: تاريخ 3/ 40، الواقدي 2/ 763- 764. (3) انظر الواقدي 2/ 764. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 المسلمون، في رواية للواقدي، سوى ثمانية قتلى «1» أو إثني عشر على الأغلب، بينما كانت خسائر العدو أضعافا مضاعفة مما أثر في معنوياتهم وصدهم عن مطاردة المسلمين. ومعروف أن عملية الانسحاب تعد من أصعب العمليات العسكرية، لاحتمال انقلاب الانسحاب إلى هزيمة، والهزيمة كارثة تؤدي إلى خسائر فادحة بالمنهزمين.. ولا تعد خسائر المسلمين الضئيلة في مؤتة شيئا يذكر بجانب الفائدة العسكرية التي أفادها الإطلاع على خواص قوات الروم وتنظيمها وتسليحها وأساليب قتالها مما اتضح أثره في المعارك التي خاضها المسلمون فيما بعد «2» . ابتعد المقاتلون عن ميدان القتال قبل أن تصلهم النجدة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد استنفرها لدى سماعه أنباء القتال «3» ، ووصلوا المدينة بعد مسيرة مجهدة في جحيم الصحراء، وتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، والصبيان يعدون من ورائهم ويهتفون: يا فرّار فررتم في سبيل الله؟ فيجيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى «4» . ولقد كرّوا فعلا على أعدائهم بعد قليل، فأمة يستنكر فيها الهزيمة حتى أطفالها الصغار الذين لم (يعتادوا) عودة (كبارهم) مقهورين، لا بد أن يجول كبارها جولات وجولات حتى تتحقق الكلمة التي حملوها إلى العالم!! ولم يمض شهر واحد على معركة مؤتة حتى بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة، القاطنين في الشمال والموالين للروم، قد تجمعوا يريدون القيام بهجوم على أطراف الدولة الإسلامية، فدعا عمرو بن العاص ووجهه على رأس ثلاثمائة من أبطال المهاجرين والأنصار، وأمره أن يستعين بمن يمر بهم من قبائل بلى وعذرة وبلقين، الموالية للمسلمين. فانطلق عمرو يسير ليلا ويكمن نهارا، فلما اقترب من القوم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه مددا فأسرع بإرسال أبي عبيدة بن الجراح على رأس مائتي مقاتل من كبار المهاجرين   (1) الواقدي، المصدر السابق 2/ 769. (2) شيت خطاب: الرسول القائد ص 206- 207، وعن مؤتة انظر كذلكEncyclopeadia of Islam ,art ,Muta.: (3) الطبري: تاريخ 3/ 41. (4) ابن هشام ص 274، الطبري: تاريخ 3/ 42، ابن سعد 2/ 1/ 93، الواقدي 2/ 765. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 والأنصار فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم وأمره أن يلحق بابن العاص وأن يعملا سوية لإنجاز المهمة التي كلفا بها. وانطلق عمرو- بعد أن وصله مدد أبي عبيدة- حتى «وطىء بلاد بلى ودوخها، حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين» . ولقي في نهاية زحفه جمعا فحمل عليهم فهربوا بين يديه وتفرقوا في البلاد، بعد أن قتل منهم عدد كبير «1» ثم قفل جيش الرسول صلى الله عليه وسلم عائدا بعد أن غطى بانتصاراته الأخيرة هذه في أقصى الشمال، على مأساة مؤتة، ومكن للنفوذ الإسلامي في أقصى الشمال، وأشعر العرب الموالين للبيزنطيين بأن هزيمة المسلمين في معركة لا تعني أبدا انحسار دولتهم في أراضي الشمال. [6] بعد عودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في أواخر السنة الثامنة، في أعقاب دخوله مكة وانتصاره في حنين، بلغته أنباء خطيرة عن تحركات يعتزم الروم وحلفاؤهم العرب من لخم وجذام وغسان وعاملة، القيام بها ضد الدولة الإسلامية قبل أن يشتد ساعدها وتتفرد في قيادة الجزيرة العربية، وتشكل خطرا حاسما على الوجود البيزنطي في بلاد الشام، وقد قامت هذه القبائل فعلا بإرسال طلائعها إلى البلقاء. كان الوقت صيفا، والصحراء تحترق نارا، والبلاد تعاني جدبا ومحلا، والطريق طويلا، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص لقطع آلاف الأميال عبر الصحراء، وقتال قوم هم سادة الدنيا، ومحنة مؤتة، فوق هذا كله، ليست بعيدة عن الأذهان، لكن منطق الرسول صلى الله عليه وسلم يفوق التحديات ويتجاوز المصاعب، لأن السكوت على التحرك البيزنطي معناه الاندحار، وانتظارهم لكي يوجهوا (هم) ضربتهم معناه الانتحار، فلا بد إذن من التجهز بسرعة، وتولي زمام المبادرة، والانطلاق عبر المتاعب والمصاعب للرد على تحدي سيدة العالم، وإشعار العرب الخاضعين لها أن هناك دولة ثانية وكلمة أخرى. وفي معظم الغزوات كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحدد هدفه العسكري زيادة في الكتمان، على العكس إنه كان يعلن عن أهداف غير تلك التي يريد قصدها، أما   (1) ابن سعد 2/ 1/ 94- 95، الواقدي 2/ 7 70- 771، الطبري: تاريخ 3/ 29، 31- 32 البلاذري: أنساب 1/ 380- 381، اليعقوبي: تاريخ 2/ 64، المسعودي: التنبيه والإشراف ص 231، ابن الأثير: الكامل 2/ 232، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 273- 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 في غزوة تبوك فقد بينه للناس «لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو، ليتأهب الناس لذلك أهبته» . وأمر صلى الله عليه وسلم بالتجهز وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم وحضّ الذين يملكون على النفقة في سبيل الله وتهيئة الدواب التي ستنقل المقاتلين إلى الشمال. ثم ما لبث أن انطلق في رجب بأكبر جيش عرفه تاريخ الدعوة حتى ذلك الحين، قيل إنه بلغ ثلاثين ألفا، تصحبها عشرة آلاف فرس، مستخلفا في المدينة عليا بن أبي طالب رضي الله عنه «1» ، ودافعا لواءه الأعظم إلى أبي بكر ورايته إلى الزبير رضي الله عنهما «2» . بدأ المسلمون مسيرتهم التي قطعوا فيها آلاف الأميال، وعانوا آلام العطش والجوع والحر وقلة وسائل الركوب وبعد الطريق.. ويحدثنا عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقي على كبده «3» . لقد كان جوب البادية- يقول درمنغم- صعبا، وجعل محمد صلى الله عليه وسلم وجنوده يعسكرون بعد غروب الشمس المحرقة تحت عاصفة من الرمال جياعا عطاشا، وتوارى هؤلاء الجنود خلف جمالهم، مولين الرياح ظهورهم مدثرين بأرديتهم، متشبثين بالأرض، وخرج اثنان من العسكر فاختنق أحدهما واحتملت الريح الآخر. فلما أصبح الناس بدؤوا يزحفون منهوكين محمري العيون، مفطّري الأرجل، مجمّدي الريق، مدويي الآذان، مفريي الجلود، زالقين على ألواح حجرية سود، متخرقين لصخور بادية على شكل سوق الشجر.. وبلغ بعضهم من الهذيان ما صب معه في حلوقهم ووضع على صدورهم سوائل، أخذت من كروش الإبل «4» . انتهى المطاف بالمسلمين إلى تبوك في أقصى الشمال، ويبدو أن الروم   (1) ابن هشام ص 325، الطبري: تاريخ 3/ 1- 101، 103- 104، ابن سعد 2/ 1/ 118- 119 ويذكر الأخير أن (محمد بن مسلمة) هو الذي استخلف على المدينة، الواقدي 3/ 989- 991. (2) الواقدي 3/ 996. ويخطىء اليعقوبي (تاريخ 2/ 56) كشأنه مرارا في قوله متحدثا عن غزوة تبوك أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى أرض الشام «يطلب بدم جعفر بن أبي طالب» بينما يشير سياق الأحداث، وحجم التحرك العسكري، وطبيعة الظروف السياسية، إلى أن الأمر أكبر بكثير من مجرد هجمة ثأرية لمقتل رجل من المسلمين. (3) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 9. (4) حياة محمد ص 365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وحلفاءهم سمعوا أنباء هذا الجيش الكبير، وقدرته على اجتياز المصاعب، وإصراره على لقاء الأعداء فاثروا الانسحاب إلى الداخل، عبر أراضي الأردن وفلسطين، صوب حمص حيث استقر هرقل، مستهدفين- في الوقت نفسه- جر القوات الإسلامية إلى الداخل والانقضاض عليها هناك «1» . إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتح لهم تحقيق هدفهم هذا وعسكر في تبوك جاعلا إياها آخر نقطة في توغله شمالا. ويذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه في التقدم، فأجابه عمر بن الخطاب: يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت منهم حيث ترى وقد أفزعهم دنوك، فلو إنك رجعت هذه السنة حتى ترى، أو يحدث الله عزّ وجلّ لك في ذلك أمرا «2» . وفي تبوك راح الرسول صلى الله عليه وسلم يراقب الروم ويتحداهم أن يبرزوا له ويقاتلوه. ويذكر المسعودي أنه جرت خلال ذلك مراسلات بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين هرقل الذي كان يقيم آنذاك في حمص وربما في دمشق «3» . ويشير درمنغم إلى أن اتفاقا سريا تم بين محمد وهرقل يقضي بسماح الأخير لعرب الشمال باعتناق الإسلام «4» ، ويبدو أن درمنغم بنى استنتاجه هذا على رواية المسعودي آنفة الذكر وإن لم يكن من المستبعد أن يقرّ هرقل اتفاقا كهذا يخلصه من كثير من المشاكل التي بدأت دولة الإسلام تسببها لحدوده الجنوبية. أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يتصل في الوقت نفسه بزعماء القبائل النصرانية المنتشرة في المنطقة ويتلقى سفاراتهم، فيعقد معهم معاهدات الصلح والتعاون، ويقطع- بذلك- ولاءهم للدولة البيزنطية ويحولهم إلى مواطنين أو حلفاء للدولة الإسلامية، وهو الهدف الذي كان يطمح إلى تحقيقه منذ بدء صراعه مع الروم.   (1) في رواية للواقدي (3/ 1019) إن هرقل ظل في موقعه في حمص لم يتحرك ولم يزحف، وكان الذي خبر النبي من بعثته أصحابه ودنوه إلى أدنى الشام باطلا، ولم يرد ذلك ولم يزحف، ولم يهم به. وليس من السهل الأخذ بهذه الرواية، سيما وأن الواقدي نفسه يذكر في بدء حديثه عن غزوة تبوك أن الذي نقل أنباء احتشاد الروم وحلفائهم شهود عيان من الأقباط الذين كانوا يردون على المدينة حينا بعد حين لبيع الدقيق، والزيت (3/ 989- 990) كما أن سير الأحداث وما قدمته الروايات الآخرى من تفاصيل، لا ينسجم وما يذهب إليه الواقدي في روايته تلك. ويذكر البلاذري (أنساب 1/ 368) أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سار إلى هرقل وحلفائه «هابوا محاربته فلم يلق كيدا» . (2) مغازي رسول الله 3/ 1019. (3) التنبيه والإشراف ص 236. (4) حياة محمد ص 366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وكان ممن جاء إلى تبوك يوحنة بن رؤبة صاحب أيلة حيث صالح الرسول صلى الله عليه وسلم ووافق على منحه الجزية. كما جاءه أهل جرباء وأذرح وأعطوه الجزية التي تعني إشعارا ماديا بانتمائهم إلى الدولة الإسلامية وقطع علاقاتهم وارتباطاتهم بمن سواها. وقد كتب الرسول صلى الله عليه وسلم ليوحنة عهدا يمثل (نموذجا) للعهود التي كان يكتبها للجماعات النصرانية مانحا إياهم فيها حرية الدين والمواطنة على السواء، ومؤكدا على كونهم قد غدوا مرتبطين بالدولة الإسلامية وحمايتها وسلطتها: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر. فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر» . كما وجه صلى الله عليه وسلم خالدا بن الوليد على رأس كتيبة إلى أمير دومة النصراني المدعو أكيدر بن عبد الملك، فتمكن خالد من أسره وقتل أخيه والعودة بالأمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن الرسول دمه، وصالحه على الجزية، ثم أطلق سبيله فرجع إلى بلده «1» . وبعد عشرين ليلة قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم وقواته في تبوك، قفل عائدا إلى المدينة بعد أن حقق بحركته الصعبة تلك انتصارا على الجبهة النصرانية- البيزنطية، لا يقل خطرا عن انتصاراته الحاسمة على جبهات الوثنية واليهودية. فقد كسب عددا من القبائل العربية القاطنة في جنوب الشام إلى جانب الدولة الإسلامية، وقطع علاقاتها بالروم، وأشعر القبائل الآخرى بمدى قوة الدولة الجديدة وامتداد نفوذها إلى قلب الديار التي كان أهلها يعملون لصالح سادتهم الروم، ويلعبون دورا خطيرا في مقاومة امتداد الإسلام صوب الشمال. ولم تكن محنة مؤتة سوى محاولة واحدة من عدد من محاولات هؤلاء العرب بوجه الإسلام. وها هم الآن- بعد تبوك- قد اقتنعوا بأن الاحتماء بالسلطة البيزنطية سوف لن ينقذهم من العقاب، فبدؤوا يتهافتون على الرسول صلى الله عليه وسلم طالبين الصلح معه ودفع الجزية له!!   (1) ابن هشام ص 332- 334، الطبري: تاريخ 3/ 108- 109، ابن سعد 1/ 2/ 28- 29، 37 و 2/ 1/ 120، الواقدي 3/ 1025- 1032، البلاذري: فتوح 1/ 71- 73، المسعودي: التنبيه والإشراف ص 236، وانظر حميد الله: الوثائق ص 116- 118، 118- 119، 119- 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 إلا أن الانتصار الأهم، هو أن استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لتحدي الروم، وتقدمه لقتالهم وانسحابهم من طريقه، وانتظاره إياهم قرابة عشرين يوما دون أن يحركوا ساكنا، جاء ضربة قاصمة للسيادة البيزنطية في بلاد الشام، وإضعافا لمركزها الأدبي وسطوتها على القبائل العربية، وكسرا لجدار الخوف العربي من القوة البيزنطية، وهو انتصار نفسي حاسم مكن العرب، بعد سنين معدودات، من تجاوز ولائهم القديم والانطلاق لضرب البيزنطيين وإلحاق الهزائم بهم وطردهم إلى بلادهم التي جاؤوا منها. إن غزوة تبوك تمثل خطوة من خطوات الحركة الإسلامية المسلحة صوب الخارج، وتخطيا لنطاق العرب وجزيرتهم إلى العالم، وبادرة متقدمة لحركة الفتوحات التي شهدها عصر الراشدين. ولقد جاءت تجربة تبوك التي سماها المسلمون (غزوة العسرة) وقالوا إنها جاءت عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة، شبيهة بمحنة (أحد) ، نارا ممحصة على حريقها ووهجها تميز المنتمون إلى معسكر الإسلام، درجات بعضها فوق بعض، وهذا شأن كل معسكر في تاريخ البشرية، فليس بنو آدم ملائكة يقفون صفا واحدا ولكنهم يتميزون في إيمانهم وإخلاصهم وانتمائهم، تميزهم الانتصارات الحاسمة والإنكسارات الخطيرة وتفرّق بينهم تجارب الراحة والسعادة وآلام المحن والنكبات. فها نحن أولاء نجد، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو المسلمين أن يتجهزوا للرد على التحدي البيزنطي عبر المجاعة والعطش وجحيم الصحراء وطريقها الطويل، أناسا يقفون في القمة، وآخرين يتحركون صعدا في منتصف الطريق لا يقدرون على الصعود خطوات أخرى إلى أعلى، وهم مع ذلك يحاولون ويحاولون، وفئة ثالثة حرنت في مواقعها لا تريد أن تسعى ولا أن تتحرك.. وهنالك في الأسفل، عند جدار المرتفع وفي منخفضاته، طوائف كثيرة من المنافقين والمنهزمين، يتخبطون كالحشرات والديدان دوارا على أنفسهم وبقاء في الحفر الضيقة!! أنفق عثمان بن عفان- يومها- نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، بلغت- فيما ذكره البلاذري- سبعين ألف درهم «1» ، وتصدى بماله لمشكلة النقص الخطير في   (1) أنساب الأشراف 1/ 368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وسائل الركوب.. فردّد الرسول صلى الله عليه وسلم «ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم» وجاء أبو بكر بماله كله: أربعة آلاف درهم فقال له صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت شيئا؟ فأجابه: الله ورسوله أعلم. وجاء عمر بنصف ماله. يقول الواقدي: «ورغب أهل الغنى في الخير والمعروف، وقووا أناس دون هؤلاء من هو أضعف منهم، حتى أن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تتعاقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، حتى إن كنّ النساء ليعنّ بكل ما قدرن عليه!! قالت أم سنان الأسلمية: لقد رأيت ثوبا مبسوطا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها فيه أسورة ومعاضد وخلاخل وأقرطة وخواتيم.. مما يبعث به النساء يعنّ به المسلمين في جهازهم..» «1» . وجاء سبعة من الأنصار من فقراء بني عمرو بن عوف، وتوسلوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على الدواب، فأجابهم (لا أجد ما أحملكم عليه) فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون. ولقي رجل من أهل المدينة اثنين منهما يبكيان فسألهما (ما يبكيكما؟) أجابا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما جملا له يستقي عليه الماء، وزودهما بشيء من التمر، فارتحلا الجمل وخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . ورجع أبو خيثمة، بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما، إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في بستانه قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه طعاما. فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشمس والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ ما هذا بالنصف. والله لا أدخل عريش واحدة منكما حق ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فهيئا لي زادا «3» . وأبو ذر!! لما أبطأ عليه بعيره، تعبا وإرهاقا، أخذ متاعه فحمله على ظهره وخرج يتبع أثر المسلمين ماشيا!! وفي مكان ما من الصحراء الممتدة نظر ناظر من   (1) مغازي رسول الله 3/ 991- 992. (2) ابن هشام ص 326- 327، الطبري: تاريخ 3/ 102، الواقدي 3/ 993- 994، البخاري 2/ 99. (3) ابن هشام ص 328- 329، الطبري 2/ 104- 105، الواقدي 3/ 998- 999. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا رجل يمشي على الطريق وحده، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم بحدسه العميق: كن أبا ذر، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده) «1» . وهنالك من أبطأت بهم نياتهم عن الاستجابة للنداء، ولكن من وراء نياتهم وأفعالهم الظاهرة هذه قلوب يعمرها الإيمان والرغبة في العطاء والندم العميق على أي تهاون أو تفريط. ومن منا لم يسمع قصة الثلاثة المخلفين: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية؟! قال كعب بن مالك، فيما رواه البخاري: «لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك ... حين طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجدّ.. ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا ... وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك. فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت بهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله تعالى من الضعفاء» .. «فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه فأجمعت صدقه. وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى. فجئته فلما سلمت عليه تبسّم تبسم المغضب ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد   (1) ابن هشام ص 331، الطبري 3/ 107، الواقدي 3/ 1000. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك» . «فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما كنا علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت ألاتكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون.. فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى كدت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا نعم، رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما ما قيل لك. فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي» . «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي هل حرّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه ... حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فو الله ما ردّ عليّ السلام.. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار. فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام- ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة- يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك، فقلت لما قرأتها، وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها..» . «حتى إذا كملت خمسين ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، وصليت الفجر، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ ينادي بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء الفرج وآذن رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون.. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ. واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة.. حتى دخلت المسجد، فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك. قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله، فقال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.. فقلت: يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألاأحدث إلا صدقا ما بقيت، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا وأني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت..» «1» . وهنالك من ظلوا يتخبطون في بدايات الطريق ولا يقدرون على الخروج من حفره الضيقة: المعذرون من الأعراب الذين جاؤا يلتمسون الأعذار من الرسول كيلا يذهبوا إلى القتال فلم يعذرهم الله، والمنافقون الذين راحوا يروجون شائعات الخوف والجبن والتردد، ويهمس بعضهم في أذن البعض الآخر: لا تنفروا في الحر!! ولقد تحدث عنهم القرآن فيما بعد، بضربات كاوية كجمرات جهنم وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «2» ، وعند ما انطلقوا مع زعيمهم عبد الله بن أبيّ، ما لبثوا أن انقلبوا عائدين في أول الطريق «3» وزعيمهم يردد «يغزو محمد بني الأصفر، مع جهد الحال والحر والبلد البعيد إلى ما لا قبل له به، يحسب محمد أن قتال بني   (1) البخاري: التجريد: 2/ 100- 104، الواقدي 3/ 1049- 1056، ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 23- 26. (2) سورة التوبة، الآية: 81. (3) ابن سعد 2/ 1/ 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الأصفر اللعب؟! والله لكأني أنظر إلى أصحابه غدا مقرنين في الحبال ... » «1» !! ضربة في الصميم من ضربات النفاق وهو يزحف في الظلمات بطيئا بطيئا، ليلدغ على حين غفلة، كما تلدغ العقارب والحيات «2» . انكسر تحدي الروم المعلن للدولة الإسلامية، في أعقاب تبوك، ولم يستطيعوا ولا حلفاؤهم من نصارى العرب أن يتحركوا أو يقوموا بعمل عسكري، سيما وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام- بمحالفاته ومصالحاته مع القبائل النصرانية في الشمال- جدارا يصد العدوان ويكبته.. لكن بعض أمراء العرب في الأردن وفلسطين، من أجل إرضاء سادتهم، راحوا يتحرشون بدعاة الإسلام ورجاله في المنطقة ويصدونهم عن أداء مهمتهم. وقد ذكر ابن سعد- على سبيل المثال- أن فروة بن عمرو الجذامي، عامل قيصر على عمان من أرض البلقاء، أعلن إسلامه، رغم أنه لم يتلق كتابا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه كتابا حمله رسولا من قومه يدعى مسعود بن سعد. فقرأ النبي الكتاب ورد عليه بكتاب من عنده، وأجاز المبعوث بمبلغ من الدراهم ردا على الهدية التي تلقاها من الأمير العربي «3» . ولما بلغ أمبراطور الروم إسلام عامله دعاه وقال له: ارجع عن دينك بملكك. فأجاب فروة: لا أفارق دين محمد، وإنك تعلم أن عيسى قد بشر به، ولكنك تضن بملكك. فحبسه الأمبراطور ثم أخرجه وصلبه «4» . [7] في الفترة التالية انهمك الرسول صلى الله عليه وسلم باستقبال الوفود القادمة إلى المدينة من كل مكان، وكان من بينها وفد نجران النصرانية «5» الذي توجه إلى المدينة في أعقاب كتاب بعثه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء فيه: «.. إني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة   (1) الواقدي 3/ 995- 996 وانظر فصل (حركة النفاق) . (2) عن الآيات المتعلقة بغزوة تبوك وما رافقها من مواقف (بشرية) انظر سورة التوبة: الآيات 43- 49، 52- 54 ، 8 1- 87، 90- 94، 117- 118، 120. (3) الطبقات الكبرى 1/ 2/ 18. (4) المصدر السابق 1/ 2/ 31. (5) انظر هامش رقم (2) ص 234 من هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام» «1» . وكانت النصرانية تسود جنوبي الجزيرة كما تسود شماليها فرأى المسلمون وهم في حرب مع دولة الروم أن يحددوا موقفهم مع نصارى الجنوب خصوصا وأن الروم كانوا يغدقون العطايا على مبشريهم هناك، ويبنون لهم الكنائس، ويشجعونهم على المضي في تنصير القبائل المتوطنة في هذه الأرجاء «2» . كان الوفد يضم أربعة عشر رجلا من أشراف النصارى، دخلوا المسجد بأرديتهم الملونة الثمينة، فسلموا على الرسول صلى الله عليه وسلم فردّ عليهم السلام، ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم شيئا من القرآن، فأبوا ودخلوا معه في مناقشات عقيمة تضيع في لجتها ملامح الحق البين الذي جاء به القرآن. من ذلك قولهم له وقد عرض عليهم الإسلام: إنا قد أسلمنا قبلك! فقال مخاطبا السيد والعاقب راهبي نجران: كذبتما!! يمنعكما من الإسلام ثلاث: أكلكما الخنزير وعبادتكما الصليب وقولكما لله ولد. قالا: فمن أبو عيسى؟ فلم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم إزاء ذلك إلا أن يوقف جدلا كهذا لا يوصل إلى نتيجة، ويعرض عليهم- بدلا من ذلك- المباهلة التي حددتها آيات القرآن الكريم التي تنزلت لكي تحسم أمرا لا يحتمل مناقشة ولجاجا: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ «3» . وكانت المباهلة تقضي بأن يجتمع الطرفان على صعيد واحد ويستنزلا لعنة الله وغضبه على الفئة الكاذبة. إلا أن رجال الوفد النصراني تخوفوا عاقبة الأمر وقال زعيمهم: «إني أخاف أن يكون صادقا» . ومما لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلا عليهم آيات آل عمران القوية النافذة، وخاطبهم بما في نطاقها، ودعاهم إلى ما أمر أن يدعوهم إليه من استنزال سخط الله على الكاذبين، ومن أن يجتمع الطرفان ويعلنا معا أنهما لا يعبدون إلا الله ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دونه فإن لم   (1) اليعقوبي: تاريخ 2/ 70- 71. (2) الغزالي: فقه السيرة ص 458. (3) سورة آل عمران، الآيات: 59- 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 يعلنوها معه فليعلنها هو، باسمه وباسم أتباعه. ومضمون الآيات «1» وروحها يلهمان أن النبي كان في موقف القوي المطمئن بقوة موقفه وصحة دعواه والمستعلي على مناظره بالحجة الدامغة والتحدي المفحم والدعوة التي لا يردها إلا الممتري. وهنالك الكثير من الإضافات المناقضة للمعقول والمنقول ترد حول مسألة المباهلة (أو الملاعنة) رغم أن ابن هشام الذي انفرد بتفصيل خبر المناظرة لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعد للمباهلة لأن أسلوب الآية لا يقتضي ذلك، وهو أسلوب تحد وإفحام «2» . وقد ارتأى الوفد النصراني أن يعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم بما يراه، فصالحهم صلى الله عليه وسلم وكتب لهم عهدا يمثل قمة من قمم العدل والسماحة والحرية، لم يفرض عليهم سوى جزية عينية قدرها ألفي حلّة في السنة وقد جاء فيه « ... ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم، وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم وصلواتهم، لا يغيروا أسقفا عن أسقفيته ولا راهبا عن رهبانيته ولا واقفا عن وقفانيته، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير ... ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين ... ولا يؤاخذ أحد منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي أبدا حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم..» «3» . وقد دخل يهود نجران في هذا الصلح إذ كانوا كالأتباع لهم «4» . وبتلك المعاهدة السمحة «5» قطع الإسلام الصلة بين أولئك العرب المتنصرين وبين دولة الروم التي يشتبك معها في الحرب، بعد ما ضمن الحرية   (1) سورة آل عمران: الآيات 34- 57، 58- 64. (2) دروزة: سيرة الرسول 2/ 246- 248. (3) ابن سعد 1/ 2/ 36، 84- 85 البخاري: تجريد 2/ 97- 98 البلاذري: فتوح 1/ 76- 78، اليعقوبي: تاريخ 2/ 71- 72 وانظر دروزة 2/ 237- 238 (بالتفصيل) . (4) البلاذري: فتوح 1/ 78 وقد ظلوا على ذلك طيلة عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر (رضي الله عنه) فلما استخلف عمر (رضي الله عنه) «أصابوا الربا- الذي منعوا من التعامل به- وكثروا فخافهم على الإسلام» فأجلاهم إلى العراق والشام (المصدر السابق 1/ 78) ويبدو أن دورهم في إسناد حركات الردة لم يكن خافيا عليه. ويتضح هذا من عبارة البلاذري الآنفة (فخافهم على الإسلام) وعند ما التمسوا من علي (رضي الله عنه) في خلافته إعادتهم أجابهم «أن عمر (رضي الله عنه) كان رشيد الأمر وأنا أكره خلافه» : المصدر السابق 1/ 80. (5) انظر عن نصوص المعاهدات المتعلقة بنصارى نجران: محمد حميد الله: الوثائق 175- 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الدينية لمن سالموه وكفوا عنه. ترى- يقول الغزالي- هل احترم أهل الكتاب ما عليهم من واجب، وهل أنصفوا الدين الذي رعى ذمامهم؟ كلا!! فإنهم سرعان ما راحوا يساعدون على إشعال الثورات في جنوب الجزيرة، كما كاتبوا الأسود العنسي (المتنبىء) فسار إليهم في طريقه إلى اليمن ... تماما كما فعل نصارى تغلب في تأييدهم مسيلمة الكذاب حين ادعى- هو الآخر- أنه نبي!! .. ولم يكن الأمر إيمانا منهم بهذه النبوات الزائفة ولكنه الإعانة على حرب الإسلام بأي سلاح ومع أي حليف «1» . [8] وما أن أتم الرسول صلى الله عليه وسلم لقاآته بالوفود العربية القادمة إليه من كل مكان، وحج بأتباعه حجة (الوداع) ، حتى قام بتجهيز جيش كبير في مطلع السنة الحادية عشر للهجرة في أعقاب عودته من مكة، وأمّر عليه القائد الشاب أسامة بن زيد بن حارثة تقديرا من الرسول صلى الله عليه وسلم للكفاآت الشابة، ورفضا لسلم الطبقات الاجتماعية الذي لا يسمح لمن كان آباؤهم عبيدا يباعون ويشترون، أن يتولوا قيادة السادة!! وردا عمليا على محنة المسلمين في مؤتة حيث كان زيد بن حارثة، والد القائد الشاب، قد شاط في رماح القوم!! وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم مولاه أسامة أن (يوطىء) الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين. وانطلق أسامة ومن ورائه زهرة قوات المسلمين، لم يتخلف منهم أحد، وعلى رأسهم المهاجرون الأولون «2» . تقدم أسامة باتجاه الشمال وعسكر في (الجرف) على بعد فرسخ من المدينة، ريثما يتم تجميع المقاتلين، وهناك بلغته أنباء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوقف عن المسير وظل معسكرا بجنده لينظر ما الله قاض برسوله صلى الله عليه وسلم. ولم يطق المسلمون وقائدهم صبرا على البقاء والانتظار، ورسولهم يعاني الآلام، فهبطوا عائدين إلى المدينة. ودخل أسامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عجز عن   (1) فقه السيرة ص 463- 464. (2) ابن هشام ص 374، الطبري: تاريخ 3/ 184، البلاذري: أنساب 1/ 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الكلام، فجعل يرفع يديه إلى السماء ويضعهما على أسامة.. وعرف أسامة أنه يدعو له «1» . وعما قليل، حينما لحق الرسول صلى الله عليه وسلم برفيقة الأعلى، وتولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه قيادة الأمة التي صنعها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وتحركت بوادر الارتداد عن الطريق «واشرأبت- كما تقول عائشة رضي الله عنها- اليهودية والنصرانية ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية» «2» ، أعلن أبو بكر أنه سيقف بوجه الردة وسيقاتلها ولو تخطفته الذئاب!! وأصر في الوقت نفسه على أن يمضي جيش أسامة إلى هدفه، كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند ما اعترض عليه الصحابة بأن قاعدة الإسلام مهددة من كل جانب، ولا جيش فيها، قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كنت لأرد جيشا جرده رسول الله صلى الله عليه وسلم» .. ومضى أسامة وأوطأ، كما أمره رسوله صلى الله عليه وسلم، خيول المسلمين تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ووضع خطواته الأولى على الطريق التي سيجتازها الفاتحون عما قريب صوب بلاد الشام، يحملون معهم تعاليم الإسلام ونداء رسوله الكريم..   (1) ابن هشام ص 386- 387، 388. (2) ابن هشام ص 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الفصل التاسع الصراع ضد اليهود [1] كما هو الحال بشأن النصارى، فإن العلاقات بين المسلمين واليهود ترجع في بداياتها الأولى إلى السنين التي شهدت طفولة محمد صلى الله عليه وسلم، بما تضمنته كتب اليهود ومصادرهم الدينية من تأكيد على النبوة الجديدة والأخيرة في تاريخ النبوات، وإن لم تصرّح جميعا ماذا سيكون هذا النبي: يهوديا أم غير يهودي؟. عن زيد بن أسلم قال: بلغنا أن عبد الله بن سلّام كان يقول إن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لس بفظ ولا غليظ ولا صخب بالأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملّة المتعوّجة بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا» . فبلغ ذلك كعب الأحبار فقال: صدق عبد الله بن سلام إلا أنها بلسانهم: «أعينا عموميين وآذانا صموميين وقلوبا غلوفيين» «1» . وفي البلاذري عن عبد الله بن سلّام أن أباه كان يردد: إن كان النبي القادم الذي يجدون صفاته في كتبهم من ولد هارون اتبعته وإلا فلا «2» .. ونقرأ في التوراة، سفر حجّي، الإصحاح الثاني « (6) لأنه هكذا قال رب الجنود هي مرة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة (7) وأزلزل   (1) ابن سعد: طبقات 1/ 2/ 87 وانظر المصدر نفسه ص 88- 89 للاطلاع على مزيد من الروايات بهذا الصدد. (2) أنساب الأشراف 1/ 266، وانظر المصدر نفسه ص 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 كل الأمم، ويأتي مشتهى كل الأمم فأملأ هذا البيت عدلا قال رب الجنود» . وقد جاء في حاشية الأصل العبري «مشتهى كل الأمم حمدوت، أي الذي تحمده كل الأمم» . فالتوراة إذن صرحت باسم محمد (حمدوت) ، ولكن الترجمة أبعدت لفظة محمد لتضع مكانه مرادفا يصرف الذهن عن الاسم الحقيقي هو (مشتهى كل الأمم) . وفي سفر التثنية الإصحاح 18، فقرة 15 نقرأ «يقيم لك- لموسى- الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلك له تسمعون» ، ويقول في الفقرة 18 «أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به» ، وهي عبارة مجملة فسرها اليهود بمجيء رسول منهم لا من ولد إسماعيل. وكأن الله تعالى جعل هذه العبارة مجملة وألهمهم هذا التفسير، حفظا لهذه البشارة، لأنهم لو عرفوا أن الرسول المبشر به سيكون من ولد إسماعيل لأخفوها أو محوها. وقد أثبتت الأيام أن الرسول المبشر به هو محمد صلى الله عليه وسلم «1» . وورد في سفر التثنية- أيضا- 33/ 3 «جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ في جبل فاران» ، وتلك هي الرسالات الثلاث لموسى والمسيح ولمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا مصداق قوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لأن منبت التين والزيتون مهجر إبراهيم ومولد عيسى عليه السلام، وطور سيناء مكان مناجاة الله تعالى لموسى، وفاران في مكة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم «2» . هذا فضلا عن الروايات التاريخية العديدة التي تحمل إرهاصات مجيء الرسول الجديد وصفاته. فعن عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: «إنما دعانا إلى الإسلام ما كنا نسمع من يهود أنه قد تقارب زمان نبي يبعث فيقتلكم قتل عاد وأرم» . وعن سلمة بن سلامة الذي شهد بدرا قال: كان لنا جار من يهود بني عبد الأشهل، أشار بيده إلى مكة واليمن وقال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، قالوا: من يراه؟ فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا فقال: إن يستكمل هذا الغلام عمره يدركه. قال سلامة: والله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا. وهذا ابن الهيبان من يهود الشام خرج من الشام إلى الحجاز، وحل في   (1) إبراهيم خليل أحمد: محمد بين التوراة والإنجيل والقرآن، المقدمات ص 22. (2) سورة التين، الآيات: 1- 3. المرجع السابق ص 26- 27، وانظر عن بشارات التوراة الآخرى بالتفصيل: نفس المرجع ص 33- 43 وسفر أشعيا، الإصحاح 42، فقرة 1 وما بعدها وسفر التثنية 18/ 15 و 18/ 18. وعن آثار محمد وأصحابه انظر: سفر المزامير 1/ 11/ 22- 23 وسفر دانيال 1/ 31- 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 بني قريظة ثم توفي قبل البعثة بسنتين، ولما شعر أنه ميت لا محالة قال: يا معشر يهود ما ترون أخرجني من (الشام) إلى أهل البؤس والجوع (الحجاز) ؟ قالوا: أنت أعلم، قال: إنما قدمت هذه الأرض أتوكف- أتوقع- خروج نبي قد أظل زمانه، وهذه أرض مهاجره، وكنت أرجو أن يبعث فأتبعه «1» . من أجل ذلك راح اليهود يعلنون، بين الحين والحين، عن قرب ظهور النبي الأخير، ويتباهون بذلك، ويهددون بالانتماء إليه، ويتوعدون مخالفيهم، من أجل مزيد من السيطرة والإذلال واحتكار المقدرات المادية والمعنوية لمئات الآلاف من العرب المحيطين بهم كجزيرة منقطعة «2» . ولم يكن الكثيرون من أحبار اليهود يتوقعون أن النبي الجديد سيجيء هذه المرة من سلالة أخرى غير السلالة اليهودية المعروفة، وأنه بانتمائه العربي سيشكل خطرا ماحقا على وجودهم المستغل، وبدعوته العالمية المفتوحة سيكتسح تجمعاتهم القومية المغلقة، وبمبادئه العادلة الواضحة سيفضح طقوسهم وأسرارهم التي يرتزقون منها ويضمنون بقاءهم في المراكز العليا لبني قومهم. وما أن حان الموعد، وحلّ الأجل المضروب في التوراة والإنجيل، ولم يظهر في اليهود النبي الذي ظنوه منهم، وولد محمد صلى الله عليه وسلم يحمل علامات نبوته المادية والأدبية، حتى بدأ اليهود يتخوفون من أن تخطىء ظنونهم، وألاتكون النبوة فيهم فيصابون بخسارتين.. وأصبح الطفل الذي سيبعث إلى العالم في خطر دائم من مكر اليهود وعرقيتهم التي تتيح لهم اتخاذ أي أسلوب، مهما كان دنيئا، لوقف كل ما يتهدد مصالحهم ووجودهم، حتى لو كان هذا الأسلوب القتل والغيلة. وهذا هو الذي يفسر لنا تحذير الراهب النصراني بحيرا لأبي طالب «ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبغنّه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم» «3» . إن قصة بحيرا، إذا ما أسقطها النقد من الحساب، فإن دلالة واحدة فيها   (1) انظر: محمد رواس قلعجي: محمد في الكتب المقدسة (مجلة حضارة الإسلام عدد 1- 2 سنة 8) وانظر ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 308- 310 وابن هشام ص 42 والطبري تاريخ 2/ 295 وانظر كذلك رواية حسان ابن ثابت في ابن هشام ص 28. (2) انظر الطبري: تاريخ 2/ 354. (3) ابن هشام ص 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 تظل باقية، تلك هي (التحذير) مما قد يمكن أن يفعله اليهود إزاء أي مخلوق ليس منهم قد يظنّون به النبوّة. [2] وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أربعين سنة من ميلاده، وخاض بدعوته، في مرحلتيها السرية والعلنية، جهادا قاسيا ضد الوثنية التي استخدمت كل أسلوب لوقف نشاطه ووأد حركته. ورغم قلة الروايات وانعدامها أحيانا، فإننا نستطيع أن نجزم بأن اليهود وقفوا طيلة الصراع المكي، الذي دام ثلاثة عشر عاما، وراء قريش يتبادلون معها الوفود ويتصلون بها سرا من أجل أن يشددوا قبضتهم على النبي العربي، وأن يشلّوا حركته قبل أن يشتد ساعدها وتغدو قادرة على اكتساح كل ما يقف في طريقها، ليصدّها عن هدفها المحتوم، وثنيا كان أم يهوديا. يذكر إسرائيل ولفنسون «1» أن المراجع العربية لم تشر إلى حركات يهود يثرب ونيّاتهم إزاء بيعة العقبة الكبرى، كأن الدعوة الإسلامية لم تصل إليهم وكأنهم لم يقفوا على شيء من أعمال البطون اليثربية العربية، ونحن نرجح أن اليهود لم يغافلوا عن تلك الحركة لأنها متصلة بمصالحهم السياسية والتجارية والاجتماعية، خصوصا إذا لا حظنا اتجاه الدعوة الإسلامية صوب المدينة وميل زعماء الخزرج إلى الاتصال بالرسول.. ونحن نعلم ما كان بينهم وبين اليهود من الحقد مما جعل زعماء بني النضير وقريظة يراقبون حركاتهم جميعا.. ثم نعلم أن الإسلام لم ينشر خفية في يثرب، وكيف أن مصعب بن عمير كان يدعو الناس إلى الله ورسوله على مرأى من جميع البطون.. ثم إننا نعلم أن عددا من تجار اليهود كان يشترك في مواسم الحج، فمن البعيد إذن أن يجهل اليهود تلك الشؤون كما صورتهم كتب الأخبار.. وكانت العلاقات بين اليهود وبين قريش في غاية الصفاء لذلك نفرض أنه إذا لم يفلح زعماء قريش في استمالة زعماء الخزرج فإنهم لا بد ذاهبون للتقرب من بعض زعماء اليهود ليعلموا على إحباط أعمال المسلمين في المدينة، وكذلك كان، فإن الذي يتأمل ما جرى بين كعب بن الأشرف زعيم بني النضير وبين الرسول يرى أن ذلك الرجل كان يقاوم الحركة الإسلامية منذ وصلت   (1) تاريخ اليهود في بلاد العرب، ص 106- 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 أرض يثرب، والعداء الذي استفحل أمره بين الجبهتين يؤيد ما نقول. إلا أن محاولات الوثنية وحليفتها اليهودية أخفقت، وأعقب كفاح الرسول صلى الله عليه وسلم الدائب وثبات أصحابه وصمودهم انتصارا عظيما تمخض عن الهجرة إلى يثرب وإنشاء دولة الإسلام فيها. ولم يكن يهود يثرب بقادرين- أول الأمر- على إعلان مجابهتهم المكشوفة للدولة الناشئة، وأتباعها من عرب المدينة يزدادون كثرة يوما بعد يوم، ولم يكن من مصلحتهم أيضا أن يتولوا بأنفسهم كبر مقاومة الإسلام، وقريش لا تزال على قوتها وقدرتها على الضرب. فلتلق تبعة الصراع إذن على قريش، وليظل اليهود في المواقع الخلفية يشاهدون الصراع ويخططون على ضوء نتائجه المتوقعة، حتى إذا ما وجدوا ثغرة لضرب الإسلام تسللوا منها لتسديد طعنة إليه، أو لمسوا ضعفا وإنهاكا انقضّوا يضربون ويطعنون.. وهكذا وافقت معظم القبائل اليهودية على الدستور الذي طرحه الرسول صلى الله عليه وسلم لتنظيم الأمور السياسية والمدنية في يثرب ودخلوا أطرافا فيه كي يتيحوا لأنفسهم فترة من الوقت يستردون فيها أنفاسهم إزاء السرعة التي كانت الأحداث تتحرك بها. ورغم أن هذا الميثاق كان ينص- فيما ينص عليه- على إسهام اليهود مع المسلمين في صدّ أي عدوان قرشي يقع على المدينة، تعظية النفقات المالية للقتال، فإن اليهود لم ينفذوا هذا البند ماليا ولا عسكريا.. ولم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلح عليهم لتنفيذه ما دامت استراتيجيته في الصراع تقوم على عدم ضرورة فتح أكثر من جبهة والدولة الإسلامية لم يشتد ساعدها بعد. المهم أن يجمد اليهود نشاطهم ضد الإسلام كي يتفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم للمجابهة الحاسمة مع قريش. وهذا ما يفسر لنا جواب الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم أحد عندما سألوه: يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا اليهود؟ فكان جوابه: لا حاجة لنا فيهم «1» . كان الغرض الذي يرمي إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء الصحيفة وما إليها من العهود التي عقدها مع بطون يثرب هو هدم النظام القديم وإيجاد نظام جديد يمكن أن تتوحد به العناصر اليثربية، وأن تعود يثرب بعد فرقة أحيائها مدينة واحدة. فقد كانت يثرب منقسمة إلى عدة دوائر، وكانت كل دائرة تابعة إلى بطن من البطون، وكانت الدائرة تنقسم إلى قسمين يشتمل القسم الأول منها على الأراضي الزراعية   (1) ابن هشام ص 175- 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 بمنازلها وسكانها.. ويشتمل ثانيها على الآطام (أي الحصون) التي كانت ملكا خاصا بالأسر العريقة، وكان رئيس الأسرة صاحب السلطان في الأطم، كما كان يعتبر زعيما من زعماء البطون «1» . ويلاحظ أن الصحيفة قد ذكرت اليهود الموالين للبطون العربية وأهملت ذكر القبائل الآخرى من اليهود وذلك يتفق تماما مع ما كانت عليه الحالة السياسية في يثرب، فإن البطون اليهودية الصغرى كانت قد دخلت في أحلاف مع الأوس أو مع الخزرج وذلك بعد سيادة هؤلاء في يثرب. أما قبائل اليهود الكبرى الثلاث «2» فقد اعتزت بقوتها وبقيت محتفظة بشخصيتها، ثم إنها ناوأت الإسلام وأظهرت عداءها. ومع ذلك فقد وضعت الصحيفة بندا هاما لدخول اليهود في الدولة احتمالا لما قد يحدث من دخول هذه القبائل في النظام الجديد. وفعلا ألحقت هذه القبائل بالدولة في محالفات ملحقة «3» . وقد أشار المؤرخون إلى هذه المحالفات وإن لم يذكروا نصها، ويبدو أن نصوصها لم تكن تختلف عن الجوهر العام لنصّ الصحيفة، والأرجح أن هذه القبائل اليهودية لم تعاهد النبي في وقت واحد، فقد ذكرت المصادر أن بني قينقاع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر كانوا هم أول من نقض العهد. ولعل المعاهدات التي وقعها النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه القبائل لم تكن تشترط عليها أن تشارك معه في القتال، وهذا أمر طبيعي بعد أن فسدت الأمور بين المسلمين واليهود، فلم يكن النبي يثق باليهود حتى يشترط عليهم أن يشاركوا معه في الحرب، والدليل على ذلك أن اليهود لم يشاركوا فعلا في حروب النبي، وأن النبي رفض الاستعانة بهم يوم أحد كما رأينا. ونحن لا نوافق على ما ذهب إليه ولفنسون «4» وغيره من أن النبي قد غضب على بني النضير لعدم اشتراكهم معه في موقعة أحد، لأن بني النضير كانت قد بدأت منهم الخيانة وممالأة العدو قبل أحد، كما حدث في غزوة السويق، فلم يكن النبي يقبل والحالة هذه أن يشاركوا في جيشه حتى لا يتعرض   (1) ولفنسون ص 116- 117 وعن الآطام انظر بالتفصيل المصدر نفسه ص 116- 118. (2) عن أصل بني النضير وبني قريظة انظر: المحاضرة الثالثة من كتابMargoliuth:The Relations between Arabs and Israelites ,Lec ,3.: (3) أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول صلى الله عليه وسلم ص 394- 395. (4) تاريخ اليهود في بلاد العرب ص 121، 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 لخيانتهم في ميدان القتال «1» . وفي أعقاب الهجرة، ولفترة من الوقت، سارت العلاقات بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود سيرا حسنا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يطمح من جهته أن يتفهم اليهود دوافع حركته الدينية وأهدافها والعوامل المشتركة التي تربط الأديان السابقة، بما فيها اليهودية، بالإسلام، لا سيما وأنهم يرون بأم أعينهم في صفحات كتبهم تلك التأكيدات المستمرة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أدى المصدر الواحد لكلا الدينين إلى أن تمارس بعض الطقوس والشعائر الإسلامية وفق بعض (الأشكال) التي يمارسها اليهود ... وهذا أمر منطقي بطبيعة الحال بالنسبة للدعوة الجديدة التي جاءت لتعلن أكثر من مرة أنها ليست سوى امتداد على نفس الطريق للدعوة الدينية الكبرى التي بدأها إبراهيم عليه السلام ونادى بها فيما بعد موسى وعيسى عليهما السلام. ومن هنا يبدو الخطأ الساذج الذي وقع فيه عدد كبير من الكتاب والمستشرقين، نذكر منهم على سبيل المثال بروكلمان الذي يقول: «تأثرت اتجاهات النبي الدينية في الأيام الأولى من مقامه في المدينة، بالصلة التي كانت بينه وبين اليهود، وأغلب الظن أنه كان يرجو عقب وصوله إلى المدينة أن يدخل اليهود في دينه، وهكذا حاول أن يكسبهم عن طريق تكييف شعائر الإسلام بحيث تتفق وشعائرهم في بعض المناحي» «2» . وقد أمّل اليهود، في مطلع العهد المدني، وقد رأوا هذا التعاطف الإسلامي إزاءهم دون أن يفهموا أسبابه العميقة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم ربما يقر بأرجحية العقيدة التي يؤمنون بها، وأنه سيتركهم وشأنهم مكتفيا بتشكيل وحدة يثربية تضم الطرفين وتحمي مصالحهما المشتركة بوجه العرب المشركين في الداخل والخارج، بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك وظنوا أنهم ربما تمكنوا يوما من استمالة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم وإدخاله وصحبه في دينهم!! إلا أن ظنهم سرعان ما خاب عندما أدركوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس مجرد زعيم يحترف السياسة ويعتمد كل أسلوب لتحقيق أهدافه، وإنما هو صاحب رسالة عظمى إزاء العالم كله.. رسالة تتجاوز تعاليمها ومتطلباتها الحدود الإقليمية ليثرب، أو حتى الجزيرة العربية كلها، باتجاه الإنسان في كل مكان. وازداد الأمر وضوحا عندما توالت دعوات الرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيداته   (1) الشريف: مكة والمدينة، ص 483- 484- 485. (2) تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 على ضرورة دخولهم الدين الجديد، إن أرادوا الحفاظ على جوهر يهوديتهم التي حملها موسى إلى بني إسرائيل، وعندما راحت آيات القرآن الكريم تنزل سخطها وغضبها على ما يمارسه اليهود بحق دينهم وكتبهم من تزييف وتحريف من أجل أن يحموا مصالحهم ويضيفوا إلى أموالهم أموالا. أضف إلى ذلك ما كان يلقاه الإسلام من انتشار متزايد في يثرب وأطرافها، الأمر الذي كان يعني عزل اليهود والحد من نشاطهم الديني والاقتصادي على السواء، فضلا عن الوحدة العميقة التي أنشأها الإسلام بين الأوس والخزرج وسدّ بها الطريق على اليهود واستغلالهم الفاجر للصراع الدامي بين الحيين. وبدأ يتضح لليهود، يوما بعد يوم، المصدر الأساسي للخطر الذي تشكله الدعوة الجديدة بمواجهة اليهودية.. إن النبي يدعو إلى (توحيد) غير الذي يؤمن به اليهود، على أساس قومي استعلائي مغلق، من أن الله الواحد هو إله إسرائيل الذي اختارهم لنفسه من دون الناس، وبذلك كانوا يرون لأنفسهم ميزة على الناس وكانت أمنيتهم دوما أن يجدوا من يأتي بما يهوون من سيطرة ونفوذ لا بما تتطلبه الدعوة من إصلاح وخير يعم الناس جميعا، ومن أجل ذلك كذبوا أنبياءهم وحاربوا المسيح عليه السلام وسعوا إلى قتله، فإذا ما جاء محمد فدعا إلى هذا الإله الواحد للناس جميعا، بغضّ النظر عن أجناسهم، فإنه بذلك يزيل عن بني إسرائيل هذه الميزة التي يستفتحون بها على الآخرين، وإذن فلا تهادن بينهم وبين محمد الذي يسعى إلى تحطيم تلك القواعد المقررة التي سار عليها اليهود، فقامت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم محاجات ومجادلات ما لبثت أن اتخذت من جانبهم موقف التحدي والمعاندة، بل إنهم اندفعوا في عدائهم فتورطوا في تفضيل الأصنام على التوحيد «1» . ورغم أن ولفنسون أكد على خطورة مبدأ (التوحيد) الإسلامي وعالميته إزاء «العقلية اليهودية التي لا تلين أمام شيء يزحزحها عن دينها، وتأبى أن تعترف بأن يوجد نبي من غير بني إسرائيل» ، إلا أنه يقع في خطأ القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو لم يكلف اليهود الاعتراف برسالته، ولو وقفت تعاليمه عند حد محاربة الوثنية فحسب، لما وقع نزاع بينهم وبين المسلمين، ولكانوا قد نظروا بعين ملؤها   (1) الشريف: مكة والمدينة، ص 412- 415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 التبجيل والاحترام لتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم ولأيدوه وساعدوه بأموالهم وأنفسهم حتى يحطم الأصنام ويقضي على العقائد الوثنية.. ويمضي ولفنسون إلى القول بأن هذه (المسألة) يجب ألا تغرب عن الأذهان لأنها أساس كل ما حدث بين اليهود وبين الرسول من خلاف ونزاع، ولولا وجودها لما حدث شيء من الخلاف، أو لكان في الإمكان أن يتلافى ما قد ينشأ من ذلك. ونلاحظ هنا على معظم المستشرقين أنهم أهملوا هذه النقطة الجوهرية في بحثهم عن أسباب الخلاف بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود، مع أنه مما لا شك فيه أنه إذا أهملت هذه النقطة فلا سبيل مطلقا للبحث في هذا الموضوع «1» . وفاتت ولفنسون حقيقة على درجة كبيرة من الأهمية تلك هي أن طبيعة الدعوة الإسلامية المنفتحة على العالم، وانتماء نبيها إلى العرب، وقيام دولتها في قلب المنطقة التي تتحرك فيها مصالح اليهود ونشاطاتهم المختلفة، يشكل بحد ذاته خطرا كبيرا على اليهود في دينهم ودنياهم على السواء، حتى لو لم يدعوا إلى الإسلام، لأن نجاح الإسلام كفيل بحد ذاته بحصر اليهود وعزلتهم وكشفهم أمام العالم، ومن ثم ضرب وجودهم ومصالحهم في الصميم، الأمر الذي دفعهم، بعد وقت قصير من إدراكهم أبعاد هذا الخطر، إلى أن يقفوا إلى جانب الوثنية ويمتدحوا أصنامها بمواجهة التوحيد الذي جاء به الإسلام.. ومن ثم فإن ولفنسون يناقض نفسه عندما يشير إلى انغلاق العقلية اليهودية من جهة وسكوتها، بل تعاونها- لو لم تدع إلى الإسلام- مع هذا الدين الذي جاء لكي (يفضح) المزاعم الدينية التحريفية التي مارسها اليهود طويلا، ولكي ينفتح على الإنسان والعالم ويقضي في طريقه على أسطورة (شعب الله المختار) وما يتمخض عنها لصالح اليهود من مكاسب لا يحصيها عد «2» !! هذه هي الحقيقة (النقطة الجوهرية) في البحث عن أسباب الخلاف بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود والتي إذا ما أهملت- دون غيرها- فلا سبيل مطلقا للبحث   (1) تاريخ اليهود في بلاد العرب ص 122- 123. (2) إن المكانة الدينية- العلمية التي كان اليهود يتمتعون بها جعلتهم- كما يقول دروزة- في مركز المعلم والمرشد والمرجع، بل القاضي، لسكان يثرب، على ما تلهمه آيات قرآنية عدة (انظر كتاب عصر النبي وبيثته للمؤلف المذكور) فكان لليهود من ذلك الحرمة والحصانة والقوة النافذة والأثر في حل المشكلات وتعليل الحوادث والقضاء في الخصومات والاستمتاع بالكيان والمركز الممتاز، وقد ارتبطوا بمواثيق الحلف مع جيرانهم العرب فكان هذا مما زاد مركزهم ورسوخ قدمهم قوة وشدة (سيرة الرسول 2/ 122- 123) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 في هذا الموضوع!! وسيؤكد سياق الأحداث هذا الذي نذهب إليه. ومن هذا الخطأ يجد ولفنسون وعدد من المستشرقين أنفسهم مسوقين إلى خطأ آخر، وهو أنه ما دام القتال قد نشب بين المسلمين واليهود في أعقاب بدر فإن معنى هذا أن اليهود كان عليهم أن يندمجوا في الدين الجديد أو أن يجابهوا (بحرب دموية) حتى يفنوا أو يجلوا إلى مكان بعيد.. وأنه ما دام قد وقع قتال بين الطرفين فإن معنى هذا «أن المهاجرين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر نتيجة مقاومة اليهود في يثرب لأن حالتهم كانت سيئة جدا، إذ لم يكن لهم مال ولا مزارع ولا منازل بل كانوا يسكنون مع الأنصار من الأوس والخزرج» «1» . وفات هؤلاء المؤرخين أن طبيعة التعارض العقائدي بين الدينين اللذين يقوم أحدهما على (الانفتاح الكامل) والآخر على (الانغلاق الكامل) كان لا بد وأن يؤول إلى صراع حاسم من أجل انفراد أحدهما بالكلمة العليا، حتى لو كان المهاجرون يسكنون القصور الفخمة ويأكلون أحسن الطعام!! وهل بالإمكان- فوق هذا كله- أن يتناسى المؤرخ الجاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يشن حربا إلا ضد الفئة اليهودية التي تبدأ بالعدوان، أو أن يتجاهل مغزى إصدار الدستور الذي منح اليهود حريتهم الدينية والمدنية الكاملتين دون قيد زمني مشروط؟ [3] بدأ النزاع بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود بالمناقشة الدينية المتبادلة بين الطرفين، فكان أحبار اليهود يوجهون الأسئلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلون فيها إلى حد التعنت، وكان القرآن ينزل فيما يسألون عنه، وكانوا يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأتي إليهم بالمعجزات. ثم انتقلت المناقشة إلى مخاصمة كلامية فجعل التنزيل يلوم اليهود ويعنفهم وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ «2» . ثم ظهرت العداوة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يطعن في يهود يثرب، وأخذ اليهود يرمون الأنصار بقوارص الكلم.. وهكذا اشتد النفور حتى كانت المخاصمات تقع بين اليهود   (1) إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود ص 126- 127. (2) سورة البقرة: الآية 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 والأنصار في الشوارع. ولم يمض ثمانية عشر شهرا على قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب حتى تليد الجو بالغيوم الكثيفة وجعل كل فريق يتواصى بالحذر والنفور من الفريق الآخر «1» . وزاد الأمر توترا انضمام المنافقين إلى اليهود في حربهم النفسية مع المسلمين. ولقد جاء في الآيات الأولى من سورة البقرة، التي هي أول السور المدنية في ترتيب النزول وبصدد الحديث عن المنافقين وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، فقد قال جمهور المفسرين إن شياطينهم هم اليهود، ويدل هذا على أن اليهود هم الذين أغروا المنافقين بالنفاق أو شجعوهم في مواقف الخداع، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لم يغب عنهم ذلك «2» . وبلغ الجدل بين محمد صلى الله عليه وسلم واليهود مبلغا من الشدة يشهد به ما نزل من القرآن فيه، فقد نزل إحدى وثمانون آية من سورة البقرة، وقسم كبير من سورة النساء وكله يذكر هؤلاء اليهود وإنكارهم لما في كتابهم ويلعنهم، لكفرهم وإنكارهم، أشد اللعنة «3» . ولم يكتف اليهود بالوقيعة بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، ولم يكفهم فتنة الناس عن دينهم، ومحاولة ردهم إلى الشرك، دون تهويدهم، وصدهم من يريد الإسلام من المشركين، بل حاولوا فتنة محمد صلى الله عليه وسلم- كما رأينا- بإلقاء أسئلة محرجة عليه- مستعينين بما عندهم من علم الكتاب- كان القرآن يتصدى لدحضها أو الإجابة عليها، أو فضح نواياها «4» . وحين ضاق اليهود ذرعا بمحمد فكروا في أن يقنعوه بالجلاء عن المدينة كما أجلته قريش عن مكة، فذكروا له أن من سبقه من الرسل ذهبوا إلى بيت المقدس وكان مقامهم به.. لكن محمدا أدرك ما يرمون إليه، وأوحى الله إليه على رأس سبعة عشر شهرا من مقامه بالمدينة أن يجعل قبلته المسجد الحرام،   (1) تاريخ اليهود، ص 123- 125. (2) سورة البقرة، الآية: 14. دروزة: سيرة الرسول 2/ 121. (3) انظر: سورة البقرة: الآيات 87- 89، تفسير الطبري 2/ 333. (4) الشريف: مكة والمدينة ص 474- 479. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بيت إبراهيم وإسماعيل «1» ، فأنكر اليهود ذلك وأدركوا مدى خطورته، إذ أنه بادرة لتوحيد العرب وتجميعهم حول الدين الجديد، وفرض مزيد من العزلة على اليهود، لذلك أنكروا هذا وحاولوا فتنة النبي مرة أخرى بقولهم: إنهم يتبعونه إن هو رجع إلى قبلته الأولى «2» . ويوما بعد يوم اشتد النفور بين الطرفين، وكثرت بينهم المخاصمات، وبدت الكراهية والبغضاء، حتى نزل القرآن ينهى عن الاختلاط باليهود واتخاذ بطانة للمسلمين منهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «3» . ورغم هذه المواقف العدائية العامة التي صدرت عن الأكثرية الساحقة من اليهود فإننا نجد ثمة آيات تضمنت استثناء لبعضهم وتنويها بسلامة مواقفهم واعتدالهم ومنها ما تضمن إشارة إلى إيمانهم وإخلاصهم، مما يدل- من جهة- على أن فئة من اليهود- وفيها فريق من العلماء- قد استطاعوا أن يفلتوا من المؤثرات العنصرية والاقتصادية والنفسية والأنانية التي خضع لها اليهود، فلم يسعهم إلا أن يصدقوا بالنبي ويؤمنوا بالتنزيل ... ومن جهة أخرى على أن الدعوة النبوية قد قوبلت باستجابة حرة لا إكراه فيها من بعض اليهود في العهد المدني، بل عن إقبال قد يؤدي إلى أذى المقبلين كما كان في العهد المكي.. وعلى أن مواقف الكيد والتامر إنما كانت لأسباب لا تمت إلى الحق والإنصاف، بل إلى هوى الأحبار والزعماء وأغراضهم. وهذا وذاك يدعم ما قلناه من أنه لم تكن هناك أية فكرة مضادة لليهود منذ البدء كعنصر ولليهودية كدين «4» . ولقد قامت علاقة طيبة بين المهاجرين وبعض اليهود حتى ليغشون مجالسهم ويذهبون إلى بيوت   (1) سورة البقرة: الآية 144. (2) سورة البقرة: الآيتان 142- 143. (3) سورة آل عمران: الآيتان 118- 119، الشريف: مكة والمدينة 479- 483. وانظر بالتفصيل عن مواقف اليهود إزاء الدعوة، ومجادلاتهم وحربهم النفسية والفكرية: دروزة: سيرة الرسول 2/ 130- 165. وعن دسائسهم وتامرهم مع المنافقين والمشركين ضد المسلمين انظر: المصدر نفسه 2/ 166- 186. (4) دروزة: سيرة الرسول 2/ 207- 208 وانظر: سورة البقرة: الآيات 59، 62، 66، 80، 83، وسورة آل عمران: الآيات 113- 115، 199، وسورة النساء: الآية 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 مدارسهم، يتحدثون إليهم ويسألونهم ويسمعون منهم، ويرون التوراة تصدق القرآن والقرآن يصدق التوراة «1» . ولن ننسى هنا إسلام الحبر اليهودي المعروف عبد الله بن سلّام القينقاعي وأهل بيته «2» ، ومجابهته اليهود بإسلامه ودعوته إياهم إلى الدين الجديد «3» . وبدأ الصراع المرير بين الإسلام وبين الوثنية العربية بقيادة قريش حروب عصابات وحصارا اقتصاديا أول الأمر، ومجابهات عسكرية نظامية حاسمة بعد ذلك.. وبدأ يتضح لليهود- بعد الانتصار الذي حققه المسلمون في بدر- أن بقاءهم ساكتين إزاء ما يجري من صراع سيمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من تصفية أعدائه وتعزيز مركز الدولة الإسلامية في الجزيرة، وسيجد اليهود أنفسهم آنذاك منفردين بمواجهة الإسلام، مرغمين على قبول سلطته السياسية بشكل نهائي، وهذا ما لا يمكن أن يتصوروه لأنه يمثل خطرا على مصالحهم وانغلاقهم وتفرّدهم التاريخي الطويل بالسلطان. ومن ثم بدؤوا يتحركون باتجاهات شتى لعرقلة الحركة الإسلامية، ووضع المصاعب في طريقها وسحقها في نهاية المطاف، ضاربين عرض الحائط بكل التزاماتهم تجاه الإسلام في الدستور الذي وقعوه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يدع اليهود، في تحركاتهم المضادة تلك، أسلوبا إلا اتبعوه تصعيدا للحرب النفسية والمطاردات الجدلية «4» ، فتنة اجتماعية، اغتيالا فرديا، تحركا عسكريا، خيانة في الأوقات الحرجة، وتأليبا للقوى المعادية للإسلام وتجميعها كي تضرب عن قوس واحدة، إلا أن من سوء حظ اليهود أنهم لم يتحركوا مجتمعين ويقفوا صفا واحدا بمواجهة الإسلام، الأمر الذي مكّن الرسول صلى الله عليه وسلم من التصدي لكل منهم على انفراد، وتصفيته واحدا بعد آخر. وربما فكر اليهود في هذا التحرك الجماعي المشترك لولا خوفهم العاقبة حيث سيؤدي ذلك إلى كشفهم نهائيا وهم لم يعتادوا العمل المكشوف، ومن ثم آثروا الأسلوب الآخر، وهو أن يختار كل قبيلة منهم الفرصة المناسبة لضرب الإسلام وإضعاف دولته.   (1) الشريف: مكة والمدينة ص 474 عن تفسير الطبري 2/ 381- 384. (2) ابن الأثير: أسد الغابة 3/ 176. (3) الشريف: مكة والمدينة ص 474 فما بعد وانظر السمهودي: وفاء الوفا 1/ 194- 195. (4) انظر: الطبري 2/ 401، 412، الواقدي 1/ 184- 185، 204، 413، البلاذري: أنساب 1/ 284- 285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 [4] كان أول صدام مبكر بين الإسلام واليهود هو ذلك الذي حدث في أعقاب معركة بدر.. بدأ اليهود الذين صدمتهم نتيجة المعركة التي لم يكونوا يتوقعوها يروجون الشائعات ضد المسلمين ويشنون حربا نفسية ضد رسوله ودعاته، ويمارسون التجسس على المسلمين لصالح المشركين حيث نقلوا كافة المعلومات عن نوايا المسلمين وحركاتهم إلى قريش «1» ، كما أنهم كانوا قد تلقوا رسالة من قريش تحرضهم فيها على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم «2» ، وأظهروا للرسول، كما يقول الطبري، الحسد والبغي، وقالوا: لم يلق محمد من يحسن القتال، ولو لقينا لاقى عندنا قتالا لا يشبهه قتال أحد، وأظهروا نقض العهد «3» فجمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم في سوق بني قينقاع وقال لهم: يا معشر اليهود، احذروا من الله عزّ وجلّ مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبيّ مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وفي عهد الله إليكم. قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا مثل قومك لا يغرنّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن إنا نحن الناس «4» . وازداد الموقف توترا في أعقاب الحادثة التي شهدها سوق بني قينقاع، حيث كانت امرأة عربية قد قدمت السوق ببضاعة تريد بيعها فيه، وجلست إلى صائغ هناك، فتقدم إليها عدد من اليهود وطلبوا منها أن تكشف عن وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى التحرش بها، مما أضحك اليهود المتجمعين حولها، فصاحت المرأة فما وسع رجل من المسلمين إلا أن وثب على الصائغ اليهودي فقتله، فشدّ اليهود على المسلم فقتلوه، واستصرخ أهل المسلم أتباعهم، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع «5» . وفي رواية للزهري، يوردها الطبري، أن جبريل نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه   (1) شيت خطاب: الرسول القائد، ص 92. (2) محمد حميد الله: الوثائق، ص 66. (3) الطبري: تاريخ 2/ 479، البلاذري: أنساب 1/ 308 الواقدي 1/ 176. (4) المصادر السابقة، نفس الصفحات. (5) ابن هشام، ص 171، الواقدي 1/ 176، البلاذري: أنساب 1/ 309، جوامع السيرة ص 154، السمهودي: وفاء الوفا 1/ 197- 198، ابن الأثير: الكامل 2/ 137- 139، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 3- 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 الآية وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ «1» ، فلما فرغ جبريل من تلاوة الآية قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إني أخاف بني قينقاع، وسار لقتالهم «2» . ومهما كان الأمر فإن يهود بني قينقاع قد تحدوه صراحة سواء في أقوالهم وحربهم النفسية، أم في مواقفهم وأعمالهم، حتى أن الواقدي يذكر أن بني قينقاع اجتمعوا على الرجل فقتلوه «ونبذوا العهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحاربوا وتحصنوا في حصنهم» «3» . ومن ثم يبدو تهافت ما ذكره ولفنسون من أن الأسباب التي حملت النبي على البدء بمحاربة بني قينقاع- من بين جميع اليهود- ترجع إلى أن بني قينقاع كانوا يسكنون داخل المدينة، في حي واحد من أحياء الأقوام العربية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطهر المدينة وأحياء الأنصار من المشركين ومن جميع من يخالفون دينه، وغني عن البيان أن بني قينقاع كانوا أغنى طوائف اليهود في يثرب.. ثم كان عددهم غير كثير، فكان من السهل مقاتلتهم واستئصال شأفتهم «4» . لم يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ساكتا إزاء تحدي بني قينقاع، وهم ينقضون صراحة بنود الدستور، ويثيرون فتنة كان الدستور قد أكد على معاقبة مرتكبيها واعتبارهم ناقضين للعهد، ومن ثم فرض الحصار على حصونهم الواقعة داخل المدينة، في شوال من السنة الثانية للهجرة، وقد استمر الحصار خمس عشرة ليلة وانتهى بنزول اليهود على حكم الرسول الذي قضى بإجلائهم عن يثرب إلى أي مكان يشاؤون «5» ، دون أن ينزل أية عقوبة- أخرى- بهم، كي يجيء حكمه بمستوى الجرم الذي اقترفوه. وبخروجهم إلى أذرعات من بلاد الشام تخلص المسلمون من واحدة من القبائل اليهودية الرئيسية الثلاث المنتشرة- منذ زمان بعيد- داخل المدينة وخارجها، فازدادت وحدة المدينة تماسكا، وازداد اليهود ضعفا. ويظهر أن إجلاء بني قينقاع كان له وقع عظيم في نفوس اليهود، فقد امتنعوا في أعقاب ذلك عن المجادلة الدينية، وكفوا عن رمي المسلمين بقوارص الكلم، ودخلت   (1) سورة الأنفال: الآية 58. (2) الطبري: تاريخ 2/ 480، ابن سعد: طبقات 2/ 1/ 19. (3) المغازي: 1/ 177. (4) تاريخ اليهود: ص 128. (5) ابن هشام ص 171- 172، ابن سعد 2/ 1/ 19- 20، الواقدي 1/ 177- 180، البلاذري: أنساب 1/ 309، ابن الأثير: الكامل 2/ 138- 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 هيبة المسلمين في قلوب البطون العربية التي لم تكن قد دخلت في الإسلام، وانفسح المجال أمام النبي صلى الله عليه وسلم لنشر دعوته «1» . ولم يمض على ذلك كبير وقت حتى سدد الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود ضربة أخرى بقتل كعب بن الأشرف، أحد كبار زعمائهم، في ربيع الأول من السنة الثالثة للهجرة. وكان كعب قد صعّد نشاطه ضد الإسلام في اللحظة التي قدم فيها إلى المدينة مبعوثا الرسول صلى الله عليه وسلم من معركة بدر، زيد بن حارثة وعبد الله ابن رواحة، لإعلان بشرى انتصار المسلمين في لقائهم الحاسم مع المشركين. فقال كعب: ويلكم أحق هذا؟ أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس؟ والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لنا من ظهرها.. هؤلاء سراة الناس قد قتلوا وأسروا، فما عندكم؟ قالوا: عداوته ما حيينا. قال: وما أنتم وقد وطىء قومه وأصابهم، ولكني أخرج إلى قريش فأحضهم وأبكي قتلاهم فلعلهم ينتدبون فأخرج معهم. وبعد أن تيقن من صحة الخبر غادر كعب المدينة متوجها إلى مكة ونزل هناك على أحد زعمائها، وراح يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار في هجائه ويبكي أصحاب القليب من قادة قريش الذين صرعوا في بدر، وقفل عائدا إلى المدينة لكي ينشد قصيدة يشبب فيها بامرأة مسلمة تدعى أم الفضل بنت الحارث: إحدى بني عامر جنّ الفؤاد بها ... ولو تشاء شفت كعبا من السقم لم أر شمسا بليل قبلها طلعت ... حتى تجلت لنا في ليلة الظلم!! وتحول من أم الفضل إلى نساء مسلمات أخريات مشببا بهن حتى آذاهن. وعند ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من لي من ابن الأشرف؟ فقال رجل من الأنصار يدعى محمد بن مسلمة: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: فافعل إن قدرت على ذلك!! توجه محمد بن مسلمة إلى دار ابن الأشرف، في بني النضير، يصحبه أربعة من رفاقه. وعندما اقتربوا من داره بعثوا إليه أحدهم، أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، وتناشدا شعرا، ثم قال أبو نائلة: ويحك يا ابن الأشرف! إني قد جئتك   (1) ولفنسون: تاريخ اليهود ص 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 بحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني. أجاب كعب: أفعل. قال أبو نائلة: كان قدوم هذا الرجل (يعني محمدا صلى الله عليه وسلم) بلاء علينا، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا وجهدت عيالنا. فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرتك أن الأمر سيصير إلى ما كنت أقول. فقال أبو نائلة: إني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك. وطلب كعب أن يرهنوه أبناءهم فأقنعه أبو نائلة أن ذلك مما لا ترضاه العرب وأن من الأفضل لو يجعل الرهن سلاحا- وكان هدفه ألا ينكر كعب وجماعته السلام إذا جاءهم به- فوافق كعب على ذلك. وفي بقيع الغرقد اجتمعوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وتلقوا منه التعليمات وقال لهم: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصن كعب وناداه أبو نائلة، فنزل إليهم وتحدث معهم ساعة، حتى إذا توغلوا بعيدا عن مساكن اليهود أخذ أبو نائلة برأسه وصاح: اضربوا عدو الله، فصرخ كعب صرخة لم يبق من جرائها حصن يهودي إلا أوقدت عليه النار، وما لبثت سيوف المسلمين أن تناوشته وأجهزت عليه، وقفلوا عائدين بعد أن أصيب أحدهم بجرح. وسرعان ما تبدت ردود فعل اليهود إزاء مقتل فارسهم وشاعرهم خوفا وجبنا «فليس في المدينة يهودي إلا وهو يخاف على نفسه» «1» . ودفعهم الفزع إلى مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قالوا له: قد طرق صاحبنا الليلة، وهو سيد من ساداتنا، قتل غيلة بلا جرم ولا حدث علمناه. فأجابهم الرسول: إنه لو قرّ كما قرّ غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان له السيف. ثم ما لبث أن عرض عليهم أن يكتب بينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه، فأجابوه إلى ذلك حيث أصابهم الخوف والذل «2» .   (1) الطبري: تاريخ 2/ 487- 491، ابن سعد 2/ 1/ 21- 23، البخاري: التجريد 2/ 79- 80، الواقدي 1/ 121- 122، 184- 193، ابن حزم: جوامع السيرة ص 154- 156، ابن الأثير: الكامل 2/ 143- 144، المقدسي 4/ 197، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 5- 9. (2) الواقدي: 1/ 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 [5] وما لبثت هزيمة أحد أن أفسحت لليهود مجالا ينفسون فيه عن أحقادهم ويظهرون ضغائنهم على الإسلام ونبيه، وراحوا يطلقون الأقوال السيئة ويقولون: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبي قط، أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه، حتى أن ذلك استفز عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستأذنه في قتل الرؤوس اليهودية التي نفثت سمومها في قلب المحنة فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عمر إن الله مظهر دينه ومعزّ نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم «1» . ولم يقف اليهود عند حدود الحرب النفسية بل إنهم مضوا إلى أبعد من ذلك مستغلين فرصة ضعف المسلمين ومأساتي الرجيع وبئر معونة وتألب الأعراب الوثنيين ضدهم فقرر زعماء بني النضير «2» التامر على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة للهجرة. ذلك أنه ذهب إلى حصونهم، بصحبة عدد من كبار أصحابه، يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، كان أحد أصحابه قد قتلهما خطأ في أعقاب نجاته من مجزرة بئر معونة، وفق ما تقضي به المواثيق التي كان اليهود قد أمضوها مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وعندما عرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء من أجله، قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه- وكان صلى الله عليه وسلم قد جلس يستريح أسفل جدار بيت من بيوتهم- فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا لذلك، وصعد لتنفيذ المهمة، فنزل الوحي الأمين لكي يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما أراد القوم، فما لبث أن غادر المكان عائدا إلى المدينة، ولما انتظره أصحابه طويلا ولم يعد، قاموا في طلبه، وفي الطريق لقوا رجلا مقبلا من المدينة أعلمهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم داخلا، ولما التقوا به أخبرهم بما اعتزمه اليهود من الغدر به. وأرسل إلى بني النضير ينذرهم بضرورة مغادرة المدينة خلال عشرة   (1) الواقدي: 1/ 317- 318، المقريزي: إمتاع الأسماع 1/ 1 6 5. (2) عن أصل بني النضير وبني قريظة انظر Margoliuth:The Relations between Arabs Israelites ,Lec ,3.: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أيام وإن من شوهد منهم بعد انتهاء المدة ضربت عنقه. لكن اليهود لم يستجيبوا للإنذار وراحوا يهيئون أنفسهم لحصار طويل، وحينذاك أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أوامره بالتهيؤ للمسير إلى حصون بني النضير وقتالهم. ما إن علم بنو النضير بتحرك المسلمين حتى لجؤوا إلى حصونهم يحتمون بها، ففرض المسلمون الحصار عليهم، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم وتحريقها لإرغامهم على التسليم وهم الحريصون على المال والمتاع، فنادوه أن يا محمد قد كنت تنهي عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ فلم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم لمثالياتهم التي يعرف جيدا أنهم أول الناس بتخطيها إذا ما تعارضت ومصالحهم، فشدد الحصار عليهم. وراح بنو النضير يقاومون بانتظار النجدة التي وعدهم بها عبد الله بن أبيّ زعيم المنافقين، دون جدوى، وبدأ الرعب يدب في نفوسهم، ثم ما لبثوا أن أعلنوا عن استسلامهم، بعد خمسة عشر يوما من الحصار، وموافقتهم على الجلاء أسوة برفاقهم من بني قينقاع، على أن يحقن الرسول صلى الله عليه وسلم دماءهم ويسمح لهم بحمل ما تقدر إبلهم على حمله فيما عدا السلاح، فأجابهم إلى ذلك، فحملوا إبلهم الكثير من الأموال والمتاع وانطلقوا شمالا حيث استقر بعضهم في خيبر وعلى رأسهم زعماء بني النضير: سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب حيث دان لهم أهلها بالطاعة، واستمرت طائفة أخرى في مسيرها صوب الشام. ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم يديه على ما تركوه من أموال، فقسمها على المهاجرين الأولين الذين كانوا يعانون الفقر والجوع ولم يمنح للأنصار شيئا سوى رجلين فقيرين منهم، رغبة منه صلى الله عليه وسلم في إعادة التوازن الاجتماعي بين أصحابه، وهي سابقة عملية أخرى، لا تقل خطورة عن تجربة (المؤاخاة) في دلالتها الاجتماعية على رغبة الإسلام العميقة في تنفيذ التوازن الاجتماعي وتذويب الفروق الطبقية بين فئات المجتمع الواحد، وإحلال التعاون والوفاق محل التقاتل والتحاقد والصراع «1» . ولم يفلت عمرو بن جحاش من طائلة العقاب إذ سرعان ما أمر الرسول ابن يامين بن عمير- الذي أعلن إسلامه خلال فترة الحصار- أن يدبر أمر اغتياله   (1) ابن هشام ص 202- 205: الطبري: تاريخ 2/ 550- 555، ابن سعد 2/ 1/ 40- 42، الواقدي 1/ 363- 380، اليعقوبي 2/ 40، ابن الأثير: الكامل 2/ 173، البلاذري: فتوح البلدان 1/ 18- 19، أنساب 1/ 339، ابن حزم: جوامع السيرة ص 181- 182، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 74- 80، المقدسي 4/ 212- 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فأجابه أنا أكفيكه يا رسول الله، وما لبث أن اتصل برجل من قيس وأعطاه عشرة دنانير لقاء تعهده بقتل ابن جحاش، فأدى الأعرابي المهمة، وعاد ابن يامين لكي يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء على الخائن «1» . وهكذا تم إجلاء طائفة أخرى من اليهود بسبب خرقها الميثاق وخفرها الذمة وخيانتها الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقد جاء انتصار المسلمين هذا في أعقاب محنتهم في أحد وفجيعتهم في حادثتي الرجيع وبئر معونة، ومن ثم تولوا زمام المبادرة ثانية، وتغيّر بانتصارهم هذا مجرى الأحداث، ونزلت- بعد قليل- سورة بأكملها هي سورة (الحشر) تعرض لظروف هذا الحدث الخطير، وتعلق على مجرياته ونتائجه التي ما كانت لتحدث هكذا لولا إرادة الله الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ. وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ «2» وإن كان ثمة شيء يزاد على روايات التاريخ فهو المدى الواسع الذي ينطوي في الآية الرابعة من السورة الآنفة ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ إذ يصحّ أن يقال إن محاولة بني النضير اغتيال النبي إنما كانت سببا مباشرا، وأنه كان منهم قبل ذلك مواقف مشاقة مؤذية ومزعجة كثيرة طفح بها الكيل وحق عليهم من أجلها التنكيل «3» . [6] لم يشأ زعماء بني النضير الذين استقروا في خيبر أن يظلوا ساكتين إزاء هزيمتهم وامتداد الإسلام إلى كل مكان، وتدارسوا الأمر فرأوا أن أحد أكبر الأسباب في الهزائم التي مني بها أعداء الإسلام من الوثنيين واليهود هي قتالهم المسلمين كل على انفراد، الأمر الذي مكّن هؤلاء من تصفية خصومهم وتحقيق   (1) الواقدي: 1/ 373- 374. (2) ابن هشام ص 205 الواقدي 1/ 380- 383 وعن الآيات المتعلقة بإجلاء بني النضير انظر سورة الحشر: الآيات 2 - 7، 11- 17. (3) دروزة: عصر الرسول صلى الله عليه وسلم 2/ 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الانتصارات المتتالية عليهم، وإذن فإن خير أسلوب لتفادي الهزيمة كرة أخرى هي أن يسعوا لتشكيل حلف قوي يضم كافة القوى الوثنية واليهودية وتوجيه ضربة مشتركة للإسلام لا تقوم له بعدها قائمة. وسرعان ما انطلق نفر منهم على رأسهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن أبي الحقيق، وغيرهم للاتصال بقريش وغطفان وبقية القبائل الوثنية الكبرى وإقناعهم جميعا بالفكرة التي توصلوا إليها. وعندما قدموا على قريش ودعوها إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم حتى نستأصله، أرادت قريش أن تستوثق من خطة اليهود فسألت حييا عن قومه من بني النضير فقال: تركتهم بين خيبر والمدينة يترددون حتى تأتوهم فتسيروا معهم إلى محمد وأصحابه. فسألوه عن بني قريظة فقال: أقاموا بالمدينة مكرا بمحمد حتى تأتوهم فيميلوا معكم. وتساءل بعض رجالات قريش: يا معشر اليهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ أجاب اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. كان اليهود مستعدين لأن يزيفوا كل شيء، ويتجاوزوا منطقهم الديني نفسه في سبيل التودد إلى الوثنية وتحريكها لضرب الإسلام. ولقد نجحوا في هذا السبيل، بعد أن اتصلوا بالقبائل العربية الآخرى، وانطلق الأحزاب في هجوم شامل على المدينة لاستئصال الإسلام «1» . ولقد أدرك زعماء بني النضير أن هدفهم لن يكسب ضمانه النهائي إلا بإقناع يهود بني قريظة في يثرب، أولئك الذين كانوا لا يزالون ملتزمين بميثاقهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، بالتمرد على التزامهم والإنضواء إلى صفوف الأحزاب، والعمل سوية على توجيه الضربة القاصمة للعدو المشترك. فانطلق حيي بن أخطب «2» ، وقد حوصرت المدينة، إلى حصون بني قريظة القابعة إلى الجنوب منها، وقصد زعيمها كعب بن أسد. فلما سمع هذا بقدوم حيي أغلق دونه باب حصنه تجنبا للمشاكل والتزاما بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه حيي بالدخول عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حيي محاولا إقناعه بما جاء من أجله: ويحك يا كعب.. افتح لي. أجابه كعب: ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشؤوم وإني قد   (1) ابن هشام ص 211- 212، الواقدي: 2/ 441- 442، وانظر: الشريف: مكة والمدينة ص 455. (2) يذكر ابن سعد 2/ 1/ 48 بأن أبا سفيان هو الذي دس حييا إلى بني قريظة كي ينقضوا عهدهم، ويذهب الواقدي إلى ما ذهب إليه ابن سعد: المغازي 2/ 454- 455. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. قال حيي: ويحك افتح لي أكلمك. أجاب كعب: ما أنا بفاعل. قال حيي مستفزا رفيقه: «والله إن أغلقت الحصن دوني إلا على جشيشتك «1» أن أكل منها معك» فاضطر كعب إلى أن يفتح له. وما أن دخل زعيم بني النضير حتى بادر رفيقه قائلا: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بجانب أحد، وقد عاهدوني وعاقدوني على ألايبارحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. أجابه كعب وهو يخمن المصير الذي ينتظره وقومه إذا ما تمردوا على العهد: جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد أهراق ماءه، فهو يرعد ويبرق ليس فيه شيء، ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حيي بكعب يخاتله ويراوغه ويمنيه حتى أجابه كعب بعد أن شرط عليه أنه إذا ما عادت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا دخل معه حصنه حتى يصيبه ما أصابه. وعند ذلك قام كعب بنقض العهد وأعلن براءته مما كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم «2» . عندما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنباء نقض بني قريظة عهدها معه بعث سعد ابن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج وآخرين وقال لهم: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فتوجه هؤلاء إلى حصون قريظة وسألوهم عما بلغهم عنهم، فما كان جوابهم إلا أن قالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، وعندما عنفهم سعد بن معاذ شتموه! وعاد الرجال لكي يخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم عن صحة ما ورده من أنباء زادت المسلمين بلاء على بلاء «3» . وسرعان ما همت بنو قريظة في القيام بهجوم ليلي على قلب المدينة، وأرسل زعماؤها حيي بن أخطب إلى معسكر قريش لكي يأتي بألفي رجل منها ومن غطفان يستعينون بهم على هذا الهجوم، الأمر الذي دفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى   (1) الجشيشة: طعام من البر يطحن غليظا. (2) ابن هشام ص 214- 215، الطبري: تاريخ 2/ 571- 572، الواقدي 2/ 454- 457. (3) ابن هشام ص 215، الطبري: تاريخ 2/ 572، الواقدي 2/ 457- 459. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 تجريد كتيبتين من خمسمائة فارس لحراسة المدينة والطواف في أحيائها ورفع معنويات أهاليها. ويحدثنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيقول: «لقد خفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من خوفنا من قريش وغطفان.. فكان مما رد الله به بني قريظة عما أرادوا أن المدينة كانت تحرس» «1» . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث العيون من جهته إلى بني قريظة لكي يجيئوه بأماكن خللهم ونقاط ضعفهم «2» وقد تمكن عشرة من أشداء اليهود من التسلل يوما إلى أطراف المدينة فتصدى لهم نفر من المسلمين واشتبكوا معهم في قتال بالنبال أسفر عن تراجع اليهود واحتمائهم بحصونهم، وسيطر الرعب عليهم «فلم يقدروا أن يطلعوا من حصنهم وخافوا خوفا شديدا» «3» . وصمد المسلمون لمحنة (الأحزاب) وتمكنوا من دحر أخطر هجوم في تاريخ دعوتهم، فتفككت عرى الأحزاب وقفلت عائدة إلى ديارها، وحان الوقت لإنزال العقاب العادل بالجماعة اليهودية التي نقضت العهد في أخطر ساعة عاشها المسلمون. جاء جبريل عليه السلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ أجاب الرسول: نعم. فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم. إن الله عزّ وجلّ يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم مؤذنا يؤذن في الناس (من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة) «4» ، إسراعا بالمسلمين إلى هدفهم واستنهاضا لهم بعد الجهد والعناء الذي أصابهم خلال أيام الحصار الشاقة. لقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم بثاقب فكره أهمية الوقت في الحصول على نتائج باهرة في القتال، فلو أنه أبطأ في حركته هذه لاستفاد اليهود من الوقت في الاستعانة بحلفائهم، أو إقناع اليهود الآخرين بمعاونتهم، أو التشبث بالحصول على قوات من القبائل لتدعيم قوتهم، ولكان بإمكانهم إكمال قضاياهم الإدارية   (1) الواقدي، 2/ 460. (2) المصدر السابق 2/ 461- 462. (3) المصدر السابق 2/ 462. (4) ابن هشام ص 223، الطبري: تاريخ 2/ 581، ابن سعد 2/ 1/ 53- 55، الواقدي: 2/ 496- 499، البلاذري: أنساب 1/ 347- 348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 التي يحتاجونها في القتال حتى يستطيعوا الصمود في حصارهم أطول مدة ممكنة. ولكن إسراع الرسول لتطويقهم حال بين اليهود وبين كل ذلك، إذ لم يكن اليهود يعلمون بالموعد الأكيد لانسحاب الأحزاب ليسبقوا النظر في إعداد كافة متطلبات القتال المتوقع ضد المسلمين، بل إن حركة المسلمين السريعة لم تترك لهم الوقت الكافي لتنظيم خطة دفاعية عن حصونهم، كما لم تترك لهم الوقت الكافي لتنظيم أي خطة على الإطلاق.. كما أن حركة المسلمين مبكرا شلّت معنويات اليهود وقضت على روح المقاومة فيهم «1» . ومما يزيد في قيمة حرص المسلمين على المحافظة على الوقت أن ظروفهم لم تكن حسنة بعد انسحاب الأحزاب، لقد كانوا منهوكي القوى لسهرهم على حراسة مواضعهم مدة حوالي شهر في موقف عصيب يحطم أعصاب الشجعان، وكان الطقس باردا وقد تحملوا البرد في العراء وقتا طويلا أثناء حصارهم فلما انسحبت الأحزاب آن لهم أن ينالوا بعض الدفء في بيوتهم القريبة. وكانت قضاياهم الإدارية بشكل لا يحسدون عليه، إذ ما هي إمكانيات إعاشتهم مثلا وهي أهم ما يديم قوة المقاتلين؟ إن عدم اكتراث المسلمين بكل هذه المشاكل لغرض الإسراع بتطويق حصون بني قريظة يدعو إلى الإعجاب والتقدير «2» . استمر الحصار خمسا وعشرين ليلة وبدأ الرعب يتسرب إلى قلوب اليهود، وأدركوا ألا قدرة لهم على الصمود حتى النهاية. ولما أيقن زعيمهم كعب بن أسد أن الرسول صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى ينزل بهم عقابه، عرض على قومه حلولا عدة علها تخلصهم من المأزق الذي أوقعوا أنفسهم فيه فقال: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره. قال: إذا أبيتم علي هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا   (1) شيت خطاب: الرسول القائد ص 167. (2) المرجع السابق، ص 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 نخشى عليه، وأن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت، وأنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد علينا سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟ وقال نباش بن قيس، أحد زعمائهم: وكيف نصيب منهم غرة وأنت ترى أمرهم كل يوم يشتد، كانوا أول ما يحاصروننا إنما يقاتلون بالنهار ويرجعون بالليل ... فهم الآن يبيتون الليل ويظلون النهار، فأي غرة نصيب منهم؟ قال كعب: ما بات رجل منكم، منذ ولدته أمه، ليلة من الدهر حازما. ومن ثم أعلن اليهود نزولهم على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم «1» . عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ، زعيم الأوس، وقد كان بنو قريظة مواليهم، بإصدار الحكم. وكان سعد آنذاك يمرض من جراحه التي أصابته في معركة الخندق تشرف على تمريضه في المسجد امرأة تدعى رفيدة كانت تداوي الجرحى، وتتولى رعاية من لا أهل له من المقاتلين. فجاء به قومه يحملونه وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيم. فلما ألحوا عليه قال: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، ثم أصدر حكمه بقتل الرجال المحاربين، وتقسيم الأموال، وسبي الذراري والنساء، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له (لقد حكمت فيهم بحكم الله- من فوق سبع سماوات- وحكم رسوله) «2» !!. لم يكن رجال بني قريظة سوى مجرمي حرب، وفق قوانين القتال المعاصرة، نقضوا العهد، وانضموا إلى الأعداء والحرب قائمة بين المسلمين والأحزاب. فكان نقضهم خيانة عظمى، ولم يكن عقابهم العادل المكافىء لفعلتهم سوى القتل. وقد أنزلوا من حصونهم مقرنين في الأصفاد، وحفرت لهم   (1) ابن هشام: ص 224- 225، الطبري: تاريخ 2/ 583- 584، الواقدي 2/ 501- 503، ابن الأثير: الكامل 2/ 185- 187، السمهودي: وفاء الوفا 1/ 218- 220. (2) ابن هشام 226- 228، الطبري: تاريخ 2/ 586- 588، ابن سعد 2/ 1/ 54، الواقدي: 2/ 510- 512، اليعقوبي 2/ 43، البلاذري: فتوح 1/ 23- 24، أنساب 1/ 347، البخاري: تجريد 2/ 82- 83، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 116- 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الخنادق، ثم جيء بهم فوجا فوجا حيث لاقوا مصيرهم ودفنوا هناك، وبلغ عددهم بين الستمائة والسبعمائة رجل فيهم سيدهم كعب بن أسد وحيي بن أخطب، زعيم بني النضير الذي كان قد لجأ إلى حصون بني قريظة بعد انسحاب الأحزاب، وامرأة كانت قد ألقت- خلال الحصار- رحى على مسلم يدعى خلاد ابن سويد فقتلته. وما أن تم تنفيذ الحكم برجال بني قريظة حتى انفجر بسعد بن معاذ جرحه فمات شهيدا «1» بعد أن استجاب ربه لدعائه يوم جرح في معارك الخندق «اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه. اللهم وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة» «2» . وبفتح حصون بني قريظة يكون المسلمون قد تخلصوا من آخر كتلة يهودية في المدينة اختارت بنفسها- كسابقاتها- أن تقف من الإسلام موقف الحقد والعداء، وأن تنقض ميثاقها مع الرسول صلى الله عليه وسلم. ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليستخدم أسلوب العقاب الجماعي إزاء اليهود الذين لم يروا منه- كما قال سيدهم كعب بن أسد- إلا وفاء وصدقا. فكان لا يعاقب إلا القبائل التي نقضت عهدها معه تاركا القبائل الآخرى تمارس حريتها الدينية والمدنية كاملة ما دامت على عهدها. وهكذا لم تؤد حادثة سوق الصاغة إلا إلى إجلاء مسببيها من بني قينقاع، كما لم تؤد محاولة اغتياله إلا إلى طرد القائمين بها من بني النضير، ولو ظلت بنو قريظة على عهدها، ولم تمارس خيانتها الخطيرة في معركة الخندق لكان لها شأن آخر غير المصير الذي انتهت إليه، هذا فضلا عن أن العقاب الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينزله بخصومه اليهود كان يجيء دوما مكافئا لحجم الجرم الذي مارسته الكتل اليهودية، إذ سمح لكل من بني قينقاع وبني النضير بالخروج إلى أي مكان يشاؤون داخل الجزيرة أم خارجها، بعد أن حقن دماءهم ولم يستخدم أسلوب القتل إلا إزاء أولئك الذين خانوا العهد في ساحة الحرب وتعاونوا مع الأعداء، وهو العقاب الذي تمارسه جميع القوانين. أما اليهود، كأفراد لا ينتمون إلى هذه الكتلة وتلك من الكتل اليهودية ذات الوجود السياسي والعسكري، فقد ظلوا حتى   (1) ابن هشام ص 228- 229، 232، الطبري: تاريخ 2/ 588- 589، 592، الواقدي: 2/ 513- 518، السمهودي: وفاء الوفا 1/ 220- 221، ابن كثير: البداية والنهاية: 4/ 126- 130. (2) الطبري: تاريخ 2/ 575، ابن سعد 2/ 1/ 56، الواقدي 2/ 512، 525. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 النهاية يمارسون حقوقهم وحريتهم في مدينة الرسول بدليل أنه توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند واحد من هؤلاء!! [7] راح الرسول صلى الله عليه وسلم ينتظر الفرصة المؤاتية لضرب التجمع اليهودي السياسي الأخير في خيبر والمواقع المجاورة بسبب ما كانت تمارسه ضد الإسلام. فمنها انطلق زعماء اليهود لدعوة القبائل العربية وتحزيبها ضد المسلمين، ومنها خرج حيي بن أخطب ودفع بني قريظة إلى الانتفاض في اللحظات العصيبة. وقد غدت خيبر بمرور الأيام ملجأ يأوي إليه اليهود المبعدون عن المدينة، ينتظرون الفرصة للانتقام من الإسلام، واسترداد مواقعهم ومصالحهم التي جردهم الرسول صلى الله عليه وسلم منها، وقد اتضح هذا في الأيام القلائل التي أعقبت هزيمة بني قريظة، إذ بلغت خيبر أنباء هزيمة قريظة فاتصل بعض اليهود بزعيمهم سلام بن مشكم وسألوه الرأي فأجابهم: نسير إلى محمد بما معنا من يهود خيبر فلهم عدد، ونستجلب يهود تيماء وفدك ووادي القرى، ولا نستعين بأحد من العرب، فقد رأيتم في غزوة الخندق ما صنعت بكم العرب.. ثم نسير إليه في عقر داره. فقالت اليهود: هذا الرأي «1» . ولكن بعض الزعماء عارضه في الإقدام على مجازفة كهذه غير مأمونة النتيجة. وفضلا عن هذا كله فإن يهود خيبر كانوا السبب في خروج سرية يقودها علي بن أبي طالب رضي الله عنه أواخر العام السادس الهجري، كانت وجهتها فدك حيث يقطن حي من بني سعد بن بكر كانوا قد سعوا إلى مدّ أيديهم لأولئك اليهود لقاء أن يمنحوهم جزآ من ثمار خيبر «2» . وها هم الآن يتحالفون مع غطفان في محاولة جديدة ضد المدينة. وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدور في خلدهم فأخذ يتهيأ لقتالهم ويمهد لذلك بإرسال مجموعات من فدائيي الأنصار لاغتيال بعض قادة اليهود هناك كسلّام بن أبي الحقيق وأسير بن رزام الذي كان يجتمع ببني غطفان ليعقد معهم العقود والاتفاقات ليكونوا مع اليهود في حالة دخول أهل خيبر في حرب مع المسلمين «3» . ويحدثنا عبد الله بن عتيك أمير السرية الأنصارية ذي الرجال الخمسة   (1) الواقدي: 2/ 530- 531. (2) الطبري: تاريخ 2/ 642، ابن سعد 2/ 1/ 65. (3) ولفنسون: تاريخ اليهود ص 157- 15 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 والتي كلفها الرسول صلى الله عليه وسلم مهمة قتل الزعيم اليهودي فيقول: «لما دنونا من الحصن وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، قلت لأصحابي: اجلسوا مكانكم فإني سانطلق واتلطف إلى البواب لعلي أدخل» .. ثم أقبل حتى إذا دنا من الباب تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب. فتناول المفاتيح التي كان البواب قد علقها على وتد هناك ثم اتجه إلى حيث يقيم سلام بن مشكم الملقب بأبي رافع.. «كان أبو رافع يسمر في علالي، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقته عليّ من داخل.. حتى انتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت؟ قلت: أبا رافع. قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت أضربه بالسيف، فما أغنى شيئا وصاح، فخرجت من البيت ومكثت غير بعيد، ثم دخلت إليه وقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال: لأمك الويل، إن رجلا بالبيت ضربني بالسيف، فانقضضت عليه ووضعت حد السيف في بطنه حتى أخرجته من ظهره، فعرفت أني قد قتلته وجعلت أفتح الأبواب بابا فبابا، حتى انتيت إلى الأرض، فوقعت فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامتي ثم انطلقت حتى جلست عند الباب فقلت: والله لا أرجع الليلة حتى أعلم أقتلته أم لا؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور ينعي أبا رافع، فانطلقت إلى أصحابي وقلت: النجاء.. قد قتل الله أبا رافع» .. وقفل عبد الله بن عتيك ورفاقه عائدين إلى المدينة ليخبروا الرسول بالمهمة التي انجزوها «1» . وبعد أبي رافع جاء دور أسير بن رزام حيث ندب له الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلا بقيادة عبد الله بن رواحة، فاستدرجوه وعددا من أصحابه واحتالوا عليهم وقتلوا أميرهم أسير ومعظم أصحابه ثم قفلوا عائدين إلى المدينة دون أن يفقدوا أحدا «2» !! كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عقد صلح الحديبية مع قريش في أواخر السنة السادسة   (1) انظر بالتفصيل الطبري: تاريخ 2/ 483- 490 الواقدي 1/ 391، ابن سعد 2/ 1/ 66، البلاذري: أنساب 1/ 376، البخاري: تجريد 2/ 80، ابن الأثير: الكامل 2/ 146- 148، ابن حزم: جوامع السيرة ص 198- 200، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 137- 140، ويلاحظ أن هذه المصادر لا تتفق في تحديد تاريخ هذه الحادثة فبعضهم يجعلها قبل الخندق وبعضهم الآخر يجعلها بعدها إلا أن المرجح- كما يبدو من سياق الأحداث- أن ذلك حدث بعد معركة الخندق. (2) ابن سعد 2/ 1/ 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 للهجرة وأمن- بموجبه- جانبها، ووجد الفرصة سانحة لتوجيه نشاطه صوب الشمال حيث يقبع الخطر اليهودي الذي لا يكف عن التامر والعدوان متمثلا يخيبر والمواقع المجاورة، وما لبث صلى الله عليه وسلم بعد أسابيع من عودته إلى المدينة أن انطلق (مطلع السنة السابعة) ، صوب خيبر على رأس حملة استنفر لها الراغبين في الجهاد فحسب دون الغنائم. ذلك أن يهود خيبر كانوا أقوى الطوائف اليهودية بأسا وأعظمها دربة على القتال، ولذلك وقفت شبه الجزيرة كلها متطلعة إلى هذه الغزوة. وكان كثيرون يتوقعون أن تدور الدائرة على المسلمين «1» ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك أنه لو فشل أمام خيبر فسيتغير ميزان القوى من جديد وربما حدثت نكسة أعادت لأعدائه قوتهم وحماستهم لقتاله، وحالت دون إتمام الوحدة التي يعمل لها النبي ويسعى إليها، لذلك كان يريد جيشا مؤمنا بأهدافه مقدرا للظروف.. يريد سيوفا تحركها قوة النفس لا جشعها، وكان جيش محمد كما أراده، قليلا بعدده كثيرا بإيمان رجاله وثبات نفوسهم وتصميمهم على الوصول لأهدافهم «2» . ويذكر المقريزي أن عدد المسلمين الذين توجهوا إلى خيبر كانوا ألفا وأربعمائة مقاتل يصحبهم مائتا فرس «3» ، ربما اعتمادا على عددهم يوم الحديبية القريب، كما أسهم في الخروج عدد من النسوة، خرجن ليداوين الجرحى وينسجن الملابس ويهيئن الطعام. جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هدفه أول الأمر السيطرة على الطريق الواصل بين خيبر وغطفان ليحول بين هؤلاء وبين أن يمدوا حلفاءهم في خيبر. وكان بنو غطفان، لدى سماعهم بتوجه الرسول إلى خيبر، قد خرجوا ليساندوا اليهود ضده لقاء نصف ثمار خيبر لذلك العام، فاضطرهم الرسول صلى الله عليه وسلم للعودة إلى ديارهم بعد أن أوهمهم أن هجومه متجه إليهم، ومن ثم انفرد بخيبر وباغتها فجرا حيث كان أهلوها ورجالها قد خرجوا إلى مزارعهم بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقود جيش المسلمين تمالكهم الخوف ونادوا «محمد والخميس» وهربوا لائذين بحصونهم، وهيؤوا أنفسهم لحصار طويل، فنادى الرسول صلى الله عليه وسلم ملقيا مزيدا من الرعب في قلوبهم: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة   (1) انظر ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب ص 162. (2) الشريف: مكة المدينة ص 495- 498. (3) إمتاع الأسماع 1/ 327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 قوم فساء صباح المنذرين» «1» . كانت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستيلاء على حصون اليهود المنيعة في خيبر تتلخص بمشاغلة بعضها بقوات صغيرة، وتركيز الهجوم على حصن واحد بقواته الرئيسية حتى يتم له الاستيلاء على الحصن ثم ينتقل بهجومه المركز إلى حصن آخر، كما أنه قسم قواته إلى أقسام بالنسبة إلى قبائلها وبطونها، وجعل لكل قسم قائدا حتى يشتد التنافس بين القوات ولكي يقوم بعضها بالمشاغلة بينما يأخذ الباقي قسطا من الراحة ليستأنف القتال مرتاحا عند الحاجة. إن هذه الخطة تتفق مع أحدث الخطط العسكرية الحديثة في قتال المدن والأحراش، ولو أنه قام بالقتال بأسلوب الكر والفر أو بأسلوب الصفوف في مثل هذا الموقف لما كتب للمسلمين النصر «2» . وبدأ الهجوم، وراحت حصون خيبر الممتدة في المنطقة على شكل سلاسل والمنقسمة إلى ثلاث مناطق هي: النطاة والشق والكتيبة «3» يدافع عنها زهاء عشرة آلاف مقاتل «4» تسقط بأيدي المسلمين حصنا بعد حصن، وكان أو؟؟ لها سلاسل حصون ناعم والقموص، وراح عدد من المدافعين يتسللون هاربين من حصونهم، واتصل بعضهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ودلّه على نقاط الضعف في مواقع اليهود. ومن أجل أن يعجل الرسول صلى الله عليه وسلم بكسب المعركة حضّ أصحابه على الجهاد وأخبرهم أن اليهود قد أسلمها حلفاؤها وهربوا، وإنها قد تجادلت واختلفت فيما بينها فزاد من ثقة المسلمين بالنصر. وكان آخر الحصون مقاومة للمسلمين سلاسل الوطيح والسلالم وقلعة الزبير حيث عصى اليهود وظلوا يقاومون بضعا وعشرين ليلة جرت خلالها مبارزات فردية بين فرسان الفريقين وهجمات عديدة قادها كبار الصحابة وسقط فيها ما يقرب من مائة قتيل يهودي وخمسة عشر مسلما، حتى إذا أيقن المدافعون بالهلكة سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجليهم عن المنطقة وأن يحقن دماءهم فأجابهم إلى طلبهم، فلما نزلوا إليه عرضوا عليه أن يبقيهم في أرضهم لقاء أن يدفعوا للمسلمين نصف حاصلاتهم فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على العرض تقديرا   (1) ابن هشام ص 259- 261، الطبري تاريخ 3/ 9، ابن سعد 2/ 1/ 77 الواقدي 2/ 634- 643. (2) شيت خطاب، الرسول القائد ص 208- 209. (3) انظر ولفنسون: تاريخ اليهود ص 196. (4) يخطىء اليعقوبي 2/ 46 في جعلهم عشرين ألفا وهو يمارس المبالغة وعدم الدقة في أكثر من موضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 منه لإمكاناتهم الزراعية ورغبة منه في الإفادة من أية طاقة في إعمار الأراضي واستثمارها إلا أنه بيّن لهم أن موافقته هذه غير ملزمة إلى الأبد «فإنا إن شئنا أن نخرجكم أخرجناكم» لما يعرفه عن طبع اليهود من عدم الوفاء بالعهد ومن انتهاز أية فرصة تسنح للغدر والخيانة «1» . ويزيد ولفنسون مسألة معاملة يهود خيبر وضوحا فيبين أن خيبر كانت واسعة الأطراف وفيها من الحدائق والمزارع ما يحتاج للأيدي الكثيرة التي مارست أشغال الزراعة والفلاحة، ولم يكن من العرب من مارس ذلك إلا النزر اليسير. وفوق ذلك لم يرض الرسول أن يترك من أنصاره من يستوطن هذه الأرض ويعمل بها لاحتياجه إليهم في الأعمال الحربية، ولم يكن في الإمكان ترك هذه الأرض الخصبة بورا لا تنتج زرعا ولا ثمرا والدولة الإسلامية الناشئة كانت في أشد الحاجة إلى الأموال الكثيرة، فلم يكن بد من الإبقاء على اليهود ليعملوا في هذه الأرض وينتجوا منها الزرع والثمر، ولذا كانت شروط الصلح التي عقدت بين الطرفين في مصلحة المسلمين أكثر منها في جانب المغلوبين، وما دامت شوكة اليهود في الحجاز قد انكسرت فليس ما يخشى من وجود يهود خيبر في أراضيهم «2» . وهناك أمر يستوقف النظر وهو أنه كان بين الغنائم التي غنمها المسلمون في غزوة خيبر صحائف متعددة من التوراة، فلما جاء اليهود يطلبونها أمر النبي بتسليمها لهم. ويدل هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم من المكانة العالية مما جعل اليهود يشيرون إلى النبي بالبنان حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة. ويذكرون بإزاء ذلك ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ب. م إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم، وما فعله المتعصبون من النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا أيضا صحف التوراة. هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام «3» .   (1) ابن هشام ص 261- 264، الطبري: تاريخ 3/ 10- 15، 20- 21، ابن سعد 2/ 1/ 80 الواقدي 2/ 643- 677، 690- 691، البلاذري: فتوح 1/ 25- 26، أنساب 1/ 352، وانظر المقريزي: إمتاع الأسماع 1/ 310- 332. (2) تاريخ اليهود ص 169. (3) تاريخ اليهود ص 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 لكن اليهود تناسوا، بعد قليل، هذه المواقف السمحة، العادلة إزاءهم، وسعوا إلى الثأر لأنفسهم كلما سنحت الفرصة لهم بذلك. كانت أولى المحاولات ما تم على يد زينب ابنة الحارث، زوجة سلام بن مشكم، إذ أهدت للرسول شاة مشوية نثرت فيها السم، فلما مضغ من ذراعها مضغة لم يسغها ولفظها قائلا: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم. وكان بشر بن البراء قد أكل هو الآخر فمات بعد قليل، وجيء بالجانية فاعترفت وقالت للرسول صلى الله عليه وسلم: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فتجاوز عنها الرسول «1» وقيل إنه قتلها «2» . ويذكر الواقدي «3» وعدد آخر من المؤرخين أن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم التي جاءت بعد ثلاث سنوات كانت بسبب السم الذي دسّ له يوم خيبر «4» ، وهو احتمال ضعيف بعد مرور هذه المدة الطويلة. بعد فترة قصيرة قام يهود خيبر باغتيال عبد الله بن سهل الأنصاري، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، من بعده، أبقياهم على ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اشترط عليهم، سيما وأنهما- كما يقول ابن سعد- لم يكن لهما من العمال ما يكفون عمل الأرض «5» . وعندما تولى عمر رضي الله عنه الخلافة وبلغته أنباء اغتيال المسلم من قبل يهود خيبر واعتدائهم على عبد الله بن عمر، وكثر عمال المسلمين وتقووا على استثمار الأرض، وتنفيذا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم يوم وفاته: ألا يجتمع في جزيرة العرب دينان، أصدر إنذاره إلى يهود خيبر «إن من كان عنده عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتني به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد فليتجهز للجلاء، ومن ثم قام بإجلاء عدد من يهود خيبر وقسم أموالهم على المسلمين «6» .   (1) ابن هشام، ص 264- 265، الطبري: تاريخ 3/ 15- 16، الواقدي 2/ 677- 679. (2) ابن سعد 2/ 1/ 78. (3) المغازي، 2/ 678- 679. (4) انظر المسعودي: الإشراف والتنبيه ص 223- 224. (5) الطبقات الكبرى: 2/ 1/ 82- 83. (6) الواقدي 2/ 713- 721، ابن سعد 2/ 1/ 83، الطبري: تاريخ 3/ 20- 21، البلاذري: فتوح 1/ 25، 27، 28، 31، 40. ويذكر ولفنسون (تاريخ اليهود ص 183) أن عمر (رضي الله عنه) لم يتعرض ليهود وادي القرى وتيماء بسوء وأنه يؤخذ من هذا أن أهاليها كان لهم عقد خاص لم يسمح للخليفة بإخراجهم من بلادهم. كما يذكر أنه بقيت الأغلبية لليهود في وادي القرى إلى القرن الحادي عشر، وكذلك وجدت طوائف منهم في جهات تيماء في الثاني عشر ... أما في بلاد اليمن فقد بقي اليهود طوال العصور القديمة ولم يزل لهم وجود في جهات مختلفة من أطراف الجزيرة إلى أيامنا هذه (المصدر السابق ص 186) وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ونحن لا نستطيع أن ندرك مغزى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا عدنا بأذهاننا إلى الوراء، إلى السنة التاسعة للهجرة، حيث نزلت آيات براءة تعلن إنهاء الوجود الوثني في جزيرة العرب. وقلنا هناك إن الضرورتين الاستراتيجية والحضارية هما اللتان دفعتا إلى اتخاذ هذا الموقف، ومن ثم يجيء تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم في أخريات حياته (ألا يجتمع دينان في الجزيرة) ، ضمانة أخرى بصدد تعزيز الاستراتيجية الإسلامية التي رسمها صلى الله عليه وسلم واستهدف منها جعل جزيرة العرب قاعدة إسلامية خالصة مهيّأة لانطلاق أتباعه برسالته إلى العالم كله، وهم قد أمنوا على ظهورهم من طعنات أتباع الديانات الآخرى في قلب بلادهم، ومن السموم التي يمكن أن تنفثها جيوبهم المنبثة هناك، والتي لم تكن حركات الردة والتنبؤ بأقلها خطرا.. وهذا الموقف لا يتعارض مع بقاء بعض التجمعات اليهودية المسالمة التي لا تملك تأثيرا كبيرا في بعض مناطق الجزيرة والتي كانت تربطها مع الرسول صلى الله عليه وسلم عهود خاصة. لما سمع يهود فدك، القرية اليهودية المجاورة، بما حل برفاقهم في خيبر من معاملة طيبة بعثوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعلنون رغبتهم في المصالحة على مناصفة أراضيهم «1» . أما وادي القرى فقد ظلت عاصية، فتوجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وفرض الحصار عليها، ودعا أهاليها إلى الإسلام، وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله، ولكنهم أبوا وأصروا على القتال، وجرت بين الطرفين مناوشات محدودة، والرسول يعرض عليهم الإسلام وهم يأبون مما دفعه إلى تشديد الحصار عليهم حيث تمكن بعد قليل من فتح بلدهم عنوة، وبقي هناك أربعة أيام قسم خلالها الغنائم على أصحابه وترك المزارع بيد اليهود مناصفة عليها. ولما بلغت يهود تيماء أنباء الانتصارات الإسلامية صالحوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الجزية وأقاموا في بلدهم «2» . [8] وبسقوط خيبر والمواقع المجاورة تم تصفية آخر تجمع يهودي لعب دوره   فتح خيبر ومسألة إخراج اليهود من الجزيرة انظر كذلك كتاب الخراج لأبي يوسف ص 29 وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 99 وابن كثير: البداية والنهاية 4/ 181- 220. (1) الواقدي 2/ 706- 707، البلاذري: فتوح 1/ 33 خليفة بن خياط: تاريخ 1/ 47- 48. (2) الواقدي 2/ 709- 711، البلاذري: فتوح 1/ 39- 40، المسعودي: التنبيه والإشراف 224- 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 في مواجهة الإسلام وخصومته، ووضع العوائق في طريقه، وحبك المؤامرات ضده، وقضى قضاء تاما على القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية ليهود الحجاز، وغدت كلمة الإسلام وحدها هي العليا في معظم مساحات الجزيرة العربية، وكبتت كل الجيوب التي كانت تشكل نقاط ضعف في جسد هذه الدولة التي يحيط بها الأعداء من كل مكان. ويذكر ابن سعد أن الرسول صلى الله عليه وسلم نشط في نفس العام (7 هـ) في الكتابة إلى زعماء بقايا التجمعات اليهودية في أقصى الشمال لتحديد موقفها من الإسلام. فبعث إلى بني جنبة بمقنا القريبة من أيلة على خليج العقبة «أما بعد، فقد نزل علي رسلكم، راجعين إلى قريتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون لكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم وكل ذنوبكم لا ظلم عليكم ولا عدى، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه.. وإن عليكم.. ربع ما أخرجت نخلكم وربع ما صادت عروككم (مراكبكم) وربع ما اغتزل نساؤكم وإنكم برئتم- بعد- من كل جزية أو سخرة. فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم.. وإن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله ... » ، وكتب لجماعة أخرى من اليهود تدعى بني غاديا (.. إن لهم الذمة وعليهم الجزية ولا عداء..) كما كتب لبني عريض كتابا آخر يحدد فيه ما عليهم أن يدفعوه للمسلمين لقاء حمايتهم لهم وعدم ظلمهم إياهم» . وكتب لأهل جرباء وأذرح من اليهود، «أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين ومن لجأ إليهم من المسلمين» «2» . وبذلك تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من تحويل هذه التجمعات اليهودية في أقصى الشمال إلى جماعات من المواطنين في الدولة الإسلامية، يدفعون لها ما تفرضه عليهم من ضرائب نقدية أو عينية، ويحتمون بقوتها وسلطانها، ويتمتعون بعدلها وسماحتها. ولقد ظل اليهود بعدئذ، كمواطنين وليسوا كتلا سياسية أو عسكرية، يمارسون حقوقهم في إطار الدولة الإسلامية، لا يمسهم أحد بسوء، وعاد بعضهم   (1) الطبقات الكبرى 1/ 2/ 28- 30. (2) المصدر السابق 1/ 2/ 37- 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 إلى المدينة بدليل ما ورد عن عدد منهم في سيرة ابن هشام وفي مغازي الواقدي. وهناك الكثير من الروايات والنصوص التاريخية التي تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح، حتى أنه أوصى عامله معاذ بن جبل (بألا يفتن اليهود عن يهوديتهم) . وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين إذ لم يكلفوا إلا بدفع الجزية وبقوا متمسكين بدين آبائهم.. وأهم من كل ذلك تلك الحقوق والامتيازات التي منحها الرسول لآل بني حنينة الخيبرية وأهل مقنا كما منح الرسول أسرا غير قليلة من أهل خيبر حقوقا لم يمنحها لبقية اليهود، ما عدا الإقرار على الأراضي وإبقاءه لهم نصف الثمار- فإن هذا كان من حق كل يهود خيبر- وقد نص على ذلك ابن هشام والبخاري «1» . ومضت السنون الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام يزداد قوة ومنعة وانتشارا، لكنه ما إن توفي صلى الله عليه وسلم حتى وجد اليهود المبعثرون في الجزيرة وبلاد العراق والشام بغيتهم المنشودة والتقوا بيومهم الموعود، فراحوا يتكالبون، كما تكالب غيرهم من أعداء الإسلام، ضد الدولة التي مات قائدها ومؤسسها، فليس من طبع المنهزمين عامة، واليهود على وجه الخصوص، أن يسكتوا على هزائمهم وهم لا بد أن يسعوا معتمدين أي أسلوب، لاسترداد مواقعهم ومصالحهم التي جردوا منها، وليس أدلّ في هذا المجال من حديث عائشة رضي الله عنها حيث تقول: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم حتى جمعهم الله على أبي بكر» «2» . ومن ثم فإن لنا أن نتصور- رغم قلة الروايات وانعدامها أحيانا- حجم الدور اليهودي في حركات الردة والتنبؤ في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.. وفيما بعد في «الفتنة» التي زعزعت أركان الخلافة الراشدة، والتي لعب ابن سبأ فيها- وآخرون غيره لم تنكشف أسماؤهم بعد- دورا خطيرا.   (1) ولفنسون: تاريخ اليهود ص 175- 176، 177، 178، 181، وانظر البلاذري: فتوح 1/ 66، 85، 91 وانظر كذلك هامش رقم (6) في ص 294. (2) ابن هشام ص 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الفصل العاشر حركة النفاق في العصر المدني [1] لا يمكن أن نتفهم حركة النفاق جيدا إلا إذا أدركنا بعديها النفسي والاجتماعي. فأما بعدها الأول فيتمثل في أن عددا من الناس، على مدار التاريخ، يسوقهم تكوينهم النفسي- الذي هو حصيلة المؤثرات البيئية والوراثية- إلى اتخاذ (موقفين) إزاء القضية الواحدة، أحدهما ظاهر والآخر باطن، فيعلنون غير ما يكتمون، ويقولون غير ما يفعلون، ويدفعهم الخوف الذي يتصورونه جاثما عليهم في كل لحظة، إلى تغطية بواطنهم بأستار ظاهرية يختبئون خلفها علّها تحميهم من الانكشاف، وهم إذا ما خلوا إلى نفوسهم، وشعروا أنهم غدوا بمنأى عما يخيفهم، دفعوا الأستار جانبا وظهروا على حقيقتهم. ويبدأ هذا الازدواج والقلق والثنائية في اتخاذ المواقف بسيطا غير معقد هدفه تحقيق مصلحة فردية أو جماعية، أو دفع أذى، إلا أن ممارسته طويلا تقود إلى استمرائه واعتياده، وسرعان ما يغدو جزآ أصيلا من التكوين النفسي للإنسان. ويتطرف الازدواج لدى البعض أحيانا حتى يغدو ظاهرة مرضية يسميها علماء النفس (انفصام الشخصية) حيث تنقطع الخيوط كلية بين الظاهر والباطن، وتزول عوامل الارتباط في كيان الإنسان، وتتفكك الذات المتوحدة إلى شخصيتين أو أكثر، ويفقد الفرد كليّة القدرة على تحديد موقفه إزاء مجريات الأحداث التي لا تكف عن التمخض والحركة، ويغدو- بتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم- (أمّعة. يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤا أسأت) . ويقودنا البعد الاجتماعي لظاهرة النفاق إلى طبيعة تكوين المجتمع العربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 في العصر الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: مجتمع قبلي لا يعرف الوحدة والتماسك والنظام، ولم يعتد الانقياد لسلطة موحدة أو الالتزام بشعائر وأخلاقيات وعلاقات ثابتة دائمة، وقد علمته تقاليد وممارسات قرون طويلة من التسيّب والانفلات التمرد على أية محاولة للضبط والتنظيم. والعربي، فضلا عن هذا، لا يعرف انتماء لغير قبيلته وخضوعا لغير مشايخها وانقيادا لغير مواقفها التي تحددها مصالحها القبلية وحرصها على السيادة والاستعلاء بين القبائل. ولقد جاء الإسلام دعوة إلى الانضباط والالتزام والنظام بوجه الفوضى والتسيب والانفلات، التي ألفها العربي، كما أنه جاء لكي يصهر الوحدات القبلية في إطار مجتمع موحد متماسك، تذوب فيه الإحساسات القبلية والرغبات الجزئية الموقوتة في السيادة والاستعلاء. ووجد العربي في هاتين الدعوتين خروجا على تقاليده وممارساته وأعرافه، ولم يكن من السهل عليه تجاوزها جميعا إلى آفاق الإسلام ونظامه الشامل لكل فاعليات الحياة اليومية والذي يحتم عليه الانضباط والالتزام في كل خطوة يخطوها وعمل يمارسه وتجربة يعانيها، فضلا عن أنه يدعوه إلى التخلي عن إحساسه القبلي وكسر الإطار الذي اعتاد التحرك داخله إلى المجتمع الشامل الموحد الذي تتلاشى فيه الحساسيات والأعراف القبلية ويخضع فيه الجميع لسلطة واحدة ودستور واحد يصدر عن مشرّع واحد هو الله سبحانه. إن سببا من أهم الأسباب التي جعلت الإسلام يعاني هذا العناء الصعب إزاء الجاهلية ويكافح هذا الكفاح الطويل لتطويعها وإلغائها، يعود إلى هذا البعد الاجتماعي الذي قاد إلى حركة المقاومة الوثنية الصريحة لدعوة الإسلام، كما قاد إلى حركة النفاق داخل الصفوف المسلمة وسنراه يقود- فيما بعد- إلى حركتي (الردة) و (الفتنة) في عصر الراشدين. وهكذا كان هذا العائق الاجتماعي يقف أمام امتداد الإسلام في يثرب نفسها التي اتخذت نواة لدولته الناشئة، حيث ظل عدد كبير من العرب الوثنيين يقاومون الدين الجديد ويعلنون عن رفضهم الانتماء إليه والخضوع لسلطته التي حددها ميثاق المدينة الذي أصدره الرسول صلى الله عليه وسلم إثر دخوله يثرب. ولما لم يكن وجود المسلمين في المدينة قد تمركز بعد، سيما وأنها ملأى بالجيوب اليهودية والوثنية، ولما كان الصراع مع قريش لم تتحدد خطوطه بعد، حيث بدا أنها سوف لن تدع المسلمين يقر لهم قرار، وأنها ستظل تقاتلهم حتى تقضي على دعوتهم الجديدة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 فإن عرب المدينة الوثنيين وجدوا أنفسهم في مأمن في حالة إعلان رفضهم للإسلام وعدم قبول سلطته أسوة بقريش زعيمة الوثنية، وأغلب الظن أنهم كانوا على اتصال بقريش لتنسيق العمل بين الطرفين ووضع الإسلام في شقي الرحى، الأمر الذي دفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يؤكد في ميثاقه على منع أي اتصال من قبل أحد من المدنيين بقريش أو التعاون معها في السلم والحرب. ويذكر محمد حميد الله في (مجموعة الوثائق) أن كفار قريش كتبوا إلى عبد الله بن أبيّ بن أبي سلول، ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس الخزرج، قبل وقعة بدر «إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنسيرنّ إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم» . ولكن لم يؤثر تهديد الكفار ولا ترغيب المنافقين في مسلمي الأنصار «1» . وجاءت معركة بدر إيذانا بانتصار الدولة الناشئة على القيادة الوثنية المتمثلة بقريش. يقول الواقدي: «لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسرى أذل الله بذلك رقاب المشركين والمنافقين واليهود، ولم يبق بالمدينة يهودي ولا منافق إلا خضد عنقه لوقعة بدر» «2» . وكان مشركو يثرب قد منّوا أنفسهم بهزيمة المسلمين، فقال رجل منهم لبعض المسلمين، وهو يرى أسامة بن زيد قادما من ساحة القتال: «قتل صاحبكم ومن معه» وقال آخر: «قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون بعده، وقتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب» «3» . ولكن الحقيقة سرعان ما فرضت نفسها على الجميع ووجد العرب الوثنيون في المدينة أنفسهم في وضع حرج، فهم إما أن يبقوا على كفرهم فيعرضوا أنفسهم للعقاب وإما أن ينتموا للدين الجديد، وهم لم يألفوا الانضباط والانقياد، ولا وجدوا في أنفسهم انفتاحا على تعاليم الإسلام وإلزاماته ومبادئه بدافع من تكوينهم الاجتماعي القبلي، وسرعان ما وجد زعيمهم عبد الله بن أبيّ بن أبي سلول- الذي كان قد رشح لتتويجه ملكا على عرب المدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدأ الصناع بنسج تاجه «4» - أن خير وسيلة للخروج من هذا المأزق هو أن يعلن هو وأتباعه إسلامهم ظاهرا، ويبقوا على اعتقاداتهم وعلاقاتهم   (1) محمد حميد الله: مجموعة الوثائق، ص 66. (2) مغازي رسول الله: 1/ 121. (3) البلاذري: أنساب الأشراف، 1/ 294. (4) انظر صحيح البخاري: 7/ 185- 186 (بشرح فتح الباري) ومسلم 5/ 182- 183، وأحمد 5/ 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وممارساتهم الجاهلية باطنا، وبهذا ينجون من شبح العقاب، ويحتفظون في الوقت نفسه بمعطياتهم الجاهلية، فضلا عن أن تلبّسهم بالإسلام وتسربهم في صفوف الجماعة المسلمة سيتيح لهم فرصة أوسع لتخريب المجتمع الجديد من الداخل، والتنفيس عن حقدهم وهزيمتهم، فاستجابوا لنداء زعيمهم وملكهم المنتظر الذي قال لهم في أعقاب سماع نبأ الانتصار الحاسم لجيش الإسلام في بدر: «هذا أمر توجّه فلا مطمع في إزالته» فانضووا إلى الدين الجديد. ومنذ ذلك الحين برزت إلى الوجود قوة جديدة في مواجهة الحركة الإسلامية، سببت لها الكثير من المتاعب والمحن، ووضعت في دربها الكثير من الحواجز والعقبات، ومارست إزاءها من الداخل عمليات تخريبية لا حصر لها. وكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصارع هذه القوة فضلا عن صراعه مع القوى الخارجية: الوثنية واليهودية والنصرانية. إلا أن مشكلة هذا الصراع تكمن في أن هذه القوة المعادية غير واضحة الأبعاد، منسربة في صفوف الجماعة الإسلامية، قديرة على الاستخفاء في أعقاب أي تخريب تمارسه.. ثم، وهذا هو الأنكى، لم يكن بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعاقب على التهمة ويأخذ بالظنة وينفذ أسلوبا (روبسبييريا) في حصد مئات الرؤوس التي يشك أنها تتامر على سلامة الدولة وزعيمها، وحاشا للأنبياء أن يفعلوا ذلك. لذا نجده يرفض مرارا وتكرارا عروضا من صحابته الكرام بقتل رؤوس المنافقين وقطع رقابهم بمجرد أن يوافق الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يوافق حتى النهاية على قتل رجل يشهد في ظاهره بشهادة الإسلام. وهنالك حادثة ذات دلالة في هذا المجال: عندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا أمر قادته ألا يقاتلوا.. لكنه طلب منهم في الوقت نفسه أن يقتلوا عددا من المكيين سماهم لهم، حتى ولو تعلقوا بأستار الكعبة، وجيء بأحدهم، وكان قد أسلم ثم ارتد إلى الوثنية، وبعد فتح مكة توسّط لدى عثمان بن عفان رضي الله عنه في طلب الأمان. فصمت الرسول طويلا ثم قال (نعم) ، فلما انصرف عنه عثمان قال لمن حوله من أصحابه: لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إليّ يا رسول الله؟ قال: إن النبي لا يقتل بالإشارة «1» .   (1) ابن هشام: ص 289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 (إن النبي لا يقتل بالإشارة) .. هذا إزاء رجل كان قد ارتد وجاء يطلب الأمان، فكيف برجال يشهدون خمس مرات في اليوم بشهادة الإسلام؟ إنه كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يحصدهم في غداة واحدة، إلا أن مقياسا دقيقا لمعرفة إيمان كل منهم لم يكن بيديه، وإنما توكل السرائر لله، ويحاسب الناس بأعمالهم الظاهرة.. وهؤلاء منافقون وظاهرهم المكشوف ظاهر إسلامي، على خلاف مع باطنهم، فكيف يعاقبهم؟ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك، فضلا عن هذا البعد الأخلاقي، أن ممارسة القتل الجماعي أو الفردي تجاه أناس من أتباعه، محسوبين على معسكره، سوف يعطي لأعدائه في الخارج سلاحا دعائيا ممتازا لمهاجمة الإسلام، وقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال لأصحابه معترضا على إلحاحهم عليه بممارسة هذا الأسلوب تجاه المنافقين «فكيف بالعرب إذا قالت إن محمدا يقتل أصحابه؟» ، وهذا حق، فهم على المستوى السياسي والقانوني من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وما دام أي منهم لم يمارس عملا (جرميا) محددا فإن من الصعوبة بمكان عزله أو قتله.. وخلال العودة من تبوك، حين أراد بضعة عشر منافقا أن يمكروا بالرسول صلى الله عليه وسلم ويطرحوه من عقبة في الطريق، وعرض عليه بعض أصحابه أن يقطعوا رؤوسهم، أجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم: إني أكره أن يقول الناس إن محمدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه. وعندما قال له أسيد بن حضير: يا رسول الله فهؤلاء ليسوا بأصحاب، أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: أليسوا يظهرون شهادة ألاإله إلا الله، أليسوا يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم، قال: فإني نهيت عن قتل أولئك «1» . وكان بديل هذا الأسلوب، شيئا نادرا في تاريخ الدعوات. تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم خطط المنافقين وتخريبهم بيقظة كاملة، ولم يحدد أسلوبا (ثابتا) في مجابهة مواقفهم (المتلونة) (المتغيّرة) ، وإنما راح يضع لكل حالة خطة تتناسب تماما وحجم المحاولة التخريبية، وتكبتها قبل أن تجيء بثمارها المرة، وقبل أن تزرع شوكها في طريق الدعاة.. ومن وراء الرسول صلى الله عليه وسلم آيات القرآن الكريم تتنزل من الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، محللة التكوين النفسي   (1) الواقدي 3/ 1042- 1044، المسعودي: التنبيه والإشراف ص 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 للمنافقين، مشخصة نماذج (منهم) نكاد نلمسها بأيدينا وهي تتلى علينا، فاضحة خططهم اللئيمة قبل أن تقع، منددة بأساليبهم المرذولة وهم يعملون في الظلام دسا ووقيعة، صابة عليهم غضبها المخيف في أعقاب أية محاولة يستهدفون من ورائها فتنة، أو خديعة أو مكرا «1» . وهكذا نجد ظاهرة النفاق، رغم كونها ظاهرة مرضية في حدودها النفسية والاجتماعية، إلا أنها في إطار الدعوة الإسلامية تبدو ظاهرة صحة وعافية أشبه بالأمصال المخففة التي تحقن في دم الإنسان لمقاومة مرض من الأمراض وتمكينه من مجابهته وقد عرف طعمه ولونه وقدرته على الفتك واستعد لذلك كله. لقد أدى وجود المنافقين في صفوف المسلمين إلى أن يكونوا حذرين دوما، يقظين أبدا، لا يغافلون ولا ينامون ولا يلدغون من جحر مرتين. وبسبب هذا الحذر واليقظة والسهر المستمر، تمكن المعسكر الإسلامي ليس فقط من الانتصار على أعدائه في الخارج بل- وهذا هو الأهم- تعزيز وحدته الداخلية ورصّ صفوفه، وتذويب الأجسام الغريبة أو شلها وتكييسها أو طردها كي لا تدمر المجتمع الجديد وتنخره من الداخل.. إنها حكمة الله في أن يوجد في كيان المسلمين ما يتحداهم من الداخل دوما ويدفعهم إلى الاستجابة والإبداع.. وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تتسع وتتسع حتى تشمل كل حالة وتجابه كل وضع بعيدا عن الجمود على وضع واحد يصل إلى هدفه من أقصر طريق، لكنه أرخص طريق وأكثرها استحقارا للدم الإنساني، طريق الإعدام بالجملة، وحصد رؤوس مئات من الأتباع   (1) عن المواقف القرآنية إزاء المنافقين، انظر البحث القيم لمحمد عزة دروزة (سيرة الرسول) الجزء الثاني فصل (المنافقون في العصر المدني) ص 73- 120، وانظر في (صفات المنافقين وأقوالهم) سورة البقرة: الآيات 8- 16، 204- 206، سورة النساء: الآيات 137، 138، 142، 143، 145- 146، سورة التوبة: الآيات 56- 57، 61- 62، 67- 68، 73- 77، 84- 85، 97- 98، 101، سورة محمد: الآيتان 29- 30، سورة الحديد: الآيتان 13- 14، سورة المنافقون: الآيات 1- 8، وانظر في (مواقفهم الكيدية والساخرة) سورة النساء: الآيات 60- 61، 138- 139، 140- 141، سورة التوبة: الآيات 58، 61، 64- 65، 79، 80، 107- 110، 124- 127، سورة المجادلة: الآيات 8- 10، سورة البقرة: الآيات 11- 14، سورة الأنفال: الآية، 49، سورة النور: الآيتان 62- 63، سورة الأحزاب الآيات 57- 61، 69- 71، سورة محمد: الآيات 16، 25- 26، سورة المائدة: الآيات 50- 53، سورة المجادلة: الآيات 14- 16، وانظر في (مواقفهم من الجهاد ووقائعه) : سورة آل عمران: الآيات 156، 166- 168، سورة النساء: الآيات 71- 73، 77، 81، سورة التوبة: الآيات 42- 49، 50- 53، 81- 83، 86- 87، 90، 93- 96، سورة محمد: الآيات 20- 23، سورة الأحزاب: الآيات 9- 20، سورة الحشر: الآيتان 11- 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 والمنتمين لمجرد تهمة تدور حولهم، بمقصلة تنزل وتصعد، أو سيف يضرب يمينا وشمالا، أو إشارة صامتة تعقبها أنهار من الدماء.. إن (النبي) غير (الزعيم) و (المعلم) غير (الإرهابي) و (الإنقلابي) غير (الطاغية) و (محمد) غير (روبسبيير) . [2] كان المنافقون يتمثلون في طائفة من عرب المدينة من الأوس والخزرج ومن بعض المتهودة من رجال بعض البطون اليهودية الصغيرة، وقد التفوا حول زعيمهم عبد الله بن أبي كما التف حوله اليهود لاتفاق مصلحة الطرفين. وقد ظل خطر المنافقين على الدولة كبيرا ما ظل اليهود في المدينة، إذ أنهم كانوا على صلة دائمة بهم، بل إن اليهود هم الذين أدركوا النفاق في المدينة فلما تم تطهيرها من اليهود ضعف أمر النفاق وأصبح النبي لا يخشى خطر هذه الطائفة «1» ، حيث أخذ صوتها يخفت، ونشاطها يخمد، وعددها يقل، وتزلفها يشتد ومداراتها تزداد، وخوفها يبدو واضحا. وربما ندم كثير من المنافقين فعادوا إلى حظيرة الإسلام الصحيح فكانت هذه الظواهر مما ثبت الرسول على خطته في عدم أخذهم بالعنف، ورأى فيها الصواب والمصلحة سيما وأنهم كانوا يرتبطون مع كثير من المخلصين بروابط القربى والرحم، وإن أخذهم بالعنف- فضلا عن الأسباب التي ذكرناها- قد يفتح في صفوف المسلمين ثغرات واسعة ويثير أزمات داخلية حادة، وهو الذي كان مطمئن القلب بوعد الله بالنصر النهائي وإظهار دينه على الدين كله «2» . ولعل من الدلائل على ارتباط حركة النفاق بالنشاط اليهودي ضد الإسلام ما ورد في الآيات الأولى من سورة البقرة، التي هي أول السور المدنية في ترتيب النزول، فقد جاء فيها بصدد المنافقين: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «3» ، فقد قال جمهور المفسرين إن شياطينهم هم اليهود، ولم يغب ذلك عن النبي والمسلمين «4» .   (1) إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول، ص 415- 418. (2) محمد عزة دروزة: سيرة الرسول 2/ 78- 79. (3) سورة البقرة: الآية 14. (4) دروزة: المرجع السابق 2/ 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 إن الآيات الواردة في حق المنافقين تلهم أن حركة النفاق إنما قام بها وتولى كبرها أفراد من البارزين في قومهم وعشائرهم قليلا أو كثيرا، بل إننا نكاد نقول إن أعظم أفراد هذه الفئة كانوا من تلك الطبقة، وإنه إذا كان اندمج فيها أناس من العامة فإنهم لم يكونوا كثيرين وإنما انساقوا فيها بتأثير أولئك من ناحية زعامتهم وعصبية الأرحام التي تربط بينهم، ومن ناحية الإغراء والمنفعة، وهذا طبيعي لأنه ليس لأفراد من العامة مناوأة حركة اندمج فيها غالب قومهم.. كما أنه قلما يكون في هؤلاء من يظن أنه أعقل من أن يندمج في حركة اندمجت فيها الكثرة الكبرى، وإن الذين اندفعوا في مناوأتها واغتاظوا منها وحقدوا عليها لا يمكن أن يكونوا إلا أفرادا من البارزين الذين يمكن أن يتوهموا فيها ضررا وخطرا على مركزهم ومصلحتهم، وأن يأنفوا هذا الحركة. فالذين أخذوا على عاتقهم مهمة تغذية هذه الحركة لا يمكن أن يتصلوا بشأنها إلا مع أمثال هؤلاء كما لا يخفى «1» . اتخذت أساليب المنافقين أشكالا شتى، بعضها مخطط مدروس وبعضها عفوي مرتجل، وهي في كلتا الحالتين جاءت تعبيرا عن التكوين النفسي والاجتماعي لشخصية (المنافق) واستهدفت وضع الحواجز والعوائق في طريق الحركة الإسلامية.. وسنتتبع هنا أساليبهم هذه وفق مجراها الزمني منذ ظهور هذه الكتلة في أعقاب بدر حتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. عندما حاصر الرسول صلى الله عليه وسلم بني قينقاع، أول قبيلة يهودية كبيرة تنقض عهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزلوا عند حكمه، بعد أن رأوا ألا فائدة من المقاومة، وجد عبد الله بن أبيّ أن انتصارا آخر- بعد بدر- سيحرزه المسلمون في داخل المدينة هذه المرة، وأن هذا ربما سيستفز أعداء الإسلام: عربا ويهودا، ويؤلبهم على المسلمين، وأن هؤلاء ربما وجدوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه.. فليتحرك زعيم المنافقين بسرعة إذن وليقف إلى جانب بني قينقاع مدافعا عنهم إزاء هجوم المسلمين، علّ الدائرة تدور على هؤلاء فيكون ابن أبيّ قد أوجد لنفسه ولأتباعه ثغرة ينفذون منها بجلودهم، سيما وأن يهود بني قينقاع كانوا مواليه في الجاهلية فلا يعقل أن يسلمهم لمصيرهم دون أن (يظهر) على الأقل إسناده في محنتهم. تقدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متوسلا: يا محمد أحسن في مواليّ. فلم يجبه   (1) دروزة: سيرة الرسول: 2/ 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الرسول فأعاد: يا محمد أحسن في مواليّ. فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع الرسول وراح يكرر توسلاته، فرد عليه الرسول، وقد كست وجهه ملامح الغضب: ويحك أرسلني، فأجاب ابن أبي: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليريد إنزال عقاب بهم، بل أن يغادروا حصونهم إلى حيث يشاؤون ما داموا قد نزلوا عند حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا أجاب عبد الله: هم لك! ثم التفت إلى أصحابه قائلا: خلّوهم، لعنهم الله ولعنه معهم!! ونزلت آيات القرآن منددة بهذا الموقف المنافق، المتأرجح بين ولاية الإسلام وولاية أعدائه* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ «1» . وفي حصار بني النضير، القبيلة اليهودية الثانية التي طردت من المدينة في أعقاب تامرها على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة للهجرة، أعاد ابن أبي وكبار المنافقين (تمثيل نفس الدور) الذي مثلوه مع بني قينقاع، إذ بعثوا إلى بني النضير، وهم يعانون من حصار المسلمين وقبضتهم المحكمة أن «اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم. إن قاتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم» ، إلا أن المنافقين الذين كانوا (يقولون ما لا يفعلون) مع المعسكر الإسلامي، كانوا يقولون ما لا يفعلون مع كل معسكر يظهرون له الودّ والإخلاص، ذلك إن أيّا منهم لم يكن شخصية واحدة تتخذ موقفا موحدا إزاء القضية، وإنما شخصيتين. ولقد ظل بنو النضير ينتظرون نجدة رفاقهم دونما جدوى حتى سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم الجلاء عن ديارهم، بعد أن سدّت كل المنافذ.. وبعد قليل جاءت آيات القرآن، فاضحة منددة كاشفة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ.. «2» .   (1) سورة المائدة، الآيتان: 51 و 52، ابن هشام ص 171- 172. الطبري، تاريخ 2/ 480- 481، البلاذري: أنساب، 1/ 309، الواقدي: 1/ 177- 178. (2) سورة الحشر، الآية 88. ابن هشام ص 204، 206، الواقدي 1/ 368- 372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وعندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم نبأ تحرك قريش بقواتها التي تفوق المسلمين بكثير ونزولها في أحد لقتال المسلمين انتقاما لما لحق الكفار في بدر، ومحاولة للقضاء على الدولة الجديدة، وطرح رأيه بقتال قريش في المدينة نفسها، قتال الشوارع والحارات، وافقه عبد الله بن أبيّ على رأيه هذا وألح على ضرورة تنفيذه قائلا «يا رسول الله أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا» «1» ، ربما حرصا من زعيم المنافقين على الظهور بمظهر المتحمسين لتنفيذ رأي رسولهم، سيما بعد أن رأى أكثرية المسلمين تطالب بموقف آخر هو الخروج والقتال في الأرض المكشوفة، وهو من خلال حرصه وإصراره سيزيد- حسب اعتقاده- شقة الخلاف بين الطرفين، وليكن بعدها ما يكون.. وربما رأى- وهو الأرجح- أن قتال المسلمين لأعدائهم داخل المدينة سيمكن المنافقين من الاختباء وسيتيح لهم التسلل من سوح القتال وطلب النجاة بأنفسهم دون أن تلحظهم عين، وهم في مخابئهم تلك سيعرفون لمن سترجح الكفة، فيتسللون ثانية إلى معسكرات المنتصرين، فإن كانوا من المسلمين قالوا: ألم نكن معكم، أو لم تكن فكرتنا في القتال داخل المدينة أصوب وأحسن؟ وإن كانوا من المشركين بينوا لهم أنهم هم الذين ألجؤوا المسلمين إلى انتظار أعدائهم لكي يقضى عليهم في المدينة، وأنهم انسحبوا من القتال وفتّوا في عضد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ومن ثم ستكون لهم الحظوة على أي حال سيؤول إليها القتال. إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشأ إلا أن يأخذ برأي أكثرية أتباعه الراغبين في الخروج إلى القتال، ولم يتح للنقاش أن يتطور إلى انشقاق عميق بين وجهتي النظر، فدخل بيته ولبس عدة القتال وانطلق بأصحابه صوب أحد. ولم يمض على مسيرهم بعض الوقت حتى انسحب ابن أبيّ بثلث المقاتلين وقال مبررا موقفه «أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس!» ، وقد لحق به عبد الله بن عمرو بن حرام وسعى إلى إقناعه بالرجوع والانضمام إلى إخوانه، وراح يقول للمنسحبين «يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم..» فأجابوه:   (1) ابن هشام، ص 174- 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 «لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال» فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف والعودة قال: «أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه» «1» . وهذا الأسلوب الذي اتبعه المنافقون في المسير مع المسلمين ثم الانسحاب في اللحظات الحرجة يتكرر مرة أخرى في غزوة تبوك التي لا تقل خطورة عن معركة أحد، إذ انطلق ابن أبيّ في أعقاب الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس جماعته، وما أن اجتاز المسلمون مسافة قصيرة صوب هدفهم حتى تخلف المنافقون وقفلوا عائدين إلى المدينة «2» ، وإذا كان لهم عذر في ذلك أول مرة أعلنوه تبريرا لانسحابهم، فإنهم قد افتقدوا الأعذار هذه المرة ولم يقولوا شيئا!! إلا أن الموقف في كلا الحالتين هو نفس الموقف: عدم إيمان بالهدف الذي يتحرك إليه المسلمون، وخوف من الموت في سبيل قضية لا يؤمنون بها، وتخذيل للمسلمين في اللحظات الحرجة علّهم يجابهوا بهزّة خطيرة تقضي عليهم وتعيد المنافقين إلى حياة التسيّب القديمة، ويرجع لابن أبي حلمه القديم في أن يكون ملكا على قومه!! ولقد ورد في سيرة ابن هشام، بصدد موقف المنافقين في محنة تبوك «أن عبد الله بن أبيّ، كبير المنافقين، ضرب عسكره بأسفل عسكر النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيما يزعمون، ليس بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله تخلف عنه فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب» ، فتمسك بهذه العبارة المستشرق كايتاني وأخذ يعظم من شأن وعدد المنافقين ويشكك في عدد الجيش المرويّ. غير أن هذا وذاك في غير محلهما، فالآيات القرآنية صريحة بأن المتخلفين من الأعراب والمنافقين كانوا من الأغنياء وأولي الطول، وهؤلاء دائما محدودو العدد، وعبارة ابن هشام تحمل الشك الصريح في المدى، وقد روى في الوقت نفسه أن عدد المتخلفين من المنافقين كان بضعة وثمانين رجلا، وفي سورة التوبة آيات تحكي ما كان من شدة خوف المنافقين واعتذارهم وتزلفهم وإيمانهم، بما فيه الدلالة القوية على ما صار إليه شأنهم من ضعف، وعددهم من قلة وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ «3» .   (1) ابن هشام، ص 175. (2) المصدر السابق، ص 327- 328، الطبري: تاريخ 3/ 103. (3) سورة التوبة: الآيتان 56- 57. وانظر الآيات: 62- 66، 74 من نفس السورة، دروزة 2/ 264- 265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وقد وجد المنافقون في هزيمة المسلمين بأحد ميدانا فسيحا لإظهار أحقادهم وشكوكهم والكشف عن موقفهم الصريح من الأحداث. يقول الواقدي: «جعل ابن ابيّ والمنافقون معه يشمتون ويسرون بما أصاب المسلمين- في أحد- ويظهرون أقبح القول. ورجع من رجع من الصحابه وعامتهم جريح، ورجع عبد الله ابن عبد الله بن أبيّ وهو جريح، فبات يكوي الجراحة بالنار حتى ذهب الليل، وجعل أبوه يقول: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي!! عصاني محمد وأطاع الولدان، والله لكأني كنت أنظر إلى هذا. فقال ابنه: الذي صنع الله لرسوله وللمسلمين خير ... وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرونهم بالتفرق عنه، ويقولون لأصحابه: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل، حتى سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك في أماكن، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من المنافقين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله مظهر دينه ومعزّ نبيه، أليسوا يظهرون شهادة ألاإله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذا من السيف، فقد بان لك أمرهم وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يا ابن الخطاب! إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن» «1» . ويحدثنا ابن هشام كيف أن عبد الله بن أبي كان يتمتع بشرف في نفسه وفي قومه، وكيف أنه كان يجلس على رأس قومه، كل جمعة في المسجد، وكيف كان ينتهز فرصة جلوس الرسول صلى الله عليه وسلم بين الخطبتين فيقوم ويقول: «أيها الناس هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزّروه واسمعوا له وأطيعوا» ثم يجلس. وكيف أنه عندما أراد تمثيل نفس الدور في الجمعة التي أعقبت هزيمة أحد أخذ المسلمون بثيابه من كل مكان وصاحوا: اجلس!! أي عدوّ الله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت! فيخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا «2» إن قمت أشدد أمره!! فلقيه رجل من الأنصار يردد هذه العبارة فقال له: ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه عبد الله: والله ما أبتغي أن يستغفر لي «3» . وقال ابن إسحاق: «كان يوم أحد   (1) الواقدي: 1/ 317- 318. (2) البجر: الشر. (3) ابن هشام: ص 193- 194، الواقدي: 1/ 318- 319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 يوم بلاء ومصيبة وتمحيص اختبر الله به المؤمنين ومحص به المنافقين، ممن كان يظهر الإيمان بلسانه، وهو مستخف بالكفر في قلبه» «1» . ومن أجل التعويض عن خوائهم الروحي وتغطية دورهم السلبي في حركة الدعوة، وملء الفراغ الذي يعانونه، كانوا يظهرون بين الحين والحين بمظهر الناصحين، الحريصين على مصير الدعوة وحياة أصحابها. قال رجال منهم، تعقيبا على مأساة الرجيع التي ذهب ضحيتها سبعة من الدعاة: «يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهلهم ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم» ، لكن القرآن الكريم ما لبث أن فضح ازدواجيتهم هذه، ومزّق عن وجوههم أقنعة الحرص والاهتمام وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ «2» . في معركة الخندق حيث المحنة التي كشفت عن صفوف المنتمين إلى معسكر الإسلام وسلطت وهجها اللافح على أعماق سرائرهم، وقف المنافقون في آخر الصفوف يثيرون شائعات الخوف والهزيمة ويطلقون سخرياتهم بوجه الجد الصارم الذي كان يدفع المؤمنين إلى العمل والسهر المتواصل ليل نهار، قبل أن يفلت الزمام من أيديهم ويصبحوا خبرا من الأخبار. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجابه حملاتهم النفسية الخفية هذه بروح الأمل ينفخها في قلوب أتباعه، ويحدثهم بيقين ثابت طموح، وهم يعملون في الخنادق محاطين بالظلام من كل مكان، بأن مفاتيح الكعبة ستسلم إليه عما قريب وأن خيولهم ستطأ في السنين القادمة عواصم كسرى وقيصر، وتسقط عروشهم واحدا بعد الآخر. وكما كان المنافقون ينسحبون من المعركة قبل أن تلتمع السيوف، كما حدث في موقعتي أحد وتبوك، فإنهم الآن يظهرون للمؤمنين أنهم يعملون معهم في حفر الخندق، و (يمثلون دورهم هذا) وكلما وجدوا فرصة سانحة تسللوا من الخندق دون إذن من قائدهم، ولاذوا بأهليهم، بينما كان المؤمنون لا يغادر أحدهم موقع عمله إلا أن   (1) ابن هشام: ص 194. (2) سورة البقرة، الآيات: 204- 206 المصدر السابق: ص 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقد تحدث القرآن الكريم بعد قليل عن هؤلاء وعن هؤلاء.. وشتان!! إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1» . وعندما أحاطت الأحزاب بالمدينة، وانتقض يهود بني قريظة، وعظم البلاء على المسلمين واشتد الخوف، تصاعدت حملات المنافقين، وأسفر بعضهم عن شخصيته المخفية، وقد ظنوا أن الإسلام قد فقد قدرته كلية على الرد، وقال قائلهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدهم اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!! وراح آخرون يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة.. ولكن المحنة انجلت، وتفتتت جيوش الأحزاب، وأعدم مجرمو الحرب من يهود بني قريظة، وعاد الإسلام أقوى مما كان، ونزلت آيات القرآن تصفع المنافقين الذين لم يكونوا بقادرين على أن يتجاوزوا رؤية الحدث إلى ما يمكن أن يتمخض عنه وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً. وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ   (1) سورة النور، الآيتان: 62، 63، ابن هشام: ص 213، الطبري: تاريخ 2/ 567. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا «1» . [3] لما فشلت محاولات المنافقين (التخذيلية) وخابت آمالهم في هزيمة المسلمين عبر صراعهم الطويل مع الوثنية واليهود، وحقق الرسول صلى الله عليه وسلم انتصارات متتالية حاسمة على كلتا الجبهتين، رأى المنافقون أن يبحثوا عن (أسباب) أخرى لإضعاف جبهة المسلمين وتفكيكها ونشر الفوضى فيها، لكي ينفذوا من خلال ذلك إلى أهدافهم ومطامحهم، فلجؤوا إلى أسلوب التخريب الداخلي ونشر الشائعات الهدامة، معتمدين على تسربهم في صفوف المؤمنين واحتكاكهم المباشر بهم وقدرتهم على التخفّي والانزواء. وفي أعقاب غزوة بني المصطلق «2» أطلق المنافقون على يد زعيمهم ابن أبيّ وعدد من رؤوسهم سهمين فتاكين إلى قلب المجتمع الإسلامي كادا أن ينزفا الكثير من دمه، أحدهما باتجاه الحسّ القبلي الذي لم يكن قد استؤصل بعد، والآخر باتجاه القيم الخلقية التي تميز المجتمع المسلم عن سائر المجتمعات، فيما عرب ب (حديث الإفك) . فلقد حدث- حينذاك- إن ازدحم على بئر هناك غلام من بني غفار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه مع غلام جهني من يثرب، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين!! إلا أن أحدهما ما لبث أن عفا عن الآخر واصطلح الطرفان في أعقاب وساطة عدد من المهاجرين والأنصار «3» . ورأى عبد الله بن أبي أن ينتهز الفرصة فأظهر غضبه وقال بعصبية: «أوقد فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول (سمّن كلبك يأكلك) !! والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل» ثم أقبل على من حضره من قومه- وفيهم زيد بن أرقم، وكان غلاما حدثا   (1) سورة الأحزاب، الآيات: 12- 20، ابن هشام ص 216، 230- 231، الطبري: تاريخ 2/ 570، الواقدي: 2/ 4 59- 460. (2) اختلفت الروايات في تحديد زمن هذه المعركة هل وقعت قبل الأحزاب أم بعدها؟ ويمكن الأخذ برواية الواقدي (1/ 404) الذي يجعلها في مطلع شعبان عام 5 هـ نظرا لدقته في تثبيت التواريخ. (3) ابن سعد 2/ 1/ 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 - فقال لهم: «هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم» «1» . توجه زيد بن أرقم فورا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان يقف إلى جواره: مر عبّاد بن بشر فليقتله. فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: إذن لأرعدت له أنف بيثرب كثيرة.. وكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن أذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها. فتحرك المسلمون، وعندما سمع ابن أبي أن أمره قد انكشف مشى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متوسلا وحلف بالله: ما قلت ما قاله زيد ولا تكلمات به!! فقال عدد من الأنصار عطفا على ابن أبيّ لمكانته في قومه: عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل! وعندما سمع أسيد بن حضير، أحد كبار الأنصار، الخبر من الرسول صلى الله عليه وسلم وأن ابن أبيّ زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال أسيد: فأنت يا رسول الله الأعز والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. وما لبث أسيد أن تذكر الظروف التي أحاطت بزعيم المنافقين ودفعته إلى اتخاذ موقفه الحانق هذا على الإسلام ورسوله فقال: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك وأن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى إنك قد استلبته ملكا» !! انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يومهم ذاك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم التالي، حتى آذنتهم الشمس بالمغيب، فعسكر بهم، وما أن وجدوا مسّ الأرض حتى وقعوا نياما. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حكيما في معالجته (الموقف) بهذا الأسلوب العملي. إنه موقف (نفسيّ) يتوغل بعيدا في مسارب النفوس والأعصاب، ومجابهته بالكلام والأقوال قد لا تجدي، وربما تزيده تعقيدا، فليكن الأمر إذن (عملا) مجهدا يوازي في حجمه حجم الموقف نفسه، ويمتصّ كل ما يمكن أن يغرزه في نفوس المسلمين من سموم، وسيتكفل التعب والنسيان بعد ذاك بالإتيان على بقاياه!! ومن أجل ذلك يقول ابن هشام: «وإنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من عبد الله   (1) ابن هشام ص 237- 238، الطبري: 2/ 605، ابن سعد 2/ 1/ 46، الواقدي 2/ 415. (2) ابن هشام ص 238- 239، الطبري 2/ 605- 606، الواقدي 2/ 417- 419. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ابن أبيّ» «1» ، ويذكر الواقدي بأن الناس راحوا يتحدثون بمقالة ابن أبي وما كان منه، فما هو إلا أن أخذهم السهر والتعب بالمسير «فما نزلوا حتى ما يسمع لقول ابن أبي في أفواههم ذكر» «2» . وعندما بلغ ابن عبد الله بن أبيّ ما كان من أبيه، قال للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنه بلغني إنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار. فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا!! «3» . جعل ابن أبي- بعد موقف الرسول المتسامح ذاك- إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنّفونه، وحينئذاك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته! أجاب عمر: قد والله علمت، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري «4» !. أما السهم الآخر الذي وجهته حركة النفاق إلى قلب الجماعة الإسلامية، متمثلا بزوجة نبيهم صلى الله عليه وسلم وابنة صدّيقهم أبي بكر رضي الله عنه. فلنستمع إلى عائشة نفسها وهي تحدثنا: كيف انطلق، وأين استقر، ومن الذي أطلقه، وكيف تم انتزاعه بعد ما نزف من دماء!! قالت عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست   (1) ابن هشام ص 239، الطبري 2/ 606- 607، الواقدي: 2/ 422. (2) مغازي رسول الله: 2/ 422. (3) ابن هشام ص 239- 240، الطبري: تاريخ 2/ 608، الواقدي: 2/ 420- 421. (4) ابن هشام ص 240، الطبري: 2/ 608- 609. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 عقدي فحبسني ابتغاؤه. فأقبل الذين يرحّلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي أركب وهم يحسبون إني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن ولم يغشهنّ اللحم، وإنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج.. وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا. فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منزلهم وليس فيه أحد، فأممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي، فنمت. وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فأتاني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرّسين في نحر الظهيرة فهلك من هلك!! وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن أبي سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الأفك، ويريا بني في وجعي إني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض، إنما يدخل فيسلم فيقول كيف تيكم؟ أشعر بشيء من ذلك، حتى نقهت، فخرجت أنا وأم مسطح (في حاجة لنا) فعثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح!! فقلت لها: بئسما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: ألم تسمعي ما قالوا؟ فاخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم فقال: كيف تيكم؟ فقلت: إئذن لي إلى أبوي، وأنا حينئذ أريد أن استيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبوي فقلت لأمي ما يتحدث الناس به، فقالت: يا بنيّة هوّني على نفسك الشأن، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم، ثم أصبحت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال: أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال: يا رسول لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت: لا والذي بعثك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 بالحق، إن رأيت منها أمرا أنكره عليها قط أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين فتأتي الداجن فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن أبي سلول فقال: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.. وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتين ويوما حتى أظن أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء. فتشهّد ثم قال: يا عائشة لقد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسن منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنت جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، فقلت: والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة- والله يعلم أني لبريئة- لا تصدقوني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر- والله يعلم إني لبريئة لتصدقنني، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ «1» . ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحيا يتلى، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فو الله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات، فلما   (1) سورة يوسف، الآية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة احمدي الله فقد برّأك الله. فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. فأنزل الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ «1» .. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال: يا زينب ما علمت مما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرا، وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع» «2» . [4] ظل المنافقون يعملون ضد الإسلام، من داخل صفوفه، منتهزين أية فرصة لتحقيق أهدافهم وللتعبير عن قلقهم وازدواجيتهم، وليس أدل في هذا المجال من حادثة (مسجد الضرار) التي أعقبت عودة المسلمين من تبوك. ويتبدى مغزى الحادثة من الاسم الذي أطلقه القرآن الكريم عليها وعلى أصحابها: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «3» . ويروي الطبري أن الذين بنوه اثنا عشر رجلا على رأسهم خذام بن خالد، أحد بني عمرو بن عوف، الذي تبرع بإخراج المسجد من داره، ثم جاؤوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز لغزوة تبوك، فقالوا: «يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا   (1) سورة النور، الآية: 11. (2) البخاري: التجريد 2/ 2- 6، ابن هشام ص 242- 249، الطبري: تاريخ 2/ 611- 618، ابن الأثير: الكامل 2/ 19 5- 199، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 160- 164، الواقدي: 2/ 426- 434. (3) سورة التوبة: الآيات 107- 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فيه» ، فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «إني على جناح سفر. ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه» . لكنه ما أن فقل عائدا من غزوته تلك، وأصبح على مقربة ساعة من المدينة حتى جاءه الوحي الأمين بحقيقة ما كان يرمي إليه أولئك الرجال المنافقون في بناء مسجدهم ذاك، ودعوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم لمباركته!! فما لبث صلى الله عليه وسلم أن استدعى اثنين من أصحابه وقال لهما: «انطلقا إلى المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه» ، فخرجا مسرعين حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه حتى تفرق عنه أصحابه «1» . وقد سئل عاصم بن عدي: لم أرادوا بناءه؟ فقال: كانوا يجتمعون في مسجدنا، فإنما هم يتناجون فيما بينهم، ويلتفت بعضهم إلى بعض فيلحظهم المسلمون بأبصارهم، فشق ذلك عليهم، وأرادوا مسجدا يكونون فيه، لا يغشاهم فيه إلا من يريدون ممن هو على مثل رأيهم. فكان أبو عامر يقول: لا أقدر أن أدخل مربدكم هذا، وذاك أن أصحاب محمد يلحظونني وينالون مني ما أكره قالوا: نحن نبني مسجدا تتحدث فيه عندنا «2» . ويروى البلاذري عن سعيد بن جبير أن بني عمرو بن عوف ابتنوا مسجدا في (قباء) فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف فقالوا: لو بنينا أيضا مسجدا وبعثنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه كما صلى في مسجد أصحابنا، ولعل أبا عامر- الذي كان قد فرّ من الله ورسوله إلى أهل مكة ثم لحق بالشام فتنصّر وأقسم أن يحارب الرسول أينما وجد فرصة لذلك- أن يمر بنا إذا أتى من الشام فيصلي بنا فيه. فبنوا مسجدا وبعثوا إلى رسول الله يسألونه أن يأتي فيصلي فيه. فلما قام رسول الله لينطلق إليهم، أتاه الوحي بالآية السالفة «3» . ويبدو من دراسة هذه الحادثة أن حركة النفاق كانت قد حذقت، خلال سني الدعوة الطويلة، مزيدا من الأساليب لتخريب المجتمع الإسلامي من الداخل، بعد أن أعيتها كل الحيل السابقة. وها هي الآن تسعى في ظاهر الأمر إلى مزيد من الاندماج في المجتمع الإسلامي وإلى اعتماد مؤسساته نفسها كالمسجد الذي هو رمز العبادة الإسلامية وحرمها للوصول إلى أهدافها بضمان أكبر، حيث سيحقق   (1) الطبري: تاريخ 3/ 110- 111، الواقدي 3/ 1045- 1049، ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 21- 22. (2) الواقدي: 3/ 1048- 1049. (3) فتوح البلدان 1/ 1/ 2، أنساب الأشراف 1/ 282- 283، وانظر المسهودي: وفاء الوفا 2/ 16- 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 لها ذلك العمل خفاء أكثر ويظهر من نياتها وأعمالها ما هو طيب مقبول، ولكنه سيؤدي في الوقت نفسه إلى تمزق وانشقاق في قلب المجتمع الإسلامي، وفي أي شيء؟ في المسجد الذي هو مركز الجماعة الإسلامية ومنطلق نشاطاتها المختلفة، وقلبها الذي لا يكف عن الخفقان!! ومن هناك، وبعد المباركة التي سيمنحها الرسول صلى الله عليه وسلم مسجدهم هذا، سينطلق المنافقون، وقد أبدوا نية حسنة وبنوا مسجدا جديدا، لاستقطاب العناصر القلقة في المجتمع الإسلامي وضمها إلى صفوفهم، وتوسيع قواعدهم بين المسلمين، وإطلاق الشائعات وبذل نشاط واسع من هذا المسجد، بقيادة زعيمهم الذي كان قد لحق بالشام وتنصّر!! للاتصال بغير المسلمين كذلك لرسم الخطط وتحديد أساليب العمل، وهم في حماية من غضبة المسلمين وفي أمان من الانكشاف، ما داموا يمارسون نشاطاتهم تلك من قلب المسجد الذي باركه الرسول صلى الله عليه وسلم. والذي يؤكد هذا، أن تصاعد نشاط المنافقين في أقوالهم وأعمالهم، والذي رافق محنة تبوك- كما رأينا- جاء موازيا لبناء هذا المسجد الذي تم إنشاؤه قبيل التجهز لغزو الروم. وعندما هرع مبعوثا الرسول صلى الله عليه وسلم لتهديم بؤرة النفاق هذه وجدا في باحتها أولئك الذين أقاموها.. وربما كانوا يمارسون من هناك نشاطهم المسموم. وهذا الأسلوب في العمل التخريبي، وهو اعتماد قيم ومؤسسات مجتمع أو عقيدة ما لتخريب أسس ذلك المجتمع وعقائدياته وتدمير معنويات أصحابه، معروف على مرّ العصور، وليست هذه التجربة التي فضحها القرآن الكريم إلا علامة تحذير دفعت المسلمين إلى مزيد من الحذر واليقظة!! [5] وكما حدث بالنسبة لليهود، مضت المراحل الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام يزداد قوة ومنعة وانتشارا، وزعماء القبائل العربية وأمراؤها ينهالون على المدينة معلنين إسلامهم ومبايعين رسولهم الكريم. ولم يجد المنافقون منفذا يتسللون منه لتسديد ضربة مؤذية أو تنفيذ مخطط تخريبي جديد، سيما وأن زعيمهم عبد الله بن أبيّ كان قد توفي في أواخر السنة التاسعة «1» ، وكانت الآيات   (1) الطبري: تاريخ 3/ 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 القرآنية قد نزلت- أخيرا- تندد بما فعل ويفعل أولئك المنافقون، وتمزق- بشكل نهائي- الأستار التي يتوارون خلفها. وكانت ألاعيبهم قبل تبوك وبعدها هي النهاية الحاسمة للسماحة التي مرحوا في سعتها طويلا ولم يقدروها حتى قدرها، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلن على الناس ذبذبتهم ونكوصهم، وكلف ألا يقبل منهم ولا يصلي عليهم «1» ، بل أعلم أن استغفاره لهم لن يجاب، ثم طولب المسلمون كافة أن يقاطعوهم «2» . إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أن توفي حتى وجد المنافقون المنسربون في حنايا المجتمع الجديد، والذين ازداد عددهم كثرة في أعقاب انتصار الإسلام الحاسم وتفرده بالسلطان، حيث انتمى إليه الكثيرون من العرب رغبا ورهبا، وهم لا يزالون يحملون عاداتهم وممارساتهم القديمة وتسيبهم وانفلاتهم الجاهلي المعروف، وجدوا فرصتهم السانحة فراحوا يتكالبون، كما تكالب غيرهم من أعداء الإسلام ضد الدولة التي مات قائدها ومؤسسها، وليس أدل في هذا المجال من حديث عائشة رضي الله عنها حيث تقول: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم حتى جمعهم الله على أبي بكر» «3» . ومن ثم فإن لنا أن نتصور حجم الدور الذي مارسه المنافقون في حركات الردة والتنبؤ في عهد أبي بكر.. وفيما بعد، في الفتنة التي زعزعت أركان الخلافة الراشدة، وهو ولا ريب دور كبير وخطير بمجرد أن نطلع على التكوين القلبي للمنتمين إلى الفتنة وعلى أسماء قادتها وزعمائها!!   (1) سورة التوبة: الآية 84. (2) الغزالي: فقه السيرة ص 448. وانظر دروزة 2/ 82. (3) ابن هشام: ص 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الخاتمة عندما حان موعد الحج من العام العاشر للهجرة، أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيحج بنفسه في الناس هذا الموسم، وأمر بالتجهز للذهاب إلى مكة، ثم ما لبث أن غادر المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة. وانهال المسلمون على مكة من كل مكان لكي يشهدوا أول حجة على الطريقة الإسلامية التي لا دخل فيها من طقوس وثنية، وليلتقوا برسولهم الكريم ويقبسوا عنه مزيدا من التعاليم. وبدأت مراسيم الحج فانطلق آلاف المسلمين، القدماء والجدد، وراء نبيهم ومعلمهم وهو يريهم مناسكهم ويعلمهم سنن حجهم. ورأى أن يفيد من فرصة التجمع الكبير هذه فيلقي في أتباعه خطابا جامعا يؤكد فيه القيم والتعاليم التي بعث من أجلها، وكأنه كان يدرك، بإحساسه العميق، أن هذه هي آخر فرصة يلتقي فيها بحشد كبير من أتباعه كهذا الذي يلتقي به اليوم، فوقف بين أيديهم في عرفات، وشفق المغيب يلقي على جبهته مزيدا من النور والمهابة والجلال، وراح يلقي كلماته التي سميت فيما بعد بخطبة الوداع، ومن ورائه رجل جهوري الصوت يصرخ بكلمات الرسول ليسمعها ألوف الحجيج: «أياه الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا. وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم- وقد بلغت- فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب «الذي قتلته هذيل» فهو أول ما أبدأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 به من دماء الجاهلية ... أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه يطمع فيما سوى ذلك، فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم. أيها الناس إن النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ ... «1» أيها الناس إن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا، واستوصوا (بهن) خيرا فإنهن عندكم عوان (أسيرات) لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله.. فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلّغت. وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بيّنا كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن إن كل مسلم أخ للمسلم، وإن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم. اللهم هل بلغت؟» أجابه المسلمون جميعا: اللهم نعم، فقال «اللهم اشهد» «2» . وبعد ذلك بقليل، قال الرسول للوفود المحتشدة حوله عند جمرة العقبة، ما يشعر بحلول الأجل القريب (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا) «3» . في مطلع ربيع الأول من العام التالي (11 هـ) خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد حيث تنتشر مقابر أهل المدينة، فناداهم واستغفر لهم (السلام عليكم أهل المقابر ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شرّ من الأولى..) ورجع إلى أهله. وحينذاك بدأ وجع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي انتهى بانتقاله إلى الرفيق الأعلى. عن عائشة رضي الله عنها قالت: «رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه! فقال: بل أنا والله يا عائشة وا رأساه ... » وراح يدور على نسائه، وأوجاعه تزداد وطأة، حتى غلبته على نفسه فاستأذن أزواجه أن يمرّض في   (1) سورة التوبة، الآية: 37. (2) ابن هشام ص 272- 274 الطبري 3/ 148- 152 ابن سعد 2/ 1/ 124- 136 البخاري: تجريد 2/ 98- 99، اليعقوبي: تاريخ 2/ 99- 102 المسعودي: مروج 2/ 290، التنبيه ص 239- 240 ابن الأثير: الكامل 2/ 302- 303. وعن نص الخطبة انظر: حميد الله: الوثائق ص 360- 362، ابن حزم: جوامع ص 260- 262. وعن تفاصيل حجة الوداع انظر: ابن كثير: البداية 5/ 109- 214. (3) الغزالي: فقه السيرة ص 490. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 بيت عائشة رضي الله عنها فأذنّ له. وخرج يمشي بين رجلين من أهله، علي والفضل بن عباس، عاصبا رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيت عائشة «1» . أخذت الحمى تزداد شدة، حتى أن الرسول طلب من أهله أن يريقوا عليه «سبع قرب من آبار شتى» ، ولما راحوا يصبون عليه الماء طفق يقول «حسبكم حسبكم» وعندما أحسّ ببعض الارتياح خرج إلى المسجد عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر فكان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم ثم قال: «إن عبدا من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله» . فهم أبو بكر مغزى كلام الرسول وعرف أنه يريد نفسه، فبكى، وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم: «على رسلك يا أبا بكر» ثم التفت إلى من حوله وقال: (انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد فسدّوها، إلا بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه.. ولو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده) ... وعاد إلى بيته ودهمته نوبة الحمى والألم مرة أخرى «2» . طلب الرسول- بعد أن أعجزه المرض عن أداء مهامه- أن يأمروا أبا بكر ليصلي بالناس، فقالت عائشة: يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن. قال: فمروه فليصل بالناس.. وكانت عائشة ترمي من وراء ذلك ألا يدفع أبوها إلى موقف يؤدي إلى تشاؤم الناس منه: «لأن الناس لا يحبون رجلا قام مقام نبيهم أبدا» .. فصلى أبو بكر بهم ثلاثة أيام «3» . وفي يوم الاثنين الذي توفي في ضحاه (12 ربيع الأول) خرج صلى الله عليه وسلم لكي يلقي نظرة على أصحابه، وهم يقفون صفوفا يؤدون الصلاة، وما أن رفع الستر وأطل على المسلمين حتى كادوا يفتنون في صلاتهم برسول الله حين رأوه فرحا به، وانبسطت سرائرهم فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم، وتبسّم سرورا لما رأى من هيأتهم في صلاتهم. ونكص أبو بكر إلى الوراء اعتقادا منه أن الرسول سيؤم بنفسه المسلمين في صلاتهم هذه، إلا أن الرسول تقدم إليه ودفعه في ظهره قائلا:   (1) ابن هشام ص 377- 378، 385 الطبري 3/ 188- 189 ابن سعد 2/ 2/ 9- 11 البلاذري: أنساب 1/ 543- 545. (2) ابن هشام ص 385- 386 الطبري 3/ 190- 191 ابن سعد 2/ 2/ 25- 26 البلاذري 1/ 546- 547. (3) ابن هشام ص 388 الطبري 3/ 196- 197 ابن سعد 2/ 2/ 18، 20- 21 البلاذري 1/ 554- 557. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 صلّ بالناس، وجلس إلى جنبه، وصلى قاعدا عن يمين أبي بكر. فلما فرغوا من الصلاة راح الرسول يتحدث إليهم رافعا صوته، حتى ظن أصحابه أن قد زال ما به من وجع واستأذنه أبو بكر في الذهاب إلى أهله بالسنح، إحدى ضواحي المدينة، وسأل الناس عليا: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا «1» !!. لكن تلك الإشراقة لم تكن سوى صحوة الموت، ولنستمع إلى عائشة رضي الله عنها وهي تحدثنا عن اللحظات الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: «رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد، فاضطجع في حجري، فدخل عليّ رجل من آل أبي بكر وفي يده سواك أخضر، فنظر رسول الله إليه في يده نظرة عرفت أنه يريده فقلت: يا رسول الله أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال: نعم. فأخذته فمضغته حتى لينته ثم أعطيته إياه، فاستنّ به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط ثم وضعه. ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري، فذهبت انظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: (بل الرفيق الأعلى من الجنة) ، فقلت: خيّرت فاخترت والذي بعثك بالحق! وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» وهو يقول: (قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ويردّد (الصلاة وما ملكت أيمانكم) حتى جعل يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه «3» . انقضّ نبأ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه المتجمهرين في الخارج انقضاض الصاعقة، وراح عمر بن الخطاب يقول: «إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات. والله ليرجعنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات» «4» .   (1) ابن هشام ص 389- 390، 391 الطبري 3/ 187، 198- 199 ابن سعد 2/ 2/ 17- 19 البلاذري: أنساب 1/ 557- 558، 561. (2) ابن هشام ص 391- 392 الطبري 3/ 199 ابن سعد 2/ 2/ 27- 28، 30 البلاذري: أنساب 1/ 549 البخاري: تجريد 2/ 105- 106. (3) ابن ماجه 2/ 155، أحمد 3/ 117 وانظر الحديث الذي أخرجه أحمد (1/ 346) : «اللهم لا تجعل قبري بعدي وثنا يعبد» . وانظر: ابن هشام ص 404 ابن سعد 2/ 2/ 47 البلاذري أنساب 1/ 551. (4) ابن هشام ص 392 الطبري 3/ 200 ابن سعد 2/ 2/ 53- 54، 55- 56، 57 البلاذري أنساب 1/ 565- 567. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وأقبل أبو بكر- حين بلغه الخبر- حتى نزل على باب المسجد، وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، ورسول الله مسجى في ناحية البيت.. فأقبل حتى كشف عن وجهه وقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة لتي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا. ثم ردّ الغطاء على وجه رسول الله ثم خرج، وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر، انصت!! فتجمهر حوله الناس ورنوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ «1» . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فو الله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها فدهشت وتحيرت، حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات «2» !!.   (1) سورة آل عمران: الآية 144. (2) ابن هشام ص 393 الطبري 3/ 200- 201، 202- 203 ابن سعد 2/ 2/ 52- 53، 54- 57 البلاذري: أنساب 1/ 566. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 قائمة بأهم المصادر والمراجع المصادر (القديمة) القرآن الكريم. أسفار: إشعيا، التثنية، دانيال، المزامير. أناجيل: متى، يوحنا، برنابا. ابن الأثير: عز الدين أبو الحسن علي الجزري (ت 630 هـ) . أسد الغابة في معرفة الصحابة، جمعية المعارف، مصر- 1285 هـ. الكامل في التاريخ، دار صادر- ودار بيروت، بيروت- 1965- 1967 م. البلاذري: أحمد بن يحيى بن جابر (ت 279 هـ) . أنساب الأشراف، الجزء الأول، تحقيق محمد حميد الله، معهد المخطوطات لجامعة الدول العربية ودار المعارف بمصر، القاهرة- 1959 م. فتوح البلدان، تحقيق صلاح الدين المنجد، مكتبة النهضة المصرية القاهرة- 1956- 1957 م. ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد (ت 456 هـ) . جوامع السيرة، تحقيق إحسان عباس وناصر الدين الأسد، دار المعارف، سلسلة تراث الإسلام رقم 2. الحلبي: علي بن برهان الدين الشافعي (ت 1044 هـ) . إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (المعروف بالسيرة الحلبية) ، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة- 1962 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 - ابن خياط: أبو عمرو خليفة بن خياط بن أبي هبيرة (ت 240 هـ) . تاريخ خليفة، تحقيق أكرم ضياء العمري، مطبعة الآداب، النجف 1967 م. ابن سعد: محمد (ت 230 هـ) . كتاب الطبقات الكبير، تحقيق أدور سخاو ورفاقه، طبع مصورا عن طبعة ليدن بريل- 1325 هـ (مؤسسة النصر- طهران) . السمهودي: أبو الحسن علي نور الدين بن عبد الله (ت 911 هـ) . وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، مطبعة الآداب والمؤيد، القاهرة- 1326 هـ. الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير (ت 310 هـ) . تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة- 1961- 1962 م. القلقشندي: أبو العباس أحمد (ت 821 هـ) . صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، المطبعة الأميرية القاهرة- 1913 م. ابن كثير: أبو الفدا إسماعيل (ت 774 هـ) . البداية والنهاية، مطبعة السعادة، القاهرة- 1932 م) . تفسير القرآن العظيم، المطبعة التجارية، القاهرة- 1356 هـ. ابن المبارك: أبو العباس زين الدين أحمد الزبيدي (ت 735 هـ) . التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، لأبي عبد الله بن إسماعيل البخاري، الطبعة الثانية، دار الإرشاد، بيروت- 1386 هـ. المسعودي: أبو الحسن علي بن الحسين (ت 346 هـ) . التنبيه والإشراف، دار التراث، بيروت- 1968 م. مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق أسعد داغر، دار الأندلس، بيروت- 1965 م. المقدسي: المطهر بن طاهر (ت 355 هـ) . كتاب البدء والتاريخ المنسوب لأبي زيد بن سهل البلخي، تحقيق كلمان هوار، باريس- 1899 م. المقريزي: تقي الدين أحمد بن علي (ت 845 هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 إمتاع الأسماع بما للرسول من الأتباع والأحوال والحفدة والمتاع، تحقيق محمود محمد شاكر، القاهرة- 1941 م. ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام (ت 218 هـ) . تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام هارون، الطبعة الثانية، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة- 1964 م. الواقدي: محمد بن عمر بن واقد (ت 207 هـ) . كتاب المغازي، تحقيق مارسدن جونس، مطبعة جامعة أكسفورد- 1966 م. اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب المعروف بابن واضح اليعقوبي (ت 292 هـ) تاريخ اليعقوبي، تحقيق محمد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدرية، النجف 1964 م. المراجع (الحديثة) أحمد: إبراهيم خليل (سابقا: القسّيس إبراهيم خليل فيلبس) . محمد في التوراة والإنجيل والقرآن، الطبعة الثانية، مكتبة الوعي العربي، القاهرة- 1964 م. أرنولد: سير توماس و. الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن ورفاقه، الطبعة الثالثة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة- 1971 م. بخيت: عبد الحميد. عصر الخلفاء الراشدين، الطبعة الثانية، دار المعارف، القاهرة- 1965 م. بروكلمان: كارل. تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة فارس والبعلبكي، الطبعة الخامسة، دار العلم للملايين، بيروت- 1968 م. الجندي: أنور. الإسلام وحركة التاريخ، مطبعة الرسالة، القاهرة- 1968 م. حميد الله: محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، الطبعة السادسة، دار النفائس، بيروت- 1407 هـ- 1987 م. خطّاب: محمود شيت. الرسول القائد، الطبعة الثانية، دار مكتبة الحياة ومكتبة النهضة، بغداد- 1960 م. در منغم: إميل. حياة محمد، ترجمة عادل زعيتر، الطبعة الثانية، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة- 1949 م. دروزة: محمد عزة. سيرة الرسول: صور مقتبسة من القرآن الكريم، الطبعة الثانية، مطبعة عيسى البابي، القاهرة- 1965 م. دوزي: رينهارت. تاريخ مسلمي أسبانيا، الجزء الأول، ترجمة حسن حبشي، المؤسسة المصرية العامة- دار المعارف، القاهرة- 1963 م. دينيه والجزائري: إتيين دينيه (ناصر الدين) وسليمان إبراهيم الجزائري. محمد رسول الله، ترجمة عبد الحليم محمود ومحمد عبد الحليم، الطبعة الثالثة، الشركة العربية، القاهرة- 1959 م. الشريف: أحمد إبراهيم. مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول، الطبعة الثانية، دار الفكر العربي، القاهرة- 1965 م. عثمان: محمد فتحي. دولة الفكرة، الدار الكويتية، الكويت- 1968 م. علي: جواد. تاريخ العرب في الإسلام (السيرة النبوية) ، الجزء الأول، بغداد، مطبعة الزعيم 1961 م. العلي: صالح أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 محاضرات في تاريخ العرب، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، بغداد، مطبعة الإرشاد- 1964 م. عنان: محمد عبد الله. مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام، الطبعة الرابعة، مؤسسة الخانجي، القاهرة- 1962 م. الغزالي: محمد. فقه السيرة، الطبعة السادسة، دار الكتب الحديثة، القاهرة- 1965 م. فلهاوزن: يوليوس. تاريخ الدولة العربية، ترجمة محمد عبد الهادي أبي ريدة، الطبعة الثانية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة- 1968 م. كشك: محمد جلال. الحق المرّ، مكتبة عمار، القاهرة- 1968 م. وات: مونتغمري. محمد في مكة، تعريب شعبان بركات، المكتبة العصرية، بيروت. ولفنسون: إسرائيل. تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، مطبعة الاعتماد، القاهرة- 1927 م. المراجع الأجنبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الفهرس الموضوع الصفحة المقدمة 5 الفصل الأول: محمد صلى الله عليه وسلم بين الميلاد والنبوّة 31 الفصل الثاني: الدعوة في عصرها المكي 47 الفصل الثالث: مسائل من العصر المكي 79 الفصل الرابع: تحليل للهجرة 105 الفصل الخامس: دولة الإسلام في المدينة 121 الفصل السادس: الصراع مع الوثنية (المرحلة الأولى) 141 السرايا 141 معركة بدر الكبرى 146 معركة أحد 155 معركة الخندق 175 الفصل السابع: الصراع مع الوثنية (المرحلة الثانية) 185 صلح الحديبية 185 فتح مكة 200 عام الوفود وتصفية الوجود الوثني 215 الفصل الثامن: العلاقات بين الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية 225 الفصل التاسع: الصراع ضد اليهود 256 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الفصل العاشر: حركة النفاق في العصر المدني 301 الخاتمة 324 المصادر والمراجع 329 الفهرس 335 رقم: 22- 74 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336